|
المؤلف: عبد الرحيم الطحان
جمع وإعداد: أبو عبد الرحمن المحروسي 1431هـ - 2010م
من: موقع الشيخ
http://www.al-tahaan.com
[الكتاب مرقم آليا]
المرحلة الثانية: إذا ثبت انفصال الرب عن مخلوقاته، فإما أن يكون فوقهم أو تحتهم، أما التحتية فمستحيلة لأنها صفة ذم ونقص وهي مأوى القاذورات، ويتنزه الله عن ذلك فثبتت له الفوقية ولذلك لو لم يرد نص شرعي ولو لم يأت رسول للبشر يخبرهم بأن الله جل وعلا فوقهم لجزم العقل بعلو الله وفوقيته على عباده، ولذلك من يقول خلاف هذا فهو ضال بلا شك.
وقد وجدت شبهتان في هذا الدليل لعلماء الكلام:
الشبهة الأولي: تولاها الجهمية أن الله في كل مكان أي بذاته (لا بعلمه فهذا موضع اتفاق) أي أن الله بذاته في كل مكان في البيوت وفي المساجد وفي الأسواق وفي المزابل وفي الحمامات - تعالى الله عما يقولون – ولذلك كان يقول غلاة الجهيمة من الصوفية:
وما الكلب والخنزير إلا إلهنا ... وما الله إلا راهب في كنيسة
فالكلب والخنزير والراهب وكل شيء إله لأن الله في كل مكان – تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً – فكفر هؤلاء أشنع من كفر اليهود والنصارى لأن اليهود قصروا الحلول في عزير، وأما النصارى فقصروا الحلول في عيسى وأمه، وأما هؤلاء فقالوا إنه حل في كل نقيصة وقذر.
الشبهة الثانية: بعض علماء الكلام لا يجوز أن تقول أين الله؟ يقول: لأن الله لا فوق ولا تحت ولا يمين ولا شمال لا أمام ولا وراء، لا داخل العالم ولا خارج العالم، نقول له: يا مسكين أنت بهذا لم تثبت الحي القيوم بل جعلته موهوماً معدوماً، ولذلك لما تناظر أبو بكر ابن فورك في مجلس محمود بن سُبُكْتَكِين وهو من الأمراء الصالحين، تناظر هذا المؤول أي بن فورك مع بعض أهل السنة فقال: الله لا فوق ولا تحت ولا يمين ولا شمال ولا أمام ولا وراء ولا داخل العالم ولا خارجه، فقال هذا السني للأمير: ايها الأمير اطلب إلهاً غير إلهك، فهؤلاء قد ضيعوا إلهك.
إذن فقولهم بفضي إلى أن نجعل الله عدماً، فجعلوا العلي الأعلى الذي كرسيه أعظم من السموات والأرض جعلوه معدوماً صرفاً وموهوماً محضاً، فانتبهوا لهذا!!!.
(8/14)
كلا الشبهتين باطلتان.
... ولذلك عندما جلس أبو المعالي أمام الحرمين – غفر الله له ورحمه وقد رجع عن هوسه – يقرر نفي علو الله على مخلوقاته فقال كان الله ولا مكان ولا زمان وهو الآن على ما عليه كان، فقام الإمام الهمذاني وقال: يا إمام دعنا من العرش والزمان والمكان دعنا من هذه الأمور وأخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في أنفسنا ما قال أحد يا رب إلا وطلب المعونة ممن فوقه فبماذا نؤول هذا الشعور الذي في داخل نفوسنا؟ فلطم إمام الحرمين رأسه وقال حيرني الهمذاني، فرجع إمام الحرمين عن قوله.
5- وأما الفطرة المستقيمة:
وتقدم معنا أن الأدلة على الفطرة قسمان:
أ) سلفي شرعي، والسلفي الشرعي قسمان
1) نصوص الكتاب والسنة.
2) الفطرة المستقيمة.
ب) وخلفي بدعي وهو قسمان:
1) عقل متكلف فيه متعمق.
2) كشف خيال.
فالفطرة السوية تقرر علو رب البرية، ووجه ذلك: أنه لا يلجأ أحد إلى الله إلا واتجه إلى فوق، فهذا مركوز في أذهان وقلوب نساء البادية فضلاً عن غيرهن، فهذه فطرة ولذلك عندما ندعو نمد أيدينا إلى فوق أو إلى الوراء أو إلى أسفل إلى العلو إلى فوق، وعندما نسجد نقول سبحان ربي الأعلى.
(8/15)
التعليق على الطحاوية
(مبحث الحوض)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
المبحث الثاني
مبحث الحَوض
معناه في اللغة: مجمع الماء، بمعنى البركة كما هو معروف لدينا في هذه الأيام فنقول: بركة، مسبح، حوض وجمعه حياض وأحواض.
والمراد من الحوض:
الحوض الذي يكون لنبينا صلى الله عليه وسلم في الآخرة.
وهذا الحوض قد تواترت به الأحاديث، فأحصى الحافظ ابن حجر الصحابة الذين رووا أحاديث الحوض فبلغوا (56) صحابياً، ثم قال: بلغني أن بعض المعاصرين جمع الصحابة الذين رووا أحاديث الحوض فبلغوا (80) صحابياً.
فهذا إذن متواتر.
قال الإمام الداوودي عليه رحمة الله:
مما تواتر حديث من كذب ... ومن بنى لله بيتاً واحتسب
ورؤية شفاعة والحوض ... ومسح خفين وهذي بعض
أي هذه بعض الأحاديث المتواترة وهي أكثر من ذلك بكثير.
(من كذب) حديث [من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار] ، روي عن جملة كبيرة من الصحابة منهم العشرة المبشرون بالجنة.
(ومن بنى لله بيتاً واحتسب) :
حديث [من بنى لله بيتاً واحتسب فله بيت في الجنة] .
وحديث [من بنى لله بيتاً ولو كمَفْحَص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة] .
وحديث [من بنى لله بيتاً ليذكر الله فيه بنى الله له بيتاً في الجنة] . فهذا متواتر عن نبينا عليه الصلاة والسلام.
(ورؤية) أي أحاديث الرؤية، أي رؤية المؤمنين لربهم في جنات النعيم.
(شفاعة) أي أحاديث الشفاعة، ويأتينا مبحث الشفاعة إن شاء الله بعد الحوض.
(الحوض) فأحاديث الحوض متواترة.
(ومسح الخفين) رويت أحاديث المسح على الخفين عن العشرة المبشرين بالجنة وغيرهم.
وسنتكلم عن الحوض ضمن خمسة أمور متتالية ننهي بها الكلام على الحوض إن شاء الله تعالى.
(9/1)
الأمر الأول: وصف الحوض لا يستطيع عقل بشري أن ينعت الحوض أو يصفه، لأنه يتعلق به غيب، فالطريق لمعرفة صفة الحوض المنقول لا المعقول والرواية لا الرأي، فلا طريق لوصف الحوض إلا عما جاء عن نبينا عليه الصلاة والسلام – من قرآن أو أحاديث – الذي لا ينطق عن الهوى فلنذكر بعض الأحاديث التي تعطينا وصفاً لهذا الحوض، إيماناً برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما جاء عن الذي لا ينطق عن الهوى. ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [حوضي مسيرة شهر ماؤه أبيض من اللبن وريحه أطيب من المسك وكيزانه (جمع كوز وهو القدح والكأس) كنجوم السماء من شرب منه لم يظمأ بعده أبداً] .
... إذن هذا الحوض طوله مسيرة شهر نؤمن بهذا ولا نبحث بعد ذلك في كيفية هذا المسير هل هو مسيرة شهر على الجواد المسرع؟ أم مسيرة شهر على حسب السير في الدنيا؟ أم مسيرة شهر على حسب سير أهل الجنة؟ فالله أعلم، نحن نثبت اللفظ ولا نبحث في كيفيته فإنه مغيب.
وكيزانه كنجوم السماء ولا يعلم عددها إلا خالقها سبحانه وتعالى.
وقد أخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام أن طول الحوض وعرضه بمسافة واحدة فطوله مسيرة شهر وعرضه مسيرة شهر، ثبت في صحيح مسلم من رواية ابن عمر في الحديث المتقدم [حوضي مسيرة شهر وزواياه سواء] أي أطرافه متساوية فشهر طولا ً وشهر عرضاً فتصبح الزوايا متساوية، أي على هيئة مربع كالبركة المربعة أضلاعها متساوية [ماؤه أبيض من الورِق] أي الفضة والرواية المتقدمة أبيض من اللبن، [وريحه أطيب من المسك وكيزانه كنجوم السماء فمن شرب منه لم يظمأ بعده أبداً] .
يكفي هذان الحديثان لوصف الحوض بصفة مختصرة.
(9/2)
إذن حوض نبينا عليه الصلاة والسلام في الآخرة أضلاعه متساوية وهو مربع مسيرة شهر في شهر، زواياه سواء، الماء الذي فيه ينعش النفوس، ويصح الأبدان لونه من أحسن الألوان كلون اللبن وكلون الفضة بياض خالص ليس فيه شائبة ولا عكر ولا كدر، ريحه أطيب ريح وهو ريح المسك بل أطيب منه، وهو أحلى من العسل والكيزان التي عليه لأجل كثرة الواردين على حوض نبينا عليه الصلاة والسلام كنجوم السماء، هذا هو الوصف مختصراً.
الأمر الثاني: عدد الأحواض لنبينا عليه صلوات الله وسلامه:
له حوضان:
1- واحد يكون قبل دخول الجنة في ساحات الحساب وعَرَصات الموقف.
2- والآخر يكون في داخل الجنة، وكل منهما يقال له حوض ويقال له كوثر.
يقال لكل منهما حوض لأنه ينطبق عليه التعريف اللغوي (مجمع الماء) .
... ويقال لكل منهما كوثر لأن الحوض الذي في ساحة الحساب وعَرَصات الموقف يستمد ماءها من نهر الكوثر الذي في الجنة، فنهر الكوثر له ميزابان - كما سيأتي وهذا لا دخل لعقل الإنسان فيه – يصبان صباً بدفق وقوة في حوض النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو في ساحة الحساب وعَرَصات الموقف، فنجد أن الحوض الذي في ساحة الحساب يأخذ من نهر الكوثر قيل له كوثر وحوض، والنهر الذي في الجنة اسمه الكوثر وبما أنه في مكان محصور قيل له حوض، فكل منهما حوض وكل منهما كوثر.
... وقد أنزل الله سورة كاملة يمتن بها على نبينا عليه الصلاة والسلام بهذا الخير الذي أعطاه إياه (إنا أعطيناك الكوثر) والكوثر: على وزن فوعل من الكثرة وهو الخير الكثير في الدنيا والآخرة ويدخل في ذلك النهر العظيم الذي يكون لنبينا عليه الصلاة والسلام في جنات النعيم، وفيه ميزابان يغتّان غتاً (يصبان صباً) ويشخبان من مائه في حوضه الذي هو في ساحة الحساب وعَرَصات الموقف فهذا خير عظيم أعطاه الله لنبيه الكريم عليه صلوات الله وسلامه.
(9/3)
ولذلك ثبت في صحيح البخاري عن سعيد بن جبير رحمه الله – تلميذ العبد الصالح عبد الله بن عباس رضي الله عنهما – [أنه سئل عن تفسير الكوثر فقال هو الخير الكثير الذي أعطاه الله لنبيه عليه الصلاة والسلام في الدنيا والآخرة، فقالوا له: يقولون إنه نهر في الجنة؟، فقال سعيد بن جبير: النهر الذي في الجنة من الخير الكثير الذي أعطاه الله لنبيه عليه الصلاة والسلام] . وهذا التفسير أعم وأشمل وأحسن من أن نقصر الكوثر على خصوص النهر فنقول: الكوثر خير كثير في الدنيا والآخرة وهبة من الله لنبيه عليه الصلاة والسلام 0 من جملة ذلك الحوض، ونهر الكوثر والشفاعات والمقام المحمود ورتب كثيرة في الدنيا والآخرة مَنَّ الله بها على نبيه عليه صلوات الله وسلامه.
... وإذا مَنَّ الله عليك بالنعم فالواجب أن تشكر المُنعِم (فصلِّ لربك وانحر) أي اجعل صلاتك خالصة له، ونحرك خالصاً له – أي ذبحك – فيكون على اسم الله خالصاً له لا تشرك معه أحداً (إن شانئك) أي مبغضك (هو الأبتر) ، فالنعم تستدعي الشكر.
... ولذلك إخوتي الكرام ... ربطاً بحادثة الإسراء والمعراج – كان نبينا عليه الصلاة والسلام – كما ثبت هذا في المسند والسنن بسند حسن – [لا ينام حتى يقرأ بني إسرائيل والزمر] وما رأيت أحداً من أئمتنا وَجَّه الحكمة في ذلك؟ ويمكن استنباطها مما سبق تقريره في سورة الكوثر.
(9/4)
.. فنذكر أن النعم تستدعي الشكر وهناك عندما يريد أن ينام يقرأ سورة بني إسرائيل ليستحضر فضل الله عليه وكيف مَنَّ الله عليه بهذا الأمر الجليل وهو الإسراء والمعراج وفي ثنايا السورة ذكر الله سبحانه الآيات التي منحها لنبينا عليه الصلاة والسلام وكيف حفظه من شياطين الإنس والجن (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس) (وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك) (ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً) ، وآيات كثيرة غيرها يخاطبه الله فيها في سورة الإسراء. إذن في هذه السورة ذِكْر فضل النبي عليه الصلاة والسلام؛ فكان لذلك يقرأها ليتذكر فضل الله عليه وهذا يستدعي ويتطلب الشكر.
... وكان يقرأ سورة الزمر لأنها – كما قال الإمام ابن تيمية رحمه الله – سورة تمحضت في توحيد الله جل وعلا فموضوعها من أولها إلى آخرها حول توحيد الله وإخلاص الدين له.
إذن فبعد أن يذكر نعمة الله عليه ماذا يفعل؟
(9/5)
.. يوحده ويقرأ السورة التي فيها توحيد الله وعبادته كما يريد بما يريد، وانتبه لآيات هذه السورة (تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم، إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصاً له الدين، ألا لله الدين الخالص، والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار، لو أراد الله أن يتخذ ولداً لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار) ثم بعد ذلك في جميع آيات السورة يستعرض ربنا جل وعلا ما يقرر هذا الأمر (ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون ورجلا ً سلماً لرجل هل يستويان مثلاً الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون إنك ميت وإنهم ميتون ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون) وفي آخر السورة يتحدث ربنا جل وعلا عن هذا (قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون، ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد وكن من الشاكرين) وفي نهاية السورة يقول (وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين) .
فإذن شكر وتوحيد، وهنا كذلك (إنا أعطيناك الكوثر، فصل لربك وانحر) .
إذن لنبينا عليه الصلاة والسلام حوضان يقال لكل منهما: حوض ويقال لكل منهما: كوثر.
(9/6)
.. قال الإمام القرطبي في التذكرة في أحوال الموتى، وأمور الآخرة في ص 362، وقد نقل صاحب شرح العقيدة الطحاوية الإمام ابن أبي العز كلام القرطبي لكن بواسطة الإمام ابن كثير في كتابه النهاية (2/31) لأن ابن كثير شيخ شارح الطحاوية، وابن كثير له كتاب البداية والنهاية في التاريخ طبع الكتاب البداية فقط ولم يطبع معه النهاية، ثم طبع في جزء بعد ذلك مستقلاً منفرداً، وقد تكلم ابن كثير في النهاية في الجزء الثاني في أول صفحة منه عن الحوض وتتبع طرق أحاديثه بما يزيد عن ثلاثين صفحة والبداية يقع في 14 جزءاً في 7 مجلدات كبيرة، وكتاب التذكرة كتاب نافع وطيب وفيه خير كثير لولا ما فيه من أحاديث تالفة لا خطام لها ولا زمام وما تحرى عليه رحمة الله الصحة ولا تثبت في رواية الأحاديث، وليت الكتاب حقق وخرجت أحاديثه ليكون طالب العلم على بصيرة عند قراءة هذا الكتاب.
... الحاصل.. قال الإمام القرطبي في الموضوع الذي حددناه "الصحيح أن للنبي عليه الصلاة والسلام حوضين أحدهما في الموقف قبل الصراط، والثاني في الجنة، وكلاهما يسمى كوثراً".
قال الحافظ في الفتح (11/466) :" يطلق على الحوض كوثر لكونه يُمدّ منه"0 – كما عللته لكم – ثبت في صحيح مسلم من حديث ثوبان رضي الله عنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه (النبي) صلى الله عليه وسلم قال عند وصف الحوض: [يغتُّ فيه ميزا بان يمدانه من الجنة أحدهما من ذهب والآخر من ورِق] والغت: هو جريان الماء بصوت، غتّ يَغُت غَتًّا إذا جرى الماء وصار له صوت عند جريانه من شدة هذا الماء وقوته واندفاعه، وهو الدفق بتتابع إذن معنى يغت فيه، يتدفق فيه ماء متتابع لا ينقطع.
... وثبت في صحيح مسلم من حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [يشخب فيه ميزا بان من الجنة] ، شخب يشخب أي يسيل فيه ميزا بان من الجنة.
(9/7)
.. وثبت في سنن الترمذي بسند حسن صحيح، والحديث رواه ابن ماجه وأحمد في مسنده عن ابن عمر رضي الله عنهما – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [الكوثر نهر في الجنة] وهذا هو النهر الذي له ميزا بان يغتان ويشخبان في الحوض [حافتاه من ذهب ومجراه الدّرّ والياقوت وتربته أطيب من المسك وماؤه أحلى من العسل وأبيض من الثلج] .
(مجراه) أي أرضه التي يجري فيها، ممر الماء، (حافتاه) أي جانباه.
إذن بالنسبة للبياض صار معنا ثلاثة أوصاف أبيض من اللبن، ومن الورق، ومن الثلج، والثلج ترى بياضه يزيد على الماء.
... وهو أحلى من العسل وأطيب من المسك هذا كله في هذا النهر الذي هو في الجنة وهو نهر الكوثر وفيه ميزابان من ذهب وفضة يشخبان ويغتان في حوض نبينا عليه الصلاة والسلام.
س: هل هذه الأوصاف تكون لنهري دجلة والفرات أيضاً؟
جـ: لا، لا يكون هذا إلا للكوثر فقط، فهو خاص به حتى الأنهار الأخرى التي في الجنة ليس لها هذه الميزات والصفات.
... وسيأتينا في الأمر الرابع أن لكل نبي حوضاً، لكن ليس حلاوة مائه وطيب رائحته كحوض نبينا عليه الصلاة والسلام.
الأمر الثالث: مكان الحوض وموضعه:
... كما ذكرنا هما حوضان، فأما الحوض الثاني الذي هو نهر الكوثر فهذا في الجنة بالاتفاق، وأما الحوض الأول الذي يستقي ماءه من الكوثر فهو قبل الجنة بالاتفاق، لكن اختلف في موضعه ومكانه بالتحديد، فهل يكون قبل الميزان وقبل مرور الناس على الصراط؟ أم يكون بعدهما؟
في المسألة قولان لأئمتنا الكرام:
وانتبه إلى أن هذين القولين ليسا من باب التقدير العقلي، إنما من باب فهم هذا من النصوص الشرعية، فالفهم من النصوص هذا غير اختراع شيء من العقول ...
(9/8)
القول الأول: - وعليه المعول – أن الحوض يكون قبل الميزان وقبل مرور الناس على الصراط المستقيم وقبل الحساب لأمرين معتبرين: أولهما: الحكمة من وجود الحوض ما أشار إليه نبينا صلى الله عليه وسلم [من شرب منه لم يظمأ..] ، الناس يخرجون من قبورهم عطشى، لاسيما عندما يحشرون في الموقف [حفاة عراة غرلاً] نسأل الله حسن الخاتمة والعافية – والشمس تدنو من رؤوسهم ويلجمهم العرق فيسبحون فيه كأنهم في أحواض ماء، فما الذي يحتاجونه في ذلك الوقت؟ إنه الحوض، لذلك يكرم الله الموحدين في ذلك الحين بالشرب من حوض نبينا الأمين عليه صلوات الله وسلامه، وهو فرطنا على الحوض، كما أخبرنا عليه الصلاة والسلام، فإذن أول ما يحصل لنا عند البعث لقاء نبينا عليه الصلاة والسلام، كما أخبرنا عليه الصلاة والسلام على حوضه يقول: هلم، هلم، ويسقينا.
... فإذن لتظهر كرامة نبينا عليه الصلاة والسلام وليظهر فضله على أتم وجه، يكون هو الذي يزيل عطش الناس المؤمنين من أمته لما منّ الله عليه في الآخرة من تلك النعمة، كما أزال عنا في هذه الحياة الهم والغم بواسطة النور الذي بلغه إلينا فاطمأنت قلوبنا (ألا بذكر الله تطمئن القلوب) .
... فإذن أول ما يستقبلونه بعد البعث حوض النبي عليه الصلاة والسلام، فمن كان مؤمناً موحداً سقاه النبي صلى الله عليه وسلم وشرب، وإذا شرب لم يظمأ أبداً، طال الموقف أو قصر فإنه لا يبالي بذلك.
ثانيا: تواتر في حديث الحوض المتواتر أنه يُذاد وسيأتي ذكر الحديث- يدفع ويبعد أناس عن حوضه فيقول النبي عليه الصلاة والسلام: أمتي أمتي، يُذادون ولا يشربون فيقال: لا تدري ماذا أحدثوا بعدك والحديث في الصحيحين فأقول سحقاً سحقاً لمن بدل بعدي. فهذا الذود متى يكون؟
(9/9)
لو كان بعد الصراط لسقطوا في النار، ولا يوجد بعد الصراط إلا الجنة، فدفع الناس لكونهم منافقين مرتدين يكون قبل الصراط لأنهم لو مروا على الصراط ونجوا لدخلوا الجنة وإذا سقطوا في جهنم لن يَرِدُوا الحوض لِيُدْفَعُوا عنه ويُبْعَدُوا.
وهذا الذي ارتآه ورجحه الإمام القرطبي في التذكرة في المكان المتقدم أي صـ (362) .
والإمام ابن كثير في النهاية رجحه أيضاً كما قلت لكم إنه بحث في أحاديث الحوض فيما يزيد على 30 صفحة من أول الجزء الثاني إلي ص35 كلها في الحوض، وقد روى جميع الأحاديث بالسند الذي رواها به أصحاب الكتب المصنفة فإذا ذكر حديثاً في المسند ذكر إسناد الإمام أحمد وهكذا البخاري وغيره ولذلك طالت صفحات الكتاب والحقيقة أن أكثر صفحات الكتاب متشابهة فيورد عشرة أحادث في وصف الحوض عن الصحابة مثلا ًكلها بمعنىً واحد ولذلك لم أطل في ذكرها ومردها لا لزوم له لأنه يغني عن البقية وقلت لكم إن الحافظ ابن حجر تتبعها فوصلت إلى (56) صحابياً رووا أحادث الحوض، قال وبلغني أن بعض المعاصرين جمعها فبلغت (80) طريقاً، ولعل الحافظ ابن حجر كان يقصد بقوله (بعض المعاصرين) الإمام العَيْنِي، أقول لعله يقصده، فقد كان بينهما شيء من النفرة فيكني عنه الحافظ دائماً في الفتح ولا يصرح به، فلعله يقصده والعلم عند الله.
والإمام ابن حجر شرح صحيح البخاري في فتح الباري
والإمام العَيْنِي شرح صحيح البخاري في عمدة القاري
(9/10)
والكتابان متقاربان في الحجم، فعمدة القاري (12) مجلداً في 25 جزء، وقد كان ابن حجر والعيني – في بلدة واحدة - مصر- لكن أصل الإمام العيني من بلاد الشام ثم هاجر بعد ذلك إلي مصر واستوطن فيها، وشرحا صحيح البخاري في وقت واحد، وكان كل منهما قاضياً ابن حجر قاضي الشافعية والعيني قاضي الحنفية، والأقران في الغالب يجري بينهم شيء مما يجري بين بني الإنسان، لكن دون أن يصل ذلك إلى معصية أو اعتداء، هذا في الغالب وكما قال الإمام الذهبي: ما أعلم أحداً سلم من الحسد إلا الأنبياء..، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم – والحديث في درجة الحسن – [ثلاثة لا ينجو منهن أحد، الظن والطيرة والحسد، وسأخبركم بالمخرج من ذلك: إذا ظننت فلا تتحقق] أي إذا رأيت شخصاً أو تصرفاً فلا تقل لعل هذا حوله ريبة - فهذا ظلم كفارته ألا تتحقق هل توجد تلك الريبة أم لا؟ [وإذا تطيرت فامض ِ] مثلا ً خرجت في صباح ذات يوم فرأيت صورة مكروهه فقلت هذا صباح مشئوم، فلا ترجع إلي البيت، بل امض ِ إلى طريقك وقل: اللهم لا خير إلا خيرك ولا طير إلا طيرك ولا إله غيرك، لا يأتي بالحسنات إلا أنت ولا يصرف السيئات إلا أنت. [وإذا حسدت فلا تبغي] أي لا تتجاوز وتعتدي. وأنا لا أجزم أنه يقصد الإمام العيني لكن في غالب ظني أنه كذلك.
وأنا أعجب حقيقة لاشتهار فتح الباري بين الناس وعدم انتشار عمدة القاري بينهم ولله في خلقه سر لا يعلمه إلا هو، ولا أقول ذلك لم ينتشر بل هو منتشر لكن ليس له من القدر والمكانة – كما يقال – ما لفتح الباري.
الحاصل.. إن الإمام ابن كثير رجح هذا القول في النهاية (2/3) للأمرين المعتبرين اللذين ذكرتهما لكم.
القول الثاني: أن الحوض بعد المرور على الصراط.
(9/11)
وإلى هذا مال الإمام البخاري عليه رحمات ربنا القوي، وفقهه في تراجم أبوابه ومذهبه في تراجم أبوابه، فأورد أحاديث الحوض بعد أحاديث الميزان والشفاعة والصراط، في كتاب الرقاق قال الحافظ ابن حجر:"أشار البخاري إلى أن الحوض يكون بعد الصراط، أورد أحاديث الحوض بعد أحاديث الشفاعة والصراط"
ويفهم من كلام الحافظ ابن حجر الميل إلى هذا القول، حيث قال معللا ً ما سبق
(1) لأن الصراط بين الجنة والموقف ميزابان يغتان ويشخبان في الحوض، فلو كان الحوض في عَرَصَات الموقف وفي ساحة الحساب لكان الصراط حاجزاً بين هذين الميزابين وبين الحوض، فكيف سيصب الميزابان ماءهما في الجنة إلى الموقف وبينهما هذه الفجوة صراط وتحته جهنم. نسأل الله العافية وكل من سقط منه يسقط في جهنم وبئس المصير فإذا كان الأمر كذلك فالحوض بعد الصراط وهو قُبيل الجنة قََبل أن يدخلها المؤمنون يشربون من الحوض ويستقبلهم نبينا عليه الصلاة والسلام عندما ينتهون من الصراط فيسقيهم من حوضه فينتعشون ويفرحون بعد أن مَنَّ الله عليهم بالسلامة ثم يدخلون دار النعيم، وهذا دليل.
(9/12)
(2) دليل آخر قرروا به هذا القول وهو: أنه ثبت في الحديث أن مَنْ شرب مِنَ الحوض لم يظمأ بعده أبداً، وقالوا: إذا لم يكن الحوض بعد الصراط فسنقع في إشكال من هذا النص والنصوص الأخرى وهو أن عصاه الموحدين سيعذبون في نار الجحيم ولا بد أن يعذب منهم قسم لم يغفر الله لهم لأن الأحاديث تواترت في إخراج العاصين من النار وهذا يعني أن هناك عذاباً للعصاة لكن هناك أناس يعفى عنهم وأناس يعذبون، قالوا: فهؤلاء الموحدون اللذين عذبوا في النار هل شربوا من الحوض أم لا؟ إن قلنا لم يشربوا، فالأمر ليس كذلك لأنهم موحدون وليسوا من المخلدين في نار جهنم فهم يستحقون السقيا والشراب إذ كيف يعامل الموحد معاملة المنافق والملحد. وإن قلنا شربوا، فكيف سيلقون في النار، وفي النار سيعطشون. لكن إذا كان الحوض بعد الصراط فلا إشكال لأن من شرب منه دخل الجنة فالذي يعذب في النار، ثم يخرج يجوز على الصراط ثم يشرب من الحوض ويدخل الجنة وحينئذ لا إشكال هنا على هذا القول. وهذا القول على ما وجاهة ما عُلِّلَ به فهو مردود لأمرين:
الأمر الأول: لا مانع أن يكون بين الحوض والجنة فاصل، والميزابان يصبان فيه بطريقة يعلمها الله ولا نعلمها، كما قلنا في النيل والفرات فإنهما يَصبُّ فيهما نهر من أصل سدرة المنتهى بكيفية يعلمها الله ولا نعلمها وكم بينهما من حواجب وفواصل وليس عندنا ميزاب متصل من سدرة المنتهى إلى النيل والفرات إنما هو أمر غيبي أخبرنا عنه نبينا عليه الصلاة والسلام آمنا به ولا نبحث في كيفيته.
والأمر الثاني: قولهم إذا شرب عصاة الموحدين من الحوض وعذبوا في النار سيجدون العطش والظمأ، نقول: لا يشترط هذا فيعذبون بغير أنواع العطش، وذلك ليتميز العصاة في النار عن غيرهم من الكفار الأشرار في أنهم يعذبون ولا يعطشون كرماً من الله وفضلا ً.
(9/13)
فالأمران مردودان، ثم نقول لهم أخبرونا كيف سيذاد ويدفع أناس عن الحوض إذا كان الحوض بعد الصراط؟! فهذا لا يأتي أبداً، فأدلتكم يمكن أن يجاب عنها، أما أدلة القول الأول فلا يمكن الإجابة عنها مطلقاً؛ ولذلك القول الأول هو الصحيح وعليه المعول بأن الحوض قبل الصراط والعلم عند الله.
الأمر الرابع: هل للأنبياء عليهم الصلاة والسلام أحواض في عَرَصَات الموقف وساحة الحساب كما لنبينا عليه الصلاة والسلام حوض:
سبق أن ذكرنا أن العبرة في هذا الموضوع على النقل لا على العقل، فعمدتنا المنقول الثابت ولا دخل للاجتهاد ولا للمعقول.
وقد ورد في ذلك حديث لكن اختلف في درجته، روى الإمام الترمذي في سننه عن سمرة بن جندب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال [إن لكل نبي حوضاً ترده أمته وإنهم ليتباهون أيهم أكثر وارداً، وإني لأرجو أن أكون أكثرهم وارداً] .
(يتباهون) أي يتحدثون بنعمة الله عليهم بمنزلة حوضهم وبمن سيرده.
(أيهم أكثر وارداً) أي جماعة يردون على حوضه.
وهذا الرجاء والذي رجاه الرسول صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث حققه الله له، فأكثر أهل الجنة من أمته، وأكثر الأحواض التي سيردها الموحدون المؤمنون هو حوض نبينا عليه الصلاة والسلام ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يقول ربنا فيه: [يا آدم قم فابعث بعث النار من كل ألف واحد إلى الجنة وتسعمائة وتسع وتسعون إلى النار، فخاف الصحابة وارتاعوا فقال صلى الله عليه وسلم: أنتم في الأمم كالشعرة البيضاء في الثور الأسود، أو كالشعرة السوداء في الثور الأبيض، ثم قال: إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، فكبروا، ثم قال: إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة، فكبروا، قال: إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة فكبروا، وقال: إني لأرجو أن تكونوا ثلثي أهل الجنة] والحديث في الصحيحين.
(9/14)
وقد ثبت في المستدرك وغيره بسند صحيح عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: [أهل الجنة عشرون ومائة صف، ثمانون صفاً منهم من هذه الأمة] ونحن مع ذلك نرجو أن يكون كل صف من هذه الأمة أضعافاً مضاعفة على سائر الصفوف الأخرى، فهي ثلثان في عدد الصفوف لكن نرجو أن تكون في عدد الأفراد أكثر بكثير، ونسبة هذه الأمة في الجنة لا تنقص عن الثلثين وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: [ما من الأنبياء من نبي إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، إنما كان الذي أوتيت وحياً أوحى الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة] وهذا لفظ مسلم.
فهذا الرجاء حققه الله لخاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام.
ومعنى الحديث أن كل نبي أعطى من الآيات ما آمن على مثله البشر، أي البشر يؤمنون بمثل هذه الآيات عندما تظهر وهي خوارق العادات (المعجزات كما أيد الله أنبياءه السابقين بمعجزة، فكل من رأى تلك المعجزة يُؤمن كما هو الحال في نبي الله عيسى عليه السلام يبرأ الأكمة والأبرص ويحي الموتى بإذن الله، لكن تلك المعجزة مضت وانقضت، فالذين جاؤوا بعد ذلك لم يروها، ولذلك قد يحصل عندهم ارتياب في أمر النبي عليه صلوات الله وسلامه، أما ما يتعلق بهذه الأمة، فمعجزة نبينا عليه الصلاة والسلام هي القرآن، وهذه المعجزة يراها المتأخر كما رآها المتقدم، فأبو بكر رضي الله عنه وآخر فرد في هذه الأمة بالنسبة لرؤية معجزة النبي عليه الصلاة والسلام سواء، فجعل الله معجزة نبينا عليه الصلاة والسلام عين رسالته ودعوته وهي القرآن الكريم الذي أُمِر بتبليغه.
فالحاصل.. أنه قال: [أرجو أن أكون أكثرهم تابعاً] ، وفي حديث سمرة قال: [لأرجو أن أكون أكثرهم وارداً] فحقق الله له هذا الرجاء.
(9/15)
وحديث سمرة كما قلنا رواه الترمذي، وقد قال عنه: غريب، وغرائب الترمذي لا تسلم من مقال فهي ضعيفة والسبب في هذا أن الحسن البصري عليه رحمة الله عنعن الحديث عن سمرة أي رواه بصيغة عن ولم يصرح بالسماع، وفي سماع الحسن عن سمرة اختلاف، وأئمة الحديث على ثلاثة أقوال في ثبوت سماعه من سمرة:
1- لم يسمع منه مطلقاً.
2- سمع منه مطلقاً.
3- وهو المعتمد، سمع منه حديث العقيقة، وقد صرح في سنن النسائي بأنه سمع حديث العقيقة من سمرة بن جندب رضي الله عنه.
والحسن مدلس بالاتفاق وقد عنعنه – كما ذكرنا – ورواية المدلس إذا لم تكن بصيغة السماع فهي محمولة على الانقطاع، فالسند إذن منقطع بين سمرة وبين الحسن.
... كما أن الحسن رفعه في بعض الطرق إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأسقط سمرة فصار إذن مرسلاً لأن المرسل هو مرفوع التابعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
مرفوع تابع على المشهور ... مرسل أو قيده بالكبير
كما قال هذا الإمام عبد الرحيم الأثري العراقي في ألفيته المشهورة.
وقوله (أو قيده بالكبير) فهذا قول آخر في تعريف المرسل وهو أن التابعي لابد أن يكون كبيراً، من كبار التابعين لا من أوسطهم ولا من صغارهم.
والمعتمد أن التابعي صغيراً كان أو كبيراً، إذا رفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم فهو حديث مرسل، فالحسن إذن أسقط سمرة رضي الله عنه، ولذلك قال الترمذي: وورد أن الحسن لم يذكر سمرة فهذا مرسل وهو أصح.
والرواية المرسلة رواها ابن أبي الدنيا بإسناد صحيح إلى الحسن، أن الحسن البصري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن لكل نبي حوضاً ... ] الحديث.
لكن مراسيل الحسن – كما يقول أئمتنا -، أشبه بالريح لا يعول عليها ولا يأخذ بها، لأنه كان لا يبالي عمن أرسل بخلاف مراسيل سعيد بن المسيب فهذه كلها يأخذ بها، حتى مَنْ ردَّ المرسل أخذ بمراسيل سعيد بن المسيب كالإمام الشافعي عليه رحمة الله.
(9/16)
فإن سعيد بن المسيب كان يسمع من عمه والد زوجته أبي هريرة أحاديث ويحدث عنه أحياناً، ويسقطه ولا يصرح به أحياناً أخرى لاعتبارات، منها أمور سياسية، فقد ينقل عنه سعيد رواية تتعلق بأمور العامة فلا يصرح بها بإضافتها لأبي هريرة لئلا تصبح هناك مشاكل وابتلاءات كما هو الحال في العصور التي جاءت بعد عصور الخلفاء الراشدين، وهذا من جملة أغراض التدليس حذف الصحابي أو الشيخ الذي أخذ عنه التلميذ فيسقطه لأن حوله ما حوله من الاعتبارات، وكأنه يقول لئلا ندخل في مشاكل مع الدولة، فنرفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم ونسقط الواسطة (أبا هريرة) لئلا يُستدعى ويحقق معه وما شاكل هذا.
وفعلا ً كان أبو هريرة يحفظ أحاديث فيها الإشارة إلى ذم بني أمية، فعلم سعيد بن المسيب أنه إذا حدث بها وسمى أبا هريرة، فهذا سيجر بلاءً عليه – أي على عمه – وقد كان أبو هريرة رضي الله عنه – كما في صحيح البخاري - يقول: [حفظت من النبي صلى الله عليه وسلم وعاءين، أما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم] أي لقطعت رقبتي، وهذا الذي كتمه لا يتعلق بالأحكام العملية، لأنه لو كان في الأحكام العملية لبثه أبو هريرة ولم يكتمه وهو يعلم وزر كتمان العلم، إنما كان ما يكتمه هو شيء فيه الإشارة إلى ذم الأمراء الذين سيأتون بعد معاوية وأولهم الفاسق المشهور يزيد بن معاوية الذي جاء وأفسد في دين الله، وفعل ما فعل ويكفيه عاراً وشناراً قتل الحسين ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم [قلت: لم يثبت بأي سند صحيح هذا الأمر، وقد ألف في هذه الرسالة] ، ولذلك كان أبو هريرة يستعيذ بالله من رأس الستين وإمرة الصبيان قبل أن يأتي رأس الستين، فمات رضي الله عنه عندما قبل رأس الستين وسلم من الفتن التي جاءت بعد الستين.
(9/17)
سعيد بن المسيب عندما يروي الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم مسقطاً الواسطة ففي الغالب هو أبو هريرة، وقد تتبع أئمتنا مراسيل سعيد فوجدوها موصولة من طرق ثابتة وصحيحة عن الصحابة؛ ولذلك احتجوا بمراسيله.
الحاصل.. أن وراية الترمذي مرفوعة إلا أنها منقطعة ورواية ابن أبي الدنيا هي بسند صحيح إلى الحسن والحسن رواه مرسلاً، فالحديث من هذين الطريقتين ضعيف مرفوعاً.
لكن يتقوى بالقواعد المقررة في شرع الله وهي أن ما ثبت لهذه الأمة يثبت للأمم الأخرى، وعليه فالحوض في الآخرة في عَرَصَات الموقف كما يكون لنبينا عليه الصلاة والسلام يكون لسائر الأنبياء الكرام عليهم السلام، إذ لا يليق بكرم الله وحكمته أن يسقي موحدي هذه الأمة ويترك الموحدين من الأمم السابقة.
ثم أضيف هنا وأقول: الحديث يتقوى (1) ليصل إلى درجة الحسن إن شاء الله، لأن له ثلاث شواهد متصلة عن أبي سعيد الخدري كما أخرجه ابن أبي الدنيا، وعن ابن عباس كما أخرجه ابن أبي الدنيا أيضاً عن عوف بن مالك، هذا بالإضافة إلى الشاهد المرسل الصحيح الذي أخرجه ابن أبي الدنيا أيضاً، فالحديث بمجموع هذه الطرق يكتسب قوة ويرتفع إلى درجة الحسن، والعلم عند الله.
إذن فلكل نبي حوض في الآخرة في عَرَصَات الموقف كما لنبينا عليه الصلاة والسلام، لكن يمتاز حوض نبينا عليه الصلاة والسلام بأمرين:
الأمر الأول: أن ماء حوض نبينا عليه الصلاة والسلام أطيب المياه فهو من نهر الكوثر، وهذا لا يثبت لغيره من الأحواض.
الأمر الثاني: أن حوض نبينا عليه الصلاة والسلام هو أكبر الأحواض وأعظمها وأجلها، وهو أكثرها وارداً.
__________
(1) وانظر السلسلة الصحيحة 4/117 حديث رقم (1589) – ز-
(9/18)
.. وإلى جانب هذا ذهب أئمة الإسلام، يقول الحافظ في الفتح (11/467) عند أحاديث الحوض في كتاب الرقاق: "إن ثبت (1) – أي خبر الترمزي ومرسل الحسن – فالمختص بنبينا عليه الصلاة والسلام "أن حوضه يكون ماؤه من الكوثر".
... والأمر الثاني: قال فيه الإمام ابن كثير في النهاية (2/38) حوض نبينا عليه الصلاة والسلام أعظمها وأجلها وأكثرها وارداً".
تنبيه: ورد في مطبوعة مكة من شرح العقيدة الطحاوية بتحقيق أحمد شاكر، وفي مطبوعة المكتب الإسلامي بتحقيق جماعة من العلماء تصحيف بدل كلمة (أجلها) وقع عندهم (أجلاها) ، وإن كان كلا المعنيين صحيح.
الخلاصة: أن لكل نبي حوضاً يوم القيامة، لكن حوض نبينا عليه الصلاة والسلام يمتاز بأمرين ماؤه أطيب المياه، ووارده أكثر من بقية الأحواض.
الأمر الخامس: يتعلق بأمرين:
أبيان من يرد حوض النبي صلى الله عليه وسلم.
ب بيان من يتقدم في الورود عليه ويسبق غيره.
أبيان من يرد حوض النبي صلى الله عليه وسلم:
كل موحد ختم له بالتوحيد سيرد ذلك الحوض المجيد
ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: [أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى المقبرة (يعني البقيع) فقال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون] وفي بعض الروايات في زيارات نبينا عليه الصلاة والسلام للقبور يقول: [السلام عليكم دار قوم مؤمنين أنتم السابقون وإنا إن شاء الله بكم لاحقون] .
و (السلام عليكم) هذا خطاب من يسمع ويعقل ويعي ويفهم، وسماع الأموات أدق من سماع الأحياء، ولذلك لو دخل داخل إلى المعهد وسلم عند باب المعهد لن يسمعه مَنْ في الفصل بل حتى لو كان أقرب من ذلك، بينما لو كنا موتى لسمعناه فبمجرد أن يدخل رجل إلى المقبرة ويقول السلام عليكم لسمع كل مدفون في تلك المقبرة – ولو كانت واسعة ما كانت – سلامه وردوا عليه في قبورهم.
__________
(1) وقد ثبت كما ذكرت ولله الحمد.
(9/19)
و (إن شاء الله) هل هناك شك في اللحوق بهم؟ لا لكنها من باب التبرك وتعليق الأمر على أنه تابع لمشيئة الله، كقوله تعالى (لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين) ، وسيأتينا بحث الاستثناء في الإيمان إن شاء الله تعالى فهو من المباحث المقررة عندنا، وأن الاستثناء يجوز في الإيمان لأربعة أمور معتبرة من جملتها هذا من باب التبرك باسم الله، فتقول أنا مسلم إن شاء الله تعالى، ولا بأس في ذلك.
ثم قال نبينا وحبيبنا عليه صلوات الله وسلامه – وهذه تكملة الحديث [وددت أنا رأينا إخواننا فقال الصحابة رضوان الله عليهم: أولسنا بإخوانك يا رسول الله؟!، قال: بل أنتم أصحابي، وإخواني الذين يأتون من بعدي يؤمنون بي ولم يروني] عليك صلوات الله وسلامه، انتبه!! (أنتم أصحابي) أي أنتم لكم مزية على الأخوة العامة فقد فزتم بشرف الصحبة فأنتم إخوان وأصحاب.
وَمَََنْ بعدكم إخوان لي، كما تقول هذا ابني ولا تقول هذا أخي، فهو أخوك في دين الله ولكن تقول له ابني لأن هذا أخص من الأخوة العامة وهنا كذلك الصحبة أخص من الأخوة العامة.
فانظر لحب نبينا عليه الصلاة والسلام لنا، فلنكافئ هذا الحب بمثله، فهو يتمنى أن يرانا ووالله نتمنى أن نراه بأنفسنا وأهلينا وأموالنا ولو قيل لنا تفوزون بنظرة إلى نور نبينا عليه الصلاة والسلام مقابل أن تفقدوا حياتكم وأموالكم وأهلكم، لقلنا هذا يسير يسير، ضئيل حقير، ولذلك ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [من أشد أمتي لي حباً ناسٌ يكونون من بعدي، يود أحدهم لو رآني بأهله وماله] وهو في مختصر مسلم برقم (1604) .
(9/20)
وتتمة الحديث الذي معنا [فقال الصحابة: يا رسول الله، كيف تعرف من يأتي من أمتك ولم تره؟! فقال: أرأيتم لو أن رجلا له خيلٌ غُرٌّ محجلة بين ظهري خيل دُهْم بُهْم، أما كان يعرفها؟ قالوا: بلى، قال: فإن أمتي يدعون يوم القيامة غرّاً محجلين من آثار الوضوء وأنا فرطهم على الحوض، ألا ليذادنّ رجالٌ عن حوضي كما يذاد البعير الضال، أناديهم ألا هلمّ، فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك، فأقول سحقاً سحقاً] اللهم لا تجعلنا منهم بفضلك وكرمك يا أرحم الراحمين.
(غرّ) : الغرّ بياض في الوجه، وهو من الصفات الجيدة في الفرس، وهذه الأمة تبعث يوم القيامة والنور يتلألأ في وجهها من آثار الوضوء، والوضوء حلية المؤمن.
(محجلة) : بياض في قوائم الفرس، وهو من الصفات الجيدة فيها أيضاً، وهو من علامة جودتها، وهذه الأمة تأتي يوم القيامة وأعضاء الوضوء فيها تتلألأ (الوجه والأيدي والأرجل) ، ففي وجوههم نور وفي أطرافهم نور.
(دُهْم) سوداء
(بُهم) سوادها خالص ليس فيها لون آخر.
فهذه الأمة تأتي يوم القيامة غراًُ محجلين، فالوضوء ثابت لهذه الأمة وللأمم السابقة لكن أثر الوضوء (الغرة والتحجيل) ثبت لهذه الأمة ولم يثبت للأمم السابقة، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء، ولذلك ورد في صحيح مسلم أنه [سيما ليست لغيركم] أي هذه السمة الغرة والتحجيل ليست لغيركم.
إذن إخوانه عليه الصلاة والسلام ونسأل الله أن يجعلنا منهم يأتون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء، وجميع أهل الموقف ليس لهم هذا الوصف، وبالتالي فيميز نبينا صلى الله عليه وسلم أمته الكثيرة من تلك الأمم الوفيرة الغفيرة.
(9/21)
ثم أخبرنا صلى الله عليه وسلم عن صنف شقي، أظهر الإيمان وأبطن النفاق والكفران، فيأتون إلى حوض النبي عليه الصلاة والسلام فيذادون ويدفعون تدفعهم الملائكة وتطردهم فيناديهم النبي صلى الله عليه وسلم: ألا هلم، هلم فأنتم من أمتي ويبدو عليكم – في الظاهر – علامات الوضوء!! لكن بعد ذلك يخفت ذلك النور ويذهب، فيقال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنك لا تدري ماذا أحدثوا بعدك وفي بعض الروايات: [إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ أن فارقتهم] وقد حصل هذا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فيمن ارتدوا، وهذا حاصل في هذه الأيام بكثرة فيمن يدعي الإسلام ويحارب النبي عليه الصلاة والسلام يقول لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين، فهل يرد هذا حوض النبي صلى الله عليه وسلم؟
لا، إن هذا أكفر من أبي جهل وألعن من إبليس، فهو وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم فقد أتى بما ينقض به إيمانه، حيث زعم أن شريعة الله لا تصلح لهذه الحياة، فهي أمور كهنوتية فقط، في داخل المسجد نصلي ونرقص (رقص الصوفية) وخارج المسجد ليس لله شأن في حياتنا وأمورنا، كما قال سعد زغلول "الدين لله والوطن للجميع".
وكما قال شاعر البعث عليه وعلى حزبه لعنة الله:
سلام على كفر يوحد بيننا ... وأهلا وسهلا بعده بجهنم
ويكتبون في شعاراتهم الضالة في الأمكنة البارزة على الأركان وغيرها:
كذب الدعي بما ادعىج ... البعث لن يتصدعا
لا تسل عني ولا عن مذهبيج ... أنا بعثي اشتراكي عربي
ولا يقولون: أنا مسلم، بل الإسلام في المسجد فقط.
ويكتب الآن في لوحات المدارس: لو مثلوا لي وطني وثناً لعبدت ذلك الوثن.
كلمة وطن ووطنية فما هي الوطنية؟!!
إن الجنسية المعتبرة بين العقلاء والتي يمكن أن تجمع بين الناس جميعاً هي جنسية الإسلام فقط، وكل ما عداها يفرق بين المسلمين ويوقع بينهم العداوة.
(9/22)
الحاصل.. من يدعو إلى الأفكار الهدامة الباطلة، فماذا سيكون حاله؟ هل يشرب من الحوض؟! وهل يستوي مع المؤمنين في الشرب منه؟
لا يستوي إخوتي الكرام.
وليس معنى يذادون للرجال فقط أي أن النساء لا تذاد، بل هذا من باب تعليق الشارع الأحكام بصنف من الصنفين وما يشمل أحدهما يشمل الصنف الآخر، كقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام) و (الذين) خطاب للذكور، (وعليكم) خطاب للذكور أيضاً ويشمل الذكور والإناث، لأن ما ينطبق على الرجل ينطبق على المرأة سواءً بسواء إلا إذا قام دليل على التخصيص فالنساء شقائق الرجال، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
فمثلا ً: لو جاءت هدى شعراوي للحوض فهل تتمكن من الشرب منه؟ لا فهذه أعتى من أبي جهل، وأعتى من عبد الله بن أبي بن سلول.
وكذلك نزلي سعد زغلول وميادة أو مي الشاعرة (هؤلاء الثلاثة صاحبات الصالونات في مصر االتي أفسدت العالم) .
وأنا أعجب حقيقة – إخوتي الكرام – لمضاء عزيمة النساء وكيف غيرت هذه النساء الثلاثة الحياة في هذه الأوقات.
وفي المقابل تأتي للنساء الصالحات فلا ترى بعد ذلك إلا خمولاً وانعزالية وعدم بصيرة في هذه الحياة وتدبير لما يراد بهن فهذا لابد له من وعي – إخوتي الكرام – ولابد له من عزيمة ولابد من تحرك.
فإذن هناك رجال يذادون ونساء يذدن ويدفعن فليس هو عقوبة للرجال فقط.
وثبت في الصحيحين من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [أنا فرطكم على الحوض، ومن ورد شرب ومن شرب لم يظمأ أبداً، وليردنّ عليّ أقوام أعرفهم ويعرفوني ثم يحال بيني وبينهم] .
وفي رواية أبي سعيد الخدري في تكملة حديث سهل بن سعد الساعدي [فأقول إنهم مني، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، سحقاً، سحقاً لمن بدل بعدي] .
(والفرط) هو المتقدم أي أنا أتقدمكم على الحوض.
إذن يرده كل الموحدين إلا من بدل وغير ونافق وكفر.
ب بيان من يتقدم في الورود عليه ويسبق غيره:
(9/23)
أول مَنْ يتقدم في الورود عليه عندما يخرج الناس من قبورهم وهم عطاش هم صعاليك المهاجرين وفقراؤهم.
المحاضرة التاسعة عشرة
الأربعاء 10/4/1412هـ
ثبت في سنن الترمذي بسند حسن عن ثوبان رضي الله عنه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: [أول الناس وروداً على الحوض فقراء المهاجرين، الشُعث رؤوساً، الدُنُس ثياباً، الذين لا ينكحون المنعمات ولا تفتح لهم أبواب السدد] .
(الشعث) : جمع أشعث، أي شعره متلبد وليس عنده وقت لتمشيطه وتسريحه وتجميله.
(دُنس) : أي ثيابهم دنسة، وليس المراد من الدنس فيها نجاسة أو قذارة لكنها ثياب ممتهنة عند الناس قي قلة ثمنها، هذا كما ثبت في سنن الترمذي وغيره بسند حسن [البذاذة من الإيمان] والبذاذاة هي رثة الهيئة وعدم الاعتناء بالملبس، فمتى ما كوى ملابسه فليست دنسة حينئذ فلا يكوي ملابسه لا بنفسه ولا يضعها في دكان كي.
فخلاف حالنا الآن فعندما يريد أن يلبس الغُترة (الكوفية) فتراه لابد أن يجعلها مثل السيف من الأمام ولا نقول هذا حرام لكنها درجة دون الكمال أي أن يأْسِرَ الإنسانَ لباسُه، فليفرض أن هذا اللباس لم يتهيأ له ولذلك البذاذة من الإيمان [من ترك اللباس الفاخر وهو قادر عليه دعاه الله يوم القيامة وخَيَّرَهُ من حُلل الجنة ما شاء] .
(الذين لا ينكحون المنعمات) هذا وصف ثالث أي الثريات الموسرات بنات المترفين والأغنياء، فلا يقبلون الزواج بهن.
(9/24)
(ولا تفتح لهم أبواب السُدد) وهذا هو الوصف الرابع، والسُدد هي القصور والمقصورات التي تكون خاصة بالمترفين، مثل بيوت الأمراء ومثل المقاصر التي عملها معاوية وهو أول من عمل المقصورة في المسجد وهي مكان خاص في المسجد لا يدخلها إلا هو وحاشيته ويوجد منها للآن في أكثر بلاد الشام وبلاد مصر وتكون على شكل طابق ثان ٍ لكنه ليس واسعاً وله مصعد خاص وغالباً ما يصلي عليه أناس خاصون فلو جاء إنسان مسكين لاسيما في العصر الأول ليصعد إلى هذه السدة منعوه، فهؤلاء أي الممنوعون هم أول من يرد حوض نبينا عليه الصلاة والسلام.
لِما امتاز الفقراء بهذا الورود؟ ولم يكن هذا للأغنياء من المهاجرين؟ فهم قد تركوا بلادهم وأوطانهم وأموالهم وما يملكون وخرجوا في سبيل الحي القيوم ابتغاء مرضاته ولا غرابة إن كوفئوا بالورود قبل غيرهم، لكن لم يحصل ذلك وفرق بينهم وبين الفقراء؟
إن الإنسان إذا هاجر وكان غنياً وعنده في هجرته ما يستعين به فإن ألم الهجرة والغربة يخف عليه، وإذا هاجر وكان فقيراً فيجتمع عليه أمران ومُصيبتان: الهجرة والفقر.
وإذا كان كذلك فبما أنه في هذه الحياة اعترتهم هذه الشدة فينبغي إذن أن يكرموا قبل غيرهم يوم الفزع الأكبر، لأنه قد اعترتهم شدة وكربة في هذه الحياة من أجل الله سبحانه وتعالى، فَيُطَمْأَن بالشرب أولاً مقابل ما حصل من قلق وخوف في هذه الحياة إذن. والمهاجر الغني ليس أمره كذلك.
وهؤلاء حالهم وإكرامهم كحال خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام، فإن الناس يحشرون يوم القيامة حُفاة عُراة غُرْلاً (1) (كما بدأنا أول خلق نعيده) ويكون أول من يُكسى من هذه المخلوقات خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام والحديث في الصحيحين – لعدة اعتبارات فإن الجزاء من جنس العمل.
__________
(1) فتعاد الجلدة التي قطعت من رأس الذكر، وهي محل الختان.
(9/25)
1- فإن إبراهيم عليه السلام ألقي في النار ولما ألقي جرد من ثيابه كيوم ولدته أمه وقُيّد ثم رمي بالمنجنيق في النار العظيمة، وهو نبي من أولي العزم الكرام بل خليل الرحمن!!.
فإذا كان الأمر كذلك وامتهن من قبل الأشرار في هذه الحياة فسيكسى يوم القيامة أول المخلوقات وأهل الموقف كلهم عراة كما ولدوا الرجال والنساء لا ينظر أحد إلى أحد كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام، كما قال تعالى: (لكل امرئِ منهم يومئذ شأن يغنيه) .
فأول من يكسى إبراهيم وهكذا من حصل له مثل حاله، وهذا يحصل للمؤمنين في هذا الحين من قبل المخابرات في الدول العربية عندما تأخذ شباب المسلمين لتعذبهم فتجردهم من ثيابهم ثم يعمشون أعينهم حتى لا يعلموا إلى أين يساقون، نسأل الله أن يكفينا شر الشريرين إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، فهؤلاء الذين عذبوا في السر ليستحقون هذا الإكرام وهو الكسوة قبل غيرهم؟!
(9/26)
2- لأن إبراهيم عليه السلام هو أول من سن لبس السراويل وهي أستر شيء لاسيما للنساء فإذا كان السروال طويلاً يصل إلى الكعبين بالنسبة للمرأة ويزيد على الركبة بالنسبة للرجل فهو ساتر للإنسان يحول دون كشف عورته لو سقط أو جلس ولم يحطت في جلسته، وأما هذه السراويل القصيرة التي يلبسونها في هذه الأيام من لا خلاق له ثم يخرج فتراه إذا جلس بدا فخذاه، وإذا سقط – لا سمح الله – بدت عورته. ولذلك ورد في معجم الطبراني وغيره – والحديث ضعيف لكن يستدل به في الفضائل: [أن النبي عليه الصلاة والسلام كان جالساً أمام البقيع بعد دفن بعض الصحابة، فمرت امرأة تركب على دابة لها فتعثرت الدابة فسقطت فأعرض النبي صلى الله عليه وسلم عنها بوجهه فقيل: يا رسول الله إنها مستورة – أي تلبس السراويل – فقال: اللهم اغفر للمتسرولات من أمتي] ، فخليل الرحمن إبراهيم من شدة حيائه هو أول من سن السراويل، فإذا كان فيه هنا الحياء فلا يصلح لأن يترك مكشوفاً كبقية المخلوقات، بل إنه تعجل له الكسوة قبل غيره.
3- لأنه كان أخوف الخلق لرب العالمين وكان يسمع أزيز قلبه من خشوعه وخوفه من مسافة ميل، فإذا كان هذا الخوف وهذا الاضطراب وهذا القلق فينبغي أن يعجل له الأمن. والكسوة علامة الأمن وأنه مرضي عنه.
فإذن خليل الرحمن إبراهيم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه تعجل له الكسوة لهذه الاعتبارات وفقراء المهاجرين أوذوا وليس عندهم شيء يَتَسَلَّوْنَ به من مال يستعينون به في غربتهم فإذا بعثوا من قبورهم ينبغي أن يكون لهم شأن على أغنياء المهاجرين فضلاً عن سائر الأمة بعد ذلك.
(9/27)
ولما بلغ هذا الحديث – حديث ثوبان رضي الله عنه – عمر بن عبد العزيز رحمه الله بكى وقال: "لقد نكحت المنعمات" ويقصد بها فاطمة بنت عبد الملك، مع أنها تقول – أي زوجته: "ما اغتسل عمر بن عبد العزيز من جنابة - من مباشرة أو احتلام منذ ولي الخلافة حتى لقي ربه". وكانت خلافته مدة سنتين إلا شهرين، ثم قال: "وفتحت لي أبواب السدد" فالقصور تفتح لي عندما أذهب لها "لا جرم لا أغسل رأسي حتى يشعث، ولا ثوبي الذي يلي جسدي حتى يتسخ"؛ لينال هذا الوصف رحمه الله تعالى، أي أن ما مضى مني أسأل الله أن يتجاوز عنه ويعفو بفضله ورحمته، وأما من الآن بعد أن بلغني هذا الحديث فلن أفعل هذه الأمور.
وفاطمة بنت عبد الملك، والدها خليفة وزوجها خليفة، وأخوها خليفة – بل إخوتها الخمسة سليمان والوليد وهشام وغيرهم كانوا خلفاءً، وجدها خليفة فهذه من أعظم المنعمات وما حصل هذا لامرأة أخرى، وهي التي قيل فيها:
بنت الخليفة والخليفة جدها ... أخت الخليفة والخليفة زوجها
فإذن بكى رحمه الله لما بلغه هذه الحديث مع أنه رضي الله عنه جمع زوجته وإماءه وقال لهن: طرأ عليّ ما يشغلني عنكن فإن أردتن الفراق فلكن هذا، وإن أردتن البقاء فليس لي صلة بواحدة منكن.. فبكين بحيث سُمع البكاء في بيوت الجيران، ثم تحدثوا وسألوا ما السبب؟ فقالوا: عمر بن عبد العزيز خيَّر نساءه.
ثم بعد ذلك قال لزوجته فاطمة هذا الحلي الذي عليك لا يحق لنا أخذ تيه من والدك عبد الملك وهذا من بيت المال فأرى أن نعيده في بيت المال، فقالت سمعاً وطاعة فأخذت حليها وأعطته إياه فأعطاه لخازن بيت المال، وخازن بيت المال احتاط فوضعه في زاوية وما صرفه في مصالح المسلمين – وبيت المال في عهد عمر بن عبد العزيز ممتلئ بالخيرات، وقد ثبت في مسند الإمام أحمد [أن الحبة من القمح كانت في عهد عمر بن عبد العزيز كرأس الثوم] وحفظ هذا بعد موته وكتب عليه: هذا كان ببيت في زمان العدل.
(9/28)
ولما قيل له: إن الخيرات كثرت ونطلب من نعطيه الصدقة فلا نجد، فقال: اشتروا أرقاء وأعتقوهم واجعلوا ولاءهم لبيت المال.
وكان في عهده ترعى الذئاب مع الغنم، وقد ثبت في حلية الأولياء أن بعض التابعين مرّ على راع ٍ يرعى الغنم فوجد عنده ما يزيد على ثلاثين كلباً، فقال له: ما تفعل بهذه الكلاب؟ وواحد يكفي!! فقال: سبحان الله، ألا تعلم أن هذه ذئاب وليست كلاب: فقال: ومتى اصطلح الذئب مع الشاة، فقال الراعي: "إذا صلح الرأس فما على الجسد بأس"، إذن إذا عدل أمير المؤمنين واتقى الله فإن الله يحول بين المخلوقات وبين الظلم.
ورعاة الماشية في البادية علموا بموت عمر بن عبد العزيز رحمه الله ليلة انقضت فيها الذئاب على الغنم، فلما مات عمر وهم في البادية انقضت الذئاب على الغنم، فقالوا: أرخوا هذه الليلة – أي اكتبوا تاريخها – ثم ابحثوا عما حصل فقد مات عمر فلما تحققوا من الخبر علموا أن عمر مات في تلك الليلة رحمه الله ورضي عنه.
هذا هو عمر بن عبد العزيز، فخازن بين المال عندما أعطاه عمر رحمه الله حلي فاطمة، وضعه في زاوية وما تصرف فيه فبعد أن مات عمر رضي الله عنهم أجمعين جاء إليها وقال: هذا حليك الذي أخذه عمر احتفظت به كما كان، فإذا أردتيه فخذيه، فقالت: ما كنت لأزهد فيه في حياة عمر ولأرغب فيه بعد موته.
فانظر لهذا العبد الراشد وهو خامس الخلفاء الراشدين كما قال الشافعي: "فالخلفاء خمسة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلى وعمر بن عبد العزيز"وهو خليفة راشد باتفاق أئمتنا وهو مجدد القرن الثاني باتفاق أئمتنا لأنه توفي سنة 101 هـ عليه رحمة الله فعاش شيئاً من نهاية القرن الأول وبداية القرن الثاني.
وهو أول مجددي هذه الأمة، وقد ثبت عن نبينا عليه الصلاة والسلام في سنن أبي داود وغيره بإسناد جيد [إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها] .
س: هل جاء مجددون بعده؟
(9/29)
ج: لا شك في ... ذلك، فقد جاء مجددون في كل قرن ولا يشترط أن يأتي واحد بعينه، فمجدد القرن الثالث الإمام الشافعي باتفاق أئمتنا لأنه توفي سنة 204 هـ، ـ ويشترط في المجدد كما قلت لكم أن يدرك نهاية القرن المنصرم وبداية القرن التالي فالشافعي ولد سنة 150 هـ، فهو المجدد الثاني إذن، وهكذا سرد أئمتنا عدداً من المجددين إلى زماننا ولا يشترط أن يكون واحداً بعينه فأحياناً يوجد عدد من المجددين بحيث أن واحداً يجدد مثلاً في أمر العقيدة وتصحيح الأذهان من الخرافات، وآخر يجدد في نشر الحديث، وآخر في الجهاد، وهكذا في رأس كل مائة سنة.
ونحن في هذه الأيام – لا أقول كما يقول الناس نشهد صحوة بل في بلوى وفي عمىً – يوجد من فضل الله شيء من مظاهر التجديد وأموره ونحن في بداية قرن، وهو القرن الخامس عشر الهجري فحقيقة قد حصل تجديد في هذا الوقت كثير لكن لا أقول صحوة كما يفهم الناس ويخدرونهم بهذا الكلام لكن حصل التجديد وحصل الوعي وهذا من فضل الله.
فمصر مثلا ً سنة 1970 م لما ذهبتُ إليها لم تكن لترى فيها امرأة متحجبة، ولا ترى رجلاً في وجهه لحية، فمن فضل الله المتحجبات الآن في مصر لا أعلم لحجابهن نظير على وجه الأرض، إلا نساء الصحابة، فأنا لم أر امرأة تلبس جلباباً يجر على الأرض ذراعاً إلا في مصر، ولا أقول شبراً، وجر الثياب بالنسبة للرجل حرام ولا ينظر الله إلى من جر ثيابه خيلاء، وما نزل عن الكعبين في النار.
وانظر لعادات الناس في البلاد المتغطرسة المتكبرة، فالرجال تجر الثياب والنساء تقصرها إلى الركبتين بل إلى ما فوقها فسبحان الله!!.
والمرأة يجوز لها أن تتحجب بحيث تستر رجلها ويستحب لها أن ترخي ثيابها شبراً فلما قال النبي صلى الله عليه وسلم [أترخيه شبراً قالت امرأة: يا رسول الله، إذن تبدو قدمها، فقال: لترخيه ذراعاً ولا تزد] .
(9/30)
(تحدث الشيخ عن أطماع الغرب في أن نقلده في كل شيء إلا في المرأة، وفوجئ بأن نساءنا قلدنه تقليداً لا مثيل له فوجه سهامه لهن وخطط لإشراكهن في ميادين الحياة العامة ما ينفعها ولما لا ينفعها ومنه ما يسمى بتطوع النساء للقتال والدفاع المدني وكيف صارت المرأة سلعة مبتذلة بسبب هذه المخططات ثم ذكر قول علي رضي الله عنه، شر خصال الرجل خير خصال المرأة، وأن المرأة تكون سلسلة مع زوجها نافرة عنيدة مع غيره.)
وقبل أن ندخل في مبحث الشفاعة عندنا فائدتان:
الفائدة الأولي:
أنكر الخوارج والمعتزلة حوض نبينا عليه الصلاة والسلام، وحقيق بهم ألا يردوا ذلك الحوض وألا يشربوا منه.
فقالوا: لا يوجد لنبينا عليه الصلاة والسلام حوض ولا للأنبياء الآخرين عليهم السلام وحجتهم أن هذا لم يثبت في القرآن، وأمور الاعتقاد لابد من أن تكون في القرآن أو في حديث متواتر.
نقول: أما أن الحوض لم يثبت في القرآن فنحن معكم، لكن قلنا: إن الأحاديث متواترة وقد رواها ما يزيد على (56) وبلغت إلى (80) صحابياً، فهي إذا لم تكن متواترة فلا يوجد متواتر إذن فيقولون: إنها ليست متواترة عندنا بل هي أحاديث آحاد لا يؤخذ بها في الاعتقاد.
وقد ضل الخوارج والمعتزلة ومعهم الشيعة في قاعدة خبيثة انتبهوا لها:
أما الخوارج والمعتزلة فقالوا: كل حديث ورد في أمر الاعتقاد وليس له أصل في القرآن يطرح وهو مردود باطل.
(9/31)
تقول لهم كلام النبي صلى الله عليه وسلم يقولون لك يطرح ولا قيمة له، وهو باطل ولو كان في الصحيحين ولو أجمعت الأمة على تلقيه بالقبول، ولذلك أهل المدرسة العقلية كالضال محمد عبده وأمثاله كما ذكرت لكم سابقاً هكذا يفعلون بالأحاديث، يقولون: آحاد ولا يؤخذ بها في الاعتقاد، فأحاديث نزول عيسى عليه السلام مثلا ً– بلغت سبعين حديثاً وهي متواترة باتفاق المحدثين، يقول محمد عبده: "لنا نحو هذه الأحاديث موقفان: الأول: أن نقول هي آحاد فلا يؤخذ بها في الاعتقاد، الموقف الثاني، على فرض التسليم بثبوتها فنؤولها بأن المسيح الدجال هو رمز للدجل والخرافات وهي الجاهيلة التي كانت قبل بعثة خير البرية عليه الصلاة والسلام، والمسيح عيسى بن مريم رمز للنور والهدى وهو الإسلام الذي جاء وأزال الجاهلية، أما أنه سينزل عيسى ويقتل الأعور الدجال فيقول هذه خرافة!! لأن عيسى عندما أراد اليهود قتله هرب وذهب إلى الهند ومات هناك وقبره معروف هناك في قرية (سُرى نكر) واسم قبره (قبر عيسى الصاحب) والصاحب عند الهنود بمنزلة الشيخ في بلاد العرب وبمنزلة الخوجة عند الأتراك، وأما قول الله تعالى: (بل رفعه الله إليه) يقول رَفْعُه هو رفع مكانة لا مكان، وكأنه وضيعاً قبل ذلك!!!.
(9/32)
وأما الشيعة فقد زادوا على الخوارج والمعتزلة ضلالاً فقالوا: الأحاديث إذا كانت متعلقة بأمر الاعتقاد أو بالأحكام العملية وليس لها أصل في القرآن فهي مردودة 0إذن زادوا الأحكام العملية على الخوارج والمعتزلة، ولذلك الجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها في النكاح محرم إلا عند الشيعة فعندهم يجوز أن تجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها باتفاقهم، والحديث قد ثبت في مسلم وغيره [نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الجمع بين أربع نسوة بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها] لكنهم يقولون لا وجود لهذا في القرآن ولتقرؤوا آية المحرمات من النساء (حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم....) ولم يقل وأن تجمعوا بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها، نعم وأن تجمعوا بين الأختين فقط فالجمع بين الأختين محرم ولا مانع أن يجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها، والحديث لا قيمة له فهذا قد أثبت حكماً لا وجود له في القرآن نعوذ بالله من هذا الضلال، فهؤلاء الشيعة، هم أضل من الخوارج والمعتزلة بل هم أضل من فرق الأمة على الإطلاق، لو خلقهم الله طيراً لكانوا رَخْماً والرخم طائر أحمق لا يأكل إلا العذرة، ولو خلقهم الله بهائم لكانوا حُمُراً- جمع حمير-، وهكذا حال الشيعة لا عقل ولا نقل، وجمعوا الضلال الذي تفرق في الفرق بأسرها، ولم يدخلوا في الإسلام رغبة ولا رهبة، إنما دخلوا كيداً للإسلام ومقتاً لأهله.
الفائدة الثانية:
روى ابن جرير في تفسيره عن ابن أبي نَجيح عن أمنا عائشة رضي الله عنها أنها قالت: [من أحب أن يسمع خرير الكوثر فليضع أصبعيه في أذنيه] .
ضع أصبعيك في أذنيك الآن واسمع صوت الكوثر حقيقة كصوت الفرات عندما يجري، وقد جربتُ هذا مراراً.
وهذا الأثر منقطع عن أمنا عائشة رضي الله عنها فابن أبي نَجيح لم يسمع منها قال الإمام ابن كثير في تفسيره وقد روى ابن أبي نَجيح هذا الأثر عن رجل عن أمنا عائشة والرجل مبهم.
(9/33)
وعلى كل حال فالأثر من حيث الإسناد ضعيف، وإذا ثبت عن أمنا عائشة فله حكم الرفع إلى نبينا عليه الصلاة والسلام لأنه يتعلق بمغيب لا يدركه عقل الإنسان.
وما أتى عن صاحب بحيث لا ... يقال رأياً حكمه الرفع على
ما قال في المحصول نحو من أتى ... فالحاكم الرفع لهذا أثبتا
فإذا قال الصحابي قولا ً لا يدرك بالرأي فله حكم الرفع إلى نبينا عليه صلوات الله وسلامه.
ومعنى الحديث -لو ثبت- قال الإمام ابن كثير في تفسيره: "ومعناه: أنه يسمع نظير صوت الكوثر ومثل خريره لا أنه يسمعه بنفسه".
(9/34)
التعليق على الطحاوية
(مبحث الشفاعة)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
المبحث الثالث
مبحث الشفاعة:
الشفاعة: مأخوذة من الشفع وهو خلاف الوِتْر والوَتْر وهو الفرد، فالشفع هو الزوج.
والله وِتّر ووَتّْر، والشفع هي المخلوقات، هذا من جملة ما قيل فيه، فقوله تقال (والفجر وليال عشر والشفع والوتر) الواو واو القسم فالشفع قسم بالمخلوقات، والوتر قسم بنفسه سبحانه وتعالى.
والشفع قيل: يوم النحر، والوِتر قيل: عرفة، هذا من جملة ما قيل لأن هناك أقوالا ً كثيرة.
أنما هنا الشفع هو الزوج لأنه شفع غيره فصار زوجاً، والوتر انفراد بنفسه فهو فرد، وسمي الشفع شفعاً لأنه شفع الوتر أي صاحبه وانضم إليه فجعله زوجاً بعد أن كان فرداً. إلى هنا تم التصحيح
ويحصل بالشفع – كما ترون – معنى الزيادة؛ لأن الوتر والفرد عندما زيد عليه مثله صار شفعاً فحصل فيه إذن معنى الزيادة.
ومنه الشُّفعة – بضم الشين – وهي ضم الشفيع المبيع إلى مكله فيشفعه به، كأنه كان وتراً فصار زوجاً شفعاً، كما جاء في لسان العرب لابن منظور في مادة شفع (10/50) ، وهو أكبر معاجم اللغة العربية.
وصورة الشفعة: اشتركت أنا وأنت في بيت، ثم بعت نصيبي بمائة ألف درهم لغيرك فأنت لك حق الشفعة لتدفع الضرر عنك فتأتي وتقول لي شفعت في بيعك، أي ضممت بيعك إلى ملكي بمثل القيمة التي بعت بها نصيبك، فيفسخ البيع بيني وبين المشتري الغريب الذي ليس بشريك ويثبت لك كل البيت، وتدفع قيمة نصيبي، فإذن الشفعة ضمَّ الشريك المبيع إلى ملكه فصار ملكين وجزأين بعد أن كان جزءاً واحداً، وصار شفعاً بعد أن كان وتراً.
المحاضرة العشرون
ومعناها في الاصطلاح: طلب الخير للغير وفيها المعنى اللغوي.
أي المعنى الاصطلاحي فيه المعنى اللغوي، فالشفيع عندما يطلب الخير من غيره يضم صوته وطلبه إلى طلب المشفوع له.
(10/1)
فأنت تقول (رب اغفر لي) تطلب من الله المغفرة، ويجئ آخر فيدعو لك فيقول: (اللهم اغفر له وأجب دعواه) فهذه شفاعة، فكان السائل والطالب فرداً واحداً، وعندما طلبت أنت تحقيق طلبه صيّرته شفعاً وزوجاً وصار الطلب من جهتين من السائل لنفسه ومن الشافع.
فالشافع إذن شفع السائل والطالب فصارا اثنين، فإذن شفع الشافع المشفوع له، وشفع الشافع المطلوب منه الشفاعة، حيث ضم الشافع رأيه إلى رأي من طُلبت منه الشفاعة فأنت ذهبت مثلاً إلى مدير تطلب منه حاجة، فأنا شفعت لك عنده فضممت صوتي إلى صوتك وصار الطلب من جهتين، وضممت رأيي إلى رأي المشفوع عنده.
إذن شفعت للمشفوع له، وللمشفوع عنده، فأعطيت رأيي مع صاحب الحاجة وأعطيت رأيي مع من سيقضي هذه الحاجة، فشفعت لهذا وشفعت مع هذا.
أما لهذا فطلبت قضاء حاجته. وأما ذاك فقد حرضته على قضاء حاجة الطالب فأنت شفعت لاثنين.
أو تقول: شفعت الطالب والمطلوب منه، شفعت الطالب واضحة، وشفعت المطلوب منه أي الذي سيقضي حاجة الطالب.
أو تقول: شفعت المشفوع له وشفعت المشفوع إليه، أو: شفعت المشفَّع والمشفِّع، فالمشفَّع هو طالب قضاء الحاجة والمشفِّع هو الذي سيقضي الحاجة، ولو ضربنا هذا مثلاً للخليقة مع ربهم جل وعلا، فالمشفِّع هو الله سبحانه وتعالى، والمشفَّع هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو غيره، فالرسول صلى الله عليه وسلم [أول شافع وأول مشفَّع] .
وقبل أن أنتقل إلى مباحث الشفاعة أحب أن أذكر مقدمة لها، وكل مباحثها تدور حول مبحثين فالشفاعة مطلوبة من المسلمين نحو بعضهم في الدنيا وفي الآخرة.
يقول تعالى عن الشفاعة في الدنيا: (من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وكان الله على كل شيء مقيتاً) ، فقد حثنا الله تعالى في هذه الآية على الشفاعة الحسنة التي فيها قضاء مصالح العباد، وحذرنا من الشفاعة السيئة.
(10/2)
وقد حثنا نبينا عليه الصلاة والسلام أيضاً على الشفاعة في أحاديثه الكثيرة الصحيحة الثابتة، ففي الصحيحين والسنن الثلاثة أبي داود والنسائي والترمذي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء] وفي رواية أبي داود [اشفعوا لي] أي في طالب الحاجة [لتؤجروا وليقضي الله على لسان نبيه ما شاء] .
وهذه الشفاعة – كما قلت – ينبغي أن تكون في تحصيل الخير للغير في الدنيا والآخرة ولكن بشرط عدم تعطيل أحكام الله الشرعية، لأنك إذا شفعت في حد من حدود الله أو في إسقاط واجب أو استحلال محرم فهذه شفاعة محرمة وهي مضادة لله في حكمه، (قصة سرقة المخزومية والتي شفع فيها أسامة)
والشفاعة في الدنيا تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
1- شفاعة حسنة مستحبة وتكون في:
أالمباحات.
ب المستحبات.
ولها صور كثيرة ولا يعجزكم التمثيل لها فلو طلب شخص مباحاً من مسئول أو مستحباً، فامتنع عليه، فشفعت له من أجل قضاء حاجته وطلبه، فهذه شفاعة حسنة ومستحبة.
وقد بوب البخاري عليه رحمة الله في كتاب الطلاق باباً بهذا الخصوص فقال: باب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في زوج بريرة.
وزوجها هو مغيث، وحديثه ثابت في الكتب الستة، فقد كانت بريرة تحت مغيث وكانت أمة وهو عبد – على أرجح القولين – ثم اعتقت بريرة والتي أعتقتها أمنا عائشة رضي الله عنها – وعندنا في الشريعة أن الأَمَة إذا كانت تحت عبد ثم أعتقت وصارت حرة فهي مخيرة إن شاءت أن تفارقه وإن شاءت أن تبقى معه، وإذا كانت تحت حر فاختلف في ذلك والجمهور يقولون بالتخيير وأبو حنيفة يقول بالتخيير سواء كان الزوج حراً أو عبداً.
الحاصل أن مغيثاً كان عبداً فالنبي صلى الله عليه وسلم قال لبريرة: أنتِ بالخيار ما لم يمسسك – أي يقربك – فقالت لا أريده يا رسول الله، وقالت لأمنا حفصة رضي الله عنها: هو الطلاق هو الطلاق هو الطلاق.
(10/3)
فتشفع النبي صلى الله عليه وسلم لمغيث لأجل أن تعود له بريرة، فقد كان مغيث متعلقاً بها وكان قبل أن يحصل الطلاق بينهما يتبعها في سكك المدينة وهو يبكي وراءها والدموع تسيل على خديه وعلى لحيته ويسترضيها فتأبى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمه العباس: [ألا تعجب يا عمِّ إلى حب مغيث لبريرة وإلى كراهية بريرة لمغيث، ثم قال لها النبي صلى الله عليه وسلم، ارجعي إليه يا بريرة هو زوجك وأبو أولادك، فقالت: أتأمرني يا رسول الله؟ قال: لا، إنما أنا شافع] أي ألتمس منك العودة إليه، [فقالت: لا أريده يا رسول الله، الطلاق الطلاق الطلاق] فطلقت منه وما اجتمعت به بعد ذلك.
فهذه شفاعة مستحبة وقد شفع خير خلق الله عليه صلوات الله وسلامه في هذا الأمر لكن عنصر النساء عجيب، ووالله لو كنت مكانها لو كان ثوراً أسود لقبلته من أجل شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وتطييباً لخاطره، وهل يقول النبي صلى الله عليه وسلم كلمة وأردها؟ ! لكن هذا حال النساء.
لكن مع ذلك انظر لإيمانها، فليس عندها نقص فيه، حيث أرادت أن تتحقق هل هذا أمر واجب أم لا؟ فهي تعلم قول الله تعالى: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) .
وهذا الحديث يقول الحافظ ابن حجر: استنبط أئمة الإسلام منه (300) فائدة، وأوجزها في فتح الباري وأشار إلى هذه الفوائد في الإصابة في ترجمة بريرة رضي الله عنها وعن زوجها.
ونسأل الله أن لا يعلق قلوبنا إلا به، وأنا حقيقة لا أتعجب من بريرة إنما أتعجب من مغيث فالنساء سواها كثير، وما عند هذه عند تلك، وعلام المشي وراءها والبكاء عليها! لكن هذا هو حال الضعف الإنساني، وصدق الله إذ يقول (وخلق الإنسان ضعيفاً) .
(10/4)
رفع إلى ابن عباس رضي الله عنهما في يوم عرفات رجل قد صار كالفَرْخ من ضعفه ومرضه، فقال: ما به؟ قالوا: العشق، فبدأ ابن عباس رضي الله عنهما – في يوم عرفات – يستعيذ بالله من العشق حتى مغيب الشمس.
قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم ... العشق أعظم مما بالمجانين
العشق لا يستفيق الدهر صاحبُه ... وإنما يصرع المجنون في الحين
إن هذه الشفاعة الأولى الدنيوية مستحبة في مباحات ومستحبات وقولوا ما شئتم لها من أمثلة.
2- شفاعة واجبة وتكون في:
أ) تحصيل الواجبات.
ب) دفع الظلم عن المؤمنين والمؤمنات.
فإذا كان الطلب في أمر واجب ولأخذ حقه، أو كان الطلب لدفع الظلم عنه – وهو حق – فلم يجبه ولي الأمر لا في إعطائه حقه ولا في دفع الظلم عنه وأراد أن يوقع به عقوبة لا يستحقها أو أراد أن يمنعه حقاً هو له، وعلمت أنت بهذا فيجب عليك أن تشفع، لكن هذا الوجوب على حالتين، فهو فرض كفاية إن علمت وعلم غيرك ومنزلتك ومنزلتهم عند ولي الأمر سواء فيجب عليكم كلكم أن تشفعوا، فإذا قام البعض بتلك الشفاعة سقط الإثم عن الباقين كصلاة الجنازة.
ويكون واجباً وجوباً عينياً إذا لم يعلم بحالة طالب الحاجة إلا أنت، أو علم غيرك أيضاً لكن أنت لك منزلة إذا شفعت بحيث تقضي حاجته ويُحصّل الواجب ويُرفع الظلم فهنا تعين الوجوب عليك وإذا لم تشفع فأنت آثم.
(10/5)
الإمام الشافعي استدعاه – ذكرها ابن عبد البر في كتابه الانتقاء في تراجم الأئمة الثلاثة الخلفاء – هارون الرشيد فأحضر من مكة إلى بغداد مقيداً، فما خلصته إلا شفاعة عبد صالح، إنه محمد بن الحسن تلميذ أبي حنيفة، وذلك أن الشافعي زوِّر عليه أنه يريد أن يبايع رجلاً من آل علي لينقلبوا على العباسيين وبالأخص على الخليفة هارون الرشيد فجن جنونه فأرسل لإحضاره، فعلم بذلك محمد بن الحسن فاغتنم الغنم فتحين قدوم الشافعي فكان في مجلس هارون الرشيد، فلما دخل الشافعي عرّف محمدُ بن الحسن هارونَ بمنزلة الشافعيّ وبين له أن هذا من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وأن هذا إمام المسلمين....، ثم قال له هارون: يا محمد خذه إلى بيتك حتى يتبين لي الأمر، ثم ارتفع قدره (أي الشافعيّ) عند هارون بعد ذلك وأكرمه غاية الإكرام وأمر له بخمسين ديناراً.
فلولا أن الله لطف بالشافعي بشفاعة محمد بن الحسن لطارت رقبته في مجلس هارون، ولو أن محمداً ما شفع للشافعي لشارك في إثم دمه لأنه يعلم قدره ومنزلته وعلم بحاله، فانتبه لهذا!! إذن هذه شفاعة واجبة.
(10/6)
وأخبرنا بعض شيوخنا الشيخ عبد الرحمن زين العابدين عليه رحمة الله عن قصة جرت لبعض العلماء الصالحين في الزمن القديم، حاصلها أن افتُري على طالب علم فاستدعاه ولي الأمر، فلما جاء إليه أعلم هذا الشيخ الصالح أن طالب العلم الفلاني قد استدعاه ولي الأمر وقد يفتك به – وقد كان للشيخ منزلة عند ولي الأمر ومكانة وكلمة مسموعة – فسارع الشيخ إلى منزل ولي الأمر وكان عنده اجتماع وطال الاجتماع والشيخ لا يزال جالساً وكان محصوراً - يحبس البول – فلما خرجوا دخل على ولي الأمر وكان مشغولاً في الكلام فانفجرت مثانة الشيخ ومات في مجلس الأمير فقال الأمير: ماله، وما الذي طرأ عليه حتى جاءني وقد كان الأصل أن آتي إلى بيته فهذا الشيخ هو شيخ المسلمين في بلدتنا؟ فقالوا: بلغه أن طالب علم ادُعىّ عليه وأحضر إليك فخشي أن تفتك به فجاء ليُعرِّف له وليشفع له , وكان محصوراً وهو رجل كبير لا يمسك هذا، فانفجرت مثانته فمات، فقال الأمير: والله لو علمت لأعطيته حِجْري ليبول فيه، ولجئت إلى بيته لأقبل شفاعته.
فهذه شفاعة واجبة لتوصل الحق إلى صاحبه ولتدفع الظلم عنه.
وأنا أقول لكم من باب شكر أهل الشفاعات والفضل على شفاعاتهم فمن تحدث بالنعمة فقد شكرها ومن كتمها فقد كفرها، وصاحب الشفاعة يعلم الله أنه لا يريد التحدث بها ولما أخبرني بها قلت له جزاك الله خيراً، فقال: وأنت كذلك، ولكنني ما أخبرتك من أجل أن تثني عليّ أو من أجل المنة عليك، إنما أخبرك من باب إخبارك بما يصدر ممن يكيد لك، ولمكانتك عندي، ونسأل الله أن يكفينا شر كل ذي شر.
(10/7)
هذا الشيخ صاحب الشفاعة هو عبد الله المصلح عميد كلية الشريعة وأصول الدين بأبها بجنوب السعودية، وقد عاشرته ما يقارب (12) سنة وجرى لي معه مواقف كثيرة، ومن جملتها الذي يتعلق بمبحث الشفاعة فقد أُرسِلَ مرة كتاب من بعض الضالين من لهم شأن إلى الجامعة وفيه: أنه يوجد في كلية الجنوب فلان – يقصدني – وهو ضال يضلل الطلاب ويفسد عقائدهم ... إلخ، فأرسل إليه كتاب بهذا الخصوص فلما ذهب الشيخ عبد الله المصلح إلى الرياض أطلعوه على الكتاب نفسه وفيه أن عندكم أستاذاً ضالا ً ووضعه كذا وكذا – فهنا الشفاعة واجبة ومتعينة أم لا؟ وبيان الحق والدفاع متعين أم لا؟
فقال الشيخ عبد الله لمدير الجامعة سبحان الله لا أعلم بم أجيبكم!! إذا كان الشيخ عبد الرحيم ضالاً فوالله إذن ما عندنا في كلية الشريعة وأصول الدين أحد مهتدي، وأولهم أنا عبد الله المصلح، ولذلك أرى أن تلغوا الكلية من أولها لآخرها.
وبدأ يسرد لي بعض ما حصل وقال: لا أريد أن أذكر لك ما حصل، لكن من جملة كلامه أنه قال لهم، والله لا يوجد في هذه الكلية أستاذ إلا ولي عليه ملاحظة إلا فلان فهذا الذي يلاحظ علينا وينصحنا وأحيانا ينبهنا لأمور نحن نقصِّر فيها، وأنا لا أذكر مرة – وهذا كله من كلام الشيخ عبد الله المصلح – أنني نبهته على شيء، فاتقوا الله في أنفسكم، فهل هذا يتهم بمثل هذا الأمر الذي تذكرنه؟!.
(10/8)
ولم يُنهِ الأمر إلى هنا مع أن الأوراق والشكوى قطعت في مكتب مدير الجامعة ورميت في سلة الأوساخ وقيل له: دعك من هذا الأمر، فلم يقبل وواصل متابعة القضية وقال أنا سأتابع الأمر فذهب إلى من زكى كتابه من كتب الشكوى، فقال له: هل تعرف فلاناً – أي الشيخ الطحان؟ فقال: ليس لي اطلاع على حاله على وجه التمام، لكن فلان وفلان الذين جاؤوا إليّ ثقات وقالوا لي إن هذا الشيخ يضلل ويفسد، لذلك يجب التخلص منه والحذر، فقال الشيخ المصلح له: ما رأيك فيّ؟ فقال: أنت يا شيخ عبد الله لا تدور حولك تهمة ولا نعرف عنك سوءاً، فقال له: والله لو طعنتم فيّ لكان هناك مجال للتصديق، وأما أنكم تطعنون في هذا الشيخ المسكين، والله لن يصدقكم أحد في الدنيا ولا في الآخرة فاتقوا الله واستحيوا منه وبعد كلام طويل قال هذا المسئول للشيخ عبد الله المصلح: هات كتاباً أكتب لك بالثناء عليه والتزكية له وأرد على كلامي السابق – وهذا الشيخ المسئول الذي زكى شيخ صالح لكن يُخدع أحياناً من قبل بعض الناس فقال الشيخ المصلح: لا أريد الآن تزكية، وما جئت الآن من أجل التزكية، لأن المسئول عنه في النهاية أنا ولا يمكن أن يُفعل معه شيء إلا بعد أخذ رأيي، فأنا الذي أدير الكلية ولم آت من أجله، لكنني جئت من أجل أن تتقوا الله في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وحتى لا يتكرر هذا منكم، فلا يأتيك شخص صاحب هوىً ويتهم بعض طلبة العلم بنقيصة ليست فيهم ثم تزكيهم وليس لهؤلاء الطلبة مدافع، ثم قال له في النهاية، هَبْ أنكم آذيتموه وفصلتموه من الكلية أتظنون أنكم بذلك قد ضررتموه، لا والله، إن هذا مؤمن وسيتولاه الله أينما كان وسيرفعه من عز إلى عز، ولن يخسر من فصله إلا كليتنا وسنكتسب الوجه الأسود في الدنيا والآخرة.
(10/9)
أي افرضوا لو أن هذا الشيخ فُصِل، فهل إذا فصل يعني فصلت رقبته، وإذا فصلت رقبته هل حرم من الجنة أم ماذا جرى؟! ولو فصل من هذه الجامعة أفلا يوجد في هذه الدنيا مكان آخر فاتقوا الله وقفوا عند حدكم.
فهذه الشفاعة تعينت عليه، فحقيقة لا يعلم بحالي على وجه التمام والكمال إلا هذا العميد ولا يعلم بهذه الشكاية إلا هو، فقلت له جزاك الله خيراً، فقال: والله لو لم أفعل هذا لأكبني الله على وجهي في نار جهنم، ولا تظن أن هذا الذي فعلته من باب المنة عليك إنما هذا تعين عليّ.
وجاءت بعد ذلك تهمة وتطورت إلى بعض الجهات المسؤولة فقال لي من ضمن كلامه يا شيخ عبد الرحيم أنت نائم مع أهلك ولا تدري ما الذي يفعله لك وما الذي يحصل والله في وسط الليل أزج بنفسي من بيت إلى بيت ومن جهة إلى جهة، ويقول عندما يتصل ببعضهم: يا عباد الله اتقوا الله واستحيوا منه، والله أخشى أن يخسف الله بكم الأرض، إلى هذا الحد وصل بكم العنف والغلظة، فيقولون له: إنه يفعل كذا وكذا، فيقول لهم: استحيوا من الله يا جماعة فإن بعض ذلك مزوّر عليه ومفترىً وبعض ذلك لا حرج في فعله، وبعض ذلك حق وأنتم مخطئون.
وبالنسبة لقضاء الحوائج واصطناع المعروف والشفاعات ألّف أئمتنا كتباً مستقلة في هذه المواضيع، من هذا ما وجد ضمن كتاب (أربعون حديثاً في اصطناع المعروف) للإمام المنذري صاحب الترغيب والترهيب وقد تكلم فيه عن الشفاعات وقضاء الحوائج، وإذا لم يوجد عندكم فانظروا في مجمع الزوائد (8/190 - 195) لزاماً عند كتاب البر والصلة باب في قضاء الحوائج ويدخل في قضاء الحوائج الشفاعات لاسيما إذا كانت واجبة.
(10/10)
من جملة ما ورد فيه – المجمع – من أحاديث: ما رواه الطبراني في الأوسط والصغير – وإسناده لا بأس به – عن أمنا عائشة رضي الله عنها، قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من كان وصلة – واسطة – لأخيه المسلم إلى ذي سلطان في مبلغ (بلوغ) بر ٍ أو تيسير عسير أعانه الله على إجازة الصراط عند حفي الأقدام] .
ولذلك أثر عن الإمام الشافعي عليه رحمة الله أنه قال: "لكل شيء زكاة وزكاة المروءات الشفاعات" أي إذا كنت صاحب مروءة وجاه فزكاة هذا أن تشفع.
ومنه ما رواه الطبراني في الأوسط بسند جيد عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [من مشى في حاجة أخيه كان خيراً له من اعتكافه عشر سنين، ومن اعتكف يوماً ابتغاء وجه الله جعل الله بينه وبين النار ثلاث خنادق كل خندق أبعد مما بين الخافقين] و (الخافقان) أي بين الأرض والسماء وبين المشرق والمغرب.
وذكر الإمام ابن رجب الحنبلي في كتابه (جامع العلوم والحكم) عند شرحه لحديث النبي صلى الله عليه وسلم الثابت في صحيح مسلم [ ... والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه ... ] ذكر قصة في هذا الموضوع فقال: "وبعث الحسن البصري قوماً من أصحابه في قضاء حاجة لرجل وقال لهم: مروا بثابت البناني - وكان من العباد – فخذوه معكم، فأتوا ثابتاً، فقال: أنا معتكف، فرجعوا إلى الحسن فأخبروه، فقال قولوا له: يا أعمش، أما تعلم أن مشيك في حاجة أخيك المسلم خير لك من حجة بعد حجة فرجعوا إلى ثابت، فترك اعتكافه وذهب معهم" وقول الحسن هذا ورد في أحاديث لكن ضعيفة.
المحاضرة الحادية والعشرون
3- شفاعة محرمة مذمومة وتكون في
أ) المكروهات.
ب) المحرمات.
(يصلح مثالاً لها قصة الشفاعة في المخزومية التي سرقت) .
كشفاعة أم البنين أخت عمر بن عبد العزيز، ثم تابت من شفاعتها، حيث قالت لعزة يقول كثيّر (الذي كان مغرماً بعزة) :
قضى كل ذي دينٍ علمتُ غريمَه ... وعزةُ ممطول معنّى غريمها
(10/11)
أي كل من عليه دين قضى صاحب الدين حقه إلا عزة فلم تقضي ديني، فقالت لها: ما هذا الدين الذي يقوله كثيّر وماذا له عليك من حق؟ فقالت عزة: كنت وعدته قبلة (عن طريق الحرام) فما طلته وما أعطيته ذلك، فقالت لها أم البنين: سبحان الله، أعطيه ذلك وما كان من إثم فعليّ. ثم ندمت بعد ذلك وتابت رحمها الله وعفا عنها، وأعتقت أربعين رقبة، وقالت ليتني خرست وما تكلمت بهذه الكلمة حيث شفَعتْ في أمر محرم. وانظروا القصة في صفة الصفوة (4/299) .
فالشفاعة في المحرم والمكروه حرام.
فهذا هو ضابط الشفاعة: الحسنة المستحبة، والحسنة الواجبة، والمذمومة المحرمة، والتمثيل لا يخفي عليكم بعد ذلك.
والشفاعة الحسنة مطلوبة، والشفاعة السيئة مذمومة، وأكثر شفاعة الناس في هذه الأيام من الشفاعات المذمومة الملعونة ولا تجد من يشفع شفاعة حسنة إلا ما قلَّ وندر، وإذا طلبت منه شفاعة حسنة في تخليصك من ظلم أو بلاء يتعلل، وعندما يجب عليك حق شرعي أو تنتهك محرماً وستنزل بك عقوبة فما أكثر الشفعاء حينئذ وهذا هو الضلال عندما تضاد الشفاعة شرعية ذي العزة والجلال.
فلنشفع في أمور لخير الدنيا، ونسأل الله أن يشفعنا في بعضنا في الآخرة إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
وسنأتي الآن إلى مباحث الشفاعة.
المبحث الأول:
شرط حصول الشفاعة عند الله جل وعلا:
(10/12)
تقدم معنا أن الشفاعة طلب الخير للغير من الغير، وقلنا إن الشفاعة فيها ضم الشفيع صوته إلى المشفوع إليه كما في ضم صوته إلى المشفوع له، والله جل وعلا فرد أحد ليس له شفيع سبحانه وتعالى، فكيف ستحصل الشفاعة عنده؟ هل يعطي أحد رأيه لله كما هو الحال في ملوك الدنيا فهؤلاء تعطيهم رأيك وتضم رأيك إلى رأيهم؟ لا، الشفاعة عند الله تختلف عن سائر المعلوم من أنواع الشفاعات عند المخلوقين قاطبة، فهي شفاعة من نوع خاص لها شروط تميزها عن غيرها، فهذه الشفاعة لا تضم رأيك إلى رأي المشفوع عنده انتبه!! إنما أنت تشفع بعد أن يأذن لك سبحانه وتعالى، وهل هذا هو حال ملوك الدنيا؟ فقد تشفع بما لا يريد وترغمه فينفذ شفاعتك لأنه وإن كان عنده رغبة ورهبة فهو أيضاً يرغب ويرهب ويقول أخشى أن يدبر هذا لي مكيدة أو أن يغتالني إن أنا رددت شفاعته.
فهذه الشروط – التي سنذكرها – لننفي بها ضم الشافع صوته إلى المشفوع عنده وأنه لا أحدٌ يشفع الله فهو وتر سبحانه وتعالى وهو أحدٌ ليس معه نظير ولا أحد يضم قوله إلى قوله.
ولذلك اتفق أهل السنة الكرام على أن الشفاعة لا تحصل عند ذي الجلال والإكرام إلا بشرطين:
الشرط الأول: إذن الله للشافع بحصول الشفاعة منه.
دل على هذا آيات القرآن الكثيرة منها:
? قوله تعالى في آية الكرسي سورة البقرة 255 (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) .
? وقوله تعالى في سورة سبأ آية 23 (ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له) .
? وقوله تعالى في سورة يونس آية 3 (ما من شفيع إلا من بعد إذنه) .
الشرط الثاني: رضا الله عن المشفوع له بحصول الشفاعة له من الشافع فإذن أذن للشافع بأن يشفع، وليس هذا إذن مطلقاً، بل يُحِدّ له حداً أو يسمي له جماعة أو فرداً، فيقول اشفع لهذا بدخول الجنة، إذن هذا بتخصيص الله ومشيئته وإرادته.
س: لم أشفع، وقد حَدَّه لي وليس على اختياري مطلقا؟
(10/13)
جـ: لينيلني الأجر عندما أشفع (من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها) ، وليحصل مزيد حب وود بيني وبين المشفوع له، وبالتالي يحصل مزيد ربط بين قلوب المؤمنين وقد كان نبينا عليه الصلاة والسلام يفعل هذا في الدنيا فكانت إذا عرضت عليه حاجة يؤخر قضاءها ليشفع الصحابة ثم يقول لهم – ما قلت لكم – [اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء] ، فالرسول صلى الله عليه وسلم سيقضي الحاجة لكن إن قُضيت بعد شفاعة فالمستفيد هو أنتم حيث سيحصل الربط فيما بينكم وتقضى الحاجة مع ذلك، فقضاء حاجة بلا شفاعة أنزل من قضائها بعد شفاعة، فهناك تكثير الخيرات من عدة جهات وهذا ما يحرض عليه النبي عليه الصلاة والسلام.
لذلك قلت لكم ندبنا إلى شفاعة في الدنيا والله يشفعنا في بعضنا في الآخرة، إذن يحدد الله المشفوع له، ويأذن للشافع بحصول الشفاعة منه لهذا المشفوع له. دل على هذا قول الله جل وعلا في سورة الأنبياء في الآية (28) : (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) .
وقد جمع الله الشرطين في آيات كثيرة من كتابه:
1) منها سورة النجم آية (26) : (وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يساء ويرضى) .
2) وهكذا في سورة النبأ آية (38) يقول الله تعالى: (يوم يقوم الروح والملائكة صفاً لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن) . فهذا هو الشرط الأول (وقال صواباً) أي أذن له ولم يتكلم بعد ذلك على حسن رأيه ويشفع لمن يريد دون إذن ربه بحصول الشفاعة له فلا يتكلم إلا على حسب ما يحدد له، والصواب هو رضا الله عن المشفوع له بحصول الشفاعة وهذا هو الشرط الثاني.
3) وقال ربنا جل وعلا في سورة طه آية (109) : (يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضى له قولاً) وهذا كقوله تعالى (أذن له الرحمن وقال صواباً) .
(10/14)
إذن لا بد من هذين الشرطين إُذنُ الله للشافع ورضاه عن المشفوع له لحصول الشفاعة له، وعليه فمرد الأمر لله جل وعلا فهو خالق الشفاعة وموجدها وهو الآذن لبعض الناس بالشفاعة لمن يشاء ويريد ويرضى سبحانه وتعالى، ولذلك لا تطلب إلا منه سبحانه وتعالى أن يشفع فينا الصالحين من عباده فهو على كل شيء قدير.
يقول الله تعالى مقرراً هذا في سورة الزمر آية 43 و 44: (أم اتخذوا من دون الله شفعاء، قل: أولو كانوا لا يملكون شيئاً ولا يعقلون، قل لله الشفاعة جميعاً له ملك السموات والأرض ثم إليه ترجعون) ، فلله الشفاعة جميعاً من بدايتها إلى نهايتها فهو الذي يأذن للشافع وهو الذي رضي عن المشفوع له بحصول الشفاعة له، إذن مردها إلى الله جل وعلا، نسأل الله أن يرحمنا وأن يشفع فينا نبينا عليه الصلاة والسلام والصالحين من عباده إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
إشكال وجوابه:
إن قيل: وردت آيات في القرآن الكريم ظاهرها يشعر بنفي حصول الشفاعة يوم الدين، فكيف سنوفق بينها وبين الآيات التي أثبتت الشفاعة في ذلك؟ ومن هذه الآيات:
? قول الله جل وعلا في سورة البقرة - وسأقتصر على هذه السورة فقط - آية 48 (واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم يُنصرون) .
? وقوله تعالى في آية 123 من السورة نفسها: (واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون) .
? وقوله تعالى في الآية 254 (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أي يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون) .
إذن هذا اليوم ليس فيه شفاعة، وقد مرت معنا الآيات بثبوت الشفاعة وحصولها، فما التوفيق بين الأمرين؟
(10/15)
الجواب: أن الشفاعة المنفية هي الشفاعة الشركية التي يدعيها المشركون لآلهتهم وطواغيتهم من البشر أو الحجر أو البقر أو الشمس أو القمر وغيرها حيث كانوا يزعمون بأنها ستشفع لهم يوم القيامة، فإن هؤلاء لا تحصل لهم الشفاعة والشفاعة منتفية عنهم، وقد وضح هذا آيات القرآن (1) يقول الله تعالى في سورة المدثر – وانتبه لسياق الآيات – (كل نفس بما كسبت رهينة، إلا أصحاب اليمين في جنات يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر قالوا لم نَكُ من المصلين ولم نَكُ نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين) فما هي النتيجة؟ (فما تنفعهم شفاعة الشافعين) التي كانوا يدعونها لآلهتهم، ويفترون ويزعمون أن آلهتهم ستشفع لهم، فهذه الشفاعة الشركية لا تنفعهم وهم مشركون لا تنفعهم شفاعة.
إذن (كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين) ، وما المراد بأصحاب اليمين؟
قيل: هم من يأخذ كتابه بيمينه.
وقيل: هم الملائكة المقربون.
لكن التفسير الدقيق الوارد في هذا عن صحابيين – ولذلك حكم الرفع – عن علي وعن ابن عمر رضي الله عنهم أجمعين، عن علي في المستدرك بسند صحيح، وعن ابن عمر في تفسير ابن المنذر بسند صحيح: [ (إلا أصحاب اليمين) إلا أولاد المسلمين الذين ماتوا قبل أن يبلغوا] قبل أن يجري عليهم القلم.
وهذه إحدى آيتين في القرآن تدل على أن أولاد المسلمين في الجنة إذا ماتوا قبل التكليف والآية الثانية في سورة الطور آية رقم (21) وستأتي ص (256) وهذا هو المقرر عند أهل السنة والجماعة، فإذا مات ولد من أبوين مسلمين أو من أحد أبوين مسلمين قبل أن يبلغ فهو في الجنة.
وفي هذه الآية قرينتان على أن هذا التفسير هو المعتمد – وإن كان التفسيران الآخران يمكن أن يدخلا في الآية – ولكن هذا هو المعتمد وأقوى من غيره لقرينتين هما:
القرينة الأولى:
(10/16)
قوله (رهينة) فإن معناها: مرتهنة ومحبوسة لتحاسب على عملها، فإن كان خيراً أثيبت وإن كان شراً عوقبت، لكن عندنا صنف ليس عنده ما يرهن عليه ويحبس من أجله فلم يعمل خيراً أو شراً ولم يجر القلم عليه، إذن فكل نفس مرتهنة بعملها إلا هؤلاء فليس عندهم عمل، ولذلك أولاد المسلمين في الجنة بمجرد موتهم [وصغارهم دعاميص الجنة] كما ثبت في مسلم عن نبينا عليه الصلاة والسلام والدعاميص جمع دعموص وهي دودة لا تفارق الماء والولد الصغير بمجرد أن يموت لا يفارق الجنة، والدعموص أيضاً هو الذي يُكثر زيارة الملوك والأمراء فلكثرة زيارتهم ومخالطتهم لهم يدخل عليهم بغير استئذان، وهؤلاء دعاميص يدخلون ويسرحون حيث يشاءون ولا يمنعهم منها مانع وفلا يقيدون ويحاسبون.
القرينة الثانية:
قوله (يتساءلون) لأن سؤالهم هذا سؤال غرٍ جاهل سؤال من لا يدري الحقائق ولا ما جرى في عرصات الموقف، فهؤلاء – أي أصحاب اليمين الذين يتساءلون – لو شهدوا الحساب في عرصات الموقف وحضروا الميزان وأن هؤلاء ثقلت موازينهم فهم في عيشة رضية وهؤلاء خفت موازينهم فأمهم هاوية لو حضروا هذا لما سألوا هذا السؤال، فهو معلوم لديهم لأنهم حضروه، لكنهم لم يحضروا ولم يُحبسوا إنما دخلوا الجنة دون محاسبة ودون تقييد ورَهْن.
الشاهد هنا أنه (فما تنفعهم شفاعة الشافعين) الشفاعة الشركية هي المنفية.
(10/17)
3) وهكذا يقول الله في سورة الشعراء آية (100) : ( ... فمالنا من شافعين ولا صديق حميم) فالشفاعة المنفية هي حصول الشفاعة للآلهة وقد ذكروا قبل هذه الآية بثماني آيات وأيضاً قال في آية (96) من هذه السورة (قالوا وهم فيها يختصمون، تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين، وما أضلنا إلا المجرمون، فمالنا من شافعين ... ) إذن يسوون آلهتهم برب العالمين ويجعلونهم أنداداً له، وعدلاً ومثلاً له، يعبدونهم كما يعبدون الله، فهؤلاء لا تحصل لهم الشفاعة والله جل وعلا يقول: (أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت وجعلوا لله شركاء قل سموهم) أي جعلتموهم نظراء وعدلاً له، فسموهم وانعتوهم فماذا فيهم من صفات يستحقون أن يكونوا بها آلهة، هل خَلقوا أم خُلقوا؟ هل يملكون لغيرهم ضراً أو نفعاً أو يملكون هذا لأنفسهم؟!!
كل من عدا الله مخلوق مقهور مربوب مسير في الحياة والموت والرزق رغم أنفه مخير في ما عداها جاء إلى الدنيا على غير اختياره وسيخرج منها على غير اختياره، في الصورة التي على غير اختياره، إذن فكيف يستحقون أن يكونوا آلهة مع الله أو من دون الله؟!!.
4) وهكذا يقول الله سبحانه وتعالى في سورة غافر آية (18) (ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع) .
5) وقال جل وعلا في سورة الأنعام آية (94) : ( ... وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء....) .
6) وقال جل وعلا في سورة يونس آية (18) : (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله، قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض، سبحانه وتعالى عما يشركون) .
فالشفاعة المنفية هي الشفاعة الشركية التي تقع بغير إذن الله وبغير رضاه عن المشفوع له، وهذه كان الضالون يدعونها لمعبوداتهم وما أكثر من يدعيها من المسلمين لطواعيتهم الذين يعكفون حولهم.
(10/18)
وهناك قصة لبعض الضالين في بلاد الشام من الصوفية المخرفين الذين يتبعون شيخاً ضالاً يقول لهم: أولادي لا تخافوا، فإذا صار يوم القيامة أضعكم في رقبتي كما تضع المرأة القلادة في عنقها، ثم أمر من فوق جهنم فأطير إلى الجنة، وتلامذته ينقلون هذه القصة عنه ويبتهجون ويفرحون ويقول: نحن سيشفع لنا هذا الشيخ العظيم، فقلت لواحد منهم عندما كلمني: وإذا سقط شيخك في جهنم، فكيف سيكون حالكم؟ ووالله إذا لم يرجع عن اعتقاده هذا سيسقط رغم أنفه ما دام يدعي هذا الأمر الذي يحاد ويضاد به الله:
ألم يسمع قول النبي صلى الله عليه وسلم:
[يا فاطمة لا أغني عنك من الله شيئاً، اعملي] .
[يا عباس يا عم النبي، لا أغني عنك من الله شيئاً، اعمل] .
[يا صفية سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئاً] .
هذا يقوله النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه سيد الشافعين المشفعين والشفاعة له ثابتة بإجماع أهل السنة ودلت عليها النصوص الصحيحة الثابتة، ومع ذلك يقول كَوني سأشفع لهذا أو لهذا هذا مرده إلى الله جل وعلا!!.
ولذلك في صحيح مسلم [لما جاء ربيعة بن كعب الأسلمي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان دائماً يحضر للنبي صلى الله عليه وسلم وضوءه ليتوضأ منه، فقال له ذات يوم لما أحضر له وضوءه: سلني فقال ربيعة: أسألك مرافقتك في الجنة، فقال أَوَغير ذلك؟ فقال: هو ذاك يا رسول الله فأطرق النبي عليه الصلاة والسلام يقول ربيعة – وظننت أنه يوحى إليه – ثم رفع فقال إني فاعل، فأعني على نفسك بكثرة السجود] ، نعم ما سأل ربيعة وهذه هي همم النفوس العالية.
(10/19)
فهنا النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل له من أول الأمر شيئاً لا أملك ولا لا أملك بل سكت فهولا يستطيع أن يتكلم من عنده، فهذا ليس في وسعه، فقال له، ألا تريد شيئاً آخر أستطيع قضاءه لك بنفسي؟، فقال: هو ذاك ولا أريد غيره، إذن فتحتاج المسألة إلى استئذان الله سبحانه وتعالى وانتظار الجواب منه، فأطرق الرسول صلى الله عليه وسلم رأسه ونزل عليه الوحي، فلما رفع رأسه قال لربيعة: إني فاعل فأعني على نفسك بكثرة السجود فهذا شرط لا تفرط فيه حتى تكون في درجتي إن شاء الله في جنات النعيم.
المبحث الثاني:
أنواع الشفاعات يوم القيامة:
مجموع الشفاعات ثمانية أربعة منها خاصة بنبينا عليه الصلاة والسلام والأربعة الأخرى مشتركة بينه وبين غيره من أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه عليهم ومن الملائكة والصالحين من عباده.
أما الشفاعات الخاصة بنبينا عليه الصلاة والسلام:
1- الشفاعة العظمى:
ويقصد بها: الشفاعة لأهل الموقف قاطبة من إنس وجن وحيوانات، ليحاسبهم رب الأرض والسموات، فحتى الحيوانات ستنالها هذه الشفاعة (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) وتكون نتيجة حسابها أن تكون تراباً لكنها مجموعة ليقضي الله للجماء من القرناء، وليظهر العدل الإلهي على أتم وجه، فيجتمعون في ذلك الموقف العصيب الرهيب، ولا يقضي بين هذه المخلوقات إلا بشفاعة خير البريات عليه صلوات الله وسلامه.
وقد تواترت الأحاديث بذلك، وفيها:
(10/20)
(أن الله يجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد وتدنو الشمس من منهم ويتصبب منهم العرق ويطول هذا الجمع ويبلغ الغم والكرب بالناس ما لا يطيقون ولا يحتملون فيقول الناس: ألا ترون ما قد بلغكم؟ ألا تظنون من يشفع لكم عند ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض: عليكم بآدم فيذهبون إليه ويقولون: [يا آدم اشفع لنا عند ربك، فيقول لست لها] أي لا أبلغ هذا المقام وهذه الرتبة ليست لي، ثم يقول [إن ربي قد نهاني عن الشجرة فعصيته اذهبوا إلى نوح فإنه أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض] وكان بين نوح وبين آدم عشرة قرون كلهم على التوحيد، كما ثبت هذا في المستدرك بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما، وله حكم الرفع إلى نبينا عليه الصلاة والسلام.
والمراد من القرن: قيل مائة سنة، وعليه تكون المدة بينهما ألف سنة. وقيل المراد بالقرن مدة فناء جيل من الأجيال، وكان كل جيل يعيش ألف سنة فأكثر، فالألف تضرب في عشرة يصبح المجموع عشرة آلاف سنة بين نوح وآدم والله أعلم أيهما المراد.
(10/21)
[فيذهبون إلى نوح ويقولون اشفع لنا إلى ربك فأنت أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض فيقول: لست لها، ويذكر سؤاله لربه ما ليس له به علم] وهذا وراد في قوله تعالى (رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين، قال: يا نوح إنه ليس من أهلك) أي ليس من أهل ملتك وليس على دينك، وليس المراد أنه ليس من أولادك فهو ابن حرام كما توهم هذا بعض سفهاء الأنام حيث يقولون هذا ليس من أهلك أي ليس بولدك وإنما ولد على فراشك فامرأتك خانتك فيه، هذا كلام باطل وما بغت امرأة نبي قط، وزنا الزوجة منقصة في حق الزوج، فإن قيل قد تكون الزوجة كافرة، نقول: لا حرج لأن الكفر ليس بتعيير عند أهل الأرض وليس بمنقصة في حق الزوج بخلاف العهر، فهو – أي العهر – منقصة عند الكفار وعند المؤمنين بل عند الناس كلهم هو مذموم ولذلك القوانين الوضعية الوضيعة في هذا الوقت أباحت الزنا إلا زنا الزوجة، وعند النصارى لا يوجد طلاق إلا إذا ثبت أن الزوجة زنت فعند ذلك للزوج أن يطلقها.
الشاهد أنَّ زنا المرأة طعن في زوجها ومعنى ليس من أهلك أي ليس من أهل ملتك وليس على دينك.
(10/22)
[فيقول نوح: اذهبوا إلى إبراهيم خليل الرحمن، فيقول لست لها، وإني كنت كذبت ثلاث كذبات] وهي قوله (إني سقيم) مع أنه يجاهد ويجادل بها عن دين رب العالمين، وقوله (بل فعله كبيرهم هذا) وقال عن سارة (إنها أختي) وهو صادق في كل ما قاله فهي أخته في دين الله بما أن هذا الكلام يوهم خلاف الظاهر فاستحى واعتذر فقال لست هنالك، ثم يقول إبراهيم [اذهبوا إلى موسى عليه السلام فإن الله قد كلمه فيذهبون إليه فيقول: لست هنالك، ويذكر ذنبه ويستحي وأنه قتل نفساً..] مع أن النفس تستحق القتل لكن كأنه يرى أنه تعجل ولعله كان بالإمكان أن يصلح أمره، ثم يقول: [اذهبوا إلى عيسى فإنه عبد الله ورسوله وكلمته وروحه، فيذهبون إليه فيقول: لست هنالك ولا يذكر ذنباً] أي أنا لست في هذا المقام ولا أتأهل له سواء كان عليّ ذنب أستحي به من الله أم لا، ثم يقول [اذهبوا إلى محمد عليه الصلاة والسلام فإنه عبد صالح قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فيذهبون إليه ويقولون اشفع لنا إلى ربك، فيقول صلى الله عليه وسلم أنا لها وأنا صاحبها، فآتي تحت العرش فأسجد فيدعني الله ما شاء أن يدعني ويلهمني محامد أحمده بها لا أستحضرها الآن، ثم يقول لي: يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك واشفع تشفّع، فأقول: اللهم أمتي اللهم أمتي اللهم أمتي] فتنصب الموازين وتنشأ الدواوين.
يقول العبد الفقير وهذا الحديث ورد عن طرق متعددة وبروايات كثيرة من ذلك أن كل نبي لما تطلب منه الشفاعة يقول: [إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله ثم يذكر ذنبه ويقول: نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى غيري....] .
وكذلك لما يذهب الناس إلى كل نبي يثنون عليه بما هو فيه فمثلاً يقولون لآدم: [أنت أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأمر الملائكة فسجدوا لك اشفع لنا إلى ربك ... ] .
(10/23)
وفي بعض الروايات يعتذر نوح عليه السلام عن الشفاعة فيهم بقوله: [وإنه قد كان لي دعوة دعوتها على قومي ... ] ولا يذكر أنه بسبب سؤاله ما ليس له به علم.
ومن ذلك أيضاً أنه لما يطلب من أي نبي الشفاعة يعتذر فيقول: [لست هنالكم] ، وفي روايات [ليس ذاكم عندي] وفي روايات [لست هناك ولست بذاك فأين الفعلة؟] أي الخطيئة أو الفعل الذي ارتكبه واستحى به من الله، وفي روايات [لست هناك] فقط. وهناك ألفاظ وروايات أخرى يطول ذكرها.
(10/24)
وعلى كل حال الحديث الطويل الذي ذكرناه هو ما قد أفادته عدة روايات، وإلا فرواية الصحيحين – وهي الرواية المشتهرة – ليس فيها التصريح بهذه الشفاعة العظمى للقضاء بين الخليقة بل اقتصر رواتها على ذكر شفاعة واحدة أخرى، ولكن يستفاد من نص الحديث في الصحيحين أن شفاعته ستكون للقضاء بين الخليقة بما ذكر في أول الحديث من اغتمام الناس وتضايقهم وكربهم وفزعهم من طول الاجتماع في هذا الصعيد الواحد، ثم إن ابن خزيمة بعد إيراده للحديث في كتابه (كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل) – أي الحديث الذي في الصحيحين – أراد أن يدلل على أن الشفاعة المذكورة فيه إنما هي الشفاعة التي يشفع بها النبي صلى الله عليه وسلم ليقضى بين الخلق حيث بوّب باباً بعد إيراده لرواية الصحيحين فقال: (باب ذكر الدليل على أن هذه الشفاعة التي وصفنا أنها أو الشفاعات هي التي يشفع بها النبي صلى الله عليه وسلم ليقضي الله بين الخلق فعندها يأمره الله عز وجل أن يدخل من لا حساب عليه من أمته الجنة من الباب الأيمن فهو أول الناس دخولاً الجنة من المؤمنين) ثم أورد حديثين يقرران ذلك: الأول: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم، وقال إن الشمس تدنو حتى يبلغ العرق نصف الأذن وبينما هم كذلك استغاثوا بآدم عليه السلام فيقول: لست بصاحب ذلك، ثم بموسى فيقول: كذلك ثم بمحمد صلى الله عليه وسلم فيشفع ليقضى بين الخلق فيمشي حتى يأخذ بحلقة الجنة فيومئذ يبعثه الله مقاماً محموداً يحمده أهل الجمع كلهم.
(10/25)
الثاني: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [للأنبياء منابر من ذهب يجلسون عليها – قال – ويبقى منبري لا أجلس عليه ولا أقعد عليه قائماً بين يدي ربي مخافة أن يبعث بي إلى الجنة وتبقى أمتي بعدي فأقول يا رب أمتي أمتي، فيقول الله عز وجل: يا محمد، ما تريد أن تصنع بأمتك؟ فيقول: يا رب عجل حسابهم فيدعى بهم فيحاسبون فمنهم من يدخل الجنة برحمة الله ومنهم من يدخل الجنة بشفاعتي – فما أزال حتى أعطى صكاً برجال قد بعث بهم إلى النار، وحتى إن مالكاً – خازن النار – يقول: يا محمد، ما تركت النار لغضب ربك في أمتك من نقمة] وقد اشترط ابن خزيمة في كتابه هذا ألا يورد إلا حديثاً يرويه عدل عن عدل وبعد صفحات ذكر باباً آخر فقال: (باب ذكر بيان أن للنبي صلى الله عليه وسلم شفاعات يوم القيامة في مقام واحد، واحدة بعد أخرى) ثم قال: "أولها ما ذكر في خبر أبي هريرة رضي الله عنه – ويقصد الحديث الطويل الذي رواه الشيخان أيضاً – وخبر عمر، وابن عباس – وقد تقدم قبل قليل ذكرها – وهي شفاعته لأمته ليخلصوا من ذلك الموقف وليعجل الله حسابهم ويقضي بينهم فرقة بعد أخرى - " ثم ذكر أن الصحابة رضوان الله عليهم ربما اختصروا أخبار النبي صلى الله عليه وسلم إذا حدثوا بها وربما اقتصروا الحديث بتمامه وربما كان اختصاراً بعد الإخبار أو أن بعض السامعين يحفظ بعض الخبر ولا يحفظ جميع الخبر وربما نسي بعد الحفظ بعض المتن فإذا جمعت الأخبار كلها علم حينئذ جميع المتن والسند ودل بعض المتن على بعض، انظر: كتاب التوحيد لابن خزيمة (ص 242-247) . (وهذا الكلام الذي كتبه هو من كلامي أنا وليس للشيخ الطحان أي مسؤولية عنه فما كان فيه من صواب فمن الله وما كان فيه من خطأ فمني ومن الشيطان والله الموفق) .
وقد أشار الله إلى هذه الشفاعة في كتابه فقال: (ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً) .
(10/26)
وقد فسر (المقام المحمود) بأربعة معان ٍ:
أولها: أنه هو الشفاعة العظمى. قد حكى الواحدي إجماع المفسرين على القول بهذا، وقد روى ابن أبي عاصم في (السنّة) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم [في قوله تعالى: (عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً) قال: الشفاعة] وإسناده ضعيف لكن الحديث صحيح لشواهده وقد حسنه الترمذي.
وروي أيضاً عن كعب بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم: [إذا كان يوم القيامة كنت أنا وأمتي على تل، فيكسوني حلة خضراء، ثم يأذن لي تبارك وتعالى أن أقول ما شاء الله أن أقول وذلك المقام المحمود] وإسناده جيد (وهذان الحديثان ذكرتهما أنا ولم يذكرهما الشيخ الطحان) .
ثانيها: أنه لواء الحمد:
ولا تعارض بينهما فهو يحمل لواء الحمد عندما يشفع وتحت لوائه آدم فمن دونه، فإذن لواء الحمد والشفاعة في وقت واحد.
ثالثها: أن المقام المحمود
هو كل خصلة حميدة يحمده عليها الأولون والآخرون في الدنيا والآخرة.
رابعها: أن يجلس معه على العرش
وهذا روي في تفسير الطبري وغيره [أن الله يُجْلِسُ نبيه على عرشه معه وهذا هو المقام المحمود] .
والأقوال الثلاثة الأولي كلها مقبولة، والأخير الرابع جرى حوله كلام حتى أن بعض الأئمة استنكروه.
المحاضرة الثانية والعشرون
والأثر الذي رواه الطبري هو عن مجاهد فهو إذن ليس بمتصل إلى نبينا صلى الله عليه وسلم ولم يثبت عندنا عن طريق موصول صحيح.
(10/27)
والمعتمد عند أهل السنة الكرام أن هذا ونظائره إذا ثبت نؤمن به دون البحث في كيفيته، إقرار وإمرار، لكنه كما قلنا لم يثبت مرفوعاً فلذلك نتوقف فيه لا نرده ولا نثبته ونقول بموجبه وأكثر ما يمكن قوله أنه مرسل له حكم الرفع، والمرسل ضعيف لا يحتج به في الأحكام العملية فكيف في أمور الاعتقاد؟ لذلك لا نعتقد بموجبه لأن هذا يحتاج إلى نص ثابت لأنه كما لا يجوز أن تنفي أمراً ثابتاً في العقيدة لا يجوز أن تعتقد ما لم يثبت، فنتوقف فيه ونبين أنه روي أي من جملة الأقوال المروية.
عدد من الأئمة ومن جملتهم الواحدي والرازي وأبو حيان وعدد من المفسرين قالوا، لو ثبت لكان مشكلاً فينبغي أن نطرحه – وأكثر من تبني رد هذا الإمام الواحدي قال: هذا التفسير باطل لا يصح، فالله يقول (عسى أن يبعثك) وهذا يفسر البعث بالقعود والجلوس، والبعث ضد الجلوس فكيف يفسر الشيء بضده؟! هذا الأمر الأول، أما الأمر الثاني: قوله (مقاماً محموداً) وهنا يقول مجلساً، والمقام ما يحصل فيه القيام.
وأنا أقول هذا الأثر لو ثبت عن نبينا عليه الصلاة والسلام فيمكن الخروج من هذه الاعتراضات فنقول: (يبعثك) أي يظهرك في مقام محمود وليس المراد منه البعث الذي هو ضد الجلوس والقعود.
والمقام هنا ليس المراد منه أنه ضد الجلوس، بل المراد من المقام المنزلة والرتبة والشرف والفضيلة والفخر، وعلى هذا المعنى يحصل المقام للإنسان إذا جلس أو إذا قعد ولا فرق فليس المراد خصوص قيام أو خصوص قعود وجلوس، وهذا على تقدير ثبوته.
وكان أئمتنا يقولون: لمجاهد قولان غريبان، وأنا أقول ثلاثة أقوال، وهي:
1) هذا الذي ذكرناه: تفسيره للمقام المحمود.
2) قال في قوله تعالى (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة) قال: تنتظر الثواب من ربها ولا يراه شيء من خلقه.
(10/28)
وهذا الأمر ثابت بإسناد صحيح إلى مجاهد وهي زلة من زلاته وهفوة من هفواته فلترد ولتطرح، ولو نقلت عن صحابي – وحاشاهم رضوان الله عليهم – لطرحت لأجل الحديث المتواتر بأن المؤمنين يرون ربهم في جنات النعيم، يقول ابن كثير بعد نقله لأثر مجاهد هذا: هذا باطل، يقول ابن كثير في تفسيره: (ومن تأول ذلك بأن المراد بإلى مفرد آلاء وهي النعم..... فقد أبعد هذا الناظر النُّجْعَة وأبطل فيما ذهب إليه ... ) .
3) القول الثالث: ولم يذكره العلماء وأضيفه أنا وهو مردود على مجاهد، قال تعالى (فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين) قال مجاهد هذا مثلٌ ضربه الله لهم ولم تمسخ أبدانهم، أي أن المسخ حصل لقلوبهم فصاروا بمنزلة القردة وخستها لا أن أبدانهم مُسِخت حقيقة وهذا باطل قطعاً وجزماً.
ثلاثة أقوال: القول الأول نتوقف فيه، والقولان الآخران – الثاني والثالث – نردهما بلا بلا توقف وكل إنسان يؤخذ من قوله ويترك إلا المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومن أخذ بشواذ العلماء ضلّ، ومن تتبع رخص العلماء اجتمع فيه الشر كله، ولذلك مفتي عمان أخذ هذا الأثر عن مجاهد وجعله مثل قميص عثمان، يلوح به في رسالته يقول قال مجاهد: "تنتظر الثواب من ربها ولا يراه شيء من خلقه" نقول له: مجاهد على العين والرأس ونبينا عليه الصلاة والسلام فوق العين والرأس وعندما يتعارض كلام مجاهد مع كلام النبي صلى الله عليه وسلم فبكلام من نأخذ؟!
طبعاً بكلام من لا ينطق عن الهوى، فنقول مجاهد أخطأ فكان ماذا؟ أما نبينا عليه الصلاة والسلام فهل يمكننا أن نقول إنه أخطأ؟!! فأنت يا مفتي بين أمرين إما أن تخطئ النبي صلى الله عليه وسلم وإما أن تخطئ مجاهد!!.
(10/29)
فكيف رضيت أن تخطئ النبي صلى الله عليه وسلم واستصعب عليك أن تخطئ مجاهد، وإني لأعجب أعظم العجب لهذا المفتي جاء لأثر مجاهد وجعله هو العمدة في مسألة الرؤية، وأما الأحاديث المتواترة في الموضوع فأَعْرَضَ عنها صفحاً ولم يأخذ بها.
إخوتي الكرام ... للإمام الذهبي رحمه الله - وهو تلميذ ابن تيمية – كتاب اسمه (العلو للعلي الغفار) احرصوا على شرائه ففيه خير كثير والكتاب كله في مسألة واحدة وهي إثبات العلو لربنا العلي.
وقد تعرض فيه لأثر مجاهد في أربعة أماكن في (صـ 94) ، (صـ 99) ، (صـ 124) ، (صـ171) وسأقرأ لكم مكانين فقط من هذه الأمكنة وارجعوا إلى البقية:
أولاً:
في (صـ 94) قال: " [عن مجاهد: (عسى أن يبعثك ربك مقاماً) قال: يجلسه أو يقعده على العرش] لهذا القول طرق خمسة، وأخرجه ابن جرير في تفسيره وعمل فيه المروزي مصنفاً وسيأتي إيضاح ذلك بعد".
ثانيا:
في (صـ 124) قال: "قال المروزي سمعت أبا عبد الله الخفماف يقول: سمعت ابن مصعب وتلا: (عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً) قال نعم: يقعده على العرش".
(10/30)
ذكر الإمام أحمد ابن مصعب فقال قد كتبت عنه وأي رجل هو!، ثم قال الذهبي: فأما قضية قعود نبينا عليه الصلاة والسلام على العرش فلم يثبت في ذلك نص – كما قلتُ لكم ما ثبت مرفوعاً إلى نبينا عليه الصلاة والسلام – بل في الباب حديث واهٍ، وما فسَّرَ به مجاهد الآية كما ذكرنا فقد أنكره بعض أهل الكلام، فقام المرْوَزي وقعد وبالغ في الانتصار لذلك وجمع فيه كتاباً، وطرقُ قول مجاهد من رواية ليث بن أبي سليم، وعطاء بن السائب، وأبي يحيى القتات وجابر بن زيد، فمن أفتى في ذلك العصر بأن هذا الأثر يسلّم ولا يُعارض: أبو داود السجستاني صاحب السنن، وكان يقول: من رده فاتهمه – أي أنه من أهل البدع - , إبراهيمُ الحربي (وقع في طبعة المطبعة السلفية بالمدينة لهذا الكتاب الجربي – وهو خطأ) وخلقٌ بحيث أن ابن الإمام أحمد قال عقيب قول مجاهد: أنا منكر على كل ما رد هذا الحديث وهو عندي رجل سوءٌ متهم، سمعته عن جماعة وما رأيت محدثاً ينكره، وعندنا إنما تنكره الجهمية" ثم بدأ يسوق الأسانيد عن مجاهد في قوله السابق الذكر.
وهذه الشفاعة العظمى الثابتة لنبينا عليه الصلاة والسلام، وردت بها أحاديث كثيرة – كما قلت إنها متواترة – وذكرت حديث الشفاعة الطويل، ومن تلك الأحاديث المتواترة:
ما ثبت في الصحيحين عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [أعطيت خمساً لم يعطهن نبي قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً فإيما رجل أدركته الصلاة فليصل، وأعطيت الشفاعة، وكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة] .
وقد امتازت رسالة نبينا عليه الصلاة والسلام بأمرين:
أولهما: الختام فهي خاتمة الرسالات.
ثانيهما: العموم عامة لكل الناس وللجن أيضاً.
والمقصود بالشفاعة الواردة في الحديث الشفاعة العظمى فهو الذي يشفع في أهل الموقف بعد أن يعتذر باقي الأنبياء عنها.
(10/31)
وثبت في صحيح مسلم وسنن الترمذي وأبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه عن نبينا عليه صلوات الله وسلامه أنه قال: [أنا سيد ولد آدم يوم القيامة] وفي رواية أبي داود بحذف: [يوم القيامة] ولا تعارض بينهما، فهو سيد مطلقاً في الدنيا وفي الآخرة، لكن متى تظهر السيادة؟ هنا في الدنيا يوجد من ينازعه، وأما هناك فلا يوجد أحد يستطيع أن يدعي أنه سيد، هذا كما قال تعالى: (مالك يوم الدين) وهو مالك الدين والدنيا، لكن هنا يوجد من ينازعه ويقول: لا إله والحياة مادة، و (إنما أوتيته على علم عندي) ، و (هذه الأنهار تجري من تحتي) وأنا ربكم الأعلى فيوجد من يقول هذا، وأما هناك في الآخرة فلا يوجد من يقول هذا كل واحد يقول (ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون) .
إذن سواء حذفت يوم القيامة أو ذكرت لا إشكال، لأنه إذا ذكرت فالسيادة تظهر في ذلك اليوم لعدم المنازع.
ثم قال [وأنا أول من تنشق عنه الأرض] فأول من يبعث هو نبينا عليه الصلاة والسلام.
ثم قال [وأنا أول شافع وأول مشفَّع] وليس بين اللفظين [شافع ومشفع] تكرار، فالشافع هو الذي يطلب الشفاعة لغيره والمشفَّع هو الذي تقبل شفاعته، فنبينا عليه الصلاة والسلام سابق بالأمرين لا يشفع أحد قبله ولا يشفَّع أحد قبله، لأنه لو لم يُشفَّع قبل غيره، فقد يشفع بعض الأنبياء إذن بعد، لكن يجابون قبله فيكون غيره أول مشفّع، فإنه لا يلزم من ثبوت الشفاعة حصول التشفيع فقد يشفع ويؤخر سنة.
ولو قال صلى الله عليه وسلم: أنا أول شافع فقط (ربما توهم البعض أن نبينا عليه الصلاة والسلام يسبق في طلب الشفاعة لكن تؤخر إجابة نبينا عليه الصلاة والسلام، فدفعاً لهذا التوهم قال: كل من الأمرين سيحصلان لي على سبيل الأولية فأنا أول من يشفع وأول من يجاب في قبول الشفاعة، عليه الصلاة والسلام) .
(10/32)
وثبت في سنن الترمذي بسند حسن عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن نبينا عليه صلوات الله وسلامه، أنه قال [أنا أول الناس خروجاً إذا بعثوا وأنا خطيبهم إذا وفدوا وأنا مبشرهم إذا أيسوا، ولواء الحمد يومئذ بيدي، وأنا أكرم ولد آدم على ربي ولا فخر] .
إذن هو أول الناس خروجاً عندما يبعث الناس، وهو الذي يخطب الناس إذا وفدوا على الله عز وجل واجتمعوا وهو مبشرهم إذا أيسوا بطريق الشفاعة العظمى ...
س: بخصوص الدعاء الوارد بعد الأذان (اللهم رب هذه الدعوة التامة ... ) هل يعتبر هذا الدعاء شفاعة للنبي صلى الله عليه وسلم؟ وإذا كان شفاعة فكيف تكون الشفاعة لخير البرية الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وهو الذي نرجو منه أن يشفع لنا عند رب العزة سبحانه وتعالى؟
جـ: هذه الشفاعة منا لنبينا عليه الصلاة والسلام بأن يعطيه الله الوسيلة والفضيلة والمقام المحمود إنما تحصل بعد إذن من الله، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا بذلك فقال [سلوا الله لي الوسيلة] ثم أخبرنا بفضيلةٍ لهذا السؤال وهو أن من سأل الله لنبيه الوسيلة [حلت له الشفاعة] وحلت من الحلول والنزول لا من الحل ضد التحريم، أي نزلت عليه شفاعتي أي استحقها كان الله قال لنبيه عليه الصلاة والسلام: بشر أمتك بأن من سأل لك هذا ستشفع له يوم القيامة، فإذن هذه الشفاعة بإذن من الله عز وجل لنشفع لنبيه صلى الله عليه وسلم في أمر حاصل وثابت.
س: فإن قيل ما فائدة هذه الشفاعة إذن؟
الجواب: لأوضح لكم الجواب أضرب لكم مثالاً مشابهاً:
(10/33)
ألم يقل الله سبحانه وتعالى (إن الله وملائكته يصلون على النبي) ؟ يصلون ولم يقل صلوا، وفعل المضارع يفيد التجدد والحدوث، فصلاة الله على نبيه لا تنقطع وصلاته عليه أن يثني عليه في الملأ الأعلى وأن يتحدث بذكره ومحامده (ورفعنا لك ذكرك) فلا يذكر الله إلا ويذكر معه نبيه عليه صلوات الله وسلامه، فماذا قال الله بعد ذلك؟ (يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً) وصلاتنا على نبينا عليه صلوات الله وسلامه أن نقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وغيرها من الصيغ نحقق فيها الصلاة على نبينا عليه الصلاة والسلام.
إذن الله يصلي عليه ونحن نقول اللهم صلِّ فما فائدة هذا والصلاة من الله لا تنقطع؟ انتبه!! هذا مثل ما ورد في حديث الشفاعة [حلت له شفاعتي] وهنا فائدة الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم [من صلى عليّ واحدة صلى الله عليه بها عشراً] فصلاة الله حاصلة لنبيه صلينا عليه أوْ لم نصل، لكن فائدة هذا تعود إلينا وذلك حتى ننتفع من هذه القربة، وفائدته لنعلم قدر نبينا عليه صلوات الله وسلامه وهذه فائدة عائدة لنا.
وفائدته لنتحدث بفضائله عليه الصلاة والسلام وفائدة هذا عائدة لنا، وأما هو - صلى الله عليه وسلم – فعالي القدر رفيع المنزلة، الله يصلي عليه وسيعطيه الوسيلة، سواء قلنا هذا أو لم نقل.
(10/34)
وفائدته ليغرس نبينا عليه الصلاة والسلام في قلوبنا حبه، وليغرس في قلوبنا أمور الاعتقاد وأنه رسول الله وليغرس في قلوبنا أن الشفاعة ثابتة له، وهذا من أمور الاعتقاد، وليغرس فينا معاني الإيمان أمرنا بأن نقول هذا الدعاء، وإلا لو اجتمع أهل الأرض قاطبة على سب النبي صلى الله عليه وسلم هل ينقص ذلك من قدره؟! لا، فماذا سيفعل العباد له بعد قول الله تعالى (ورفعنا لك ذكرك) ، وماذا سيفعل العباد بعد قول نبينا عليه الصلاة والسلام [آتي باب الجنة] فأستفتح فيقول الخازن: من؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك] .
وكذلك ما فائدة ثناء العباد عليه صلى الله عليه وسلم وما مضرة ذمهم؟
إنما هذا عائد لهم، فنحن لا نسأل هذا لنبينا عليه الصلاة والسلام لكونه غير حاصل ليحصل بدعائنا له إنما هو حاصل ثابت، فإذا كان ثابتاً ليحصل لنا من رواء هذا الأجر والمغنم وغرس عقائد الإيمان في ذلك.
وقد كان أبو هريرة رضي الله عنه إذا رأى غلاماً صغيراً في المدينة يمسح على رأسه ويقول يا بني إن أدركت عيسى بن مريم فسلم عليه، فما مراد أبي هريرة من هذا؟
مراده أن يغرس في قلب هذا الغلام الإيمان بنزول عيسى عليه السلام، وإلا فإن أبا هريرة موقن أن هذا الغلام لن يدرك عيسى بن مريم عليه السلام، لكن هذه لابد من أن تُغرس في القلوب بأساليب مختلفة، تارة يقول النبي صلى الله عليه وسلم: أنا أول شافع وأول مشفَّع، وتارة يقول [سلوا الله لي الوسيلة] فمن سألها لي [حلت له شفاعتي] ، إذن هذا ليحصل لنا الإيمان بالشفاعة لأنها من أمور الاعتقاد وليحصل لنا الأجر ولتتعلق قلوبنا بنبينا عليه الصلاة والسلام، ولا شيء يغرس الإيمان في القلوب كالتكرار.
(10/35)
وهنا طلب الشفاعة من هذا الباب وهو كذكر الله وعبادته فالفائدة تعود لنا، وإلا من المستفيد من قولنا: لا إله إلا الله، سبحان الله، الله أكبر، نحن أم الله؟ نحن، فلسانك يتلذذ وقلبك يخشع وينتعش ونفسك تتنور، وتحصل على أجر بعد ذلك في الدنيا والآخرة وليس معنى أنه إذا ذكرنا الله وأثنيا عليه يرتفع قدره، وإذا كفرناه ينقص؟ حاشاه بل فائدة هذا تعود لنا كما قلنا، ولذلك يقول الله تبارك وتعالى فيما يرويه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم: [يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد في ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً] .
وللتقريب أقول لكم ولله المثل الأعلى: لو دخلت أنت على مدير مثلاً فقلت له السلام عليك أيها المدير، ودخل آخر وقال السلام عليكم، فقط فإنك ستجد أن المدير يرحب بك ويكرمك أكثر من الآخر لأنك بكلمتك هذه أظهرت له أنك تعترف وتقر بأنه مدير وليس معنى ذلك أنك إن لم تقل له ذلك أنه فُصِل لكن لكلمتك اعتبار في الخاطر، إذن ففائدة هذه الكلمة تعود إليك ولا ينتفع منها المدير أبداً.
الحاصل أن فائدة سؤال المقام المحمود لنبينا عليه الصلاة والسلام عائدة لنا ونحن الذين سننتفع من وراء ذلك والله أعلم.
2- استفتاح باب الجنة:
وطلب الشفاعة بفتحها فلا تفتح أبواب الجنة حتى يشفع نبينا عليه الصلاة والسلام بفتحها فتفتح له.
وقد ثبت هذا في مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم وهو أول حديث في الجامع الصغير – عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال [آتي باب الجنة فأستفتح فيقول الخازن من؟ فأقول: محمد، فيقول: بل أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك] .
(10/36)
فالجنة لا يدخلها أحد ولا تفتح لأحد من متقدمين ومتأخرين حتى يشفع نبينا عليه الصلاة والسلام بفتح أبواب الجنة فيأتي ويستأذن ويطلب من الله الدخول، ثم يدخلها أهلها بعد أن يدخلها نبينا عليه الصلاة والسلام.
وقد ثبت في صحيح البخاري من حديث أنس أيضاً عن نبينا عليه صلوات الله وسلامه أنه قال: [أنا أول من يقرع باب الجنة] ، هذه هي الشفاعة الثانية من الشفاعات الخاصة بنبينا عليه الصلاة والسلام.
3-
إدخال قوم الجنة بغير حساب:
فيشفع لهم إلى الكريم الوهاب فيدخلون الجنة بغير حساب، ولا ينشر لهم ديوان ولا ينصب لهم ميزان.
نسأل الله أن يمن علينا بالجنة إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين وأما أن تتعلق همتنا بأن نكون من هؤلاء، فوالله إننا لنستحي من ربنا أن يعلم منا أننا نتطلع إلى هذه المراتب، وكل واحد يعرف نفسه (بل الإنسان على نفسه بصيرة) ، فنسأل الله حسن الخاتمة.
(10/37)
وقد ثبت هذا في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن نبينا عليه صلوات الله وسلامه قال: [عُرِضت عليّ الأمم] أي مثلت له وكيف ستعرض يوم القيامة [فرأيت النبي ومعه الرُّهَيْط] تصغير رهط وهي الجماعة دون العشرة [والنبي ومعه الرجل والرجلان والنبي وليس معه أحد، إذ رُفع لي سوادٌ عظيم فظننت أنهم أمتي فقيل لي هذا موسى وقومه، ولكن انظر إلى الأفق، فنظرت فإذا سواد عظيم فقيل لي: انظر إلى الأفق الآخر، فنظرت فإذا سوادٌ عظيم فقيل لي: هذه أمتك، ومنهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، ثم نهض، فدخل منزله، فخاض الناس في أولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، فقال بعضهم فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام ولم يُشركوا بالله شيئاً، وذكروا أشياء، فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما الذي تخوضون فيه؟ فأخبروه، فقال: هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون، فقام عكاشة بن مِحصَن فقال ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: أنت منهم، ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: سبقك بها عكاشة] هذه الرواية من مختصر صحيح مسلم.
ومحل الشاهد هو طلب عكاشة من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون منهم فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم [أنت منهم] ونبينا عليه صلوات الله وسلامه لا ينطق عن الهوى، فشفع إلى الله فأخبره الله أن عكاشة من هؤلاء.
وقد ورد في بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [اللهم اجعله منهم] وورد في بعض الروايات أن عكاشة قال بعد أن ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أوصاف السبعين ألف، قال: [أمنهم أنا يا رسول الله؟ قال نعم] .
إذن هنا شفع نبينا عليه الصلاة والسلام لعكاشة وسيشفع لهؤلاء بأن يدخلوا الجنة بغير حساب، هؤلاء لهم الأعمال الجليلة وهي:
(10/38)
أولاً: (لا يكتوون) أي لا يسألون غيرهم أن يكويهم، والكي معروف وقد ثبت في صحيح البخاري عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: [الشفاء في ثلاثة: شربة عسل، وشرطة محجم، وكية نار، وأنهى أمتي عن الكي] .
والمراد بقوله [شرطة محجم] : أي الحجامة، فيشرط الجلد ويشق وبعد ذلك يمص الدم، فأما [وأنهى أمتي عن الكي] والسبب في ذلك أنه فيه ما يشبه تعذيب الناس في جهنم، فجهنم نار وعندما يكتوي الإنسان كأنه عذب نفسه بالنار، ثم إن هذا العلاج لم يتعين عليك فما أكثر العلاجات التي يعالج بها المخلوقات، فما الذي ألجأك إلى أن تكتوي بالنار، يضاف إلى هذا أن العلاج بالكي قد ينتج عنه أذىً، وقد اكتوى بعض الصحابة – وغالب ظني أنه سعد بن عبادة ولا أستحضر اسمه بالضبط الآن – لكن الأثر ثابت – اكتوى فمات من أثر الكي، وكان قد اكتوى في رقبته. فإذن أحياناً قد يكتوي الإنسان ويتضرر، وقد يصبح هناك تشويه للجسم والجلد، ولذلك [أنهى أمتي عن الكي] .
ثم إن أئمتنا قالوا: الكي دواء موهوم، وليس بمظنون، ولأمور ثلاثة:
1) مقطوع به وهو سبب لحصول المراد.
2) مظنون به وهو سبب – في الظن الغالب – لحصول المراد.
3) موهوم لا حقيقة فيه.
فأما الأمر الأول: المقطوع به فيجب عليك أن تأخذه مثل الغِذاء، فلو تركت الطعام حتى مت تدخل النار، ولو قال إنسان: أنا أتوكل على الله ولا آكل فمات فهو من أهل النار.
وأما الأمر الثاني: المظنون: وهو سائر أنواع العلاجات – غير الكي والرقية – إذا كانت غلبة الظن في الشفاء.
(10/39)
ومعظم العلاجات التي تجري الآن في المستشفيات كلها من باب الظن لا من باب القطع الأخذ بها جائز وتركها أحسن وأفضل، وعدم التداوي عزيمة والتداوي رخصة، فمثلاً إذا أرادوا أن يجروا له عملية جراحية بأن قالوا له: في بطنك آفة لا تشفى منها إلا بعملية جراحية، فهذا مظنون، لأنه قد يفتح بطنه ويموت وقد يخطئ الطبيب في تشخيص الداء، وقد يخطئ في وصف الدواء وما شاكل هذا، فلو قال المريض: لا تفتحوا بطني، أموت على فراشي إذا جاءتني المنية ولا أريد العلاج لكان أفضل، ولو قال: افتحوه وأنا أتوكل على الله ومات فليس عليه إثم.
وأنا أعرف بعض إخواننا من الطلاب في كلية أصول الدين في أبها أصيب بالسرطان – نسأل الله العافية – وهو في سنة أولى أصول الدين، ودرسته الفصل الأول وأصيب في الفصل الثاني وسرى السرطان في كفيه ثم انتشر بعد ذلك إلى ذراعه فعرضوه على الأطباء فقالوا لابد من بَتْر يده من الكتف، لأن علامات السرطان بدأت تمشي وتنتشر، فجاءني إخوته فقالوا لي: ما رأيك؟ فقلت: رأيي أن لا تعالجوه بقطع يده، دعوه لقدر الله، فإذا قدر الله له أن يموت فكل نفس ذائقة الموت، وإذا شفاه الله بغير علاج فهو على كل شيء قدير، لكن من ناحية الجواز جائز قطعاً، إنما أقصد أن يده تقطع من الكتف ثم بعد ذلك النتيجة ليست محققة بل هي غلبة ظن لكن ثم رأي الأهل بعد مدارسات على بتر يده فقطعت وبعد شهر توفي رحمه الله، لأن السرطان انتشر في سائر جسده حيث كان انتشاره خفياً ولم يكشفه الأطباء.
(10/40)
وأعرف آخر أيضاً – بعده – من إخواننا، انتشر السرطان في معدته وكبده – نسأل الله العافية – وقرر بعد ذلك إجراء عمليات فجلس الأطباء – كما يقال يلعبون به – وهم أطباء من أعلى التخصصات يعملون له عملية في أبها على يد أمهر طبيب هناك، ثم أجريت له عملية أخرى في الرياض في أحدث مستشفى هناك تقريباً وهو مستشفى فيصل التخصصي – وأجرى عمليات خارج السعودية، لكنه مات بعد ذلك بعد أن جئت إلى رأس الخيمة، وما نفعه أحد من هؤلاء الاختصاصيين، وعلمت بوفاته عن طريق الاتصال بأبها والسؤال عنه، عليهم جميعاً رحمة الله. وما أعطى الناس من اليقين والإيمان خيراً من الصحة.
إذن هذا مظنون إن أخذه لا حرج عليه وهو جائز، وإذا تركه جائز والترك أولى. وأنا أنصحكم ألا تلجأوا إلى عمليات، خصوصاً عمليات فتح البطن ولو استدعى بكم ذلك إلى الموت هذه نصيحة لا من باب أن هذا واجب، لأنه في الغالب عندما يفتح البطن تحصل مضاعفات اشد مما كانت ولا يعود الإنسان إلى طبيعته إذا فتح بطنه، بل تلازمه الآفات حتى يُلقى في الحفرة ميتاً، فاصبر على ما أنت عليه إذا قدر الله لك الحياة فالحمد له، وإذا قدر لك الموت فالموت لا يُخوِّف، وكل نفس ذائقة الموت، نسأل الله حسن الخاتمة.
وأما الأمر الثالث: الموهوم، وهو كالكلي فهو وهمي ليس بمظنون، فهو شيء من تضخيم الأمر وتوهمت أن الكي فيه علاج مع أنه توجد أدوية أخرى تنوب عنه ليس فيها مضرة الكي، ثم قد يوسع دائرة الضرر عليك عندما تتداوى به – كما ذكرنا.
ثانياً (لا يتطيرون) : أي لا يتشاءمون بالطيور والأسماء والألفاظ والبقاع ونحوها، فالتطير والتشاؤم موهوم فاتركه وابتعد عنه.
وقد ثبت في سنن أبي داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً [الطيرة شرك الطيرة شرك] وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. (هذا الحديث من زياداتي) .
(10/41)
ثالثاً: (لا يسترقون) : أي لا يطلبون الرقية، والرقية معروفة، وقد ورد في صحيح مسلم في رواية [ولا يرقون] ، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "هذه الزيادة وهم من الراوي، لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم ولا يرقون".
والرواية التي معنا وهي في الصحيحين أيضاً: [لا يسترقون] والذي يظهر لي – والعلم عند الله – أن كلاً من الروايتين ثابت، والإمام ابن تيمية عليه رحمة الله واهم في رد تلك الرواية.
وهو يقول: لا يسترقون: أي لا يطلبون الرقية من غيرهم لأن هذا ينافي التوكل، أما أنه يرقي غيره فلا حرج لأن هذا من باب نفع الغير.
نقول والله أعلم – ما في الاسترقاء موجود في الإرقاء، فعندما يأتي غيرك ليرقيك ينبغي أن تمتنع إن كان هذا ينافي التوكل، وأنت لا ينبغي لك أن ترقيه إن كان هذا ينافي التوكل.
والأصل أن الرقى الشرعية جائزة، فما الحكمة من أن السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب لا يرقون ولا يسترقون مع أنها جائزة وحالها كحال العلاجات الأخرى؟
الذي يبدو لي – والعلم عند الله – وما رأيت من نبه على هذا من أئمتنا وقد رأيتهم يحومون حول الحديث فأقول:
أولاً: الذي يسترقي فهو وإن كان يطلب علاجاً شرعياً، لكنه قد يضع في قلبه – لا أقول شرك – أن هذا الإنسان له مزية ودعاءه له أثر، وهو عند الله معتبر فإذن كأنه صار فيه شيء من رجم الغيب، وكأنه صار فيه شيء من الاعتماد على الرقية وعلى الراقي، لذلك تحد أنك لا تأتي تطلب الرقية إلا من أناس معينين.
(10/42)
ونحن نقول إنه يعتقد في الراقي أنه يشفي لا، لأنه لو فعل هذا لأشرك، بل نقول صار في توكله شائبة وهذا بخلاف ما لو وصف لك الطبيب دواءً حسياً فهنا لا أثر له على توكلك ولا تتعلق به نفسك، وتتناوله كما تتناول الطعام، وأما الرقية فليست شيئاً حسياً فإنه يقرأ الفاتحة مثلاً وسورة الفلق والناس وآية الكرسي ويدعو فيقول (اللهم رب الناس أذهب الباس اشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك ... ) وينفث عليه، فقد يقع – بالتالي – في نفسك شيء من الأثر.
ثانيا: الراقي: فهو عندما يرقي أيضاً كأنه صار في نفسه شيء يقدح في توكله من حيث أنه يرى أنه صار له شيء من المزية والمكانة حتى صار يرقي، ولذلك نقول لا حرج في رقية نبينا عليه الصلاة والسلام لغيره لأنه مزيته ثابتة وهو خير خلق الله، وسيد ولد آدم وأما من عداه فهل يستطيع أن يجزم لنفسه بمزية؟ وهل يستطيع أن يقول: أنا رجل مبارك ودعائي له أثر؟!! لا يستطيع، وبالتالي من رَقَى فكأنما صار في نفسه هذا المعنى، والعلم عن الله.
ومما ينبغي أن نعلمه أن هؤلاء السبعين ألفاً ليسوا أفضل من غيرهم بإطلاق، فانتبهوا فإن المزية لا تقتضي الأفضلية، فقد يكتوي صديق ويحاسب وهو عند الله أعلى منزلة من هؤلاء فهذه ميزة لهؤلاء فقط أن يدخلوا الجنة بغير حساب، ولا يلزم أن تكون منزلتهم أعلى من غيرهم.
ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الوصف والأصل الجامع الذي تفرعت عنه هذه الأفعال والخصال فقال: [وعلى ربهم يتوكلون] .
وقد ورد أيضاً وصف آخر وقيد آخر، لا يرقون ولا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون، ووصف آخر يخرجون من البقيع، فهذه خاصة بمن يدفن في البقيع بالمدينة المنورة.
(10/43)
ثبت هذا في رواية الطبراني من حديث أم قيس بنت محصن عن نبينا صلوات الله وسلامه عليه أنه قال: [يحشر من هذه المقبرة – وأشار إلى البقيع سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب كأن وجوههم القمر ليلة البدر] إذن لهم شرطان: الأول: فعلهم فهم لا يسترقون ولا ولا والشرط الثاني: مكانهم: فهذا خاص بمن يتوفى بالمدينة ويدفن في البقيع.
وأما من عداهم فقد يحاسب ويكون أعلى درجة منهم، وقد ورد لهذا شاهد، فقد ثبت في مسند الإمام أحمد وصحيح ابن خزيمة وصحيح بن حبان – والحديث صحيح – عن رفاعة الجهني عن نبينا عليه صلوات الله وسلامه أنه قال: [وعدني ربي أن يدخل من أمتي سبعين ألفاً الجنة بغير حساب، وأنا أرجو ألا يدخلوها حتى تتبوءوا أنتم ومن صلح من أزواجكم وذرياتكم مساكن في الجنة] .
إذن أنتم تدخلون قبلهم وتتبوءوا المنازل، لكن هم لهم خصوصية الدخول بغير حساب.
المحاضرة الثالثة والعشرون
تنبيه: لا يشفع النبي صلى الله عليه وسلم للسبعين ألفاً كلهم ليدخلوا الجنة بغير حساب، بل يشفع لبعضهم ليكونوا منهم ويدخلوها بغير حساب، والبعض الآخر يكونون منهم ويدخلوها بغير حساب السبب ما جرى منهم من أعمال وبفضل الله عليهم.
أي أن هذا النوع من الشفاعة – أي الثالث – لا يثبت لغير نبينا عليه الصلاة والسلام، فلا يوجد أحد يشفع لغيره في أن يدخل الجنة بغير حساب، ولم نورد حديث ابن عباس هنا لإثبات شفاعته صلى الله عليه وسلم للسبعين ألفاً بل لإثبات شفاعته لعكاشة ابن محصن، وكيف شفع له النبي صلى الله عليه وسلم فصار من هؤلاء الذين يدخلون الجنة بغير حساب.
فائدة:
(10/44)
هؤلاء السبعون ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب ورد عن نبينا عليه الصلاة والسلام ما يشير إلى أن مع كل ألف منهم سبعون ألفاً أيضاً، ورد الحديث بذلك في سنن الترمذي وابن ماجه ومعجم الطبراني الكبير وصحيح ابن حبان – والحديث صحيح – عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفاً بغير حساب ومع كل ألف سبعون ألفاً] .
فالسبعون ألفاً اقسمها على ألف يصبح معك سبعون، ثم اضرب السبعين هذه بسبعين ألف (أخرى غير الأولى) يصبح معك أربعة ملايين وتسعمائة ألف (4.900.000) يدخلون الجنة بغير حساب بفضل الله ورحمته.
وثبت في صحيح ابن حبان ومعجم الطبراني الكبير عن عتبة بن عبيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ثم يشفع كل ألف في سبعين ألفاً ثم يحثي ربي ثلاث حثيات] . ونسأل الله أن لا يبقى أحد من أمة نبينا عليه صلوات الله وسلامه إلا ويخرج بهذه الحثيات.
و (الحثية) ملء الكفين.
فيحثو ربنا ثلاث حثيات من هذه الأمة ويدخلهم الجنة بفضله ورحمته، [ثلاث حثيات] إقرار وإمرار، لا نبحث في كيفية هذه الحثيات.
المحاضرة الرابعة والعشرون
س: هل السبعون ألفاً الذين يدخلون الجنة مع كل ألف لابد أن تكون فيهم نفس الصفات المذكورة في السبعين ألفاً الأصليين؟
جـ: لهذا العدد الذي يدخل مع السبعين ألفاً هم يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب قطعاً كحال السبعين ألفاً المتقدمين، لكن هل يعملون بمثل عملهم أم لا؟ يحتمل الأمر الأمرين، ولم يرد ما يدل على واحد منهما عن نبينا عليه الصلاة والسلام:
أ) فيُحتمل أنه لابد من وجود هذه الصفات الخمس فيهم (لا يكتوون ولا يسترقون، ولا يرقون، ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون) .
فإن قيل: إذا وجدت فيهم هذه الصفات الخمس فلمَ لم يكونوا من السبعين ألفاً؟
(10/45)
نقول: اعلم أن كل أمر له شروط لابد من وجودها، وموانع لابد من انتفائها لحصول ذلك الأمر، فهؤلاء السبعون ألفاً الآخرون قد توجد فيهم هذه الصفات كلها لكن لعله عندهم نقص في صفات أخرى، افرض مثلا ً– وكل بني آدم خطاء – أن عندهم نقصاً أحياناً في تأخير بعض الصلوات، فهم لم يحصّلوا جميع الشروط المطلوبة، إذن هذا الوصف – وهو دخول الجنة بغير حساب – لمن التزم بالأوامر والنواهي فعلاً وتركاً وحافظ بعد ذلك على هذه الصفات الخمس، إذ أنه عندنا شروط خاصة وشروط عامة، وشروط عامة هي الالتزام بكل مأمور وترك كل محظور، (انظر فتح الباري 11/410) .
ب) ويحتمل أن يكون هؤلاء السبعون ألفاً الآخرون ليس فيهم صفة من هذه الصفات الخمس أو فيهم تفريط في بعض الصفات، فتوكلهم ليس بالدرجة الكاملة التي يقوم بها الراسخون في التوكل فربما رقوا أو استرقوا أو صدر منهم أحياناً تطير، فيمكن أن يكون قد وجد فيهم شيء من هذا.
إذن لعله وجدت فيهم الصفات الخاصة كلها لكن تخلف فيهم بعض الصفات العامة ولعله وجدت فيهم الصفات العامة لكن الصفات الخاصة لم توجد بالكلية أو وجد بعضها، ولا يوجد دليل يوضح ذلك فالمسألة تحتمل الأمرين والعلم عند الله.
4- شفاعته صلى الله عليه وسلم في عمه أبي طالب:
هذه هي آخر الشفاعات الخاصة لنبينا عليه الصلاة والسلام، وهي خاصة بعمه فقط، والسبب في ذلك أن أبا طالب مات على الكفر، والله أخبرنا عن الكفار – كما تقدم – أنه لا تنفهم شفاعة الشافعين (فما تنفعهم شفاعة الشافعين) ، فالكافر إذن لا تنفعه شفاعة باستثناء أبي طالب.
والله سبحانه يقول في سورة البقرة (إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون) أما هذه فخاصة فإنه يخفف عن أبي طالب، لكن لا يخرج من النار.
فإن قيل: كل كافر لا يخفف عنه فلماذا أبو طالب يخفف عنه؟
(10/46)
نقول: شفاعة خاصة لنبينا عليه الصلاة والسلام بأبي طالب فتنفعه شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم مع أن الله قال (فما تنفعهم شفاعة الشافعين) ، ويخفف عنه العذاب مع أنه أخبر عن الكفار أنه (لا يخفف عنهم العذاب) .
وهذا دل عليه أحادث النبي صلى الله عليه وسلم:
ففي الصحيحين وغيرها عن نبينا عليه صلوات الله وسلامه أنه قال [أهون أهل النار عذاباً أبو طالب، يوضع في أخمص قدميه جمرتان من نار جهنم يغلي منهما دماغه، وإنه لأهون أهل النار عذاباً، ويرى نفسه أنه أشد أهل النار عذاباً]
(أَخْمص) على وزن أَحْمر، وهو الانخفاض الذي يكون في وسط القدم من الأسفل.
وقد ثبت في الصحيحين أيضاً وغيرهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه [أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم أرأيت عمك أبا طالب، كان يحوطك وينصرك فهل نفعه ذلك؟ فقال: نعم، كان في غمرات من نار، فأخذته] أي بشفاعته عليه الصلاة والسلام [فوضعته في ضحضاح من نار] ، وروي الحديث عن العباس رضي الله عنه أيضاً.
(كان في غمرات من نار) أي كان يخوض فيها وتغطي رأسه كأنه يسبح في نار جهنم.
(ضحضاح) أصل الضحضاح الماء القليل كالذي يخوض فيه الأولاد ولا يجاوز كعبيهم ولا يُخشى منه غرق ولا تلف.
فهذه شفاعة خاصة نؤمن بها ونثبتها لنبينا عليه الصلاة والسلام.
إذن هذه أربع شفاعات خاصة لا يشاركه فيها أحد من المخلوقات.
وأما الشفاعات العامة المشتركة بينه عليه الصلاة والسلام وبين غيره من الشافعين: من الملائكة المكرمين ورسل الله وأنبيائه المباركين والصالحين إلى يوم الدين.
1- شفاعة أهل الجنة في قراباتهم اللذين دخلوا الجنة، لكن منزلتهم دون منزلتهم:
فيشفعون لهم فيرفع الله درجة النازل إلي درجة العالي دون العكس، فلا ينزل العالي إلى درجة النازل، فالزوج يشفع لزوجته والزوجة لزوجها، والابن لأبيه والأب لابنه وهكذا بقية الأقرباء.
(10/47)
ونبينا عليه الصلاة والسلام له أعلى درجة في الجنة فسيشفع لزوجاته قطعاً وجزماً، ليكنّ معه، وهل يتصور أن تكون أمهاتنا زوجات نبينا عليه الصلاة والسلام في مكان منفرد عنه؟!! وهنّ كما كن معه في الدنيا فهنّ معه في الآخرة.
لكن هل وصلن إلي ذلك بعملهن؟ أم بشفاعة خير خلق الله لهن؟
بل بشفاعته لهن صلى الله عليه وسلم.
لكن هل يلزم من هذا تفضيل أمهات المؤمنين على أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وهم سيكونون دون أمهات المؤمنين في المنزلة قطعاً وجزماً؟
فمنزلة عائشة رضيَّ لله عنها فوق منزلة أبيها أبي بكر، لكن أباها أفضل منها وكيف هذا؟!
نقول: لا تعارض لأن المزية لا تقتضي الأفضلية، فهي أعلى منه في الدرجة ولم تستحقها أصالة إنما تبعاً لزوجها نبينا عليه الصلاة والسلام، ولا يشترط لوجودها في تلك الدرجة أن يحصل لها من النعيم والتجليات ما يحصل للنبي عليه الصلاة والسلام وما يغدق على النبي عليه الصلاة والسلام من نعيم وأعظمه التجلي لله ورؤيته لا يشترط أن يحدث لهن هذا.
وأبو بكر درجة أنزل من درجة أمهات المؤمنين لكن النعيم الذي يحصل له أكثر مما يحصل لهن، لأن كل واحد ينعم على حسب حاله – إن رفع – فهو في المنزلة مع صاحبه وقريبه لكن هذا ينعم بما لا ينعم به ذاك وكل واحد في شغل فاكهون.
وأضرب لكم مثلا ً حسياً لأقرب لكم هذا ولله المثل الأعلى، الأمير عنده من يصب القهوة والشاي وهذا يدخل عليه ويختلط به كثيراً بل هو في غالب الأحيان يجلس في مجلسه ويقابله وجهاً لوجه ويخالطه بكثرة، فهل هذا الخادم يشعر بالمكانة التي يشعر بها الأمير وله من المنزلة ما للأمير؟.
(10/48)
وفي المقابل هناك آخر عند الأمير مثلاً وزير فهو بعيد عن الأمير وقد لا يلتقي به في الشهر إلا مرة، لكن له من المنزلة ما ليس للخادم، فالذي يصب القهوة حصلت له مزية على غيره من الناس بأنه يجتمع مع الأمير صباح مساء، لكن هل يقتضي هذا أنه أفضل من الوزير؟!! لا يقتضي هذا فالمزية لا تقتضي الأفضلية.
س: بالنسبة لمنزلة أبي بكر رضي الله عنه. نعلم أنه أفضل هذه الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فهل يعني هذا أن منزلته يوم القيامة أعلى من الأنبياء والرسل أومن بعضهم، لأنه هو الذي يليه؟!
ج: نقول إن منزلة كل نبي أعلى من غيره مهما علا شأنه وفضله فمنزلة أدني الأنبياء منزلة أعلى من رتبة أعلى الصديقين وأفضلهم، فرتبة أبي بكر الصديق بعد نبينا عليه الصلاة والسلام في هذه الدنيا فقط، ونحن نقول هذا لأجل إثبات فضيلته ومنزلته في هذه الأمة، لا في الأمم، فمنزلة الجنة موضوع آخر، نبينا عليه الصلاة والسلام ثم خليل الرحمن ثم بقية أولو العزم من الأنبياء على ترتيبهم ثم يأتي بعد ذلك أعظم الصديقين من الأولين والآخرين أبو بكر.
س: ما المانع من أن يشفع الرسول صلى الله عليه وسلم لصاحبه حتى يكون معه في نفس المنزلة؟
جـ: لا يمكن هذا، لأن درجة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة لا يشاركه فيها أحد غيره، ودونه الأنبياء والمرسلين عليهم السلام ولا يمكن لصديق أن تكون درجته أعلى من درجة نبي، فهي درجة عالية وكلهم يأخذون قربهم من ربهم على حسب درجاتهم وأعمالهم، فدرجة نبينا عليه الصلاة والسلام أعلى الدرجات تليه درجة خليل الرحمن ثم بقية الرسل أولي العزم المكملون للخمسة نوح وموسى وعيسى عليهم السلام وبعد ذلك الرسل علي حسب ترتيبهم كما ذكرنا لكن مع كل رسول أهله ولابد، تبعاً لا أصالة.
(10/49)
وأما إذا أردت أن تسحب هذا الآن فالنبي صلى الله عليه وسلم يشفع لأبي بكر وأبو بكر يشفع لأسرته وبالتالي صاروا كلهم فوق منزلة أنبياء الله ورسله، هذا لا يحصل فذاك له مقام وهذا له مقام والعلم عند ربنا الرحمن.
وقد ألف ابن حزم كتاباً سماه (المفاضلة بين الصحابة) وجزم في كتابه بأن أمهات المؤمنين أفضل هذه الأمة بعد نبينا عليه الصلاة والسلام.
فقال: خديجة وعائشة وسائر أزواج نبينا عليه الصلاة والسلام أفضل من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي فقيل له من أين لك هذا؟
فقال: نحن نعلم ضرورة أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم معه في الجنة، ونعلم ضرورة أن منزلة النبي صلى الله عليه وسلم أعلى من منزلة أبي بكر فمن دونه، فيلزم من هذا أن تكون منزلة زوجات النبي صلى الله عليه وسلم ورتبتهم أعلى من منزلة أبي بكر ورتبته.
فقال له أهل السنة كلاماً قطعوه به وأبطلوا قوله قالوا: يلزم من قولك أن تكون أم رمان وهي زوجة أبي بكر أفضل من عمر؟
قال: لا. قالوا له بطل قولك.
إذن زوجاته معه صلى الله عليه وسلم، لكن لا يلزم من هذا أنهن أفضل من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي. وقد اتفق أهل الحق على تفضيل الشيخين بعد نبينا عليه الصلاة والسلام بلا خلاف عند أهل السنة فخير هذه الأمة بعد نبينا عليه الصلاة والسلام أبو بكر ثم عمر، واختلفوا في عثمان وعلي، والمعتمد عند جمهور المحدثين: ثم عثمان رضي الله عنه ثم علي رضي الله عنه.
(10/50)
فهن لهن هذه المزية ولهن أيضاً مزية أخرى حيث امتزن بخلطة النبي صلى الله عليه وسلم، وصحبته بما لم يحصل هذا لأبي بكر، ونقصد العشرة التي حصلت بين نبينا عليه الصلاة والسلام وبين عائشة لم تحصل هذه لأبي بكر ولا لعمر، فهي عشرة خاصة تطلع فيها هذه المرأة على نبينا عليه الصلاة والسلام، فهذه مزية تذكر لها وتعرف بها، لكن لا يقتضي أنها أفضل من أبي بكر رضي الله عنه، ولو جمعت الفضائل والمزايا والخصوصيات التي في أبي بكر، والفضائل والمزايا التي في أمنا عائشة أو في غيرها، لوجدت أن أبا بكر يفوق على غيره ممن له مزايا، وأنه يفوق غيره من الصحابة والصديقين.
وابن حزم – رحمه الله – هو صاحب شذوذ كثير مع علم كبير فلنطرح شذوذه الذي يخالف فيه أهل السنة ولنأخذ بعلمه فيما عدا ذلك.
وكان أئمتنا يقولون: "هو كالبحر يقذف بالدرر، ويرمي بالجيف" فالجيف اتركها واطرحها وخذ الدرر منه، ومن جملة ما شذ فيه وخالف فيه إجماع العلماء واتفاقهم، إباحته للمعازف والمزامير، ويطعن في حديث البخاري في ذلك [ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف] , ويقول هذا الحديث ضعيف لأنه معلق، وذلك أن البخاري لما رواه قال: قال هشام بن عمار ولم يقل حدثنا، وهشام بن عمار من شيوخ البخاري عليهم جميعاً رحمة الله، وإذا روى التلميذ عن شيخه بـ (قال) أو بـ (عن) أو بـ (سمعت) ونحوها فهذه الصيغ كلها تحمل على السماع إن لم يكن التلميذ مدلساً، والبخاري ليس بمدلس قطعاً وجزماً، وقوله قال هشام كقوله سمعت هشام.
واجزم على التحريم أي جزم ... والحزم ألا نتبع ابن حزم
ويقول الإمام العراقي:
وإن يكن أول الإسناد حذف ... مع صيغة الجزم فتعليقاً عرف
ولو إلى آخره، أما الذي ... لشيخه عزا بقال فكذي
عنعنه، كخبر المعازف ... لا تصغ لابن حزم المخالِف
س: المرأة إذا تزوجها أكثر من واحد لمن تكون؟
ج: لعلمائنا ثلاثة أقوال وردت فيها والمعتمد منها آخرها:
فقيل: تكون للزوج الأول.
(10/51)
وقيل: تكون للزوج الأخير.
وقيل – وهو المعتمد – كما في المسند وغيره والحديث في درجة القبول – وأمنا أم سلمة رضي الله عنها تسأل عن هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: [تكون لأحسنهم خلقاً، ذهب حسن الخلق بخيري الدنيا والآخرة] فتخير يوم القيامة بين من تزوجها لتختار من كان يُحسن عشرتها.
إذن الشفاعة الأولى شفاعة أهل الجنة لقراباتهم، وقد ورد في كتاب الله ما يشير إلى هذا قال جل وعلا في سورة الطور (والذين آمنوا واتبعهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء) .
(ما ألتناهم) أي ما أنقصناهم فنلحق النازل بدرجة العالي دون العكس.
وثبت في مستدرك الحاكم (2/468) بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنه قال: [إن الله يرفع ذرية المؤمن معه في الجنة، وإن كانوا دونه في العمل، ثم قرأ (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان.....) الآية] والأثر موقوف على ابن عباس وله حكم الرفع لأنه يتعلق بمغيب ولا يمكن للعقل أن يستنبط هذا.
وقد ورد هذا في مسند البزار مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم عن ابن عباس أيضاً، انظر مجمع الزوائد (7/114) وزاد بعد قوله في العمل [لتقرّ بهم عينه] ، وهو صحيح أيضاً.
وورد في معجم الطبراني الكبير والصغير تفسير ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: [إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه وزوجته وولده، فيقال إنهم لم يبلغوا درجتك، فيقول: يا رب، عملت لي ولهم، فيؤمر بإلحاقهم به، ثم قرأ: (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان.....) الآية] ، وهذا الأثر ضعيف، لأنه من رواية محمد بن عبد الرحمن بن غزوان وهو ضعيف، لكن يشهد له الأثران المتقدمان.
وهذا التفسير هو أحد تفسيرين في الآية المتقدمة، على أن المراد من الذرية هنا: الأهل الكبار، وقيل - وهو التفسير الثاني – المراد من الذرية الأولاد الصغار.
(10/52)
وقد ثبت في مسند الإمام أحمد بسند حسن عن نبينا عليه صلوات الله وسلامه أنه قال [إن المؤمنين وأولادهم في الجنة، ثم تلا (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان.....) ] وهذه هي الآية الثانية التي تدل على أن أولاد المؤمنين في الجنة وتقدمت معنا الآية الأولى ص225 وهي (كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين) .
ويقول الحافظ بن حجر عن الحديث الذي في مسند الإمام أحمد المتقدم وهذا خير ما فُسِّرت به الآية، والإمام الشافعي مال إلى أن أولاد المؤمنين في الجنة ورجحه في أحكام القرآن، وعدد من الأئمة واستدلوا بهذه الآية على أن أولاد المؤمنين الصغار في الجنة.
ونحن نقول: الأمران، فالأولاد مع أبويهم إذا لم يبلغوا التكليف، والذرية تكون مع آبائهم إذا كانوا كباراً أيضاً إذا لم يؤهلهم عملهم لارتفاع درجتهم إلى درجة الأبوين، أو العكس، فقد يكون الأولاد في درجة أعلى من الآباء، فيرفع الله الآباء إلى درجة الأبناء، وهكذا الزوجين، ليكتمل السرور والأنس كما قال النبي صلى الله عليه وسلم [لتقرَّ بهم عينه] ، والعلم عند الله.
2- الشفاعة في قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم بدخول الجنة:
من رجحت حسناته على سيئاته: يدخل الجنة، ومن رجحت سيئاته على حسناته: يدخل الجنة حتى يطهّر ويعذب ما لم تكن السيئة شركاً فلا ينفعه شيء من حسناته حينئذ بل يخلد في النار (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) ، من استوت حسناته وسيئاته: المعتمد أنه يحبس على الأعراف، وهو سور بين الجنة والنار.
(10/53)
قال الإمام ابن كثير في تفسيره: "اختلفت عبارات المفسرين من السلف والخلف في بيان المراد بأهل الأعراف، وكلها قريبة ترجع إلى معنىً واحد، وهم من استوت حسناتهم وسيئاتهم، فما عندهم ما يدخلهم الجنة وما عندهم ما يدخلهم النار ويرجح إحدى الدارين في حقهم، فيسجرون على الأعراف، ثبت معنى هذا عن ابن عباس وابن مسعود وعن غير واحد من السلف"، وهذا القول هو الراجح المعتمد من اثني عشر قولاً قيلت في بيان المراد بأهل الأعراف.
فيحبسون على سور بين الجنة والنار – كما ذكرنا – وفي نهاية الأمر سيدخلون الجنة بفضل الله ورحمته ثم بتشفيع الله للصالحين من عباده فيهم فيشفعون لهم ويدخلون.
وقد أشار الله جل وعلا إلى أنهم سيدخلون الجنة في كتابه إشارةً لطيفة ظريفة فقال جل وعلا: (وعلى الأعراف رجال يعرفون كلاً بسيماهم ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون) هذا هو الشاهد (لم يدخلوها وهم يطمعون) .
قال أئمتنا: ما أطمعهم الله في دخولها إلا وهو يريد أن يدخلهم، ومعنى الآية أي جعل في قلبهم هذا الطمع وهذا الرجاء وسيحقق الله لهم ذلك، ثم قال تعالى (وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين) فهنا دعوا الله ألا يجعلهم مع هذا الصنف، أما إذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب الجنة يتمنون ويطمعون أن يكونوا فيها مع أهلها.
خلاصة الكلام: أهل الأعراف هم من استوت حسناتهم وسيئاتهم يشفع لهم النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من أنبياء الله ورسله والصالحين من عباده.
3- الشفاعة لقوم من العصاة قد استوجبوا دخول النار لرجحان سيئاتهم على حسناتهم ألا يدخلوها:
فيشفع لهم النبي صلى الله عليه وسلم أو الصالحون من عباد الله بعد إذن الله لهم ورضاه عن المشفوع فيه، فيشفع الله الشافعين ويمنع هذا الإنسان من دخول نار الجحيم.
(10/54)
دليل هذا: ما رواه الإمام أحمد في مسنده والترمذي في سننه وابن ماجه في سننه أيضاً وأبو داود والدارمي – والحديث قال عنه الترمذي غريب، وغرائب الترمذي لا تسلم من مقال فهي ضعيفة عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [لقارئ القرآن إذا أحل حلاله وحرم حرامه أن يشفع في عشرة من أهل بيته كلهم قد وجبت لهم النار] ، وورد عن علي أيضاً بلفظ آخر مرفوعاً [من قرأ القرآن وحفظه أدخله الله الجنة وشفعه في عشرة من أهل بيته كلهم قد استوجب النار] ، وهو ضعيف أيضاً.
والحديث ورد له شاهد يقويه، رواه الطبراني في الأوسط انظر مجمع الزوائد (7/162) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما – وهو ضعيف أيضاً فيه جعفر بن الحارث وهو ضعيف لكن يتقوى الضعيفان ببعضهما ولا ينزل هذا الحديث عن درجة القبول إن شاء الله – عن نبينا عليه الصلاة والسلام قال: [لقارئ القرآن إذا أحل حلاله وحرم حرامه أن يشفع في عشرة من أهل بيته كلهم قد وجبت له النار] .
فإذ قرأ القرآن ثم أتى بشيء آخر حتى لا يكون من القراء الفسقة فأحل حلاله أي فعل الحلال معتقداً حله، وحرّم حرامه أي ترك الحرام معتقداً تحريمه، فهذا له جزاء عظيم عند الله يدخله الجنة ثم يشفعه في عشرة من أهل بيته وقرابته ممن استوجب دخول النار لرجحان سيئاته على حسناته فيشفع لعشرة منهم فيدخلون الجنة، والحديث كما قلت لا ينزل عن درجة القبول لأنه لا يوجد في رواتهما أحد كذاب أو متروك أو منكر الحديث، بل في رواتهما ضعف دون ذلك والضعف اليسير يزول بتعدد طرق الحديث، والعلم عند الله.
المحاضرة الخامسة والعشرون
4- الشفاعة فيمن دخل النار بالخروج منها:
من دخل النار استحق أن يمكث فيها فترة طويلة فيشفع له الشافعون فيخرجه الله منها قبل أن تتم مدة عذابه.
(10/55)
دليل هذا ما ثبت عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: [شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي] والحديث صحيح بل هو مستفيض ودرجة الاستفاضة دون المتواتر وفوق المشهور.
الحديث:
1) ثبت عن أنس بن مالك رضي الله عنه في مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي وأبي داود وصحيح ابن خزيمة ومستدرك الحاكم.
2) وثبت أيضاً من رواية جابر بن عبد الله في سنن الترمذي وابن ماجه وابن خزيمة في كتاب التوحيد ومستدرك الحاكم.
3) وثبت أيضاً عن ابن عمر رضي الله عنه في مسند أبي يعلى والسنن الكبرى للبهيقي لابن أبي عاصم ومسند البزار.
4) وروي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أيضاً.
5) وعن كعب بن عجرة.
6) وعن عوف بن مالك رضي الله عنهم أجمعين.
وهذه الشفاعة شاملة لمن استوجب دخول النار ألا يدخلها، ولمن دخلها أن يخرج منها، فهي إذن شاملة للنوع الثالث والنوع الرابع. وستأتينا أحاديث تنص على إخراج أهل الكبائر من النار. إذن هذه أربع شفاعات عامة مشتركة.
فائدة:
خالف أهل البدع من المعتزلة والخوارج في مبحث الشفاعة وكان خلافهم في بعض أنواع الشفاعات المتقدمة، أما الشفاعات الخاصة فلا خلاف فيها، وأما الشفاعات العامة ففيها شفاعة واحدة لا خلاف فيها وهي الشفاعة الأولي بأن أهل الجنة يشفعون لذريتهم.
فبقيت ثلاث شفاعات خالف فيها المعتزلة والخوارج وهي:
1- الشفاعة فيمن استوت حسناته وسيئاته.
2- ومن استوجب دخول النار.
3- ومن دخلها.
فقال الخوارج والمعتزلة: من لقي الله بكبيرة، لم يتب عنها فيجب على الله أن يعذبه ولا يجوز أن يغفر له، وإذا عذبه فهو مخلد في نار جهنم لا يخرج منها.
أما الخوارج فقالوا: إن فاعل الكبيرة كافر وبالتالي فهو مخلد في النار.
وأما المعتزلة فقالوا: إن فاعل الكبيرة في منزلة بين منزلتين، أي ليس بمؤمن ولا كافر لكن مخلد في نار جهنم.
(10/56)
إذن الحكم الأخروي متفقون عليه وهو الخلود في نار جهنم، لكن الحكم الدنيوي اختلفوا فيه، فأولئك تجاسروا على إطلاق الكفر عليه وأما هؤلاء فتهيبوا من إطلاق الكفر عليه فقالوا في منزلة بين منزلتين وهذا القول الذي قرره الخوارج والمعتزلة باطلٌ لأربعة أمور:
1) تواترت الأحاديث عن نبينا عليه الصلاة والسلام بخروج عصاة الموحدين من نار جهنم بعد أن يعذبوا فيها فترة من الزمان.
ثبت في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: [يدخل أهل الجنةِ الجنةَ وأهل النارِ النارَ ثم يقول الله: أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان] .
وثبت في صحيح البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: [يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه بُرَّة من خير، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذَرَّة من خير] .
(بُرَّة) البرة هي حبة القمح والحنطة وهي تكون أخف وزناً من حبة الشعير، لأن قشرة الشعير غليظة وسميكة فلها وزن بخلاف قشرة الحنطة، يضاف إلى هذا أن حبة الشعير أطول من حبة الحنطة، وورد بدل لفظ (خير) في الألفاظ لفظ (إيمان) .
وصحّف أبو بِسطام شعبة بن حجاج أمير المؤمنين في الحديث، صحّف اللفظ الثالث (ذرَّة) إلى (ذ ُرَة) أي حبة الذرة فقد اشتبه عليه الأمر رحمه الله لما وردت حبة الشعير وحبة القمح فظن أن الذرّة هي الذ ُرَة لأن رسم كتابتها واحد، والتشكيل هو الذي يختلف وإذا أخطأ المحدث خطأً يسيراً فلا يضره هذا ولا ينزله عن أعلى درجات الحفظ، ولا يعصم أحداً من خطأ، رحمه الله.
(10/57)
و (الذرَّة هي أقل شيء يوزن، هذا قول، وقيل: هي الهباء الذي يخرج ويتطاير عندما تسطع أشعة الشمس، وخصوصاً إذا سطعت الشمس داخل حجرة فإنه يُرى بشكل واضح) . وقال ابن عباس هي أن تضع يدك على التراب ثم تنفخها فالذي يتطاير من يدك من ترابٍ هو الذرات. وقيل: وهو القول الرابع – المراد من الذرّة النملة الصغيرة، وهي دون البرّة في الوزن.
إذن من قال لا إله إلا الله وعمل من الكبائر ما عمل وعنده وزن شعيرة من خير، برة من خير ذَرَّة من خير فيخرج من النار إلى الجنة.
وثبت في مسند الإمام أحمد ومسند أبي يعلى – انظر المجمع (10/384) عن أنس رضي الله عنه – والحديث فيه ضعف يسير وله شواهد كثيرة تجبره إن شاء الله وتقويه – عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: [إن عبداً لينادي في النار ألف سنة يا حنان يا منان] أي ألطف بي ومنّ عليّ بالخروج من هذه الدار الخبيثة [فيقول الله لجبريل عليه السلام: اذهب فأتني بعبدي هذا، فينطلق جبريل فيجد أهل النار منكبين يبكون، فيرجع إلى ربه فيخبره] أنه نظر في أهل النار فلم يميزه عن غيره ولم يعرفه [فيقول الله جل وعلا: ائتني به فإنه في مكان كذا وكذا، فيجيء به، فيوقفه على ربه عز وجل، فيقول: يا عبدي كيف وجدت مكانك ومقيلك] أي المكان الذي استقررت فيه وتنام فيه [فيقول: يا رب شر مكان وشر مقيل، فيقول: ردوا عبدي فيقول: يا رب ما كنت أرجو إذا أخرجتني أن تعيدني فيها، فيقول: دعوا عبدي] .
الشاهد من هذا كله: أنه تواترت الأحاديث بخروج أناس من النار، وقد تواترت أحاديث كثيرة أن ذلك الخروج يكون أيضاً بشفاعة الشافعين، كما يكون برحمة رب العالمين، ومن تلك الأحاديث:
(10/58)
ما ثبت في صحيح البخاري وسنن أبي داود والترمذي عن عمران بن حصين رضي الله عنه عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: [يخرج قوم من النار بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم فيدخلون الجنة، يسمون الجهنميين] أي: نسبة إلى الدار التي كانوا فيها وهي جهنم، ويسمون الجهنميين في البداية عندما يدخلون فيقال هؤلاء الجهنميين ثم بعد ذلك يصب عليهم أهل الجنة من ماء الجنة فيذهب عنهم القَتَر والسواد ويصبحون كأهل الجنة في النعيم والبهجة والسرور.
وثبت في الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [يخرج قوم من النار بالشفاعة كأنهم الثغارير] وضبط بالعين المعملة: الثعارير [فقيل وما الثعارير؟ فقال: الضغابيس] وهي صغار القثاء، وهي التي تشبه الخيار لكن تكون معكوفة في الغالب وملتوية، وهي من أنواع الخضار ومن فصيلة الخيار، وتسمى قتة في بلاد الشام، وتسمى في الإمارات فقّوس.
أي يخرجون من النار وفيهم هذا الذل، وهذا الامتهان وهذا الاحتراق بحيث أن أبدانهم صارت بهذا الحجم من ضمورها وهزالها، فذهبت صحتهم حتى صار الواحد منهم كأنه صغار القثاء، ثم يخرجون من النار بالشفاعة كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول مفتي عمان في كتاب الحق الدامغ صـ 191:
"وعقيدتنا معشر الأباضية أن كل من دخل النار من عصاة الموحدين والمشركين مخلدون فيها إلى غير أمد" قلت: هل يستقيم هذا في رحمة أرحم الراحمين أن يجعل المؤمن الموحد الذي له حسنات أكثر من الجبال عدداً ووزناً كأبي جهل، كيف سيسوي الله من وحده بمن جحده وألحده؟!!.
ثم يقول: "كما أن من دخل الجنة من عباد الله الأبرار لا يخرجون منها"!! ما هذا المقياس مع الفارق الكبير فأولئك دخلوا الجنة ولا يخرجون منها، وأما هؤلاء فعلى حسب أعمالهم فيدخلوا النار من أجل أن يطهروا وينقوا من الذنوب.
(10/59)
ثم يقول: "إذ الداران دار خلود"!!! نحن لا نقول إن النار تفنى، بل هي دار خلود لكن في حق من يخلد فيها، لكن هذا هو التلاعب بالحقائق!!.
يقول: "ووافقنا على ذلك المعتزلة والخوارج على اختلاف طوائفهم"، أي وافقهم في أن من دخل النار لا يخرج منها، سبحان الله!! هلا كان من وافقك هم أهل السنة والجماعة!!!
ثم يقول: "وإنما خالفنا الخوارج من حيث إنهم يحكمون على كل معصية تؤدي إلى العذاب بالشرك المخرج من الملة، فخالفوا بذلك نصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة"!!! وأنت ماذا خالفت يا مفتي!!.
نحن الآن في موضوع خروج عصاة الموحدين من النار في هذا المبحث المختصر ذكرنا (5) أحاديث فقط وقلنا الأحاديث متواترة، فكيف تخالف هذا؟!!!
وإذا كان الخوارج قد حكموا على فاعل الكبيرة بالكفر والله إنهم لأعقل منك عندما حكمت عليه بالإيمان وقلت إنه مخلد في النيران، ولذلك هم يقولون: إن تخليد العصاة في النار هذا دليل على أنهم كافرون، فإذن هم يقولون بكفرهم وخلودهم، فكلامهم مستقيم مع بعضه وإن كان ضلالاً وباطلاً، وأما كلامك يا مفتي ففيه سفاهة من وجهين:
أولا: إن كلامك باطل من ناحية الشرع.
ثانيا: أنه يناقض بعضه بعضاً
فإنك تقول هو مؤمن وهو مخلد في النار، كيف هذا؟!! ولا يخلد في النار إلا الكفار.
ثم إنك خالفت الخوارج في هذه الجزئية لكنك وافقت المعتزلة، حيث يقولون: لا نكفره لكن نحكم عليه بالخلود في النار، إخوتي الكرام ... هذا قول باطل فاحذروه.
إذن تواترت الأحاديث بخروج أقوام من النار بالشفاعة بعد دخولها.
2) تواترت الأحاديث أيضاً بأن من لقي الله على التوحيد وقال لا إله إلا الله محمد رسول الله عليه صلوات الله وسلامه في هذه الحياة ثم مات مآله إلى الجنة، إذا لم يأت بما ينقص إيمانه من مُكَفِّر أو ردة.
(10/60)
أما المعاصي فلا تعتبر كفراً ولا ردة، لأنها لو كانت كذلك لما رتب الشارع عليها حدوداً مقدرة، فالزاني مثلاً يجلد ولو كان الزنا كفراً لقال الشارع: اقتلوه.
وقد أجمع الصحابة على أن مخالف المأمور أو مرتكب المحظور ليس بكافر، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: [لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، المفارق لدينه التارك للجماعة] والحديث في الصحيحين، إذن فكيف نستحل دم إنسان مسلم إذا لم يفعل أحد هذه الأمور الثلاثة؟!! فإذا شرب الخمر لا يستحل دمه، ولو استحل دم من زنى وهو ثيب أومن قتل نفساً أخرى فلا يموت على الكفر، إنما إذا استُحل دم من ارتد فهذا الذي يموت كافراً مخلداً في نار جهنم.
(10/61)
من تلك الأحاديث ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [من قال لا إله إلا الله دخل الجنة، فقال أبو ذر: وإن زنى، وإن سرق؟، فقال وإن زنى وإن سرق، فأعاد أبو ذر وإن زنى وإن سرق؟ فأعاد النبي صلى الله عليه وسلم الجواب وإن زنى وإن سرق فأعاد أبو ذر السؤال ثالثة] يستبعد هذا ويستغرب منه غاية الغرابة، يدخل الجنة وهو مقصر في حق الله معتدٍ على حقوق العباد، وذكر السرقة والزنا للإشارة إلى حق الله وحق عباده ويدخل في هذا سائر الحقوق، فتعديه على حق الله عندما يزني، وتعديه على حق العباد عندما يسرق منهم [فقال النبي صلى الله عليه وسلم في الثالثة: وإن زنى وإن سرق، فأعاد أبو ذر السؤال رابعة، فقال: وإن زنى وإن سرق على رغم أنفك يا أبا ذر] فلا داعي لإعادة السؤال مرة خامسة، لأن التكرار ثلاث مرات، وفي الرابعة تستحق هذا الجواب حسماً للسؤال، [فكان أبو ذر رضي الله عنه إذا حدث بالحديث يقول من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنى وإن سرق على رغم أنفي] يعني أنا ضاقت نفسي من هذا ولم أسترح إليه لكن على رغم أنفي سيدخل الجنة وهذا هو حكم الله وهذا هو تبليغ رسوله صلى الله عليه وسلم.
قال الإمام النووي عليه رحمة الله في شرحه هذا الحديث في صحيح مسلم (1/217) : "أفاد حديث أبي ذر فائدتين:
الفائدة الأولي: أن عصاة الموحدين لا يقطع لهم بنار الجحيم.
الفائدة الثانية: لو عذبهم الله فمآلهم إلى الجنة".
وإنما لا يقطع لهم بنار الجحيم لأنه ورد في الحديث [من قال لا إله إلا الله دخل الجنة ... وتقدم، وهذا الدخول قد يكون سابقاً وقد يكون لاحقاً، فإذا غفر الله له دخل مع السابقين، وإذا عذبه لحقهم بعد حين، فلابد من الدخول ولن يخلد في نار جهنم.
(10/62)
وقال الحافظ ابن حجر في الفتح (3/111) : "يدل الحديث على أن من فعل الكبيرة لا يخلد في النار" وهذه فائدة كالتي ذكرها الإمام النووي لكنه ذكر فائدة ثالثة: "ويدل على أن فاعل الكبيرة لا يُسلب عنه اسم الإيمان" أي فاعل الكبيرة مؤمن ولا يخرج عن الإيمان بفعلها المجرد فهو مؤمن بإيمانه فاسق بعصيانه.
3- أنتم تقولون من لقي الله بكبيرة فهو مخلد في نار جهنم ولن تنفعه أعماله الصالحة أي بطل ثوابها وحبطت، وهذا منكر عظيم لا يستقيم في عدل ورحمة أرحم الراحمين.
فكيف تضيع الحسنات أمثال الجبال بسيئة من السيئات، والله جل وعلا لم يجعل شيئا من الأعمال المنكرة محبطاً للأعمال الصالحة إلا شيئاً واحداً هو الشرك، وبشرط الموت عليه، فمن كان مؤمناً وعمل الصالحات ثم ارتد حبط عمله، فإذا آمن رجع إليه ثواب عمله الصالح، ولذلك لو حج ثم ارتد ثم آمن لم يجب عليه أن يعيد الحج مرة أخرى.
فلا يحبط العمل إلا بالكفر والموت عليه، الله قرر هذا في كتابه فقال جل وعلا في سورة البقرة آية (217) : (ومن يرتد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) .
فإذن من لقي الله بمعصية من المعاصي لا نقول إنه صديق، وكذلك لا نقول إنه كافر عنيد بل نقول مؤمن عاص ٍ، إن غفر الله له فرحمته واسعة، وإن عذبه فبِعَدْلِه، ولن يخلده في نار جهنم إذ كيف سيسوي الله هذا مع الكافر الذي لم يسجد لله سجدة واحدة؟! إن التسوية بين المؤمنين والكافرين هذا مما لا يستقيم في عدل ورحمة أرحم الراحمين يقول الله تعالى: (أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار) ، فإن قيل: فاعل الكبيرة ليس بمتقٍ؟، فنقول: التقوى قسمان: تقوى الشرك وتقوى المعاصي، فالمؤمن الذي ارتكب المعاصي هو متقٍ للشرك لكنه لم يتق المعاصي فتقواه ناقصة وليست معدومة بينما الكافر والمشرك ليس عنده نوع من أنواع التقوى.
(10/63)
4- قولهم يجب على الله أن يعاقب العصاة ولا يجوز أن يغفر لهم في وقت من الأوقات لا عند الحساب ولا بعد دخولهم النار، أي لا يجوز أن يغفر لهم ولا أن يخرجهم من النار، هو قول باطل يصادم النصوص القطعية:
1- قال الله عز وجل في كتابه: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) ، (ما دون ذلك) أي ما دون الشرك من جميع الكبائر والموبقات (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) فإذا عذب الله فاعل الكبيرة فهذا بِعَدْلِه سبحانه وتعالى، وإن غفر له فهذا بفضله، وأفعال الله سبحانه وتعالى بين عدل وفضل ولا ثالث لفعله فالظلم والجور منتفٍ عنه، بل هذا من أفعال العباد، والفعل المطلق للإنسان لا يخرج عن واحد من ثلاث إما أن يكون عدلاً أو فضلاً أو جوراً.
إذن لو عفا عنه فهذا فضله ورحمته سبقت غضبه، ولذلك ثبت في سنن الترمذي بسند حسن عن علي رضي الله عنه أنه قال: [ما في القرآن آية أحبَّ إليَّ من هذه الآية] ، وهي عنده أرجى آية في القرآن أيضاً، وثبت هذا عن حفيده علي بن الحسين زين العابدين حيث قال: [هذه أرجى آية في القرآن] ، ووجه كونها أرجى آية في القرآن إخوتي الكرام ... كما قلت العذاب عدل والمغفرة فضل وإذا دارت أفعال الله بين العدل والفضل فالمرجح في حقه الفضل؛ لأن رحمته سبقت غضبه، يضاف إلى هذا أن كل عاصٍ لم يقع في الشرك يطمع في أن يكون ممن شاء الله له المغفرة، وما أطمعنا الله إلا ليعطينا كما قال في حق أهل الأعراف (لم يدخلوها وهم يطمعون) ، وقد قال الله في الحديث القدسي [أنا عند ظن عبدي بي فليظن ما شاء] وظننا بربنا أن يغفر لنا وأن يتجاوز عنا ذنوبنا وأن يعاملنا بفضله وإحسانه إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
(10/64)
2- وقد ثبت في مسند الإمام أحمد والصحيحين وسنن الترمذي وابن ماجه عن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وحوله عصابة (10-40) من أصحابه: [بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن وفّى منكم فأجره على الله] . هذه هي الحالة الأولي، والحالة الثانية [ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب في الدنيا فهو كفارة له] لأن الحدود زواجر وجوابر، فهي تزجر الفاعل بالناس، وتطهّر الفاعل والأمة من سخط الله، فالحدود مطهّرة ولو لم يتب المحدود، فإذا سرق وقطعت يده غُفِرَ ذنبه تاب منه أم لم يتب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في ماعز: [إنه الآن في أنهار الجنة ينغمس فيها] بعد أن أقام عليه الحد، والحديث في صحيح مسلم، أما الحالة الثالثة فبينها بقوله [ومن أصاب من ذلك شيئاً ثم ستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه، فبايعناه على ذلك] إذن أنتم بين ثلاثة أحوال، وهو حديث صحيح صريح في بابه.
3- وثبت في مسند أبي يعلى والبزار وكتاب السنندة لابن أبي عاصم، والخرائطي في (مكارم الأخلاق) والبهيقي في (البعث والنشور) عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [من وعده الله على عمل ثواباً فهو منجزه له، ومن وعده على عمل عقاباً فهو بالخيار إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه] فالثواب ينجزه والعقاب قد ينجزه، وقد لا ينجزه (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) .
ومما يبين أن قول المعتزلة والخوارج بأنه يجب على الله أن يعاقب العصاة – باطل هذه المناظرة المحكمة السديدة، التي جرت بين إمامين أحدهما مهتدي ٍ والآخر ضال غوى:
(10/65)
1- أما المهتدي فهو شيخ أهل السنة وأحد القراء السبع أبو عمرو بن العلاء، وهذا قارئ البصرة، والبصريان إذا أطلقا فيراد بهما أبا عمرو هذا ويعقوب، فالبصريان هذان الاثنان والكوفيون أربعة والمدنيان اثنان والمكي واحد، والشامي واحد فالمجموع عشرة فهؤلاء هم القراء العشرة الذين قراءتهم متواترة.
2- وأما الضال فهو عمرو بن عبيد، أبو عثمان، ولا يتعمد أحد إذا قلنا كذا عن عمرو بن عبيد كما اعترض بعضهم على ذمنا للحجاج، ولا يقول كيف نقول على عمرو بن عبيد هذا وهو من أئمة الإسلام وله شأن، وهو خليل وصفي الخليفة العباس أبي جعفر المنصور وكان من الزهاد العباد وكان أبو جعفر يقول: "كلكم يمشي رويد كلكم يطلب صيد غير عمرو بن عبيد" أي كل واحد منكم يريد الدنيا إلا عمرو بن عبيد، وكان إذا دخل على أبي جعفر المنصور لا يستطيع أبو جعفر أن يبقى في مجلس الخلافة، بل يأمر بأن تجهز له غرفة ليس فيها إلا فراش على الأرض ليجلس عليه إجلالاً لعمرو بن عبيد، وليستمع إلى نصح عمرو بن عبيد له.
(10/66)
وهو مع زهده وتنسُّكه ضال، كما قال بن كثير: والزهد لا يدل على صلاح في الإنسان، فعباد الهنود والمتقشفون فيهم عندهم من الزهد والانزواء عن الدنيا والامتناع عن الطعام والشراب ما لا يوجد في كثير من زهاد المسلمين، لكنهم لجهنم حطباً، بل لا بد من أن يكون الزاهد على المسلك الشرعي وإلا فزهده لوحده لا يكفيه، وأبو العلاء المعري كان زاهداً لدرجة أنه لم يتزوج، بل اعتبر الزواج جريمة، وبلغ من إعراضه عن الدنيا أنه يقول إن أعظم المجرمين في حق الأبناء هم الآباء، وأوصى أن يكتب على قبره هذا جناه أبي علي وما جنيت على أحد، لعنة الله على هذا الزهد، ولذلك اتفق أئمة الإسلام على "أن الزهد إنما يكون فيما يلهيك عن الله ويضرك عنده" فهل النكاح فيه ذلك؟!!! بل فيه حسنات لا تستطيع أن تحصلها من كثير من الطاعات، وهل يجب إلى خير البريات عليه صلوات الله وسلامه شيء مؤذٍ وضار، وهو سيد الطيبين وهو الذي يقول: [حبب إليّ من دنياكم الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة] .
ولذلك إخوتي الكرام.... لا يقبل الله من العمل إلا ما كان صالحاً ولوجهه خالصاً، ولا يوجد عندنا أن كل واحد يعبد ربه برأيه، ويخترع شريعة ما أنزل الله بها من سلطان ثم نقول زاهد عابد، إن زهده لن يوصله إلا إلى نار جهنم ورضي الله عن عمر عندما كان يرى عباد النصارى في الصوامع فيتلو قول الله تعالى (وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة) .
(10/67)
فعمرو بن عبيد من أولئك الزهاد الذين لم ينفهم زهدهم بل هو ضال باتفاق أئمتنا، ووالله لا نعرف عمرو بن عبيد ولا نعرف أبا عمرو بن العلاء لكن عن طريق ما نقله عنهم أئمتنا وأخبرونا به عنهم، فذاك طالح فأبغضناه وذاك صالح فأحببناه وليس بيننا وبينه قرابة ولا بيننا وبين الآخر عداوة، وعندما نحب عمر بن عبد العزيز وهو من بني أمية – لأننا أمويون!!، ونكره الحجاج الضال الخبيث لأننا عباسيون!! أهذا هو السبب في حبنا لواحد وبغضنا للآخر أم نحن نحكم حبنا وبغضنا على حسب شرع ربنا جل وعلا؟!!
انتبه لهذه المناظرة المحكمة:
اجتمعنا في مجلس فأراد عمرو بن عبيد أن يرد على مذهب أهل السنة:
فقال: يا أبا عمرو إن الله وعد (1) وعداً وأوعد إيعاداً فهو منجز إيعاده كما هو منجز وعده (2) .
__________
(1) الوعد في المسرة، والإيعاد في المضرة، تقول: وعدته جائزة وأوعدته عقوبة.
(2) أي كما أنه ينجز الوعد فهو سينجز الإيعاد، هذا كقول مفتي عُمان "لأن الله لا يخلف الميعاد" والميعاد شامل للوعد والوعيد، فالله عندما يخبرنا بأن من شرب الخمر في هذه الدنيا كان حقاً على الله أن يسقيه من ردغة الخبال وهي عصارة أهل النار والقيح والصديد الذي يسيل من أجسادهم، يقول: لو أخلف الله هذا وعفا عن شارب الخمر في الآخرة لكان كذاباً فلابد من أن يعاقبه وأن يسقيه من ردغة الخبال وألا يخرجه من نار جهنم.
(10/68)
فقال: أبو عمرو: إنك أعجمي (1) ، إنّ خُلْفَ الوعيد كرم، وإن خُلْفَ الوعد لؤم (2) .
ثم قال له: ألم تسمع إلى قول الشاعر:
__________
(1) ولا أقول إنك أعجم اللسان بل أنت فصيح منطيق، لكنك أعجم القلب، وعجمة القلب هي عدم الفهم عن الرب، أي أن لا يكون القلب زكياً ولا طاهراً ولا نقياً، وليس في عجمة اللسان منقصة، لكن عجمة القلب هي التي فيها منقصة وهي المذمومة سواء كانت في العرب أو في العجم، وكما أن من كان أعجم اللسان لا يفهم لغة العرب فمن كان أعجم القلب لا يفهم عن الرب.
(2) فإذا لم يوقع الله العقوبة بالعاصي هذا كرم منه، وأنا إذا قلت لشخص - مثلاً – إن خالفت أمري لأضربنك مائة سوط ثم خالف أمري، وقضيت عليه، فقال لي: اعف عني، فقلت له: عفوت عنك، فهل يقول لي أحد الآن كذبت، بل ماذا يقولون؟ عفوت وتكرمت، العفو عند المقدرة من شيم الكرام، ولذلك وصف الله عباده بأنهم (والدين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون) ووصفهم بأنهم (والعافين عن الناس) فكيف هذا؟! الجواب: كان سلفنا يكرهون أن يُستذلوا فإذا قدروا عفوا، فهو عندما يصيبه البغي لا يعفو بل يمسك بالمجرم ويكاد أن يقتله، فيقول له ذاك عندها: اعف عني، فيقول: عفوت عنك، فإذن هم يعفون بعد تمكنهم من الانتصار لأنفسهم، أما من يعفون في حال الضعف فهذا يعتبر هنا خوراً وذلاً وجبناً، ولذلك قال (والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون) فأثنى الله عليهم بأخذهم لحقهم ثم إذا تمكنوا من الباغي عليهم عفوا عنه، ولذلك ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لأهل مكة بعد أن تمكن منهم وكانوا قد آذوه إحدى وعشرين سنة ثلاثة عشر سنة في مكة وثماني سنين في المدينة يعارضونه فبعد أن تمكن منهم قال لهم ما تظنون أني فاعل بكم؟ فقالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم ... إذن هنا قدر عليهم – فقال لهم: اذهبوا فأنتم الطلقاء، فهذا يعتبر كرماً وشهامة ومروءة في حق المخلوق فكيف في حق الخالق.
(10/69)
وإني وإن وعدته أو أوعدته ... لمخلف إيعاد ومنجز موعدي (1)
وقول الآخر:
إذا وعد السراء أنجز وعده ... وإن أوعد الضراء فالعفو مانعه
ولذلك كان أبو عثمان عمرو بن عبيد أعجمي القلب، لأنه لا يفقه عن الله شيئاً فالله إذا هدد العصاة فله ذلك، وكذلك إذا عاقبهم له ذلك، وإذا عفا عنهم له ذلك ولا يقال أخلف إيعاده، بل يقال: ما أكرمه، ما أحلمه، ألم يقل الله (ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة) فهو حذرنا من مخالفته وعصيانه ولكنه لم يؤاخذنا بكل ما نعمله إذن فهو يؤخرنا ويمهلنا إذن فهو رؤوف رحيم غفور حليم، ووالله لو عاملنا الله بأعمالنا لاستأصلنا من أولنا لآخرنا، وإذا كان نبينا عليه الصلاة والسلام يقول – والحديث في صحيح ابن حبان وحلية الأولياء بسند صحيح: [لو يؤاخذني الله وابن مريم بما جنت هاتان – وأشار إلى الإبهام والسبابة – لعذبنا ثم لم يظلمنا] هذا يقوله خير خلق الله صلى الله عليه وسلم وهذه الجوارح تستحق شكر أم لا؟!! وأنت لن تستطيع أن تفي بشكر جارحة واحدة فضلاً عن جارحتين، فلو حاسبك الله على الإبهام والسبابة لألقاك في نار جهنم كالعابد الذي في بني إسرائيل عبد الله خمسمائة سنة وما عصاه طرفة عين، وسأل الله أن يقبضه في سجوده وألا تأكل الأرض جسده وأن يبقى ساجداً إلى يوم الدين فأعطاه الله ذلك فإذا كان يوم القيامة يقول الله له: ادخل الجنة برحمتي، فيقول: بل بعملي يا رب، فيقول الله: حاسبوه، فتوضع نعمة البصر في كفة وعبادة خمسمائة سنة في كفة أخرى فلا تكفي عبادته لنعمة البصر، فيقول الله: خذوه إلى النار، فيقول: يا رب أدخلني الجنة برحمتك. وهذه القصة رواها الحاكم في المستدرك.
__________
(1) أي إن أنا وعدته مثلاً جائزة، أو أوعدته مثلاً عقوبة، فأخلف إيعادي من باب كرمي ونبلي وشهامتي وأنجز موعدي وهو السراء والجائزة، فانظر للشاعر العربي يتمدح بهذا.
(10/70)
فإذن فالله سبحانه وتعالى عندما يعفو عنا ويرحمنا ويتجاوز عن خطايانا فهذه منقصة فيه أم كرم؟ بل كرم، [يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً] (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم) إذن هذا مما يتمدح به رب العالمين.
فانظر إلى المعتزلة كيف قلبوا الأمر وقالوا لو عفا الله عنهم لكان كذاباً وهذه منقصة في حقه يتنزه عنها، فجعلوا الفضيلة رذيلة، وهذا خلاف ما فطر الله عليه أهل الأرض قاطبة أنهم يعتبرون العفو مكرمة.
وهذه المناظرة المحكمة انظروها في تاريخ بغداد للخطيب البغدادي (12/175) ، وفي تهذيب التهذيب للحافظ بن حجر (8/71) ، وفي مدارج السالكين للإمام ابن القيم (1/396) وهذا الكتاب نافع جداً احرصوا على شرائه، وإذا لم يتيسر لكم فلا أقل من شراء تهذيبه ومختصره، ومن قصد البحر استقل السواقي، أي الذي يقتني المدارج ليس كالذي يقتني المختصر، ودائماً لتكن هممكم عالية ولا تقنعوا بالمختصرات، واطلبوا الأمور من مصادرها وعلو الهمة من الإيمان.
وتوجد هذه القصة أيضاً في مجموع الفتاوى وكررها في مواضع مختلفة، وموجودة في غير هذه المراجع أيضاً.
مسألة مهمة: ذكرها ابن أبي العز في شرحه
وهي: ما حكم سؤال المخلوقِ الخالقَ أو المخلوقَ بمخلوق؟
أي: مسألة التوسل: فما حكم أن تتوسل إلى الخالق بمخلوق، وأن تتوسل إلى المخلوق بمخلوق؟
مثال الصورة الأولى: (توسل إلى خالق بمخلوق) : أن تقول لله: أتوسل إليك يا رب بنبيك صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر أن تقضي حاجتي.
مثال الصورة الثانية: (توسل إلى مخلوق بمخلوق) أن تقول لشخص: أتوسل إليك يا فلان بأبيك وأمك وزوجك أن تقضي حاجتي.
فما حكم هذا؟
(10/71)
قال الإمام ابن تيمية عليه رحمات رب البرية في (القاعدة الجلية في التوسل والوسيلة) : "قول القائل أسألك بكذا، يحتمل أمرين، لأن الباء أما أن تكون للقسم وإما أن تكون للسبب".
الحالة الأولي: فإذا كانت الباء للقسم فلا يجوز أن يصدر هذا من مخلوق سواء كان الإقسام به على خالق أو مخلوق.
فلا يجوز أن تقول: أقسم عليك يا رب بنبيك أن تقضي حاجتي ولا أن تقول: أقسم عليك يا فلان بالنبي أن تقضي حاجتي. ومثلها قول القائل يا رب بنبيك اقضي حاجتي. ويا فلان بالنبي اقضي حاجتي، فلا يجوز أيضاً، لأن الباء هنا (بنبيك، بالنبي) للقسم كما أن الواو حرف للقسم، وحروف القسم التي يقسم بها الواو والتاء والباء، والله، تالله، بالله، وهكذا بمخلوق: ورأس أبيك، ترأس أبيك، برأس أبيك.
فهذا لا يجوز لما ثبت في مسند الإمام أحمد والكتب الستة باستثناء سنن أبي داود عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت] ، وللحديث سبب في وروده: وهو أن عمر بن الخطاب كان يحلف بأبيه، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم وقال، [إن الله ينهاكم ... ] الحديث، وكذلك الصحابة كانوا يحلفون بآبائهم ثم نهوا عن ذلك.
وثبت في مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي ومستدرك الحاكم بسند صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [من حلف بغير الله فقد أشرك أو كفر] .
وهذا الأمر المذكور في هذه الحالة مجمع عليه بين علماء الإسلام، وما وقع فيه خلاف إلا في صورة من صورة، فانتبهوا لها وهي:
خصوص القسم بالنبي عليه الصلاة والسلام فهل يجوز أن تقول أقسم عليك بالنبي أن تذهب إلي بيتي، وإذا قلت ذلك فهل انعقدت اليمين وعليك الكفارة أم لا؟
(10/72)
الجمهور – وهو الحق – أن القسم بالنبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز وهو كالقسم بغيره، وعند الإمام أحمد يجوز القسم بالنبي صلى الله عليه وسلم كما هو مذكور في كتاب المغني (11/209) لابن قدامة يقول فيه: وقال أصحابنا: إن القسم بالنبي صلى الله عليه وسلم يمين منعقدة وإذا حَنِث فعليه الكفارة، ونقل هذا عن أبي عبد الله – أي الإمام أحمد – وهذا القول الذي قاله الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالي علله بتعليل شرعي – مع وجاهته نرده ولا نأخذ به – وهو: أن الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم هو أحد شطري الشهادة فالشهادة (لا إله إلا الله محمد رسول الله) إيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم فكما يجوز القسم بالشطر الأول، يجوز بالشطر الثاني.
وهذا التعليل مع وجاهته نقول إنه يعارض النصوص، ولا اجتهاد عند ورود النص ولا قياس مع ثبوت النص، فنقول له نِعم ما قلت وأحسنت فيما قلت، لكنه اجتهاد يخالف النص فغفر الله لك وأثابك لكننا لا نقتدي بك في هذه المسألة، ولا نقول: إن القسم بغير الله شرك والإمام أحمد يجيز الشرك بل نقول إن كل إنسان يخطئ ويصيب لكن المهم أن يكون بحثه ضمن الأدلة الشرعية ولا يتبع الهوى.
إذن فانتبه حال الإمام أحمد ليس كالحجاج فهذا عندما يقطع رقاب المسلمين هل هذا ضمن أدلة شرعية أم ضمن هوىً؟!! بل ضمن هوىً.
* أتدرون ماذا فعل الحجاج؟
(10/73)
ضرب مكة بالمنجنيق حتى طارت القذائف إلى الكعبة فاحترقت وهدم قسم منها، وأُحصي عدد الأرواح التي قتلها الحجاج فبلغت – كما في شذرات الذهب لابن العماد (120.000) نفساً، وكلهم من الموحدين الذين يقولون لا إله إلا الله محمد رسول الله، وعلي رأسهم ابن عمر رضي الله عنهما، وعلى رأس المقتولين أيضاً الصحابي الجليل عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، قتله وصلبه ومثل به بعد ذلك في حرم الله في مكة وقد مر عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قبل أن يُقتل بجوار عبد الله بن الزبير وهو مصلوب فقال مخاطباً إياه: رحمة الله عليك يا أبا خُبيب – وهذه كنية عبد الله بن الزبير – والله لقد كنت صواما ً قواما ً وإن أمة أنت شرها إنها على خير، فأرسل إليه الحجاج أحد شرطته فضربه بحربة مسمومة – وهو في صحن الطواف – لأنه قال هذه الكلمة لعبد الله بن الزبير، ثم مات بعد ذلك بسبب هذه الضربة، والحديث ثابت في الصحيح.
وكان يقول لأنس بن مالك رضي الله عنه أيها الشيخ الخرف، فذهب أنس إلي الشام من البصرة، إلى عبد الملك بن مروان يشكو الحجاج فقال: والله لو أن النصارى رأوا من خدم عيسي لأكرموه فكيف بمن خدم من هو أفضل من عيسى عليه السلام، خدم النبي صلى الله عليه وسلم ويهينني الحجاج، فأرسل عبد الملك بن مروان بعد ذلك إلي الحجاج: أنْ لا إمرة لك على أنسً ووالله لو رأى إنسان أنس بن مالك وعنده إيمان لقبل رجليه وليس رأسه ووالله لو كان يجوز شرب بوله لشربت بوله وتقربت بذلك إلى الله فهذا يخدم النبي صلى الله عليه وسلم.
فهل الحجاج يكون مجتهداً ضمن أدلة شرعية عندما قتل هؤلاء وأهانهم؟ وقد ورد في الحديث [ولا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما ً حراما ً] ولو اجتمع أهل الأرض على قتل نفس مؤمن لأكبهم الله على وجوههم في نار جهنم.
(10/74)
ويقول الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء (4/343) " الحجاج: أهلكه الله في رمضان سنة 95 هـ كهلا ً وكان ظلوماً جباراً ناصبياً خبيثاً سفاكاً للدماء، وكان ذا شجاعة وإقدامٍ ومكرٍ ودهاءٍ وفصاحةٍ وبلاغةٍ وتعظيم للقرآن، وقد سقت في سوء سيرته في تاريخي الكبير وحصاره لابن الزبير في الكعبة ورميه إياها بالمنجنيق وإذلاله لأهل الحرمين ثم ولايته للعراق والمشرق كله عشرين سنة وحروب بن الأشعث له وتأخيره للصلوات إلى أن استأصله الله، فنسبّه ولا نحبّه بل نبغضه في الله فإن ذلك من أوثق عرى الإيمان وله حسناتٌ مغمورة في بحر ذنوبه وأمره إلى الله جل وعلا ".
ولما بلغ الحسن موت الحجاج سجد شكراً لله، وكان الحسن البصري يقول: "اللهم كما أمته أمت سنته" وسنته بدعة وظلمة وهو أول من أخر الصلوات عن وقتها، ولما بلغ إبراهيم النخعي موت الحجاج بكى من شدة الفرح، ولما بلغ ابن عمر مقتل ابن الزبير رضي الله عنهم قال: عدو الله استحل حرم الله، وضرب بيت الله وقتل أولياء الله، انظر تذكرة الحفاظ للذهبي (1/37) .
إخوتي الكرام.... ولما نذكر هذا عن الحجاج لا يُقال هذا فيه انتهاك لحرمة الميت، إنما انتهاك حرمة الميت يحصل إن كان الميت قد عصى ربه ثم تاب أو عصاه بمعصية بينه وبين ربه، أو عصاه وجاهر بمعصيته، أما إن كانت المعصية تتعلق بحقوق العباد فهذا ظلم فيجب أن يُبين للناس ليعلموه وليجتنبوا وليبتعدوا عن مثل هذا الظلم ولا يقعوا فيه.
(10/75)
إخوتي الكرام.... لا يقال لنا بعد ذلك كله أنتم عندكم ميزانان تأتون للحجاج وتتكلمون عليه وتأتون للإمام أحمد وتترضون عنه، نقول: قف عند حدك، من يبحث في النصوص الشرعية فهو على هدىً أصاب أم أخطأ إن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر فهذا إمام بذل ما في وسعه للوصول إلى مراد ربه ضمن أدلة شرعية، ولو قال هذا القول عن طريق الهوى لقلنا إنه ضال، فلابد من أن نزن الأمور بالميزان الشرعي، ونسأل الله أن يجعل هوانا تبعاً لشرع مولانا إنه أرحكم الراحمين وأكرم الأكرمين.
الحالة الثانية: وإذا كانت الباء للسبب – لا للقسم – فهذه لها صورتان:
الصورة الأولي: أن تسأل مخلوقاً بسبب مخلوق فهذا جائز بالاتفاق مثالها: أن تقول لشخص أسألك بحق أبيك، أو أسألك بكرامة جدك، أو أسألك بمنزلة زوجتك ونحو هذه من الأسباب فتتوسل بمخلوق إلى مخلوق بالسبب والمنزلة التي له عندك والمكانة والمقام الذي له عندك.
وقد ثبت أن ابن جعفر بن أبي طالب كان إذا أتى عمه علياً – رضي الله عنه – وسأله بحق أخيه جعفر – والذي هو أبو السائل – قضى عليٌّ حاجته؛ لأن له منزلة عنده، وهذا من باب إكرام الأخ لأخيه؛ فإذن هذا السؤال بالمنزلة والسبب والحق وما شاكل هذا، وهذا الباب من التوسل لا حرج فيه وجائز بالاتفاق – كما ذكرنا – وعلى هذه تنزل قراءة حمزة، وأحد التوجيهين في قراءة الجمهور من قول الله جل وعلا (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام) .
فـ (الأرحام) قرئت بالنصب، وهي قراءة الجمهور (التسعة) وقرئت بالخفض – الكسر – وهي قراءة حمزة فقط، فـ (الأرحام) على قراءة الجمهور، منصوبةً عطفاً على لفظ الجلالة (واتقوا الله) أي: فلا تعصوه، واتقوا (الأرحام) فلا تقطعوها لأنها مما أمر الله به أن يوصل، وحينئذ فلا شاهد فيها على هذه الصورة، وهذا أحد توجيهي الجمهور لنصبها.
(10/76)
و (الأرحام) عن حمزة، بالكسر، هي التي فيها الشاهد بأننا نسأل ونتوسل بحقها ومنزلتها، وهي على أنها معطوفة في هذه الحالة على لفظ الضمير المجرور (به) لا على محله.
والتوجيه الآخر للجمهور لقراءة النصب قالوا: أن (الأرحام) معطوف على محل الضمير المكني (به) لا على لفظه، فمحله هو النصب، ولفظه هو الجر، هذا كما تقول: مررت بعمرَ وزيداً، فعمر محله النصب وإن جر بحرف الجر فلذلك تعطف زيداً على المحل لا على اللفظ، وعلى هذا فالقراءتان بمعنىً واحد تكون في هذا التوجيه شاهد لهذه الصورة، والمعنى: يسأل بعضكم بعضاً بالله ويسأل بعضكم بعضاً بالرحم، فتقول: أسألك بحق الرحم عليك أن تقضي حاجتي، وأنشده بالرحم التي بيني وبينك أن تقضي حاجتي، كما كان ولد جعفر يسأل عمه علياً بالرحم التي بينه وبين أخيه جعفر ...
وقراءة حمزة جرى حولها كلام كثير، ولما شرحتها للطلاب في العام الماضي في المستوى الثاني / الفصل الثاني، أخذت معنا ما يزيد على خمس محاضرات)
س: لو قال شخص: أسألك بحياة أبيك، فما الحكم؟
جـ: قوله أسألك بحياة أبيك كقوله أسألك بمنزلة / برأس / برجل / بعين / بوجه / بشرف أبيك/، كلها سواء، لأن هذا القول توسل إلى مخلوق بمخلوق، وهو جائز – كما قلنا – ليس من باب القسم، وليس من باب التوسل إلى الله، إذ سيأتينا أنه لا يجوز التوسل إلى الله بذات مخلوق أو حياته أو شرفه، وما شاكل كل هذا.
س: هل يجوز أن يسأل شخصٌ بحق ميت؟
جـ: لا حرج في ذلك.
وفي قصة سؤال جعفر علياً رضي الله عنه دليل على ذلك لأن جعفر استشهد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة مؤتة مع زيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة، لكن لأجل مكانته ومنزلته عند أخيه علي رضي الله عنه، كان أولاده بعد موته إذا جاءوا إلى عمهم توسلوا إليه بأبيهم.
الصورة الثانية: أن تسأل الخالق بسبب مخلوق:
(10/77)
قال الإمام ابن تيمية عليه رحمات رب البرية: "ينبغي أن نعلم أن ذوات المخلوقين ليست سبباً لقضاء الحوائج، فلابد من سبب إما من المتوسِل، وإما من المتوسَّل به" إذن عندنا فرعان لهذه الصورة:
الفرع الأول: أن يصدر سبب من المتوسِّل نحو من توسل به يرضاه الله فيصبح توسله بذلك السبب، والتوسل في هذا الفرع شرعي.
مثاله: أن يتوسل المخلوق بمحبته للنبي عليه الصلاة والسلام وباتباعه له في قضاء حاجته، أو قد يقول المتوسل: اللهم إني أسألك بحبي لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي أن تفرج كربي وأن تقضي حاجتي وأن تغفر ذنبي وأن تدخلني الجنة مثلاً.
فهو هنا لم يتوسل بذات المخلوق، بل توسل بفعل منه – أي من المتوسِّل – وهو طاعةٌ فهو كما لو توسل بطاعاته الأخرى، وهو جائز فقال اللهم إني أسألك بإيماني بك أن تغفر ذنبي وهو من أفضل أنواع التوسل.
مثاله من السنة:
ما ثبت في مسند الإمام أحمد والصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه [أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، متى الساعة؟، فقال له ويحك [وفي رواية: ويلك] وما أعددت لها قال: لا شيء (1) [وفي رواية: ما أعددتُ لها كبير صلاة ولا صيام] ، لكني أحب الله ورسوله] وأكرم بهذا العمل، وهل بعد هذا العمل عمل؟!! [فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أنت مع من أحببت] وهذا فيه بشارة عظيمة لهذا السائل.
__________
(1) هذا احتقار لعمله، أي ليس عندي شيء يبيض الوجه وليس عندي من الأعمال الكبيرة التي تسطر وتذكر وتذاع، وهذا حال التقي دائماً يهضم نفسه ويخرج من الدنيا ولم يشبع من أمرين: أ) ثناء على ربه. ب) اعتراف بعجزه وتقصيره ولوم لنفسه، لكن بيّن أن عنده عملا ً جليلا ً جميلا ً، وهو حب الله ورسوله عليه الصلاة والسلام.
(10/78)
لكن الشاهد من الحديث هو قول أنس بعد أن رواه [فما فرحنا بشيء بعد الإسلام فرحنا بقول نبينا عليه الصلاة والسلام: أنت مع من أحببت] ثم قال – وانظر لهذا التوسل منه – [فأنا أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وأرجو أن كون معهم بحبي إياهم] هذا لفظ البخاري وزاد مسلم [فأنا أحب الله ورسوله ... ] .
ولفظ حديث [أنت مع من أحببت] [المرء مع من أحب] هو حديث متواتر، وقد ألف أبو نُعم كتاباً مستقلاً حوله سماه (المحبين مع المحبوبين) تتبع فيه طرق هذا الحديث.
إذن هنا توسلٌ إلى الله بمخلوق لكن جرى من المتوسِّل سبب نحو ذلك المخلوق، ولا حرج في ذلك بإجماع أهل السنة، وأنا أعجب في هذه الأيام حقيقة من المتنطعين الذين تَصْغُر أذهانهم ويضيق عقلهم ويأتي ليزجَّ نفسه في أمر ممنوع – كما سيأتي – فيقول: أسألك بجاه رسولك صلى الله عليه وسلم أن تغفر ذنبي، مع أن الجاه والذات ليست سببا للمغفرة فهذا التوسل أقل ما فيه أن فيه خلافاً وإن كان غير معتبر، فلماذا يترك ذاك المتنطع التوسل الذي لا خلاف فيه ويعمل ما فيه خلاف؟!!!.
(10/79)
مثال آخر أيضاً: ثبت في الصحيحين ومسند الإمام أحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم حتى أووا إلى غار فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا يُنْجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، فقال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قلبهما أهلاً، ولا مالاً، فنأى بي في طلب شيء يوماً، فلم أُرِح] عليهما حتى ناما، فجلست لهما غَبُوقهما (1)
__________
(1) الغبوق شرب اللبن وقت العشي..
(10/80)
فوجدتهما نائمين، فكرهت أن أَغْبِق قبلهما أهلاً أو مالاً فلبثت والقدح على يديّ أنتظر استيقاظهما حتى الفجر، فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة فانفرجت شيئاً لا يستطيعون الخروج، قال النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الآخر: اللهم كانت لي بنت عمٍ كانت أحب الناس إليّ، فأردتها عن نفسها فامتنعت مني حتى ألمتُ بها سنة من السنين، فجاءتني، فأعطيها عشرين ومائة دينار على أن تخلّي بيني وبين نفسها ففعلت حتى إذا قدرتُ عليها، قالت: لا أُحِلُّ لك أن تفض الخاتم إلا بحقه، فتحرّجت من الوقوع عليها، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إليّ وتركتُ الذهب الذي أعطيتُها، اللهم إن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة، غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها، قال النبي صلى الله عليه وسلم وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب، فثمّرتُ أجره حتى كَثُرَت منه الأموال فجاءني بعد حين، فقال: يا عبد الله أدِّ إليَّ أجري: فقلت له: كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق، فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي، فقلت: إني لا أستهزئ بك فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئاً، اللهم إن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون] .
فانظر، هنا الأول يتوسل إلى الله ببره لوالديه، والثاني توسل إلى الله بعفته، والثالث بأمانته، لذلك لو وقعت في كرب فقل – مثلا ً– أسألك يا ربي ببري لوالدي أن تفرج كربي فهو جائز بالإجماع.
إخوتي الكرام ... هذا الحديث للإمام ابن الجوزي رحمه الله تعليقُ بديع حوله في كتابه صيد الخاطر، والكتاب نافع احرصوا على شرائه ففيه خير كثير، ولم يؤلفه في موضوع معين بل كان يقيد فيه ما يعنّ له من فوائد واستنباطات وإرشادات وتوجيهات.
(10/81)
يقول في صـ321 من الكتاب كلاماً في منتهى الإحكام، وكأن المعلق عليه لم يَرُق له هذا الكلام فانتبهوا لذلك!!!
يقول: "التقرب إلى الله عز وجل إذا تم على الإنسان لم ير لنفسه عملاً وإنما يرى إنعام الموفق (1) لذلك العمل الذي يمنع العاقل أن يرى لنفسه عملاً أو يعجب به (2) وذلك بأشياء" هذه الأمور منها أن الله وفق لهذا العمل، ومنها أنه إذا قيس ذلك العمل بالنعم لم يفي بمعشار عشرها، ومنها ... منها.... ومنها...." ثم يقول:
__________
(1) الموفق هو الله ولذلك الحديث [فمن وجد خيراً فليحمد الله] .
(2)) أي أنك وفقت لعمل صالح فلا تنظر إلى العمل، إنما تنظر إلى الموفق، فلا تهتم بالعمل ولا تصاب بغرور ولا إدلال، وهذا هو ما قاله الصحابي [ما أعددت لها كبير صلاة ولا صيام] .
(10/82)
"وهذا شأن جميع العقلاء فرضي الله عن الجميع" ثم ذكر بعد ذلك قصصاً كثيرة منها: قول الخليل إبراهيم (والذي أطمع أن يغفر لي) فلم يُدّلَ بعمل بل يطمع من الله بالمغفرة، ومنها قول أبي بكر وهل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله، وذلك لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما نفعني مال كمال أبي بكر، فقام أبو بكر وقال ذلك، فانظر لحال العقل الكامل، وهكذا أورد كلاماً لعدد من الصالحين ثم يقول: "وهذا شأن جميع العقلاء فرضي الله عن الجميع" فإذن هذا فعل عقلاء هذه الأمة، وانظروا لصلحاء بني إسرائيل، ومنهم هؤلاء الثلاثة يقول:"وقد روي عن أقوام من صلحاء بني إسرائيل يدل على قلة الإفهام لما شرحتُه لأنهم نظروا إلى أعمالهم فأدلوا بهما (1) ، فمنه حديث العابد الذي تعبد خمسمائة سنة في جزيرة، وأخرج الله له كل ليلة رمانة، وسأله أن يميته في سجوده فإذا حشر قيل له: ادخل الجنة برحمتي قال: لا بعملي، فيوزن جميع عمله بنعمة واحدة فلا يفي، فيقول: يا رب برحمتك (2) ،
__________
(1) أدلّوا بها: يعني تقربوا بها ورأوا لها مكانة تستحق أن تطلب حاجةٌ بسببها.
(2) حديث العابد رواه الحاكم في مستدركه (4/251) ، وقد أوردته لكم مختصراً، وأوله: [أن رجلا كان في جبل وطلب أن يخرج الله له عيناً يشرب منها (أي حتى لا يختلط بالناس) وأن يخرج له شجرة رمان فأخرج الله له عيناً وشجرة رمان كانت تحمل كل يوم رمانة فيأكل الرمانة ويشرب من الماء ويتعبد في صومعته، وسأل الله أن يميته وهو ساجد فأماته....] .إلخ الحديث – وفيه [فيحاسبه الله على نعمة البصر فلا تفي عبادة خمسمائة سنة] ثم قال جبريل: [يا محمد إنما الأشياء برحمة الله جل وعلا] ، ثم قال الحاكم: وهذا حديث صحيح الإسناد، فإن سليمان بن هَرم العابد من زهاد أهل الشام والليث بن سعد لا يروي عن المجهولين" وعلق الذهبي على هذا الحديث في تلخيصه للمستدرك: "صحيح!! قلت لا والله، وسليمان غير معتمد، وقال في ميزان الاعتدال – أي الذهبي – في ترجمة سليمان بن هرم: "قلت: لم يصح هذا، والله يقول (ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون) ، ... ولكن لا يُنجي أحداً عملُه من عذاب الله كما صح، بلى أعمالنا الصالحة هي من فضل الله علينا ومن نعمه لا بحول منا ولا قوة، فله الحمد على الحمد له" إذن كأن الحافظ الذهبي يريد أن يقول الحديث ضعيف لأن فيه هذا المجهول، وأراد أن يؤكد هذا فقال الحديث يعارض نصوصاً، فأراد أن يرده من جهة المعنى، وقبله أراد أن يرده من جهة السند.
قلت: أما من ناحية سليمان بن هرم (أي من ناحية السند) فكأن الحافظ ابن حجر في لسان الميزان لم يرتضِ كلام الذهبي، فنقل هنا كلام الحاكم عن سليمان وأقره فقال: "وقد قال الحاكم عقيب رواية الحديث والليث بن سعد لا يروي عن المجهولين" فكأنه يريد - أي ابن حجر – أن يقول إن سليمان بن هرم ليس بمجهول.
وأقول أيضاً: الحديث صحيح الإسناد وما فيه إلا سليمان بن هرم فقد جرى حوله كلام وكأن الحافظ ابن حجر يوافق الحاكم على أن سليمان ليس بمجهول وأما من ناحية المعنى فالمعنى صحيح أيضاً، وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [لا يدخل أحد الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله، قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته] ، وقد حقق الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه مفتاح السعادة ومنشور ولايتي العلم والإرادة (1/8) حقق هذا المبحث غاية التحقيق وقال عند حديث [لا يدخل أحد الجنة بعمله] وقوله تعالى (ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون) : "وصفوة الكلام أن الباء هنا ليست بمعنى الباء هناك" أي الباء في الحديث غير الباء في الآية، فهي في الحديث للمعارضة والمقابلة، وفي الآية الباء للسببية أي جعل الله الأعمال منا سبب لذلك الجزاء بفضله ورحمته، لا أن العمل منا يستحق الجنة، أو أنه يكون عوضاً عنها، نستحقه كما نستحق في هذه الحياة عوضاً عندما ندفع ثمناًً مقابل سلعة، فهذه ليست مبايعة ومعاوضة فنحن لا نعمل والجنة تكون في مقابل العمل، بل نحن نقوم بواجب علينا وحق لله – وهو عبادته – دخلنا الجنة أم لا، فهذا هو الفرق بين الباءين، ثم قال ابن القيم كلاماً ينبغي أن ترددوه وأن تنقشوه في قلوبكم: "كل من ينجو من النار فبفضل الله، وكل من يدخل الجنة فبرحمة الله، وأهل الجنة يقتسمون منازلهم على حسب أعمالهم".
إذن عندنا أمران لا دخل للعمل فيهما، النجاة من النار والدخول في الجنة، لكن منازل الجنة هذه بحسب عمل الإنسان.
فمن نجا من النار فبفضل الله، ومن دخل الجنة فبرحمته، وكل من ألقي في النار فبعد له يقول الشاعر:
ما للعباد عليه حق واجب ... كلا ولا يسعى لديه ضائع
إن عذبوا فبعد له أو فعموا ... فبفضله وهو الكريم الواسع
فالآن هذا العابد هو حاله كحال الصحابة الذين كانوا يستصغرون أعمالهم؟
شتان بين الاثنين، فانظر لهذا العبد المسكين كيف يُدلّ بعمله يقول الله له: ادخل الجنة برحمتي فيقول: بل بعملي!!!.
ولذلك قال ابن الجوزي: "وقد روي عن قوم من صلحاء بني إسرائيل ما يدل على قلة الأفهام لما شرحته لأنهم نظروا إلى أعمالهم فأدلّوا بها".
(10/83)
وكذلك أهل الغار الذين انطبقت عليهم الصخرة فإن أحدهم توسل بعمل كان ينبغي أن يستحي من ذكره – وهو أنه عزم على الزنا ثم خاف العقوبة فتركه – فليت شعري بماذا يُدلّ من خاف أن يعاقب على شيء فتركه لخوفه العقوبة (1) إنما لو كان مباحاً فتركه كأن فيه ما فيه، ولو فَهِم لشغله خجله من الإدلال، كما قال يوسف: (وما أبرئ نفسي (2)) والآخر ترك صبيانه يتضاغنون إلى الفجر ليسقي أبويه وفي هذا البر أذىً للأطفال (3) ، لكن الفهم عزيز، وكأنهم لما أحسنوا قال لسان الحال أعطوهم ما طلبوا، فإنهم يطلبون أجرة ما عملوا، ولولا عزة الفهم ما تكبر متكبر على جنسه، ولكان كل كامل خائفاً محتقراً لعمله حذراً من التقصير في شكر ما أنعم عليه، وفهم هذا المشروح ينكّس رأس الكبر ويوجب مساكنة الذل، فتأمله، فإنه أصل عظيم" أ. هـ إي والله إنه أصل عظيم، وما رأيت هذا المعنى إلا في صيد الخاطر، وهو أن هؤلاء توسلوا إلى الله بعمل كان ينبغي أن يستحي بعضهم من ذكره، لكن الفهم عزيز، فقضى الله حاجتهم، وهو أرحم الراحمين.
إذن أن يصدر سبب من المتوسل نحو المتوسل به، وهذا هو أحد الفرعين للصورة الثانية.
الفرع الثاني: أن يصدر سبب من المتوسل يقتضي حصول طلبك والتوسل في هذه الحالة أيضاً شرعي.
__________
(1) أي ترك الشيء لخوف منه لا يستحق الرجل عليه أجراً، وهذا كما لو ذهب شخص إلى الأمير وقال له: أنا لن أسلبك، لأنني أخشى أن تقطع رقبتي فأسألك بعدم سلبي لك أن تعطيني ألف درهم. فهل يستحق هذا الألف؟ كلا ... لأنه ترك سلب الأمير خوفاً من العقوبة لا إجلالاً له.
(2) المعتمد أن (وما أبرئ نفسي من قول) امرأة العزيز.
(3) أي هو من ناحية بر ومن ناحية أخرى أذىً، وكان بإمكانه أن يسقي الأطفال ثم ينتظر أبويه حتى يستيقظا.
(10/84)
مثاله: أن يتوسل مخلوق إلى مخلوق فيقوم المتوسل به فيدعو يشفع للمتوسل أو: أن يقول شخص: نتوسل إليك يا رب بالعبد الصالح فلان – ولابد من أن يكون موجوداً بينهم ليس بغائب – فيقوم ذاك العبد الصالح ويقول: يا رب اقض حاجتهم وفرج كروبهم والطف بهم وردّ عنهم عدوهم، إذن دعا لنا ونحن طلبنا من الله أن يجيب دعاءه.
كذلك: إذا جرى من المتوسَل به سبب نحو المتوسِل إلى المتوسِل إليه وهو الله جل وعلا فدعا لك من توسلت به، وشفع لك.
وهنا أنت لم تتوسل بذات المتوسل به، ولا بجاهه ولا بمنزلته بل بسبب صدر وجرى منه من دعاء وشفاعة وطلب ونحو هذا.
مثاله من السنة: ثبت في صحيح البخاري (2/495- مع الفتح) عن أنس رضي الله عنه قال: [إن عمر بن الخطاب كان إذا قَحِطوا (1) استسقى بالعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، فيقول – أي عمر: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا (2) عليه الصلاة والسلام فتسقينا وأنا أتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، قال أنس: فيسقون] .
وورد في رواية الإسماعيلي (3) عن أنس رضي الله عنه قال: [كانوا إذا قحطوا عهد عهد رسول صلى الله عليه وسلم استسقوا بالنبي عليه الصلاة والسلام، فيستسقي لهم فيسقون، فلما كانت إمارة عمر رضي الله عنه استسقى عمر بالعباس] رضي الله عنهم أجمعين.
وورد في المصنف لعبد الرزاق أن عمر رضي الله عنه قال بعد أن قال ما تقدم في صحيح البخاري: [قال للعباس: يا عباس يا عم رسول الله صلى الله عليه وسلم قم فادع] أي نحن طلبنا من الله أن يقضي حاجتنا بدعائك، فقم ونفذ هذا الطلب وادع لنا ليقضي الله لنا حاجتنا.
__________
(1) أي أصابهم القحط والجدب.
(2) أي بدعائه في حياته صلى الله عليه وسلم
(3) الاسماعيلي عمل مستخرجاً على صحيح البخاري، أي روي أحاديث البخاري نفسها، لكن بأسانيد لنفسه ويسمى مستخرج الاسماعيلي.
(10/85)
وورد في كتاب الزبير بن بكار في تاريخ المدينة المشرفة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال عندما قحطوا: [إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرى العباس للعباس ما يرى الولد للوالد – أي من المنزلة – فاقتدوا برسول الله صلى الله عليه وسلم في عمه العباس واجعلوه وسيلة لكم بينكم وبين الله] والمراد بالوسيلة هنا الواسطة الذي سيدعوا ونحن نؤمن على دعائه.
وثبت في كتاب الزبير بن بكار أن العباس رضي الله عنه دعا فقال: [اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب ولا يرفع إلا بتوبة وقد توجه (1) القوم بي إليك لمنزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه أيدينا إليك بالذنوب (2) ونواصينا إليك بالتوبة فاسقنا الغيث] قال: أنس رضي الله عنه: فأرخت السماء مثل الجبال (3) حتى أخصبت الأرض وعاش الناس] .
وهذا الذي فعله عمل لم يفعله تخرصاً من رأيه ولا اجتهاداً من ذهنه ـ إنما فعله بناءً على أثر ثابت – كما ذكرنا – عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه كان يوجه أمته إلى مثل هذا التوسل، وهو أن نتوسل بدعاء فلان.
__________
(1) أي توسلوا بي إليك.
(2) أي مغفرة مقرة وتائبة منيبة.
(3) هذه الكلمة وردت في الفتح (الجبال) وأخشى أن يكون تصفحاً وأن يكون الصواب (مثل الحبال) أي مثل الحبال المدلاة، فالمطر منصب كأنه حبال متصلة وصلت السماء بالأرض، وإن كان (الجبال) فالمعنى أنه نزل مطر كثير غزير يشبه الجبال من كثرة تصببه واندفاعه وأنه صار سيولاً عظيمة والعلم عند الله.
(10/86)
إخوتي الكرام..... بالنسبة للجدب الذي يقع فيه الناس ينبغي أن يتوبوا إلى الله جل وعلا وأن يلجأوا إليه ليغيثهم ويفرج كروبهم، واستسقاء عمر كان في عام الرمادة الذي وقع سنة (18) هـ وفي ذلك العام لم ينزل من السماء قطرة ماء وبقي الحال على ذلك تسع أشهر، وسمي رمادة لأن الأرض صارت كالرماد ينسف نسفاً فليس فيها حشيشة خضراء ونتيجة لذلك كادت المواشي أن تهلك وتموت، ويموت الناس تبعاً لذلك لاسيما في العصر الأول لأن قوتهم من الأرض ومن هذه المواشي التي تتغذى على الأرض فاشتد الأمر على المسلمين ثم قدم عمر رضي الله عنه العباس فاستسقى فسقي الناس.
والعباد عندما تكثر منهم المعاصي يبتليهم الله جل وعلا بأنواع المحن، ولما حصلت رجفة في المدينة المنورة قال عمر: "أحدثتم والله، والله لو رجفت ثانية أساكنكم فيها وسأخرج منها" فالقحط يقع عندما يعصي العباد ربهم كما قال العباس [ما نزلت عقوبة إلا بذنب ولا ترفع إلا بتوبة] وهكذا الزلازل والفيضانات التي تقع هذه الأيام في بلاد الكفر ونسأل الله أن يغرقهم على بكرة أبيهم كما غرّق قوم نوح، إنه على كل شيء قدير، وأن يلهمنا رشدنا وأن يتوب علينا.
(10/87)
ووالله الذي لا إله إلا هو ما يمنع الله عقوبته عن الكفار إلا لفساد فينا، ولو كان فينا صلاح واستقامة لأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا، فإذا كنا ضعافاً وليس عندنا قوة على مقاومتهم فإن معنا القوي الذي يمكر من حيث لا يعلم العباد، وأسلحتهم التي يجبرون بها ويتكبرون يدمرهم الله بها والله على كل شيء قدير، كما دمر أهل اليمن عندما فعلوا ما فعلوا وعتوا عن أمر ربهم، دمرهم بالسد الذي بنوه كما قال تعالى: (لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق الله واشكرا له بلدة طيبة ورب غفور فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم (1) وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتى أُكُلٍ خمطٍ وأثلٍ وشيء من سدر قليل ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور) .
وهكذا تلك البلاد التي تجبرت وتكبرت وأنعم الله عليها فطغت وبطرت ولو وجد عندنا ما يستدعي عقوبتها لعاقبها الله، لكن يوجد عندنا من ينبغي أن يعاقب قبل أولئك، وما تأخرت عقوبتنا أيضاً إلا لما فينا من بقايا الصالحين.
يذكر ابن كثير في (البداية والنهاية) في حوادث 718 هـ، وكان قد أدرك ذلك الأمر وهو في سن السابعة عشر تقريباً، فيخبر عن القحط الذي وقع في بلاد المشرق في الجزيرة بلغ عن ذلك القحط أنهم أكلوا الجيف ونبشوا القبور وأكلوا الموتى وأكلوا الكلاب، حتى أن الأم بدأت تأخذ ولدها وتبيعه من أجل أن يستعمله ويعطونها ثمناً خمسين درهماً، وبدأ الناس يذبحون أولادهم أيضاً ليأكلوهم ويذكر أبو شامة في كتابه (الذيل على الروضتين) أنه حدث في سنة 597 هـ ما لا يخطر ببال بشر، كان الناس يدعون الأطباء إلى بيوتهم بحجة العلاج فإذا دخلوا ذبحوهم وأكلوهم حتى أنهم أكلوا القطط والكلاب أيضاً ونبشوا القبور وأكلوا الموتى والجيف، حتى أن الأم كانت تمسك ولدها ليذبحه الوالد وأكلانه، وصلب السلطان كثيراً من الناس الذين فعلوا هذه الفعلة الشنيعة.
__________
(1) هو سيل العرم، بنوه، وجعل الله حتفهم فيه.
(10/88)
وهذه النعم التي الآن نأشر بها ونبطر، والله الذي لا إله إلا هو أتوقع زوالها أكثر من توقعي لمجيء الغد، وقدر الله إذا حلَّ ونزل ينزل كلمح البصر وليس له نذر تتقدمه (حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس) ولا يوجد عصر تنطبق عليه هذه الآية كعصرنا، فنسأل الله لطفه ومعونته وستره إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
س: ما الفرق بين البلاء والابتلاء؟
جـ: إذا نزل البلاء بالإنسان واعتبر به وحسَّن حاله فهذا مكفر له، وإذا نزل البلاء بالإنسان ولم يكن هناك اعتبار منه ولا انزجار فهذه نقمة له.
(10/89)
مثال آخر له: - كتوسل عمر بالعباس – ثبت في مسند الإمام أحمد وسنن الترمزي وابن ماجة، ومستدرك الحاكم بسند صحيح عن عثمان بن حُنَيْف أن رجلاً ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادع الله أن يعافيني، قال: إن شئت دعوتُ لك، وإن شئت صبرت فهو خير لك، فقال: بل ادع (1)
__________
(1) أي أريد أن يعود إلي بصري، وهذا لا حرج فيه لكن لو صبر لكان أفضل، وهذا ونظائره من الأدلة – كما قال أئمتنا – يؤخذ منه أن الصبر على المرض خير من التداوي، وقد ثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لعطاء [ألا أريك امرأة من أهل الجنة، فقال بلى، فقال: هذه المرأة السوداء جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت يا رسول الله إني أصرع وأتكشف، فادع الله لي أن لا أصرع فقال: إن شئتِ دعوت لك، وإن شئتِ صبرت ولك الجنة – فكان جوابها خير من الأعمى – قالت: بل أصبر يا رسول الله، لكن ادع الله لي ألا أتكشف، أي عندما أصرع وأقع أخشى أن يبدو مني شيئ أكرهه – فدعى الله لها أن لا تتكشف] ففي هذا الحديث دليل على أن الصبر على المرض عزيمة والتداوي رخصة، وهذا هو المقرر عند أهل السنة والجماعة ومن صبر على المرض حتى مات دخل الجنة، ومن صبر على الجوع مع قدرته على الأكل حتى مات دخل النار، انتبه لأن ذلك سبب يفضي إلى المسبَّب حتماً حسب ما ربط الله الأسباب بالمسببات، وأما هذا فكما تقدم معنا إما ظن وإما وهم فليس هو سبب لحصول الشفاء قطعاً وجزماً فقد تأخذ العلاج ويزداد مرضك وذكرت لكم حوادث في ذلك، وكم من إنسان أجريت له عملية ومات فالتداوي رخصة والصبر عزيمة، وهذا الأمر لو رعيناه لما أكثرنا من فتح المستشفيات، لكن لم تظهر الفاحشة في قوم إلا فشى فيهم الأوجاع التي لم تكن في أسلافهم، فهذا عقوبة من رب العالمين لعباده عندما ينحرفون عن شرعه (مخدرات – عهر – فجور – لواط- ... ) .وهذا سينتج عنه أمراض خبيثة كثيرة كالهِرْبز والإيدز الذين انتشرا في بلاد الغرب ولا يعرف لهما علاج فهو موت بطيء للمصاب بهما، وحقيقة كثير من الأمراض نسمع بها لم يكن أسلافنا يعلمون بها.
(10/90)
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: توضأ فأحسن الوضوء ثم صلِّ ركعتين وقل (1) اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضي لي اللهم فشفعه فيّ (2) ] زاد الحاكم: [وشفعني فيه] ، فما برح الأعرابي من مكانه حتى رد الله عليه بصره.
فهنا الأعرابي توجه لله سبحانه وتعالى بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، وليس بذاته فانتبهوا!! رحمة الله على الإمام النووي يذكر عند شرحه للحديث المتفق عليه [الكمأة من المن (3)
__________
(1) أي قل الدعاء فهو الآن يتوسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم.
(2) أي اقبل دعاءه عندما يدعو لي بأن يرد الله بصري ومعنى (وشفعني فيه) أي اقبل يا ربي دعاء نبيك صلى الله عليه وسلم في أن ترد علي بصري، أي قال له النبي صلى الله عليه وسلم أنا سأدعو لك، وأنت اطلب من الله أن يقبل دعائي، ليحصل الطلب من جهتين وليعظم الانكسار لله عز وجل ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم كافٍ، لكن من أجل أن يرغب هذا السائل بالخير فقال له توسل إلى الله بي، أي بدعائي، وسل الله أن يجيب دعائي، وليعلم هذا السائل أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما يدعو فهو بشر، وليس هو كحال الرب جل وعلا يرد البصر من نفسه، وأيضاً حتى لا يحصل في هذا النبي صلى الله عليه وسلم غلو كما حصل في عيسى عليه السلام، إذن أنا أشفع لك بأن يرد الله بصرك وأن ِ اشفع لي في أن يُقبل دعائي لك برد بصرك.
(3) أي حالها كحال المن الذي مَنَّ الله به على بني إسرائيل، فهي لا يزرعها العباد إنما تتصدع الأرض في أيام الشتاء وتخرج منه الكمأة كالبطاطس، فتخرج بلا زراعة ولا كلفة وبلا بذور.
وجاء في الفتح: الكمأة نبات لا ورق له ولا ساق يوجد في الأرض من غير أن يزرع، يخرج إلى سطح الأرض ببرد الشتاء وينميه مطر الربيع فيتولد ويندفع متجسداً ولذلك كان بعض العرب يسميه جدري الأرض.
(10/91)
وماؤها شفاء العين] في شرح صحيح مسلم أن بعض شيوخه في بلاد الشام عَمِيّ، فتداوى بالكمأة تبركاً بإشارة النبي صلى الله عليه وسلم إلى العلاج الذي فيها للعين، فأخذها وغلاها في الماء وبدأ يقطر هذا الماء في عينيه فما مضت عليه إلا أيام يسيرة حتى عاد إليه بصره بإذن الله.
والتداوي بالقرآن وهكذا التداوي بعد ذلك بالأدوية النبوية التي أخبرنا بها خير البرية عليه صلوات الله وسلامه، هذه حجبنا عنها بما عندنا من الأدوية المركبة، وقد كان يكفينا العلاج القرآني والنبوي، ومن ينظر في المجلد الرابع من كتاب زاد المعاد يجده كله من أوله لآخره يتكلم عن الطب والعلاج، ويذكر أحاديث نبوية وأذكاراً تقال عند بعض الأمراض كالأرق، واللدغ، ونحوهما ... وهذا الذي حصل للضرير الذي جاء للنبي صلى الله عليه وسلم يعتبر خارقاً للعادة ويسمى معجزة لأنه جرى على يدي نبي.
س: هل لما طلب الأعرابي العلاج بعد التخيير لن يدخل الجنة؟
جـ: قطعاً سيدخل وليس عندنا شك في ذلك، فهو لما قال له إن شئت صبرت فهو خير لك أي لك الجنة ليس المراد من هذا أنه إن صبر له الجنة بل المراد شيئاً أعلى من البشارة بالجنة فهو إن صبر له الجنة مع رفعة المكانة، وإن لم تصبر فليس لك هذه الرفعة للمكانة إنما لك الجنة مصداقاً لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم – في البخاري – [إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه – أي عينيه – فصبر، عوضته منهما الجنة] ثم إنه صحابي مؤمن، والمؤمنون في الجنة فكل من بُشر بالجنة هو ليس له بشارة بالدخول فقط، بل له بشارة بالدخول مع شيء آخر مع ذهاب الخوف والفزع يوم الفزع الأكبر مع منزلة خاصة ...
وسأضرب لذلك مثلاً: لو أن إنساناً عمل حفلة ودعى الناس إلى هذه الحفلة دعوة عامة بحيث أن كل من جاء سيدخل، لكنه وجه بطاقات دعوة خاصة لأشخاص مقربين، فإذا جاء الناس إلى الحفلة كلهم سيدخلون لكن من عنده بطاقة دعوة ستأخذه إلى غرفة خاصة، فهم الآن لهم شأن، ولله المثل الأعلى.
(10/92)
فهذا إذا بُشر ونحن إذا أكرمنا الله ودخلنا الجنة فيكون كلنا قد دخلها، هو ونحن لكن هو له اعتبار خاص ومزية خاصة إن كان قد صبر، وإن لم يصبر فله أيضاً مزية وهي بسبب الصبر على هذه البلية، هذا هو المعنى وليس المعنى أنه إن دعا له النبي صلى الله عليه وسلم فلن يدخل الجنة، ونحن نجزم أن الصحابة كلهم من أهل الجنة لكن دون تحديد لأعيانهم إلا من ورد فيه النص، كما أننا نجزم بأن جنس المؤمنين كلهم من أهل الجنة لكن دون تحديد لأعيانهم لأننا لا ندري بأي شيء سيختم لهم، لكن لو علمنا أن هذا خُتم له على الإيمان فهو من أهل الجنة قطعاً وجزماً، وسيدخلها إن عاجلاً مع الباقين، أو آجلاً بعد أن يعذب ويطهر، لا، الله أعطانا عهداً بأن من ختم له على الإيمان سيدخله غرف الجنان.
إخوتي الكرام.... هذا الحديث – حديث عثمان بن حنيف – قال عنه الإمام الشوكاني في كتابه (تحفة الذاكرين) صـ37 وصـ138 صلاة الحاجة: "في هذا الحديث دليل على جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، مع اعتقاد أن الفاعل هو الله، وأنه المعطي المانع ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن".
وهذا الكلام الذي قاله الشوكاني لا يزيل الإشكال الذي زيد إزالته، فنقول: إن هذا التوسل ليس بذات النبي صلى الله عليه وسلم، فكان ينبغي أن يقول: "إن هذا التوسل بدعائه ... " ولذلك عَلّقوا على كلام الإمام الشوكاني، قال شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله، في كتابه النفيس (قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة) واحرصوا على هذا الكتاب فهو أحسن ما كتب في التوسل، قال في صـ65: "وهذا التوسل – أي توسل الأعمى بالنبي عليه الصلاة والسلام هو من النوع الثاني" أي من التوسل بدعاء المتوسَل به، فهو كنظير توسل عمر بالعباس رضي الله عنهم أجمعين.
إخوتي الكرام.... إذن لابد من سبب إما من المتوسِل نحو المتوسَل به وإما من المتوسَل به.
الرسم التخطيطي
(10/93)
بعد أن انتهينا من هذه المسألة المهمة عندنا سؤال، وهو يرد على كثير من الأذهان فلابد من الجواب عليه.
سؤال: لو قال قائل: أسألك يا رب بجاه / بمنزلة / بشرف / بنبوة / بمكانة / نبيك صلى الله عليه وسلم أن تقضي حاجتي وكذلك لو قال أسألك يا رب بجاه / بمنزلة / بشرف / بنبوة / بمكانة / أبي بكر رضي الله عنه أن تقضي حاجتي وكذلك لو قال في حق غيرهما أيضاً، وهذا النوع فاشٍ في هذه الأيام، فهل يجوز التوسل بهذه الكيفية أم لا؟
والجواب: أنه لا يجوز مثل هذا النوع من التوسل ويمكن تقرير هذا الجواب بخمسة أجوبه:
الجواب الأول: أننا نعلم يقيناً أنه لا حق للمخلوق على الخالق فمن توسل بحق مخلوق على الخالق، فقد خالف الأمر الشرعي.
(10/94)
فإن قيل: ورد عن نبينا عليه الصلاة والسلام حديث يشير إلى أن للمخلوق حقاً على الخالق، والحديث في المسند والصحيحين عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: [كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار اسمه عُفير، وليس بيني وبينه إلا مثل مؤخرة الرحل (1) فقال لي: يا معاذ قلت: لبيك رسول الله وسعديك (2) ، فسار النبي صلى الله عليه وسلم ساعة (3) ، ثم قال ثانية: يا معاذ، قلت لبيك رسول الله وسعديك ثم سار ساعة، فقال في الثالثة: يا معاذ، قلت: لبيك رسول الله وسعديك، فقال: أتدري ما حق الله على عباده؟، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، ثم سار النبي عليه الصلاة والسلام ساعة فقال في الرابعة: يا معاذ، قلت: لبيك رسول الله وسعديك] انتبه!! [قال أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوه (4) ،
__________
(1) مؤخرة الرحل: هي الخشبة التي توضع على ظهر البعير لأجل أن يتمسك بها أو يستند إليها الراكب عندما يركب والمراد لم يكن بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم إلا حاجز يشير بمقدار شبر وهذا من تواضعه صلى الله عليه وسلم أنه يركب على الحمار ويردف أصحابه خلفه.
(2) (لبيك) ألبَّ بالمكان إذا قام به وعكف عليه ولزمه، والمراد أنا مقيم على طاعتك مواظب على سماع أوامرك (سعديك) إسعاداً لك بعد إسعاد وهو من باب الدعاء، أي أنا مقيم على طاعتك وأدعو لك بالسعادة فمرني بما شئت وهذا من أدبه رضي الله عنه.
(3) أي فترة من الوقت، وليست بالساعة الزمنية.
(4) أي إذا عبدوا الله ولم يشركوا به شيئاً، وقد قال تعالى (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) ، وكان كل رسول يقول لقومه (اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) ..
(10/95)
قلت الله ورسوله أعلم، قال: حقهم على الله ألا يعذبهم، قلت: يا رسول الله، أفلا أُبشّر الناس، قال: لا تبشرهم فيتكلوا] أي خشية أن يصبح عندهم شيء من الغرور والأماني وترك العمل ويقولوا ما دمنا موحدين فلن يعذبنا الله، فيفتر عزمهم في الطاعات – وهذا حال البشر – فلا يتهجدون ولا يتنفلون ولا يكثرون من الصدقة ولا من الذكر ولا من الدعاء ولا يتنافسون في أمور الخير (1) .
إخوتي الكرام ... الشاهد أنه أوجب لهم حقاً في هذا الحديث ونقول: لا إشكال في هذا الحديث، لأن هذا الحق هو محض فضل من الله ومحض كرم منه والعبد لا يستحق هذا على ربه لأنه مخلوق له وتوفيقه بالطاعة هو من فضل الله، فكيف إذن يستحق على الله شيئاً؟!!
وقد تقدم معنا أنه لن ينجو أحد النار إلا بفضل الله، ولن يدخل الجنة إلا برحمته:
فإن يثيبنا فبمحض الفضل ... وإن يعذبنا فبمحض العدل
__________
(1) إخوتي الكرام كثير من الناس يحملون أخبار الوعد على غير محلها مع أن أخبار الوعد ينبغي أن تدعوك لزيادة العمل لا للفتور عن العمل، ولذلك كل رجاء لا يبعث على عمل فهذا غرور وأماني لا صحة له، فمثلاً: أنت إذا كنت تريد أن تتزوج زوجة فتطلبها أم تهرب منها وتبتعد؟ بل تطلبها وتكدح وتعمل وتقدم الهدية بعد الهدية لأنك راج ٍ، ومن علامة الرجاء الطلب لا الهرب، ولذلك كان سلفنا يقولون: "عجبنا من الجنة نام طالبها، وعجبنا من النار نام هاربها" إذن في حال الرجاء طلب وفي حالة الخوف هرب، وقد وقع في هذا كثير من طلبة العلم فهو لما سمع (أن النظرة إلى المرأة صغيرة) قال ما دامت صغيرة فلا مانع من أن أنظر وسمع قيام الليل سنة والسنة لا يعاقب تاركها، إذن لا داعي أن أقوم الليل، وصلاة الفجر مستحبة قال: إذن لا عليّ شيئاً في تركها، فهل هذا طالب علم شرعي؟!! العلم هو ما يكسبك خشية الله، وإذا لم يُكسبك خشية وبال عليك.
(10/96)
إذن فحق العباد هنا هو تفضل الله به عليهم، وقد ثبت في سنن أبي داود وابن ماجه وصحيح بن حبان ومسند الإمام أحمد عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أن النبي قال: [لو عذب الله أهل سمواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم] وهذا محض عدل [ولو رحمهم لكانت رحمته خيراً لهم] أي: خيراً من أعمالهم.
إذن فأنت عندما تقول: أسألك بحق نبيك، فهل للمخلوق حق على الخالق؟ لا، وقد تقدم معنا أنه "لو عذب الله وحاسب نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم وعيسى بن مريم بما جنت السبابة والإبهام لعذبهما ثم لم يظلمهما" ولو عذب الله جبريل فمن دونه من المخلوقات في العالم الأعلى والأسفل لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم.
تنبيه:
إن قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى معاذاً عن البشارة وقد بلغنا، وقد ورد في آخر الحديث، فأخبر معاذ بها – أي بهذه البشارة – عند موته تأثماً أي خشية الإثم، فكيف ينهى عن التبشير ثم يبلغ ويبشر بهذا الحديث؟
أجاب العلماء عن ذلك بأربعة أجوبة:
أولها: وهو اختيار الحافظ ابن حجر، وهو: أن معاذاً فهم من المنع كراهة التنزيه (خلاف الأولى) أي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهاه مرشداً له إلى الأكمل، لا أن عليه إثماً إذا أخبر بذلك، فتعارض هذا مع الأحاديث الآمرة بالبيان وعدم الكتمان لحديث [من كتم علماً ألجمه الله بلجام من نار] فأخبر بذلك دفاعاً للوقوع في المحرم وهو الكتمان وإن وقع في خلاف الأولي وهو التبشير.
(10/97)
ثانيها: وهو اختيار القاضي عياض وهو: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد من نهي معاذ عن البشارة النهي لا التحريم ولا التنزيه، إنما أراد أن يكسر عزمه، لئلا يذهب معاذ إلى الأسواق والمجامع وينادي حقكم على الله ألا يعذبكم إذا عبدتموه وبالتالي يحصل سوء فهم لهذه البشارة على حقيقته فكسر عزمه وقال لا تخبرهم أي الآن في هذا الوقت وأنت مندفع ومتحمس، لكن أخبرهم بعد أن تتروى ويخف الأمر على نفسك. وهذا الجواب لعله أوجه الأجوبة.
ثالثها: وقد ذكره القاضي عياض ذكراً فقط، وهو: أن معاذاً فهم المنع والتحريم من النهي، ثم تبين له النسخ بعد ذلك بالأحاديث التي فيها حض على نشر العلم وتحريم كتمانه، فبلغ الحديث. وهو وجه ضعيف، لأنه لو كان الأمر كذلك لما أخر معاذ هذا إلى وقت وفاته.
رابعها: وقد ذكره الإمام ابن الصلاح: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى معاذاً عن البشارة العامة ورخص له بالبشارة الخاصة، وهذا هو الذي فعله معاذ، فإنه لم يخبر الناس في مجامعهم، لكنه أخبرهم عندما احتضر، والعادة أنه لا يحضر مجلس المحتضر إلا خواصه وأصحابه ليسلوه ويثبتوه ويدعوا له فأخبرهم عند موته.
أظهر الأجوبة والعلم عند الله الجواب الثاني، وأما الجواب الثالث ففيه بعد، والجوابان الأول والرابع مقبولان والعلم عند الله.
الجواب الثاني:
(10/98)
إذا قيل: ورد عن نبينا عليه الصلاة والسلام السؤال بحق السائلين وهذا توسل بحق مخلوق، ثبت الحديث بذلك في مسند الإمام أحمد ومسند بن ماجه من حديث أبي سعيد الخدري والحديث رواه الإمام ابن السني في كتابه (عمل اليوم والليلة) من حديث بلال وأبي سعيد الخدري، ورواه أيضاً أبو نُعيم في كتاب الصلاة، وابن خزيمة في كتاب التوحيد، ولفظ الحديث. عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: [من خرج من بيته إلى الصلاة فقال: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا فإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا رياءً ولا سمعةً، خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك، فأسألك أن تعيذني من النار وأن تدخلني الجنة وأن تغفر لي ذنوبي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، من قال ذلك: أقبل الله عليه بوجهه واستغفر له سبعون ألف ملك] فهنا ورد [بحق السائلين] فكيف هذا؟
والجواب: أن السؤال بحق السائلين هو توسل إلى رب العالمين بما جعل الله سبباً لإجابة دعاء المخلوقين وذلك السبب هو: دعاء الله وعبادته، وكأن القائل للدعاء المتقدم يقول: يا رب إنك وعدت السائلين الإجابة وقطعت وعداً على نفسك بذلك لما قلت (ادعوني أستجب لكم) فأسألك بذلك الوعد الذي قطعته على نفسك وأسألك بحق السائلين هذا أن تجيرني من النار وأن تدخلني الجنة وأن تغفر لي ذنوبي (1) وهذا توسل بمعنىً مقبول فإن هناك ارتباطاً وملازمة بين المتوسَل به وبين المتوسِل.
__________
(1) هذا كما لو أن رجلاً مثلاً نشر في جريدة بياناً أن من يأتي إلي بيته في يوم كذا سيعطيه مائة درهم فذهبت ولم يعطك إعانة فتقول له أسألك بشرطك الذي نشرته بعرضك الذي وعدته أن تعطيني مائة درهم.
(10/99)
وليس من هذا النوع سؤال المخلوق الخالق بحق مخلوق أو بصلاحه أو بجاهه أو بمنزلته، لأن كون المخلوق له منزلة وله جاه وله قدر وله شرف وله رتبة ليس ذلك بمعنىً موجب لإجابة الدعاء، فأي مناسبة بين صلاح إنسان ما وبين توسلك إلى الله بصلاحه في إجابة دعائك؟!! وأي مناسبة بين نبوة وجاه ومنزلة النبي صلى الله عليه وسلم وبين دعائك.
ثم إن السؤال بالجاه والمنزلة يستوي فيه الكافر والمؤمن فلو قال الكافر يا رب أسألك بجاه بينك أن تقضي حاجتي، ولو قال المؤمن يا رب أسألك بنبيك صلى الله عليه وسلم – أن تقضي حاجتي لاستوى الأمر، فهذا الكلام لو قاله الكافر لما أمر به ولو صار مؤمناً بقوله هذا، ولو قاله المؤمن لما دل على أنه متبع، بل لابد من سبب منك نحو المتوسّل به، أو منه، أو نفس الجاه والمنزلة فليس بعله في إجابة الدعاء ولا يوجب قضاء الجوائج، ولا يلزم من حصول ذلك الجاه، قضاء حاجتك إلا إذا آمنت به، فقل: اللهم إني أسألك بإيماني بمنزلة نبيك صلى الله عليه وسلم أن تقضي حاجتي، ولا حرج في ذلك، ثم إن التوسل هنا بحق السائلين إنما توسل بأمر قد وعد الله به عباده فآل الأمر إلى توسل بسبب من المتوسِّل، لأن الله قطع على نفسه عهداً أن يجيب السائل، فنحن كأننا نقول: نسألك يا رب بذلك الحق الذي آمنا به وصدقنا أن تجيب دعاءنا والدليل على إيماننا هذا الدعاء منا.
تنبيه:
حديث أبي سعد وبلال هذا ضعيف على انفراده، قال أئمتنا: هو مسلسل بالضعفاء. وقد حكم عليه بالضعف الإمام النووي في الأذكار والإمام المنذري في الترغيب والترهيب، لكن الحافظ ابن حجر عليه رحمة الله حسنه في تخريج أحاديث الأذكار لكثرة طرقه وشواهده.
وعليه فهو ضعيف على انفراده، لكن له شواهد ترفعه لدرجة الحسن، فلا مانع من الدعاء به إذا خرج الإنسان إلى المسجد.
الجواب الثالث:
(10/100)
قررنا في الجواب السابق أن هذا التوسل يؤول في النهاية إلى أنه توسل إلى الله بفعلنا، ويمكن أن يقال هنا في هذا الجواب، أن هذا من باب التوسل إلى الله بأفعاله أيضاً، فالله جل وعلا عندما وعد السائلين العطاء والداعين الإجابة فهذا فعل من أفعاله، ويجوز أن نتوسل إلى الله جل وعلا بأفعاله وصفاته كما يجوز بذاته، فكأننا نقول: يا رب كما أنك تعطي السائلين وتجيب الداعين نتوسل إليك بهذا الفعل الذي يجري منك والذي تكرمت به علينا وأن تقضي حوائجنا وأن تعطينا طلبنا (دخول الجنة، والإجارة من النار، ومغفرة الذنوب) .
وكل من الجوابين أفادهما الإمام ابن تيمية في كتابه الجليل (قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة) من صـ52 إلى صـ65، وأعاده في صـ145 إلى صـ147.
الجواب الرابع: في جواب أنه لا يجوز أن نقول بحق فلان ...
أنه لو كان التوسل بالجاه مشروعاً لاستوى الأمر في ذلك كون المتوسَّل به حياً أو ميتاً وإذا كان الأمر كذلك فجاه نبينا عليه الصلاة والسلام أعلى جاه وأرفعه وأتمه، فلو كان التوسل بجاهه جائزاً لما عَدَل عمر عن التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى العباس، لان جاه نبينا عليه الصلاة والسلام جاه رفيع عالٍ لا يختلف سواء كلن حياً أو ميتاً.
ولم ينقل عن صحابي أنه توسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم، بل غاية ما قاله عمر كما تقدم في صحيح البخاري [إنا كنا نتوسل إليك بنبينا عليه الصلاة والسلام فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا عليه الصلاة والسلام فاسقنا] .
فإذن عدول الصحابة عن التوسل بجاه نبينا عليه الصلاة والسلام بعد موته دل على أنه لا يجوز التوسل بجاهه في حياته لأن الجاه لا يختلف حياً أو ميتاً، نعم كانوا يتوسلون به لكن بدعائه واستشفاعه لا بجاهه، ولو كانوا يتوسلون بجاهه في حياته لتوسلوا بجاهه بعد مماته.
الجواب الخامس: وهو آخر الأجوبة:
(10/101)
نقول: أمور الاعتقاد ينبغي فيها غاية الاحتياط ولو سلمنا جدلاً وتنزلاً – بعد أن قررنا في الأجوبة الأربعة الماضية أنه لا يجوز – لو سلمنا أن هذا النوع من التوسل اختلف في جوازه مع أن المذاهب الأربعة يقولون: "ولا يُسأل الله إلا به (1) فلا تقل: أسألك بملائكتك أو أنبيائك أو رسلك" وهذا نص متن الحنفية في كتاب (الاختيار) وهذا على سبيل المثال لو سلمنا أن فيه خلافاً فتركه متعين عند المهتدي خشية أن يكون فيه ضلال وهو لا يدري فليترك الصيغة المختلف فيها فليقل صيغة لا اختلاف فيها.
إخوتي الكرام.... انتبهوا!! نظير هذه المسألة مسألة شد الرحل لزيارة النبي صلى الله عليه وسلم هل يجوز أم لا؟
فالإمام ابن تيمية قال: لا يجوز شد الرحل لزيارة النبي صلى الله عليه وسلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [لا تشد الرحال إلا لثلاثة مساجد] ، فجاء الإمام السُبكِي ورد عليه بعد ذلك بكتاب سماه (شفاء السقام في زيارة خير الأنام) ، ثم ألف الإمام الحافظ ابن عبد الهادي بعد ذلك كتاباً رد فيه على السبكي سماه (الصارم المُنْكِي في الرد على السُبْكِي) .
__________
(1) أي لا يسأل الله إلا بالله، أو بسبب مشروع كطلب الدعاء من إنسان أو عمل صالح منك تتوسل به إلى الله، إذن فتتوسل إلى الله بالله، وتتوسل إلى الله بدعاء إنسان وتتوسل إلى الله بعمل صالح، والأول أعلى أنواع التوسل أن تتوسل إلى الله بالله يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث [في رواية: بك أستغيث] فأصلح لي شأنيَ كُلَّه ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين.
(10/102)
إخوتي الكرام ... والله ما أدري أن الأمر يستدعي هذا الخلاف الطويل الشديد، ولا أرى هذا مشروعاً، فالمسألة تحل بسهولة، قال لي بعض الإخوة مرة، وأنت ما رأيك في المسألة فقلت: والله إن المسألة أقل من أن نبذل جهداً في حلها، ثم قلت له: هل تجوز زيارة مسجد النبي عليه الصلاة والسلام أم لا؟ قال: بالإجماع تجوز، قلت: وإذا دخلنا المسجد فهل يجوز أن نسلم على النبي عليه الصلاة والسلام وأن نبكي في الروضة المشرفة شوقاً إليه وحزناً على عدم رؤيته أم لا؟ قال: يجوز، قلت: إذن لا خلاف في المسألة، فلماذا بدلاً من أن أقول شددت الرحل إلى زيارة النبي صلى الله عليه وسلم أقول شددت الرحل لزيارة المسجد ثم بعد دخول المسجد أزور النبي عليه الصلاة والسلام، فلماذا لا ينوي من يريد زيارة النبي صلى الله عليه وسلم نية مجمعاً على جوازها ولا يقول لأى أحد إنك قد ابتدعت، لأنه نحن في الأصل لا خلاف بيننا في النهاية أنا وأنت سنزور النبي صلى الله عليه وسلم، لكن اختلافنا في القصد هل نشد الرحل للزيارة المجردة أو للمسجد قلت: ما أحد يشد الرحل للزيارة المجردة، فهل يعقل أن يذهب أحد إليه ولا يصلي فيه مع أن الصلاة فيه تعدل ألف صلاة؟!! وهل يعقل أن يذهب أحد للروضة ولا يصلي فيها؟!! هذا مستحيل.
إذن فالذي يذهب إلى المدينة المنورة فلينو الذهاب إلى المسجد ثم يقول بعد ذلك: سأزور النبي صلى الله عليه وسلم، ولا حرج في ذلك إن شاء الله.
بعض المتوسلين ممن كان يتوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم قال لي – وهو يعلم أنني لا أجيز هذا – وكأنه يريد أن يتحداني -: يا شيخ هؤلاء الوهابية يقولون لا يجوز التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا لم يكن للنبي جاه فمن له جاه؟!
(10/103)
إخوتي الكرام ... لو أردت أن أقابل عنفه بعنف فلن نصل إلى حل، فقلت له: يا عبد الله لا أريد الآن لا وهابية ولا صوفية، هذه الشريعة إسلامية ونحن نعبد الله بها، وأقل ما في هذه الصورة التي تقولها أن فيها خلافاً وعندنا صيغة أخرى تؤدي مدلولها وفيها زيادة عليها ولا خلاف في جوازها، قل: أسألك بحبي لنبيك عليه الصلاة والسلام أن تقضي حاجتي وأرح نفسك وخلص الأمة من الخلافات والمشاكل وهل صار الدين نكاية ببعضنا، فلكوني لا أجيز هذا أنت ستتحداني، بل تعال يا عبد الله لنقل كلمة مجمع عليها، أنا أقول لك جزاك الله خيراً، وأنت تقول لي جزاك الله خيراً، وأنت مهتد وأنا مهتدي إن شاء الله تعالى.
إخوتي الكرام.... بالنسبة لتوحيد كلمة الأمة والتأليف بين القلوب هذا مطلوب لاسيما إن لم يكن في ذلك ترك لركن أو شعيرة، ولم يكن فيه احتقار للنبي صلى الله عليه وسلم، أما لو كان فيه ذلك وكان فيه احتقار للنبي صلى الله عليه وسلم فإننا لا نوافق أهل الأرض على كلامهم بحجة التأليف وتوحيد الكلمة فلا مجاملة في دين الله، والأمر الذي عندنا ليس كذلك فليس في توحيد الكلمة فيه ترك لركن أو شعيرة بل وهو مما ليس فيه أيضاً احتقار للنبي صلى الله عليه وسلم.
ولذلك يجب على المهتدي أن يقول صيغة في توسله لا خلاف فيها حتى، لا يُعترض عليه لاسيما أننا في أمر اعتقاد، وليس في أحكام عملية فرعية حتى يُقال دعوا الأمة في سعة، وقد تقدم معنا إخوتي الكرام ما يشير إلى هذا عند كلام الإمام أحمد في
(10/104)
أنه يجوز القسم بالنبي صلى الله عليه وسلم وذكرت لكم هذا، وأننا إذا أقسمنا بالله فهو قسم جائز بالإجماع، وإذا أقسمنا بالنبي عليه الصلاة والسلام فهو مما فيه خلاف، فلنترك ما فيه خلاف إلى ما لا فيه خلاف، وهنا كذلك، التوسل بحب النبي صلى الله عليه وسلم أو بنحوه من التوسل الجائز أفضل من التوسل بالجاه لأنه مما أُجمع على جوازه، ثم إن فيها معنىً أعلى من التوسل بالجاه أيضاً، بالإضافة إلى ما فيها من توحيد القلوب وتآلفها، ودين الله ليس نكاية ببعضنا البعض، فنحن كلنا نتبع نبياً واحداً عليه الصلاة والسلام ونعبد إلهاً واحداً، فأنا إذا رأيت فعلك شرعياً، وعندي بعد ذلك رأي يمكن أن يخالف فعلك، فأقول: أفعل الفعل الشرعي الذي تفعله كي أوافق أخي وأترك رأيي وإن كان شرعي خير وأحسن من فعل يفعله واحد وهو شرعي.
... إخوتي الكرام ... الاحتياط في أمور الاعتقاد مطلوب، وإذا رأيتم من يفعل هذا النوع من التوسل – وما أكثرهم – فعظوه برفق ولطف، وقل له: أدري أنك لا تقصد بدعة ولا ضلالاً ولا انحرافاً بدعائك هذا، بل أنت لا تقصد إلا خيراً، لكني سأرشدك إلى صيغة أحسن من هذه وأكمل وتدل على تعلقك بنبيك عليه الصلاة والسلام – وأنت إذا قلت هذا فسيفرح حتماً ويقول لك: وما هي التي أعلى منها؟ فقل له قل: أسألك بحبي للنبي عليه الصلاة والسلام، فبالرفق ادعوه وأما إذا رأيته يتوسل بالجاه وقلت له: هذه بدعة، فإنه سيسبك أنت وأبويك والذي علمك ومن هم على طريقتك من أهل الأرض لأنه يفسّر هذا القول منك بأنه احتقار للنبي صلى الله عليه وسلم وامتهان له مع أن الأمر ليس كذلك، واللهِ إن الذي يقول لا يوجد جاه للنبي صلى الله عليه وسلم فهو كافر، وإذ لم يكن للنبي جاه فمن الذي له جاه؟!! وهو الذي يقول عن نفسه: [أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر] فهل بعد هذه السيادة من سيادة؟!!!.
واختموا الكلام عن هذا السؤال وأجوبته بقول أئمتنا، وهو:
(10/105)
إن السؤال بجاه مخلوق هذا من باب الاعتداء في الدعاء، وهو حرام، وقد نهانا نبينا عليه الصلاة والسلام عن الاعتداء في الدعاء.
ففي مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود وابن ماجه – والحديث صحيح – عن عبد الله بن مغفّل رضي الله عنه [أنه سمع ابناً له يدعو فيقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة، فقال: يا بني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: سيكون في هذه الأمة أقوام يعتدون في الدعاء وفي الطُّهور، فإذا دعوت فسَل الله الجنة واستعذ به من النار] .
هذا التحكم وهذا التحديد وهذا الشطط من باب الاعتداء في الدعاء، بل الواجب أن تسأل الله الجنة، وأن تستعذ به من النار، ولا تحدد وتتحكم.
والاعتداء في الطهور هذا موجود وهو الإسراف في الوضوء والغسل، فتراه يتوضأ ببرميل واثنين وأكثر ويرى أنه لم يتطهر ولم يغتسل ولم يسبغ الوضوء، حتى أن البعض ينغمس في البركة خمس مرات ثم يخرج ويقول الماء لم يبلغ جسمي!!!.
وقد رأيت أمثال هؤلاء الموسوسين في حلب لما يأتي للصنبور (الحنفية) يضربها برجله خشية أن يكون مسها إنسان ونجسها ثم يجلس يتوضأ من بداية الآذان وتنتهي الصلاة وما زال يتوضأ وكلما قام رجع وقال لم أسبغ الوضوء بعد!!!.
وجاء رجل إلى الإمام ابن عقيل الحنبلي فقال له أغتسل في البركة ويوسوس لي الشيطان بأنني لم أبلّغ أعضائي ولم يسقط غسل الجنابة عني، فماذا أعمل؟ فقال له الإمام: تسمع مني؟ قال: نعم، قال: اترك الصلاة، قال: وكيف أتركها؟ قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: رفع القلم عن ثلاث ذكر منهم: وعن المجنون حتى يعقل، ولا يفعل هذا إلا مجنون.
الحاصل أن الإسراف في الماء من الاعتداء في الطهور، والطهور إنما شُرع لأجل أن يزيل الخطايا والذنوب لا ليطهّر الأعضاء الحسية، فلا داعي للإسراف وإياكم أن تعتدوا!!!.
وكذلك الدعاء بجاه النبي صلى الله عليه وسلم هذا من باب الاعتداء في الدعاء، فإياكم أن تعتدوا!!!.
تنبيه ثانٍ:
(10/106)
روي الحاكم في المستدرك (2/615) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [لما اقترف آدم الخطئية (1) ، قال: يا رب أسألك بحق محمد لما غفرت لي (2) ، فقال الله: يا آدم، وكيف عرفت محمداً ولم أخلقه (3) ، قال: يا رب إنك لما خلقتني بيدك ونفخت في من روحك رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوباً لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك، فقال الله، صدقت يا آدم، إنه لأحب الخلق إليّ ادعني بحقه فقد غفرت لك، ولولا محمد ما خلقتك] ، ثم قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد.
فقد يقول قائل: هذا حديث في المستدرك على الصحيحين وقد صححه الحاكم مع أن فيه: أن آدم توسل بحق محمد – عليه الصلاة والسلام – فكيف تقولون: إنه لا يجوز أن نسأل الخالق بحق مخلوق؟
والجواب: إن الإمام الذهبي علق على كلام الحاكم في تلخيص المستدرك وهو مطبوع مع المستدرك في حاشيته: "صحيح الإسناد!! قلت: بل موضوع، وعبد الرحمن واهٍ" إذن هذا حديث موضوع مكذوب فلا حجة فيه.
والسبب في أن الحاكم أخطأ في كثير من الأحاديث وصححها وهي ضعيفة بل موضوعة، أن كتابه المستدرك هذا كتبه تلامذته وكان هو يمليهم من صدره، فلما كتبه التلاميذ بقى في حيز المسوّدات ولم يبيضه الحاكم وكان ينوي أن يعيد النظر فيه، ويراجعه، فتوفي قبل ذلك رحمه الله.
__________
(1) أي أكل من الشجرة التي نهاه الله عنها.
(2) أي أسألك بحق محمد أن تغفر لي.
(3) أي ما الذي أدراك به وأنت أول البشر، ولم يحصل لك للآن نسل أو أولاد، فكيف عرفت به وهو آخر رسل الله على الإطلاق.
(10/107)
والإنسان أحياناً عندما يحدث من حفظه قد يشتبه عليه بعض الرواة فيكون الراوي ضعيفاً أو كذاباً ولا ينتبه له عندما يحدث من حفظه، لكن عندما يجلس ليؤلف ويصنف فهناك يتحقق، ودائماً الحديث الشفوي النظري ليس له من التحري والتأكد كما يكون في حال الكتابة والتوثيق، فهذا مثلاً في هذا الحديث عند الرحمن بن زيد بن أسلم واهٍ لكن خفي هذا الكلام على الحاكم، لأنه في مجلس إملاء – كما قلت – ومجالس (1) الإملاء كانت في سلفنا وانقضت بانقضاء السلف الصالح وما خلفهم أحد يسد مسدهم والعجب لموقف الإمام ابن تيمية عليه رحمات رب البرية نحو هذا الحديث، ففي كتاب الاستغاثة الذي سماه في الرد على البكري، يقول في صـ5: هذا الحديث لا يوجد في شيء من دواوين الإسلام فلم يخرجه أحد من أصحاب الصحيحين ولا المسانيد ولا السنن ولا الحاكم في المستدرك ولا غيرهم.
__________
(1) مجالس الإملاء: كان الشيخ يجلس فيها ويملي من صدره لا من كتابه، فأحياناً يملي في المجلس الواحد ألف حديث أو خمسمائة حديث أو مائة حديث بأسانيدها ومتونها من صدره، وهذا كان يتميز به سلفنا عمن بعدهم؟ فالعلم في صدورهم لا في كتبهم، وكما قيل: العلم ما حواه الصدر لا ما حواه القِمَطْرُ.
وحقيقة مجالس الإملاء تدل على نبل العلماء لكن كما ذكرت ليس فيها من التحري ما يوجد في التصنيف، والتأليف والتحقيق فهذه كما قال البخاري: لم أودع حديثاً في الجامع الصحيح إلا بعد أن اغتسلت وصليت ركعتين واستخرت الله في وضعه، فانظر لهذا التحري من الإمام البخاري؛ لأن هذا تصنيف وليس من إملائه على أحد، لكن الحاكم ليس كذلك كان يملي وتلامذته يكتبون وراءه ما يملى عليهم، فمات قبل أن ينظر فيما كتب عنه وكانت فيه أحاديث ليست بصحيحة فجاء الإمام الذهبي واستدركها على الحاكم وسماه تلخيص المستدرك.
(10/108)
وجاء في كتاب قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة فقال صـ69 بعد أن ذكر هذا الحديث: "رواه أبو عبد الله الحاكم في المستدرك وهذا مما أنكر عليه".
وفوق كل ذي علمٍ عليم – وهذا حال البشر – فلعله – والعلم عند الله – ألف كتاب الاستغاثة في أول الأمر وما علم بوجود هذا الحديث في المستدرك ثم اطلع عليه بعد ذلك فتعرض له في كتاب قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة وبين أن هذا الحديث موضوع.
فهذا الحديث باطل قطعاً وجزماً [لولا محمد ما خلقتك] ، والحديث الموضوع الآخر [لولاك لما خلق الله الأفلاك] أي الكواكب والنجوم والحديث الموضوع الآخر [خلق الله الورد من عرق النبي صلى الله عليه وسلم] .
هذه الأحاديث كلها أحاديث موضوعة يضعها بعض المخرفين الذين يزعمون أنهم بوضع هذه الأحاديث يحبون النبي الأمين عليه صلوات الله وسلامه، وعندنا فرقة ضالة في الأمة الإسلامية أجازت وضع الأحاديث في الترغيب والترهيب هم الكرامية (1)
__________
(1) الكرامية هم أتباع محمد بن كرام السِّجستاني الذي هلك سنة 225هـ، هؤلاء أجازوا وضع الأحاديث في الترغيب والترهيب يقول أئمتنا في ترجمة هذا العبد المخذول – محمد بن كرام -: التقط من المذاهب أردأها، ومن الأحاديث أوهاها – وهؤلاء أولاً: يقولون بتشبيه الخالق بالمخلوقات. ثانياً: يقولون بجواز وضع الأحاديث على خير البريات وقالوا: نحن نكذب له لا عليه ونحن نروج دعوته، وكأن دين الله الحق ليس فيه ما يحبب الناس فيه حتى احتاج إلى كذب الكذابين وإفك الآفكين؟!! سبحان الله!! منزلة نبينا عليه الصلاة والسلام وهي أعلى منزلة بلا خلاف.
وأفضل الخلق على الإطلاق ... نبينا فمِلْ عن الشقاقج
لكن لا يجوز بعد ذلك أيضاً الإطراء والغلو أيضاً، كما حذرنا عليه صلوات الله وسلامه ففي صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب مرفوعاً [لا تطروني كما أَطْرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله] والإطراء هو المدح بالباطل والمجازفة في المدح والمبالغة فيه بحيث تذكر في الممدوح ما لا يوجد فيه، فهل خلق الله الكون من أجل محمد عليه الصلاة والسلام؟!! أم أنه ما خُلِق هو، والخلق كلهم إلا لتوحيد الله وعبادته؟!! (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) ، فلماذا هذا الإطراء والافتراء على رب الأرض والسموات لولا محمد ما خلقتك، ولولا محمد ما خلق الله الأفلاك، هذا كلام باطل وهو من الإطراء المنهي عنه فاحذروا، وعندنا في التفسير آيات تسمى آيات العتاب، قال الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام (عفى الله عنك لم أذنت لهم) (لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم) (ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين) (ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون) . ثالثاً: يقولون الإيمان مجرد نطق باللسان وإن لم يعتقد بالجنان (القلب) ، فهذه هي ضلالات الكرامية الثلاثة.
(10/109)
وجوز الوضع على الترغيب ... قوم ابن كرّام وفي الترهيب
س: حُكمنا على هذا الحديث جاء من المتن أو الإسناد؟
جـ: جاء من الأمرين معاً: فالسند كما قلنا فيه عبد الرحمن بن زيد وهو ضعيف بالاتفاق، وخفي ضعفه على الحاكم، فليس هو من رجال البخاري ولا من رجال مسلم، وأخرج له الترمذي وابن ماجه القزويني، ولذلك إذا نظرت في ترجمته في تقريب التهذيب ترى الحافظ ابن حجر قال: "عبد الرحمن بن زيد بن أسلم من الثامنة ضعيف، ت، ق" أي هو من طبقة الرواة الثامنة، وهو من رجال الترمذي والقزويني ابن ماجة.
ثم إن معنى الحديث كما قلت باطل ومردود منكر، فالآفة من الأمرين، والحاكم في الأصل أنه يورد في المستدرك أحاديث الرواة الذين أخرج لهم البخاري ومسلم، ولكن عبد الرحمن بن زيد ليس كذلك بل وليس هو أيضاً على شرط الصحيح مطلقاً.
(10/110)
.. حكم عليه الإمام الذهبي بالوضع، وإلا فالسند لا يقوى على الوضع، والراوي الضعيف أحياناً نحكم على روايته بالوضع لا لأنه ضعيف إنما لأن هذه الرواية خالفت عندنا الأصول الشرعية الثابتة، فلعله لضعفه التبس الأمر عليه ووهم، لكن شتان بين من يتعمد الوضع وبين من يخطئ ويهم وينسى ولا يضبط، فنحن بالنسبة لعبد الرحمن على انفراده لا نقول عنه إنه وضاع كذاب لكن نقول: هذه الرواية موضوعة ووهم في روايتها، هذا كما لو جاءنا راوٍ ثقة برواية مقلوبة، فما معنى مقلوبة؟ يعني موضوعة لكن أئمتنا أرادوا أن يهذبوا اللفظ لأن لفظ الوضع فيه شناعة لا يليق أن توصف به رواية الراوي الثقة كالحديث الثابت في صحيح مسلم عن السبع الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله [رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم يمينه ما أنفقت شماله] هذا مما انقلب على الراوي والصحيح الثابت عند البخاري وغيره من الأئمة [حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه] ، كأن القلب وضع، لكن هناك فرق بين يكون الراوي تعمد ذلك وبين أن يكون قد أخطأ، فلما أخطأ قلنا هذه مقلوبة في المتن، والمقلوب ليس من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم فكأنه موضوع لكنه لا يوصف بأنه موضوع كما ذكرنا ولا يوصف الراوي بأنه وضاع بل يبقى عندنا ثقة، وهنا كذلك الراوي ضعيف لكن الرواية موضوعة نص على وضعها الذهبي في تلخيص المستدرك، ونص على وضعها أيضاً الإمام ابن تيمية عليهم جميعاً رحمة الله.
س: لماذا أورد الحاكم هذا الحديث مع بطلانه وضعف سنده؟
(10/111)
جـ: بالإضافة إلى ما ذكرناه من أنه رحمه الله لم يصنف هذا الكتاب إنما أملاه إملاءً وكتبه تلامذته وراءه، نضيف هنا فنقول: الإمام الحاكم رحمه الله يجمع ما بلغه وما نُقل له وما حَدَّث به ثم يبقى بعد ذلك دور الغربلة والتنقية: هل هذا الحديث صحيح أم لا؟ يحتاج لنظر ولو صح هل وجد ما يعارضه أم لا؟ فإذا وجد ما يعارضه هل هذا أقوى أم ذلك حتى نعمل بينهما ترجيحاً؟ فشتان بين جمع الأحاديث فقط وبين جمعها للاستدلال بها. ففي الحالة الأولي (الجمع) يجمع فقط، وفي الثانية (الاستدلال) يختار ويمحص.
... وقد قلت مرة لأحد شيوخنا الشيخ مصطفى الحبيب الطير في مصر، وهو من المشايخ الصالحين الطيبين قلت له: موضوع أئمة الإسلام المتقدمين كأمثال ابن جرير (ت: 310هـ) وغيره كأبي نُعيم والخطيب البغدادي ملأوا كتبهم بالأحاديث الضعيفة، بل في بعضها موضوع أيضاً، فهذا العمل منهم يحيرني وهم الجهابذة وعلماء السنة والرجال والتاريخ.
فقال لي: يا بني، إن عصرهم كان عصر جمع فقط، وهذا من أمانتهم وتقاهم وخشوعهم لربهم وتحريهم جمعوا ما بلغوا لكن لا تظنوا أنه جمع كجمعنا كحاطب ليل، بل جمع بأدق وأحسن وأتم طرق الجمع معه علامات تدل على قبول الرواية أوردها، وهذه العلامات هي الإسناد، وكأنهم يقولون لنا: هذا الكنز الذي نقلناه إليكم لم نخنكم فيه، بل أعطيناكم علامات تدل على ثبوته أو على رده وهي الإسناد.
ولذلك قال أئمتنا: الإسناد من الدين ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء. وقالوا أيضاً: إذا روى الإنسان حديثاً موضوعاً فلا يبرأ من عهدته ولا يخرج من إثم روايته إلا بأحد أمرين:
أ) إما أن يرويه بالسند، فمن أسند لك فقد حملك.
ب) وإما أن يبين أنه موضوع.
وإذا لم يفعل أحد هذين الأمرين فهو آثم، وهو أحد الكاذبَيْن على رسول الله صلى الله عليه وسلم [من كذب علي....] وهو هنا الذي نشر الكذب، لا الذي أنشأه وصاغه.
(10/112)
وقال السخاوي في فتح المغيث في شرح ألفية الحديث، كان الإسناد من جملة البيان عند المتقدمين، وفي الأعصار المتأخرة صار ذكر الإسناد وعدمه سواء عند الناس فإذن هذا من أمانة العلماء المتقديمن.
ثم قال لي – وهو جواب على ما استشكل على -: يا بني قد يكون الحديث ضعيفاً عند الطبري، والضعف يسير محتمل، وقد يوجد هذا الحديث نفسه عند أبي نُعيم من طريق آخر ضعيف أيضاً، وكذلك يوجد الخطيب البغدادي الحديث نفسه من طريق آخر ضعيفاً فلو أن كلاً منهم أهمل هذا الحديث بحجة أنه ضعيف عنده لأهملوا لنا ثروة عظيمة وهي الشواهد والمتابعات، فهذا الحديث الذي رواه الطبري وهو ضعيف يتقوى بما رواه أبو نعيم ويتقوى بما رواه الخطيب، فيصل لدرجة الحسن ويصبح مقبولاً.
(10/113)
التعليق على الطحاوية
(مبحث القدر)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
مبحث القَدر
يقول الإمام الطحاوي عليه رحمات ربنا الباري:
"وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه لم يطّلع على ذلك ملك مقرب، ولا نبيُّ مرسَل والتعمق والنظر في ذلك ذريعة (1) الخِذلان، وسلم الحرمان ودرجة الطغيان، فالحذر كل الحذر من ذلك نظراً وفكراً ووسوسةً (2) فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه، ونهاهم عن مرامه، كما قال تعالى في كتابه: (لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون) فمن سأل: لم فعل؟ فقد رد حكم الكتاب ومن رد حكم الكتاب، كان من الكافرين". أ. هـ.
... هذا المتن للإمام الطحاوي شرحه الإمام ابن أبي العز في عشر صفحات (ط. أحمد شاكر) أو أكثر، وسأضم إليه ما تقدم معكم موجزاً مبحث الإرادة وانقسامها إلى إرادة شرعية وإرادة كونية لتأخذوا هذا المبحث بصورة متكاملة من أطرافه إن شاء الله.
القدر مسألة عظيمة من مسائل شريعتنا القويمة
سنبحث مبحث القدر ضمن ست مباحث.
المبحث الأول
تعريف القدر لغة واصطلاحاً:
القدر لغة: مصدر قَدَرْت الشيء أقدِره – أقدَرُه قَدْراً وقَدَراً ـ إذا أحطت بمقداره.
اصطلاحاً: هو علم الله بمقادير الأشياء وأزمانها قبل إيجادها ثم إيجادها حسبما سبق في علم الله جل وعلا، فكل محدَث وكل مخلوق وكل موجود صادر عن علم الله وإرادته وقدرته، هذا الأمر معلوم من الدين بمحكم البراهين، وعليه كان الصحابة الكرام والتابعون لهم بإحسان وهو مذهب أهل السنة الكرام.
__________
(1) أي سبب وطريق.
(2) أي احذر أن تنظر أو تفكر أو توسوس في موضوع القدر كما سيأتينا إن شاء الله في مسألة الوسوسة في القدر.
(11/1)
.. والإيمان بالقدر من أركان الإيمان كما ثبت في الصحيحين وغيرها من حديث أبي هريرة، وفي مسلم من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حديث جبريل الطويل وفي آخره [قال جبريل: ما الإيمان؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره] وفي رواية: [حلوه ومره من الله تعالى] وهذا الحديث– حديث جبريل – هو أم السنة كما أن الفاتحة أم الكتاب، والإمام البغوي عليه رحمة الله جعله أول حديث في كتابه (مصابيح السنة) مشيراً إلى أن هذا الحديث ينبغي أن يُقدم على الأحاديث كما قدمت الفاتحة على سور القرآن.
وثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تَعْجِزْ فإن أصابك شيء فقل قدّر الله وما شاء فعل ولا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا فإن لو تفتح عمل الشيطان] أي ما فيها إلا حسرة وندامة.
... والمراد بالقوة هنا قوة القلب أي المؤمن القوي الذي قلبه فيه قوة وعنده عزيمة قوية لأن قوة البدن تتبع قوة القلب، والذي يثبت في المعركة هو قوي القلب ولا عبرة بقوة البدل دون قوة القلب، فإن صاحب القلب القوي يثبت في المعركة ولو قطعت أطرافه الأربع ولا يتحرك ولا يولي الأدبار، وصاحب القلب الضعيف يجبن ويفر.
(11/2)
.. فالمؤمن القوي الذي إيمانه تام وعزيمته تامة أحب إلى الله من المؤمن ناقص الإيمان ضعيف الإيمان ففي قلبه رخاوة وليس فيه ثبات، لكن في كل خير فهذا مع ضعف إيمانه إلا أن فيه خيراً ولم يخرج عن حظيرة الإيمان وليس هو كأهل النفاق والكفران فهؤلاء كما قال تعالى (قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلاً أشحة عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوقم بألسنة حداد أشحة على الخير أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيراً، يحسبون الأحزاب لم يذهبوا وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب يسألون عن أنبائكم ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلاً) فهم من رعبهم وضعف عزيمتهم وخورهم وجبنهم يحسبون الأحزاب لم يذهبوا مع أنهم ذهبوا وهؤلاء في المدينة وإن يأت الأحزاب يودون لو أنهم بادون في الأعراب أي لو أنهم في بادية وليسوا في المدينة لئلا يلاقوا الخوف مرة أخرى كما حصلوه في المرة الأولى، ولذلك المؤمن قوته في قلبه وضعفه في بدنه أي تظهر عليه علامة الهزال وعلامة الخشوع وعلامة الإخبات من أجل صيامه وقيامه يذبل جسمه ويصغر فترى عليه علامة الإعياء والتعب، لكن عندما يفعل نتعجب من صدور هذه الأفعال وهذه القوة من هذا الضعف، والمنافق على العكس فهو قوي في بدنه لكن ضعيف في قلبه (1) .
__________
(1) والله إخوتي الكرام كما قال الله عن اليهود (لا يقاتلونكم جميعاً إلا في قرىً محصنة أو من وراء جدر) فهؤلاء لو وجدوا من يقاتلهم ومعه الله لحصل النصر الذي لا يخطر ببال من الله، هذا كلام الله (لا يقاتلونكم جميعاُ إلا في قرىً محصنة) هذا من رعبهم لا يستطيع واحد منهم أن يقاتل وجهاً لوجه، لو وقف مائة ألف يهودي لا أقول ألف يهودي لو واجهوا مسلماً واحداً بسكين لماتوا رعباً فضلاً عن إطلاق رصاص، هذا كلام الله الذي يعلم طبائع عباده لكن لما استوينا نحن وهم في المعصية صاروا أسوداً علينا في هذه الأيام لأننا نحن صرنا مثلهم إن لم نكن أعتى منهم فصار لهم الفضل علينا بالقوة الظاهرة ونحن لا توجد عندنا قوة باطنية وهم لا توجد عندهم أيضاً قوة باطنية فإذن استوى الحالان في الباطن ضال يقاتل ضالاً والذي هو أقوى في الظاهر سينتصر فهم الذين سينتصرون لعدم وجود صاحب قوة قلبية يردعهم.
إذا ما خلا الجبان بأرض ... طلب الطعن وحده والنزالا
فهؤلاء يطلبون الطعن والنزال ويتحدون العالم بأسره لأن الساحة أمامهم مكشوفة ولا يوجد من يوقفهم عند حدهم، فهذا حال اليهود وحال الأمة الكافرة الأخرى التي جعلناها قدوتنا وكل ما جاءنا من عندهم حسن حتى قال أغا أوغلي أحمد من تركيا من زعماء الكماليين أتباع مصطفي كمال أتاتورك: "عزمنا على أن نأخذ كل مما عند الغرب حتى الالتهابات التي في رئيهم (جمع رئة) والنجاسات التي في أمعائهم".
(11/3)
[احرص على ما ينفعك] أي لا تتواكل وتلقي الأمر على القدر بل ابذل ما في وسعك لتحصيل ما يجلب إليك منفعة ويدفع عنك مضرة.
[فإن أصابك شيء] حرصت ورتبت الجيش مثلاً لكن قدر الله أن يقع انكسار وهزيمة (1) .
[لو أني فعلت كذا..] أي عمل عملية لابنه فمات فقال لو لم يعمل العملية لكان سيحيى ويعيش مثل هذا لا يجوز أن تقوله فهذا تسخط على القدر وجحود وقد تكفر وأنت لا تدري، وهذا يا عبد الله مات بأجله سواء أجريت له عملية أو لم تجر له فسيموت، فدعك من هذا الكلام وقل قدر الله وما شاء فعل.
__________
(1) والمسلمون خسروا في عدد من المعارك لكنهم لم يخسروا حرباً، وشتان بين الخسارتين، والمسلمون لم يخسروا الحرب أما في المعارك فلا حرج لنا يوم ولهم يوم قال تعالى [وتلك أيام نداولها بين الناس] ، وعندما قال هرقل لأبي سفيان – والحديث في صحيح البخاري – هل قاتلتموه، قالوا: نعم، فقال كيف كان قتالكم إياه قال كانت الحرب بيننا وبينه سجالاً ينال منا ونناله منه، فقال وكذلك (..............) فكرة التعايش السلمي التي نشرت بيننا الآن حاصلها أن نأكل وننام ولا نعادي لا يهوداً ولا نصارى فضلا ً عن محاربتهم وجهادهم بل نعيش في هذه الحياة ونأكل ونتمتع (والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوىً لهم) ، فلا نكلم اليهود والنصارى في شيء من الدين بل نتركهم وحالهم ولو أدى الحال إلى أن نصبح مثلهم، وكل من دعا إلى التعايش السلمي فهو مرتد لأن الله تعالى يقول (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة) أي شرك ثم قال (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا) فهم لا يهنأون ما دام على وجه الأرض مؤمن، ونحن إذا كنا مؤمنين لا نهنأ ما دام على وجه الأرض كافر.
(11/4)
والقدر – كما سيأتينا – حجة في المصائب لا في المعايب، فإذا زنيت فلا تقل قدر الله وما شاء فعل وإذا شربت الخمر فلا تقل قدر الله وما شاء فعل، فهذا (الزنا والسرقة) وقع بقدر الله لكنك تقول قدر الله وما شاء فعل نقصد بذلك أن تنفي اللوم عن نفسك وأنت ملوم، وأما إذا سقط عليك حجر أو انهدم جزء من بيتك أو مات لك قريب أو صديق ونحو ذلك فهذه كلها مصايب فتقول قدر الله وما شاء فعل، فالكلام صحيح قدر الله وما شاء فعل فالزاني بقدر وشرب الخمر بقدر ولا يقع شيء إلا بقدر الله لكن ذاك لك فيه اختيار (الزنا وشرب الخمر ... ) فأنت ستعاقب عليه، وأما هذا (موت القريب، سقوط الحجر) فهو اضطرار وقع عليك دون اختيارك ولذلك تقول قدر الله وما شاء فعل.
وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن الإيمان لا يحصل في قلب الإنسان حتى يؤمن بقدر الرحمن.
(1) ثبت في سنن الترمذي بسند حسن من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن البني صلى الله عليه وسلم قال: [لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره من الله تعالى وحتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه] .
[وحتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه] فما أصابك هو بقدر الله ولا يمكن أن يزول عنك.
[وما أخطأه لم يكن ليصيبه] فلو فاتك شيء محمود كنت تمناه فقل قدر الله وما شاء فعل لأنه لم يكتب لك في هذا الوقت وقد يكتب لك فيما بعد وقد لا يكتب لك بل لأحد غيرك أيضاً فلن تستطيع أن تنال وتحصل ما فاتك مهما حاولت ولهذا كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام والحديث في المسند وسنن الترمذي وغيرهما – قال لابن عباس عندما كان رديفه: [.... واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك، رفعت الأقلام وجفت الصحف] فإذن ما كتبه الله لك وجعله من نصيبك لن يذهب إلى غيرك، وما كتبه لغيرك وجعله من نصيبه لا يمكن أن تناله وتحصله مهما حاولت.
(11/5)
(2) وثبت في مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود والترمذي بسند صحيح عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه [أنه قال لابنه عند الموت: يا بني إنك لن تجد طعم حقيقة الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك، فإني سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم: إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب، قال: يا رب وماذا اكتب – قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة] ، يا بني إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [من مات على غير هذا فليس مني] أي ليس منه صلى الله عليه وسلم لأنه ترك ركناً من أركان الإيمان.
... والحديث هذا رواه الإمام الترمذي برواية أخرى فيها شيء من الطول وفيها شاهد لموضوع تقدم (1)
__________
(1) تقدم في محاضرة (27) ذكر أحاديث تدل على أن فرعون مات كافراً وأنه في النار وأنه مخلد مع بعض الكافرين المجرمين، وكان هذا جواب لسؤال طالب ولم أكتب هذا هناك لضيق الوقت وسأذكر هذه الأحاديث هنا:
1- روى ابن حبان عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الصلاة يوماً فقال: [من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاةً يوم القيامة ومن لم يحافظ عليها لم يكن له برهان ولا نور ولا نجاة وكان يوم القيامة مع قارون وهامان وفرعون وأبي بن خلف] وهذا الحديث رواه الإمام أحمد في المسند (2/169) ، وقال الهيثمي في المجمع (1/292) : ورواه الطبراني في الكبير والأوسط، ورجاله ثقات.
2- روى الطبراني بسند جيد كما قال الهيثمي في المجمع (7/193) كان نبينا عليه الصلاة والسلام قال: [خلق الله فرعون في بطن أمه كافراً وخلق الله يحيى بن زكريا في بطن أمه مؤمناً] .
3- ثبت في مسند الترمذي ومسند الإمام أحمد والحديث الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال [عندما أغرق الله فرعون قال آمنت وأنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل، قال جبريل: يا محمد فلو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر أي من طين البحر فأدسه في فمه مخافة أن تدركه رحمة الله] وفي رواية [ذكر أن جبريل جعل يدس في فم فرعون الطين خشية أن يقول لا إله إلا الله فيرحمه الله أو خشية أن يرحمه] وفعل جبريل هذا ليس باختياره بل هو مضطر فقد سخره الله سبحانه وتعالى وهيأه وأمره بأن يدس التراب في (فمه) فهذه أحاديث تدل على كفر فرعون وأنه في النار ومنها هذا الحديث الذي سنذكره.
(11/6)
معنا – يقول [قال عبد الواحد بن سليم: قدمت مكة فلقيت عطاء بن أبي رباح فقلت له يا أبا محمد إن بالبصرة قوماً يقولون لا قدر، فقال عطاء يا بني أتقرأ القرآن، قلت: نعم، قال: فاقرأ الزخرف، فقرأت: (حم والكتاب المبين إن جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم) ثم قال – أي عطاء – أتدري ما أم الكتاب؟ قلت: لا، قال: فإنه كتاب كتبه الله قبل أن يخلق السموات والأرض فيه: إن فرعون من أهل النار وفيه تبت يدا أبي لهب ثم قال – أي عطاء –ولقد رأيت الوليد بن عبادة بن الصامت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألته ما كانت وصية أبيك لك عند الموت؟ فذكر الوصية التي تقدم ذكرها وهذا الذي أشارت إليه الأحاديث النبوية ودلت عليه الآيات القرآنية أذكر بعضها:
أ- قال جل وعلا في سورة الأنعام: (وعنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين) وهو– أي الكتاب – اللوح المحفوظ فلا يوجد شيء وقع أو سيقع إلى يوم القيامة إلا وهو مسطر فيه.
ب- وقال ربنا جل وعلا في سورة الحديد: (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير، لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كلا مختال فخور) .
ج- وقال جل وعلا في سورة التغابن: (ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهدى قلبه والله بكل شيء عليم) .
وسعي العباد وعمل المخلوقات بأسرها تنتهي إلى آيتين من كتاب الله:
1- قوله تعالى في سورة الإنسان: (وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليماً حكيماً) .
2- قوله تعالى في سورة التكوير: (لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين) .
خلاصة قولنا في قدر ربنا:
(11/7)
.. أن الله علم الأشياء ومقاديرها وأزمانها قبل وقوعها ثم أوقعها وأوجدها حسبما علم ربنا جل وعلا ولذلك كل مخلوق وكل محدث وكل شيء يقع بعلم الله وإرادته وقدرته؛ أي علم الله وقوعه في الأزل قبل أن يقع وأراد الله وقوعه إرادة كونية لا يختلف مقتضاها، وقدر عليه فأوجده وخلقه فالله خالق كل شيء (والله خلقكم وما تعملون) ، إذن فـ: (1) العلم. (2) والإرادة. (3) الإيجاد والخلق.
كل هذا لله جل وعلا فلا يوجد مخلوق إلا وقد أحاط به علم الله وتعلقت به إرادته وأوجدته قدرته خيراً كان أو شراً.
المبحث الثاني
إرادة الله جل وعلا تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: إرادة كونية قدرية:
... وهي عامة شاملة لا يتخلف مقتضاها وتكون فيما يحبه الله وفيما يكرهه فـ[ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن] كما ثبت هذا عن نبينا عليه الصلاة والسلام في مسند أبي داود وغيره.
... وهذه الجملة – ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن– من نفيس اعتقاد أهل السنة والجماعة كما قرر ذلك الإمام أبو بكر بن العربي في أحكام القرآن (3/1234) ، وقال الإمام ابن القيم في كتاب الفوائد صـ 95 – ونعمت هذه الفائدة التي سيذكرها – "أساس كل خير أن يعلم العبد أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن".
ووجه ذلك: أنه إذا أصابه خير وصدرت منه طاعة فيعلم أن هذا بمشيئة الله وتقديره وفضله وإحسانه فيشكر الله ويحمده ولا يفتخر ولا يعجب ولا يُدلِّ ولا يتكبر لأن هذا بتقدير الله [فمن وجد خيراً فليحمد الله] ، فليس لك في فعل الطاعة فضل إنما الفضل كله لمن قدر لك فعل هذه الطاعة وأقدرك عليها.
(11/8)
وإذا عمل معصية أو أصابه سوء فيعلم أن هذا وقع بسبب خذلان الله له وهذا الخذلان وضعه الله في موضعه بسبب تقصير الإنسان أو فساده أو جُُرْمهِ فيدعوه هذا إلى الإقلاع عن ذنبه والتوبة إلى ربه ليقدر الله له الخير وييسره عليه، لأن الله أخبرنا أن العبد عندما يضل يزده الله ضلالاً (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) سورة الصف/ آية5، (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون) سورة الأنعام 110.
[فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه] فليتب إلى ربه وليسأله إصلاح قلبه فبيده قلوب العباد فهو على كل شيء قدير، إذن إذا عمل طاعة يقول بفضل الله وإذا عمل معصية يقول بعدل الله، ولهذا كان أساس كل خير أن يعلم العبد أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
الأدلة من القرآن على هذا القسم من الإرادة:
1- قال الله جل وعلا (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء) ، فالمراد من قوله (فمن يرد الله أن يهديه– يرد أن يضله) إرادة كونية قدرية لا يختلف مقتضاها، فمن أراد الله هدايته كوناً وقدراً فسيهتدي ولا بد ومن أراد إضلاله كوناً وقدراً سيفعل ولابد، وهو الحكيم سبحانه يضع الأمور في مواضعها.
2- وقال جل وعلا في سورة البقرة آية 253 (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض، منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم ومن كفر، ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد) فقوله (ولو شاء الله ما اقتتل ... ) المراد منه مشيئة كونية قدرية لا يتخلف مقتضاها والآيات في هذا كثيرة.
القسم الثاني: إرادة دينية شرعية:
(11/9)
وتكون في خصوص ما يحبه الله ويرضاه فقط وقد يوجد مقتضاها وقد يتخلف، وفي الغالب يتخلف مقتضاها ولا ينتج عن تخلف مقتضاها أي إشكال لأن المشيئة الدينية بمعنى الأمر فإذا أمرنا الله بشيء ولم نمتثله ولم نفعله نعاقب وليس في عدم فعلنا إلغاء لأمر الله جل وعلا، وإذا قمنا به أثابنا الله ورضي عنا.
الأدلة من القرآن على هذا القسم من الإرادة:
1- قال تعالى: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) ، (يريد الله بكم السير) أي يأمركم باليسر، فقد يمتثل أشخاص وقد يخالف أشخاص في ذلك، ولو كانت الإرادة هنا إرادة كونية قدرية لما وقع عسر في هذه الحياة أبداً بل لكان كل شيء يُسْراً، لكن ليست الإرادة كذلك بل هي دينية شرعية قد يوجد مقتضاها وقد يتخلف، فالله يحب اليسر وأمرنا به ويكره العسر وينهانا عنه وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: [يسروا ولا يتعسروا، بشروا ولا تنفروا] ، لكن كم من إنسان ينفر ولا يبشر، وكم من إنسان يعسِّر ولا ييسِّر؟!.
2- وقال جل وعلا في سورة المائدة (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم) فالإرادة هنا دينية شرعية يحبها ربنا جل وعلا، ولا يحب الله أن يكون عليكم حرج أو شقة، ولكن يريد أن يطهركم، ولو كانت إرادة كونية لانتفى الحرج في هذه الحياة ولحصلت الطهارة لجميع المخلوقات لكنها إرادة دينية قد يوجد مقتضاها وقد يتخلف وفي الغالب يتخلف فمن يعصي الله في هذه الحياة أكثر ممن يطيعه وأهل النار من كل ألف 999 وواحد من الألف إلى الجنة (ويوم يحشرهم جميعاً يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس) فهي نسبة كبيرة كثيرة لم يَسْلم من الألف إلا واحد.
(11/10)
ولذلك ثبت في المسند والصحيحين من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [يقول الله يوم القيامة لأهون أهل النار عذاباً أرأيت لو كان لك الدنيا وما فيها أكنت مفتدياً بها من عذاب يومئذ، فيقول: نعم يا رب، فيقول الله له: أردت منك ما هو أهون من ذلك ألا تشرك بي وأنت في صلب أبيك آدم (1) فأبيت إلا الشرك] .
... فقوله [أردت منك ... ] المراد بالإرادة هنا الإرادة الدينية الشرعية أي أحببت منك وأمرتك بما هو أهون من ذلك فإن وحدت حصل المطلوب وأثبتك وإن جحدت عاقبتك، إذن فقد يوجد مقتضى هذه الإرادة وقد يتخلف ولذلك هذا – في الحديث – كفر ودخل النار فلم يحقق مقتضى الإرادة وليس في هذا إلغاء لقدر الله.
س: لفظ (أهل النار) ألا يشمل المؤمنين العصاة الذين سيعذبون ثم يخرجون؟
ج: لفظ (أهل النار) إذا أطلق ينصرف لأهلها الذين هم أصحابها، أما المؤمنون فليسوا بأهلها ولا من أصحابها فوجودهم فيها عارض وليس للاستيطان فهم كالمسافر فإنه لا ينسب إلى البلد التي يجلس فيها فترة وجيزة بل ينسب إلى بلده الذي يقيم فيه، ولا ينسب إلى بلد إلا من هم أهله أصلاً أو جاءوا وأطالوا المكث في البلد وأطالوا الإقامة فينسبون له، فالنار لا تنسب إلا لأهلها الأصليين وهم الكفار وأما المؤمن العاصي فهذا مروره في النار عارض بل ليطهر ثم لينقل بعد ذلك إلى جنات النعيم برحمة أرحم الراحمين.
... وعند المحدثين لا ينسب الإنسان إلى بلده إلا إذا أقام فيها، أربع سنين، فيصح أن تنسبه إليها وتقول مستوطن أصلي ولا أقول كتعبير الجاهلية في هذا الحين مواطن، فليس عند المؤمنين إلا جنسية واحدة هي جنسية (لا إله إلا الله) .
وصفوة الكلام وخلاصته: إرادة الله ومشيئته قسمان:
__________
(1) أي في صلب أبيك آدم أخذت عليك الميثاق وأقررت على نفسك وشهدت عليك ثم لما خرجت إلى الحياة أبيت إلا الشرك برب الأرض والسماء.
(11/11)
1- إرادة أمر وتشريع وتكون هذه الطاعات والمعاصي سواء وقعت أو لم تقع، والمقصود أن ما أمرنا به الله ونهانا عنه مرادٌ له إرادة دينية شرعية.
2- إرادة قضاء وتقدير وهي شاملة لجميع الكائنات محيطة بجميع الحادثات لا يخرج عنها شيء على الإطلاق، ولذلك كانت من أدعية النبي صلى الله عليه وسلم: [أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بَرُّ ولا فاجر من شرما خلقت] فكلمات الله هنا هي: الكونية لأنه قال لا يجاوزها ولا يخرج عنها بر ولا فاجر.
إذن الإرادة الدينية الشرعية قد تقع وقد لا تقع، والإرادة الكونية لابد من وقوعها والإرادة الدينية الشرعية تتعلق بما يحبه الله ويرضاه، والإرادة الكونية تتعلق فيما يحبه وفيما يكرهه فمن لازم ما يريده الله إرادة دينية شرعية أن يحبه ويرضاه، ومن لازم ما يريده إرادة كونية قدرية أن يقع ولا يتخلف.
المبحث الثالث
العلاقة بين الإرادتين:
تتحدد العلاقة بينهما في أربع صور ليس لها خامس:
? الصورة الأولي: اجتماعهما:
أي: أن توجد الإرادة الكونية المقدرية والإرادة الدينية الشرعية.
مثالها: إيمان المؤمن، تحجب المرأة الصالحة، باختصار: كل طاعة تقع في هذه الحياة، فهي تقع بإرادة الله الدينية والكونية، بإرادة الله الدينية حيث أمر الله بها وأحبها، وبإرادته الكونية حيث قدرها وشاءها فلولا ذلك ما حصلت.
... فإذن الله أراد الإيمان من المؤمن إرادة دينية لأنه يحب هذا ويرضاه، وأراده إرادة كونية لأنه وقع منه، ولو لم يرده منه كوناً لما وقع منه.
? الصورة الثانية: انتفاؤهما:
أي: لا توجد الإرادة الكونية القدرية ولا الإرادة الدينية الشرعية.
مثالها: انتفاء الكفر في حق المؤمن.
(11/12)
.. فانتفى الكفر في حق المؤمن لانتفاء الإرادتين، لا، هم لم يأمروا به (إن الله لا يأمر بالفحشاء) وبالتالي فلم تتعلق به الإرادة الدينية الشرعية، وكذلك لم يقدرهم عليه حيث لم يكفروا وبالتالي لم تتعلق به الإرادة الكونية القدرية، فإذن انتفت الإرادتين.
... ومثله: انتفاء السفور في حق المرأة المتحجبة، وباختصار: كل شيء لم يقع مما يكرهه الله ويبغضه فلانتفاء الإرادتين الكونية لأنه لم يقع، وانتفت الإرادة الكونية لأنه مما يبغضه الله.
? الصورة الثالثة: وجود الإرادة الدينية الشرعية فقط وتخلف الإرادة الكونية القدرية:
مثالها: طلب الإيمان من أبي جهل وأبي لهب ومن الكفار جميعاً فالله سبحانه وتعالى أراد الإيمان منهم وأمرهم به (اعبدوا الله مالكم من إله غيره) إرادة دينية شرعية لأن الإيمان مما يحبه الله، ولكن الله جل وعلا لم يرد هذا منهم كوناً وقدراً لأنه لم يحصل منهم لأنه لو أراده كوناً وقدراً لحصل منهم، فلما لم يحصل منهم علمنا أن الإرادة الكونية منتفية في حقهم.
? الصورة الرابعة: (عكس السابقة: وجود الإرادة الكونية القدرية) : وتخلف الإرادة الدينية الشرعية:
مثالها: كفر أبي جهل: فالله لم يأمر أبا جهل ولم يرد منه الكفر إرادة دينية شرعية بها طلب منه الإيمان، وقع هذا بإرادته الدينية لا الكونية، لأنه لو وقع طلب الإيمان بإرادة كونية قدرية لما تخلف مقتضاها، لكن ليس الحال كذلك فالذي وقع بإرادة الله الكونية القدرية هو الكفر، فلذلك إذن وجدت الإرادة الكونية القدرية فقط، وتخلفت الإرادة الدينية الشرعية لأن الكفر ليس مما يحبه الله ويرضاه هذه هي الصورة الرابعة للإرادتين.
س: بالنسبة لأمر الله هل ينقسم إلى أمر كوني قدري وأمر ديني شرعي؟
ج: لا شك أن أمر الله وإرادته ومشيئته وكلماته كل هذا ينقسم إلى كوني وشرعي قال الله تعالى في سورة الإسراء: (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً) .
(11/13)
(أمرنا مترفيها) اختلف أئمتنا الكرام في الأمر هنا على قولين: فقيل: أنه من الأمر الذي هو ضد النهي وقيل: أنه من الأمر الذي هو بمعنى التكثير وعلى القول الأول – الأمر الذي هو ضد النهي – فيحتمل معنيين أيضاً:
الأول: أي أمرنا مترفيها بالفسق ففسقوا وعليه فالآن هنا أمر كوني قدري، كما قال الله تعالى: (حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازيّنت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً ... ) أي الأمر الكوني القدري، بمعنى شئنا لهم ذلك وقدرناه عليهم لما نعلمه من حكمة فيهم.
الثاني: قيل يوجد في الآية شيء محذوف والتقدير: أمرناهم بالطاعة فعصوا وفسقوا عن شرع الله وعليه فالأمر هنا ديني شرعي.
... والمعنيان تحتملهما الآية وكل منهما مقرر في كتب التفسير، وهو قول حق مقبول، وانظروا هذا في تفسير ابن كثير وغيره.
وعلى القول الثاني – أي بمعنى التكثير – فمعنى كثّرنا، يقال: أَمِرَ كذا بمعنى كثّر، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم – والحديث في المسند ومعجم الطبراني بسند رجاله ثقات كما قال الهيثمي: [خير مال المرء مُهْرة مأمورة أو سكة مأبورة] .
... فمعنى مأمورة هنا كثيرة النتاج والنسل، وهذا حقيقة من خير مال المسلم أن تكون له خيل تنتج الأولاد الذين يُغزى عليهم في سبيل الله ويستعان بهم على أمور الحياة والخيل هي وسيلة الجهاد المفضلة لاسيما عندما كان الجهاد بالسلاح الأبيض لا بالسلاح الأسود، والآن يجلسون في الخنادق ويحاربون، هذه ليست شجاعة، بل الشجاعة هي المواجهة وجهاً لوجه والتبارز.
[أو سكة مأبورة] أي طريق مصطف بالنخل، مأبورة أي مؤبرة ملقحة بوضع طلح الذكر على الأنثى لئلا يسقط الحمل.
(11/14)
ويشهد لهذا المعنى قراءة يعقوب وهو من القراء العشرة المتواترة قراءاتهم، حيث قرأ الآية (وإذا أردنا أن نهلك قرية آمرنا..) والقراءة متواترة، أي أكثرناهم كثرة زائدة، لا، المسرفين إذا أكثروا وكثر الترف والبطر والأشر تستحق الأمة بعد ذلك العقوبة، قال الإمام الكسائي: آمرنا وأمرنا بمعنً واحد بمعنى أكثرنا.
... وهناك قراءة للحسن البصري وهي شاذة لا يجوز القراءة بها لكن توجه من ناحية المعنى واللغة بتشديد الميم ( ... أمّرنا ... ) أي جعلناهم أمراء مسلطين.
الأمر يكون كونياً ويكون دينياً، فهو كوني قدري لكن حسب التقدير: أمرنا بالطاعة فالأمر ديني، أمرنا بالفسق فالأمر كوني.
المبحث الرابع
الضالون الزائغون في قدر الحي القيوم
ضل في قدر الله وإرادته وتقديره ومشيئته فرقتان:
1- قدرية مجوسية.
2- قدرية جبرية.
الفرقة الأولي: القدرية المجوسية:
فقد ظهرت بذورها في أواخر أيام الصحابة الكرام وأول من دعا إليها نصراني ملعون اسمه (سوسن) (أي هو أول من أظهر بذورها دون تحديد معالم هذا القول الباطل) .
وهذه الضلالة التي أحدثها تلقاها عنه شيطان رجيم هو معبد الجهنمي وحاصل قوله:
1) أن الله لا يعلم الشيء إلا بعد أن يقع.
2) وأنه لم يقدر شيئاً.
3) أنه لم يرد شيئاً ولم يشأه.
وكان هو أول من قال بهذا، وهذا هو قول المتقدمين من القدرية المجوسية ويسمون القدرية الغلاة ثم انقرض من قال هذا القول بعد ذلك وذهب أهل هذا القول، فجاء بعدهم من انتسب إليه وقال بقول آخر، سنذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى.
فإذن أول من قال بهذا الضلال معبد الجهنمي فهو الذي حدد معالم هذا القول، وكان عبد الله بن عمرو بن العاص يقول له، يا تيس جهينة لست من أهل السر ولا من أهل العلانية، لا ينفعك الحق ولا يضرك الباطل أي أنت أحمق سفيه لا تصلح لا لليسر ولا للجهد ولا للسلم ولا للحرب ثم بعد ذلك لو علمت الحق لا تنتفع به ولو عرفت الباطل لا تتضرر به.
(11/15)
وقال مسلم بن يسار: احذروا معبداً فإنه ضال مضل، إنه يقول بقول النصارى، وهكذا قال الحسن البصري.
... ولما ظهرت مقالة معبد هذه أخذه الحجاج – بأمر من عبد الله بن مروان – فقطع يديه ورجليه ثم صلبه وحرّقه بالنار، وهذه من حسنات الحجاج لكنها مغمورة في بحر سيئاته كما تقدم معنا.
وأول حديث في صحيح مسلم في كتاب الإيمان يتعرض لذكر معبد الجهنمي وضلاله، فعن يحيى بن يَعْمُر (ويصح: ابن يَعْمَد) قال: كان أول من قال بالقدر في البصرة معبد الجهنمي، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن حاجين أو معتمرين، فقلنا لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عمَّا يقول هؤلاء في القدرى، فَوُفِّق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب داخلاً المسجد فاكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي، فقلت: أبا عبد الرحمن، إنه قد ظهر قِبَلَنا أناس يقرؤون القرآن ويتقفرون العلم (1)
__________
(1) أي يتتبعون غوامضه ويبحثون عن خفيه بعد أن أحكموا ظاهره وواضحه وجليله [وذكر من شأنهم] أي عن عبادتهم واجتهادهم في طاعة الله لأنهن كانوا في البصرة وأهل البصرة ظهر فيهم النسك والتقشف والزهد في أول الأمر كما ظهر في الكوفة الفقه والاستنباط والاجتهاد ولذلك كان أئمتنا إذا أرادوا أن يخبروا عن تنسك إنسان يقولون عبادته عبادة بَصْرية وإذا أرادوا أن يخبروا عن فقهه وسعة نظره واستنباطه واجتهاده قالوا فقهه فقه كوفي وأول من بنى دويريه للعبادة الزهاد في البصرة هو عبد الواحد بن زيد عليهم جميعاً رحمة الله..
(11/16)
وذكر من شأنهم يزعمون أن لا قدر وأن الأمر أنف، قال: فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه في سبيل الله ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر ثم ساق حديث جبريل الطويل وفيه: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وأن تؤمن بالقدر خيره وشره ... الحديث.
الشاهد في الحديث: قول يحيى بن يعمر كان أول من قال بالقدر في البصرة معبد الجهنمي، فقال إن الأمر أُنُف أي مستأنف جديد، ولم يقدر الله شيئاً في الأزل ولا يعلم الشيء إلا بعد وقوعه، وهؤلاء أصحاب هذا القول هم أهل جد واجتهاد وحزم في العبادة ولذلك ذكر يحيى بن يعمر وصفهم لعبد الله بن عمر فقال له يتقفرون العلم وذكر من شأنهم أي عن عبادتهم واجتهادهم في طاعة الله.
... وهؤلاء هم القدرية الغلاة والقائل بقولهم كافر عند المؤمنين والمؤمنات وهم الذين نفوا علم الله وقالوا الله لا يعلم الشيء إلا بعد وقوعه، وفي الحقيقة هذا فيه أعظم نقص في الله عز وجل إذا انتفى علمه وكان لا يعلم الأشياء إلا بعد وقوعها ثم إن العباد لا يعلمون الشيء بعد وقوعه فكيف نسوي الخالق بالمخلوق؟!! إن الله سبحانه وتعالى
1) بكل شيء عليم.
2) على كل شيء قدير.
3) فعال لما يريد فهذه الأمور الثلاثة على إطلاقها وعمومها لا تكون إلا لربنا سبحانه وتعالى (إنما أمره إذا أراد شيئاً إن يقول له كن فيكون) وأما أنا وأنت فيما يكون مما لا نريده أكثر مما يكون مما نريده، وكم من إنسان يتمنى أماني لعله لا يقع عشر معشارها.
(11/17)
.. الحاصل: أنه بعد أن قتل الحجاج معبداً ذهبت البدعة من البصرة إلى الشام، والذي تولى نشر البدعة في بلاد الشام – بعد قتل معبد – هو غيلان الدمشقي – وقال بقول معبد فاستدعاه عمر بن عبد العزيز وكان خليفة المسلمين آنذاك – وناظره فرجع عن ضلاله، ثم قال – أي غيلان -: يا أمير المؤمنين كنتُ أعمىً فبصَّرْتني وضالاً فهديتني، وأصم فأسمعتني، جزاك الله خيراً لن أعود إلى هذه الضلالة، فقال عمر بن عبد العزيز: اللهم إن كان عبدك غيلان صادقاً ثبته واشرح صدره، وإن كان كاذباً فعجل عقوبته.
(11/18)
.. فبقي غيلان في عهد عمر على حاله لم يصدر شيئاً بدعياً أو شيئاً من وساوس الشيطان التي تاب عنها ظاهراً وأما في السر فبقي على ضلاله ولذلك بمجرد موت عمر بن عبد العزيز رحمه الله أعلن غيلان بهذه البدعة ودعا إليها، فاستدعاه الخليفة في ذلك الوقت هشام بن عبد الملك وناظره سيد المسلمين في ذلك الوقت الإمام الأوزاعي ليرجع عن ضلاله فلم يرجع، فقال الإمام الأوزاعي: يا أمير المؤمنين لا يستحق إلا القتل، فقتله هشام، وقد كان هشام بن عبد الملك من أكثر الخلفاء تورعاً في الدماء وكان لا يتعجل في قتل من يثبت عليه الكفر ويقول لعله يتوب لعله يقلع لعله..لعله - وهذا في الحقيقة أمر حسن في الخليفة والمسؤول – فلما أفتى الإمام الأوزاعي بقتله كأنه اعترى هشام شيء من الندم بعد قتله وقال ليتني توقفت ولم استعجل بقتله، فكتب إليه رجاء (1) بن حَيْوَهْ: يا أمير المؤمنين: بلغني أنه وقع في نفسك شيئٌ من دم غيلان، والله إن قتله أفضل عند الله من قتل ألفين من الروم (2) .
وبمقتل غيلان زالت بدعة القدرية الغلاة ولم يبق قائل بتلك البدعة بعد غيلان، لكن المنهج تغير إلى المعتزلة فآل القول إليهم ونحتوا المذهب بعض النحت فانظروا ماذا قالوا:
1) قالوا: إن الله يعلم الأشياء بعد وقوعها – وبهذا خالفوا قول القدرية الغلاة لكنهم ضلوا في الباقي، فقالوا:
2) إن الله لم يقدر على عباده شيئاً.
3) إن الله لم يرد إلا ما أمر به وأحبه.
__________
(1) وكان من شيوخ أهل الشام الصالحين، وكان مسلمة بن عبد الملك بقول بدعاء رجاء يسقينا الله غيث السماء وبدعائه ينصرنا الله على الأعداء.
(2) أي فطب نفسك ولا تملها، لأن غيلان هذا الآن مرتد، ثم إنه يفسد الإسلام، باسم الإسلام، فهو أخطر ممن يفسد الإسلام باسم الكفر فهو كافر (باقي الحاشية لا تظهر في التصوير)
(11/19)
فبالقول الأول فارقوا القدرية الغلاة وبالقولين الأخيرين فارقوا أهل السنة، فليسوا بقدرية غلاة وليسوا بأهل هداة، وهذه الاعتقادات الثلاثة تدخل تحت أصل من أصولهم الخمسة – وستأتي – يسمونه العدل.
وأول من قال بهذا القول – قول المعتزلة – واصل (1) بن عطاء الغزّال وتبعه عليه أبو عثمان عمرو بن عبيد، وهؤلاء المعتزلة أتوا بأصول خمسة هدموا بها أركان الإيمان - وهي من مباحثنا المقررة -:
أصول المعتزلة الخمسة:
الأول: العدل
__________
(1) وضع المعتزلة سوّء الله وجوههم حديثاً موضوعاً في واصل، في طبقات المعتزلة لقاضي القضاة عبد الجبار المعتزلي، يقولون: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [ليكونن في أمتي رجل اسمه واصل يفصل الله به بين الحق والباطل] وعمرو بن عبيد شغف بشيخه الضال واصل شغفاً كبيراً، بحيث زوجه أخته – أي عمرو وزوج لواصل أخته – وقال: أريد أن يأتيها ولد منك فيقال خال أولاد واصل هو عمرو بن عبيد، فقطع الله نسله ولله الحمد وما أنجبت شيئاً، وواصل بن عطاء كان فصيحاً مفوهاً بليغاً وكان من العلماء، وهكذا عمرو بن عبيد، وقد كان – أي عمرو تلميذاً للحسن البصري، ويقول الحسن في عمرو بن عبيد: (نعم الفتى عمرو لو لم يحدث) والحسن البصري قال هذا قبل أن يجهر عمرو ببدعته وكأنه كان يتوسم فيه هذا وإن لله عباداً يعرفون الناس بالتوسم، قال أئمتنا: فأحدث والله أعظم الحدث، وكانوا يقولون نحن أرجى للحجاج منا لعمرو بن عبيد لأنه بدعة الحجاج زالت وانقضت وأما هذا فقد ترك الأمة على مثل لُجج البحار، فهذه بدعة لم تَزُل، وأما بدعة الحجاج فزالت لأن المبتدع خطره أعظم من فاعل الكبيرة.
(11/20)
.. وإليه ينسبون أنفسهم فيقولون الطائفة العدلية، ويقصدون بالعدل نفي عموم مشيئة الله، يعني هم لا يقولون على جهة العموم – ما شاء الله كان، بل يقولون: الله يريد الخير ولا يريد الشر – وقد قلنا إن أكثر ما يقع في هذه الحياة الدنيا مخالفات ومعاص ٍ فهذه تقع بغير مشيئته سبحانه وتعالى يقولون: لا، نقول: إذن بمشيئة من تقع؟!! هذا بزعمهم عدل، إنه جور.
الثاني: التوحيد:
... ويقصدون بالتوحيد نفي الصفات عن الله سبحانه وتعالى فليس له صفة تقوم به، فنفوا الصفات وتعللوا بأمرين:
الأمر الأول: إن إثبات الصفات يقتضي تعدد القدماء، والله واحد، فلئلا يتعدد القدماء تنفى الصفات عن رب الأرض والسماء، وهذه الصفات رحمة، قدره، علم وما ورد به القرآن قالوا: هذه أعلام محضة مترادفة تدل على الذات فليس لها معنىً آخر هذا كما تقول: حسام ومهند وحازم وصمصام فهذه كلها أعلام محضة مترادفة تدل على ذات معينة وهي قطعة الحديد التي هي السيف.
نقول: هذا باطل من جهتين:
1) هذه الأسماء لها معانٍ وهذه المعاني مختلفة وليست بمعنىً واحد وليست مترادفة، فليس الحال كما هو في أسماء السيف.
2) نقول: هذه الأسماء ليست هي الذات إنما تقوم بالذات، فمثلا ً، علمك وقدرتك ووجهك وسمعك وبصرك ليست هي ذاتك بل هي تقوم بذاتك، فكذلك الله سبحانه وتعالى، وله المثل الأعلى سبحانه.
الأمر الثاني: قالوا: لو أثبتنا لله الصفات للزم من هذا مشابهته بالمخلوقات، أي لو أثبتنا لله جل وعلا وجهاً وعلماً وقدرة وإرادة وسمعاً وبصراً للزم من هذا تشبيهه بنا.
نقول: إننا نرى الفرق واضحاً بين يد الإنسان ويد الكلب، ويد الباب فلكل واحد يد تناسبه مع أنها مخلوقات فكيف سيلزم التشبيه بين الخالق والمخلوق إن كان مخلوق مع مخلوق لم تتشابه أيديهم وله المثل الأعلى.
(11/21)
ونقول لهم يلزم التشبيه في حالة واحدة إذا اتحدت الذوات والصفات تتشابه فمثلاً ذاتي وذواتكم متشابهة فعندما أقول لي عين نقول مباشرة: كعيني، ولا يصح إذا قلت لك لي وجه ولك وجه أن تقول كوجه الصرصر لأن هنا الذرات اختلفت فذات البشر غير ذات الصرصر، فإذا اختلفت صفاتنا لاختلاف ذواتنا، فكذلك الخالق سبحانه وتعالى ذاته ليست كذواتنا وصفاته ليست كصفاتنا فلا يلزم التشبيه من باب الأولي، والله ليس كمثله شيء ولذلك إيماننا بالصفات – كما تقدم – إقرار وإمرار، نقرّ بالصفة ونمرها دون البحث في كيفيتها.
إذا لم يكن عون من الله للفتى ... فأول ما يقضي عليه اجتهاده
فهم أرادوا أن يعملوا عقولهم في أمر غيبي فضلوا وأخلوا، كيف نأتي لصفات مدح الله بها نفسه فننفيها، وهل تعقل ذات بلا صفة؟!! ونفي الصفات هو التعطيل المحض ولذلك قال أئمتنا المعطل يعبد عدماً، والممثل يعبد صنماً وتوحيدهم في الحقيقة تلحيد.
الثالث: المنزلة بين منزلتين:
وهذه من أحكام الدنيا لا من أحكام الآخرة، ويعنون بها أن من فعل كبيرة ولم يتب منها ومات على ذلك فهو مخلد في نار جهنم – هذا في الآخرة – لكنه ليس بمؤمن ولا كافر – هذا في الدنيا -، وهذا هو قول الإباضية وتقدم معنا، وأما الخوارج فكفَّروا فاعل الكبيرة، وأخرجوه من الإيمان وخلدوه في النيران، وأهل السنة قالوا فاعل الكبيرة: مؤمنٌ عاصٍ فلم يكفَّروه، وقالوا مآله إلى الجنة مهما عذب إذا لم يغفر الله له ابتداءً.
... وأما المعتزلة فتذبذبوا فقالوا لا نكفره كما كفره الخوارج ولا نحكم له بالإيمان كما قال أهل السنة، فهو لا مؤمن ولا كافر في منزلة بين منزلتين بين الإيمان والكفر، وأما في الآخرة فلأنه لا يوجد إلا داران إما جنة أو نار فقالوا هو مخلد في النار.
(11/22)
نقول: كيف لم تكفروه وحكمتم عليه بالخلود في النار، ولذلك قول الخوارج – مع ضلاله – أوفق مع بعض فهم كفروه وخلدوه، وأما هؤلاء فقالوا ليس بكافر وخلدوه في النار ولذلك كان أئمتنا يقولون عن المعتزلة في هذه المسألة: إنهم مخانيث الخوارج لأنهم وافقوهم في النتيجة (الخلود في النار) .
الرابع: إنفاذ الوعيد:
... يعنون به أنه يجب على الله أن يعاقب العاصي ولا يجوز أن يغفر له وذلك العقاب هو؟ وتقدمت معنا مناظرة أبي عمرو بن العلاء وأبي عثمان عمرو بن عبيد.
نقول: هذا الوجوب باطل لأن كل وعيد مقيد بقيدين:
1) عدم مغفرة الله للعاصي، فإذا غفر له لا يناله الوعيد، لحديث عبادة مرفوعاً [..ومن أصاب من ذلك شيئاً ثم ستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه] كما رواه الإمام أحمد والستة إلا أبا داود، وتقدم معنا أن أعظم آيات الرجاء رجاءً قول الله تعالى (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) .
2) عدم التوبة، فإذا تاب لا يناله الوعيد، والمعتزلة سلموا بهذا القيد – عدم التوبة – فقالوا من تاب لا يناله الوعيد فإذن هو قيد مجمع عليه، قالوا: هذا قيد لأنه ورد بدليل منفصل (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات) ، (إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليماً حكيماً) .
(11/23)
وهذا حق من المعتزلة، لكن نقول لهم كما جعلتم عدم التوبة قيداً فتجعلوا عدم المغفرة قيداً، قالوا: لا نجعله قيداً لأنه إذا غفر له فيكون قد أخلف وعيده فهذا كذب منه، فنقول لهم: ذلك الوعيد مقيد بعدم المغفرة كما أنه مقيد بعدم التوبة، وكما أخرجتم قيد عدم التوبة بدليل منفصل فأخرجوا القيد الثاني (عدم المغفرة) بدليل منفصل، فلم تؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض؟!، فالله سبحانه وتعالى قال: (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) وقال (إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب) .
وقد دلت الأدلة الشرعية على أن التوبة مقبولة ما لم يصل الإنسان إلى أحد حالتين:
أ) الغرغرة، فإذا وصلت روح الإنسان إلى حلقومه لم تقبل توبته لأنه يدخل في أول حالة من أحوال الآخرة وهي البرزخ، والدنيا انتهت في حقه الآن، لما ثبت عن عبد الله بن عمر – والحديث رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم وابن حبان – بسند صحيح – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر] .
ب) طلوع الشمس من المغرب، فإذا طلعت من مغربها لا تقبل توبة التائبين، لأن نظام الحياة انتهى ودخل الناس في أحوال الآخرة.
الخامس: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
ويقصدون به وجوب الخروج بالسيف على أئمة الجور، هذا يدَّعون أنه أمر بمعروف ونهي عن منكر، والله إنه توسيع للمنكر وليس نهياً عن المنكر.
نقول: الأئمة ثلاثة أصناف:
(11/24)
1- إمام إيمان وعدل، وصفاته بالإجماع: أن يكون ذكراً، حراً، عاقلاً، بالغاً، بايعته الأمة عن رضاً واختيار، يحكم بشريعة العزيز القهار (ستة) ، واختلف في السابع وهو القرشية والمعتمد عند جمهور أهل السنة اشتراط القرشية في الإمام ليكون من أئمة العدل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [الأئمة من قريش] والمراد بالإمام هنا الإمام الأعظم الذي هو خليفة المسلمين، لا ولاته ووزراؤه وأعوانه فهؤلاء لا يشترط فيهم القرشية بالاتفاق، وكما قال أبو بكر رضي الله عنه للأنصار [نحن الأمراء وأنتم الوزراء] .
(؟؟؟؟) صلى الله عليه وسلم، وحب هذا الإمام من أفضل خصال الإيمان، وإنه هو الإمام الذي يحفظ بَيْضة الإسلام ويجمع كلمة المسلمين.
2- إمام جَوْر: وهو من يحكم بشريعة الله جل وعلا في رعيته لكنه يفرط في حق نفسه فيشرب الخمر أو يعمل الفواحش.
هذا الإمام لا يجوز الخروج عليه بالسيف، لأن شريعة الله منفذة وأما وزره فيبقى في رقبته، فلا نخرج عليه لأن الخروج عليه سيزيد الأمر سوءاً وبلاءاً وفتنة وضرراً، فلا ندفع مفسدة بمفسدة هذا كحال كثير من خلفاء الدولة الأموية والعباسية وغيرها، فمثلا ً الحجاج كان سفاكاً وكانت شريعة الله منفذة فلو أن السلف لم ينازعوه ولم يقاوموه لما أريقت هذه الدماء التي أراقها والتي بلغت (120.000) نفساً كما ثبت في سنن الترمذي عن هشام بن حسان مقطوعاً عليه، فمثل هذا ينبغي أن يترك ويلجأ إلى الله بأن يصلح حاله وحالنا.
(11/25)
.. قال أئمتنا: هذا الإمام لا يجوز الخروج عليه، لكن إن أمكن عزله بلا فتنة وبلا إراقة قطرة من دم وجب، وهذه صورة نظرية ليست عملية فهي تتوقع في حالة واحدة وهي لو أن الإمام جرى منه شيء من الجور وحصل منه بعض الفسق فذهب إليه بعض أهل الخير ونصحه بالتوبة أو يترك الإمامة فقال – أي الإمام – إن كنتم لا ترغبون فيَّ فقد عزلتُ نفسي، فهذه هي الصورة التي يمكن أن يعزل بها الإمام دون إراقة دماء، وما عدا هذه الصورة ستراق الدماء هذا عند أهل السنة الكرام.
... وعند أهل المعتزلة: قالوا إذا فسق الإمام وجب الخروج عليه بالسيف ولو أن الأمة كلها ستهلك هذا قاله المعتزلة ولم يطبقوه فكان كلاماً نظرياً، فإنه لم يكن يسير وراء خلفاء الجور ويمشون وراءهم إلا المعتزلة، فمثلاً عمرو بن عبيد كان صديقاً حميماً لأبي جعفر المنصور، وأبو الهذيل العلاف من أئمة المعتزلة كان أستاذاً للخليفة العباسي المأمور، وأحمد بن دؤاد كان قاضي القضاة – وهو معتزلي – لثلاثة من خلفاء بني العباس.
(11/26)
.. فالمعتزلة أوجبوا الخروج عليهم – ولا أقول سكتوا – بل خالطوهم، وأما أهل السنة فاعتزلوا الخلفاء مطلقاً ولم يتصلوا بهم ورأوا في العزلة السلامة، ولما جاء الخليفة المتوكل ليزور الإمام أحمد اعتذر الإمام عن زيارته والخليفة واقف على الباب، فخرج ولده – ولد الإمام أحمد – عبد الله فقال لأبيه الخليفة يستأذن لزيارتك، فقال: قل له ولم يخرج لمقابلته أمير المؤمنين أعفاني مما أكره وهذا مما أكره، أي أكره دخول الخليفة إلى بيتي، فانصرف الخليفة المتوكل، فانظر أولئك يذهبون يتمسحون بالخلفاء وانظر لأئمة أهل السنة يأتيهم الخلفاء فيرفضون دخولهم منازلهم، ولذلك قال عبد الله بن مسعود – كما في سنن الدارمي – "ومن أراد أن يكرم دينه فلا يخلون بالنسوان، ولا يدخلن على السلطان، ولا يجادل أهل الأهواء"، فامرأة لا تخلو بها ولو خدعك الشيطان بأن تعلمها القرآن فانتبه واحذر!! ولذلك كل من كان سبباً لفتنة كان أئمتنا يعبسون في وجهه ولا يضحكون، فإياك أن تضحك في وجه امرأة ليست من محارمك، أو أن تسمعها كلمة ليونة، وإذا قابلت مبتدعاً فإياك أن تبشر في وجهه فذاك يطمع في إغوائك، وهذه تطمع في إغوائك، قال بعض المبتدعة لأيوب السختياني: قف حتى أكلمك كلمة، قال أيوب: ولا نصف كلمة.
3- إمام كفر: وهو الذي لا يحكم بشريعة الله المنزلة، هذا بالإجماع من قدر على إزالته فلم يُزله إثمه في رقبته، وإذا لم يقدر فيجب عليه أن يغير على حسب استطاعته، وإذا لم يقدر فيجب عليه أن يهاجر إن أمكنه، وإذا لم يقدر فليصبر وليلجأ إلى الله جل وعلا فيلقى الله معذوراً إن شاء الله و (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) .
مناقشة أصل (العدل) الذي نسبوا إليه أنفسهم، ومناظرتهم في قولهم، إن الله علم الأشياء في الأزل، لكنه لم يقدر على عباده شيئاً ولا يريد إلا ما أمر به:
(11/27)
قول المعتزلة بأن الله قدر الخير وأراده ولم يقدر الشر ولم يرده والعباد يخلقون أفعالهم، قولٌ باطل دلت الأدلة الشرعية على بطلانه، وقد أشار أئمتنا إلى تلك الأدلة ووجهونا إلى مناظرتهم بها، من ذلك:
ب) ما قاله إمام أهل السنة الإمام الشافعي: "ناظروا القدرية بالعلم فإن أقروا به خصموا وإن أنكروه كفروا". ونِعْم ما قال.
أي الأمر يسير في مناظرة المعتزلة قولوا لهم:
... هل الله يعلم الأشياء قبل وقوعها أم لا؟ أي الله يعلم ما سيعمله العباد أم لا؟ إن قالوا نعم، خصموا وبطل قولهم، ووجه ذلك: أن الله إذا علم الأشياء في الأزل قبل وقوعها إذن علم الخير والشر فإذن قدر على عباده ما سيعملونه، وإن قالوا لا، التحقوا بالقدرية الغلاة وهم الذين كفروا وتقدم أنهم أنكروا سبق علم الله لوقوع الأشياء.
ت) وقال الإمام أبو الفضل العباسي الشَّكْلي – كما في كتاب الشريعة للآجرّي صـ244 – "أمران يقطع بهما المعتزلي، فنقول له: هل قدر الله فلم يرد، أو أراد فلم يقدر".
... أي إن قالوا قدر الله على هداية الناس جميعهم فلم يرد، فحينئذ يكون قولهم قد بَطل وانتقض، فهذا هو قول أهل السنة إذ من يستطيع أن يهدي من لم يرد الله هدايته (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء) (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً) ، فقدر لكنه لم يرد، لحكمة بالغة تامة له سبحانه وتعالى.
... وإن قالوا أراد الله هدايتهم لكنه لم يقدر فحينئذ هم كفروا بهذا القول لأنهم وصفوا الله بالعجز حيث غلبت الناس إرادته تعالى الله عن ذلك.
... ولذلك قال الإمام عبد الرحمن العلامي (ت 795 هـ) في السنة التي توفي فيها ابن رجب الحنبلي
قالوا يريد ولا يكون مراده ... عدلوا ولكن عن طريق المعرفَهْ
(يريد) أي يريد للناس الإيمان ولا يكون مراده.
(عدلوا) أي مالوا عن الهدي إلى الباطل والضلال، فالله أراد هداية الناس لكنهم عارضوه وخالفوه فما اهتدوا.
(11/28)
ومن جملة مناظرات أئمتنا الهداة للمعتزلة الضالين في إبطال قولهم هذه المناظرة المحكمة السديدة (موجودة في طبقات الشافعية الكبرى (4/261) و (5/98) ، الفتح (13/451) ، وأوردها شيخنا في دفع إيهام الاضطراب عن آي الكتاب صـ286 في تفسير سورة الشمس عند قوله تعالى (فألهمها فجورها وتقواها) .
وحاصلها: أنه اجتمع في مجلس ٍشيخان أحدهما مهتدٍ والآخر ضال، أما المهتدي: من شيوخ أهل السنة الكرام أبو إسحاق الإسفراييني، وأما الضال: عبد الجبار المعتزلي.
فقال عبد الجبار (مُعرِّضاً بأهل السنة الأبرار) : سبحان من تنزه عن الفحشاء (1) .
فقال أبو إسحاق: كلمة حق أريد بها باطل ثم أجابه فقال: سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء.
فقال عبد الجبار: أفيريد ربنا أن يُعصى (2) ؟
فقال أبو إسحاق: أفيُعص ربنا مكرهاً (3) ؟
فقال عبد الجبار: أرأيت إن قضي عليّ بالردى (4) ومنعني من الهدى أحسَنَ إليّ أم أساء؟
فقال أبو إسحاق: إن كان الذي منعك ملكاً لك فقد أساء، وإن كان ملكه فهو الذي يفعل ما يشاء.
... فَبُهِتَ عَبْدُ الجبار، وقال الحاضرون: لا يستطيع أن ينازع هذا أحد، فهذا الآن من أئمة الهدى أي إن أعطاك ففضل وإن منعك فعدل، ولا يظلم ربك أحداً، وهذه المناظرة حقيقة تبطل مذهب المعتزلة بهذه الحجة المحكمة الدامغة.
... يقول إياس بن معاوية الذي يضرب به المثل بالذكاء والفراسة والألمعية: "ما ناقشت أحداً بجميع عقلي إلا القدرية" ثم قلت لهم، أخبروني عن الظلم ما هو؟ قالوا: الظلم أن تعتدي على غيرك بأن تأخذ حقه من غير إذنه أو تتصرف في ماله بغير إذنه.
__________
(1) ويقصد بذلك أن الله لم يقدر الشر ولم يرده.
(2) كان يعرِّض والآن يصرح.
(3) هنا جواب وحجة على الجواب، والمعنى: أنه يريد لأنه لو لم يرد لأكره العبد ربه في فعل المعصية.
(4) الهلاك.
(11/29)
.. فقال لهم إياس: فهذا الكون ملك مَنْ؟!! هو ملك الله، فإذا تصرف الله فيه فهل يُعد هذا ظلماً؟! لا، مَنَّ على هذا بالهدى وخذل هذا ولم يوفقه.
... نعم أقام الحجة على جميع العباد وأرسل الرسل وأنزل الكتب ومنحنا العقول ثم بعد ذلك لطف بهذا المؤمن فوفقه، وخذل ذلك الكافر وما مَنّ عليه بالهداية، فأي ظلم في هذا؟!! الظلم هو أن تعتدي على حق غيرك وأن تتصرف في ماله بغير إذنه، ولا يدخل الظلم في دائرة أفعال الله سبحانه وتعالى وهذه المناظرة عن إياس أوردها الإمام ابن تيمية وهي في مجموع الفتاوى (18/139و 140) .
... إذن قول القدرية بأن الله لم يقدر الشر ولم يرده ولو قدره لكان ظلماً للعباد، هذه سفاهة وقلة أدب منهم مع ربهم جل وعلا، فلا يقع شيء إلا بعد تقدير الله له ذاك أمرنا به هذا نهانا عنه وأقام علينا الحجج، ذاك مَنَّ على من فعله وهو الطاعة، وهذا أخذل من فعله وهي المعصية (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض جميعاً) أليس من الممكن أن يجعل الله أبا جهل كجبريل؟! ممكن لكنه لم يرد ذلك، فهل يقال ظلمه؟ نقول: لا فإن ذاك أعطاه الاختيار والعقل وأرسل الرسل وأنزل الكتب، فلا يقال عن ترك المنّ إنه الظلم، ولا يقال على عدم الفضل إنه ظلم ونحن نعلم يقيناً أنه لم يهتد مهتدٍ إلا بفضل الله لا بعقله ولا باختياره ولا بجده ولا بذكائه ولا بألمعيته، وقد ترى البدوي لا تلقي بالاً لخفة عقله ولكنه لا يفتر عن ذكر الله وترى صاحب العقل الضخم كافراً فما مَنَّ الله عليه بأن يوحده، فكون الله لم يعط فضله للكافر هذا لا يقال إنه ظلم فهذا ملكه يتصرف فيه كما يريد نعم نقول الله منّ على البدوي بالإيمان وشرح صدره (فألهمها فجورها وتقواها) .
(11/30)
.. وهذا الأمر أشار إليه نبينا صلى الله عليه وسلم وكان سلفنا الكرام يُذّكر بعضهم بعضاً استمعوا إلى هذا الحديث في صحيح مسلم في كتاب القدر (2650) (10) عن أبي الأسود (1) الدَّئلي يقول [قال لي عمران بن حصين: أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه أشيء قُضي عليهم ومضى عليهم مِنْ قدر ما سَبَق (2) ، أو في ما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم وثبتت الحجة عليهم؟
فقلت (القائل أبو الأسود) : بل شيء قضي عليهم ومضى عليهم، فقال عمران: أفلا يكون ظلماً؟ يقول أبو الأسود: ففزعت من ذلك فزعاً شديداً (3) ، وقلت: كل شيء خَلق الله وملْك يده فلا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون.
... فقال لي - عمران -: يرحمك الله إني لم أرد بما سألتك إلا لأَحزِر (4) عقلك، إن رجلين من مزينة أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: يا رسول أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه أشيء قضي ومضى فيهم من قدر ما سبق، أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم وثبتت الحجة عليهم.
فقال: لا، بل شيء قضي عليهم ومضى فيهم، وتصديق ذلك في كتاب الله: (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها) ] فجواب أبي الأسود كجواب النبي عليه الصلاة والسلام تماماً وسؤال عمران كسؤال الاثنين الذين أتيا من مزينة.
__________
(1) ويقال الدِّئلي، ويقال الدُّؤلي، ولا يذكر إلا بكنيته وهو تلميذ علي رضي الله عنه وصاحبه وهو الذي وضع قواعد النحو واسمه ظالم بن عمرو، وكان أئمتنا يتجنبون ذكر اسمه هذا فيقولون الكنية فقط، وهو سمي بهذا الاسم في الجاهلية وهو مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام ولم ير النبي عليه الصلاة والسلام.
(2) أي في اللوح المحفوظ وأن هذا مقدر.
(3) أي هذه كلمة خشنة كبيرة أفزعتني.
(4) أي اعرف واخبر واستفسر وتبين ونحوها، فامتحن فهمك وعقلك ومعرفتك وأختبر ذلك.
(11/31)
وسيأتينا إن شاء الله تعالى – أن الإنسان له اختيار لكنه مضطر في اختياره (وما تشاءون إلا أن يشاء الله) (فألهمها فجورها وتقواها) فالمُلْهِمُ هو الله والهادي هو الله والمضل هو الله (يهدي من يشاء ويضل من يشاء) يهدي من يشاء بفضله، ويضل من يشاء بعدله وإذا قلت هذا للمعتزلي ينتفض يقول: الله يضل؟ قل له: هذا كلام الله وليس كلامي.
أتدرون بماذا يفسرون كلمة (يضل ويهدي) يضل: أي حكم لهم بالضلال بعد أن ضلوا (1) ، ويهدي: أي حكم لهم بالهداية بعد أن اهتدوا.
ولذلك شيء قضى عليهم ومضى فلا يمكن أن يتخلف طرفة عين، والله جل وعلا – كما قلنا – من مقتضى ألوهيته وربوبيته أنه يعلم الشيء قبل وقوعه وهو المقدر سبحانه وتعالى لا إله غيره ولا رب سواه.
جاء أعرابي إلى أبي عثمان عمرو بن عبيد (الشيخ الثاني لمذهب المعتزلة) وهو في مسجد البصرة فقال الأعرابي: يا أبا عثمان إن حمارتي قد سُرقت، فادع الله أن يردها عليّ فرفع عمرو بن عبيد يديه وقال: اللهم إن حمارته سُرقت وأنت لم تُرِد سرقتها، فأرددها عليه فقال الأعرابي: يا شيخ السوء كف عن دعائك (الخبيث) ، إذا لم يرد سرقتها وقد سُرِقت، فقد يريد ردها ولا ترد.
أي إذا كان العبد يغلب الرب فهذه مشكلة المشاكل، فانظروا للأعرابي ولفطنته ولفطرته وسداد جوابه.
__________
(1) أي لما اهتدوا قال لهم مهتدون، ولما ضلوا قال لهم ضالون!!! نقول هذا حكم البشر لا حكم خالق البشر، والله يقول في الآية (فألهمها) أي جعلها تختار وجعل في روعها وقلبها، فألهمها فجورها وألهمها تقواها، لكن الله لا يعذب إلا بعد أن يصدر هذا الفجور أو التقوى من الإنسان
(11/32)
اجتمع في سفينة رجلان أحدهما: مجوسي والآخر معتزلي، فقال المعتزلي للمجوسي: أسلم، فقال المجوسي: حتى يريد الله، فقال المعتزلي: الله أراد لك الإسلام لكنك أنت الذي لم تُرِدْه والشيطان هو الذي لم يُرد لك الإسلام، فقال المجوسي، إذا أراد الله لي الإسلام والشيطان لم يرد لي الإسلام وغلبت إرادة الشيطان إرادة الرحمن فأنا مع أقواهما. أي إذا كان الشيطان يغلب الله، فلماذا تقول لي أسلم لله.
ونحن – أهل السنة – نقول لهذا المجوسي: أسلم، فإذا قال لنا حتى يريد الله، نقول هذه كلمة حق أريد بها باطل فلا نسلم له بجوابه، بل نقول له، الله أمرك بالإسلام ووضح لك الأمر وأزال عنك الأعذار فكتاب الله بين يديك وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بين يديك أيضاً حججٌ قائمة تدعوك للإيمان فيجب عليك أن تؤمن، فلا يجوز لك أن تتعلل بقدر الله – بعد ذلك – في عدم إيمانك، لأن قدر الله غيب، فلا يجوز أن تستدل بما لا تعلم وتقدم معنا أن القدر يستدل به في المصائب لا في المعايب.
فإذن جوابك حق أريد به باطل أريد به تبرئة النفس من المعصية والشين، نعم إذا لم يرد الله لك أن تصلي فلا يمكن أن تصلي، لكن من الذي أعلمك أن الله لم يرد لك الصلاة، ومن الذي يُعلم الإنسان أن الله قدر له السوء ولم يقدر له الخير، فتجده يتعلل بعد ذلك بهذا القدر.
وقلنا كل واحد يشهد من نفسه ضرورة التفريق بين ما جبر عليه وبين ما خيّر فيه، فما جبرت عليه لا اختيار لك فيه وأما ما خيرت فيه فلك فيه اختيار وهذا الاختيار يعلمه الله ويقدره ويحصل.
(11/33)
فعليك إذن أن تعمل بما في وسعك وألا تبرئ نفسك، فليست الذكورة والأنوثة كالطاعة والمعصية، فتلك مجبور فيها وأما هذا – الطاعة والمعصية – فمخير فيها وليس ذلك كهذا كل منهما بقضاء وقدر، فتثاب وتعاقب على اختيارك، فإن اخترت الخير نقول جرى به قدر الله وهذه منة الله عليك، وإن اخترت الشر نقول جرى به قدر الله وهذا خذلان الله لك [فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه] .
وقد سماهم – أي هذه الفرقة الضالة المعتزلة نبينا عليه الصلاة والسلام بالمجوس (1) ثبت الحديث بذلك في سنن أبي داود ومستدرك الحاكم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وروي الحديث من روايته عدة صحابة كرام اذكر لكم أسماءهم مع الاختصار في ذكر المخرجين: حذيفة بن اليمان، في مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود وكتاب السنة لابن أبي عاصم، وعن جابر بن عبد الله في سنن ابن ماجه ومعجم الطبراني الصغير والشريعة للآجرّي والسنة لابن أبي عاصم، وعن أمنا عائشة في السنة لابن أبي عاصم، وعن أبي هريرة في السنة لابن أبي عاصم والشريعة للآجرّي وعن سهل بن سعد في كتاب تاريخ بغداد والطبراني في معجمه الأوسط، وكتاب السنة للإمام اللالكائي، وعن أنس في معجم الطبراني الأوسط.
__________
(1) المجوس يقولون لهذا العالم إلهان إله الخير وإله الشر، والمعتزلة يقولون الله يقدر الخير ولا يقدر الشر فالشر من الشيطان والإنسان والله لم يرده، بل وصل الأمر بثمامة بن أشر الضال أنه قال: إن الله لم يخلق الكافر، قالوا: وكيف؟ قال: لأن الكافر إنسان كفر فلو قلنا إن الله خلقه للزم من هنا أنه خلق الكفر، أي إذا قلنا بأن الله خلق الكافر بطل قولنا معشر المعتزلة، نعوذ بالله من هذا الضلال، ويترتب عليه أنه يحق للكافر أن لا يقر بعبوديته لأنه ليس عبداً لله، فانظروا إلى الضلالات كيف توصل أصحابها إلى الخروج من الدين وهم لا يشعرون.
(11/34)
ولفظه: [القدرية مجوس هذه الأمة إن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم] والحديث في درجة الحسن نص على تحسينه الحافظ العلائي، وأقره على ذلك الإمام ابن حجر العسقلاني والإمام السيوطي، وعدد من أئمة الحديث وذكروا أن الحديث في درجة الحسن منهم الحافظ أبو الفضل زين الدين عبد الرحيم العراقي رحمهم الله جميعاً.
وثبت في سنن الترمذي وسنن ابن ماجه، وكتاب السنة لابن أبي عاصم عن ابن عباس رضي الله عنهما والحديث روي أيضاً عن غيره من الصحابة الكرام منهم جابر بن عبد الله في كتاب السنة لابن أبي عاصم وسنن ابن ماجه ومنهم أبو هريرة في الشريعة للآجرّي، ومنهم أبو بكر في مسند إسحاق بن راهُويَهْ، ومنهم معاذ بن جبل في كتاب التاريخ الكبير للإمام البغدادي، ومنهم أنس بن مالك رضي الله عنه في حلية الأولياء.
ولفظ الحديث:
أن نبينا صلى الله عليه وسلم قال [صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب، القدرية والمرجئة] والحديث حسنه الإمام الترمذي ووافقه على التحسين الإمام ابن ماجه وغيره من الحفاظ.
قال ابن العربي في عارضة الأحودي شرح سنن الترمذي: "إنما قرن النبي صلى الله عليه وسلم بين القدرية والمرجئة لأن واحدة منهما أفسدت الحقيقة والأخرى أفسدت الشريعة" ولا يراد بالحقيقة هنا التصوف فانتبهوا!! بل المراد منها هنا: أمور الاعتقاد هو لم يحدد أي الفرقتين أفسدت الحقيقة وأيهما أفسدت الشريعة.
(المرجئة) يقولون: إنه لا يضر مع الإيمان خطيئة وذنب، أي أنهم يرجئون ويؤخرون الأعمال عن الإيمان، فالإيمان عندهم قول واعتقاد وليس العمل من سماته، وغلاتهم يقولون إذا قال الإنسان لا إله إلا الله محمد رسول الله ولم يأت بمأثم ولو لم يترك محظوراً دخل الجنة، فلا يضر مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الكفر طاعة.
مت مسلماً ومن الذنوب فلا تخف ... حاش المهيمن أن يُرى تنكيداً
لو رام أن يصليك نار جهنمَ ... لما كان ألهم قلبك التوحيدا
(11/35)
.. فالمرجئة أصالة أفسدت الشريعة لأنها عطلتها، حيث قالت إذا وحدت فلا تبال ِ بالعمل فعلاً أو تركاً فبدعتهم فيها تعطيل للأحكام، لكن أيضاً عطلت الحقيقة لأن هذا الاعتقاد اعتقاد باطل.
والمعتزلة أصالة أفسدت الحقيقة لأنها عطلتها، حيث قالت: إن الله لم يقدر الشر ويقع السوء في هذه الحياة يغير تقديره أي يفعله العبد جبراً عن الرب فهذا مما يتعلق بالعقيدة.
... لكن إفساد كل فرقة يؤول إلى الأخرى، فالمرجئة أفسدت الشريعة وأفسدت الحقيقة أيضاً لأن اعتقادها اعتقاد باطل، والمعتزلة أصالة أفسدت الحقيقة فهذا اعتقاد باطل ولزم من هذا إفساد الشريعة.
ولذلك يقول الإمام ابن تيمية: "قرن النبي صلى الله عليه وسلم بين المرجئة والقدرية لأن كلا ً منها يفسد الأمر والنهي والوعد والوعيد" فالأمر والنهي يُترك عند المرجئة، ونصوص الوعيد كلها تلغى ولا قيمة لها، وأما المعتزلة فأفسدت الأمر فقالت: من فعل معصية فقد خرج من الإيمان وهو في منزلة بين منزلتين، وألغت نصوص الوعد (نصوص المغفرة والرحمة) بكاملها، وأخذت بنصوص الوعيد فكل منهما ألغى الأمر والنهي والوعد والوعيد، والعلم عند الله.
قبل أن ننتقل لمناقشة الجبرية، من باب التعليق على هذه الفرقة الضالة:
حال هؤلاء المعتزلة ليس كحال مؤسسي المذهب وأولئك كما قلنا انتهت بدعتهم لكن خرج منها بدعة أخرى وليس حال أصحابها كحال أوائل القائلين بمذهب القدر، ولم اختلف الأمر؟ السبب في الاختلاف أن حكام بني أمية – مع ما فيهم من جور- لم تنتشر البدع في حياتهم، ففي عهدهم ظهرت فجوات وسلبيات لكن الحكام لم يتبنوا البدع ودافعوا عنها بل على العكس كانوا ينكلون بالمبتدعة ويوقفونهم عند حدهم.
(11/36)
لكن لما آل الحكم إلي بني العباس ففي عهد واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد تبني مذهب الاعتزال الخلفاء والأمراء وأول من امتحن الناس ببدعة المعتزلة الخليفة المأمون وأول من عرب كتب الفلسفة وشغل الأمة بما كانت لا تعرفه وليست في حاجة إليه هو المأمون، وكان الإمام أحمد عليه رحمة الله يقول: "ما أظن أن الله سيغفل عن المأمون"، فهو أول من فتح باب (1) التيارات الخبيثة على هذه الأمة وإن كان بتأويل وحب الاطلاع أو غير هامة التأويلات والمسوغات والمبررات.
فبانتقال هذه البدعة (بدعة المعتزلة في القدر) إلى الأمراء والخلفاء صار لها ردءٌ وشأن وصارت تأوي إلى ركن شديد بعد أن كانت تحارب من قبل الحكام، وشتان شتان بين أن يتولى الحاكم نشر بدعة وبين أن يتولى القضاء عليها، فإذا تولى القضاء عليها فلا توجد – ولو وجدت – إلا في الخفاء، وإذا تولى نشرها فإذا وجد الحق ففي الخفاء والله يزع بالسلطان ولا يزع بالقرآن.
وقلت لكم المسئول إذا أراد تغيير منكر لا يحتاج إلى منابر ولا إلى سيوف ولا إلى مساجد، بل بجرة قلم أو بكلمة في الإذاعة ينتهي الأمر.
__________
(1) ولذلك في عهد المأمون لما طلب من رؤساء النصارى أن يرسلوا إليه الكتب التي في كنائسهم من أجل أن تعرب وتدرس بين المسلمين، جمع رؤساء النصارى جميع القسس وعرضوا عليهم الأمر فكلهم قالوا: لا ترسلها أيها الملك لئلا ينتفعوا بها ويطلعوا على علومنا إلا قسيس ملعون قال: أرسلها أيها الملك فوراً، فقالوا: علام؟!، قال: ما دخلت هذه الكتب على أمة عندهم دين سماوي إلا أفسدت دينهم وأوقعت الخلاف بينهم، وبالفعل وقع الخلاف بين المؤمنين قبل وفاة المأمون وأفسدت دين رب العالمين وامتحن أهل السنة وعذبوا في عهد المأمون ومن بعده من الخلفاء كالمعتصم وغيره.
(11/37)
فمثلا ً سفور النساء لو أصدر الحاكم قراراً بمنعه وأن من خرجت سافرة إن كانت من أهل البلاد سجنت وعزرت، ومن كانت من خارج هذه البلاد من المقيمات فيه سجنت وعزرت وأبعدت عن البلاد، فلن ترى امرأة تكشف عن شيء بعد ذلك، فهذا القرار لا داعي معه إلى حكم شرعي لا حلال ولا حرام بل هذا يكفي، أما أن يصبح العلماء في المساجد فقط دون تحرك الحاكم فلن يكون هناك أثر لهذا الكلام في مقابل أمر الحاكم بذلك، ولذلك قال الله تعالى: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط، وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد.. ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب) .
فهل اقتصر في الآية على الكتاب والميزان فقط؟ لا، ولذلك ميزان وكتاب بلا حديد لا وزن له ولا اعتبار وحديد بلا كتاب ولا ميزان ظلم وجور بل لابد إذن من حديد مع الكتاب وميزان، لتوزن الأمور على حسب شريعة الرحمن.
إذن في عهد خلفاء بني العباس تبنوا نشر هذا المذهب الضال فصار المذهب له انتشار.
أسباب ظهور بدعة المعتزلة وانتشارها وعدم زوالها واضمحلالها: لذلك عدة أسباب نبرزها في ثلاثة:
? السبب الأول: تبني الخلفاء لها ودفاعهم عنها بعد أن اتصل بهم أركان المعتزلة وأفسدوهم فعمرو بن عبيد كان جليساً حميماً وصفياً مخلصاً لأبي جعفر المنصور وأبو الهذيل العلاف كان أستاذاً للمأمون وهكذا، أحمد بن أبي دؤاد كان قاضي القضاة لثلاثة من خلفاء بني العباس، إذن صار الباطل تسانده قوة.
? السبب الثاني: وجود جماعة من أهل اللَسن والفصاحة والبلاغة بين المعتزلة فخدعوا الناس ببريق كلامهم ومعسول ألفاظهم، والأمر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن من البيان لسحراً" وهذا ليس ذماً للبيان إنما لبيان منزلة البيان فإذا كان البيان في الحق هذا حسن، وأما البيان في الباطل فمذموم لأنك تلبس على الناس فتظهر لهم الباطل في صورة الحق، فخدعوا الناس بهذا الكلام المنمق.
(11/38)
مثلا ً: واصل بن عطاء كان ألثغ أي تخرج الراء منه غيناً، فكان في خطبه الطويلة إذا خطب يتجنب حرف الراء ولا ينطق بكلمة فيها راء، مع أنها من أكثر الحروف دوراناً في الكلمات، وهذا من فصاحته، وخشية أن يلثغ فيصبح مستهجناً أمام الناس.
وآخر: الهذيل العلاف كان في المجلس الواحد يورد مائتي بيت من الشعر، من أشعار العرب ويستدل بها شواهد على كلامه.
? السبب الثالث: تعونهم فيما بينهم حتى ضرب بهم المثل في ذلك، لا يوجد على وجه الأرض أناس يتعاونون ويتساعدون ويتساندون كفرقتين ضالتين المعتزلة والشيعة وهم أي الشيعة أخبث من اليهود بآلاف الدركات، لا بدركة واحدة، فالمعتزلة يتدينون بنصرة المعتزلي وإن كان على باطل، والرافضة يتدينون بنصرة الرافضي وإن كان على باطل أي عندما يكذبون لنصرة فرقتهم في خصومة أو مشكلة فهذا من أكبر التدين، ونحن معشر أهل الحق عندنا ورع يكفنا (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا) فلو اختلف سني مع نصراني مثلا ً عندنا ننصف النصراني عن السني، فلو كان السني مخطئاً فنأخذ على يديه.
قال الإمام الأعمش: والله ما آمنهم أن يقولوا وجدنا مع الأعمش امرأة يزني بها، أي من كثرة ما يكذب هؤلاء الشيعة.
ويقول هارون الرشيد: "طلبت الصدق والمروءة فوجدتها في أهل الحديث، وطلبت الكلام والشغب فوجدته في المعتزلة، وطلبت الكذب فوجدته في الرافضة" أي إذا أردت الكذب فاذهب إلى الشيعة فلا يوجد مثلهم في الكذب وتلفيق الأخبار، ولذلك الدجل الذي عندهم والتزوير والله إنه لتستحي منه الحمير.
(11/39)
وقد علم أئمتنا كذب الشيعة فرودا روايتهم، ومن أركان دينهم التقية، ويأثرون عن جعفر الصادق رضي الله عنه وهو بريء منهم ومن انتسابهم له – أنه قال: "التقية ديني ودين آبائي"، وكذبوا دين جعفر ودين آل البيت التقوى لا التقية، والتقية هي: أن يظهر خلاف ما يبطن فيُظهر أنه سني مع أهل السنة وأنه معهم فإذا تمكن من السني ذبحه، فهي دين المنافقين لا دين آل البيت وفي عقائد الشيعة المقررة التي إذا لم يلتزم بها الشيعي فليس بشيعي أنه يجب على الشيعي أن يقتل السني إذا خلا به فإن عجز يجب عليه أن يهمّ بقتله، وإذا لم يفعل فليس هو من الشيعة والجنة عليه حرام.
وفي بلاد الشام عندنا النصيرية – عليهم لعنات رب البرية – كانوا إذا انفردوا بمسلم علموا أنه لا يوجد معه نصير قتلوه وذبحوه، وإذا كان بارزاً في الأسواق والشوارع العامة يمشون على ظله وخياله حتى يشفى غليله.
وكذلك الشيعة إذا أراد أن يذبح الشاة سماها عائشة ثم ذبحها، وإذا أراد أن يذبح التيس سماه أبا بكر ثم ذبحه، حتى يذهبوا الغيظ والحقد وينفسوا على أنفسهم ويرووا غلهم وحقدهم.
ويروى أن شيعياً كانت عنده بغلتان سمى أحدهما أبا بكر والأخرى عمر – في عهد أبي حنيفة – وفي أحد الأيام دخل إلى الإسطبل فرفسته إحداهما، فبلغ الأمر أبا حنيفة فقال: انظروا من هي البغلة التي ضربته ورفسته، فلعلها التي سميت بعمر، وكان الأمر كما قال رحمه الله، وهذا من كراماته.
الشيعة لا عقل ولا نقل هذا حالهم أكذب الناس في النقليات وأجهلهم في العقليات، فإذا جاء إليهم شخص اسمه عمر فإنهم يتقربون إلى الله بقتله وذبحه!!.
(11/40)
ولو جاء إليهم من اسمه علي أو حسن أكرموه وإن كان خصمهم وعدوهم، وهذه هي الحماقة!! فانظر إلى تعاون الشيعة ولو أشار إمام منهم بأصبعه لأقام البلدة وأقعدها، وانظر بعد ذلك إلى حال شيوخنا وعلمائنا – إذا سلموا من العامة – فضلاً عن الحكام – فهنيئاً لهم، وإذ لم يسلموا من الحكام والعوام فالحال لا يخفى عليكم وكل سفيه ينتسب لأهل السنة يأتي ليؤذي علماء أهل السنة بكلامه بفعله بتشويهه فهل مثل هذا يقع بين الشيعة؟! لا، هذا مستحيل، وانظر إلينا بعد ذلك لا أننا تمسكنا بديننا وبأدب الإسلام وأخلاقه، ولا – على الأقل – تخلقنا بمثل أخلاق الشيعة، ونحمد الله أن حفظنا من التشيع.
ولذلك كان أئمتنا إذا أرادوا أن يخبروا عن إكرام إنسان لإنسان وأنه أكرمه غاية الكرم يقولون: احتفى به كاحتفاء الشيعي بالشيعي والمعتزلي بالمعتزلي، أي لأنه ليس بعد إكرامهم لبعض إكرام.
(11/41)
فهذا الاعتداد فيما بينهم أكسبهم قوة وأكسبهم قولهم بعد ذلك قوة أيضاً فمثلاً: أحمد بن أبي دؤاد الذي كان قاضي القضاة لثلاثة من خلفاء بني العباس – كما قلنا – من البديهي أنه لن يولى القضاء في الدول الإسلامية في أمصارها إلا للمعتزلة، وسيقول بكل ما فيه نفع للمعتزلة، وسيسعى بكل ما فيه إضرار لأهل السنة، بل وصل الأمر بأحمد أن الواثق أراد أن يستفك أسرى المسلمين من الروم مقابل فدية، قال له أحمد: من قال بخلق القرآن فأفده وأعطه من بين المال ألف دينار، وإذا لم يقبل بذلك فاتركه عند الروم!! أي اترك المسلم الذي لا يقول بخلق القرآن عند النصارى ليعذبوه، سبحان الله!!، وللأسف مازال مذهبهم ينتشر ويقرر للآن في الكتب ويدرس في المدارس، ودرجت عليه أجيال وأجيال، وتلوثت به أذهان المسلمين بعد أن انتشر مذهب الاعتزال – كما قلت – بسبب وجود قوة حامية له فقرر وانتشر وسطر في الكتب، ثم بعد ذلك عاد الأمر لأهل السنة لكن بعد أن امتلأت الكتب بالضلالات والبدع، فكم من كتاب في التفسير للمعتزلة، فمثلا ً كتاب الكشاف للزمخشري كله ضلال من أوله لآخره، وقد جعل بداية مقدمة كتابه: "الحمد لله الذي خلق القرآن"، فقيل له: لن ينظر فيه أحد إن تركت هذه العبارة، فقال: "الحمد لله الذي جعل القرآن عربياً"، ويقصد بجعل خلق، وقد قال أئمتنا يحرم النظر في كتابه على العالم والعامي، أما العامي فأمره معلوم، أي لأنه جاهل ولا يميز الغث من السمين والضلال من الهدى وأما العالم فيحرم عليه أيضاً لعدة أمور:
1- أنه يقدم المفضول على الفاضل بل مرذولاً على فاضل.
2- يُخشى عليه من الزيغ وأن يعلق في ذهنه شيء من الشُبه وهو لا يدري، لأن الزمخشري مع ضلاله واعتزاله صاغ الاعتزال بألفاظ لم يصرح فيها بأنه على مذهب المعتزلة فهذا مما يزيد في الخديعة.
3- تَخْدع العامة، حيث سيقتدون بك دون أن يعلموا نيتك.
(11/42)
وقد ألف الإمام السبكي عليه رحمة الله رسالة سماها (سبب الانكفاف عن إقراء الكشاف) وقد كان يقرأ الكشاف ويُقرؤه لتلاميذه فلما وصل إلى قول الله جل وعلا (عفى الله عنك لم أذنت لهم) ، قال الزمخشري – وهذا موجود في تفسيره –: "بئس ما فعلت يا محمد"، فطوى الإمام السبكي الكتاب وقال أستحي من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقرأ هذا الكتاب وفيه هذه القاذورات.
الله الذي هو سيده يقول له (عفى الله عنك) وهذا لا لجرم وقع منه إنما على عادة العرب في الملاطفة وفي الخطاب يقولون عفى الله عنك استمع لي، فالله يلاطف نبيه، ولو قال له بئس ما فعلت لتحملها منه لأنه سيده وربه، أما أن تقولها أنت، فمن أنت يا صعلوك حتى تقول هذا لخير خلق الله عليه الصلاة والسلام.
مثال آخر: كتاب المغنى للقاضي عبد الجبار، 20/ مجلد في التفسير وفي أحكام الشريعة، كله يقطر ضلالات كل مجلد لا يقل عن 600/ صفحة من القطع الكبير، وهو للأسف منتشر وموجود، وكتب أخرى غيرها.
س: ذكَرْتَ الأحاديث المرفوعة السابقة القدرية والمرجئة، فهل كانوا موجودين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟
ج: لم يكن للقدرية أو المرجئة وجود في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك لم تكن الرافضة موجودة وكذلك الخوارج وغيرهم من الفرق.
(11/43)
.. إنما هذا من باب إخبار نبينا عليه الصلاة والسلام لنا بما سيقع في أمته فهو من باب الإخبار بالغيب وقد ذكر أئمتنا هنا عن معجزاته وأودعوه في كتب دلائل النبوة – وإن أردتم أن تتحققوا من هذا فانظروا في كتاب (دلائل النبوة) للإمام البهيقي وهو في 7/ مجلدات، وأنصحكم بشراء هذا الكتاب: يقول الإمام البهيقي عليه رحمة اله (6/547) : باب ما جاء في إخباره بظهور الروافض والقدرية، أي إخبار خير البرية صلى الله عليه وسلم بأن الروافض (الشيعة) سيظهرون وهكذا المعتزلة الضالون، وسنذكر ما يتعلق بمبحثنا وهم القدرية، يقول: عن ابن عمر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول [سيكون في أمتي أقوام يكذبون بالقدر] وهذا الحديث رواه الإمام أحمد وابن ماجه والترمذي بسند صحيح، وفيه: أن ابن عمر رضي الله عنه كان له صديق في بلاد الشام، فأرسل ذاك مع بعض الناس إلى ابن عمر رسالة يسلم عليه فيها، فقال ابن عمر: بلغني أنه أي صديقه الذي هو في بلاد الشام – قد تكلم في شيء من القدر فإن كان كذلك فلا تُقرئه مني السلام (1) ، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [إنه سيكون في أمتي أقوام يكذبون بالقدر] .
__________
(1) كما تقدم معنا أول المبحث: "إذا لقيت أولئك فأخبرهم إني برئ منهم وأنهم برءاء مني" أولئك في البصرة وهذا في الشام.
(11/44)
.. والحديث رواه أيضاً أبو داود والحاكم في المستدرك بسند صحيح، وفي بعض روايات الحديث يكون في أمتي مَسْخٌ وخَسْفٌ وقَّذْفٌ (1) وهو في القدرية، قال الإمام ابن القيم عليه رحمة الله: تواترت الأحاديث بوقوع المسخ في هذه الأمة في بعضها مطلقاً، وفي بعضها مقيد بصنفين بعلماء السوء، والثاني بالمجاهرين بالفسق (2) وفي بعض الأحاديث مطلقاً لكل من ينحرف في هذه الأمة.
وهذا لا استبعده فإن كل بيت فيه تليفزيون إذا وقع الخسف أو المسخ أو القذف فهو أول من يُمسخ لأن هذا مجاهر، فكل من في بيته هذا الجهاز اللعين فهو مهدد بالمسخ إذا وقعت عقوبة المسخ، ولا يعلم متى ستقع عقوبة الله بالتحديد لكن لابد من أن تقع لأنه أخبر بذلك من لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) المسخ تبدل الأجساد، والخسف: خسفت الأرض: غارت بمن فيها، والقذف: أن يرسل عليهم حجارة من السماء، كما مسخ وخسف وقذف الأمم السابقة (فكلاً أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض) .
(2) وهم أهل العهر والخمور الذين وردت الإشارة إليهم في صحيح البخاري: [ليكونن في أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف ثم يصحون وقد مسخوا قردة وخنازير] .
(11/45)
فإذن أورد في كتب (دلائل النبوة) وذلك للإشارة إلى أنه غيب سيقع وإذا وقع هذا الغيب دل على أنه القائل رسول الله لا ينطق عن الهوى عليه صلوات الله وسلامه فانظروا من جملة عناوين الكتاب باب ما جاء في إخباره بقوم في أيديهم مثل أذناب البقر يضربون بها الناس ونساء كاسيات عاريات فكان كما كان، أي هذان دلائل نبوته.. والحديث عن أبي هريرة في صحيح مسلم وغيره وفيه يقول نبينا عليه الصلاة والسلام [صنفان من أهل النار لم أرهما رجال معهم سياط كأذناب البقر يضربون بنا الناس] وهم المخابرات ورجال الشرطة، ولذلك جميع أئمتنا يقولون من دلائل النبوة إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بوجود الشرطة وكثرت الشُرَط ويقال للشرطي يوم القيامة دع سوطك وادخل النار، والصنف الثاني [ونساء كاسيات عاريات (1) مائلات (2) مميلات (3) رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا] أي خمسمائة عام كما ورد في رواية أخرى.
الفرقة الثانية: القدرية الجبرية:
خلاصة قولهم في قدر ربهم:
أن الله قدر على العباد كل شيء وفي ذلك التقدير قّسْر للعباد وإكراه لهم على فعل ما قدِّر عليهم وإذا كان الأمر كذلك فالعبد مجبور وكل ما يجري منه يعتبر طاعة للعزيز الغفور لأنه ينفذ مشيئة الله وقدره، قال قائلهم:
أصبحت منفعلاً لما يختاره ... مني فقعلي كله طاعاتج
نعوذ بالله من هذا!!
(منفعلاً) أي محل الفعل ومحل ظهور قدر الله، فكل ما يجري مني طاعة لأنني أنفذ مشيئة الله وقدره.
__________
(1) (كاسيات عاريات) أي تلبس ملابس شفافة، أو كاسية لكن تبدو بعض أطرافها من الساقين أو الفخذين أو غيرهما.
(2) مائلة عن الحق.
(3) مميلة لغيرها.
(11/46)
.. ويقال لهم قدرية جبرية، وقدرية مشركة، لأنهم سيقولون كقول المشركين (لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء) أي: الله شاء لنا هذا وقسرنا عليه، وهذا هو قول المشركين تماماً!! (وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين) ، فقالوا لو شاء الله ما أشركنا ولو شاء الله ما عبدنا من دونه وهكذا قال الجبرية نحن مضطرون مجبرون وكل ما يجري منا فهو طاعة.
هذا القول معلوم بطلانه لعدة أمور:
أولها: كل واحد منها ذكراً كان أو أنثى، مؤمناً أو كافراً يشهد الفرق بين عمله الاضطراري وعمله الاختياري فهو إذن قول يصادم العقل ويعاكس الفطرة.
الثاني: قررت شريعة الله أنه إذا وجد الإكراه فلا تكليف ولا ثواب ولا عقاب ولا مدح ولا ذم [رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه] فإذا كان العبد مكرهاً مقسوراً فكيف إذن مدح الله الطائعين وذم العاصين وجعل لهؤلاء الجنة ولأولئك النار.
الثالث: الثواب والعقاب، والمدح والذم منوط ٌ بالأعمال الاختيارية لا بالأعمال الاضطرارية فلا يثاب الإنسان – كما تقدم معنا – على كونه ذكراً أو أنثى، إنما يثاب على كونه مطيعاً، ويعاقب إذا كان عاصياً.
الرابع: الطاعة لا تكون إلا بموافقة الأمر الديني الشرعي لا بموافقة الأمر الكوني القدري، فالإنسان لا يعتبر مطيعاً إلا إذا وافق ونفذ أمر الله الشرعي.
الخامس: وكنت أقوله للأخوة – يناقشون مناقشة فعلية لا قولية لأنه في الغالب لا تنفعهم المناظرة الكلامية أي اضربه بحيث تؤذيه فإذا قال لك: علام تضربني؟ قل له: قدر الله، وأنا مجبور وأنا مطيع كما تقولون فعلي كله طاعات فلا تلمني وأنا مُثاب لأنني نفذت مشيئة الله وإرادته، فإذا قال لك: أنت الذي رفعت يدك وأنت الذي ضربتني بها، فقل له: بطل مذهبك.
(11/47)
.. ولذلك هذا المذهب مما فطر الله عقول الناس وقلوبهم جميعهم على رده، وهل إذا أساء إنسان في حقك تقبل منه أن يقول لك معتذرا أنا مجبور!! ولذلك كان أئمتنا يقولون: أنت عند الطاعة قدري، وأنت عند المعصية جبري، أي مذهب شئت تمذهبت به؟! وهذا من التعريض بهم.
... أي إذا صدرت منه الطاعة يقول ليمدح نفسك – قدري ومعتزلي أي أنا خلقتها وأوجدتها دون تقدير ربي وعند المعصية يقول: جبري ليبرأ نفسه من اللوم والذم!!!.
هذا هو العقل البشري عندما ينحرف عن وحي الله الرباني، فإنه يقع في هذه التناقضات.
وإذا لم يكن من الله عون للفتى ... فأول ما يقضي عليه اجتهاده
يُقضى على المرء في أيام محنته ... حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن
وهذا القول بالجبر يوجد في الفرقة الضالة الجَهْميَّة.
وأول من قال به منهم هو شيخ الجبرية الجهم بن صفوان، والجهم هو تلميذ الجعد بن درهم وقد كان الإمام عبد الله بن المبارك يقول:
عجبت لشيطان دعا الناس جهرة ... إلى النار واشتُق اسمُه من جهنم
يعني بذلك جهماً أي اشتقها من جهنم، وقد قتل هذا الضال سَلْم بن أحوز سنة 128هـ أي في عهد بني أمية كما أن شيخه الجعد قتله خالد القّسْري، ولما قبض سلّم على الجهم، قال له: اسبقتني فإن لي أماناً من أبيك، فقال سلْم: ما كان له أن يؤمنك، ولو أمنك ما أمنتك، والله لو كنت في بطني لشققته حتى أقتلك، ولو أنزلْتَ عيسى بن مريم وملأتَ هذه العباءة كواكب لما نجوت مني ثم ضربه فقتله.
... وقد أخذت الجبرية هذه المقالة عن اليهود كما أن بدعة القدر أُخذت عن النصارى، كما أن بدعة التشيع أخذت عن اليهود عن عبد الله بن سبأ اليهودي من بلاد اليمن، والشيعة الآن يبرءوا أنفسهم من هذه النسبة يقولون عبد الله بن سبأ صورة أسطورية فلا وجود لرجل اسمه عبد الله بن سبأ، إنما أهل السنة يتهموننا به!! ونقول: إن وجود عبد الله بن سبأ من التحقق كتحقق وجود السبت في أيام الأسبوع – أي لا شك في وجوده.
(11/48)
.. والشيطان طه حسين (1)
__________
(1) نقول له إن كنت تقول عن كلام الله خرافة فمن باب أولى أن تقول عن عبد الله بن سبأ قصة أسطورية وضعها أهل السنة، نعوذ بالله من عمى البصيرة، لأن طه حسين أعمى البصر لكن عمى البصر مصيبة وعمى البصيرة معيبة (فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) وقد جمع الله له بين الأمرين عمى البصر وعمى البصيرة، هذا هو طه الشين لا حسين، وهو الذي كان يقال له عميد الأدب العربي – وقد أفضى إلى ما قدم ونسأل الله أن يملأ قبله جمراً من نار جهنم إذا لم يتب من كفره الذي سطره في كتابه الأدب العربي (بل هو الجاهلي) وهذا الذي سبق قاذورة من قاذوراته، إن قاذوراته التي لا تحصى فأنتنت منها الدنيا فهو الذي يدعو إلى تقليد الغرب والتبعية المطلقة لهم وأن نأخذ كل ما عند الحضارة الغربية نافعاً كان أو ضاراً يقول: "لأن الأمة العربية ليس عندها عقول ولا يمكن أن ترفع رأسها إلا إذا جعلت أنفها في ذنب الحضارة الغربية"، هذا يسطره في كتابه مستقبل الثقافة في مصر، وذاك إنكار ما في القرآن – يسطره في كتابه الأدب الجاهلي، وضلالاته لا تحصى ولا غرو في ذلك ولا عجب ممن ربي في باريس وأشرف على تدريبه القسس والنصارى، ولما جاء طه حسين إلى سعد زغلول أو غيره من أجل أن يرسل إلى فرنسا قال بعض العلماء الضالين: أن سعد زغلول أفضل من محمد رسول الله لأن محمداً عندما جاءه الأعمى عبس في وجهه وسعد زغلول عندما جاءه طه حسين ما عبس في وجهه!! نعوذ بالله من هذا الكفر وهذا يقوله عالم أزهري وشرار هذه الأمة في آخر الزمان علماء السوء نسأل الله أن لا نكون منهم..
(11/49)
– وقد أفضى إلى ما قدم – هو من جملة من يدور في هذا الفلك لما يحصله من دعم الشيعة فيقول: لا يوجد شخصية اسمها عبد الله بن سبأ إنما هذا افتراه أهل السنة، وهو الذي يقول أيضاً إن قصة الفيل لم تحصل بل هي خرافة أخذها محمد صلى الله عليه وسلم ونسجها، وهكذا أيضاً بناء الخليل لبيت الله الجليل ومجيء هاجر مع ابنها إسماعيل إلى البيت هذا كله خرافة.
... فالجهم أول من قال بالجبر في هذه الأمة كما أن أول من قال بالتشبيه في هذه الأمة هشام بن الحكم الرافضي الشيعي الذي كان يصف الله بالأمتار والأشبار ويقول أن جبل أبي قبيس أكبر من الله جل وعلا!! تنزه الله عن ذلك، كما أن أول من قال بأنه لا قدر – باستثناء سوسن – هو معبد الجهنمي فهؤلاء هم أصول الضلالة ولم يدخلوا في الإسلام رغبة ولا رهبة بل كيداً للإسلام وأهله.
... قال الجهم أيضاً – يقرر مذهب الجبر – إن العبد بالنسبة لأفعاله كالريشة في مهاب الهواء يطيرها حيث شاء فلا اختيار لها وهكذا العبد عندما يعمل فليس له اختيار.
وقد أتى الجهم بخمس ضلالات هذه –
1- القول بأن الإنسان مجبور إحداها.
2- نفس الصفات عن الله.
3- القول بفناء الجنة والنار، أي أن الجنة والنار تفنيان بعد أن يعذب أهل النار في النار وينعم أهل الجنة في الجنة كما أنه كان الله ولا شيء معه سيعود الأمر كذلك، وما سبق لهذا أحد لا من جن ولا من أنس.
4- الخروج بالسيف على أئمة الجور، ومنه أخذها بعد ذلك المبتدعة وانتقلت إلى المعتزلة وانتقلت إلى الخوارج.
5- قوله: إن الإيمان معرفة بالقلب فقط فلا يشترط النطق ولا العمل ولا الاعتقاد بل مجرد المعرفة: قال أئمتنا وعلى تعبيره ينبغي أن يكون إبليس مؤمناً لأنه اعترف بل قال: رب أنظرني إلى يوم القيامة، فإذن كان يعرف الله.
المبحث الخامس
سبب ضلال الضالين في قدر رب العالمين من قدرية جبرية وقدرية مجوسية:
(11/50)
سبب ضلالهم التسوية بين إرادتي الله وجَعْل الإرادتين إرادة واحدة وجعل النوعين نوعاً واحداً لكن اختلف جَعْلهم فبعضهم ألغى الشرعية وبعضهم ألغى الكونية القدرية:
... أما القدرية الجبرية المشركة فهؤلاء ألغوا الإرادة الدينية الشرعية حيث بقولهم الذي ذكرناه كأنهم قالوا: إن لله إرادة واحدة، وكل ما يقع يحبه الله ويرضاه وكل ما نفعله مجبورون عليه ونحن ننفذ به إرادة الله ونحن نطيعه في ذلك.
... أما القدرية المجوسية فهؤلاء ألغوا الإرادة الكونية القدرية حيث بقولهم كأنهم قالوا: ليس لله إلا أمر ونهي (الإرادة الدينية) وهو لم يقدر عليك شيئاً والعبد يفعل أفعاله بدون تقدير رب العالمين لها، فالله يأمر وينهى فقط ولا يعلم ماذا ستفعل ولم يقدر عليك شيئاً، فإذن هم ألغوا بهذا الإرادة الكونية القدرية التي هي كما قلنا مشيئة الله العامة وإرادته النافذة في كل شيء فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فألغوا المشيئة العامة وجحدوها وأنكروها، وقالوا: ليس له إلا مشيئة دينية افعلوا ولا تفعلوا، أقيموا الصلاة ولا تقربوا الزنا، لكن هل ستصلي أو ستزني ليس لله عليك تقدير في ذلك ولا يعلم إنما أنت الذي تقدر لنفسك، وأنت الذي تخلق لنفسك فهو نهاك عن الزنا لكن بإمكانك أن تعارضه وأن تزني فإذن غلبته تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
... وضلال كلٍ من الفرقتين لا يخفى حسب ما تقدم معنا من تقسيم إرادة الله إلى دينية وذكرنا الأدلة عليها وإرادة كونية وذكرنا الأدلة عليها وأهل البدع لما سووا بينهما فجعلوهما واحدة هذا ضلال مبين.
المبحث السادس
يدخل تحته عدة تنبيهات وإيضاحات مهمة:
الإيضاح الأول: هل الإنسان مُسَيّرٌ أو مُخَيّر؟ مختار أم مضطر مريد أم مجبور؟
... كنت ذكرت هذا لكم سابقاً في بعض الدروس المتقدمة، وهو أن الإنسان له حالتان:
(11/51)
الحالة الأولي: حالة هو فيها مكره مجبور مسير وهي: ما لم يطالب فيه بأمر ولم ينه عنه مما يقع منه أو عليه بغير اختياره وإرادته ككونه ذكراً أو أنثى جميلاً أو قبيحاً، طويلاً أو قصيراً فهذه وما شاكلها لم يطلب منه اختيار واحدة منها فلم يطلب منه مثلاً أن يكون ذكراً أو أنثى ولذلك فهنا لا فضل للأنثى على الذكر لأنها أنثى وليس للذكر فضل على الأنثى لأنه رجل بل كل واحد بعمله مرتهن، فقد تدخل المرأة الجنة ويدخل الرجل النار، وحذاء المرأة المسلمة أطهر من ملء الأرض كفاراً مع أنها قد تكون هذه المرأة فقيرة مسكينة، لكن نقول هذه مؤمنة وليس للكافر – مهما علا شأنه – وزن عند الله (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) ، وهكذا لو كانت هناك امرأة مسلمة ورجل مسلم، لكن صلاحها كان أكثر من صلاحه، فالمرأة أعلى منزلة عند الله من الرجل المسلم الصالح الذي لم يبلغ لدرجتها في الصلاح.
إذا نظرت إلى أبي لهب تراه جميلاً – وكما يقولون: وكان عربياً – ولكن مع ذلك يقول الله له (تبت يدا أبي لهب) ، وما سمي بأبي لهب إلا لأن وجهه كان يلمع كالشمس حمرة وشقرة.
وإذا نظرت إلى بلال الحبشي رضي الله عنه تراه أسوداً وكان عبداً لكن مع ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم له: [إني لأسمع قرع نعليك في الجنة] إذن فلا ثواب ولا عقاب على مجرد الحسن أو السواد بل بحسب العمل.
(11/52)
الحالة الثانية: حالة نحن فيها مختارون وهي: كل ما يتعلق فيما أُمرنا به ونُهينا عنه، لنا اختيار ومشيئة وليس علينا قسر في فعلنا وعملنا، فكل واحد يعمل عمله باختياره، لكن ذلك الاختيار وتلك المشيئة التي تجري منا مرتبطان بمشيئة الله وتقديره، فنحن في فعلنا مختارون وفي مشيئتنا مضطرون ولهذا دليل في سورة النحل يقول الله جل وعلا (ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ولتسألن عما كنتم تعملون) فانتبهوا لهذا الإحكام في كلام ذي الجلال والإكرام كيف أنه أثبت لنا مشيئة وأن مشيئتنا مقيدة بمشيئته لكن لا ينفي ذلك المسئولية عنا، أي لو شاء الله لجعلكم أمة واحدة على الحنفية السمحة، مسلمين أجمعين ولفظ (الأمة) يأتي في القرآن لخمسة معانٍ، ولا يخرج لفظ الأمة عنها في كتاب الله جل وعلا:
1) الملة: كقوله تعالى (إن هذه أمتكم أمة واحدة) أي ملة، ودينكم دين واحد وكالآية هنا، كقوله (كان الناس أمة واحدة ... ) أي على دين واحد.
2) الجماعة: كقوله تعالى (ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يعقلون) أي جماعة.
3) القائد الإمام المتبع الذي بفرده يعدل أمة: كقوله تعالى: (إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين) سورة النحل آية 120.
4) الحين: وقد ورد هذا في آيتين من كلام رب العالمين في سورة هود (ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة) أي حين ومدة معدودة، ومنه قول الله تعالى في سورة يوسف (وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة) أي بعد حين ومدة.
5) الصنف: كقوله تعالى (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم) أي أصناف أمثالكم.
(11/53)
أي هذه الدواب وهذه الطيور مثلكم في أي شيء؟! مثلنا في أنها تأكل كما نأكل وتشرب كما نشرب وتتناسل كما نتناسل، وتعرف ربها كما نعرف ربنا جل وعلا، فهذه أمم وتتعارف فيما بينهما كما نتعارف فيما بينها فالطيور يكلم بعضها بعضاً وهكذا الحيوانات لكن لا نحن نفهمها ولاهي تفهمنا، فهي أصناف وجماعات فالذكر يميز الأنثى ويعرفها، وهذه تعرف صاحبها وتعرف بيتها.
... ولعل أحدكم عاش في قرية ورأى الغنم عندما يعود قبيل المغرب والله إنه ليوحد الله هكذا عفوياً من غير قصد، فتراه يعود بأعداد كبيرة مختلطة ببعض قبل دخول القرية، لكن عندما يدخلون القرية كل واحدة تعرف صاحبتها وبيتها ولا يحصل أي خلط أو خطأ فسبحان الله!! فهي أمم أمثالكم كما أننا نعرف بيوتنا دون أن نخطئ.
ولذلك يقول أبو محمد سفيان بن عيينة عليه رحمة الله وهذا من بديع استنباطه من كلام ربه، يقول في قوله تعالى (إلا أمم أمثالكم) أي وأنتم على شاكلتهم:
يقول ما حاصله: "وهذه المثلية لما انعدمت من حيث الشكل الظاهري والصورة الظاهرة، وتعين المصير إلى أن هذه المثلية في الحقيقة الباطنة، فبعضكم على خُلُقِ الأنعام وبعضكم على خُلُقِ الحمير وبعضكم على خُلُقِ الكلاب وبعضكم على خلق العقارب وبعضكم على خلق الحيايا وبعضكم على خلق الذئاب، وبعضكم على خلق الخنزير، وبعضكم وبعضكم....." فهذه البشر في الحقيقة صور للحيوانات فترى أنساناً أحياناً لا يأتي منه إلا الأذى لا يقول كلمة فيها ذكر الله ولا نفع لعبد من عباد الله، فهذا في الحقيقة عقرب، وكم من إنسان لا ينجب إنساناً إنما أنجب ثعباناً يلدغ، أو لم ينجب إلا ودلداً بليداً كالحمار، أو لا غيرة له (ديوث) كالخنزير، ومن الناس من يلد شاة وهذه في الحقيقة أحسن المماثلات.
(11/54)
ولذلك المرأة إذا كانت سكينة وساكنة وطاهرة فإنها تشبه بالشاة وهي أحسن الأوصاف والسكينة والأناة في الغنم، كما أن الغلظ والجفاء في الإبل، كما أن البلادة في الحمير، فكل واحد يأخذ شكل من يصاحبه.
ولذلك حرم الشارع علينا أكل لحم الخنزير، لأنك ستتأثر بلحمه وتأخذ خصائصه (عدم الغيرة) ولحم الإبل – مع أنه حلال – أُمرنا أن نتوضأ بعد أكل لحمه، لما يحدث في قلبنا من كبر وزهو وخيلاء كحال البعير عندما تراه يمشي ويتمايل فبالتالي يصبح مثل هذا بالإنسان فيتوضأ ليزيل هذا المعنى الذي علق فيه من أكل لحكم البعير، أما إذا أكل لحم الغنم فيكتسب سكينة وطمأنينة ولا يحتاج لوضوء.
وحقيقة الأمر كذلك الناس لا تختلف عن البهائم إلا في الصورة الظاهرة:
أبني إن من الرجال بهيمة ... في صورة الرجل السميع المبصر
فَطِنٌ بكل مصيبة في ماله ... وإذا أصيب بدينه لم يشعر
أي صورته صورة إنسان يسمع ويبصر لكنه في الحقيقة بهيمة من الحيوانات إذ لو شاء الله لجعل الناس كلهم مؤمنين (ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء) فهو الهادي وهو المضل، وهدى من شاء فضلاً وكرماً، وأضل من شاء عدلاً وعلماً وهذا قدره السابق سبحانه وتعالى.
س: لكن هل كونه سبحانه وتعالى يهدي من يشاء ويضل من يشاء يسقط المسئولية أمام رب البرية؟
ج: لا، (ولتُسألن عما كنتم تعملون) فالضلال الذي يصدر منكم ستُسألون عنه، وهكذا الهداية، فتثابون إذا اهتديتم وتعاقبون إلا ضللتم.
(11/55)
فهذا يجمع ما قلنا ومن أن فعل الإنسان باختياره لكن مشيئتة تابعة لمشيئة ربه، يهدي من يشاء ويضل من يشاء، ولذلك يفعل الإنسان ما يشاء، لكنه لا يشاء ما يشاء بل ما تشاؤه تابع لمشيئة الله فليست مشيئتك استقلالية، إنما تابع لمشيئة رب البرية (قل لله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين) (ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة) وهو على كل شيء قدير فما نوع المشيئة في قوله تعالى (ولو شاء لجعلكم) ؟ مشيئة كونية قدرية، أي لو شاء الله ذلك مشيئة كونية قدرية لما تخلف، فلو أراد الله أن يجعل المخلوقات بأسرها على حقيقة وكيفية نبينا أفضل خلق الله صلى الله عليه وسلم لما أعجزه ذلك فهو على كل شيء قدير إذا شاء ذلك لكن له الحكمة البالغة والحجة التامة.
س: هل الله سيحاسب عباده على تقديره أم على فعلهم؟
ج: على فعلهم (ولتُسألن عما كنتم تعملون) فلن تُسألوا عما قدرته لكم، إنما ستحاسبون على ما صدر منكم فقد أرسلت الرسل وأنزلت الكتب وأعطيتكم العقول فأقمت عليكم الحجة (فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضلّ فإنما يضل عليها) ، فمن يهتدي هدايته مرتبطة بتقدير الله ومشيئته، ومن يضل فضلاله مرتبط بتقدير الله ومشيئته، لكن الفعل في الحالتين – كما قلنا – مخير فيه، فالإنسان يفعل ما يريد لكنه لا يريد ما يريد، بل يريد ما يريده الله المجيد وسعي العباد كلهم ينتهي عند آيتين اثنتين لا ثالث لهما:
(وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليماً حكيماً) ، (وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين)
(11/56)
فللعباد مشيئة لكنها تابعة لمشيئة ربنا جل وعلا، ولذلك إذا قال لك شخص: أنا شاء قل له: مشيئة استقلالية أو تابعة لمشيئة رب البرية؟ فإن قال: استقلالية، فهذا قول القدرية لأنهم يقولون ما شاء الله شيئاً ولا قدره، وإن قال: أنا لا مشيئة لي، فهذا قول الجبرية، وإن قال: لي مشيئة لكن مشيئتي تابعة لمشيئة ربي، فهذا قول أهل السنة الفرقة المرضية، ولو كانت مشيئة العبد استقلالية فإنه سينازع ربه وقد يتغلب عليه كما يقول المعتزلة، تعالى الله عن ذلك، وكيف يقع في ملكه ما لا يريده؟!! فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن (1) .
2- الإيضاح الثاني: إن قال قائل كل شيء بقضاء وقدر وكل ما يقع سبق به تقدير الله وتعلقت به مشيئته فكيف يريد الله أمراً لا يحبه ولا يرضاه؟ (هذا مترتب على الأمر الأول) .
الجواب: لا إشكال في ذلك ويتضح هذا بهذا التحقيق الذي ينبغي أن تعضوا عليه بالنواجذ، وهو: أن الأسباب مع مسبباتها أربع أقسام، اثنان منهما يتعلق بهما قدر الرحمن وهما محل أقضية الله وأقداره فيما يحبه ويكرهه، واثنان منهما لا يتعلق بهما قدر ربنا.
? الاثنان اللذان يتعلق بهما قضاء الله جل وعلا وقدره وإرادته ومشيئته:
1) سَبَب محمود محبوب يوصل إلى مُسَبّب محمود محبوب:
مثال: قدر الله وجود الإيمان فهذا سبب محمود، ونتيجته أنه يفضي إلى توحيده ورضوانه فهو مسبب محمود.
مثال آخر: خلق الله الأنبياء والمرسلين سبب محمود يحبه الله يفضي إلى مسبب محمود.
__________
(1) يقول الإمام الشافعي:
ما شئتَ كان وإن لم أشأ ... وما شئتُ إن لم تشأ لم يكن
خلقت العباد على ما علمت ... ففي العلم يجري الفتى والسنن
على ذا مننت وهذا خذلت ... وهذا أعنت وذا لم تُعِن
فمنهم عني ومنهم فقير ... ومنهم قبيح ومنهم حسن
ومنهم شقي ومنهم سعيد ... وكل بأعماله مرتهن
انظروا هذه الآيات في كتاب الانتقاء في تراجم الأئمة الثلاثة الفقهاء صـ80 لابن عبد البر (ت 463 هـ) في الإيمان بالقدر.
(11/57)
2) سبب مكروه يوصل إلى مسبب محمود محبوب:
مثال: الكفر قدر الله وجوده وهو سبب مكروه لكنه يوصل إلى مسبب محمود محبوب، فإذا:
1- تاب هذا الكافر، فهذا مسبب محمود حصل بعد كفره ولولا أنه كافر ما تاب، فإذن أوصل إلى توبة لله، وهو مسبب محمود.
2- ومسبب محمود آخر وهو جهاد المؤمنين للكفار ومحبة الله للمؤمنين المجاهدين (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً) .
3- ومسبب محمود ثالث: وهو أنه يترتب على الكفر إدخال الكافرين النار فهذا محمود لله عندما يدخل الكفار النار لإظهار عدله وتحقيق بطشه وانتقامه فهو منتقم وهو شديد العقاب وهو يتصف بصفة الغضب فظهور صفة الغضب محمود للرب كما أن ظهور صفة الرضا محمود للرب، كما أن ظهور أثر اسم التواب محمود للرب، فلو لم يكن هناك كافر لبقي غضب الله معطلاً وبقيت دار غضبه ولعنته (النار) معطلة، فإذن مكروه أوصل إلى محبوب ولا يقضي الله شراً محضاً.
مثال آخر: إبليس خلقه الله وهو من أعظم الأسباب المكروهة لكنه يوصل إلى أعظم المسببات المحمودة المحبوبة (إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً) فإذا عادينا الشيطان فالله يحب هنا الفعل منا، ولذلك لولا الشيطان لما تميز أهل التقى من أهل العصيان، لكن عندما يجاهد التقي نفسه ويذل عدوه و [والمؤمن يُنضي شيطانه كما يُنضي أحدكم بعيره في السفر] كما ثبت هذا في مسند الإمام أحمد عن نبينا عليه الصلاة والسلام، ومعنى (يُنضي) يتعب ويُهزل، أي يجعله نضواً أي ضعيفاً جلده ملتصق على عظمه حتى كأنه لا لحم عليه.
... فالمؤمن إذا أكل سمى الله وإذا شرب سمى الله وإذا لبس سمى الله، وإذا دخل البيت سمى الله وإذا اتصل بأهله سمى الله وبالتالي يذل الشيطان، والشيطان يكون كالجزور فإذا صاحب المؤمن طار كالعصفور.
(11/58)
.. وضبط ابن مُفْلح لفظ ينضى بالصاد المهملة بدل الضاد المعجمة في كتاب صيانة الإنسان من وساوس الشيطان، فقال اللفظ هو (يُنصيء) بدل يُنضي أي يأخذ بناصيته ورقبته ويقتله ويتحكم فيه كما يريد، وعندما تتعب الشيطان وتهزله وكذلك عندما تذله وتتحكم به يفرح ربنا بهذا ويرضى ويحب هذا.
... إذن الشيطان مكروه لكن نتج عنه محبوب، وكذلك ينتج عنه قتال أوليائه والله يحب هذا (فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفاً) فهو إذن محمود أيضاً.
... إخوتي الكرام ... كما يوجد في الجن من يصرع الإنس، يوجد في الإنس من يصرع الجن، فما أكثر من يصرع من الجن بنور المؤمن، والجني يأتي للمؤمن فإذا وصل إليه وذكر الله يصرع على الأرض ويتخبط (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين) ، وتقدم معنا في محاضرة مداخل الشيطان إلى نفس الإنسان في الفجيرة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لعمر (ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك غير فجك) والحديث في الصحيحين، وفي بعض روايات الحديث في معجم الطبراني الكبير عن سَدِيسَة (ويقال سُدَيسَة) مولاة حفصة، وفي معجم الطبراني الأوسط عن أمنا حفصة أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول لعمر [والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان منذ أسلمت إلا خرّ على وجهه] أي مصروعاً.
إذن سبب مكروه مبغوض لكنه أوصل إلى مسبب محمود محبوب:
لعلّ عتبك محمود عواقبه ... وربما صحت الأجساد بالعلل
? الاثنان اللذان لا يتعلق بهما قضاء الله جل وعلا وقدره:
3) سبب مكروه يوصل إلى مسبب مكروه: فهذا لا يقدره الله ولا يقضيه ولا يفعله ولا يخلق الله شيئاً مكروهاً لا حكمة من ورائه، فهذا عبث لا يقضيه الله، كما سيأتينا في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم [والشر ليس إليك] .
4) سبب محمود يوصل إلى مسبب مكروه: فهذا أيضاً لا يقضيه الله ولا يقدره ولا يفعله.
(11/59)
إذن لابد من أن تكون النتيجة والمسببات محمودة، فهذا الذي يقدره الله جل وعلا أما أن تكون المسببات مكروهة مذمومة فهذه مما لا يقدره الله ولا يقضيه مطلقاً.
قال أئمتنا الكرام: المراد نوعان:
النوع الأول: مراد لنفسه محبوب لذاته، وما فيه من الخير مرادٌ إرادة الغايات والمقاصد وهذا الذي سميناه محبوب يوصل إلى محبوب، كخلق النبيين، وتقدير وجود الإيمان والطاعة فهو مقصود، أي خلقه الله لأنه يحبه.
النوع الثاني: مرادٌ لغيره – لا لنفسه – مكروه من حيثُ نفسِه وذاته، مرادٌ من حيث إيصاله إلى المراد المحبوب لنفسه، فاجتمع في هذا المراد حب الله وإرادته وبغضه وكراهيته، ولا منافاة بينهما لاختلاف متعلقهما، وهذا الذي سميناه مكروهاً يوصل إلى محبوب، فهو مكروه بالنظر إلي نفسه، وهو محبوب بالنظر إلى نتيجته، فاختلف متعلق الكُره ومتعلق الحب، إن قيل: هل لهذا مثال بيناً في الحسيات؟ نقول: الأمثلة كثيرة، فمثلاً: الدواء – ونسأل الله أن يعافينا من كل داء وبلاء – الدواء المر هذا مراد لغيره مكروه لنفسه لأن مثل هذا الدواء تنزعج بشربه لمرارته ولما يسببه لك من ضيق فهذا شيء مكروه ولذلك تراه لا يشربه إلا عند الحاجة، فتشربه لأنك تعلم أنه يوصل إلى محبوب وهو الشفاء فأنت لم ترده لنفسه بل لما يوصل إليه فاجتمع الأمران حب وبغض، إرادة وكراهية لاختلاف متعلقهما فمتعلق الحب غاية الدواء ونتيجة ولتعلق الكراهية للدواء نفسه وهكذا قدر الله فيما يبغضه ويكرهه ويوصل إلى محبوب.
... وقد قرر أئمتنا الكرام حِكماً كثيرة في تقدير الله وإرادته لما يشاؤه مما يكرهه ويبغضه، ولنأخذ مثالاً على ذلك في نوع من أنواع الشرور المكروهة ما يترتب عنها من خصال محمودة محبوبة، هذا الشر هو رأس الشر ومنبعه هو: الخسيس إبليس فهل في خلق هذا المخلوق مصلحة ومحمدة وهل يترتب على خلقه حُسن ومصالح؟
(11/60)
.. نعم يترتب على خلقه مصالح كثيرة ومحامد وفيره ومحبوبات جليلة مع أنه مكروه في نفسه فهذا كالعلاج والدواء – وليس الشرب – بل العلاج الذي ستُبتر فيه أربعة أطراف المتعالج اليدين من الكفين والرجلين من الفخذين، فيرضى بقطع هذه الأعضاء ليحمي نفسه من السرطان الذي سينتشر في جميع جسمه ويقضي عليه ويُميته فهل هو رضي بقطع الأعضاء لأنه يحب ذلك؟ لا، بل لأن قطعها يؤدي ويوصل إلى محبوب وهو البقاء حياً، فلذلك رضي بهذا الشر.
من هذه الخيرات التي تترتب على إبليس، وسأذكر خمساً والباقي يمكن استنباطه، وقد ذكرته في درس المعمورة الحكم من تقدير الذنوب حِكم بالنسبة للذنب وبالنسبة للمزين (إبليس) ، بالنسبة للنفس، بالنسبة للرب وهذه تصل إلى حكم:
(11/61)
1) ظهور قدرة الرب على خلق المتضادات، المتناقضات، المتقابلات، المتعارضات المتفاوتات، هذا في الحقيقة أمر عظيم، والله عظيم عظيم وهو على كل شيء قدير ولابد من هذا الوصف من مثال فخلق ذكراً وأنثى، وخلق ليلاً ونهاراً، وخلق خيراً وشراً، وخلق حياة وموتاً، وخلق داءً ودواءً، خلق جبريل وخلق إبليس، وجبريل أطهر المخلوقات وأفضلها وأعظمها بالنسبة للملائكة وذاته لا تقبل شراً وفي المقابل خلق إبليس وهو على عكس جبريل تماماً لا يقبل الخير أبداً، بل هو شرير، فيه شهوة وشبهة منبع الشهوات وأم الشبهات، فكل شهوة عنده وكل شبهة عنده، فالخمر شهوة (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر) ، والاعتراض على الله شبهة وأول من اعترض على الله هو (أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين) ، فإذن لابد من إظهار هذا الأمر أن الله قدير على خلق المتضادات، فلو خلق الناس كلهم مؤمنين لقال الناس: ليس بمقدور الله أن يقدر شيئاً آخر، ولو خلق الله نهاراً بلا ليل لقال الناس: هذه طبيعة، ولو خلق الله فصلاً واحداً وهو الشتاء لقال الناس: هذا هو الدهر، الحاصل أن هذه المتضادات تظهر قدرة الله جل وعلا وهي مقصودة محبوبة محمودة.
2) ظهور آثار أسماء الله القهرية، فهو سبحانه وتعالى المنتقم، المذل، الخافض، (شديد العقاب) ، (أخذه أليم شديد) ، نقول: العقاب والانتقام والبطش والإذلال والخفض يكون لأوليائه وأحبائه أم لأعدائه؟ لأعدائه للشيطان وذريته وأتباعه، فلما خلق الله الشيطان ووجد لهذا الشيطان أتباع من أنس وجان ظهرت آثار أسماء الله القهرية فحصل غضب الله وحصل مقته، وحصلت عقوبته، وحصل بطشه وحصل انتقامه، وحصل إذلاله لهؤلاء، وحصل خفضه لهم في الدنيا والآخرة، وأذلهم وعاقبهم ونكد حياتهم وأدخلهم جهنم، فهذه الآثار متعلقة بصفات للعزيز القهار فلابد من أن تأخذ متعلقها وآثارها وإلا تتعطل تلك الصفات.
(11/62)
3) ظهور آثار أسماء الله المتضمنة لعفوه ومغفرته ورحمته ولطفه بعباده فهو تواب رحيم، حليم غفور ستّير، فهذه كلها لا يمكن أن تظهر إلا إذا وقع شر وفساد ومسبب هذا المخلق وإبليس.
فإذا وقعت معصية بواسطة تزيين هذا الشيطان للإنسان ثم يتوب هذا الإنسان لربه جل وعلا فإنه تظهر آثار أسماء الله الحسنى – كما قلنا – المتضمنة لعفوه ومغفرته، وكذلك لو أن هذا العاصي لم يتب بل استمر على معصيته فالله سبحانه وتعالى أمهله وأمد له في حياته ورزقه وأسبغ عليه فضله فهذا من ظهور آثار اسم الله الحليم الذي لا يعاجل بالعقوبة فهو حليم غفور رحيم.
... فهذه كلها لابد من ظهور آثارها كما أنه منتقم شديد العقاب، فإذا عاقب ظهرت آثار تلك الأسماء وإذا أمهل وأخر – وهو سبحانه يمهل ولا يهمل ولا يفوته شيء – ظهرت آثار اسم الله الحليم، وإذا عفى وتجاوز ظهرت آثار اسم الله الرحيم العفو.
لذلك ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي أيوب الأنصاري، وأبي هريرة ... رضي الله عنهم أجمعين والحديث رواه الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء يقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم] فهل هذا لأن الله يحب الذنب؟ لا، بل هو يكره ويغضب على فاعله، لكنه يحب التوبة، وإذا لم تتب فالله يحب أن يتجاوز عن عباده وأن يعفو عنهم، فإذا لم تقع ذنوب فلن تكون هناك توبة والله يحب التوابين ولن يكون هناك آثار اسم الله الحليم العفو وبهذا تتعطل صفات الله سبحانه وتعالى وليس في تعطيلها كمال له جل وعلا.
... ولذلك عندما يتوب الإنسان لا يناجي الله بقوله يا منتقم تب علي، بل يناجيه بقوله يا رحيم تب علي فينادي ربه بالأسماء التي تتضمن الرحمة والمغفرة والعطف والحنان والحلم.
(11/63)
4) ظهور آثار أسماء الله المتضمنة لحكمته وأنه يضع الأمور في مواضعها فهو حكيم يضع الشيء في موضعه، وهل في تقدير الذنب على الإنسان ووسوسة الشيطان له حتى أغواه حكمة؟
نعم حكمة ليس بعدها حكمة. كيف هذا؟
الإنسان لو لم يكن له شيطان يزين له أحياناً بعض أنواع الإثم والعصيان ليقع فيها وليرتكبها لربما ظن نفسه أنه ند لله وأنه شريك لله وأنه يساوي الله وأنه أفضل من النبيين أفضل من الملائكة المقربين لكنه عندما يعصي ربه يحصل له انكسار ويصبح في قلبه من الفقر والالتجاء والمسكنة ما به يدخل على ربه ولذلك لولا المعصية لوقع الناس فيما هو أكبر منها وهو الكبر والعجب والغرور ويرى أن السموات والأرض لا تسعه مع أن عبادته قد تكبه على وجهه في جهنم، وعبادة 500 عام ما وفّت بنعمة البصر كما تقدم معنا، ولو حاسب الله خير خلقه عليه الصلاة والسلام مع روح الله عيسى بن مريم على أصبعين فقط الإبهام والسبابة لعذبهما ربهما ثم لم يظلمهما، فمن أنت؟!! لكن الإنسان يغفل عن نفسه وعن العيوب التي في طاعاته فيقع أحياناً في بعض المعاصي الظاهرة من نظر حرام ومن غناء، أو كلمة باطلة، فمثل هذه المعاصي وغيرها كسرت قلبه.
وقد ثبت في مسند البزار وشعب الإيمان للبيهقي بسند صحيح جيد عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [لو لم تكونوا تذنبون لخفت عليكم ما هو أكبر من الذنب، العُجْبَ العُجْبَ] أي أخاف عليكم العجب، حقيقة العجب مهلك للإنسان، لا طاعة أعظم من انكسار النفس والتذلل بين يدي الله، ولا معصية أشنع من إعجاب المرء بنفسه ورأيه، والعجب هو معصية إبليس.
ولذلك إذا ابتلي الإنسان بشيء من المعاصي فإذا جاءه الشيطان ليوسوس له بالعُجب وأنه يعبد الله ولم يعصه يقول: يا نفس تذكري يوم كذا ماذا عملت واستحي من الله وقفي عند حدك، والمجاهد من جاهد نفسه في الله جل وعلا.
(11/64)
ولذلك هذا هو الجهاد الأكبر هو أن تجاهد هواك، وأن تجاهد تطلعات النفس إلى الكبر والزهو والخيلاء والعجب ومضادة الرب في حكمه، فإذا وقع شر بسبب إبليس لكن هذا الشر خير، فمعصية طردت عنك أشنع الآفات وهي معصية العجب والكبر والغرور.
لعل عتبك محمودٌ عواقبُه ... وربما صحت الأجسام بالعلل
يعني ما تبتني فما عدت لذنبي، وصرت كما تريد فهذا العتب (المذموم) وهو عدم الوقوع في الخطأ مرة أخرى، وهنا كذلك فكان في القلب آفة دفينة من عجب وكبر وغرور وخيلاء وفخر – وهذه كلها مهلكة – من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر لا يدخل الجنة – فابتلاه الله بجريمة الزنا مثلاً، فنكس رأسه وانكسر وبقي يقوم في السحر يقول يا رب، يا رحيم يا كريم استرني في الآخرة كما سترتني في الدنيا، تب علي، فإذن معصية وقع فيما لكنها دفعت عنه معاص ٍ ستدخله أسفل سافلين وهو لا يدري، وحقيقة هذه حكمة لولا الوقوع في المعصية بسبب الشيطان لوقع الناس في أشد من المعاصي الظاهرة.
... ولذلك لا يدخل العباد على الرب إلا من باب الذل والانكسار، وكل من تعالى غضب الله عليه يريد وكان أئمتنا يقولون: "من تعالى لله وترفّع لقي عطباً، ومن طأطأ لقي رطباً" فمن تعالى لقي هلاكاً، والذي يريد الرطب يطأطئ رأسه ليتناوله، وهنا كذلك تعاظم يغضب الله عليه (إن عليك لعنتي إلى يوم الدين) بسبب قول إبليس (أنا خير منه) فكلمة قالها أوبقت دنياه وآخرته، أفسدت عاجله وآجله.
وخذ المعصية التي قدرت على نبينا آدم صلى الله عليه وسلم جعلت حاله بعد المعصية خيراً من حاله قبلها بكثير ولا نسبة بين تلك وبين هذه، صار بعد المعصية نبيناً من أنبياء الله كلمه الله قبلاً وأرسله بعد ذلك إلى بنيه وجعله أصل البشر ثم أخبرنا الله أنه اجتباه وتاب عليه وهدى، فمعصية وقعت منه جرته إلى هذه الكلمة التي لا يدخل إنسان على ربه إلا من طريقها (قالوا: ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) .
(11/65)
.. وكل عبد لا يجعل هذه الكلمة ديدنه، فهو بعيد عن الله، ولا يدخل الإنسان الجنة إلا من هذا الطريق (ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) ، فنحن معترفون بذنوبنا وتقصيرنا وتفريطنا لكن مع ذلك نطمع في رحمتك وفي فضلك وأنت واسع المغفرة، ولمن تكون الرحمة إلا للمذنبين أمثالنا.
5- حصول أنواع العبودية التي يُتقرب بها إلى رب البرية بسبب خلق الذات الإبليسية، حصلت عبادات متنوعة منها:
أ) مجاهدة النفس ... ب) مجاهدة الكافرين ... جـ) الاستعاذ بالله من الشيطان الرجيم
والله يحب هذا (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم) (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله) ولنا عدوان: عدو ظاهر مكشوف (الكافر) ، وعدو باطن مستور (الشيطان) أما العدو الظاهري فنداريه ولا نقاتله ونحاربه، وأما العدو الباطن المستور فلا سبيل إلى محاربته إلا بالالتجاء إلى ربنا، فنقول يا رب، سلطت علينا من يرانا ولا نراه فنسلطك عليه فأنت تراه وهو لا يراك فاكفنا شره وشر أتباعه إنك على كل شيء قدير.
... فهذه إذن عبوديات متنوعة حصلت بسبب الشيطان الرجيم، فهذا السبب المذموم يوصل إلى نتائج محمودة، وهذه بعض الحكم من خلق إبليس ذكرناها على عجل وفي بيانها بيان للحكمة من خلق الشرور وأنواع الضر وتقديرها.
(11/66)
.. وبهذا نتحقق من قول نبينا عليه الصلاة والسلام الذي كان يقوله عندما يناجي ربه في صلاة الليل [والشر ليس إليك] والحديث في صحيح مسلم بشرح النووي (6/59) عن علي رضي الله عنه قال [كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يصلي يفتتح صلاته فيقول: وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرتُ وأنا من المسلمين، اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعاً إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك والخير كله في يديك والشر ليس إليك، أنا بك وإليك، تباركت وتعاليت، أستغفرك , وأتوب إليك] هذا يقوله في دعاء الاستفتاح قبل أن يقرأ الفاتحة، وهذا من جملة الأدعية المشروعة التي يقولها المصلي إن شاء وإن شاء أن يقتصر على قوله: [وجهت وجهي للذي فطر السموات.... من المسلمين] ، وإن شاء أن يقول سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك وإن شاء قال الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً وسبحان الله وبحمده بكرة وأصيلا ً – إلخ دعاء. وإن شاء غيرها.
وانظروا كتاب الأذكار للإمام النووي في أدعية الاستفتاح التي يخير المصلي بين شيء منها في أول صلاته.
الشاهد: والشر ليس إليك، هذه الجملة تحتمل خمس معان ٍ أحدها الذي نتكلم عنه:
المعني الأول: أنك لا تقضي شراً محضاً خالصاً، والشر الذي تقضيه وتقدره هو خير بالنسبة لحكمتك وقضائك وتقديرك، وإن كان شراً بالنسبة لمن يقع عليه، فإذن لما تقدره لما يترتب عليه من حكمة وخير.
(11/67)
مثال للتقريب: المطر هو خير، لكنه شر للمسافر ولذلك يقول الله (يريكم البرق خوفاً وطمعاً) ، من جملة ما قيل في تفسيرها: خوفاً للمسافر لأنه إذا نزل أتعبه ويخشى من السيول، وطمعاً للمقيم فبمجرد أن يرى البرق يطمع في نزول المطر، ... فلو قدر أن مطراً نزل وسالت وديان وجرف بعض المسافرين وأغرقتهم فهو شر بالنسبة للمسافر، وهو شر جزئي، لكنه ترتب عليه خير عام حيث فرح الناس بنزول المطر وحي العالم بنزوله.
مثال آخر: قطع يد السارق، شر في حق السارق، لكن هو خير عام للمجتمع، حافظنا على أموال الناس، منعنا أنفسنا سخط الله، فإنه إذا انتشرت المعاصي ولم يؤخذ على يد العاصي نُزعت البركة، والله يعاقبنا بعقوبة عاجلة تعم.
إذن لا تقضي شراً محضاً لا تقدره لا تشاؤه، إذا قدرت شراً فلحكم نتج عنه، وهذا المعنى هو محل الشاهد في بحثنا.
المعنى الثاني: أي لا يُتقرب بالشر إليك، وهذا قاله الخليل بن أحمد والنضر بن شُميل والأزهري وهؤلاء كلهم من علماء اللغة، ونُقِل عن إسحاق بن راهُوْيَهْ وابن معين وابن خزيمة وهم من أئمة الحديث الشريف.
المعنى الثالث: أي لا يضاف إليك الشر على انفراده فلا يُقال يا خالق الكلاب والخنازير ولا يُقال: يا رب إبليس، قاله الإمام المزني، مع أنه خالق الكلاب والخنازير ورب إبليس لكنه يشعر بذم ويوهم بنقص بل تقول يا رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، أو تقول يا رب النبي محمد صلى الله عليه وسلم فهذا فيه مدح لأنك تضيف ربوبية الله جل وعلا إلى مخلوق فاضل.
... وأما أن تقول يا رب الطلاب والخنازير وإبليس فرج كربي، فهذا في الحقيقة سوء أدب في مناجاة الله مع أنه ربهم، ولذلك قال أئمتنا: الشر لا يضاف إلى الله على انفراده، وذلك لأنه لم يخلقه لأنه شر، بل خلقه لما يوصل من حكمة وخير.
وإذا أردت أن تضيف الشر فلك أحد أساليب ثلاثة:
(11/68)
الأسلوب الأول: أن تضيفه إلى الله عن طريق العموم فتقول: الله خالق العالمين، الله رب العالمين، يا رب المخلوقات والأرض والسموات، يا رب كل شيء ونحوها فدخل في هذا الخير والشر، الفاضل والضال.
الأسلوب الثاني: أن تحذف فاعله فلا تضيفه إلى معلوم وقد تأدب الجن بهذا الأدب فقالوا كما أخبر الله عنهم في سورة الجن (وأنا لا ندري أشرٌ أريد بمن في الأرض أم أراد بهم رشداً) الرشد خير يضاف إلى الله، وأما الشر فهذا لا نضيفه إلى الله جل وعلا على سبيل الانفراد والاستقلال فنعرف فاعله ونضيفه إلى مجهول، فانظروا لهذا الأدب (أشر أريد بمن في الأرض) فلم يضيفوه لأحد مع أن هذه الإرادة لله وإرادته هي النافذة.
... وانظر إلي خليل الله إبراهيم وإلى أدبه يقول (وإذا مرضت فهو يشفين) فأضاف المرض إلى نفسه.
... ومن هذا قول الخضر لموسى عليه السلام (أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها) وعيب السفينة نقص، فلم يقل: أراد الله أن أعيبها مع أنه في آخر الآيات قال (وما فعلته عن أمري) أي أمرني الله بذلك، وهو عاب السفينة لمصلحة لكن ظاهر اللفظ فيه نقص فلا يضاف إلى الرب، وانظر ماذا قال بعد ذلك: (وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنزُ لهما وكان أبوهما صالحاً فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما) فقال أراد ربك ولم يقل فأردت، لأن هذا خير فيضاف إلى الله بخلاف الشر، والخير يجوز أن تضيفه إلى نفسك وإلى الله كما قال الخضر في حق الغلام (فأردنا أن يبدلهما ربهما خيراً منه زكاة وأقرب رحمة) ، كما أنك إذا صليت يجوز أن تقول صليت بقدر الله.
(11/69)
الأسلوب الثالث: أن تضيف الشر إلى السبب الذي نتج عنه ووجد بسببه، كما قال تعالى (من شر ما خلق، ومن غاسق إذا وقب، ومن شر النفاثات في العقد ومن شر حاسد إذا حسد) ، فهذا الشر يقع من مخلوقات الله ولم يضفه لنفسه، فأضافه إلى الخلق، ثم بعد ذلك أضافه إلى أفراد بأعيانهم: الغاسق إذا وقب، النفاثات، والحاسد.
المعنى الرابع: الشر لا يصعد إليك إنما يصعد إليك ما هو خير طيب كما قال جل وعلا (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) .
المعنى الخامس: أي ليس عدادك من أهل الشر ولا ينسب إلى الشر حكاه الإمام الخطابي في معالم شرح السنن أبي داود، يقال فلان ليس من بني فلان، وفلان من بني فلان، إذا كان عداده فيهم أو ليس عداده منهم، أي لست من أهل الشر بل أنت طيب كريم.
(11/70)
.. ذكر الإمام الرازي في تفسيره في (13/93) في تفسير سورة الأنعام، عند قوله تعالى (إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلك الله فأنى تؤفكون) يقول ما حاصله كان بعض الملوك الجبارين يتفنن في تعذيب المسلمين المساكين، فأتى مرة بشيخ صالح فأراد أن يعذبه بنوع من أنواع العذاب وهو أن يسقيه الأفيون (المخدر) فأسقاه ذلك لأجل أن يموت بسبب فقدان الحرارة الغريزية، ثم وضعه في بيت مظلم تحت الأرض يقال له سرداب وقبو وملجأ، ثم بعد فترة جاء الملك ليتفقد هذا الشيخ هل مات أم لا؟ وكان يظن أنه مات لكنه أراد أن يتأكد فلما جاءه وجده حياً فاستغرب الملك وحار في أمره، فقال له: ما شأنك؟ فأخبره الشيخ: أنه لما وضعتني في هذا السرداب جاءني ثعبان عظيم فلدغني، فبهذا حييت، ثم كف هذا الملك عن الظلم بعد ذلك، فقيل للملك كيف هذا؟ فقال: إن الأفيون يفقد الحرارة الغريزية فيقتل بقوة برده، بعكس السم فإنه يزيد الحرارة الغريزية ويقتل بقوة حره، والجسم لابد من توازن الحرارة والبرودة فيه، فتوازنت الحرارة في جسم الشيخ وما تأثر بلدغ الحية مع أنها شر لكنه فيها خير، فالله سبحانه لا يخلق شراً محضاً، وإذا قدرته فلما ينتج عنه من حكم.
3- الإيضاح الثالث: كيف يرضى الله لعبده شيئاً ولا يعينه عليه؟
فالله جل وعلا رضي لنا الإيمان والطاعة، لكن لم يعن العباد جميعاً على ذلك، بل أعان قسماً منهم وهم الموحدون، وخذل قسماً منهم فلم يعنهم، فكيف يرضى الله لعباده شيئاً ولا يعينهم عليه؟!.
نقول: لا إشكال في ذلك مطلقاً، لأنه لو أعانه على ما رضيه لهم لترتب على هذا محذوران أو أحد محذورين:
المحذور الأول: قد تستلزم إعانة الله جل وعلا لعباده على ما رضيه لهم وأحبه قد تستلزم فوات محبوب لله هو أعظم من حصول تلك الطاعة التي رضيها لعباده وأحبها لهم.
(11/71)
المحذور الثاني: قد تستلزم إعانة الله جل وعلا لعباده على ما رضيه لهم وأحبه قد تستلزم وقوع مفسدة هي أكره لله جل وعلا من فوات تلك الطاعة التي أحبها لعباده ورضيها لهم، فدُفع أعظم المكروهين بأحدهما، مثال:
يقول الله جل وعلا في كتابه عن المنافقين (ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين) الله أحب الجهاد وأمرهم به وأمرهم بالخروج لكن كره الله خروجهم، وعدم خروجهم مفسدة، لكن في خروجهم مفسدة أعظم فانظر إلى النتيجة بعد ذلك لو خرجوا.
(لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً) هذه المفسدة الأولى، أي ما زادوكم إلا ضعفاً وخذلاناً لأنهم لن يقاتلوا بجد ونشاط وعزم إنما سيخذلون ويجبنون، وإذا جبن فرد في الجيش قد تسري العدوى على أفراد الجيش، والجيش يزداد عزمه وقوته عندما يرى الأفراد يتسابقون إلى الاستشهاد، لكنه عندما ينظر إلي زملائه يفرون ويضعفون ويجبنون فهو بالتالي سيجبن ويهن (ولأوقعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم) والإيقاع هو الإسراع في الإفساد ونقل النميمة والتحرش بين المسلمين، وأمر هؤلاء لا يخفى على الكثير وفيكم سماعون لأنهم يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، وهذا التحريش هو مفسدة ثانية في حد ذاتها فإذا ضعف المسلمون وتحرشوا فيما بينهم بعد فعل المنافقين فهذه أيضاً مفسدة ثالثة فتركهم للجهاد مفسدة ولكن في إعانة الله لهم على الخروج وجهادهم مفسدة أعظم، فدفع أعظم المكروهين بأدناهما، وفي خروجهم أيضاً فوات لمحبوب هو أعظم عند الله من حبه لخروجهم.
مثال آخر: (وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين) فمصلحة هذا الرجل المؤمن من آل فرعون الذي نصح موسى مصلحته في أن يشير عليه ويبتعد عنه لا في أن يعينه ويساعده لأنه لو ساعد لأذي وقتل، إذن فمصلحة الناصح هنا تتعلق بالأمر لا بالمعونة. ولله المثل الأعلى.
(11/72)
مثال آخر للتقريب: ولله المثل الأعلى – لو أن هناك امرأة صالحة تعد نفسك لخطبتها والزواج منها، من فترة طويلة لأنك تعرف أسرتها ونشأتها، فجاءك بعض الصالحين وقال لك: ما رأيك في فلانة بنت فلان أريد أن أتزوجها؟، وكانت هي التي تعد نفسك لها، فأنت الآن قد تستحي أن تقول له أنا أريد أن أخطبها، وكذلك لا يجوز لك أن تذمها كذباً لتبعده عنها فأنت ستقول الحق وتقول له هذه امرأة صالحة من أسرة طاهرة وسعيد الحظ من يتزوجها وهي فرصة لك – مع أنه في قرارة نفسك تدعو الله ألا يتم هذا النكاح – فإذا قال لك زميلك: اذهب معي لنكلم أهلها فستعتذر ولن تذهب معه، فإذن أنت نصحته ودللته ولم تعنه فإذن الإعانة شيء آخر، ولا يلزم من النصح والأمر الإعانة – ولله المثل الأعلى، فكم من إنسان تأمره وأنت لا تريد حصول هذا له لأنه يتضمن مضرة عليك أو يتضمن زوال محبوب لك هو أعظم من ذلك المحبوب الذي سيحصل له.
مثال: لو أعان الله عباده كلهم على الإيمان ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة لكن هذا لو حصل لترتب عليه ولفات به محبوبات كثيرة عظيمة لله جل وعلا منها:
1) تقدم معنا إظهار قدرة الله على خلق المتضادات.
2) إظهار آثار أسماء الله المتضمنة لقوة بأسه وانتقامه فإذا كان كل من في الأرض مؤمنين لفاتت هذه الآثار وهي محبوبة لله جل وعلا.
3) ويترتب على الكفر والذنب طاعة أحب إلى الله منها وهي التوبة فلم يعنه على الطاعة من أول الأمر ليترتب عليها حصول طاعة أعظم بعد ذلك ولو حصلت من أول لفات هذا الأمر المحبوب لله.
(11/73)
4) لو حصلت الطاعة من أول الأمر قد يترتب عليه مفسدة أعظم وهي العُجب فوقع في الذنب حتى ينكسر ولا يتكبر فزالت مفسدة أعظم مما لو لم تحصل تلك الطاعة، أي لو لم تحصل مفسدة يسيرة لحصلت مفسدة كبيرة، فدفعت الكبيرة باليسيرة كما تقدم معنا في الحكم، ولو كان الخلق كلهم مؤمنين فمن سيدخل النار؟ فهذا لابد من وعيه ولا تظن أن الحكمة تقتضي أن يكون جميع الناس مؤمنين، ليس كذلك، لأنه لو كان هذا هو الحكمة لقدرة الحكيم العليم (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين) هود (118، 119) ، (ولذلك خلقهم) فيها تفسيرأن كلاهما ثابت عن سلفنا الكرام: خلقهم أي ليأمرهم بالإيمان ليكونوا ملة واحدة ليرحمهم بعد ذلك فالإرادة دينية شرعية وقيل: خلقهم أي ليختلفوا فيحاسب كلاً على عمله فالإرادة كونية قدرية، وأحد التفسيرين لابن عباس والآخر للحسن لكن لن أذكر تحديداً النسبة الصحيحة لكل قول.
ولذلك قال أئمتنا من أمره الله وأعانه فقد تعلق بالمأمور خلقه وأمره إنشاءً ومحبة (وجدت فيه الإرادة الشرعية والكونية) ومن أمره الله ولم يعنه فقد تعلق بالمأمور أمره لا خلقه لعدم الحكمة، قل لله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين وليس في هنا أي إشكال، والشر ليس إليك وأسباب الخير ولا يستلزم الخير حصولها بكاملها إنما قد يوجد الله الثلاث في بعض العباد وقد يوجد بعضها في بعض ... العباد فهو المتفضل والمنعم على عباده:
السبب الأول: إيجاد: خلقه لإبليس وللكافرين نعمة.
السبب الثاني: إعداد: أعد قلوبهم بحيث جعلها صالحة للهدى والإيمان كما قال لنبيه موسى عليه السلام (واصطنعتك لنفسي) هذا من به على بعض العباد.
(11/74)
السبب الثالث: إمداد: بعد أن هيأه وأعده جعله يقبل ذلك الإيمان ويطمئن إليه ويأخذ به، فلا يخلو مخلوق من فضل الله لكن إما في نعمة الإيجاد وإما في نعمة الإيجاد والإعداد والإمداد.
فالله جل وعلا أوجد نبيه محمداً صلى الله عليه وأعده وأمده، والله يقول للنبي صلى الله عليه وسلم (ووجدك ضالاً فهدى) (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان) والله يقول (وما كنت ترجو أن يلقى إليه الكتاب إلا رحمة من ربك) لكن قف عند نقطة: هل هذا الاختيار مبناه على العبث والسفه أم هو وضع للأمور في مواضعها؟ إذا كنت تؤمن بأن الله حكيم فستعلم أنه اصطفى محمداً صلى الله عليه وسلم لما يعلمه مما في قلبه، واختياره كان في محله كما قال (الله أعلم حيث يجعل رسالته) (الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس) (وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون) و (ما) هنا نافية وهذا أقوى القولين في تفسيرها، ويتم الوقف عند قوله (ويختار) ، أي ما يحصل لهم هذا ولا يقومون به، وقيل: (ما) موصولة، المعنى صحيح أيضاً ويختار الذي فيه خير لهم وهو أرحم بنا من أنفسنا.
... والله جل وعلا أوجد أبا جهل ولم يعده ولم يمده، لما له من الحكمة التامة ولو شاء أن يجعله كالأنبياء لجعله لكن له الحجة البالغة والحكمة التامة، فخذله لما يعلم في قلبه من الخبث والكبر والطغيان، إذن الله سبحانه وتعالى أوجده وخلقه بشراً سوياً عاقلاً مدركاً ذكياً لكنه لم يعده ولم يمده لحكمته التامة وعلمه سبحانه وتعالى ولله على خلقه نعمتان: الأولى خلق وإيجاد، والثانية هداية وإرشاد، الخلق والإيجاد مبذولة للجميع (وما بكم من نعمة فمن الله) (الله خالق كل شيء) ، ونعمة الهداية والإرشاد (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء) ، وهنا كذلك إيجاد وإعداد وإمداد.
4- الإيضاح الرابع:
(11/75)
يترتب على ما تقدم قول القائل والله لأفعلن كذا إن شاء الله، أو إن أحب الله ثم حنث، فهل عليه كفارة أم لا؟ وما الفارق بين الصيغتين؟
مثال لو قال: والله لآكلن التفاح هذا اليوم إن شاء الله، والله لآكلن التفاح هذا اليوم إن أحب الله ولم يأكل فهل هناك فرق في الحكم؟ نعم هناك فرق كبير بعد أن تعرف هذا المبحث الجليل.
إذا علقته بالمشيئة ولم تفعله لم تحنث مطلقاً لأن الله لم يشأ ذلك سواء كان المخلوق عليه طاعة أو معصية أو مباحاً كأن يقول أحد: والله لأسمعن الغناء إن شاء الله في هذا اليوم ولم يسمع لم يحنث لأن الله لم يشأه فتركه له دليل على عدم مشيئة الله له، ولو كان شاءه لحصل، وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، لأن المشيئة الكونية لا يتخلف مقتضاها كما تقدم معنا بخلاف المشيئة الدينية.
وأما إذا علقته بالمحبة فإن كان طاعة من واجب أو مستحب، فحلفت ولم تفعل فعليك كفارة وإن لم يكن طاعة فحلفت ولم تفعل فلا كفارة عليك، فلو حلف على غير طاعة من مباح أو معصية قال لأسمعن الغناء إن أحب الله، فلم يسمع فلا كفارة عليه لأن الله لا يحب هذا الفعل وتعليقك كان في محله، ولو قال لأصلين في المسجد إن أحب الله اليوم، فإن لم يصل فعليه كفارة، لأن الصلاة يحبها الله، فوافق تعليقه المحل فتعلقت الكفارة به إن حنث.
والسبب في التفريق بين التعليق على المشيئة والتعليق على المحبة: يُعلم مما تقدم معنا وهو أن الإرادة الشرعية الدينية قد يوجد مقتضاها وقد يتخلف والإرادة الكونية القدرية لابد من وجود مقتضاها فعندما يعلق فعله على مشيئة الله الكونية القدرية ولا يتيسر له الفعل نقول هذا يدلنا على أن الله لم يشأ لك ذلك، لأنه لو شاءه لابد من حصوله، فأنت إذن ربطت القسم بالمشيئة فإذا شاء الله فعلت وإذا لم يشأ لك فلن تذهب، وعندما تعلقه على محبة الله وكان طاعة فنعلم إذا وقع أنه إرادة كوناً وقدراً، وإذا لم يرده فلأنه أراده ديناً وشرعاً.
(11/76)
هذا كله إذا قصدت بالاستثناء (إن شاء الله) التعليق، أما إذا قصدت التبرك أي من باب البركة فاليمين منعقدة وحالّة وتحنث بترك الفعل فإذا لم تف بما حلفت حنثت، كأن يقول: لآتينك غداً إن شاء الله، ويقصد التبرك والبركة عملاً بقوله تعالى (ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله) ، فإن لم يأت حنث وعليه كفارة.
وقد يقول الإنسان صيغة الاستثناء ولا يقصد منها التعليق، فأحياناً تكون في محقق ولا تكون في مشكوك فيه معلق ومنه قول الله جل وعلا ( ... لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ... ) اللام في لتدخلن للقسم، والاستثناء للتبرك فالله يقسم على أنهم سيدخلون المسجد الحرام، والآية نزلت في صلح الحديبية ليبشرهم بدخول مكة ومنه قوله صلى الله عليه وسلم عندما كان يزور المقابر والحديث في صحيح مسلم وغيره [السلام عليكم دار قوم مؤمنين أنتم السابقون وإنا إن شاء الله بكم لاحقون] فهذه أيضاً للتحقيق والتبرك لأنه سيلحق بهم قطعاً صلى الله عليه وسلم، وليس هذا من باب الشك.
ولذلك من جملة تعليلات سلفنا للاستثناء في الإيمان أي إذا قال المؤمن أنا مؤمن إن شاء الله هذا الوجه أي للتبرك والوجوه الأخرى اكتبوها أيضاً لارتباطها بمبحثنا.
1- من باب التبرك، وقلنا هذا هو الذي نحن فيه.
2- من باب دفع المدح عن النفس، لأن أعظم ما يمدح به الإنسان أن يقول أنا مؤمن، فيدفع هذا المدح وهذه التزكية.
3- من باب الشك في الكمال لا في الأصل، لأنه لا يجزم بكمال إيمانه.
4- من باب الشك في الخاتمة، لا في الحال الحاضرة.
5- الإيضاح الخامس:
يدور حول إجمال كلام في القدر:
الأول: القدر – كما تقدم – سر الله في خلقه لم يطلع عليه ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً.
سئل أذكى الناس في وقته إياس بن معاوية: ما رأيك في القدر؟ فقال: رأي لا أعلم من قدر الله إلا ما تعلمه ابنتي وهكذا حال الأنبياء والملائكة وخلق الله أجمعين.
(11/77)
فهذا استأثر الله به ولم يطلع عليه أحداً فهو سر الله في خلقه فلا تفشوه أي ليس بإمكانكم أن تطلعوا عليه وليس المراد أنه أعلمنا به ثم أمرنا بكتمانه.
... وقد يجد الإنسان في نفسه أحياناً شيئاً من التساؤلات والاستفسارات والشبه التي يلقيها الشيطان حول قدر الله فإذا وجد شيئاً من ذلك في قلبه فليقل ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، لا يسأل عما يفعل، قدر الله وما شاء فعل، رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبنبينا محمد صلى الله عليه وسلم نبيناً ورسولاً.
(11/78)
ثبت في سنن أبي داود ومسند الإمام أحمد وسنن ابن ماجه وكتاب السنة لابن أبي عاصم بسند صحيح عن عبد الله بن فيروز الديلمي (وورد في كتب الحديث تسميته بابن الديلمي) قال ذهبت إلى أبي بن كعب فقلت: أبا المنذر، قد وقع في نفسي شيء من القدر (1) فحدثني لعل الله أن يذهبه من قلبي، فقال له: أبي بن كعب رضي الله عنه: [لو أن الله عذب أهل سمواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيراً من أعمالهم (2) ، ولو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما قبل الله منك حتى تؤمن بالقدر وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك (3) ولو مت على غير هذا مت على غير الإسلام، يقول ابن الديلمي: فذهبت إلى ابن مسعود وإلى حذيفة (4) ، فقالا لي مثل ما قال أبي ثم ذهبت إلى زيد بن ثابت فحدثني عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك (5) ] فإذا وقع في أنفسكم شيء من القدر فاستحضروا هذا الحديث.
ولذلك أمرنا رسولنا ونبينا صلى الله عليه وسلم إذا بحثنا في القدر أو تكلمنا فيه أن لا نسترسل وأن نقصر الكلام في ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم – والحديث في مسند الإمام أحمد ومعجم الطبراني وغيرهما بسند صحيح [إذا ذكر القدر فأمسكوا، وإذا ذكر أصحابي فأمسكوا وإذا ذكر النجوم فأمسكوا] .
__________
(1) شبه واشتباهات وتساؤلات حول القدر وقعت في نفسي فحدثني وعظني بما يثبت العقيدة في نفسي من أحاديث ومواعظ.
(2) وهذا في الحقيقة يذهب القلق الذي يقع في القلب من القدر.
(3) ما فاتك لم يكن ليحصل لك وما حصل لك لن يفوتك، جف القلم بما أنت لاق ٍ.
(4) أي يطلب منهم أيضاً أن يحدثاه بشيء من القدر ليذهب ما وقع في نفسه.
(5) فالكلام من مشكاة واحدة مشكاة النبوة، لكن أبي لم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا ابن مسعود ولا حذيفة، وأما زيد فرفعه ولم يقفه.
(11/79)
[إذا ذكر القدر فأمسكوا] لا تسترسلوا في الكلام، لكن لا مانع أن تبحث عن طريق الأدلة الشرعية لتعرف ما ينبغي أن تعتقده وأن الله قدر كل شيء وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأما كلمة لِم؟ وما السبب؟ وما العلة؟ فلا تقلها ولا تفكر فيها فأنت عبد ولا تعترض على ربك، فإن هذا لا يفعله إلا من يجعل نفسه نداً لربه لا عبداً له، والعلة إذا ظهرت لك تزداد بصيرة على بصيرة، وأما إذا لم تظهر لك فلا تقل لم؟ فلا تسترسل في الكلام فيه، وإن أبيت فلن تصل إلى إحدى ثلاث بليات ستأتي.
[وإذا ذكر أصحابي فأمسكوا] أي وإذا ذكر ما حصل بينهم من خلاف فأمسكوا. فحذار حذار من إطالة الكلام في الصحابة تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم، بل نسأل الله أن يغفر لهم وأن يرحمهم وأن يجمعنا معهم في جنات النعيم، ولا مانع أن يخطئوا فهم بشر لكن حذار أن تشيع خطأهم وأن تتلذذ به، فهذا لا يفعله إلا من غضب الله عليه فإذا مر معك شيء من خطئهم في أثناء بحثك فقل كل بني آدم خطاء، ولهم حسنات، أعظم من الجبال الراسيات وما جرى من السيئات مغمور في بحار حسناتهم.
(11/80)
[وإذا ذكر النجوم فأمسكوا] أي ما يتعلق بها من إسعاد ونحاسة ونزول مطر ورياح وغير ذلك كما يستدل به المنجمون فهذا كله من هوسهم يقولون إذا وقع برج كذا صار كذا (خيراً) أو صار كذا (شراً) فهذا مما لا يجوز الخوض فيه، فالنجوم مدبَّرة لا مدبِّرة، فلا يستدل بها على شقاوة أو إسعاد أو خير أو شر، بل نقتصر على معرفة ما فيها من عبر وآيات جعلها الله لذلك منها أنها علامات لتستدل منها في ظلمات البر والبحر ومنها أنها زينة للسماء ومنها أنها تضيء السماء ونحو هذه العبر ولا نخوض في أكثر من ذلك والشبه التي تقع في قلبك أيها الإنسان هذه إذا وقعت فجاهدها وادفعها ولا حرج عليك في وقوعها – أي وقوع الشبه حينئذ – وقد ثبت في مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، والحديث رواه الإمام مسلم أيضاً من حديث ابن مسعود، رضي الله عنه، ولفظ حديث أبي هريرة: [أن رجالاً جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله يجد أحدنا في نفسه (1) ما يتعاظم أن يتكلم به ولأن يخرمن السماء أحب إليه من أن يتكلم به، فقال صلى الله عليه وسلم: أوجدتم ذلك؟ قالوا نعم، قال: ذاك صريح الإيمان] .
ولفظ حديث ابن مسعود: [سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الوسوسة، فقال: الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة ذلك محض الإيمان] .
... ذلك الذي تجدونه في أنفسكم صريح الإيمان أي خالص الإيمان، ومحض الإيمان أي خالص الإيمان، فكيف جعل النبي صلى الله عليه وسلم هذه الوسوسة محض الإيمان وصريحه مع أنها مذمومة؟!.
... نقول: إن الصحابة رضوان الله عليهم لما عرضت لهم الوسوسة لم يطمئنوا بها ولم يرضوها ولم يأنسوا بها بل جاهدوها وقاوموها، فإذن هم لم يرضوا بها ولذلك لم تكن مذمومة.
__________
(1) أي وساوس تتعلق بقدر الله وبما شاكل هذا.
(11/81)
وهكذا أنت عندما تكره الوسوسة وتجاهدها لا ضير عليك في ذلك، ولا يخلو الإنسان من وجود وساوس في قلبه، لكن يذهبها بعد ذلك – إن شاء الله – الإيمان الحق.
... ومعنى الحديث يتلخص في أمرين ومعنيين كما قرر الإمام النووي والقاضي عياض رحمه الله.
التأويل الأول: كراهية الوسوسة: لأنه يكرهها إلا مؤمن، فلولا الإيمان لما كرهتها.
التأويل الثاني: الشعور بالوسوسة دليل على الإيمان، فلولا الإيمان في نفس الإنسان لما وسوس الشيطان فالقلب الخرب لا يوسوس فيه الشيطان.
والمعنيان متلازمان فالمؤمن من يشعر بوسوسة فإذا شعر بها كرهها، فشعوره بها علامة إيمانه وكراهيته لها دليل على إيمانه.
والقلوب ثلاثة:
1- قلب تام النور لا يقربه الشيطان لكرامته وطهارته، وإذا اقترب احترق كما لو أنه اقترب من السموات يرمي بشهاب ثاقب كقلب الأنبياء والصديقين، فقلب المؤمن التام النور أعظم حرمة عند الله من السموات.
2- قلب خرب لا يقربه الشيطان لنجاسته، كقلوب الكافرين.
3- قلب مريض فيه نجاسة وطهارة، فهذه يُقبل الشيطان عليها، كقلوبنا وهي حال أكثر قلوب المؤمنين، فيكر الشيطان عليها فأحياناً ينتصر وأحياناً ينكسر والمعصوم من عصمه الله.
وحال الشيطان مع القلوب كحال اللصوص مع البيوت في حياتنا، فالبيوت ثلاثة:
1) بيوت الملوك ... 2) بيوت خربة ما فيها إلا عذرة ... 3) بيوت عوام الناس
فاللص لا يقترب البيت الأول (بيت الملك) لما عليه من الحرس ولا يقرب البيوت الخربة لأنه لا يوجد فيها شيء يُسرق، وأما البيوت العادية التي ليست كبيت الملك وليست كالخرب فهذه يأتيها اللص ويحاول أن يسرقها إذا غفلت عنه، فإذا انتبهت لم يستطع سرقتها، وهكذا الشيطان يفعل فإذا كنت مؤمناً فغفلت مرة أتى على القلب وأغواه، وإذا ذكرت الله خنس ولذلك سماه الله الخناس.
... قيل لابن عباس: إن اليهود يزعمون أنهم لا يوسوسون في صلاتهم، فقال: صدقوا!! فقالوا: كيف ذلك؟ قال: ماذا يفعل الشيطان بالقلب الخرب.
(11/82)
(والذي يدخل الكنائس اليوم أو يسمع ما فيها لا يرى إلا كل رذيلة وفساد فماذا يعمل الشيطان بهؤلاء؟!، إنهم زادوا على إبليس ولعله إذا دخل عليهم الكنيسة أفسدوه لأنه كما قال الشيطان كنت ألقى الناس فأعلمهم فصرت ألقاهم وأتعلم منهم) وقال الشاعر المخذول:
وكنت امرأً من جند إبليس فارتقى ... بيَ الحالُ حتى صار إبليسُ من جندي
فلو رأت قبلي كنت أحسن بعده ... طرائق فسق ليس يحسنها قبلي
وغاية ما وقع من الشيطان أنه عصى ربه، لكنه لم يتقرب إليه بالمعصية أما هؤلاء النصارى يتقربون بالمعصية فتراه يصلي ويزني....
... وقد نهانا نبينا عليه الصلاة والسلام عن المجادلة والنزاع والأخذ والرد والقيل والقال في مسائل القدر، ثبت في سنن الترمذي بسند حسن من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: [خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتنازع في القدر فغضب حتى احمرت وجنتاه (1) كأنما فقيء في وجهه حب الرمان (2) ثم قال: أبهذا أمرتم أم لهذا أرسلت إليكم (3) ؟، إنما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر عزمت عليكم ألا تنازعوا فيه] فمن كان مؤمناً فليحفظ عزيمة النبي عليه الصلاة والسلام وقسمه وتشديده وطلبه وإلزامه لنا.
__________
(1) أي خداه.
(2) أي كما لو أتيت بحب الرمان وفقأته في وجه إنسان فتراه يغضب وينفعل ويحمر وجهه من الانفعال والغضب وكان النبي عليه الصلاة والسلام أبيض اللون مشرباً بحمرة ومثله لو انفعل تظهر وجنتاه كأنهما جمرتان من النار من أثر الصفاء الذي في وجهه والحمرة الأصلية، فأراد أبو هريرة رضي الله عنه أن يخبر عن حاله بهذا الوصف.
(3) أي هل أمركم الله بهذا وهل رخصت لكم به أن بهذا أرسلت إليكم أي هل أرسلت إليكم بأن تتنازعوا وتختلفوا في هذا الأمر؟.
(11/83)
وفي مسند الإمام أحمد وسنن بن ماجه بسند صحيح من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: [خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه وهم يختصمون في القدر فكأنما فقيء في وجهه حب الرمان من الغضب، ثم قال: بهذا أمرتم أو لهذا خلقتم؟، تضربون القرآن بعضه ببعض بهذا هلكت الأمم قبلكم] .
... ولذلك إذا ذكر القدر فأمسكوا وإياك أن تسترسل في هذه المباحث ولا أقول هذا الأمر لا تدركه العقول ولا تعلمه كما بينه لنا نبينا الرسول عليه الصلاة والسلام، لا أقول هذا لكن أقول البحث عن الحكمة في التقرير هو الذي لا تدركه العقول، فالعقول تدرك أن الله يعلم كل شيء وأنه قدره وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، لكن عندما تريد أن تسترسل في بيان الحكم فهذا في الحقيقة مجال للتعثر.
فإذا استرسل الإنسان في القدر وما عصمه الله وما حفظه قد يقع في إحدى ثلاث بليات:
1) بلية الزندقة: وهي توهم معارضةٍ بين أمر الله وقدر الله، فيُسلم بأن الله خالق كل شيء – وهذا بقدره – لكنه يقول: إن هذا يعارض أمره ونهيه، وهذا يدل على سفاهته وعدم حكمته، وهؤلاء قدرية زنديقية، ويقولون الله أمر ونهى وقدر وخلق لكن أمره ونهيه يعارض قدره وخلقه.
... أول من قال هذا إبليس حيث سلم بالخلق لكنه قال الأمر يخالف الحكمة لذلك أول المعترضين إبليس، أمره الله بالسجود فاعترض وقال كيف تأمر الفاضل أن يسجل للمفضول؟! أي أنت يا رب لا تعرف الحكمة سبحانه وتعالى عما يصفه الضالون علواً كبيراًً، الله أمرك يا إبليس أن تسجد فلماذا تفلسفت وصرت تقول: لم؟ وهذا ليس من شأنك أن تسأل عنه فالله رب العالمين يعلم الحكمة ويعلم الغيب وأنت لا تعلم شيئاً من ذلك فلماذا تعترض؟، وأنت لا تعرف شيئاً حتى عن نفسك هل تعرف ماهية روحك؟ لا أحد يعلم، فأنت كما قال الله (وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً) .
أنت آكل الخبز لا تعرفه ... كيف يجري فيك أم كيف تبول
كيف تدري من على العرش استوى ... لا تقل كيف استوى كيف النزول
(11/84)
أين منك الروح في جوهرها ... هل تراها فترى كيف تجول
هذه الأنفاس هل تحصرها ... لا ولا تدري متى عنك تزول
فأنت إذا كان هذا حالك فلماذا تعترض؟، فاعرف قدرك، فهل أنت ستساوي الله في إدراك حكمة كل شيء، ولو ساويته لكنت إلهاً مثله بل تبقى حالتك أنك تعلم شيئاً وتخفى عليك أشياء، وما تجهله هو أضعاف أضعاف أضعاف أضعاف ما تعلمه فقف عند حدك، إذ قد يؤدي به التعمق في القدر إلى التزندق ولذلك كان الفلاسفة يقولون: "لا يوجد أضر على المخلوق من الخالق"، فنعوذ بالله من هذا الكفر، نعمه علينا لا تحصى ورحمته وسعت كل شيء ووالله هو أرحم بنا من والدتنا وأرحم بنا من أنفسنا أرسل لنا الرسل وأنزل علينا الكتب، فكيف يكون أضر شيء علينا؟!!
... ويقول هؤلاء الفلاسفة أيضاً: "شريعة الله من أولها لآخرها سفاهة"!!! سبحان الله، لكن هذا هو حال المخذولين ومنهم العبد المخذول أبو العلاء المعري الذي هلك سنة 449 هـ حيث يقول:
يد بخمس مئين عسجد وديت ... ما بالها قطعت في ربع دينار
تناقض مالنا إلا السكوت له ... وأن نعوذ بمولانا من النار
فهذه هي الزندقة يقول (تناقض..) ويقول أيضاً في أبيات أخرى:
أنهيت عن قتل النفوس تعمداً ... وأرسلت أنت لقتلها ملكين
وزعمت بأن لها معاداً ثانياً ... ما كان أغناها عن الحالين
أي لم هذه السفاهة يا رب أنت تنهانا عن القتل وأنت ترسل ملائكة تقتلنا؟ ولماذا تقول هناك معاد ثان ٍ وخلق ثان ٍ، لا حاجة لا للخلق الأول ولا الثاني؟!! سبحان الله هل صرت إلهاً حتى تحدد ملك الله وأفعاله سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً لكن هذا هو حال من غضب الله عليه، ووصل في نهاية أمره يقول:
حياة ثم موت ثم بعث ... حديث خرافة يا أم عمرو
وكان يقول أيضاً:
وما حج لأحجار بيت ... كؤوس الخمر تُشرب في ذراها
إذا رجع الحليم إلى حجاه ... تهاون بالشرائع وازدراها
(11/85)
أي الحليم إذا رجع إلى عقله فإنه يحتقر الشرائع من عهد آدم إلى عهد محمد صلى الله عليه وسلم!!! هذا هو نتيجة التعمق بالقدر مع أنه كل ما قاله يرده العقل البشري – وكل من يزعم أن هناك تناقضاً وتعارضاً بين أمر الله ونهيه وبين خلقه وقدره فهذا من سفاهته وقصر عقله وحماقته – فاليد الحكمة أن تُغلظ ديتها حتى لا يتعاون الناس في قطع أعضاء بعضهم البعض، والحكمة تقتضي أن تخفف نصاب السرقة لأننا إذا غلظناه وجعلناه كالدية خمسمائة دينار (80.000 درهم إماراتي تقريباً على أقل تقدير) أي لا تقطع اليد في السرقة إلا إذا سرق (80.000 درهم فما فوق) لفتحنا باب السرقة على مصراعيه، لكن الشارع خفف نصاب السرقة فجعله ربع دينار حتى يصون الأموال ولا يتساهل الناس في السرقة، وغلظ دية قطع اليد خطأ لا عمداً حتى لا يتساهل الناس في قطع أطرافهم، فأين السفاهة ما معري؟!! إن كلامك سفاهة يا سفيه، وإذا كنت تتقن الشعر ألا يوجد عندنا من يتقنه – كما حصل مع الزمخشري، وتقدم – يقول علم الدين السخاوي في الرد عليه (على أبيات المعري يد بخمس....)
عز الأمانة أغلاها، وأرخصها ... ذل الخيانة فافهم حكمة الباري
أي عندما كانت أمينة جعلناها ديتها ثمينة عالية، ولما صارت خائنة صارت اليد رخيصة، لما كانت أمينة كانت ثمينة فلما خانت هانت، وقال الشيخ عبد الوهاب المالكي عليه رحمة الله، في الرد عليه:
صيانة العضو أغلاها وأرخصها ... صيانة المال فافهم حكمة الباري
وهذه هي عين الحكمة التي يجب أن يقولها العقلاء لو فرضنا عدم نزول شريعة بذلك، حفاظاً على المال وعلى أعضاء الناس وأطرافهم، فكيف به وقد وردت به شريعة أحكم الحاكمين؟!.
(11/86)
.. وإننا نقول للمعري، لإبليس أولاً أنت تعترف بأن الله ربك فتقول يا رب، فإذن هو خالقك فكيف تخالف خالقك، أي هل هو أعطاك الحكمة وبقي هو بدون حكمة؟!! سبحان الله، ثم نقول للمعري أيضاً من خلقك سيقول الله، فتقول له الذي خلقك أعطاك الحكمة ورضي لنفسه بالسفاهة؟!! فأنت بما أنك سلمت بأنه خلقك يجب أن تقر وتسلم بحكمة الله وأن لا تتوهم أو تقول إن هناك مخالفة ومصادمة بين شرع الله وقدرته، فهذا حال من تعمق بالقدر وصل إلى حد الزندقة وكذلك المخذول الآخر أحمد بن يحيى الراوندي الذي هلك سنة 298 هـ وذكره ابن حجر في اللسان ليلعنه، فعليه وعلى أمثاله لعنات رب العالمين وهكذا إمامهم الأول الشيطان الرجيم هؤلاء كلهم يعترضون على أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين، ولذلك كان المعري يقول: ما هجوت أحداً بشعري، فقال له بعض المعاصرين: صدقت إلا الله ورسوله. أي ما هجوت أحداً من البشر لكنك هجوت رب العالمين وخير المرسلين، فشعرك كله تسفيه لكلام الله جل وعلا ولحديث الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول:
إذا رجع الحليم إلى حجاه ... تهاون بالشرائع وازدراها
فهل هذا هو الحليم الحكيم؟!!! يرجع إلى عقله فيستهزئ بشرع ربه، سبحان الله، وقد تقدم معنا أن شريعة الله لعقولنا كالشمس لأعيننا، فكيف أنت تريد أن تستقل بتدبير نفسك؟!!!
إذا لم يكن عون من الله للفتى ... فأول ما يقضى عليه اجتهاده
يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث فأصلح لنا شأننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.
(11/87)
2) إذا سلم من هذه الطريقة (الزندقة) فسيسلك الطريقة الشركية الجبرية: حيث يقول كل ما نفعله أحبه الله ورضيه، (لو شاء الله ما أشركنا) فلما تعمق في القدر دون أسس شرعية أدَّاهُ أمره إلى أن يقول كل شيء بقضاء وقدر، وهذا صحيح لكن رتب عليه محذور فقال: كل ما قضاه الله يحبه وعليه فنحن نطيع الله ونحن وإن خالفنا أمره إلا أننا قد وافقنا إرادته، والموافق لإرادته مطيع، وقد تقدم معنا أن الطاعة هي موافقة الأمر الديني لا الأمر الكوني القدري.
3) وإذا سلم من هذه والتي قبلها فسيقع في الطريقة المجوسية، فيقول: الله أمر ونهى وشرع وحكم لكنه لم يخلق ولم يقدر، فأداه تعمقه في القدر إلى نفي القدر، لأنه على زعمه لو أثبت القدر لكان الله ظالماً!! فلينزه الله عن الظلم قال لم يقدر عليه شيئاً ولم يخلق شيئاً بل العبد هو الذي يقدر ويخلق.
فانظر للضلالات التي ستعتري من يتعمق في القدر دون أسس علمية شرعية، فابحث في قدر الله على حسب ما تلكمنا وضع أمامك كتاب الله وسنة نبينا عليه الصلاة والسلام وحذار أن تخرج عنهما، فإذا كان عندك بحث شرعي فتقرره ثم تقف عند هذا، وأما إذا ما أردت، أن تبحث في هذا المبحث على حسب مقتضيات العقول فستخذل وتضل كما ضل من قبلك.
الثاني: جميع الأمور بتقدير العزيز الغفور:
فكل ما يقع من إيمان وكفر وخير وشر وطاعة ومعصية سبق به تقدير الله، ولا يقع شيء إلا حسب قدر الله وعلى حسب ما سطر في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق مخلوق أو يوجد موجود.
(11/88)
ثبت في صحيح مسلم وموطأ الإمام مالك عن طاووس –، قال: [إن كنت أدركت ناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فكانوا يقولون كل شيء بقدر، وسمعت ابن عمر يقول سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "كل شيء بقدر حتى العجز والكَيْس] أي حتى الحماقة والذكاء أي كل ما يقع بتقدير الله فهذا مما تواتر عن الصحابة وثبت عن نبينا عليه الصلاة والسلام، وهذا الأمر ورد فيه الحديث أشار ربنا إليه في آخر سورة القمر قال (إنا كل شيء خلقناه بقدر) ، ثبت في صحيح مسلم وسنن الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: [جاء المشركون إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجادلوه في القدر (1) فأنزل الله إنا كل شيء خلقناه بقدر وما أمرنا إلا واحدة كلمح البصر] ، إذن كل ما يحصل من طاعة ومعصية فهو بقدر الله لكنه يثاب على الطاعة ويعاقب على المعصية.
3) الثالث: مبحث القدر الذي بحثناه يدعونا إلى أن يعظم الخوف في قلوبنا مما سبق به تقدير ربنا لنا، ولذلك قال أئمتنا المؤمنون يخافون سوء الخاتمة، والصديقون يخافون سوء السابقة، ولا يكون سوء الخاتمة إلا على حسب سوء السابقة، فأولئك (المؤمنون) يتعلقون بحالتهم فقط فيخشون من سوء الخاتمة لكن هؤلاء (الصديقون) عندهم خوف أعظم من خوف سوء الخاتمة وهو سوء السابقة، أي ماذا كتب لهم في الأزل من أهل النار أو من أهل الجنة؟.
... والسعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه، وأنت لما كنت في ظلمات ثلاث كتب رزقك وأجلك وشقي أم سعيد، لكن ليس في هذا إجبار ولا إكراه، كما تقدم.
__________
(1) وقد كان المشركون يقولون لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا.
(11/89)
.. لكن تطيش عقول الصديقين نحو السابقة التي قدرها رب العالمين والسابق مجهول، ولذلك ينبغي عليك أن لا تسترسل في الفساد وتقول هذا قدر علي لا ينبغي هذا منك فإذا كنت كيساً عاقلاً فإنك تأخذ الأهبة والحذر وتخاف ومن خاف هرب من سخط الله إلى رضوانه ولجأ إليه بالدعاء والتضرع وأن يحسن خاتمته، فمن خاف هرب ومن رجا طلب وإذا رجوت ولم تطلب فأنت متمنٍ أحمق، وإذا خفت ولم تهرب فأنت كذاب أحمق، ولذلك كان الصالحون يقولون: عجبنا للجنة نام طالبها وعجبنا للنار نام هاربها.
لكن ضربت الغفلة على قلوبنا ونسأل الله أن يحسن خاتمتنا إخوتي الكرام ... الإنسان إذا أراد أن يحصل شيئاً تراه يطلبه ويسعى وراءه فمن أراد بناء بيت لم يجلس بل سعى في تحصيل مواده وأمواله وما شكل كل هذا وكذا من يريد الزواج، فكيف ينبغي أن يكون حال طالب الجنة؟ لابد من السعي إليها والهرب من النار.
... ولذلك قال الله عن أهل الجنة (إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم) (كانوا قليلاً من الليل يهجعون) فإذن ينبغي الخوف مما سبق، التقدير والخوف يدعوان إلى الابتعاد عن سخط الله وملازمة طاعة الله.
ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من الدعاء بهذه الجملة المباركة [يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك] ثبت ذلك في سنن الترمذي وابن ماجه ومستدرك الحاكم، والحديث رواه ابن أبي عاصم في السنة، والآجري في الشريعة وسنده صحيح كالشمس عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم [كان يكثر أن يقول يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، فقلنا: يا رسول الله آمنا بك وصدقناك فهل تخاف علينا فقال: إن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبهما كيف يشاء] .
(11/90)
والحديث روي من رواية أمنا أم سلمة وعبد الله بن عمرو بن العاص والنواس ابن سموان رضي الله عنهم أجمعين بألفاظ متقاربة في بعضها [اللهم ثبت قلوبنا ثبت قلوبنا على دينك] وفي بعضها [اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك] هذه ألفاظ للحديث كلها ثابتة.
وثبت في معجم الطبراني الأوسط بسند صحيح عن أنس رضي الله عنه والحديث في مجمع الزائد (10/176) أن الرسول صلى الله عليه وسلم [كان يدعو بقول: يا ولي الإسلام وأهله (1) ثبتني حتى ألقاك] .
4- الرابع: مبحث القدر يدعونا إلى أمر عظيم في حياتنا ينبغي أن نتصف به إذا آمنا بقدر ربنا وهذا الأمر هو: أن نكون أقوياء وأن نتوكل على رب الأرض والسماء لأن ما قُدر له، فعلام الوهن والضعف والجبن وعلام التواضع والاستكانة للمخلوق مع أن ما قدر لك كائن وسيأتيك ورزقك لا يأكله غيرك وحياتك لا تصرف إلى غيرك فلا ينبغي التذلل لغير الله (قل لن يصيبنا إلا ما كبت الله لنا) .
ولذلك المؤمن هو أقوى أهل الأرض وإن كان فرداً ولو أن أهل الأرض قاطبة أجمعوا على حربه وعلى معاداته لقابلهم بنفسه لأنه واثق بأن الله إذا قدر له النصر سينتصر وإذا لم يقدر له النصر فلو كان معه أهل الأرض سينكسر ولذلك يقول الله جل وعلا لنبيه صلى الله عليه وسلم – وهذا شامل لكل مؤمن – (فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك) لم يوجد أحد معك قاتلهم بنفسك وكذلك المؤمن نتيجة لذلك لا يتذلل ولا يتضع لغير ربه، وقد صان الله جبهة المؤمن من الذل إلا له فيسجد له ويعظمه، سجد الفاني للإله القوي الباقي فهذا هو الذل الذي هو عز، لكن الذل الحقيقي والإهانة عندما يسجد الفاني للفاني.
__________
(1) أي: يا ولي الإسلام والمسلمين.
(11/91)
جاء رجل من البادية وكان قد زاد عمره على (160) سنة إلى معاوية رضي الله عنه فسأله معاوية عن عمره وعما رآه في حياته فقال الأعرابي: سنوات مختلفة خصب وجدب يولد مولود ويموت موجود، لولا الموت لضاقت الدنيا بمن فيها ولولا الولادة لهلك أهل الأرض، فقال معاوية سل حاجتك، فقال: لا حاجة لي إليك، فقال: لابد، قال، إن كان ولابد فأريد أن ترد إليّ ما مضى من عمري، فقال: لا أملك ذلك أيها الرجل، قال: ادفع عني أجلي إذا حضرني، فقال: لا أملك ذلك، فقال الأعرابي: فكيف أسألك وأنت لا تملك شيئاً.
ولذلك السؤال لغير الله ذل، ولذلك إذا احتاج الإنسان إلى طعام بحيث إذا لم يأكل مات يباح له السؤال لكن الأولى أن يصبر حتى يموت جوعاً وسؤال المخلوقين فيه:
1) ظلم لله واعتداد على حقه والله يحب أن يُسأل والسؤال نوع من العبادة، فلما صرفت السؤال منه إلى غيره فهذا فيه اعتداء وظلم.
2) ظلم للمسئول لأن المخلوق أبغض الخلق إليه من يسأله وأحب الخلق إليه من لم يسأله والأمر مع الله على العكس أحب الخلق إلى الله من يسأله وأبغضهم من لم يسأله [ومن لم يسأل الله غضب عليه] كما ورد في الحديث.
3) فيه ظلم لك لأنك امتهنت نفسك وأذللتها عندما تذللت لمخلوق مثلك.
فالأولى أن تصبر وأن تموت جوعاً وأن لا تقول أعطني رغيفاً من خبز، أو حفنة من تمر وحقيقة هذه هي عزة المؤمن.
(11/92)
.. ثبت في سنن ابن ماجه ومستدرك الحاكم وصحيح ابن حبان من حديث جابر بن عبد الله، والحديث رواه الحاكم والبيهقي في شعب الإيمان من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال [إن روح القُدُس نفث في رُعي (1) أنه ليس من نفس تموت حتى تستوفي رزقها وأجلها فاتقوا الله وأَجمِلوا في الطلب] أي ترفقوا بأنفسكم في طلب الرزق فلا داعي للحرص ولا للحماقة ولا للتعب ولا للنصب ولا نقول اجلس في بيتك فأنت مطالب بالسعي لكن ليس بالركض قال تعالى (فامشوا في مناكبها) ولم يقل اركضوا في مناكبها وأسرعوا، بل امشوا ببطء وتؤدة وسكينة، والله لو قدر عليك الغنى لو قلبت الحجر لوجدت تحته ذهباً ولو قدر عليك الفقر، لو أعطيت الذهب لضاع منك.
... ولذلك قال أئمتنا:
كم من قويٍ قويٌ في تقلبه ... مهذب الرأي عنه الرزق ينحرفُ (2)
وكم من ضعيفٍ ضعيفٌ في تقلبه ... كأنه من خليج البحر يغترفُ (3)
هذا دليل على أنه الإله له ... في الخلق سر خفي ليس ينكشفُ (4)
وحقيقة هذا موجود بيننا ترى الذي شكله قوي وألمعي لكنه لا يحصل من المال والرزق شيئاً وآخر تراه هزيلاً بليداً لكنه يحصل من الرزق والخير الشيء الكثير.
رحمة الله على الإمام الشافعي عندما يقول:
تجوع الأسد في الغابات جوعاً ... ولحم الضأن تأكله الذئاب
وكم عبدٍ ينام على حرير ... وذو نسب مفارشه التراب
وكان يقول مخبراً عن نفسه عليه رحمة الله:
علىَّ ثياب لو تقاس جميعها ... بفلس لكان الفلس منهن أكثر
__________
(1) الرّوع بفتح الراء الخوف قال تعالى (فلما ذهب عن إبراهيم الروع) ، وبضمها القلب، أي أوحى إلى جبريل وألقى في قلبي هذا.
(2)) قوي في تقلبه: أي قوي البدن سديد الرأي ذكي لكن الرزق عنه مصروف فلا يحصل قوته إلا بتعب.
(3) أي كأنه يغترف من الأموال كما لو كان يغترف من البحر، لكن لو نظرت إليه لقلت هذا لن يحصل تمرة على حسب جهده وعمله.
(4) أي لا أحد يكشف سر الله وهو القدر (نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا) .
(11/93)
وفيهن نفس لو تقاس ببعضها ... نفوس الورى كانت أعز وأكبر
وما ضر نصل السيف إخلاق (1) غمده ... إذا كان عضباً حيثما وجهته فرا
وهذا يدعوك إلى أن تربط قلبك بربك ولا داعي للحماقة أو التعب ما قدر لك سيأتيك كله بعز وبطاعة وإياك أن تطلبه بذل والله الذي لا إله إلا هو لو أن السارق ما سرق لجاءه المسروق من طريق حلال، والله الذي لا إله إلا هو لو صبر القاتل عن مقتوله لحظة لمات دون أن يقتله:
وميت بعمره من يقتل ... وغير هذا باطل لا ينقل
فعمر المقتول انتهى سواء قتلته أم لا لكنك تحاسب لأنك باشرت القتل.
__________
(1) أي ما الذي يضر السيف البتار إذا كان غمده خلقاً بالياً.
(11/94)
كان بعض شيوخنا الشيخ جمعة أبو زلام توفي عليه رحمة الله يحكي لنا قصة عن بعض طلبة العلم من الصالحين تأخرت نفقته واشتد جوعه فخرج في الشوارع لعله يجد كسرة خبز أو أي شيء يأكله فرأى بيتاً مفتوحاً فتأمله فإذا ليس به أحد – لكنه مسكون – ووجد خزانة للطعام تسمى عندنا في بلاد الشام (شعرية، غلية) فلما رآها فقال الميتة تحل للمضطر وكذلك المسروق يحل لي ففتحها فإذا بها طعام يسمى المحشي فأخذ واحدة فلما أراد أن يأكلها استحضر أن هذا لا يصح له لأنه لم يبلغ درجة الاضطرار وخوف الموت فطرح المحشي من يده وخرج فلما ذهب إلى الشيخ من أجل حلقة العلم قال له الشيخ أين كنت؟ فقال كنت في حاجة (ولم يخبره حياءً منه) فقال له: اجلس، هل لك رغبة في الزواج فقال له يا شيخ أنا جائع لا أستطيع إطعام نفسي وتريد أن تزوجني، فقال له الشيخ تُكفى كل شيء السكن والطعام، فقال، ومن يزوجني؟ فقال: هذه المرأة وكان زوجها قد توفى وتبحث عن زوج لابنتها منه وهي تطلب طالب علم ليتزوج ابنتها ويجلس معها، فقال: على بركة الله فعقد له الشيخ في ذلك المجلس ثم في المساء أخذه إلى بيت الزواج وإذا هو البيت الذي فيه المحشي في تلك الشعرية فلما دخل إلى البيت بدأ يبكي فظنت المرأة أن الرجل قد غير رأيه، فقالت له: علام تبكي؟، فقال: ما أبكي من أجل عدم استحساني لابنتك، إنما أبكي لأنه حصل معي كذا وكذا وأخبرهم بقصته ولولا أن الموقف يستدعي الإخبار لما أخبرتكم هكذا قال هذا الصالح، فتركها عن طريق الحرام فجاءت عن طريق الحلال.
(11/95)
وهذا تحقيق كلام النبي صلى الله عليه وسلم [إن روح القدس نفث في رُوْعي أنه ليس من نفس تموت (نكرة في سياق نفي دخلت من نص في العموم لا يخرج عن هذا مخلوق) حتى تستكمل رزقها وأجلها فاتقوا الله وأجلوا في الطلب] اطلبوا لكن بطريق تتجلمون وتتزينون ولا تذلون ولا تمتهنون، أناس في هذه الأيام كأنه ركز فيهم أنهم إن عصوا الله يرزقون وإذا أطاعوه فترى من يعمل بالبنك عن عمله يقول إني إذا تركت فمن أين أعيش؟!! سبحان الله، ولذلك كان المؤمن أقوى خلق الله، لأنه يتوكل على الله والتوكل ثقة القلب بالرب ولذلك لا يجبن المؤمن عند ملاقاة الأعداء لإيمانه بالقدر وخالد بن الوليد رضي الله عنه حضر ما يزيد على 80 معركة وفتحاً ولما حضرته الوفاة قال: "ما في بدني موضع شبر إلا وفيه ضربة بسيف أو طعنة رمح وها أنا أموت على فراشي كما يموت البعير فلا نامت أعين الجبناء" ولذلك حقيقة المؤمن يحرص على الموت أكثر مما يحرص أعداء الله على الحياة فخالد رضي الله عنه رغم هذا العدد من المعارك ورغم هذه الضربات والطعنات إلا أنه لم يخف لأنه يعلم أن ما قدر له سيأتيه أينما كان ولذلك قال الله جل وعلا (يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم) أي لو قدر أن الذين قتلوا في المعركة لم يخرجوا لأصابهم الموت في فروشهم في تلك الساعة، لذلك إخوتي الكرام ... كان للقدر شأن عند المسلمين رفع من معنوياتهم وأعزهم وجعلهم سادة في الدنيا قبل الآخرة.
5 - الخامس: لا يعني إيماننا بقدر ربنا أن تتواكل وأن نغفل الأسباب وأن نتركها فالمؤمن الموحد يقوم بالأسباب ويدفع بعضها ببعض ويربط قلبه بمسببها وخالقها وموجدها.
(11/96)
ولذلك قال أئمتنا، وهذا الكلام انقشوه في صدوركم: "الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد (1) وإنكار الأسباب أن تكون أسباباً قدح في الشرع والحكمة (2) ، والإعراض عن الأسباب قدح في العقل (3) وتنزيل الأسباب منازلها ومرافقة بعضها ببعض (4) محض العبودية لرب البرية".
إذن أربعة أحوال: قال الله لمريم (وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً) فلابد من سبب (هزي) لكن الذي سخر سقوط التمر هو الله، فهي ضعيفة (نفساء ثم هل هزها سيحرك النخلة؟!، لكن هذا هو بذل السبب وهذا هو جهدها، ولذلك قال بعض الظرفاء الأكياس:
ألم تر أن الله قال لمريم ... فهزي الجذع يساقط الرطب
ولو شاء أدنى الجذع من غير هزها ... إليها ولكن كل شيء له سبب
__________
(1) أي تلتفت إلى السبب وتجعله الموجد والخالق والرازق أي لولا هذا السبب لما حصل لك هذا الأمر فهذا شرك فلا يجوز أن تقوله لولا الباب الذي على بيته لدخل اللصوص وأخذوا متاعي، لكن قل: لولا أن الله قدر لي أن أجعل الباب لدخل اللصوص، لا حرج في مثل هذا القول.
(2) أي بأن يقول: ما قدر لي سيأتيني وأنا سأجلس على فراشي، والسبب لا قيمة له وأنا أنكر هذا، فهذا عاص ٍ لأنه مأمور بالسعي (فامشوا في مناكبها) .
(3) أي يثبت أن للأسباب أثراً لكنه يعرض عنه ويقول أنا متوكل على الله.
(4) أي هذا أخذه بالأسباب ودافع بعضها ببعض، فدفع الذنب بالتوبة، والجوع بالأكل وهكذا ...
(11/97)
قال الشيخ عبد القادر الجيلاني عليه رحمة الله: "كان الناس إذا وصلوا إلى مبحث القدر وفقوا وأما أنا ففتحت لي رَوّزنة (فتحة) " فنازعت أقدار الحق بالحق للحق (1) ، والمؤمن من ينازع القدر بالقدر، لا من يستسلم للقدر (2) " وحقيقة هذا هو محض العبودية، وقد شرح هذا الكلام ابن القيم في المدارج (1/199) والإمام ابن تيمية في الفتاوى (8/547) ، وهذا الكلام أجمل ما قاله الشيخ عبد القادر رحمه الله.
... إذن لابد من الأخذ بالأسباب والعمل للوصول إلى المراد، وليس التوكل أن يعرض الإنسان عن السبب فهذا تواكل، فالتوكل هو ثقة القلب بالرب ثم يبذل ما في وسعه نحو هذه الأسباب ضمن استطاعته كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم [فاتقوا الله وأجملوا في الطلب] ، ولو توكلنا على الله حق التوكل لرزقنا كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً وانتبه إلى تعبير الرسول صلى الله عليه وسلم فأثبت لها سعيها (تغدو) و (تروح) أي تعود في المساء والعشى شبعى، فهذا هو حالها وهذا هو تقدير الله لرزقها، ولذلك قال عمر لرجل جلس يدعو يقول اللهم ارزقني، فقال له: ويحك إن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة وكذلك لو جلس شخص في خلوته يدعو يقول اللهم انصرنا وهو جالس فهذا تواكل بل لابد من الجهاد والإعداد وأخذ الأسباب ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج للجهاد مع أن دعاءه يكفي لأنه لو دعى الله أن ينصره دون حرب لنصره جل وعلا، إذن لابد من عمل الأسباب (فامشوا في مناكبها) وإذا عملنا فلا نختال ولا نعجب ولا نغتر (ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً) .
اقنع بما ترزق يا ذا الفتى ... فليس ينسى ربنا نملهْ (3)
__________
(1) أي قاومت أقدار الحق بإقدار الحق طلباً للحق ولرضوان الله وللتقرب له.
(2) لا من استسلم فهو متواكل.
(3) (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) .
(11/98)
إن أقبل الدهر فقم قائماً (1) ... وإن تولى مدبراً نم له (2)
6- السادس: كلام للشيخ عبد القادر الجيلاني يرحمه الله يلخص لنا فيه دين ربنا:
يقول: دين الله جل وعلا يقوم على ثلاثة أمور:
1) أمر يجب أن نقوم به. ... 2) نهي يجب أن نجتنبه. ... 3) قدر يجب أن نرضى به.
فهذه ثلاث حالات، وهذا الكلام للشيخ عبد القادر شرحه الإمام ابن تيمية في الفتاوى (10/455-550) ، يقول الإمام ابن تيمية: جمع الشيخ عليه رحمة الله في هذه الجملة الدين بأكمله ولا يخرج شيء من دين الإسلام عن هذه الأمور الثلاثة، والعلم عند الله.
س: ما العلاقة بين القدر والدعاء؟
جـ: الدعاء سبب، وهذا السبب مقدر وهو كالأسباب المعروفة، فالله قد يقدر بلاءً ويجعل من أسباب رفع البلاء الدعاء فدفعنا القدر بالقدر ولذلك لا يرد البلاء إلا الدعاء ويعتلج الدعاء والبلاء في الفضاء فيغلب الدعاء فهذا مقدر وهذا مقدر لكن في النهاية لا يقع إلا ما قدره الله، وهذا السبب كوجود الزوجة سبب لوجود الولد لكن قد يوجد ولد ولا يوجد زوجة، كما يقول الشاعر:
فعليك بذر الحب لا قطف الجني ... والله للساعين خير ضمين
__________
(1) أي إن جاءتك الأسباب والأرزاق فقم وصرفها في مصارفها، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه تأتيه الأسباب والأرزاق، فقد كان يقلب الحجر فيجد تحته ذهباً من تيسير الله عليه أمور الرزق، ولما توفي صولحت إحدى نسائه الأربع عن ربع الثمن بـ80.000 درهم فكم يكون ماله رضي الله عنه؟!! مع أنه جاء مهاجراً لم يكن يملك شيئاً، وأول ما جاء إلى المدينة تزوج أنصارية على وزن نواة من ذهب 5 درهم، ثم انظر إلى الغنى والرزق كيف جاءه من كل جهة.
(2) أي إذا تولت عنك الأسباب وأعرضت فنم واسترح وفوض أمرك إلى الله.
(11/99)
أي عليك أن تبذر لكن ليس عليك الجني لأنك قد تبذر ولا تجد ثمراً تجنيه، ولذلك ما من مسلم يدعو بدعاء ليس فيه إثم أو قطيعة رحم إلا عجل الله الإجابة، وإما أن يصرف عنه من السوء، وإما أن يعطيه من الخير بمقدار ما دعا لا عينه وإما أن تدخر له الإجابة ليوم القيامة، ولذلك ضمن الله له الإجابة في الوقت الذي يريد لا في الوقت الذي تريد، وضمن لك الإجابة كيفما يشاء لا كيفما تشاء، ولو كنت تضمن الإجابة في الوقت الذي تريد كما تريد لكنت إلهاً.
ان ربي الأعلى.
(11/100)
التعليق على الطحاوية
(مبحث الميثاق)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
مبحث الميثاق
يقول الإمام الطحاوي عليه رحمات ربنا الباري:
"والميثاق الذي أخذه الله تعالى من آدم وذريته حق".
إخوتي الكرام ... الميثاق معناه في اللغة: العهد المؤكد، والوثاق هو حبل أو قيد يشد ويربط به الأسير أو الدابة، يقول الله تعالى: (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق) ، ما معنى الوثاق؟ حبل وقيد، فما يقيد به يسمى وثاق لأن فيه أحكاماً وربطاً وهكذا الميثاق عهد مؤكد، لكن العهد معنوي إن أكدته بيمين أو بالتزام وتصميم يقال له ميثاق كما أن ذاك إذا قيدته بالحبل يقال له أحكمت وثاقه وجعلته في ميثاق محكم لكنه ميثاق حسي.
إنما أصل الميثاق – كما قلت – عهد مؤكد ولذلك قال الله جل وعلا في سورة النساء (وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً أتأخذونه بهتاناً وإثماً مبيناً وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً) الميثاق هنا عهد مؤكد، وقوله، (غليظاً) أي ميثاقاً مؤكداً كثيراً وكثيراً، إذن التأكيد فيه كثير ولذلك [إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج] كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام، والحديث في صحيح مسلم، فالميثاق الغليظ هذا هو عقد النكاح عندما يتم إيجاب وقبول، هذا ميثاق غليظ فهو عهد مؤكد أمرنا الله أن نرعى هذا العهد وأمرنا ولي المرأة أن نرعى هذا العهد وأن نتقي الله في عرضه وهكذا المرأة جاءت إلى الرجل لتكون في كنفه ورعايته وأعطاها عهداً بذلك عن طريق العهد فإذن هذه ميثاق غليظ وعهد مؤكد بمزيد التأكيد.
فالمراد بالميثاق إخوتي الكرام ... أقام الله جل وعلا ميثاقه على عباده وحججه عليهم بأمور كثيرة، كثرتها تنضبط في ثلاثة أمور:
أولها: وهو أولاها بالاعتبار – إرسال الرسل.
(12/1)
الثاني: العهد الذي أخذ عليهم في عالم الذر عندما استخرجوا من صلب أبيهم آدم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، ومن أصلاب آبائهم.
الثالث: الفطرة المستقيمة التي فطر الله عباده عليها.
أما إرسال الرسل فهو آخر الأمور وآخر المواثيق التي أخذها الله على عباده وهو أهمها، وأول المواثيق التي أخذها الله على المكلفين هو الميثاق الذين أخذ عليهم في عالم الذر، وبين هذين الميثاقين ميثاق الفطرة، وهذه المواثيق الثلاثة هي شيء واحد فكل المقصود منها هو أخذ العهد على العباد وإقامة الحجج عليهم بأن يعبدوا الله وحده لا شريك له، جرى هذا في عالم الذر، وفطر الله العباد عليه بعد أن خلقهم وأرسل إليهم الرسل بعد أن أوجدهم ليؤمنوا بالله ويعبدوه وحده لا شريك له.
... وسنتكلم عن هذه المواثيق كلها لنعرف الميثاق من جميع وجوهه، ولنعرف بعد ذلك الميثاق الذي أُخذ علينا في عالم الذر وأشار إليه ربنا في سورة الأعراف (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى (شهدنا (أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين، أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون، وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون) آية 172، 173.
1- الميثاق الأول: إرسال الرسل:
يشترك لتكليف العباد إرسال الرسل إليهم وغالب ظني أنه تقدم معكم في السنة الأولى أنه يشترط في تكليف العباد بتوحيد ربهم أربعة شروط:
أولها: العقل.
وثانيها: البلوغ.
ثالثها: سلامة إحدى حاستي السمع أو البصر، فلابد من وجود واحدة منها، أما لو كان أعمى وأصم في آنٍ واحد فيرفع عنه التكليف كما لو كان مجنوناً، أما لو كان أعمى أو أصم، فلا يرفع عنه التكليف، لأنه إن كان أعمى فنبلغه دعوة الله عن طريق السمع، وإن كان أصم فنبلغه دعوة الله عن طريق الإشارة.
رابعها: بلوغ الدعوة عن طريق رسل الله الكرام.
(12/2)
والذين لا توجد فيهم هذه الشروط لتكليفهم بتوحيد ربنا المعبود يمتحنون في عَرَصات الموقف كما امتحنا نحن في هذه الحياة فمن أطاع الله منهم دخل الجنة ومن عصاه دخل النار وهذا القول ثبتت به الأحاديث تقارب الأحاديث المتواترة حكم عليها أئمتنا بأنها مستفيضة وهذا القول هو الذي يجمع بين الأحاديث التي وردت في هذه المسألة.
فقد وردت بعض الأحاديث التي تخبر بأن أولاد المشركين في النار، وبعض الأحاديث تقول إنهم في الجنة، وبعض الأحاديث تقول الله أعلم بما كانوا عاملين، وبعض الأحاديث – كما قلت لكم – أخبرت أنهم يمتحنون فالجمع بين هذه الأحاديث أن نقول:
? إن الأحاديث التي أخبرت أنهم في النار أي هم في النار بعد أن يمتحنوا ويعصوا.
? والأحاديث التي أخبرت أنهم في الجنة أي هم في الجنة بعد أن يمتحنوا ويطيعوا.
? وأما الأحاديث توقف فيها نبينا عليه الصلاة والسلام وقال الله أعلم بما كانوا عاملين، أي الله أعلم بمصيرهم هل هو إلى الجنة أو على النار قبل الامتحان، فهذا لا نعلمه نحن قبل أن يمتحنوا بل الله وحده هو العالم بما سيعملون بعد امتحانهم.
? والأحاديث التي أخبرت أنهم سيمتحنون هذا هو الواقع وهذا هو الذي سيحصل فيمتحنون فيظهر معلوم الله فيهم، فبعضهم يدخل الجنة وبعضهم يدخل النار.
إذن أولاد المشركين وهكذا الذين ماتوا في الفترة ومن في حكم من لم تكتمل فيهم شروط تكليفهم يمتحنون في عرصات الموقف وساحة الحساب فمن أطاع دخل الجنة ومن عصى دخل النار كما امتحنا نحن في هذه الحياة.
(12/3)
.. إذن الميثاق الأول هو إرسال الرسل وهو حجة عظيمة أقامها الله جل وعلا على عباده بواسطة الرسل فأخبرنا الله في كتابه أنه لا يعذب العباد إذا لم يرسل إليهم رسولاً قال في سورة الإسراء آية رقم 15 (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً) ، وأخبرنا الله جل وعلا أنه لو عذب العباد قبل إرسال الرسل إليهم وإنزال الكتب عليهم لاحتجوا على ربهم جل وعلا يقول الله جل وعلا في سورة طه آية رقم 134 (ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى) (من قبله) : أي من قبل إرسال الرسل إليهم، يعني لو عاقبنا الكفار من عتاة قريش وغيرهم قبل إرسال رسول إليهم لاعترضوا وقالوا كيف تعذبنا ولم يأتنا منك رسول ليبلغنا دعوة الله على أتم وجه، ولذلك قلت لكم هذا الميثاق الثالث الذي هو آخر المواثيق به يتعلق ويربط التكليف، فإذا لم يوجد فلا عبرة بميثاق الفطرة ولا بالميثاق الذي أخذ علينا في عالم الذر.
وأخبرنا الله في كتابه أنه أرسل الرسل مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة فقال جل وعلا في سورة النساء آية 163-165 (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبوراً رسلاً قد قصصناهم عليك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليماً رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزاً حكيماً) .
الشاهد: رسلاً مبشرين ومنذرين.
(12/4)
.. وأخبرنا الله جل وعلا في سورة الزمر أنه يقول للكفار يوم القيامة إن الرسل جاؤوكم فكذبتم واستكبرتم وما أعذبكم إلا بعد قيام الحجة عليكم، فقال جل وعلا 54-59 (وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون، واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون، أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين، أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرَّةً فأكون من المحسنين، بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين) .
الشاهد: بلى قد جاءتك آياتي.
... ولذلك أخبرنا الله في آخر السورة بعد ذلك أن الكفار يعترفون بأن الرسل أرسلوا إليهم وبلغوهم دعوة ربهم (وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمراً حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسلٌ منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم قالوا بلى ... ) الآية 71 سورة الزمر.
... وأخبرنا الله في أوائل سورة الملك أن الله أعد للكفار عذاب جهنم وبئس المصير وأنهم يعترفون بأنهم لو كانوا يسمعون أو يعقلون ما كانوا في نار الجحيم، يقول الله جل وعلا (وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير، إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقاً وهي تفور، تكاد تميز من الغيظ كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير، قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير، وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير، فاعترفوا بذنوبهم فسحقاً لأصحاب السعير) . سورة الملك آية 6-11.
(12/5)
.. وثبت في صحيح البخاري وصحيح ابن خزيمة – وهذا حديث يقرر إرسال الرسل إلى المخلوقين من أجل إقامة الحجة عليهم – عن عديّ بن حاتم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [وليلقين أحدكم ربه فيقول الله له: ألم أرسل إليك رسولاً فيبلّغْكَ؟ فيقول: بلى] أي بلى أرسلت إليّ رسولاً بلغني وثبتت الحجة عليّ.
2- الميثاق الثاني: إشهاد العباد على أنفسهم في عالم الذر عندما أخرجهم من صلب آبائهم وصوّرهم وكلمهم قُبُلاً وأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى.
وقد وقع هذا في عالم الذر للأرواح والأبدان فاستخرج الله الصور والأبدان من المواد التي ستخلق منها بكيفية يعلمها الله ولا نعلمها، ثم بعد أن استنطقهم وأشهدهم أعادهم إلى تلك المواد التي سيُخرجون منها بعد ذلك والله على كل شيء قدير، ولم يكن الخلق للروح فقط، ولا للبدن فقط – بل كما قلنا – للأرواح والأبدان خلقها الله وبثها بين يده وكلمنا قبلا ً.
هذا الميثاق وردت آية من القرآن تدل عليه، وحديثان مرفوعان إلى نبينا عليه الصلاة والسلام يقررانه، وآثر موقوف صحيح، كما سأورد أحاديث تشهد لمعناه – وهي كثيرة – ولكن ليس فيها التصريح بأن الله أخرج الذرية من صلب آدم في ذلك الوقت.
أما الآية ... فهي في سورة الأعراف وتقدم ذكرها، يقول الله جل وعلا: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم (1) ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى (شهدنا (أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين، أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون) .
__________
(1) قال (من ظهورهم) ولم يقل (من ظهره) لأن هذه الفروع مأخوذه من ذلك الأصل فهم أخرجهم الله من ظهر آدم ثم هذه الفروع أيضاً أخرها من بعضها، إذن أخرج الأحفاد من الآباء، والآباء من الأجداد، وكل من سيولد من أب بعد ذلك سيكون ممن أخرج من ظهره.
(12/6)
فإذاً تم جوابهم عند قوله بلى، فتكون كلمة شهدنا إما من الله أو من الملائكة أي فقالت لهم الملائكة شهدنا، أو قال الله شهدنا عليكم بذلك: (أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون) فلا تتعللوا بأحد أمرين: الأول: لا تقولوا نحن في غفلة عن هذا وما عندنا علم به فأنا أشهدتكم وأنتم في عالم الذر، الثاني: لا تقلدوا آباءكم في الضلالة ولا تقولوا نحن تبعنا آباءنا فهم كانوا على ضلال ونحن على طريقتهم، لا تقولوا هذا أيضاً فكل نفس بما كسبت رهينة أنا أخرجت كل واحد منكم وأشهدته على نفسه من ربك ومن إلهك؟ فقال: أنت إلهي وأنت ربي، فنحن إذ شهدنا عليكم بذلك ولذلك يحسن الوقف على كلمة بلى إذ كان جوابهم ينتهي عند هذه الكلمة (بلى) .
وإذا تم جوابهم عند قوله شهدنا فيكون المعنى: أخذنا عليكم العهد والميثاق في عالم الذر لئلا تقولوا (إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون) .
إذن كلمة (شهدنا) إما أن تكون من الله ومن ملائكته أي: شهدنا لئلا تقولوا إنا كنا ... وإما أن تكون من قول الذرية، أي أخذنا من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدناهم على أنفسهم لئلا يقولوا إنا كنا.... وكلا التقديرين حق وأنت على حسب ما تلاحظه من المعنى تحدد الوقف.
وأما الحديثان المرفوعان:
(12/7)
أولهما: ثبت في مسند الإمام أحمد – بسند رجاله رجال الصحيح كما في المجمع (7/25، 189) – والحديث رواه الحاكم في المستدرك (1/28) وقال صحيح الإسناد وأقره الذهبي، ورواه ابن جرير في تفسيره وابن أبي حاتم في تفسيره وابن مردُوْيَهْ في تفسيره عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم عليه السلام بنَعْمان – يعني عرفة – فأخرج من صلبه كل ذرَّيّة ذرأها، فنثرها بين يديه (كالذر) ثم كلمهم قُبُلاً، قال: (ألست بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين، أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون) ] .
(قُبُلاً) أي مشفاهة بدون واسطة.
فكان هذا الميثاق عليهم إذن فى عرفة وهي معروفة والتي يقف فيها الحجاج في اليوم التاسع من ذي الحجة، في مكان معروف اسمه نعمان من عرفات أخذ الله علينا العهد في ذلك الوقت، أخرج من ظهر آدم ذريته إلى يوم القيامة وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالو: بلى.
وهذا لم يكن في الجنة، بل كان بعد أن أهبط (1) آدم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه إلى الأرض، وهذا الذي وقع في عالم الذر هذا من الإيمان بالغيب نؤمن به ولا نبحث في حقيقته.
__________
(1) هل كان إهباط آدم وإنزاله في عرفات أو في الهند؟ أقوال قيلت في ذلك لا دليل علي شيء منها أنه ثبت صحيح أن نزوله كان في مكان كذا، لكن أخذ على ذريته الميثاق في ذلك المكان، وهذا فيما يظهر والعلم عند الله أنه يرجح أن نزوله كان من الجنة إلى هذه البقعة المباركة الطاهرة (عرفات) ولا مانع أن يكون نزوله في أرض الهند ثم أتى به إلى هذا المكان واستخرج الله من صلبه وظهره كل ذرية ستكون إلى يوم القيامة ثم كلمهم قبلاً.
(12/8)
وقد حاول الإمام ابن كثير أن يحكم على هذا الأثر بالوقف لأن الرواة اختلفوا فيه فمنهم من رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومنهم من وقفه على ابن عباس وهي محاولة غير مرضية لأن مثل هذا لا يقدح في المرفوع فمن حفظ حجة على من لم يحفظ، وزيادة الثقة مقبولة، فإذا رفع راوٍ ثقة الحديث، ووقفه راوٍ آخر فيحكم بالزيادة وبرفع الحديث؛ لأن معه زيادة علم، فلعل ذاك شك فوقف الحديث على ابن عباس، وهذا تأكد وتحقق بأنه مرفوع وأنه سمعه من شيوخه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم فصرح برفعه.
على أننا لو سلمنا أن هذا الأثر موقوف فله حكم الرفع قطعاً وجزماً لأن مثله لا يقال من قبل الرأي ولا الاجتهاد ولا الاستنباط.
الثاني: رواه ابن جرير الطبري في تفسيره (9/77) عند تفسير هذه الآية – التي تقدم ذكرها – من سورة الأعراف – عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [أُخذوا من ظهره كما يؤخذ بالشطر من الرأس، فقال لهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى، فقالت الملائكة (1) : (شهدنا أن تقولوا ... ) الآية] .
... قال الإمام ابن جرير بعد أن روى هذا الأثر: لا أعلمه صحيحاً، فإن الثقات رووه عن سفيان الثوري فوقفوه على عبد الله بن عمرو ولم يرفعوه. ويعني بقوله: لا أعلمه صحيحاً أي لا أعلمه صحيحاً مرفوعاً، إنما أعلمه أنه موقوف على عبد الله بن عمرو.
نقول: لو ثبت الوقف فله حكم الرفع، والرواية المتقدمة ورد التصريح بأنها مرفوعة وهي صحيحة. فهذان هما الحديثان المرفوعان.
وأما الأثر الموقوف:
__________
(1) هنا كلمة شهدنا مصّرحٌ بأن قائلها هم الملائكة وليست ذرية بني آدم، والآية تحتمل الأمرين فلا مانع من أن يقول الذرية شهدنا، وأن تقول لهم الملائكة بعد ذلك شهدنا على قولكم وشهادتكم. وتقدم.
(12/9)
.. فهو ما رواه الإمام أحمد في المسند أيضاً، والحاكم في المستدرك (2/324) وقال إسناده صحيح وأقره الذهبي، والحديث رواه أصحاب التفاسير الثلاثة المتقدمة أيضاً: ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مَرْدُوْيَهْ – فهؤلاء الخمسة رووا الحديث الأول المرفوع عن ابن عباس، ورووا هذا الأثر أيضاً – عن أبي بن كعب رضي الله عنه أنه قال في قول الله جل وعلا: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم....) الآية. قال فيها: [جمعهم فجعلهم أرواحاً ثم صورهم فاستنطقهم فتكلموا ثم أخذ عليهم العهد والميثاق وأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟ قال (1) : فإني أُشهد عليكم السموات السبع والأراضين السبع وأشهد عليكم أباكم آدم – عليه السلام – أن تقولوا يوم القيامة لم نعلم بذلك، اعلموا أنه لا إله غيري ولا رب غيري فلا تشركوا بي شيئاً، إني سأرسل لكم رسلي (2) يذكرونكم عهدي وميثاقي، وأُنزل عليكم كتبي، قالوا: شهدنا (3) بأنك ربنا وإلهنا لا رب غيرك فأقَرّوا بذلك] .
وهذا الإيجاد الذي حصل لهم في عالم الذر أخبرنا به من لا ينطق عن الهوى عليه صلوات الله وسلامه فنؤمن به دون البحث في كيفيته إذ هو من باب الإيمان بالغيب.
فإن قيل: إن العلم بهذا الميثاق الذي أخذ علينا في عالم الذر غير معلوم لنا، فما فائدته؟
فنقول: تحصل لنا فائدتان:
__________
(1) أي قال الله هذا بعد أن قالت الذرية بلى، ولم يذكر أبي جواب الذرية لأنه معلوم وقد ذكر في القرآن الكريم.
(2) هذا هو الميثاق الأخير والذي تدارسناه أول شيء، لأنه أهمها.
(3) فكلمة شهدنا هنا إذن من كلام ذرية بين آدم وقلت لكم الآية تحتمل الأمرين ونجمع بينهما بأنهم قالوا شهدنا فقال الله وملائكته شهدنا على شهادتكم فحذار حذار من إهمالها ونسيانها، والله أعلم.
(12/10)
الفائدة الأولي: أنه قد أخبرنا به من لا ينطق عن الهوى رسولنا صلى الله عليه وسلم، وأتانا بما يقرره ويوضحه ويثبته في رسالته ودعوته، فإذا آمنا بهذا يحصل لنا شرف وفضل الإيمان بالغيب.
الفائدة الثانية: أنه يحصل علينا بهذا الميثاق مزيد من حجة وإثبات، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول لنا: انتبهوا!! أنتم إذا لم تتبعوني فإنكم تعتبرون عاصون لله مباشرة حيث أخذ الله عليكم العهد في عالم الذر بتوحيده وعدم الإشراك به.
... إذن جحدتم إقراركم أمام ربكم ثم عصيتم أمري ولم تتبعوني فانتبهوا فليس الكفر بي يعتبر رداً لدعوتي فقط، إنما هو رد لشهادتكم التي صدرت منكم أمام ربكم جل وعلا أيضاً.
... وكلما كثرت وسائل الإثبات على الإنسان كلما دعاه هذا للاستحياء من نفسه ومن ربه، فالله عندما يقول لعبده: أنا أشهدتك على نفسك بين يدي فشهدتّ، وأوجدت في فطرتك ما يدل على أنني إلهك وربك، وأرسلت إليك رسلاً يقررون هذا ففي هذا الكلام تحذير للعبد من المخالفة، فليست هي شهادة واحدة ولا حجة واحدة ولا بينة واحدة فقط.
(12/11)
.. ولذلك الله جل وعلا عندما يحاسب عباده يوم القيامة هل يحاسبهم أيضاً بشهادة واحدة وببينة أم بشهادات وبينات؟ بشهادات وبينات فالملائكة والأرض تحدث أخبارها بما عمل ابن آدم على ظهرها من خير أو شر فتشهد عليك يوم القيامة، والصحف تشهد، والجوارح تشهد، والله كفى به شهيداً لا تخفى عليه خافية، قال الله جل وعلا (اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم) ، وقال جل وعلا في سورة النور في حق القاذفين (يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون) وقال في سورة فصلت: (حتى إذا جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم (1) بما كانوا يعملون) ، وثبت في صحيح مسلم عن نبينا عليه الصلاة والسلام [أنه كان بين أصحابه فضحك، فقالوا له: أضحك ألله سنك يا رسول الله، ما الذي أضحكك؟، فقال ضحكت من محاجة العبد لربه، يقول: فإني لا أقبل على نفسي شهيداً إلا من نفسي فيقول الله له: لك ذلك، فيختم على فيه، ويقول لجوارحه انطقي فتشهد عليه يداه ورجلاه وجوارحه بما عمل، ثم خلى الله بينه وبين الكلام فقال لجوارحه بُعداً لكُنْ وسحقاً فعنكُنَّ كنت أناضل] أي عنكن كنت أدافع، فقالت الجوارح (أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء) فضحك الرسول صلى الله عليه وسلم من هذه الحادثة.
(وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء)
العمر ينقص والذنوب تزيد ... وتُقال عثرات الفتى فيعودج
هل يستطيع جحود ذنب واحد ... رجلٌ جوارحه عليه شهودج
__________
(1) كثير من المفسرين قالوا: المراد من الجلود خصوص الفرج، فكنى بالجد عن الفرج الذي إذا فعل الإنسان حراماً يشهد عليه، ولفظ الجلد أعم من ذلك يشمل الفرج وغيره من الجوارح الأخرى، فلو كشف فخذه سيشهد عليه هذا الفخذ بأنه كشف أمام من لا يحل أن ينظر إليه، وهكذا لو كشفت المرأة يدها أو شعرها أو شيئاً سيشهد عليها ذلك أمام الله، لأنها كشفته أمام من لا يحل أن ينظر إليه.
(12/12)
.. فأنت يكلمك الله قبلاً وجهاً لوجه في عالم الذر دون واسطة ويقول عبدي ألست بربك فقلت: بلى يا رب وإلهي وسيدي وخالقي، ولا أشرك بك شيئاً، ويقول لك انتبه!! ملائكتي تشهد وأنا أشهد شهدنا عليك بهذا الإقرار فإياك إذا خلقتك في الحياة أن تقول إنا كنا عن هذا غافلين، وإياك أن تقلد آباءك في الضلالة، فكل نفس بما كسبت رهينة فأنت عبدي وأنا خالقك وربك أشهدتك وأخذت إقرارك فإياك أن ترجع فإذا رجعت وبال ذلك عليك، ومع ذلك لن يكون حسابي لك في الآخرة على حسب هذا الميثاق فقط، بل سأجعل معه ميثاقاً آخر وهو الفطرة وسأجعل معه ميثاقاً آخر وحجة أقوى وهي أن أرسل إليك رسلاً تكلف بإتباعهم بعد بلوغك ووجود عقلك وسلامة إحدى حاستيك وأن تبلغك الدعوة، فرفعت الأعذار عنك؟ فلم يبق لك عذر ولا شبهة، ولذلك يقول الكفار (لو كنا نسمع أو نعقل) لأنهم حقيقة لا يسمعون ولا يعقلون، وينطبق عليهم قوله تعالى (ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع) وقوله (ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل) وينطبق عليهم قوله تعالى (أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلاً أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً) وقوله تعالى (كمثل الحمار يحمل أسفاراً) وقوله تعالى (كأنهم خشب مسندة) ، وكذلك قوله (كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث) .
... إذن كان لهم سمع وكانت لهم قلوب وما أرادوا بهذا أنهم كانوا في حكم المجانين ليس لهم قلوب وليس لهم أسماع، لا، إنما لا يسمعون آيات الله كما قال جل وعلا عن الكفار (وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه) فلا يسمعونها سماع تلذذ أو تدبر، ولا سماع قبول لأجل العمل، لا هذا ولا ذاك، بل إعراض من جميع الجهات.
(12/13)
.. إذن هذا الميثاق – ميثاق عالم الذر - لا ينبغي أن يقول أحد نحن لا نعلم به فما فائدته؟!!!.
... هذه الآثار الثلاثة المتقدمة عن ابن عباس وعبد الله بن عمرو وأبيّ بن كعب رضي الله عنهم أجمعين ورد ما يدل عليها ويقررها من حيث المعنى العام لا من حيث التصريح بأن الله أخرجنا من ظهور آبائنا ومن صلب أبينا آدم في عالم الذر، ومن هذه الأحاديث:
1- ما ثبت في المسند والصحيحين عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [يقول الله جل وعلا للرجل من أهل النار يوم القيامة أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء، أكنت مفتدياً به؟ فيقول: نعم رب، فيقول الله: قد أردت منك أهون من ذلك، قد أخذت عليك العهد في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئاً فأبيت إلا أن تشرك بي] . فالحديث فيه دلالة على أنه أخذ علينا العهد في ظهر أبينا آدم لكن كيف كان؟ هذا لم يفصله الحديث.
2- وثبت في مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي وأبي داود وموطأ مالك ومستدرك الحاكم وصحيح ابن حبان عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن الله لما خلق آدم مسح على ظهره بيمينه فاستخرج منه ذريته فقال: هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج من ظهره ذرية فقال هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون فقال رجل: يا رسول الله، ففيم العمل؟، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من خلقه الله للجنة فسيوفق لعمل أهل الجنة حتى يختم له بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة، ومن خلقه الله للنار فسيوفق لعمل أهل النار ويختم له بعمل أهل النار فيدخل النار] ، فهذا الحديث فيه دلالة على أنه استخرجهم الله جل وعلا من صلب أبيهم آدم، فوقع هنا استخراج، والأحاديث المتقدمة دلت على أنه حصل استنطاق وإشهاد مع الاستخراج.
(12/14)
وهذا التقدير الأزلي ليس فيه شائبة إكراه ولا قسر ولا جبر إنما ربنا جل وعلا يعلم الأمور الماضية والحاضرة والمستقبلة ويعلم ما سيقع في كونه وفي ملكه، فكونه يعلم أن هذا سيختار الكفر أو أن هذا سيختار الإيمان ليس في هذا جبر ولا إكراه، فالله جل وعلا لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء وليس حاله كحال المخلوقات لا نعلم الأشياء إلا بعد وقوعها ولو قيل لنا فلان سيختم له على الإيمان أو الكفر؟ لقلنا لا ندري، ولو كان الله سبحانه وتعالى كحالنا لما كان إلهاً، سبحانه وتعالى وتنزه بل هو بكل شيء عليم يستوي في عمله ما وقع وما سيقع فالكل عنده سواء ولذلك العلم صفة انكشاف يعلم بها ربنا جل وعلا الأشياء على ما هي عليه وقعت أم لم تقع.
... ولو أن فلاناً من الناس قبل أن يتزوج قيل لنا ماذا سيولد له؟ هل نعلم؟ لا طيب ولو تزوج واستقر الحمل في بطن زوجته بعد أربعة أشهر يمكن أن نعلمه أم لا؟ يمكن أن نعلم ما في بطن زوجته هل ذكر أم أنثى لأنه لا يحول بيننا وبينه إلا جلدة البطن، فلو علمنا ما في الرحم بواسطة الأشعة فهذا ليس علماً بغيب وليس مختصاً بالرب بل علمته الملائكة التي تبعث إلى الجنين وهو في الرحم، فليس هذا العلم من العلم بالغيب الذي اختص به الرب جل وعلا، فإذا علمه الأطباء وقبلهم الملائكة فلا حرج في ذلك، لكن قبل أن تنفخ فيه الروح وهو نطفة لو اجتمع أطباء الأرض ليعرفوه هل هو ذكر أم أنثى لن يستطيعوا.
... ثم إن علم الأطباء هذا قاصر وجزئي، فإنهم لا يعلمون هل سيولد أعمى أم بصير، سميع أم أصم؟ ذكي أم بليد؟ طويل أم قصير؟ سمين أو ضعيف؟ سيقولون لك لا ندري، إذن لم يعلم الأطباء من الجنين إلا كونه ذكراً أو أنثى.
... إذا علمت هذا علمت سخف من يزعم أن القرآن متناقض ويقول كيف يقول الله في كتابه (يعلم ما في الأرحام) ونحن قد علمنا؟!! سبحان الله الحمد لله على نعمة العقل.
(12/15)
.. الشاهد إخوتي الكرام ... ليس في قول ربنا [هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون] إكراه أو جبر لأن الله يعلم الغيب والمستقبل كما يعلم الحاضر، فهؤلاء للجنة أي سيؤمنون ويدخلون الجنة وأنَّ الله أعلم ما سيقع في المستقبل، [وهؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون] فسيكفرون وأنَّ الله أعلم ما سيكون في المستقبل، فكلام الله جل وعلا هذا ليس من باب الإكراه وإلا لارتفع التكليف، ولذلك لما قال الصحابة ففيم العمل؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له، فحسب ما يختار يكون الأمر.
إخوتي الكرام ... لا يلتبس عليكم الأمر ولا بمقدار شعرة والشيطان يستغل مثل هذه الأحاديث ليلبس على الناس، عندنا للإنسان في هذه الحياة حالتان:
الحالة الأولي: هو فيها مكره، مجبور مقسور مسيّر لا اختيار له فيها ولا يستطيع أن يخرج عنها أبداً، فإذا وجدت هذه الحالة فلا ثواب ولا عقاب إلا إذا صدر منه رضاً أو كراهية نحو هذا الأمر الذي قُسِر عليه فيثاب أو يعاقب على العمل الذي صدر منه لا على ما وقع عليه قسراً
مثلاً: أنت خلقت ذكراً وتلك خلقت أنثى فهل لذكورتك فضل عند الله، وهل لأنوثتها نقص عند الله أو العكس؟ كلا، هذا غير حاصل لأن هذا (الذكورة والأنوثة) مما لا اختيار لواحد من الصنفين فيه، ولو كانت إحدى الصفتين باختيار الإنسان لربما قلنا في هذه مدح أو في هذه نقص، لكن ليس في هذه مدح ولا في هذه نقص (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) (فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض) ، فلا ثواب على الذكور ولا عقاب على الأنوثة والعكس كذلك لا ثواب على الأنوثة ولا عقوبة على الذكورة، إنما يثاب الإنسان إن شكر الله على ذكورته أو أنوثته، ويعاقب إن كفر وسخط على ذلك وإن لم يحصل منه شكر ولا سخط فلا ثواب ولا عقاب.
(12/16)
والحالة الثانية: هو فيها: مختار، مريد، شاءٍ (له مشيئة) ، مخيّر، انتبهوا لهذا لإزالة هذا الإشكال الذي يستفعله أحياناً الشيطان يقول للإنسان: إذا كنت مكرهاً ومقسوراً إذن لا حرج عليك في أن تفعل ما شئت إن كنت من أهل الجنة فستدخلها، إن كنت من أهل النار فلا داعي لأن تهتم وتجد وتجتهد في العبادة ونحو ذلك من الوساوس، هذا كلام باطل بل أنت مخير ومريد فيما يريد الشيطان أن يثني عزمك عن فعله في كل ما كلفنا به فعلاً أو تركاً نحن مخيرون مريدون.
المأمورات بأسرها والمنهيات بأسرها لنا فيها اختيار أو نحن مجبورون مكرهون؟ بل لنا فيها اختيار قطعاً وجزماً، فليس صلاتي كذكورتي، لأن ذكورتي لا يمكن أن أغيرها وأما صلاتي فيمكن لي أن أصلي ويمكن أن لا أصلي، وليس إيماني كلوني أيضاً.
فالإيمان والصلاة هذا اختياري، فكل ما كُلفنا به وهو محل الثواب والعقاب فهذا لك فيه اختيار والفارق بين الحالتين كالفارق بين تحريك اليد اختياراً أو اضطراراً، فالمرتعش تتحرك يده بغير اختياره اضطراراً فهو مجبور ولا يستطيع أن يسكنها، فذكورتنا وأنوثتنا، طولنا وقصرنا، جمالنا ودمامتنا، طول أعمارنا وقصرها، هذا كله كحركة المرتعش، مجبور مقسور.
... والأعمال الاختيارية التكليفية من أمر ونهي كالصلاة والصوم وترك الزنا والخمر، هذا كتحريك اليد باختيارك يمكنك تحريكها وتسكينها.
... فانتبهوا رحمكم الله فهذه المسألة ليست من باب القسر والجبو فكل ميسر لما خلق له، فما علمه الله منه سيقع، فعلم الله من هذا أنه سيؤمن، ومن ذاك سيكفر لكن ليس هذا العلم فيه قسر للعباد ولا إكراه لهم.
س: هل الإنسان الذي خلق للجنة سيوفق لعمل أهل الجنة؟ والذي خلق للنار سيوفق لعمل أهل النار أرجو توضيح هذا.
(12/17)
جـ: لا شك عندنا أن الله جل وعلا منّ على المؤمن وخذل الكافر، فالتوفيق هذا شيء لا شك فيه. ولذلك المؤمن إذا عمل الطاعة فبجده واجتهاده أم بتوفيق الله له؟ بتوفيق الله له، وذاك عندما يعمل المعصية بحيله ومكره أم بخذلان الله له؟ بخذلان الله له هذا مما لا شك فيه يقول الله تعالى (ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين) لكن هو لا يكره إلا من يستحق الكراهة كما قال الله تعالى (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) (وزادهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون) ، فإذن ما عندنا شك في أن من وفق لطاعة فهذا بفضل الله وأن من عمل معصية هذا بخذلان الله له، لكن عندنا بعد ذلك ما يقرر على سبيل القطع أن الله حكيم، أقول – ولله المثل الأعلى – أنت لو عندك ولدان وهما من صلبك واحدٌ تكرمه، والآخر تهينه فهل تفعل هذا اعتباطاً وسفاهة أو لأنك ترى واحداً مطيعاً نجيباً، والآخر عاقاً شقياً، فبالنسبة لنا ظهر فعل اختياري هنا، أفلا يعلم الله معادن الناس؟ أفلا يعلم الله نحاسة ونجاسة معدن الكفار عندما قال (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون) أفلا يعلم نجاسة هذه المعادن وأنها بكيفية لا تقبل التطهير؟! ولذلك خذلها وامتهنها وأعرض عنها وجعلها في دار غضبه وسخطه.
(12/18)
يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: [نظر الله في قلوب العباد فرأى قلب محمد عليه الصلاة والسلام خير القلوب وأتقاها فاختاره لرسالة، ثم نظر في قلوب العباد فوجد قلوب الصحابة خير القلوب وأتقاها فاختارهم (1)
__________
(1) أي أن الله سبحانه وتعالى عندما اختار أبا بكر لصحبة نبينا عليه الصلاة والسلام وهكذا سائر الصحابة لم يخترهم اعتباطاً بل هو حكيم يضع الأمور في مواضعها، يعني هل يتصور أن يكون قلبنا أو قلب أحد من الصحابة كقلب أبي بكر أو عمر أو عثمان أو علي أو غيرهم من الصحابة؟ هذا مستحيل، إذن قلوب طاهرة علم الله فيها هذا فجعل لها هذه المكانة وبعد ذلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم والحديث في صحيح مسلم [لا يأتي عليكم عام إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوني على الحوض] فما معنى شر منه؟ يعني هل الأيام فيها شر وتتغير أو أهلها والناس الذين يعيشون فيها؟ بل الناس، وتأمل أحوال العالم منذ أن كان نبينا عليه الصلاة والسلام إلى هذا اليوم خير يقل وشر يتزايد فإذن القلوب كلما تأخرت تدنست وتنجست وفسدت وخبثت هذا علمه الله من أحوال القلوب، فإذن هل تصلح مثل هذه القلوب لأن تكون في العصر الأول؟ الحمد لله مع شوقنا والله لرسولنا صلى الله عليه وسلم الحمد لله الذي لم يخلقنا في ذلك الوقت لأنه لو خلقنا آنذاك لخذلنا نبينا عليه الصلاة والسلام فنحن لسنا بأهل لأن نصحبه، وما عندنا شك في ذلك، ونسأل جل وعلا أن يكرمنا بجنات النعيم برؤيته ورؤية نبيه صلى الله عليه وسلم بفضله وكرمه، لكن هل نحن عندنا جد الصحابة وعزيمتهم واجتهادهم؟ هيهات هيهات..
(12/19)
لصحبة نبيه فاعرفوا لهم قدرهم] ، فأمر الرسالة أسند إلى من هو بكل شيء عليم فعندما اختار محمداً عليه الصلاة والسلام لحمل رسالته ليس الأمر اعتباطاً بل لأن (الله أعلم حيث يجعل رسالته) فإذن هو عندما وضعها في ذلك المكان فهذا هو الجدير بها لكن يبقى الأمر من فضل الله عليه ولا شك في ذلك، (بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان) (فألهمها فجورها وتقواها) (هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن) أي خلقكم كافراً ومؤمناً على أصح القولين في التفسير، وقيل: هو الذي خلقكم فانقسمتم إلى كافر ومؤمن، لكن هذا الانقسام لا يكون إلا على حسب التقدير الذي سبق عند الرحمن ويبقى الأمر كما قلت لا قسر فيه ولا إجبار، فهذا وفقه الله وذاك خذله لكن هل هذا فيه إكراه؟ لا، وكل واحد يميز هذا من نفسه عندما يريد أن يعصي ربه، فمثلاً عندما يريد أن يشرب الخمر سل عصاة أهل الأرض أجمعين هل جاء أحد وأخذك من بيتك إلى الفندق في الساعة الواحدة ليلاً وأضجعوك وفتحوا فمك وصبوا فيه الخمر دون رضاك؟ أم أن الواقع هو أنه ذهب باختياره ودفع الفلوس وسكر، وسل الزاني هل جاء أحد وأخذك من فراشك ودارَ بك على بيوت الناس حتى ألقاك على أنثى وأكرهك على عملية الزنا؟ أم أن الواقع أنك تراه يجوب الشوارع هنا وهناك من أجل أن يحصل على خبيثة مثله، فهل هذا إذن كان باختياره أو باضطراره؟ باختياره، يعني عندما قال الله جل وعلا (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم) انظر لهذا الحافظ الذي جعله الله عندنا، فلما كانت العين تتعرض لرؤية ما لا يحل، جعل الله جل وعلا منع النظر في منتهى السهولة لئلا يقول إنسان كيف سأتصرف إذا عرض لي ما لا يحل لي النظر إليه، فقال الله لك لا يحتاج هذا منك إلى تصرف كبير لا دخول سرداب ولا دخول حجرة، الحل كله يتمثل في إطباق الجفن على الجفن (قل للمؤمنين يغضوا) ما معنى الغض؟ أن تطبق الجفن على الجفن.
(12/20)
.. ثم هذا اللسان الذي هو ثعبان وتراه يلدغ الحي والميت والكبير والصغير والحاضر والغائب جعل الله له أيضاً حافظاً هو الشفتان إذا ضممتهما لن تتكلم فتسلم، ولست مجبوراً على الكلام فلم يأت أحد ولن يأت ويحرك لسانك دون إرادة وقصد منك، وهذا لو حصل لو حصل فأنت تكون مجبوراً لأنك لا تريد الكلام ولكن غيرك يحرك لسانك ويتكلم وحينئذ يرفع التكليف عنك [رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه] فإذا أكرهنا لن يكلفنا ربنا، لن يبقى من اهتدى منا فبفضل الله، ومن شقي فبعدل الله والله خذله ووكله إلى نفسه لكن ذلك التوفيق بسبب أنه معدن طيب، وهذا الخذلان بسبب أنه معدن نحس، ولذلك قال الله (فلما آسفونا انتقمنا منهم) ما معنى الأسف هنا؟ شدة الغضب أي لما أغضبونا غضباً شديداً بسبب ما قاموا به من أعمال خبيثة انتقمنا منهم، إذن هم أغضبوا الله وآسفوه فحل عليهم مقته وغضبه ولعنته وسخطه، والذي يقرر هذا كما قلنا أن من يموت قبل التكليف أو قبل البلوغ أو قبل بلوغه الدعوة وإذا لم يكن عنده عقل، فالقلم مرفوع عنه، فإن كان من أولاد المؤمنين تفضل الله عليه بأن يكون من أهل الجنة، وإن كان من أولاد الكافرين فنقول هنا سيظهر العدل الإلهي، سيمتحنه الله في عرصات الموقف، فإن أطاع دخل الجنة وإن عصى دخل النار.
قد يقول قائل: لِمَ لم يجعل الله ابن الكافر كابن المؤمن؟
(12/21)
نقول: الزم حدك، هذا فضل ولصاحب الفضل أن يعطيه لمن يشاء لكن لا يجوز له أن يظلم ويجور، فمثلا ً: لو كان عندك ألف دينار فلك حرية التصرف في أن تعطيها لأي أحد فلو أعطيتها لخالد مثلاً فهل يحق لي أن أقول لك أنت ظلمتني لأنك أعطيت خالداً ولم تعطني؟ لا يحق فتقول أنت: هذا فضل، وهو مالي وحقي أعطيه لمن أشاء ما دمت لم أظلمك ولم أعتد على مالك ولم آخذ منك شيئاً، وهنا كذلك الله سبحانه وتعالى ما جار على ابن الكافر وكونه رحم أولاد المؤمنين هذا فضله يعطيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، ولا يجوز عليه الظلم (ولا يظلم ربك أحداً) [إني حرمت الظلم على نفسي] ، هذا حال الرب جل وعلا.
إذن هذا حديث عمر رضي الله فيه دلالة عامة على أن العباد أخرجوا من صلب أبيهم في عالم الذر، وهذا الحديث الثاني.
(12/22)
3- روى الإمام الترمذي في سننه والحاكم في مستدركه وابن حبان في صحيحه والبهيقي في الأسماء والصفات عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لما خلق الله آدم مسح ظهره فسقط كُلُّ نسمة من ظهره كائنة إلى يوم القيامة وجعل جل وعلا بين عيني كل إنسان وبيصاً من نور (1) ثم عرضهم على آدم عليه السلام فقال من هؤلاء يا رب؟ قال: هؤلاء ذريتك إلى قيام الساعة، فرأى فيهم إنساناً أعجبه وبيص ما بين عينيه، فقال: أَيْ رَبِّ، من هذا؟ قال: هذا ابنك داود، قال كم عمره؟ فقال الله له: ستون عاماً، قال: زده يا رب أربعين، فقال الله جل وعلا: لا أزيده إلا أن تزيده من عمرك (2) ، فقال: قبلت يا رب أعطه من عمري أربعين سنة، فلما جاء ملك الموت إلى آدم قبل الألف بأربعين سنة ليقبض روحه، قال له آدم: بقي من عمري أربعون سنة، فقال له ملك الموت إنك وهبتها لابنك داود، فقال ما وهبته شيئاً ما وهبته شيئاً، فذهب وعاد إلى ربه وأخبره بذلك فأمر الله ملك الموت أن يزيد في عمر آدم أربعين سنة، وأن لا ينقص هذه الأربعين من عمر داود، يقول نبينا عليه الصلاة والسلام بعد ذلك: فنسي آدم فنسيت ذريته، وجحد آدم فجحدت ذريته وخَطئ آدم فخطئت ذريته] وإسناده صحيح، ارتكب الخطيئة وذريته تخطئ، نسي ولم نجد له عزماً وذريته تنسى.
فإن نسيت عهوداً منك سالفة ... فاغفر فأول ناس ٍ أول الناسجج
ولعل جحود آدم – والعلم عند الله – سببه نسيان ولا يستبعد أنه بعد أن مر عليه تسعمائة وستون سنة أن ينسى العهد الذي أعطاه على نفسه، أو أن هذا الجحود من باب التدلل على الرب المعبود جل وعلا أي كأنه يقول: يا رب ينقص من ملكك إن تركت الأربعين لي كما كانت وزدت عبدك وداود أربعين من فضلك فحقق الله الأمرين.
__________
(1) أي شيئاً من نور وضوءاً من نور.
(2) وكان عمر آدم الذي قدره الله ألف سنة، وتقدم معنا أن الأنبياء لا يقبضون إلا بعد أن يخيروا.
(12/23)
الشاهد: أنه مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة كائنة إلى يوم القيامة فهذه الأحاديث تشهد في الجملة للأحاديث الثلاثة المتقدمة الحديثان المرفوعان وحديث أُبيّ الموقوف.
... وكما قلت لكم عن الذي حصل في عالم الذر هو إخراج للأرواح مع الصور (الأجساد) ، استخرجها الله من موادها بكيفية يعلمها ولا نعلمها ثم بعد أن أشهدها أعادها إلى موادها بكيفية يعلمها الله ولا نعلمها، أما ما قاله ابن حزم من أن الخلق في عالم الذر كان للأرواح فقط، وذلك يقول خلقت الروح قبل الجسد فأشهدها الله ثم وضعها في مكان عنده سبحانه وتعالى فإذا خلق الجسد جاءت روح كل إنسان إلى بدنه فدخلت فيه، فقوله هذا لا تدل عليه الآثار المتقدمة، إنما ما ذكرته لكم هو الذي حصل وإذا ثبت هذا عن نبينا عليه الصلاة والسلام فنؤمن به دون أن تحيط عقولنا بكيفيته، فعقولنا أعجز من ذلك، وإذا كانت الروح التي بين جنبينا نحن عاجزون عن إدراك ماهيتها وحقيقتها أو أي صفة من صفاتها (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً) فكيف سندرك بعد ذلك ما هو مغيب عنا مما يدهش العقول ويحير الألباب (إشهاد الذرية) ، وتقدمت معنا قاعدة (كل ممكن رود به السمع يجب الإيمان به) (آمنا به كل من عند ربنا) .
3- الميثاق الثالث: ميثاق الفطرة:
وهو الميثاق المتوسط بين ميثاق عالم الذر وميثاق إرسال الرسل ويراد بالفطرة: ما ركزه الله في طبيعة الإنسان وجِبِلّتِه من الإقرار بربوبية الله جل وعلا وألوهيته، وأنه وحده لا شريك له يستحق منا العبادة سبحانه وتعالى.
وهذا الدليل أعني الاستدلال بالفطرة من الأدلة المعتبرة عند أئمتنا الكرام وقد قرر أئمتنا الكرام أن الأدلة التي يستدل بها دليلان:
الأول: سلفي شرعي وله نوعان والثاني:
خلفي بدعي وله نوعان، فالمجموع أربعة أنواع:
أما السلفي الشرعي، فالنوع الأول منه: النصوص الشرعية من كتاب وسنة، أما الكتاب:
(12/24)
أ) قال تعالى (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولون الله) ، فالله خلقهم وفطرهم بصورة يقرون بأن الله ربهم ومالكهم وخالقهم.
ب) وقال الله جل وعلا في كتابه مبيناً استدلال الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام على أقوامهم بدليل الفطرة: (قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السموات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى) وقبلها حكى الله عن الأقوام أنهم قالوا: (إنا لفي شك مما تدعونا إليه مريب) فقالت لهم رسلهم أفي الله شك، فلم يجبهم الأقوام عن هذا ولم يذكر الله جوابهم لأنه معلوم ضرورة أن ليس في الله شك وهو الذي خلقنا وخلق كل شيء.
جـ) وقال جل وعلا في سورة النمل آية 51 وما بعدها (قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون أمن خلق السموات والأرض وأنزل لكم من السماء ماءً فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تُنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون أمن جعل الأرض قرارا ًوجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزاً أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون (61) أمن يجيب المضطر أذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلاً ما تذكرون (62) أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته أإله مع الله تعالى عما يشركون (63) أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين (64) .)
(12/25)
أذن فاستدل الله عليهم بما ركزه في فطرهم أإله مع الله ... ، واستدل عليهم بما يُسلّمون به. وهو الإقرار بوجود الله جل وعلا وأنه خالق كل شيء علي ما يخالفون فيه وهو إفراده بالعبودية. فهم يقولون الله موجود لكن ينبغي أن نجعل بيننا وبينه وسائط وشفعاء فنقول لهم: اطرحوا الشفعاء، فهذا الموجود هو الذي يُقصد ويُعبد ولا يجوز أن تلجأوا إلى غيره، ولذلك قال أئمتنا توحيد الربوبية باب إلى توحيد الألوهية، فأنت إذا أقررت بأن الله ربك وسيدك، ومالكك ويتصرف في أمرك فيجب عليك أن تعبده وأن توحده وأن تفرده بالعبادة سبحانه وتعالى.
(12/26)
إذن هذا دليل الفطرة المستقيمة وهو أن الله فطرنا على الإقرار بوجوده، ويترتب على هذه فطرة ثانية وهي وجوب تعظيمه لأن العقل يقول: إذا كان الله خالقنا وخالق كل شيء فيجب أن يعبد وأن لا نصرف العبادة لما سواه سبحانه وتعالى، وقد قرر الله هذا المعنى في آيات كثيرة من كتابه فأخبرنا الله في قرآنه أننا فقراء وهو الغني، وهذا مما يقرر دليل الفطرة الذي فينا فكل واحد يلحظ هذا من نفسه بأنه فقير لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، جاء إلى الدنيا على غير اختياره وسيخرج منها على غير اختياره ويلحظ أن الذي يملك أمره وأمر العالمين هو رب العالمين قال تعالى (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد) ولذلك العلة في احتياج العالم بأسره إلى ربه هي الفقر وهذا خلاف ما يقوله الفلاسفة والمتكلمون يقولون العلة في احتياج العالم هي الحدوث أي كون العالم حادث والحادث لابد له من محدث وموجد، ويقولون العلة في احتياج العالم بأسره إلى ربه هي الإمكان أي ممكن الوجود ليس بواجب الوجود، وهذا كلام باطل نقول الإمكان والحدوث علامتان على الفقر وليستا بعلة لاحتياج العالم إلى الله، فالفقر ممكن الوجود، فالإمكان في هذا علامة فقره لأن يمكن أن يوجد ويمكن أن يُقدم والذي رجح أحد الضدين هو الله جل وعلا والحدوث علامة فقر لأنه لا يمكن أن يوجد إلا بحادث وموجد وهو الله رب العالمين.
ولذلك أخص وصف في المخلوق أنه فقير وأخص وصف في الخالق أنه غني ويوجد للإمام ابن تيمية عليه رحمة الله قصيدة من (11) بيتاً تتعلق في بيان حقيقة الخالق والمخلوق وقد ذكرها تلميذه الإمام ابن القيم عليه رحمة الله في مدارج السالكين (1/520، 521 – ط دار الكتاب العربي) يقول الإمام ابن القيم: "وبعث إليّ في آخر عمره قاعدة في التفسير بخطه، وعلى ظهره أبيات بخطه من نظمه:
أنا الفقير إلى رب البريات ... أن المسكين في مجموع حالاتي
(12/27)
أنا الظلوم لنفسي وهي ظالمتي ... والخير إن يأتنا من عنده ياتي
لا أستطيع لنفسي جلب منفعة ... ولا عن النفس لي رفع المضرّات
وليس لي دونه مولىً يدبرني ... ولا شفيع إذا أحاطت خطيئاتي
إلا بإذن من الرحمن خالقنا ... إلى الشفيع كما قد جا في الآياتِ
ولست أملك شيئاً دونه أبداً ... ولا شريك أنا في بعض ذراتي
ولا ظهير له، كي يستعين به ... كما يكون لأرباب الولايات
والفقر لي وصف ذاتٍ لازمٌ أبداً ... كما الغنى أبداً وصفٌ له ذاتي
وهذه الحال حال الخلق أجمعهم ... وكلهم عنده عبد له آتي
فمن بغى مطلباً من غير خالقه ... فهو الجهول الظلوم المشرك العاتي
والحمد لله مِلء الكون أجمعه ... ما كان منه وما من بعد قد ياتي
... وأما السنة فقد قرر نبينا عليه الصلاة والسلام الفطرة المستقيمة في أحاديثه الكثيرة:
(12/28)
أ- ففي مسند الإمام أحمد والصحيحين وسنن الترمذي وأبي داود وموطأ مالك عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال [كل مولود يولد على الفطرة] أي على الإسلام الحق وعلى الدين الحنيف [فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه (1) كما تُنْتَج (2) البهيمة جمعاء (3) هل تحسون فيها من جدعاء (4) ] أي هي تولد سليمة الأطراف لكن صاحبها هو الذي يغيرها، وهكذا بالنسبة للناس في صغرهم فطرهم الله على الحنيفية السمحة، لكن من الذي غيّر من تغير منهم؟ آباؤهم أو أمهاتهم أو مجتمعهم وغيرهم ولذلك ثبت في كتاب السنة لابن أبي عاصم (حديث رقم 192) بسند ضعيف – لكن هذا الحديث يشهد له – عن أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [مغيِّر الخُلُق كمغّير الخَلْق] ، أي مغير الأخلاق الطيبة إلى خبيثة ومغير الإسلام إلى عصيان وشرك بالرحمن كمغير الخلق أي كما لو غير بعض أطراف المولود، أو لو أن المرأة بدلت خلقتها وصورتها وهكذا الرجل بالنمص (ترقيق الحواجب أو إزالتها) أو بالوشم، أو حلق اللحية بالنسبة للرجل أو قص الشعر من الرأس بالكلية بالنسبة للمرأة فهذا كله من تغيير خلق الله.
__________
(1) كان بعض شيوخنا إذا روى الحديث يقول [أو يرذلانه] أي إذا كان أبواه مسلمين رذيلين بالفساد والفجور فسيرذلانه، وأول الفساد الآن جهاز التلفاز جهاز الشيطان فاتقوا الله، وحذار حذار أن ترذلوا أولادكم.
(2) أي توجد وتخلق.
(3) جمعاء: أي كاملة الخلق سليمة الأطراف.
(4) جدعاء: أي مقطوعة الأنف والأذن أو مشقوقة ونحو ذلك من التشويه.
(12/29)
.. إخوتي الكرام ... والمراد بالفطرة في الحديث دين الإسلام والحنيفية السمحة، وقد قرر الإمام ابن تيمية عليه رحمات رب البرية في كتابه (درء تعارض العقل والنقل) ويسمى (موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول) في مائتي صفحة متتابعة بأن المراد من الفطرة هي الإسلام، فانظروا بحثه المحكم الرشيد فيه (8/370) وما بعدها، والحافظ ابن حجر عليه رحمة الله في فتح الباري (3/248) نقل عن عامة السلف أن المراد من الفطرة الإسلام، والإمام ابن القيم عليه رحمة الله ختم كتابه (شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والتعليل) بهذه المسألة، فانظروا الكتاب من صـ283 إلى آخر الكتاب صـ307 وهذا الكتاب (شفاء العليل) هو أحسن ما كتب في قدر الله جل وعلا.
ب- وأشار نبينا عليه الصلاة والسلام إلى هذه الفطرة المستقيمة أيضاً في صحيح مسلم ومسند الإمام أحمد عن عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته: [ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا: كل مال (1) نحلته عبداً حلالاً، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم (2) عن دينهم وحرّمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل سلطاناً، وإن الله عز وجل نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء....] إلخ الحديث، ومعنى حنفاء أي مائلين عن الشرك إلى الهدى مستقيمين مهتدين على الفطرة.
__________
(1) ؟؟؟؟؟ عذراً الحاشية غير واضحة في التصوير.
(2) الحاشية غير واضحة في التصوير.
(12/30)
ج- ويكفي دليلاً على الفطرة ما ثبت في الصحيحين [أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للجارية أين الله، فقالت في السماء.....] الحديث. وأما النوع الثاني من الدليل السلفي الشرعي فهو الفطرة المستقيمة، فإن في النفس فطرة توجب عليه الإيمان بأن الله ربنا وخالقنا ورازقنا ومدبرنا فهي فطرة توصل إلى التوحيد لو لم تغير.
... ولذلك عندما جلس أبو المعالي إمام الحرمين غفر الله له ورحمه وقد رجع عن هوسه وهذيانه جلس يقرر نفي علو الله على مخلوقاته فقال: كان الله ولا مكان ولا زمان وهو الآن على ما عليه كان أي ليس فوق عرشه على سمواته، فقام الإمام الهمذاني وقال: يا إمام دعنا من العرش والزمان والمكان وأخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في أنفسنا ما قال أحد يا رب يا الله إلا طلب المعونة فمن فوقه، فبماذا نؤول هذا الشعور الذي في داخل نفوسنا، فلطم إمام الحرمين رأسه وقال حيرني الهمذاني حيرني الهمذاني.
... أي حيره في الجواب، لأن الأدلة الكلامية يمكن التلاعب بها والتصرف فيها وتأويلها لكن هذه الضرورة في النفس ماذا سيقول عنها؟ وبماذا سيفسر هذا الالتجاء من الإنسان حيث يلجأ إلى فوق ولا يلجأ إلى يميناً ولا يساراً ولا تحتاً؟!! إن هذا الشعور وهذه الضرورة هي الفطرة التي فطر الله عباده عليها (مناقشة الشيخ الطحان لآراء الدكتور البوطي حول العلو لما جاء إلى دبي وألقى محاضرة في ذلك) .
... وكل نص من كتاب أو سنة مما سبق ذكره هو من حيث وروده هو دليل على الفطرة من النصوص الشرعية، وهو من حيث دلالته هو دليل على ميثاق الفطرة من الفطرة.
2- وأما الدليل الخلفي البدعي فالنوع الأول منه:
دليل العقل المتعمق المتكلف فيه من جوهر وحيز وعرض وغيرها من الاصطلاحات التي نعتها المتكلمون وعكفوا عليها كما عكف المشركون على الأصنام.
(12/31)
.. وهذا كما هو عند المتكلمين فهو عند الفلاسفة ولم يوصلهم هذا إلا إلى متاهات عندما عولوا على العقل وتركوا النقل، وتقدم معنا أن العقل مع النقل كالعين مع الشمس، فمن أراد أن ينظر بدون شمس ونور لا يرى، ومن أراد أن يفكر بدون وحي لا يهتدي.
والنوع الثاني منه:
... دليل الكشف، الذي ابتدعه الصوفية، يقول: ألقي في روعيَ كذا، ووقع في قلبي كذا، وحَدثت بكذا حدثني قلبي عن ربي، وما شاكل هذا، كما كان ابن عربي الصوفي صاحب الضلالات يقول حديث [كنت كنزاً لا أُعرف، فأحببت أن أُعرف فخلقت الخلق فبه عرفوني] يقول هذا الحديث لم يثبت عند المحدثين عن طريق الإسناد لكن ثبت عن طريق الكشف.
وقد كان شيوخ التصوف الصالحين الصادقين يحذرون من هذا الدليل، فكانوا يقولون: دوروا مع الشرع حيث دار لامع الكشف، فإنه يخطئ، وكان أبو سليمان الداراني عليه رحمة الله يقول: "إنه لتقع في قلبي النكتة من نكت القوم فلا أقبلها إلا بشاهدين عدلين الكتاب والسنة" أي إذا وقع في قلبي معنىً من المعاني، واستنباط ومن الاستنباطات عن طريق الكشف والفتح والإلهام فإني لا أجزم بثبوت هذا حتى أتحقق من ذلك بشاهدين عدلين هما القرآن والسنة هل يشهدا بصحة ما وقع في قلبي أم لا؟ ولذلك قال أئمتنا:
وينبذ الإلهام بالعراء ... أعني به إلهام الأولياء
وقد رآه بعض من تصوفا ... وعصمة الباري توجب اقتفا
أي لا يستدل بالإلهام بل ينبذ فهو من الأدلة البدعية، وبعض الصوفية رأوا الإلهام والكشف دليلاً شرعياً معتبراً يُقدم على النصوص الشرعية، لكن عصمة الباري للأنبياء توجب أن نقتفي أثرهم وأن نتبعهم؛ لأن وحيهم وإلهامهم معصوم وأما إلهام الأولياء فليس بمعصوم.
... هذه هي مواثيق ثلاثة أخذت علينا أو خذاً ما أخذ علينا في عالم الذر يليه ما ركز في فطرنا يليه إرسال الرسل وإقامة الحجة على العباد.
(12/32)
.. والميثاق الأخير (الذي جعلناه أولاً – إرسال الرسل) لم يذكره عندما شارح الطحاوي وهو في الحقيقة أقوى المواثيق وأعظمها وأبلغ الحجج، وهو مناط التكليف ولا يحصل تكليف إلا به، ولذلك يقول الله جل وعلا في سورة النحل آية 89: (ويوم نبعث في كل أمة شهيداً عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيداً على هؤلاء ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدىً ورحمة للمسلمين) ومثل هذا في سورة النساء آية 41 (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً) .
... الشاهد في الآيتين أن أعظم المواثيق إرسال الرسل فالله جل وعلا يقول للأمم ألم أرسل لكم رسلاً؟ فيكذبون ويجحدون ذلك، فيأتي برسلهم ويقولون: يا رب بلغنا دعوة الله فيقول الله للرسل السابقين من يشهد لكم؟ فيقولون: أمة محمد صلى الله عليه وسلم تشهد بأننا بلغنا أقوامنا، فيستشهد الله هذه الأمة فيشهدون، فيقول الله: كيف تشهدون وأنتم لم تروا ذلك؟ فيقولون: بعثت إلينا رسولاً فأخبرنا بذلك وأنزلت علينا ذلك في كتابك بأن نوحاً وغيره من الأنبياء بلغوا دعوتك إلى أقوامهم وهذا هو معنى (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس) ثم يشهد الرسول عليه الصلاة والسلام على شهادة هذه الأمة ثم بعد ذلك يعاقب الله المكذبين من الأمم السابقين الذين جحدوا إرسال الرسل إليهم، وهذا الجحود منهم يحصل في الموقف قبل أن يقضى بالناس إلى الجنة أو النار، يطنون أن هذا الجحود ينفعهم.
وقول الله سبحانه وتعالى (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى ... ) الآية، نتحدث عن ميثاقين اثنين:
1- ميثاق عالم الذر.
2- ميثاق الفطرة.
(12/33)
فلاهما مراد بالآية هذا القول الصحيح وقد خالف هذا بعض أئمة الإسلام – وسيأتي ذكرهم – وقالوا: الآية لا تشمل إلا ميثاق الفطرة وسأذكر شبهتهم فيما بعد وأدحضها إن شاء الله تعالى، وأما ميثاق عالم الذر – لم تثبت به الأحاديث؟؟؟؟؟؟ يقولون لكن ثبت موقوفاً ووهم بعض الرواة في رفعه وقد تقدم معنا إن زيادة الثقة مقبولة وهذا لا يدعونا إلى أن نرد الرواية المرفوعة لأن بعض الرواة وقفها وبعضهم رفعها ولو سلمنا بوقفه فله حكم الرفع ومحاولة هؤلاء الأئمة على جلالتهم وتقربنا إلى الله بحبهم محاولة ضعيفة في غير محلها.
... والقول بأن الآية تشمل ميثاق عالم الذر لا ينفي أنه ركز الله في فطرتنا، لكن القول بقصر الآية على ميثاق الفطرة فإنه ينفي بذلك ميثاق عالم الذر.
... فعلى القول بأن الآية تشمل ميثاق الذر يكون معنى الآية (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى ... ) أي قالوا بلى بلسان مقالهم.
(12/34)
.. وعلى القول بأن الآية لا تشمل ميثاق عالم الذر يكون معنى الآية، قالوا بلى بلسان حالهم أي حالهم يدل على أنهم مربوبون مخلوقون لخالقهم الحي القيوم، هذا كقوله تعالى (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت ... ) فالجمال والسماء هذه لو لم تنطق وتقل الله خلقني والسماء تقول الله رفعني لو لم تقل هذا بلسانها بصوت نسمعه لكان حالها يدل على هذا، وكذلك الإنسان (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) فحالك يا إنسان يدل على الحي القيوم ولو لم تنطق وكل إنسان – مهما كفر وطغى وتجبر – حاله تشهد بذلك بأنه فقير إلى غني وأنه مخلوق لخالق ضعيف لقوي، ولذلك قال موسى لفرعون (لقد عملت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر..) أي أنت تعلم يا فرعون أني رسول من رب العالمين، وإن هذه الآيات والدلائل لم ينزلها ولم يعطني إياها إلا رب العالمين، فإذن شهادتك بحالك ثابتة لكن لسانك لم ينطق بهذا، وكذلك هو حال العالم كله يدل على أن الله خالقه وهذا بدلالة الحال لا بدلالة المقال، هذا كقول العربي:
امتلأ الحوض وقال قطني ... مهلاً رويداً قد ملأت بطني
فهنا (قال) بحاله فالحوض امتلأ ولم يعد يمسك ماءً وإذا صببت فيه نزل فحاله هذه كأنه يقول لك لا تصب في الماء.
إذن فحال المخلوقات بأسرها تدل على أنها فقيرة إلى ربها، ولا يوجد أحد من خلقه مستغن ٍ عنه:
الله قل وذر الوجود وما حوى ... إن كنت مرتاداً بلوغ كمال
فالكل دون الله إن حققتهم ... عدم على التفصيل والإجمال
واعلم بأنك والعوالم كلها ... لولاه في محوٍ وفي اضمحلال
من لا وجود لذاته من ذاته ... فوجوده لولاه عين محال
والعارفون بربهم لم يشهدوا ... شيئاً سوى المتكبر المتعالي
ورأوا سواهم على الحقيقة هالكاً ... في الحال والماضي والاستقبال
فقوله تعالى (كل شيء هالك إلا وجهه) أي هالك في الحال والماضي والاستقبال، من مضى هلك ومن هو موجود سيهلك ومن سيأتي سيهلك.
س: هل الحال تعتبر شهادة أو لابد ومن نطق اللسان؟
(12/35)
جـ: إنسان يقر بقلبه أنه مقهور مجبور فقير لخالق جليل فهذه شهادة وإن نفاها بلسانه، وإذا جحد بلسانه، فشهادة القلب ثابتة، ولهذا أمثلة:
1- كقوله تعالى في سورة التوبة (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر) أي مقرين على أنفسهم بالكفر بحالهم، فلا يشترط أن يقول الكافر: أنا كافر، بل حاله يدل على أنه كافر.
2- كقوله تعالى (أنه على ذلك لشهيد) فعلى أن الضمير في (أنه) يعود على الإنسان فالتقدير: أن الإنسان لشهيد على كنوده وجحوده كيف هذا الشهود؟ بأنه مغمور بنعم الله فلا يشكر الله وهذا جحود ولا يشترط أن يقول عن نفسه: أنا جاحد، فإذن هذه شهادة من الإنسان على نفسه بالحال لا بالمقال. وهو محل الشاهد.
... وعلى أن الضمير في (أنه) يعود على الله سبحانه وتعالى فالتقدير وأن الله لشهيد على كنود الإنسان وجحوده ولا تخفى عليه خافية. وكلا المعنيين والتقديرين ثابت. فالإنسان يشهد على جحوده بحاله والله يشهد عليه بعلمه فلا تخفى عليه خافية من أمور العباد
3- وكقوله هنا معنا في الآية (أشهدهم) أي بحالهم على أن الآية تشمل ميثاق الفطرة فقط، أي ركز هذا في فطرهم وعلموه وثبت عندهم بعد أن خلقهم وجعلهم خلائف في الأرض جيلاً بعد جيل.
إذن هذا هو المعنى على أنه ميثاق الفطرة فقط وعلى أنه ميثاق عالم الذر تشمل الآية أيضاً فالمعنى مسح ظهر آدم وأخرج من صلبه كل نسمة كائنة إلى يوم القيامة ثم كلمهم قبلاً، فهنا – ميثاق الفطرة – أشهدهم على أنفسهم بما ركزه في فطرهم وهناك أشهدهم على أنفسهم وكلمهم مقابلة بلا حاجز ولا واسطة هنا جعل هذا في فطرهم أنهم يقررون بربهم، وهناك قالوا بلى بلسانهم وهنا قالوا بلى بحالهم وهذا هو معنى الآية على القولين وكل منهما تشمله الآية، وهذا هو المعتمد في تفسيرها.
(12/36)
وقد ذكر هذا عدد من المفسرين من جملتهم الإمام القرطبي والإمام ابن الجوزي في زاد المسير والإمام الألوسي في روح المعاني وغيره. (الآية تشمل الميثاقين) .
? واقتصر كثير من المفسرين على الميثاق الأول وحملوا الآية عليه وهو الذي حصل في عالم الذر فقط، منهم الإمام الثعلبي والإمام البغوي في معالم التنزيل.
? وقد ذهب بعض أئمة الإسلام ومنهم الإمام ابن تيمية والإمام ابن كثير والإمام ابن القيم وشارح الطحاوية ابن أبي العز إلى أن آية الأعراف لا تشمل إلا ميثاق الفطرة، ورجحوا حمل الآية عليه.
وقولهم – كما قلت لكم – مردود ومن جملة من رد عليهم شيخنا المبارك الشيخ الشنقيطي عليه رحمة الله في أضواء البيان (2/336) ، والشيخ أحمد شاكر عليه رحمة الله في تعليقه على مسند الإمام أحمد وبين أن الآية تشمل الميثاق الذي أخذ علينا في عالم الذر والقول به لا يتنافر مع الميثاق الثاني (ميثاق الفطرة) بخلاف الاقتصار على الميثاق الثاني بإن بالقول به إلغاء للميثاق الأول.
... وأما ما احتج به الإمام ابن كثير وابن أبي العز – وهو موجود عندكم في شرح الطحاوية – فمردود منقوض لا حجة فيه ولا دلالة على أن المراد من الميثاق ميثاق الفطرة فقط.
وهذه الحجج التي ذكروها وهي (عشر حجج) أولوا بها الآية وأن المراد منها ميثاق الفطرة فقط لو لم يذكرها صاحب الكتاب ابن أبي العز لأعرضت عنها صفحاً فحقيقة لا فائدة منها، لكن بما أنها مذكورة أذكرها على سبيل الإيجاز وأنقضها إن شاء الله، وهذه الحجج موجودة في كتاب الروح لابن القيم أيضاً من ص ـ167 إلى صـ168.
حجة من قال بأن الآية يراد بها ميثاق الفطرة فقط: (عشر حجج)
1) الحجة الأولى: قالوا: الله سبحانه وتعالى قال (من بني آدم) ولم يقل من آدم، فإذن هو جعلهم خلائف في الأرض ولم يخرجهم من صلب أبيهم آدم في عالم الذر.
(12/37)
والجواب عن هذا: لا عبرة بهذا القول ولا يعترف به على ما قلناه لأن ذكر آدم معلوم في؟؟؟؟؟؟؟ (آدم) أخرج الذ رية منهم وأخرج الذرية التى يستخرج من تلك الظهور إلى يوم القيامة فهي ليست من صلب آدم فقط بل هي من ظهر كل من سيخلق. فذكر الآباء لأن ذكر الأب معلوم وهؤلاء الأبناء لا يكونون إلا بعد وجود أبيهم.
2) الحجة الثانية قالوا: قال (من ظهورهم) ولم يقل من ظهره.
والجواب عن هذا: كالجواب عن الحجة الأولى، فأخذ العهد من الفرع مستلزم لأن يخرج ذلك الفرع من الأصل، فذلك الفرع لا يكون إلا بعد وجود الأصل.
3) الحجة الثالثة: قالوا: الله سبحانه وتعالى قال (من ذريتهم) ولم يقل من ذريته.
والجواب عن هذا: كالجوابين المتقدمين، فبما أن هذه الذرية أخرجت من صلب آدم وهم بنوه فما يشملهم يشمله ولم يذكر هو لأنه معلوم، فلا يمكن أن توجد هذه الذرية إلا بواسطة وجود الأصل وهو آدم فأضيفت الذرية إلى الفرع الذي أخذت منه كما تضاف إلى الأصل الذي خرجت منه، ولذلك ورد في الحديث إضافتها إلى ظهر أبيهم، وفي الآية إضافتها إلى ظهور آبائها.
4) الحجة الرابعة: قالوا: الله سبحانه وتعالى قال (وأشهدهم) فهذا دليل على أن المراد من هذه الشهادة ما ركز في فطرهم لا أنهم شهدوا بألسنتهم، لأن معنى أشهدهم جعلهم شاهدين ولابد لحصول تلك الشهادة من كون الشاهد ذاكراً لشهادته وهم في هذه الحياة لا يذكرون الشهادة التي صدرت منهم في عالم الذر بل يذكرون الشهادة التي ركزت في فطرهم.
والجواب عن هذا: أن الشهادة التي حصلت منهم في عالم الذر يدل على أنهم شهدوا في ذلك الوقت على أنفسهم وتحققت الشهادة منهم وعلموا بها ثم ذكرهم الرسل بها في هذه الحياة فكأنهم علموها في هذه الحياة وكأنها ركزت في فطرهم، فصار كأنه أمر علمناه في هذه الحياة ونحن نشهده ونحن نذكره ونحن نستحضره عندما أعلمنا بها الرسل.
(12/38)
5) الحجة الخامسة: قالوا: الحكمة من الإشهاد إقامة الحجة على العباد والحجة لا تقام عليهم إلا بالفطرة وبإرسال الرسل وأما ما وقع في عالم الذر فهذا لا تقوم الحجة به على أحد.
والجواب عن هذا: إذا أخبرنا الرسل الكرام عليه الصلاة والسلام بتلك الشهادة فقط فقد أقيمت الحجة علينا بذلك.
6) الحجة السادسة: المقصود من أخذ الميثاق عليهم (ميثاق الفطرة) تذكيرهم بهذا الميثاق لئلا يقولوا (إنا كنا عن هذا غافلين) وهم لا يذكرون إلا ميثاق الفطرة فلم يغفلوا عنه طرفة عين وأما الميثاق في عالم الذر هم في غفلة عنه ولا يعلمونه.
والجواب عن هذا: بعد أن يعلموه صار له من المكانة كميثاق الفطرة بل ما هو أشد من ذلك.
قال الإمام القرطبي: ومثال هذا مثال من طلق زوجته ثم نسي وغفل عن طلاقه فإذا قامت عليه البينة لشهادة شاهدين على أنه طلق، فإنه يثبت عليه الطلاق مع أنه في غفلة عنه.
... وهنا شهدنا ثم غفلنا عن تلك الشهادة ونسيناها فذكرنا بها الرسل فصار لها من الثبوت والمنزلة كثبوت دليل الفطرة ومنزلته بل ما هو أشد من ذلك.
7) الحجة السابعة: قالوا: إن الله جل وعلا ذكر حكمتين اثنتين لذلك الميثاق أولها: لئلا يقول الناس إنا كنا في غفلة عن هذا، والثانية لئلا يقولوا إننا قلدنا آباءنا وما عندنا ما يردعنا ويبين الحق لنا، وهاتان الحكمتان لا تحصلان إلا بعد دليلين معتبرين وحجتين عظيمتين: إرسال الرسل والفطرة، فالفطرة لا يجوز للإنسان أن يجحد خالقه، وبإرسال الرسل لا يجوز للإنسان أن يجحد خالقه وبهما أيضاً لا يجوز أن يقلد آباءه على الضلال والشرك.
(12/39)
والجواب عن هذا: هذا الاعتراض الذي ذكرتموه منقوض في حق دليل الفطرة فهل يعاقب الله عباده إذا كانوا في غفلة عن عبادته، ولم يوحدوه وقلدوا آباءهم في شركهم وضلالهم إذا لم يرسل لهم رسولاً؟ لا، إذن فالفطرة وحدها ليست كافية وهكذا نقول أيضاً إن ميثاق عالم الذر ليس بكافٍ وحده لإقامة الحجة بل لابد من إرسال رسول وقلت لكم هذا هو مناط التكليف، فإذن فميثاق الفطرة وحده لا تثبت به حجة وكذلك ميثاق عالم الذر لا تثبت به وحده حجه وعليه فهما متساويان فكيف تحملون الحكمة من الإشهاد على دليل الفطرة دون دليل وميثاق عالم الذر.
8) الحجة الثامنة: قالوا: إن الله جل وعلا لا يعذب عباده إلا بعد الإعذار ولا يحصل قطع عذر العباد إلا بدليل الفطرة وإرسال الرسل ولذلك يقول الله جل وعلا مشيراً إلى نفي عذر الناس وأنه أخذ عليهم الميثاق لئلا يتعللوا ويتعذروا (أفتهلكنا بما فعل المبطلون) أي كيف تهلكنا ونحن لم تقم علينا الحجة.
والجواب عن هذا: كالجواب عن الذي قبله تماماً فالحجة لا تثبت على الناس بميثاق الفطرة فقط ولا تثبت عليهم بميثاق عالم الذر، فالإعذار لا يقطع إلا بإرسال الرسل فعلام أنتم حملتم هذا الميثاق في الآية على ميثاق الفطرة فقط وهذا لا يقطع عذر العباد، (قلت: ز- والحجة السابعة والثامنة والله أعلم – كأنها ناشئة من توهم أننا نرى أن ميثاق عالم الذر تحصل به الحكمتان ويحصل به الإعذار ونحن لا نقول بهذا على الإطلاق، فإن الظاهر من ميثاق احتجاجهم علينا أنهم يقصرون الحكمتين والإعذار على ميثاق الفطرة وإرسال الرسل فقط ويقولون لنا ميثاق عالم الذر لا يحصل به شيء من هذه الأمور الثلاثة (الحكمتين والإعذار) !! فكان الجواب كما ذكر شيخنا حفظه الله أن هذه الأمور الثلاثة إنما تثبت في حق ميثاق واحد هو ميثاق إرسال الرسل، ولا تثبت في حق ميثاق الفطرة كما زعمتم، ولا تثبت في حق ميثاق عالم الذر كما نقول نحن والله أعلم) .
(12/40)
9) الحجة التاسعة: قالوا إن الله أشهد كل واحد على نفسه واحتج عليهم بتلك الشهادة وهذه الشهادة التي يحتج بها عليهم هي ما ركز في فطرهم، ولذلك قال الله تعالى (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله) .
والجواب عن هذا: نقول وكذلك الشهادة التي شهدوا بها في عالم الذر يحتج بها ربنا علينا فقال في هذه الآية (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم) ، فإن قيل: إن كثيراً من الناس لا يستحضرونها، أو كل الناس لا يعلمونها، نقول: إذا أعلمهم الرسل بها فصارت كما لو علموها كدليل الفطرة كما تقدم معنا.
10) الحجة العاشرة: قالوا: إن الله جل وعلا بعد أن ذكر هذا الميثاق قال: (وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون) والآيات جمع آية والآية هي الدلالة الواضحة البينة التي لا يختلف عنها مدلولها، ودليل الفطرة لا يختلف عنها مدلوله. وهو الإقرار بأن الله ربهم وخالقهم.
والجواب عن هذا: كم من إنسان يقر بفطرته بأن الله خلقه لكنه يجحده؟ فإذن لا يلزم من الإقرار الفطري أن يعبده ولا يلزم من الإقرار في عالم الذر أن يعبده وعليه فهذه الحجج كلها لا تقوم ولا تنهض، بل هي مجرد تكلف في أن المراد من الآية ميثاق الفطرة لا ميثاق عالم الذر.
المواثيق الثلاثة وحجج الله على عباده التي أقامها عليهم انتهينا منها وعندنا تعليق يسير على هذا المبحث.
الميثاق الفطري لا ينكره أحد فهذا موجود في الفطرة هو غريزة من الغرائز الموجودة في الإنسان، فالعباد فيهم غرائز يقومون بموجبها لأفعال في هذه الحياة منها غريزة التدين أو غريزة الجنس أو غريزة حب التملك، لذلك فالغريزة أصوات إلهية تقود المخلوقات بأسرها إلى إيجاد ما جعله الله فيها (ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى) .
(12/41)
فمثلا ً سواء وردت شريعة بحل النكاح أو لم ترد سيحصل اتصال بين الذكور والإناث لأن هذه غريزة جعلها الله في قلوب الناس فالأنثى عندها غريزة لا تهنأ إلا إذا صارت أماً والرجل لا يهنأ إلا إذا صار أباً ولذلك إذا تزوج ولم يأته أولاد تراه يبحث عن أطباء الأرض من أجل إنجاب ذرية.
فإذن هذه (الجنس) غريزة تقود المخلوقات فترى الناس يسعون لتنفيذها لكن المؤمن هنا يتميز عن الكافر أو الفاسق، فالمؤمن يقوم بإشباع هذه الغريزة على حسب هدي الشرع فيثاب عليها [وفي بضع أحدكم صدقة] وأن الكافر أو الفاسق فيقوم بإشباع هذه الغريزة غالباً عن طريق الشهوة البهيمية والمتعة الحرام فيعاقب.
(12/42)
وكذلك التدين غريزة فلابد لكل إنسان أن يتدين لكن إما أن يتدين تديناً معوجاً وإما أن يتدين تديناً مستقيماً، فإما أن يتدين لله وهو التدين المستقيم وإما أن يتدين التدين المعوج فيتدين لبشر كحال الشيوعية أنكرت وجود الإله وقيام الساعة وكذبت وخونت الرسل عليهم الصلاة والسلام لكنهم يتدينون رغم ذلك لمن؟ يعبدون لينين بدلا ً من أن يعبدوا رب العالمين، وإما أن يتدين لبقر، أو لحجر أو لذكر، أو لشمس أو لقمر، لكن لابد من تدين فالإنسان عندما يشعر بضعفه وفقره ومسكنته يريد أن يلجأ إلى ما يراه أنه أقوى منه وأغنى منه، فالمؤمن يلجأ إلى الغني الحقيقي القوي، والمشرك تراه إما أن يلجأ إلى بشر أو إلى شمس أو إلى قمر أو حجر وما شاكل هذا، وما عبادة الأحجار والأشجار والأبقار إلا دليل على إشباع غريزة التدين، ولذلك فلابد لكل مخلوق مهما كان شأنه من عبادة لكن إما أن يعبد الله وإما أن يعبد غيره وإما أن يعبد نفسه (أرأيت من اتخذ إلهه هواه) ، والقلب لابد له من تعلق لكن إما أن يتعلق بالرب وإما أن يتعلق بالخلق بصور أو بفرد أو بنساء أو بخمر أو ببقر ووصل هوس المهوسيين في موضوع التعلق بالمقبورين أنهم كانوا يقولون إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأهل القبور، أي الجؤوا للأموات سبحان الله!! ماذا يغنون عنكم بل ماذا يغنون عن أنفسهم؟؟ لكن هذا هو القلب الخربان وهذه هي الذلة لغير الله، وأعز الناس في هذه الحياة وهو صاحب الحرية الحقيقية من لا تنحني جبهته إلا لخالقه سبحانه وتعالى ولا يذل نفسه إلا لربه وأما من عداه فلا يذل نفسه له.
تغرب لا مستعظماً غير نفسه ... ولا قابلاً إلا لخالقه حكماً
(12/43)
أي لا يستعظم إلا نفسه (عزة إيمانية) ولا يقبل إلا حكم الخالق جل وعلا وحقيقة هذه هي الحرية هذا هو العز وهذه هي الكرامة وليس في تذلل الإنسان لخالقه منقصة، لكن في تذلله لغيره كل المنقصة ولذلك السؤال في حالة ضرورة يجوز لكن تركه أولى، لأن السؤال ذل ولا يليق أن يتذلل المخلوق لمخلوق؟! لا، إن الموت أحسن من أن تتذلل لمخلوق، ثم إن في سؤال المخلوقين ثلاث أنواع من الظلم:
أولها: في حق نفسك حيث امتهنتها والله أمرك أن تعزها.
والثانية: في حق المسئول لأنك أضجرته وآذيته، فبنو آدم عندما يسألون يتضجرون.
والثالثة: اعتديت على الخالق لأن الله هو الذي يقول يا عبادي سلوني لأقضي حوائجكم.
لا تسألن بُني آدم حاجة ... وسل الذي أبوابه لا تُحجبُ
الله يغضب إن تركت سؤاله ... وبُني آدم حين يُسأَل يغضب
فإذن التدين غريزة، ركز في فطرنا وكذلك التملك غريزة، فكل واحد يحب أن يتملك وأن يكون في جيبه دراهم، فهذا فطر الله القلوب عليه (وتحبون المال حباً جماً) (وإنه لحب الخير لشديد) وبعض الناس وصل الآن سفاهتهم أنهم قالوا الدراهم مراهم، ولكن الحقيقة قالها بعض الأكياس الفطناء سمي الدرهم درهماً لأنه يُدِرُ الهم أي يجلبه ويأتي به.
الشاهد أن حب التملك غريزة يحبها الإنسان ولا حرج عليه في ذلك إذ أخذها عن طريق شرعي [نِعْم المال الصالح للرجل الصالح] فيأخذه من حله ويضعه في حقه، وليس في جلب المال منقصة ما دمت تأخذه من حله وأنت مأجور وتضعه في حقه وأنت مثاب على ذلك وكما في الصحيحين [لأن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس] فلا حرج عليك في جمعه ولا تجعله يطغيك ولا تسرف فيه ولا تبطر به.
(12/44)
.. وليس في حب النساء منقصة للإنسان ما دام على حسب شريعة الله وكذلك حب المال ما دام على حسب شريعة الله وقد قال سيد الكاملين عليه الصلاة والسلام [حبب إلي من دنياكم الطيب والنساء وجُعلت قرة عيني في الصلاة] فمثل هذه الطيبات لا حرج في حبها ما دامت على حسب شريعة الله، قال تعالى: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة ... ) فهذه الطيبات يتمتع بها المؤمن والكافر في الحياة الدنيا، أما في الآخرة فلا يشارك المؤمن فيها أحد. (هذا الكلام كله جعلته كالتمهيد للإشكال الذي سيأتي، وهو مأخوذ من كلام الشيخ حفظه الله) .
الإشكال:
قد يقول قائل: إذا أخذ الله علينا الميثاق في عالم الذر – كما ثبتت بذلك الأحاديث الصحيحة – على أنه خالقنا وربنا ومالكنا، وأودع هذا في فطرنا وغرزه فينا – وهو الميثاق الثاني – فجعلنا نقر بوجوب عبادته، فعلام توقف التكليف على إرسال الرسل ونزول الكتب، وقد أخذ علينا ميثاقين (في عالم الذر، والفطرة) ؟
الجواب عن الإشكال: توقف التكليف على إرسال الرسل ونزول الكتب لأمرين:
الأمر الأول: أن العباد يكلفون قبل إرسال الرسل إليهم وإنزال الكتب عليهم بتوحيد ربهم، لكن الله جل وعلا كرماً منه وفضلاً رفع عنا العقاب قبل إرسال الرسل وإنزال الكتب فقط لأن الغريزة الفطرية وإن كانت مركوزة في النفس الإنسانية إلا أنها في عرضة – أحياناً – للتغيير وللتلاعب وللخطأ، فلابد من إرسال الرسل لتكون الغريزة مستقيمة تهتدي بهدي ذلك الرسول، فغريزة التدين موجودة لكنها عرضة للتغيير.
... والعباد إذا أشركوا بالله قبل إرسال الرسل وإنزال الكتب ظالمون معتدون مسرفون لكن لا عقاب على ظلمهم كرماً من الله وفضلاً.
(12/45)
.. وقد قرر الله هذين الأمرين (أن العباد ظالمون إذا لم يوحدوا الله قبل إرسال الرسل، وأنه لا عقاب عليهم مع ظلمهم) في سورة الأنعام يقول الله جل وعلا: (ويوم يحشرهم جميعاً يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا، قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم، وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون، يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسلٌ منكم يقصّون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين، ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون) الآيات 128- 131 (ألم يأتكم رسل منكم؟؟؟؟؟؟؟؟) وهو إرسال الرسل، (ذلك أن لم يكن..) هذا هو الشاهد أي إرسال الرسل وإقامة الحجة على العباد لئلا يهلك الله القرى بظلم منهم وبشرك منهم وضلال منهم، وهم غافلون عن بلوغ الدعوة ووصول الرسالة.
... إذن فأثبت لهم الظلم في حال غفلتهم وعدم إرسال الرسول إليهم إذ لم يعبدوه ولم يوحدوه ومع ذلك لا عذاب عليهم كرماً منه وفضلاً سبحانه وتعالى، وكان الأصل أن يعذبوا لأنهم جحدوا الميثاق الفطري لكن الله تكرم فقال أنا لا أعذب إلا بعد قيام الحجة على أتم وجه فانتبهوا يا عبادي أشهدتكم على أنفسكم في عالم الذر، وركزت في فطركم الإقرار بوجودي ووجوب عبادتي وأرسلت إليكم الرسل وأنزلت عليكم الكتب وتركتكم على المحجة البيضاء، فمن ضل بعد ذلك فلا يلومن إلا نفسه ولو عذبنا على الميثاق الفطري لاستحققنا العذاب لأننا ظالمون.
(12/46)
الأمر الثاني: الفطرة وإن دلت على وجود الله ووجوب تعظيمه إلا أنها لا تستطيع أن تحدد الأشكال التي يحصل بها تعظيم ذي العزة والجلال أي لا تستطيع أن تحدد شكل العبادة وشكل التعظيم الذي يتقرب به إلى الله، فقد يقول هذا أنا أعبد الحمار الذي خلقه الله تقرباً إلى الله، ويأتي هذا ويقول أنا أعبد هبل، وآخر يقول: اللات، وآخر لنين وآخر الشمس وآخر القمر وآخر الحجر وهكذا كلٌ سيعبد ما شاء إن لم يرسل رسولاً وينزل كتاباً على البشر.
... ولذلك كل ما يحصل به تعظيم الله جل وعلا هو عبادة والعبادة توقيفية لا مجال للعقل فيها، فنعبد الله بما يشاء لا بما نشاء ولذلك [من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد] .
(ذكر الشيخ قصة عن الشيخ صالح الجعفري من علماء الأزهر حيث كان يقول لا يوجد شيء اسمه بدعة فكل ما نقصد به الخير فهو جائز مستدلاً بالآية (وافعلوا الخير..)) .
(ذكر الشيخ قصة المهوس عيسى؟؟؟ وضلالاته التي يقررها من جواز الاستغاثة بغير الله، وأن أهل السنة حذفوا لفظ وعترتي من حديث فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين وغير ذلك من الضلالات ... )
فمن أجل الأمرين السابقين توقف التكليف على إرسال الرسل وإنزال الكتب.
(12/47)
التعليق على الطحاوية
(مبحث علو الرحمن وفوقيته جل وعلا)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
مبحث علو الرحمن
وفوقيته على مخلوقاته
هو أشرف مباحث علم التوحيد وأجلها وهو العَلَم الفارق بين أهل السنة وبين سائر فرق المبتدعة فالمؤمن السني الموحد يقول: الله فوق عرشه على سمواته بائن من خلقه، والمبتدع عندما تقول له أين الله؟، يقول لك كيف تقول أين؟ الله لا يُقال عنه أين، الله لا فوق ولا تحت ولا شمال ولا يمين ولا أمام ولا وراء ولا داخل العالم ولا خارجه، لا جوهر ولا عرض، قل له، يا مسكين هذا ليس حي قيوم بل هو إله معدوم، وهذا كمن يزعم أن في بيته نخلةٍ ثم تسأله عن أوصافها، فيقول لك لا أوصاف لها فقل له إذن هذه نخلة في ذهنك لذلك حقيقة قول المعطلة تقضي إلى أن الله عدم لذلك قال أئمتنا: المعطل يعبد عدماً والممثل يعبد صنماً وهذه المسألة سأقرر أدلتها المتنوعة وهي خمسة:
1) أدلة الكتاب. ... 2) السنة. ... 3) الإجماع الصحيح القطعي.
4) العقل الصريح. ... 5) الفطرة المستقيمة.
أولاً أدلة الكتاب:
دل على أن الله فوق عباده على عرشه سبحانه وتعالى، من أوجه كثيرة أحاول أن أوجزها وأن أجمعها في سبعة أوجه:
الوجه الأول: تصريح آيات القرآن بأن ربنا الرحمن فوق عباده ومخلوقاته (فوق) قال الله جل وعلا: (يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون) في حق الملائكة. وقال جل وعلا: (وهو القاهر فوق عباده) . وهذا الدليل في منتهى الظهور والوضوح، وهذه الفوقية شاملة لفوقية الذات ويلزم منها فوقية القَدْر المنزلة والرتبة والمكانة فذاته عالية فوقنا ومنزلته ورتبته أيضاً فوقاً فله الفوقية من جميع الاعتبارات.
... وقبل الانتقال إلى الدليل الثاني سأذكر تأويل المبتدعة للفوقية وندحضه إن شاء الله ثم نذهب إلى الوجه الثاني من أدلة القرآن، وقبل أن أذكر الوجوه دائماً إذا مررت على شبهة فندتها حتى لا نفرد الشبهة في مبحث مستقل.
تأويل لبعض المبتدعة حول هذا الوجه:
(13/1)
قالوا: المراد من الفوقية هنا الفوقية المعنوية، أي هو فوق عباده في الرتبة والمنزلة أي شأنه أعلى من شأنهم (يخافون ربهم من فوقهم) أي يخافون ربهم الذي هو أعلى منهم رتبة ومنزلة، كما تقول الملك فوق الوزير رتبة، وحقيقة قد يخدعون كثيراً من السذج والدهماء بهذه العبارات المعسولة.
ونجيب: لو صح ما قلتم لكان في هذا ذمٌ لربكم، إن قالوا: كيف؟ نقول: أنتم تقولون: إنه فوقهم في الرتبة فإذن عندنا فاضل ومفضول اشتركا في فضيلة فالمفضول هو المخلوق والفاضل هو الله جل وعلا، أي أنه يشترك مع عباده في الفضائل لكنه يزيد عليهم في الفضالة، كما لو قلت الدينار فوق الدرهم فإن بإمكانك أن تشتري بالدينار وبالدرهم، فهناك قدر يشتركان فيه – أي الدرهم والدينار – لذلك نقول لهم: أف لكم ولتأويلكم، فما المزايا التي اشترك فيها المخلوق مع الخالق حتى قلنا إن الخالق أفضل من المخلوق؟!! والله إن هذا ذمٌ للخالق من حيث لا يشعرون.
ولو قال إنسان عندي سكين أَحدُ من الخشبة لاتهمناه بالخرف لأنه لا مفاضلة بينهما بل إن المفاضلة بينهما عين الذم. وهذا كما لو قال شخص الرسول صلى الله عليه وسلم أفضل من اليهود وأبي جهل، فهذا ذم له صلى الله عليه وسلم لأنه لا فضيلة فيهم بل لا قيمة لهم حتى تفاضل بينهما، لكن لو قلت نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أفضل النبيين لكان كلامك وجيهاً وفي محله.
إذن فكيف ستفاضل بين الخالق والمخلوق وقد تقدم معنا أن أخص وصف في المخلوق الفقر وأخص وصف في الخالق الغنى فأين فضل الفقير حتى تفاضل بينه وبين الغنى؟!! وكيف ستسووا بينهما؟!! لكننا نقول (وهو القاهر فوق عباده) أي هو فوق عرشه على سمواته، فيدخل العلو الذاتي والمعنوي (المنزلة) لا علو المنزلة فقط كما يزعمون.
إذن فلا تُعقد المفاضلة إلا بين موصوفين يشتركان في فضائل ويزيد أحدهما على الآخر وإذا كانت المفاضلة بين السيف والعصا ذم للسيف فكيف بعقد مفاضلة بين الفاني والباقي.
(13/2)
ألم تر أن السيف ينقص قدره ... إذا قيل السيف أمضى من العصا
فإن قيل (اعتراض) : جاءت نصوص في التنزيل فيها تفضيل الخالق على المخلوق وهذا خلاف ما تقولونه قال الله تعالى في سورة يوسف مخبراً عن نبيه يوسف لما قال لصاحبه في السجن (أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار) فهذا فيه عقد مفاضلة بين أوثان وبين الله، وقال تعالى (آلله (1) خير أما تشركون) .
... وهكذا قول السحرة في سورة طه (والله خير وأبقى) ، ففي هذه الآيات عقد مفاضلة فكيف تقولون لا تجوز المفاضلة بين الخالق والمخلوق؟
... والجواب: تفضيل الخالق على المخلوق ابتداءً يعتبر نقصاً لكن إذا كان الكلام خرج لمجادلة الخصم الذي يزعم أنه لآلهته شأن ومنزلة فلا حرج به حينئذ فنبي الله يوسف يريد أن يبين لهم زيف آلهتهم المتنوعة فلم يخرج الكلام منه قضية مبتدأة أنما هو جدال مع مشركين يرون لآلهتهم شأناً، أي أنتم تقولون أن للآلهة شأناً فلو سلمنا لكم بذلك فأي الشأنين أعظم شأن آلهتكم أم شأن الله؟ فسيقولون كلهم شأن الله، فتكون نتيجة النقاش اطرحوا آلهتكم ما دمتم تسلمون بأن الله شأنه أعظم.
... وهكذا (والله خير وأبقى) منك يا فرعون يا من تدعي أنك رب وأنك ملك مصر فالله خير منك وما عنده لا ينفذ وما عندك نافذ ونظير هذا قول الله تعالى في سورة النور (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون) أي خير لكم من الدخول بغير استئذان وخير لكم من تحية الجاهلية.
نقول: هل للدخول بغير استئذان والتحية بتحية أهل الجاهلية خيرية؟
__________
(1) هذا مد كلمي مثقل، والتعبير صحيح عنه أن يقال مد فرق، ويمد ست حركات باتفاق القراء.
(13/3)
لا، ولا خيرية لها، لكن لأنهم كانوا يرون في دخولهم بغير استئذان عزة والوقوف على الباب ذلة لهم، فكأن الله يخيرهم أنه لو كان في فعلكم خير فهناك خير منه وهو الاستئذان فافعلوه لأنه هو أخيرهما، وإن كان لم يثبت لفعلهم خيرية لكن هذا على سبيل المجادلة.
... ونظير هذا النوع من الجدال والخصام مجادلة إبراهيم عليه السلام للنمرود حين حاجه بعد أن ادعى أنه يحيي ويميت فحاجه بأمر آخر وكأنه من باب التسليم له وتنزلاً له فحاجه بقضية أخرى تسكته وهي أن يطلع الشمس من مغربها.
ولهذا إذا تجادلت مع مكابر فدع ما فيه نزاع وانتقل إلى ما لا نزاع فيه.
الوجه الثاني: إخبار الله جل وعلا في كتابه بصعود العمل الصالح إليه ورفع بعض المخلوقات إليه، ومن المعلوم أن الصعود والرفع يكون من أسفل إلى أعلى.
(13/4)
.. قال الله جل وعلا في كتابه (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) وقال جل وعلا في حق عيسى عليه السلام (بل رفعه الله إليه) وقال جل وعلا (يا عيسى إني متوفيك (1) ورافعك إليّ) وهذا الرفع وهذا الصعود معلوم ضرورة في اللغة أنه من، أنزل إلى أعلى ومن أسفل إلى أعلى، والدلالة واضحة.
الوجه الثالث: تصريح الله في كتابه بأنه عليّ، قال تعالى في آية الكرسي: (وهو العلي العظيم) ، وهكذا قوله تعالى: (إن الله كان علياً كبيراً) وهناك آيات كثيرة تصف الله بالعلو وتسميته بأنه عليّ وهذا يفيد علو الذات وعلو الصفات وعلو المنزلة والقدر، ويقال فيه ما يقال في الفوقية، فهو فوقهم وهو عليّ عليهم وإذا ثبتت الفوقية والعلو فكيف تقولون يا مبتدعة لا يجوز أن نقول إنه فوقنا وأعلى منا؟!.
__________
(1) قيل بمعنى الوفاة الصغرى، أي منيمك وقد ألقى الله على نبيه عيسى النوم عندما أراد اليهود قتله ورفعه وهو نائم لئلا يفزع والنوم في حالة الحرب والخوف هذا سكينة من الله، (إذ يغشيكم النعاس أمنة..) فاعلم أنه متى ما نام المجاهد فقد نزلت عليه سكينة، وقيل: بمعنى الوفاة الكبرى (الموت) وعليه يكون في الآية تقديم وتأخير، والتقديم: إذ قال الله يا عيسى إني رافعك إلي ومتوفيك أي سأرفعك ثم سأنزلك لتتوفى في الأرض، ورفع نبي الله عيسى عليه السلام إلى السماء إلى الله جل وعلا ثابت في القرآن ومتواتر في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وأنه سيخرج في آخر الزمان وهو من أشراط الساعة الكبرى، وبلغت الأحاديث المتواترة في نزوله (70) حديثاً، وهذا الأمر يخالف فيه علماء الأزهر وينفوه فانتبهوا لهذا!! واشتروا كتاب (التصريح بما تواتر في نزول المسيح) للشيخ محمد أنور شاه الكشميري، يقارب 400 صفحة جمع فيه الأحاديث الصحيحة في هذا الباب.
(13/5)
الوجه الرابع: تصريح الله جل وعلا في كتابه بتنزيل أشياء من عنده، قال جل وعلا: (تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم) ، (تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم) ، (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب) إلى غير ذلك من الآيات، والنزول ضد الصعود فهو هبوط من أعلى إلى أسفل، فالقرآن نزل من الرحمن أي هبط من أعلى إلينا، لذلك قال أئمتنا:
لفظ الإنزال للقرآن يدل على فوقية ذي الجلال والإكرام.
الوجه الخامس: إخبار الله جل وعلا عن الملائكة بأنهم عنده في جواره الكريم، والملائكة فوقنا وأعلى منا ومسكنها السموات المباركة، قال الله جل وعلا في آخر آية من سورة الأعراف: ( ... إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون) ، وفي سورة حم السجدة (فصلت) آية 38 (فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسئمون) وهكذا في سورة الأنبياء (وله من في السموات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستسحرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون) وهكذا في سورة الزخرف (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً ... ) هذه قراءة، وقرأ المدنيان نافع وشيخه يزيد بن القعقاع وابن عامر وابن كثير قارئ مكة ويعقوب قارئ البصرة: (وجعلوا الملائكة هم عند الرحمن) وكلا القراءتين متواترتان، فهم عباده وهم عنده.
... وهذه العندية تحدد لنا أين رب البرية، فالملائكة في السموات العلى والله هو العلي الأعلى ولو كانت هذه العندية الثابتة لهم عنديتنا لما كان لهم ميزة علينا ولما كان لتخصيصهم بالعندية فائدة، بل لهم مزيد من قرب إلى الرب جل وعلا.
(13/6)
الوجه السادس: تصريح الله جل وعلا بأنه في السموات في آيات كثيرة متواترة غراء: (أأمنتم من في السماء (1)) .
... علماء الكلام أصحاب الثرثرة والهذيان أكثروا اللغظ والشغب والخصام حول هذا الدليل من القرآن فقالوا: الآية لا تدل على علو الله وفوقيته، لأنه ليس المراد من كون الله في السماء وذاته في العلو بل المراد سلطانه وقهره.
... وهذا التأويل أبرد من الثلج كتأويل الضالين السابقين في الفوقية، لأنه إن كان هو السلطان في السماء فمن إذن السلطان في الأرض؟!!.
... السلطان هو الله في السماء والأرض لا راد لحكمه ولا معقب لقضائه، لذلك يقول الله جل وعلا (يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان) أي بسلطان منه وتمكين وقوة وقدرة إذا أمدكم بذلك فيمكنكم لكن هو جعلكم ضعفاء وعاجزين لا يخرج أحد منكم من سلطانه سبحانه وتعالى.
__________
(1) كلمة (السماء) تحتمل معنيين على كل احتمال يتضح لنا معنى في، فقيل: المراد من السماء العلو المطلق، فكل ما علاك فهو سماك وليس المراد السموات الاصطلاحية، فتكون (في) ظرفية على حقيقتها، أي أأمنتم من في العلو، إذن فكل ما علاك فهو سماك قال تعالى (من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ) فالمراد بالسماء هنا سقف البيت أي من كان يظن أن الله لن ينصر رسوله صلى الله عليه وسلم وأن الله لن يعلي شأنه فسيعلي شأنه وإذا انغاظ هذا فليمدد حبلاً إلى السقف ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ، وهذا من أساليب اللغة.، وقيل: المراد من السماء الأجرام السمواية المعروفة وهي السبعة ويكون معنى (في) : علا، أي أأمنتم من على السماء أي من فوق السموات لأن الله ليس بداخل السموات، وهذا كقوله تعالى (فسيحوا في الأرض) ، وقوله (لأصلبنكم في جذوع النخل) أي على جذوع النخل، حروف الجر تتناوب كما قال أئمتنا.
(13/7)
.. ومما يقرر هذا أن العاتي فرعون عليه لعنة الله قال لقومه عندما أراد أن يلبس على قومه: (يا هامان ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى) فهذا يفيد أن نبي الله موسى أخبر قومه ومنهم فرعون بأن الله في العلو على السموات فوق العرش فاستغل فرعون هذه الدعوى فطلب من هامان أن يبني له بناءً عالياً لينظر إلى إله موسى الذي هو في السماء.
ولو كان كلام فرعون باطلاً لرد عليه موسى عليه السلام بأن الله ليس في السماء وفرعون يكذب وهذه القصة التي جرت من فرعون جرت من بعض المشايخ المصريين وقد أفضى لما قدم إذ أنه لما تناقل الناس خبر الصعود إلى القمر فسُأل هل الصعود للقمر ممكن أم لا؟ فقال لهم: أخبركم بالجواب غداً. ففي اليوم التالي امتلأ جامع الأزهر بالناس وجلس الشيخ وقال: هؤلاء كذابون دجالون لأني بقيت البارحة أنظر إلى القمر فلم أر شيئاً!!.
... ولا أعلم جوابه هذا كان من باب البله والغفلة أم هو من باب العتو كفرعون إذ كيف سيرى القمر وهو في الأرض؟! كيف سيراه بعينه المجردة؟ فالأفضل لو أنه سكت عن الجواب ولم يجب بهذا.
ولذلك قال أئمتنا: من نفى علو الله فهو فرعوني، ومن أقر بعلو الله فهو موسوي (1) محمدي بعد أن قالوا إن المراد بمن في السماء أي بمن في السماء سلطانه قالوا: توجد آيات تعكر على قولكم تدل على أن الله في السموات وفي الأرض كقوله تعالى في سورة الأنعام: (وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون) ، فلماذا تقولون إنه فوق عرشه على سمواته وهذه الآية ترد عليكم؟.
نقول: من سوء فهمكن أتيتم وجعلتم الآيات تتضارب ويرد بعضها بعضاً فهذه الآية تحتمل ثلاث معان ٍ كلها صحيحة:
__________
(1) أي من أتباع نبي الله موسى الذي أخبرنا بأن الله فوقنا.
(13/8)
المعنى الأول: عليه جمهور السلف أن الوقف لازم على لفظ (السموات) فيكون معنى (في) أي ظرفية أي في العلو المطلق، والأرض متعلقة بيعلم أي ويعلم سركم وجهركم وما تكسبون في الأرض، أي مع علوه لا تخفى عليه خافيه من أمركم، وانظر هذا المعنى الذي نقل عن جمهور السلف تدل عليه آية الاستواء في سورة الحديد (هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير) فهذه الآية كآية سورة الأنعام حث أخبرنا بأنه فوق السموات على العرش ومع ذلك يعلم ما يلج في الأرض، وهذا الوجه هو أرجح الوجوه وأقواها.
المعنى الثاني: (في السموات وفي الأرض) متعلق بيعلم، والآية لم تسق لبيان أين الله بل لبيان إحاطة الله وعلمه بكل شيء، والتقدير: وهو الله يعلم سركم وجهركم أينما كنتم في السموات أو في الأرض فهو يعلم ما تكسبون ولهذا قال أئمتنا هذا وقف حسن على لفظ الجلالة (وهو الله) ثم تستأنف كلاماً آخر يعلم سركم وجهركم في السموات وفي الأرض ... ، وانظروا هذا في كتاب منار الهدى في الوقف والابتداء للإمام الأشموني، يقول: الوقف على لفظ الجلالة، ويتم المعنى بذلك.
المعنى الثالث: الآية لم تسق لبيان أين الله ولا لبيان إحاطة علمه بكل شيء، إنما سيقت لبيان أنه هو الإله الحق المعبود الذي يجب على أهل السموات وأهل الأرض أن يألهوه ويعبدوه ولا يشركون به شيئاً فالإله هو المألوه أي المعبود، والتقدير: وهو المعبود في السموات وفي الأرض....فأين الفهم الذي فهمتموه؟!! وهذه المعاني الثلاثة أمامكم ليس في واحدة منها أن الله موجود في الأرض كما تزعمون وأوردوا آية ثانية ليقروا هذا الضلال وهي قوله تعالى في سورة الزخرف (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم) يقولون: إذن فهو موجود في السماء والأرض وليس في السماء كما تقولون.
(13/9)
والجواب: هذه الآية معناها كالمعنى الثالث لآية سورة الأنعام، أي وهو المعبود في السماء وفي الأرض وهو إله من في السماء وإله من في الأرض وهو المألوه في السماء وهو المألوه في الأرض، فلا إله إلا هو.
... ونحن نقول لهم أيضاً إن كان في الأرض فعلام يصعد الكلم الطيب إليه وعلام يعرج إليه أشياء ويرفع أشياء؟!! ولو كان الله في الأرض فلماذا عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى ما فوق السماء السابعة؟!!.
الوجه السابع: تصريح الله في كتابه بأنه استوى على عرشه في سبع آيات من كتابه ضمن سبع سور:
1) آية سورة الأعراف آية 54: (إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يُغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين) .
2) آية سورة يونس: آية رقم 3.
3) آية سورة الرعد: آية رقم 2.
4) آية سورة طه: آية رقم 5.
5) آية سورة الفرقان: آية رقم 59.
6) آية سورة السجدة: آية رقم 17.
7) آية سورة الحديد: آية رقم 4.
والمفسرون بحثوا مسألة الاستواء عند أول آية وهي آية سورة الأعراف إلا شيخنا المبارك الشيخ محمد الأمين الشنقيطي فإنه تكلم على الاستواء في الآية الثالثة من سورة يونس (الموضع الثاني) في أضواء البيان.
والاستواء معناه في اللغة: يأتي لأربعة معان ٍ: استقر، وارتفع، وعلا، وصعد، وقد ثبت في صحيح البخاري عن مجاهد أنه قال (الرحمن على العرش استوى) قال: علا، انظر صحيح البخاري في كتاب التوحيد (13/403- مع الفتح) وفيه أيضاً – أي في صحيح البخاري – قال أبو العالية: (الرحمن على العرش استوى) : ارتفع، وقد ورد هذا في التفسير الثاني في معالم التنزيل للبغوي عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(13/10)
هذا تفسير الاستواء في اللغة فله العلو والارتفاع والفوقية على سائر مخلوقاته، وهذا الدليل والواضح (سبع آياتٍ) جاء المؤولة وتلاعبوا فيه وقالوا: استوى أي: استولى وقال فريق منهم: كناية عن الهيمنة والسيطرة وتدبير الملك. هذا تفسير باطل قطعاً وجزماً لغةً ومعنىً.
أما اللغة فلا تشهد لهذا قطعاً، أي تفسير استوى باستولي لا يعرفه علماء اللغة كما قال الأزهري في تهذيب اللغة وابن الأعرابي وهو من أئمة اللغة. وقد أبطل الإمام ابن القيم تفسير استوى باستولي باثنين وأربعين وجهاً في كتابه الصواعق المرسلة في الرد على الجهنمية والمعطلة، انظروا مختصر الصواعق (2/126-152) ، أما المعنى فهو معنىً باطل بل هو أبطل من بطلانه من ناحية اللغة لأن الاستواء أخذ الشيء بعد غلبة ومنازعة، فهل كان العرش في ملك أحد غير الله حتى نازعه الله فقهره حتى غلبه وانتصر عليه وأخذ العرش واستولى عليه؟!! لا، يقولون: هذا استيلاء بلا غلبة ولا منازعة، كما قال الأخطل:
(13/11)
قد استوى بِشْرٌ (1) على العراق ... من غير سيف ودم مراق
فهو استوى على العراق من غير منازعة بالسيف أو بقتل وإراقة الدماء.
نقول: لا زلنا معكم، يعني هل كان في يد غيره ثم أخذه منه؟ يعني هل خرج العرش عن ملك الله طرفة عين حتى تقول إنه استولى عليه إذن فكلا جوابيكم باطل وقلتم استولي بغلبة ومنازعة أو بدون ذلك، ثم إنه لا يجوز الاستدلال بهذا البيت على تفسير استوى باستولى لأن هذا مخلوق والله ليس كمثله شيء، ولأن البصرة حقيقة لم تكن في أمرته ولا تحت ولايته بل عهد إليه أخوه عبد الملك بذلك فيصح أن نقول إنه استولى، لكن هل كان العرش كذلك؟ لا والله، فهو لم يخرج عن ملكه طرفة عين، ولذلك يقول الإمام ابن تيمية:
قبحاً لمن نبذ الكتاب وراءه ... وإذا استدل يقول قال الأخطل
ويقول الإمام ابن القيم:
__________
(1) هو بشر بن مروان، أخو عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي، وهو أول من ولي على البصرة في بلاد العراق، وامتدحه الأخطل الشاعر النصراني بهذا البيت، ومعناه: أن بِشْراً استولى على العراق بعهد من أخيه عبد الملك بن مروان دون مقاتلة وقتل وقطع رقاب وقال أئمتنا في ترجمة بِشْر: كان من الكرماء وكان لا يغلق بابه عن أحد من رعيته، ومن أقواله – ونعم ما قال -: وليس الأمراء في هذا الوقت يقتدون بهذه الحكمة التي أثرت عنه – يقول: "إنما يحتجب النساء فالأمير لا يحتجب" ولما احتضر يقول الحسن البصري ولما احتضر أدركته وكان على سريره فنزل وهو يتلوى على الأرض ثم نادى بأعلى صوته: يا ليتني كنت في البادية أرعى الماشية، فقيل هذا لأبي حازم فقال: الحمد لله الذي جعلهم عند الموت يفرون إلينا ولا نفر إليهم، والله لازال الله يرينا فيهم عبراً، فالعالم أو غيره لا يتمنى عند موته لو أنه كان أميراً، لكن الأمير يتمنى عند موته لو أنه لم يكن أميراُ بل كان راعياً أو غيره ولما يراه عند سكرات الموت، توفي سنة 74 هـ رحمه الله.
(13/12)
ولهم في ذلك بيت قاله ... فيما يقال الأخطل النصراني
نون اليهود ولام جهميًّ هما ... في وحي رب العرش زائدتان
(نون اليهود) قال الله لهم قولوا حطة أي حُط َّ الذنوب عنا، فلم يقولوها وزادوا نوناُ فقالوا: حنطة أو حبة حنطة أو حنطة في شعرة استهزءوا بكلام الله جل وعلا، وهذا حال اليهود، فانظر كيف بدلوا كلام الرب المعبود.
والجهمية زادوا لاماً، فهى استوى فزادوها استولى، ومعنى (هما في وحي رب العرش زائدتان) أي لم ينزل رب العالمين لا نون اليهود ولا لام الجهمية.
ولذلك قال الإمام مالك وشيخه ربيعة وأمنا أم سلمة رضي الله عنها والإسناد ثابت إلى مالك وإلى ربيعة ولكنه ضعيف عن أمنا أم سلمة رضي الله عنها وثبت عن الإمام أبي جعفر الترمذي ليس صاحب السنة أبو عيسى الترمذي، قالوا: "الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة".
(الاستواء معلوم) أي معلوم في اللغة استقر، ارتفع، علا.
(والكيف مجهول) أي كيفية استواء الرب مجهولة لان الصفة تتبع الموصوف، فإذا كانت الذات مجهولة فالصفات كذلك ولذلك إيماننا بصفات ربنا كإيماننا بذاته، والمخلوقات تتفق في مسمى الصفة وتختلف في حقيقتها، فمثلاً لك يد للقط يد لكن لم تشبه اليدان بعضهما، فكيف ستشبه يد المخلوق الخالق!! فلكل موصوف ما يناسبه من الصفات (ليس كمثله شيء) .
(والإيمان به واجب) لأنه ورد في كتاب الله وإذا تركته فقد ضللت.
(والسؤال عنه بدعة) وكان بدعة لأمرين: الأمر الأول: لأنه سؤال عما لا يمكن لعقول البشر أن تدركه، والأمر الثاني: لأنه لم يجر هذا السؤال في عهد خير هذه الأمة وأطهرها وأبرها، والبدعة ما حدث بعدهم فلم يسأل الصحابة رضوان الله عليهم النبي صلى الله عليه وسلم عن كيفية صفة بل يسألون عن الإيمان بها وثبوتها وهكذا المؤمن يسأل في القدر – كما تقدم معنا – من الحكم ووجوده لا عن العلة من الحكمة، ولذلك لا تقل لم؟ بل قل بم؟.
(13/13)
ثبت في مسند الإمام أحمد وسنن ابن ماجه بسند حسن عن أبي رزين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ضحك ربنا عند قنوط عباده وقرب غِيَرِه (1) ينظر إليكم أزلين قنطين فيظل يضحك يعلم أن فرجكم قريب فقال أبو رزين: أوَ يضحك ربنا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم، فقال: لن نعدم من رب يضحك خيراً] ، فسأل أبو رزين هنا عن ثبوت صفة الضحك لا عن الكيفية ومن ضحك الله له لن يحاسبه كما ورد في الحديث، أي من فعل فعلاً أضحك به الرب فلن يحاسبه الله، وهذا الاستواء كما يليق بربنا.
مبحث العرش والكرسي
(هما مبحثان مستقلان لكن ندخلهما في هذه الآيات)
العرش في اللغة: سرير المَلِك، والمراد كرسي عظيم مرصع بالجواهر والأحجار الكريمة كحال الملوك القدماء.
__________
(1) أي وقرب غير القنوط وتغير الحال، وقنوط العباد كان بسبب القحط والبلاء وهنا، أي قرب تغير الحال من العسر إلى اليسر.
(13/14)
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى في القرآن ثلاث عروش: عرشين لمخلوقين وعرش له سبحانه وتعالى استوى عليه: أحد عرشي المخلوقين عرش ملكة سبأ (1) وهو عرش بلقيس: ( ... وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم) والثاني عرش نبي الله يوسف ( ... ورفع أبويه على العرش) والله جل وعلا استوى على هذا العرش بكيفية يعلمها ولا نعلمها.
ثبت عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال [سمي العرش عرشاً لارتفاعه] ، والله يشير لهذا المعنى في كتابه يقول: (وهو الذي أنشأ جنات معروشات) أي مرتفعة (وغير معروشات) أي منبسطة ليس لها ساق تقوم عليه وذكر العرش معلوم في أشعار العرب في الجاهلية والإسلام، قال أمية بن أبي الصلت (جاهلية) :
مجدوا الله فهو للمجد أهل ... ربنا في السماء أمسى كبيرا
بالبناء الأعلى الذي سبق الناس ... وسوى فوق السماء سريرا
شرْجَعَنْ (2) لا يناله ناظر العين ... ترى دونه الملائكة صورا (3)
__________
(1) [ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة] ، وقد حكي أن رجلا ً من أهل اليمن افتخر في مجلس عبد الملك ابن مروان، فقال عبد الملك: من يرد على هذا المفاخر؟ فقام بعض الحاضرين وقال: أيها الملك، ماذا تقول في قوم ملكتهم امرأة، ودل عليهم هدهد وغرقتهم فأرة وهم ما بين حائك برود ودابغ جلد وسائس قرد وكل بلدة فيها نقائص والمؤمن لا يوصف لوجوده في مكان من الأمكنة وألفاظ العموم لا يدخل فيها الأخيار كما قال أئمتنا، أهل الشام أذل الناس وأطوعهم في معصية الله وأهل مصر أظرفهم صغيراً وأحمقهم كبيراً وأهل العراق أسرع الناس في فتنة وأعجزهم عنها، وكل مصر وبلد له وصفه لكن يتنزه عنه الأبرار.
(2) أي بناءاً عالياً مرتفعاً.
(3) جمع أصْور أي: مائل الرقبة، والمراد أن الملائكة مائلة العنق من خشيتها وتذللها.
(13/15)
وقال عبد الله بن رواحة (قال الإمام ابن عبيد ابن عبد البر في الاستيعاب وهذه القصة ثابتة رُويناها من أوجه صحيحة مشهورة) ، وذلك أنه عندما جاءته سٌرِّيته وواقعها على فراش زوجته، فعلمت زوجته بالأمر فاعتراها شيء من الغيرة، فقالت في حجرتي وعلى فراشي، فقال: ما فعلت شيئاً؟ أي لم أفعل شيئاً حراماً، فقالت اقرأ القرآن إن كنت صادقاً لأن الجنب لا يقرأ القرآن، فقال: عبد الله رضي الله عنه:
شهدت بأن الله حق ... وأن النار مثوى الكافرين
وأن العرش فوق الماء طافٍ ... وفوق العرش رب العالمين
وتحمله ملائكة كرام ... ملائكة الإله مسوِّمين (1)
وقال أيضاً:
وفينا رسول الله يتلو كتابه ... إذا انشق معروف من الفجر ساطعا
وبيت يجافي جنبه عن فراشه ... إذا استقلت بالمشركين المضاجع
أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا ... به موقنات أن ما قال واقع
فقالت زوجته: آمنت بالله وكذبت بصري والكلام أو سع من أن يكذب ظريف كما قال أئمتنا، فإذا اضطررت للكذب فلا تكذب بل استعمل التورية (2) كما كان إبراهيم انخعي يعمل حيث كان يطلب من ابنه أن يقول لمن يطرق بابه في وقت لا يريد فيه مقابلة أحد، يا بني قل لهم إن إبراهيم ليس هنا، أي ليس موجود في المكان الذي يتكلم فيه أي يشير إلى مكان ليس فيه والده إبراهيم موجوداً فيه، والسامع يظن أن إبراهيم ليس في البيت والدار، وولده صادق، وهو لو قال لهم مشغول فقد يلحون عليه بطلب الدخول أو قد يتضايقون من هذا الجواب (أي لو قال لهم مشغول) فيصرفهم بالتي هي أحسن.
__________
(1) ويصح مسِوَّمين، كما ورد في سورة آل عمران (بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسوِّمين) وقرئت مسوَّمين، وهما قراءتان متواترتان عن نبينا عليه الصلاة والسلام، ومعنى مسوَّمين: معلِّمين، ومعنى مسوَّمين معلَّمين أي عليهم علامة يتميزون بها.
(2) وهي أن تسمع السامع شيئاً وأنت تعتقد في نفسك حقاً غيره.
(13/16)
.. وصفة الاستواء على العرش نقول فيها ما نقول في سائر الصفات فالاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة، وتقدم معنا أن إيماننا بصفات ربنا إقرار وإمرار (ليس كمثله شيء) إمرار (وهو السميع البصير) إقرار فنقر بالصفة دون البحث في كنها وكيفيتها وكل ما خطر ببالك فالله بخلاف ذلك.
والعجز عن درك الإدراك إدارك ... والبحث في كنه ذات الإله إشراك
والصفات تختلف باختلاف الموصوفات، فلكل موصوف معنىً يناسبه من تلك الصفة على حسب ذاته، فمثلاً اليد تختلف فينا بني الإنسان عنها في الكلاب عنها في الأبواب فمن بابٍ أولى أن تختلف يد الخلاق جل وعلا.
(13/17)
وعرش الرحمن فوق المخلوقات كلها، ولا يوجد فوقه شيء مخلوق لا يوجد إلا الخالق جل وعلا، فالمخلوقات كلها تحت العرش ولذلك يُقال "العالم من عرشه إلى فرشه مخلوق" أو من علوه إلى سفله وهو الأرض السابعة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [والله فوق العرش يعلم ما أنتم عليه] ، والعرش هو أكبر المخلوقات تحمله ثمانية من الملائكة، كما أخبرنا الله عن ذلك في كتابه (ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية) وهؤلاء الثمانية يتجاوبون بصوت رقيق رخيم فأربعة منهم يقولون سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك ويجيبهم الأربعة الآخرون سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، هذا هو تسبيح حملة العرش، وهذا ثبت بإسناد صحيح عن حسان بن عطية وله حكم الرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومعنى هذا: الله سبحانه وتعالى يعلم ما نعمل، ولولا حلمه لما ترك على الأرض من دابة، وهو قدير على عقوبتنا فلولا عفوه لأهلكنا، وثبت في تفسير ابن جرير أن الله خلق حملة العرش قالوا ربنا لم خلقتنا؟، قال: لتحملوا عرشي، قالوا: ومن يقوى عليه وعليه جلالك ووقارك وأنت رب العالمين؟ فقال: قولوا: لا حول ولا قوة إلا بالله، فقالوا هذه الكلمة وبها أطاقوا حمل العرش، وقد قال أئمتنا هذه الكلمة (لا حول ولا قوة إلا بالله) لها تأثير عجيب وخاصية مجربة بأن من قالها ذلل الله له الصعاب وفرج عنه الكروب وأعانه على الشدائد ومعنى هذه الكلمة لا تحول من حالٍ إلى حال من معصية إلى طاعة ومن ضعف إلى قوة ومن فقر إلى غنىً ... ولا تحصل قوة إلا بالله جل وعلا.
وأما الكرسي:
... فهو دون العرش أي أنزل منه وأصغر، والعرش أكبر المخلوقات وأولها وهو موضع قدمي الرب سبحانه وتعالى,
(13/18)
.. وقد ثبت تفسير الكرسي بذلك في مستدرك الحاكم بسند صحيح على شرط الشيخين وكتاب التوحيد لابن خزيمة والأسماء والصفات للبيهقي وتفسير ابن جرير، والأثر رواه الإمام الخطيب في تاريخ بغداد والطبراني في معجمه الكبير بسند صحيح عن ابن عباس أنه قال: [الكرسي موضع القدمين والعرش لا يعلم قدره إلا الله] .
... قال الله في وصف الكرسي (وسع كرسيه السموات والأرض) فهذا الكرسي يسع السموات والأرض وهو أعظم منها.
... والكرسي ذكر في موضعين فقط في القرآن:
1) آية الكرسي من سورة البقرة (وسع كرسيه السموات والأرض) .
2) في سورة ص (ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسداً ثم أناب) ، فالكرسي الأول له جل وعلا، والثاني في سورة ص والكرسي واحد الكراسي وهو معروف كما قال علماء اللغة.
وهذا التفسير – الأول – الذي نقل عن ابن عباس، ثبت أيضاً عن أبي موسى الأشعري في تفسير ابن جرير والأسماء والصفات للبيهقي، وفي تفسير ابن المنذر بإسناد صحيح قاله الحافظ في الفتح (8/199) وثبت في تاريخ بغداد عن أبي ذر مرفوعاً وموقوفاً، والموقوف أثبت وله حكم الرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأنه مما لا يدرك بالرأي.
... وهذا هو المعتمد عند أهل الحق أن الكرسي هو موضع قدمي الرب، وهناك أربعة أقوال باطلة في تفسير الكرسي احذروها وكونوا على علم بها:
أولها: - وهو أرذلها – نُقل عن الزمخشري المعتزلي، وهو من شر ما قاله في صفات الله – يقول "الكرسي: تخييل حسي " أي لا يوجد هناك كرسي لا صغير ولا كبير، لكن الله أراد أن يظهر لنا عظمته ويقرب لنا شأنه فذكر هذا الأمر لذلك يعني المراد من الآية: لو كان له كرسي لوسع السموات والأرض، لكنه لا يوجد، ومعنى قول الزمخشري (حسي) أي أتى بتعبير محسوس ليقرب المراد.
(13/19)
.. وهذا التفسير الذي ابتدعه الزمخشري هنا في الكرسي عول عليه في كثير من آيات الصفات في الكشاف فانظر مثلاً تفسير قول الله تعالى في سورة الزمر (وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه) ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إن الله يقبض الأرضين بشماله ويطوي السموات بيمينه، ويقول أنا الملك أين ملكوم الأرض؟ أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟] .
... فالزمخشري يستعمل هذا الأسلوب أيضاً في نفي صفة اليمين والشمال والقبض والطي، فيقول هو في هذه الآية: هذا تخييل حسي فالله يريد أن يخيل لنا عظمته فجاء بهذا المثال الحسي الذي فيه كأن السموات بيمينه وكأن الأرض بشماله وليس له لا طي ولا قبض وليس له يمين ولا شمال، وهذا كما قلت لكم من أشنع ما قيل في صفات الله سبحانه وتعالى لأن مؤداه أن الله يكذب علينا، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
ثانيهما: الكرسي بمعنى العرش فهما سواء، ونقل هذا عن الحسن البصري، وروي هذا عنه من طريق جويبر عن الضحاك، وهذا الأثر لا يثبت عن الحسن البصري (1) ، لأنه فيه علة وهي: ضعف الأسناد فجويبر تالف.
... قال الإمام ابن كثير والإمام البيهقي في الأسماء والصفات، والصحيح عن الحسن وغيره من السلف أن العرش غير الكرسي.
ثالثهما: قيل الكرسي بمعنى العلم، (وسع كرسيه السموات والأرض) أي علمه، نقل عن ابن عباس رضي الله عنه بإسناد – قال عنه ابن كثير والبيهقي في الأسماء والصفات وأبو منصور الأزهري في تهذيب اللغة إنه شاذ أي هذا الإسناد شاذ والرواية المحفوظة عنه الثابتة أن الكرسي موضع القدم.
__________
(1) حكى الشيخ الفوزان هذا القول عن الحسن في كتابه شرح العقيدة الواسطية، ولم يتعقب القول، وهو قول غير صحيح كما بينا؟؟؟
(13/20)
.. وهذا التفسير رده الإمام ابن جرير في أول الأمر وقال: "إن الرواية الثابتة عن ابن عباس في تفسير الكرسي وهو موضع القدمين، هي المعتمدة" ثم انتكس الإمام ابن جرير عليه رحمة الله في تفسيره عند آية الكرسي فنقل هذه الرواية الشاذة وقال هي المعتمدة في تفسير الكرسي، فبعد أن قرر أن القول الأول هو المعتمد نقضه وقال القول الثاني هو المعتمد وهذا عجيب من مثل الإمام ابن جرير، وقد قرر الإمام ابن جرير هذا القول الشاذ بقوله تعالى حكاية من الملائكة (ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً) ، وهذا الاستدلال في الحقيقة لا يتناسب مع حذق الإمام ابن جرير وفهمه لأنه يلزم على قوله أن يفسر الكرسي بالرحمة كما فسر بالعلم، لأن ذكرت الآيتين، ثم إنه لا مناسبة بين الكرسي والعلم، لأن الكرسي واحد الكراسي وهو معروف، والعلم معروف فلا مناسبة بينهما ولو صح تفسير الشيء بما لا يدل عليه في لغة العرب لصح أن نفسر بعد ذلك الأحكام الشرعية كما نريد (1) وهذا التفسير تبناه محمد عبده في هذا العصر وعليه جمهور المؤولة.
رابعهما: تبناه الرازي في تفسيره فقال: لا يصح تفسير الكرسي بالعرش ولا تفسيره بالعلم فقد دلت الآثار على أنه جسم عظيم أعظم من السموات والأرض – وهذا كله حق مقبول لكن انظر بعد ذلك للانتكاس يقول: لكن الرواية الثابتة عن ابن عباس موهمة مشكلة فيجب أن نقف نحوها موقفين:
__________
(1) فالله جل وعلا يقول: (كتب عليكم الصيام) فيأتي الباطنية ويفسرون اللفظ بما لا يدل عليه فيقولون: الصيام هو حفظ سر الشيخ فهذا هو معنى الصيام عند الدرزية والنصيرية، وعندهم – الباطنية – الحج هو زيارة الشيخ، ويقولون في الآية: (حرمت عليكم أمهاتكم) المقصود (بأمهاتكم) عندهم: مراتب شيوخهم، فلا تتمنوا رتبة الشيخ، أما أمك فلا حرج عليك في وطئها – وهذا كله عندهم – وكذلك لا حرج في وطء أختك أو بنتك!! فهذا كله يشبه تفسير الكرسي بالعلم لأنه من قبيل تفسير اللفظ بما لا يدل عليه.
(13/21)
الموقف الأول: أن نردها، لأنها توهم التشبيه.
الموقف الثاني: وإذا قبلناها فلابد من تأويلها (1) ، وقال: موضع القدمين أي موضع قدمي الروح الأعظم الذي هو جبريل أو موضع قدمي ملك آخر غيره (2) وهذا تأويل باطل يجب طرحه.
... والأقوال الثلاثة قبله باطلة أيضاً والمعتمد هو قول ابن عباس وأبي موسى الأشعري وأبي ذر، وتقدم ذكره وقد ورد أن الكرسي بجانب العرش كحلقة في فلاة والسموات السبع والأراضين السبع بجانب الكرسي كحلقة في فلاة.
2- وأما السنة:
... تواترت الأحاديث عن نبينا عليه الصلاة والسلام بأن الله فوق عرشه على سمواته بائن من خلقه سبحانه وتعالى، وهذه الأحاديث المتواترة لن أفيض فيها إنما سأذكر ثلاثة منها:
__________
(1) وهذا حال المبتدعة يتذبذبون بين أمرين إما أن يرد النص وإما أن يؤوله، والتأويل أخو الرد، وهذا كالحديث الصحيح [لا تزال جهنم تقول هل من مزيد حتى يضع الجبار عليها قدمه (وفي رواية رجله) فينزوى بعضها إلى بعض، فتقول قط قط] يقول المبتدعة: القدم هنا معناها أي قوم قدمهم للنار، [ورجله] هذا مأخوذ من رجل الجراد وهو الجماعة والمعنى حتى يضع عليها جماعة مثل جماعة الجراد، يلقيهم فيها فتمتلئ وتقول [قط قط] ، سبحان الله هل هذا هو معنى الرجل ومعنى القدم؟ هلا قلتم إقرار وإمرار، ولا داعي بعد ذلك للتلاعب وكل يؤول على مزاجه.
(2) وقد وصل الشطط بالرازي في تفسيره سورة الفجر آية (وجاء ربك والملك صفاً صفاً) قال هذه الآية موهمة لابد من تأويلها ذكر ستة أوجه في تأويلها أحد الأوجه يقول (وجاء ربك) أي الملك الذي كان يربيك يا محمد وهو أعظم الملائكة فهذا سيأتي يوم القيامة ويأتي معه الملائكة صفاً صفاً!!!
(13/22)
أولها: الأحاديث بمجموعها متواترة، لكن هذا الحديث متواتر بنفسه، قال الإمام الذهبي في كتابه (العلو للعلي الغفار) صـ16: من الأحاديث المتواترة في علو الله وفوقيته حديث معاوية بن الحكم السُّلمي، وحديثه ثابت في صحيح مسلم وسنن أبي داود والنسائي – وهو حديث متواتر – وخلاصة الحديث: يقول معاوية رضي الله عنه [كانت لي جارية ترعى غنماً لي فجاءت في يوم من الأيام وقد أخذ الذئب شاة منها، يقول: وأنا امرؤ من بني آدم (1) – آسف كما يأسفون فحزنت على هذه الشاة، وصككت الأمة ثم ندمت فذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرته بالقصة وقلت له: ألا أعتقها، (وفي رواية: إن عليّ كفارة ألا أعتقها؟) فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ادعها لي، فجاءت فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: أين الله؟ فقالت في السماء، فقال: من أنا؟ قالت: رسول الله، فقال اعتقها فإنها مؤمنة] .
قال الذهبي والحديث فيه أمران:
1- جواز السؤال عن الله بأين (2) ، فهو شرعي سأل بهذا نبينا صلى الله عليه وسلم.
2- والجواب عن هذا السؤال، أن الله في السماء كما تواترت الأحاديث بذلك.
ولفظ السماء تقدم معناها إن كان المراد العلو فـ (في) ظرفية على حقيقتها أي في العلو، وإن كان المراد من السماء الأجرام السبعة فـ (في) بمعنى على أي على السماء وهذا الحديث فيه رد على المؤولة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأل عن سلطانه وقهره جل جلاله فلم يقل أين سلطان الله؟.
__________
(1) يريد بهذا أن يذكر عذره في عمله الذي فعله بالأمة، أي أنا امرؤ من بني آدم آسف كما يأسفون وأحزن كما يحزنون.
(2) إذن هو جائز ومن قال لا فقد رد فعل النبي صلى الله عليه وسلم، والمبتدعة يقولون لا يجوز أن تقول: أين الله؟ ومن باب الأولى لا يجوز أن تجيب عليه!!!.
(13/23)
ثانيها: حديث نزول ربنا الجليل وهو حديث قال عنه الإمام الذهبي: هو حديث متواتر أقطع بذلك وأُسأل أمام الله، وقد رواه الشيخان البخاري ومسلم – وأبو داود والترمذي وابن ماجه ورواه الإمام أحمد ومالك في الموطأ الدارمي وغيرهم من أئمة الحديث ولفظه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول من يدعوني فأستجب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له] . فربنا يتصف بأنه ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا، ولفظ النزول في اللغة لا يكون إلا من أعلى إلى أسفل، فهو ينزل بكيفية تليق بجلاله من غير تشبيه ولا تعطيل ولا يلزم من نزوله أن تكون السموات فوقه، فهو في حال نزوله مستو ٍ على عرشه، ولا تقل كيف؟ فهذا السؤال ارفعه ولا تسأل به، هذا ولله المثل الأعلى – كالإنسان عندما ينام لا يسمع ولا يجيب مع أن روحه فيه فمع أن روحه معه إلا أنه كمن رفعت روحه.
ثالثها: حديث رواه الإمام الترمذي وحسنه، وابن خزيمة في كتاب التوحيد والبيهقي في الأسماء والصفات عن عمران بن حصين رضي الله عنه: [أن والده حصين لما جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وقال: يا رسول الله: إنك أشأم رجل على قومه فرقت جماعتنا وعبت آلهتنا وسفهت أحلامنا وكفرت من مضى من آبائنا فقال النبي عليه الصلاة والسلام: يا حصين اجلس، فجلس، فقال له: كم إلهاً تعبد؟ فقال له: سبعة، ستة في الأرض وواحداً في السماء (1) ، فقال: من الذي تُعدُّه لرغبتك ورهبتك؟ فقال: الذي في السماء، فقال: اترك الستة واعبد الذي في السماء وأنا أعلمك كلمتين إذا أسلمت، فأسلم فعلمه أن يقول: اللهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي] . فكرروا هذا الدعاء إخوتي الكرام.
3- وأما الإجماع الصحيح:
__________
(1) انظر هذا جواب حصين أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنبهوا.
(13/24)
.. والإجماع على هذه المسألة ليس في هذه الأمة بل هو إجماع بين المِليين أي الموحدين منذ آدم إلى يوم القيامة، أجمعوا على هذا وأن الله على عرشه فوق سماواته.
... قال الشيخ عبد القادر الجيلاني – كما في الذيل على طبقات الحنابلة – (1/296) : "العلو لله جل وعلا مذكور في كل كتاب أنزل على كل نبي أرسل" أي ذكر الله جل وعلا هذا في الكتب المنزلة على الرسل التي أرسلهم عليهم الصلاة والسلام، فهو متفق عليه في الكتب، كل رسول يشير بهذا إلى قومه.
... وثبت عن الإمام الأوزاعي أنه كان يقول: "كنا نقول والتابعون متوافرون الله فوق عرشه على سمواته بائن من خلقه" أي منفصل عن خلقه ليس حالاً فيهم ولا حالون فيه.
... ولذلك قيل للإمام أبي حنيفة: ما تقول فيمن لم يعرف أين الله؟ فقال: إنه كافر، فقيل له: ما تقول فيمن قال إن الله على العرش لكن لا أعلم أين العرش؟ فقال: هو كافر.
... وقال الإمام ابن خزيمة في كتابه التوحيد: من أنكر العلو يستتاب – فإن تاب وإلا ضربت رقبته، ثم لا يدفن في مقابر المسلمين ولا اليهود ولا النصارى.
4- وأما العقل الصريح:
... وقد دل على علو الله سبحانه وتعالى على مخلوقاته، على مرحلتين وبخطوتين:
المرحلة الأولي: العقل يقول ويقرر "كل موجودين لابد لهما إما من الاتصال أو الانفصال، واتصال الخالق بالمخلوقات أو المخلوقات بالخالق وامتزاج أحد الموجودين بالآخر مستحيل لأنه يؤدي إلى جعل المخلوق عين الخالق وجعل الخالق مخلوقاً، ويؤدي إلى القول بالحلول ووحدة الوجود وأن كل شيء هو الله.
فإذا انتفى الاتصال ثبت الانفصال، وأفضل كلمة قالها أئمتنا في التوحيد ما قاله الإمام الجنيد: "إفراد الحادث عن القديم" أي تمييز الحادث المخلوق عن القديم الخالق، فكلاهما منفصل عن الآخر ولا يحل واحد منهما في الآخر.
(13/25)
المرحلة الثانية: إذا ثبت انفصال الرب عن مخلوقاته، فإما أن يكون فوقهم أو تحتهم، أما التحتية فمستحيلة لأنها صفة ذم ونقص وهي مأوى القاذورات، ويتنزه الله عن ذلك فثبتت له الفوقية ولذلك لو لم يرد نص شرعي ولو لم يأت رسول للبشر يخبرهم بأن الله جل وعلا فوقهم لجزم العقل بعلو الله وفوقيته على عباده، ولذلك من يقول خلاف هذا فهو ضال بلا شك.
وقد وجدت شبهتان في هذا الدليل لعلماء الكلام:
الشبهة الأولي: تولاها الجهمية أن الله في كل مكان أي بذاته (لا بعلمه فهذا موضع اتفاق) أي أن الله بذاته في كل مكان في البيوت وفي المساجد وفي الأسواق وفي المزابل وفي الحمامات - تعالى الله عما يقولون – ولذلك كان يقول غلاة الجهيمة من الصوفية:
وما الكلب والخنزير إلا إلهنا ... وما الله إلا راهب في كنيسة
فالكلب والخنزير والراهب وكل شيء إله لأن الله في كل مكان – تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً – فكفر هؤلاء أشنع من كفر اليهود والنصارى لأن اليهود قصروا الحلول في عزير، وأما النصارى فقصروا الحلول في عيسى وأمه، وأما هؤلاء فقالوا إنه حل في كل نقيصة وقذر.
الشبهة الثانية: بعض علماء الكلام لا يجوز أن تقول أين الله؟ يقول: لأن الله لا فوق ولا تحت ولا يمين ولا شمال لا أمام ولا وراء، لا داخل العالم ولا خارج العالم، نقول له: يا مسكين أنت بهذا لم تثبت الحي القيوم بل جعلته موهوماً معدوماً، ولذلك لما تناظر أبو بكر ابن فورك في مجلس محمود بن سُبُكْتَكِين وهو من الأمراء الصالحين، تناظر هذا المؤول أي بن فورك مع بعض أهل السنة فقال: الله لا فوق ولا تحت ولا يمين ولا شمال ولا أمام ولا وراء ولا داخل العالم ولا خارجه، فقال هذا السني للأمير: ايها الأمير اطلب إلهاً غير إلهك، فهؤلاء قد ضيعوا إلهك.
إذن فقولهم بفضي إلى أن نجعل الله عدماً، فجعلوا العلي الأعلى الذي كرسيه أعظم من السموات والأرض جعلوه معدوماً صرفاً وموهوماً محضاً، فانتبهوا لهذا!!!.
(13/26)
كلا الشبهتين باطلتان.
... ولذلك عندما جلس أبو المعالي أمام الحرمين – غفر الله له ورحمه وقد رجع عن هوسه – يقرر نفي علو الله على مخلوقاته فقال كان الله ولا مكان ولا زمان وهو الآن على ما عليه كان، فقام الإمام الهمذاني وقال: يا إمام دعنا من العرش والزمان والمكان دعنا من هذه الأمور وأخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في أنفسنا ما قال أحد يا رب إلا وطلب المعونة ممن فوقه فبماذا نؤول هذا الشعور الذي في داخل نفوسنا؟ فلطم إمام الحرمين رأسه وقال حيرني الهمذاني، فرجع إمام الحرمين عن قوله.
5- وأما الفطرة المستقيمة:
وتقدم معنا أن الأدلة على الفطرة قسمان:
أ) سلفي شرعي، والسلفي الشرعي قسمان
1. نصوص الكتاب والسنة.
2. الفطرة المستقيمة.
ب) وخلفي بدعي وهو قسمان:
1) عقل متكلف فيه متعمق.
2) كشف خيال.
فالفطرة السوية تقرر علو رب البرية، ووجه ذلك: أنه لا يلجأ أحد إلى الله إلا واتجه إلى فوق، فهذا مركوز في أذهان وقلوب نساء البادية فضلاً عن غيرهن، فهذه فطرة ولذلك عندما ندعو نمد أيدينا إلى فوق أو إلى الوراء أو إلى أسفل إلى العلو إلى فوق، وعندما نسجد نقول سبح
(13/27)
مقدمة التفسير (1)
(دروس تفسير)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
مقدمة التفسير (1)
نحمد الله ونستعينه ونستهديه ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهدى الله فهو المهتدى ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا.
الحمد لله رب العالمين شرع لنا دينا قويما وهدانا صراطا مستقيما وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة وهو اللطيف الخبير.
اللهم لك الحمدكله ولك الملك كله وإليك الخير كله وإليك يرجع الأمر كله انت رب الطيبين وأشهد ألاّإله إلاّ الله وحده لا شريك ولىّ الصالحين وخالق الخلق أجمعين ورازقهم {وما من دآبة فى الأرض إلاّ على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كلٌُ فى كتاب مبين} .
{يا أيها اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلاّ هو فأنا تؤفكون} .
وأشهد أن نبينامحمداً عبد الله ورسوله أرسله الله رحمة للعالمين وشرح به الصدور وأنار به العقول وفتح به أعيناً عمياً وأذاناًصماً وقلوباً غلفاً، فجزاهُ الله عنا أفضل ما جزى به نبىٌ عن أمته ورضى الله عن أصحابه الطيبين وعن من تبعهم بإحسان الى يوم الدين.
{ياأيها الناس أتقوا ربكم الذى خلقكم من نفس واحده وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءا واتقوا الله الذى تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا} .
{ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلاّ وأنتم مسلمون} .
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسله فقد فاز فوزاً عظيماً} .
أمابعد: معشرالإخوة الكرام..
حديثنا ومدارستنا فى مثل هذا اليوم من أيام هذه السنة المباركة إن شاء الله ستكون مدارستنا ويكون حديثنا فى تفسير كلام ربنا جلّ وعلا ويحسن بنا بل يجب علينا قبل الشروع فى تفسير كلا م الله جلّ وعلا أن نتحدث عن أمرين اثنين.
الأمر الأول: حول منزلة كلام الرحمن جلّ وعلا وأثره فى بنى الإنسان.
(14/1)
والأمر الثانى: حول الطريقة القويمة فى تفسير الآيات المحكمات.
فلابد من التنبه على هذين الأمرين لنعلم منزلة هذا الكلام الذى سنتدارس تفسيره إن شاء الله ولنعرف الطريقة المثلى السديدة السليمة فى تفسيره.
إخوتى الكرام: تأمل حال الناس فى هذه الأيام لا يرتاب أنهم فى جاهلية كالجاهلية التى كان الناس فيها قبل مبعث خير البرية عليه صلوات الله وسلامه، وإذا كان الله جلّ وعلا قد نكس الناس قبل مبعث نبينا عليه الصلاة والسلام إلاّ بقايا من أهل الكتاب كالذين كانوا يلتزمون بالدين الحق الذى كان عليه نبى الله عيسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، فإن الحال فى هذه الأيام كذاك فالله قد نكس الناس عربهم وعجمهم إلاّ من تمسك بملة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام بالدين الحق وهم الغرباء فى هذا الوقت وقليل ما هم.
ثبت فى مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم عن عياض بن عمار النجاشعى رضى الله عنه، قال: قام فينا نبى الله صلى الله عليه وسلم خطيباً ذات يوم، فقال: (إن الله أمرنى أن أعلمكم ما جهلتم فى يومى هذا) ، أى أمرنى أن أعلمكم من يومى هذا ما جهلتم وما تجهلونه كل مال أحدثه عبداً فهو حلال، أى قال الله تعالى: كل مال أحدثه عبداً فهو حلال، وإنى خلقت عبادى حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرموا عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بى ما لم أنزل به سلطاناً، وإن الله نظر الى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب، والمقت: هو أشد أنواع الغضب والسخط {ياأيها الذين أمنوا لما تقولون ما لاتفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون. إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون الى الإيمان فتكفرون} .
[وإن الله نظر الى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا يقايا من أهل الكتاب، وقال الله: إنما بعثتك لأبتليك وأبلى بك وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء تقرأه نائما ويقظاناً] .
(14/2)
هذا كان حال الناس فى الجاهلية قبل مبعث خير البرية عليه الصلاة والسلام، جاهليةٍ يعيشونها من أجل ذلك مقتهم الله جل وعلا كانوا فى الجاهلية هم يلهثون وراء الدنيا فهى غايتهم وهى مطلبهم، وكانوا يتدينون تديناً معوجاً كما هو حال الناس فى هذه الأيام تماماً والدنيا هى الغاية الأولى والأخيرة فى حياة الناس إلا من رحم ربك ثم يتدينون بعد ذلك تديناً معوجاً، فهذا القرآن الكريم الذى أنزله الله علينا وأكرمنا به صار حال الناس نحوه، أنهم يذكرونه ويتغنون به فى الحفلات والمواسم الرسمية، وأعرضوا بعد ذلك عن تحكيمه فى جميع شئون حياتهم.
وبلغ الإنحطاط فى بعض بلاد عدة أنهم عرضوا على مسألة يندى لها جبين المسلم حقيقة وهى، هل تستفتح الحفلات بالأناشيد الوطنية أو بالقرآن العظيم بكلام ربى الكريم،؟ وهل إذا بدأنا حفلنا بالأناشيد الوطنية وعلى تعبيرهم الأناشيد الرسمية؟ نقول فى هذا إساءة أدب مع القرآن العظيم، قلت له: ياأخى الكريم الى هذا الحد وصل بنا الإنحطاط، الأمران مستويان فى الشناعة والفسق والفساد.... إذا بدأتم حفلة بالأناشيد الوطنية فقد أخبرتم عن حقيقة أنفسكم وأنكم تقمون الجاهلية على كتاب ربكم، وإذا بدأتم بكتاب الله جل وعلا فالبلية لا تنقص أبداً لأنكم بعد أن تقرأوا شيئا من القرآن تنسخونه بجاهلية الشيطان، وقد صدق الله جل وعلا إذ يقول: {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} .
إخوتى الكرام: حالة الجاهلية التى كان عليها الناس قبل مبعث خير البرية عليه الصلاة والسلام هى حال الناس فى هذه الأيام إلا من رحم ربك، جرىٌ ورآء الشهوات ثم تدين معوج لا يرضاه الله جل وعلا وما أنزل به من سلطان.
إخوتى الكرام: لا يقبل الله من العمل إلا ما كان صالحا.
(14/3)
والوجه الخامس: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض} كان الجاهلية المشركون فى جاهليتهم إذا حجوا يقولون "لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك ملكته وما ملك" وحال الناس فى هذه الأيام بل كما قلت لكم حال بعض طلبة العلم، هل نبدأ بالأناشيد الوطنية أو نبدأ بكلام ربنا القويم؟
لا يختلف الأمر عن شعارات الجاهلية "لبيك لاشريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك " لكن هناك كانت التلبية لهبل أو لللات أو للعزى، وإن صارت التلبية للوطن {فماذا بعد الحق إلا الضلال. وأن هذا صراطاً مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون} .
إخوتى الكرام: وما من شك عند بنى الإنسان أن حياة الجاهلية تغيرت بمبعث خير البرية عليه الصلاة والسلام، والذى غير تلك الحياة الآثمة الخبيثة الضآلة التائهة الضائعة، كلام الله جل وعلا الذى أنزله على عبده ونبيه محمد عليه الصلاة والسلام، فماذا فى كلام الله جل وعلا من الأمور؟ وما الأمور التى صاحبت كلام الله جل وعلا حتى صار لمن أخذ به ذلك الأثر، فخرجوا من الجاهلية الى الهدى ومن الضلال الى الرشد.
إخوتى الكرام: إن تشريع الله وكتاب الله وكلام الله وهذا القرآن المجيد الذى أنزله على نبينا عليه الصلاة والسلام صاحبه أربعة أمور لا يوجد واحد منها فى تشريع ولا فى نظام ولا فى قانون هذه الأمور الأربعة.
أولها: علم تام واسع محيط، كيف لا وقائله ومنزله هو العليم بكل شىء سبحانه وتعالى، يقول الله جل وعلا فى سورة الفرقان: {وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاؤوا ظلما وزورا. وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا. قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفورا رحيما} .
(14/4)
فهذا الكلام المتكلم به عليم بكل شىء محيط بكل شىء فى هذا الكلام تبيان للكل شىء {لكن الله يشهد بما أنزل أليك أنزله بعلمه واللائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا} ، يقول الله جل وعلا فى أول سورة غافر: {حم. تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم} فهذا الكتاب صاحبه علم تام محيط بكل شىء، فهو كلام العليم بكل شىء سبحانه وتعالى، العلم بالرحمن جل جلاله، هو الثياب فى جهلانه يتغمغم. لاللـ وللعلوم وإنما يسعى ليعلم أنه لايعلم سبحان ربى العظيم، هذا تشريع العليم، هذا تشريع الخبير وما عداه تشريع الجاهلين الذين أخبر الله عن شأنهم {وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً} ، فهذا الأمر الأول الذى الذى صاحب القرآن العظيم.
والأمر الثانى: صاحب القرآن العظيم حكمته التامة، فذلك العلم الكامل التام وضع فى مواضعه، والحكمة هى وضع الأمور فى مواضعها يقول ربنا جل وعلا فى أول سورة هود: {الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير} ، {كتاب أحكمت آياته} فلا تناقض ولا إضطراب ولاخلل فيها ولا فيما بينها {أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير} ، ويقول الله جل وعلا فى أول سورة لقمان: {الم. تلك آيات الكتاب الحكيم. هدى ورحمة للمحسنين} ، {تلك آيات الكتاب الحكيم} ، الحكيم: المحكم المتقن فى لفظه وفى معناه وضعوا الأمور فى مواضعها {ومن أحسن من الله قولا لقوم يقنون} ، هو الحكيم لأنه إشتمل على الحكمة، هو الحكيم: لأنه يحكم بين الناس ويبين الأمور على وجه التمام والسداد، {تلك آيات الكتاب الحكيم} .
(14/5)
والأمر الثالث: الذى صاحب القرآن المجيد: فيه رحمة واسعة للعباد، فهذا تشريع من هو بعباده رؤوف رحيم وهو أرحم بهم من الوالدة بولدها، وهو أرحم بهم من أنفسهم {ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون} كما قال الله جل وعلا فى سورة الأعراف: {ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون} ، وقال الله جل وعلا فى سورة العنكبوت: {وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين. أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون} .
فهذا القرآن من رحمات الله بهذه الأمة بل هو من أعظم رحمة الله جل وعلا فى هذه الأمة إذا أخذت به وإنتفعت به. يقول الله لنبينا عليه الصلاة والسلام فى سورة القصص: {وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك فلا تكونن ظهيرا للكافرين} فقد ذكر أئمتنا عليهم رحمه الله فى كتب التوحيد أن نعم الله على كثرتها تنقسم الى قسمين إثنين لا ثالث لهما.
القسم الأول: نعمة خلق وإيجاد {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون، وسخر لكم ما فى السماوات وما فى الأرض جميعا منه إن فى ذلك لآيات لقوم يتفكرون} هذه النعمة الأولى، نعمة الخلق والإيجاد.
القسم الثانى: النعمة الثانية: نعمة الهداية والإرشاد، ونعمة الله على عباده بهدايتهم وإرشادهم للتى هى أقوم، أعظم بكثير من نعمته عليهم من خلقهم وإيجادهم، لأن غاية ما يقدر عند عدم النعمة الأولى أن الخلق فى العدم، وإذا كانوا فى العدم فلا حساب لاثواب ولا عقاب، وأما إذا لم تحصل النعمة الثانية فالخلق بعد وجودهم فسيتخبطون ويشقون ويضلون {فمن إتبع هداى فلا يضل ولا يشقى، ومن أرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا وتحشره يوم القيامة أعمى} .
(14/6)
ولذلك قال الإمام السخاوى عليه رحمه الله: ومن عظيم منة السلام ولطفه بسائر الأنام أن أرشد الخلق الى الوصول مبينا للحق بالرسول عليه الصلاة والسلام.
فهذا من أعظم مننه ومن أكمل وأتم إحسانه وفضله {لقد منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفى ضلال مبين} . ومن عظيم منة السلام ولطفه بسائر الأنام أن أرشد الخلق الى الوصول ميناً للحق بالرسول عليه الصلاة والسلام.
الأمر الرابع: الذى صاحب كلام الله جل وعلا، أن هذا القرآن هو كلام الله، وهذا التشريع مستمد من الله أى من خالق هذا الإنسان، ومن خالق الكون بأجمعه وأسره، وفى ذلك فائدتان عظيمتان.
أولاً: إذا كان هذا القرآن هو كلام الله ومستمد ممن خلق الإنسان فهذا العلاج وهذا النور هو الذى يسعد هذا الإنسان {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} .
ثانياً: والأمر الثانى يهون على الإنسان أن يأخذ بتشريع الله جل وعلا، وأن يلتزم بكتاب الله جل وعلا وبهديه ونوره، فهو كلام ربه وسيده فلا غضاضة على الإنسان أن يتملل لمولاه ولخالقه، إنما الغضاضة كل الغضاضة والعيب كل العيب أن تأخذ البشرية بشرع البشر، وإنهم ينفسمون عند ذلك الى قسمين، الى أرباب وإلى عبيد، الى عبيد يعبدون الأرباب من البشر {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إله واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} .
(14/7)
فإذا كان هذا القرآن مستمداً من الله جل وعلا وهو كلامه وهو النافع لهذا المخلوق فالله يعلم ما يصلح هذا المخلوق {إن هذا القرآن يهدى للتى هى أقوم} ، ثم بعد ذلك لا غضاضة ولا حرج إذا أخذ المخلوق بشرع خالقه وبهدى ربه وتذلل لمولاه جل وعلا ففى ذلك عز له وسعادة، إنما المنقصة تكون فى حق البشر عندما يعبد بعضهم بعضا ويأله بعضهم بعضا، ولذلك أول ما نزل على نبينا عليه الصلاة والسلام صدر سورة العلق يشير الله جل وعلا الى هذا فى أول آية منها حيث يقول {إقرأ باسم ربك} فأنت ستتذلل وتستعين بالله وتتذلل لله، فلا حرج عليك والله سيعينك ويهديك الى الصراط المستقيم {إقرأ بإسم ربك الذى خلق. خلق الإنسان من علق. إقرأ وربك الأكرم الذى علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم} فيقول ربنا فى سورة فصلت: {إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز. لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد} .
وهذا القرآن من ربنا الرحمن سبحانه وتعالى، وأخبرنا الله جل وعلا أنه يستحيل صدور هذا من غير الله جل وعلا فقال فى سورة يونس: {وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين} .
وأخبرنا الله جل وعلا أننا إذا إختلفنا فى شىء فينبغى أن نرد هذا الأمر إليه لنعلم الهدى فيه فقال الله جل وعلا فى سورة الشورى: {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب. فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} هذه صفات المشرع وهذه صفات الحاكم، وهذه صفات ربنا جل وعلا الذى أنزل هذا القرآن، علم تام، حكمة تامة فى ذلك رحمة للعباد، هذا القرآن مستمد من خالقنا فهو كلامه سبحانه وتعالى، عباد الله: وقد ترتب على هذه الأمور الأربعة أربعة أمور.
(14/8)
أولها: لما تقدم من الأمور الأربعة كان فى كتاب الله جل وعلا الهدى والنور وإرشاد العباد الى أقوم الأمور، كيف لا وهو منزل من عند العليم بكل شىء، تام الحكمة رحيم بعباده، هو ربهم جل وعلا يعلم ما يصلحهم ففى هذا القرآن الهدى والنور وإرشاد العباد لأقوم الأمور {إن هذا القرآن يهدى للتى هى أقوم} هو لعقولنا كالشمس لأعيننا، وإذا كانت الأعين لا ترى بنور حسى، ولا تهتدى بنور الشمس، فهكذا عقول البشرية لاتهتدى ولا تصل للرشد والصواب إلا بنور العزيز الوهاب، بهذا القرآن العظيم.
وكان هذا القرآن لحياتنا كالماء للسمك فكما أن السمك لا يحيى إلا فى الماء، فهذه البشرية لا تسعد فى هذه الحياة بدون كلام رب الأرض والسماء، يقول الله جل وعلا مخبراً عن هذا فى أول سورة البقرة: {الم. ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين} ـــ وفيه نور وفيه إضاء، هدى للمتقين، ويقول الله جل وعلا فى سورة النساء: {يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا. فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما} .
(14/9)
ولا يشكلن عليك أخى المسلم أن الله جل وعلا خصص هداية القرآن بالمؤمنين المتقين، لا يشكلن عليك هذا على الإطلاق فهداية القرآن هداية عامة تامة كاملة جليلة شاملة، لكن لما لم ينتفع بها إلا المؤمنون المهتدون قصرت الهداية عليهم {ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين} ، وأما هو نور لكل من يريد أن يهتدى { ... قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا} وخصت هدايته هناك بالمتقين لأجل إنتفاعهم وتجسيد هذه الهداية {قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لايؤمنون فى آذانهم وقر وهو عليهم عمى أوائك ينادون من مكان بعيد، وصدق الله إذ يقول {إن هذا القرآن يهدى للتى هى أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيراً. وأما الذين لايؤمنون بالأخرة أعتدنا لهم عذاباً أليما} إذاً ترتب على الأمور الأربعة المتقدمة أنه حصل فى هذا القرآن الهدى والنور وإرشاد العباد لأقوم الأمور.
الأمر الثانى: الذى ترتب على الأمور الأربعة المتقدمة لهذا القرآن خير، ومن أقبل عليه حصل عزالدنيا وسعادة الأخرة، وحصل حياة هنيئة مطمئنة فى الدنيا، وما لهم فى الأخرة من نعيم أعظم وأعظم.
هذا كتاب فيه خير وبركة يقول الله جل وعلا فى سورة الأنعام: {وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون، وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون. وهذا كتاب أنزلناه مبارك......} .
وهكذا يقول الله جل وعلا فى سورة الأنبياء: {ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين. الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون. وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون} .
(14/10)
ففى المكانين المتقدمين فى سورة الأنعام وفى سورة الأنبياء، قال الله بين الكتابين العظيمين، بين التوراة وبين القرآن، كما يقرن الله كثيراً بين النبيين المباركين الصالحين بين نبيه موسى كليمه ومناجيه وبين نبينا محمد عليه وعلى جميع الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه، وذلك لقوة الشبه بين هذين الكتابين وبين هذين النبيين، {وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون، وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها..} .
وهكذا فى سورة الأنبياء: {ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين. الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون. وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون} فنبى الله موسى عل نبينا وعليه صلوات الله وسلامه قال: لأعتى أهل الأرض وأطغاهم وأشدهم بغياً وهو فرعون وصبر وصابر وتحمل وجاهد فى الله حق جهاده، وهكذا نبينا عليه الصلاة والسلام حاله مع عتاة قريش كذلك، وهكذا الكتاب الذى نزل على نبى الله موسى على نبيا وعليه صلوات الله وسلامه وهو التوراة فيه تبيان كل شىء {يحكم بالتوراة النبيون الذين أسلموا والذين هادوا والربانيون والأحبار بما إستحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء} .، وهكذا القرآن أنزله الله جل وعلا فيه هدى ونور وتبيان لكل شىء، فلقوة الشبه بين هذين النبيين وبين هذين الكتابين يقرن الله بينهما كثيراً {وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون} .
(14/11)
يقول الإمام الرازى عليه رحمه الله فى تفسيره عند الآية الأولى المتقدمة فى سورة الأنعام فى الجزء الثالث عشر فى صفحة 80، يقول: جرت سنة الله جل وعلا بين عباده إن من إشتغل بهذا القرآن وخدمه حصل عز الدنيا وسعادة الأخرة ".... ثم يخبرنا هو عن نفسه فيقول: ولقد إشتغلت بكثير من أنواع العلوم العقلية والنقلية، فما حصل لى بسبب شىء من العلوم من السعادات الدنيوية كما حصل لى بسبب خدمتى لهذا القرآن ...
وأنا أقول معلقاً على كلامه: والله إن الرازى غفر الله له ورحمه لو لم يعد الى رشده ولم يرجع الى كتاب ربه لما كان عداده عندنا إلا أنه من الفلاسفة الضآلين، لكنه بعد أن رجع عن ذلك وأقبل على كتاب الله وكلام الله ما حصلت له الشهرة إلا لخدمته القرآن وبتفسيره كلام ذى الجلال والإكرام.
وهو الذى يقول عن نفسه فى آخر كتاب ألفه فى أقسام اللذات: لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفى عليلاً ولا تروى غليلاً، ولقد رأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ فى الإثبات {الرحمن على العرش استوى} {إليه يصعد الكلم الطيب} ، وأقرأ فى المثل {ليس كمثله شىء، هل تعلم له سمياً} ..، ومن جرب مثل تجربتى عرف مثل معرفتى.
وقال الإمام الألوسى عليه رحمه الله فى المثال الأول عند قول الله فى سورة الأنعام {وهذا كتاب أنزلنا مبارك....} من تفسيره فى روح المعانى فى الجزء السابع فى صفحة 220 بعد أن نقل كلام الإمام الرازى يقول: وقد شاهدنا ثمرة خدمتنا لكلام ربنا فى هذه الحياة، ونسأل الله ألا يحرمنا سعادة الأخرة،،
والإمام الرازى توفى سنة 606 للهجرة والإمام الألوسى توفى سنة 1270 للهجرة عليهم جميعاً رحمه الله.،،
إذاً فى هذا الكتاب خير وبركة ومن أخذ به حصل عز الدنيا وسعادة الآخرة،
(14/12)
والأمر الثالث: مترتب على الأمور الأربعة المتقدمة: أن هذا الكتاب هو أحسن الحديث وهو أصدق الحديث فهو منزل من العليم الحكيم الرحيم من ربنا ورب العالمين، فكلامه حق وصدق كما قال جل وعلا فى سورة الزمر: {أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين. الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد} .
والأمر الرابع: التى ترتب على الأمور الأربعة المتقدمة: أن هذا القرآن هو حياة الهالم وهو روح الحياة فبدونه لايحيى الناس وبدونه لاتستقر الحياة، كما قال جل وعلا فى آخر سورة الشورى: {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم. صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور} ، وقال الله جل وعلا فى سورة الأنعام: {أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون} .
فترتب على الأمور على الأمور الأربعة الأولى أن هذا القرآن منزل من العليم الحكيم الرحيم من ربنا رب العالمين وترتب على هذا أن فيه الهدى والنور فيه الخير والبركة، هو أحسن الحديث هو حياة العالم وروح حياتهم، وهذه الأمور الثمانية أيضاً ترتب عليها أمران إثنان فمجموع الأمور عشرة توجد فى كلام الله جل وعلا لايوجد واحد منها فى كلام غيره.
الأمر الأول: مكن الأمرين الأخرين أن كلام الله جل وعلا لاشك فيه ولا تناقض، ولا تضارب فيه {ذلك الكتاب لاريب فيه هدى للمتقين} ، ويقول الله جل وعلا فى سورة النساء: {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} .
(14/13)
الأمر الثانى: وهو عاشر الأمور أن هذا الكتاب هو المهيمن الرقيب المطلع الشاهد على ما عداه، مما تقدمه ومما يأتى بعده فهو الذى يقر ما فى غيره من حق، ويبطل ما فيها من باطل، وهو السند الرسمى وعليه المعتمد وعليه الإعتماد عند المؤمنين فى بيان الحق والباطل وتقييم الأفكار وتقييم الكتب وتقييم ما كان وما يكون، يقول الله جل وعلا مخبرا عن هذا فى سورة المائدة: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه.......} ، ومهيمنا عليه مطلعاً رقيباً شاهداً يقر ما فيها من حق ويبطل ما فيها من باطل {.... ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون} ، ويقول الله جل وعلا فى سورة المائدة: {يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين.يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم} .
ويقول الله جل وعلا فى سورة النمل: {إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون. وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين. إن ربك يقضي بينهم بحكمه وهو العزيز العليم} ، هذه الأمور العشرة التى صاحبت كلام ربنا جل وعلا وكتاب ربنا جل وعلا الذى سنتدارس تفسيره بحول الله وقوته.
(14/14)
إخوتى الكرام: هذه المنزلة لكلام الله بأى شىء قابلها سلفنا، وكيف حصل أثرها فى نفوس سلفنا فإنتقلوا من الجاهلية الى الهدى والنور، ينبغى أن نعرف حال سلفنا لنسلك مسلكهم، وكما قلت فى بداية الكلام: نحن فى جاهلية لانقل على الجاهلية التى كان عليها الناس قبل بعثة نبينا عليه الصلاة والسلام، وإذا كانت تلك الجاهلية زالت بهذا القرآن فهذا القرآن الذى أنزله الله على نبينا عليه الصلاة والسلام هو هو لم يتبدل فيه حرف واحد {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} لكن ينبغى أن نعرف موقف سلفنا الكرام الطيبين نحو كلام رب العالمين، لنقف نحو كلام الله كما وقفوا وليحصل فينا الأثر الذى حصل فيهم.
إخوتى الكرم: وقف سلفنا الكرام نحو تشريع الرحمن ونحو القرآن الذى أكرمهم به ذو الجلال والإكرام موقفا.
الموقف الأول: عولوا على كتاب الله جل وعلا واستقوا من ذلك النبع الصافى دون أن ينسخوه أو يحدقوه بشىء، فكانوا إليه يريدون وعنه يسطرون ويهتدون ببيان نبينا الميمون عليه الصلاة والسلام {وأنزلنا إليك الذطر لتبين للناس ما نزل إليهم من ربهم ولعلهم يتذكرون} ، فإذاً يريدون الى القرآن ويسطرون عنه ويأخذون الحكم منه، أفكارهم عقائدهم مشاعرهم، تصورهم عن الحياة وعما بعد الحياة نظام حياتهم يدخل ويستمد من كلام خالقهم العليم الحكيم الرحيم الذى هو ربهم ورب كل شىء سبحانه وتعالى، فإذا أخذوا به سيحصل لهم الخير والبركة وعز الدنيا وسعادة الأخرة، فعولوا على هذا القرآن كانوا يتلونه كما سنذكر هذا ونتدارسه إن شاء الله وكانوا يستمعونه وكانوا يتدارسونه ويفهمونه وكانوا يعملون به، تلاء وسماع يحرك لسانه به فيلهج به ولا يفتر، يسمع كلام الله ويعرض عن سماع كلام غيره، يتدارسون فيما بينهم إذا إجتمعوا كلام الله يعملون به بعد ذلك.
(14/15)
أول هذه الأمور: تلاوة كلام العزيز الغفور هذا مطلوب وأنت إذا أن هذا القرآن كلام الرحمن جل وعلا أنزله بعلمه وفيه حكمته وفيه رحمته وهو من ربك، فما ينبغى أن يفتر لسانك منه ووالله لو طهرت قلوبنا لما شبعت من كلام ربنا، وهذا أمر ضرورى إخوتى الكرام أن يعيه الناس لاسيما فى هذه الأيام لعل بعض المسلمين الذين يعدون من الأمة الإسلامية وأستغفر الله من قولى لعل أكثر ولعل الكبرة الكافرة من المسلمين فى هذه الأيام شغلهم قراءة الأخبار الكاذبة التى تنشر ها وسائل الكذب والزور وسائل الإعلام وسائل الريب والسفور، والأمة الإسلامية هذا حال أكثرها الجرائد الإذاعات أجهزة بعد ذلك التلفاز أخذت من الناس وقتا كثيرا بل لعل جلّ أوقاتهم سرقت فدى هذا، يقرأ فى اليوم الجريدة والجريدتين، وينظر فى المجلة والمجلتين ولعله يمر عليه عام كامل وما ختم فيه كلام الله جل وعلا، هذا حال الأمة الإسلامية ولم يكن هذا حال السلف، لم يكن هذا خير البرية رسول الله جل وعلا، آمراً المسلمين الذين وحدوا رب العالمين أن يتلوا كتابه وأن يقرأوه وأن يتدارسوه {أتل ما أوحى إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم مكا تصنعون} ، ويقول الله جل وعلا فى آخر سورة النمل: {إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين، وأن أتلو القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين} ، ويقول الله جل وعلا فى سورة فاطر: {إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور. ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور} .
(14/16)
وهذا القرآن ينبغى أن يتلى وينبغى أن يقرأ، وينبغى أن يتحرك اللسان به لتشتغل جميع الأعضاء به، كلام الله جل وعلا فضله على سائر الكلام كفضل الله على سائر المخلوقات، عكف الناس على غيره فى هذه الأيام كالجاهلية التى كانت ـ، وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم يخص الصحابة والمسلمين بعده على تلاوة القرآن وقرأته ومدارسته وسماعه وفهمه والعمل به.
وفى سنن الترمذى بسند صحيح، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: سمعت النبى صلى الله عليه وسلم يقول: [من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف] سبحان الله..! نقرأ الم نحصل الثلاثين حسنة، وإذا قال بسم الله الرحمن الرحيم، يحصل مائة وتسعين حسنة، طيب لو قرأ المجلة من أولها لأخرها هو بين أمرين: إما أن يحصل لعانات وهذا هو الواقع لما يراه من صور وأمور مكذوبة، إما أن يحصل لعانات بعدد حروفها، وإذا سلم من اللعانات فكلام عارض صفر على الشمال {أتستبدلون الذى هو أدنى بالذى هو خير} .
ترى حال ألأمة الإسلامية فى هذا الوقت أفضل من بنى إسرائيل، إذا كان بنوا إسرائيل عيرهم ربنا الجليل بأنهم طلبوا البصل والثوم بدلاً من المنّ والسلوى، نحن نطلب الجرائد والمجلات بدل كلام رب الأرض والسماوات، هذا أمر شنيع فظيع ...
إخوتى الكرام: هذا الأمر ينبغى أن نعيه، لو كانت الأمة تعظم كلام الله لما وجد من يبيع المجلات والجرائد على قارعات الطريق، لما وجد، لكنهم لما علموا أن الأمة مهمسة، وأن الأمة تائهة ضائعة، وأنها إستبدلت الذى هو أرذل بالذى هو أطيب وجد من يبيع هذه المجلات التى إن سلمت من اللعانات فلا تسلم من الكلام الفجر الذى لا وزن له ولا إعتبار.
(14/17)
كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما فى الإستعاب لإبن عبد البر عليه رحمه الله، والأثر أورده الحافظ بن عبد البر فى كتاب الإستعاب، وأورده الإمام القرطبى فى تفسيره أنظروه فى كتاب الإستعاب فى الجزء الثالث الصفحة 325، وفى كتاب القرطبى فى الجزء الأول صفحة 103.
كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه الى أبى موسى الأشعرى عامله على بلاد البصرة، كان أميراً على البصر من قبل عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أجمعين، وقال " سل من قبلك من الشعراء هل يقولون الشعر، فجمعهم أبو موسى الأشعرى وفيهم لبيد الذى هو أشعر الشعراء وأعظمهم شكما، فقال: هل تقولون الشعر؟ فسكتوا، فقال: يا لبيد هل تقول الشعر؟ قال: كيف أقول شعراً وقد أكرمنى الله بسورة البقرة، عندنا كلام يحطم ما دونه، عندنا كلام الله له حلاوة وعليه طلاوة وأعلاه مثمر وأسفله مغدق، نقول الشعر الذى أعزبه أكذبه، ما كنت لأقول الشعر بعد أن أكرمنى الله بسورة البقرة، ولبيد عندما ذاق طعم الإسلام وهو أشعر الشعراء وأفحم الشعراء ما قال بعد أن أسلم إلا بيتاً واحداً من الشعر.
الحمد لله إذ لم يأتنى أجلى ... حتى إكتسيت من الإسلام ثوباً
ويروى أنه قال بيتاً أخر:
ما عاتب المرء الكريم كنفسه ... والمرء يصلحه القليل الصالح
إذاً هذه القضية ينبغى أن نعيها، كلام الله ينبغى أن يتلى بيوتنا ينبغى أن يفشوا فيها هذا الأمر، الرجل إذا صلى الفجر يجلس مع زوجه مع أولاده يقرأون القرآن كا واحد يقرأ ربع أو نصف حزب، على حسب المتيسر بحيث لا يمر الشهر إلا وقد ختم أهل البيت كلام الله ختمة جماعية يتدارسونها بينهم، وهذا على أقل تقدير، وهذا الذى كان حاصلاً فى سلفنا الطيبين، الذين نقلوا أنفسهم من الجاهلية الضآلة الى الهدى الى نور الله الى الإسلام، فلا بد من أن نعى هذا الأمر، وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم يوضح لهذه الأمة حال الذين يقرأون كلام الله بأمثلة حسية يدركها كل أحد لنكون على بصيرة من أمرنا.
(14/18)
ففى الصحيحين وغيرهما من حديث أبى موسى الأشعرى رضي الله عنه قال: سمعت النبى صلى الله عليه وسلم يقول: [مثل المؤمن الذى يقرأ القرآن كمثل الأترجة طعمها طيب وريحها طيب، (هو طيب القلب لكنه إزداد طيباً عندما طيب هذا الفم وهذه الجارحة وجوارحه بتلاوة كلام الله، كمثل الأترجة: فاكهة تشبه التفاح رائحتها تفوح وطعمها حلو) ومثل المؤمن الذى لا يقرأ القرآن، (لكن أيضاً لا يقرأ الجرائد ولا يستمع الى الإذاعات ولا ينظر الى التلفاز، إنما هو يعمل الصالحات دون قرأة لكلام رب الأرض والسماوات) كمثل التمرة طعمها طيب لكن لا ريحها، (وإذا نظر فى المجلات والجرائد كمثل التمرة إذا صببت عليها خلاً، أو وضعت لها ملحاً فما عادت تؤكل، تحتاج بعد ذلك الى غسل وتطهير) كمثل التمرة لاريح لها وطعمها طيب، ومثل المنافق الذى يقرأ القرآن (منافق لكنه طيب فمه بكلام الله) كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر، ومثل المنافق الذى لا يقرأ كمثل الحنظل لاريح لها وطعمها مر] فالمؤمن الذى يقرأ القرآن كالأترجة طمعها طيب وريحها طيب ...
أتدرى أخى الكريم: إذا قرأت القرآن من يستع لك؟ يستع ربنا العظيم سبحانه وتعالى، إذا قرأنا القرآن يتمع لنا؟ نعم، والله إن الله يتمع لقارىء القرآن عندما يتلوا كما يستمع العاشق لقينته عندما تغنى، ولكن شتان شتان ما بين السماعين، فألا تحب أن يستمع لك ربنا جل وعلا؟.
(14/19)
ثبت فى سنن ابن ماجة وصحيح ابن حبان ومستدرك الحاكم بسند صحيح عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: [لله أشد أذناً الى قارىء القرآن من صاحب القينة الى قينتها] لله أشد أذناً أى إستماعاً وإصغاءا الى قارىء القرآن من صاحب القينة الى قينتها، هذا عندما يستمع لمغنيته يفرح، وهكذا ربنا جل وعلا يفرح بتلاوتك ويثيبك ويستمع إليك، ألا تحب أن يستمع الله لك، وقد حزرنا نبينا صلى الله عليه وسلم من عدم تلاوة القرآن ومن عدم حفظه فى الجنان، وأخبرنا أن الإنسان إذا خلا من ذلك فقلبه خرب يعشعش فيه الشيطان.
ففى سنن الترمذى ومستدرك الحاكم بسند صحيح، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول [إن القلب الذى ليس فيه شىء من القرآن كالبيت الخرب] ، قلب خربان فيعشعش فيه الشيطان بعد ذلك ويزين له كل سوء.
إخوتى الكرام: هذه النفوس جوالة إما أن تجول حول العرش، وإما أن تجول حول الحش حول ــ، ولا يخلو الإنسان من هذا، والنفس إن لم تشغلها بحق شغلتك بباطل، إن لم تقع فيها كلام الله سيجول الشيطان فيها ويصول، [إن القلب الذى ليس فيه شىء من القرآن كالبيت الخرب] .
وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم يحث الصحابة على حفظ القرآن وتلاوة القرآن ويضرب لهم أمثلة حسية لتحقيق ما يريده، ويبين لهم أن حفظ الآيات أعظم وأحسن وأحق من تحصيل عرض الدنيا ومتاعها.
(14/20)
ففى صحيح مسلم من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم ونحن فى السوق، فقال أيكم يحب أن يغدوا كل يوم الى بطحان أو الى العقيق (والحديث كما قلت إخوتى الكرام فى صحيح مسلم) وهما واديان (بطحان والعقيق من أودية المدينة المنورة) أيكم يحب أن يغدوا وأن يذهب فى الصباح كل يوم الى بطحان أوالى العقيق فيأتى بناقتين كوماوين (أى سنامهما مشرق ومرتفع وهذا من علامات الجودة فى الإبل ومما يرغب فيه الناس، بناقتين كوماوين من غير إثم ولا قطيعة رحم، قالوا: كلنا يحب ذلك يا رسول الله عليه الصلاة والسلام (يذهب فى الصباح الى أحد هذين الواديين فيأتى بناقتين كوماوين دون أن يعصى الله وأن يرتكب إثما، كلنا يحب ذلك) ، قال: والذى نفس محمد بيده عليه الصلاة والسلام لأ يغدوا أحدكم الى المسجد فيتعلم آياتين خير له من ناقتين وثلاث خير من ثلاث ومن أعدادهن من الأبل (ومائة خير من مائة وهكذا) ، هذا كلام الله جل وعلا ينبغى أن نتلوه وأن نقرأه وأن نطيب فمنا به، وقد حثنا رسول صلى الله عليه وسلم على مدارسة هذا القرآن مع بعصنا وعلى تدارسه وعلى تلاوته بحيث يقرأ الواحد وينصت الأخرون ويتدارسون، وأخبرنا أن المسلمين إذا فعلوا ذلك حصلوا أجراً عظيماً.
(14/21)
ففى صحيح مسلم وغيره من حديث ابى هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: [من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه فى الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله، والله فى عون العبد ما دام العبد فى عون أخيه، ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً الى الجنة، وما إجتمع قوم فى بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة (أى الطمأنينة راحة القلب، وليس المراد منها الملائكة لأن الملائكة سيأتى ذكرها فى نهاية الحديث وتنزلها عليه، نزلت السكينة {هوالذى أنزل السكينة فى قلوب المؤمنين} قلوبهم تطمئن، صدورهم ترتاح نفوسهم تتنور عقولهم تزكو) إلانزلت عليه السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فى من عنده، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به أسفه] .
ولذلك كان الصحابة إذا إجتمعوا لاـ ـ يجعجع ـ ولكن هذا ينظرون إليه وهم صمود {ما هذه التماثيل التى أنتم لها عاكفون} ، إنما كانوا إذا إجتمعوا يقول بعضهم لبعض ذكرنا ربنا، فيقرأوا القرآن كانوا إذا إجتمعوا يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأبى موسى الأشعرى، وأحياناً لأبى بن كعب ذكرنا ربنا فيقرأ القرآن وهم يصغون ويستمعون لأنهم يحصلون هذا الأجر العظيم تنزل عليهم السكينة تغشاهم الرحمة تحفهم الملائكة، يذكرهم الله فيمن عنده.
إخوتى الكرام: وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم وهوقدوتنا وإسوتنا وإمامنا يفعل هذا ويحثنا على فعله، فكان يطلب من الأمة أن تقرأ عليه القرآن ليستمع، لنطلب أيضاً نحن قرأة القرآن ونستمع لنحصل الأجر.
(14/22)
ثبت فى الصحيحين وغيرهما من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: قال لى النبى صلى الله عليه وسلم إقرأ على القرآن، قلت: أأقرأ عليك وعليك أنزل، قال: إنى أحب أن أسمعه من غيرى، يقول: فقرأت عليه سورة النساء حتى وصلت الى قول الله {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا} فقال: حسبك، يقول: فالتفت إليه فإذا عيناه تزرفان، عليه الصلاة والسلام وإذا قام الإنسان بهذا فلكلام الله، وشغل وقته به فهذا حقيقة ينبغى أن يغبط وينبغى أن يتمنى المسلمون حالة كحالته.
ثبت فى الصحيحين وغيرهما من حديث ابى هريرة رضي الله عنه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: [لا حسد إلا فى إثنتين، رجل أتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وأطراف النهار، ورجل أتاه الله مالاً فهو ينفقه فى حقه آناء الليل وأطراف النهار] .
وفى بعض روايات الحديث [ورجل أتاه الله الحكمة، أى القرآن، فهو حكمة {تلك آيات الكتاب الحكيم} ، فأتاه الله القرآن يقوم فيه آناء الليل وأطراف النهار، هذا نتمنى أن يحصل لنا كما له وينبغى أن ننافسه فى ذلك [لا حسد إلا فى إثنتين] لما يحصل هذا من الأجر العظيم.
وفى الجملة إخوتى الكرام: إن قارىء القرآن ومتعلم القرآن هو أفضل بنى الإنسان عند ربنا الرحمن كما شهد بذلك نبينا عليه الصلاة والسلام.،
ففى صحيح البخارى عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: [خيركم من تعلم القرآن وعلمه] ، والحديث رواه بن ماجة فى باب: إن أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه.، فخير هذه الأمة وأفضلها هذه الأمة من عكف على كتاب الله جل وعلا، فتلاه ودرسه، وتعلمه وعلمه.
(14/23)
كان أبو عبد الرحمن السلمى الذى تلقى القرآن عن عمر وعثمان وعن على وابن مسعود رضي الله عنهم أجمعين، وهو من أئمة التابعين الكبار ولد فى حياة النبى عليه الصلاة والسلام ــ، يقول أبو عبد الرحمن: هذا الذى أجلسنى هذا المجلس أربعين سنة، أى أنه يقرىء الناس القرآن ويعلمهم كلام ذى الجلال والإكرام [خيركم من تعلم القرآن وعلمه] ، وقرأ على ابى عبد الرحمن السلمى الذى توفى سنة 74 الحسن والحسين رضي الله عنهما.
هذا الذى أجلسنى هذا المجلس أربعين سنة [خيركم من تعلم القرآن وعلمه] ، ولذلك أمير الجيش ينبغى أن يكون أقرأ أفراد الجيش للقرآن، هذا فى دولة الإسلام، وأما أمير الجيش لا يتقن قرأة الفاتحة فتباً وشقاء وهلاكاً لذلك الجيش الذى يقوده هذا الضآل، أمير لا يتقن قرأة الفاتحة، أمير الجيش هو أقرأ أفراد الجيش للقرآن وأعمهم بكلام الرحمن.
ثبت فى سنن الترمذى وابن ماجة ومستدرك الحاكم بسند صحيح عن ابى هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يرسل بعثاً فى سرية ليقتلوا فى سبيل الله، فا ستقرأ أفراد البعث ماذا يحفظون من القرآن، حتى أتى على أحثهم سناً، فقال: ماذا تحفظ، قال: أحفظ سورة البقرة وكذا وكذا، قال: أنت تحفظ سورة البقرة، قال: نعم، قال: اذهب فأنت أميرهم، أمير أقرأ أفراد الجيش للقرآن،، إمام الصلاة اقرأ المصلين للقرآن.
كما ثبت فى صحيح مسلم عن ابى مسعود الأنصارى رضي الله عنه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول [يأم القوم أقرأهم لكتاب الله] .
مجلس الشورى ينبغى أن يكون أكثره من القراء من حفظة كلام الله، وممن يتلون كتاب الله.
(14/24)
كما ثبت فى صحيح البخارى عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: كان أصحاب مجلس الشورى عند عمر، أصحاب مجلس الشورى القرآء سواء كانوا شيوخاً أو شبانا، كل قارىء حفظ القرآن تلاه ودرسه وفهمه وعلمه كان عضواً فى مجلس الشورى عند الخليفة وعند أمير المؤمنين، أصحاب مجلس الشورى قرآء القرآن، إذا كثر الموتى والقتلى وأردنا أن ندفن ـ واحد للقبر، نقدم فى الدفن من يحفظ القرآن أكثر.، كما ثبت هذا فى صحيح البخارى عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، عندما قتل فى موقعة أحد سبعون من الصحابة دفن النبى عليه الصلاة والسلام فى كل قبر اثنين و، ـ الصحابة، فكان إذا أراد أن يقدم واحد منهما فى اللحد وفى القبر يقول: أيهما أكثر أخذاً للقرآن، فإذا أشير فى ذلك الى أحدهما قدمه من باب الإكرام لا أكثر.
كان سلفنا يجعل القرآن مهراً للزواج، كما ثبت فى صحيح البخارى وغيره أنكحتكها بما معك من القرآن.....
هذا كلام الله جل وعلا كان له هذه المنزلة عند السلف الصالح، والسبب فى هذا، وفى كون قارىء القرآن له هذه المنزلة، أن قارىء القرآن عندما يتلوا كلام الله ويفهم كلام الله، ويعلم كلام الله ينكسر الى الله ويصبح من أهله.
كما ثبت فى سنن ابن ماجة ومسند الإمام أحمد وسنن الدارمى بسند حسن، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول [إن لله أهلين منّا إن لله أهلين من الناس، لله أهل فينا، ولله أهل منا، قالوا: من أهل الله فينا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أهل القرآن هم أهل الله وخاصته.
وقد ضمن ربنا جل وعلا أن من صرف وقته فى قرأة القرآن وفى حفظه ومدارسته وفهمه، أن يعطيه أفضل ما يعطى السائل، وان يتولى أموره من حيث لا يحتسب.
(14/25)
كما ثبت فى سنن الترمذى والدارمى بسند حسن بشواهده، والحديث قد حسنه الإمام الترمذى عن ابى سعيد الخدرى رضي الله عنه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تعالى [من شغله القرآن وذكرى عن مسألتى أعطيته أفضل ما أعطى السائلين] ..، فإذا كان ذاك يقول: يارب أرزقنى، ويرزقه الله، وأنت ما سألت الرزق والعافية وتيسير الأمور والنجاح، إنشغلت بكلام الله، فالله سيعطيك أفضل ما يعطى السائل [من شغله القرآن وذكرى عن مسألتى أعطيته أفضل ما أعطى السائلين] ، هذا هو الخير الذى يحصله تالى القرآن وقارىء القرآن فى هذه الحياة، وأما الإماتة فحدث ولاحرج، لأنه سيأتى الى ربه وهو من أهله فسيكرمه إكرام لا يخطر ببال.
وثبت فى صحيح مسلم عن ابى أمامة الدارمى رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: [اقرأوا القرآن فإنه يأتى يوم القيامة شفيعا لأصحابه] .
وثبت فى مسند الإمام أحمد وسنن ابى داود والترمذى بسند صحيح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: [يقال لقارىء القرآن يوم القيامة اقرأ وارقى ورتل كما كنت ترتل فى الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرأها] .
أثر عن سيدتنا عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: عدد درج الجنة كعدد آي القرآن، فكلما حفظ الإنسان آية رقى درجة تلاها حفظها فهمها، قام بحدودها يرقى درجة عند الله جل وعلا [يقال لقارىء القرآن يوم القيامة اقرأ وارقى ورتل كما كنت ترتل فى الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرأها] .
(14/26)
إخوتى الكرام: الحديث ما زال له بقيه فى هذه المقدمة، وما أريد أن يطول المجلس عن الساعة والنصف ـــ سأكمل هذه المقدمة، الأمر ألأول فيها منزلة كلم اله وأثره فى عباد الله، وأتعرض إذا ـ إن شاء الله ـ الطريقة القويمة لتفسير القرآن الكريم فى الدرس القادم إن أحيانا الله، ونسأله إن توفانا أن يتوفانا على الإيمان، وإن أمد فى حياتنا أن يحفظنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يكون راضيا عنا إنه أرحم الراحمين سيأتى التفصيل على هذا النمط ـ إن شاء الله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وسلم تسليما كثيرا، والحمد لله رب العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(14/27)
مقدمة التفسير (2)
(دروس تفسير)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة التفسير 2
الحمد لله رب العالمين شرع لنا دينا قويما وهدانا صراطا مستقيما وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة وهو اللطيف الخبير.
اللهم لك الحمد كله ولك الملك كله وبيدك الخير كله وإليك يرجع الأمر كله أنت رب الطيبين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك ولى الصالحين وخالق الخلق أجمعين ورازقهم فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين.
{يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون} [الأنعام/102] .
وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله أرسله الله رحمة للعالمين فشرح به الصدور وأنار به العقول وفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبيا عن أمته رضى الله عن أصحابه الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
{يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا} [النساء/1] .
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون}
[آل عمران/102] .
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا صلى الله عليه وسلم * يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما} [الأحزاب/70-71] .
أما بعد: معشر الأخوة الكرام..
لازلنا نتدارس المقدمة لدروسنا فى تفسير كلام ربنا جل وعلا وقلت إن المقدمة تقوم على أمرين.
الأمر الأول: فى منزلة كلام الرحمن وأثره فى عباد الله جل وقد انتهيت من هذا الأمر.
والأمر الثانى: فى الطريقة المثلى القويمة فى تفسير الآيات القيمة الحكيمة وهو ما سنتدارسه فى هذا الدرس بعون الله جل وع صلى الله عليه وسلم.
(15/1)
إخوتى الكرام: الطريقة القويمة فى تفسيرالآيات المحكمة القيمة العظيمة هذا الطريقة تقوم على أمرين اثنين.
الأمر الأول: على التفسير بالمأثور على التفسير بالمنقول والثانى على التفسير بالرأى المقبول المبرور فالطريقة المحكمة لتفسير آيات القرآن إما أن يكون عن طريق النقل وإما أن يكون عن طريق الرأى الحسن.
أما الطريقة الأولى: وهى التفسير بالمأثور فيعنى بها ويراد بها أن ينقل المفسر تفسير الآيات المحكمة من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أقوال الصحابة الكرام رضوان الله عليهم ومن أقوال التابعين الطيبين عليهم رحمة الله جل وعلا فإذا نقل المفسر تفسير آيات القرآن من كتاب الله فسر كلام الله بكلام الله أوفسر كلام الله بكلام رسول الله عليه الصلاة والسلام أو فسر كلام الله جل وعلا بكلام الصحابة رضوان الله عليهم أو فسر كلام الله جل وعلا بكلام التابعين الطيبين عليهم رحمة الله، هذه الطريقة بأقسامها الأربعة يقال لها تفسير بالمأثور وإنما جعلت الطريقين الآخرين من التفسير بالمأثور وهما ما نقل عن الصحابة وما نقل عن التابعين لثلاثة أمور معتبرة.
أولها: بعض ما نقل عن الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم جميعا له حكم المرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سيأتينا.
(15/2)
الأمر الثانى: مانقل عن الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم جميعا مما ليس له حكم المرفوع إلى نبينا صلى الله عليه وسلم فالنفس تطمئن إليه والقلب يسكن لقبوله ويميل إلى ذلك ويقدمه عل ما سواه والأمر الثالث عمل المفسرين وأئمة الإسلام حيث جعلوا ما نقل عن الصحابة والتابعين رضى الله عنهم جميعا من قبيل التفسير بالمأثور فالأمام السيوطى عليه رحمة الله عندما ألف كتابه العظيم النافع فى التفسير بالمأثور وهو المسمى بالدر المنثور فى التفسير بالمأثور ولم يرد به تفسيرا بالرأى على الإطلاق قصر هذا الكتاب على تفسير كلام الله جل وعلا بما نقل عن النبى عليه الصلاة والسلام وبما نقل عن الصحابة الطيبين وبما نقل عن التابعين الطاهرين رضوان الله عليهم أجمعين، هذا عمله فى تفسيره الدر المنثور فى التفسير بالمأثور والكتاب عظيم ونافع جدا وهو فى ست مجلدات كبيرة ولو حقق لربما لوصل الكتاب إلى عشرين مجلدا فى التفسير بالمأثور المنقول فقط على أقل تقدير (الدر المنثور فى التفسير بالمأثور) .
وعلى هذا سار بعد ذلك من كتب فى التفسير من أئمة المسلمين فالشيخ الذهبى فى كتابه التفسير والمفسرون فى الجزء الأول فى صفحة اثنتين وخمسين ومائة اعتبر ما نقل عن الصحابة الطيبين وما نقل التابعين الطاهرين من طرق التفسير بالمأثور وهكذا أحمد أمين فى كتابه ظهر الإسلام فى الجزء الثانى فى صفحة سبعين وثلاثين وعليه فالتفسير بالمأثور هو: أن ينقل المفسر تفسير كلام الله جل وعلا من كلام الله ومن سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام ومن أقوال الصحابة الكرام رضى الله عنهم ومن أقوال التابعين عليهم رحمة الله جل وعلا فليس للمفسر فى هذه الطريقة إلا النقل من هذه المصادر الأربع.
(15/3)
ولذلك قيل له تفسير بالمأثور من قولك أثرت الحديث آثره إذا ذكرته ورويته عن غيرى ومنه قول أبى سفيان والحديث فى صحيح البخارى عندما أرسل النبى صلى الله عليه وسلم كتابه إلى هرقل عظيم الروم يدعوه إلى الإسلام فجمع هرقل من هم من مكة فى بلاد الشام جاؤا تجارا إلى بلاد الشام ليسألهم عن النبى عليه الصلاة والسلام فلما اجتمعوا قال لهم أيكم أقرب نسبا بهذا الرجل الذى يزعم أنه نبى فقلت أبو سفيان أنا فقال قدموه وجعلوا أصحابه وراء ظهره ثم قال هرقل لقوم إبى سفيان إنى سائل هذا أى أبا سفيان عن هذا الرجل الذى يزعم أنه نبى عليه الصلاة والسلام فإن كذبنى فكذبوه فقال أبو سفيان والله لولا أن يأثروا عنى كذبا لكذبت عليه أى لافتريت وقلت فيه ما ليس فيه، يأثروا أى ينقلوا عنى كذبا وتتناقله الأجيال بأن أبا سفيان كذاب فالكذب منقصة فى بنى الإنسان فلذلك لن يتكلم إلا بحقيقة الأمر لولا أن يأثروا عنى كذبا لكذبت عنه فإذن تفسير المأثور أى منقول من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أقوال الصحابة رضوان الله عليهم ومن أقوال التابعين عليه رحمة الله هذه الطرق الأربعة للتفسير بالمأثور ينبغى أن نقف عندها وقفة يسيرة نوضح فيها هذه الطرق.
أولا تفسير القرآن بالقرآن: هذا أحسن طرق التفسير لأن هذا جار على البدهية المقررة بأن صاحب الكلام أدرى بمراد كلامه وصاحب البيت أدرى بما فى بيته وأهل مكة أدرى بشعابها وكلام الله جل وعلا أول من يعلم ماذا يراد به المتكلم وهو الله جل وعلا ولذا إذا وجدنا تفسيرا للقرآن بالقرآن فنعض على ذلك بالنواجذ فهذا تفسير لكلام الله بكلام الله ولهذا أمثلة كثيرة من ذلك قول الله جل وعلا فى سورة الفرقان {إنا أنزلناه في ليلة مباركة} .
هذه الليلة التى هى كثيرة الخيرات عظيمة البركات نزلت فيها هذه الآيات المحكمات نزل فيها القران العظيم ما هى؟ وفى أى شهر من أشهر السنة هى؟
(15/4)
نقل فى ذلك قولان: قول مهجور مردود وهو أنها ليلة النصف من شعبان ولم ينقل هذا إلا عن عكرمة من التابعين وهذا ثابت عنه بإسناد صحيح عليه رحمة الله لكن القول مردود ولم يرد فى ليلة النصف من شعبان حديث يسوى سماعه كما قال أئمتنا الكرام.
إذن نحن إذا أردنا أن نبين هذه الليلة نأتى لكلام الله هل وضح الله هذه الليلة فلنستعرض آيات القرآن الكريم فى بيان هذه الليلة ومتى هي يقول الله فى سورة القدر: {إنا أنزلناه فى ليلة القدر *وماأدراك ما ليلة القدر* ليلة القدر خير من ألف شهر} هذه هى البركة التى نزل فيها القرآن أن هذه الليلة مباركة فهى أفضل من ألف شهر ليس فيها ليلة القدر وهى أفضل من ألف شهر من بضع وثمانين سنة يتعبد فيها الرجل من الأمم السابقة لقصر أعمار هذه الأمة.
كما ثبت هذا عن مجاهد رضى الله عنه فى موطأ مالك وغيره فإذن ليلة القدر عظيمة البركةومن بركتها أنها خير من ألف شهر ليس فيها ليلة القدر وهى خير من ألف شهر يتعبد فيها المكلف من الأمم السابقة فهذه الأمة أعمارها قصيرة فأعطاهم الله ليلة هى خير من ألف شهر إذا أحيوها كتب لهم ما يزيد على عبادة بضع وثمانين سنة والأجر لنا خير من تلك السنوات الكثيرة التى يقومها فرد من الأمم السابقة فى عبادة ربه جل وعلا.
إذن هذه الليلة المباركة هى ليلة القدر ليلة القدر التى لها هذا الشأن فى أى شهر شهر رمضان الذى أنزل فيه القرآن هذا تفسيرللقرآن بالقرآن فالليلة المباركة التى لم تحدد فى أى شهر هى ولم تبين متى تكون فى سورة الدخان: {إنا أنزلناه فى ليلة مباركة} بين الله فى سورة القدر أن هذه الليلة المباركة هى ليلة القدر وليلة القدر التى نزل فيها القرآن هى فى شهر رمضان كما قال ربنا الرحمن: {شهر رمضان الذى أنزل فيه القرآن} .
(15/5)
هذا تفسير للقرآن بالقرآن ومن ذلك قول الله جل وعلا فى سورة الإسراء: {قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذن لابتغوا إلى ذى العرش سبيلا} لطلب تلك الآلهة طريقا الى الله هذا الطريق الذى يطلبه تلك الآلهة إلى الله ما هو؟
آيات القرآن دلت على أن ذلك الطريق محصور فى أمرين اثنين كل منهما حق, الأمر الأول لطلبو طريقا لمنازعة الله ولمخاصمته ولقتاله كما قال جل وعلا: {قل لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} ، {قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذن لابتغوا إلى ذى العرش سبيلا} لحصل النزاع بين تلك الآلهه التى تزعمونها مع الله ومع الله كما قال جل وعلا: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} فلنازعت تلك الآلهه هذا الإله وبالتالى يختل نظام هذا الكون والإحكام الذى فيه دل على إنه إله واحد يسيره ويتصرف فيه {قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذن لابتغوا إلى ذى العرش سبيلا} سبيلا الى منازعته ومخاصمته ومغالبته {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} .
والثانى: لابتغوا إلى ذى العرش سبيلا، طريقا للتقرب إليه والسعى فى خدمته وعبادته لينالوا المنزلة عنده ولو كان هناك آلهة كما تزعمون لعبدت تلك الآلهة هذا الإله الحق الذى هو الإله العظيم وهذا أشار ربنا جل وعلا إليه فى سورة الإسراء فقال: {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا} .
هؤلاء الذين تعبدونهم من دون الله وتزعمونهم أنهم آلهة مع الله من الملائكة والمسيح ابن مريم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه هم يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا} .
(15/6)
والآية كما ثبت فى صحيح البخارى عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه نزلت فى أناس من العرب من الإنس كانوا يعبدون ناسا من الجن فأسلم الجن وعبدوا الله وبقى المشركون من العرب على عبادتهم فأنزل الله هذه الآية يعيرهم بها فقال أولئك الذين يدعون ويدعونهم من دون الله ويعبدونهم {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا} ، إذن قول الله جل وعلا: {قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا} .
هذا السبيل مفسر فى آيات القرآن الكريم بأمرين لابتغوا سبيلا لمنازعته وبالتالى يفسد هذا الكون لابتغوا سبيلا إلى عبادته والتقرب إليه فكيف تعبدونهم من دون الإله الحق فاعبدوا من يعبده من تعبدونهم فمن تعبدونه يعبد الله فاعبدوا الله جل وعلا ولا تشركوا به أحدا: {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا} .
ومن ذلك قول الله جل وعلا: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} من سورة النحل إذا أردت المراد من هذه الآية إذا أردت أن تقرأ وإذا أردت الشروع فى القراءة فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ولا يقال إن الفعل هنا فعل ماض ورتب الله جل وعلا الجزاء على الشرط فإذا قرأت القرآن وانتهيت استعذ بالله من الشيطان الرجيم كما وهم فى ذلك بعض المفسرين ويأتينا هذا إن شاء الله عند تفسير آيات الإستعاذة ونسبوا هذا القول إلى بعض الصحابة كإبى هريرة وغيره رضي الله عنهم بأن الاستعاذة تكون فى آخر القراءة لأن الله يقول: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} إذا انتهيت فاستعذ وهذا الكلام كما قال الإمام أبو بكر ابن العربى فى أحكام القرآن قال فى حق هذا الكلام انتهى العى بقوم إلى أن قالوا إن الإستعاذة بعد القراءة ونسب بعضهم ذلك إلى الإمام مالك.
(15/7)
والله أعلم بسر هذه الرواية وفقه الإمام مالك وذكائه أعلى من أن ينسب إليه ذلك إذن: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} كيف تقولون إذا أردت أن تقرأ ونقول لهذا نظائر فى كلام الله وهذا بينته آيات القرآن يقول الله جل وعلا: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق} الآية إذا قمتم إذا أردتم القيام إلى الصلاة وأنتم محدثون فتطهروا وليس وهو يصلى يتوضأ هذا بينته آيات القرآن ووضحته.
ومن ذلك قول الله جل وعلا: {يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة} أى إذا أردتم مناجاة الرسول عليه الصلاة والسلام.
ومن ذلك قول الله {وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب} أى إذا أردتم سؤالهن لمتاع من أمتعة الدنيا ومتاع البيوت فاسألوهن من وراء حجاب إذا أردتم.
وهنا فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله إذا أردت أن تقرأ القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ولهذا أمثلة كثيرة إن شاء الله عندما نتدارس تفسير كلام الله جل وعلا نطبق هذا فنبدأ بتفسيركلام الله بكلام الله فإن وجدنا هذا عضضنا عليه بالنواجذ وإلا انتقلنا إلى الطريقة التى بعدها.
إخوتى الكرام: أبرز من عنى بهذا النوع من التفسير وهو إيضاح القرآن بالقرآن وتفسير القرآن بالقرآن شيخنا المبارك الشيخ محمد الأمين الشنقيطى عليه رحمة الله ونور الله قبره وجعل قبره روضة من رياض الجنة وغفر له ولجميع المسلمين والمسلمات فى كتابه العظيم فى التفسير المسمى بأضواء البيان فى إيضاح القرآن بالقرآن، فذكر فى مقدمة كتابه وتفسيره فى الجزء الأول فى صفحة ثلاثة أن أهم المقصود بتفسيره أضواء البيان فى إيضاح القرآن بالقرآن أمران:
(15/8)
الأمر الأول: إيضاح القرآن بالقرآن وسلك حقيقة مسلكا لم يسلكه من قبله من المفسرين بالنسبة التى سلكها كانوا يفسرون كلام الله بكلام الله لكن أحيانا يقتصرون فى الإيضاح أما هو لايوجد آية بينت فى آية أخرى إلا واستعرض هذا وذكر النظائر التى توضح كلام الله جل وعلا بكلام الله جل وعلا.
والأمر الثانى: والغرض الثانى من تفسيره أنه يبين الأحكام الفقهية فى تفسير الآيات القرآنية ,فأهم المقصود بتفسيره أمران إيضاح القرآن بالقرآن وبيان الأحكام الفقهية عند الآيات المفسرة التى يوضحها عليه رحمة الله.
هذا النوع الأول من أنواع التفسير بالمأثور تفسير القرآن بالقرآن والنوع الثانى تفسير القرآن بالسنة.
إخوتى الكرام: قبل النوع الثانى أحب أن أبين إلى أنه يدخل فى هذا النوع من البيان إيضاح القراءات ببعضها فالقراءة مع القراءة كالآية مع الآية كما قال أئمتنا فقد يكون المعنى فى قراءة من القراءات يحتمل لمعنيين ما المراد منهما تأتى قراءة ثانية توضح أن المراد من هذه القراءة من هذه الآية هو المعنى الأول أو الثانى كقول الله جل وعلا فى سورة النور: {ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم} [النور/22] .
(15/9)
قرأ القراء التسعة العشرة باسثناء إبى جعفر يزيد ابن القعقاع قارىء المدينة المنورة وشيخ نافع عليهم جميعا رحمة الله قرأ التسعة ولا يأتل وقرا أبو جعفر ولا يتأل أولوا الفضل منكم والسعة أن يأتوا أولوا القربى لايأتل ولا يتأل والقراءتان متواترتان ثابتتان عن نبينا عليه الصلاة والسلام وقول الحافظ فى الفتح فى الجزء الثامن صفحة تسع وثمانين وأربعمائة لاتعرف هذه القراءة عن أهل المدينة وإنما قرأ بها الحسن البصرى فقط وهى من الشواذ هذا وهم منه غفر الله له ورحمه فالآية ثابتة عن إبى جعفر يزيد ابن القعقاع ولا يتأل أولوا الفضل قراءة ولا يأتل التى هى قراءة الجمهور والجم الغفير والقراءة الأكثر تحتمل معنيين تحتمل ولا يأتل من الألية بوزن عطية بمعنى اليمين والحلف والقسم, قليل الألايا حافظ ليمينه إذا صدرت منه الألية برة وعليه.
ولا يأتل أى لا يحلف أولوا الفضل منكم والسعة على ألا يأتوا إحسانهم وصدقاتهم ومعروفهم لأولى القربى والمساكين والمهاجرين فى سبيل الله والآية نزلت فى عتاب أبى بكر رضي الله عنه عندما حلف ألاينفق على مسطح ابن أثافة رضي الله عنهم أجمعين وهو ابن الكبر خالته وقد خاض فى الإفك رضي الله عنه وغفر له وهو من أهل بدر الكرام رضي الله عنهم أجمعين ,ولا يأتل ولا يحلف من الألية بوزن عطية بمعنى القسم واليمين.
(15/10)
وتحتمل من الألو بمعنى التقصير ولا يأتل ولا يقصر فى النفقة ,فاحتملت قراءة الجمهور معنيين لا يأتل لايحلف ,لايأتل لايقصر فأى المعنيين هو المراد قراءة أبى جعفر توضح وترجح معنى من هذا المعنيين لاتحتمل قراءة إبى جعفر غيره ولا يتأل والتال هو الحلف وهذا الذى صدر من أبى بكر رضي الله عنه عندما حلف ألا ينفق على مسطح ابن أثافة فنزلت الآية تعاتبه فقال بلى نحب أن يغفر الله لنا وأعاد نفقته على مسطح ضعف ما كان ينفق عليه رضي الله عنه وأرضاه وهذه كما ثبت فى صحيح مسلم عن عبد الله ابن المبارك هى أرجى آية فى القرآن العظيم فالذى جرى من مسطح ابن أثافة ذنب عظيم عظيم كبير كبير يتكلم على أمه عائشة أمنا أم المؤمنين رضي الله عنها هى زوج النبى عليه الصلاة والسلام هى بنت صديق هذه الأمة هى الصديقة الحصان الرزان حبيبة حبيب الله عليه صلوات الله وسلامه رضي الله عنها هى قريبته فمسطح عندما تكلم بالإفك ارتكب جنايات عظيمة وأبو بكر رضي الله عنه ما قابله بشىء إلا أنه قال كنت أحسن إليه سأقطع إحسانى عنه ولو قطع الإحسان دون جناية من مسطح لما كان عليه لوم إن شاء أن يحسن فله أجر وإن شاء ألا يحسن ضاع منه ذلك الأجر لكن الله ما رضى هذا من أبى بكر رضي الله عنه فقال: {ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يأتوا أولى القربى والمساكين والمهاجرين فى سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم} فالجزاء جزاء من جنس العمل فإذا غفرت يغفر لك وإذا سامحت يسامحك الله فقال أبو بكر بلى وأعاد بالنفقة ضعف ما كان ينفق عليه.
(15/11)
وفى صحيح مسلم عن عبد الله ابن المبارك يقول هذه أحب آية إلى فى القرآن لأن الله عندما عاتب عبدا من عباده عندما قطع إحسانه فالمؤمن أيضا يقول لربه يارب أحسنت إلى فى هذه الحياة فكيف تقطع إحسانك عنى بعد الممات أنا أحوج إلى الإحسان بعد موتى من إحسانك إلى فى حياتى فالشروع ملزم فى مذهب النعمان فكيف بكرم الرحمن إذا شرعت فى نافلة يجب عليك أن تتمها عند إبى حنيفة وإذا شرعت فى إحسان يجب عليك أن تتمه، فالله جل وعلا أولى بإتمام المعروف والكرم ولذلك قال أئمتنا فإن قدر الذنب من مسطح يحط قدر النجم من أفقه وقد جرى منه الذى قد جرى وعوتب الصديق فى حقه رضي الله عنه وأرضاه إذن ولا يأتل ولا يتأل والقراءة مع القراءة كالآية مع الآية هذا النوع الأول من أنواع تفسير القرآن بالمأثور تفسير القرآن بالقرآن.
والنوع الثانى: من أنواع تفسير القرآن بالمأثور تفسير القرآن بالسنة إذا لم تجد إيضاح كلام الله جل وعلا فى كلام الله فارجع إلى سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام فالله بعث نبيه ليبين للناس ما نزل إليهم من ربهم وكان يتلوا عليهم هذا القرآن ويوضح لهم معانيه عليه صلوات الله وسلامه ولذلك قال الإمام الشافعى كل ما حكم به رسول الله عليه الصلاة والسلام فهو مما فهمه من القرآن ولذلك إذا أعياك طلب التفسير من القرآن فاطلبه من سنة النبى عليه الصلاة والسلام قال الإمام ابن كثير والغرض أنك تطلب تفسير القرآن من القرآن فإن لم تجده ترجع إلى سنة النبى عليه الصلاة والسلام.
كما ثبت فى المسند والسنن بإسناد جيد فى حديث معاذ عندما أرسله النبى صلى الله عليه وسلم إلى اليمن وقال له بما تحكم قال بكتاب الله قال فإن لم تجد قال بسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام قال فإن لم تجد قال أجتهد رأيى ولا آلوا قال الإمام ابن كثير والحديث فى المسند والسنن بإسناد جيد.
(15/12)
وهذا فى مقدمة تفسير الإمام ابن كثير فى الجزء الأول فى صفحة ثلاثة وهذا الكلام الذى قاله الإمام ابن كثير مأخوذ من كلام شيخه شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية وهو موجود فى مجموع الفتاوى فى الجزء الثالث عشر فى صفحة ثلاث وستين وثلاثمائة يقول هذا الحديث فى المسند والسنن بإسناد جيد والحديث رواه الإمام أحمد فى مسنده والترمذى فى سننه وأبو داود فى سننه ورواه الإمام ابن عبد البر فى جامع بيان العلم وفضله ورواه الخطيب البغدادى فى كتابه الفقيه والمتفقه وقد كتب الإمام ابن القيم عليه ما يزيد على صفحة فى تفسير هذا الحديث وقبوله واعتماد أئمة الإسلام فى كتابه العظيم إعلام الموقعين ويقال بالهمزة من فوق أعلام الموقعين إعلام الموقعين الذين يوقعون عن رب العالمين يعلمهم وينبههم بالاحتياط وما ينبغى عليهم فى فتاويهم أعلام الموقعين المعالم البارزة التى يهتدى بها المفتون فى أمور الدين إعلام الموقعين أعلام الموقعين يقول فى الجزء الأول فى صفحة مائتين واثنتين هذا الحديث تلقاه الكافة عن الكافة وهو حديث عملت به الأمة وأخذت به.
والإمام ابن العربى عليه رحمة الله فى عارضة الأحوزى فى الجزء السادس صفحة اثنتين وسبعين بعد أن حكى اختلاف العلماء فى تصحيح هذا الحديث قال والدين القول بصحتة فإنه حديث مشهور، نعم فى الحديث شىء من الكلام على بعض الرواة فى الإسناد فى جهالة الحارث بن عمر وجهالة أصحاب معاذ وهل يسلم جهالة أصحاب معاذ أم هم من الشهرة بمكان وهذا أعلى مما لو ذكروا.
كما يقول الإمام بن القيم هذا مجال بحث، لكننى أقول الحديث إذا تلقته الأمة بالقبول لا يبحث عن إسناده.
(15/13)
وقد ذكر هذا إمام المحدثين فى زمنه الإمام السخاوى فى الجزء الأول فى صفحة ثمان وستين ومائتين فقال إذا تلقت الأمة الحديث الضعيف بالقبول ينزل منزلة المتواتر لأن إجماع الأمة معصوم من الخطأ ثم نقل عن الشافعى عليه رحمة الله حديث لا وصية لوارث حديث ضعيف وتلقته الأمة بالقبول ونسخت به مدلول قول الله جل وعلا: {كتب عليكم اذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين} .
فحديث لا وصية لوارث إن الله قد أعطى لكل ذى حق حقه فلا وصية لوارث حديث ضعيف تلقته الأمة بالقبول وعملت به ونسخت الوصية للوالدين والأقربين فكل من يرث لا وصية له ولا تصح الوصية له مع أنه ضعيف وهو حديث معاذ على التسليم بوجود ضعف فى إسناده فالأمة تلقته بالقبول وإذا تلقت الأمة حديثا بالقبول ينزل منزلة المتواتر ولذلك قال شيخنا عليه رحمة الله فى مذكرته فى أصول الفقه فى صفحة ثلاث وثلاثين هذا حديث مشهور ومثله لا يحتاج للبحث عن إسناده وإن كان فيه ضعف أى تكلم فى إسناده وفيه ضعف هذا مثله لا يحتاج للبحث عن إسناده حديث مشهور وتلقته الأمة بالقبول إذن نطلب تفسير كلام الله جل وعلا من كلام الله فإذا لم نجده نرجع إلى سنة النبى صلى الله عليه وسلم لنطلب تفسير القرآن من السنة.
(15/14)
وما ثبت فى حديث معاذ ثبت مدلوله من كلام ابن مسعود وعمر ابن الخطاب رضى الله عنهم فى سنن النسائى والبيهقى ومن كلام أبى بكر فى سنن البيهقى ففى سنن النسائى فى الجزء الثامن صفحة مائتين وثلاثة فى سنن النسائى فى كتاب القضاء باب القضاء باتفاق أهل العلم وفيه فى هذا الحديث والإسناد هذا المكان سئل عبد الله بن مسعود رضى الله عنه وأكثر عليه فى السؤال فقال قد مضى علينا زمان وما كنا نفتي ولسنا بأهل للفتيا والقضاء حتى صرنا إلى ما ترون فمن جاءه قضاء وعرض عليه مسألة فليقض بما فى كتاب الله فإن لم يجد فبسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام فإن لم يجد القضاء فى كتاب الله ولا فى سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام فليقض بما قضى به الصالحون ولا يقل إنى أخاف إنى أخاف فإن الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات قال أبو عبد الرحمن الإمام النسائى عليه رحمة الله هذا حديث جيد جيد ومثل هذا قال أيضا عمر رضى الله عنه.
كما فى سنن النسائى والبيهقى عندما كتب له أبو موسى الأشعرى رضى الله عنهم جميعا يسئله فقال له اقض بما فى كتاب الله فإن لم تجد فاقض بما في سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام فإن لم تجد فاقض بما قضى به الصالحون فإن لم تجد فإن شئت فتقدم أى اجتهد وإن شئت فتأخر ولا أرى إلا التأخر خيرا لك أى أحجم وسل أهل العلم ولا تتجرأ بنفسك على الفتيا والإجتهاد حتى تأخذ رأى أهل الخير والصلاح فإذا وجدت قضاء فى كتاب الله فاقض به فى سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام فاقض به قضى به الصالحون قبلك فاقض به لن تجد إن شئت فتقدم وإن شئت فتأخر ولاأرى التأخر إلا خيرا لك، فمدلول حديث معاذ ثابت من كلام ابن مسعود وعمر وأبى بكر رضى الله عنهم أجمعين
(15/15)
إخوتى الكرام: نحو الطريق الثانى من تفسير القرآن بالمأثور وهو تفسير القرآن بالسنة ينبغى أن نحذر التعويل على ما لا أصل له وعلى ما لا يثبت مما نسب إلى النبى عليه الصلاة والسلام وقد وضع على نبينا عليه الصلاة والسلام أحاديث كثيرة لاسيما فى التفسير ولذلك ثبت عن الإمام أحمد عليه رحمة الله أنه قال ثلاثة كتب ليس لها أصل التفسير والملاحم والمغازى.
والغالب على هذه الكتب كما قال أئمة الإسلام الغالب عليها الإرسال وعدم الاتصال والضعيف والتفسير والملاحم والمغازى والملاحم مايتعلق بأمور الفتن والأمور التى ستقع والمغازى ما وقع فى الأمر الأول فينقل بلا إسناد ويتساهل فيه.
وهكذا التفسير قال الإمام ابن حجر فى مقدمة لسان الميزان وينبغى أن يضاف إليها الفضائل كتب الفضائل ثم قال فهذه أودية الحديث الضعيف ,التفسير والفضائل والملاحم والمغازى فانتبه وحذارى حذارى أن تأخذ بما لم يثبت عن النبى عليه الصلاة والسلام فى تفسير كلام الرحمن فلا بد من أن تعول على أثر صحيح ثابت تداولته الأمة وأخذوا به فى تفسير كلام الله جل وعلا.
أخوتى الكرام: لهذا النوع من التفسير نماذج نذكر بعضها فى هذا الدرس قال الله جل وعلا فى كتابه: {الذين آمنوا ولم يلبثوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} من سورة الأنعام، الظلم يشمل كل معصية ولذلك لما نزلت هذه الآية شق ذلك على الصحابة.
(15/16)
كما ثبت فى الصحيحين عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنهم أجمعين يقول لما نزل قول الله: {الذين آمنوا ولم يلبثوا إيمانهم بظلم} شق ذلك على أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام وقالوا يا رسول الله أينا لم يظلم نفسه والله شرط الأمن والاهتداء الأمن فى الآخرة والاهتداء فى الدنيا بعدم خلط الإيمان بشىء من الظلم وكل معصية ظلم تجاوز الإنسان الحدود الشرعية ووضع الأمر فى غير موضعه وغير نصابه فإذن لايحصل له اهتداء فى الدنيا ولا أمنا فى الآخرة إذا خلطوا إيمانهم بشىء من المعاصى ومن ينفك عن معصية الذين آمنوا ولم يلبثوا إيمانهم بظلم وشق ذلك على أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام وقالوا يا رسول الله أينا لم يظلم نفسه أينا لايظلم نفسه فقال ليس بالذى تعنون ليس المراد من الظلم مطلق المعاصى لا إنما المراد من الظلم الشرك ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح لقمان: {يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم} .
وعليه الذين آمنوا ولم يلبثوا إيمانهم بظلم أى لم يخلطوا إيمانهم بشرك وحدوا الله جل وعلا توحيدا حقيقيا أما أن الجبلة البشرية الطبيعة الإنسانية تنفك عن معصية فهيهات هيهات يا عبادى إنكم تخطئون فى الليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفرونى أغفر لكم مؤمن لايخلط إيمانه بهفوة وبتقصير هذا لا يمكن أن يوجد هذا لعله يوجد فى الملأ الأعلى فى حال الكرام الكاتبين الذين لا يعصون الله ما أمرهم يفعلون ما يؤمرون أما هذا البشر الذى فيه ما فيه من أمور الغضب والغفلة والشهوة والسهو والنسيان وغير ذلك يقع.. يقع فى هفوات وزلات فإذ سلم من الشرك فليحمد الله الذين آمنوا ولم يلبثوا بظلم أى بشرك أولئك لهم الأمن فى الآخرة وهم على اهتداء فى هذه الحياة الدنيا ففسرت الأفراد فخص هذا العموم بنوع من أفراده وهو الشرك إن الشرك لظلم عظيم ليس المراد بالظلم ماتعنونه وتفهمونه مطلق المعاصى إنما المراد منه الشرك إن الشرك لظلم عظيم.
(15/17)
ومن ذلك أيضا ماثبت فى الصحيحين وسنن الترمذى وأبى داود والحديث فى مسند الإمام أحمد عن ابن أبى مليكة من أئمة التابعين قال كانت أمنا عائشة رضي الله عنها لاتسمع شيئا لاتعرفه إلا سألت عنه حتى تعرفه رضي الله عنها وأرضاها وأكرم بها من أم واعية صالحة قانتة طيبة تقول أمنا عائشة سمعت النبى عليه الصلاة والسلام يقول من نوقش الحساب عذب وفى رواية من حوسب هلك فقالت أمنا عائشة يا رسول ألم يقل الله فى كتابه: {فأما من أوتى كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا} بل سيحاسب وأنت تقول من حوسب هلك من نوقش الحساب عذب فقال يا عائشة إنما ذلك العرض ,الحساب اليسير وعرض الصحف على العامل فقط دون أن يحاسبه الله ودون أن يناقشه إنما ذلك العرض لكن من حوسب عذب ففسر صلى الله عليه وسلم هنا قول الله: {فأما من أوتى كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا} بعرض الكتاب عليه يعرض عليه ثم لايناقش ولايحاسب ولايجادل ويقال له عبدى سترتك فى الدنيا وان أسترك فى الآخرة هذا هوالحساب اليسير لكن من حاسبه الله وناقشه وجرى بينه وبين عبده مجادلة هلك العبد وعذب ولابد من حوسب عذب من نوقش الحساب عذب من حوسب هلك والحساب اليسير فى قوله الله فسوف يحاسب حسابا يسيرا هو العرض.
(15/18)
وهكذا قول الله جل وعلا فى سورة الزلزلة والزلزال: {يومئذ تحدث أخبارها} سألوا النبى عليه الصلاة والسلام عن أخبارها التى تتحدث بها الأرض ما هذه الأخبار التى تتحدث بها الأرض يوم القيامة والحديث ثابت فى مسند الإمام أحمد والترمذى ومستدرك الحاكم وهو بسند حسن قالوا يا رسول الله عليه الصلاة والسلام ما أخبارها قال أن تشهد على ابن آدم بما عمل على ظهرها من خير أو شر أن تشهد على ابن آدم بما عمل على ظهرها من خير وشر سبحان الله الجوارح تشهد والأرض تشهد العمر ينقص والذنوب تزيد وتقال عثرات الفتى فيعود هل يستطيع جحود ذنب واحد رجل جوارحه عليه شهود، الجوارح تشهد والبقعة التى عصيت الله عليها تشهد عليك والبقعة التى أطعت الله فيها تشهد لك هذه الأخبار تتحدث بها الأرض يوم القيامة يومئذ تحدث أخبارها ما أخبارها أن تشهد على ابن آدم بما عمل على ظهرها من خير أو شر.
وهكذا قول الله جل وعلا: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} ما السبيل سألوا النبى عليه الصلاة والسلام فقالوا يا رسول الله ما السبيل الذى إذا استطاعه الإنسان وجب عليه الحج والحديث ثابت فى سنن الترمذى وابن ماجة وسنن البيهقى والدارقطنى ومستدرك الحاكم بسند صحيح لكثرة طرقه وشواهده قال شيخنا عليه رحمة الله فى أضواء البيان الذى يظهر أن الحديث ثابت لكثرة طرقه.
وقال الإمام الشوكانى فى نيل الأوتار ولايخفى أن كثرة هذه الطرق تفيد ثبوت الحديث والحديث ثابت عن ثمانية الصحابة الكرام عن على وابن عمر وابن عباس وأنس وابن عمرو وابن مسعود وجابر ابن عبد الله وأمنا عائشة رضي الله عنهم أجمعين قالو ما السبيل قال الزاد والراحلة فإذا ملك زادا وراحلة فاضلتين عن حوائجه الأصلية وجب عليه أن يذهب إلى الحج {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} .
(15/19)
ولذلك إذا لم يملك الزاد والراحلة الزاد وأجرة الطريق ونفقة عياله فلا يجب عليه الحج وبهذا قال الأئمة الثلا ثة الحنفية والشافعية والحنابلة والإمام مالك عليه رحمة الله اعتبر تفسير النبى عليه الصلاة والسلام من باب التفسير بالأمر الغالب ولذلك يجب الحج عند الإمام مالك على المسلم إذا كان مكلفا ولم يملك زادا وراحلة وتفسير النبى عليه الصلاة والسلام يقول جرى هذا على حسب الأغلب لأن غالب الحجاج آفاقيون وإذا كانوا من بلاد بعيدة فسيتكلفون المشى على أرجلهم وفى الغالب يشق عليهم فإذا كان يشق عليهم فلا بد إذن من زاد وراحلة أما من تمكن من الحج لقرب المكان كما لو كان من أهل المدينة المنورة أو من بلاد الشام مثلا ماشيا على رجليه والطريق يقرب منه مدة أسبوع ليس كما هو الحال من بلاد المغرب ,كان شيخنا عليه رحمة الله يقول إذا عيدوا عيد الأضحى فى بلاد موريتانيا التى هى شنقيط يخرجون إلى الحج فيبقون فى الطريق سنة كاملة حتى يدركوا عيد الأضحى فى السنة الآتية فى بلاد الحجاز فى مكة المكرمة سنة كاملة فهذا يشق عليه أن يمشى على رجليه فغالب الحجاج آفقيون ولذلك إذا كانت المسافات بعيدة فلابد من زاد وراحلة لكن إذا كانت المسافة قريبة وبإمكانه أن يمشى على رجليه فوجب عليه أن يحج وإن لم يملك زادا ولا راحلة لأن تفسير النبى عليه الصلاة والسلام جرى على الأمر الغالب وإذا جرى على الأمر الغالب فليس له مفهوم مخالفة أى لايفهم منه أنه إذا لم يملك زادا وراحلة لا يجب عليه الحج.
(15/20)
وهذا كقول الله جل وعلا: {وربائبكم اللاتى فى حجوركم من نسائكم اللاتى دخلتم بهن} فالربيبة بنت الزوجة تحرم عليك سواء كانت فى حجرك أو لم تكن فى حجرك إذن لما هذا القيد قال أئمتنا أغلبى لأن الغالب أن بنت الزوجة تكون مع الزوجة فى حجرك وفى بيتك لكن لو تزوجت امرأة ولها بنت ولم ترها ولم تربى فى حجرك يحرم عليك أن تجمع بين المراة وابنتها فلا يجوز إذن لما قال الله فى حجوركم قالوا هذا قيد أغلبى الغالب الربيبة تكون فى حجر الزوج ولذلك ليس له مفهوم مخالفة أى إن كانت فى حجرك تحرم عليك وإن لم تكن فى حجرك تحرم عليك وهنا كلام النبى عليه الصلاة والسلام الزاد والراحلة هذا باعتبار الأمر الغالب.
ولذلك قال الإمام مالك عليه رحمة الله إذا أمكنه أن يحج على رجليه وجب عليه ذلك فإذا لم يمكن وكان من بلاد بعيدة ويصعب عليه أن يحج على رجليه فهناك لا بد من زاد وراحلة أما إن أمكنه المشى وجب عليه وإن لم يكن عنده زاد نقول له حالتين فإن كان من أهل المروءات الذين يصعب عليهم أن يعملوا فى كل منطقة يذهبون إليها فلا يجب عليه حتى يجد زادا وإن لم يكن من أهل المروءات واحد عادى وليس عنده نفقة وعنده القدرة أن يمشى على رجليه فيجب عليه أن يمشى وأن يشتغل بكل بلدة يصل إليها ليحصل قوته ليؤدى هذه الفريضة التى أوجبها الله عليه: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} هو الزاد والراحلة هل هذا التفسير أغلبى او لبيان شرط وجوب الحج , اختلف الأئمة فى ذلك بعد اتفاقهم على ثبوت هذا التفسير عن النبى عليه الصلاة والسلام، إذن هذا من أنواع تفسير القرآن بسنة نبينا عليه الصلاة والسلام وهذا الطريق الثانى من طرق التفسير بالمأثور.
(15/21)
والطريق الثالث: تفسير القرآن الكريم بأقوال الصحابة الكرام رضوان الله عليهم فهذا أيضا يأتى فى المرتبة الثالثة فالصحابة أكثرهم عرب خلص والقرآن نزل بلسان عربى مبين فيفهمون المراد من كلام الله جل وعلا على حسب لغتهم وهم حضروا وقائع التنزيل وشهدوا أسباب نزول الآيات الكريمات فيعرفون ماذا يراد بتلك الآيات وماذا يعنى بها ثم لهم من الفهم ورسوخ القدم فى الدين ما ليس لغيرهم فكلامهم يقدم على كلام من بعدهم ولا شك لهذه الاعتبارات الثلاثة رضوان الله عليهم أكثرهم عرب خلص ,شهدوا نزول القرآن, لهم من الفهم فى دين الرحمن والمنزلة ما ليس لغيرهم فكلامهم مقدم على كلام من بعدهم.
وأقوال الصحابة فى تفسير كلام الله جل وعلا أقوالهم لها حالتان: الحالة الأولى أن يكون لأقوالهم حكم الرفع إلى نبينا صلى الله عليه وسلم وذلك يكون إذا قال الصحابى قولا فى تفسير كلام الله وهذا القول لا يدرك بالرأى وليس طريقه اللغة وليس مأخوذا عن أخبار أهل الكتاب إذا كان ذلك الصحابى يأخذ عنهم كعبد الله ابن عمرو ابن العاص رضى الله عن الصحابة أجمعين فإذا قال الصحابى قولا فى تفسير الله ذلك القول لا يدرك بالرأى وليس طريقه اللغة وليس معروفا بالأخذ عن أهل الكتاب إذا كان ذلك الخبر يحتمل أخذه عنهم فإذا خلا عن هذه الأمور فلقول الصحابى فى تفسير كلام الله حكم الرفع إلى النبى عليه الصلاة والسلام كما لو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا فى تفسير الآية وهذا ما أشار إليه أئمتنا عليهم رحمة الله بلا خلاف بينهم.
يقول الشيخ عبد الرحيم ابن الحسين الأثرى فى الألفية الشهيرة بألفية الأمام العراقى عليه رحمة الله:
وما أتى عن صاحب بحيث ... لا يقال رأيا حكمه الرفع
على ما قال فى المحصول ... نحو من أتى فالحاكم الرفع لهذا أثبت
ج
(15/22)
وما أتى عن صاحب بحيث لا يقال رأيا أى لا يمكن أن يكون ذلك القول مصدره الاجتهاد ولا اللغة ولا الأخذ عن أهل الكتاب إن كان الصحابى معروفا بالأخذ عنهم حكمه الرفع على ما قال فى المحصول كتاب فى أصول الفقه للإمام الرازى نحو من أتى فالحاكم الرفع لهذا اثبتا من أتى أى من أتى كاهنا أو عرافا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل الله على محمد عليه الصلاة والسلام.
والأثر مروى عن عبد الله ابن مسعود موقوفا عليه فى هذه الرواية من أتى كاهنا أو عرافا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل الله على محمد عليه الصلاة والسلام هذه الأثر موقوف من ناحية اللفظ لكنه مرفوع من ناحية الحكم إلى النبى عليه الصلاة والسلام فالصحابى لا يمكن أن يقول هذا الحكم فى دين الله عن طريق رأيه وهواه واجتهاده هذا مأخوذا عن النبى عليه الصلاة والسلام لكنه ما صرح بإضافة هذا الكلام إليه وما أتى عن صاحب بحيث لا يقال رأيا حكمه الرفع على ماقال فى المحصول نحو من أتى.
أى من أتى كاهنا أو عرافا كلام ابن مسعود نحو من أتى فالحاكم الرفع لهذا أثبت أى جعله مرفوعا إلى النبى صلى الله عليه وسلم فإذن إذا قال الصحابى قولا لا يدرك بالرأى له حكم الرفع إلى النبى عليه الصلاة والسلام.
إخوتى الكرام: وهذا الأثر الذى ثبت موقوفا عن ابن مسعود رواه الإمام فى مسنده عن أبى هريرة مرفوعا صراحة إلى النبى صلى الله عليه وسلم وعن الحسن ابن على رضى الله عنهم أجمعين أن النبى صلى الله عليه وسلم قال من أتى كاهنا أو عرافا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل الله على محمد عليه الصلاة والسلام.
والأثر رواه الإمام أحمد ومسلم فى صحيحه عن بعض أزواج النبى عليه الصلاة والسلام بلفظ [من أتى كاهنا أو عرافا فصدقه بما يقول لم تقبل له صلاة أربعين ليلة] هذه رواية مسلم.
(15/23)
والرواية الأولى كما قلت رواية الإمام أحمد عن أبى هريرة وعن الحسن وهى موقوفة عن ابن مسعود رضي الله عنهم أجمعين فإذن إذا قال الصحابى قولا لا يدرك بالرأى له حكم الرفع إلى النبى عليه الصلاة والسلام.
ومثال هذا فى تفسير كلام الله ما ثبت فى الصحيحين ومسند الإمام أحمد وسنن الترمذى عن جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما قال [كانت اليهود تقول إذا أتى الرجل امرأته من دبرها فى قبلها جاء الولد أحول] أى أن يجامعها من وراءها بشرط أن يكون الإيلاج والإدخال فى القبل الذى أحل الله الجماع فيه وإذا أتى الرجل امرأته من دبرها فى قبلها جاء الولد أحول، فأنزل الله جل وعلا: {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم} .
فهذا الأثر الثابت عن جابر ابن عبد الله رضي الله عنه فى سبب نزول هذه الآية له جكم الرفع إلى نبينا عليه الصلاة والسلام لا يدرك بالرأى كانت اليهود تقول كذا فأنزل الله هذه الآية ردا عليهم فإذن هذا له حكم الرفع إلى النبى عليه الصلاة والسلام كأن النبى عليه الصلاة والسلام يقول نزلت هذه الآية للرد على اليهود الذين يقولون إذا جامع الرجل امرأته من وراءها بشرط أن يكون الجماع فى قبلها يأتى الولد أحول هم يكذبون فى ذلك ولا حرج أن يأتى الرجل زوجته على أى جهة كانت بشرط أن يقع الإيلاج والإدخال فى القبل الذى أحل الله جل وعلا الجماع فيه فهذا هو موضع البذر وهذا هو موضع الزرع {نساؤكم حرث لكم} وأما الدبر فليس هو بموضع الزرع ولا إخراج الذرية التى تعبد رب البرية فمحرم الوطء فيه باتفاق وملعونا من فعل ذلك.
(15/24)
كما ثبت هذا عن نبينا عليه الصلاة والسلام وهذا هو اللوطية الصغرى وإذا فعل الإنسان هذا بزوجه ورفعت أمره إلى الحاكم يستتيبه فإن تاب وإلا يفرق بينه وبين زوجه وإذا أعلن توبته ثم عاد إلى ذلك يفرق القاضى والحاكم بينهما رغم أنفه فإذن هذا الأثر ثابت ابن عبد الله رضي الله عنهما له حكم الرفع إلى نبينا عليه الصلاة والسلام ومن ذلك ما رواه الحاكم فى معرفة علوم الحديث بسنده إلى أبى هريرة رضي الله عنه فى تفسير قول الله جل وعلا: {لا تبقى ولا تذر لواحة للبشر عليها تسعة عشر} فى سورة المدثر أوليس كذلك فقال أبو هريرة رضي الله عنه لواحة للبشر فى تفسير لواحة، لواحة للبشر أى تلوح لهم وتلوح وتظهر لهم وتترائى لهم وتخيفهم وتفزعهم وتفعل وتفعل بهم يقول تلقاهم جهنم يوم القيامة فتلفحهم لفحة فلا تترك لهم لحما على عظم إلا ألقته على العراقيب وهى جمع عرقوب العصب الغليظ الذى يكون فوق العقب ويمسك القدم العراقيب العصب الغليظ وويل للعراقيب من النار فى مؤخرة الرجل عصب غليظ عرقوب تلقاهم جهنم يوم القيامة فتلفحهم لفحا فلا تترك لهم لحما على عظم إلا ألقته على العراقيب أى تسقط لحمهم ويبقى هيكل عظمى فقط وتلك العظام تسقط على أرجلهم وعلى عراقيبهم.
(15/25)
هذا التفسير الثابت عن أبى هريرة رضي الله عنه لا يمكن أن يقال من قبل الرأى فهو يتعلق بأمر مغيب بأمر يوم القيامة وما يكون فيها وهى غيب فأبو هريرة رضي الله عنه ما أخذ هذا عن أهل الكتاب ولايمكن أن يؤخذ هذا منهم ولم يعرف بالأخذ عنهم ,هل قال هذا من طريق رأيه واجتهاده لا الكلام فى أمور الغيبيات عن طريق الرأى بدعة ضلالة وليس فى الصحابة مبتدع رضوان الله عليهم إذن من أين لأبى هريرة هذا الكلام تلقاه عن النبى عليه الصلاة والسلام لكن ما صرح برفعه إلى النبى عليه الصلاة والسلام لواحة للبشر تلوح لهم وتلفحهم تلك اللفحة فلا تترك لهم لحما على عظم إلا ألقته على العراقيب هذا تفسير له حكم الرفع إلى نبينا عليه الصلاة والسلام فهو ملحق بالطريق الثانى من أنواع التفسير بالمأثور.
والنوع الثانى من تفسير الصحابة مما له حكم الوقف عليهم وليس له حكم الرفع إلى نبينا عليه الصلاة والسلام وذلك إذا قال الصحابى قولا عن طريق الاجتهاد والاستنباط أو عن طريق تفسير الكلام حسب مدلولات اللغة أو أخذ شيئا من أخبار أهل الكتاب فى إيضاح بعض الأمور السابقة عنهم كما فعل عبد الله ابن عمرو ابن العاص رضي الله عن الصحابة أجمعين فكان أصاب يوم اليرموك زاملتين من أهل الكتاب وكان يحدث بما فيهما من الأمور التى وقعت للأنبياء السابقين والأمم السابقة ويدخل هذا فى تفسير كلام الله أى فى إيضاح وتفصيل بعض ماجرى للأنبياء مع أممهم فإذا جرى هذا فهذا ليس له حكم الرفع إلى نبينا عليه الصلاة والسلام فهو موقوف عليهم من أقوالهم.
(15/26)
مثال هذا ما رواه الطبرى فى تفسيره عن على رضي الله عنه فى تفسير قول الله {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم فى الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا} فقال هم القسيسون القسيسون وهم علماء النصارى عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم فى هذه الحياة الدنياوهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا وهذا القسيس الذى هو ضال مضل يزعم أنه يتقرب إلى الله بحب عيسى وأن عيسى ابنا لله وما شاكل هذا، هذا هو أخسر الناس عملا يظن أنه على شىء وهو على ضلال ويظن أن عمله مقبول وهو عليه مردود يقول على هم القسيسون.
وثبت فى تفسير الطبرى ومستدرك الحاكم عن سعد ابن أبى وقاص مثل هذا فقال القسيسون وثبت فى صحيح البخارى عن سعد ابن أبى وقاص رضي الله عنهم أجمعين أنه قال هم اليهود والنصارى عمم فى هذا القول هناك قسيسون فقط علماء النصارى وهنا فرقتان ملعونتان يهود ونصارى ثابت فى صحيح البخارى عن سعد الأخسرون أعمالا اليهود والنصارى هذا التفسير ليس له حكم الرفع إلى نبينا عليه الصلاة والسلام لأن هذا من باب ما يدخل فى هذه الآية وما تشمله هذه الآية فالآية تشمل القسيسين تشمل اليهود تشمل النصارى أقول تشمل المنافقين والمبتدعين والضالين فى هذه الأمة أيضا ولفظها عام.
ولذلك قال الإمام ابن كثير فى تفسيره عند هذه الآية فى الجزء الثالث صفحة سبعة ومائة الآية عامة فى كل من عبد الله على غير طريقة مرضية يحسب أنه مصيب وأن عمله مقبول وهو مخطأ وعمله مردود عامة فى اليهود والنصارى فى القسيسين فى المنافقين فى المبتدعين كل هؤلاء يشملهم قول الله: {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم فى الحياة الدنيا وهم يحسبوننهم يحسنون صنعا} هذا الطريق الثالث من طرق تفسير القرآن بالمأثور.
(15/27)
والطريق الرابع: تفسير القرآن بكلام التابعين الطيبين عليهم رحمة رب العالمين ,أقوال التابعين فى التفسير لها ثلاثة أحوال:
الحالة الأولى: أن يجمعوا على قول فى تفسير آية من الآيات فلا بد من الأخذ بهذا القول لمحل الإجماع والله لا يجمع هذه الأمة على ضلالة ولا على خطأ وهل لهذا مثال ولهذا أمثلة كثيرة من ذلك ما ثبت عن الإمام الأوزاعى بسند صحيح أنه قال كنا نقول والتابعون متوافرون إن الله فوق عرشه وعلمه فى كل مكان فعن سفيان الثورى وغيره فى تفسير قول الله {وهو معكم أينما كنتم} بعلمه ومعية الله العامة {وهو معكم أينما كنتم} بعلمه فى كل مكان المراد من المعية معية العلم والإحاطة طلاع والرقابة وعدم خفاء شىء عن الله جل وعلا: {ألم تر أن الله يعلم ما فى السموات وما فى الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم} بأى شىء بعلمه واطلاعه ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا بعلمه ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شىء عليم.
هذا التأويل أجمع عليه التابعون وأن تفسير المعية هنا معية علم وإحاطة واطلاع فالأوزاعي كنا نقول والتابعون متوافرون الله فوق عرشه سبحانه وتعالى وعلمه فى كل مكان فآيات المعية العامة معية علم وإحاطة وإطلاع ومراقبة وليست بمعية ذاتية فيستحيل أن يكون الخالق فى شىء من مخلوقاته كما يستحيل أن تكون المخلوقات فى شىء من ذات الخالق سبحانه وتعالى وأفضل ما قيل وأحسن ما قيل فى بيان حقيقة التوحيد إفراد الحادث عن القديم والحدوث عن القدم والمفاصلة بينهما فالله ليس كمثله شىء وهو السميع البصير سبحانه وتعالى فلا يمكن أن تكون ذات الخالق فى شىء من المخلوقات ولا أن تكون المخلوقات فى شىء من ذات الخالق.
(15/28)
إذن ما المراد بالمعية معية علم وإحاطة وهذه المعية العامة، وأما المعية الخاصة فأجمع السلف على أن المراد منها معية نصر وتأييد وتوفيق ورعاية وحفظ وكلائة وعناية {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} {لاتحزن إن الله معنا} {إن معى ربى سيهدين} ليست المعية هنا هى المعية فى قول الله: {مايكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم} فبما سيمتاز المؤمن عن الكافر إذن إذا كانت معيته لنبيه عليه الصلاة والسلام كمعيته لعدوه أبى جهل وغيره فما ميزة النبى عليه الصلاة والسلام على غيره حتى يقول إن الله معنا معنا بنصره وتأييده وتوفيقه ورعايته وحفظه وكلائته ومعونته وهناك معية عامة بعلمه وإحاطته واطلاعه ورقابته سبحانه وتعالى.
إذن هنا تفسير أجمع عليه التابعون فلابد من الأخذ به ومخالفة هذا هو عين الضلال {الرحمن على العرش استوى} .
كما ثبت هذا عن التابعين رضي الله عنهم آيات المعية {وهو معكم أينما كنتم} بعلمه كنا نقول والتابعون متوافرون الله فوق عرشه وعلمه فى كل مكان سبحانه وتعالى هذا نوع من أنواع التفسير إذا وجدته فعض عليه بالنواجذ وحذارى حذارى من تركه فلا يتركه إلا من كان ضالا وغضب الله عليه لأن مخالف الإجماع ضال {ومن يشاقق الرسول من بعد ماتبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا} .
(15/29)
النوع الثانى: من أنواع التفسير المنقول عن التابعين أن يكون تفسير منقول عن التابعين ولا إجماع عليه ما حصل هناك إجماع ونقل وإتفاق عليه قال بعض التابعين قولا فى تفسير كلام الله لكن ذلك القول له الحالات التى قيلت فى تفسير الصحابة فى الحالة الأولى ذلك القول لا يدرك بالرأى وليس طريقه اللغة ولم يؤخذ عن أهل الكتاب إذا كان يمكن أخذ ذلك الخبر عن أهل الكتاب فتابعى قال قولا فى تفسير كلام الله لا يمكن أن يكون ذلك القول مصدره الرأى فليس باجتهاده ولا عن طريق اللغة ولم يأخذه عن أهل الكتاب إذا كان يحتمل أخذه ذلك الخبر عن أهل الكتاب فهنا له حكم المرفوع الى النبى عليه الصلاة والسلام أيضا لكن يختلف هذا عن حكم مرفوع الصحابة مرفوع الصحابة حكما متصل ومرفوع التابعين حكما مرسل فنقول لقول التابعي إذا صدر منه قول فى تفسير كلام الله ولا يدرك بالرأى فله حكم الرفع المرسل إلى النبى عليه الصلاة والسلام حين احتجوا به.
نقول لهذا المرفوع المرسل حالتان:
الحالة الأولى: أن يتعزز ويتقوى بمرسل آخر فيوافقه تابعى آخر على هذا القول أو: أن يتقوى بحديث مسند مروى عن الصحابة وله حكم الرفع إلى النبى عليه الصلاة والسلام ففى هاتين الحالتين نقبل قول التابعى فى تفسير كلام الله القوى سبحانه وتعالى بلا خلاف بين أئمة الإسلام أئمة تفسير القرآن قال التابعى قولا لا يدرك بالرأى له حكم الرفع المرسل نقبله إذا تعزز بمرسل آخر أو وافقه حديث مسند هذه الحالة الأولى.
(15/30)
فإذا تقوى مرسل التابعى بمرسل آخر يقبل لأن الضعيف بغير سبب انخرام العدالة وضياعها إذا جاء من طريق آخر يرتفع لدرجة الحسن لغيره فيقبل لكن الضعيف الذى لا ينجبر هو الذى سبب ضعفه فقدان العدالة فذاك لا ينجبر بحال أما الضعيف بسبب خفة ضبط أو بسبب كما هنا عدم اتصال جاء من طريق آخر فيزول ما فى هذا الطريق من ضعف لأن الضعيفين يعدلان قويا ومرسل تعزز بمرسل أو شهد له مسند يقبل هنا كلام التابعي فى تفسير كلام الله جل وعلا ولذلك يقول الإمام عبد الرحيم بن الحسين الأثرى فى ألفيته الشهيرة:
فإن يقل يحتج بالضعيف ... فقل إذا كان من الموصوف
رواته بسوء حفظ يجبروا ... بكونه من غير وجه يذكروا
وإن يكن لكذب أو شذ ... أو قوى الضعفوف لم يجبرذا
ألا ترى المرسل حيث أسند ... أو أرسلوا كما يجىء اعتضدا
فالضعيف من غير انخرام العدالة وضياعها يتقوى إذا جاء من طريق آخر وهنا مرسل التابعى ضعيف فإذا تعزز بمرسل آخر نقبله تعزز بمسند نقبله وهناك شرط آخر يقبل فيه قول التابعى الذى له حكم الرفع إذا كان قائل هذا التفسير من أئمة التابعين الذين تلقوا تفسيرهم عن الصحابة كسعيد ابن جبير عندما تلقى التفسير عن ابن عباس رضي الله عنهم أجمعين فكونه تلقى غالب تفسيره عن الصحابة فعندما يقول قولا لا يدرك بالرأى عندنا ما يشعر بأن هذا القول مأخوذ عن شيخه الصحابى وبما أنه لايدرك بالرأى فله حكم الرفع إلى النبى عليه الصلاة والسلام فيقبل فإذا القائل من أئمة التفسير من التابعين الذين أخذوا تفسيرهم عن الصحابة هذا لايحتاج إلى تعزز بمرسل آخر أو بمسند يأتى من طريق آخر هذه الحالة الأولى لكلام التابعين فى تفسير كلام رب العالمين.
إذا كانت كلامهم تفسيرهم لا يدرك بالرأى فإذا لم يتعزز بمرسل ولا كان قائل التفسير من أئمة التفسير الذين أخذوا تفسيرهم عن الصحابة هل نحتج بتفسيره وبقوله أم لا؟
(15/31)
وقلنا له حكم الرفع إلى النبى عليه الصلاة والسلام لكنه مرسل فذهب الأئمة الثلاثة إلى الاحتجاج بخبر التابعى إذا كان مرسلا أبو حنيفة ومالك والإمام أحمد والإمام الشافعى ما قبل مرسل التابعى إلا بشروط كما تقدم أن يكون متعززا بمرسل آخر أن يشهد له مسند وما شاكل هذا كما تقدم أما الأئمة الثلاثة فاحتجوا به دون أن يأتى له طريق آخر ولذلك يقول الإمام عبد الرحيم ابن الحسين أثرى عليه رحمة الله:
واحتج مالك كذا النعمان ... وتابعوه ما به ودانوا
ورده جماهير النقاد ... للجهل بالساقط فى الإسناد
ومسلم صدر الكتاب أصل عندما قال ... فى مقدمة صحيح المرسل فى قولنا
وقول أهل العلم ليس بحجة ... وصاحب التمهيد عنهم نقلا
أى نقله عن أئمة الحديث لأن المرسل فى هذه الحالة لا يقبل.
الحالة الثالثة: من أقوال التابعين أن يكون قول التابعي ليس له حكم الرفع إلى النبى عليه الصلاة والسلام كالحالة الثانية من أقوال الصحابة فهذا الذى هو قول ليس له حكم الرفع إلى النبى عليه الصلاة والسلام هل نعول عليه أم لا؟
تقدم معنا أن قول الصحابى نعول عليه إن لم يكن له حكم الرفع أما هذا فجرى حول كلام التابعين فى تفسير كلام رب العالمين إذا لم يكن لكلامهم حكم الرفع خلاف على قولين.
القول الأول: نعول عليه وذهب إلى هذا سفيان الثورى وغيره وكان يقول إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به وبعض أئمة الإسلام قالوا لا نعول علي ما جاء عن التابعين فى تفسير كلام رب العالمين مما هو موقوف عليهم وليس له حكم الرفع قال شعبة ابن الحجاج أقوال التابعين ليست حجة فى الفروع فكيف تكون حجة فى التفسير قال الإمام ابن كثير عليه رحمة الله يعنى لا تكون حجة على من خالفهم وعند ذلك يرجع علماء الإسلام إلى لغة العرب وإلى عمومات القرآن لبيان المراد من كلام الرحمن جل وعلا.
(15/32)
هذه هى طرق التفسير بالمأثور تفسير القرآن بالقرآن تفسير القرآن بالسنة تفسير القرآن بأقوال الصحابة الكرام رضوان الله عليهم تفسير القرآن بأقوال التابعين
حول هذه الطرق عندنا تنبيه مهم نتكلم عليه فى أول الدرس الآتى إن شاء الله وأكمل الكلام على الطريق الثانى من طرق التفسير وهو التفسير بالرأى المقبول المبرور.
صلى الله علي نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليما كثيرا والحمد لله رب العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ما معنى المعية بتفصيل؟
لعلنى فصلت المعية تنقسم إلى قسمين:
معية عامة: مع البر والفاجر والمؤمن والكافر {وهو معكم أينما كنتم} فهذا معناها قلنا العلم والإحاطة والاطلاع والمراقبة.
ومعية خاصة: تكون مع من رضى الله عنهم وأحبهم وهم عباده المؤمنون المتقون فمعية نصر وتأييد وحفظ وكلائة ومعونة.
كيف يتم إحياء ليلة القدر؟
يتم بأن يشغلها الإنسان بالطاعات ولا يشترط أن يحيى الليلة وأن يقومها من أول الليل إلى آخرها وليلة القدر ممتدة كما قال الله {سلام هى حتى مطلع الفجر} فممتدة إلى طلوع الفجر فمن وفق فى تلك الليلة للتقرب إلى الله جل وعلا بطاعة ومناجاته حصل له ذلك القيام ولا يشترط أن يقوم الليلة من أولها إلى آخرها
وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الإنبياء والمرسلين.
(15/33)
مقدمة تفسير (ش2)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
مقدمة تفسير (ش2)
الحمد لله رب العالمين شرع لنا دينا قويما وهدانا صراطا مستقيما وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة وهو اللطيف الخبير اللهم لك الحمد كله ولك الملك كله وبيدك الخير كله وإليك يرجع الأمر كله أنت رب الطيبين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك ولى الصالحين وخالق الخلق أجمعين ورازقهم ف {ما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين} .
{يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون} [الأنعام/102] وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله أرسله الله رحمة للعالمين فشرح به الصدور وأنار به العقول وفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبيا عن أمته رضى الله عن أصحابه الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
{يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا} [النساء/1] {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} [آل عمران/102] {يا أيها أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاعظيما} [الأحزاب/70-71] .
أما بعد معشر الأخوة الكرام لازلنا نتدارس المقدمة لدروسنا فى تفسير كلام ربنا جل وعلا وقلت إن المقدمة تقوم على أمرين.
الأمر الأول: فى منزلة كلام الرحمن وأثره فى عباد الله جل وقد انتهيت من هذا الأمر.
والأمر الثانى: فى الطريقة المثلى القويمة فى تفسير الآيات القيمة الحكيمة وهو ما سنتدارسه فى هذا الدرس بعون الله جل وع صلى الله عليه وسلم.
(16/1)
إخوتى الكرام: الطريقة القويمة فى تفسيرالآيات المحكمة القيمة العظيمة هذا الطريقة تقوم على أمرين اثنين.
الأمر الأول: على التفسير بالمأثور على التفسير بالمنقول.
والثانى: على التفسير بالرأى المقبول المبرور فالطريقة المحكمة لتفسير آيات القرآن إما أن يكون عن طريق النقل وإما أن يكون عن طريق الرأى الحسن.
أما الطريقة الأولى وهى التفسير بالمأثور فيعنى بها ويراد بها أن ينقل المفسر تفسير الآيات المحكمة من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أقوال الصحابة الكرام رضوان الله عليهم ومن أقوال التابعين الطيبين عليهم رحمة الله جل وعلا فإذا نقل المفسر تفسير آيات القرآن من كتاب الله فسر كلام الله بكلام الله أوفسر كلام الله بكلام رسول الله عليه الصلاة والسلام أو فسر كلام الله جل وعلا بكلام الصحابة رضوان الله عليهم أو فسر كلام الله جل وعلا بكلام التابعين الطيبين عليهم رحمة الله، هذه الطريقة بأقسامها الأربعة يقال لها تفسير بالمأثور وإنما جعلت الطريقين الآخرين من التفسير بالمأثور وهما ما نقل عن الصحابة وما نقل عن التابعين لثلاثة أمور معتبرة.
أولها: بعض ما نقل عن الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم جميعا له حكم المرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سيأتينا.
(16/2)
الأمر الثانى: مانقل عن الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم جميعا مما ليس له حكم المرفوع إلى نبينا صلى الله عليه وسلم فالنفس تطمئن إليه والقلب يسكن لقبوله ويميل إلى ذلك ويقدمه عل ما سواه والأمر الثالث عمل المفسرين وأئمة الإسلام حيث جعلوا ما نقل عن الصحابة والتابعين رضى الله عنهم جميعا من قبيل التفسير بالمأثور فالأمام السيوطى عليه رحمة الله عندما ألف كتابه العظيم النافع فى التفسير بالمأثور وهو المسمى بالدر المنثور فى التفسير بالمأثور ولم يرد به تفسيرا بالرأى على الإطلاق قصر هذا الكتاب على تفسير كلام الله جل وعلا بما نقل عن النبى عليه الصلاة والسلام وبما نقل عن الصحابة الطيبين وبما نقل عن التابعين الطاهرين رضوان الله عليهم أجمعين،هذا عمله فى تفسيره الدر المنثور فى التفسير بالمأثور والكتاب عظيم ونافع جدا وهو فى ست مجلدات كبيرة ولو حقق لربما لوصل الكتاب إلى عشرين مجلدا فى التفسير بالمأثور المنقول فقط على أقل تقدير {الدر المنثور فى التفسير بالمأثور} وعلى هذا سار بعد ذلك من كتب فى التفسير من أئمة المسلمين فالشيخ الذهبى فى كتابه التفسير والمفسرون فى الجزء الأول فى صفحة اثنتين وخمسين ومائة اعتبر ما نقل عن الصحابة الطيبين وما نقل التابعين الطاهرين من طرق التفسير بالمأثور.
(16/3)
وهكذا أحمد أمين فى كتابه ظهر الإسلام فى الجزء الثانى فى صفحة سبعين وثلاثين وعليه فالتفسير بالمأثور هو: أن ينقل المفسر تفسير كلام الله جل وعلا من كلام الله ومن سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام ومن أقوال الصحابة الكرام رضى الله عنهم ومن أقوال التابعين عليهم رحمة الله جل وعلا فليس للمفسر فى هذه الطريقة إلا النقل من هذه المصادر الأربع ولذلك قيل له تفسير بالمأثور من قولك أثرت الحديث آثره إذا ذكرته ورويته عن غيرى ومنه قول إبى سفيان والحديث فى صحيح البخارى عندما أرسل النبى صلى الله عليه وسلم كتابه إلى هرقل عظيم الروم يدعوه إلى الإسلام فجمع هرقل من هم من مكة فى بلاد الشام جاؤا تجارا إلى بلاد الشام ليسألهم عن النبى عليه الصلاة والسلام فلما اجتمعوا قال لهم أيكم أقرب نسبا بهذا الرجل الذى يزعم أنه نبى فقلت أبو سفيان أنا فقال قدموه وجعلوا أصحابه وراء ظهره ثم قال هرقل لقوم إبى سفيان إنى سائل هذا أى أبا سفيان عن هذا الرجل الذى يزعم أنه نبى عليه الصلاة والسلام فإن كذبنى فكذبوه فقال أبو سفيان والله لولا أن يأثروا عنى كذبا لكذبت عليه أى لافتريت وقلت فيه ما ليس فيه،يأثروا أى ينقلوا عنى كذبا وتتناقله الأجيال بأن أبا سفيان كذاب فالكذب منقصة فى بنى الإنسان فلذلك لن يتكلم إلا بحقيقة الأمر لولا أن يأثروا عنى كذبا لكذبت عنه فإذن تفسير المأثور أى منقول من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أقوال الصحابة رضوان الله عليهم ومن أقوال التابعين عليه رحمة الله هذه الطرق الأربعة للتفسير بالمأثور ينبغى أن نقف عندها وقفة يسيرة نوضح فيها هذه الطرق.
(16/4)
أولا تفسير القرآن بالقرآن: هذا أحسن طرق التفسير لأن هذا جار على البدهية المقررة بأن صاحب الكلام أدرى بمراد كلامه وصاحب البيت أدرى بما فى بيته وأهل مكة أدرى بشعابها وكلام الله جل وعلا أول من يعلم ماذا يراد به المتكلم وهو الله جل وعلا ولذا إذا وجدنا تفسيرا للقرآن بالقرآن فنعض على ذلك بالنواجذ فهذا تفسير لكلام الله بكلام الله ولهذا أمثلة كثيرة من ذلك قول الله جل وعلا فى سورة الفرقان {إنا أنزلناه في ليلة مباركة} هذه الليلة التى هى كثيرة الخيرات عظيمة البركات نزلت فيها هذه الآيات المحكمات نزل فيها القران العظيم.
ما هى؟ وفى أى شهر من أشهر السنة هى؟ نقل فى ذلك قولان: قول مهجور مردودوهوأنها ليلة النصف من شعبان ولم ينقل هذا إلا عن عكرمة من التابعين وهذا ثابت عنه بإسناد صحيح عليه رحمة الله لكن القول مردود ولم يرد فى ليلة النصف من شعبان حديث يسوى سماعه كما قال أئمتنا الكرام إذن نحن إذا أردنا أن نبين هذه الليلة نأتى لكلام الله هل وضح الله هذه الليلة فلنستعرض آيات القرآن الكريم فى بيان هذه الليلة ومتى هي يقول الله فى سورة القدر {إنا أنزلناه فى ليلة القدر *وماأدراك ما ليلة القدر* ليلة القدر خير من ألف شهر} هذه هى البركة التى نزل فيها القرآن أن هذه الليلة مباركة فهى أفضل من ألف شهر ليس فيها ليلة القدر وهى أفضل من ألف شهر من بضع وثمانين سنة يتعبد فيها الرجل من الأمم السابقة لقصر أعمار هذه الأمة كما ثبت هذا عن مجاهد رضى الله عنه فى موطأ مالك وغيره.
(16/5)
فإذن ليلة القدر عظيمة البركة ومن بركتها أنها خير من ألف شهر ليس فيها ليلة القدر وهى خير من ألف شهر يتعبد فيها المكلف من الأمم السابقة فهذه الأمة أعمارها قصيرة فأعطاهم الله ليلة هى خير من ألف شهر إذا أحيوها كتب لهم ما يزيد على عبادة بضع وثمانين سنة والأجر لنا خير من تلك السنوات الكثيرة التى يقومها فرد من الأمم السابقة فى عبادة ربه جل وعلا إذن هذه الليلة المباركة هى ليلة القدر ليلة القدر التى لها هذا الشأن فى أى شهر شهر رمضان الذى أنزل فيه القرآن هذا تفسيرللقرآن بالقرآن فالليلة المباركة التى لم تحدد فى أى شهر هى ولم تبين متى تكون فى سورة الدخان {إنا أنزلناه فى ليلة مباركة} بين الله فى سورة القدر أن هذه الليلةالمباركة هى ليلة القدر وليلة القدر التى نزل فيها القرآن هى فى شهر رمضان كما قال ربنا الرحمن {شهر رمضان الذى أنزل فيه القرآن} هذا تفسير للقرآن بالقرآن ومن ذلك قول الله جل وعلا فى سورة الإسراء {قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذن لابتغوا إلى ذى العرش سبيلا} لطلب تلك الآلهة طريقا الى الله هذا الطريق الذى يطلبه تلك الآلهة إلى الله ما هو؟
آيات القرآن دلت على أن ذلك الطريق محصور فى أمرين اثنين كل منهما حق, الأمر الأول لطلبو طريقا لمنازعة الله ولمخاصمته ولقتاله كما قال جل وعلا {قل لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} {قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذن لابتغوا إلى ذى العرش سبيلا} لحصل النزاع بين تلك الآلهه التى تزعمونها مع الله ومع الله كما قال جل وعلا {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} فلنازعت تلك الآلهه هذا الإله وبالتالى يختل نظام هذا الكون والإحكام الذى فيه دل على إنه إله واحد يسيره ويتصرف فيه {قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذن لابتغوا إلى ذى العرش سبيلا} سبيلا الى منازعته ومخاصمته ومغالبته {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} .
(16/6)
والثانى لابتغوا إلى ذى العرش سبيلا،طريقا للتقرب إليه والسعى فى خدمته وعبادته لينالوا المنزلة عنده ,لو كان هناك آلهة كما تزعمون لعبدت تلك الآلهة هذا الإله الحق الذى هو الإله العظيم وهذا أشار ربنا جل وعلا إليه فى سورة الإسراء فقال {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا} هؤلاء الذين تعبدونهم من دون الله وتزعمونهم أنهم آلهة مع الله من الملائكة والمسيح ابن مريم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه هم يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا} .
والآية كما ثبت فى صحيح البخارى عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه نزلت فى أناس من العرب من الإنس كانوا يعبدون ناسا من الجن فأسلم الجن وعبدوا الله وبقى المشركون من العرب على عبادتهم فأنزل الله هذه الآية يعيرهم بها فقال أولئك الذين يدعون ,يدعونهم من دون الله ويعبدونهم {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا} .
إذن قول الله جل وعلا {قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا} هذا السبيل مفسر فى آيات القرآن الكريم بأمرين لابتغوا سبيلا لمنازعته وبالتالى يفسد هذا الكون لابتغوا سبيلا إلى عبادته والتقرب إليه فكيف تعبدونهم من دون الإله الحق فاعبدوا من يعبده من تعبدونهم فمن تعبدونه يعبد الله فاعبدوا الله جل وعلا ولا تشركوا به أحدا {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا} .
(16/7)
ومن ذلك قول الله جل وعلا {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} من سورة النحل إذا أردت المراد من هذه الآية إذا أردت أن تقرأ وإذا أردت الشروع فى القراءة فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ولا يقال إن الفعل هنا فعل ماض ورتب الله جل وعلا الجزاء على الشرط فإذا قرأت القرآن وانتهيت استعذ بالله من الشيطان الرجيم كما وهم فى ذلك بعض المفسرين ويأتينا هذا إن شاء الله عند تفسير آيات الإستعاذة ونسبوا هذا القول إلى بعض الصحابة كإبى هريرة وغيره رضي الله عنهم بأن الاستعاذة تكون فى آخر القراءة لأن الله يقول {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} إذا انتهيت فاستعذ وهذا الكلام كما قال الإمام أبو بكر ابن العربى فى أحكام القرآن قال فى حق هذا الكلام انتهى العى بقوم إلى أن قالوا إن الإستعاذة بعد القراءة ونسب بعضهم ذلك إلى الإمام مالك والله أعلم بسر هذه الرواية وفقه الإمام مالك وذكائه أعلى من أن ينسب إليه ذلك إذن {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} كيف تقولون إذا أردت أن تقرأ ,نقول لهذا نظائر فى كلام الله وهذا بينته آيات القرآن يقول الله جل وعلا {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق} الآية إذا قمتم إذا أردتم القيام إلى الصلاة وأنتم محدثون فتطهروا وليس وهو يصلى يتوضأ هذا بينته آيات القرآن ووضحته.
ومن ذلك قول الله جل وعلا {يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة} أى إذا أردتم مناجاة الرسول عليه الصلاة والسلام.
ومن ذلك قول الله {وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب} أى إذا أردتم سؤالهن لمتاع من أمتعة الدنيا ومتاع البيوت فاسألوهن من وراء حجاب إذا أردتم.
(16/8)
وهنا فإذا قرأت القرآن فاسعذ بالله إذا أردت أن تقرأ القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ولهذا أمثلة كثيرة إن شاء الله عندما نتدارس تفسير كلام الله جل وعلا نطبق هذا فنبدأ بتفسيركلام الله بكلام الله فإن وجدنا هذا عضضنا عليه بالنواجذ وإلا انتقلنا إلى الطريقة التى بعدها.
إخوتى الكرام: أبرز من عنى بهذا النوع من التفسير وهو إيضاح القرآن بالقرآن وتفسير القرآن بالقرآن شيخنا المبارك الشيخ محمد الأمين الشنقيطى عليه رحمة الله ونور الله قبره وجعل قبره روضة من رياض الجنة وغفر له ولجميع المسلمين والمسلمات فى كتابه العظيم فى التفسير المسمى بأضواء البيان فى إيضاح القرآن بالقرآن ,فذكر فى مقدمة كتابه وتفسيره فى الجزء الأول فى صفحة ثلاثة أن أهم المقصود بتفسيره أضواء البيان فى إيضاح القرآن بالقرآن أمران: الأمر الأول إيضاح القرآن بالقرآن وسلك حقيقة مسلكا لم يسلكه من قبله من المفسرين بالنسبة التى سلكها كانوا يفسرون كلام الله بكلام الله لكن أحيانا يقتصرون فى الإيضاح أما هو لايوجد آية بينت فى آية أخرى إلا واستعرض هذا وذكر النظائر التى توضح كلام الله جل وعلا بكلام الله جل وعلا.
والأمر الثانى والغرض الثانى من تفسيره أنه يبين الأحكام الفقهية فى تفسير الآيات القرآنية ,فأهم المقصود بتفسيره أمران إيضاح القرآن بالقرآن وبيان الأحكام الفقهية عند الآيات المفسرة التى يوضحها عليه رحمة الله.
هذا النوع الأول من أنواع التفسير بالمأثور تفسير القرآن بالقرآن والنوع الثانى تفسير القرآن بالسنة.
(16/9)
إخوتى الكرام: قبل النوع الثانى أحب أن أبين إلى أنه يدخل فى هذا النوع من البيان إيضاح القراءات ببعضها فالقراءة مع القراءة كالآية مع الآية كما قال أئمتنا فقد يكون المعنى فى قراءة من القراءات يحتمل لمعنيين ما المراد منهما تأتى قراءة ثانية توضح أن المراد من هذه القراءة من هذه الآية هو المعنى الأول أو الثانى كقول الله جل وعلا فى سورة النور {ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم} [النور/22] .
(16/10)
قرأ القراء التسعة العشرة باسثناء إبى جعفر يزيد ابن القعقاع قارىء المدينة المنورة وشيخ نافع عليهم جميعا رحمة الله قرأ التسعة ولا يأتل وقرا أبو جعفر ولا يتأل أولوا الفضل منكم والسعة أن يأتوا أولوا القربى لايأتل ولا يتأل والقراءتان متواترتان ثابتتان عن نبينا عليه الصلاة والسلام وقول الحافظ فى الفتح فى الجزء الثامن صفحة تسع وثمانين وأربعمائة لاتعرف هذه القراءة عن أهل المدينة وإنما قرأ بها الحسن البصرى فقط وهى من الشواذ هذا وهم منه غفر الله له ورحمه فالآية ثابتة عن إبى جعفر يزيد ابن القعقاع ولا يتأل أولوا الفضل قراءة ولا يأتل التى هى قراءة الجمهور والجم الغفير والقراءة الأكثر تحتمل معنيين تحتمل ولا يأتل من الألية بوزن عطية بمعنى اليمين والحلف والقسم, قليل الألايا حافظ ليمينه إذا صدرت منه الألية برة وعليه ولا يأتل أى لا يحلف ,أولوا الفضل منكم والسعة على ألا يأتوا إحسانهم وصدقاتهم ومعروفهم لأولى القربى والمساكين والمهاجرين فى سبيل الله والآية نزلت فى عتاب أبى بكر رضي الله عنه عندما حلف ألاينفق على مسطح ابن أثافة رضي الله عنهم أجمعين وهو ابن الكبر خالته وقد خاض فى الإفك رضي الله عنه وغفر له وهو من أهل بدر الكرام رضي الله عنهم أجمعين، ولا يأتل ولا يحلف من الألية بوزن عطية بمعنى القسم واليمين.
(16/11)
وتحتمل من الألو بمعنى التقصير ولا يأتل ولا يقصر فى النفقة ,فاحتملت قراءة الجمهور معنيين لا يأتل لايحلف ,لايأتل لايقصر فأى المعنيين هو المراد قراءة أبى جعفر توضح وترجح معنى من هذا المعنيين لاتحتمل قراءة إبى جعفر غيره ولا يتأل والتال هو الحلف وهذا الذى صدر من أبى بكر رضي الله عنه عندما حلف ألا ينفق على مسطح ابن أثافة فنزلت الآية تعاتبه فقال بلى نحب أن يغفر الله لنا وأعاد نفقته على مسطح ضعف ما كان ينفق عليه رضي الله عنه وأرضاه وهذه كما ثبت فى صحيح مسلم عن عبد الله ابن المبارك هى أرجى آية فى القرآن العظيم فالذى جرى من مسطح ابن أثافة ذنب عظيم عظيم كبير كبير يتكلم على أمه عائشة أمنا أم المؤمنين رضي الله عنها هى زوج النبى عليه الصلاة والسلام هى بنت صديق هذه الأمة هى الصديقة الحصان الرزان حبيبة حبيب الله عليه صلوات الله وسلامه رضي الله عنها هى قريبته فمسطح عندما تكلم بالإفك ارتكب جنايات عظيمة وأبو بكر رضي الله عنه ما قابله بشىء إلا أنه قال كنت أحسن إليه سأقطع إحسانى عنه ولو قطع الإحسان دون جناية من مسطح لما كان عليه لوم إن شاء أن يحسن فله أجر وإن شاء ألا يحسن ضاع منه ذلك الأجر لكن الله ما رضى هذا من أبى بكر رضي الله عنه فقال {ولا يأتل ولا يتأل أولوا الفضل منكم والسعة أن يأتوا أولى القربى والمساكين والمهاجرين فى سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم} .
(16/12)
فالجزاء جزاء من جنس العمل فإذا غفرت يغفر لك وإذا سامحت يسامحك الله فقال أبو بكر بلى وأعاد بالنفقة ضعف ما كان ينفق عليه وفى صحيح مسلم عن عبد الله ابن المبارك يقول هذه أحب آية إلى فى القرآن لأن الله عندما عاتب عبدا من عباده عندما قطع إحسانه فالمؤمن أيضا يقول لربه يارب أحسنت إلى فى هذه الحياة فكيف تقطع إحسانك عنى بعد الممات أنا أحوج إلى الإحسان بعد موتى من إحسانك إلى فى حياتى فالشروع ملزم فى مذهب النعمان فكيف بكرم الرحمن إذا شرعت فى نافلة يجب عليك أن تتمها عند إبى حنيفة وإذا شرعت فى إحسان يجب عليك أن تتمه ,فالله جل وعلا أولى بإتمام المعروف والكرم ولذلك قال أئمتنا فإن قدر الذنب من مسطح يحط قدر النجم من أفقه وقد جرى منه الذى قد جرى وعوتب الصديق فى حقه رضي الله عنه وأرضاه إذن ولا يأتل ولا يتأل والقراءة مع القراءة كالآية مع الآية هذا النوع الأول من أنواع تفسير القرآن بالمأثور تفسير القرآن بالقرآن.
والنوع الثانى من أنواع تفسير القرآن بالمأثور تفسير القرآن بالسنة إذا لم تجد إيضاح كلام الله جل وعلا فى كلام الله فارجع إلى سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام فالله بعث نبيه ليبين للناس ما نزل إليهم من ربهم وكان يتلوا عليهم هذا القرآن ويوضح لهم معانيه عليه صلوات الله وسلامه ولذلك قال الإمام الشافعى كل ما حكم به رسول الله عليه الصلاة والسلام فهو مما فهمه من القرآن ولذلك إذا أعياك طلب التفسير من القرآن فاطلبه من سنة النبى عليه الصلاة والسلام قال الإمام ابن كثير والغرض أنك تطلب تفسير القرآن من القرآن فإن لم تجده ترجع إلى سنة النبى عليه الصلاة والسلام.
(16/13)
كما ثبت فى المسند والسنن بإسناد جيد فى حديث معاذ عندما أرسله النبى صلى الله عليه وسلم إلى اليمن وقال له بما تحكم قال بكتاب الله قال فإن لم تجد قال بسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام قال فإن لم تجد قال أجتهد رأيى ولا آلوا قال الإمام ابن كثير والحديث فى المسند والسنن بإسناد جيد وهذا فى مقدمة تفسير الإمام ابن كثير فى الجزء الأول فى صفحة ثلاثة وهذا الكلام الذى قاله الإمام ابن كثير مأخوذ من كلام شيخه شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية وهو موجود فى مجموع الفتاوى فى الجزء الثالث عشر فى صفحة ثلاث وستين وثلاثمائة يقول هذا الحديث فى المسند والسنن بإسناد جيد.
والحديث رواه الإمام أحمد فى مسنده والترمذى فى سننه وأبو داود فى سننه ورواه الإمام ابن عبد البر فى جامع بيان العلم وفضله ورواه الخطيب البغدادى فى كتابه الفقيه والمتفقه وقد كتب الإمام ابن القيم عليه ما يزيد على صفحة فى تفسير هذا الحديث وقبوله واعتماد أئمة الإسلام فى كتابه العظيم إعلام الموقعين ويقال بالهمزة من فوق أعلام الموقعين إعلام الموقعين الذين يوقعون عن رب العالمين يعلمهم وينبههم بالاحتياط وما ينبغى عليهم فى فتاويهم أعلام الموقعين المعالم البارزة التى يهتدى بها المفتون فى أمور الدين إعلام الموقعين أعلام الموقعين يقول فى الجزء الأول فى صفحة مائتين واثنتين هذا الحديث تلقاه الكافة عن الكافة وهو حديث عملت به الأمة وأخذت به والإمام ابن العربى عليه رحمة الله فى عارضة الأحوزى فى الجزء السادس صفحة اثنتين وسبعين بعد أن حكى اختلاف العلماء فى تصحيح هذا الحديث قال والدين القول بصحتة فإنه حديث مشهور.
(16/14)
نعم فى الحديث شىء من الكلام على بعض الرواة فى الإسناد فى جهالة الحارث بن عمر وجهالة أصحاب معاذ وهل يسلم جهالة أصحاب معاذ أم هم من الشهرة بمكان وهذا أعلى مما لو ذكروا كما يقول الإمام بن القيم هذا مجال بحث لكننى أقول الحديث إذا تلقته الأمة بالقبول لا يبحث عن إسناده وقد ذكر هذا إمام المحدثين فى زمنه الإمام السخاوى فى الجزء الأول فى صفحة ثمان وستين ومائتين فقال إذا تلقت الأمة الحديث الضعيف بالقبول ينزل منزلة المتواتر لأن إجماع الأمة معصوم من الخطأ ثم نقل عن الشافعى عليه رحمة الله حديث لا وصية لوارث حديث ضعيف وتلقته الأمة بالقبول ونسخت به مدلول قول الله جل وعلا {كتب عليكم اذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين} .
فحديث لا وصية لوارث إن الله قد أعطى لكل ذى حق حقه فلا وصية لوارث حديث ضعيف تلقته الأمة بالقبول وعملت به ونسخت الوصية للوالدين والأقربين فكل من يرث لا وصية له ولا تصح الوصية له مع أنه ضعيف وهو حديث معاذ على التسليم بوجود ضعف فى إسناده فالأمة تلقته بالقبول وإذا تلقت الأمة حديثا بالقبول ينزل منزلة المتواتر ولذلك قال شيخنا عليه رحمة الله فى مذكرته فى أصول الفقه فى صفحة ثلاث وثلاثين هذا حديث مشهور ومثله لا يحتاج للبحث عن إسناده وإن كان فيه ضعف أى تكلم فى إسناده وفيه ضعف هذا مثله لا يحتاج للبحث عن إسناده حديث مشهور وتلقته الأمة بالقبول إذن نطلب تفسير كلام الله جل وعلا من كلام الله فإذا لم نجده نرجع إلى سنة النبى صلى الله عليه وسلم لنطلب تفسير القرآن من السنة وما ثبت فى حديث معاذ ثبت مدلوله من كلام ابن مسعود وعمر ابن الخطاب رضى الله عنهم فى سنن النسائى والبيهقى ومن كلام أبى بكر فى سنن البيهقى.
(16/15)
ففى سنن النسائى فى الجزء الثامن صفحة مائتين وثلاثة فى سنن النسائى فى كتاب القضاء باب القضاء باتفاق أهل العلم وفيه فى هذا الحديث والإسناد هذا المكان سئل عبد الله بن مسعود رضى الله عنه وأكثر عليه فى السؤال فقال قد مضى علينا زمان وما كنا نفتي ولسنا بأهل للفتيا والقضاء حتى صرنا إلى ما ترون فمن جاءه قضاء وعرض عليه مسألة فليقض بما فى كتاب الله فإن لم يجد فبسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام فإن لم يجد القضاء فى كتاب الله ولا فى سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام فليقض بما قضى به الصالحون ولا يقل إنى أخاف إنى أخاف فإن الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات قال أبو عبد الرحمن الإمام النسائى عليه رحمة الله هذا حديث جيد جيد ومثل هذا قال أيضا عمر رضى الله عنه كما فى سنن النسائى والبيهقى عندما كتب له أبو موسى الأشعرى رضى الله عنهم جميعا يسئله فقال له اقض بما فى كتاب الله فإن لم تجد فاقض بما في سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام فإن لم تجد فاقض بما قضى به الصالحون فإن لم تجد فإن شئت فتقدم أى اجتهد وإن شئت فتأخر ولا أرى إلا التأخر خيرا لك أى أحجم وسل أهل العلم ولا تتجرأ بنفسك على الفتيا والإجتهاد حتى تأخذ رأى أهل الخير والصلاح فإذا وجدت قضاء فى كتاب الله فاقض به فى سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام فاقض به قضى به الصالحون قبلك فاقض به لن تجد إن شئت فتقدم وإن شئت فتأخر ولاأرى التأخر إلا خيرا لك ,فمدلول حديث معاذ ثابت من كلام ابن مسعود وعمر وأبى بكر رضى الله عنهم أجمعين.
(16/16)
إخوتى الكرام: نحو الطريق الثانى من تفسير القرآن بالمأثور وهو تفسير القرآن بالسنة ينبغى أن نحذر التعويل على ما لا أصل له وعلى ما لا يثبت مما نسب إلى النبى عليه الصلاة والسلام وقد وضع على نبينا عليه الصلاة والسلام أحاديث كثيرة لاسيما فى التفسير ولذلك ثبت عن الإمام أحمد عليه رحمة الله أنه قال ثلاثة كتب ليس لها أصل التفسير والملاحم والمغازى الغالب على هذه الكتب كما قال أئمة الإسلام الغالب عليها الإرسال وعدم الاتصال والضعيف والتفسير والملاحم والمغازى.
الملاحم مايتعلق بأمور الفتن والأمور التى ستقع والمغازى ما وقع فى الأمر الأول فينقل بلا إسناد ويتساهل فيه وهكذا التفسير قال الإمام ابن حجر فى مقدمة لسان الميزان وينبغى أن يضاف إليها الفضائل كتب الفضائل ثم قال فهذه أودية الحديث الضعيف ,التفسير والفضائل والملاحم والمغازى فانتبه وحذارى حذارى أن تأخذ بما لم يثبت عن النبى عليه الصلاة والسلام فى تفسير كلام الرحمن فلا بد من أن تعول على أثر صحيح ثابت تداولته الأمة وأخذوا به فى تفسير كلام الله جل وعلا.
(16/17)
أخوتى الكرام: لهذا النوع من التفسير نماذج نذكر بعضها فى هذا الدرس قال الله جل وعلا فى كتابه {الذين آمنوا ولم يلبثوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} من سورة الأنعام الظلم يشمل كل معصية ولذلك لما نزلت هذه الآية شق ذلك على الصحابة كما ثبت فى الصحيحين عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنهم أجمعين يقول لما نزل قول الله {الذين آمنوا ولم يلبثوا إيمانهم بظلم} شق ذلك على أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام وقالوا يا رسول الله أينا لم يظلم نفسه والله شرط الأمن والاهتداء الأمن فى الآخرة والاهتداء فى الدنيا بعدم خلط الإيمان بشىء من الظلم وكل معصية ظلم تجاوز الإنسان الحدود الشرعية ووضع الأمر فى غير موضعه وغير نصابه فإذن لايحصل له اهتداء فى الدنيا ولا أمنا فى الآخرة إذا خلطوا إيمانهم بشىء من المعاصى ومن ينفك عن معصية الذين آمنوا ولم يلبثوا إيمانهم بظلم شق ذلك على أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام وقالوا يا رسول الله أينا لم يظلم نفسه أينا لايظلم نفسه.
(16/18)
فقال ليس بالذى تعنون ليس المراد من الظلم مطلق المعاصى لا إنما المراد من الظلم الشرك ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح لقمان {يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم} وعليه الذين آمنوا ولم يلبثوا إيمانهم بظلم أى لم يخلطوا إيمانهم بشرك وحدوا الله جل وعلا توحيدا حقيقيا أما أن الجبلة البشرية الطبيعة الإنسانية تنفك عن معصية فهيهات هيهات يا عبادى إنكم تخطئون فى الليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفرونى أغفر لكم مؤمن لايخلط إيمانه بهفوة وبتقصير هذا لا يمكن أن يوجد هذا لعله يوجد فى الملأ الأعلى فى حال الكرام الكاتبين الذين لا يعصون الله ما أمرهم يفعلون ما يؤمرون أما هذا البشر الذى فيه ما فيه من أمور الغضب والغفلة والشهوة والسهو والنسيان وغير ذلك يقع ,يقع فى هفوات وزلات فإذ سلم من الشرك فليحمد الله الذين آمنوا ولم يلبثوا بظلم أى بشرك أولئك لهم الأمن فى الآخرة وهم على اهتداء فى هذه الحياة الدنيا ففسرت.. الأفراد فخص هذا العموم بنوع من أفراده وهو الشرك إن الشرك لظلم عظيم ليس المراد بالظلم ماتعنونه وتفهمونه مطلق المعاصى إنما المراد منه الشرك إن الشرك لظلم عظيم.
(16/19)
ومن ذلك أيضا ماثبت فى الصحيحين وسنن الترمذى وأبى داود والحديث فى مسند الإمام أحمد عن ابن أبى مليكة من أئمة التابعين قال كانت أمنا عائشة رضي الله عنها لاتسمع شيئا لاتعرفه إلا سألت عنه حتى تعرفه رضي الله عنها وأرضاها وأكرم بها من أم واعية صالحة قانتة طيبة تقول أمنا عائشة سمعت النبى عليه الصلاة والسلام يقول من نوقش الحساب عذب وفى رواية من حوسب هلك فقالت أمنا عائشة يا رسول ألم يقل الله فى كتابه {فأما من أوتى كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا} بل سيحاسب وأنت تقول من حوسب هلك من نوقش الحساب عذب فقال يا عائشة إنما ذلك العرض ,الحساب اليسير وعرض الصحف على العامل فقط دون أن يحاسبه الله ودون أن يناقشه إنما ذلك العرض لكن من حوسب عذب ففسر صلى الله عليه وسلم هنا قول الله {فأما من أوتى كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا} بعرض الكتاب عليه يعرض عليه ثم لايناقش ولايحاسب ولايجادل ويقال له عبدى سترتك فى الدنيا وان أسترك فى الآخرة هذا هوالحساب اليسير لكن من حاسبه الله وناقشه وجرى بينه وبين عبده مجادلة هلك العبد وعذب ولابد من حوسب عذب من نوقش الحساب عذب من حوسب هلك والحساب اليسير فى قوله الله فسوف يحاسب حسابا يسيرا هوالعرض وهكذا قول الله جل وعلا فى سورة الزلزلة والزلزال يومئذ تحدث أخبارها سألوا النبى عليه الصلاة والسلام عن أخبارها التى تتحدث بها الأرض ما هذه الأخبار التى تتحدث بها الأرض يوم القيامة.
(16/20)
والحديث ثابت فى مسند الإمام أحمد والترمذى ومستدرك الحاكم وهو بسند حسن قالوا يا رسول الله عليه الصلاة والسلام ما أخبارها قال أن تشهد على ابن آدم بما عمل على ظهرها من خير أو شر أن تشهد على ابن آدم بما عمل على ظهرها من خير وشر سبحان الله الجوارح تشهد والأرض تشهد العمر ينقص والذنوب تزيد وتقال عثرات الفتى فيعود هل يستطيع جحود ذنب واحد رجل جوارحه عليه شهود الجوارح تشهد والبقعة التى عصيت الله عليها تشهد عليك والبقعة التى أطعت الله فيها تشهد لك هذه الأخبار تتحدث بها الأرض يوم القيامة يومئذ تحدث أخبارها ما أخبارها أن تشهد على ابن آدم بما عمل على ظهرها من خير أو شر وهكذا قول الله جل وعلا {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} ما السبيل سألوا النبى عليه الصلاة والسلام فقالوا يا رسول الله ما السبيل الذى إذا استطاعه الإنسان وجب عليه الحج.
والحديث ثابت فى سنن الترمذى وابن ماجة وسنن البيهقى والدار قطنى ومستدرك الحاكم بسند صحيح لكثرة طرقه وشواهده قال شيخنا عليه رحمة الله فى أضواء البيان الذى يظهر أن الحديث ثابت لكثرة طرقه وقال الإمام الشوكانى فى نيل الأوتار ولايخفى أن كثرة هذه الطرق تفيد ثبوت الحديث والحديث ثابت عن ثمانية الصحابة الكرام عن على وابن عمر وابن عباس وأنس وابن عمرو وابن مسعود وجابر ابن عبد الله وأمنا عائشة رضي الله عنهم أجمعين قالو ما السبيل قال الزاد والراحلة فإذا ملك زادا وراحلة فاضلتين عن حوائجه الأصلية وجب عليه أن يذهب إلى الحج {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} ولذلك إذا لم يملك الزاد والراحلة الزاد وأجرة الطريق ونفقة عياله فلا يجب عليه الحج وبهذا قال الأئمة الثلا ثة الحنفية والشافعية والحنابلة والإمام مالك عليه رحمة الله اعتبر تفسير النبى عليه الصلاة والسلام من باب التفسير بالأمر الغالب.
(16/21)
ولذلك يجب الحج عند الإمام مالك على المسلم إذا كان مكلفا ولم يملك زادا وراحلة وتفسير النبى عليه الصلاة والسلام يقول جرى هذا على حسب الأغلب لأن غالب الحجاج آفاقيون وإذا كانوا من بلاد بعيدة فسيتكلفون المشى على أرجلهم وفى الغالب يشق عليهم فإذا كان يشق عليهم فلا بد إذن من زاد وراحلة أما من تمكن من الحج لقرب المكان كما لو كان من أهل المدينة المنورة أو من بلاد الشام مثلا ماشيا على رجليه والطريق يقرب منه مدة أسبوع ليس كما هو الحال من بلاد المغرب ,كان شيخنا عليه رحمة الله يقول إذا عيدوا عيد الأضحى فى بلاد موريتانيا التى هى شنقيط يخرجون إلى الحج فيبقون فى الطريق سنة كاملة حتى يدركوا عيد الأضحى فى السنة الآتية فى بلاد الحجاز فى مكة المكرمة سنة كاملة فهذا يشق عليه أن يمشى على رجليه فغالب الحجاج آفقيون ولذلك إذا كانت المسافات بعيدة فلابد من زاد وراحلة لكن إذا كانت المسافة قريبة وبإمكانه أن يمشى على رجليه فوجب عليه أن يحج وإن لم يملك زادا ولا راحلة لأن تفسير النبى عليه الصلاة والسلام جرى على الأمر الغالب وإذا جرى على الأمر الغالب فليس له مفهوم مخالفة أى لايفهم منه أنه إذا لم يملك زادا وراحلة لا يجب عليه الحج.
(16/22)
هذا كقول الله جل وعلا {وربائبكم اللاتى فى حجوركم من نسائكم اللاتى دخلتم بهن} فالربيبة بنت الزوجة تحرم عليك سواء كانت فى حجرك أو لم تكن فى حجرك إذن لما هذا القيد قال أئمتنا أغلبى لأن الغالب أن بنت الزوجة تكون مع الزوجة فى حجرك وفى بيتك لكن لو تزوجت امرأة ولها بنت ولم ترها ولم تربى فى حجرك يحرم عليك أن تجمع بين المراة وابنتها فلا يجوز إذن لما قال الله فى حجوركم قالوا هذا قيد أغلبى الغالب الربيبة تكون فى حجر الزوج ولذلك ليس له مفهوم مخالفة أى إن كانت فى حجرك تحرم عليك وإن لم تكن فى حجرك تحرم عليك وهنا كلام النبى عليه الصلاة والسلام الزاد والراحلة هذا باعتبار الأمر الغالب ولذلك قال الإمام مالك عليه رحمة الله إذا أمكنه أن يحج على رجليه وجب عليه ذلك فإذا لم يمكن وكان من بلاد بعيدة ويصعب عليه أن يحج على رجليه فهناك لا بد من زاد وراحلة أما إن أمكنه المشى وجب عليه وإن لم يكن عنده زاد نقول له حالتين فإن كان من أهل المروءات الذين يصعب عليهم أن يعملوا فى كل منطقة يذهبون إليها فلا يجب عليه حتى يجد زادا وإن لم يكن من أهل المروءات واحد عادى وليس عنده نفقة وعنده القدرة أن يمشى على رجليه فيجب عليه أن يمشى وأن يشتغل بكل بلدة يصل إليها ليحصل قوته ليؤدى هذه الفريضة التى أوجبها الله عليه {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} هو الزاد والراحلة هل هذا التفسير أغلبى او لبيان شرط وجوب الحج , اختلف الأئمة فى ذلك بعد اتفاقهم على ثبوت هذا التفسير عن النبى عليه الصلاة والسلام ,إذن هذا من أنواع تفسير القرآن بسنة نبينا عليه الصلاة والسلام وهذا الطريق الثانى من طرق التفسير بالمأثور.
(16/23)
والطريق الثالث: تفسير القرآن الكريم بأقوال الصحابة الكرام رضوان الله عليهم فهذا أيضا يأتى فى المرتبة الثالثة فالصحابة أكثرهم عرب خلص والقرآن نزل بلسان عربى مبين فيفهمون المراد من كلام الله جل وعلا على حسب لغتهم وهم حضروا وقائع التنزيل وشهدوا أسباب نزول الآيات الكريمات فيعرفون ماذا يراد بتلك الآيات وماذا يعنى بها ثم لهم من الفهم ورسوخ القدم فى الدين ما ليس لغيرهم فكلامهم يقدم على كلام من بعدهم ولا شك لهذه الاعتبارات الثلاثة رضوان الله عليهم أكثرهم عرب خلص ,شهدوا نزول القرآن, لهم من الفهم فى دين الرحمن والمنزلة ما ليس لغيرهم فكلامهم مقدم على كلام من بعدهم.
(16/24)
وأقوال الصحابة فى تفسير كلام الله جل وعلا أقوالهم لها حالتان: الحالة الأولى أن يكون لأقوالهم حكم الرفع إلى نبينا صلى الله عليه وسلم وذلك يكون إذا قال الصحابى قولا فى تفسير كلام الله وهذا القول لا يدرك بالرأى وليس طريقه اللغة وليس مأخوذا عن أخبار أهل الكتاب إذا كان ذلك الصحابى يأخذ عنهم كعبد الله ابن عمرو ابن العاص رضى الله عن الصحابة أجمعين فإذا قال الصحابى قولا فى تفسير الله ذلك القول لا يدرك بالرأى وليس طريقه اللغة وليس معروفا بالأخذ عن أهل الكتاب إذا كان ذلك الخبر يحتمل أخذه عنهم فإذا خلا عن هذه الأمور فلقول الصحابى فى تفسير كلام الله حكم الرفع إلى النبى عليه الصلاة والسلام كما لو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا فى تفسير الآية وهذا ما أشار إليه أئمتنا عليهم رحمة الله بلا خلاف بينهم يقول الشيخ عبد الرحيم ابن الحسين الأثرى فى الألفية الشهيرة بألفية الأمام العراقى عليه رحمة الله وما أتى عن صاحب بحيث لا يقال رأيا حكمه الرفع على ما قال فى المحصول نحو من أتى فالحاكم الرفع لهذا أثبت وماأتى عن صاحب بحيث لا يقال رأيا أى لا يمكن أن يكون ذلك القول مصدره الاجتهاد ولا اللغة ولا الأخذ عن أهل الكتاب إن كان الصحابى معروفا بالأخذ عنهم حكمه الرفع على ما قال فى المحصول كتاب فى أصول الفقه للإمام الرازى نحو من أتى فالحاكم الرفع لهذا اثبتا من أتى أى من أتى كاهنا أو عرافا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل الله على محمد عليه الصلاة والسلام.
(16/25)
والأثر مروى عن عبد الله ابن مسعود موقوفا عليه فى هذه الرواية من أتى كاهنا أو عرافا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل الله على محمد عليه الصلاة والسلام هذا الأثر موقوف من ناحية اللفظ لكنه مرفوع من ناحية الحكم إلى النبى عليه الصلاة والسلام فالصحابى لا يمكن أن يقول هذا الحكم فى دين الله عن طريق رأيه وهواه واجتهاده هذا مأخوذا عن النبى عليه الصلاة والسلام لكنه ما صرح بإضافة هذا الكلام إليه ,وما أتى عن صاحب بحيث لا يقال رأيا حكمه الرفع على ماقال فى المحصول نحو من أتى أى من أتى كاهنا أو عرافا كلام ابن مسعود نحو من أتى فالحاكم الرفع لهذا أثبت أى جعله مرفوعا إلى النبى صلى الله عليه وسلم فإذن إذا قال الصحابى قولا لا يدرك بالرأى له حكم الرفع إلى النبى عليه الصلاة والسلام.
إخوتى الكرام: وهذا الأثر الذى ثبت موقوفا عن ابن مسعود رواه الإمام فى مسنده عن أبى هريرة مرفوعا صراحة إلى النبى صلى الله عليه وسلم وعن الحسن ابن على رضى الله عنهم أجمعين أن النبى صلى الله عليه وسلم قال من أتى كاهنا أو عرافا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل الله على محمد عليه الصلاة والسلام والأثر رواه الإمام أحمد ومسلم فى صحيحه عن بعض أزواج النبى عليه الصلاة والسلام بلفظ [من أتى كاهنا أو عرافا فصدقه بما يقول لم تقبل له صلاة أربعين ليلة] هذه رواية مسلم والرواية الأولى كما قلت رواية الإمام أحمد عن أبى هريرة وعن الحسن وهى موقوفة عن ابن مسعود رضي الله عنهم أجمعين فإذن إذا قال الصحابى قولا لا يدرك بالرأى له حكم الرفع إلى النبى عليه الصلاة والسلام.
(16/26)
مثال هذا فى تفسير كلام الله ما ثبت فى الصحيحين ومسند الإمام أحمد وسنن الترمذى عن جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما قال [كانت اليهود تقول إذا أتى الرجل امرأته من دبرها فى قبلها جاء الولد أحول] أى أن يجامعها من وراءها بشرط أن يكون الإيلاج والإدخال فى القبل الذى أحل الله الجماع فيه ,إذا أتى الرجل امرأته من دبرها فى قبلها جاء الولد أحول ,فأنزل الله جل وعلا {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم} فهذا الأثر الثابت عن جابر ابن عبد الله رضي الله عنه فى سبب نزول هذه الآية له جكم الرفع إلى نبينا عليه الصلاة والسلام لا يدرك بالرأى كانت اليهود تقول كذا فأنزل الله هذه الآية ردا عليهم فإذن هذا له حكم الرفع إلى النبى عليه الصلاة والسلام كأن النبى عليه الصلاة والسلام يقول نزلت هذه الآية للرد على اليهود الذين يقولون إذا جامع الرجل امرأته من وراءها بشرط أن يكون الجماع فى قبلها يأتى الولدأحول هم يكذبون فى ذلك ولا حرج أن يأتى الرجل زوجته على أى جهة كانت بشرط أن يقع الإيلاج والإدخال فى القبل الذى أحل الله جل وعلاالجماع فيه فهذا هو موضع البذر وهذا هو موضع الزرع {نساؤكم حرث لكم} وأما الدبر فليس هو بموضع الزرع ولا إخراج الذرية التى تعبد رب البرية فمحرم الوطء فيه باتفاق وملعونا من فعل ذلك كما ثبت هذا عن نبينا عليه الصلاة والسلام وهذا هو اللوطية الصغرى وإذا فعل الإنسان هذا بزوجه ورفعت أمره إلى الحاكم يستتيبه فإن تاب وإلا يفرق بينه وبين زوجه وإذا أعلن توبته ثم عاد إلى ذلك يفرق القاضى والحاكم بينهما رغم أنفه فإذن هذا الأثر ثابت ابن عبد الله رضي الله عنهما له حكم الرفع إلى نبينا عليه الصلاة والسلام.
(16/27)
ومن ذلك ما رواه الحاكم فى معرفة علوم الحديث بسنده إلى أبى هريرة رضي الله عنه فى تفسير قول الله جل وعلا {لا تبقى ولا تذر لواحة للبشر عليها تسعة عشر} فى سورة المدثر أوليس كذلك فقال أبو هريرة رضي الله عنه لواحة للبشر فى تفسير لواحة للبشر أى تلوح لهم وتلوح وتظهر لهم وتترائى لهم وتخيفهم وتفزعهم وتفعل وتفعل بهم يقول تلقاهم جهنم يوم القيامة فتلفحهم لفحة فلا تترك لهم لحما على عظم إلا ألقته على العراقيب وهى جمع عرقوب العصب الغليظ الذى يكون فوق العقب ويمسك القدم العراقيب العصب الغليظ ويل للعراقيب من النار فى مؤخرة الرجل عصب غليظ عرقوب تلقاهم جهنم يوم القيامة فتلفحهم لفحا فلا تترك لهم لحما على عظم إلا ألقته على العراقيب أى تسقط لحمهم ويبقى هيكل عظمى فقط وتلك العظام تسقط على أرجلهم وعلى عراقيبهم.
(16/28)
هذا التفسير الثابت عن أبى هريرة رضي الله عنه لا يمكن أن يقال من قبل الرأى فهو يتعلق بأمر مغيب بأمر يوم القيامة وما يكون فيها وهى غيب فأبو هريرة رضي الله عنه ما أخذ هذا عن أهل الكتاب ولايمكن أن يؤخذ هذا منهم ولم يعرف بالأخذ عنهم ,هل قال هذا من طريق رأيه واجتهاده لا الكلام فى أمور الغيبيات عن طريق الرأى بدعة ضلالة وليس فى الصحابة مبتدع رضوان الله عليهم إذن من أين لأبى هريرة هذا الكلام ,تلقاه عن النبى عليه الصلاة والسلام لكن ما صرح برفعه إلى النبى عليه الصلاة والسلام لواحة للبشر تلوح لهم وتلفحهم تلك اللفحة فلا تترك لهم لحما على عظم إلا ألقته على العراقيب هذا تفسير له حكم الرفع إلى نبينا عليه الصلاة والسلام فهو ملحق بالطريق الثانى من أنواع التفسير بالمأثور والنوع الثانى من تفسير الصحابة مما له حكم الوقف عليهم وليس له حكم الرفع إلى نبينا عليه الصلاة والسلام وذلك إذا قال الصحابى قولا عن طريق الاجتهاد والاستنباط أو عن طريق تفسير الكلام حسب مدلولات اللغة أو أخذ شيئا من أخبار أهل الكتاب فى إيضاح بعض الأمور السابقة عنهم كما فعل عبد الله ابن عمرو ابن العاص رضي الله عن الصحابة أجمعين فكان أصاب يوم اليرموك زاملتين من أهل الكتاب وكان يحدث بما فيهما من الأمور التى وقعت للأنبياء السابقين والأمم السابقة ويدخل هذا فى تفسير كلام الله أى فى إيضاح وتفصيل بعض ماجرى للأنبياء مع أممهم فإذا جرى هذا فهذا ليس له حكم الرفع إلى نبينا عليه الصلاة والسلام فهو موقوف عليهم من أقوالهم.
(16/29)
مثال هذا ما رواه الطبرى فى تفسيره عن على رضي الله عنه فى تفسير قول الله {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم فى الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا} فقال هم القسيسون القسيسون وهم علماء النصارى عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم فى هذه الحياة الدنياوهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا هذا القسيس الذى هو ضال مضل يزعم أنه يتقرب إلى الله بحب عيسى وأن عيسى ابنا لله وما شاكل هذا وهذا هو أخسر الناس عملا يظن أنه على شىء وهو على ضلال ويظن أن عمله مقبول وهو عليه مردود يقول على هم القسيسون.
وثبت فى تفسير الطبرى ومستدرك الحاكم عن سعد ابن أبى وقاص مثل هذا فقال القسيسون وثبت فى صحيح البخارى عن سعد ابن أبى وقاص رضي الله عنهم أجمعين أنه قال هم اليهود والنصارى عمم فى هذا القول هناك قسيسون فقط علماء النصارى وهنا فرقتان ملعونتان يهود ونصارى ثابت فى صحيح البخارى عن سعد الأخسرون أعمالا اليهود والنصارى هذا التفسير ليس له حكم الرفع إلى نبينا عليه الصلاة والسلام لأن هذا من باب ما يدخل فى هذه الآية وما تشمله هذه الآية فالآية تشمل القسيسين تشمل اليهود تشمل النصارى أقول تشمل المنافقين والمبتدعين والضالين فى هذه الأمة أيضا ولفظها عام ولذلك قال الإمام ابن كثير فى تفسيره عند هذه الآية فى الجزء الثالث صفحة سبعة ومائة الآية عامة فى كل من عبد الله على غير طريقة مرضية يحسب أنه مصيب وأن عمله مقبول وهو مخطأ وعمله مردود عامة فى اليهود والنصارى فى القسيسين فى المنافقين فى المبتدعين كل هؤلاء يشملهم قول الله {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم فى الحياة الدنيا وهم يحسبوننهم يحسنون صنعا} هذا الطريق الثالث من طرق تفسير القرآن بالمأثور.
(16/30)
والطريق الرابع: تفسير القرآن بكلام التابعين الطيبين عليهم رحمة رب العالمين وأقوال التابعين فى التفسير لها ثلاثة أحوال:
الحالة الأولى: أن يجمعوا على قول فى تفسير آية من الآيات فلا بد من الأخذ بهذا القول لمحل الإجماع والله لا يجمع هذه الأمة على ضلالة ولا على خطأ وهل لهذا مثال ,لهذا أمثلة كثيرة من ذلك ما ثبت عن الإمام الأوزاعى بسند صحيح أنه قال كنا نقول والتابعون متوافرون إن الله فوق عرشه وعلمه فى كل مكان فعن سفيان الثورى وغيره فى تفسير قول الله {وهو معكم أينما كنتم} بعلمه ,معية الله العامة {وهو معكم أينما كنتم} بعلمه فى كل مكان المراد من المعية معية العلم والإحاطة طلاع والرقابة وعدم خفاء شىء عن الله جل وعلا {ألم تر أن الله يعلم ما فى السموات وما فى الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم} بأى شىء بعلمه واطلاعه ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا بعلمه ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شىء عليم هذا التأويل أجمع عليه التابعون وأن تفسير المعية هنا معية علم وإحاطة واطلاع فالأوزاعي كنا نقول والتابعون متوافرون الله فوق عرشه سبحانه وتعالى وعلمه فى كل مكان فآيات المعية العامة معية علم وإحاطة وإطلاع ومراقبة وليست بمعية ذاتية فيستحيل أن يكون الخالق فى شىء من مخلوقاته كما يستحيل أن تكون المخلوقات فى شىء من ذات الخالق سبحانه وتعالى وأفضل ما قيل وأحسن ما قيل فى بيان حقيقة التوحيد إفراد الحادث عن القديم والحدوث عن القدم والمفاصلة بينهما فالله ليس كمثله شىء وهو السميع البصير سبحانه وتعالى فلا يمكن أن تكون ذات الخالق فى شىء من المخلوقات ولا أن تكون المخلوقات فى شىء من ذات الخالق.
(16/31)
إذن ما المراد بالمعية معية علم وإحاطة وهذه المعية العامة وأما المعية الخاصة فأجمع السلف على أن المراد منها معية نصر وتأييد وتوفيق ورعاية وحفظ وكلائة وعناية {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} ، {لاتحزن إن الله معنا} ، {إن معى ربى سيهدين} ليست المعية هنا هى المعية فى قول الله {مايكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم} فبما سيمتاز المؤمن عن الكافر إذن إذا كانت معيته لنبيه عليه الصلاة والسلام كمعيته لعدوه أبى جهل وغيره فما ميزة النبى عليه الصلاة والسلام على غيره حتى يقول إن الله معنا معنا بنصره وتأييده وتوفيقه ورعايته وحفظه وكلائته ومعونته وهناك معية عامة بعلمه وإحاطته واطلاعه ورقابته سبحانه وتعالى إذن هنا تفسير أجمع عليه التابعون فلا بد من الأخذ به ومخالفة هذا هوعين الضلال {الرحمن على العرش استوى} .
كما ثبت هذا عن التابعين رضي الله عنهم آيات المعية {وهو معكم أينما كنتم} بعلمه كنا نقول والتابعون متوافرون الله فوق عرشه وعلمه فى كل مكان سبحانه وتعالى هذا نوع من أنواع التفسير إذا وجدته فعض عليه بالنواجذ وحذارى حذارى من تركه فلا يتركه إلا من كان ضالا وغضب الله عليه لأن مخالف الإجماع ضال {ومن يشاقق الرسول من بعد ماتبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا} .
(16/32)
النوع الثانى: من أنواع التفسير المنقول عن التابعين أن يكون تفسير منقول عن التابعين ولا إجماع عليه ما حصل هناك إجماع ونقل وإتفاق عليه قال بعض التابعين قولا فى تفسير كلام الله لكن ذلك القول له الحالات التى قيلت فى تفسير الصحابة فى الحالة الأولى ذلك القول لا يدرك بالرأى وليس طريقه اللغة ولم يؤخذ عن أهل الكتاب إذا كان يمكن أخذ ذلك الخبر عن أهل الكتاب فتابعى قال قولا فى تفسير كلام الله لا يمكن أن يكون ذلك القول مصدره الرأى فليس باجتهاده ولا عن طريق اللغة ولم يأخذه عن أهل الكتاب إذا كان يحتمل أخذه ذلك الخبر عن أهل الكتاب فهنا له حكم المرفوع الى النبى عليه الصلاة والسلام أيضا لكن يختلف هذا عن حكم مرفوع الصحابة مرفوع الصحابة حكما متصل ومرفوع التابعين حكما مرسل فنقول لقول التابعي إذا صدر منه قول فى تفسير كلام الله ولا يدرك بالرأى فله حكم الرفع المرسل إلى النبى عليه الصلاة والسلام حين احتجوا به نقول لهذا المرفوع المرسل حالتان:الحالة الأولى أن يتعزز ويتقوى بمرسل آخر فيوافقه تابعى آخر على هذا القول أو أن يتقوى بحديث مسند مروى عن الصحابة وله حكم الرفع إلى النبى عليه الصلاة والسلام ففى هاتين الحالتين نقبل قول التابعى فى تفسير كلام الله القوى سبحانه وتعالى بلا خلاف بين أئمة الإسلام أئمة تفسير القرآن قال التابعى قولا لا يدرك بالرأى له حكم الرفع المرسل نقبله إذا تعزز بمرسل آخر أو وافقه حديث مسند هذه الحالة الأولى فإذا تقوى مرسل التابعى بمرسل آخر يقبل لأن الضعيف بغير سبب انخرام العدالة وضياعها إذا جاء من طريق آخر يرتفع لدرجة الحسن لغيره فيقبل لكن الضعيف الذى لا ينجبر هو الذى سبب ضعفه فقدان العدالة فذاك لا ينجبر بحال أما الضعيف بسبب خفة ضبط أو بسبب كما هنا عدم اتصال جاء من طريق آخر فيزول ما فى هذا الطريق من ضعف لأن الضعيفين يعدلان قويا, مرسل تعزز بمرسل أو شهد له مسند يقبل هنا كلام التابعي فى
(16/33)
تفسير كلام الله جل وعلا ولذلك يقول الإمام عبد الرحيم بن الحسين الأثرى فى ألفيته الشهيرة فإن يقل يحتج بالضعيف فقل إذا كان من الموصوف رواته بسوء حفظ يجبروا بكونه من غير وجه يذكروا وإن يكن لكذب أو شذ أو قوى الضعفوف لم يجبرذا ألا ترى المرسل حيث أسند أو أرسلوا كما يجىء اعتضدا.
فالضعيف من غير انخرام العدالة وضياعها يتقوى إذا جاء من طريق آخر وهنا مرسل التابعى ضعيف فإذا تعزز بمرسل آخر نقبله تعزز بمسند نقبله وهناك شرط آخر يقبل فيه قول التابعى الذى له حكم الرفع إذا كان قائل هذا التفسير من أئمة التابعين الذين تلقوا تفسيرهم عن الصحابة كسعيد ابن جبير عندما تلقى التفسير عن ابن عباس رضي الله عنهم أجمعين فكونه تلقى غالب تفسيره عن الصحابة فعندما يقول قولا لا يدرك بالرأى عندنا ما يشعر بأن هذا القول مأخوذ عن شيخه الصحابى وبما أنه لايدرك بالرأى فله حكم الرفع إلى النبى عليه الصلاة والسلام فيقبل فإذا القائل من أئمة التفسير من التابعين الذين أخذوا تفسيرهم عن الصحابة هذا لايحتاج إلى تعزز بمرسل آخر أو بمسند يأتى من طريق آخر هذه الحالة الأولى لكلام التابعين فى تفسير كلام رب العالمين إذا كانت كلامهم تفسيرهم لا يدرك بالرأى فإذا لم يتعزز بمرسل ولا كان قائل التفسير من أئمة التفسير الذين أخذوا تفسيرهم عن الصحابة هل نحتج بتفسيره وبقوله أم لا وقلنا له حكم الرفع إلى النبى عليه الصلاة والسلام لكنه مرسل فذهب الأئمة الثلاثة إلى الاحتجاج بخبر التابعى إذا كان مرسلا أبو حنيفة ومالك والإمام أحمد والإمام الشافعى ما قبل مرسل التابعى إلا بشروط كما تقدم أن يكون متعززا بمرسل آخر أن يشهد له مسند وما شاكل هذا كما تقدم أما الأئمة الثلاثة فاحتجوا به دون أن يأتى له طريق آخر ولذلك يقول الإمام عبد الرحيم ابن الحسين أثرى عليه رحمة الله واحتج مالك كذا النعمان وتابعوه ما به ودانوا ورده جماهر النقاد للجهل بالساقط فى الإسناد
(16/34)
ومسلم صدر الكتاب أصل عندما قال فى مقدمة صحيح المرسل فى قولنا وقول أهل العلم ليس بحجة وصاحب التمهيد عنهم نقلا أى نقله عن أئمة الحديث لأن المرسل فى هذه الحالة لا يقبل.
الحالة الثالثة: من أقوال التابعين أن يكون قول التابعي ليس له حكم الرفع إلى النبى عليه الصلاة والسلام كالحالة الثانية من أقوال الصحابة فهذا الذى هو قول ليس له حكم الرفع إلى النبى عليه الصلاة والسلام هل نعول عليه أم لا؟ تقدم معنا أن قول الصحابى نعول عليه إن لم يكن له حكم الرفع أما هذا فجرى حول كلام التابعين فى تفسير كلام رب العالمين إذا لم يكن لكلامهم حكم الرفع خلاف على قولين.
القول الأول: نعول عليه وذهب إلى هذا سفيان الثورى وغيره وكان يقول إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به وبعض أئمة الإسلام قالوا لا نعول علي ما جاء عن التابعين فى تفسير كلام رب العالمين مما هو موقوف عليهم وليس له حكم الرفع قال شعبة ابن الحجاج أقوال التابعين ليست حجة فى الفروع فكيف تكون حجة فى التفسير قال الإمام ابن كثير عليه رحمة الله يعنى لا تكون حجة على من خالفهم وعند ذلك يرجع علماء الإسلام إلى لغة العرب وإلى عمومات القرآن لبيان المراد من كلام الرحمن جل وعلا.
هذه هى طرق التفسير بالمأثور تفسير القرآن بالقرآن تفسير القرآن بالسنة تفسير القرآن بأقوال الصحابة الكرام رضوان الله عليهم تفسير القرآن بأقوال التابعين حول هذه الطرق عندنا تنبيه مهم نتكلم عليه فى أول الدرس الآتى إن شاء الله وأكمل الكلام على الطريق الثانى من طرق التفسير وهو التفسير بالرأى المقبول المبرور.
صلى الله علي نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليما كثيرا والحمد لله رب العالمين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ما معنى المعية بتفصيل؟
لعلنى فصلت المعية تنقسم إلى قسمين:
(16/35)
معية عامة مع البر والفاجر والمؤمن والكافر {وهو معكم أينما كنتم} فهذا معناها قلنا العلم والإحاطة والاطلاع والمراقبة.
ومعية خاصة تكون مع من رضى الله عنهم وأحبهم وهم عباده المؤمنون المتقون فمعية نصر وتأييد وحفظ وكلائة ومعونة.
كيف يتم إحياء ليلة القدر؟
يتم بأن يشغلها الإنسان بالطاعات ولا يشترط أن يحيى الليلة وأن يقومها من أول الليل إلى آخرها وليلة القدر ممتدة كما قال الله {سلام هى حتى مطلع الفجر} فممتدة إلى طلوع الفجر فمن وفق فى تلك الليلة للتقرب إلى الله جل وعلا بطاعة ومناجاته حصل له ذلك القيام ولا يشترط أن يقوم الليلة من أولها إلى آخرها.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الإنبياء والمرسلين
(16/36)
مقدمة التفسير (3)
(دروس تفسير)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة التفسير 3
الحمد لله نحمده ونتستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا.
الحمد لله رب العالمين شرع لنا دينا قويما وهدانا صراطا مستقيما وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة وهو اللطيف الخبير.
اللهم لك الحمد كله ولك الملك كله وبيدك الخير كله وإليك يرجع الأمر كله أنت رب الطيبين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك ولى الصالحين وخالق الخلق أجمعين ورازقهم فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين.
{ياأيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون} [الأنعام/102] .
وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله أرسله الله رحمة للعالمين فشرح به الصدور وأنار به العقول وفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبيا عن أمته رضى الله عن أصحابه الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
{يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا} [النساء/1] .
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون}
[آل عمران/102] .
{يا أيها أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا صلى الله عليه وسلم* يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما} [الأحزاب/70-71] .
إخوتى الكرام..
لازلنا فى مقدمة دروس التفسير التى سنتدارسها عما قريب إن شاء الله وهذه المقدمة التى ستكون مفتاحا لدروس التفسير الآتية قلت تقوم على أمرين وتدور حول أمرين.
(17/1)
الأول: فى منزلة كلام الله جل وعلا وأثره فى الناس وقد مضى الكلام على هذا.
والأمر الثانى: وهو فى بيان طرق التفسير المقبولة المحمودة فى بيان الطريقة المثلى فى تفسير كلام الله جل وعلا وقلت فى الدرس الماضى إن الطريقة المحكمة لتفسير كلام الله الحكيم تقوم على طريقين أيضا.
الطريق الأول: تفسير كلام الله بالمأثور.
والثانى: تفسير كلام الله جل وعلا بالرأى المقبول المبرور.
أما الطريق الأول: وهو تفسير كلام الله جل وعلا عن طريق الأثر والنقل فقلت له أربعة طرق مضى الكلام عليها.
الطريق الأول: تفسير كلام الله بكلام الله.
والطريق الثانى: تفسير كلام الله بحديث رسول صلى الله عليه وسلم.
والطريق الثالث: من طرق التفسير بالمأثور تفسير كلام الله بأقوال الصحابة الكرام رضوان عليهم أجمعين وقلت هذا الطريق الثالث الذى هو تفسير القرآن بأقوال الصحابة له حالتان أقوال الصحابة فى التفسير أقوالهم لها حالتان.
الحالة الأولى: ما يكون لأقوالهم حكم الرفع إلى نبينا عليه الصلاة والسلام وذلك إذا قالوا قولا لا يدرك بالرأى ولم يكن هذا القول مأخوذا عن بنى اسرائيل إذا كان الصحابى يأخذ عنهم وعن أخبار أهل الكتاب وذلك الخبر يحتمل أخذه منهم فإذا قال الصحابى قولا لا يدرك بالرأى ولم يؤخذ عن أهل الكتاب إذا كان يمكن أخذه منهم فله حكم الرفع إلى النبى عليه الصلاة والسلام.
والحالة الثانية: أقوال الصحابة موقوفة عليهم رضوان الله عليهم أجمعين ليس لهاحكم الرفع إلى نبينا الأمين عليه صلوات الله وسلامه.
الحالة الأولى من أقوالهم قلت حكمها حكم ما ثبت عن نبينا عليه الصلاة والسلام والحالة الثانية نأخذ بأقوالهم لاعتبارات ذكرتها فهم أكثرهم عرب خلص شهدوا وقائع التنزيل ولهم من رسوخ القدم فى الإيمان وطهارة الجنان ما ليس لغيرهم من بنى الإنسان فيعول على أقوالهم فى تفسير كلام الرحمن وإن لم يكن لتلك الأقوال حكم الرفع إلى نبينا عليه الصلاة والسلام.
(17/2)
والطريق الرابع: من طرق التفسير بالمأثور تفسير كلام رب العالمين بأقوال التابعين الطيبين الطاهرين عليهم جميعا رحمة الله وقلت أقوال التابعين فى التفسير لها ثلاثة أقوال.
الحالة الأولى: أن يجمعوا على تفسير آية بأن معناها كذا فهذا القول الذى أجمعوا عليه يجب الأخذ به لمحل الإجماع وهذا كما يشمل التابعين يشمل من بعدهم من المسلمين فالإجماع حجة فى جميع العصور وإن كان الإجماع الذى ينضبط ويقع ,يقع فى العصر الأول فى عصر الصحابة والتابعين وتابعيهم وأما بعد ذلك فقد افترقت الأمة واختلفت وقل أن يحصل إجماع إنما الإجماع الذى ينضبط ما كان فى الصدر الأول كما قال الإمام ابن تيمية عليه رحمة الله فى رسالته الواسطية الإجماع الذى ينضبط ما كان فى القرون الأولى وأما بعد ذلك فاختلفت الأمة وتفترقت وتعددت آراؤها ونحلها فقل أن يجمعوا على قول وقل أن يحصل هذا لكن يبقى الحكم أن الإجماع حجة فى جميع العصور فإذا أجمعوا على قول فى تفسير الآية فلا بد من الأخذ به لمحل الإجماع وذكرت لهذا أمثلة منها إذا كان بعضكم يستحضر شيئا مثالا لهذه الحالة فيكم من يستحضر تفسيرا أجمع عليه التابعون فيجب الأخذ به لمحل الإجماع نعم يا أخى الكريم بأى شىء فسروها وأجمع التابعون على ذلك وعلمه فى كل مكان فتفسير المعية هنا بأن المراد منها معية العلم والإحاطة والاطلاع هذا مما أجمع عليه التابعون.
يقول الأوزاعى كنا نقول والتابعون متوافرون الله فوق عرشه بائن من خلقه علمه فى كل مكان فالمعية بالذات مستحيلة وليست المعية هنا معية خاصة لتكون معية تأييد ونصر وتوفيق فإذن هى معية عامة بمعنى الإحاطة والاطلاع والمراقبة والمشاهدة والعلم وعدم خفاء شىء عن الله جل وعلا.
(17/3)
قلت وفى الآية قرينة إلى هذا أن الله أفتتح الآية بالعلم وختمها بالعلم {ألم تر أن الله يعلم ما فى السموات وما فى الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولاأكثر إلا هو معهم أينما كانوا ثم ينبئهم بما عملو يوم القيامة إن الله بكل شىء عليم} سبحانه وتعالى.
والحالة الثانية: من أقوال التابعين فى تفسير كلام رب العالمين مما لم يجمعوا عليه إنما قالوا قولا لا يدرك بالرأى وفيه الإحترازات المتقدمة فى تفسير الصحابة إذا كان لا يدرك بالرأى قولا لا يدرك بالرأى ولم يعرف التابعى بالأخذ عن بنى إسرائيل إذا كان ذلك الخبر محتمل أخذه من أهل الكتاب وليس طريق التفسير اللغة فإذا قال التابعى قولا فى التفسير بهذا المحترزات فله حكم الرفع إلى نبينا عليه الصلاة والسلام
لكن تقدم معنا مرفوع الصحابى متصل ومرفوع التابعى مرسل فلذلك إذا قالوا قولا فله حكم لا يدرك بالرأى بهذه المحترزات التى ذكرتها لها حكم الرفع المرسل إلى نبينا عليه الصلاة والسلام فهل يقبل فى التفسير؟ قلت هذا الذى له حكم الرفع من أقوالهم له حالتان.
الحالة الأولى: يقبل باتفاق أئمة الإسلام إذا تعزز بمرسل آخر أوكان قائلهم من أئمة التابعين الذين أخذوا تفسيرهم عن الصحابة كسعيد بن الجبير وغيره رضى الله عنهم أجمعين فهنا يؤخذ بكلام هذا التابعى فى تفسير كلام الله جل وعلا.
والحالة الثانية: أن لا يتعزز بمرسل آخر وأن لايكون هذا التابعى من أئمة التابعين الذين أخذوا تفسيرهم عن الصحابة كالأعمش مثلا أوكغيره فإذا قال قولا فى تفسير كلام الله جل وعلا هذا القول الذى نقل عن الأعمش عن الحسن البصرى فى تفسير كلام الله جل وعلا ولا يدرك بالرأى وله حكم الرفع إلى نبينا عليه الصلاة والسلام ولم يتعزز بمرسل.
(17/4)
وقلت ليس هو ممن أخذ التفسير عن الصحابة هل يقبل أم لا؟ قلت احتج به الجمهور أبو حنيفة ومالك والإمام أحمد والشافعى عليه رحمة الله له شروط فى قبول المرسل فلا يقبل مرسل التابعى فى هذه الحالة.
وكنت فصلت الكلام على هذا فيما مضى إذن أقوال التابعين التى هى لها حكم الرفع إلى نبينا الأمين عليه صلوات الله وسلامه إن كانت أقوالهم معززة بمرسل آخر أو كان القائل من أئمة التابعين الذين أخذوا تفسيرهم عن الصحابة يقبل مرسلهم وإلا فجرى خلاف بين أئمة الإسلام هل يقبل أم لا؟
والجمهور إلى القبول لأن عصر التابعين لم يفش فيه الكذب ولأنه من المستبعد غاية البعد أن يقول التابعى الثقة الإمام الصالح القانت قولا لا يدرك بالرأى عن طريق التخرس والظن والحسبان فإذا قال قولا لا يدرك بالرأى فإذن هذا أخذه عن صحابى آخر لم يصرح بذلك لاعتبارات خاصة الله أعلم بها وقرنهم خير القرون بعد قرن الصحابة بشهادة النبى عليه الصلاة والسلام كما ثبت فى الصحيح [خير القرون قرنى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم] فعصر الصحابة والتابعين وتابعيهم خير قرون هذه الأمة وهم القرون المفضلة بشهادة النبى عليه الصلاة والسلام فإذن يقبل قوله عند الجمهور.
الحالة الثالثة: من أقوالهم ليس لأقوالهم حكم الرفع إلى النبى عليه الصلاة والسلام فهل نأخذ بأقوالهم هنا فى التفسير أم لا؟ قلت هذا الذى أيضا جرى حوله نزاع فى هذه الحالة فسفيان الثورى عليه رحمة الله وعددا من أئمة الإسلام قالوا يؤخذ بقول التابعى فى هذه الحالة.
وكان سفيان الثورى يقول إذا جاءك التفسير عن مجاهد عليهم جميعا رحمة الله فحسبك به وذهب بعض أئمة الإسلام لعدم الإحتجاج بأقوال التابعين فى هذه الحالة أقوالهم كأقوال غيرهم.
(17/5)
قال شعبة بن الحجاج عليه رحمة الله أقوال التابعين ليست حجة فى الفروع فكيف تكون حجة فى الأصول أى لا تكون حجة على غيرهم ممن خالفهم ولذلك إذا اختلفوا أو لم يرتض الإنسان قول تابعى فى تفسير الآية وذهب إلى قول آخر فلا مانع أن يعول على لغة العرب فى بيان كلام معنى الرب جل وعلا وأن يرجع إلى العمومات لبيان معنى الآية لأن أقوال التابعين فى هذه الحالة كأقوال غيرهم لكن النفس مع ذلك تميل إلى تقديم كلام التابعين مما ليس لأقوالهم حكم الرفع على أقوال من جاء بعدهم فمثلا لهذه الحالة الأخيرة.
يقول الله جل وعلا فى كتابه: {احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون *من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم} الآية فى سورة الصافات {احشروا الذين ظلموا وأزواجهم} .
أزواجهم قال الحسن البصرى أزواجهم يعنى المشركات أى يحشر الزوج وزوجته إن كانت مشركة احشروا الذين ظلموا وأزواجهم أى المشركات ففسر الأزواج هنا بالزوجات وهذا متى يكون إذا كانت على دين زوجها لتخرج الزو جة المؤمنة إذا كان زوجها كافرا كحال مثلا فرعون وزوجه {احشروا الذين ظلموا وأزواجهم} قال أى المشركات
وقال قتادة: {احشروا الذين ظلموا وأزواجهم} أى أشباههم وأشياعهم أتباعهم {احشروا الذين ظلموا وأزواجهم} أشياعهم أى أتباعهم من تبعوهم وساروا على طريقهم.
هذا المنقول عن التابعين ليس له حكم الرفع إلى نبينا الأمين عليه صلوات الله وسلامه ولذلك ثبت عن الصحابة رضوان الله عليهم والأثر ثابت عن عمر رضي الله عنه فى المستدرك وغيره بسند صحيح على شرط مسلم وأقره عليه الذهبى والأثر عزاه الحافظ ابن حجر فى المطالب العالية فى زوائد المسانيد الثمانية لابن منيع وقال إسناده صحيح {احشروا الذين ظلموا وأزواجهم} أى أمثالهم من كان على شاكلتهم.
(17/6)
فحكمة الله تقتضى بأن يقرن ويجمع بين المتماثلين فالخبيث مع الخبيث والطيب مع الطيب {احشروا الذين ظلموا وأزواجهم} أى أشباههم وأمثالهم ممن كان ظالم فهؤلاء يجمعون ويقيدون ويصفدون ويلقون فى النار.
{احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون *من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم} ولذلك كان أئمتنا يستدلون بعموم هذه الآية إلى شىء آخر فكان كثير منهم يحذر أخذ وظيفة أو منصب يبعده عن صفة العلماء كما هو الحال فى ابن جرير فى شيخ أئمة التفسير بلا نزاع المتوفى سنة ثلاثمائة وعشرة عليه رحمة الله الإمام ابن جرير عرض عليه القضاء فأبى فلامه أصحابه وتلاميذه وقالوا تحيى به السنن وتميت به البدع فبكى عليه رحمة الله وقال كنت أخشى إذا قبلت القضاء أن تلومونى فإذا رفضت القضاء صرتم تلومونى قالوا وعلام يا إمام قال أما بلغكم أن القضاة يحشرون مع الأمراء وأن العلماء يحشرون مع الأنبياء أتريدون أن أحشر مع الأمراء عليه رحمة الله {احشروا الذين ظلموا وأزواجهم} .
فبما أن ذاك من فصيلة الحكم يحشر مع الحكام بعد ذلك يفكه عدله أو يوبقه جوره وأما العلماء فهؤلاء مع الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط} فتريدون منى أن أحشر مع الأمراء ولا أحشر مع الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه.
كانوا يستدلون بعموم هذه الآية على ما هو أوسع من هذا كل صنف يحشر مع صنفه وكل شكل يجمع إلى شكله ففصيلة القضاة الحكام فى مكان فصيلة الأنبياء وأتباعهم العلماء فى مكان فكانوا يستدلون بعموم هذه الآية على هذا الأمر وهذه حكمة الله تقتضى بأن يجمع بين المتماثلين وأن يفرق بين المختلفين المتباينين فإذن أقوال التابعين فى الحالة الثالثة مما ليس له حكم الرفع إلى نبينا عليه الصلاة والسلام يستأنس بها ولا تكون حجة على غيرهم.
(17/7)
إخوتى الكرام: إلى هنا وصلنا فى الدرس الماضى هذه الطريقة فى تفسير كلام الله وهى تفسير القرآن بالمأثور طريقة سديدة ليس فيها شىء من المحذور وكيف يكون فيها محذور والتفسير فيها عن طريق المأثور تفسير القرآن بالقرآن تفسير القرآن بالسنة بأقوال الصحابة الطيبين والتابعين الطاهرين رضوان الله عليهم أجمعين كيف يكون هناك محذور.
لكن قد يقع أحيانا توهم وشىء من القصور فى أذهان بعض الناس فى هذا النوع من أنواع التفسير وهذا المحذور وهذا القصور له وجهان واعتباران ذكرهما الإمام ابن تيمية عليه رحمة الله فى مقدمة التفسير فانتبهوا لهما إخوتى الكرام.
الأمر الأول: قد يرد تفسير بالمأثور وذلك التفسير الوارد هو تفسير للعام ببعض أفراده تفسير للعام ببعض أنواعه على سبيل التمثيل وعلى سبيل التوضيح وعلى سبيل ما يدخل فى ذلك العام لا على سبيل الحصر بأن المراد من هذا العام فرد من أفراده ونوع من أنواعه فيتوهم بعض الناس أن ذلك العام الذى ثبت تفسيره بالمأثور بفرد من أفراده ونوع من أنواعه.
أن هذا النوع هو المراد دون ما عداه فينبغى أن يحذر هذا طالب العلم عام ورد تفسيره فى التفسير بالمأثور من السنة أو أقوال الصحابة والتابعين ببعض أفراده وهذا الذى ورد لا على سبيل الحصر إنما على سبيل المثال فهو نوع يدخل فى ذلك العام فانتبه لهذا ولا تقصر عموم ذلك اللفظ على هذا التفسير.
(17/8)
مثال هذا ماثبت فى مسند الإمام أحمد وسنن الترمذى بسند حسن عن عدى ابن حاتم رضى الله عنه أن النبى عليه الصلاة والسلام قال [اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون] ففسر نبينا عليه الصلاة والسلام قول ربنا جل وعلا: {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} باليهود والنصارى فاليهود مغضوب عليهم والنصارى ضلال هذا من باب تفسير العام لنوع من أنواعه ومن باب التمثيل لما يدخل فى هذا العام لكن يعنى بذلك القصر لا فكل من اتصف بالانحراف عن العلم وتحريف كلام الله عن مواضعه فهو مغضوب عليه كحال العلماء الفجرة الذين يشترون بآيات الله ثمنا قليلا من هذه الأمة والأمم السابقة وكل من عبد الله على غير طريقة مرضية يحسب أنه مهتد ومصيب وهو مأجور والأمر بخلاف ذلك فهو ضال فالمبتدعون فى هذه الأمة العباد الذين عبدوا الله على رأيهم وهواهم حكمهم كحكم الضالين من النصارى طريقتهم ضالة والعلماء الفاجرون من هذه الأمة حكمهم كحكم اليهود عليهم غضب الله.
وهذا ما قرره ربنا جل وعلا فى كتابه: {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون} ، والمقت أعظم أنواع الغضب فالعالم عندما يحرف كلام الله ويخلف عمله علمه ويتصف بوصف اليهود هو مغضوب عليه ويدخل فى عموم قول الله: {غير المغضوب عليهم} علم بلا عمل طريقة اليهود عمل بلا علم طريقة النصارى ولذلك من اتصف بأحد هذين الوصفين يدخل فى عموم الآية وليس هذا من باب قصر وحصر الآية فى اليهود والنصارى فكل من عبد الله على حسب رأيه وهواه فهو ضال سواء كان فى الأمم السابقة أو فى هذه الأمة وكل من ضل على علم وانحرف عن العمل بعلمه فهو مغضوب عليه يحرف كلام الله عن مواضعه ويشترى بآيات الله ثمنا قليلا فهذا تفسير العام بنوع من أنواعه وفرد من أفراده.
(17/9)
فإياك أن تقصر ذلك العموم على هذا النوع وأول ما يدخل فى المغضوب عليهم اليهود ويدخل بعد ذلك من سار على طريقتهم ممن علم ولم يعمل وأول ما يدخل فى الضالين فى معنى ذلك اللفظ النصارى ويدخل فى ذلك العموم ويشمل ذلك العموم من عبد الله على حسب رأيه وهواه وعلى حسب بدعته ورأيه ولم يعبد الله على حسب ما جاء عن رسول الله عليه الصلاة والسلام فأولئك طريق المغضوب عليهم وهؤلاء ضالون فذلك العموم الذى ورد تفسيره بنوع من أنواعه لاتقصره على هذا النوع هو أشمل من ذلك بكثير ولذلك كان أئمتنا يستدلون بعموم ذلك اللفظ على ما يدخل تحته وأن لم يكن الداخل من هذين الصنفين أى من اليهود والنصارى.
ثبت عن سفيان ابن عيينة عليه رحمة الله أنه قال كان العلماء يقولون من ضل من علمائنا ففيه شبه باليهود زمن ضل من عبادنا ففيه شبه بالنصارى فحصل إذن هنا دخول فى المغضوب عليهم ودخول فى الضالين من غير اليهود والنصارى.
والله جل وعلا يحاسب العباد على حسب أعمالهم فمن كان عالما وضل حكمه وحكم اليهود سواء فالنبي عليه الصلاة والسلام فسر هذا اللفظ غير المغضوب عليهم باليهود لبيان نوع ما يدخل لبيان بعض الأنواع التى تدخل فى هذا اللفظ وأنت بعد ذلك تطبق ما فى هذا النوع من معنى ومافيه من حقيقة ووصف على الأنواع الأخرى وعلى الناس الآخرين إذا وجد فيهم هذا فكل من ضل على علم غضب الله عليه {قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير} فضلوا على علم وأولئك عبدوا الله على حسب رأيهم وهواهم فضلوا فهم ضالون وهؤلاء مغضوب عليهم والمغضوب عليهم فيهم صفة الضلال والضالون فيهم صفة الغضب أيضا لكن أخص أوصاف من ضل على علم الغضب كما أن أخص أوصاف من عبد الله على جهل الضلال لكن كل ضال مغضوب عليه وكل مغضوب عليه ضال لكن أخص أوصافه أنه مغضوب عليه وذاك أخص أوصافه أنه ضال.
(17/10)
فالآية تشمل هاتين الأمتين الملعونتين من اليهود والنصارى وتشمل من كان على شاكلتهما ممن ضل على علم أو عبد الله على غير بصيرة {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا * الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا} هذا النوع الأول تفسير العام ببعض أنواعه بنوع من أنواعه من باب التمثيل لا من باب الحصر فلا تقصر عموم ذلك اللفظ على هذا النوع الثابت فى التفسير بالمأثور.
الأمر الثانى: الذى ينبغى أن ينتبه له طالب العلم لئلا يقع فى التقصير ولئلا يقع فى المحذور نحو التفسير بالمأثور إذا وردت عبارات مختلفة فى التفسير بالمأثور تدل على معنى فى المسمى غير المعنى الآخر مع اتحاد المسمى عبارات مختلفة تدل على معنى فى المسمى هذا المعنى هو غير المعنى الآخر لكن مآل المعنيين إلى شىء واحد فإياك أن تعد تلك الأقوال أقوالا متعددة كلها شىء واحد لكن بعضهم عبر عن ذلك العام بلازمه بنظيره بفرد من أفراده ومآل تلك العبارات إلى شىء واحد فإياك أن تقول اختلف الصحابة أو التابعون أو تعددت أقوالهم فى تفسير هذه الآية إلى عشرة أقوال العشرة كلها قول واحد.
قال الإمام ابن الجوزى فى زاد المسير فى تفسير سورة التكاثر {ألهاكم التكاثر} فى آخر السورة {ثم لتسئلن يومئذ عن النعيم} يقول فى النعيم الذى نسأل عنه عشرة أقوال عشرة أقوال حكاها عن الصحابة والتابعين هذه الأقوال العشرة هى قول واحد قلنا كل واحد عبر عن معنى فى المسمى غير المعنى الآخر مع اتحاد المسمى فى النهاية تتحد فبعضهم يقول {ثم لتسئلن عن النعيم} عن الماء البرد, نعيم ,عن الظل الذى نتظلل به ,نعيم, عن الكساء ,نعيم, عن الطعام, نعيم, قال بعضهم {ثم لتسئلن عن النعيم} عن محمد عليه الصلاة والسلام وحقيقة هذه أعظم نعمة امتن الله بها علينا سنسأل عن هذه النعمة وهل قمنا بشكر الله عليها وتلقيناها بالقبول أم جحدنا هذه النعمة.
(17/11)
هذه الأقوال الواردة فى تفسير النعيم كماقلت هى من باب ما يدخل فى ذلك اللفظ فأقوال مختلفة متعددة لكن مآلها شىء واحد اختلفت فى اللفظ لكن لا تخرج عن كون هذه الأقوال كلها من النعيم الذى نسأل عنه ولذلك قال الإمام ابن الجوزى فى نهاية الأمر والصحيح أن الآية عام فى كل نعيم أنعم الله به علينا {وما بكم من نعمة فمن الله} وسنسأل عن هذه النعم يوم القيامة وهذا الصحيح يشير إلى أنه تلك الأقوال إذن فيها قصور والواقع لا قصور فى تلك الأقوال لأننى كما قلت أراد السلف أن يوضحوا النعيم والشىء إذا ضرب له المثال يتضح فلو قال النعيم كل ما أنعم الله علينا من نعم حسية أو معنوية سنسأل عنها لكن هذا هو التعريف المطابق لقول الله {ثم لتسئلن يومئذ عن النعيم} لكن هذا الكلام يبقى نظريا فيقول {ثم لتسئلن يومئذ عن النعيم} ما المراد بالنعيم يقول الماء البارد وذاك يقول ما المراد بالنعيم يقول الخبز.
ما المراد بالنعيم النبى عليه الصلاة والسلام هذا من باب تقريب المعنى لأذهان الناس لأنه بالمثال يتقرب المعنى أى كل ما أنعم به علينا سنسأل عنه فهنا الأقوال متعددة مختلفة من حيث الظاهر لكن مآلها إلى شىء آخر فإياك أن تعد هذه الأقوال أقوالا مستقلة وأن تقول فى الآية عشرة أقوال لا قل معنى النعيم كذا وعبر سلفنا عن بعضهم بلازمه بعضهم نظيره بعضهم بنوع من أنواعه فقالوا كذا وكذا وكذا اثبت أقوالهم بعد أن تبين المعنى المطابق للآية الذى تدل عليه الآية وأما أن تقول فى الآية عشرة أقوال فلا.
(17/12)
مثال آخر قول الله جل وعلا فى سورة الفاتحة {اهدنا الصراط المستقيم} يقول الإمام ابن كثير عليه رحمة الله فى تفسيره اختلفت عبارات السلف والخلف فى بيان الصراط المستقيم الذى أمرنا الله أن نسأله إياه {اهدنا الصراط المستقيم} يقول ومآل تلك العبارات إلى شىء واحد وهو المتابعة لله ولرسوله عليه الصلاة والسلام عبادة الله حسبما جاء عن رسول الله عليه الصلاة والسلام هذا هو حاصل تلك العبارات فإذا عبدت الله حسبما جاء عن رسوله عليه الصلاة والسلام وهذا هو مدلول لا إله إلا الله لا معبود بحق سواه محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام تلك العبادة حسبما شرع هذا هو الصراط المستقيم لأنك لو علمت ولم تعمل هذا صراط أهل الجحيم صراط المغضوب عليهم ولو عملت دون علم وبينة وهدى هذا صراط الضالين صراط النصارى الذين لعنهم الله فإذن حاصل تلك الأقوال إلى المتابعة لله ولرسوله والطاعة لله ولرسوله عليه الصلاة والسلام الله يعبد ورسوله يتبع عليه صلوات الله وسلامه.
لكن تلك الأقوال ما هى ذكرها ابن كثير وغيره من أئمتنا {اهدنا الصراط المستقيم} الإسلام {اهدنا الصراط المستقيم} القرآن طريق الحق طريق السنة والجماعة طريق الشيخين أبى بكر وعمر {اهدنا الصراط المستقيم} .
(17/13)
العلم والعمل وهل بين هذه الأقوال منافاة لا منافاة بينها فلا تقل فلى الصراط المستقيم ستة أقوال عن سلفنا الطيبين هى قول واحد لكن كما قلت من باب المثال ومن باب إيضاح الحال الإسلام الحق طريق القرآن طريق السنة والجماعة طريق الشيخين أبى بكر وعمر العلم النافع والعمل الصالح هذا كله يرجع إلى شىء واحد فالقرآن هو الإسلام والإسلام هو القرآن والحق هو القرآن وطريق الشيخين أبى بكر وعمر هو الإسلام وهو القرآن وطريقة أهل السنة والجماعة ترجع إلى هذا والعلم النافع والعمل الصالح هذا هو ما يأمر به القرآن وهذا هو مدلول القرآن وهذا هو الإسلام أن يعبد الإنسان ربه على بصيرة وبينة فلا منافاة بين هذه الأقوال إذن كل واحد عبر عن معنى فى المسمى غير المعنى الآخر مع اتحاد تلك المعانى فلا تظن أن تلك التفسيرات الواردة عنهم مختلفة متعددة هى فى المآل شىء واحد فانتبه لهذا ولا تحكى تلك الأقوال أقوالا متعددة أنما هى قول واحد فانتبه له.
مثال على هذ أيضا قول الله جل وعلا: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير *جنات عدن يدخلونها} إلى آخر الآيات.
هؤلاء الأصناف الثلاثة الذين أورثوا هذا القرآن العظيم وأورثوا العمل به وهم من أمة محمد عليه الصلاة والسلام وفيهم هذه الأصناف الثلاثة ظالم النفسه مقتصد سابق بالخيرات هؤلاء الأصناف الثلاثة نقل عن أئمة السلف عن المفسرين الكرام أقوال فى إيضاح الأصناف الثلاثة هى من باب التمثيل وكل واحد يعبر عن معنى فى المسمى غير المعنى الآخر مع اتحاد تلك المعانى فى نهاية الأمر فيقول بعضهم الظالم لنفسه هو الذى يؤخر الصلاة إلى آخر الوقت والمقتصد يصلى فى وسط الوقت والسابق بالخيرات يصلى فى أول الوقت هذا قول من باب التمثيل والتنويع لما يدخل فى هذه الآية من الظالم لنفسه والمقتصد والسابق بالخيرات.
(17/14)
ويقول أيضا بعض السلف فى بيان هؤلاء الأصناف الثلاثة يقول الظالم لنفسه هو الذى يمنع الزكاة أو يتعامل بالربا والمقتصد هو الذى يؤدى الزكوات الواجبة ولا يقرب الحرام لا يتعامل بالربا والسابق بالخيرات هو الذى يؤدى الزكاة ويتصدق ولا يقرب الحرام ولا الشبه هذا قول ثان ,قول ثالث فى بيان هؤلاء الأصناف الثلاثة الظالم لنفسه هو الذى يفرط فى صيام الفريضة فى صيام شهر رمضان والمقتصد هو الذى يقتصر على صيام الفريضة والسابق بالخيرات يصوم الفريضة ومعها النوافل هذه الأقوال وما شابهها هل تعتبر أقوالا متعددة؟ مآلها شىء واحد فأنت فى أول الأمر قلت المقتصد هول الذى يحافظ على الواجبات والسابق بالخيرات يضم إليها المستحبات والظالم لنفسه هو الذى يفرط فى ما أوجب الله عليه مثال على هذا قال أئمتنا كذا وكذا فى إيضاح هؤلاء الأصناف الثلاثة فتلك الأقوال لا تعتبر أقوالا متعددة فى التفسير كما قلت هى من باب المثال ومن باب ما يدخل الآية فإياك أن تعد تلك الأقوال أقوالا مستقلة فى تفسير كلام الله جل وعلا لا هى من باب ما تشمله تلك الآيات لكن بعضهم عبر عنه بمثال فى بعض الطاعات وبعضهم بمثال آخر فى طاعة أخرى ومآل تلك الأقوال إلى شىء واحد فلا تعد تلك الأقوال أقوالا متعددة.
(17/15)
إخوتى الكرام: من باب تعليق القلوب بربنا الرحمن سبحانه وتعالى هذه الاية كان شيخنا عليه رحمة الله الشيخ محمد الأمين الشنقيطى يقول هى أرجى آية فى كلام الله جل وعلا وهى فى سورة فاطر: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير * جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير} إلى آخر الآية يقول هذه أرجى آية فى القرآن والسبب فى هذا حرف واحد فى هذه الآيات وهو فى قول الله يدخلونها هذه الواو التى هى ضمير الفاعلين جنات عدن يدخلونها تعود على الأصناف الثلاثة على الظالم لنفسه وعلى المقتصد وعلى السابق بالخيرات ولذلك كان شيخنا عليه رحمة الله يقول لو قدر الناس هذه الآية لكتبوا هذه الواو بماء العينين {جنات عدن يدخلونها} لكتبوا هذه الواو بماء العينين {جنات عدن يدخلونها} قال الشيخ عليه رحمة الله وإنما بدأ الله بالظالم لئلا يقنط وأخر السابق لئلا يعجب {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير*جنات عدن يدخلونها} الأصناف الثلاثة.
وثبت عن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه فى تفسير الطبرى أنه خطب على المنبر فقال سابقنا مقرب ومقتصدنا ناج وظالمنا مغفور له.
فيقول هذه أرجى آية فى كلام الله جل وعلا وهذه الواو من الظلم أن تكتب بالمداد إنما ينبغى أن تكتب بماء العينين لما فيها من الرجاء لرحمة الله جل وعلا.
(17/16)
إخوتى الكرام: فانتبهوا لهذين الأمرين نحو التفسير بالمأثور إذا ورد قول فى التفسير بالمأثور وهذا القول يفسر العام ببعض أنواعه ولا يريد قصر العام عليه إياك أن تقصره عليه والحالة الثانية وردت أقوال متعددة فى التفسير بالمأثور كل واحد عبر فى قوله عن معنى الآية بلفظ يختلف عن لفظ الآخر ويوجد فى لفظه معنى لا يوجد فى لفظ الآخر مع اتحاد تلك المعانى إن هذا ضرب مثالا فى ما يتعلق بأمر الصلاة وذاك فيما يتعلق بالبيوع وذاك فيما يتعلق بالزكاة مآل تلك الأقوال إلى شىء واحد فلا تعد تلك الأقوال أقوالا متعددة فلا تقل فى النعيم الذى نسأل عنه عشرة أقوال قول واحد {ثم لتسئلن يومئذ عن النعيم} كل ما أنعم الله به علينا سنسأل عنه يدخل فى هذا ما ورد عن أئمة السلف فى تفسير كلام الله من باب كما قلنا المثال والنوع لما يدخل فى هذه الآية لا من باب أن هذا القول هو المطابق لذلك اللفظ فيعتبر قولا يخالف الأقوال الأخرى فانتبه لهذا.
إخوتى الكرام: النوع الثانى من أنواع التفسيرو هو التفسير بالرأى المقبول المبرور الأول تفسير بالأثر والنقل والثانى قلنا تفسير بالرأى المعتبر
قبل أن ننتقل إلى هذا يلتحق بالتفسير بالمأثور ما يتعلق بأخبار أهل الكتاب فلا بد من بيانها لأنها تنقل وتؤثر وتروى وليست هى من باب التفسير بالرأى فنذكر الموقف السديد من أخبار أهل الكتاب بعد ان انتهينا من بيان طرق التفسير بالمأثور لأنها ملحقة بها فهى مأثورة ومروية فما موقفنا نحوها؟ إذا نقلت أخبار عن أهل الكتاب تتضمن توضيح وتفصيل أخبار الأنبياء السابقين عليهم صلوات الله وسلامه مع أممهم هل نقبلها أم لا؟ فهذه الأقوال ملحقة بالتفسير بالمأثور فما موقفنا نحوها؟
(17/17)
إخوتى الكرام: ثبت فى مسند الإمام أحمد وصحيح البخارى وسنن الترمذى عن عبد الله ابن عمرو ابن العاص والحديث رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن حبان عن أبى هريرة ورواه الإمام أحمد عن أبى سعيد الخدرى رضي الله عنه عن عبد الله ابن عمرو وأبى هريرة وأبى سعيد الخدرى رضي الله عنهم أجمعين والحديث فى صحيح البخارى كما تقدم فى أول التخريج فهو صحيح صحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم قال [بلغوا عنى ولو آية وحدثوا عن بنى اسرائيل ولا حرج ومن كذب على متعمدا فليتبوأ مقعده من النار] الشاهد حدثوا عن بنى اسرائيل ولا حرج هذه الجملة الشريفة من حديث نبينا عليه الصلاة والسلام تحتمل خمسة أمور كما وضح هذا الحافظ ابن حجر فى فتح البارى فى الجزء السادس فى صفحة ثمان وتسعين وأربعمائة أولها: وحدثوا عن بنى اسرئيل ولا حرج أى لاضيق عليكم ولا حرج عليكم ولا لوم عليكم فى التحديث عنهم ولما لأنه سبق النهى من النبى عليه الصلاة والسلام عن الحديث عن بنى اسرئيل فنهى الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أن يحدثوا عنهم أو يأخذوا منهم ثم بعد ذلك رخص فقال لاضيق عليكم ولا محذور فى أن تحدثوا بعد ذلك عنهم عندما رسخ الحق فى قلوبكم فإذن حدثوا عن بنى اسرئيل ولا حرج ولا حرج فى التحديث عنهم وإن سبق النهى فذلك النهى منسوخ بهذه التوسعة الواردة عن النبى عليه الصلاة والسلام حدثوا بعد أن منعتم من أن تحدثوا عنهم حدثوا عن بنى اسرئيل ولا حرج وقد كان النبى صلى الله عليه وسلم نهى الصحابة فى أول الأمر أن يحدثوا عن أهل الكتاب أو يسمعوا منهم.
(17/18)
والنهى ثابت عنه عليه صلوات الله وسلامه وارد فى مسند الإمام أحمد ومعجم الطبرانى الكبير ومسند البزار وأبى يعلى والحديث فى درجة الحسن عن عدة من الصحابة الكرام عن عمر ابن الخطاب وعن عبد الله ابن ثابت الأنصارى وعن أبى الدرداء وعن جابر ابن عبد الله رضي الله عنهم أجمعين وخلاصة الحديث أن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه مر على يهودى من أهل الكتاب ومعه صحيفة من التوراة فنسخها عمر ابن الخطاب رضي الله عنه ثم ذهب إلى النبى عليه الصلاة والسلام وعرضها عليه وقال نزداد علما إلى علم أى نطلع على أخبار الكتب السابقة مع ما اطلعنا من أخبار هذا القرآن فنزداد علما على علم فغضب النبى عليه الصلاة والسلام من هذا حتى احمر وجهه الشريف عليه الصلاة والسلام فقال عبد الله ابن ثابت لعمر ألا ترى ما فى النبى عليه الصلاة والسلام أى كيف انزعج وتأثر من كلامك فقال عمر ابن الخطاب بعد أن جلس على ركبتيه رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا فسرى عن النبى عليه الصلاة والسلام وذهب عنه ما اعتراه من الشدة والكرب والهم والغم عليه صلوات الله وسلامه وورد فى بعض الروايات أن النبى عليه الصلاة والسلام أمر بأن ينادى الصلاة جامعة فقال الأنصار غضب نبيكم غضب نبيكم حتى أمر بأن نجتمع للصلاة من الذى أغضب النبى عليه الصلاة والسلام خذوا أسلحتكم فأخذ الصحابة رضوان الله عليهم أسلحتهم وجاؤوا إلى المسجد فقال النبى عليه الصلاة والسلام لا تتهوكوا ولا يغرنكم المتهوكون أى لا تتحيروا ونحن على بينة من أمرنا وعلى هدى فى حياتنا وقد أكرمنا الله بهذا القرآن فلا داعى للحيرة ولا لأخذ فائدة من هنا أو هناك {أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم} لا تتهوكوا ولا يغرنكم المتهوكون أنتم حظى من الأمم وأنا حظكم من النبيين والذى نفس محمد بيده عليه الصلاة والسلام لو كان موسى حيا وتبعتموه وتركتمونى لضللتم والذى نفس محمد بيده عليه
(17/19)
الصلاة والسلام لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعى.
فإذن نهاهم النبى عليه الصلاة والسلام عن التعويل على أخبار أهل الكتاب وعن استنساخها وعن النظر فيها فى أول الأمر ثم بعد ذلك عندما اطمئن الحق وانشرحت الصدور وصاروا على بينة يميزون بين الطيب والخبيث ولا يخشى عليهم بعد ذلك إذا اطلعوا على أخبار أهل الكتاب قال حدثوا عن بنى اسرئيل ولا حرج وقد أصاب عبد الله ابن عمرو وهو راوى هذا الحديث حدثوا عن بنى اسرئيل ولا حرج زاملتين يوم اليرموك من أخبار أهل الكتاب فكان يحدث بما فيهما وسنأتى لأخبار أهل الكتاب وأحوالها إن شاء الله فكان يحدث أى بما أذن النبى عليه الصلاة والسلام به أن يحدث من أخبارهم وأما الأمر المكذوبة فلا يجوز أن يحدث بها كما سيأتينا ولذلك قال ابن كثير فى مقدمة تفسيره عبد الله ابن عمرو هو راوى هذا الحديث وفهم من النبى عليه الصلاة والسلام.
الإشارة إلى الجواز فلما أصاب زاملتين يوم اليرموك كان يحدث بما فيهما مكان بعض الصحابة رضوان الله عليهم وهكذا بعض التابعين رحمهم الله يتلقون أخبار أهل الكتاب إن من أسلم من الصحابة من أهل الكتاب وصاروا صحابة كرام رضي الله عنهم كعبد الله ابن سلام وغيره أو ممن أسلم من التابعين ككعب الأحبار وغيره رضي الله عنهم أجمعين إذن حدثوا عن بنى اسرائيل ولا حرج لامحذور ولاضيق عليكم ولا حجر عليكم فى التحديث عنهم وإن سبق النهى فذلك النهى منسوخ وقد كان نبينا عليه الصلاة والسلام يحدث عن بنى اسرئيل فى كثير من الليالى بحيث يأخذ حديثه عنهم معظم الليل وكان عليه الصلاة والسلام يحدث عن بنى اسرائيل فى أوقات كثيرة بحيث كان الحديث عنهم يستمر ولا يتركه إلا لفريضة.
(17/20)
ثبت هذا فى مسند الإمام أحمد ومعجم الطبرانى والبزار بسند حسن عن عمران ابن حصين والحديث رواه الإمام أحمد وابن حبان فى صحيحه عن عبد الله ابن عمرو ابن العاص قال عمران وعبد الله ابن عمرو رضي الله عنهم أجمعين كان النبى عليه الصلاة والسلام يحدثنا عامة ليله عن بنى اسرائيل أى عندما يجلس معنا عليه الصلاة والسلام ويعظنا فى بعض الليالى وكان لا يقوم إلا لعظم صلاة لعظم صلاة قالوا أى لصلاة الفجر لايقطع الحديث عنهم إلا للصلاة العظيمة التى لا ينبغى أن تؤخر وهى صلاة الفريضة كان يحدثنا عامة ليله عن بنى اسرائيل وكان لا يقطع حديثه إلا لعظم صلاة عليه صلوات الله وسلامه أى لصلاة عظيمة وهى صلاة الفريضة ,إذن لا حرج فى التحديث عنهم ولاضيق.
الأمر الثانى: والمعنى الثانى لهذه الجملة الشريفة وهى التى تستنبط فهمها الإمام الطحاوى عليه رحمة الله فى شرح معانى الآثار قال لاحرج فى ترك التحديث عنهم فالنبى عليه الصلاة والسلام قال حدثوا لئلا يفهم من الأمر الوجوب والإلزام أتبعه بقوله ولاحرج أى إن شئتم أن تحدثوا فحدثوا وإذا لم تحدثوا فلاحرج عليكم فالأمر للإباحة لا للاستحباب ومن باب أولى ليس للوجوب ةحدثوا عن بنى اسرائيل ولا حرج فى ألا تحدثوا وعلى التقدير الأول ولا حرج فى أن تحدثوا أى إن حدثتم لاحرج عليكم والتقدير الثانى إن لم تحدثوا فلا حرج عليكم أيضا.
والأمر الثالث: ولاحرج أى لا تضيق صدوركم بما تسمعون من الغرائب والعجائب مما فى أحاديثهم فقد وقع فيهم العجائب حدثوا عنهم ولا حرج لاتضيق الصدور ولا تحرج ولا تستغرب ولا يجرى فيها تساؤل كيف وقعت هذه العجائب فقد كان يقع فيهم عجائب حدثوا عن بنى اسرائيل ولا حرج لا تستغربوا ولا تضيق تلك الصدور من العجائب التى فى أخبارهم ولا حرج.
(17/21)
المعنى الرابع: ولا حرج أى لاإثم ولا لوم ولا ذم عن حاكى أخبار بنى اسرائيل إذا كان فى حكاياتهم شىء من المستشنعات والألفاظ المستهجنة فمثلا عندما يروى عنهم أنهم يقولون إن المسيح هو ابن الله والعزير هو ابن الله ويصفون بعد ذلك كيفية صلب المسيح كلام يندى له الجبين عندما يقرر الإنسان هذا الكفر المبين الوارد عنهم لا حرج فى ذلك وإن كان هذا مستشنعا ليرد عليه ولا حرج وإن كان فى الحكاية عنهم شىء من الأمور المستشنعة لأجل المصلحة الشرعية.
الأمر الخامس: وحدثوا عن بنى اسرائيل ولا حرج المراد من بنى اسرائيل أولاد يعقوب خاصة وحدثوا عنهم بما ورد فى القرآن فى سورة يوسف على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه وحدثوا عن بنى اسرائيل {لقد كان فى يوسف وإخوته آيات للسائلين} ولا حرج عليكم فهذه قصة ثابتة أنزلها الله فى محكم كتابه.
أضعف الأقوال آخرها وأقواها أولها وبقية الأقوال لا مانع من قبولها وهى مقبولة عن أئمتنا الكرام رضوان الله خميعا والإمام ابن حجر بعد أن حكى هذه الأقوال الخمسة ضعف الأخير وقال هذا أبعدها هذا أضعفها وحدثوا عن بنى اسرائيل المراد من بنى اسرائيل خصوص أولاد نبى الله يعقوب على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه هذا أضعف الأقوال إذن حدثوا عن بنى اسرائيل ولا حرج.
أخبار بنى اسرائيل لها ثلاثة أحوال لاتخرج عنها فكل خبر ينبغى أن نضعه فى واحد من هذه الأمور الثلاثة ونطلع على حاله.
إما أن تكون أخبارهم شهد كتابنا وحديث نبينا عليه الصلاة والسلام بصحتها وصدقها فالإخبار عنهم بما ورد فى كتبهم فى هذه الحالة كما قال الإمام ابن كثير للاستشهاد لا للاعتضاد ليس نقوى ديننا بما ورد عنهم إنما لنوضح فقط.
(17/22)
فمثلا ورد أن بنى الله عيسى على نبينا عليه الصلاة والسلام كان يحيى الموتى هذا وارد فى كتاب الله جل وعلا: {يحيى الموتى بإذن الله} ففى أخبار أهل الكتاب ينقلون هذه الأمور وخاصة يقول كان يطلب منه بنو اسرائيل أن يصنع لهم الخفاش وأن ينفخ فيه الروح ليحيى ويطير الخفاش طائر معروف يطير فى الليل ويختبىء فى النهار لأن نور النهار يؤذيه.
خفافيش أعماها النهار بضؤئه ... وصادفها قطع من الليل مظلم
فإذن لا تمشى إلا فى الليل خفاش هذا عجيب لأنه يطير من غير ريش، فأهل الكتاب يقولون فى أخبارهم أنه كان يصنع لهم هذه الخفافيش بكثرة ويطلبونها منه من باب التعنت أى إحياء التمثال ونفخ الروح فيه لأى مخلوق كان عجيب فكيف الحال فى الخفاش هذه أعجب وأعجب يصنع لهم الطين كهيئة الطير بإذن الله ثم ينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله كان يطلبون منه أن يصنع لهم الخفاش فيصنع خفاشا طائر يطير من غير ريش يصنعه من الطين ثم ينفخ فيه فيطير بإذن رب العالمين.
إن قالوا لنا هذا كان يحصل لنبى الله عيسى نقول لا حرج وهذا فى كتابنا ما يصدقه كان يصنع من الطين كهيئة الطير بإذن الله فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله عندنا ما يصدق هذا فلا مانع من رواية هذا الخبر وما هو على شاكلته.
إخوتى الكرام: لكن يقرر أئمتنا أن ما كان يصنعه نبى الله عيسى على نبينا عليه صلوات الله وسلامه من الطين كهيئة الطير وينفخ فيه فكان يطير لكن إذا توارى عن الناس يسقط ميتا ويعود كما كان ليتميز بين ما خلقه الرحمن وبين هذا الأمر الذى جعله معجزة لهذا النبى الكريم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه أن لا يبقى طائرا يطير باستمرار ليتميز صنع الخالق جل وعلا عما للمخلوق فيه شيء من الأثر فكان يطير فإذا توارى عنهم وحصلت المعجزة سقط ميتا وعاد كما كان خفاش يطلبون منه أن يصنع تمثالا له وينفخ فيه الروح فيطير بإذن الله هذا فى كتابنا ما نصدقه هذا النوع الأول من أخباره.
(17/23)
النوع الثانى: أن يروى شيء من أخبار أهل الكتاب فى تفسير كلام الله وفيما يتعلق بما ورد فى كلام الله وفى ديننا ما يكذبه فينبغى أن نحذر من ذلك الخبر ومن تلك الأخبار المنقولة فى التفسير فلو نظرت فى كتب التفسير التى ابتليت بالنقل عن أخبار أهل الكتاب فى قصة نبى الله أيوب على نبينا عليه صلوات الله وسلامه {وأيوب إذا نادى ربه أنى مسنى الضر وأنت أرحم الراحمين} فى بيان حقيقة الضر الذى أصيب به نبى الله أيوب على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه أن لحمه تناثر وتساقط الدود منه وبدأ القيح والصديد يخرج من جسمه ومن منخريه وأنتنت رائحته ثم حمله قومه وطرحوه على مذبلة وبقى فى هذا البلاء ثمانى عشرة سنة والله إننا نجزم بكذب هذه الأخبار الملفقة المزورة فهذا نبى كريم يصان من الأمراض المنفرة الأمراض الأنبياء يمرضون كما يمرض غيرهم ويستوون معهم فى هذا الأمر وهم بشر فيأكلون ويشربون ويتصلون بالنساء عن طريق الحلال ويمرضون ويموتون لكن يصان الأنبياء عما فيه منفر هو سيبلغ دعوة الله كيف سيبلغ دعوة الله وريحه منتنة أنتن من جيفة حمار بحيث لو جاء إلى القوم لنفروا منه هذا لايمكن أن يكون أبدا نحن أمرنا أن نقدم فى الصلاة مع أن إمام الصلاة ليس بنبى أن نقدم أحسن الناس صوتا إذا استووا فى القراءة والعلم بشريعة الله وأحسن الناس وجها وأن يقدم من هيئته حسنة ترتاح الأنظار إليه ولا حرج فى ذلك فكيف نبى كريم ريحه منتنة الدود يتساقط منه يلقى على مذبلة ثمانى عشرة سنة هذه أخبار مزورة ملفقة باطلة.
(17/24)
وهكذا ما ورد فى فتنة نبى الله سليمان على نبينا وعليه صلوات الله وسلامة وأن ملكه كان فى الخاتم والخاتم بعد ذلك عندما وضعه عند جاريته وذهب ليتوضأ وجاءها المارد الجنى وأخذ منها هذا الخاتم إلى غير ذلك من هذا الهراء الذى سيأتينا إن شاء الله خلال التفسير فهذا كله من القصص الباطلة التى يصان عنها الأنبياء عليهم صلوات الله عليهم وسلامه ولايجوز أن تروى فى التفسير فهذا نوع ثان من أخبار بنى اسرائيل نعلم أنه مكذوب ومفترى.
(17/25)
النوع الثالث: من أخبار بنى اسرائيل مما هو مسكوت عنه فى شريعتنا ما ورد فى شريعتنا ما يقرره ولا ما ينكره من العجائب والغرائب التى وقعت فى بنى اسرائيل فلا مانع أن نروى هذه الأخبار على وجه العظة والعبرة وعلى وجه بيان تفصيل ما أجمل فى القرآن من أخبار الأمم السابقة ومن أخبار الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه مع أممهم لا حرج فى ذلك لكن هذا كما قلنا لا نجزم بصحته وأنه وقع لئلا نقول على الله بغير علم ولا نكذب ثبت فى صحيح البخارى عن أبى هريرة وفى مسند الإمام أحمد وسنن أبى داود وابن حبان وسنن أبى داود وصحيح ابن حبان عن أبى نملة والخبر مروى عن أبى هريرة وأبى نملة فى شرح السنة للبروى ورواه الإمام أحمد عن جابر بن عبد الله رضى الله عنهم أجمعين أبى هريرة وأبى نملة وجابر قالوا رضي الله عنهم كان أهل الكتاب يقرؤن التوراة بالعبرية ويفسرونها بالعربية فذكروا ذلك للنبى عليه الصلاة والسلام هل نقبل تفسيرهم ونعول عليه؟ فقال قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون هذه الأخبار التى ترونوها هل هى ثابتة فى كتاب الله حقا وصدقا أو دخلها شيء من التحريف وأنتم تلاعبتم فيه ذلك الكتاب فلا يجوز أن نضيفها إلى الله ولا نعلم لا صدقها ولاكذبها هذا حالنا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون وإن كانت هذه الأخبار مما أنزل إليكم فنحن أول ما يؤمن بها وإذا لم تكن مما نزل عليكم فإذن نحن وقفنا موقفه موقف المتثبت فما أدخلناها فى دين الله ولا نفيناها آمنا بما أنزل إلينا وما أنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون.
(17/26)
وقد أخبرنا ربنا جل وعلا أن أهل الكتاب حرفوا كتاب الله وغيروه وبدلوا كلام الله وحرفوا الكلم عن مواضعه وقد أشار نبينا صلى الله عليه وسلم فى حديثه الصحيح إلى هذا ففى معجم الطبرانى بسند رجاله الثقات عن أبى موسى الأشعرى رضى الله عنه قال سمعت النبى صلى الله عليه وسلم يقول إن بنى اسرائيل كتبوا كتابا فاتبعوه وتركوا التوراة إذن التوراة التى أنزلها الله تركوها وضاعت وهذا الكتاب الذى كتبه لهم الأحبار هو الذى اتبعوه وساروا عليه فنحن نلزم حدنا ونقف موقف المتثبت آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون.
مثال هذا ما يريده المفسرون فى تفسير كلام الله جل وعلا ولا حرج من روايته كما قال النبى عليه الصلاة والسلام ولاحرج {كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إنى برىء منك إنى أخاف الله رب العالمين} فاليهود فى موالاتهم للمنافقين والمنافقين فى موالاتهم لليهود حالهم كحال الشيطان فاليهود يوالون المنافقين ويظنون أن المنافقين سيدفعون عنهم عقوبة المؤمنين إذا أراد المؤمنون أن يعاقبوهم لكن حال المنافقين مع اليهود كحال الشيطان مع من يضله عندما يضله يتبرأ منه ولا يتحمل تبعة ضلاله {كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إنى برىء منك إنى أخاف الله رب العالمين *فكان عاقبتهما أنهما فى النار خالدين فيها وذلك جزاء الظالمين} هذه الآية المعتمد {كمثل الشيطان إذ قال الإنسان اكفر} أنها مثل عام لكل من حصل منه طاعة لإنسان فى معصية الرحمن ذلك الإنسان لن يتحمل تبعتك ويتبرأ منك فى الدنيا والآخرة كحال الشيطان عندما يضل الناس {فلا تلومونى ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخى إنى كفرت بما أشركتمونى من قبل} .
(17/27)
مثل عام نقل بعد ذلك ما يوضح هذا بأن المقصود من هذا شخص وقع فى الأمم السابقة فى قصة برصيص العابد والقصة أوردها ابن الجوزى فى زاد المسير وأوردها فى تلبيس إبليس وأوردها فى ذم الهوى وتناقلتها كتب التفسير وحاصلها عن طريق الإيجاز أن برصيص العابد كان من العباد فى بنى اسرائيل وكان يعبد الله فى صومعته فحاول إبليس وجنوده أن يغووه فعجزوا فجمع إبليس جنوده عرض عليهم الأمر وقال من يستطيع أن يضل برصيص فقال الأبيض ويقول من قطع أمل الأبيض الذى هو من أتباع إبليس يقال له الأبيض حتى من الأنبياء يعنى كان يحاول أن يغوى الأنبياء على حسب زعمه لكن الله عصمهم وحفظهم فقال أنا أكون يعنى المنفذ لهذه المهمة فذهب إليه بصورة عابد خاشع واستئذن أن يدخل عليه فأشرف عليه من صومعته وقال ماذا تريد قال أريد أن أتعبد معك قال أنا مشغول بنفسى عن غيرى ولم يفتح له فبقى هذا الأبيض الذى هو شيطان مارد يتزيا بزى العباد الخاشعي يتعبد الله فى فناء هذه الصومعة وفى سورها فأشرف عليه برصيص فى يوم من الأيام فرأى جده واجتهاده فى طاعة الله فقال لو فتحت له لآنس به ولنتعبد الله جميعا ففتح له فأعجب برصيص بعبادته وكان يبذل هذا الشيطان الذى يتزيا بزى الصالحين الخاشعين الأبيض جدا واجتهادا فى طاعة يقول فمكث معه أربعين يوما ثم قال الأبيض لبرصيص أنا ظننت أنك من العباد الزهاد فإذا أنت مقصر لا أريد أن أقيم معك أنا سأذهب إلى صاحب لى آخر نجتهد فى طاعة الله أكثر منك يقول فدخل من الهم والغم فى قلب برصيص ما لا يعلمه إلا الله ثم قال الأبيض لبرصيص وأنا قبل أن أذهب سأعلمك كلمات إذا قرأتها على المبتلى يشفى إذا قرأتها على المصروع يصحو فيعنى تنفع الناس بهذه الكلمات إذا تعلمتها قال أنا مشغول بنفسى ولا أريد أن يشغلنى الناس قال فى ذلك خير فعلمه بعض الكلمات ليقرأها على المرضى والمصروعين لأجل أن يشفووا ثم ذهب إلى إبليس وقال فتنت الرجل ثم بدأ بعد ذلك هذا
(17/28)
الأبيض يدخل فى بعض الإنس بحيث يسبب لهم الصرع والصداع وضيق الصدر ويلجئون إلى من يعالجهم فكان يتزيا أيضا بزى المعالجين ويقول دوائكم وعلاجكم عند برصيص فيذهب بعض الناس فيقرأ عليهم برصيص فيفارقهم هذا الجنى الذى يتلبسهم يعنى هو تلبسهم لما دعا لهم ذاك بتلك الدعوات ولا أثر لها فى الاستجابة لكن هذا دخل وخرج فحصل فتنة فى الناس إلى أن دخل بعد ذلك فى فتاة شابة وزين لأخوتها أن يأخذوها لبرصيص فلما لم يستقبلها قالوا اطرحوها عند السوق ثم بعد ذلك جاء لبرصيص وقال له تقرأ عليها وزين له هذا فأدخلها إلى حجرته ليقرأ عليها فتخبطها الشيطان فاضطربت وظهر شىء من مفاتنها فوقع عليها والبتلى بالزنا ثم قال له فعلت وفعلت وبطنها انتفخ وحملت منه فلا حيلة إلا أن تقتلها فقتلها فى نهاية الأمر أخبر أخوتها بأن هذا قتلها ودفنها فى مكان كذا وهو سكذب عليكم ويقول إنها ذهبت وشيطانها أخذها أو شفيت فجاؤا فعلا وحصلوها مدفونة فى مكان كذا فأنزلوا هذا العابد وقدوه إلى الملك فاعترف بذلك فأمر بصلبه فجاءه صاحبه الأبيض وقال علمتك كلمات فما أؤتمنت عليها وخنت وفعلت وفعلت الآن لا ينجيك إلا شىء واحد أن تسجد لى فإذا سجدت لى أنجيك مما أنت فيه ثم بعد ذلك تتوب من زناك ومن قتلك فسجد له فتخلى عنه الشيطان فصلبه الملك وقتله {كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين} .
مثل هذا الخبر عندما يروى عن أهل الكتاب هل وقع أم لا؟ العلم عند الله لا نعلم صدق وقوعه وحصوله ولا نعلم أيضا عدم وقوعه فنقول {آمنا بالذى أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلون} .
إخوتى الكرام: لا مانع من حكاية هذا الخبر لما فيه من العبرة والعظة وحقيقة ينبغى أن يأخذ الإنسان عبرة وعظة من هذا الخبر إياك أن تخلو بامرأة ولو حدثتك نفسك أن تعلمها القرآن.
(17/29)
ثبت فى سنن الدارمى عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه انه قال من أراد ان يكرم دينه فلا يدخل على السلطان ولا يخصم أهل الأهواء ولا يخلون بامرأة.
أذا أردت أن تكرم دينك فلا تخلو بامرأة ولو حدثتك نفسك أن تعلمها القرآن وفى كثير من الأحوال يأتى الشيطان لبعض طلبة العلم القصة وقعت فى الزمن الماضى أم لا؟ لكن تقع فى هذه الأزمان فإن زينوا له أنه إن قرأ على هذه أو على تلك أنها تشفى وأنها من باب الرقية الشرعية فيتوسع أحيانا ويمد يده ثم بعد ذلك ينسى ربه هذا يقع بكثرة وفى كثير من الأحيان يأتى الشيطان فيدخل فى امرأة لتصرع ليفتن بها طالب علم وفى كثير من الأحيان يأتى الشيطان إلى أناس خارج المسجد فيوقع بينهم الخصوم ليشغل من هم فى المسجد ليخرجوا ويفضوا هذه الخصومة هذه من حيله ومكره ومن وسائل إفساده فاحذر هذا {تلك حدود الله فلا تعتدوها} .
فإذن هذه القصة التى وردت سواء وقعت أم لا حقيقة فيها عبرة ولذلك لا يخلون رجل بامرأة لا من أجل رقية شرعية ولا من أجل تعليم ولا يقابل النساء والسلامة لايعدلها شىء كما كان يقول أئمتنا ولذلك ينبغى على الإنسان أن يحتاط عندما يتصل بالنساء من أجل مصلحة شرعية سواء كان عن طريق التعليم أو عن طريق آخر أحيانا لو لزم بعض الإتصالات من طلب حاجة أو مبايعة أو ما شاكل هذا لضرورة أو شهادة فلابد من الاحتياط {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم} .
وإذا ابتلى أحيانا بتدريس النساء ما ينبغى أن يرى له سن بضحك أو تبسم هذا حتما دون أن يحصل منه مقابلة ورؤيا لهن لكن لو ابتلى وهناك حواجز وينبغى أن يتقى الله لا يسمع منه الضحك والتبسم وما شاكل هذا فهذه لا بد لها من الضوابط الشرعية، وهنا كذلك هذا الأمر الذى فى تفسير هذه الآية وتناقله المفسرون هل وقع أم لا؟ العلم عند الله لكن لا مانع من حكايته لأخذ العظة والعبرة منه.
(17/30)
إخوتى الكرام: الطريق الثانى من طرق التفسير تفسير بالرأى المقبول المبرور ما ضابطه؟ نتكلم على هذا إن شاء الله فى الدرس الآتى بإذن الله ولعل الله ييسر لنا فى الدرس الآتى الانتهاء من هذه المقدمة لندخل بعد ذلك فى تفسير سورة من سور القرآن إنه على كل شىء قدير.
وصلى الله علي نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليما كثيرا.
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(17/31)
.. .لا هذا يدخل بالتفسير بالرأى إن شاء الله وأن سأشير إليه قطعا لأنه بالتفسير بالرأى سيأتينا مما يقرر جوازه ويحتمه أن عجائب القرآن لا تنقضى وأن حوادث الناس تجد وتتكرر فلا بد من أن يدخل فى كلام الله أن يشملها كلام الله جل وعلا وجاءت هذه النصوص العامة لتطبق على الجزئيات التى تقع إلى قيام الساعة فإذا لم نقل بجواز التفسير بالرأى لم نقل إذن سيبقى معنا حوادث كثيرة جدت وليس لها ذكر فى كلام الله يقول شيخنا عليه رحمة الله فى سورة النحل: {والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون *ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون *وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرؤوف رحيم *والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون} يقول أبهم ما سيخلقه جل وعلا مما لا نعلمه فى اسم الموصول ما {ويخلق ما لا تعلمون} يقول وفى ذكره مع المركوبات المذكورة قرينة على أنه يخلق ما لا نعلمه من المركوبات مع أنه ذكر فى مكان آخر أنه يخلق ما لا نعلمه ودون على أن يكون هناك قرينة على أنه من المركوبات على وجه العموم كما قال الله {سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون} لكن هنا دليل فى مناسبة ذكر هذه {ويخلق ما لا تعلمون} مع المركوبات المتقدمة يقول إشارة وقرينة {ويخلق ما لا تعلمون من المركوبات} يقول وقد تحقق هذا هذا فى تفسيره فى أضواء البيان فى إيضاح القرآن بالقرآن وقد تحقق هذا فى المركوبات التى حصلت فى هذه الأيام من الطائرات والغواصات والسيارات فإذن هذا موجود إنما أحيانا يحصل شطط فى الإعجاز العلمى وتحميل كلام الله ما لا يحتمل نتكلم عليه عند التفسير بالرأى لنضع له ضابطا لأن التفسير بالرأى مجمع على جوازه إذا كان يوافق اللغة ونصوص الشرع ويدل عليه سياق الآية فيشهد له السباق واللحاق هذا لا خلاف فيه.
(17/32)
ومن نسب إلى الإمام ابن تيمة أنه يحرم التفسير بالرأى فى هذه الحالة فهو يفترى ويكذب عليه كما سأنقل هذا من كتبه ولذلك الشيخ أبو زهرة تناقض ففى كتابهم الإمام ابن تيمة الذى ألفه فى حياته قال الإمام ابن تيمة يجوز التفسير بالرأى وأثنى عليه بذلك ثم بعد ذلك فى كتابه القرآن هدايته وإعجازه قال الإمام ابن تيمة يحرم التفسير بالرأى ورد عليه طيب كيف تنسب قولين إلى شخص واحد هناك تثنى عليه وهنا ترده لم يفهم كلام الإمام ابن تيمة هناك يقصد الرأى الذى هو عن طريق الهوى كما سيأتينا أو عن طريق تفسير القرآن بمجرد اللغة فلا شك أن هذا لايجوز كما سيأتينا لهذا عند التفسير بالرأى.
الشاهد إخوتى الكرام: الإعجاز العلمى الذى يشهد له كلام الله هذا يدخل فى التفسير بالرأى لا بالأثر لأنه ما نقل لا عن تفسيرالقرآن بالقرآن ولا القرآن بالسنة ولا قوال الصحابة ولا التابعين رضي الله عنهم أجمعين وليس له صلة بأخبار أهل الكتاب بقى إذن مما جد هذا عن طريق الرأى والاستنباط فلا حرج إن شاء الله عند التفسير بالرأى نتكلم عليه إن شاء الله.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنيباء والمرسلين.
(17/33)
مقدمة التفسير (4)
(دروس تفسير)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة التفسير4
الحمد لله نحمده ونتستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا.
الحمد لله رب العالمين شرع لنا دينا قويما وهدانا صراطا مستقيما وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة وهو اللطيف الخبير.
اللهم لك الحمد كله ولك الملك كله وبيدك الخير كله وإليك يرجع الأمر كله أنت رب الطيبين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك ولى الصالحين وخالق الخلق أجمعين ورازقهم فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين.
{ياأيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون} [الأنعام/102] .
وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله أرسله الله رحمة للعالمين فشرح به الصدور وأنار به العقول وفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبيا عن أمته رضى الله عن أصحابه الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
{يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا} [النساء/1] .
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون}
[آل عمران/102] .
{يا أيها أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا صلى الله عليه وسلم * يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما} [الأحزاب/70-71] .
أما بعد: معشر الإخوة الكرام..
لازلنا فى مقدمة دروس التفسير وقلت هذه المقدمة تقوم على أمرين.
الأمر الأول: فى بيان منزلة كلام الرحمن جل وعلا وأثره فى هداية بنى الإنسان.
(18/1)
والأمر الثانى: فى بيان طرق التفسير وقلت إن طرق التفسير المقبولة المحمودة المرضية التى ينبغى أن يعول عليها المهتدون فى تفسير كلام الحى القيوم سبحانه وتعالى تقوم على طريقين اثنين.
الطريق الأول: تفسير بالمنقول المأثور وقد بينا مراحل وطرق ذلك التفسير نفسر كلام الله بكلام الله ونفسر كلام الله بحديث رسول الله عليه الصلاة والسلام ونفسر كلام الله بأقوال الصحابة الكرام رضي الله عنهم ونفسر كلام الله بأقوال الطيبين عليهم رحمات رب العالمين وعرجت بعد ذلك على أخبار أهل الكتاب وبينت أقسامها ووصلنا إلى الطريق الثانى من طرق التفسير وهو التفسير بالرأى المقبول المبرور ذلك تفسير بالمأثور وهذا تفسير بالرأى المحمود المقبول المبرور.
فما معنى تفسير القرآن بالرأى؟
يراد بتفسير القرآن بالرأى الاجتهاد وإعمال الفكر فى تفسير كلام الله جل وعلا بحيث يكون ذلك التفسير الذى وصلنا إليه عن طريق الاجتهاد وإعمال الفكر بحيث يكون ذلك التفسير موافقا لنصوص الشريعة المطهرة ولقواعد اللغة العربية فيشهد له سياق القرآن الكريم ويدل عليه السباق واللحاق يدل عليه ما تقدم من كلام الله وما تأخر بداية الآية ونهايتها وما قبلها وما بعدها هذا التفسير يقال له تفسير بالرأى إذن الاجتهاد وإعمال الفكر فى تفسير كلام الله جل وعلا بحيث يوافق ذلك نصوص الشرع وقواعد اللغة فيدل عليه سياق القرآن الكريم فيشهد له سباق الآيات ولحاق الآيات يشهد له أول الآيات وآخرها يشهد لهذا التفسير ما تقدمه من كلمات قرآنية فى تلك السورة وما يأتى بعده من كلمات قرآنية كما سيأتى إيضاح هذا بالأمثلة الجلية إن شاء الله فى هذه المقدمة وفى السور التى سنتدارس تفسيرها بإذن الله جل وعلا.
(18/2)
إخوتى الكرام: التفسير بهذه الشاكلة متفق على جوازه بين علماء هذه الأمة المباركة لا خلاف بين علماء الإسلام فى أن التفسير بالرأى إذا دل على هذا التفسير نصوص الشرع وشهدت له قواعد اللغة والتأم هذا التفسير مع سياق كلام الله الجليل فشهد له السباق واللحاق شهد له ما تقدم وما تأخر لاخلاف بين علماء الأمة فى جواز التفسير بهذه الطريقة دل على ذلك كتاب الله جل وعلا وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام وقرر العقل لزوم التفسير بهذه الطريقة وضرورة المسير إليه لثلاثة أمور.
أما كتاب الله جل وعلا فدل على جواز هذا النوع من التفسير حيث أمرنا ربنا جل وعلا أن نتدبر كلامه فى آيات كثيرة فقال جل وعلا: {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها} ، {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} {أفلا يتدبروا القول} ، {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب} والتدبر لايكون إلا بعد الاجتهاد وإعمال الفكر فى الوصول إلى معنى الآية إذا لم يرد فى معناها أثر فى تفسيرها إذا لم يرد فى تفسيرها أثر من الطرق المتقدمة فإذن لا بد من إعمال الرأى والاجتهاد للوصول إلى مراد الله جل وعلا حسب الطاقة البشرية.
فالتدبر إذن لا يكون إلا بعد التفهم بعد تفسير كلام الله جل وعلا وإذا عدم التفسير بالمأثور لا بد من إعمال الرأى والعقل للوصول إلى مراد الله جل وعلا من كلامه والله أمرنا بأن نرد ما يشكل علينا إلى الذين يستنبطون أحكام الشريعة من كتاب الله جل وعلا والاستنباط لا يمكن أن يتم إلا بعد تفسير كلام الله وفهم المراد يقول جل وعلا: {وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا} .
(18/3)
فالاستنباط الذى يتصف به أولوا الأمر من علماء هذه الأمة هو تفسير كلام الله جل وعلا فما حصل الاستنباط ومعرفة الأحكام إلا بعد معرفة تفسير كلام الرحمن جل وعلا {لعلمه الذين يستنبطونه منهم} فالاستنباط لا يمكن أن يتم إلا بعد فهم المعنى وإذا لم يكن فى معنى الآية أثر فلا بد إذن من إعمال العقل وإجهاد الفكر للوصول إلى مراد الله جل وعلا حسب طاقة الإنسان وقدرته هذه دلالة القرآن على جواز التفسير بالرأى إذا وافق نصوص الشرع وقواعد اللغة وشهد له سياق القرآن فدل عليه السباق واللحاق.
وأما السنة المطهرة فقد ثبت فى مسند الإمام أحمد ومستدرك الحاكم بسند صحيح أقره عليه الذهبى أن النبى عليه الصلاة والسلام دعا لابن عباس رضي الله عنهما فقال اللهم فقه فى الدين وعلمه التأويل والجملة الأولى اللهم فقه فى الدين ثابتة فى الصحيحين عن نبينا عليه الصلاة والسلام لكن وعلمه التأويل هذه فى المسند والمستدرك اللهم فقه فى الدين وعلمه التأويل.
وفى رواية فى المسند مسند الإمام أحمد ومسند البزار ومعجم الطبرانى الكبير بسند صحيح أيضا أن النبى صلى الله عليه وسلم قال [اللهم فقه فى الدين وعلمه تأويل القرآن] ووجه الاستشهاد من الحديث إخوتى الكرام أن تأويل القرآن لو كان مسموعا كالتنزيل ولا يمكن عن طريق الاجتهاد وإعمال الفكر لما كان لابن عباس رضي الله عنهما خصوصية فى هذا الدعاء فجميع أفراد الأمة بإمكانهم أن يحفظوا كلام الله جل وعلا لكن ليس بإمكانهم أن يفهموا مراد الله من كلامه إلا إذا صاحبتهم عناية إلهية عظيمة من الله عليهم بذلك فالذين يصلون إلى تفسير كلام الله وفهم المراد منه هم أولوا الأمر من العلماء الصالحين كما قال الله {لعلمه الذين يستنبطونه منهم} ومنهم حبر الأمة وبحرها وترجمان القرآن وعالمها الصحابى الجليل ابن عم نبينا عليه الصلاة والسلام عبد الله ابن عباس [اللهم فقه فى الدين وعلمه التأويل] [اللهم علمه تأويل القرآن] .
(18/4)
إخوتى الكرام: وحقيقة ما نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما من الفقه واستنباط الأحكام وما نقل عنه من التفسير لم ينقل عن صحابى آخر ببركة هذه الدعوة النبوية على نبينا صلوات الله وسلامه يقول الإمام ابن القيم فى الوابل الصيب من الكلم الطيب فى صفحة سبع وسبعين الأحاديث التى رواها ابن عباس عن نبينا عليه الصلاة والسلام وصرح فيها بالسماع ما جاوزت العشرين حديثا لأن النبى عليه الصلاة والسلام توفى وعمر ابن عباس رضي الله عنهما خمس عشرة سنة أو أربع عشرة سنة ناهز الاحتلام لم يحتلم فقبض النبى عليه الصلاة والسلام وابن عباس فى سن المراهقة فالأحاديث التى ضبطها عن النبى عليه الصلاة والسلام ووعاها لا تصل إلى عشرين حديثا وأما الأحاديث الأخرى ومن الستة المكثرين الذين زادت روايتهم على ألف حديث عن النبى عليه الصلاة والسلام فكلها تلقاها عن الصحابة الكرام وقد بالغ الإمام الغزالى فى المستصفى فى الجزء الأول صفحة سبعين ومائة فقال غاية ما سمعه ابن عباس من النبى عليه الصلاة والسلام أربعة أحاديث والحقيقة فى كل من الأمرين شىء من التساهل فى كلام ابن القيم وكلام الإمام الغزالى عليهم جميعا رحمة الله.
(18/5)
والحق كما قال الإمام السخاوى فى فتح المغيث فى الجزء الأول صفحة سبع وأربعين ومائة فى آخر كلامه على الحديث المرسل عند شرحه لقول الإمام زين الدين عبد الرحيم الأثرى عليه رحمة الله أما الذى أرسله الصحابى فحكمه الوصل على الصواب تكلم على مراسيل الصحابة ومنهم ابن عباس رضي الله عن الصحابة أجمعين يقول وقال شيخنا وإذا أطلق السخاوى هذا فيقصد به حلام المحدثين وأمير المؤمنين الحافظ ابن حجر وقال شيخنا وقفت وأحصيت الأحاديث التى صرح فيها ابن عباس بسماعها من النبى عليه الصلاة والسلام فبلغت الأربعين حديثا ليست بعشرين كما قال الإمام ابن القيم ولا بأربعة كما فرط غاية التفريط الإمام الغزالى يقول أربعين هذا ما صرح فيه بالسماع يقول وهناك أحاديث أخرى يمكن أن تدخل أيضا فى باب التصريح بالسماع ككونه حضر وقائع وشاهدها ورواها وإن لم يصرح بأنه سمع ذلك من البنى عليه الصلاة والسلام وأنا أقول على جميع الاحتمالات غاية ما سمعه ابن عباس من نبينا عليه الصلاة والسلام لا يصل إلى مائة حديث.
أما فقهه فهو البحر جمع ابن حزم فقط فقه ابن عباس وفتاواه فى مسائل الأحكام فزادت الفتاوى التى جمعها عن ابن عباس على سبعة أسفار فقط يقول الإمام ابن القيم فى المكان المشار إليه وهذا بحسب ما بلغ الإمام ابن حزم وبحسب ما وصل إليه وإلا ففقه ابن عباس ليس سبعة أسفار فقط إنما هو كالبحر الخضم.
فإذن اللهم فقه فى الدين وعلمه التأويل ,علمه تأويل القرآن فلو كان التأويل مسموعا كالتنزيل لما كان فى هذا الدعاء خصوصية لابن عباس رضي الله عنه وعن سائر الصحابة الكرام.
هذه دلالة السنة على جواز تفسير القرآن بالرأى الذى يوافق نصوص الشرع وقواعد اللغة فيدل عليه سياق القرآن يشهد له السباق واللحاق.
وأما العقل فيحتم العقل ضرورة القول بجواز تفسير القرآن بالرأى على الصفة المتقدمة لثلاثة أمور:
(18/6)
أولها: لو لم نقل بجواز تفسير القرآن بالرأى للزم تعطيل كثير من الآيات عن معانيها فليست جميع آيات القرآن نقل فيها تفسير عن الله وعن رسوله عليه الصلاة والسلام وعن الصحابة وعن التابعين فنحن إذن أمام آيات إما أن نفسرها على حسب لسان العرب الذى نزل القرآن بلغتهم بلسان عربى مبين {قرآنا عربيا غير ذى عوج} وذلك التفسير كما قلنا يتوافق مع نصوص الشرع فيدل عليه السياق ويشهد له السباق واللحاق فإن لم نقل بجواز ذلك ستبقى تلك الآيات مهملة بلا فهم وبلا معنى نعلمه منها وكلام الله جل وعلا يتنزه عن ذلك كثيرا من آيات القرآن لا يوجد لها تفسير فى القرآن ولا فى السنة ولا عن الصحابة ولا عن التابعين.
وتقدم معنا أن أقوال التابعين التى ليس لها حكم الرفع أقوالهم كغيرهم وليس إذن أقوالهم حجة على من بعدهم وأقوال الصحابة النفس تميل لقبول أقوالهم للاعتبارات التى ذكرناها فإذن ليست جميع آيات القرآن فيها تفسير عن الله وعن رسوله عليه الصلاة والسلام وعن الصحابة وإذا كان الأمر كذلك فماذا نفعل ببقية الآيات التى لم تفسر والقرآن نزل بلغة العرب ونحن نعلم معانى هذه الآيات من كلام لغة العرب.
فمثلا قول الله: {تبت يدا أبى لهب} لا يحتاج إلى أن تنقل أثرا فى بيان معنى التبات تبت هلكت وخسرت وشقيت ,إن قيل كيف فسرت هذه نقول هذا بلسان العرب وبلغتهم تفسير بالرأى هل هذا مذموم؟ لا ثم لا وتفسير القرآن بالرأى وافق قواعد اللغة ونصوص الشرع وشهد له السياق فدل عليه السباق كما قلنا واللحاق وعليه فهذا تفسير بالرأى المحمود الجائز المبرور وعلماء الأمة الإسلامية اتفقوا على جوازه.
إذن العقل يحتم القول بجواز تفسير القرآن بالرأى بهذه الصفات لأننا لو لم نلجأ إلى تفسير القرآن بالرأى بهذه الصفات للزم تعطيل كثير من الآيات عن معانيها وكلام الله جل وعلا يتنزه عن ذلك.
(18/7)
الأمر الثانى: الذى يستنبط منه العقل جواز تفسير القرآن بالرأى لئلا نقع فى محذور نقول إن الصحابة الكرام رضوان الله عليهم خير هذه الأمة بشهادة نبينا عليه الصلاة والسلام كلهم عدول بتعديل الله ورسوله عليه الصلاة ولسلام لهم والصحابة الكرام اختلفوا فى تفسير القرآن وليس لجميع أقوالهم حكم الرفع إلى نبينا عليه الصلاة والسلام كما تقدم هذا معنا إذن الأقوال الموقوفة عليهم وليس لها حكم الرفع وحصل بينها اختلاف هذا يدل دلالة قاطعة على جواز تفسير القرآن بالرأى وهذا إجماع من الصحابة على هذا الأمر فلو كان تفسير القرآن بالرأى بالصفات المتقدمة ممنوعا لما عول على ذلك حير هذه الأمة وأطهرها وأبرها وهم الصحابة الكرام رضوان الله عليهم وقد ورد ما يشير إلى هذا صراحة عن أمير المؤمنين على ابن أبى طالب رضي الله عنه وعن سائر الصحابة الكرام.
ورد فى مسند الإمام أحمد وصحيح البخارى والسنن الثلاثة فى سنن الترمذى والنسائى وابن ماجة والحديث فى صحيح البخارى كما قلت وإذا كان فى صحيح البخارى فهو حديث صحيح قطعا وجزما عن أبى جحيفة رضي الله عنه قال قلت لعلى رضي الله عنهم أجمعين هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشىء دون الناس وفى رواية قال له هل عندكم شىء غير كتاب الله عندكم شىء آخر آل البيت كما يزعم المخرفون الضالون من الشيعة بأن النبى عليه الصلاة والسلام خصكم بأمور لم ينشرها ولم يعطها للعامة هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشىء هل عندكم شىء غير القرآن غير كتاب الله فقال لا والذى فلق الحبة وبرأ النسمة ما عندنا إلا كتاب الله وما فى قراب سيفى فى هذا البيت الذى يوضع فيه السيف فيه ورقة مكتوبة عندنا عن النبى عليه الصلاة والسلام فأخذت هذه الورقة من قراب سيفه ففيها العقل أى الديات ومقاديرها وفكاك الأسير وألا يقتل مسلم بكافر هذا الذى فى صحيح البخارى.
(18/8)
وورد فى {2240} رواية فى صحيح مسلم زيادات على هذا بأنه ملعون من غير منار الأرض وملعون من ذبح لغير الله ويجمع بأن جميع هذه الأمور كانت فى الصحيفة عند على رضي الله عنه ثم قال على إلا فهما يؤتيه الله رجلا مسلما فى كتابه ما خصنا نبينا عليه الصلاة والسلام بشىء دون الناس القرآن عندنا وعندكم سواء لكن أنا كتبت عنه هذه الصحيفة وهى فى قراب سيفى فيها العقل وفكاك الأسير وألا يقتل مسلم بكافر والعقل كما قلت لكم الديات يقال لها عقل لأن الإبل كانت تعقل فى فناء ورثة المقتول فعندما يحضرون لهم مائة من الإبل يعقلونها فى الفناء فقيل للديات العقل والعقل وفكاك الأسير وألا يقتل مسلم بكافر هذا الذى كتبته عن النبى عليه الصلاة والسلام وهذا عندنا وعند الناس سواء لكن هناك شىء انتبه يا أبا جحيفة والكلام لجميع المسلمين إلا فهما يؤتيه الله رجلا مسلما فى كتابه هذا إذا من الله على عبد من عباده بالفهم فاستنبط من كلام الله ما لا يصل إليه غيره فهذه منة من الله لكن ما خصنا بها نبينا عليه الصلاة والسلام دون الناس وما بث إلينا شيئا كتمه عن الناس عليه صلوات الله وسلامه.
الشاهد إخوتى الكرام: إلا فهما يؤتيه اله رجلا مسلمل فى كتابه وفى رواية إلا فهما يعطاه رجل مسلم فى كتاب الله فهم يؤتيه الله ويحصل له من قبل الله فيتميز به على غيره من الناس كما حصل لابن عباس اللهم فقه فى الدين وعلمه التأويل هذا الأمر الثانى الذى يستنبط منه العقل جواز التفسير بالرأى المحمود الذى قلنا يوافق نصوص الشرع وقواعد اللغة فيدل عليه سياق القرآن فيشهد له السباق واللحاق.
(18/9)
والأمر الثالث: الذى يستنبط منه العقل جواز تفسير القرآن بالرأى ويحتم ذلك أن الحوادث تجد وتتجدد وهذه الحوادث لا بد من أن تخضع لكليات وقواعد عامة فى شريعة الله المحكمة والقرآن الكريم شامل لذلك فما حدث ويحدث لا بد من أخذ أحكامه من كلام ربنا جل وعلا وسنة نبينا عليه الصلاة والسلام ولا يمكن هذا إلا عن طريق تفسير القرآن بالرأى وكنت ذكرت لكم كلام شيخنا المبارك عليه رحمة الله فى تفسير آية النحل فى الجزء الثالث صفحة تسع وتسعين ومائة فى أضواء البيان فى إيضاح القرآن بالقرآن {والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون} .
قلت يقول الشيخ عليه رحمة الله أبهم ما سيخلقه الله لأنه ذكره باسم الموصول ما وهذا المبهم بقرينة ذكره مع المركوبات يفيد أنه يخلق ما لا تعلمون من المركوبات التى هى غير البغال والحمير التى نركبها {والخيل والبغال والحمير} هى غير الخيل وغير البغال وغير الحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون أى من المركوبات الأخرى كالطائرات والسيارات والغواصات الباخرات وما شاكل هذا ويخلق ما لا تعلمون وقلت هذا المبهم بقرينة ذكره مع المركوبات تدخل المركوبات التى ستجد وتوجد دخولا أوليا فى هذا اللفظ مع أن الله سيخلق أشياء أخرى أيضا على مر الأيام والليالى ما نعلمها وعندما توجد يعلمها الناس كما قال الله جل وعلا: {سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون} .
فهذه الحوادث التى تجد وتتجدد وتحدث ولا يوجد لها نظير سابق لا بد من إلتماس حكم لها فى شريعة الله المطهرة فلا بد من إدخالها فى هذه العمومات وهذا لا يكون إلا عن طريق تفسير القرآن بالرأى بحيث يحتمل القرآن ذلك إذا لم يوجد فنلجأ إلى السنة لبيان حكم ما جد وهل فى السنة أشارة إلى ذلك.
(18/10)
إخوتى الكرام: عند هذه النقطة فى الدرس الماضى أشار بعض الأخوة الكرام أخى الشيخ عبد العزيز إلى أمر يثار فى هذه الأيام وهو موضوع الإعجاز العلمى وقلت له إن الإعجاز العلمى يدخل فى باب التفسير بالرأى لا فى باب التفسير بالأثر
الإعجاز العلمى سنقف عنده وقفة لننفى الشطط عن كتاب الله وما أعلم أحدا فى هذا الوقت تكلم فى الإعجاز العلمى إلا وابتعد وابتعد عن الصواب كثيرا وكثيرا بحجة التلفيق بين النظريات العلمية وبين الآيات القرآنية.
إخوتى الكرام: القرآن معجز من أى وجه نظرت إليه فهو معجز فى فصاحته وجمال أسلوبه {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} هو معجز لأنه أخبر عن الغيوب الماضية والمستقبلة وتحدث عن وقائع حاضرة إبان نزوله كثيرا من الناس لا يعلمونها ثم بعد ذلك تحققوا منها فهذا أيضا إعجاز للقرآن العظيم إخباره عن الغيوب.
من جملة إعجاز القرآن صنيعه العجيب فى القلوب فهذه القلوب تخشع وتلين وتتأثر عندما تسمع كلام الله جل وعلا.
من جملة إعجاز القرآن أن قارئه وسامعه لا يملان فهو الذى لا يخلق عن كثرة الرد ولو طهرت قلوب العباد لما شبعت من كلام الله جل وعلا.
ومن جملة إعجاز القرآن أنه جمع أنواع العلوم وهو الذى صير رعاء الشاء والغنم إلى ساسة الشعوب والأمم ,من هذه العلوم العلوم على كثرتها لا تخرج عن نوعين.
(18/11)
علوم سلوكية ترتبط بفعل الإنسان وسلوكه هذا فضيلة وهذا رزيلة هذا خير وهذا شر هذا حلال وهذا حرام فبين القرآن ما يتعلق بأفعال المكلفين عن طريق الأمر إيجابا واستحبابا وعن طريق النهى تحريما وكراهة وضبط سلوك المكلفين فى هذه الحياة علوم سلوكية وهذه لا يجوز أن تؤخذ من غير شريعة رب البرية ومن حسن أو استقبح شيئا لم ترد به شريعة الله وأمر أو نهى المكلفين عن شىء أو بشىء لم ترد به شريعة الله فقد نصب نفسه ندا لله {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام} {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} هذا النوع الأول من العلوم العلوم السلوكية تكفل ببيانها كتاب ربنا وسنة نبينا عليه الصلاة والسلام.
وهناك علوم مادية تجريبية خاضعة للعقل البشرى وللمحسوسات والتجارب والله ندبنا إلى أن نتوصل إليها وأن نبحث وننظر ما فى هذا الكون لنرى عجيب ما خلقه الله جل وعلا فى هذا الكون {قل انظروا ماذا فى السموات والأرض وما تغنى الآيات والنذر عن قوم لايؤمنون} هذه العلوم التجريبية العلوم العقلية العلوم المادية التى الطريق لإثباتها العقل, أحيانا يشير القرآن إليها ويكشف عنها قبل أن تقع فعندما تقع يقول العلماء فى هذا الوقت هذا إعجاز علمى أى أشار إلى أمر ووقع فى هذه الأيام وكشفته الاختراعات وحوادث الناس يقولون هذا إعجاز علمى أشار إليه القرآن من خمسة عشر قرنا هذا الإعجاز العلمى ينبغى كما قلت أن نقف عنده وقفة لنضبطه بضوابط.
إخوتى الكرام..
(18/12)
وهذه الوقفة لن أسترسل فيها لأننى كنت سابقا فصلت هذه القضية فى محاضرة ألقيتها حول العلوم السلوكية والعلوم التجريبية المادية وتكلمت على الشق الثانى منها وهى العلوم التجريبية التى طريقها كما قلت العقل والمشاهدة والاختبار والملاحظة والتجارب وهناك استعرضت ما يتعلق بالإعجاز العلمى فمن شاء منكم أن ينظر الكلام مفصلا فى تلك المحاضرة فلينظره وليسمعه إنما أقول هنا هذه الأمور المادية التى كما قلت الأساس فى بحثها عقل الإنسان ومتروكة لجهده ليتوصل إليها بسعيه لم يجعلها القرآن محور بحثه لأن القرآن كتاب هداية وإعجاز فما جاء ليبين لنا أن الماء يتكون من أوكسجين وهيدروجين ليس فى ذلك أى فائدة لو بين لكان هو العليم الحكيم الذى هو بكل شىء عليم سبحانه وتعالى لكن يكون القرآن قد خرج عن غايته الأساسية فى هداية الناس وضبط سلوكهم وأفعالهم كون الماء يتركب من أوكسجين وهيدروجين ليس فى ذلك أى فائدة للناس فمن علمه علمه ومن جهله لا يضره ذلك إنما لو أشار القرآن إلى هذا واكتشف العلم بعد ذلك أن الماء يتركب من أوكسجين وهيدروجين يقال هذا إعجاز علمى لكن هذا كما قلت ليس هذا محور بحث القرآن لأن القرآن هداية وإعجاز لضبط أفعال المكلفين وليخرجهم ربنا جل وعلا من حياة النكد والشقاء فى هذه الحياة العاجلة إلى حياة السعادة والرخاء وما لهم فى الآخرة من النعيم المقيم أعظم وأعظم هذه هى غاية القرآن {فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى} أما جاء ليقرر نظريات مادية عقلية علمية بحتة لا ثم لا فليست هذه الأمور محور بحث القرآن.
الأمر الثانى هى ليست محور بحثه لكن القرآن ما حرم علينا البحث فيها واعتبر البحث فيها زندقة وضلالا وسفاهة لا ثم لا.
(18/13)
حثنا على البحث فيها وعلى التأمل فى ِشأنها وعلى التفكير فى أمرها وأمرنا أن ننظر ماذا فى السموات وما فى الأرض وأن نكتشف المجهولات وأن نجوب البحار وأن نقطع الفيافى والقفار لما نرى ما فى خلق الله من عجائب {قل انظروا ماذا فى السموات والأرض} فحثنا على هذا {أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت} {فلينظر الإنسان إلى طعامه} الآيات {وفى أنفسكم أفلا تبصرون} .
تفكر فى هذا وتأمل وتدبر لا أقول لا حجر عليك بل أنت مأمور بذلك فكل ما تتوصل إليه بعد ذلك عن طريق إمكانياتك أنت عليه مأجور إن وصلت للحقيقة فالحمد لله وإلا فقد بحثت ما فى وسعك ويأتى من بعدك ويكمل أبحاثك ليثبت القضية النهائية بعد ذلك فى هذه الأمور المادية فإذن ليست هى محور بحث القرآن ولا حجر على الإنسان فى أن يبحث فيها بل حثه القرآن على البحث فيها والتأمل فى شأنها.
الأمر الثالث: الذى يمتاز به القرآن نحو هذه الأمور المادية أن القرآن يشير ويلفت أنظار الناس إلى ما يتعلق بواقعهم نحو هذه الأمور فالله جل وعلا يذكر لنا هذه الأمور ويبين لنا ما الذى يرتبط بواقعنا منها فمثلا الرياح {وأرسلنا الرياح لواقح} واقع الحياة يرتبط بهذا وبالتذكير بهذه النعمة العظيمة من هذه الرياح أنها تلقح الأشجار {وأرسلنا الرياح لواقح} ويخبرنا الله جل وعلا أن هذه الرياح تسوق السحب و {ألم تر أن الله يزجى سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله وهو الذى يرسل الرياح بشرا بين يدى رحمته [نشرا بين يدى رحمته] .
(18/14)
تنشر السحاب وتبشر بنزول المطر وهكذا الشمس وهكذا القمر والنجوم والسماء والأرض والجبال وكيف مد الله الأرض ونصب الجبال لئلا تميل الأرض بنا هذا كله يتعلق بواقع حياتنا فلفت أنظار العباد إلى مواطن العبرة فى هذه المخلوقات التى خلقها وإذا تحدث القرآن عنها وهى الميزة الرابعة لحديث القرآن عن هذه الأمور الكونية الأمور العلمية المادية يتحدث عنها حديث العالم الخبير كيف لا وهو يتحدث عن مخلوقاته سبحانه وتعالى {لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون} .
والأمر الخامس: يشير القرآن عندما تحدث عن الأمور الكونية إللى أنها مربوبة مسيرة مسخرة لها إله عظيم يدبرها فلم تخلق فلتة ولم تخلق صدفة ولا تسير نفسها بنفسها إنما هى ضمن هذا النظام المحكم العظيم الذى أوجده رب العالمين سبحانه وتعالى {رب المشرق والمغرب} سبحانه وتعالى {لاإله إلا هو فاتخذه وكيلا} والآيات فى ذلك كثيرة كما قلت لا أريد الاسترسال فى إيضاح هذا الأمر فهذا حديث القرآن عن هذه الأمور الخمسة ليست هى محور بحثه حثنا على التفكر والتأمل فيها شرح ما يتعلق بواقعنا من هذه الأمور إذا تحدث عنها فحديثه حديث العالم الخبير يخبرنا أنها مربوبة مسيرة ماعدا هذا فى الحقيقة الخروج عن هذا لالتماس آيات تخضع لنظريات علمية ولإدخال نظريات علمية فى آيات قرآنية لا تدل عليها إلا بتكلف وتمحل وبعد وشطط وسفاهة هذا فى الحقيقة نوع من التلاعب بالقرآن باسم تأييد القرآن ونصرة القرآن.
(18/15)
هذا أول ما يشير إليه إلى أن هذه هزيمة داخلية فى نفوس المسلمين فيريدون أن يجعلوا العلم مقررا لصحة القرآن كأن النظريات العلمية والنظريات الفرضية التى لا زالت افتراضية أو ظنية أو وصلت إلى درجة القطع واليقين حسب ما عند الإنسان من إمكانات حسية كأن هذه النظريات هى التى تقرر صحة كلام رب الأرض والسموات فلولاها لكان لنا حول القرآن موقف آخر نقف نحوه موقف المرتاب سبحان ربى العظيم هذا قلب للحقيقة تلك النظريات لو دل القرآن عليها فهذا لبيان صحتها لا لأن القرآن فى الأصل يدل على ثبوته هذه النظرية.
ولذلك من يريد أن يلتمس نظرية من هنا وهناك ثم يأتى ليرقع ويؤلف بين هذه النظريات وبين القرآن ليدلل على صحة القرآن أول ما يدل عليه مسلكه أنه مرتاب نحو كلام الله وأنه منهزم ولذلك يريد أن يتعلق بما هو أوهى من بيت العنكبوت لتقرير كلام الله جل وعلا.
الأمر الثانى إن هذا المسلك ضال مخطىء جائر بعيد عن الحق فالقرآن كامل فى موضوعه نهائى فى حقائقه وهذه النظريات متبدلة ومتقلبة وكم من نظرية قررت بالأمس نقضت اليوم وما يقرر اليوم ينقض فى الغد.
ومن العجيب الغريب ما قال لى بعض الأطباء المتخصصين يقول لى يا شيخ جميع العلوم متقدمة ومتطورة إلا الطب قلت ولما قال إلا الطب لا زال ولن يزال متخلفا وعاجزا قلت ولما ما السبب وأنت متخصص فى الطب يقول يا شيخ الطب هذا عندما يتخصص فى العيون سيبحث فى هذا العالم الذى لا يحيط به حقيقة فهو مهما اكتشف لا زال يبحث فى مجهول ولذلك يقول كثيرا من الأشياء تستعصى علينا الآن فى بحوثنا الطبية فنقول لا علاج لها عندنا يقول جميع العلوم متقدمة متطورة إلا الطب مع تطوره ليس بمتطور قال نعم لأنه ما خفى عنا من عجيب صنع الله فى هذا المخلوق {وفى أنفسكم أفلا تبصرون} أكثر بكثير مما اكتشفناه وشاهدناه ووصفنا له علاجا.
(18/16)
القرآن كامل فى موضوعه نهائيا فى حقائقه وهذه النظريات متقلبة متبدلة ,من سنين كان يقال الذرة هى أصغر مخلوق ولا يوجد شىء أصغر منها ثم جاءك بعد ذلك موضوع تحطيم الذرة وأن الذرة تفتت إلى بلايين الأجزاء فإذن أين النظرية السابقة أصغر شىء هو الذرة نظريات تتبدل فإخضاع القرآن لها يعنى بعد ذلك التلاعب بكلام الله جل وعلا وأن نقرر صحته اليوم لينقض بعد ذلك حجيته وصحته الأجيال الذين يأتون بعدنا فهذا شطط وهذه سفاهة.
الأمر الثالث: الذى يترتب على هذا المسلك الجائر الضال المخطىء المبتعد عن الصواب هذا يدل على سوء فهم لطبيعة القرآن فقلنا القرآن كتاب هداية وإعجاز لا ليشرح نظريات علمية وأن الماء يتألف من كذا وأن المثلث يمكن حساب مساحته عن طريق كذا لا علاقة للقرآن بهذا هذا خاضع كما قلنا للأمور الحسية ولوسائلك ولما عندك من تقدم مادى فإذن كأنك أن تدركه فبها ونعمت وإلا فما عليك غضاضة ولاحرج كون الناس يركبون حمارا أو عربة أو دابة أو سيارة أو طائرة ليس عليهم حرج فى جميع هذه الأمور إنما الحرج عندما يبتعدون عن الهدى عن النور وعن الرشاد ويتخبطون فى الظلام والضياع أما أنهم ركبوا الحمار أو ركبوا الطائرة لم يرتفع قدر الإنسان إذا ركب طائرة ولن ينخفض قدره إذا ركب حمارا إذا كان كريما على الله جل وعلا شريفا فى هذه الحياة فإذن هذا سوء فهم لطبيعة القرآن
(18/17)
الأمر الرابع: الذى ترتب على مسلك هؤلاء أنهم سلكوا تأويلا مستمرا مع التمحل والتكلف لإخضاع القرآن للنظريات العلمية التى توصلوا إليها فإن قيل هل عندكم دليل على هذا فاسمع أخى الكريم معى شطط المهوسين فى هذا الحين الذين يريدون أن يدللوا على القرآن بالنظريات المستحدثة التى لا أقول ثبتت التى وجدت فى هذا الزمان دليل المستفيد على كل مستحدث جديد لعبد العزيز ابن خلف رئيس المحاكم الشرعية بالجوف نشر كتابه سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة وألف للهجرة أى من قرابة ثلاثين سنة تقريبا رئيس المحاكم الشرعية بالجوف ذكر فى هذا الكلام ضلالا لا أقول لا يشتهى الإنسان سماعه بل والله لا يستحى الإنسان من صف قائله وبعده فجاء ليخضع القرآن لهوس المهوسين وضلال الضالين.
اسمع ماذا يقول فى تفسير سورة الزلزلة الزلزال {يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم} ، {إذا زلزلت الأرض زلزالها} ، {وأخرجت الأرض أثقالها} ، {وقال الإنسان ما لها} {يومئذ تحدث أخبارها} يومئذ متى يومئذ إخوتى الكرام متى عندكم شك فى هذا لعل نساء البادية لا يشككن فى هذا ,يومئذ يقول عندما تزلزل الأرض زلزالها أى يخرج فيها الإكتشافات العلمية ويحصل التقدمات التكنولوجية ,يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم كيف سيرون أعمالهم قال عن طريق السينما وشاشة التلفزيون فأنت عن طريق السينما وشاشة التلفزيون ترى ما فى العالم لأن الأرض زلزلت وأخرجت ما فيها وتطورت فأنت ترى أعمال الناس بواسطة هذا الجهاز وقال هذا دليل على صحة القرآن وقد أثبت السينما والتلفاز من أربعة عشر قرنا.
(18/18)
إلى هذا الحد وصل الهوس والله إن نساء البادية ما يخطر ببالهن هذا الفهم {يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم} هذا ذكره فى الجزء الأول فى صفحة واحد وسبعين ومائة وأفاض فى الكلام فى تقرير ذلك كلاما حقيقة يصك الآذان وأن هذا دليل على إعجاز علمى وهذا دليل على صحة كلام الله وأنه من عند الله أشار إلى السينما والتلفاز ثم جاء لأمر بعد ذلك فى السنة كما أنه أراد أن يؤيد القرآن بنظريات مستحدثة يريد أن يؤيد كلام النبى عليه الصلاة والسلام وأنه رسول الله حقا وصدقا بنظريات مستحدثة.
قال حديث الدجال وهو حديث متواتر وأنه يمكث أربعين يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة وسائر أيامه كأيامكم هذه يقول هذا دليل على وجود الطائرات والصواريخ لأن الدجال سيركب الحمار وما هو الحمار ما هو ما أظن أن الحمار يخفى حاله على الحمار إلا من كان دون الحمار هذا أمر آخر يقول الحمار هو الطائرات لأن الطائرة شكلها بشكل الحمار والدجال سيقطع الأرض فى أربعين يوما بواسطة الطائرات والصواريخ فإذن يركب الحمار ويمكث أربعين يوما هذا دليل على وجود الطائرات كان الناس يستغربون كيف سيجوب الدنيا على حمار فزالت الغرابة والطائرة هى الحمار ما أعلم وجه الصلة بين الطائرة والحمار ووجه الشبه بين الصواريخ والحمر.
رحمة الله على الإمام الألوسى عندما يقول فى تفسير سورة لقمان: {إن أنكر الأصوات لصوت الحمير} يقول وقد شاع عند الناس أن نهيق الحمار لعن للشيعة أى عندما ينهق الحمار يلعن الشيعة يقول وهذا كلام لا يقبله إلا من كان طويل الأذنين ونحن هذا نقول الطائرة هى الحمار حقيقة لا يمكن أن نقبل هذا إلا إذا طالت آذاننا وانقلبت خلقتنا أما ما دمنا فى سورة البشرية فالطائرة طائرة والحمار حمار ... هذا تأويل.
(18/19)
تأويل ثان لضال آخر مصطفى محمود يجعجع فى وسائل الإعلام فى صفحة مائة وأربعة فى كتاب رحلتى من الشك إلى الإيمان حول المسيح الدجال فى صفحة مائة وأربعة عن المسيح الدجال يقول المراد من المسيح الدجال الذى أشارت إليه الأديان والأحاديث الشريفة ليس مخلوق يحصل منه فتنة كما فهم الناس كما أراد هؤلاء أن يؤلفوا بين النظريات العلمية وبين ما أخبر به خير البرية عليه الصلاة والسلام فقالوا الحمار الذى يركبه الدجال هو الطائرات ويجوب الأرض فى أربعين يوما يقول لا إنما المسيح الدجال يقول هو العلم العصرى فى هذه الأيام وهو التكنولوجيا والتقدمات الصناعية كيف هذا قال هذه العلوم عوراء كيف هى عوراء قال لأنه لا روح فيها لا صلة لها بالله علوم مادية بحتة ففعلت بغير اسم الله وعلى غير اسم الله وصارت شقاء للبشر وما فعلوها من أجل المصلحة ومن أجل الاستعانة على أمور الشرع فهذا هو العور الذى فى المسيح الدجال فالمسيح الدجال يقول ظهر من زمن لأن هذا الاكتشافات العلمية هو المسيح الدجال والعور فيه أنه لا صلة لهذه العلوم بالله يقول وتصفه الروايات بأنه أعور وأنه يملك من القوة الخارقة ما يجعله يرى بهذه العين الواحدة ما يجرى فى أقصى الأرض كما يسمع بأذنه ما يتهامس به الناس عبر البحار كما يسقط الأمطار بمشيئته فينبت الزرع ويكشف عن الكنوز المخبوءة ويشفى المرضى ويحيى الموتى ويميت الأحياء ويطير بسرعة الريح ويفتتن به كل من يراه ويسجد له على أنه الله بينما يراه المؤمنون على حقيقته ولا تخدعهم معجزاته ويشهدون رسم الكفر على وجهه ذلك المسيح الدجال وإحدى علامات الساعة التى نقرأ عنها فى كتب الدين والمسيح الدجال قد ظهر بالفعل كما يقول الكاتب البولندى كاتب بولندى سنعول عليه فى بيان المسيح الدجال ليوبولد فايست وقد أسلم هذا الكاتب وهذا المسخ الشائه ذو العين الواحدة كما يقول هذا البولندى هو التقدم المادى والقوة المادية والترف المادى معبودات
(18/20)
هذا الزمان مدنية العصر الذرى العوراء العرجاء التى تتقدم فى اتجاه واحد وترى فى اتجاه واحد والاتجاه المادى بينما تفتقد العين الثانية الروح التى تبصر البعد الروحى للحياة فهى قوة بلا محبة وعلم بلا دين وتكنولوجيا بلا أخلاق وقد استطاع هذا المسخ أى الدجال فعلا عن طريق العلم أن يسمع ما يدور فى أقصى الأرض بالاسلكى ويرى ما يجرى فى آخر الدنيا بالتلفزيون وهو وهو.
أنا أريد أن أقول لهذا الضال المهوس فى هذا الكتاب رحلتى من الشك إلى الإيمان، تواترت الأحاديث بأن المسيح الدجال لا يدخل مكة والمدينة وبيت المقدس وهل التكنولوجيا ما دخلت إلى مكة وهل الصناعات العلمية ما وصلت للمدينة المنورة فكيف تريد أن توفق بين هذا الترقيع الذى ذكرته وبين الأحاديث الصحيحة التى صرحت بأن الدجال لا يدخل هذه البقاع وعلى كل نقب من نقاب مكة والمدينة ملائكة تشهر السيوف لا يستطيع الدجال أن يدخل فكيف إذا كان التقدم العلمى والصناعى وعند هذا الضال إخوتى الكرام الذى يجعجع فى وسائل الإعلام وكنت ذكرت فى محاضرة الشبهات والشهوات كلاما عنه له ذكره فى كتاب القرآن محاولة لفهم عصرى ونقلت عنه فى ذلك الكتاب فى تلك المحاضرة أنه يقول غض البصر فى تفسير قول الله {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم} كان ممكنا عند عصر العباءة والجلباب والبرقع والقفازين والملاءة وأما فى عصر المينى جيب والمكرو جيب والصدر العارى والأفخاذ المكشوفة والشعر المسترسل لا يمكن غض البصر فكيف نفعل ثم قال أنا أقول إذا نظر الإنسان إلى هذا بقلب طاهر ليرى الجمال ويقول الله له على ذلك حسنات هذا يقوله فى كتابه القرآن محاولة لفهم عصرى.
(18/21)
إخوتى الكرم: هذا الكلام الذى ذكره فى كتابه القرآن محاولة لفهم عصرى كنت ذكرته فى تلك المحاضرة وأشرت إلى الصفحة فى ذلك الكتاب فوصلتنى رسالة من بعض الأخوات من مكة رمزت لاسمها س. م.جامعة أم القرى تقول الأخت الكريمة استمعت شريط الشبهات والشهوات شريط من جزئين ويعلم الله أننى استفدت منه كثيرا هذا ما عهدته إلى آخره يقول غير أنى أريد أن أنبه فضيلتكم كذا إلى ما وقع من خطأ فى الجزء الثانى من هذا الشريط حول الكلام عن تفسير مصطفى محمود لآية غض البصر فى سورة المؤمنين ليست فى سورة المؤمنون هى فى سورة النور {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم} .
(18/22)
على كل حال فقد ذكرت أنه فسر هذه الآية بمفهوم عصرى مستغرب بأن قال ما مجمله تقول ونحن إذ نقول هذا نقدم لك صورة من كتابه القرآن محاولة لفهم عصرى حول هذه الآية وليس فيه ما ذكرت والأخت صورت هذه الصفحات صفحة مائة وثلاث فما بعدها وأنا قلت لكم هذا الكلام فى صفحة خمس وثمانين تقول فى هذه الصفحات يقول يجب غض البصر لئلا يحصل فتنة ثم بسترسل بعد ذلك فى الكلام لئلا يعبد الإنسان نفسه وشهواته ويقول فقال الله: {فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم} بمعنى فاهزوموا أنفسكم وانتصروا عليها هذا حتى فى الصورة التى أرسلتها وفى الإنجيل يقول المسيح من أراد أن يخلص نفسه يهلكها ومن يهلك نفسه من أجلى يجدها إلى آخر الكلام تقول هذا الكلام فى هذه الصفحات لا يوجد ما أشرت وأنا قلت هذا فى الصفحة خمس وثمانين ولو كان الكتاب بين يدى لأحضرت الكتاب وقرأت النص عليكم فلعل الشريط يبلغها وتقف عند الحقيقة لكن الكتاب القرآن محاولة لفهم عصرى ما وجدته وليس عندى فإذا كان عند بعض الإخوة يأتينى به أثابكم الله لكننى أريد أن أنقل لهذه الأخت من باب التوكيد على أن هذا الكلام صدر عن هذا الكاتب الكاذب الخبيث الضال وأننى ما قلت هذا إلا نقلا من كتابه ولئن أخر من السماء أحب ألى من أن أكذب على أحد أقول هذا الذى قلته منقول عنه من قبل علمائنا وردوا عليه شيخنا عليه رحمة الله الشيخ مصطفى محمد الحديد الطير وهو من الشيوخ الصالحين ومن البقية الطيبين فى الأزهر ودرسنا التفسير فى الدراسات العليا فى السنة الأولى والثانية وهو من الصالحين ولا نزكيه على الله وكان أيام دراستى يزيد على السبعين سنة عليه رحمة الله وهيأته تذكر بالله جل وعلا وكان على باع عظيم من العلم وكان ذا باع عظيم فى العلم ألف اتجاه كتابه اتجاه التفسير فى العصر الحديث جاء ليتكلم على كتب التفسير المريضة التى وجدت فى هذا العصر الحديث فذكر من جملتها كتاب القرآن محاولة لفهم عصرى يقول
(18/23)
رأيه فى غض الأبصار أى رأى هذا المؤلف فى هذا الكتاب ومن الأمور المستشنعة ما يوجد قبل هذا العنوان أحب أن أقرأه عليكم من باب أن تعلموا وأن الرجل ضال وانتقل من ضلال إلى ضلال لكن كان ضلال باسم الزندقة وصار ضلال باسم الإسلام كما هى عادة الزنادقة الذين دخلوا فى الإسلام ليكيدوا للإسلام باسم الإسلام يقول شيخنا عليه رحمة الله هل عذاب جهنم رحمة هكذا يقول المؤلف ولأول مرة اسمع مثل ذلك يقول فى صفحة واحد وثمانية إن الله رحيم دائما حتى فى جحيمه ولهذا سمى الرحمن ثم يقول أى مصطفى محمود يرحم من يستحق الجنة ويرحم من لا يستحق بالجحيم، الله يرحم من يستحق الرحمة بالجنة ومن لا يستحق الرحمة يرحمه طيب أين عذاب الله إذا كانت الجحيم دار رحمته والجنة دار رحمته فأين دار عذابه وسخطه ولعنته فالجحيم كما رأينا تعريف لمن لا يعرف ولمن فشلت معه وسائل التعريف فهو نوع من الرحمة يقول شيخنا فهل العقاب على الذنب يسمى رحمة بحجة أنه تعريف لمن فشلت معه وسائل التعريف فى الدنيا أليس هذا من قبيل اثبات الشىء بنقيضه وإذا التعذيب بجهنم رحمة فأين يكون التعذيب أو العذاب وأغرب شىء أن يستشهد على ذلك أى هذا الكاتب الضال بقوله تعالى {عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء} حتى لأهل النار يقول شيخنا فاقرأ بقية الآية لتدرك أغرب استدلال على المقصود {فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون} ورحمة الله التى وسعت كل شىء فى الدنيا حتى الفجار يخصها الله فى الآخرة بالذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياته يوقنون أما الكفار فهم عنها بمعزل وعذاب جهنم رحمة رأيه فى غض الأبصار يقول المؤلف فى فصل الحلال والحرام صفحة خمس وثمانين كما أحلت ليس فى صفحة مائة وثلاثة الله حرم الضار الخبيث وأحل الطيب النافع ثم نقول يقول إذا لم نفهم هذه الحقيقة كالجوهرية فسوف نتوه فى حرفيات لا آخر لها وتضيع منا روح القرآن كلية ثم ذكر قوله تعالى
(18/24)
{قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم} وقوله {وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن} وقال لو أخذنا بظاهر حروفها دون أن يكون جوهر القضية واضحا فى الذهن فسوف نجد أن الحياة الطبيعية فى زماننا زمن المينى جيب والجبونيز والصدر العريان والشعر المرسل والباروكات المذهبة الحياة أمر صعب ثم قال مجرد إرسال النظر لا ضرر فيها لكن الضرر فى ما يجرى فى القلب والعقل نتيجة إمعان النظر الخبيث أن تتخطف العقل والقلب الشهوات فيتشتت الناظر ويأخذ سبيله وراء ظهر عريان فتلك عبودية وذل وهبوط إلى حالة كلب يتشمم وهنا يبدو معنى الآية {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم} مطلوبة والرجل العابد الزاهد المشغول القلب بالله يرى الجمال فيرى فيه الخالق الذى صور وليس المخلوق فلا تكون نظرتهم حلال فقط وإنما تكتب له حسنة لأنه يقول بقلبه الله عند رؤيته الوجه الجميل يمجد الخالق الذى صوره ثم يقول فى صفحة سبع وثمانين فإذا انتفى الضرر فأنت فى المنطقة الحلال لا تضر نفسك ولا تضر غيرك وأقول يقول شيخنا إن المؤلف قرر وجوب التزام ظاهر النص فما باله يضرب بقراره عرض الحائط من آن لآخر هل فى الآيتين أو غيرهما تقييد النظر المنهى عنه بأنه عند الاشتهاء حتى يحل عند عدمه إذا كان القلب مشغولا بالله عابدا زاهدا يرى الجمال فيمجد الخالق لا المخلوق ثم رد على هذه الدعوة وأبطلها.
فيا أختى الكريمة: ما نسبت إلى هذا الضال ثابت عنه لكن كيف فى هذه الورقات نقض ذلك فى صفحة مائة وأربعة وما بعد أقول لأن الكاتب متناقض فهو يقرر شيئا وينقض آخر وجميع ما يذكره متهافت والرجل ليس عنده عقيدة واضحة ولا إيمان سليم ولا قلب طاهر وليس على بينة من أمره مهوس يريد عرض الدنيا فيما يخرجه ويخرج فى وسائل الإعلام إذاعات العالم تجعجع بهذا الشيطان ويريد بعد ذلك هذه الشهرة وأنه شيخ الإسلام وهو لا يتقن ولا يفقه شيئا من دين الرحمن.
(18/25)
فإذا كان الهوس بهذا الإنسان فلا يستبعد أن يتناقض فهنا يقول شيئا وهنا يقول شيئا فلو كان ما فى هذه الصفحات ينقض ذلك لا حرج هذا حال من ليسوا على بينة من أمرهم.
أما ما ذكرته ونقلته عنه والله لئن أخر من السماء أحب إلى من أن أنسب إلى أحد من عباد الله ما لم يقله, هذا كلامه وأخذته من كتابه وشيخنا رد عليه فى هذا الكتاب فى اتجاه التفسير فى العصر الحديث فى صفحة اثنتين وتسعين ومائة وما بعد ذلك.
(18/26)
كتاب آخر مطابقة الاختراعات العصرية لأحمد ابن محمد ابن الصديق الغمارى من المغرب طبع بعد كتاب دليل المستفيد بسنتين ذاك سنة ثلاث وثمانين وهذا سنة خمس وثمانين ألف هذا الكتاب جاء الجزائرى فى هذا الوقت فسرق من هذا الكتاب شيئا كثيرا ونسبه إلى نفسه وكأنه عثر على در ثمين وليس فى هذا الكتاب إلا غث وخيم فألف الجزائرى الكتاب الأول سماه الأحاديث النبوية الشريفة فى أعاجيب المخترعات الحديثة والكتاب الثانى اللقطات فى بعض ما ظهر للساعة من علامات وطبع الكتابان سنة ألف وأربعمائة وأربع للهجرة قرابة قبل ست سنين يقول الجزائرى فى هذا الكتاب وهو يستقى كما قلت من كتاب أحمد ابن محمد ابن الصديق الغمارى دون أن يذكر لكن من قارن بين الكتابين لا يرتاب فى ذلك يقول فى تفسير قول الله {وأرسل عليهم طيرا أبابيل} هذا دليل على وجود الطائرات النفاثات هذا كلام الجزائرى من أين أخذت هذا الاستنباط {وأرسل عليهم طيرا أبابيل} ما وجه الاستشهاد بهذا على وجود الطائرات النفاثات هذه بلية لنرى ما بعدها ,جاء بعد ذلك لحديث الدجال وهؤلاء الثلاثة يشتركون فى جرم تأويل والتلاعب فى أحاديث الدجال بل أربعة رئيس محاكم الجوف وأحمد ابن محمد الصديق الغمارى ومصطفى محمود ومعهم الجزائرى جاء لأحاديث الدجال وأن سرعته كالغيث إذا استدبرته الريح يقول هذا دليل على أن الدجال يركب الطائرات الحديثة ولذلك يجوب هذه الأرض بهذه السرعة القصيرة أربعين يوما ووالله إن هذا كذب وافتراء على رسول الله عليه الصلاة والسلام، الأمر خارق للعادة وإذا كان كذلك فلا يجوز أن تخضعه لأمورك المحسوسة المشاهدة لا يقال كيف أسرى بنينا عليه الصلاة والسلام ولا كيف عرج به إلى السماوات العلى وعاد فى جنح الليل وفراشه دافىء هذا أمر خارق للعادة متى ما أدخلته تحت الموازين الحسية لم يكن خارقا ولم يكن عجيبا وأمر الدجال خارق للعادة إهانة له وفتنة للعباد فستأتى تدخله بعد ذلك فى هذه
(18/27)
الطائرات ما ميزة الدجال على غيره إذا كان سيقطع الأرض فى أربعين يوما والناس يقطعونها فى الطائرات المسرعة فى أربعة أيام بل فى أربع ساعات إذن ما ميزة الدجال على غيره يقول هذا دليل على أن الدجال يركب الطائرات.
ويقول أيضا فيما يتعلق بأجهزة التسجيل الذى وجدت فى زماننا عند حديث رواه الإمام أحمد والحديث فى المسند فى الجزء الثانى صفحة ثلاثمائة وستة بسند رجاله ثقات عن أبى هريرة رضي الله عنه أن رجلا كان يرعى غنمه فى عهد النبى عليه الصلاة والسلام وجرت القصة فى المدينة وكان الراعى من اليهود فجاء ذئب فأخذ شاة فتبعه الراعى واستخلص الشاة منه فأقعى الذئب وقال تأخذ منى شيئا أعطانيه الله صيد أن صدته تسترده منى من لها يوم الذئب يوم لا راعى لها غيرى أى عندما يحصل الفتن وتترك الأغنام والناس يذهلون عن أنفسهم والذئاب ترعى بعد ذلك الأغنام وتفترسها بلا طارد ولا محاسب ولا رقيب فقال هذا الراعى اليهودى سبحان الله إن رأيت ما رأيت كاليوم.
عجبا ذئب يتكلم فقال له الذئب أعجب من ذلك رجل بين الحرتين فى النخلات أى فى هذه البلدة التى فيها نخيل يخبركم بما كان وبما هو كائن يقول فعلمت أن محمدا رسول الله عليه الصلاة والسلام جاء الذئب ليشهد فرجعت وأخبرت النبى عليه الصلاة والسلام وآمنت فقال النبى صلى الله عليه وسلم لهذا اليهودى [إنها أمارة من أمارات بين يدى الساعة يوشك الرجل أن يخرج من بيته فلا يعود حتى تكلمه عذبة سوطه وفخذه بما أحدث أهله من بعده] .
والحديث رواه الإمام أحمد والترمذى بسند حسن والحاكم فى المستدرك بسند صحيح على شرط مسلم أقره عليه الذهبى عن أبى سعيد الخدرى رضي الله عنه أن النبى عليه الصلاة والسلام قال [والذى نفسى بيده لا تقوم الساعة حتى تكلم السباع الإنس وحتى تكلم الرجل عذبة سوطه وشراك نعله وفخذه بما فعل أهله من بعده] .
(18/28)
وفى رواية الترمذى [وتخبره فخذه بما أخبر أهله من بعده] السباع تكلم الناس وشراك نعلك يحدثك بما فعل أهلك والسوط يحدثك بذلك وفخذك تقول أهلك فعلت كذا وكذا.
يقول هذا الشيخ نقلا عن الشيخ الغمارى يقول هذا دليل على أجهزة التسجيل لأن المراد من السوط ومن الفخذ ومن شراك النعل أجهزة التسجيل التى توضع فى البيوت فأنت تجعل جهازا صغيرا تحمله على فخذك تتركه فى بيتك يسجل ما يعمله الأهل بحيث إذا جئت فتحت الشريط سمعته وهذا يقول علم من أعلام النبوة وبذلك ثبت أن محمدا رسول الله عليه الصلاة والسلام.
أف لهذه العقول الرديئة ثبت أن محمدا رسول الله عليه الصلاة والسلام بهذا الهوس وبهذا الضلال وما بقى عندنا طريق لإثبات نبوة محمد عليه الصلاة والسلام إلا آلات التسجيل تخبره أهله بما فعل من بعده هل أجهزة التسجيل تصور الفعل أو تلقط الكلام بما فعلت يعنى لو جرى منها عهر لو جرى منها طهر لو طبخت شيئا لو عملت أجهزة التسجيل هذا ما تضبطه إذن هذا خوارق للعادات يكشف الله عنها قبل قيام الساعة السباع تكلم الإنس عذبة السوط تخبر الإنسان بما فعل أهله شراك النعل تحدثه فخذك تتكلم وتقول فعل أهلك كذا وكذا وأى غرابة فى هذا أصل البلاء فى الإنسان أن يقحم عقله فى أمور المغيبات وأن يأله عقله لينازع رب الأرض والسماوات مغيب ما لنا نحوه إلا إقرار وإمرار {آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب} .
حضرت مرة بعض المشايخ الصالحين فى أبها وخطب خطبة الجمعة فى نهار رمضان وتكلم على الحديث المتفق عليه وفيه أن الشياطين تسلسل وتصفد فى شهر رمضان وقال الشيخ مبارك صالح لكن غفل وزل وآفة العلم التقليد يقول:
فى المراد بهذا التصفيد أمران:
الأمر الأول: تصفد حقيقة وليس المراد إلا هذا وإياك أن تتلاعب بكلام نبيك عليه الصلاة والسلام على حسب عقلك ثم قال:
(18/29)
ويحتمل الأمر الثانى: وهو أن هذا كناية عن تضييق مجارى الشيطان فى بنى الإنسان فالإنسان عندما يصوم يضعف والإنسان عندما يأكل الدم يجرى فيه بسرعة والشيطان يجرى من ابن آدم مجرى الدم فإذا شبع جرى الشيطان فيه كثيرا إذا صام جريان الشيطان فيه قليلا لأنه ضيق مجارى الشيطان فى نفسه.
قلت أيها الشيخ رفقا بنفسك لو أكل الإنسان عند السحر ما لا يأكله فى ثلاث وجبات ويفطر ويتغذى ويتعشى فى نهار رمضان عند السحر أكل هذه الوجبات الثلاثة عند السحور الشيطان سيجرى فيه كثيرا أم قليلا؟ لازم يجرى فيه أكثر إذن من غير رمضان على حسب كلامك وكلام النبى عليه الصلاة والسلام يقول تصفد الشياطين فى رمضان وهذا إن أكل فى رمضان أكثر من غير رمضان إذن ينبغى أن يزداد سعى الشياطين فيه.
(18/30)
إذن كلام النبى عليه الصلاة والسلام مردود بهذا التأويل الممجوج قال أستغفر الله قلت لما تدخل عقلك فى أمر مغيب، أمر مغيب إقرار وإمرار نقر به نقره على الكيفية التى عناها نبينا عليه الصلاة والسلام فإن وقعت وشاهدناها فالحمد لله رب العالمين وإلا فآمنا به كل من عند ربنا أى غرابة أن يكلم فخذ الإنسان بما عمل أهله ألا تحدث الأرض أخبارها أما تشهد الأعضاء على بنى آدم يوم القيامة {حتى إذا ما جاؤوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون} هذا فى محكم كلام الله، والله يقول فى حق القاذفين: {إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم * يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون * يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين} أى غرابة فى أن تشهد الأعضاء وأن تتكلم أنت إذا رأيت اللسان ينطق هل هو ينطق بنفسه وبذاته أو لأن الله جعل فيه هذه الخاصية وكم من إنسان له لسانا ولا ينطق والله لا فارق بين نطق اللسان ونطق الأصبع وإذا شاء الله أن ينطق الأصبع وأن يخرس اللسان نطق الأصبع وخرس اللسان فإذا أخبر الفخذ صاحبه بما فعل أهله من بعده فأى غرابة حتى نحمل هذا على أجهزة التسجيل وازداد الشيخ أحمد ابن محمد الصديق الغمارى فى الشطط فقال وإنما ذكر الفخذ لأن التسجيل يحملها الناس على أفخاذهم فى جيوبهم الصغيرة ستخبره فخذه أى بآلة التسجيل الذى يحملها الناس على أفخاذهم وبذلك ثبتت معجزة نبينا عليه الصلاة والسلام وأنه رسول الله هذا شطط وهذا تلاعب تحت اسم الإعجاز العلمى.
(18/31)
ثبت فى الصحيحين والحديث فى النسائى من حديث أبى هريرة رضي الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال بينما راع يسوق غنمه عدا الذئب [والحديث فى الصحيحين] على شاة منها فاستخلصها الراعى منه فقال له من لها يوم الذئب يوم لا راعى لها غيرى فقال الناس سبحان الله ذئب يتكلم فقال النبى عليه الصلاة والسلام أومن بهذا أنا وأبو بكر وعمر وما كان ثم أى لو سمع أبو بكر وعمر رضي الله عنهم هذا لما تردد فى تصديق ذلك وفى تكملة الحديث يقول وبينما رجل يركب بقرة يسوقها التفتت إليه وقالت إنى لم أخلق لهذا إنما خلقت للحراثة فقال الناس سبحان الله بقرة تتكلم فقال إنى أومن بهذا أنا وأبو بكر وعمر وما كان ثم هذا حال المؤمن وأما أنه يريد أن يعرض هذا الأمر على عقله يوفق بينه ويلفق بين الأمور التى جدت وحدثت.
يقول الجزائرى أيضا تحت عنوان الدليل على ظهور الكشافة يريد الآن أن ينسب شيئا إلى النبى عليه الصلاة والسلام وهو مكذوب موضوع ليقرر نبوته بأمر وجد استدلالا بحديث موضوع يقول روى الديلمى وابن عساكر والزيادة هذه ليست فى تاريخ ابن عساكر إنما هى عند الديلمى أن النبى عليه الصلاة والسلام ذكر خصال قوم لوط وقال هذه الأمة ستفعل خصال قوم لوط وستزيد عليها بخصلة واحدة وهى إتيان النساء للنساء يقول ومن جملة خصال قوم لوط فى الحديث والمشى فى الأسواق والأفخاذ بادية هذا من خصال قوم لوط وهذه أمة ستفعل هذا والمشى فى الأسواق والأفخاذ بادية يقول هذا دليل على ظهور الكشافة ,الكشافة الذين هم طلبة المدارس يخرجونهم أفخاذهم بادية يلبسون الكشافة ويحملون العلم الوطنى الجاهلى وهذه هى الكشافة يقول هذا علم من أعلام النبوة يخرجون إلى الأسواق والأفخاذ بادية رفقا بنفسك أيها الشيخ ولا داعى أن تسرق من غيرك ضلالا ثم تتبناه لنفسك.
(18/32)
هذا الحديث فيه أربعة متهمون وكذابون أولهم إبراهيم ابن محمد ابن حسن الطيان والثلاثة بعده ما فيهم إلا هالك ساقط متهم كذاب فحديث فى رواته أربعة تثبت به هذا الأمر هذا الحديث إلى نبينا عليه الصلاة والسلام ثم تريد أن تجعل هذا علم من أعلام نبوته المشى فى الأسواق والأفخاذ بادية سواء ظهرت الكشافة أم لا هذا حاصل فى هذه الأمة من غير الكشافة أرى فى هذه البلاد بعض الناس يخرجون بعينى رأيتهم من الكافرين الذين غضب عليهم رب العالمين من البريطانين أو الأمريكين أراهم باستمرار أفخاذهم مكشوفة ليس من الكشافة ويسوق كلبا ونقول سبحانك غضب الله عليك على الكلب الأنسى أعظم من غضبك على الكلب الحيوانى ونجاسة هذا الكلب الأنسى أعظم وأغلظ من نجاسة هذا الكلب الحيوانى باستمرار أفخاذهم مكشوفة وهو كالبغل يتجول فى شوارع المسلمين أمام النساء والرجال بهذه الحالة فهذا منكر وقع وليس من الكشافة فقط ولا داعى أن نقول بذا هذا علم من أعلام النبوة وبذلك ثبتت نبوة نبينا عليه الصلاة والسلام.
فالإعجاز العلمى ينبغى أن يقف عند حد نقول كما قال شيخنا {ويخلق ما لا تعلمون} من الوسائل التى تجد من مركوبات حديثة طائرات باخرات سيارات نقف عند هذا لا نأتى بعد ذلك طيرا أبابيل دليل على الطائرات ما وجه الاستشهاد بالطير الأبابيل على الطائرة إنما يخلق ما لا تعلمون من المركوبات الأخرى وقد وجد قل فى هذا إشارة إلى أنه ستوجد مركوبات أخرى وقد وجدت وهذا أشار إليها القرآن وتحققت ولا داعى بعد ذلك للاسترسال فى هذا فلا بد إخوتى الكرام من أن يقف العقل عند حده وألا يأله الإنسان نفسه.
(18/33)
إذن التفسير بالرأى الذى يوافق نصوص الشرع وقواعد اللغة فيشهد له سياق الكلام ويدل عليه السباق واللحاق هذا جائز بالاتفاق دل عليه كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام والعقل قرره من ثلاثة أوجه دفعا للمحاذير الثلاثة فإن قيل ورد عن نبينا الجليل عليه صلوات الله وسلامه ما يشير إلى تحريم التفسير بالرأى فكيف ستوفقون بين ما قلتم وذكرتم وقررتم وبين هذه الأحاديث؟
كنت أتمنى أن يطول الوقت قليلا لأنتهى من هذا المبحث فى هذا الدرس وأرجأ الكلام على هذا الاستعراض أحاديث ثلاثة وردت تنهى عن التفسير بالرأى لأبين معناها الحق وأن لا معارضة بينها وبين الأدلة التى قررت جواز التفسير بالرأى فألى الدرس الآتى إن أحيانا الله إن شاء الله وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليما كثيرا سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الجزائرى يا أخى الكريم يدرس فى الحرم المدنى مشهورا معروف أبو بكر الجزائرى معروف ما يحتاج إلى تعريف ذكر هذين الكتابين ورد عليه بعض مشايخ البلاد هناك ووافق على الرد الشيخ عبد العزيز ابن باز حفظ الله مشايخ المسلمين أجمعين رد عليه وبين أن هذا هوس وضلال عدا عن الأمور التى ضل فيها فى أمر الاعتقاد كحديث إن الله خلق آدم على صورته وقال هذا إبطال النظرية داروين وسلك مسلك الجهمية وغير ذلك من الأمور والكتاب الرد مطبوع عليه كما أن الكتابين مطبوعة بموافقة وإقرار الشيخ عبد العزيز ابن باز حفظه الله وحفظ مشايخ المسلمين أجمعين..واضح هذا وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.
(18/34)
مقدمة التفسير (5)
(دروس تفسير)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة التفسير 5
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا.
الحمد لله رب العالمين شرع لنا دينا قويما وهدانا صراطا مستقيما وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة وهو اللطيف الخبير.
اللهم لك الحمد كله ولك الملك كله وبيدك الخير كله وإليك يرجع الأمر كله أنت رب الطيبين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك ولى الصالحين وخالق الخلق أجمعين ورازقهم فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين.
{ياأيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون} [الأنعام/102] .
وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله أرسله الله رحمة للعالمين فشرح به الصدور وأنار به العقول وفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبيا عن أمته ورضى الله عن أصحابه الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
{يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا} [النساء/1] .
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون}
[آل عمران/102] .
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا صلى الله عليه وسلم* يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما} .
أما بعد: معشر الإخوة الكرام..
لازلنا فى مدارسة المقدمة التى نتدارسها بين يدى كلام ربنا جل وعلا وقلت إن هذه المقدمة تقوم على أمرين اثنين تدور حولهما.
الأمر الأول: فى منزلة كلام الرحمن جل وعلا وأثره فى الناس
(19/1)
الأمر الثانى: فى الطريقة المثلى لتفسير كلام الله جل وعلا وكنا نتدارس الأمر الثانى وقلت إن تفسير القرآن العظيم إما أن يكون عن طريق المأثور المنقول عن طريق تفسير كلام الله بكلام الله أو عن طريق تفسير كلام الله بحديث رسول الله عليه الصلاة والسلام أو عن تفسير كلام الله جل وعلا بأقوال الصحابة الطيبين رضي الله عنهم أجمعين أو عن طريق تفسير كلام الله جل وعلا بأقوال التابعين المباركين عليهم جميعا رحمة الله وتعرضت لإخبار أهل الكتاب عند التفسير بالمأثور ثم انتقلنا إلى الطريقة الثانية وهى تفسير القرآن بالرأى.
وقلت يقصد بتفسير القرآن بالرأى الاجتهاد وإعمال الرأى فى تفسير كلام الله جل وعلا بحيث يدل على ذلك التفسير لغة العرب ونصوص الشرع ويتمشى ذلك التفسير مع سياق الآيات الكريمة فيدل عليه السباق واللحاق فيشهد له ما تقدم وما تأخر وإذا كان التفسير بهذه الشاكلة فهو تفسير بالرأى المحمود وهو جائز باتفاق أهل السنة دل على هذا كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام وقرره العقل دفعا لثلاثة محاذير انتهينا من هذا فى غالب ظنى وعرجت على ما يتعلق بالتفسير العلمى بالإعجاز العلمى الذى يطنطن حوله فى هذه الأيام وبينت ما فيه من شطط وغلو وإسراف فى التأويل وفى تحميل كلام الله جل وعلا ما لا يحتمل.
وصلنا إلى نقطة مهمة وهى قد يقول قائل إنكم تقولون إن تفسير القرآن بالرأى بالصفة المتقدمة لا خلاف فى جوازه بين أهل السنة الكرام وقد وردت آثار تنهى عن التافسير بالرأى وتحرم التفسير بالرأى فكيف التوفيق إذن بين الأمرين، فلنستعرض تلك الآثار ولنبين القول الحق فيها وفيما تدل عليه.
(19/2)
الأثر الأول: روع ابن جرير فى تفسيره فى أوائل تفسيره فى الجزء الأول صفحة تسع وعشرين فى المقدمة والحديث رواه أبو يعلى البزار كما فى مجمع الزوائد فى الجزء السادس صفحة ثلاثمائة وثلاثة عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفسر شيئا من القرآن إلا آيا بعدد علمهن إياهن جبريل على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه ما كان يفسر شيئا من القرآن إلا آيا تعد علمهن إياهن جبريل فهذا فيه ما يشير إلى أن النبى عليه الصلاة والسلام كان لا يفسر كلام الله جل وعلا إلا حسبما يوقفه جبريل على ذلك التفسير فكيف أنتم تتوسعون وتقولون أن التفسير بالرأى جائز إذا وافق سياق الكلام ونصوص الشرع وقواعد اللغة العربية والنبى عليه الصلاة والسلام كان لا يتكلم فى تفسير القرآن إلا حسبما يعلمه جبريل على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه.
والجواب عن هذا:
(19/3)
أولا: من ناحية قيمة هذا الأثر فهذا أثر شديد الضعف منكر لا يثبت عن نبينا عليه الصلاة والسلام ولذلك بعد أن أورده قال الإمام ابن جرير فى تفسيره وفى إسناده علة لا يجوز الاحتجاج بهذا الأثر من أجل هذه العلة وهذه العلة هى أن فى بعض رواته من لا يعرف فى حملة الآثار هذا كلام الإمام ابن جرير عليه رحمة الله وهذا الذى لا يعرف فى حملة الآثار وليس مشهورا فى حملة حديث النبى عليه الصلاة والسلام هو جعفر ابن محمد الزبيرى قال البخارى لا يتابع على حديثه وقال الأسدى إنه منكر ولذلك بعد أن ذكر الإمام ابن كثير هذا الحديث فى مقدمة تفسيره فى الجزء الأول صفحة ستة قال هذا حديث منكر غريب وإذا كان الحديث ضعيفا فلا يحتج به ولا يستشهد به ولا يعول عليه على أنه لو ثبت فلا دلالة فيه على منع التفسير بالرأى كما قال الإمام ابن كثير عليه رحمة الله فى مقدمة تفسيره لأن معناه يكون لو كان ثابتا والاستلال دائما إخوتى الكرام فرع الثبوت أى إذا ثبت الحديث نستدل به ونستشهد به وأما إذا لم يثبت فقد استرحنا من هذا الأثر الذى فى الأصل ليس بثابت فلا داعى إذن أن نبذل ما فى وسعنا لنؤلف بينه وبين ما هو ثابت فى شريعة الله المحكمة المطهرة.
(19/4)
إنما لو ثبت على فرض ثبوته يقول الإمام ابن كثير فلا دلالة فيه على منع التفسير بالرأى لأنه لو ثبت لكان معناه ما كان يفسر شيئا من القرآن إلا آيا بعدد إلا آيا تعد هذه الآيات هى ما لايمكن معرفة تفسيره عن طريق الاستنباط والاجتهاد وإعمال الرأى والفكر هذا فيما لا يمكن معرفة تفسيره إلا عن طريق الوحى فهى مسائل توقيفية كان يتوقف فيها النبى عليه الصلاة والسلام حتى ينزل عليه الوحى فى بيانها وقد سئل عليه الصلاة والسلام عن الروح فنزل قول الله جل وعلا: {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} فإذن هذا فيما يتعلق بالمغيبات فلو سئل مثلا عليه الصلاة والسلام عن وقت قيام الساعة ما المسؤل عنها بأعلم من السائل فإذا ثبت الأثر فمعناه فيما لا يمكن أن يدخل الإنسان عقله واجتهاده فيه يتوقف حتى ينزل عليه الوحى فى بيان ذلك المعنى فى أمور المغيبات أما فيما عدا ذلك فالأثر لا يدل على ذلك على أن الأثر كما قلت لم يثبت عن أمنا عائشة رضي الله عنها.
الأثر الثانى: رواه الإمام الترمذى فى سننه أبو داود فى سننه والإمام الطبرى فى تفسيره رواه البغوى بسنده فى معالم التنزيل فى التفسير ورواه أيضا بسنده فى شرح السنة عن جندب ابن عبد الله رضي الله عنه قال سمعت النبى صلى الله عليه وسلم يقول [من قال فى القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ] .
(19/5)
وهذا الحديث نقول فيه ما قلناه فى الحديث الذى تقدمه حديث أمنا عائشة رضي الله عنها لايثبت عن نبينا عليه الصلاة والسلام ففيه سهيل ابن أبى حزم قال عنه البخارى إنه منكر الحديث وقد حكم الإمام ابن حجر فى تقريب التهذيب على سهيل ابن أبى حزم بأنه ضعيف إذا كان ضعيفا فلا يعول عليه [من قال فى القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ] على أنه لو ثبت أيضا اما كان فيه دلالة على منع جواز التفسير بالرأى وكان معنى الحديث لو كان ثابتا من قال فى القرآن برأيه ما قاله الإمام ابن عطية عليه رحمة الله فى مقدمة تفسيره المحرر الوجيز والمقدمة طبعت على انفراد مقدمتان فى علوم القرآن للإمام ابن عطية عليه رحمة الله يقول معنى الأثر أى لو ثبت أن يسأل إنسان عن آية من كتاب الله فيتسور عليها بعقله ورأيه فيتكلم فى كلام الله على حسب عقله ورأيه وعلى حسب هواه ولا يدخل فى هذا أن يفسر اللغويون لغته والعلماء مراده لأنه يتكلمون بعلم ولا يتكلمون عن طريق الرأى والظن والتخرس والتخمين.
قال الإمام القرطبى بعد أن نقل أيضا كلامه فى تفسيره قال وهذا صحيح وهو الذى ذهب إليه غير واحد من العلماء أى أن معنى الحديث لو ثبت من قال فى القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ إذا سئل عن آية من كلام الله فتسور عليها بعقله ورأيه وليس عنده عدة البحث ولا عدة العلماء فبدأ يهذى ويخرف ويفسر كلام الله جل وعلا على حسب ظنه ووهمه دون أن يكون عنده عدة يفسر بها كلام الله فلو ثبت الحديث لكان معناه هذا.
وحقيقة إذا كان عند الإنسان وسائل العلم وعنده عدة العلماء وتكلم فإذا أصاب فله أجران وإذا أخطأ فله أجر وإذا لم يكن عند الإنسان عدة العلم ولا وسائل العلماء ثم تكلم فى دين الله عن طريق رأيه وهواه فهو ضال فى النار سواء أصاب أو أخطأ لأنه أتى الأمر من غير بابه وإذا أصاب فهذه الإصابة ليست مقصودة إنما هى رمية من غير رامى وإذا أصاب مرة فسيخطأ مرات.
(19/6)
ولذلك ثبت فى سنن أبى داود والترمذى وابن ماجة بسند صحيح من حديث بريدة رضي الله عنه والحديث رواه الطبرانى فى معجمه الأوسط والكبير ومسند أبى يعلى والحديث فى مسند أبى يعلى كما فى مجمع الزوائد فى الجزء الرابع ثلاث وتسعين ومائة عن ابن عمر بسند رجاله ثقات عن جندب وعن ابن عمر أن النبى صلى الله عليه وسلم قال [القضاة ثلاثة قاضيان فى النار وقاض فى الجنة] وهذا ليس من باب النسبة يعنى الثلث ثلث القضاة عند الله فى الجنة والثلثان فى النار لا لعله بالمائة تسعين على أقل تقدير من القضاة لجهنم حطبا إنما هذا لبيان الأصناف فقط أى من كان من هذا الصنف فهو فى الجنة وقد لا يوجد فى القضاة من هو واحد من ألف لبيان النسبة لبيان الأصناف لا لبيان النسبة اثنان وواحد لا ثم لا.
الصنف الأول: علم الحق وقضى بخلافه فهو فى النار.
والصنف الثانى: قضى على جهل فهو فى النار أصاب أو أخطأ.
من الذى فى الجنة علم الحق وقضى به هذا فى الجنة؟
(19/7)
ولذلك إذا لم يكن عنده وسائل العلم وعدة العلماء وتكلم فى شريعة الله الغراء فهو ضال إلى جهنم أصاب أو أخطأ أنه ما أتى الأمر من بابه {وأتوا البيوت من أبوابها} إذا حصل عدة العلماء ثم بحث حسبما تجيز له شريعة الله المطهرة فإن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر وخطأه مغفور له وأما إذا تكلم فى دين الله برأيه فهو ضال على جميع الأحوال وعليه فهذا الحديث هنا من قال فى القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ أى برأيه المجرد الذى لا يستند إلى أدلة شرعية فليس هو من العلماء المحققين المتضلعين فجاء ليتسور على كلام اله وليتكلم فى كلام الله على حسب رأيه وعلى حسب هواه فمن قال برأيه فأصاب فقد أخطأ هذا إذا أصاب وإذا أخطأ فالأمر واضح فهو خطأ والطريق الذى بحث فيه أيضا طريق خطأ فلا يحل له أن يبحث ولما بحث أخطأ فتعثر فى الناحيتين فى الطريق وفى الغاية وإذا أصاب فى الغاية فنقول هذا الطريق لا يوصلك إلى المقصود ووصولك إليه بغير قصد فأنت تعاقب أيضا فى الحالتين [من قال فى القرآن برأيه فاصاب فقد أخطأ] .
الأثر الثالث: الذى يدل ويفهم منه منع تفسير القرآن بالرأى على حسب الظاهر ما رواه الإمام أحمد فى مسنده والترمذى فى سننه والحديث فى تفسير الطبرى ورواه البغوى فى معالم التنزيل وفى شرح السنة وقد حسن الإمام الترمذى إسناد الحديث وصححه فقال حسن صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال سمعت النبى صلى الله عليه وسلم يقول [من قال فى القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار] والحديث رواه الترمذى والطبرى أيضا والبغوى فى الكتابين المتقدمين فى معالم التنزيل وشرح السنة بسند حسن حسنه الترمذى عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضا عن نبينا عليه الصلاة والسلام بلفظ [من قال فى القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار] ، [من قال فى القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار] و [من قال فى القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار] .
(19/8)
والحديث على المعتمد حديث مقبول فى درجة الحسن وقد صححه الإمام الترمذى كما ذكرت لكم وفى إسناد الحديثين الروايتين عبد الأعلى ابن عامر الثعلبى حاصل كلام العلماء فيه ما قاله الحافظ ابن حجر وهو من رجال السنن الأربع صدوق يهم أى يخطأ أحيانا وإذا أطلق الحافظ لفظ الصدوق على راو فيريد به فى اصطلاحه فى تقريب التهذيب أن هذا الراوى حديثه فى درجة الحسن فإذن قوله صدوق أى حديثه حسن إن شاء الله صدوق لكن أحيانا يهم ويخطأ صدوق يهم والحديث مع تحسين وتصحيح الإمام الترمذى له ضعفه الشيخ شعيب الأرناؤوط وهكذا عبد القادر الأرناؤوط والشيخ أحمد شاكر عليهم جميعا رحمة الله وعلينا وعلى المسلمين والمسلمات أحياء وأمواتا رحمة الله جل وعلا ضعفه هؤلاء الأئمة والذى يبدو والعلم عند الله أن الحديث لا ينزل عن درجة الحسن والقبول.
[من قال فى القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار] ، [من قال فى القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار] فإن قيل هذان الحديثان والروايتان مقبولتان كما ذكرت وفيهما دلالة على منع تفسير القرآن بالرأى [من قال فى القرآن برأيه] .
(19/9)
فأقول المراد من الرأى هنا ما دل عليه منطوق الحديث الأول وهو من قال فى القرآن بغير علم أى تكلم عن جهل وإذن إذا تكلم عن جهل إذا أصاب وإذا أخطأ فهو فى النار فلا يجوز لك أن تتكلم عن جهل فمن قال فى القرآن برأيه أى بغير علم أى تكلم عن طريق الظن والتخرس وعدم البينة فإذا تكلم فى تفسير كلام الله جل وعلا بهذا الطريق وعن هذا الطريق فليتبوأ مقعده من نار لأننى كما قلت إذا لم يعد العدة ولم يكن أهلا لتفسير القرآن بالرأى عن طريق الاجتهاد والاستنباط فإذا أصاب مرة سيخطأ ألف مرة فلا بد من إعداد العدة فمن قال فى القرآن بغير علم ولذلك هنا فيصل الطريق ونقطة الافتراق بين العلماء وغيرهم فالعالم مأجور محمود على جميع أحواله إن أصاب وإن أخطأ فإن أصاب فله أجران وصوابه مشكور وإن أخطأ فله أجر وخطأه مغفور وغير العالم عندما يتكلم هو فى النار ومخطأ وضال سواء أصاب المطلوب أم لا، الله لا يكلف نفسا إلا وسعها فإذا كان عالما وتكلم فإن أصاب فهذا فضل من الله وله أجران وإلا فإذا تعين عليه الأمر فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
وسيأتينا ما ثبت فى تفسير ابن جرير بإسناد صحيح عن صديق هذه الأمة أبى بكر رضي الله عنه أنه سئل عن الكلالة ويتعين عليه الجواب وأمره يرتبط بها حكم دنيوى وهو خليفة المسلمين {وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو اخت فلكل واحد منهما السدس} قال أقول فيها برأيى فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمنى ومن الشيطان والله ورسوله من ذلك بريئان.
(19/10)
الكلالة هم الورثة الذين ليس فيهم والد ولا ولد أى يرثه الأطراف والحواشى الإخوة وقد أجمع العلماء على هذا التفسيرولذلك يقول عمر رضي الله عنه الذى جاء بعد أبى بكر رضي الله عنهم أجمعين الكلالة ما قلت وما قلت وما قلت الورثة الذين ليس فيهم والد ولا ولد لا أصل ولا فرع وهى مأخوذة من الإكليل وهى الإحاطة أى يحيطون بالميت من أطرافه لا من أصوله ولا من فروعه وقيل مأخوذة الكلال وهى الإعياء والتعب والذى يموت وليس له أصل ولا فرع ورثته ضعاف الحواشى مهما قوى سبب إرثهم لوكان هناك أصل أو فرع لحجبهم فهؤلاء يرثون بسبب ضعيف ولذلك الأخ لأم الذى هو وارث عن طريق الكلالة وعن طريق الحاشية والطرف يحجبه ولد ميت وأبوه وجده, أقول فى هذا رأيى فإن كان صوابا فمن الله وإن كان غير ذلك فمنى ومن الشيطان والله ورسوله عليه الصلاة والسلام من ذلك بريئان فتعين عليه الجواب فأجاب وهذا الذى قاله هو عين الحق ويسألونك عن الكلالة هى انقطاع النسل لا محالة.
لا ولد يبقى ولا مولود ... فانقطع الأبناء والجدود
ليس هناك ابن وليس هناك أب ليس هناك فرع وليس هناك أصل، إذن الذى يتكلم بعد وجود العدة وهو أهل لأن يتكلم فهذا على خير فى جميع أحواله إن أخطأ فخطأه مغفور وله أجر ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها وإن أصاب فقد حصل الحسنيين وأما الذى يتكلم دون وجود عدة عنده وليس هو من العلماء فهذا على خطأ إن أصاب وإن أخطأ.
(19/11)
فقول النبى عليه الصلاة والسلام من قال فى القرآن برآيه فليتبوأ مقعده من النار يفسر هذا ويوضحه الرواية الأولى من قال فى القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار والعلماء عندما يتكلمون فى تفسير كلام الله جل وعلا يتكلمون على حسب علمه ولذلك ضبطنا تفسير القرآن بالرأى الجائز والمتفق على جوازه بين أهل السنة الكرام كنا نعمل الإنسان رأيه وأن يجتهد فى تفسير كلام الله جل وعلا بحيث يوافق ذلك التفسير نصوص الشرع وقواعد اللغة ويتمشى مع السياق فيدل عليه السباق ويشهد له اللحاق يشهد له ما تقدم وما تأخر فلا يأتين بتفسير يحشره فى كلام الله جل وعلا حشرا ويضعه وضعا دون أن يشهد له السياق ولا اللغة ولا التركيب كما سيأتينا إن شاء الله فى بيان تفسير المحرم فإذا قيل لنا هذه الآثار إذن تدل على أن هناك تفسير مذموم محرم بالرأى فما هو وأنتم تقولون أن تفسير القرآن بالرأى جائز فنقول الرأى ينقسم إلى قسمين كما سيأتى رأى يستند إلى أدلة ثابتة من لغة عربية ونصوص شرعية فلا خلاف فى جواز تفسير القرآن عن هذا الطريق ومن هذا الطريق ورأيى هو الهوى والظن والتخمين والتخرس فتفسير القرآن بالرأى هو هذا وقد حقق الإمام الغزالى عليه رحمة الله فى الإحياء فى الجزء الأول صفحة سبع وتسعين ومائتين ونقل خلاصة كلامه الإمام ابن الأثير فى جامع الأصول فى الجزء الثانى من الصفحة أربعة إلى الصفحة ست والإمام ابن تيمية عليه رحمة الله جاء بعد هذين العالمين فأخذ كلامهما وحققه ونقحه وصاغه بعبارة محكمة فى مقدمة التفسير التى كتبها وهى موجودة فى مجموع الفتاوى فى الجزء الثالث عشر وهى ضمن دقائق التفسير فى الجزء الأول من صفحة سبع وستين إلى صفحة خمس وسبعين قرابة عشر صفحات فى بيان المراد بالتفسير بالرأى المحرم.
يقول الإمام الغزالى عليه رحمة الله النهى عن تفسير القرآن بالرأى له حالتان:
(19/12)
الحالة الأولى أن يكون فى المفسر رأى واعتقاد وميل إلى قول من الأقوال فيخضع كلام الله جل وعلا لميله لاعتقاده لرأيه الذى يرتأيه ويعتقده هذه الحالة الأولى وهذه الحالة الأولى يدخل تحتها ثلاثة أنواع:
النوع الأول: تارة مع العلم أن يفسر وعنده رأى واعتقاد وعنده قول يقول به فيأتى ليتلاعب بكلام الله جل وعلا ليصطاد من كلام الله ما يؤيد به قوله واعتقاده وبدعته وهو يعلم أن هذه الآية لا تدل على ما يقول لكن يريد أن يلبس الأمر على الناس فهذا تفسير بالرأى المحرم مع العلم كحال المبتدعة يقول القمرى فى تفسيره فى الجزء الثانى صفحة مائة وثلاث عشرة وهو من أئمة الشيعة الإمامية فى تفسير قول الله جل وعلا: {ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا * يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا * لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا} يروى بالسند المزور إلى الإمام الباقر رضى الله عنه وعن سائر آل البيت الطيبين الطاهرين أنه قال يأتى أناس يوم القيامة بنور بين أيديهم فيجعله الله هباء منثورا أما والله ما كانوا يجهلون كانوا يعرفون لكن إذا عرض عليهم شىء من فضائل على رضي الله عنه أنكروه ثم يقول ويوم يعض الظالم على يديه أبو بكر يقول ياليتنى اتخذت مع الرسول عليا سبيلا ودليلا يا ويلتى ليتنى لم اتخذ فلانا عمر خليلا لقد أضلنى عن الذكر بعد إذ جاءنى وكان الشيطان للإنسان خذولا، ووالله الذى لاإله إلا هو إن القمرى والشيعة بأسرهم يعلمون كذب هذا التفسير لكن أرادوا أن يخدعوا السذج والدهماء وأن يروج الأمر عليهم وهذا الأمر موجود فى تفسير القرآن للقمرى ذكره شيوخنا أهل السنة الكرام من القرن الرابع للهجرة وأن هذا يتناقله الشيعة ويذكرونه بينهم ففى نكت الانتصار فى نقل القرآن إلى الأنصار للإمام الباقلانى عليه رحمة الله متوفى سنة أربعمائة غالب ظنى وست أو ثلاث أربعمائة وثلاثة وأربعمائة وستة توفى عليه
(19/13)
رحمة الله يقول فى صفحة أربع وعشرين ومائة وقالت الشيعة الظالم هو أبو بكر والخليل هو عمر والسبيل {يا ليتنى اتخذت مع الرسول سبيلا} طريقا والذكر الذى يوصله إليه هو على
يقول فقلنا لهم هذا تفسير الباطنية أى الذين يتلاعبون بنصوص القرآن ويحملون نصوص القرآن على معان لا تدل عليها لغة العرب بوجه من الوجوه هذا هو تفسير الباطنية وقد سلك هذا المسلك غلاة الصوفية والباطنية {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف}
يأتى غلاة الصوفية فيقول ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم لا تتمنوا المراتب التى وصل إليها شيوخكم لأن المراد من الأب هنا هو الروحى وهو الشيخ ومنكوحه رتبته أى لا تتمنوا أن تصبحوا طواغيتا كما أن شيخكم طاغوت اتركوا هذا الطغيان له يتصرف بكم كما يريد ولا تتمنوا المراتب التى وصل إليها شيوخكم.
ما علاقة هذا التفسير بكلام الله الجليل ولا تنكحوا النكاح معروف ما نكح آباؤكم الأب معروف ومنكوحته معروفة إما من أم ولدت وخرجت من بطنها أو من زوجة للأب فيحرم عليك هذا وهذا ,هذا أمر واضح فهذا تلاعب وهنا كذلك الشيعة فنقول ما الفارق بين تفسيركم وبين تفسير الباطنية.
{ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتنى اتخذت مع الرسول سبيلا*يا ويلتى ليتنى لم أتخذ فلانا خليلا *لقد أضلنى عن الذكر بعد إذ جاءنى وكان الشيطان للإنسان خذولا} وهذا فى الكتب المتقدمة وجاءت كتب الشيعة المتأخرة وزادت بعد ذلك هذيان فى تفسير هذه الآية، والله إن البهائم تستحى من تسطير ذلك الكفر البواح فى تفسير كلام الله جل وعلا.
(19/14)
يقول ميرزا الذى يسمى محمد حسين نور الطبرسى الذى توفى سنة ألف وثلاثمائة وعشرين من أقل من مائة سنة وكان له شأن كبير فى بلاد إيران ولما توفى دفن فى بناء المشهد المرتضوى فى النجف الأشرف وهى أشرف بقعة عند الشيعة يقول هذا الرجل فى كتاب الاحتجاج على أهل اللجاج الذى فى أول الأمر كتابا سماه فصل الخطاب فى اثبات تحريف كلام رب الأرباب ولما قامت ضجة فى العالم الإسلامى واعترض عليه حتى بعض الشيعة ألف كتابا آخر رد الشبهات على كتاب فصل الخطاب فى اثبات تحريف كتاب رب الأرباب ثم ألف كتابه الاحتجاج على أهل اللجاج يقول فيه إن النبى عليه الصلاة والسلام لما توفى جلس علي فى بيته ستة أشهر طيب العدة أربعة أشهر لو كان امرأة لانتهت العدة أربعة أشهر وعشرا ستة أشهر يجلس عليا فى بيته جلس ستة أشهر رضي الله عنه وأرضاه لم يخرج من البيت لا لجمعة ولا لجماعة فبعد انقضاء الأشهر خرج فلقيه أبو بكر وقال أين كنت يا أبا الحسن قال رأيت كل شىء يزيد إلا كتاب الله فرأيته ينقص فعكفت على جمعه قال أحسنت يا أبا الحسن إذا انتهيت منه ايتنا به لننشره بين الناس يقول فأتاهم على بهذا المصحف الذى جمعه بعد موت النبى عليه الصلاة والسلام يقول فكان عمر حاضرا الذى هو وأبو بكر يعتبرهما الشيعة صنمى قريش وكان عمر حاضرا يقول فوثب وفتح المصحف فإذا أول صفحة فيه فيها فضائح المهاجرين والأنصار فهذا القرآن نزل ليفضح لا إله إلا الله فيها فضائح المهاجرين والأنصار فقال عمر أردده لا حاجة لنا فيه، هذا توفى سنة ألف وثلاثمائة وعشرين يقول هذا فى هذا الكتاب أردده لا حاجة لنا فيه فأخذ على كتابه الذى جمعه القرآن وانصرف يقول فبعد أن ذهب فكر عمر بعد ذلك بأن هذه الطريقة طريقة فاشلة وأن عليا إذا احتفظ بهذه النسخة كما يزعم الشيعة أن هذا القرآن يتداولونه فيما بينهم وليس هو القرآن الذى عند العامة الشيعة الضالون ففكر عمر بأن هذه الطريقة التى فعلها طريقة فاشلة
(19/15)
فعرض الأمر على أبى بكر وقال إذن لا بد نحن من أن نجمع القرآن وأن نقضى وأن نمحو هذا القرآن الذى فعله وجمعه على رضي الله عنهم أجمعين.
حقيقة كما قلت لكم هراء تستحى منه البهائم لكن هذا سطر وطبع وانتشر فى الأمصار والبلدان.
فقال أبو بكر إذا جمعنا القرآن ونشر على مصحفه يبطل مصحفنا المزور وزيد ابن ثابت شاركهم فى هذا الرأى ثم ما الحيلة قال نستدعى علي مرة ثانية ونأخذ منه مصحفه ونحرقه ثم نحن ننشر مصحفا آخر فلما استدعى على وطلب منه المصحف أبى أن يعطيه إياه وقال إنما أتيتكم لئلا تقولوا إن كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم فقال له عمر هل له يوم معلوم قال نعم إذا خرج القائم من ولدى وهو الذى يسمونه بالمهدى المنتظر الذى دخل السرداب على زعمهم سنة مائتين وستين ومائتين وخمس وستين يقول سيخرج فى آخر الزمان مضى عليه ما يزيد الآن على إحدى عشر قرنا ودخل القرن الثانى عشر أوالثالث عشر ويقول ما زال هذا المهدى دخل فى السرداب عمره أربع سنين أو خمسة وسيخرج فى آخر الزمان والذى لا يؤمن به كافر الإيمان به كالإيمان بأنبياء الله ورسله هذا من أركان الاعتقاد إذا خرج القائم من ولدى يخرج هذا المصحف وينشره بين الناس ثم يقول احتال عمر رضي الله عنه مع خالد لأجل أن يقتلوا عليا رضي الله عنه ففشلت أيضا المؤامرة يقول وهذه الحالة كلها يفسرها قول الله ويراد بقول الله ما جرى بين الصحابة هؤلاء.
(19/16)
ويوم يعض الظالم على يديه أبو بكر والذى هو خليفة المسلمين بعد النبى عليه الصلاة والسلام يقول يا ليتنى اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتى ليتنى لم أتخذ فلانا عمر خليلا لقد أضلنى عن الذكر الذى أتى به على وهو القرآن الحق بعد إذ جاءنى وكان الشيطان للإنسان خذولا فإذن هنا له اعتقاد وعنده قول وله ميل إلى رأى من الآراء فيخضع كلام الله جل وعلا لما يريده هذا تفسير بالرأى النهى ينصب على هذا {مرج البحرين يلتقيان} على وفاطمة أى البحر الأول على والبحر الثانى فاطمة {بينهما برزخ لا يبغيان} كل واحد يقدر الثانى ولا يعتدى عليه {يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان} الحسن والحسين، طيب هذا تفسير يعرف المبتدع أن كلام الله لا يراد به هذا مع العلم لكن أراد أن يلبس على الناس.
فإذن هذا النهى ينصب على هذا مع العلم هو لا يقصد بالقرآن هذا وهو يعلم لكن يريد أن يحمل القرآن هذه المعانى من أجل أن يؤيد قوله وهواه ورأيه وميله فالنهى ينصب على هذا [فمن قال فى القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار] ، [من قال بالقرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار] تفاسير الباطنية كلها على هذه الشاكلة.
(19/17)
أحد الناس كان يسمى بحيدر جوادى عنده كتاب المعجزة فى رسالة إبراهيم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه وسيأتينا شىء من هذا بتوسع إن شاء الله عند تفسير آيات القرآن هذا لا يثبت فى القرآن شيئا على ظاهره كل شىء يتلاعب فيه ضمن كتاب المعجزة فيأتى يقول {يا نار كونى بردا وسلاما} يقول يا نار أى الحسد الذى فى قلوبهم أطفأه الله وأبطل مفعوله وأما هناك نار أوقدت وتأججت وأطفأها الله كل هذا خرافة ووهم وهكذا ما يقول بعد ذلك المفسرون المعاصرون الذين أسسوا المدرسة على تعبيرهم العقلى من دون أن يخضعوا القرآن لعقلهم قالوا لانثبت شيئا فى القرآن اسمه خارق عادة والله يعلمون أنهم يكذبون لكن على مسلكهم إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا وهذه المدرسة الضالة التى أسسها محمد عبده يريد أن يوفق على زعمه بين القرآن وبين العقل أى أن يخضع القرآن للعقل.
{اقتربت الساعة وانشق القمر} مامعنى انشق القمر القمر معروف يقول ظهر الحق أما قمر ينشق فلا دخل للقرآن بهذا لا تدخلوا القرآن فى هذه الغرائب وتأفف منه بعد ذلك علماء الجولوجيا والتكنولوجيا فى زمانها ظهر الحق، عصى موسى عندما ضرب فانفلق البحر يقول لا غرابة فى هذا عن طريق المد والجزر مد وجزر يعنى عندما ينحسر البحر يصبح فيه اثنا عشر طريقا يبسا ما وصل جزر البحر وانحساره لهذه الحالة فى يوم من الأيام.
{وأرسل عليهم طيرا أبابيل} ما ورد أنها طيور ترميهم بحجارة من سجيل وأن معها ثلاثة حصاة واحدة بمنقارها وثنتان فى رجليها كل هذا خرافة الطير هى جراثيم الحصبة والكوليرا التى انتشرت فى هذه الأيام طيرا أبابيل، هذا مع العلم هو يعلم أن هذا لا يراد بكلام الله وكلام الله لا يراد منه هذا لكن يقول نريد أن نوفق بين القرآن وبين عقول بنى الزمان فى هذه الأيام فنتلاعب فعنده اعتقاد عنده رأى عنده نحلة عنده هوى يخضع القرآن لهواه ويتلاعب فيه كما يريد.
(19/18)
فحقيقة هذا منهى عنه ومذموم لكنه يجهل يجهل المعنى الحق للآية ذاك مع العلم يعلم أن ما يريد أن يفسر به كلام الله لا يراد وهو غير مقصود لكن هنا يجهل كما يفعل كثير من المبتدعة كثيرا من الناس الذين ينظرون إلى الأمور لا بقصد تحريف كلام الله عن مواضعه إنما يريد أن يستدل بما لا دليل فيه على ما يريد أن يقوله والذى أداه إلى هذا جهله لا أن يحرف الكلام عن مواضعه يتلاعب فى معناه.
{يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} هذه الآية منذ أن نشأت للآن الناس يستدلون بها استدلالا باطلا مع الجهل إذا نصحت إنسانا يقول عليك نفسك {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم} وإذا سمعك إنسان تنصح يقول أنت ستزل فى قبره الله يقول: {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} كل واحد يهتم بنفسه ولا علاقة له بشؤون غيره، هذا التفسير باطل والآية لا تدل عليه ولا يراد بالآية هذا المعنى قطعا وجزما لكنهم فعلوا هذا بناء عن جهل.
الآية تحتمل أمرين:
أحدهما: حق وهو ما فهمه صديق هذه الأمة ودلت عليه النصوص الشرعية.
والثانى: هذا الاحتمال الباطل الذى يتعلق به الجهلة.
المعنى الحق {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم} أى قوموا بما أوجب الله عليكم نحو أنفسكم ونحو غيركم ومن جملة ذلك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر {لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} إذا قمتم نحوه بما أوجب الله عليكم من نصح وأخذ على يديه وأطره على الحق أطرا وبعد ذلك اتصف بضلال فى نفسه فهل عليكم ضير وحرج لا ليس معنى هذا لا يضركم من ضل إذا اهتديتم النساء سافرات فى بلدان المسلمين ولا يضركم من ضل إذا اهتديتم الأمة كلها ملعونة وسينزل عليها عذاب الله وغضبه.
(19/19)
إنما هذه امرأة سفرت أخذنا على يديها فاستترت فى الظاهر وزاولت العهر فى الباطن هل علينا حرج ليس علينا حرج فالله لا يعاقب الأمة عقوبة عامة الآن لأن المعصية ما ظهرت وهذه بعد ذلك أثمها فى رقبتها أما أن تخرج متهتكة ومعاصى الله تنتشر تنشر وتنتشر فى قارعات الطرق ثم نقول لا يضركم من ضل إذا اهتديتم أنت مهتدى وأنت صالح لا علاقة لك بهذا لا البلاء سينزل بعد ذلك على الجميع.
{واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} إذن تحتمل وهو المعنى الحق {لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} متى أنت تهتدى إذا تركت الأمر بالمعروف والنهى عن النكر مهتدى أو ضال مفرط؟ ضال مفرط {لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض وليسلطن عليكم شراركم ويدعو الخيار فلا يستجاب لهم} فإذن متى تهتدى عندما تقوم بما أوجب الله عليك فلا يضرك بعد ذلك ضلال هذا الإنسان إذا بقى فى قلبه ضلال حسابه عند الله جل وعلا.
لو أن الإنسان أظهر الإيمان وأبطن الكفر لا يضرنا من ضل إذا اهتدينا ولا يحصل الاهتداء إلا أن تقام شعائر الله وشريعة الإسلام فى الظاهر وأما الباطن فهذا كل إنسان مسؤول عن نفسه والله يحاسب العباد على ما فى أنفسهم أما الظاهر لابد من ضبطه.
فالمعنى الحق {لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} إذا قمتم بهذه الشريعة المطهرة وبما أوجبه الله عليكم ومن جملة ذلك نصح الذى يخرج عن شريعة الله والأخذ على يديه فلا يضركم بعد ذلك ضلاله.
(19/20)
والثانى: المعنى الذى يفهمه الجهلة من زمن لا يضركم من ضل إذا اهتديتم أى إذا كنت مهتديا ليس عليك حرج لا حرج أن يكون بجوار المسجد خمارة ولا حرج أن يكون بجوار المسجد مرقص لا حرج أنت مهتدى فى المسجد وأولئك يشربون الخمور فى المرقص هذا لا يجوز أبدا وعندما ينزل البلاء سينزل على أهل المسجد وعلى أهل المرقص تماما ليس المراد بهذه الآية هذا المعنى لكن الناس لجهلهم يستدلون بهذه الآية على جبنهم وخورهم وعجزهم وانحرافهم وتفريطهم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم.
ثبت فى المسند وهو أول حديث فى مسند الإمام أحمد والترمذى وسنن أبى داود وابن ماجة وصحيح ابن حبان عن قيس ابن حازم رضي الله عنه قال قام فينا أبو بكر رضي الله عنه خطيبا فقال يا أيها الناس إنكم تقرأون هذه الآية: {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} وإنكم تضعونها فى غير موضعها أى تقولون لا حرج علينا إذا اهتدينا من ترك الناس وإنكم تضعونها فى غير موضعها وإنى سمعت النبى صلى الله عليه وسلم يقول إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعذاب من عنده أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده فإذن لا يجوز أن تستدلوا بهذه الآية على أنه يباح لكم أن تتركوا شؤون غيركم وأن الناس يفعلون كما يريدون لا ,شريعة الله لا بد من تنفيذها فلا تقرؤا هذه الآية وتضعونها فى غير موضعها أى تستدلون بها على جواز ترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وعلى جواز ترك الظالم وعدم الأخذ على يديه لا هذا وضع للشىء فى غير موضعه والذى دعا إلى هذا كما قلت الجهل جهل ووافق هواه وجبنه وعجزه وخوره ولا يريد أن يتحمل جهدا فى تبليغ دعوة الله والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.
أكون أنا فى بيتى صالح مستقيم لا يضرنى ضلال الناس أجمعين لا إنما فإذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعذاب من عنده.
(19/21)
فإذن هنا الحالة الثانية: له فى الشىء رأى وإليه ميل ويوافق هواه فمال إليه عن جهل لاعن علم الحالة الأولى عن علم مسلك المبتدعة الثانية عن جهل مسلك العامة وأكثر الخلق.
الحالة الثالثة: أن يكون للإنسان غرض صحيح فيستدل عليه بما يعلم أنه لا يراد به هناك مبتدع استدل عليه بما لا يراد به من أجل تحريف كلام الله عن مواضعه لكن له الآن هنا غرض صحيح فقال استدل بهذا النص على هذا الغرض الصحيح وأنا أعلم أن هذا النص لا يدل على هذا لكن من باب يعنى إقناع الناس بهذا الأمر غرضه صحيح هذا كما يفعله الصوفية فى تفسير كلام رب البرية {اذهب إلى فرعون إنه طغى} فيقول اذهب إلى فرعون ويشير إلى نفسه هذا له غرض صحيح وهى مجاهدة النفس والمجاهد من جاهد نفسه فى ذات الله فى الله اذهب إلى فرعون إلى نفسك هو يعلم أن الآية لا تدل على هذا لكن له غرض صحيح وهو مجاهدة النفس فيريد أن يستدل على هذا الأمر بما لا يدل عليه فى الحقيقة.
{يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار} يقول نفوسكم التى بين جنباتكم قاتلوها وجاهدوها، مجاهدة النفس مطلوبة لكن استدل بما لا دليل عليه وقد ذكر الشيخ أحمد الرفاعى فى كتابه البرهان المؤيد رحمه الله وموتى المسلمين جميعا فى صفحة سبع وثمانين فى تفسير قول الله {اخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى} خطابا لنبى الله موسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه أما جاء لمناجاة الله اخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى نعليك أى نفسك وزوجتك إياك أن تفكر الآن فى النفس أو فى الزوجة التى تركتها ورائك أنت فى مكان مبارك فى مناجاة الله.
وحقيقة هذا استدلال على شىء بما لا يدل عليه اخلع نعليك النعل معروف ليس النعل معناها فى اللغة الزوجة وليس النعل معناها فى اللغة النفس، استدلال بما لا يدل على المطلوب مع أنه كما قلنا له غرض صحيح.
(19/22)
إذن هذه الحالة الأولى: التى يتنزل عليها النهى عن تفسير القرآن بالرأى فى المفسر رأى وله رأى وعنده ميل إلى قول إلى اعتقاد إلى نحلة إلى مذهب فإذن يريد بعد ذلك أن يخضع هذا القرآن لهذا الاعتقاد الذى فى نفسه إما مع العلم يريد أن يتلاعب بكلام الله كحال المبتدعة عندما حرفوا كلام الله عن علم وإما مع الجهل كحالة العامة يستدلون بما لا دليل عليه وإما أن يكون له غرض صحيح ليس كالمبتدعة الذين غرضهم فى الأصل غرضهم باطل واستدلوا عليه بباطل بما لا يدل عليه فهو باطل الاستدلال فأخطأوا فى الدليل والمدلول أما هنا له غرض صحيح هو لو التمس أدلة شرعية على مجاهدة النفس لأصاب فالذى يريده مجاهدة النفس هذا حق لكن يأتى الأمر من بابه ولذكر الأدلة التى تدل على مجاهدة النفس {إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربى} ، {قد أفح من زكاها وقد خاب من دساها} فليأتى بهذه النصوص التى بها مجاهدة النفس والإنسان يعتنى بمجاهدة نفسه أما أن يستدل بما لا دليل عليه هذا يدخل فى أنه فسر القرآن برأيه وهواه فليتبوأ مقعده من النار سواء كان له غرض صحيح أو غرض قبيح أو عن جهل هؤلاء الأحوال الثلاثة يتنزل عليهم حديث النبى عليه الصلاة والسلام [من قال فى القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار] هذه الحالة الأولى إذن فى المفسر كما قلنا ميل وعنده رأى فيريد أن يخضع القرآن له فى هذه الأحوال الثلاثة.
(19/23)
الحالة الثانية: التى يتنزل عليها تفسير القرآن بالرأى أن يتسارع إلى تفسير القرآن برأيه حسب مدلولات لغة العرب دون تعويل على النصوص الشرعية فيفسر القرآن بلغة العرب دون أن يعول على النصوص الشرعية على ما ورد فى سبب نزول هذه الآيات وكثير من الآيات لا يمكن أن تفسرها على حسب لغة العرب فقط فلا بد من معرفة سبب النزول ولذلك نحن قلنا فى ضابط تفسير القرآن بالرأى أنه يوافق نصوص الشرع وقواعد اللغة فيدل عليه سياق الكلام ويشهد له السباق واللحاق أم أن تأتى فقط لتفسر هذا اللفظ على حسب اللغة فقط كأن هذه اللفظة ليست فى القرآن ثم تتناسى ورودها فى كلام الله جل وعلا بالهوى إنه فسر هذا عن طريق اللغة دون تعويل على السماع وعلى النصوص
وكنت ذكرت إخوتى الكرام: شيئا يوضح هذا فى أوائل دروسنا فى مقدمة التفسير فى قول الله جل وعلا: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم} .
ذكرت هناك فهم عروة ابن الزبير رضي الله عنهما أجمعين وكيف ردت عليه أمنا عائشة رضي الله عنه فهمه لهذه الآية هو فهم على حسب ظاهر اللغة العربية وأغفل سبب النزول فحذرته أمنا عائشة رضي الله عنها من هذا المسلك [فيكم من يستحضر ما سبق ويذكرنى وأن الأنصار تحرجوا من السعى بين الصفا والمروة لأمرين:
الأمر الأول: الأنصار..كانوا.. إذن الأنصار يهلون لمناة الطاغية التى قلنا هى عند المشلل حذو قديد عند البحر الأحمر يهلون لمناة الطاغية فإذا أهلوا لمناة وحجوا لا يطوفون بين الصفا والمروة تعظيما لمناة فلا يطوفون بين الصفا والمروة عليهما إساف ونائلة تعظيما لمناة.
(19/24)
وصنف ثان: كانوا يعظمون هذين الصنمين فيطوفون بينهما ويتمسحون بهما وأولئك كأنهم قالوا نحن كنا فى الجاهلية ما نفعل هذا لأنه من شعائر الجاهلية السعى تعظيما للصنمين فنحن كنا تعظيما لمناة لا نعظم إسافا ونائلة فمن باب أولى تعظيما لله لا نطوف بين الصفا والمروة ومن كان يطوف يقول كنا نفعل هذا فى الجاهلية فكيف نفعله فى الإسلام.
إذن تحرج الفريقان من السعى بين الصفا والمروة تحرجوا من السعى بينهما لكن العلة فى هؤلاء غير العلة فى هؤلاء فنزلت الآية: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح} الشاهد هنا فلا جناح عليه أن يطوف بهما قلنا رفع الجناح والإثم والحرج لا يلزم منه اثبات الفرضية أى لا جناح عليك أن تطوف بينهما أى يباح لك أن تطوف بينهما.
إذن السعى بين الصفا والمروة ليس بركن من أركان الحج، طيب هذا لا يفهم إذن من الآية أن السعى بين الصفا والمروة فى الحج لا يفهم إذن منه أنه مشروع وأنه لا بد منه وأنه ركن لأن الله نفى الإثم والجناح والحرج عمن سعى بينهما فإذا سعى لا حرج عليه وإذا لم يسع فلا حرج عليه على حسب مفهوم اللغة من باب أولى.
قلنا هنا لو لم يعرف الإنسان سبب النزول لما استطاع أن يفسر هذه الآية فهنا لا جناح عليك لا لأن السعى فى الأصل فرض أو لا المراد من نفى الجناح الذى وقر فى أذهانهم هم ظنوا أنهم إذا طافوا بينهما وسعوا بينهما فى ذلك إعادة لخصال الجاهلية فالله يقول لا حرج وإن كانت صورة الفعل وافقت صورة الجاهلية فلا حرج
وقد سن النبى عليه الصلاة والسلام الطواف بينهما أى فرضه فى السنة فلا بد من ذلك فإذن هذا مشروع على سبيل الإلزام والوجوب كيف عبر عنه بلا حرج هذا دفعا فيما وقر فى أذهانهم.
(19/25)
هذا كما لو استيقظ إنسان بعد صلاة الفجر وقد فاتته الصلاة وطلعت الشمس فقال لك ماذا أفعل طلعت الشمس أصلى الفجر تقول صلى ولا حرج ما معنى ولا حرج أى لا أثم عليك أنت تتحرج من الصلاة لا حرج عليك لابد لكن هنا أنه ليس معنى ولا حرج يعنى يباح لك أن تصلى الفجر التى فاتتك ولا يباح لك لا صلى ولا حرج أى أنت تتحرج من الصلاة فى هذا الوقت وأنت معذور والقلم مرفوع عنك وإذا لم يحصل هناك تفريط منك فلا إثم عليك إن شاء الله فصلى ولا حرج فهنا نفى الحرج لنفى ما وقر فى ذهنك لا أنه لاحرج عليه فى أن يصلى وألا يصلى وهكذا وقر فى أذهانهم إرتياب نحو السعى بين الصفا والمروة فقيل فلا جناح عليه أن يطوف بهما ولذلك قالت أمنا عائشة فلو كان السعى بينهما ليس بواجب لقال فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما أى ينفى الإثم والجناح والحرج والذنب على من لم يسع بينهما وأما هنا رفع الحرج والأثم والذنب عمن طاف بينهما لما وقر فى أذهانهم من أن الطواف بينهما فيه مشابه لخصال الجاهلية أما هو فرض فإذن هذا إذا لم يعلم الإنسان سبب نزول هذه الآية ما يستطيع أن يفسرها ويأتى ويقول السعى بين الصفا والمروة مباح وما قرره الفقهاء واستنبطه العلماء من أن السعى بين الصفا والمروة ركن من أركان الحج هذا باطل لما لأن اللغة العربية التى نزل بها القرآن تقول فلا جناح ونفى الجناح والآثم والحرج لا يفيد أن السعى واجب وعليه إذن هو مباح إذا طاف فلا حرج وإذا لم يطف فلا حرج هذا كلام باطل فإذا تسارع إلى تفسير القرآن بالعربية دون تعويل على السماع فقد فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار.
(19/26)
مثال على هذا ما ثبت فى الصحيحين فى حديث سهل بن سعد رضى الله عنه قال لما نزلت هذه الآية {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود} ولم ينزل من الفجر يقول كان أناس إذا أراد أحدهم أن يصوم ربط فى رجله خيطين أسود وأبيض ثم ينظر إليهما فلا يزال يأكل حتى يتبين له رئيهما أى منظرهما ومشاهدتهما وورد زيهما أى لونهما ورد رأيهما مرئيهما يأكل حتى يتبين له الخيط الأبيض من الخيط الأسود كما هو ظاهر القرآن على حسب اللغة العربية على حسب فهم ذلك الإنسان فلما نزل من الفجر علموا أن المراد بذلك بياض النهار وسواد الليل {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} .
(19/27)
وثبت أيضا فى الصحيحين والحديث فى الكتب الستة باستثناء سنن ابن ماجة وهو فى المسند عن عدى بن حاتم قال لما نزلت هذه الآية وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر عمدت إلى عقالين فوضعتهما تحت وسادتى وبدأت آكل وأنظر إليهما ثم ذهبت إلى النبى عليه الصلاة والسلام وأخبرته فقال إن وسادك إذن لعريض المراد من ذلك سواد الليل وبياض النهار ألم تسمع إلى قوله تعالى من الفجر هنا حصل تفسير من هؤلاء الآن فى الظاهر أنهم عولوا على بيان المعنى على حسب اللغة العربية لكن ما عرفوا المراد وهو أن المراد فى حقيقة الأمر سواد الليل بياض النهار فلو جاء إنسان الآن يأخذ بهذه الآية فقط على حسب مدلول اللغة الذى يفهمه هو فقط وقال لا يحرم الأكل والشرب على الصائم والمفطرات حتى يظهر له الخيط الأبيض من الخيط الأسود يعنى لا أقول عند طلوع الفجر بعد طلوع الشمس لأن عند طلوع الشمس لايظهر أيضا فى بداية طلوعها الخيط الأبيض من الخيط الأسود لابد من أن يصبح الوقت ضحى حتى يظهر الخيط الأبيض من الخيط الأسود وإذا كان فى نظره ضعف لعل الخيط الأبيض من الخيط الأسود ما يظهران إلا عند الظهر إذن لا حرج عليه أن يستمر فى الأكل نقول لا يا عبد الله.
(19/28)
لابد من أن ترجع إلى سبب نزول هذه الآية وإلى ما لبسها لتعلم أن المراد سواد الليل بياض النهار وأولئك الصحابة رضوان الله عليهم الذين جرى منهم ما جرى حتما هم واهمون فى ذلك لكن هذا الذى فى وسعهم فى ذلك الوقت وعرضوا الأمر على النبى عليه الصلاة والسلام فصحح الأمر لهم وقصة ما ورد فى حديث سهل بن سعد من أن أناسا أرادوا أن يصوموا هذا هو سبب نزول قول الله من الفجر فنزل وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود ولم ينزل من الفجر وورد أنه بين نزول من الفجر وما قبلها عام كامل فالتبس عليهم الأمر لا لأن الأمر فيه التباس لا الأمر حتى من ناحية اللغة لا التباس فيه لأن المراد بالخيط الأسود سواد الليل وبالخيط الأبيض بياض النهار لكن هؤلاء حملو ها على شىء آخر فالبيان حصل بذاك لكن هؤلاء صار عندهم نحو ذلك البيان إشكال فمن الفجر هذه ليست لبيان ما كان مشكلا فى الحقيقة إنما لبيان ما أشكل على بعض الناس وإلا أكثر الصحابة فهموا أن المراد بذلك سواد الليل وبياض النهار ولذلك ليس فى ذلك تأخير البيان عن وقت الحاجة إنما فيه إزالة للبس والإشكال حصل عند بعض الناس وهذا هو المعنى المعتمد.
وأما ما زعمه الزمخشرى بأن هذا فيه تأخير للبيان عن الحاجة وعليه فالحديث لا يثبت وهو فى الصحيحين فهذه والله إحدى الكبر إنسان يقول عن حديث فى الصحيحين إنه لا يثبت قل إن فى تأخيره بيان عن وقت الحاجة أى تأخير عن وقت الحاجة هنا حصل البيان بقوله: {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود} والمراد سواد الليل وبياض النهار هذا معروف لكن هؤلاء إلتبس عليهم فكما أن الخيط الأبيض يطلق على الخيط المحسوس يطلق أيضا على سواد الليل خيط أسود وعلى بياض النهار خيط أبيض وهذا معروف فى اللغة.
(19/29)
ولذلك لما سأل سائل فى مسائل نافع ابن الأزرق ابن عباس رضي الله عنهما عن الخيط الأسود والخيط الأبيض فقال له الخيط الأسود ظلام الليل والأبيض ضوء النهار ألم تسمع إلى قول أمية ابن أبى الصلت:
الخيط الأبيض ضوء الصبح منفلق ... والخيط الأسود لون الليل مكموم
فالبيان كان حاصلا لكن كما قلنا لرفع إشكال حصل عند بعض الناس فنزل من الفجر وبينهما عام كامل.
وأما قصة عدى فهى متأخرة لأن عدى أسلم فى العام التاسع أو العاشر للهجرة وفرضية الصيام نزلت فى العام الثانى للهجرة فإذن عدى ابن حاتم قصته متأخرة وتكررت بعد هذه الموقعة بثمانى سنين أو سبع فهو لما قرأ هذه الآية حسبما يفهم أيضا على ظاهر العربية ولعله ليس فى لغة قومه أن الخيط الأسود ظلام الليل والأبيض ضوء النهار أو هذا فى لغة قومه ونسى وحمل الأمر على الخيطين المعروفين فوضع عقالين فى رجله ثم بدا يأكل وينظر إليها حتى يتبن له شكل الخيطين ثم ذكر بعد هذا للنبى عليه الصلاة والسلام فقال إن وسادك إذن لعريض إنما ذلك سواد الليل وببياض النهار وأنما قال له وسادك عريض أى نومك كثير وليك طويل إذا كنت ستبقى تأكل حتى يتبن لك الخيط الأبيض من الخيط الأسود.
وقيل عرض النبى عليه الصلاة والسلام بما يشير إلى غفلته إلى حصول شىء من الغباء عنده لأن الوساد العريض يحتاج إلى قفا عريض وعرض القفا فى الإنسان مما يستدل به على قلة انتباهه وعدم يقظته وحصول شىء من الغفلة والغباء فيه إن وسادك لعريض أى إذا عندك وسادة عريضة ستغطى فلق الصبح تحتاج إلى قفا عريض وبالتالى سيصبح عند الإنسان شىء من الغفلة.
(19/30)
إذن إما أن الليل طويل وإما فيه تعريض بحال عدى فقصة عدى تأخرت هذا لو جاء إنسان وفسر هذه الآية على حسب ما يفهم من ظاهرها دون الرجوع إلى نصوص الشرع وإلى ما لابسها فهو مفسر للقرآن برأيه من ذلك قول الله جل وعلا: {يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون} آية تسع وثمانين من سورة البقرة {وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها} لو جاء إنسان ليفسر هذه الآية على حسب الظاهر وما يفهم من لغة العرب يقال ليس الطاعة لله أن تأتى البيت من ظهره أنما الطاعة لله هو تنفيذ شرع الله أن تأتى البيت من الباب الذى يدخل الناس منه.
طيب وربما يقول لك قائل وهل أحد يأتى البيت من ظهره ويتسلق عليه من الجدران وخلفه من يفعل هذا القرآن إذن يتكلم فى شىء غير واقع ويحضنا على أمر هو الذى يفعله كل الناس مؤمنهم وكافرهم {وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها} كل واحد يأتى الدار من بابها وما واحد يأتى إلى بيته يتسلق على الجدران من خلف، فهذه إذا ما فهم ما لابس نزولها وسبب نزولها يستطيع أن يتكلم فى تفسيرها عن طريق لغة العرب على الإطلاق.
ثبت فى الصحيحين عن البراء ابن عازب قال هذه الآية نزلت فينا معشر الأنصار ماذا كنتم تعملون كانوا إذا أحرموا بحج أو عمرة وأهلوا لله جل وعلا بأحد هذين النسكين لا يدخل واحدا منهم بيته من بابه إذا عرضت له حاجة ماذا يفعل يأتى إلى بيته من الخلف ويتسلق الجدران وينزل بعد ذلك من السطح البيت من بابه لا يدخله تعظيما لله على حسب ما توارثوه فى الجاهلية.
(19/31)
فالله جل وعلا يقول: {وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها} هذا ليس فيه طاعة لله وليس فيه تعظيم لله والله ما أمركم بذلك {ولكن البر من اتقى} إذا أحرمتم فاتقوا المحذورات والمحرم عليكم {وأتوا البيوت من أبوابها} واتقوا الله لعلكم تفلحون.
وورد أيضا أن الأنصار كانوا إذا رجعوا من سفر سفر حج أو غيره تعظيما لله لا يدخلون البيوت من أبوابها إنما يتسلقون الجدران ويأتونها من خلفها فنهاهم الله عن ذلك.
وورد أيضا أن الأنصار إذا أرادوا سفرا وعدلوا عنه لا يدخوا البيت بعد ذلك من بابه إنما يأتيه من خلفه ويتسلق فنهاهم الله عن ذلك.
وورد أيضا أنهم إذا اعتكفوا وعرضت لهم حاجة وخرج من معتكفه لا يدخل البيت من بابه إنما يتسلق عليه من خلفه.
وورد أيضا أن الأنصار إذا انفضوا من عيدهم لا يدخلون البيوت من أبوابها إنما يدخلون من خلفها ويتسلقون الجدران.
{وأتوا البيوت من أبوابها وأتقوا الله لعلكم تفلحون} هنا لا يمكن أن يفسر الإنسان هذه الآية إلا على حسب نصوص الشرع ولذلك العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب ولو فسرت هذه الآية على حسب ظاهر اللغة لقلت أن هذه الآية تعالج قصة لا واقع لها الإنسان يدخل البيت من بابه ولا يتسلق عليه من خلفه يقال لك ما أحد يفعل هذا ثم لو أراد أن يتسلق أحيانا من الخلف لحاجة لاعتبارلأمر لأن الباب مغلق تقول منهى عنه ابحث ما فى وسعك للدخول من هذا الباب ولو أدى إلى كسره ولا يجوز لك أن تتسلق هذا البيت وأن تأتيه من خلفه وإن كان لعذر لا أبدا ما تتكلم عن هذا تعالج واقعا معينا كانوا يتدينون لله ويتقربون إليه بأن يأتوا البيوت من ظهورها فنهوا عن هذا.
(19/32)
أما إذا عرضت لك حاجة وتعسر عليك أن تدخل البيت من بابه لوجود مثلا قاطع طريق أو لوجود مفسد عاتى وتسلقت جدران البيت وأتيت البيت من خلفه ليس فى ذلك حرج فلا يقال أنت منهى عن هذا فالآية تعالج واقعا معينا فافهم هذا {وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون} مثال هذا أيضا قول الله جل وعلا فى سورة الأعلى {فذكر إن نفعت الذكرى} .
حرف إن هنا أورد المفسرون فيه ثلاثة معان:
المعنى الأول: {فذكر إن نفعت الذكرى} على أنها شرطية فإذا كانت الذكرى نافعة فذكر وإلا فلا داعى للتذكير فضياع الوقت لا فائدة فيه وهنا كل ذكرى سيترتب عليها نفع فأنت تذكر المؤمن إن الذكرى تنفع المؤمن وتذكر الكافر لتقيم عليه الحجة لكن من علمت أنه لن ينتفع كحال أبى لهب وأنه سيصلى نارا يخلد فيها أبدا هل هناك فائدة فى تذكيره بعد نزول سورة المسد حقيقة ضياعا للوقت بلا فائدة.
إنسان نصحته ونصحته وقامت عليه الحجة وكل ما تنصحه يزداد عتوا وعنادا وليس عندك وسيلة لأن تأخذ على يديه فهل يلزمك أن تذكره بعد ذلك لا الله لا يأمر إلا بذكرى نافعة لكن ليس معنى هذا تقول هذا لا ينتفع فلا أذكره لا بد من قيام الحجة فإن اهتدى وحصل الأثر وإلا فقد قامت عليه الحجة وهذه نافعة لأنه عندما قامت عليه الحجة فأنت إذن حصلت المطلوب من هذا التذكير عندما يعذب فى الآخرة يعذب بعد قيام الحجة عليه وأن المطلوب حصل من هذا التذكير إنما كما قلنا ذكرى ليست نافعة لا يأمر الإسلام بها هذا معنى الآية {فذكر إن نفعت الذكرى} .
وقيل بمعنى قد فذكر إن نفعت قد نفعت الذكرى والذكرى تنفع المؤمن ينتفع بها والكافر تقوم عليه الحجة.
(19/33)
وقيل وهو ما يقوله أهل العربية قاطبة إلا من رحم ربك يقول الكلام هنا ذكر إن نفعت الذكرى وإن لم تنفع وهذا من باب الاكتفاء بأحد المتقابلين لأنه يدل على ما يقابله فذكر إن نفعت إن لم تنفع هذا الذى قاله الفراء والواحدى تبعه ورجحه الشوكانى وهذا من العجيب فى تفسيره لم يذكر سوى هذا المعنى الإمام البغوى والخازن قال فذكر إن نفعت وإن لم تنفع فى الحقيقة هذا من باب تفسير القرآن على حسب ظاهر العربية والاحتمالات التى تحتملها لغة العرب لكن دون دلالة النصوص الشرعية على هذا فكلام العرب احتمل هذا المعنى لكن النصوص الشرعية لا تحتمل هذا المعنى على الإطلاق فقالوا إن نفعت وإن لم تنفع قالوا وشاهدنا على هذا تفسير باطن أيضا استدلوا به لتأييد تفسير باطل سرابيل تقيكم الحر أى والبرد وهذا من باب الاكتفاء بأحد المتقابلين عن الآخر سرابيل تقيكم الحر وتقيكم البرد فذكر الحر ولم يذكر البرد لأنه يقابل الحر هذا من باب الاكتفاء وهنا إن نفعت وإن لم تنفع.
يقول الإمام ابن تيمية عليه رحمة الله وما قالوه باطل وقولهم بأنه يجب أن نذكر الكافر هذا معلوم بالاضرار من دين الإسلام لكن الذكرى إذا لم تكن نافعة لا نأمر بها كحال من نزل فيه نص بأنه يجلد فى نار جهنم فلا نذكره وكحال من ذكرته وأصر على العناد وقامت عليه الحجة وما اهتدى فلا داعى أن تضيع الجهد والوقت معه أما إننا نذكر الكافر هذا معلوم بالاضرار من دين الإسلام وتفسيرهم لآية الأعلى بآية النحل سرابيل تقيكم الحر أى وتقيكم بأسكم وهنا فذكر إن نفعت وإن لم تنفع يقول هذا التمثيل باطل.
(19/34)
أولا: لا يوجد حرف شرط فى آية النحل فقال هناك سرابيل تقيكم الحر وأما هنا قال قذكر إن نفعت الذكرى فهناك لا يوجد حرف شرط وإذا علق الحكم بحرف الشرط وكان الأمر المعلق على هذا الشرط لا بد منه سواء وجد الشرط أم لم يوجد فذكر الشرط من باب العبس ومن باب تطويل الكلام بلا طائل إذا كان المراد ذكر إن نفعت وإن لم تنفع لماذا يقول فذكر إن نفعت الذكرى يقول فذكر وانتهى أما فذكر إن نفعت تقول وإن لم تنفع إذن هذا الشرط ذكره وعدمه سواء إذن هو لغو وحشو فى الكلام وكلام الله يصان عن هذا.
الأمر الثانى: يقول ما ذكروه هو حجة عليهم ليس فى قوله {سرابيل تقيكم الحر} دلالة على البرد لا وهذا لتفسيرهم هذا من باب تفسيرهم لكلام الله حسبما تدل اللغة دون النظر إلى سياق الكلام ومراد المتكلم سرابيل تقيكم الحر الحر فقط وأما البرد هذا تقدم ذكره ودفعه فى أول السورة بسورة النحل التى تسمى بسورة النعم كما ثبت هذا عن قتادة فى تفسير ابن أبى حاتم والله عدد نعمه على عباده فى هذه السورة فذكر فى أولها أصول النعم وذكر فى أثنائها ونهاياتها متممات النعم دفع البرد من أصول النعم أو من متمماتها؟ من الأصول ودفع الحر من المتممات.
(19/35)
الإنسان يموت بالبرد لكن لا يموت من الحر مهما كان الحر شديدا إذا كان تحت أى ظل ولو ظل الشجر لا يموت لكن البرد إذا لم يجد ما يدفعه من ملابس واقية يموت فاللع ذكر ما يدفع البرد فى أول سورة النحل فقال والأنعام خلقها لكم فيها دفء فدفع البرد عنا هذا من أصول النعم ولذلك يقول العرب البرد بؤس قاتل والحر أذى أنت من الحر تتأذى لا تموت لكن من البرد تموت {سرابيل تقيكم الحر} الحر فقط أما دفع البرد تقدم {والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون} فالبرد بؤس وقاتل فالله امتن علينا بدفعه فى أول السورة ثم ذكر أنه خلق لنا من الملابس ما ندفع به عنا أذى الحر من الملابس القطنية الرفيعة التى تجلب للجسم برودة فقال {سرابيل تقيكم الحر} فتدفع عنا أذى الحر وأما البرد فقد تقدم دفعه فقال وهذا من باب تفسير القرآن أيضا بالرأى فأرادوا أن يستدلوا على باطل بباطل فالآية {فذكر إن نفعت الذكرى} لا يجوز أن نقول وإن لم تنفع وإذا كانت اللغة العربية تحتمل هذا فالنصوص الشرعية لا تساعد على هذا المعنى.
وقوله سرابيل تقيكم الحر لا يجوز أن نقول وتقيكم البرد فإذا كانت اللغة العربية تحتمل هذا التقدير فالنصوص الشرعية تدفع هذا.
(19/36)
ولذلك قال الإمام أحمد عليه رحمة الله كما فى مجموع الفتاوى فى الجزء السادس عشر صفحة خمس وخمسين ومائة كنت أحسب الفراء رجلا صالحا حتى رأيت كتابه التفسير معانى القرآن والإمام الفراء من أئمة العربية الكبار وهو أمير المؤمنين فى النحو ولولاه لما استقامت العربية كما يقول أئمتنا وألف كتابه التفسير معانى القرآن للفراء وهو من المتقدمين توفى سنة مائتين وثمانية للهجرة عليه رحمة الله يقول الإمام أحمد كنت أحسبه رجلا صالحا حتى رأيت كتابه التفسير معانى القرآن للفراء ليس فى تفسير معانى القرآن للفراء ضلال وبدع لكن فيه أنه يفسر كلام الله على حسب اللغة العربية دون نظر إلى مراد المتكلم وسياق الكلام والسباق واللحاق والمتقدم والمتأخر ينظر إلى ملول هذا اللفظ على حسب اللغة وهذا فى الحقيقة خطأ وهذا خطأ فلنتجنب هذا الأمر فى تفاسير اللغويين ولا بد من يقترن هذا كما قلنا بالنصوص الشرعية.
إخوتى الكرام: أقتصر على هذا المقدار وفى أول المحاضرة الآتية إن أحيانا الله جل وعلا أذكر كلام الإمام ابن تيمية فى تلخيص ما تقدم ثم ندخل إن شاء الله فى تفسير كلام الله وصلى الله عليى نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليما كريما والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ما هى عدة العلم ووسائل العلماء؟
(19/37)
معروفة لابد من أن يتقن اللغة العربية وأن يلم بالأحاديث الشرعية وأن يعرف بعد ذلك ما يتعلق بتفسير كلام الله جل وعلا من أسباب النزول وأن ينظر فى المنقول الوارد فى تفسير هذه الآية فإذا أتقن هذا هل يتكلم بعد ذلك يعنى كل واحد يعلم هل هو عالم أم لا؟ وأما إذا كان يأتى ليسأل يا شيخ اطلب العلم من المهد إلى اللحد دى آية ولا حديث لا يسألنى أستاذ التربية أستاذ تربية دى آية ولا حديث ثم بعد ذلك يأتى يفسر كلام الله فى المحاضرات ويستشهد بها هذا ضال إذا كان اطلب العلم من المهد إلى اللحد آية ولا حديث ما يعرف وبعد يقول هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون هذه حكمة ولا أثر ما يعلم، إذن الإنسان يعلم هذا..واضح.
حتى رأيت كتابه معانى القرآن فقط يقول كنت أحسبه رجلا صالحا حتى رأيت كتابه معانى القرآن أى كأنه نزل من نفسه ونحن قلنا ليس فيه شىء إلا أنه يفسر كلام الله على حسب مدلولات اللغة دون النظر إلى النصوص الشرعية فليطرح هذا الأمر من تفسيره ولنحترص منه وما عداه فلا حرج فيه.
بالنسبة لآية {لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} كيف نرد على من قال يعنى يخضعون اللفظ نفسه لسبب خاص.. ما ذكرنا سببا خاصا نقول هنا معناها {لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} .
هل يحصل لك اهتداء عندما تترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر أخبرنى يحصل الله أعلم
(19/38)
إذن ما عندنا خصوص سبب لتقول عموم لفظ ولا خصوص سبب لا أبدا عندنا لا يضركم من ضلل إذا اهتديتم متى يحصل لنا الاهتداء إذا قمنا نحونا ونحو غيرنا بما أوجبه الله علينا وأما إذا قمت نحو نفسك بما يجب عليك ولم تقم نحوها بما يجب عليك نحو الآخرين هذا أيضا بما يجب لله عليك فأنت الآن لست بمهتدى ولذلك قال أبو بكر رضي الله عنه تقرأونها وتضعونها فى غير موضعها تظنون أن الاهتداء يحصل لكم لو جلستم فى بيوتكم وتركتم المنكرات بعد ذلك تسرح هنا وهناك هذا ليس بصحيح، والأمة إذا رأت المنكر فلم تغيره أصابها الله بعذاب عام ...
سيأتينا إن شاء الله عند كلام ابن عباس بعد كلام الإمام ابن تيمية أن التفسير على أربعة أوجه:
تفسير تعرفه العرب من كلامها: فلا يشترط له سبب نزول مثل تبت يدا أبى لهب سيأتى العرب يقول التباب معناه الهلاك والخسران لا بأس.
تفسير يعرفه العلماء: فيما يتعلق بسب نزول وناسخ ومنسوخ وما شاكل هذا.
تفسير لا يعلمه إلا الله: ومن ادعى علم رسول الله فهو كاذب فيما يتعلق بالمغيبات.
تفسير لايعذر أحد بجهالته: هذا الذى لايعذر أحد بجهالته إما حلال وحرام ينبغى أن يتعلمه وإما واضح كقول الله "والليل إذا يغشى الليل".
تقول أنت ما معنى الليل؟
نقول الليل معروف ضد النهار لا يحتاج أن نقول قال أبو بكر أو عمر الليل هو الليل المعروف الذى يبدأ من غروب الشمس إلى طلوع الفجر لا يحتاج إلى هذا ...
(19/39)
مقدمة التفسير (6)
(دروس تفسير)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة التفسير 6
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا.
الحمد لله رب العالمين شرع لنا دينا قويما وهدانا صراطا مستقيما وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة وهو اللطيف الخبير.
اللهم لك الحمد كله ولك الملك كله وبيدك الخير كله وإليك يرجع الأمر كله أنت رب الطيبين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك ولى الصالحين وخالق الخلق أجمعين ورازقهم فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين.
{ياأيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون} [الأنعام/102] .
وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله أرسله الله رحمة للعالمين فشرح به الصدور وأنار به العقول وفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبيا عن أمته ورضى الله عن أصحابه الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
{يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا} [النساء/1] .
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون}
[آل عمران/102] .
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا صلى الله عليه وسلم * يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما} [الأحزاب/70-71] .
أما بعد: معشر الإخوة الكرام..
لازلنا فى مدارسة المقدمة فى تفسير كلام رب العالمين سبحانه وتعالى وكنا فى الدرس الماضى نتدارس الطريق الحكيمة فى تفسير الآيات وقلت إن تفسير القرآن العظيم لا يخرج عن طريقين اثنين.
(20/1)
إما أن نفسر كلام الله جل وعلا بالمنقول عن طريق تفسير القرآن بالقرآن أو القرآن بالسنة أو القرآن بأقوال الصحابة أو القرآن بأقوال التابعين وبينت أخبار أهل الكتاب عند هذا الطريق وهذا نوع من التفسير.
والنوع الثانى تفسير بالمعقول تفسير بالرأى وقلت يقصد به أن يبذل الإنسان ما فى وسعه وأن يعمل نظره واجتهاده فى تفسير كلام ربه بحيث يوافق قواعد اللغة العربية والنصوص الشرعية فيتفق ذلك التفسير مع السياق ويشهد له السباق واللحاق يشهد له ما تقدم وما تأخر من كلام الله جل وعلا فهذا تفسير بالرأى وذكرت الأدلة على جواز هذا التفسير.
ثم بعد ذلك استعرضت ما يتوهمه طالب العلم من أنه يمنع من التفسير بالرأى وذكرت الحديث بأن النبى عليه الصلاة والسلام ما كان يفسر شيئا من القرآن إلا آيات تعد إلا آيات بعدد علمهن إياهن جبريل على نبينا وعليه الصلاة والسلام وبينت قيمة الأثر وأنه ليس فيه دلالة على منع التفسير بالرأى والحديث الثانى حديث جندب رضي الله عنه والأول عن أمنا عائشة رضي الله عنها حديث جندب من قال فى القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ بينت قيمة الحديث وأنه ليس فيه دلالة على منع التفسير بالرأى أيضا والحديث الثالث حديث ابن عباس رضي الله عنهما بروايتين من قال بالقرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار ومن قال فى القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار، وقلت المعتمد أن الحديث فى درجة القبول فهو حسن كما نص ذلك الإمام الترمذى لكن منطوق إحدى الروايتين للحديث تعين المراد وهذا المنطوق هو من قال فى القرآن بغير علم فالمراد من الرأى الراى المجرد عن الأدلة الشرعية وعن موافقة قواعد اللغة العربية أى أن يفسر القرآن برأيه وهواه وظنه ووهمه وتخرسه فليتبوأ مقعده من النار وقلت بعد ذلك أما النص الذى ينهى عن تفسير القرآن بالرأى محمول على حالتين اثنتين.
(20/2)
الحالة الأولى: وهذا كلام الإمام الغزالى عليه رحمة الله وختمت به الدرس الماضى أن يكون فى المفسر رأى وعنده اعتقاد فيحمل كلام الله جل وعلا على هذا الاعتقاد وهذا له ثلاثة أحوال.
? تارة مع العلم وهذا قلت كما يكون من المبتدعة.
? وتارة مع الجهل.
? وتارة يستدل على أمر صحيح بما لا دلالة فيه على ذلك كما يفعل الوعاظ والقصاص والصوفية.
اذهب إلى فرعون إنه طغى ويشير إلى نفسه.
والحالة الثانية: التى يتنزل عليها النهى أن يفسر القرآن بكلام العرب دون النظر إلى مراد المتكلم وقصده ودون النظر إلى سياق الايات فيجرد هذا اللفظ ويفسر على حسب اللغة دونما يقصده المتكلم ودون موقع هذا اللفظ فى كلام الله جل وعلا وقلت كثيرا من الآيات لايمكن أن تفسر على حسب اللغة العربية كما وضحت هذا بالأمثلة فلا بد من الرجوع إلى السماع والنقل عما ثبت عن نبينا عليه الصلاة والسلام
إخوتى الكرام: هذه الآثار المتقدمة عن نبينا عليه الصلاة والسلام ورد مثلها أيضا عن السلف الكرام ما قلناه فى تلك الأحاديث من تعليل وبيان نقوله أيضا فيما نقل عن السلف الكرام.
ثبت عن أبى بكر رضي الله عنه كما فى كتاب جامع بيان العلم وفضله للإمام ابن عبد البر فى الجزء الثانى صفحة اثنتين وخمسين والأثر رواه عنه أبو عبيد القاسم ابن سلام أنه قال أى أرض تقلنى وأى سماء تظلنى إذا قلت فى كتاب الله برأيى أو إذا قلت فى كتاب الله بما لا أعلم، ومثل هذا نقل عن على رضي الله عنه كما فى جامع بيان العلم وفضله فإذن هنا إذا قال برأيه أى بما لا علم له به.
أما إذا فسر كلام الله جل وعلا بما يوافق قواعد اللغة ونصوص الشرع فلا يكون إذن مفسرا للقرآن بغير علم إنما هو يتكلم عن بينة كما تقدم معنا إيضاح هذا بكلام العلماء.
(20/3)
وهكذا ما نقل عن سعيد ابن المسيب عليه رحمة الله أنه سئل عن تفسير آية من كلام الله فقال أنا لا أقول فى القرآن شيئا وسأله مرة سائل آخر عن تفسير آية فقال سل الذى يزعم أنه لا يخفى عليه منه شىء يعنى عكرمة مولى ابن عباس رضي الله عنهم أجمعين سل عكرمة الذى يزعم أنه لا يخفى عليه منه شىء وهنا لا دلالة فى هذا الأثر على أن سعيد ابن المسيب رضي الله عنه يرى أن التفسير بالرأى أنه ممنوع ومحذور لا ثم لا لعله تحرج فما عنده علم فى تفسير تلك الآية ثم بعد ذلك أرشد السائل إلى من يعلم تفسير هذه الآية فقال سل عكرمة رضي الله عنهم أجمعين.
فهذه الآثار نقول فيها ما قلناه فى تلك الأحاديث لذلك قال الإمام ابن تيمية معللا تلك الآثار كما فى مجموع الفتاوى فى الجزء الثالث عشر صفحة ثلاثمائة وسبعين والكلام قاله الإمام ابن كثير أيضا فى الجزء الأول فى صفحة ستة بعد أن نقل هذه الآثار وما شاكلها عن السلف الأبرار فى تحرجهم فى تفسير كلام العزيز الغفار عن طريق اجتهادهم واستنباطهم وعقولهم وإعمال رأيهم.
قال هذه الآثار وما شاكلها محمولة على تحرجهم من التفسير فيما لا علم لهم به فأما من تكلم فى تفسير كلام الله بما يعلم من ذلك على حسب اللغة والشرع فلا حرج عليه قال ولذلك نقلت عن هؤلاء أقوال فى التفسير و1042 فإنه كما يجب على الإنسان أن يسكت عما جهله يجب عليه أن يتكلم فيما يعلمه ويعرفه لا سيما إذا سئل عنه كما ثبت عن النبى عليه الصلاة والسلام أنه قال: [من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار] .
(20/4)
والحديث صحيح ثابت فى المسند والسنن الأربعة باستثناء سنن النسائى ورواه الحاكم فى المستدرك من رواية أبى هريرة رضي الله عنه وروى الحديث من رواية ابن عمر وابن عمرو وابن مسعود وأنس وأبى سعيد الخدرى رضي الله عنهم أجمعين فمن سئل عن علم فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار فإذا سئل عن آية ولا يعرف تفسيرها لا يتكلم وإذا سئل عن آية ويعرف تفسيرها على حسب قواعد اللغة ونصوص الشرع ويشهد السياق لما يستنبطه منها فالواجب عليه أن يتكلم فكما يجب على الإنسان أن يسكت عما جهله يجب عليه أن يتكلم فيما يعلمه لا سيما إذا سئل عنه.
ولذلك قال الإمام ابن تيمية عليه رحمة الله فى مجموع الفتاوى فى الجزء الخامس عشرة صفحة أربع وتسعين من تدبر السياق سياق الآيات القرآنية وكانت غايته الوقوف على الحق عرف مراد الله من كلامه وأما تفسير القرآن بمجرد ما يحتمله اللفظ دون النظر إلى هذا اللفظ فى السياق فهذا حرام وأعظم غلطا من هؤلاء وإثما من يكون قصده أن يحرف كلام الله عن مواضعه كحال المبتدعة فيفسر القرآن على حسب رأيه وهواه وأما إذا تدبر الإنسان سياق النصوص وسباق الكلام ولحاقه وفسر كلام الله بعد ذلك على حسب قواعد اللغة ونصوص الشرع فلا حرج عليه فى ذلك.
(20/5)
ولذلك لما سئل الإمام ابن تيمية عن قول الله جل وعلا: {يوم يفر المرء من أخيه *وأمه وأبيه *وصاحبته وبنيه* لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه} قيل له عادة العرب أن تبدأ بالأهم والأعلى فلما بدأ الله جل وعلا هنا بالأنزل والأضعف {يوم يفر المرء من أخيه *وأمه وأبيه *وصاحبته وبنيه *لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه} ترقى من الأدنى إلى الأعلى والأصل أن العرب فى الكلام تقدم الأعلى فقال الإمام ابن تيمية عليه رحمة الله لكل مقام مقال ولو بدأ الله هنا بالأعلى لفاتت الفائدة بعد ذلك من ذكر الأدنى لو قال يوم يفر المرء من بنيه إذا فر الإنسان من ابنه الذى هو بمنزلة نفسه فكأنه فر من نفسه فسيفر من زوجه من باب أولى فيكون ذكر الزوجة إذن تطويل بلا طائل، وإذا فر من الزوجة سيفر من الأب وإذا فر من الأب سيفر من الأم وإذا فر من الأم سيفر من الأخ فإذن ترقى من الأدنى إلى الأعلى لبيان هول ذلك اليوم ففر من أخيه أمه التى احتضنته وهى تحنو عليه وتعطف عليه فر منها أبوه الذى يشفق عليه وعنده قوة وجلد ومنعة يحمى فر منه زوجته التى كان يأوى إليها بحيث يصبح الشخصان شخص واحد فر منها ابنه الذى هو من صلبه وقطعة منه فر منه.
(20/6)
لكل مقام مقال {يوم يفر المرء من أخيه *وأمه وأبيه *وصاحبته وبنيه *لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه} فهذا المعنى الذى كشفه هذا الإمام وهذا التفسير لا يقال هذا تفسير بالرأى وينبغى أن تنقل هذه النكتة عن التابعين أو عن الصحابة أو عن النبى عليه الصلاة والسلام لا ثم لا ولذلك من تأمل هذه الأمور وهذه الترتيبات لاح له من القرآن أسرار عظيمة ورحمة الله على الإمام الرازى عندما يقول فى تفسيره فى الجزء العاشر صفحة أربعين ومائة أكثر لطائف القرآن مودعة فى الترتيبات والمناسبات أى لما جاءت هذه الآية بعد هذه الآية ولما جاءت الآية على هذه الشاكلة من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لطائف كثيرة يستنبطها المفسر عن طريق إعمال عقله وبذل ما فى وسعه للوصول إلى مراد ربه جل وعلا من كلامه.
(20/7)
إخوتى الكرام: وهذا الكلام من الإمام ابن تيمية شاهد قطعى على أنه يجيز التفسير بالرأى وقد تناقض الشيخ أبو زهرة عليه رحمة الله فى هذه المسألة نحو الإمام ابن تيمية ففى الكتاب الذى ترجم فيه لابن تيمية عليه رحمة الله فى صفحة مائتين وثلاث وثلاثين إلى صفحة مائتين وخمس ثلاثين أثنى على الإمام ابن تيمية وذكر أنه يعمل عقله ويبذل ما فى وسعه للوصول إلى مراد ربه ويدرك إشارات القرآن ويقف على مراميه ويستنتبط من الألفاظ دلالات عظيمة تشير إليها تلك الآيات وهذا هو حال الإمام عليه رحمة الله وحال أئمة الإسلام لكنه فى كتابه المعجزة الكبرى فى صفحة خمسمائة وسبع جاء وقال إن الإمام ابن تيمية يحرم تفسير القرآن بالرأى فى الكتاب المتقدم ذكر أنه يعمل رأيه وجمع بين إعمال رأيه وبين ما نقل عنه من تحريم التفسير بالرأى فقال التحريم منصرف إلى الهوى وإلى التفسير الذى لا يستند على دليل ولا على بينة وهو مصيب فى ذلك لكن نسب إليه فى كتاب المعجزة الكبرى أنه يحرم تفسير القرآن بالرأى ولم يبين أى رأى يريد الإمام ابن تيمية عليه رحمة الله ثم علق عليه بما يبين أن الأمة خالفته فى هذا وهذا فى الحقيقة خلاف ما قرره نفس الشيخ كما قلت فى الكتاب الذى ترجم به لابن تيمية عليه رحمة الله.
الإمام ابن تيمية عليه رحمة الله له تفسير لقول الله جل وعلا فى سورة العنكبوت سديد سديد محكم رشيد مع أنه لم ينقل عن السلف الكرام {وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون}
ولذكر الله أكبر نقل عن السلف قولان فى بيان المراد من هذه الجملة المباركة ولذكر الله أكبر:
(20/8)
فجمهور السلف وعلى رأسهم ابن عباس رضي الله عنهم أجمعين ولذكر الله لنا أكبر من ذكرنا له لأن الله يذكر من يذكره وعندما نذكره هذا حسن وطيب وعمل عظيم أعظم من هذا عندما يذكرون الله فمن ذكر الله فى نفسه ذكره الله فى نفسه ومن ذكر الله فى ملأ ذكره الله فى ملأ خير منه ولذكر الله أكبر أى ذكر الله لنا أعظم من ذكرنا له وحقيقة الأمر كذلك.
وهناك قول آخر: منقول عن عدة من السلف ولذكر الله أكبر أى أكبر من كل شىء وأعظم من كل طاعة ولذلك سئل عدد من السلف رضوان الله عليهم أجمعين عن أفضل الطاعات فكانوا يتلون هذه الآية ولذكر الله أكبر ولا يفتر لسانك من ذكر ربك ولذكر الله اكبر والله يعلم ما تصنعون.
يقول الإمام ابن تيمية كما نقل عنه تلميذه فى التفسير القيم للإمام ابن القيم فى صفحة أربعمائة وأربعة عليهم جميعا رحمة الله يقول: ولذكر الله أكبر ونقل هذا المعنى الإمام ابن كثير أيضا فى تفسيره يقول الصلاة فيها فائدتان:
الفائدة الأولى: تنهى عن الفحشاء والمنكر كما قال الله إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وهذا مقصود من غيره وهناك شىء مقصود من ذاته فى الصلاة وهو أننا نذكر الله ونعظمه ونثنى عليه بما هو أهله سبحانه وتعالى ولذكر الله أكبر أى الفائدة التى يحصلها المصلى من الثناء على الله وتعظيمه لربه أعظم من كون الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر فأنت فى الصلاة تحصل فائدتين اثنتين.
الفائدة الأولى: تنهاك عن الفحشاء والمنكر والفائدة الثانية تعظم فيها ربك وتثنى عليه أى الفائدتين أعظم؟ هذه مقصودة لذاتها وهى الثناء على الله وعبادته وتعظيمه بما هو أهله وأما تلك مقصودة لغيرها فإذن هنا كون الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر هذا ليس من باب المقصود أصالة المقصود أصالة أننا نثنى على الله جل وعلا فى صلاتنا ونعظم.
(20/9)
فهذا التفسير الذى ذكره لا يتنافى مع نصوص الشرع ونصوص الشرع تشهد له الله شرع الصلاة لنعظمه فيها فلا يقال هذا تفسير بالرأى وهو حرام ومن قال فى القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار تفسير دل على اعتبار لنصوص الشرع القطعية ولا يخرج عن قواعد اللغة العربية.
فما فسر كلام الله جل وعلا بما لا يحتمله على حسب اللسان الذى نزل به بلسان عربى مبين، فاللغة العربية لا ترد هذا التفسير والنصوص الشرعية تشهد له فهو تفسير معتبر كونه لم ينقل لا حرج فى ذلك.
ولذكر الله أكبر الفائدة التى يحصلها المصلى فى صلاته بذكره لربه أعظم من الفائدة التى يحصلها من صلاته فى أن الصلاة تنهاه عن الفحشاء والمنكر.
إخوتى الكرام: وهذه نصوص بينة كما قلت عن هذا الإمام المبارك بأنه يجيز تفسير القرآن بالرأى على حسب الصفات والاعتبارات التى ذكرتها وأن ما نسب إليه أبو حيان غفر الله ورحمه فى البحر المحيط فى الجزء الأول فى الصفحة خمسة بأن الإمام ابن تيمية لا يرى تفسير القرآن بالرأى ويرى أن تفسير القرآن قاصر على السماع ولا يجوز فهم تركيب آيات القرآن إلا بالنقل عن مجاهد وعكرمة وعن أئمة السلف ثم قال وهذه مجازفة وهذا قول بعيد وهذا كلام ساقط نقول ما ثبت هذا الكلام عن هذا الإمام حتى حكمت عليه بعد ذلك بما حكمت نعم من قال إن تفسير القرآن بالرأى ممنوع ولا يجوز للإنسان أن يفسر كلام الله إلا بالنقل الثابت عن أئمة التابعين ومن سبقهم فقوله ساقط لكن هذا الكلام ما ثبت عن هذا الإمام عليهم جميعا رحمة الله
إخوتى الكرام: وصفوة القول التفسير بالرأى له حالتان وعلى كل حالة من حالتيه أجمع أئمة الإسلام.
تفسير بالرأى المحمود الجائز: الذى يوافق قواعد اللغة ونصوص الشرع ويدل عليه السياق فيشهد له السباق واللحاق فهذا جائز باتفاق وما أحد من أئمة الإسلام منع ذلك.
(20/10)
وتفسير بالرأى الذى لايستند إلى قواعد اللغة: ولا يشهد له نصوص الشرع عن طريق الرأى والهوى والظن والتخمين فهذا حرام وما أحد قال من أئمتنا بجواز هذا النوع من التفسير فمحل اتفاق بين علماء الإسلام وعليه لو قدر أن بعض العلماء قال التفسير بالرأى حرام نقول المراد من الرأى الهوى الذى لا يستند إلى قواعد اللغة ونصوص الشرع كتفسير الشيعة والصوفية والمبتدعة من معتزلة وغيرهم، {وجوه يومئذذ ناضرة إلى ربها ناظرة} إلى ثواب ربها منتظرة ولا يراه شىء من خلقه لما تتلاعبون بكلام الله.
أضاف الله النظر إلى الوجوه وعداه بإلى وإذا أضيف النظر إلى الوجه وعدى بإلى فلا يحتمل إلا النظر بالعينين {وجوه يومئذذ ناضرة إلى ربها ناظرة} لما منتظرة هى فى الجنة تنتظر ماذا تنتظر الثواب من ربه لهم ما يشاؤون فيها ولدينا مزيد متى قطع الثواب عنهم حتى تنتظر هذه الوجوه التى نضرت فى الجنة وابتهجت تنتظر الثواب من الله هل حرم عنها الثواب وقطع لهم {ما يشاؤون فيهل ولدينا مزيد} .
فإذن كلام ترده لغة العرب ونصوص الشرع تشهد ببطلانه فسنرى ربنا كما نرى القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب ولا غمام كما تواتر هذا عن نبينا عليه الصلاة والسلام.
فمن قال إلى ربها ناظرة إلى ثواب ربها منتظرة نقول هذا تفسير بالرأى بالهوى يخالف قواعد اللغة ونصوص الشرع والقائل به فليتبوأ مقعده من النار فأئمتنا متفقون على حكم التفسير بالرأى له حالتان.
? حالة التفسير فيها يكون محرما بالاتفاق.
? وحالة التفسير فيها يكون جائزا بالاتفاق.
وهذا كاختلاف أئمتنا فى تأويل المتشابه {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب} .
(20/11)
لفظ التأويل {وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون فى العلم} الراسخون يعلمون تأويل المتشابه وعليه الواو عاطفة {وما يعلم تأويله إلا الله والرسخون فى العلم} أو أن الواو هنا استئنافية والجملة بعد ذلك من مبتدأ وخبر والراسخون فى العلم يقولون آمنا به الراسخون مبتدأ والوقف لازم على لفظ الجلالة وما يعلم تأويله إلا الله.
نقل القولان عن سلفنا الكرام ومن العجيب أن القولين نقلا عن ابن عباس رضي الله عنهما فتارة قال الوقف لازما على لفظ الجلالة وتارة قال أنا ممن يعلم تأويل المتشابه وليس هذا بتناقض كما يبدو لبعض الناس كما قال الإمام ابن تيمية هناك نقلت عنهم أقوال فى تحرجهم فى تفسير القرآن بالرأى ونقلت عنهم أقوال فى تفسير القرآن بالرأى ولا منافاة كل واحدة لها حالة وهنا لا منافاة فإذا كان التأويل معناه الحقيقة التى يأول إليها الشىء فباتفاق علماء الإسلام المتقدمين والمتأخرين يجب الوقف على لفظ الجلالة وأن الراسخين فى العلم لا يعلمون حقيقة هذه الأمور وما يعلم تأويله إلا الله حقيقة بعد ذلك هذه الأمور المتشابهة كنهها كيفيتها ما يتعلق بصفات ربنا وما يتعلق بما يكون فى الآخرة من نعيم حقيقته كيفيته ماهيته {وما يعلم تأويله إلا الله} .
وإذا قلنا إن التأويل معناه التفسير الظاهرى فالعلماء يعلمون تأويل المتشابه كما يعلمه الله {وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون فى العلم} إذن والراسخون فى العلم الواو عاطفة على لفظ الجلالة ويكون قوله جل وعلا {يقولون آمنا به} حال حال من المعطوف والمعطوف عليه؟ من المعطوف {والراسخون فى العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب} كيف هنا جاء الحال من المعطوف وما عاد على المعطوف عليه؟ هذا له نظائر كثيرة فى كتاب الله جل وعلا: {وجاء ربك والملك صفا صفا} صفا صفا حال من الله جل وعلا أم من الملائكة؟ من الملائكة وجاء ربك والملائكة صفوفا صفوفا.
(20/12)
وقال جل وعلا فى سورة الحشر: {للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون * والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون * والذين جاؤوا من بعدهم يقولون} يقولون، يقولون حال من المعطوف أو من المعطوف عليه؟ من المهاجرين والأنصار من الذين جاؤوا بعدهم من غير المهاجرين والأنصار فحال من المعطوف لا من المعطوف عليه وهنا يكون الأمر كذلك وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون فى العلم وهم مع كونهم يعلمون تفسيره {يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب} فهذا إذن كحال العلم بتأويل المتشابه فمن قال إن المراد من المتشابه الحقيقة التى يأول إليها الشىء يأول إليها اللفظ فقال الراسخون فى العلم لا يعلمون تأويل المتشابه {هل ينظرون إلا تأويله} أى إلا وقوعه يوم يأتى تأويله وقوع يوم القيامة.
ومن قال إن المراد من التأويل التفسير {نبئنا بتأويله} بتفسيره قال إن الواو عاطفة وهنا كذلك من منع من علمائنا من التفسير بالرأى أراد به الرأى الذى لا يستند إلى نصوص الشرع وقواعد اللغة.
ومن قال من علمائنا إن التفسير بالرأى جائز أراد الرأى الذى هو رأى محمود يوافق قواعد اللغة ونصوص الشرع.
ومثل هذا ونظيره الحكم بما أنزل الله عدم الحكم بما أنزل الله ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون هم الظالمون هم الفاسقون قلت هنا اختلفت العبارات سابقة لاختلاف الاعتبارات فالذى يحكم بغير ما أنزل كافر ستر الحق وجحده ظالم تجاوز من الهدى إلى الردى والضلال فاسق خرج من الحق إلى الباطل.
(20/13)
اختلفت العبارات لاختلاف الاعتبارات ما نقل عن بعد سلفنا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون قال كفر دون كفر، لا يتعارض مع قولنا بأن الحكم بغير ما أنزل الله كفر يخرج من الملة فالحكم بغير ما أنزل الله له حالتان.
حالة: يجور القاضى فيها الحكم هو كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام ولا يوجد فى القضاء مصدر آخر لكنه جار وتقدم معنا القضاة ثلاثة قاضيان فى النار وقاض فى الجنة علم الحق وقضى بخلافه لأجل رشوة هذا كافر ليس بكافر إلا إذا استحل.
عندنا حاكم آخر نسف كتاب الله برجله قصم الله ظهره وظهور أمثاله ووضع قانونا وضعيا يحكم فى البلاد هذا الآن عندنا كفر دون كفر هذا أتى بشرع مبدل مغير طمس نور الله وحذفه وأتى بعد ذلك بقوانين وضعية يحكمها فى الرعية هذا لا شك فى كفره، الكفر الذى يقول عنه أئمتنا دون كفر أى يقصدون بأنه كفر عملى القاضى شيخ صالح ملم بالكتاب والسنة لكنه ليس بمعصوم حابى صديقه أو أخذ رشوة من بعض الناس فحكم بغير ما أنزل الله كقر دون كفر أما أنه نسف هذا الكتاب وأتى بقوانين وضعية من شرقية أو غربية والأمة الإسلامية الآن لا شرقية ولا غربية ولا مسلمة ولا كتابية ليس لهم شىء خارجين هم أذناب فقط لغيرهم.
حذف كتاب الله من الحياة وأتى بقوانين وضعية لتحكم فى رقاب العباد والله إن الذى يشك فى كفر هذا الحاكم ليس فى قلبه مثقال ذرة من إيمان فقول الله {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} كفر مخرج من الملة أو كفر دون كفر نقول لا منافاة لأن الذى يحكم بغير ما أنزل الله له حالتان.
أحيانا يجور على حسب الهوى وعلى حسب ضغوط الحياة وعلى حسب ما فى نفسه من تقصير وكل بنى آدم خطاء فيأخذ رشوة ويقضى بخلاف الحق فإذا ما استحل ذلك لم يكفر وإذا استحله كافر.
(20/14)
وتارة ينحى كلام الله جل وعلا ويقطع رقبة من يطالبه بالحكم بكتاب الله ويحكم بقوانين وضعية إن استحل هذا أو لم يستحل لاداعى الآن للبحث فى أمره لأنه فى الأصل لا يحكم بشريعة الله لا يوجد دستور يتحاكم إليه هو الشرع المطهر إنما الدستور الموجود دستور الشيطان {أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون} فلا خلاف بين أئمتنا فى هذه الأمور، وما نقل عنهم من أقوال فى ظاهرها تباين.
لابد كما قلت إخوتى الكرام: من أن نعرف مرادهم فكيف قالوا كفر دون كفر هذا لحالة معينة كفر يخرج من الملة لحالة معلومة العلماء يعلمون تأويل المتشابه على أن التأويل بمعنى التفسير لايعلمون تأويل المتشابه على أن التعويل بمعنى الحقيقة التى يأول إليها الشىء، التفسير بالرأى جائز التفسير بالرأى حرام لا تناقض بين هذه الأقوال لا بد من الجمع بينها لأننا إذا عرفنا مرادهم علمنا بعد ذلك المقصود والمراد من حكمهم ولا خلاف بين أئمتنا فى هذه المسألة.
(20/15)
إخوتى الكرام: للإمام الشاطبى عليه رحمة الله فى كتابه الموافقات فى آخر الجزء الثالث فى صفحة واحد وعشرين وأربعمائة كلام طيب يتعلق بتفسير القرآن بالرأى يقول: المسألة الرابعة عشرة إعمال الرأى فى فى القرآن جاء ذمه وجاء أيضا ما يقتضى إعماله وحسبك من ذلك ما نقل عن الصديق رضي الله عنه فإنه نقل عنه أنه قال وقد سئل فى شىء من القرآن أى سماء تظلنى وأى أرض تقلنى إن أنا قلت فى كتاب الله ما لا أعلم وبما روى فيه أنه قال إذا قلت فى كتاب الله برأيى فى ذلك اللفظ بما لا أعلم أو برأيى ثم سئل عن الكلالة المذكورة فى القرآن فقال أقول فيها برأيى وفى الطباعة عندكم إخوتى الكرام لا أقول فيها برأيى ولا مفسدة للكلام زائدة لا وجود لها أقول فيها برأيى وقد كنت ذكرت كلام أبى بكر رضي الله عنه سابقا أقول فيها برأيى فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمنى ومن الشيطان الكلالة كذا وكذا وتقدم معنى أن الكلالة قلنا هم الورثة الذين ليس فيهم أصل ولا فرع مأخوذة من تكاله إذا أحاط به وهو الإكليل وهؤلاء يحيطون الورثة قلنا بالميت من أطرافه والحواشى لا من الأصول ولا من الفروع وقلنا من الكلال بمعنى الإعياء فيرثون هم بأنهم حواشى لاأصول ولا فروع وهذا إرث سببه ضعيف ولذلك لو وجد أحد من الأصول والفروع لحجب الإخوة.
ويسألونك عن الكلالة هى ... انقطاع النسل لا محالة
لا ولد يبقى ولا مولود ... انقطع الأبناء والجدود
إذن هنا كيف أبو بكر رضي الله عنه قال أى أرض تقلنى أى سماء تظلنى إذا قلت فى كتاب الله برأيى ثم قال أقول فى الكلالة برأيى لا تعارض يقول فهذان قولان اقتضيا إعمال الرأى وتركه فى القرآن وهما لا يجتمعان والقول فيه أن الرأى ضربان.
أحدهما: جار على موافقة كلام العرب وموافقة الكتاب والسنة فهذا لا يمكن إهمال مثله لعالم بهما لأمور
(20/16)
أحدها: أن الكتاب لابد من القول فيه ببيان معنى واستنباط حكم وتفسير لفظ وفهم مراد ولن يأتى جميع ذلك كما تقدم معنا فى الأدلة التى تدل على جواز تفسير القرآن بالرأى فإما أن يتوقف دون ذلك فتتعطل الأحكام كلها أو أكثرها وذلك غير ممكن فلا بد من القول فيه بما يليق.
والثانى: أنه لو كان كذلك للزم أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم مبينا ذلك كله بالتوقيف فلا يكون لأحد فيه نظر ولا قول والمعلوم أنه عليه الصلاة والسلام لم يفعل ذلك فدل على أنه لم يكلف به على ذلك الوجه بل بين منه ما لايوصل إلى علمه إلا به وترك كثيرا مما يدركه أرباب الاجتهاد باجتهادهم فلم يلزم فى جميع تفسير القرآن التوقيف.
والثالث: أن الصحابة كانوا أولى بهذا الاحتياط من غيرهم وقد علم أنهم فسروا القرآن على ما فهموا ومن جهتهم بلغنا تفسير معناه والتوقيف ينافى هذا فاطلاق القول بالتوقيف والمنع من الرأى لا يصح.
والرابع: أن هذا الفرض لا يمكن لأن النظر فى القرآن من جهتين من جهة الأمور الشرعية فقد يسلم القول بالتوقيف فيه وترك الرأى والنظر جدلا ومن جهة المآخذ العربية وهذا لا يمكن فيه التوقيف وإلا لزم ذلك فى السلف الأولين، وهو باطل فالازم عنه مثله وبالجملة فهو أوضح من اطناب فيه وأما الرأى غير جارى على موافقة العربية أو الجارى على الأدلة الشرعية أو غير جارى على الأدلة الشرعية فهذا هو الرأى المذموم من غير إشكال كما كان مذموما فى القياس حسبما هو مذكور فى كتاب القياس لأنه تقول على الله بغير برهان فيرجع إلى الكذب على الله تعالى وفى هذا القسم جاء من التهديد بالقول بالرأى فى القرآن ما جاء ثم ختم هذا الجزء بقوله فصل فالذى يستفاد من هذا الموضع أشياء منها التحفظ من القول فى كتاب الله تعالى إلا على بينة فإن الناس فى العلم بالأدوات المحتاج إليها فى التفسير على ثلاث طبقات.
(20/17)
إحداها: من بلغ فى ذلك مبلغ الراسخين كالصحابة والتابعين ومن يليهم رضوان الله عليهم أجمعين وهؤلاء قالوا مع التوقى والتحفظ والهيبة والخوف من الهجوم فحن أولى بذلك منهم إن ظننا بأنفسنا أننا فى العلم والفهم مثلهم وهيهات وأف وتف وتبا وشقاء لمن يقول فى هذا العصر عندما يذكر سلفنا من الصحابة والتابعين هم رجال ونحن رجال نقول هيهات أن نصل إلى تلك الدرجة.
والحالة الثانية: من علم من نفسه أنه لم يبلغ مبالغهم ولا داناهم فهذا طرف لا إشكال في تحريم ذلك عليه.
والثالث: من شك فى بلوغه مبلغ أهل الاجتهاد أو ظن ذلك فى بعض علومه دون بعض فهذا أيضا داخل تحت حكم المنع من القول فيه لأن الأصل عدم العلم فعندما يبقى له شك أو تردد فى الدخول مدخل العلماء الراسخين فانسحاب الحكم الأول عليه باق بلا إشكال وكل أحد فقيه نفسه فى هذا المجال كما سأل بعض الإخوة الدرس الماضى ما هى الشروط التى ينبغى للإنسان والعدة التى تكون عنده ليفسر كلام الله وقلت الإنسان على نفسه بصيرة وربما تعدى بعض أصحاب هذه الطبقة طوره فحسن ظنه بنفسه ودخل فى الكلام فيه مع الراسخين ومن هنا افترقت الفرق وتباينت النحل وظهر فى تفسير القرآن الخلل.
وصفوة الكلام إخوتى الكرام: لتفسير القرآن طريقان طريق مأثور منقول وطريق عن طريق تفسير القرآن بالرأى المبرور وهو مقبول فكل منهما يكمل الآخر ثم بعد ذلك إذا كانت عندك العدة وأهلية البحث والاجتهاد فتستنبط من الآيات ما يلوح لك من حكم وأحكام فلا حجر ولا حظر.
قال الإمام ابن تيمية عليه رحمة الله فى القاعدة التى جمعها فى أصول التفسير يقول الطريق لتفسير القرآن طريقان.
إما نقل مصدق أى يصدق تفسيره وتعول عليه وإما استدلال محقق تحقق به ما تقول
(20/18)
أما النقل فإما أن يكون عن المعصوم عليه صلوات الله وسلامه وإما أن يكون عن غيره فإن كان عن المعصوم أخذ بالصحيح الثابت عنه وطرح ما سواه وإن كان النقل عن غيره وهذا يلخص لنا ما تقدم معنا فى طرق التفسير وإن كان النقل عن غيره فإما أن يكون عن الصحابة فإذا ثبت التفسير عنهم فالنفس تميل إلى قبول ذلك وتسكن إليه وإما أن يكون عن التابعين فإذا نقل التفسير عنهم وثبت فالنفس تسكن لقبوله أقل من سكونها لتفسير الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين وأما أخبار أهل الكتاب مما ليس فى أيدينا ما يشهد بصدقها أو كذبها فعامة ذلك لا فائدة منه فالأولى عدم الاشتغال به هذا النقل عن غير المعصوم والنقل الأول عن المعصوم عليه صلوات الله وسلامه وأما الاستدلال المحقق فالخطأ يقع فيه من جهتين أن يكون عند المفسر المستدل اعتقاد وعنده ميل إلى معنى من المعانى فيحمل القرآن على هذا المعنى فتارة يكذب ما دل القرآن عليه وتارة يحمل القرآن ما لا يدل عليه وهو فى الحالتين إما أن يقصد حقا أو باطلا فإن قصد باطلا أخطأ فى الدليل والمدلول كما تقدم معنا فى تفسير الشيعة ويوم يعض الظالم على يديه أبو بكر يقول يا ليتنى اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتى ليتنى لم أتخذ فلانا خليلا عمر لقد أضلنى عن الذكر بعد إن جاءنى على أخطأوا فى الدليل والمدلول قصدوا باطلا واستدلوا بما لا دلالة فيه على هذا، وإما أن يخطأوا فى الدليل لا فى المدلول هم يريدون حقا لكن استدلوا بما لا يدل عليه اذهب إلى فرعون إنه طغى إلى نفسك.
(20/19)
قاتلوا الذين يلونكم من الكفار أنفسكم لا بد من جهاد النفس لكن الاستدلال بهذه الآيات خطأ فى الدليل، فإذا قصدوا باطلا أخطأوا فى الدليل والمدلول وإذا قصدوا حقا أخطأوا فى الدليل والمدلول صحيح لم يخطأوا فيه فنصوص الشرع تدل على ما ذكر لكن هذا النص لا يدل على ذلك فحملوه ما لا يحتمل وكما تقدم معنا فى تفسير قول الله {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} تقدم معنا مثل هذا فإذن إما أن يخطأوا فى الدليل والمدلول وإما أن يخطأوا فى الدليل لا فى المدلول
إخوتى الكرام إذا علمنا ما تقدم عندنا تنبيه نختم به الكلام على هذه المقدمة ثم نشرع بعد ذلك فى تفسير سورة من كلام ربنا جل وعلا.
إذا علمنا أن التفسير بالرأى بالصفات والاعتبارات والشروط المتقدمة متفق على جوازه فما ينبغى أن يحصل عندنا شىء من التوقف فيما نقل عن بعض العلماء من التفرقة بين التفسير والتأويل بأن التفسير ينصرف إلى حالة معينة والتأويل ينصرف إلى حالة معينة فذلك اصطلاح بهم يقول الإمام البغوى عليه رحمة الله وهو متوفى سنة ست عشرة وخمسمائة عليه رحمة الله وسليمان الجمل فى حاشيته على الجلالين توفى سنة ألف ومائتين وأربعة للهجرة وبينهما الإمام الزركشى فى البرهان متوفى سنة أربع وتسعين وسبعمائة يقول هؤلاء الأئمة:
? التفسير تعيين معنى اللفظ بواسطة قرآن أو سنة أو أثر أى من كلام منقول عن الصحابة والتابعين.
? وأما التأويل فهو ترجيح أحد المحتملات بلا قطع وقالوا التأويل صرف الآية إلى معنى محتمل يوافق ما قبلها وما بعدها ولا يخالف الكتاب والسنة عن طريق الاستنباط.
(20/20)
فما قالوه من التفرقة بين التفسير والتأويل هذا اصطلاح لهم إذا قلنا تفسير بالرأى هم يقولون لا لا يجوز أن نطلق عليه تفسيرا التفسير تعيين معنى اللفظ بواسطة سنة أو كتاب أو أثر وإذا فسرنا القرآن عن غير هذه الطريقة فنقول لهذا إنه تأويل نقول هذا اصطلاح لكم لكن صنيع جمهور العلماء أن التفسير والتأويل بمعنى واحد وهذا الذى مشى عليه شيخ المفسرين الإمام ابن جرير عليه رحمة الله فى تفسير جامع بيان القرآن جامع البيان فى تفسير القرآن وهذا الذى نقله الإمام ابن الجوزى فى زاد المسير فى الجزء الأول صفحة أربعة عن الجمهور فقال التفسير والتأويل بمعنى واحد وقال الشيخ محمد الطاهر عاشور فى كتابه التفسير والتحريف فى الجزء الأول صفحة إحدى عشرة اللغة والآثار تشهد أنهما بمعنى واحد لأن التأويل مصدر أوله يأوله تأويلا وهو أرجعه إلى معناه إلى الغاية التى يعود إليها إلى المعنى الحقيقى له، والتفسير من الفسر وهو الكشف والبيان وهذا هو بمعنى التأويل فكل تفسير تأويل وكل تأويل تفسير فالتاويل والتفسير بمعنى واحد وأما اصطلاح بعض العلماء على أن التفسير خاص بالرواية بتفسير القرآن بالقرآن أو السنة أو الأثر وأما التأويل فهذا خاص بالدراية عن طريق إعمال الرأى والاستنباط هذا اصطلاح لأولئك الأئمة والعلماء ولا مشاحة فى الاصطلاح كما يقول أئمتنا عليهم رحمات ربنا.
إخوتى الكرام: بعد هذه المقدمة التى أخذت منا بعض الدروس فى بيان منزلة كلام الله جل وعلا وأثره فى بنى الناس وبيان الطرق المحكمة لتفسير كلام الله جل وعلا نعود لنشرع فى تفسير سورة من السور وقد استشرت عددا من الإخوة فى اختيار سورة نبدأ بها تكفينا لنهاية هذه السنة ثم إن أحيانا الله بعد ذلك لسنوات أخرى نأخذ سورة أخرى وأشار على عدد من الإخوة بعدد من السور كل واحد يشير إلى سورة إلى أن اخترت سورة من السور سبب اختيارى لها ثلاثة أمور.
(20/21)
أولها: علم الله ما قرأته فى الأسبوع الماضى فى الجزء الذى فيه ترجمة الإمام أحمد عليه رحمة الله فى سير أعلام النبلاء وهو الجزء الحادى عشر كنت أقرأ فى ترجمة إمام أهل السنة والجماعة وشيخهم بلا نزاع فلفت نظرى ترجمة بعض علماء هذه الأمة اطلق عليه بأنه لقمان هذه الأمة فقلت لعل فى ذلك إشارة إلى نبدأ بتفسير سورة لقمان وهذا العبد الصالح الذى قيل أنه لقمان هذه الأمة وهذا الأسم يفشو ويسمى به كثير من العجم فى هذه الأيام أما العرب فقد أهملوه ما رأيت عربيا يسمى ولده بلقمان ولا سمعت لما وقفت أما العجم فكانوا بكثرة كان عدد من الإخوة الطلاب من بلاد ساحل العاج فى كلية الشريعة فى أبها اسمه لقمان وهكذا من الصومال لقمان يسمون أنفسهم بهذا فالتسمية بهذا الإسم المبارك سبقونا إليه فهذا الإسم الذى مر معى فى سير أعلام النبلاء فى لقب عالم من علماء هذه الأمة نعت بلقمان وهو حاتم الأصم توفى سنة سبع وثلاثين ومائتين للهجرة وسمى بالأصم لا لصمم وثقل فى أذنيه تتلى عليه آياتنا ولى كأن لم يسمعها كأن فى وقرا فى سورة لقمان التى سنتدارسها {وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن فى أذنيه وقرا} أى ثقلا {وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا} فالصمم ليس فى أذنيه خلقة لا إنما نعت بذلك لصفة جليلة فيه ولا غرو فى ذلك فهو لقمان هذه الأمة والحكمة وضع الشىء فى مواضعها جاءت امرأة تستفتيه عن بعض أمورها وهى جالسة عنده تستفتيه أحدثت وخرج صوت من تحت ثيابها وحقيقة الموقف فى غاية الإحراج امرأة أمام رجل تستفتيه فخرج منها هذا الأمر بغير قصد ولا شعور فقال ماذا تقولين قالت أسألك عن كذا قال ارفعى صوتك فلا أسمع فرفعت فقال لا أسمع حتى رفعت صوتها بحيث ارتجت الغرفة فعلمت أنه لم يشعر بها فما انكسر خاطرها هذا لقمان هذه الأمة وضع الشىء فى موضعه لقمان هذه الأمة حاتم الأصم لا لصمم فى أذنيه إنما هو أظهر
(20/22)
لها الصمم لئلا تحرج مما جرى منها بدون قصد رحم الله علماء سلفنا الأبرار.
حاتم الأصم نعته الذهبى فى سير أعلام النبلاء لما رأيت هذه النعت هذا اللقب له لقمان هذه الأمة يقول هو الإمام الزاهد القدوة الربانى إذا كنا سنتدارس السورة التى تسمى باسم هذا الإنسان وباسم حكيم فى الزمن القديم وهو لقمان فلنعرف شيئا من حكمة لقمان هذه الأمة لنتتقل بعد ذلك إلى حكمة لقمان الأمم السابقة زاهد قدوة ربانى قال له الإمام أحمد سائلا مسترشدا وناهيك بذلك منقبة لحاتم الأصم كيف الخلاص من الناس وتوفى قبل الإمام أحمد بأربع سنين وأما الإمام أحمد عليه رحمة الله توفى سنة واحد وأربعين ومائتين وهذا قلنا سنة سبع وثلاثين ومائتين قال كيف الخلاص من الناس قال بثلاثة أمور ولا أراك تسلم منهم، تعطيهم مالك فلا تأخذ من مالهم شيئا أنت ساعدهم وأحسن إليهم وإياك أن تطلب الإحسان من أحد، تقضى حقوقهم ولا تستقضى من أحد منهم حقا لك الحقوق التى للناس اقضيها وقم بها على أتم ما يكون ولا تستقضى من أحد حقا ولا تطلب منه قضاء حاجة، تتحمل مكرهم وضرهم وأذاهم ولا تقابلهم بشىء من ذلك فإذا آذوك حملوك مكروها تتحمل فأما أنت فلا تقابلهم بشىء من ذلك ولا أراك تسلم إذا قمت هذا نحو الناس لا أراك تسلم.
وحقيقة هذا من الحكم من الحكم التى أنطق الله بها هذا الإنسان فأعطهم ولا تأخذ واقض حقوقهم ولا تطلب منهم قضاء حقك آذوك لا تقابلهم بالمثل مع ذلك تسلم لا أراك تسلم، وكان يقول اصحب الناس كما تصحب النار انتفع منها واحذر ضررها وهكذا الناس.
لاتشتغل بالعتب يوما للورى ... فيضيع وقتك والزمان قصير
وعلام تعتبهم وأنت مصدق ... إن الأمور جرى بها المقدور
هم لم يوفوا للإله بحق ... أتريد توفية وأنت حقير
فاشهد حقوقهم عليك وقم بها ... واستوف منك لهم وأنت صبور
(20/23)
فالإمام أحمد عليه رحمة الله يسأل هذا العبد الصالح الذى لقب ونعت بلقمان عن كيفية الخلاص من الناس أرشده إلى هذه الأمور الثلاثة ثم قال له ولا أراك تسلم
وقال له مرة رجل عظنى فقال إذا أردت أن تعصى الله فاعصه فى مكان لا يراك وهذا لا يمكن أن يكون وعليه احذر معصية الحى القيوم هذا المعنى الذى يشير إليه هذا العبد الصالح كما يقول شيخنا عليه رحمة الله فى أضواء البيان هو أعظم زاجر وأبلغ رادع نزل من السماء إلى الأرض ولا تقلب ورقة من ورقات المصحف إلا وترى هذا المعنى فيه لأن الله يعلم سرنا ونجوانا وهو معنا أينما كنا {ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور} .
هذا المعنى لا تخلو منه صفحة من صفحات القرآن إذا أردت ان تعصى الله فاعصه فى مكان لا يراك.
وكان يقول هذا العبد الصالح إذا جلس إلى واحد منا صاحب خبر أى ينقل الأخبار نحترز يقول وخبرك وكلامك يعرض على الله أفلا تحترز قال الإمام الذهبى معلقا على هذا هكذا كانت إشارات القوم ونكتهم لا كما أحدث المتأخرون أى ممن ينتمون إلى التنسك والعبادة والزهد والتقشف من المحو ومن الفناء ومن ومن بحيث أداهم بعد ذلك إلى القول بالحلول أو اتحاد الخالق مع المخلوق.
(20/24)
أحدنا إذا جلس إليه صاحب ينقل الخبر يحترز فكلامك يعرض على الله جل وعلا أفلا تحترز إذا قيل لك هذا من المخابرات جلس إليك وسينقل الكلام ومعه شريط تسجيل فى تلك الجلسة لا أقول أنك تداهن لكن تحترز بعض الشىء تقول لا داعى أن أعطيه ممسكا على أرج هذا لجلسة أخرى فإذا أنت بين يدى الله ولا تخفى عليه منك خافية فاحترز يا عبد الله يا عبد الله احترز واتق ربك جل وعلا فهو معك أينما كنت لا تخفى عليه خافية من أمرك وكان يقول تعاهد نفسك عند ثلاث إذا عملت فاعلم أن الله يراك وإذا تكلمت فاعلم أن الله يسمعك وإذا سكت فاعلم أن الله جل وعلا يعلم ما فى قلبك فى حال عملك أو نطقك أو سكوتك راقب هذه الأمور.
وكان يقول وهذا من الحكم التى تخرج من مشكاة اتباعه لنبوة نبينا عليه الصلاة والسلام العجلة من الشيطان إلا فى خمس إطعام الضيف {فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين} لا تقل العجلة ولا داعى لأن نقدم ضيافة بحيث يجلس عندك ساعة وينصرف وما شربوا ماء وإذا أراد الانصراف تقول نضيفك لا فراغ والروغان ذهاب بسرعة مع خفية بحيث لا يشعر الضيف إلا وقد حصل أمامه الضيافة مما قسم الله وقدر إطعام الضيف.
والتوبة من الذنب وتجهيز الميت وتزويج البكر وقضاء الدين.
(20/25)
العجلة من الشيطان إلا فى خمس وهذا مأخوذ من كلام نبينا عليه الصلاة والسلام، ثبت فى مستدرك الحاكم بسند صحيح على شرط الشيخين أقره عليه الذهبى فى الجزء الأول صفحة ثلاث وستين عن سعد ابن أبى وقاص رضي الله عنه والحديث رواه أبو داود فى سننه رواه البيهقى فى شعب الإيمان عن سعد رضي الله عنه وأرضاه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال التؤدة من الله إلا فى عمل الآخرة التؤدة أى التأنى والتمهل التؤدة من الله إلا فى عمل الآخرة التؤدة تمهل وعدم العجلة التؤدة من الله إلا فى عمل الآخرة أى فى القربات فهذه سارع فيها كما قال الله {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم} وأما ماعدا ذلك {فامشوا فى مناكبها وكلوا من رزقه} التؤدة من الله إلا فى عمل الآخرة.
وورد فى سنن الترمذى وقال إنه غريب وما أرى إسناده بمتصل عن على رضي الله عنه ومعناه يشهد له حديث سعد أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لعلى [يا على ثلاثة لا تؤخر الصلاة إذا آنت أى حضرت والجنازة إذا حضرت والأيم إذا وجدت لها كفئا] وعليه العجلة من الشيطان هذا فى غير طاعة الرحمن وأما فى طاعة الله فعجل وسارع {إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين} وهذا لفظ حديث أيضا قال عنه الترمذى غريب عن سهل ابن سعد [العجلة من الشيطان] وقلنا هذا فى غير طاعة الرحمن جل وعلا ففى طاعة الله سارع وعجل ما استطعت، هذا العبد الصالح نعت بلقمان هذه الأمة ولذلك هذا أحد أسباب ثلاثة دعتنى إلى البدء بتفسير سورة لقمان.
(20/26)
إخوتى الكرام: عندنا عبد صالح آخر فى هذه الأمة نعت بحكيم هذه الأمة لا بلفظ لقمان بلفظ الحكمة وقيل له إنه ممثل هذه الأمة حكيم هذه الأمة ممثل هذه الأمة نعته بذلك كعب الأحبار كما ثبت هذا فى الحلية وتاريخ دمشق لابن عساكر بسند صحيح والأثر منقول فى سير أعلام النبلاء ذاك العبد الثانى الصالح الذى نعت بحكيم هذه الأمة وبممثل هذه الأمة هو أبو مسلم الخولانى الذى توفى سنة اثنتين وستين وبعد معاوية رضي الله عنهم أجمعين بسنتين وقيل توفى قبل الستين أى قبل معاوية رضي الله عنهم أجمعين سنة اثنتين وستين للهجرة قال عنه الذهبى فى سير أعلام النبلاء سيد التابعين وزاهد العصر وشيخنا عليه رحمة الله فى أضواء البيان فى الجزء الرابع صفحة خمسة عند تفسير قول الله {فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار} أطلق هذا اللقب على عون ابن عبد الله فرجعت إلى ترجمة عون ابن عبد الله فما رأيت أحدا نعته بهذا النعت إنما نعت حكيم هذه الأمة أطلق على أبى مسلم الخولانى ونعت لقمان أطلق على حاتم الأصم أبو مسلم الخولانى أسلم فى حياة النبى عليه الصلاة والسلام فى اليمن ولم ير النبى عليه الصلاة والسلام وأخذه الأسود العنسى الذى ادعى النبوة وأحرقه بالنار وقبل أن يحرقه قال أتشهد أن محمدا رسول الله عليه الصلاة والسلام قال نعم قال أتشهد أنى رسول الله قال لاأسمع فأوقد نارا عظيمة وألقاه فيها فجعلها الله عليه بردا وسلاما ثم قال له قومه إذا بقى هذا فى اليمن سيفتن عنك أصحابك فنفاه من اليمن فجاء إلى المدينة المنورة فى خلافة أبى بكر بعد موت النبى عليه الصلاة والسلام فعمر الذى هو سيد المحدثين فى هذه الأمة كما ثبت فى الصحيحين بشهادة نبينا عليه الصلاة والسلام قد كان فى الأمم قبلكم محدثون من غير أن يكونوا أنبياء فإن يكن فى أمتى أحد منهم فعمر رآه عمر لما دخل المسجد ورأى فى وجهه أثر النور فجاء إليه وقال من أين الرجل قال من اليمن قال أتعرف عبد الله ابن ثوب وهو
(20/27)
اسم أبو مسلم الخولانى قال وماذا تريد منه قال أسألك عنه قال أنا هو فقام عمر رضي الله عنه وعانقه وأخذه إلى أبى بكر وأجلسه بينه وبين أبى بكر وبدئا يبكيان وقال عمر الحمد لله الذى لم يمتنى حتى أرانى فى هذه الأمة رجلا يشبه خليل الرحمن إبراهيم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه أى كيف ألقى فى النار وجعلها الله عليه بردا وسلاما.
وهكذا هذا العبد الصالح حكيم هذه الأمة أبو مسلم الخولانى الذى توفى سنة اثنتين وستين على أبعد تقدير نعت أيضا بأنه حكيم هذه الأمة هذا الأمر الأول إخوتى الكرام الذى دعانى لاختيار تفسير سورة لقمان.
أما الأمر الثانى: فهو فى الحقيقة ليس وليد هذه الأسبوع وليس قريب حديث إنما معانى تدور فى نفس الإنسان فى معنى الحكمة والحكمة ضيعت من زمن ولا أسفه ولا أحمق ولا أغبى من العصر الذى نعيش فيه وما أظن أنه مر على هذه الدنيا حواكم ركب الناس فيها رؤوسهم وهم يحسبون أنهم على خير كالحياة التى نعيش فيها بلاء وانحراف وشطط وكفر خيم فى أرجاء المعمورة ومع ذلك يراد منا أن نقول إننا فى صحوة ووعى والأمة كلمتها ظاهرة ودين الله جل وعلا قوى ويتحاكم إليه وقد نبذه الناس وراء ظهورهم وظهر الكفر البواح فى أرجاء المعمورة.
الحكمة تتلخص فى أنها وضع الشىء فى موضعه فلا بد إذن من أن نتعرف على هذه السورة التى عالجت هذه الحكمة وبينت معناها لنرى واقعنا هل يسير على حكمة أو على سفاهة وعته؟
إخوتى الكرام: الحكمة كما قلت وضع الشىء فى موضعه وهذا العبد ينبغى أن يضع نفسه موضعها فهوعبد لرب فله إله جل وعلا خلقه وأوجده فينبغى أن تكون بين هذا العبد وبين ذلك الرب صلة قائمة على دينونة هذا العبد لربه جل وعلا، وهذا هو رأس الحكمة {ولقد آتينا لقمان الحكمة إن اشكر لله ومن يشكر فأنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غنى حميد} .
(20/28)
أعرض الناس عن دين الله فى هذا الوقت فالأخلاق ضاعت لضياع الدين لأن الأخلاق بلا دين لا يمكن أن تثبت ولا أن تحصل ولا أن توجد والأمة بلا أخلاق حياتها حياة غابة لا رباط بينهم وبين ربهم ولا صلة بينهم وبين بعضهم وهذا هو حالنا إذا وجد الدين فى الناس وجد عندهم خلق ووجد عندهم حياء من ربهم فرأس الحكمة مخافة الله ومخافة الله لا تحصل إلا إذا تدين الإنسان تدينا صحيحا فأفرد الله بالعبادة حسبما جاء به نبيه صلى الله عليه وسلم.
إخوتى الكرام: حالنا مرير مرير وإذا كان الإمام أحمد عليه رحمة الله يقول فى القرن الثالث إذا رأيتم شيئا مستقيما فتعجبوا فما أعلم ماذا يقول لو أدرك حالنا إذا رأيتم شيئا مستقيما فى القرن الثالث فتعحبوا والله إن الأصل فينا الكذب والخيانة والاعوجاج وإظهار خلاف ما نبطن والاحتيال والنكر والخديعة ولا ينجو من هذا إلا من رحم ربك وقليل ما هم.
(20/29)
إذا رأيت شيئا مستقيما فتعجب قال مرة بعض الآباء لابنه إبغينى ايتنى بقثاءة مستقيمة القثاء معروف من فصيلة الخيار قثاء تؤكل والقثاء قل أن تحصل واحدة مستقيمة لابد من وجود التواء فيها وأحيانا تكون ملتوية كالدائرة تماما طرفاها يجتمعان والوسط فارغ فذهب الولد يبحث فى بستان القثاء حتى وجد واحدة فيها شىء من الاستواء ولا التواء فيها فقال لوالده هذه قثاءة مستقيمة قال يا ولدى هذه معوجة قال لا يوجد فى البستان من هى مستوية أكثر من هذه قال أنا آتيك بقثاءة مستوية مستقيمة فذهب وأتاه بقثاءة منحنية كالحية عندما تلف على نفسها قال هذه مستقيمة قال سبحان الله هذه فيها ميل يسير تقول منحرفة وهذه مدورة تقول مستقيمة قال يا ولدى الأصل فى القثاء الاعوجاج فالاعوجاج فيه مستقيم والمستقيم فيه معوج والأصل فى حالنا كذلك وتعارف القوم الذين عرفتهم بالمنكرات فعطل الإنكار أستغفر الله وتعارف القوم الذين عرفتهم بالمنكرات فأنكر الإنكار ليس عطل إذا أنكرت منكرا ينكر عليك إنكارك ليس التعطيل التعطيل لإنكار هذا ذهب من فترة إنما صار إنكار على المنكر ينكر المنكر فينكر عليه وتعارف القوم الذين عرفتهم بالمنكرات فأنكر الإنكار.
إخوتى الكرام: زمن وضعت فيه الأمور فى غير مواضعها الرجال تخنثوا النساء ترجلوا امرأة تترجل رجل يتخنث أيها الرجل ابقى رجلا يقول لا لازم أغير خلقتى التى خلقنى الله عليها أتخنث فى حلق اللحية وجر الثوب يا أمة الله أنت أنثى حافظى على الأنوثة تقول لازم أترجل الحكمة وضع الشىء فى موضعه الرجل أمر بتقصير ثوبه وأزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه يجر تحت كعبيه.
المرأة أمرت أن تجر ترفع فوق الركبة أمرت أن تسدل شعرها تستأصله أمر أن يعفى شعر لحيته يستأصله.
الرجل يتخنث والمرأة تترجل هذه حكمة وضع الشىء فى غير موضعه.
(20/30)
الظلم والغصب كان معنا من أيام مبحث الغصب فى أبواب الفقه قلت لهم إخوتى الكرام ما أعلم بقعة على وجه الأرض سلمت من الغصب والغصب كان سابقا بحالة فردية لكنه صار الآن بحالة نظامية.
المكث الضرائب لا يتحرك الإنسان إلا ويدفع ضريبة على جواز سفره على إقامته على تسجيل عقاره على تسجيل ولده على تسجيل نكاحه حتى لو أراد أن يقدم دعوة للمحكمة الشرعية لا بد أن يدفع عليها مكثا وضريبة باسم الرسوم.
قد أفسدوا فى الأرض باسم ... صلاحها إذ بدلوا أحكامه بنظام
وكنا نتدارس أحكام الموات وأنه يحق لأهل الذمة فضلا عن المسلمين ان يحيوا الموات فى مذهب الحنابلة ومذهب الإمام أبى حنيفة وهذا المعتمد من حيث الدليل [فمن أحيا أرضا ميتة فهى له] الأرض التى ليست مختصة بالعامر ولا يملكها معصوم للذمى يملك الحق أن يحيها دون إذن الإمام عند الجمهور هذا متى عندما كان الناس ينتمون إلى الإسلام ولا رابطة بينهم إلا لا إله إلا الله محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام وأما الآن فلا يسمح للمسلم بدخول البلدة الإسلامية وإذا سمح فيحدد له الإقامة وإذا أراد أن يتملك تضرب رقبته فكيف سيحيى مواتا فى بلاد الإسلام.
قلت كان بحث إحياء الموات موجودا عند الأمة الإسلامية عندما كان يوجد أحياء لكن الأمة ماتت ,ماتت فى الحكم لا فى الواقع ولو ماتت فى الواقع لكان أسلم لها وأخف عاقبة, لو أراد أجنبى أن يحيى مواتا فى بلاد الإسلام وهو مسلم لكن على تعريف تلك البلاد أجنبى متى كان المسلم أجنياعن بلاد الإسلام؟ والله يقول {إنما المؤمنون إخوة} ومن صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذى له ذمة الله وذمة رسوله فلا تخفروا الله فى ذمته هذه حكمة.
(20/31)
كنت اسافر فأنزل فى صالة المطار المسلم الموحد يعذب بحيث هو آخر من يخرج من المطار إلى البلدة عندما يأتى إلى تلك البلدة وهو آخر من يخرج من المطار من ذلك المطار إلى الطائرة عندما يريد أن يسافر ثم أسرح نظرى إلى هؤلاء الكفرة الذين هم كالأنعام بل هم أضل سبيلا صالات خاصة لا تفتش أمتعتهم معنا لئلا يجدون شيئا من نتنا هؤلاء لهم ميزة علينا صلات لا يفتح الوحد منهم شنطة وتؤخذ لهم التحيات وهؤلاء سادة البلاد وهم قدوة مثلى للناس وأما المسلم الذى على رأسه عمة وفى وجهه لحية هذا احترس منه وانظر إليه وراقبه بما استطعت من أسلحة هذه حكمة.
أمة إسلامية تعامل المسلمين بهذه الحالة وأمام الكفرة تطأطأ رؤوسها هذه حكمة.
فلابد من أن نقف عند الحكمة بعض الوقفات.
إخوتى الكرام: مع هذه الحالة التى نحن فيها يأتى الكاتب الضال المضل خالد محمد خالد ليتكلم على الشباب الذين يطالبون بإعادة حكم الله فى أرض الله بين عباد الله فيقول يوجد إيه من خصال الجاهلية فى هذه الحياة ماذا يوجد من خصال الجاهلية الناس يخرون لله ركعا وسجدا وكونه يوجد سفور وزنا هذا وجد فى زمن النبى عليه الصلاة والسلام ثم يقول هذا الضال المجرم الذى أثنى على لينين بكلام يندى له الجبين ولا يستطيع أن ينطق به مسلم يقول هذا فى جريدة الوفد يقول قد يعترضون بأن بعض الأحكام كالحدود وغيرها لا توجد فى القوانين فنقول لهم إن القوانين وإن أهملت بعض الأحكام فهى أيضا إسلامية كيف هذا والله قال كلاما لو قلنا لإبليس ترضاه لقال لا ولو عرضناه على الحمار الذى يقول الله عنه فى سورة لقمان {إن أنكر الأصوات لصوت الحمير} تقر هذا الكلام لرفع صوته وقال لا لا لا كيف هذه القوانين إسلامية قال لأنها تمشى مع روح الشريعة.
ما هى روح الشريعة فى تعطيل الحدود وإباحة العهر والزنا والسفور والبنوك الربوية قال روح الشريعة المصلحة.
(20/32)
فالشريعة جاءت لرعاية مصالح العباد والقوانين الوضعية وإن ألغت نصوصا جزئية فقد أخذت بروح الشريعة فهى إسلامية فى حال إلغائها لكلام خير البرية عليه الصلاة والسلام كفر يستحى منه الشيطان ولا ينزل الحمار إلى هذا المستوى مع هذا الضلال يقال هذا الكلام ثم عندما نقول يا عباد الله الأمة وصل الأمر بها إلى هذا الأمر يقولون لا تتشائم الصحوة قائمة والأمة فى يقظة وفى وعى وفى وفى ... لهذا السبب الثانى أردت أن أبدأ بسورة لقمان لنضع أيدينا على الحكمة وهل نحن نسير على حكمة أو على سفاهة؟
أما السبب الثالث فهو فى الحقيقة جدير بالاعتبار جدا وهى أن هذه السورة مكية فلا بد من البحث فى طبيعة القرآن المكى وسأتكلم على طبيعة القرآن المكى وكيف كان النبى عليه الصلاة والسلام يقرر تلك الطبيعة ثلاث عشرة سنة فى قلوب العباد حتى آتت بعد ذلك هذه القلوب ثمارها فكانوا خير أمة أخرجت للناس نتكلم على الأمر الثالث وندخل فى تفسير السورة فى أول الدرس الآتى إن شاء الله وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليما كثيرا، والحمد لله رب العالمين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(20/33)
مقدمة التفسير (7)
(دروس تفسير)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة التفسير 7
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا.
الحمد لله رب العالمين شرع لنا دينا قويما وهدانا صراطا مستقيما وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة وهو اللطيف الخبير.
اللهم لك الحمد كله ولك الملك كله وبيدك الخير كله وإليك يرجع الأمر كله أنت رب الطيبين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك ولى الصالحين وخالق الخلق أجمعين ورازقهم فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين.
{ياأيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون} [الأنعام/102] .
وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله أرسله الله رحمة للعالمين فشرح به الصدور وأنار به العقول وفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبيا عن أمته ورضى الله عن أصحابه الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
{يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا} [النساء/1] .
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون}
[آل عمران/102] .
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا صلى الله عليه وسلم * يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما} [الأحزاب/70-71] .
أما بعد: معشر الإخوة الكرام..
انتهينا من دراسة المقدمة لتفسير كلام الله جل وعلا والمقدمة دارت على أمرين اثنين:
? على منزلة كلام الله جل وعلا وأثره فى قلوب العباد.
(21/1)
وعلى بيان الطرق الحكيمة فى تفسير الآيات القيمة الكريمة.
وهذان الأمران أخذ معنا مدارستهما سبعة دروس متتالية ونبدأ الآن فى تفسير سورة لقمان التى وقع الاختيار على البدء بها وقلت إن الذى دعانى للكلام عليها دون غيرها ثلاثة أمور.
أولها: ما كنت أشرت إليه سابقا فى الدرس الماضى وهو أمر قريب قريب أننى كنت أتصفح سير أعلام النبلاء فى الجزء الحادى عشر فى الجزء الذى فيه ترجمة إمام أهل السنة والجماعة الإمام أحمد رحمه الله ونضر وجهه ونور قبره وقع نظرى على ترجمة عبد صالح وهو حاتم الأصم نعت بأنه لقمان هذه الأمة فقلت لعله فى ذلك إشارة إلى أن نبدأ بتفسير هذه السورة قبل غيرها وتقدم معنا شىء من الإشارة إلى أحوال هذا العبد الصالح الذى لقب بلقمان هذه الأمة المحمدية على نبينا صلوات الله وسلامه كما وجد لقمان فى الأمم الماضية هذه الأمة نعت عبد صالح بهذا التعت ووجدت فيه الحكمة كما وجد فى ذلك العبد الصالح وتقدم معنا أنه توفى سنة سبع وثلاثين ومائتين للهجرة عليه رحمة الله.
قلت وقد نعت فى هذه الأمة عبد آخر صالح مبارك بأنه حكيم هذه الأمة وهو أبو مسلم الخولانى عبد الله ابن ثوب وتوفى سنة اثنتين وستين على المعتمد وقيل كانت وفاته قبل الستين قبل موت معاوية رضي الله عنهم أجمعين.
(21/2)
أما السبب الثانى: فقلت هذه السورة التى سميت باسم هذا العبد الصالح لقمان فتشير إلى حكمة هذا العبد الصالح ونحن فى وقت ينبغى أن ننتبه إلى الحكمة لنضع الأمور فى مواضعها وقلت لاأعلم عصرا جرى فيه الخلل والفساد والاضطراب وانقلبت فيه الموازين كالعصر الذى نعيشه فى هذا الحين رحمة الله على الإمام أحمد عندما يقول إذا رأيتم شيئا مستقيما فتعجبوا فكيف يكون حاله لو رأى زماننا أسأل الله العافية والسلامة وحسن الخاتمة وأن يثبتنا بالقول الثابت فى الحياة الدنيا وفى الآخرة وألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا وأن يجعل خير أيامنا يوم لقاه إنه أرحم الرحمين وأكرم الأكرمين.
وأما السبب الثالث: فهذا ما سنتدارسه فى هذا الدرس إن شاء الله السبب الثلث قلت إن سورة لقمان سورة مكية وحقيقة ينبغى على المفسر إذا أراد أن يبدأ بتفسير كلام الله جل وعلا أن يوجه أنظار المستمعين وأنظار من يتدارس معهم إلى طبيعة القرآن المكى لا سيما فى هذا العصر كيف كانت الأمة ضالة حائرة تائهة ضائعة فاهتدت بهذا القرآن بالقرآن المكى الذى نزل عليها فترة إقامة النبى صلى الله عليه وسلم فى مكة رسولا ونبيا مدة ثلاث عشرة سنة فسورة لقمان سورة مكية وحالنا كما قلت يزيد على حال الجاهلية قبل بعثة خير البرية عليه صلوات الله وسلامه فى الفوضى والاضطراب فينبغى أن نبدأ بسورة مكية لعلها تعالج داءنا ويكون فيها دواؤنا سورة لقمان سورة مكية والقرآن ينقسم إلى قسمين إلى مكى ومدنى ولعلمائنا الكرام فى ضبط كل منهما ثلاثة أقوال.
منهم من لاحظ [الإخوة الكرام الذين هم فى مؤخرة المسجد إن شاؤوا أن يحضروا معنا وإن شاؤوا فليتفرقوا عن أنفسهم ولا يشوشوا علينا] .
لهم فى ملاحظة المكى فى ضبط المكى والمدنى ثلاثة أقوال إما على ملاحظة المكان أو الزمان أو المخاطب.
(21/3)
فقيل بناء على ملاحظة المخاطبين ما فيه يا أيها الذين آمنوا مدنى وما فيه يا أيها الناس يا بنى آدم مكى والسبب فى هذا أن أهل المدينة مجتمع إيمانى مسلم فخوطبوا بوصف الإيمان والإسلام وأما فى مكة فالأمة مشركة ضالة تائهة يخاطبهم [يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شىء عظيم] ، [يا بنى آدم قد أنزلنا عليكم لباسا وريشا لباسا يوارى سوءاتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير] ، [يا بنى آدم لا يفتننكم الشيطان] فيخاطب أهل مكة بما ليس فيه وصف الإيمان لأن أكثرهم ليسوا على صفة الإيمان.
فقيل ما فيه يا أيها الذين آمنوا مدنى وما فيه يابنى آدم يا أيها الناس مكى، وهذا فى الحقيقة ليس بمسلم وهو ضابط غير سديد وهو مردود لأنه ليس بجامع وليس بمانع فعندنا سور ليس فيها يا أيها الذين آمنوا وليس فيها يا بنى آدم وليس فيها يا أيها الناس ففى أى الأقسام سندخلها فما جمع إذن جميع أنواع التعريف فى المعرف عندنا سور ليس فيها يا بنى آدم ولا يا أيها الذين آمنوا فإذن لا تدخل فى المكى ولا فى المدنى وعندنا سور فى كتاب الله جل وعلا فيها يا أيها الناس وهى مدنية بالإجماع كسورة النساء {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء} وعندنا سور فيها يا أيها الذين آمنوا وهى سور مكية فإذن هذا غير جامع لا يجمع جميع أنواع التعريف فى المعرف، وهو غير مانع لا يمنع من دخول المكى فى المدنى ولا المدنى فى المكى وعليه فهو ضابط غير معتبر.
(21/4)
وقيل فى تعريف المكى والمدنى ما نزل فى مكة وفى ضواحيها فهو مكى وما نزل فى المدينة وضواحيها فهو مدنى وهذا لاحظ المكان كما أن التعريف الأول لاحظ المخاطبين وهذا أيضا تعريف غير سديد لأن هذا وإن كان مانعا من دخول غير المعرف فى التعريف فما نزل فى مكة مكى وما نزل فى المدينة مدنى لكنه ليس بجامع هو مانع لا يدخل القسم المكى فى المدنى ولا المدنى فى المكى لكنه لا يجمع أيضا جميع سور القرآن فى هذا التعريف فعندنا سور فى القرآن نزلت لا فى مكة ولا فى المدينة نزلت فى أسفار النبى عليه الصلاة والسلام كسفرته إلى تبوك عليه صلوات الله وسلامه فإذن هذا فى أى القسمين ستدخل ستبقى إذن خارجة من القرآن المكى والمدنى فهو وإن كان مانعا من دخول غير المعرف فى التعريف لكنه ليس بجامع.
ويشترط فى قبول التعريف أن يكون جامعا مانعا يجمع أنواع المعرف فى التعريف ويمنع من دخول غير هذا النوع فى هذا النوع.
وعليه الاعتبار الثالث هو المعتمد فى تعريف القرآن المكى والمدنى فما نزل قبل هجرة النبى عليه الصلاة والسلام فهو مكى وما نزل بعد هجرته عليه صلوات الله وسلامه فهو مدنى وإن نزل فى مكة لأن الملاحظ فى هذا التعريف الزمان لا المكان ولا المخاطبين وهذا فى الحقيقة جامع مانع جمع جميع سور القرآن وقسمها إلى قسمين مكى ومدنى ومنع من دخول غير المعرف فى التعريف فالمكى مكى قبل الهجرة والمدنى مدنى بعد الهجرة فى أى مكان نزل وهذا التعريف كما قلت هو المعتمد بناء على ملاحظة الزمان.
(21/5)
السور المكية المتفق على أنها نزلت فى مكة اثنتان وثمانون سورة والمدنية المتفق على أنها نزلت فى المدينة أى بعد هجرة النبى عليه الصلاة والسلام على حسب الضابط الذى اعتمدنا عليه وعولنا عليه الذى نزل بعد الهجرة عشرون سورة باتفاق وقبل الهجرة اثنتان وثمانون بالاتفاق والمجموع مائة وسورتان بقى معنا اثنتا عشرة سورة اختلف فيها هل هى مكية أو مدنية؟ مكية أو مدنية اثنتان وثمانون مكية بالاتفاق عشرون مدنية بالاتفاق ثناتا عشرة سورة جرى الخلاف فيها هل هى مكية أو مدنية؟
وقد ثبت أن ابن عباس رضي الله عنهما كما فى طبقات ابن سعد سأل أبى ابن كعب عن السور المدنية فقال إنها سبع وعشرون سورة وعليه زاد على العشرين سبع سور من الذى اختلف فيه فيصبح إذن عدد المدنى سبع وعشرون وزد خمسة على الاثنتين والثمانين سبع وثمانون سبع وعشرون مدنى وسبع وثمانون مكى على هذا والعمدة فى كون هذه السورة مكية أو مدنية عند العلماء النقل لا العقل والرواية لا الرأى ولا دخل للاجتهاد فى هذا على الإطلاق والنقل يؤخذ من طريقين لا ثالث لهما إما من الصحابة وكلامهم فى هذا له حكم الرفع المتصل إلى النبى عليه الصلاة والسلام فهم الذين شهدوا وقائع التنزيل ونزول القرآن الجليل أو من أقوال التابعين فلكلامهم حكم الرفع لكن المرسل حكم الرفع المرسل لعدم الاتصال وتقدم معنا يؤخذ بقول التابعي فى التفسير إذا كان من أئمة التفسير أو إذا لم يكن من أئمة التفسير وتعزز بمرسل آخر كما تقدم معنا.
(21/6)
والسورة تسمى بأنها مكية أو مدنية بأحد اعتبارين عند أئمتنا من الصحابة والتابعين إما باعتبار الفاتحة وبداية السورة فإذا نزلت بدايتها فى مكة قلنا مكية وقد لا تكتمل وينزل آيات منها فى المدينة كما هو فى سورة لقمان كما سيأتينا منها ثلاث آيات نزلت فى المدينة المنورة على نبينا صلوات الله وسلامه إنما هذا باعتبار الفاتحة ,الفاتحة كما قلت نزلت فى مكة وكل سورة ابتدأت بحروف التهجى بالحروف المقطعة فهى مكية باستثناء الزهراوين البقرة وآل عمران.
وفى الرعد خلاف أما ماعدا هذا من سور القرآن تسع وعشرون سورة افتتحت بالحروف المقطعة طه كهيعص طه المص جميع هذه السور التى افتتحت بالحروف المقطعة فهو مكية وسيأتينا لم وما وجه الحكمة من هذا وكون هذه السور نزلت فى مكة ولم ينزل منها بكثرة بهذا الأسلوب فى المدينة غير سورتين كما قلت البقرة وآل عمران سيأتينا وجه الحكمة فى هذا عند تفسير سورة لقمان إن شاء الرحمن.
إذن إما باعتبار الفاتحة فالفاتحة نزلت فى مكة مكية نزل شىء من السورة فى مكة لكن فاتحتها وبدايتها تأخر نزولها فنزلت فى المدينة فيقال لها مدنية مع أن بداية نزولها آيات هذه السور نزل فى مكة لكن لم تنزل الفاتحة إنما الذى نزل شىء من وسطها وأما الفاتحة نزلت فى المدينة فقال النبى عليه الصلاة والسلام ضعوها فى أول سورة لقمان.
إذن إما باعتبار الفاتحة وإما باعتبار كثرة الآيات فإذا كانت نزلت آياتها فى مكة أو فى المدينة فإما على حسب الفاتحة كما قلت وإما على حسب كثرة الآيات فيقال لها مكية أو مدنية.
(21/7)
إخوتى الكرام: ترتيب هذا القرآن بهذه الكيفية معجز بلا شك ومن تأمل حال ترتيب القرآن وجمعه وتأليفه يعلم إذا كان عنده أدنى شىء من عقل أن هذا القرآن كلام الرحمن وليس لمحمد عليه صلوات الله وسلامه فيه أى مدخل إلا البلاغ كيف هذا؟ نبينا عليه صلوات الله وسلامه أمى لا يقرأ ولا يكتب فكان ينزل عليه الوحى ويقول للكتبة من الصحابة ضعوا هذه الآية فى سورة كذا وكذا وضعوا هذه الآية فى سورة كذا وكذا ما نزلت السورة إذن متتابعة سورة البقرة أول ما هاجر نبينا عليه صلوات الله وسلامه إلى المدينة نزل شىء منها ما اكتملت إلا قبل وفاته بتسعة ليال عليه صلوات الله وسلامه إذن مدة عشر سنين ينزل آيات فى سورة البقرة وآخر شىء من القرآن آية فى سورة البقرة.
كما ثبت فى تفسير ابن أبى حاتم عن قتادة رحمه الله {واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون} آخر آية نزلت من القرآن وضعت فى سورة البقرة وسورة لبقرة من أوائل ما نزل على نبينا عليه الصلاة والسلام فى المدينة إذن فى عشر سنوات آية توضع هنا على رأس مائتين وثمانين وآية على رأس ثمانين وآية على رأس خمسين ثم تنظر بعد ذلك فى ترتيب هذه السورة فتراه فى غاية الإحكام والإتقان كأنها صيغت فى هذا الوقت بهذه السورة.
(21/8)
هذا فى الحقيقة ليس من جهد بشر إنما هذا من كلام رب العالمين فهذا هو الإعجاز وترتيب الآيات فى سورها هذا توقيفى عن طريق ما أخبر به جبريل نبينا عليه الصلاة والسلام بالإجماع ولا خلاف بين العلماء فى هذا لكن اختلف فى تفسير السور فى القرآن هل هو توقيفى أو هو توفيقى باجتهاد الصحابة؟ ولا خلاف بين العلماء فى الحقيقة كما قال الإمام الزركشى فمن قال إنه توفيقى أشار أراد أن النبى عليه الصلاة والسلام رمز للصحابة وأشار إليهم بترتيب السور لكن لم يقل لهم اجعلوا الفاتحة فى البداية ثم البقرة ثم آل عمران ثم ثم لم يقل هذا لكن رمز لهم وأشار إليهم بهذا فهو توقيفى لكن ليس عن طريق القول عن طريق الأشارة والرمز.
والقول الأول يقول توقيفى عن طريق القول فلا خلاف فى المآل بأن جميع سور القرآن ترتيبها توقيفى.
وأما الآيات فى السورة فهذا توقيفى من قبل النبى عليه الصلاة والسلام عن جبريل عن ربنا الجليل سبحانه وتعالى بلا خلاف فإذن هذه السور ينزل بعضها فى مكة لا تكتمل إلا فى المدينة لا ترى فيها خللا ولا فجوة ولا فاصلا إنما هى متلاحق بعضها ببعض الآخر يمسك بما قبله كأنها حلقة متصلة ببعضها لا تعلم أين طرفاها.
هذا كلام الله جل وعلا فهذا فى الحقيقة من أوجه إعجاز القرآن العظيمة ونبينا عليه الصلاة والسلام كما قلت أمى يقول اكتبوا هذه الآية فى مكان كذا فى السورة التى يذكر فيها البقرة على رأس ثمانين ومائتين ثم هم يكتبون هذا فينظرون بعد ذلك فى الترتيب فى غاية الإحكام والإتقان {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} فهذا الترتيب فى كلام الله جل وعلا معجزا من أنواع الإعجاز العظيمة.
إذن سورة لقمان مكية نزلت على نبينا عليه صلوات الله وسلامه قبل الهجرة هذه السورة المكية كما قلت ينبغى أن نبدأ فى تفسيرها وفى مدارستها لنعرف طبيعة القرآن المكى ليكون ذلك الدواء علاجا للداء الذى نعيش فيه فى هذه الأيام.
(21/9)
إخوتى الكرام: القرآن المكى عنى بثلاثة أمور هى محور القرآن المكى وهذه الأمور حقيقة بها حصلت تربية القلوب وطهارتها على وجه التمام والكمال.
الأمر الأول: الذى عنى به القرآن المكى ودار حديث القرآن المكى حوله ربط القلوب بعلام الغيوب سبحانه وتعالى ربط القلوب بعلام الغيوب هذه القلوب لا بد من بنائها لأنها إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله فلا بد إذن من بنائها وتطهيرها من آفاتها ورعوناتها.
القرآن المكى بنى القلوب فى مكة وطهرها عن طريقين اثنين:
الأمر الأول: تعريف هذه القلوب وتعريف هؤلاء الناس بخالقهم جل وعلا انظر لسورة لقمان التى معنا كيف يعرفهم ربنا جل وعلا به سبحانه وتعالى أشار فى هذه السورة وفى سائر السور المكية إلى أنه رب العالمين سبحانه وتعالى ومالكهم وسيدهم وخالقهم المتصرف فيهم وليس لأحد عداه شىء من ذلك يقول ربنا جل وعلا فى سورة لقمان {خلق السماوات بغير عمد ترونها وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وبث فيها من كل دابة وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم * هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلال مبين} ، {خلق السماوات بغير عمد ترونها} هذا هو الخالق {وألقى فى الأرض رواسى أن تميد بكم} الجبال لتستقر الأرض ولتثبت {وبث فيها من كل دابة} تدب وتمشى على ظهر الأرض {وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم*هذا خلق الله فأرونى ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون فى ضلال مبين} .
ويقول جل وعلا مقررا هذه الحقيقة {ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى وأن الله بما تعملون خبير * ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلي الكبير} .
(21/10)
ويقول جل وعلا: {ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمة الله ليريكم من آياته إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور} إذن هو الخالق هو الرب هو المدبر لهذا المخلوق ولأمر هذا الكون فلا رب سواه سبحانه وتعالى يبنى القلوب هو يطهرها عن طريق لفت أنظار الناس إلى هذه القضية فهذه المخلوقات لها خالق وهو رب البرية سبحانه وتعالى هذا الرب الذى قرر ربنا جل وعلا فى هذه السور ربوبيته فى السور المكية أشار إلى أنه يتصف بكل كمال ويتنزه عن كل نقصان سبحانه وتعالى فهو الذى يعلم كل شىء فى هذا الكون كيف لا وهو ربه وخالقه سبحانه وتعالى وهو الغنى عما سواه ومالك لكل ما فى هذا الكون.
يقول جل وعلا: {يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير} .
ويقول جل وعلا: {ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم} .
ويقول جل وعلا فى آخر السورة: {إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير} إذن هذه صفات ربنا الجليل سبحانه وتعالى يعلم كل شىء فى هذا الكون وإذا أيقنت بأنه ربك سبحانه وتعالى وخلقك ويعلم جميع تصرفاتك يبنى على هذا أمور فى المستقبل حصلت فى الجيل الأول فى الصحابة الكرام فى العصر المكى رضوان الله عليهم أجمعين.
يخبرنا الله جل وعلا فى هذه السورة المكية بأن له ما فى السموات وما فى الأرض {لله ما فى السماوات وما فى الأرض إن الله هو الغنى الحميد} فله ما فى السماوات وما فى الأرض خلقا هو خلقهم وملكا وتدبيرا لا يخرجون عن قبضته ولا عن مشيئته طرفة عين.
(21/11)
إذن رب العالمين وخالق المخلوقات أجمعين يعلم كل شىء وهو الغنى عما سواه وله كل شىء سبحانه وتعالى إذا كان الأمر كذلك فينبغى أن نفرده بالعبادة وأن نشكره على نعمه التى أسداها إلينا وهذا ما أشار إليه ربنا جل وعلا فى سورة لقمان: {ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد} ، {يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد} .
{أن اشكر لله} ورأس الشكر أن توحد الله جل وعلا وأن تفرده بالعبادة وأن تسير جميع شؤونك على حسب ما يريد ربك الذى خلقك سبحانه وتعالى {ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه} لا ينتفع بطاعتك ولا يتضرر بمعصيتك {ومن كفر فإن الله هو غنى حميد}
وهكذا يقول ربنا جل وعلا: {ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير} .
فكما أحسنت إليك إحسانا لا تظير له فينبغى أن تشكرنى وأن تفردنى بالعبادة ينبغى أن تشكر أيضا من أحسن إليك بعد ذلك بتدبيرى وتقديرى ومشيئتى وهو الأبوان {أن اشكر لى ولوالديك إلى المصير} فإذا تعارضت طاعة الله مع طاعة الأبوين.
{وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون} رب العالين خالقهم مالكهم يتصف بكل كمال يتنزه عن كل نقصان ينبغى أن يفرد بالعبادة فلا نلجأ إلى غيره سبحانه وتعالى.
انتهى الأمر عند هذا الحد لاالقلوب لا زالت بحاجة إلى أمر رابع وهو أن هذا الرب جل وعلا الذى خلقنا وغنى عنا ومالكنا وأمرنا بعبادته وتسيير جميع شؤون حياتنا حسب شرعه سنأول إليه ليحاسبنا على أعمالنا {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره* ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} .
(21/12)
يقول الله جل وعلا فى أوائل هذه السورة: {تلك آيات الكتاب الحكيم * هدى ورحمة للمحسنين * الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون * أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون} فسيأولون إلى الله جل وعلا وليست المسألة تكليف وينتهى إلى ضياع وفوت وموت لا بعث بعده لا {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون * فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم} .
هذا سوء ظن برب العالمين إذا خلقنا من غير تكليف وإذا خلقنا وكلفنا ولم يبعثنا هذا سوء ظن بربنا فيسوء ظننا به ولا نقدره حق قدره إذا ظننا أننا خلقنا هملا وإننا لم نبعث بعد موتنا لنحاسب على أعمالنا {أيحسب الإنسان أن يترك سدى * ألم يك نطفة من مني يمنى * ثم كان علقة فخلق فسوى * فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى * أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى} يترك سدى هملا من غير تكليف يترك سدى يموت فيفوت ولا يبعث أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا للعبث والتلهى بلا تكليف بلا أمر ونهى أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا تكلفون ولا تبعثون ولا تحاسبون كل من الأمرين يستحيل فى حكمة الحى القيوم سبحانه وتعالى فلم نخلق عبثا إذن رب عظيم خلقنا ويملكنا يتصف بكل كمال يتنزه عن كل نقصان ينبغى أن نفرده بالعبادة سنؤول إليه سبحانه وتعالى فإذا رجعنا إليه المؤمن له ثواب والجاحد له عقاب يقول جل وعلا {أولئك على هدى من ربهم} هؤلاء الذين هم بالآخرة هم يوقنون مع ما قاموا به من الأعمال الصالحات وأولئك هم المفلحون فى هذه الحياة على صراط وبينة فالضلال انتفى عنهم وهم على صراط الله المستقيم وهم يفوزون فى الآخرة بجنة النعيم.
(21/13)
صنف آخر يقابل هذا ومن الناس من يشترى لهو الحديث عندما انحرف عن صراط الله المستقيم وأقبل على لهو الحديث الذميم العقيم ذل وتاه وضاع لعقوبة أولى فى الدنيا والثانية {ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين} مع ضلاله وضياعه فى الدنيا له ما يهينه فى الآخرة والجزاء من جنس العمل فعندما أهان الحق أهانه الحق فى يوم القيامة {وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن فى أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم} .
وهكذا آيات كثيرة فى هذه السورة عاد بعد ذلك إلى جزاء المؤمنين فقال {إن الذين أمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم *خالدين فيها وعد الله حقا وهو العزيز الحكيم} ثم جاء بعد ذلك إلى آخر السورة فقال: {يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور *إن الله عنده علم الساعة} إلى آخر الآية.
إذن هذا الأمر الأول من الأمرين فى بناء القلوب الإشارة إلى هذا الخالق سبحانه وتعالى وما يتصف به سبحانه وتعالى وجل شأنه رب العالمين خالق هذا الكون مالكه يتصرف فيه يتصف بكل كمال يتنزه عن كل نقصان ينبغى أن يفرد بالعبادة سنؤول إليه ليحاسبنا على أعمالنا هذا الركن الأول من الأمرين فى بناء القلوب.
(21/14)
أما الركن الثانى: فهو تعريف العباد بقدر نفوسهم كان القرآن المكى يضرب على هذا الوتر ويدور على هذا المحور باستمرار فى بيان وصف الرب جل وعلا وشأنه وفى بيان وصف هذا العبد وبيان حقيقته وما ينبغى أن يحصل من صلة بين الخالق والمخلوق وبين العبد والرب سبحانه وتعالى فأنت أيها الإنسان وما حولك وجميع ما فى هذا الكون مقصورون مقهورون مضطرون لما يريده الحى القيوم لا يملك واحد أن يخرج لنفسه خروجا عن هذا طرفة عين خرج إلى الدنيا من غير اختياره وسيخرج منها على غير اختياره وصار فى صورة شاءها الله على غير اختياره إذن عبوديتنا لربنا جل وعلا واقعة قصرا وجبرا.
(21/15)
والعباد فقراء لله جل وعلا {يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله} فإذا كانت العبودية الاضطرارية القصرية القهرية واقعة فانتقل منها أيها الذكى الذكى إلى العبودية الاختيارية فالثواب والمدح يحصل باتصاف الإنسان بعبوديته لربه عبودية اختيارية لا اضطرارية لأنه ليس فى العبودية الاضطرارية إلا الإشارة إلى أنه موجود والله يتصرف فيه كما يريد لكن العبودية الاختيارية التى تحصل بتذلل العبد لربه وحبه له من جميع قلبه هذه التى يرتبط بها الثواب وبتفريطها يحصل العقاب وبذلك يحصل المدح والذم يقول الله جل وعلا: {ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب} ينقاد له من فى السماوات ومن فى الأرض ذليل صاغر ثم قال جل وعلا: {وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب} سبحان الله كثير من الناس دخل فى اللفظ الأول {ألم تر أن الله يسجد له من فى السماوات وما فى الأرض} وفى الأرض دخل الناس فهم يسجدون لله رغم أنوفهم وينقادون له حسب مشيئته شاءوا أم أبوا فلم قال بعد ذلك وكثيرمن الناس وكثير حق عليه العذاب فلا يسجدون السجود الأول اضطرارى قسرى قهرى لايخرج عنه أحد فهم منقادون بمشيئته خلق هذا ذكرا ليس باستطاعة أهل الأرض أن يقلبوه إلى أنثى وخلق تلك أنثى ليس باستطاعة أهل الأرض أن يجعلوه ذكرا {هو الذى يصوركم فى الأرحام كيف يشاء} {يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير} .
(21/16)
لكن فى وسع الإنسان وإمكانه ومشيئته أن يكون صالحا وأن يكون طالحا يكون تقيا وأن يكون شقيا أن يكون صادقا وأن يكون كاذبا أن يعفر جبهته لربه فى التراب وأن يتذلل له وأن يتمرد على الله جل وعلا وأن يعاديه هذا باستطاعته لكنه لا يخرج عن مشيئة الله الكونية فالسجود الثانى غير الأول {ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب} .
هؤلاء كلهم منقادون لقهره سبحانه وتعالى ومشيئته وإرادته {وكثير من الناس} يسجدون سجودا اختياريا فلهم الثواب وكثير من الناس يمتنعون من التذلل والحب لله فعليهم عقاب {وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم} .
ففقر العباد واحتياجهم إلى ربهم جل وعلا هذا اضطرارى فى المخلوقات فالله أخص أوصافه أنه غنى أخص أوصافه الغنى قائم بنفسه سبحانه وتعالى حى قيوم قائم بشؤون غيره وأخص أوصاف العباد أنهم فقراء فلا بد إذن من الإشارة إلى هذه القضية فى القرآن المكى ليعرف الإنسان قدره وموقعه فى هذه الحياة ولذلك العلة فى احتياج هذا العالم من عرشه إلى فرشه إلى ربه جل وعلا العلة فى احتياج العالم إلى الله فقر من عدا الله وغنى الله العباد محتاجون إلى الله لأنهم فقراء والعباد محتاجون إلى الله لأنه غنى الغنى الحميد فأخص وصف فى المخلوق أنه فقير وأخص وصف فى الخالق جل وعلا أنه غنى عن العالمين.
(21/17)
ولذلك قال الإمام ابن القيم عليه رحمة الله فى طريق الهجرتين ومفتاح باب السعادتين ويقصد بالهجرتين هجرة إلى الله جل وعلا عن طريق عبادته وحده لا شريك له وهجرة إلى نبينا محمد عليه الصلاة والسلام عن طريق متابعته دون اتباع إمام غيره عليه صلوات الله وسلامه بهاتين الهجرتين يحصل التوحيد الكامل الحق للمؤمن لعبادة الله وحده لا شريك له لا إله إلا الله حسبما شرع وبين وحسبما أحب وأراد محمد رسول الله عليه صلوات الله وسلامه يقول فى طريق الهجرتين فى أوائل كتابه فى صفحة خمسة وستة وما بعدها علة احتياج العالم إلى ربه أن العالم بأسره فقير وأن الله غنى وليست العلة فى احتياج العالم إلى الله الإمكان ولا الحدوث كما يقول الفلاسفة والمتكلمون فالمتكلمون علماء الكلام يقولون العلة فى احتياج العالم إلى ربه أنه حادث مخلوق والحادث لا بد له من محدث والمخلوق لا بد له من خالق والفلاسفة يقولون العلة فى احتياج العالم إلى الله جل وعلا أنه ممكن وجوده ممكن وعدمه ممكن ولا يرجح أحد الممكنين إلا إرادة مريد وقدرة قدير وهو الله جل وعلا يقول الإمام ابن القيم وهذا غلط الإمكان والحدوث علامتان على الفقر فهذا العالم مخلوق لأنه فقير لو كان غنيا لكان خالقا فإذن المخلوقية فيه علامة على فقره وليست المخلوقية فى العالم علامة على احتياج العالم إلى ربه وكون العالم ممكنا حدوثه وعدمه ويتصور وجوده وفناءه فالذى رجح أحد الأمرين هو إله عظيم هذا علامة على فقره لأنه لما كان فقيرا يتصور أن يوجد وأن لا يوجد وأما الله جل وعلا فلا يتصور زواله طرفة عين {كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} ، {إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون} فإذن فى هذه السورة وفى السور المكية بعد أن أشار ربنا جل وعلا إلى ما يتعلق به وما يتصف به أشار إلى حال العباد فهم فقراء وفقرهم على قسمين.
(21/18)
فقر قهرى اضطرارى: قسرى لا يخرجون عن مشيئته الكونية وإرادته القدرية فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن {قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير} ، {فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} .
وهناك فقر اختيارى: طلبنا به بعد أن عرفنا فقرنا الاضطرارى وعرفنا ربنا فهو خلقنا ويتصرف فينا سبحانه وتعالى يتصف بكل كمال يتنزه عن كل نقصان ينبغى أن نعبده وحده لا شريك له وأن نحكم شرعه فى جميع شؤون حياتنا وسنصير إليه ليوفينا جزاء أعمالنا {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} ونحن مقصورون لما يريد ولما يشاء إذن ينبغى أن نطيعه اختيارا وطوعا لننال الأجر الذى أشار إليه ربنا جل وعلا وكثير من الناس يسجد لله طواعية واختيارا وانقيادا لعظمة الله جل وعلا وكبريائه وألوهيته وربوبيته وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب فيمتنع عن هذا وهذا ما يشير إليه ربنا جل وعلا فى هذه السورة فى سورة لقمان فبعد أن قرر ربنا جل وعلا ربوبيته وأنه خالق هذا الكون {خلق السماوات بغير عمد ترونها وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وبث فيها من كل دابة وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم * هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلال مبين} ماذا خلقوا هم فقراء {إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم} ، {ما لهم شرك فى السماوات ولا فى الأرض} هم ما خلقوا شيئا فى هذا الكون لا يملكون لأنفسهم فضلا عن غيرهم نفعا ولا ضرا {هذا خلق الله فأرونى ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون فى ضلال مبين} .
(21/19)
وهذا الأمر يسلم به حتى المشركون ولا يوجد من يجحد توحيد الربوبية إلا من باب المكابرة والمغالطة وأما أنه يجحد هذا من حقيقة نفسه فلا ثم لا {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا} ، {قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر} .
وهنا يقول الله جل وعلا فى سورة لقمان: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون} ، {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله} فإذا كان هو الخالق والمتصرف والمدبر وانت ومن معك وجميع ما فى هذا الكون لم تخلقوا فيه ذرة فينبغى أن تضعوا الأمور فى نصابها أنت عبد تهتدى بهدى الرب سبحانه وتعالى أنت مخلوق تعبد هذا الخالق {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون} .
ويقول جل وعلا مقررا هذه الحقيقة: {وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور}
{وإذا غشيهم موج} لجأوا إلى الله جل وعلا {دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور} .
إذن هذا الأمر الأول: الذى دار حوله القرآن المكى بيان ما يتعلق بربنا الرحمن وبيان لحال الإنسان وما يحيط به فى هذا الكون فالله جل وعلا رب العالمين يتصف بكل كمال يتنزه عن كل نقصان يجب أن يعبد وحده لا شريك له سنؤول إليه وأنت أيها الإنسان مخلوق لهذا الخالق لا تستطيع أن تخرج عن إرادته الكونية فالتزم بأمره الشرعى وحذار حذار أن تخرج عن ذلك طرفة عين.
(21/20)
ولذلك القضية المقررة مما تقدم أنه إذا كان الأمر كذلك فلا أسعد ولا أحسن حالا ممن أفرد ربه بالعبادة وهذا ما أشارت إليه هذه السورة {هدى ورحمة للمحسنين * الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون * أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون} ولا أتعس ولا أشقى ولا أخبث ولا أنكد معيشة فى هذه الحياة وهلاكا بعد الممات ممن أعرض عن عبادة الله وانحرف عن شرع الله {ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين * وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم} ثم بين مآل الصنف الأول {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم * خالدين فيها وعد الله حقا وهو العزيز الحكيم} .
إذن هذا الأمر الأول الذى دار حوله القرآن المكى بناء القلوب لتتصل بعلام الغيوب عن طريق بيان الصلة بين الخالق والمخلوق سبحان ربنا جل وعلا.
أما الأمر الثانى: الذى دار حوله القرآن المكى التحدث عن أمهات الفضائل التى يطالب بها العباد بوصفهم عبادا لله فى جميع العصور على مر الأيام والدهور وهذا الفضائل لا يدخلها النسخ كما يقول علماء الأصول فى كتب الأصول أمهات الفضائل لا يقع فيها نسخ بر الوالدين الإحسان إلى المحسن الأمر بالفضيلة والتحذير من الرذيلة هذه أمهات فضائل وأخلاق عالية يستوى فى معرفة حسنها جميع الناس بغض النظر عن كونهم مؤمنين أو كافرين بر الوالدين مطلوب؟ مطلوب فهما محسنان حض الناس على الفضيلة وتحذيرهم من الرذيلة مطلوب كل واحد يقول مطلوب ونعم الفاعل.
(21/21)
لذلك فالقرآن المكى كان يشير إلى هذه القضية ولذلك يقول ربنا جل وعلا فى سورة لقمان {ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير} هذا من أمهات الأخلاق ومن الأخلاق العالية الفاضلة لا يتصور أن تنسخ شريعة من الشرائع هذا الحكم فهذا أمر به المسلمون والناس بوصفهم عبادا لله من عهد أبينا آدم إلى نبينا محمد على نبينا وعلى جميع الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه.
وهكذا يقول الله جل وعلا فى هذه السورة مخبرا عن وصية لقمان الحكيم لابنه الكريم يابنى أقم الصلاة ثم يقول وأمر بالمعروف هذه فضيلة هذه فضيلة ينبغى أن توجد فى جميع العصور وأمر بالمعروف وانه عن المنكر يحضه على خلق الصبر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور ثم يحذره من الأخلاق الرذيلة الدنيئة ومن سفاسف الأمور {ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور} كل عاقل بوصفه بشرا يقر بحسن هذه الوصية {واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير} فهذا وجد فى القرآن المكى الإشارة إلى أمهات الأخلاق والفضائل.
ولذلك ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما فى تفسير الطبرى أنه قال جمع الله أحكام التوراة من أولها إلى آخرها فى خمس عشرة آية من سورة الإسراء أولها قول الله جل وعلا {لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا *وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا} .
(21/22)
ثم انتقل إلى بقية الآيات خمس عشرة آية جميع أحكام التوراة فى هذه الآيات جمعها الله فى القرآن المكى وسورة الأسراء مكية والتوراة امتازت بذكر الأحكام بخلاف الإنجيل فالإنجيل كان فيه المواعظ وترقيق القلوب وهى تكمل ما فى التوراة فنبى الله عيسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه يرجع إلى التوراة والمواعظ فى الإنجيل أحكام التوراة جمعها الله لهذه الأمة فى خمس عشرة آية من سورة الإسراء {لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا * وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا} .
ثم انتقل إلى بقية الخصال فى النهى عن قتل الأولاد وعن الزنا وعن التطفيف فى الكيل والميزان إلى غير ذلك من الخصال الحسان التى كما قلت لا يتصور فيها نسخ قتل النفس {ولا تقتلوا النفس التى حرم الله إلا بالحق} فلا يتصور في هذا نسخ أمهات الفضائل والأخلاق ذكرت فى القرآن المكى.
الأمر الثالث: الذى ذكر فى القرآن المكى وعنى به القرآن المكى بكثرة القصص والإشارة إلى أحوال الأمم السابقة لأن القصص فى الحقيقة هو يقرر الأمرين المتقدمين والثانى فرع عن الأول فإذا طهرت القلوب وأفردت علام الغيوب بالعبادة ينبغى بعد ذلك أن تأمر بكل فضيلة وأن تبتعد عن كل رذيلة لأجل تقرير هذين المعنيين ذكر الله القصص ما جرى للأمم السابقة للإشارة إلى أن تلك الأمم أمروا بعبادة الله كما أمرنا وبهذه الأخلاق الكريمة كما أمرنا فكانت النتيجة أن من أعرض عن شريعة الله شقى فى الدنيا وما له من العذاب بعد موته أكبر وأفظع القصص وهنا ذكر الله فى هذه السورة المكية شأنا من القصص فيما يتعلق بالعبد الصالح لقمان {ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله} .
(21/23)
وفائدة القصص سيأتينا الكلام عليها إن شاء الله على وجه التفصيل بإسهاب عند قصة لقمان وأذكر الفوائد العشرة من مجىء القصة فى القرآن وأنواع القصة فى القرآن عند قصة العبد الصالح لقمان لكنى الان أشير إلى ثلاثة أمور تتعلق بموضوعنا فيما يتعلق بطبيعة القرآن المكى القصة أشارت إلى وحدة الأديان فالله جل وعلا أرسل رسله بدءا من نبى الله أبينا آدم وانتهاء وختاما بنبينا محمد على نبينا وعلى جميع الأنبياء صلوات الله وسلامه بأمر واحد {اعبدوا الله ما لكم من إله غيره} وحدة الأديان هذه يستنبطها الإنسان من القصص وفى ذلك حكمة عظيمة وهى أن الثلة الطيبة فى مكة عندما تريد أن تؤمن ستكون معزولة غريبة عن أهل الأرض فالشرك خيم فى أرجاء المعمورة والظلام دامس والضلال منتشر الذى سيؤمن سيشعر بالغربة فالله جل وعلا سيسليه بذكر القصص فيقول له انتبه يا عبدى أنت ما تنتسب إلى شىء غريب أنت نسبك عريق عريق قديم قديم تنضم إلى قافلة عظيمة أول من ركبها أبوك آدم ثم أنبياء الله الذي جاءوا بعده والموحدون فأنت لست بمنقطع النسب وما أتيت بشىء محدث ولا مبتدع إنما هؤلاء الضالون هم الذين يسيرون فى بنيات الطريق وفى المتاهات والضلالات وأما أنت فعلى هدى وإذا كنت على هدى وتنتمى إلى نسب عريق شريف أصيل فلا يضيرك ولا يضرك بعد ذلك من عاداك ومن غمزك ومن آذاك ومن احتقر بك ومن استهزأ بك.
(21/24)
فالقصص فى العهد المكى بمثابة تثبيت قلوب المؤمنين على الحق ولذلك يقول الله جل وعلا لنبيه عليه الصلاة والسلام آمرا أن يقول {قل ما كنت بدعا من الرسل} ما أتيتكم بشىء مبتدع وليس مجيئى ببدعة وحادث ما سبق له نظير ولا مثيل هذا الكون منذ أن أسس أسس على توحيد الله جل وعلا وعبادته وحده لا شريك له {قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدرى ما يفعل بى ولا بكم إن أتبع ما يوحى إلى وما أنا إلا نذير مبين} ، {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه} ، {إن الدين عند الله الإسلام} .
(21/25)
ولذلك إخوتى الكرام: يقول الله جل وعلا فى سورتى فى سورة الأنبياء وفى سورة المؤمنون: {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون} {وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون} ذكر الله جل وعلا هذه الآية في هاتين السورتين إن هذه أمتكم ملتكم ملة واحدة الأمة هنا بمعنى الملة دينكم واحد وهو الإسلام الحنيفية عبادة الله وحده لا شريك له كل نبى كان يقول هذا لقومه اعبدوا الله ما لكم من إله غيره {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} ، {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون} ذكر الله هذه الآية فى هاتين السورتين لإشارة بليغة تظهر لى وهى أن من آمن بالله جل وعلا فقد آمن من عبد الله وآمن به فقد آمن بجميع الرسل واتبع جميع الرسل وانعقد بينه وبين المؤمنين الأخيار أخوة فى الله جل وعلا من سبقه ومن سيأتى بعده ممن يلحقه {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون} ومن انحرف عن هذا من كفر برسول من رسل الله الأنبياء فقد كفر بجميع الرسل من تبرأ من الأخوة الإيمانية فقد برأ منه المؤ منون وانفصل من هذه الرابطة الإسلامية فالإيمان برسول إيمان بجميع الرسل والكفر برسول كفر بجميع الرسل {كذبت قوم نوح المرسلين} كيف كذبوا رسل الله وهم ما أدركوا إلا نبيهم لأن ما أمر به نوح هو ما أمر به آدم وهو ما أمر به محمد على نبينا وعلى جميع الأنبياء صلوات الله وسلامه فتكذيب نوح يعنى تكذيب الأنبياء أجمعين عليهم صلوات الله وسلامه والإيمان بنوح يعنى الإيمان بجميع الأنبياء والمرسلين عليهم صلوات الله وسلامه فمن آمن بنبى آمن بالأنبياء وانعقد بينه وبين المؤمنين ولاء وإخاء {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون} ومن كفر بنبى كفر بالأنبياء وصار بينه وبين المؤمنين عداء وبغضاء فمن كفر بنبى ليس بمؤمن وليس بمتبع لنبى من الأنبياء ومن آمن بنبى آمن بالأنبياء وهو من عباد المؤمنين ذكر الله هذا فى هاتين السورتين المؤمنون
(21/26)
يؤمنون بالأنبياء جميعا وبينهم وبين المؤمنين ولاية من تقدمهم ومن يلحقهم هؤلاء أهل التوحيد ينتسبون إلى حزب الله المجيد ألا أن حزب الله هم المفلحون هم الغالبون ومن كفر بنبى من الأنبياء فقد ابتعد عن هذه الخصلة الحميدة وعنة هذه الصفة السديدة فهو كافر بالأنبياء وليس بنه وبين المؤمنين محبة وولاء.
إذن القصة تشير إلى وحدة الأديان ولا بد إذن من ذكر هذا فى العهد المكى ليحصل هناك تقوية للقلوب التى ستكون غريبة فى ذلك الزمان فالمؤمن عندما يعلم أن الطريق الذى يسير فيه سار فيه أنبياء الله المطهرون وسار فيه المؤمنون المباركون يقول لى فيهم أسوة كون الناس ضلوا بعد ذلك ما له ولهم فإذن هذا تثبيت وتقوية لقلب المؤمن.
الأمر الثانى: ليشير الله فى القصص المكى فى السور المكية إلى أن قضية الكفر والضلال والانحراف والضياع والتياه موجودة على مر العصور منذ أن وجد البشرية كان يوجد من ينحرف منهم ويضل فإذا وجد ضال فما ينبغى أن نتأثر به وما ينبغى أن يحزننا ذلك بحيث نتخاذل ونجبن أمامه لا {من كفر فعليه كفره} ، {فلا يحزنك كفرهم إلينا مرجعهم نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ} .
فإذن لا يضيرنا ولا نتأثر بكفره ولا يعنى أننا نهادنه أو نصالحه أو نحبه أو نوده أو نطلب معونة ونصرة منه أو أو لا لا إنما إذا كفر وقمنا نحوه بما يجب فى العصر المكى فلا حرج علينا من كفره كل نفس بما كسبت رهينة فهذه القضية موجودة ولذلك ما ينبغى أن يتأثر المؤمن فى العصر المكى بكفر من حوله ولا يبالى بهم {يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزؤون} ، {كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون * أتواصوا به بل هم قوم طاغون * فتول عنهم فما أنت بملوم * وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين} ولذلك يقول الله {كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود * وعاد وفرعون وإخوان لوط * وأصحاب الأيكة وقوم تبع كل كذب الرسل فحق وعيد} .
(21/27)
العبرة الثالثة والحكمة الثالثة: التى تتعلق بموضوع السور المكية من ذكر القصص فى السور المكية أن فى ذكر القصة فى القرآن المكى إشارة إلى حتمية تاريخية دينية وسنة اجتماعية مطردة تشبه اطراد سنن الله الكونية فى الآفاق وفى الأنفس لكن تلك سنن كما قلنا كونية هذا ذكر وتلك أنثى وليل يأتى يتبعه نهار شمس وقمر وهذا مطرد {لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون} القصة تشير إلى سنة من سنن الله الكونية كما أن تلك كما قلنا سنن اجتماعية كونية فى الآفاق والأنفس ما هى؟
هذه السنة الدينية هى أن الله سيؤيد الحق وينصر أهله وسيخذل الباطل ويمحق أهله هذا لا بد فالله عندما كان يذكر على المسلمين فى مكة أخبار المتقدمين إذن فى ذلك تبشير لهم أن دولتهم عما قريب ستقوم على أركان متينة لكن لابد من الصبر والمصابرة {ليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين} .
يقول الله جل وعلا: {فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} .
{لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا * ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا * سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا} .
{وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون} .
{ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون} .
فإذن ينبغى أن يعتبر هؤلاء بالقصص الذى ذكر فى مكة {لقد كان لسبأ فى مسكنهم آية} كيف عاقبهم الله جل وعلا عندما عتوا وبغوا واستكبروا وانحرفوا عن شرع الله.
(21/28)
قصة قوم عاد عندما عتوا {فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون} {فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون} .
ثمود {وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون *ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون} .
القصص يشير إلى هذه السنة الدينية والحتمية الشرعية التى لا تتبدل أن الله سينصر الحق وأهله ويعز الموحدين وسيخذل الباطل وأهله وسيذل الكافرين {كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز} {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين *إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون} .
فهذه الأمور الثلاثة هى محور القرآن المكى ربط القلوب بعلام الغيوب عن بيان ما يتصف به ربنا جل وعلا وما له من حق على عباده وبيان حقيقة الإنسان وما ينبغى أن يكون بينه وبين ربه من صلة عن طريق ذكر أمهات الفضائل.
(21/29)
الأمر الثالث: ذكر القصة فى القرآن المكى بكثرة لأمور كثيرة سأذكر كما قلت عشرة منها إن شاء الله عند ذكر قصة العبد الصالح لقمان والثلاثة منها الآن على وجه الإيجاز فيما يتعلق بالتمهيد للدخول فى تفسير هذه السورة إذن هذا هو محور القرآن المكى لهذه الأمور التى تقدمت غير الله الأفكار والمشاعر وأزال العقدة الكبرى عند بنى الإنسان وغير الطريقة التى تحصل بها تلك الأفكار والمشاعر أما الأفكار والمشاعر فقد غيرها الإسلام وجعل بهذا المنهج السديد الذى ذكر فى القرآن المكى أن فكر الإنسان وشعوره يدور حول الحلال والحرام حول رضوان الله وسخطه لا على منفعة عاجلة ولا على شهوة حاضرة يفكر ويبحث فى الأمر حلال أفعله يرضى الله أفعله حرام أبتعد وإن كان فيه من المصالح ما كان هذا متى بعد أن اتصلت الغيوب بعلام الغيوب عندما علم الإنسان أن الله ربه ورب كل شىء يتصف بكل كمال يتنزه عن كل نقصان أنت ينبغى أن تصرف شؤونك على حسب ما شرع ستؤول إليه ليحاسبك على فعلك.
إذن الحلال والحرام هو الذى يحركنا فى هذه الحياة وهذا المقياس كفر به فى هذا الوقت إلا من رحم ربك هذا المقياس نحى من الأنظمة والقوانين من فترة فالمقياس عند الناس فى الأنظمة وفى المعاملات الفردية إلا من رحم ربك المنفعة أينما وجدت المصلحة أينما وجدت المنفعة يميل الإنسان وجدت مضرة يبتعد شهوة يميل إليها هناك بعد ذلك شىء يرضى الله لا يناسب شهوته يبتعد عنه هذا خلاف المسلمين فى العصر الأول يقول الحق وإن كان سيؤدى إلى قطع الرقبة ويلتزم بدين الله وإن كان سيترتب على هذا ما يترتب وأما الآن فهذا المقياس نحى فالقوانين بدأت على حسب الفكرة الغربية تدور حول الأمور النفعية الدنيوية وصلة المؤمنين بين بعصهم إلا من رحم ربك حول النفع تحصل منه نفعا مغنما إذن بينك وبينه ود لا تحصل هذا بينك وبينه افتراق.
(21/30)
هذا المقياس هدمه الإسلام فى العصر المكى عندما غير الفكرة والشعور ففكر الإنسان مرتبط بالحلال والحرام وبذلك ذاقوا حلاوة الإيمان [أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لايحبه إلا لله وأن يكره أن يعود فى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف فى النار] .
ثبت فى صحيح البخارى عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت أول ما نزل من القرآن سورة من المفصل والمفصل على المعتمد يبتدأ من سورة ق إلى نهاية القرآن سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام دخلوا فى دين الله بعد أن طهرت القلوب وأخبروا بأنهم سيؤولون إلى الله والمحسن فى الجنة فى جنات النعيم وأولئك لهم عذاب مهين فبشره بعذاب أليم حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام ولو نزل من أول الأمر لا تزنوا لقالوا لا ندع أبدا ولو نزل من أول الأمر لا تشربوا الخمر لقالوا لا نترك الخمر أبدا أنزل على النبى عليه الصلاة والسلام وأنا جارية ألعب بل الساعة موعدهم فى سورة القمر {والساعة أدهى وأمر} .
وما نزلت البقرة وآل عمران إلا وأنا عنده فى المدينة رضي الله عنها وصلوات الله وسلامه على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.
فأول ما نزل سورة من المفصل أى من أول ما نزل وتعنى بها سورة المدثر وفيها يقول ربنا جل وعلا: {فإذا نقر في الناقور * فذلك يومئذ يوم عسير * على الكافرين غير يسير} وهذه نزلت بعد صدر سورة العلق بعد خمس آيات من سورة العلق نزلت سورة المدثر وهى أول سورة اكتمل نزولها من القرآن وأول سورة كلف بها نبينا عليه الصلاة والسلام بالقيام بالرسالة والدعوة والتبليغ {يا أيها المدثر قم فأنذر} ثم يقول الله {فإذا نقر في الناقور * فذلك يومئذ يوم عسير* على الكافرين غير يسير} فلما طهرت القلوب وتعلقت بعلام الغيوب نزل بعد ذلك الحلال والحرام.
(21/31)
إذن الأفكار والمشاعر تغيرت كانت تدور حول شهوات حول ريالات حول لذائذ عاجلة صارت تدور بعد ذلك حول رضوان الله وتبتعد عن سخط الله وغضب الله يحركها الحلال والحرام حرام نبتعد عنه حلال نفعله وهذا مقياس وضابط سلوك الإنسان فى هذه الحياة حلال نفعله ففيه رضوان الله حرام نتركه ففيه سخط الله كون النفس تشتهيه أو لا تشتهيه تميل إليه أو لا تميل ليس هذا فى حسبان المؤمن على الإطلاق إذن غير الفكر والشعور أزال العقدة الكبرى المؤمن فى هذه الحياة يواجه أعظم مشكلة من أوجدنى لما وجدت إلى أى شىء سأصير ما الغاية من وجودى لابد من هذا هذه أعظم عقدة أعظم مشكلة تواجه الإنسان إذا أزالها بحل شرعى مقنع يقنع العقل ويطمئن القلب عاش الإنسان فى جنة عاجلة مع ما له من رضوان الله فى الدنيا ولآخرة وإلا فهو فى شقاء وبلاء.
من أوجدنى تقدم معنا فى القرآن المكى أن الله جل وعلا أخبرنا أنه رب الإنسان ورب كل شىء {خلق السماوات بغير عمد ترونها وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وبث فيها من كل دابة} فهو ربك ورب كل شىء لما وجدت {ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله} ، إلى أى شىء ستؤول إليه وستصير إليه؟ ستصير إلى ربك جل وعلا إما فى جنات النعيم وإما فى عذاب مهين.
إذن هذه العقدة الكبرى أزيلت بأدلة فطرية لا تكلف فيها ولا مغالطة تدركها نساء البادية ويستوى فى فهمها من يحمل أعلى شهادة ومن كان أميا فى البادية يرعى الإبل قرر ربنا جل وعلا هذه الأدلة فجعل القلوب فى بهجة ونور.
من أوجدك؟ الذى أوجد كل شىء.
لما؟ لتقوم بوظيفة فى هذه الحياة {وما خلفت الجن والإنس إلا ليعبدون} ، {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا} {أيحسب الإنسان أن يترك سدى} .
(21/32)
إلى أى شىء سيؤول إليه أمرك؟ إلى الله ليحاسبك على ما قدمت لذلك يستريح المؤمن، غير المؤمن عندما يبحث من الذى أوجدنى يقول وجدت فلتة وصدفة لو عرضنا هذا على العجماوات وعلى أحطها دركة على الحمار لرفع رأسه ونهق أعظم نهيق استنكارا لهذا وجدت فلتة وصدفة لا لابد لهذا المخلوق من خالق فأنت فقير كما تقدم معنا فقير فى وجودك فقير فى بقائك لا تملك لنفسك نفعا ولا ضرا وجدت بغير اختيارك ستزول بغير اختيارك فى صورة بغير اختيارك إذن هذا الفقر إذن لا بد من أن يستند إلى إله غنى بعد ذلك أوجدك ويدبر أمرك وهو الله رب العالمين سبحانه وتعالى.
إذن هذه العقدة لا بد من أن تزال أزالها القرآن فى العهد المكى، انظر لانحطاط البشرية فى هذا العصر المتقدم المتطور الآسن الردى انظر يقول شاعر الإلحاد فى هذه الأيام:
أتيت لا أدرى من أين أتيت ... ورأيت قدامى طريقا فمشيت
من أين جئت لست أدرى ... ولما لست أدرى لست أدرى
من الذى أوجده لا يدرى ولما لا يدرى لا يدرى.
إذن بأى شىء ستسلى نفسك حقيقة والله الذى لا إله إلا هو لو لم يكن لهذا الكون إله سبحانه وتعالى إله خلقنا وكلفنا وسنؤول إليه والله الذى لاإله إلا هو لقتل العاقل نفسه واستراح من شناعة الدنيا ومن بلائها إذا لم يكن لهذا الكون إله ننعم بذكره فى هذه الحياة وسنؤول إليه لنتلذذ برضوانه والنظر إلى وجهه فى نعيم الجنات والله لاستعجل العاقل الموت فى هذه الحياة وكلما اكتمل عقله كلما سارع إلى نحر نفسه يعنى هى الحياة فقط كالبهيمة ما له إلا أن يعبأ ويفرغ يعبأ ويفرغ ثم بعد ذلك تنظر للحياة صعلوك لا يسوى حذاء باليا بدأ يعربد ويتمرد ويتنمرد ويقطع رقاب الصالحين المتقين ويعيث فى الأرض فسادا هذه حياة، كان بعض الصالحين يقول والله لولا يوم القيامة لكنت أطق أطق أى أنفجر أتمزق.
(21/33)
فإذن هذه العقدة الكبرى لا بد من إزالتها أزيلت فى العصر المكى يا عبد الله هذه دنيا متاع ما الدنيا فى الآخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه فى اليم فلينظر بما ترجع.
فأنت كلفت هنا بغاية إذا قمت بها نلت سعادة الدارين سواء حصل لك بعد ذلك عز وتمكين فى هذه الحياة أو لم يحصل وكم من صحابى توفى فى العصر المكى ولم ير دولة الإسلام قائمة فى المدينة أجره وجب على الله وحصل السعادة فى ذلك العصر وما له من السعادة بعد موته أعظم.
إذن لا بد من إزالة العقدة الكبرى فى هذه الحياة من أوجدك لما وجدت إلى أى شىء ستصير وإلى من ستؤول القرآن المكى أزال هذا بأدلة كما قلت تقنع القلب وتشرح الصدر وتطمئن القلب وكما أن القرآن المكى غير الأفكار والشعور وأزال العقدة الكبرى فقد غير الكيفية التى تحصل بها الأفكار والشعور.
كنت أتمنى أن أنهى هذه المقدمة للقرآن المكى فى هذه المحاضرة وهذه الموعظة أقف عند هذا المقدار وأنتقل إن شاء الله إلى إكمال ...
(21/34)
مقدمة التفسير (8)
(دروس تفسير)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة التفسير 8
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا.
الحمد لله رب العالمين شرع لنا دينا قويما وهدانا صراطا مستقيما وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة وهو اللطيف الخبير.
اللهم لك الحمد كله ولك الملك كله وبيدك الخير كله وإليك يرجع الأمر كله أنت رب الطيبين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك ولى الصالحين وخالق الخلق أجمعين ورازقهم فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين.
{ياأيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون} [الأنعام/102] .
وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله أرسله الله رحمة للعالمين فشرح به الصدور وأنار به العقول وفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبيا عن أمته ورضى الله عن أصحابه الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
{يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا} [النساء/1] .
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون}
[آل عمران/102] .
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا صلى الله عليه وسلم * يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما} [الأحزاب/70-71]
أما بعد: معشر الإخوة الكرام..
(22/1)
كنا نتدارس فى الدرس الماضى الأسباب التى دعتنا لاختيار تفيسر سورة لقمان قبل غيرها وقلت إن الذى دعانى لذلك ثلاثة أسباب كنا نتكلم على السبب الثالث أن هذه السورة مكية وإذا كانت مكية فينبغى أن نبحث فى طبيعة القرآن الكريم لأن حال الناس فى هذه الأيام يشبه حال الناس فى الجاهلية فبل بعثة خير البرية عليه صلوات الله وسلامه فالقرآن المكى نقلهم من السفاهة والضلالة إلى الهدى والرشاد فلعلنا نحذو حذوهم عندما نتعرف على طبيعة القرآن المكى وكيف ربى الله عباده فى العصر الأول.
إخوتى الكرام: قلت أن القرآن المكى دار محور حديثه على ثلاثة أمور.
الأمر الأول: ربط القلوب بعلام الغيوب عن طريقين اثنين عن طريق ما لله جل وعلا من صفات فهو رب العالمين له الأسماء الحسنى يتصف بكل كمال يتنزه عن كل نقصان ينبغى أن نفرده بالعبادة وحده لا شريك له فهذا حقه علينا سنؤول إليه بعد ذلك ليحاسبنا على أعمالنا {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره* ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} .
وأما الجانب الثانى: فى بناء القلوب فكان الإشارة إلى حال هذا الإنسان فهو ضعيف فقير قسرا واضطرارا فينبغى أن يتذلل لربه جل وعلا طوعا واختيارا لهذين الأمرين تبنى القلوب ويحصل فيها الخشية من علام الغيوب.
والأمر الثانى: الذى تحدث عنه القرآن المكى الإشارة إلى أمهات الفضائل ومكارم الأخلاق وقلت لا نسخ فيها بين الشرائع فهذه الأخلاق الفاضلة وصى بها الله النبيين ليبلغوها إلى أممهم على نبينا وعلى جميع الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه ولا تختلف من شريعة إلى شريعة.
والأمر الثالث: القصص والإشارة إلى أحوال الأمم الغابرة والقرون البائدة وذكرت العبر من ذلك.
(22/2)
إخوتى الكرام: بهذه الأمور الثلاثة من تربية القلوب وربطها بعلام الغيوب وبالأخلاق الفاضلة وبالإشارة إلى قصص الأمم البائدة وما فى ذلك من عبر حسبما تقدم معنا ووعدت بمزيد من التفصيل عند مدارسة قصة العبد الصالح لقمان عليه رضوان الله ورحمة الله عليه وعلى جميع المؤمنين والمؤمنات فى جميع العصور والدهور لهذه الأمور الثلاثة غير الله جل وعلا فكر الإنسان فى العصر المكى وغير طريقة التفكير عند الإنسان أما الفكر فقلت كان الإنسان يلهث وراء الشهوة والمنفعة العاجلة فجعله الإسلام بهذه القيم والموازين الثابتة يطلب رضوان الله جل وعلا فصار مقياس عمله والذى يحركه ويسكنه رضوان الله فيفعله سخط الله وغضبه فيتركه حلال يفعله حرام فيتركه إذن هذا صار مقياس عمل الإنسان فى العصر المكى عند المؤمنين بالله جل وعلا وهذا ينبغى أن يكون هو المقياس عند المؤمنين فى جميع العصور الدافع لأفعالنا ولحركاتنا وسكناتنا وحبنا وبغضنا رضوان الله جل وعلا وسخظه فما يرضيه نفعله وما يغضبه نتركه ولا نبحث بعد ذلك فى شىء آخر على الإطلاق.
فالصحابة الكرام رضوان الله عليهم عكفوا على هذا وهذا صار وصفا لهم ولذلك عندما رسخ هذا الأمر فى ذهنهم وفى قلوبهم نزلت بعد ذلك آيات الأحكام والحلال والحرام فنهوا عن الزنا وعن شرب الخمر وعن الربا وعن وعن بعد أن تطهرت القلوب ولو نهوا عن هذه القاذورات من أول الأمر كما قالت أمنا عائشة رضي الله عنها لو قيل لهم فى أول الأمر لا تشربوا الخمر لقالوا لا ندع الخمر أبدا ولو قيل لهم لا تزنوا لقالوا لا نترك الزنا أبدا أنزل على النبى عليه الصلاة والسلام وأن جارية ألعب بل السعة موعدهم والساعة أدهى وأمر من سورة القمر وما نزلت عليه البقرة والنساء إلا وأن عنده فى المدينة رضوان الله عليها وصلوات الله وسلامه على نبينا وعلى آله وصحبه أجمعين والحديث كما قلت فى صحيح البخارى.
(22/3)
فإذن لابد من غرس هذه الأمور فى قلوب الناس أن يكون الحلال والحرام رضوان الله وسخطه وغضبه مقياسا لأعمالهم ولأفعالهم فى هذه الحياة.
قلنا والشريعة الإسلامية وما نزل من قرآن فى مكة عن طريق تلك الأمور أزال العقدة الكبرى عند الإنسان فأخبره بمن أوجده ولما وجد وإلى أى شىء سيصير ولذلك عندما وعى المسلمون هذه المعانى قلنا أقبلوا على كتاب الله جل وعلا وعلى شريعته المطهرة فكانوا يتلونه ويحفظونه ويفهمونه ويعملون بما فيه ويحترسون من خصال الجاهلية كما تقدم معنا فى أول درس عند أحوال الصحابة الكرام وأثر القرآن فيهم.
إخوتى الكرام: فتغيرت أفكار الناس كانوا يبحثون عن دريهمات وعن متاع زائل فبدأوا يبحثون عن رضوان الله جل وعلا فطهر القلب فاستقامت بعد ذلك سائر الجوارح هذا التفكير كما تغير طريقة التفكير غيرها الله فى العصر المكى فالقرآن ما نزل جملة واحدة إنما نزل كما قلت شىء منه فى أول الأمر فيه ذكر الجنة والنار وربط القلوب بعلام الغيوب ثم بعد ذلك نزل الحلال والحرام طريقة التفكير تغيرت ليس من الحكمة أن تنزل آيات ومعلومات كثيرة ليطبقها الناس بعد عشر سنين لا فهذا ليس بكتاب ثقافة ولا ترف فكرى إنما هذه عقيدة وهذا منهاج حياة ينبغى أن يبنى هذا الدين فى الجماعة وينبغى أن تقوم الجماعة بهذا الدين ولذلك كان يأخذ الله جل وعلا بأيدى المؤمنين فى العصر المكى رويدا رويدا ليأسس الإيمان فى قلوبهم حتى إذا أمروا بأمر أو نهوا عن شىء بعد ذلك يستجيبون.
(22/4)
أما أن تنزل الأوامر والنواهى وليس فى الإمكان تطبيقها فى أول الأمر لا على أنفسهم ولا على مجتمعهم فهذا بعيد من الحكمة فطريقة التفكير أيضا تغيرت لا يلزمهم فى ذلك الوقت كان الوحى ينزل على نبينا صلى الله عليه وسلم به فيتدارسونه ويفهمونه ويعملون به هم عباد والله جل وعلا ربهم إذن ينبغى أن يطيعوه وأن يفردوه بالعبادة وأن يخلعوا عبادة ما دونه هذا ينبغى أن تأسس عليه القلوب فى العصر الأول فهذا الدين دين الأمة ليس بدين فردى إذن ينبغى أن يبنى الدين فى الجماعة وأن تقوم الجماعة على الدين وهذا الذى حصل فى العصر المكى.
ثبت فى المستدرك فى الجزء الأول فى صفحة خمس وثلاثين بسند صحيح على شرط الشيخين أقره عليه الذهبى والإمام العراقى فى تخريج أحاديث الإحياء ذكر أن الحديث صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال عشنا برهة من دهرنا وإن أحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن بنيت القلوب على علام الغيوب وما نزل قرآن كثير ليعملوا به فى المستقبل وكانت السورة تنزل على النبى عليه الصلاة والسلام فنتعلم حلالها وحرامها وما ينبغى أن يوقف عندها كما تتعلمون أنتم القرآن نحن رسخ الإيمان فى قلوبنا فعندما تنزل السورة نتعلم ماذا يريد الله منا بهذه السورة فنتعلم حلالها وحرامها وما ينبغى أن يوقف عندها كما تتعلمون أنتم القرآن ولقد رأيت رجالا بعد أن لنتشر الإسلام وتوسع يؤتى أحدهم القرآن فيقرأه من فاتحته إلى خاتمته لا يدرى أمره ولازجره ولاما ينبغى أن يوقف عنده ينثره نثر الدقل أى ردىء التمر، فالله جل وعلا غير تفكير الناس فى مكة وغير طريقة التفكير.
إخوتى الكرام: يقول كثير من عتاة هذا العصر فى هذا الوقت من شياطين الإنس ماذا عندكم فى دينكم من حلول لهذه البنوك وماذا عندكم من حلول لمشاكل الناس كأنهم آمنوا بالله جل وعلا ودانوا له بالعبودية وعبدوه حقا وما بقى عندهم فى الحياة إلا مشكلة البنوك لتزال وتحل أو المشاكل الإقتصادية.
(22/5)
إن مجاراة هؤلاء فى البحث فى هذه الأمور سفاهة خروج عن الطريق المستقيم أنت قبل أن تبحث فى الأمور الاقتصادية وفى مشاكل الإنسانية فى هذا الوقت هل أحكمت أصل الأصول لا إله إلا الله محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام وأنت عبد له ينبغى أن تفرده بالعبادة حسبما جاء عنده إذا كان هذا فى دينك وهو مسلم الحلول يسيرة وهى بين أيدينا لكن إذا ضيعت هذا وفرطت فى الواضحات الجليات ثم جئت لتلبس الأمر على المؤمنين والمؤمنات ماذا عندكم من حلول لتشغل المسلمين عن الأمر الحقيقى الذى ينبغى أن يصرفوا أذهانهم وجهدهم إليه وهو تعبيد الخلق لخلقهم وأن يكون الدين كله لله وحده لا شريك له المشاكل الاقتصادية والمشاكل الاجتماعية كلها تزول عندما يعلم الإنسان أنه عبد لله جل وعلا وأن الله جل وعلا له عليه حق الطاعة والعبادة فى جميع شئون حياته لكن إذا كان الإنسان على ربه ظهيرا ويظاهر الشيطان فى العداوة ثم يريد أن يجرنا بعد ذلك إلى بنيات الطريق ماذا عندكم من حلول فى أمور الاقتصاد أو فى مسائل الاجتماع نحن أعلى من نخوض معك فى هذه الطرق المعوجة لا بد من إحكام أصل الأصول وهو أنك عبد لخالق إن كنت تقر بهذا وأن شريعته ينبغى أن تحكم فى شؤون الحياة فالحلول سهلة يسيرة موجودة هى فى متناول أيدينا لكن إذا كنت تضيع هذا فكل حل بعد ذلك لن تأخذ به ولن ترضاه.
إذن كانوا يؤتون الإيمان قبل القرآن فإذا نزلت السورة تعلموا حلالها وحرامها كما يتعلم من بعدهم القرآن ثم ما الذى حصل؟ لما دخل فى الإسلام من لم يدرك العصر المكى صار يقرأ القرآن من فاتحته إلى خاتمته لا يعرف أمره ولا زجره ولا ما ينبغى أن يوقف عنده ينثره نثر الدقل أى ردىء التمر.
(22/6)
وثبت فى سنن ابن ماجة بسند صحيح عن جندب ابن عبد الله رضي الله عنه قال كنا مع النبى صلى الله عليه وسلم ونحن فتيان حزاور [جمع حزور وهو الشباب الممتلىء شبابا وقوة ونشاطا] ونحن فتيان حزاور فتعلمنا الإيمان قبل القرآن ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانا.
ففى القرآن المكى فى أول الأمر نزلت الآيات لتربط القلوب بعلام الغيوب فإذا ربطت وينزل القرآن بعد ذلك افعلوا واتركوا واجتنبوا يتعلمون هذا فيزدادون إيمانا لكن الأصل إذا ضاع من القلوب وإذا ذكرت حكما للناس يؤلهون أنفسهم ويعترضون عليه بعقولهم فإذن ليس من الحكمة أن تذكر لهم الأحكام لا بد من أن يبحث معهم فى القضية الأولى وهى لا إله إلا الله محمد رسول الله عليه صلوات الله وسلامه {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} .
(22/7)
إخوتى الكرام: العصر المكى قام على هذه المعانى الإنسان عبد خلقه الله ينبغى أن يسعى لإرضائه فى هذه الحياة لينال رضوانه بعد الممات هذه غايتنا ما أشرفها من غاية إذا لم تكن هذه الغاية غاية الإنسان والله إن الانتحار أهنأ له فى هذه الحياة من أن يعيش عيشة العجماوات ولذلك ثبت فى تفسير ابن جرير وطبقات الإمام ابن سعد عن كعب القرظى رضي الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم عندما بايع الأنصار بيعة العقبة على أن يهاجر إلى المدينة المنورة وحضر العباس رضي الله عنه وكان لا زال على شركه مع نبينا عليه الصلاة والسلام ليستوثق لابن أخيه وتسلل الأنصار من مضاجعهم فى ثلث الليل وفى وسط الليل إلى المكان الذى وعدوا فيه النبى عليه الصلاة والسلام ثم تم الاتفاق بعد ذلك على أن يهاجر النبى عليه الصلاة والسلام إلى المدينة ليقيم دولة الإسلام فى طيبة وطابا فقال عبد الله ابن رواحة يا رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترط لنفسك ولربك ماذا تريد من حقوق لك ولله لنلتزم بالوفاء بها قال اشترط لربى أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا واشترط لنفسى أن تمنعونى مما تمنعون منه أنفسكم وأهليكم وأولادكم لا تخزلونى وأنا سأكون غريبا بينكم فإذا جئت إليكم تنصرونى ولا يصل الأعداء إلى وأما الله فله عليكم حق العبادة والطاعة لا إله إلا الله وحده لا شريك له فقال عبد الله ابن رواحة فما لنا إذا وفينا عبدنا الله وحده لا شريك له ونصرناك وما وصل إليك مكروه فما لنا قال الجنة والجنة ليست عاجلة ليست فى الدنيا هذه بعد الموت ما لكم على هذا إلا رضوان الله والجنة رحمته يرحم بها الله من يشاء الجنة فقالوا ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل ربح البيع هذه غاية عظيمة {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو
(22/8)
الفوز العظيم} الجنة فقط وقد كان نبينا عليه الصلاة والسلام عندما يلقى الأذى من قومه يعرض نفسه على القبائل لينصروه فكان كثير من القبائل تعرض نفسها على النبى عليه الصلاة والسلام ويقولون ننصرك ونمكن لك وتقوم دولة الإسلام لكن بشرط واحد على أن يكون لنا الأمر من بعدك فيقول لا الأمر لله يضعه حيث يشاء فما لنا إذن آمنا بك ونصرناك وعرضنا أموالنا ودماءنا وأولادنا للبلاء والعناء ما لنا يقول الجنة ما لكم على هذا إلا رضوان الله جل وعلا أما أن يكون بيى وبينكم شرط على تحصيل مغنم دنيوى لا وهذا الطريق حقيقة شاق ومكلف لكن عاقبته هنيئة مريئة لأنه لا يدخل معك فى هذا الطريق إلا من كان صادقا يريد الله والدار الآخرة وأما إذا أعلنتها وطنية فسيتجمع حولك الوطنيون ثم سرعان ما يتفرقون وإذا أعلتنها قومية فسيجتمع إليك أهل العرق ثم سرعان ما يتفرقون إذا أعلنتها دعوة للإصلاح ولمطالبة حقوق المستضعفين والفقراء فسينضمون إليك لكن الدعوة بعد ذلك سيقضى عليها كما هو حال الدعوات الهدامة التى قامت قبل بعثة نبينا عليه الصلاة والسلام وبعد بعثته دعوات هدامة كثيرة كانت تقوم حول وطنية مزيفة وقومية منتنة وحول إصلاحية جزئية كلها تتلاشى ولا يبقى لها خبر والحق بعد ذلك ثابت ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون فهذا الطريق شاق لكن عاقبته هنيئة مريئة مثمرة نافعة الأمر لله يضعه حيث يشاء وما أظن أنه يخطر ببال أحد أنه سيلى أمر المؤمنين بعد نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام رجل من بنى تيم وبعده رجل من بنى عدى وبعده رجل من بنى شمس وبعده رجل من آل النبى عليه الصلاة والسلام على ما أظن هذا كان يخطر ببال أحد من المسلمين الأمر لله يضعه حيث يشاء.
(22/9)
إخوتى الكرام: فلابد ربط القلوب بعلام الغيوب فى سورة لقمان التى سنتدارسها أنزل الله فيها فى العصر المكى قبل أن ينزل تحريم الخمر والزنا أنزل تحريم الغناء سبحان الله الغناء حرم فى مكة قبل الخمر نعم لأن ضرر الغناء أعظم من ضرر الخمر فالغناء قرآن الشيطان إذا عشعش فى القلب وفسد هذا القلب فلن يدخله نور القرآن بعد ذلك ولا يجتمع قرآن الرحمن وقرآن الشيطان فى قلب أبدا القلب لا بد من أن يطهر من الساعة الأولى كما لو أردت أن تزرع أرضا لا بد من من تنقيتها من الشوك ومن الحجارة والبلاء ثم بعد ذلك تبذر فيها البذر ليؤتى ثماره وأكله.
الغناء محرم فى العصر المكى والخمر متى حرمت حرمت بعد فتح مكة فى العام الثامن بعد بعثة نبينا عليه الصلاة والسلام بواحدة وعشرين سنة بقى المسلمون يشربون الخمر ومحمد عليه صلوات الله وسلامه رسول الله واحدة وعشرين سنة بعد بعثته ثم نزل التحريم قبل وفاته بسنتين عليه صلوات الله وسلامه فلما نزل قول الله {فهل أنتم منتهون} قالوا انتهينا ولا تردد فى ذلك على الإطلاق القلوب طاهرة.
فالغناء فى العصر المكى يحرم لأنه يفسد القلب وهو أعظم سوقا إلى الفواحش والمنكرات من الخمر أما الخمر فذاك داؤه عارض عندما يشرب يفقد عقله وإذا فقد عقله غاب عن وعيه فإذا رجع إلى صحوه صار بعد ذلك فى حال الكمال والرشد بخلاف الغناء متى ما عشعش فى القلب فسد القلب فصار الإنسان شيطانا مريدا.
ورضى الله عن عمر ابن عبد العزيز عندما يقول لمؤدب أولاده ومعلمهم ليكن أول ما يعتقدون من أدبك بغض الغناء الذى بدايته من الشيطان ومآله إلى سخط الرحمن أول شىء تغرس فى قلوب النشء فى قلوب هذه الأولاد هؤلاء الأولاد عندما تعلمهم علمهم بغض الغناء والنفور منه بدايته من الشيطان ومآله سخط الرحمن.
(22/10)
وحقيقة إذا ألف القلب الغناء والموسيقى فقد ضرب الران عليه فلا يعى بعد ذلك كلام الله ولاينتفع به وعندما يقرؤه ينثره نثر الدقل كما هو حال المسلمين فى هذا الحين وصل الانحطاط والبلاء والضلال أن مادة الموسيقى تقرر على أولاد المسلمين فى السنة الأولى الابتدائية فما بعدها سبحان الله وقد أجمع الفقهاء عن بكرة أبيهم أنه لا يجوز استئجار المغنى ولا يجوز أن يعطى أجرة ليعلم النشء الغناء والموسيقى فهذا حرام وسيأتينا البحث فى أمر الغناء عند قول الله جل وعلا: {ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين} إذا اشترى لهو الحديث وعكف على الغناء ماذا يكون حاله {وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم} وهذا الآن هذا الحال ليس هو حال النضر ابن الحارث الذى كان يعكف على الغناء ويحضر المغنيات ليغنين لا هذا حال الدعاة الذين يستمعون الغناء فى هذه الأيام كم من رقيع يحسب على الأمة الإسلامية أنه من الدعاة وأنه من المصلحين المجددين يقول بكل وقاحة وبذاءة إنه يسمع الموسيقى لكن المويسقى الهادئة سبحان الله العظيم قرآن الشيطان وسخط الرحمن فيه هدوء الموسيقى الهادئة ماذا كان أثر السلوك فيه إن أردت أن ترى قول الله جل وعلا جليا واضحا فانظر إليه {وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها} تراه يتلبث بخصلة من خصال الجاهلية هو من الدعاة الكبار تقول له يا عبد الله لما لا تعفى لحيتك دعنا من القشور دعنا من القشور الأمة الإسلامية فى مشاكل والرقاب تضرب وأنت لا زلت تبحث فى هذا {وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم} .
(22/11)
حجب نسائك وبناتك العبرة بالقلب لا بالظاهر سبحان الله كأن قلوبكم أطهر من قلوب الصحابة حتى أبحتم لأنفسكم التحلل الظاهرى بحجة أن قلوبكم طاهرة هذا يقوله الداعى فليست خاصة فى النضر عموم لفظها يشمل كل من عرض عليه أمر من أمور الشرع فأعرض عنه بحجة أن قلبه طاهر، وذاك {وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن فى أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم} .
وماذا يرتجى من إنسان لا يعرف فى حياته إلا الغناء وقلة الحياء حقيقة لا يتوقع منه إلا هذه الأجوبة الفارغة والاعتراض على دين الله جل وعلا.
إذن الغناء يحرم فى العصر المكى والخمر لا تحرم إلا قبل وفاة نبينا عليه الصلاة والسلام بسنتين ثمانى سنين الصحابة يشربون الخمر فى المدينة وحمزة أسد الله وأسد رسوله عليه صلوات الله وسلامه ومعه كبار الصحابة يستشهدون فى أحد والخمر فى بطونهم ولا يضيرهم ذلك ولا يضرهم عند الله جل وعلا فكانت فى حكم الإباحة وما نزل تحريمها ولو شهدوا قول الله {فهل أنتم منتهون} لقالوا انتهينا أما أنه يوجد عكوف على غناء وبذاء بحيث تتربى القلوب على الخنا والفحش ويصبح فيها ظلما فلا ثم لا.
إذن القرآن المكى كان يدور على هذا المحور هذا الخالق رب العالمين وهذا المخلوق هذا مخلوق ضعيف فقير وذاك إله قوى كريم جليل ينبغى لهذا الفقير أن يلتجأ إلى هذا الغنى وينبغى لهذا الضعيف أن يعبد ذلك القوى وأن يفرده بالعبادة وحده لا شريك له وأن يحكم شرعه فى جميع شؤون حياته.
القرآن المكى كان كله يدور حول هذا فالعبد سيؤول إلى ربه بعد ذلك ليحاسبه على أعماله.
(22/12)
عباد الله القرآن المكى كله دار حول هذا إعلام الناس بحقيقة أنفسهم وإخبارهم بصفات ربهم جل وعلا ومن عرف نفسه عرف ربه ومن عرف ربه عرف نفسه وإذا التبس الأمر على الإنسان فجهل نفسه فهو لربه أجهل وإذا جهل ربه فهو جاهل أيضا فى أمر نفسه {ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون} وهذه الجملة وهذه الحكمة من عرف نفسه عرف ربه ليست من كلام نبينا عليه الصلاة والسلام إنما هى من الحكم المأثورة عن العلماء الصالحين وقد نص الإمام النووى فى فتاويه فى صفحة ثلاث وسبعين ومائة أن هذه اللفظة لا تعرف عن نبينا عليه الصلاة والسلام وهكذا الإمام ابن تيمية فى مجموع الفتاوى فى الجزء السادس عشر صفحة تسع وأربعين وثلاثمائة والإمام الزركشى فى الدرر المنثرة فى الأحاديث المشتهرة نعم هذا من كلام يحيى الرازى كما قال الإمام الزركشى وورد الأثر فى الحلية من كلام سهل ابن عبد الله التسترى وورد الكلام عنه فى الحلية فى الجزء العاشر صفحة مائتين ثمانية كان يقول من عرف نفسه لربه عرف ربه لنفسه من عرف نفسه لربه وأنه مخلوق لله عرف نفسه لربه أى أن الله ربه ورب كل شىء سبحانه وتعالى من عرف نفسه عرف ربه والإمام ابن القيم عليه رحمة الله فى كتابه مدارج السالكين فى الجزء الأول صفحة سبع وعشرين وأربعمائة بحث فى هذه الجملة بحثا طيبا بعد أن أخبر أنها ليست من كلام النبى عليه الصلاة والسلام وقال تروى أيضا فى الكتب السابقة أن الله يقول لابن آدم: اعرف نفسك تعرف ربك وبحث الإمام ابن القيم عليه رحمة الله فى معنى هذه الجملة وقال معناها صحيح وتحمل على ثلاثة أمور.
(22/13)
إما أن تكون من باب الضدية أو الأولوية أو من باب النفى فى مدارج السالكين فى المكان الذى أشرت إليه فى الجزء الأول صفحة سبع وعشرين وأربعمائة فإذا كان من باب الضدية ما تقدم معنا فأنت فقير يقابل هذه ويضاده غنى الرب الجليل {يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد} أنت جاهل والله عالم أنت عاجز ضعيف والله جل وعلا قوى قدير إذن بالضدية إذن صفات النقص يقابلها صفات الكمال فى الله جل وعلا من عرف نفسه بأنه فقير ضعيف عاجز سيموت عرف الله بضد ذلك.
والمعنى الثانى: لهذه الجملة المباركة يقول معناها بالأولوية من عرف نفسه عرف ربه أى إذا كنت ترى أنك قابل لصفات الكمال وتتصف بالعلم والرحمة والحكمة والقدرة والغنى على حسب ما يناسبك وما يليق بك فالله أولى بالاتصاف بهذه الأمور منك على حسب ما يناسبه ويليق به سبحانه وتعالى فإذا كان العلم كمالا فيك فالله جل وعلا يتصف بهذه الصفة من باب أولى وله المثل الأعلى فى السماوات
والأرض سبحانه وتعالى وإذا كان الغنى كمالا فيك فالغنى فى الله جل وعلا كمال ويتصف به من باب أولى وهكذا القوة من باب الأولوية ما ثبت لك من كمال فالخالق أولى به.
والثالث: أن معنى هذه الجملة محمول على النفى من عرف نفسه عرف ربه أنت لا يمكن أن تعرف نفسك وما فيك من أسرار وعجائب لا يمكن أن تقف عليها والروح التى فيك أنت وأهل الأرض وجميع المخلوقات عاجزة عن إدراك كنهها وحقيقتها {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} فإذا كنت عن معرفة نفسك وعن إدراك نفسك وعن إدراك الأسرار التى فيك عاجز فأنت أعجز وأعجز عن إدراك حقيقة الذات الإلهية وحقيقة صفات رب البرية {ليس كمثله شىء وهو السميع البصير} .
(22/14)
وقد ألف الإمام السيوطى عليه رحمة الله حول هذه الجملة كتابا سماه القول الأشبه فى بيان من عرف نفسه عرف ربه والرسالة مطبوعة فى ضمن الحاوى للفتاوى للإمام السيوطى فى الجزء الثانى صفحة ثمان وثلاثين ومائتين.
إذن القرآن المكى كان يعرف الناس بحقيقة أنفسهم كما يخبرهم بما يتصف به ربهم جل وعلا وهذه الجملة من عرف نفسه عرف ربه لا تثبت عن نبينا عليه الصلاة والسلام لكن منقولة عن يحيى ابن معاذ الرازى وعن سهل ابن عبد الله التسترى سهل من أئمة هذه الأمة الصالحين توفى سنة ثلاث وثمانين ومائتين قال الإمام الذهبى فى سير أعلام النبلاء فى ترجمته فى الجزء الثالث عشر صفغحة سبعين وثلاثمائة شيخ العارفين له كلمات نافعة ومواعظ حسنة ومن مواعظه وكلماته النافعة أنه كان يقول أمسى مات وغدا لم يولد واليوم فى النزع هذا حال الدنيا أمسى ما هو قبل اليوم وهو يوم السبت مات وغدا الإثنين لم يولد وهل تدركه أم لا العلم عند الله واليوم فى النزع يلفظ أنفاسه دقيقة بعد دقيقة وثانية بعد ثانية ليخرج هذا اليوم كما خرج أمسه أمسى مات وغدا لم يولد واليوم فى النزع ما مضى فات والمؤمل غيب ولك الساعة التى أنت فيها.
(22/15)
ومن تواضعه وإجلاله لحديث النبى عليه الصلاة والسلام أنه ذهب إلى الإمام أبى داود صاحب السنن سنن أبى داود ذهب إليه وقال أريد أن تخرج لسانك الذى تحدث به عن البنى عليه الصلاة والسلام قال وعلام قال حتى أقبله فأخرج له أبو داود لسانه فقبله إجلالا لحديث النبى عليه الصلاة والسلام سهل ابن عبد الله التستترى كان يقول للمسلمين إذا استطعتم أن تلقوا الله بالمحابر أى بطلب الحديث فافعلوا هذه الأقلام لا تفارقوها حتى تلقوا الله وهى معكم لا تفارقوا هذه المحابر وكان يقول لا معين إلا الله ودليل إلا رسول الله عليه الصلاة والسلام لا إله إلا الله محمد رسول الله عليه صلوات الله وسلامه ومن جميل حكمه كان يقول أمور البر يفعلها الصالح والطالح لكن المعاصى لا يتركها إلا صديقا أمور البر يفعلها الصالح والطالح لكن المعاصى والمخالفات لا يتركها إلا صديقا [وإذا نهيتكم عن شىء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بشىء فأتوا منه ما استطعتم] فالنهى ينبغى أن يترك يصلى الإنسان فى جماعة ثم يذهب إلى الغناء فماذا استفاد من صلاته إذا لم تنهاه عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدا، أمور البر يفعلها الصالح والطالح وأما المعاصى فلا يتركها إلا صديق.
وكان يقول من سره أن ينظر إلى مجالس الأنبياء فلينظر إلى مجالس العلماء، ومن كلامه أول الحجاب الدعوى فإذا أخذوا فى الدعوى هلكوا أى أن يدعى الإنسان أنه وأنه وأنه وأنه أول الحجاب الدعوى فإذا أخذوا الدعوى هلكوا هذا العبد الصالح هو الذى يقول من عرف نفسه لربه عرف ربه لنفسه.
(22/16)
إخوتى الكرام: وحقيقة إذا علم الإنسان أن القرآن كلام الله وأن محمدا رسول الله عليه صلوات الله وسلامه وأنه هو عبد الله فعليه إذن أن يعبد الله حسبما جاء عن رسوله عليه صلوات الله وسلامه لا يتصور من هذا الإنسان إذن خروج عن منهج الله وعن شريعة الله فلا يؤله عقله ولا يقلد ويتبع غيره ليفلسف الضلال ويجعله من شريعة ذى العزة والجلال لا ولا أقول إنه معصوم لن يقع فى معصية لا ثم لا لكن شتان شتان بين معصية تنقله إلى حظيرة الكفر عندما يؤله عقله ويجادل ربه أو يستحسن النظم الوضعية ويبررها بالحيل الشيطانية شتان شتان بين أن تغلبه نفسه فيقع فى نظرة محرمة أو فى شهوة محرمة فى بعض الأوقات شتان شتان ليس المؤمن بمعصوم لكن لا يمكن للمؤمن أن ينحرف عن منهج الله بحيث يفضل غير شريعة الإسلام على الإسلام أو يرى أن الإسلام لا يصلح لكل زمان ومكان لا كيف يصلح ويتأتى من المؤمن هذا إذا علم أن الله خالقه وخالق كل شىء وهذا كلامه وهو عبد الله وهذا المخلوق لا يصلحه إلا شريعة خالقه لكن إذا وقع فى هفوات وزلات هذا على حسب ما تقتضيه الجبلة الإنسانية والطبيعة البشرية فلا يخرج من دائرة الإيمان إيمانه يجذبه عندما يخرج عنه بمعصية غلبته فيها نفسه.
(22/17)
ثبت فى مسند الإمام أحمد بسند صحيح عن أبى سعيد الخدرى والحديث رواه أبو يعلى أيضا فى مسنده والحديث فى المسند كما قلت فى الجزء الثالث صفحة خمس وخمسين وثمان وثلاثين وقد نص الإمام الهيثمى على أن إسناد الحديث صحيح ورجاله ثقات عن أبى سعيد الخدرى رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول مثل المؤمن ومثل الإيمان كمثل الفرس فى آخيته يجول ثم يرجع وهكذا المؤمن يسهو ثم يرجع فأطعموا طعامكم الأتقياء وأولوا معروفكم المؤمنين مثل المؤمن ومثل الإيمان كمثل الفرس فى آخيته والآخية هى الحلقة التى تدق فى الجدار ويربط بها الفرس لئلا يشرد ولئلا يفلت ولئلا يهرب فالفرس ما دام مربوطا فى الآخية لا يستطيع الشرود ولا الهرب لكنه يجول هنا وهناك وهناك ثم بعد ذلك الآخية تجره إذا أراد أن يخرج عن الإطار المحدد له لا يستطيع الآخية تمسكه وهكذا المؤمن لا يخرج عن شريعة ربه بحيث يتعالى على الله ويستحسن غير شرع الله لا يتصور هذه من المؤمن قطعا ليس منع هذا أنه معصوم لا يجول أحيانا هنا وهناك لكن الإيمان يجره بعد ذلك كمثل الفرس فى آخيته يجول ثم يرجع وهكذا المؤمن يسهو ثم يرجع {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون} .
(22/18)
طائف يطيف عليهم ولا يسكن فى قلوبهم يتذكرون فإذا هم مبصرون وهكذا المسلم يسهو ثم يرجع فأطعموا طعامكم الأتقياء وأولوا معروفكم المؤمنين هذا المعنى رسخ فى القلوب فى قلوب المؤمنين فى العصر المكى فما كان يتصور من مؤمن شهد العصر المكى أن يستقبح شيئا من شريعة الله ولا أن يستحسن شيئا من أعراف الناس وأوضاعهم وعاداتهم إذا لم ينزل بها إلى شرع ووحى ويقرها وما كان أحد يعرض دين الله على رأيه ولا على عرفه ولا على أوضاع الناس ليرى هل هذا يتفق أم لا فإن اتفق أخذنا به وإلا طرحناه هذا ما كان يخطر ببال [فلا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به] {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} وكان أحدهم إذا دعا إلى دعوة جاهلية أراد أن يخرج بها عن إطار الشريعة الإسلامية قالول له لفظل فى منتهى الخشونة ليقف عند حده كما تقدم معنا أن واحدا منهم كانت إذا نفسه خرجت إلى شىء من خصال الجاهلية كما حصل فى أبى ذر رضي الله عنه يطهر نفسه بمطهر شديد لئلا تفكر نفسه بالعودة إلى ذلك الفعل القبيح هذا أبو سفيان عندما عرض النبى عليه الصلاة والسلام الإسلام فى فتح مكة وأقر أبو سفيان أن اللات والعزى وهبل ما أغنت عنهم شيئا وأن الإله الحق هو الله الذى لا إله غيره قال له أما آن لك أن تؤمن قال كيف أفعل باللات والعزى ورثتها عن آبائى وأنا أعظمها ليس منها فائدة لكن كيف أفعل بها فقال له عمر اخرأ عليها لا زلت تنتظر اللات والعزى اخرأ عليها لا زلت تتحدث عن اللات والعزى.
(22/19)
ودعا مرة كما فى المسند بسند صحيح بعض الناس إلى شىء من خصال الجاهلية والافتخار بالأنساب والتفرقة بين المؤمنين الذين آخى الله بينهم فجعلهم إخوة متحابين {إنما المؤمنون إخوة} فدعا ذاك إلى قومية وهذا إلى وطنية كما هو الحال فى هذه الأيام فبعض الناس ذكر نسبه وأراد أن يفتخر فقال له أبى ابن كعب كما فى المسند اعضد أير أبيك لا زلت تتحدث بخصال الجاهلية المؤمن إذا وقع فى زلة يقع فى زلة لكن لا يصل به الأمر إلى أنه يخرج عن منهج الإسلام فيفرق بين المسلمين أو يستحسن غير شريعة رب العالمين شهوة غلبتك أحيانا فنظرت نظرة محرمة بشر تتوب إلى الله أما تأتى لتدعونا إلى خصال الجاهلية والتفاخر بالأحساب والأنساب قال عليه الصلاة والسلام من تعزى بعزاء الجاهلية هذا قاله أبى ابن كعب فى المسند فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا أى لا تكنى أى لا تقل كناية اللفظ الصريح كما قاله ابى ابن كعب اعضد كذا إلى كناية أنت تدعوا إلى جاهلية فى حال وجود الشريعة الإسلامية وطواغيت الأمة العربية ينبغى أن يقال لهم فى هذه الأيام اعضدوا أمتعة آبائكم الذين يدعون إلى وطنية ما أنزل الله بها من سلطان وفرقوا بين المؤمنين اعضد ولا تكنى.
إذن لا يتصور لمسلم أن يخرج عن ذلك المنهج بحيث يعرضه على عقله أو يستحسن غير شرع ربه هذا لا يمكن أبدا لكن ماذا حصل بعد ذلك فى الناس الذين لم تربى قلوبهم تربية مكية لنرى أحوال الأمة الإسلامية فى هذا الوقت:
(22/20)
صنف: يدعوا إلى اتباع الغرب إلى اتباع الملحدين اتباعا أعمى ويقول الأمة لا يمكن أن تنهض ولا أن تتقدم إلا إذا اتبعناهم فحن عالة عليهم من هذا الجنس السافل الساقط الذين ينتسبون إلى الإسلام ويعدون من الأمة الإسلامية الخبيث طه حسين الذى هلك سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة وألف يعنى من قرابة عشرين سنة أوليس كذلك أو سبع عشرة سنة طه حسين ولو قلنا طه الشين لكان أولى هذا الخبيث يقول فى كتابه مستقبل الثقافة فى مصر ينبغى أن نأخذ بالحضارة الغربية بخيرها وشرها حلوها ومرها ما يحمد منها وما يذم وما يحب وما لا يحب، نحن تبع فقط ولا يمكن للأمة أن تتقدم إلا بهذا أن تكون تبعا لهؤلاء.
صنف آخر: فى هذه الأمة شيخ أزهرى ذهب مع بعثة أرسلت إلى باريس ليعظهم وليوجههم وليربط قلوبهم بالله لئلا يذبوا فى الحضارة الغربية فذاب المربى قبل أن يذوب من سيربون ذاب المربى يا معشر القراء يا ملح البلد ما يصلح الملح إذا الملح فسد رفاعة الطهطاوى توفى سنة ألف ومائتين وتسعين لما ذهب إلى هناك له عمة وجبة لعل كمها يسع إنسانا لو دخل فيها محافظة على زيه القديم فتن فى الحضارة الغربية ومراقصة النساء ثم جاء بعد ذلك لينقل تلك القاذورات إلى مصر ألف كتابا سماه الإبريز فى تلخيص باريس هذا ذهب خالص نلخص به المدنية الغربية هناك وألف كتابه المرشد الخائن الذى سماه المرشد الأمين لتعليم البنات والبنين وقرر فى هذا الكتاب أنه لا بد من تبعية الغرب لنرتقى ولنتقدم وعليه فلا ينبغى أن نعد الخلطة بين الذكور والإناث حراما ولا المراقصة بين الطلاب والطالبات عشقا إنما هذا نوع من التقدم والتطور فى هذه الحياة ينبغى أن نسلكه.
(22/21)
شقى آخر القوصى فى كتابه أسس الصحة النفسية ودراسات سيكلوجية نشرها أن الأمة لا تنهض ولا تتقدم إلا إذا تبعت الغرب ثم قال لقد بدأ يفشو فى هذه الأيام وينتشر بين الناس فى مصر أن الأبوين عندما يدخلون الحمام يستحمون ويغتسلون يتركون باب الحمام مفتوحا يراهم أبنائهم يراهم الجيل لئلا يحصل عند الجيل كبت ولا عقد نفسية ولا تساؤل واستفسار عن أمور مغيبة وقال هذا ينبغى أن يشيع بين الناس وهى خطوة تدل على رقى ووعى لا يعيش الجيل فى تساؤل ماذا يوجد تحت الثياب الأبوان يغتسلان والأولاد ينظرون إليهما لا بد إذن من التبعية المطلقة.
ووصل الأمر بمحمد إحسان المحامى أنه يقول مخاطبا لفرنسا لولاك ما عرف الإنسان قيمته لولاك ما أصبح الإنسان إنسانا.
تقليد أعمى هذا لا يمكن أن يصدر من قلب ليس أقول فيه ذرة إيمان كان فيه فى يوم من الأيام ذرة إيمان والله لا شك فى كفر وردة وزندقة وإلحاد من باح وتلفظ بشىء من ذلك دين الله يطرح وهذا المخلوق لا يتقدم إلا إذا صار ذنبا لجورج بوشت فقط إذا صرنا أذنابا لهؤلاء نتقدم وإذا أخذنا بنظام خالقنا نتأخر ونشقى والأمة لا تتقدم إلا بالتبعية المطلقة إن التقليد من صفات القرود ليس من صفات بشر فلو كان لنا شأن لأنفنا أن نقلد أولئك فى هذه الرزيلة {ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون} {أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك كتابا يتلى عليهم} سبحان الله عندما أدرك العرب ما فى القرآن وربوا تربية مكية تقدم معنا لبيد الذى هو أشعر الشعراء بعد أن أكرمه الله بالإسلام ما قال شيئا من الشعر فكيف يكون الهذيان مع كلام الرحمن إلا بيتا واحدا:
الحمد لله إذا لم يأتنى أجلى ... حتى اكتسيت من الإسم سربالا
(22/22)
وهو أشعر شعراء العرب ونحن فى هذه العصر لا نتقدم إلا إذا تبعنا أولئك أنا أقول لهؤلاء الذين لعنهم الله ومسخ قلوبهم إن الأمة الإسلامية فى تبعية الآن وتقليد أعمى من سنين وشريعة الله نحيت فى مجال الحكم وفى نظام الحياة بين الناس فما الذى جناه الناس ما جنوا إلا الذل والعار ومال لهم عند الله من الدمار أعظم وأعظم لا يتقدم الناس إلا بهذا التقليد الأعمى هذا صنف.
صنف آخر ظاهره أخف وطأة من هؤلاء لكن حقيقته أخبث وأشنع أتوا إلى مبادىء الكفر وإلى أنظمة الكفر فخلعوا عليها ثوب الإسلام أولئك استعلوا بعقولهم على ربهم وقالوا نظامك لا يصلح إنما نظام جورج ولينين وغيرهما من الملعونين هو الذى يصلح لهذه الحياة استعلوا بعقولهم على الله وكان الكافر على ربه ظهيرا أما هذا الصنف الذى ما ربى تربية مكية لا ما استعلى فى الظاهر بعقله على ربه لكنه أتى إلى تلك القاذورات وخلع عليها لباسا شرعيا فأدخل الكفر فى الإسلام وجعل الكفر ضلالا وقام بهذا أناس كثيرون فى هذه الأيام من جملتهم الباقورى الذى كان له شأن وولى وزارة الأوقاف فى فترة من الفترات همه أن يؤلف بين شرع الشيطان وشرع الرحمن على حساب شريعة الرحمن فالمراة تخرج للبحر تسبح بالملابس القصيرة إذن لا بد لها من فتوى بأن ما هى عليه يوافق الشرع المسألة سهلة وهذه الحالة الغربية المتهتكة بدلا من أن نقول الحالة متحضرة ولا داعى لأن نقول حرام وحلال دعونا من الإسلام لا نقول هذه الحالة من الإسلام يفتى كما فى مجلة الاعتصام بأن خروج النساء إلى البحر بهذه الحالة ليسبحن مع الرجال والنساء يجوز لهن فى هذه الحالة أن يقصرن وأن يجمعن ولا مانع أن تصلى بالمايوه على شاطىء البحر قصرا وجمعا الأفخاذ مكشوفة والصدر مكشوف والعورات المغلظة بادية ليته قال تصبح إمامة أيضا لتكتمل الصلاة الشيطانية هذه ليس صلاة رحمانية هذا حال شيخ يدعوا إلى هذا يأتى لقاذورات الكفرة فيخلع عليها ثوب الإسلام.
(22/23)
أيها الشيخ الذى أفضيت إلى ما قدمت هل المرأة التى ستذهب إلى شاطىء البحر وتسبح بالمايوه مع الهمج الخليط هل هذه الآن بحاجة لفتوى شيطانية هل ستصلى وتجمع وتقصر وهل هى الآن تعرف الصلاة والجمع والقصر ولما هذا التلاعب بدين الله وصل به الشطط أن الاختلاط بين الذكور والإناث بين الرجال والنساء بين الجيران بين الأصدقاء والصديقات كان نبينا عليه الصلاة والسلام يفعله وكان لا يذهب لوليمة إلا بعد أن يأخذ أمنا عائشة لأجل أن تصبح السهرات مختلطة ضلال لكن باسم الشرع وقد اجتمع مرة بذكور وإناث فى مكان يجتمعون فيه من أجل المحاضرات والدعايات فقام شيخ أزهرى شيطان وألقى خطبته على عادة الطراز الغربى سيداتى آنساتى سادتى ثم بعد ذلك قال لا أريد أحدا أن يستنكر على فعلى وأننى كيف بدأت بالنساء قبل الرجال لا هذا أسلوب شرعى والله أمرنا به فى كتابه أن نبدأ بالنساء قبل الرجال سبحان الله هذا أسلوب شرعى هذا مأخوذ من الحضارة الغربية الغوية عندما عبدوا المرأة من دون رب البرية.
(22/24)
سيداتى آنساتى سادتى هذا من كتاب الله قال نعم يقول الله فى سورة الشورى لله ملك السماوات والأرض هو يقول هذا مأخوذ من القرآن الدليل على هذا {يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور} فقدم الإناث على الذكور أكمل الآية يا أعمى البصيرة {أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم خبير} ثم هذه الآية لفتت نظرك ومئات الآيات ما لفتت نظرك {إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات} عشرين وصفا عشرة للذكوروالإناث يبدأ بالذكور ثم ختم الآية فقال أعد الله لهم ما قال لهن أيضا لهم فأدخل ضمير الإناث فى ضمير الذكور تبعا لا بالتغيير {أعد الله لهم مغفرة وأجرا كبيرا} ما لفت نظرك هذه الآية وغيرها من الآيات الكثيرة الله جل وعلا يقول فى كتابه {وهو الذى سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها} لم يقل تلبسها نساؤكم مع أن حلية البحر وهى اللؤلؤ لا يجوز أن يلبسها الرجال وهذا من زينة النساء.
فالذى يلبسها النساء لما أضافها إلى الرجال تلبسونها هذا أسلوب قرآنى يعلمنا ربنا جل وعلا عفة اللسان عندما نتحدث عن أمر النساء فالمرأة كما أنها تخفى حليها عندما تلبسه فنحن لا نضيف لبس الحلى إليها إنما نضيفه لزوجها تلبسونها أضيف اللبس إلى الرجال مع أن الذى يلبسه النساء سترا لهن كما أمرت هى بستره عندما تلبسه نحن نسترها فلا نضيف هذا اللبس إليها.
وهذا الرقيع فى هذه الاجتماعات الغوية سيداتى آنساتى سادتى كيف هذا الأسلوب الغربى الشيطانى يقول هذا مأخوذ من القرآن.
(22/25)
الذين أسسوا المدرسة العقلية فى هذا الوقت وأفسدوا دين الله عندما أفسدوا الأزهر وغيره الطاغوت الأول جمال الدين الأفغانى وربيبه الذى كان يستقى من لبنه الخبيث النجس محمد عبده لبن نجس يستقى منه هذا الإنسان وأسسوا المدرسة العقلية قوامها أن شريعة الله تعرض على عقول البشر لنؤلف بين العقل البشرى وبين شريعة الله فإذا كانت شريعة الله لا يقرها العقل ينبغى أن يضرب العقل هذه الشريعة حتى يطوعها لعقله سبحان الله الحياة تعرض على الشريعة لتصلحها الشريعة عكسنا الأمر نعم أحاديث نزول المسيح متواترة زادت على خمسين حديثا ووصلت إلى سبعين حديثا وقرر الله نزوله فى كتابه فقال: {وإن من أهل الكتاب ليؤمنن به قبل موته} وأخبر الله أنه ما قتله اليهود عندما قال: {بل رفعه الله إليه} هذا لا يتناسب مع عقل أصحاب المدرسة العقلية وعلى رأسهم المخرف محمد عبده.
(22/26)
إذن شريعة وعقل نضرب الشريعة لتدخل بعد ذلك تحت إطار العقل كيف يفعل؟ يقول أما الأحاديث فهى أحاديث آحاد لا يؤخذ بها فى الاعتقاد اضربها برجلك كما يضرب الصبيان الكرة بأقدامهم كيف ولو سلمنا بصحتها فالمراد من المسيح يقول هذا إشارة إلى النور والخير الذى حصل بالإسلام ومن بعثة نبينا عليه الصلاة والسلام وليس مسيح وهو عيسى ابن مريم ينزل فى آخر الزمان والمسيح الدجال هذا رمز للخرافات والدجل كما أنه عند السافل الرقيع مصطفى محمود تقدم معنا المسيح الدجال رمز لأى شىء؟ للتكنولوجيا والاختراعات العصرية وهذا شيخ ثانى من أصحاب المدرسة العقلية كل واحد يلعب بدين الله كما يريد لأن الإله الأول هو العقل والحضارة الغربية فلا بد إذن من تطويع الإسلام لعقل الإنسان إذن المراد من الدجال هذا رمز للدجل والخرافات التى زالت بمجىء الإسلام طيب آيات القرآن ماذا تفعل بها بل رفعه الله إليه وأنه سينزل قال الأمر سهل سهل بل رفعه الله إليه هذا رفع مكانة لا رفع مكان أى رفع الله مكانة عيسى فجعله من المقربين عنده ولم يرفع بدنه إلى السماء عندما أراد اليهود قتله طيب وماذا فعل إذن بعيسى والله يقول وما قتلوه وما صلبوه يقول ما قتل لكنه خرج متنكرا إلى بلاد الهند ومات هناك وقبره معروف فى الهند أم أنه رفع إلى السماء وسينزل فى آخر الزمان هذا خرافة سبعون حديثا ووصلت لدرجة التواتر إذا لم تكن أحاديث المسيح متواترة فلا متواتر فى حديث نبينا عليه الصلاة والسلام آيات القرآن تلعب بها إلى هذا الحد إذا صح النص ما استطاع أن يرده يتلاعب فيه ويأوله وإذا أمكنه أن يرده ضربه برجله هذا دين هذا دين هذا أركان المدرسة العقلية.
(22/27)
من هذه المدرسة ومن مستنقعها الآسن يستقى محمد الغزالى الذى له شأن ويطنطن بأمره فى هذه الأيام هو من أتباع المدرسة العقلية ويستقون منها انظروا لهذا الإنسان إلى شىء من هوسه من جملة هوسه الكثير الوفير موضوع المرأة لو بحث هذا الإنسان فى المرأة على حسب نصوص الإسلام والله إن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر إذا لك يقصد الهوى والضلال لكن البحث مشى على هذه الشاكلة أما فى كتابه من هنا نعلم فى صفحة مائة وواحد وستين عندما بحث فى طبيعة المرأة وأن الإسلام ما أباح أن تكون المرأة قاضية ولا وزيرة هذا هو مطابق الحكمة يقول ولذلك إذا أردنا أن نكلف الإسلام بأن يعين النساء قاضيات ووزيرات فهذا ظلم للطبيعة وافتيات على المصلحة ثم قرر هذين الأمرين.
الأمر الأول: يقول المرأة لاتقبل شهادتها فى الحدود وهى على مثل شهادة الرجل فى غير ذلك فكيف يصلح قضاؤها فيما لا تقبل فيه شهادتها إذن لا يصلح أن تكون قاضية
الأمر الثانى: الرجل قوام وله صفة القوامة على المرأة فى المجتمع الصغير وهو البيت فكيف تكون المرأة قوامة على الرجل فى القضاء وفى المحكمة.
هذا بحث طيب وهذا حكم الله لا يجوز للمرأة أن تلى القضاء ولا أن تكون وزيرة ثم قرر هذا بكلام كثير لبعض المتطورات من جملتهن عزيزة عباس عصفور التى اشتغلت فى النيابة فترة وعلق على كلام وزير الداخلية عندما جعل عددا من النساء مسؤلات فى محاكم الاستئناف نائبات علق على هذا بكلام العصريين وأن ما جاء به الإسلام حسن لأن العصريين والعصريات يقولون هذا ينافى طبيعى المرأة.
(22/28)
إذن حسن لأن العصريين والعصريات يقرونه طيب عرف سيتغير ضغط الواقع بعد ذلك يقول المرأة ينبغى أن تزاول القضاء إذن نحك بعد ذلك هذه النصوص وننحتها ونضربها لتخضع لطوعنا ولتلاعبنا يقول فى كتابه سر تأخر العرب والمسلمين أنا أجيبك عن السر يا أخى الكريم سر تأخر العرب والمسلمين أمران وهما إذا صلحا صلح الناس وإذا فسدا فسد الناس العلماء والأمراء هذا هو تأخر العرب والمسلمين علماء مهوسون يريدون أن يخضعوا شرع الحى القيوم لعقلهم المجنون هذا سر تأخر العرب والمسلمين حكام يبيعون دين الله بأقل من ثمن العنز ويستنجدون بمن غضب الله عليه ولا يلجأون إلى الله القوى العزيز الذى إذا أراد شيئا فإنما يقول له كن فيكون نحوا شريعة الله من الحياة وأتوا بقوانين مستوردة من هنا وهناك سبب تأخرنا هذين الأمرين وسبب فساد الحكام فساد العلماء فو صلحنا لصلحت الحياة لكن لما وجد فى الأمة أمثال هؤلاء من أصحاب المدرسة العقلية وغيرهم حصل فى هذه الحياة ما حصل هذا هو تأخرنا.
يقول فى هذا الكتاب يجوز للمرأة أن تلى أى منصب من قضاء وغيره ما عدا الخلافة تصبح قاضية ووزيرة نائبة وكل شىء لكن لا تكون خليفة فقط أى رئيسة دولة طيب أين ما ذكرته فى الكتاب السابق من هنا نعلم بأنه لا يجوز أن تكون قاضية وقررت هذا بأمرين وبكلام عصرية عزيزة عباس عصفور.
(22/29)
جاء بعد ذلك إلى مرحلة أخرى فى كتابه السنة النبوية بين المحدثين والفقهاء صفحة سبع وخمسين فقال يجوز أن يتولى السلطة أكفأ واحد فى الأمة رئاسة الدولة ذكر أو أنثى وليس فى الشريعة ما يمنع أن يكون خليفة المسلمين امرأة لا حرج فى ذلك على الإطلاق فما جاء لحديث النبى عليه الصلاة والسلام [لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة] وهو فى صحيح البخارى ضربه بالرجل الآن ما أيسره وما أسهله ما دام الإله هو العقل وتطويع الدين للحضارة الغربية فماذا ستقول فى هذا الحديث قال هذا له معنى عندى ما سبقه إلى هذا المعنى إنس ولا جان ما هو معنى الحديث عندك؟ قال هذا سيق فى مناسبة خاصة وهى أن عروش كسرى عندما كانت تتهاوى وتسقط وبلاد كسرى تفتح والفتح الإسلامى يدخلها ونور الله يشع فيها ولى أسرة كسرى بنت كسرى عليهم حاكما فبلغ هذا للنبى عليه الصلاة والسلام كيف قال لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة أهذا فى مناسبة خاصة وأن هذا لا يغنى عنهم والفتح الإسلامى سيزيل هذه الحواجز وهذه المرأة لا يستطيع أن تقف أمام قوة الإسلام أما لو كان بدل ابنة كسرى جولد مائير أو تاتشر كما يقول هو أو أنديرا غاندى عليهن لعنة الله أو فكتوريا أو ما شاكل هذا لما قال النبى عليه الصلاة والسلام هذا لو كانت جولد مائير بدل ابنة كسرى خليفة لما قال لا يفلح قوما ولوا أمرهم امرأة لما كل هذا الانهزام يقول لنصون ديننا أمام الحضارة الغربية ولا نقول إن الإسلام امتهن المرأة وأى امتهان للمرأة عندما جعل ربنا جل وعلا لكل من الذكر والأنثى وظيفة {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} لا تسعد المرأة إلا بوظيفتها ولا يسعد الرجل إلا بوظيفته هذا صنف.
إخوتى الكرام: هؤلاء صنف أتوا إلى الجاهلية فألبسوها لباس الإسلام حالهم كحال إنسان أتى بعدو للمسلمين فألبسه لباس المسلمين جعل له عمة ولحية هو عدو لكنه جعله فى الظاهر مسلما.
(22/30)
هذه الأمور ينبغى أن نحذرها لأن خطر هذه فى هذه الأيام أكثر من تلك وأخطر تلك قد ينبذها من عنده ذرة إيمان يقول نحن نتبع الغرب ونتخلى عن ديننا هذا ردة سافرة مكشوفة لا نقبل بها أما هنا قال دين عصرى على حسب تعبير الضال صاحب كتاب خالد محمد خالد رجال حول الرسول عليه الصلاة والسلام نريد دينا عصريا يوافق روح العصر روح العصر أو روح الحضارة الغربية نريد دينا يوافق روح الحضارة الغربية نلغى أحكام الشريعة ونقول نحن على الإسلام كيف نقول لأننا نحقق المصلحة والدين الغرض منه تحقيق المصلحة فإذا ألغينا الشريعة الإسلامية لنحقق المصلحة نحن مسلمون هذا يسهل على النفوس أن تقبله إذا لم تكن طاهرة أما الدعوة الأولى فلا يمكن أن تقبل بحال من الأحوال ردة مكشوفة لا بد إخوتى الكرام من نعى الأمر تماما الوعى أنت عبد والله خالق اعرف قدرك وقف عند حدك وإياك أن تأله عقلك أو أن تتعالى على ربك هذا هو الكفر المبين.
ولذلك من استحسن شيئا غير شريعة الإسلام فهو كافر مرتد وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم فهذا الأمر لا بد من أن نعيه.
القلوب عندما طهرت فى العصر المكى لا يوجد قلب يأله عقله أو يستحسن غير شرع ربه لا.
إخوتى الكرام: تمييع الإسلام الذى حصل فى هذا الزمان ينبغى أن نحذره ومن كان لاعبا فلا يلعب بدينه يقول هذا حرام وفعلته نفسى خبيثة أرجو رحمة الله أما أنه حرام ويفعله ويقول لى عليه أجر وهذا ليس بحرام والنصوص الشرعية تحتمله.
وأشربها وأعلمها حراما ... وأرجو عفو ربى ذى امتنان
ويشربها ويزعمها حلالا ... وتلك على المسىء خطيئتان
(22/31)
النكاح المدنى الذى حصل فى تركيا كما يشير إلى هذا شيخ الإسلام فى الجزء الرابع صفحة ست وعشرين وثلاثمائة الشيخ مصطفى صبرى تسمعون به إخوتى الكرام من العجيب أننى ذكرت هذا لطلاب فى الكلية الشيخ مصطفى صبرى عندكم خبر عنه قالوا لا ما سمعنا به الضال محمد عبده عندكم خبر عنه قالوا يا شيخ آذاننا صكت فى جميع المناهج مصلح مصلح مصلح محمد عبده مصطفى صبرى ما عندكم خبر عنه آخر شيخ للإسلام لآخر خلافة إسلامية كتابه موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين ما عندكم خبر عنه قالوا لا خبر لنا عن هذا الإنسان هذا الرجل عليه رحمة الله قضى حياته حتى توفى بعد ذلك شهيدا فى سبيل خدمة الإسلام فى محاربة هذه الضلالات ومحاربة تمييع الإسلام والاحتكام إلى قوانين الشيطان باسم الإسلام الشيخ مصطفى صبرى عليه رحمة الله عندما قضى على الخلافة الإسلامية على يد اللعين الملعون مصطفى كمال أتاتورك وهاجر هذا إلى بلاد بيروت ثم إلى بلاد مصر مات هناك غريبا غريبا بحيث عندما توفى عليه رحمة الله ما عنده طعام يأكله جاءه بعض أصحابه فى بيروت فى آخر يوم من رمضان فى ليلة عيد الفطر عندما جاء لبنان وأراد أن يذهب منها إلى مصر عندما حصل الإلحاد والكفر البواح وقضى على شعائر الإسلام فى تركيا على يد ربيب الغرب مصطفى كمال أتاتورك جاءه وقال أريد منك أن تعطينى خمس ليرات ذهبية فأنا لى شأن باشا يقول له بعض الأتراك الذين هم فى لبنان وغدا عيد الفطر وما عندى شىء أضيف الناس وهذا لا يريد أن يطلب قرضا من شيخ الإسلام حقيقة لكن جاء لينظر هل هذا الشيخ عنده شىء يأكله صباح العيد أم لا يقول فاحمرت عيناه وبدأت الدموع تذرف من عينيه كالمطر وانتفخ وجهه فقال ما لك قال حسبى الله ونعم الوكيل فقال عرفت ماذا تقصد ما أريد منك قرضا أنا عندى عشر ليرات ذهبية هذه هى لكن جئت فقط لأسأل عن حالك هل عندك أم لا هذه خمسة لى وخمسة لك قال ما آخذها قال أنت شيخ
(22/32)
الإسلام سيدخل عليك عيد الفطر ما عندك طعام تأكله ولا تأخذ هذه الليرات والله إن لم تأخذها هذا مسدس أطلق على نفسى الرصاصة فى رأسى لأموت أمامك وتتحمل وزرى أنت شيخ الإسلام ولا تأخذ هذه الليرات لأجل أن تنفق على نفسك فى يوم العيد فلما رأى الأمر هكذا قال أقبلها قال مع ذلك إذا يسر الله عليك تردها خذ لك من هذه لأجل أن توسع على نفسك فى هذا اليوم عيد الفطر سيدخل عليك وما عندك شىء تأكله يقول هذا العبد الصالح عندما كان هناك وألغيت أحكام الشريعة وألغى النكاح الشرعى إلى نكاح مدنى بدل من أن كان يعقد الإيجاب والقبول بين الطرفين شيخ مأذون شرعى صار يعقد فى البلدية من قبل المحاكم المدنية محاكم مدنية هذا يوجد فى الأمة الإسلامية كلية الشريعة والقانون محكمة شرعية ومحكمة مدنية ينبغى أن تهدم الشرعية قبل المدنية كيف يوجد هذا فى بلاد الإسلام شرع الرحمن وشرع الشيطان {وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا} نعوذ بالله من هذا الضلال ما لله لله وما لقيصر لقيصر عندنا شىء يحكم به جورج وشىء يحكم به رب العالمين {ولا يشرك فى حكمه أحدا} .
(22/33)
لما حصل النكاح المدنى يقول هذا العبد الصالح فى الجزء الرابع صفحة ست وعشرين وثلاثمائة يقول أفتيت بأن هذا النكاح لا يحل النكاح ولا يستحل الزوج به الزوجة ومن فعله طائعا مختارا فهو كافر وهذا يعتبر سفاحا يقول فناقشى بعض المشايخ وهو مفتى كوم الجناه فى بلاد تركيا اسمه الشيخ لوزادا لوزاد أفندى يقول فلما قلت هذا يا شيخ الإسلام وفقهائنا ما اشترطوا فى النكاح إلا الإيجاب والقبول وحضور شاهدين ولى الأمر حضر وإيجاب وقبول وحضر شاهدان هذا الذى يحصل فى المحاكم المدنية شاهدان إيجاب وقبول وولى فلما أنت تقول هذا كفر ولا يعتبر نكاحا إنما هو سفاح قال ذهبت منه المراسم الشرعية لما غير من الصبغة الشرعية إلى الصفة المدنية أنتم لا ينبغى أن تقولوا ما المانع من هذا لا هذا كفر إنما قولوا ما السبب لهذا التحويل إذا كان النكاح فى المحكمة المدنية فى البلدية بحضور المحاكم القانونية يتم بإيجاب وقبول وشاهدين وولى وفى شرعنا فيه كذلك لما حول من الشرعية إلى المدنية لا تقل ما المانع من هذا النكاح أخبرونى ما السبب ثم قال له قلت لا هذا النكاح عندما يقع فى المحكمة الشرعية يفعله المسلمون على أنه شعيرة من شعائر الله التى أباحها الله لعباده لمصلحة الإنجاب والنسل وحفظا لعفة الصنفين لئلا يصبح هناك فساد بين الذكور والإناث والإنسان يفعل هذا طائعا مختارا لأن هذا هو شرع الحكيم الخبير عندما يفعل بالصفة الشرعية يهون على الإنسان امتثال هذا لأن من عنده أنفة وحرية ومعانى الإنسانية يأنف من يعطى ابنته أو أخته لرجل ليفترشها ولتكون له فراشا لكن عندما يفعل هذا لأن هذا هو شرع الله والله أمر به ونحن عباده يفعل هذا بلا غضاضة، لله الحكم ونحن عباده نفعله بلا غضاضة.
(22/34)
فإذن هناك مراسم شرعية موجودة يقال بسم الله تقال خطبة النكاح بعد ذلك يذكر هذا العقد حصلت صفة شرعية أما هنا فجرد من جميع هذه الاعتبارات ولذلك أول نكاح مدنى عقد فى المحاكم المدنية فى تركيا قال العاقد لا دخل للسماء فى شؤون الأرض هو وإن كان إذن على صفة النكاح الشرعى من حيث الشروط لكن الصبغة زالت الصبغة الشرعية زالت ما الفارق قال له بين السفاح وبين النكاح المدنى هنا رجل يختلى بامرأة وهناك رجل يختلى بامرأة لكن بالنكاح المدنى حصل بواسطة شاهدين وعقد إيجاب وقبول وفى السفاح ما حصل لكن الغاية واحدة فكما أنكم تقولون هذا سفاح وهذا نكاح مدنى نحن نقول هذا النكاح المدنى سفاحا وهذا نكاح شرعى لأنه ما حصل على الصفة الشرعية قال عليه الصلاة والسلام [من تشبه بقوم فهو منهم] والحديث فى سنن أبى داود عن عبد الله ابن عمر بسند جيد كما قال الإمام ابن تيمية فى اقتضاء الصراط المستقيم ورواه الإمام أحمد فى المسند عن حذيفة بسند حسن مطولة للنبى عليه الصلاة والسلام قال [بعثت بالسيف بين يدى الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له وجعل رزقى تحت ظل رمحى وجعل الذل والصغار على من خالف أمرى ومن تشبه بقوم فهو منهم] .
(22/35)
انتبهوا إخوتى الكرام: تشبه وشاب تشبه تكلف التشبه فى خصالهم استحسانا لذلك فهذا كافر مرتد شابههم فى خصلة من خصالهم وأمور حياتهم دون تكلف ودون قصد فركب كما يركبون وأكل كما يأكلون ولبس كما يلبسون مما ليس هو خاص بهم لكن صار بهم شابها لكن فعل هذا إما ارتفاقا أن هذا أيسر عليه إما له فيه مصلحة أسهل عليه بدون قصد التشبه والاقتداء بهؤلاء فلا حرج من تشبه إذن فعل هذا قاصدا التبعية لأولئك فهو منهم وأما إذا شابههم دون أن يكون فى ذلك قصد أكل مثلا بالشوكة لا أقول إن هذه محمود وسنة لكن إذا أكل فهو مباح أكل بهذه الشوكة قلنا لما قال لأن الغرب يأكلون هذا أيسر على أنت تفعل هذا تشبها لا قال هذا موجود عندهم هذا أيسر على فعلت لطلب اليسر والسهولة حتى يعنى لا يحصل فى ذلك شىء من التوسيخ لليدين وغير ذلك من أمور أراها أيسر على فعلت هذا لأنه أيسر لا حرج لكنه إذا تكلف هذا وقصده بقلبه فهو منهم كما قال نبينا عليه صلوات الله وسلامه.
إذن تمييع الدين بحيث يوافق ما عليه الغربيون هذا ما كان يخطر ببال أحد ممن شهد العصر المكى لا يأله عقله ولا يستحسن شيئا غير دين ربه أما بعد ذلك صنف ثالث بدأوا يلتمسون الأعذار لأحكام العزيز الغفار فهم لا يخضعونها للواقع الغربى لكن يظهرون الإسلام كأنه متهم وأن أحكامه مهزهزة وتحتاج إلى دفاع عنها وكأن أنظمة الغرب قوية صامدة هاجمتنا فينبغى إذن أن ندفع عن ديننا العار.
أتكلم على هذا الصنف بشىء من التفصيل ثم ندخل بعد ذلك فى مدارسة السورة إن شاء الله وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليما كثيرا سبحانك اللهم وبحمدك اشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(22/36)
مقدمة التفسير (9)
(دروس تفسير)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة التفسير 9
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا.
الحمد لله رب العالمين شرع لنا دينا قويما وهدانا صراطا مستقيما وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة وهو اللطيف الخبير.
اللهم لك الحمد كله ولك الملك كله وبيدك الخير كله وإليك يرجع الأمر كله أنت رب الطيبين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك ولى الصالحين وخالق الخلق أجمعين ورازقهم فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين.
{ياأيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون} [الأنعام/102] .
وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله أرسله الله رحمة للعالمين فشرح به الصدور وأنار به العقول وفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبيا عن أمته ورضى الله عن أصحابه الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
{يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا} [النساء/1] .
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون}
[آل عمران/102] .
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا * يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما} [الأحزاب/70-71] .
أما بعد: معشر الإخوة الكرام..
(23/1)
مضى عشر محاضرات لمقدمة فى التفسير وبعد الانتهاء من تلك المقدمة نتدارس بعون الله وتوفيقه فى هذه المعظة ما يتعلق بسورة لقمان وقبل أن ندخل فى تفسير آيات هذه السورة الكريمة ينبغى على كل دارس لتفسير سورة من سور القرآن فى بداية تفسيرها تفسير أى سورة منها أن يتكلم عن ملامح ومعالم لتلك السورة بحيث يثبت لها شخصيتها التى تتميز بها عن غيرها من سور القرآن الكريم وهذه الملامح وتلك المعالم تدور حول سبعة أمور لا بد من الكلام عليها عند البدء فى تفسير سورة من سور القرآن العظيم.
المعلم الأول والأمر الأول: من هذه الأمور السبعة أن يبن الإنسان معنى السورة سورة لقمان ما معنى السورة والبيان يكون فيما يتعلق ببيان هذا اللفظ من حيث معناه فى اللغة ومن حيث معناه فى الاصطلاح فى بيان معنى السورة فى القرآن الكريم.
أما السورة فى اللغة فتطلق على أربعة معانى.
أولها: على المنزلة العالية الرفيعة يقال لها سورة منزلة عالية رفيعة قال النابغة الزريانى يمدح هرم ابن سنان:
ألم تر أن الله أعطاك سورة ... ترى كل ملك دونها يتذبذب
أى منزلة منزلة عالية رفيعة.
والمعنى الثانى: الذى تطلق عليه لفظ السورة فى اللغة العربية بمعنى الإحاطة والجمع ومنه سور البلد لأنه يحيط بها من جميع أطرافها.
والمعنى الثالث: يأتى بمعنى الكمال والتمام ومن قول العرب ناقة سورة إذا كانت كاملة فيها الصفات التى يرغب الناس فيها ناقة سورة ممتلئة سمنا وجمالا وبهاء وحسنا.
(23/2)
وتأتى السورة بمعنى القطعة والبقية والجزء من الشىء ومنه سؤر الإناء، وعلى هذا فأصل سورة كما قال الإمام ابن كثير فى تفسيره سؤرة خففت هذه الكلمة بتحويل الهمزة إلى واو سورة سؤرة لما كانت الهمزة ساكنة وقبلها مضموم حذفت من باب التخفيف وحولت إلى واو فقيل سورة وجمع السورة سور وسورات وسوارات كما قرر هذا أئمة اللغة كالإمام ابن منظور وغيره فى لسان العرب: إن بمعنى المنزلة العالية الرفيعة بمعنى الجمع والإحاطة بمعنى التمام والكمال بمعنى الجزء والبقية.
هذه المعانى الأربعة فى اللغة العربية للسورة كلها موجودة فى سورة القرآن وسورة القرآن لها منزلة عالية رفيعة وكيف لا وقد تحداهم بها {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين * فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين} وليس بعد هذه المنزلة منزلة وليس بعد هذه الرفعة رفعة أن هذه السورة فيها الإعجاز الذى تحدى الله به الأولين والآخرين من إنسهم وجنهم فإذن فيها معنى الإبانة والارتفاع والعلو علو المنزلة والقدر.
وسورة القرآن فيها معنى الإحاطة فهى تحيط السورة تحيط بعدد من الآيات أقلها ثلاث كما سيأتينا تحيط بجمل من الحكم والأحكام فهذه السورة أحاطت بآياتها وبحكمها وأحكامها وهى كاملة تامة ليس فيها خلل ولا نقص لا فى لفظها ولا فى معناها {كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير} ، {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} ، وهى جزء قطعة وبقية وبعض من القرآن الكريم المكون من مائة وأربع عشرة سورة.
إذن المعانى الأربعة اللغوية موجودة فى السورة القرآنية علو بمعنى العلو والارتفاع بمعنى الإحاطة بمعنى الكمال والتمام بمعنى الجزء والبقية.
هذه معانى السورة فى اللغة العربية.
(23/3)
وأما فى الاصطلاح: فقال الإمام الجعبرى إبراهيم ابن عمر أبو إسحاق المتوفى سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة للهجرة الإمام الجعبرى يقول فى تعريف السورة القرآنية فى الاصطلاح كما نقل ذلك عنه الإمام السيوطى فى الإتقان يقول السورة القرآنية هى قرآن مشتمل على آى ذى عدد لها فاتحة وخاتمة أقلها ثلاث آيات إذن هى قرآن مشتملة على عدد من الآيات لها فاتحة وخاتمة بداية ونهاية أقل سور القرآن ثلاث آيات وهى سورة الكوثر وأطول سور القرآن سورة البقرة ست وثمانين ومائتا آية ومجمع سور القرآن كما قلت أربع عشرة ومائة سورة فإذن قرآن يشتمل على آى ذى عدد لها بداية ولها نهاية أقلها ثلاث آيات.
إخوتى الكرام: سورة لقمان هذه السورة سميت بسورة لقمان وكل سورة من سور القرآن سميت باسم من الأسماء كما سيأتينا هذا عند بيان أسماء سور القرآن لو قال قائل ما الحكمة من هذا التسمية لما لم يجعل الله جل وعلا كتابه سورة واحدة ديوانا واحدا يبتدىء من آية أولى وينتهى بعد ذلك بآخر آية دون أن يسور؟
والجواب لذلك حكم كثيرة أبرزها ثلاث حكم:
(23/4)
الحكمة الأولى: تيسير مدارسته وحفظه وتشويق العباد إلى ذلك فلو كان القرآن كله متتابعا ليس لبعضه بداية ولا نهاية يبتدىء الإنسان أول آية منه الحمد لله رب العالمين من سورة الفاتحة ثم بعد ذلك يبقى مسترسلا فى الآيات إلى نهاية سورة الناس لما حصل فى ذلك تشويق للعباد إلى هذا القرآن الكريم كما لو كان مسورا الإنسان عندما يقبل على القرآن إذا لم يكن مسورا يقرأ يقرأ يقرأ ثم يقال له هل حفظت القرآن يقول لا هل حفظت شيئا منه يقول نعم لكن ما حفظت جزءا محددا سورة سورة شىء لا يوجد لا زلت أحفظ آيات متتابعة أما هعنا وحقيقة عندما يقال للإنسان القرآن أربع عشرة ومائة سورة كم حفظت يقول حفظت عشر سور القرآن يعنى إحدى عشرة سورة وقد تكون هذه السور الإحدى عشرة لا تملأ ثلاث صفحات من القرآن من قصار المفصل لكن هو حقيقة يشعر بأنه قد أخذ جزءا واضحا قطعة معلومة من القرآن حفظ الفاتحة سورة مستقلة حفظ الصمد الإخلاص سورة كاملة حفظ الكوثر سورة كاملة فيحصل فى هذا شىء من التشويق والارتياح والرغبة فى مدارسة القرآن وحفظه يقول أنا حفظت خمسين سورة من سور القرآن حقيقة هذا مما ترتاح له النفوس وتبتهج له القلوب فسور القرآن وجعل سورا لترغيب العباد وحثهم على مدارسته وحفظه.
(23/5)
الحكمة الثانية: والفائدة الثانية من تسوير القرآن للدلالة على موضوع السورة فكل سورة لها موضوع معين عالجته فلو كان القرآن متتابعا لما أمكنك أن تحدد الموضوع الذى تريد أن تنظر فيه فى مكان معين فمثلا الذى يريد أن يبحث عن حديث الله جل وعلا عن النحل وفى أى مكان ذكر الله هذا مباشرة تقول له افتح سورة النحل: {وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون} إلى آخر ذلك من الآيات وهكذا الذى يريد أن يعلم حديث القرآن عن العنكبوت وهكذا عن غير ذلك من الأمور عن قصة البقرة فإذن كل سورة عالجت فى الغالب موضوعا معينا ولذلك سميت باسمه فللدلالة على موضوع السورة سور القرآن وجعل سورا ليكون اسم تلك السورة دالا على ذلك الموضوع وسور القرآن تسمى بأشهر شىء فيها مما هو مستغرب أو نادر تكرر ذكره لما فيه من حكمة عجيبة إما فيما يتعلق بخلقه أو صفة من أوصافه أو فيما يتعلق به من الأحكام المتعلقة به سورة النساء سميت بهذا كرر الله ذكر النساء فى سورة النساء عشرين مرة ثم بعد ذلك عندما يتأمل الإنسان هذه الأحكام يرى حقيقة أن السورة أهلا لأن تسمى بسورة النساء ففيها قضى الله على عادات الجاهلية الذين كانوا لا يعدون النساء شيئا بل كانوا لا يذكرون النساء إلا فى مقام التحقير فلها سورة كاملة للنساء وفى ذلك أيضا التحذير مما وقعوا فيهن ونحوهن من الفتنة فإذن لفت الله أنظار العباد إلى هذين الأمرين هذه مكرمة ولها قدر ثم بعد ذلك يخشى منها كل فتنة وغيا فكان كفر من كفر من المتقدمين من قبل النساء وسيكون كفر من سيأتى من اللاحقين من قبل النساء كما ثبت هذا عن ابن عباس رضي الله عنه سميت بهذا الإسم دلالة على الموضوع الذى عالجته وتكرر فيها أكثر من غيرها فإذن هذه حكمة ثانية من أجلها سور القرآن وجعل سورا.
(23/6)
والحكمة الثالثة: للإشارة إلى إعجاز القرآن والإشارة إلى القدر المعجز من القرآن عندما قال الله جل وعلا {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله} هذه السورة لا بد لها من ضابط ولا بد لها من تحديد ما هى أقلها ثلاث آيات وهو سورة الكوثر فلا يستطيع العباد أن يأتوا بثلاث آيات فى فصاحة آيات القرآن وبلاغتها فلا بد إذن من تحديد القدر المعجز وهذا يكون كما قلت بجعل القرآن سورا متعددة فإذن عندما طلب الله منهم أن يأتوا بسورة من مثل هذا القرآن إن كانوا يشكون فى أن هذا القرآن من عند الرحمن وتحققوا هذا الإعجاز بأقصر سوره وهى سورة الكوثر.
إذن هذا التسوير سورة لقمان سورة الناس سورة الفلق وهكذا هذا التسوير وجعل القرآن سور له حكم كثيرة أبرزها هذه الأحكام الثلاثة لتيسير مدارسته وتشويق العباد إلى ذلك للدلالة على موضوع السورة.
ولذلك عندنا سورة لقمان لو أراد أن يتعرف على أخبار هذا العبد الصالح مباشرة تقول له افتح على سورة لقمان ولو لم يكن هناك سورة محددة حقيقة الأمر فيه صعوبة فى أى مكان سيبحث فى المصحف فلا بد من أن يحيط به وأن يكون على علم بجميع آياته على وجه التركيز أما هنا الأمر يسير سورة لقمان ترى فيها أخبار هذا العبد الصالح والأمر الثالث كما قلت وهو معتبر جدا للإشارة إلى المقدار المعجز من هذا القرآن وهو ثلاث آيات بأن أقل سورة هى ثلاث آيات فالإعجاز يتأتى ويحسم بهذا.
إخوتى الكرام: والله جل وعلا عندما سور هذا القرآن خالف ما اعتاد عليه العرب فى دواوينهم جملة تفصيلا ليتميز هذا القرآن عن غيره من الكتب الأرضية الوضعية مهما كان شأنها.
(23/7)
فالعرب كانوا يسمون كتبهم بالدواوين التى يجمعون فيها القصائد ديوان فالله جل وعلا سمى كتابه بالقرآن ليس بديوان هناك ديوان وهنا قرآن فكانوا يسمون القطعة منه بالقصيدة فالله جل وعلا سماها سورة للإشارة إلى أن هذا أمر غريب ليس من صنع بشر إنما هو من كلام وترتيب وتنزيل خالق القوى والقدر سبحانه وتعالى إذن القطعة من الديوان قصيدة والقطعة من القرآن التى لها بداية ونهاية مطلع ونهاية هذه تسمى بسورة القطعة من القصيدة عندهم والجزء منه تسمى ببيت والقطعة من هذه السورة تسمى بآية نهاية ذلك البيت فى تلك القصيدة من ذلك الديوان يسمى بقافية نهاية الآية فى السورة الموجودة فى القرآن تسمى بفاصلة فإذن اختلف الأمر ديوان قرآن قصيدة سورة بيت آية قافية مشت عليها هذه القصيدة فواصل لهذه الآيات القرآن فإذن الله جل وعلا عندما سور كتابه وجعله سورا جعل الترتيب الذى فى القرآن يختلف عما ألفه العرب فى كتبهم وفى ترتيبهم للإشارة إلى أن هذا الكلام هو كلام الرحمن سبحانه وتعالى.
(23/8)
إخوتى الكرام: وسور القرآن تنقسم إلى أربعة أقسام، إلى السبع الطوال ويقال لها الطول وهى السبع سور الأولى مع عدم عد الفاتحة بدون عد الفاتحة سورة البقرة وسورة آل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف والمعتمد أنه يدخل فى هذا سورة التوبة السابع والأنفال يكمل موضوعها موضوع سورة التوبة فهذه السور يقال لها بالسبع الطوال وبالسبع الطول وذهب بعض العلماء إلى أن سورة يونس هى السابعة وتعد براءة والأنفال السابعة السبع الطول حقيقة هذه أطول سور القرآن ومن حفظها وفهمها فله شأن عظيم عند الرحمن وبذلك ثبت فى مسند الإمام أحمد ومسند البزار ومستدرك الحاكم بسند صحيح عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت سمعت البنى صلى الله عليه وسلم يقول من أخذ السبع الأول فهو حبر من الأحبار والعلماء الأتقياء له شأن عند رب الأرض والسماء هذا حبر ورد فى بعض طبعات المستدرك تصحيف وهكذا فى مجمع الزوائد فهو خير فهذا خطأ فى الطباعة ولفظ الحديث من أخذ السبع الأول السبع الطول هذه السور الطويلة التى فى بداية القرآن فهو حبر ويلى السبعة الطول السور التى تسمى بالمئون وضابطها كل سورة زاد عدد آياتها على مائة آية بدون السبع الطول هذه لها حكم خاص يقال لها هذه من السبع الطول طوال طول أما السورة التى من غير هذه السبع وآياتها زادت على مائة يقال هذه من المئون المئون جمع مائة زادت على مائة.
ويلى المئون المثانى سميت بذلك لأنها تثنى وتكرر فى الصلوات أكثر من المئون وأكثر من السبع الطول السبع الطوال السبع الأول وضابط المثانى هو ما نقص عن مائة آية وليس من المفصل.
(23/9)
والقسم الرابع: وهو المفصل فإذا ذكرناه يتضح المعنى بعد ذلك المثانى لم تبلغ مائة ولم تصل إلى المفصل المفصل سمى بذلك لكثرة الفصل بين سوره بالبسملة وهى الربع الأخير من القرآن يبتدأ من ق على المعتمد وينتهى بسورة الناس فالمثانى كل سورة لم تبلغ مائة آية بشرط ألا تكون من سورة ق إنما هى من الحجرات فما قبلها هذه يقال لها من المثانى وإذا وصل الإنسان ل ق دخل فى المفصل ثم ينقسم المفصل إلى ثلاثة أقسام طوال وأواسط أوساط وقصار.
وطوال المفصل على المعتمد يبتدىء من ق إلى سورة النبأ عم وأوساط المفصل يبتدىء من سورة النبأ عم إلى الضحى وهذا على المعتمد كما قلت ومن الضحى إلى سورة الناس هذا من قصار المفصل وهذا على المعتمد الراجح كما قلت من اثنى عشر قولا فى هذه المسألة أظهرها وأقواها كما ذكرت وهو أن المفصل يبتدىء من ق وأن طواله من ق إلى النبأ وأوساطه من النبأ إلى الضحى وقصاره من الضحى إلى آخر الناس وهناك قول يلى هذا فى القوة وهو أن طوال المفصل وبدء المفصل يبتدىء من سورة الحجرات ولكن المعتمد ما ذكرته.
(23/10)
وقد ثبت فى سنن أبى داود وسنن ابن ماجه ومسند الإمام أحمد ومعجم الطبرانى والحديث فى درجة الحسن عن أوس ابن حذيفة رضي الله عنه يقول لما هاجرنا إلى المدينة المنورة اجتمعنا بالنبى عليه الصلاة والسلام كان النبى عليه الصلاة والسلام يأتينا كل ليلة فى منازلنا فكان يأتينا بعد صلاة العشاء ولا يجلس فيحدثنا عما لقى من قومه ويراوح بين قدميه أحيانا عليه صلوات الله وسلامه من طول وقوفه ولا يريد أن يجلس يحدثهم فى منازلهم ويلا طفهم ويذكر لهم ما لقى من العناء والشدة من قومه وكيف من الله بعد ذلك بالهجرة إلى المدينة المنورة يقول أوس ابن حذيفة فتأخر علينا النبى عليه الصلاة والسلام ذات ليلة فلما حضر قال عليه الصلاة والسلام أى معتذرا مبينا سبب تأخره عليهم عليه صلوات الله وسلامه طرأ على حزبى فكرهت أن آتى قبل أن أتمه يقول أوس ابن حذيفة فقلت للصحابة كيف تحزبون القرآن فقالوا ثلاث وخمس وسبع وتسع إحدى عشرة وثلاث عشرة وحزب المفصل حتى تختم أى نحن نحزب القرآن على هذه الأقسام السبعة ثلاث أى ثلاث سور من أوله نعتبرها حزبا وهذه لقارىء القرآن ولحافظ القرآن أن يقرأها وأن يختم فى كل أسبوع لئلا ينسى ثلاث ثم خمس ثم سبع فلو أردنا أن نعد هذه السور تصل إلى كم رقم فى النهاية ثلاث وخمس كم صار معنا ثمانية وسبع خمسة عشرة وتسع أربع وعشرين وإحدى عشرة خمس وثلاثين وثلاث عشرة ثمانى وأربعين أوليس كذلك عندنا فى ترتيب المصحف سورة ق رقمها خمسون وسورة الحجرات رقمها تسع وأربعون فعلى ظاهر حديث أوس ابن حذيفة يحتمل أن يكون حزب مفصل من الحجرات لأننا انتهينا الآن من الأحزاب الستة إلى ثمان وأربعين وسورة الحجرات هى تسع وأربعون فالحزب المفصل يبتدىء منه يحتمل هذا ويحتمل أن يكون البدء من ق كيف هذا نقول على حسب عد الفاتحة فإذا عدت البقرة وآل عمران والنساء هى الثلاثة الأول وبعدها خمس وسبع وتسع وإحدى عشرة وثلاث عشرة صار معنا ثمان وأربعين كما تقدم
(23/11)
معنا أضيفوا إليها الفاتحة تسع وأربعون فالخمسون هى ق وهى حزب المفصل وإذا عدت الفاتحة من ضمن الثلاث الأول الفاتحة والبقرة وآل عمران فسيكون بدئ المفصل من الحجرات الحديث يحتمل الأمرين ورد فى رواية المسند ومعجم الطبرانى فى الحديث المتقدم يقول وحزب المفصل من ق حتى تختم فهذ الرواية عينت لنا أن الفاتحة لا تدخل فى السور الثلاثة فثلاث وخمس وسبع وتسع وإحدى عشرة وثلاث عشرة تصل إلى ثمان وأربعين نضم إليها الفاتحة تسع وأربعون لو نظرتم فى المصحف ستجدون أن سورة ق رقمها خمسون هى بداية المفصل ومن ق إلى سورة عم هذه طوال المفصل أوساطه من عم إلى الضحى من الضحى إلى آخر القرآن إلى آخر الناس قصار المفصل.
إذن سورة لقمان السورة معناها فى اللغة كما قلنا يدور على أمور أربع:
على المنزلة العالية الرفيعة وعلى الإحاطة والجمع وعلى التمام والكمال وعلى القطعة والبقية من الشىء والسورة القرآنية فى الاصطلاح تحتوى على هذه المعانى الأربع.
والحكمة من تسير القرآن الدلالة على موضوع السورة ة التشويق لحفظه وتسهيل مدرارسته والإشارة إلى القدر المعجز من آيات القرآن الكريم وهى ثلاث آيات.
وسور القرآن الكريم تنقسم إلى أربعة أقسام طوال ويقال لها السبع الطول مئون مثانى مفصل.
عندنا فى هذا المبحث تنبيه ينبغى أن نذكره قبل أن ننتقل للمعلم الثانى من المعانى العامة لسورة لقمان ومن كل سورة من القرآن ينبغى أن للإنسان أن يتحدث عنها قبل أن يخوض فى تفسير الآيات هذا الأمر وهذا التنبيه يتعلق برواية رويت عن نبينا عليه الصلاة والسلام للنهى عن القول سورة لقمان سورة الفاتحة سورة البقرة سورة النساء ورد النهى عن هذا فى رواية رويت عن النبى عليه الصلاة والسلام فما درجة ذلك النهى وما قيمته وما المعتمد فى هذا؟
(23/12)
روى الطبرانى فى معجمه الأوسط والبيهقى فى شعب الإيمان وابن الدريد فى فضائل القرآن وابن مردويه فى تفسيره عن أنس رضي الله عنه قال سمعت النبى صلى الله عليه وسلم يقول لا تقولوا سورة البقرة ولا سورة النساء ولا سورة آل عمران ولكن قولوا السورة التى يذكر فيها البقرة والسورة التى يذكر فيها النساء والسورة التى يذكر فيها آل عمران وهكذا القرآن كله سورة اللبقرة لا تقولوا على هذه الرواية وهذا الحديث لو ثبت لما كان فى هذا النهى ما يشير إلى التحريم إنما هو من باب الأولى والأكمل تعظيما لآيات القرآن فيقال السورة التى يذكر فيها البقرة ولا يقال سورة البقرة لأنه ليس فى هذه الإضافة ما يشعر بمدح وتكريم لآيات هذه السورة السورة القرآنية التى يذكر فيها البقرة والتى ذكر الله فيها البقرة أما سورة البقرة سورة العنكبوت سورة النمل فلأن هذا اللفظ لا يشعر بمدح فلا يضيف هذه السورة لهذه الأشياء.
(23/13)
أقول لو ثبت لما كان فى ذلك دلالة على النهى لما سيأتينا من الأحاديث الصحيحة الصريحة بجواز قول سورة كذا لكن الحديث لم يثبت ففيه عبيد ابن ميمون العطار، قال الهيثمى فى المجمع متروك وهكذا قال الحافظ فى الفتح فى الجزء التاسع صفحة ثمان وثمانين وقد بلغ الإمام ابن الجوزى فأورد الحديث فى كتابه الموضوعات وحكم عليه بالوضع ولا يصل لهذه الحالة نعم هذا الكلام ثبت ابن عمر رضي الله عنهما فى شعب الإيمان بالبيهقى عن ابن عمر بسند صحيح على شرط الشيخين موقوفا عليه لا تقولوا سورة البقرة ولا سورة النساء ولا سورة آل عمران لكن قولوا السورة التى يذكر فيها البقرة والسورة التى يذكر فيها النساء والسورة التى يذكر فيها آل عمران وهكذا القرآن كله وهذا كما قلت ثبت عن ابن عمر وإذا ثبت عنه ففيما يظهر والعلم عند الله له حكم الرفع وإذا كان له حكم الرفع فغاية ما يشير كما قلت إلى بيان الأولى والأكمل والأحسن لا إلى أن هذا محرما لماذا لما سيأتينا من أحاديث نجمع بينها ولذلك قال الإمام ابن كثير فى كتابه فضائل القرآن الملحق فى آخر تفسيره لا شك أن هذا أحوط أى ما ورد فى حديث أنس وما نقل عن ابن عمر رضي الله عنهم أجمعين أن هذا أحوط وهو أدب حسن السورة التى يذكر فيها لقمان والسورة التى يذكر فيها الفيل ولا يقال سورة الفيل لا شك أن هذا أحوط وهو أدب حسن وقال الحافظ ابن حجر فى الفتح لا معاضة بين الأحاديث المصرحة بالجواز وحديث أنس وأثر ابن عمر رضي الله عنهم أجمعين بإمكان حمل النهى على أنه خلاف الأولى وأما الأحاديث المصرحة بالجواز فتشير إلى أن هذا يجوز لكن خلاف الأولى والأدب لكن هذا الجواز خلاف الأولى والأدب ولو قال السورة التى فيها يذكر فيها لقمان والبقرة والنساء لكن أكمل وأحسن والعلم عند الله.
(23/14)
وقد أشار البخارى عليه رحمة الله فى صحيحه فى كتاب فضائل القرآن إلى هذه المسألة وإلى وقوع النزاع فيها وذكر ترجيحه وفقهه كما يقول أئمتنا فى تراجم أبوابه يقول فى كتاب فضائل القرآن من صحيحه باب من لم ير بأسا أن يقول سورة كذا وكذا أى سورة النساء سورة البقرة سورة لقمان لم ير باسا ثم أورد الإمام البخارى عليه رحمة الله ثلاثة احاديث فى صحيحه يقرر فيها الجواز.
الحديث الأول: حديث أبى مسعود الأنصارى رضي الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال الآيتان من آخر سورة البقرة من قرأهما فى ليلة كفتاه وهذا كلام النبى عليه الصلاة والسلام وهو فى صحيح البخارى الآيتان من آخر سورة البقرة وما قال من آخر السورة التى يذكر فيها البقرة وهذا فى أصح الكتب بعد كتاب الله من قرأهما فى ليلة كفتاه أى كفتاه كل مكروه وشر وأذى وكان فى حفظ الله ورعايته من قوله آون الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون إلى آخر السورة وقيل كفتاه كما ذكر هذا الإمام النووى عليه رحمة الله كفتاه عن قيام الليل وكتب له أجر ذلك كفتاه كل مكروه وكان فى حرز وحفظ وحماية ورعاية من الله جل وعلا كفتاه عن قيام الليل فلو قدر أنه ما استيقظ وقرأ هاتين الآيتين سيكتب الله له أجر القيام كرما منه وفضلا ورحمة الآيتان من آخر سورة البقرة من قرأهما فى ليلة كفتاه.
(23/15)
والحديث الثانى: الذى ذكره الإمام البخارى مقرر اجواز القول بسورة كذا وكذا حديث عمر ابن الخطاب رضي الله عنه قال أقرأنى رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الفرقان ولم يقل السورة التى يذكر فيها الفرقان التى ذكر فيها الفرقان يقول فذهبت إلى المسجد فإذا هشام ابن حكيم يقرأ سورة الفرقان على حروف لم يقرانيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فكدت أن أساوره أى أن أقطع عليه الصلاة ثم بعد أن انتهى من صلاته لببته بردائه وقلت من أقرأك هذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت أقرأنى غير ما تقرأ وأخذته إلى النبى عليه الصلاة والسلام أسوقه فدخلنا عليه وقلت يا رسول الله عليه الصلاة والسلام أقرأتنى سورة الفرقان فدخلت المسجد فإذا بهشام ابن حكيم أوليس كذلك هشام ابن حكيم رضي الله عنه يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرأنيها فقال النبى عليه الصلاة والسلام أرسله يا عمر اتركه لا داعى أنك تلببه بردائه حتى كدت أن تخنقه أتركه ثم اقرأ قال اقرأ يا هشام فقرأ هشام فقال هكذا أنزلت ثم قال لعمر اقرأ فقرأ فقال هكذا أنزلت إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فلا تختلفوا فأى حرف قرأتم فقد أصبتم.
الشاهد: أنه قال سورة الفرقان وقال للنبى عليه الصلاة والسلام أقرأتنى سورة الفرقان ولم يقل السورة التى يذكر فيها الفرقان أو ذكر فيها الفرقان
(23/16)
والحديث الثالث: الذى ذكره الإمام البخارى فى صحيحه مدللا على الجواز حديث أمنا عائشة رضي الله عنها قالت كان النبى عليه الصلاة والسلام فى بيته فسمع قارئا يقرأ فى الليل فى المسجد فقال يرحمه الله لقد أذكرنى كذا وكذا آية من سورة كذا كنت أسقطهن كنت أسقطهن يرحمه الله لقد أذكرنى كذا وكذا آية من سورة كذا ولم يقل من السورة التى يذكر فيها كذا النحل أو غيرها كنت أسقطهن وهذا الإسقاط وهذا النسيان لا مانع منه ولا مانع من طروئه على النبى عليه الصلاة والسلام لأنه ليس بمثابة انمحاء الشىء من ذهن الإنسان وذاكرته وضياعه من قلبه إنما هو بمثابة غيبوبة الذهن عنه فإذا سمعه تذكره فلا حرج فى ذلك على الإطلاق وفى هذا الوقت غابت عنه هذه الآيات فسمع هذا القارىء يقرأ فقد أذكره هذه الآيات التى غابت عنه فترة وجيزة ولا حرج فى ذلك على الإطلاق.
الشاهد: إذن من سورة كذا كنت أسقطهن هذه الآيات ولم يقل من السورة التى يذكر فيها كذا.
وخلاصة القول: لا مانع أن يقول الإنسان سورة لقمان ولو قال السورة التى يذكر فيها لقمان وهكذا سائر سور القرآن لكان أحسن وأكمل كما قال الحافظ ابن كثير وابن حجر عليم جميعا رحمة الله ولو أخذ بالجواز فلا حرج عليه ولذلك قال الإمام النووى فى كتابه الأذكار صفحة اثنتين وتسعين وفى كتابه التبيات فى آداب حملة القرآن صفحة تسع وثمانين الأحاديث والآثار فى ذلك عن السلف أكثر من أن تحصر لأنه يجوز أن نقول سورة لقمان سورة البقرة سورة النساء وهكذا سائر سور القرآن.
هذا المعلم الأول الذى ينبغى لدارس القرآن وسور القرآن أن يبينه سورة لقمان.
المعلم الثانى: لبيان كما قلت شخصية السورة وبما تتميز به عن غيرها أين نزلت سورة لقمان.
(23/17)
إخوتى الكرام: سورة لقمان مكية وتقدم معنا أننى من جملة الأسباب التى دعتنا لمدارسة هذه السورة أنها مكية لكن هل هى مكية بجميع آياتها أو استثنى منها شيء نزل فى المدينة المنورة غاية ما قيل فى ذلك أربعة أقوال أذكرها ثم أفصل الكلام فيها إن شاء الله.
ثبت عن ابن عباس فى كتاب الناسخ والمنسوخ للإمام النحاس بسند جيد رجاله من أئمة العربية المشهورين بالصدق والأمانة والديانة كما قال الإمام السيوطى فى الإتقان فى الجزء الأول صفحة أربعين عن ابن عباس رضي الله عنهما أن سورة لقمان مكية باستثناء ثلاث آيات منها نزلت فى المدينة المنورة على نبينا صلوات الله وسلامه وهذه الآيات الثلاث تبدأ من قول الله جل وعلا: {ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم * ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة إن الله سميع بصير} ثلاث آيات تبدأ من سبع وعشرين فما بعدها نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما بإسناد صحيح أن هذه الآيات نزلت فى المدينة وسورة لقمان بعد ذلك جميع آياتها مكية عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضا وعن غيره من السلف إطلاق القول بمكيتها دون استثناء روى ذلك عنه ابن الدريس فى فضائل القرآن وروى الإمام البيهقى فى كتابه الدلائل دلائل النبوة عن عكرمة والحسن إطلاق القول بمكيتها دون استثناء وهذا نقله أبو عبيد فى فضائل القرآن عن على ابن أبى طلحة فعن ابن عباس وعكرمة والحسن وعلى ابن أبى طلحة رضي الله عنهم أجمعين ورحمهم الله والمسلمين أنها مكية بإطلاق ولا معارضة لا معارضة بين القولين.
(23/18)
فالسورة يقال لها مكية أو مدنية باعتبار الغالب أو الفاتحة كما تقدم معنا وفاتحة لقمان مكية بالاتفاق وهو الغالب على آياتها المكى بالاتفاق فضابط المكى إذن يشملها وتقدم معنا إخوتى الكرام أن ضابط المكى ما روعى فيه الزمان هو المعتمد وأن ما نزل قبل الهجرة فهو مكى وما نزل بعد الهجرة فهو مدنى وقلت هذا الضابط هو المعتمد من أقوال ثلاثة قيلت فى المسألة هناك قولان آخران مردودان لا يعول عليهما
المعتمد ما نزل قبل الهجرة مكى وما نزل بعد الهجرة مدنى فسورة لقمان نزلت قبل الهجرة بالاتفاق فهى مكية فمن أطلق القول بمكيتها لا يتعارض هذا مع استثناء شىء منها وعندما يسأل يقول هى مكية لما تطلب منه التفصيل يقول باستثناء ثلاث آيات كما ثبت فى الرواية الأولى عن ابن عباس رضي الله عنه.
القول الثالث: حكاه القرطبى فى تفسيره عن قتادة رحمه الله من أئمة التابعين ونقله ابن الجوزى فى زاد المسير والإمام الدانى عن عطاء إذن عن قتادة وعطاء أنها مكية باستثناء آيتين بدل ثلاث آيتين الآيتان المتقدمات بحذف الآية الثالثة ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة والتى قبلها ولو أن ما فى الأرض من شجرة أقلام هاتان الآيتان مدنيتان ما عداهما مكى.
والقول الرابع: ذكره ابن الجوزى عن الحسن فقال هى مكية باستثناء آية واحدة دون تحديد لها.
والرازى أراد أن يجمع بين هذا القول وبين ما قبله فقال هى مكية باستثناء آيتين على حسب قول قتادة وقول عطاء باستثناء آية واحدة على حسب قول الحسن وذكر الرازى أن الآية التى تستثنى على هذا القول هى الآية الرابعة فى بداية سورة لقمان وهى قول الله جل وعلا: {الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون} .
إذن ثلاث آيات من سبع وعشرين فما بعدها وهذه الآية هذه غاية ما ادعى على أنه مدنى ما هو التحقيق فى هذا والتفصيل إليكم ذلك بعون الله.
(23/19)
روى ابن إسحاق فى المغازى عن عطاء ابن يسار والأثر رواه ابن أبى حاتم فى تفسيره عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم عندما هاجر إلى المدينة جاءه أحبار اليهود فقالول نزل عليك فى مكة قول الله جل وعلا {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} كيف تزعم هذا وقد أعطانا الله التوراة وفيها تبيان كل شىء.
وفى بعض الروايات قالوا للنبى عليه الصلاة والسلام عنيت بذلك قومك أو نحن يعنى نحن معشر اليهود ندخل فى هذا وما أوتيتم من العلم إلا قليلا أو المراد بهذا خصوص قومك الأميين العرب فقال كلا عنيت وما أوتيتم من العلم إلا قليلا وصف ينطبق على جميع البشر فقالوا كيف تزعم هذا وقد أعطانا الله التوراة وفيها تبيان كل شىء فنزل جبريل على نبينا عليه الصلاة والسلام {ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم} لو قدر أن جميع شجر الدنيا أقلام يكتب بها وهذا البحر جىء بمدد له سبعة أبحر وصارت حبرا مدادا وهذه الأشجار أقلاما فكتب بتلك الأشجار وبمداد هذه البحار كلمات الله وعلم الله لتكسرت الأشجار والأقلام ونفدت مداد ومياه تلك البحور وما نفد علم العزيز الغفور سبحانه وتعالى.
فقال عليه الصلاة والسلام التوراة التى فيها تبيان كل شىء هى فى جنب علم الله قليل وما أوتيتم من العلم إلا قليلا.
فهذه الآية إذن نزلت فى المدينة المنورة ردا على اليهود عليهم لعائن ربنا المعبود الذين يقولون آتانا الله التوراة وفيها كل شىء فلا يجوز أن يقال عنا وما أوتيتم من العلم إلا قليلا فأنزل الله عليهم هذه الآية فى المدينة المنورة {ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم * ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة إن الله سميع بصير} .
(23/20)
إخوتى الكرام: وهذه الآية قال الله ما يشبهها وما يماثلها فى آخر سورة الكهف {قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا} وهل آية الكهف أبلغ فى الدلالة والتعبير عن علم الله من سورة لقمان أو آية لقمان التى هى سبعة أبحر أبلغ فى الدلالة والتعبير عن علم الرحمن جل وعلا سيأتينا هذا إن شاء الله عند دراسة آية لقمان {ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله} وأذكر هناك قولين للمفسرين وأرجح بعون الله الكريم آية الكهف للدلالة على سعة علم الله على آية لقمان وأن فيها من الدلالة ما ليس فى آية لقمان لأن المعنى المعتمد لآية الكهف: {قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله} [ومثله ومثله ومثله ومثله إلى ما لا نهاية له لا سبع ولا سبعين ولاسبعمائة ولا سبعة آلاف] فالدلالة التى فى سورة الكهف أبلغ فى التعبير عن علم الله جل وعلا من الدلالة التى فى سورة لقمان فإذن ما أوتيتم من التوراة هى فى جنب علم الله قليل فهذه الآية على هذا القول نزلت فى المدينة.
(23/21)
إخوتى الكرام: وآية الروح التى ورد هنا أنها نزلت فى مكة اختلف أئمتنا عليهم رحمة الله فيها هل هى مكية أو مدنية أو تكرر نزولها وهو الراجح فثبت فى الصحيحين والحديث فى المسند وسنن الترمذى عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه قال كنت أمشى مع النبى عليه الصلاة والسلام فى بعض شوارع المدينة وهو يتوكأ على عسيب عود من النخل فمر بنفر من اليهود فقال بعضهم لبعض سلوه قال بعضهم لا تسألوه لا يجيئكم بشىء تكرهونه فقام بعضهم إلى النبى عليه الصلاة والسلام وقالوا يا محمد عليه صلوات الله وسلامه جدثنا عن الروح يقول عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه فأطرق النبى صلى الله عليه وسلم كأنه يوحى إليه ثم رفع رأسه وتلا قول الله: {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} وهذا يشعر كما ترون فى ظاهر ألفاظه بأن آية الإسراء نزلت فى المدينة وهو خلاف ما تقدم معنا من الآثار عن ابن عباس رضي الله عنهما وعن عطاء ابن يسار أن اليهود جاءوا إلى النبى عليه الصلاة والسلام وقالوا نزل عليك فى مكة {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} عنيتنا وعنيت قومك قال كلا عنيت فهنا إذن يشير إلى أن هذه الآية مدنية نزلت فى المدينة فيقول كنت أمشى مع النبى عليه الصلاة والسلام فى شوارع المدينة وقام إليه بعض اليهود وعبد الله ابن مسعود ضبط تفاصيل القصة فيقول يتوكأ على عسيب ثم قال أطرق كأنه يوحى إليه ثم رفع رأسه وتلا الآية.
(23/22)
وثبت فى مسند الإمام أحمد وسنن الترمذى ومستدرك الحاكم بسند صحيح أقره عليه الذهبى عن ابن عباس رضي الله عنهما أن مشركى قريش قالوا لليهود أعطونا شيئا نسأل عنه هذا الرجل أى لنمتحنه ونتبن صدقه من كذبه فقال اليهود للمشركين سلوه عن الروح فسألوه عن الروح فأنزل الله: {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} فأثر ابن عباس يشير إلى أن آية الروح مكية ليست مدنية وأثر ابن مسعود يشير إلى أنها مدنية فما هو الجمع فى ذلك ذهب بعض العلماء كالسيوطى وابن القيم إلى ترجيح أثر ابن مسعودعلى أثر ابن عباس وقالوا سورة الإسراء مكية لكن آية الروح فيها مدنية نزلت فى المدينة على حسب خبر الصحيحين لما فعلتم هذا قالوا خبر الصحيحن أقوى من خبر الترمذى والمستدرك والمسند فعندما نعارضت الروايات ذلك أرفع وأعلى صحة وثبوتا.
فأرفع الصحيح مرويهما ... ثم البخارى فمسلم فما
شرطهما حوى فشرط البخارى ... فمسلم فشرط غير يكفى
(23/23)
أرفع درجات الصحيح ما رواه البخارى ومسلم فأرفع الصحيح مرويهما ثم ما رواه البخارى فأرفع الصحيح مرويهما ثم البخارى فمسلم ثم ما رواه مسلم شرطهما ما رواه غيرهما مما هو على شرط الشيخين أى فيه رجال الشيخين من روى لهما الشيخان فشرط البخارى فشرط مسلم فالصحيح الذى ليس على شرطهما هذه مراتب الحديث الصحيح أعلاها ما رواه البخارى ومسلم وذهب الإمام ابن الصلاح إلى القطع بصحته أنه يفيد العلم القطعى وهو بمنزلة المتواتر لتلقى الأمة لما فيهما بالقبول قال يقول الإمام العراقى عليه رحمة الله مشيرا إلى هذا واقطع بصحة لما قد أسندا أيما أسنداه وروياه اقطع بصحته وأنه منزل منزلة المتواتر لأن إجماع الأمة معصوم من الخطأ وقد أجمعت الأمة على تلقى ما هذين الكتابين بالصحة والقبول واقطع بصحة لما قد أسندا كذا له أى ابن الصلاح هذا قوله واجتهاده وقيل ظنا أى أن الحديث لا يفيد القطع وحكمه كحكم الحديث الصحيح فى غير الصحيحين.
الشاهد إخوتى الكرام: ذهب السيوطى وقبله ابن القيم إلى ثبوت خبر ابن مسعود رضي الله عنه على خبر ابن عباس رضي الله عنهم أجمعين فقالوا آية الروح مدنية مع أن سورة الإسراء مكية باتفاق، والذى ذهب إليه الإمام ابن كثير والحافظ ابن حجر والإمام الزركشى وهوالذى يعول عليه من حيث الأدلة إلى أن آية الروح مكية مدنية فهى مكية تبعا للسورة التى هى مكية والغالب أنه إذا كانت السورة مكية فالآيات كذلك إلا ما قام الدليل على استثنائه.
(23/24)
وهنا عندنا خبر الترمذى والمستدرك والمسند عن ابن عباس رضي الله عنهما يقرر القول بمكيتها فهى مكية وخبر ابن مسعود لا نلغيه إنما نقول مكى ومدنى أى تكرر نزولها نزلت جوابا للمشركين عندما طلبوا من اليهود عليهم جميعا لعائن الله شيئا يسئلون عنه النبى عليه الصلاة والسلام ثم لما هاجر النبى عليه الصلاة والسلام إلى المدينة جاء اليهود ليمتحنوه بأنفسهم فقالوا حدثنا عن الروح فنزلت الآية المتقدمة فإذا قيل لما لم يجب النبى عليه الصلاة والسلام اليهود بما نزل عليه بمكة ولما انتظر وأطرق كأنه يوحى إليه ثم رفع رأسه وتلا الآية سنقول لعله انتظر زيادة بيان وإيضاح لأن الآية التى نزلت عليها فى مكة ليس بها بيان لماهية الروح ولا لشىء من أحوالها إنما فيها إحالة العلم بها إلى الذى خلقها قل الروح من أمر ربى وما أوتيت من العلم إلا قليلا فإذا كان الأمر كذلك فأنتظر زيادة بيان وإيضاح فنزل عليه جبريل على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه بما نزل عليه فى مكة {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} فهى مكية مدنية ولا مانع أن يتكرر نزول آية فهى مكية مدنية لعظم شأنها وحقيقة آية الروح تنادى بين ظهرانى العباد فى كل وقت بعجزهم وبقدرة الله جل وعلا عليهم وقهره لهم فى جميع أحوالهم ولا يمكن للعباد أن يطلعوا على سر الروح وعلى حقيقتها قل الروح من أمر ربى وما أوتيتم من العلم إلا قليلا.
(23/25)
والمؤتمر الذى عقد بجدة من قرابة ثلاث سنين أو أربع للبجث فى حقيقة الموت استدعى له أطباء من أطراف الدنيا هذا المؤتمر من أوله لآخره هوس وعبس والنهاية بعد ذلك هوس وعبس حقيقة الموت ما هى عجائز البادية تعرف حقيقة الموت خروج طيب الروح ما هى رجعنا لقول الله قل الروح من أمر ربى وصل المؤتمر فى نهاية بحثه إلى نتيجتين لبيان حقيقة الموت كل واحدة منها كما يقال تضحك الثكلى وهذا أطباء وعباقرة النتيجة الأولى يقول حقيقة الموت توقف حركة القلب القلب لا يتحرك هذا هو الموت أو هذا علامة على الموت علامة إذا خرجت الروح توقف القلب لذلك لو نفخت فى فمه وحركت قلبه يحيى إذا تحرك القلب يحيى والآن الذى يقال له تنفس اصطناعى إنعاش عندما يحركون القلب بعد موت الإنسان حيى أبدا مات خرجت الروح كما قال الله: {ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون * فلولا إن كنتم غير مدينين* ترجعونها إن كنتم صادقين} .
والفريق الثانى: قال حقيقة الموت توقف ضخ الدم إلى الدماغ هذا هو الموت أو علامة على الموت علامة تقول علامة الموت أن ينقطع نفس الإنسان هؤلاء بما أنه عندهم إدراك علمى أدق قالوا لا يضخ الدم أى العروق تتوقف عن ضخ الدم إلى الدماغ الذى يحرك بدن الإنسان وأجزاءه فإذا توقف ضخ الدم مات الإنسان نحن نقول متى يتوقف ضخ الدم وما تتوقف حركة القلب هاتان علامتان على الموت وليستا بحقيقة للموت ولذلك لو شققنا رأس الإنسان وضخخنا دما على دماغه أو أمكن بشىء أن نوصل الدم لدماغه يحيى؟ هذه علامة على الموت يا إخوتى الكرام أما حقيقة الموت كما قال الله: {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} .
(23/26)
ولو اكتشف العباد حقيقة الموت حقيقة الروح لأمكنهم أن يصنعوا روحا وبالتالى ينتفى الموت عن الجبابرة مهما كانت الروح مكلفة وسبحان من قهر الجبابرة وأذلهم بملك من عنده يدخل عليهم بلا استئذان فينزع روحه من ذرات جسمه وحرسه حوله ينظرون ولا يستطيع واحد أن يتحرك {فلولا إذا بلغت الحلقوم * وأنتم حينئذ تنظرون * ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون *فلولا إن كنتم غير مدينين * ترجعونها إن كنتم صادقين} .
سبحان ربى العظيم حقيقة الموت لا يعرفها إلا من خلق الروح الذى نفخ هذه الروح فيك وأنت فى ظلمات ثلاث هو الذى يعلم هذا وأما بعد ذلك العباد يطلعون على الأمارات والعلامات كان يتنفس فانقطع نفسه ووقف نبضه ويقال مات لكن ليس هذا هو الموت هذا علامة على الموت علامة مات خرجت روحه كما يقول هذا العامة خرجت روحه ولذلك قال عليه الصلاة والسلام كما فى صحيح مسلم إن الروح إذا خرجت تبعها البصر عندما تخرج الروح البصر يتبعها ينظر إليها أين خرجت إن الروح إذا خرجت تبعها البصر ولذلك إذا حضرنا الميت نغمض عينيه بعد ذلك لأن روحه عندما تخرج ينظر إليها وهو الآن دخل فى عالم البرزخ فيرى هذه الروح وأما نحن فلا نراها قل الروح من أمر ربى وما أوتيتم من العلم إلا قليلا.
(23/27)
إذن آية الروح مكية مدنية فنزلت فى مكة فلما هاجر نبينا عليه الصلاة والسلام إلى المدينة جاءه اليهود وقالوا تزعم أنه نزل عليك وما أوتيتم من العلم إلا قليلا عنيتنا وعنيت قومك قال كلا عنيت قالوا كيف هذا وقد أعطانا الله التوراة وفيها تبيان كل شىء قال وفى جنب علم الله قليل ونزلت الآية فى لقمان للرد عليهم {ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم} ثم سأل اليهود مرة أخرى النبى عليه الصلاة والسلام عن الروح لزيادة استفسار وإيضاح خبرنا عنها عن ماهيتها عن حقيقتها عن وضعها عن صفة من صفاتها فانتظر جوابا لعله فيه شىء من التفصيل فأخبر الله نبيه عليه الصلاة والسلام بأن هذا الأمر قد استأثرت به ولن أطلع عليه أحدا {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} تكررنزول هذا النازل مرتين فى مكة وفى المدينة لبيان منزلة هذا النازل وعظم شأنه فهو كما قلنا مما استأثر الله بعلمه وقهر به عباده {قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} .
(23/28)
إذن هذه الآيات على القول بأنها مدنية نزلت من أجل استيضاح اليهود عن قول الله جل وعلا وما أوتيتم من العلم إلا قليلا يشملهم أى يشمل الأميين العرب فقط فلما قيل لهم يشملكم أكثروا الشغب والضجيج وقالوا نحن نزل علينا التوراة فنزلت هذه الآية {ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم} وأما الآية التى استثنيت وهى الآية الرابعة فى البداية {الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون} وهذا كما قلت نقل عن الحسن وذكره أيضا الرازى على أنه ممكن أن يكون أما هذه الآية أى الآيتان المتقدمتان مما استثنى من مكية آيات سورة لقمان هذا القول: {الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون} نقل عن الحسن عليه رحمة الله وتقدم معنا أن أقوال التابعين فى هذا لها حكم الرفع المرسل فنحن إن أردنا أن نأخذ هذا القول كيف هذا ما وجه هذا القول يقول الإمام الألوسى عليه رحمة الله لعل قائل هذا بناه على أمر وهو أن الله جل وعلا قرنه بين الصلاة والزكاة فى المدينة المنورة وما قرن بينهما فى مكة المكرمة نعم فرضت الصلاة فى مكة وفى ليلة الإسراء باتفاق وأمر الناس بالزكاة دون بيان الزكاة التى لها نصاب محدد إنما بالصدقة والإحسان فى مكة لكن ما قرن بينهما فى آية إلا فى المدينة فلذلك هذه الآية مدنية لأن القرن بين الصلاة والزكاة حصل فى المدينة.
(23/29)
جواب آخر ذكره الألوسى وهو فى تعليل هذا القول كيف يعنى تكون هذه الآية مدنية يقول الصلاة التى هى على الكيفية الثابتة الآن والزكاة ذات النصب المعروفة فى الأزرع والثمار والنقدين هذا ما حصل إلا فى المدينة فمن قال: {الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون} هذه مدنية لأن فرضية الزكاة والصلاة فى المدينة والقرن الجمع بينهما فى المدينة يقصد الفرضية بالصورة النهائية التى نحن عليها الآن واستقر عليها الأمر وهكذا الزكاة الشرعية التى استقر عليها الأمر ولا شك أن هذا ما حصل إلا فى المدينة المنورة وقد ثبت فى صحيح البخارى عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت فرض الله الصلاة ركعتين ركعتين فى الحضر والسفر فأقرت صلاة السفر وزيدت لصلاة الحضر الحديث فى صحيح البخارى وهو فى الجزء الأول صفحة خمس وستين وأربعمائة بشرح الحافظ ابن حجر فى الفتح قال الحافظ فى الفتح الصلاة فرضت على ثلاثة مراحل.
(23/30)
المرحلة الأولى: كما فى حديث أمنا عائشة فرضت ركعتين ركعتين باستثناء الوتر باستثناء المغرب فهو وتر النهار فهذه ثلاثة وما عداها ركعتان ركعتان ثم بعد ذلك زيد فى صلاة الحضر يقول الحافظ وهذا حصل فى المدينة فلما هاجر النبى صلى الله عليه وسلم زيد فى صلاة الحضر إلى أربع باستثناء الفجر لطول القراءة فيها وباستثناء المغرب لأنها وتر النهار هذا فرض ثان حصل وطرأ على الصلاة وهذا ثبت فى صحيح ابن حبان وصحيح ابن خزيمة وسنن البيهقى فلما استقر الأمر على ذلك خفف من صلاة السفر إلى ركعتين فى الرباعية وبقيت الفجر كما هى والمغرب كما هى فإذن ركعتان ثم أربع ثم أعيدت الرباعية إلى ركعتين فى خصوص السفر يقول الحافظ ابن حجر ووقع قصر الصلاة بعد فرضها رباعية فى المدينة المنورة فى العام الرابع للهجرة وقيل فى العام الثانى وقيل بعد هجرة النبى عليه الصلاة والسلام بأربعين يوما والعلم عند الله فإذن الصلاة بالكيفية المفروضة هذا حقيقة ما حصل إلا فى المدينة فمن قال هذه الآية مدنية لأن الصلاة والزكاة شرعتا فى المدينة يقصد شرعتا بالكيفية النهائية التى نحن عليها فى هذه الأوقات ولا شك أن هذا حصل فى المدينة المنورة أما فرضية الزكاة هذا كان فى مكة وفرضية الصلاة كان فى مكة لكن بالكيفية استقر عليها الأمر هذا حصل فى المدينة المنورة.
(23/31)
ولذلك يقول الحافظ ابن حجر حديث أمنا عائشة له عندما فرض الصلاة ركعتين ركعتين أقرت صلاة السفر وزيد فى صلاة الحضر يقول هذا باعتبار ما آل إليه الأمر لا باعتبار البداية وفى البداية ركعتان ثم بعد ذلك إلى أربع ثم إلى ركعتين فى حق المسافر يقول هذا باعتبار ما آل إليه الأمر لا باعتبار البداية البداية فرض الكل ركعتان حتى للحاضر المقيم ثم حول الأمر إلى أربعة ثم خفف عن المسافر ليصلى الرباعية ركعتين وبقيت المغرب ثلاثا لأنها وتر النهار والصبح كما هى لطول القراءة فيها فمن قال هذه الآية مدنية يقصد أن الجمع بين الصلاة والزكاة حصل فى المدينة أن الكيفية النهائية التى استقر عليها الأمر للصلاة وللزكاة هذا حصل فى المدينة المنورة والعلم عند الله.
هذا المبحث الثانى: من المعالم والملامح العامة لسورة لقمان.
أما المبحث الثالث: آيات سورة لقمان كم عدد آياتها؟ هى أربع وثلاثون آية فى المصحف البصرى والكوفى والشامى والحمصى وهى فى مصاحف الحجازيين ثلاث وثلاثين آية فى مصحفى المدينة الأول والثانى وفى مصحف مكة هذه مصاحف الحجاز ثلاثة المصاحف التى يؤخذ منها عد الآيات سبع تامنيان الأول والأخير والمكى والكوفى والبصرى والشامى والحمصى فهنا فى مصاحف البصريين والكوفيين والشاميين أربع وثلاثون آية فى مصاحف الحجازيين ثلاث وثلاثين آية وقد يستشكل بعض منكم هذا فيقول هل هناك آية اختلف فى قرآنيتها فى سورة لقمان يعنى زائدة بعضهم حذفها وبعضهم قال هذه الآية ينبغى أن نلحقها بها لا ثم لا ليس الأمر كذلك سورة لقمان هى المبدوءة بقول الله الم والمنتهية بقول الله إن الله عليم خبير دون زيادة حرف فيها بالإجماع ومن زاد حرف فيها فهو كافر أو نقص حرفا منها فهو كافر لكن هذه الآيات المبتدأة من قوله الم إلى قوله إن الله عليم حكيم كم هى ثلاث وثلاثين أو أربع وثلاثين ما الذى اختلف فيه اختلف فيه فى آيتين كما سيأتينا إن شاء الله البيان.
(23/32)
الآية الأولى الم هل تعد آية أم لا كان النبى عليه الصلاة والسلام أحيانا يقرأ الصحابة على أن هذه آية كما كان يقرأهم ببعض القراءات ورسم هذا فى المصحف العثمانى فى بعض المصاحف العثمانية على انها آية الم آية وما عدها أحد من المصاحف الستة هذه ما عدتها إلا مصاحف الكوفة الم آية هذه مصاحف الكوفة والآن مصاحفنا الآن تسير على مصاحف الكوفة عندنا لأننا نقرأ بقراءة عاصم الذى هو من الكوفة وانظر الآن فى مصاحفكم الم آية وعد الآيات توقيفى عن النبى عليه الصلاة والسلام لادخل للرأى ولا للاجتهاد فيه وما عد فواتح السور آيات من القرآن إلا مصاحف الكوفة فقط أقرأهم النبى عليه الصلاة والسلام هكذا كما أقرأهم مالك وأقرأهم ملك هذه وهذه الصراط السراط بالسين والصاد هذه قراءة وهذه قراءة هذه كلام الله وهذا كلام الله نازل على نبينا عليه الصلاة والسلام وأقرأ الصحابة بذلك وهنا الم آية فاعتبر هذا أئمتنا وجعله عثمان فى أحد المصاحف التى أرسلها للأمصار إلى أن الم آية وعلى هذا مصاحف الكوفة الم آية هذا توقيفى لا دخل للرأى فيه كيف انظر الآن لمصاحف الكوفة فواتح السور عدوها آيات باستثناء ثلاثة أمور هذا مما يدل على أنه ليس للعقل فى ذلك مجال على الإطلاق أولها ما فيه راء لا يعتبر آية الر ليس بآية الم آية المر ليس بآية كل ما فيه راء من الحروف المقطعة فى بداية السور لا يعتبر آية الر المر لايعتبر آية هذا فى مصاحف الكوفيين كل بعد ذلك طس وهى فى سورة النمل لا تعتبر آية كل من كان فردا من الأحرف المقطعة ن وص وق لا يعتبر آية طيب طس هذه مثل بقية الأحرف لما الآن حم آية عسق آية فصار آيتان حم لوحدها آية عسق آية وهنا طس ليست آية نقول ليس مسألة اجتهاد ورأى هذا كلام الله فالنبى عليه الصلاة والسلام قال لهم حم هذه آية عسق هذه آية ثانية وهذا الموجود عندنا فى مصاحف الكوفة عدتها آية وهذه آية الم آية عدوها آية ورسم هذا فى المصاحف الم آية فما فيه
(23/33)
راء ليس بآية طس ليس بآية ما هو فردا من الأحرف المقطعة فى فواتح السور ليس بآية يقول الإمام الشاطبى فى ناظمة الزهر فى ضبط آيات السور وهو أحسن ما نظم فى ضبط آيات السور يقول وما بدؤه حرف التهجى فآية لكوف أى عد هذا مصاحف الكوفة فقط وما بدؤه حرف التهجى فآية لكوف سوى ذى را وطس ووالوتر أى سوى ما بدأ بواحد من هذه الأمور سوى ما فيه راء الر المر سوى طس النمل طسم الشعراء والقصص آية أما طس فقط ليست آية الوتر التى هى حرف واحد ليست آية هذا ليس للعقل فيه مجال على الإطلاق توقيفى محض ف الم اعتبرت آية فى مصاحف الكوفة وبقية المصاحف ما عدت هذا آية.
(23/34)
المكان الثانى الذى اختلف فيه آية اثنتان وثلاثين وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين آية اثنتان وثلاثين وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين قوله مخلصين له الدين مصاحف الكوفة ما عدتها آية ومن باب أولى مصاحف الحجازيين هذه الثلاثة ما عدتها من الذى عد هذه آية الشامى والبصرى والحمصى فإذن الكوفيين عدوا الم أما هذه لا يوجد عندها آية {وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين} ليست هنا آية فى مصاحف البصرة والشام وحمص هذه تعتبر آية إذن إذا حذفت الآيتين يبقى ثلاث ثلاثين وهى التى عند الحجازيين أضيف إليها آية الكوفيين تصبح أربع وثلاثين تنقص آية الكوفيين يبقى ثلاث وثلاثون تضيف إليها آية مصاحف البصريين والشاميين والحمصيين تصبح أربع وثلاثين فهى أربع وثلاثون عند الكوفيين مصاحف الكوفة والبصرة والشام وحمص لكن اختلفوا فى عد الآية الرابعة والثلاثين فالكوفيون عدوا الم وأولئك عدوا مخلصين له الدين فجعلوا قول الله: {وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور} جعلوا هذه الآية آيتين إذن ثلاث وثلاثون يضاف إليها الم أربع وثلاثون ثلاث وثلاثون يضاف إليه مخلصين له الدين أربع وثلاثون فليس الخلاف إذن فى زيادة كلام على السورة أو نقصان منه فكن على علم بذلك.
(23/35)
إخوتى الكرام: هذا حقيقة من الأمور المعجزة فى القرآن ومما يبين أن هذا القرآن روعى فيه أعلى أنواع الاحتياط والضبط وإلا لو كان الأمر بعقول البشر فإذا كانت مصاحف الكوفة تعد فواتح آية فينبغى أن تجعل هذا مطردا فتجعل كل فاتحة آية لكنهم ما فعلوا هذا فمثلا المص آية كهيعص آية حم عسق آية هنا خمسة أحرف حم عسق آيتان حم آية عسق آية كهيعص خمسة أحرف هى آية واحدة الم آية الر ليست آية ق ن ص ليست آية ما الضابط فى هذا يقول يا عبد الله هذا تنزيل من حكيم حميد ليس للعقول به مدخل وإلا لو كان هذا من جهد البشر فيه أى تدخل لجعل قاعدته مطردة يقول إذن الفواتح كلها تعتبر آيات لا والسور التى ذكر فيها حروف التهجى حروف مقطعة فى القرآن كم سورة فى القرآن تسع وعشرون سورة انظر الآن لهذا الأمر العظيم يقول حرف واحد لا يعتبر آية ما فيه راء لا يعيبر آية طس لا تعتبر آية طيب ق طس لقوله حم حرفان حرفان طيب لما هذه آية وليست آية يقول هذا كلام الله هذا كلام الله هكذا كلمنا نبينا عليه الصلاة والسلام فقال هنا حم اعتبروها آية وهنا طس ليست آية هذا عندها هذه القراءة وعند تلك القراءة لا يعتبرون فواتح السور من أولها إلى آخرها آية قلت ما اعتبر فواتح السور آيات لما اعتبره آيات إلا مصاحف الكوفة يعنى لا يوجد فى غير مصاحف الكوفة اعتبار حرف من حروف التهجى الحروف المقطعة فى أوائل السور لا يوجد اعتبار واحد منها آية مستقلة.
إذن هى أربع وثلاثون آية لمصاحف الكوفيين والبصريين والشاميين والحمصيين وثلاث وثلاثون آية فى مصاحف الحجازيين المدنى الأول والثانى والمكى وهذه المصاحف سبعة يؤخذ منها العد ولا يجوز الخروج عنها وقد نظمنا فيها الإمام الشاطبى صاحب الشاطبية فى القراءات السبع فى قصيدة سماها ناظمة الزهر فى فواصل السور فإذا تيسر لكم العثور عليها ففيها خير كبير إن شاء الله.
(23/36)
المبحث الرابع: والمعلم الرابع من معانى هذه السورة أسماؤها ليس لسورة لقمان إلا اسم واحد وهذا الغالب على أكثر سور القرآن ألا يكون لها إلا اسم واحد وقد تسمى السورة باثنين أو أكثر فالفاتحة بلغت أسماؤها اثنى عشر اسما وسورة النحل تسمى بالنحل وتسمى بسورة النعم وهكذا سورة غافر سورة غافر وسورة الملائكة فإذن أما بالنسبة سورة الزمر سورة الزمر وسورة الملائكة أما بالنسبة لسورة لقمان فليس لها إلا اسم واحد عندما تريد أن تبدأ فى تفسيرها كما قلنا هذه المعالم لا بد من تشخيصها ليس لها إلا اسم واحد.
المبحث الخامس: فضلها فضل سورة لقمان نقف عند هذا المقدار ونتكلم على فضلها وعلى مقاصدها وعلى صلتها بما قبلها فى الدرس الآتى إن شاء الله سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لاإله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليما كثيرا، والحمد لله رب العالمين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(23/37)
تفسير (16 أ)
وهذا لا يعلمه أحد لا يجليها لوقتها إلا هو، وما المسؤل عنها بأعلم من السائل وقد قال الله جلّ وعلا فى كتابه فى سورة الجن آمراً نبيه عليه الصلاة والسلام أن يقول {قل إن أدرى أقريب ما توعدون أم يجعل له ربى أمدا عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلاّ من إرتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا} ، ولذك قال الإمام ابن كثير فى تفسيره عند هذه الأية من سورة الجن: ما روى من أن النبى عليه الصلاة والسلام لا يمكث فى قبره أكثر من ألف سنة حتى تقوم الساعةكل هذا من الخرافات ولم يثبت ذلك فى شىء من كتب الحديث إذاً الإدعاء بأن هذه الاحرف المقطعة تدل على معرفة ما سيقع فى المستقبل وعلى تحديد مدة بقاء هذه ألامة هذا نوع كما قلت من إدعاء علم الغيب وهذا نوع من الكهانة لا يجوز قبول هذا القول ولا تصديق من قال به بشكل من الأشكال، قال الإمام السيوطى عليه رحمة فى الإتقان بعد أن نقل كلام السهيلى المتقدم بأن هذه الأحرف المقطعة لعلها إشارة إلى ما سيقع فى المستقبل وإلى مدة بقاء هذه الأمة قال فى الإ تقان فى الجزء الثالث صفحة 30 قال الحافظ ابن حجر هذا باطل، أى القول بأن معنى هذه الحروف المقطّعة ما تشير إليه من حساب الجمل إلى مدة بقاء هذه الأمة هذا باطل لا يعتمد عليه، وقد ثبت عن ابن عباس رضى الله عنهما الزجر عن تعلم أبي جاد وأن ذلك نوع من السحر وأبوجاد كما تقدم معنا حروف أبجد هوز وما فيها من دلالات على حسب حساب الجمل،ثبت عن ابن عباس رضى الله عنهما، الزجر عن تعلم أبى جاد وأن ذلك من جملة السحر، قال الحافظ السيوطى:
(24/1)
تفسير (16 ب)
(تفسير)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
تفسير (16 ب)
وليس ذلك ببعيد فإنه لا أصل له فى الشريعة، أى كلا م الحا فظ ابن حجر ليس ببعيد وأن تلك الأحرف الزعم بأنها تدل على مدة بقاء هذه الأمة ومعرفة الحوادث فى المستقبل على حسب حروف أبيجاد هذا زعم باطل والقول بأن هذا باطل ليس ببعيد ولا أصل لذلك فى الشريعة، ولذلك قال الإمام أبو بكر ابن العربى عليه رحمه الله فى فوائد رحلته:"ومن الباطل علم الحروف المقطعة وإستنباط ما تدل عليه من حوادث فى المستقبل هذا باطل لاتدل الحروف المقطعة على هذا بحال ".
وقد روى الإمام الهيثمى وذكر فى مجمع الزوائد فى الجزء الحامس صفحة 116، فى باب ما جاء فى النجوم والحروف حديثاً مرفوعاًعن نبينا عليه الصلاة والسلام، فى التحذير من تعلم أبيجاد وأستنباط الحوادث فى المستقبل من تلك الأحرف، لكن الحديث شديد الضعف، الحديث رواه الطبرانى عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: {رُبّ معلمٍ أبيجاد دارس النجوم ليس له يوم القيامة عند الله خلاق} ، قال الحافظ الهيثمى فى خالد ابن يزيد العمرى وهو كذاب، لكن كما قلت ثبت هذا عن ابن عباس كما قال الحافظ ابن حجر ووهذا نوع من الكهانة وإن لم هذا فإدعاء معرفة أمور الغيب ومدة بقاء هذه الأمة ومعرفة الحوادث فى المستقبل من الحروف المقطعة فى أوائل سور القران نوع من الكهانة ونوع من السحر وهذا محرم لايجوز للإنسان أن يتعاطه ولا أن يقول به.
(25/1)
وقد ذكر أئمتنا عليهم رحمة الله أن الشرك ينقسم إلى قسمين: شرك الخاصة: وهوالنظر فى النجوم وإستنباط ما سيقع فى المستقبل من الحروف المقطعة من حساب الجُمّل وتحديد ماسيقع فى المسقبل من أمور الغيب هذا شرك الخاصة وهو الذى كان يقع فيه الفلا سفة والكهان ويقع فيه العرافون وأرباب النظر، ويقولون هذه النجوم لها سعود ولها نحوس. وشرك العامة: وهو العكوف على القبور وعبادتها وعليه إستنباط أمور الغيب من هذه الأحرف المقطعة والزعم بأنها تدل على حوادث فى المستقبل هذا من الشرك الذى كان يقع فيه خواص الفلا سفة خواص المشريكين فى هذه الأمة من فلاسفة ومن أهل نظر بواسطة النظر فى النجوم أو بواسطة ما يسنبط من هذه الحروف المقطعة على حسب حروف الجُمّل.
قال ابن القيم عليه رحمه الله فى كتاب مفتاح السعادة ومنشور ولايتى العلم والإرادة فى الجزء الثانى صفحة 97: وقد يجتمع النوعان فى كثير من بنى الإنسان، شرك الخاصة وشرك العامة، فيعول على هوسه ونظره وعلى السعد والنحوس بواسطة النظر الى الكواكب وإستنباط حوادث فى المستقبل ستقع بواسطة حساب الجُمّل، ويعكف على القبور ويسغيث بها فيكون قبورياً نجومياً وقع فى الشرك الذى وقع فيه العامة والشرك الذى وقع فيه الخاصة، ومما وضعه الخاصة من أحاديث تدل على شركهم وهى أحاديث موضوعة (إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأهل القبور) والحديث موضوع بإتفاق أهل العلم.
قال الإمام ابن تيمية فى مجموع الفتاوى فى الجزء الأول صفحة 356 وتعرض للحديث فى الجزء الحادى عشر صفحة 293. "ومما وضعوا فى هذا المقام لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه، مادام هو يحسن الظن يتمسح بقبر أو يطوف بصنم فإ ذلك سينفعه" لو أحدكم ظنه بحجر لنفعه، وهذا كلام باطل مفترى، كلام الزنادقة والملحدين. كما قرر ذلك أيضاً الإمام ابن تيميةعليه رحمه الله فى مجموع الفتاوى فى الجزء الرابع والعشرين صفحة 335.
(25/2)
واذكر أننى لما كنت فى مصر وتعسرت معى بعض الأمور جأنى بعض طلبة العلم زائراً وقال أنا أرشدك لإلى أمر إذا قلته يفرج الله عنك ويقضى حاجتك، قلت: وما هو، قال: تذهب إلى قبر الحسين فتطوف هناك أقل شىء سبعة أشواط وإذا توسط إحدى وعشرين شوطة فى الشوط ثلاث مرات وإذا أكملت تسعاً وأربعين شوطاً سبعة فى سبعة، ثم تقول وأنت تطوف "من أمكم فى حاجة فيكم جبر، ومن تكونوا ناصريه ينتصر "، قلت: أما تستحى أيها الإنسان وأنت تدعى طلب العلم؟، فاعتراه الغضب والغيظ والخسط، وقال: أنت تنكر كرامات الأولياء، قلت: ما دخل الشرك فى كرامات الأولياء أما تستحى من الله، حق أنه يوجد فى ذلك المكان الحسين أو أنه يوجد نبينا صلى الله عليه وسلم، هل يجوز أن أطوف بقبره وأن أقول هذا الشرك وهذا الكفر البواح من امكم فى حاجة فيكم جبر ومن تكونوا ناصريه ينتصر، ثم أكمل الأشواط تسعاًوأربعين شوطاً ما أكملها حتى تنتهى حاجتى؟ أما تستحى من الله؟ هل قال الله إرجعوا والجئوا إلى القبور والموتى أم قال أمن يجيب المضطر إذا دعاه؟ ألجأ إليه فإذاعلم صلاحاً لى فيما تعسر علىّ لعله يذلّله ويسره سبحانه وتعالى وبيده مقاليد الأمور وهو على كل شىء قدير، وإذا كان يعلم أن فى تيسير ذلك العسير تلفاً لى فى دنياى وأخرتى يصرفه عنى وقد اختار لى ربى جلّ وعلا {وربك يخلق مايشاء ويختار ما كان لهم الخيرة} أما أننى أقع فى الشرك أما تستحى من الله. فإذاّ إذا أعتكم الأمور فعليكم بأهل القبور لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه، هذا شرك العامة، وشرك الخاصة التعويل على النظر فى النجوم وإستنباط السعود والنحوس منها الخيرات والشرور وهكذا استنباط مايقع من حوادث فى المستقبل عن طريق حساب الجُمّل، كل هذا كما قلت نوع من الكهانة وشعبة من الشرك وإدعاء الإنسان علم الغيب الذى ما جعل الله للعباد وسيلة إليه.
(25/3)
إخوتى الكرام: هذه الأحرف لا تدل إذاّ على مدة بقاء هذه الأمة ولاتدل على حوادث ستقع يمكن أن تستنبط تلك الحوادث من هذه الأحرف على طريقة حساب الجُمّل، ومن عولّ على ذلك منشىء فهو مخرف كاهن موسوس مشعوذ ضال لايجوز أن نأخذ بقوله ولا ان نعتبر قوله، ولذلك لما اجتمع أبو الحسين النورى مع مانيا المنجم قال أبو الحسين النورى عليه رحمه الله وهو من العلماء الصالحين ترجمه الإمام الذهبى فى سير أعلام النبلاء فى الجزء الرابع عشر صفحة 70 توفى سنة 295، قال شيخ الطائفة فى بلاد العراق: له عبارات دقيقة يتعلق بها من إنحرف من الصوفية، وكان يقول: مَن إدعى حالة مع الله جلّ وعلا وتلك الحالة منكرة فى الشرع فاحذر منه وابتعد عنه، قال أبو الحسين النورى لمانيا المنجم الذى يستنبط السعود والنحوس والخير والشر ور وما يقع فى المستقبل من النجوم ومن الحروف المقطعة فيما سيكون فى المستقبل من حوادث، قال له: أنت تخاف زحل وأنا أخاف رب زحل، أنت ترجو المشترى وأنا أرجو رب المشترى..كواكب فى السماء، وأنت تأخذ بالإشارة وأنا أُعوِّل على الإستخارة فكم ما بيننا..انت تخاف من زحل وأما أنا أخاف رب زحل وترجو المشترى وأنا أرجو رب المشترى وانت تأخذ بالإشارة مما يكون فى هذه الأبراج والأفلاك والحروف المقطعة واما أنا فأعول على الإستخارة..فكم إذاً ما بيننا، وكل من كان يعول على معرفة السعود والنحوس وعلى ما سيقع فى المستقبل بواسطة النظر فى الأفلاك السماوية أو بواسطة استخلاص هذا من الحروف المقطعة على حسب حروف الجُمّل فهو مفترى مهوس.
(25/4)
وقد رد الإمام ابن القيم عليه رحمه الله قولهم فى كتابه مفتاح السعادة، فقال فى الجزء الثانى فى صفحة 135، الوجه الثامن عشر: فى بيان الرد على الذين يستنبطون السعود والنحوس والخيرات والشرور ويحددون ما يقع فى المستقبل بواسطة حروف أبيجاد وبواسطة الأبراج والكواكب، يقول الوجه الثامن عشر: ثبوت كذبهم هذا يدل على أن هذا العلم لا حقيقة له ولا صحة له، ثم ذكر حوادث كثيرة زادت على العشر فى أنهم حددوا أوقتاً معينة لوقوع حوادث معينة ثم جاءت تلك الأوقات وما وقع فيها تلك الحوادث ثبوت كذبهم فقال فى سنة 223 اتفق المنجمون على أن المعتصم إذا خرج لفتح عامّورية سيبؤ بالفشل وسيخذل وسينكسر وسيكون النصر للروم فما بال وذهب وفتح الله على يديه عامّورية، فقال أبو تمام الشاعر المشهور بعد الموقعة:
السيف أصدق إنباءً من الكتب ... فى حده الحد بين الجد واللعب
والعلم فى شهب الأرماح لامعة ... بين الخميسين لا فى السبعة الشهب
أين الرواية أم أين النجوم وما ... صاغوه من زخرف منها ومن كذب
إلي سبعين بيتاً أجازه الخليفة المعتصم علي كل بيت بألف درهم.
أين الرواية أم أين النجوم وما ... صاغوه من زخرف منها ومن كذب
إذاً سنة مئتين وثلاث وعشرين أجمعوا على أن المعتصم إذا خرج سيفشل فكتب الله له النصر والظفر....
(25/5)
حادثة أخري من الحوادث التي ذكرها يقول: ٍ"أجمع المنجمون الذين يعولون علي معرفة السعود والنفوس بواسطة النظر في الأبراج والكواكب وبواسطة النظر في حروف الجمل وما سيقع في المستقبل أجمعوا على أنه سيكون في سنة 582 سيكون فى هذا العام ريح شديدة لاينجو منها إلا من كان فى مغى وستزيد قوة هذه الريح فى العالم على الريح التي أرسلها الله على قوم عاد وستستمر ثلاثة أيام وكل من لم يكن فى مغارة سيهلك وسيموت..يقول قد أجمعوا على هذا وأعتري الناس زعر ورعب وإنما أجمعوا على هذا لأن الكواكب فى هذا التاريخ ستكون فى برج الميزان وهو برج هوائي إذا إجتمعت الكواكب فيه سيكون فى العالم رياح شديدة كما حصل في عهد عاد.
(25/6)
قال المنجمون:والطوفان الذي حصل على عهد نبي الله نوح على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه إجتمعت الكواكب في برج الحوت فصار إذاً طوفان في العالم وإذا إجتمعت في برج الميزان سيكون هناك هواء يهلك الناس كما أهلكهم الطوفان، يقول الإمام ابن القيم: فارتاع الناس فى ذلك الوقت وعملوا لإنفسهم مغارات وافترى الأفاكون بعد ذلك خرافات كثيرة ونسبوها إلى على رضي الله عنه وأنه قال ما ينقله المنجمون عنى بأنه سيقع سنة 582 ريح شديدة تدمر الناس إلا من كان فى مغارة فهو صحيح فصدقوه يقول اعترى زعر رعب فلما جاء ذلك التاريخ خفت الرياح والهواء بحيث صعب على الناس التنفس من قلة الهواء الموجود فى العالم فصار الإنسان يتنفس بكلفة من أجل أن يحصل الهواء والأكسجين من أجل أن يعيش وما حصل شىء من ذلك مما قالوه من أنه سيقع دمار للعالم بواسطة الرياح الشديدة التى زادت على الرياح التى أرسلها الله على قوم نبى الله هود على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه وعلى قوم عاد....إذاًمما يدلعلى كذبهم وعلى أن هذا العلم لا صحة له ثبوت خلاف ما يقولون ثبوت كذبهم وما حددوه لم يقع فى أوقات مختلفة، وعليه فالقول بأن هذه الأحرف المقطعة تدل على حوادث فى المستقبل هذا نوع من الكهانة نوع من ادعاء علم الغيب وهذا محرم لايجوز للإنسان أن يقول به.
(25/7)
تفسير (16ج)
فعندنا إشكالان يتعلقان بهذا المبحث:
الإشكال الأول: حديث ثبت فى صحيح مسلم وسنن ابى داود والنسائى وقد يفهم منه بعض من لا وعى له أنه يدل على إستنباط حوادث مستقبلة ستقع بواسطة حروف الجُمّل أو بواسطة علم الرمل أو ما يتعلق بهذه الأمور أنه يستطيع أن يعلم ما سيقع فى المستقبل بسب من الأسباب فلنذكر الحديث وكما قلت هو فى مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم وسنن ابى داود والنسائى ولفظ الحديث عن معاوية السلمى رضي الله عنه رواه فى كتا ب المساجد ومواضع الصلاة ورقم الحديث 33 فى الجزء الأول صفحة 382 وكرره الإمام مسلم فى كتاب السلام فى باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان رقم الحديث هناك 121 ولفظ الحديث عن معاوية بن الحكم السلمى قال: بين أنا أصلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم فقلت: يرحمك الله، فرمانى القوم بأبصارهم، فقلت وسكل أمىَ (أى سكلتنى أمى وفقدتنى) ما شأنكم تنظرون إلىّوهو يصلى وحديث عهد بإسلام رضي الله عنه وأرضاه فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخادهم فلما رأيتهم يصمتوننى لكنى سكت (أى سكت من أجل أنهم يشيرون إليه بأن يسكت) فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبأبى هو وأمى مارأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه فو الله ما كهرنى ولا ضربنى ولا شتمنى فقال: {إن هذه الصلاة لايصلح فيها شىء من كلام الناس إنما هو التسبيح والتكبير وقرأة القران} أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنى حديث عهدٍ بجاهلية وقد جاء الله بالإسلام وإن منا رجالاً يأتون الكهان، قال: فلا تأتهم، قال: ومنا رجال يتطيرون (يتشائمون ببعض مايرونه فيدفعهم ذلك إلى الإحجام عما يريدون فعله) فقال: ذاك شىء يجدونه فى صدورهم فلا يصدنهم، قال ابن الصباح فلا يصدنكم فى روايته، قال قلت: ومنا رجال يخطون (الخط: هو علم الرمل أن يخط فى الرمل خطوطًا، يقول العلماء كيفية علم الرمل أن
(26/1)
يخط خطوطًا متتابعة بسرعة ثم يمحو خطين خطين فإن بقى بعد ذلك خط واحد فهذا علامة النجح والفوز والسعادة ---وإن بقى خطان فهذا علامة الفشل والخيبة والخسران، لذلك الأمر هذا علم الرمل، قلت: ومنا رجال يخطون.
هذا محل الشاهد الذى قد يفهم يفهم بعض الناس منه خلاف المراد، قال صلى الله عليه وسلم: كان نبى من الأنبياء يخط فمن وافق خطه فذاك، قال وكانت لى جارية ترعى غنم لى قِبل أحد والجوانيه مكانان فى المدينة المنورة فاطلعت ذات يوم فإذا الذئب قد ذهب بشاة من غنمها وأنا رجل من بنى أدم آسف كما يأسفون لكنى صقكتها صقتاًفأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعظم ذلك علىّ قلت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أفلا أعتقها؟ قال أتنى بها، فقال لها: أين الله، قالت: فى السماء، قال: من أنا، قالت: أنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أعتقها فإنها مؤمنة.
(26/2)
الشاهد إخوتى الكرام: منا رجال يخطون، قال له النبى صلى الله عليه وسلم: كان نبى من الأنبياء يخط فمن وافق خطه فذاك، وهذا النبى هو إدريس على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، كان يستدل على معرفة حسن الأمر أو سوءه على معرفة مآل الأمر أنه سيكون خيراً أوشراً بواسطة الخطوط فى الرمل، ثم يمحو كما قلت بعض الخطوط فما بقى بعد ذلك يستنبط منها ما سيكون فى المستقبل لكن لايخفى على أحد من المسلمين أن النبى معصوم وأنه يسدد ويوفق من قبل الوحى الذى ينزل عليه فالله جلّ وعلا جعل لنبيه ادريس على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، تلك العلامة معجزة له فكان يخط فى الرمل ثم بعد ذلك يمسح الخطوط فما بقى يستنبط منه ماسيقع فى المستقبل عن طريق إعلام الله له، كما أعلم نبينا صلى الله عليه وسلم والأنبياء الأخرين بكثير من أمور الغيب التى تقع فى المستقبل لكن لا عن طريق الرمل ولا عن طريق الخطوط فى الأرض، لكن إدريس على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه علمه الله ما سيقع فى المستقبل بواسطة الخطوط التى يخطها فى الأرض، فمن وافق خطه فذاك، وهل يمكن لإنسان أن يافق خط إدريس، لا يمكن قطعاً فذاك معصوم علمه كما قلنا ربنا عن طريق الوحى ونحن ليس لنا ذلك، ولذلك قال النبى صلى الله عليه وسلم: إن علم الخط والرمل حرام خشية أن يفهم أن نبى الله إدريس على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه كان يفعله حراما فنهانا عنه بهذا الأسلوب، فقال: من وافق خطه فذاك، أى فهو صحيح معتمد، لكن من لم يوافق خطُّه خطََّ إدريس فإذا هو كاهن عراف مشعوذ جدال وليس عندنا بينة بأننا سنوافق خطه بالتالى لا يحل لنا ذلك.
(26/3)
فذاك كان يحل له لأن الله علمه من لدنه ذلك العلم وأمانحن فلم يعلمنا ذلك ربنا ولا أذن لنا فيه نبينا صلى الله عليه وسلم،فلا يجوز لنا أن نعول عليه، ذاك نبى كان يخط فمن وافقه فذاك، والحديث رواه الإمام أحمد فى المسند فى الجزء الثانى صفحة 294، قال الإمام الهيثمى فى المجمع فى الجزء الخامس صفحة 116 بإسناد صحيح لكن من رواية ابى هريرة رحمه الله رضي الله عنه والحديث المتقدم من رواية معاوية بن الحكم السلمى، ولفظ حديث ابلى هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {فمن وافق عِلّمه عَلِمَهُ، ذاك نبى كان يخط} فمن وافق علمه أى علم ذلك النبي، وعَلِمه علم تلك الخطوط على أى شىء تدل، لكن من أين لنا تلك الموافقة، فإذاً قلنا هذا الحديث يدل على النهى عن إستنباط شىء من أمور المستقبل بعلامة من العلامات لأن ذلك كله ظن وتخمين لا يستند الى يقين فهو نوع من الكهانة، فإذاً هذا الحديث لا ينبغى أن يستدل به إنسان على جواز معرفة أمور الغيب ببعض العلامات كحروف الجُمّل، أو علم الرمل أو النجوم وما يستنبط منها من سعود ونحوس وغير ذلك.
الإشكال الثانى: ورد فى ترجمة قاضى دمشق وهو العبد الصالح المنتجب أبو المعالى محمد ابن القاضى يحيى وهو المعروف بابن الذكى ويقال له ابن الصادق وكل من ترجمه اثنى عليه وذكر بأنه كان من الصالحين وانظروا ترجمته فى سير أعلام النبلاء فى الجزء العشرين صفحة 137 يخاطب صلاح الدين الأيوبى عليهم جميعاً رحمه الله بعد أن فتح حلب وأستولى على قلعة الشهباء وطرد الفرنج منها، يقول له وكان فتح حلب فى صفر، يقول له.. وفتحك الشهباء فى صفر مبشر بفتوح القدس فى رجب.
(26/4)
تفسير (17)
(تفسير)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
تفسير (17)
مبشرا بفتوح القدس فى رجب، ستفتح القدس فى شهر رجب فقيل له لهذا القاضى الصالح محمد ابن القاضى يحيى، قيل له من أين أخذت هذا، بأن فتح بيت المقدس سيكون فى رجب، فقال: سيكون فى رجب فى سنة 582 أخذته من تفسير عبد السلا م ابن عبد الرحمن أبى الحكم ابن برّجان، ذكر هذا فى تفسير سورة الروم وذكر أن فتح المقدس سيقع فى هذا التاريخ 582 فى رجب فإذاً أنا أخذت هذا من ذلك التفسير.
(27/1)
يقول الإمام ابن كثير فى البداية والنهاية: قال ابو شامة فى كتاب الروضتين تكلم شيخنا أبو الحسن السخاوى عليه رحمه الله على ما نقل عن ابى الحكم ابن برّجان بأنه سيقع فتح بيت المقدس سنة 582 فى رجب عند تفسير سورة الروم {آلم. غلبت الروم. فى أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون. فى بضع سنين ... } ثم قال: شيخ الإمام ابى شامة أبو الحسن الإمام السخاوى عليه رحمه الله، أبو الحسن السخاوى يقول: وما نقل عن ابى الحكم ابن برّجان فهو نجابة وافقت إصابة إن صح أنه قال ذلك الكلام قبل فتح بيت المقدس، قال الإمام ابن كثير قلت: إن ابى الحكم ابن برّجان قد قال ذلك فى كتابه قبل فتح بيت المقدس وذكره ابن الزكىّ مخاطباً لصلاح الدين الأيوبى قبل فتح بيت المقدس، فقيل ذلك الكلام سنة 522 أى قبل فتح بيت المقدس بستين سنة، والإمام ابو الحكم ابن برّجان وفاته كانت سنة536 فتوفى قبل فتح بيت المقدس بفترة طويلة وفاته كانت سنة536 كما ذكر ذلك الذهبى فى سير أعلام النبلاء فى الجزء العشرين صفة 72 ونعته بأنه كان من العلماء الصالحين عبد السلام ابن عبد الرحمن ابن برّجان ابو الحكم وله تفسير للقران لم يكمله وله شرح أسماء الله الحسنى عليه رحمه الله توفى 536 والقصة أشار إليها أبو حيان فى البحر المحيط فى الجزء السابع صفحه 172 عند تفسير آيات سورة الروم، فقال وكان شيخنا الأستاذ ابو جعفر ابن الزبير يحكى عن ابى الحكم ابن برّجان، وكلّ من هؤلاء المشايخ ابن حيان وشيخه ابو جعفر ابن الزبير وابو الحكم ابن برّجان من بلاد الأندلس، يحكى عن الحكم ابن برجان أنه سيتم فتح بيت المقدس سنة 582 فى رجب، وكما قلت أنه توفى قبل ذلك بكثير، وهذا الأمرنقله الإمام الألوسى فى روح المعانى عليهم جميعاً رحمه الله.
(27/2)
إذاً هذا الأمرالذى إستنبطه ابو الحكم ابن ابن برّجان فى تفسيره وأنه سيقع فتح بيت المقدس سنة 582 وقد جهز صلاح الدين الأيوبى جيشاً ابيت المقدس وحاصرها فى 15 رجب وفتحها فى نهاية رجب لكن أول جمعة أقيمت فيها فى 4 شعبان سنة 582 لكن المحاصرة والفتح كان فى شهر رجب، فقد يقال هذا إشكال وهذا الآن شىء من علم الغيب إستنبطه هذا لإنسان، الإمام السخاوى فيما نقله عنه ابو شامة، قال: لم يأخذ هذا من الحروف المقطعة وليس هذا من باب الكرامة إنما هو نجابة وافقت إصابة ... والذى يبدو لى والعلم عند الله جلّ وعلا أن هذا لم يؤخذ من الأحرف المقطّعة هذا محل إتفاق كما قلت ولايجوز أن نزعم بأن هذه الأحرف المقطّعة تدل حوادث فى المستقبل وهذا رجم بالغيب وادعاء علم نوع من الكهانة وهذا حرام، إذا الأمر كذلك فكيف علم ابو الحكم ابن برّرجان هذا الأمر قبل وقوعه اقول لعل ذلك من باب الكرامة والله جلّ وعلا يطتع الصالحين على بعض المغيبات وليس فى ذلك أى إشكال، فشتان شتان بين أن يدعى الإنسان بأنه يعلم شيئاّ من المغيبات عن طريق سبب من الأسباب التى يبذلها، أو عن طريق حيلٍ أو عن طريق جدٍ واجتهاد وبين أن يقول ألهمنى الله هذا الأمر وأنه سيقع بعد سنة كذا من أين لك يقول ألقى فى روعى وهجم على قلبلى وهذه فراسة إيمانية، هذا يقع؟ نعم يقع، لأن أمور الكمال كما قال أئمتنا فى كتب التوحيد مردها الى ثلاثة أمور لاتوجدمجتمة بل واحد منها واحد لايكون على وجه التمام والكمال إلاّ فى العزيز الغفور، وأمور الكمال هى: العلم، والقدرة، والغنى....
(27/3)
علم فيعلم ما يجهله غيره، قدرة يقدر على مايعجز عنه غيره، غنى يستغنى عما يحاج إليه غيره، وهذه الأمور الثلاثة كما قلت لاتوجد مجتمعة بل واحد منها على وجه التمام إلاّ فى رب العالمين سبحانه وتعالى، ثم يعطى الله شيئاّ منها لعباده حسبما يشاء فهو الفعّال لما يريد سبحانه وتعالى وقد أمر الله آخر الأنبياء نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أن ينفى عن نفسه إدّعاء هذه الأمور الثلاثة فقال جلّ وعلا أمراّ له أن يقول فى سورة الأنعام فى آية 50 {قل لا أقول لكم عندى خزائن الله} أستغنى عما تحتاجون إليه {قل لاأقول لكم عندى خزائن الله ولاأعلم الغيب ولاأقول لكم إنى ملك} أقدر على مالا تقدرون عليه، أعلم الغيب، أعلم مايخفى عليكم أعلم المغيبات التى ستقع هذه أمور الكمال، خزائن الله أنى ملك أعلم الغيب فلا أستغنى عما تحتاجون إليه ولا أعلم المغيبات ولست بملك أقدر على مالا تقدرون عليه أنا بشر مثلكم إن أتبع ما يوحى إلىّ، وقد أمر الله نبه نوحاّ على نبينا وعلية صلوات الله وسلامه وهو أول رسول الى أهل الأرض بعد أبينا أدم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه وكان بينهما عشرة قرون كلهم على التوحيد أمره أنينفى هذه الأمور الثلاثة عن نفسه فقال جلّ وعلا فى سورة هود آية 31 مخبراً عما قاله هذا العبد الصالح نوح على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه {ولاأقول لكم عندى خزائن الله ولا أهلم الغيب ولاأقول إنى ملك ولا أقول للذين تزدرى أعيونكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما فى أنفسهم} .
(27/4)
إذاً أمور الكمال مردها لثلاثة أمور: علم: فيكاشف بما يخفى على غيره.، قدرة: يمكن مما يعجز عنه غيره.، غنى: يستغنى عما يحتاج إليه غيره،، ولإيضاح هذا أضوح كل نوع بمثال، أما النوع الأول: وهو أنه يعلم ما يخفى على غيره، فهذا كما قلت سابقاً من جملته هذه القصة أنه سيتم فتح بيت المقدس سنة582 فهذاعن طريق الكرامة أكرمه الله بهذا وأطلعه على أمر مغيب سيقع وقد وقع أىُّ حرج فى ذلك، هل لهذا نظائر مثبته عندأئمتنا فى كتب التوحيد لا ينكرها إلاّ مكابر، عمر ابن الخطاب رضي الله عنه كان يخطب على منبر مسجد نبينا عليه الصلاة والسلام، وقد أرسل جيشه ليقاتل فى بلاد الفرس فى بلاد نهاواند، وأمر عليم سارية، فبينما هو يخطب كشف الله له عن بصيرته وهذه هى المكاشفة: أن يعلم ما يخفى على غيره يلقبه شىء من أمور الغيب التى تخفى على الحاضرين، كشف الله له عن حال الواقعة، فسارية فى أصل الجبل ومعه جيشه والعدو يتسلق من الناحية الثانية ليرقى الجبل وبالتالى سيهزم جيش الإسلام والتوحيد ويقتلون عندما يكونوا الجيش الكفرى فوقهم، فنادى عمر بأعلى صوطه وهو على المنبر: يا سارية الجبل الجبل إصعد الجبل، من المدينة الى بلاد نهاواند يرى الحادثة ثم ينادى فسمع سارية صوت عمر ورقى بجيشه الجبل ونصرهم الله جلّ وعلا على الفرس.
(27/5)
وهذه القصة كما قال الإمام السخاوى فى المقاصد الحسنة: قال شيخنا (يعنى الحافظ ابن حجر) إسنادها حسن، وقد ألف الحافظ الحلبى جزء فى تصحيحها وتعداد طرقها وقد نقلها أئمتنا فى كتب التوحيد وذكرها الإمام ابن تيمة كتابه (الفرقان بين أةلياء الرمن وأولياء الشيطان) صفة 74 وهى عندكم فى شرح الطحاوية، ورواهاالإمام ابن القيم فى (مدارج السالكين) صفحة 228، يا سارية الجبل الجبل، جاء المعلق على كتاب (مدارج السالكين) فذكر تعليقاً يضحك السكلى وحقيقة هذا التعليق مما ينبغى ألاّ يقول به عاقل، يقول: إن عمر ابن الخطاب عندما كان يخطب على أخذته سنة، فنام وهو على المنبر فصاح فى نومه لما رأى سارية وجيشه: يا سارية الجبل الجبل، فعمر نام على المنبر..سبحان الله عمر ينام على المنبر، أنا أقول لو عمر نام على المنبر، فلو تغوط الخطباء بعده لكان قليلاً..لكان قليلاً حقيقة، عمر ينام على المنبر؟! الذى إذا رآه الشيطان سالكاً فجاً سلك فجاً غير فجه، عمر هذا الوقور المهيب ينام على المنبر ... سبحان ربى العظيم وهو يخطب!، كان عمر بعد أن قضى نسكه يحلق رأسه ليزين الحلاق فتنحنح فأحدث المزين فى سراويه من أثر تنحنح عمر ... عمر ينام على المنبر؟! هذه الهيبة، وبلغه عن إمرأة غيبة فاستدعاها، فجاءها الرسول وقال: أجيبى أمير المؤمنين، فولولت وصاحت قالت: عمر، مالى ولعمر؟ كيف سأقابله، ففى الطريق أسقطت وهى حامل، ثم بعد أن حصل منها ما حصل، قال عمر للصحابة: ما تقولون فى الجنين؟ فقالوا أنت مؤدب يا أمير الؤمنين وليس عليك شىء، فقال على: عليك ديتها ولابد من دفع دية، ولكن إختلف العلماء هل تدفع الدية من بيت المال، أوعلى عاقلة الخليفة أو القاضى إذا إستدعى إمرأة ومن هيبته أسقطته؟ وسقط الجنين الذى فى بطنها، عمر ينام على المنبر،؟! ثم سلمنا لك أنه نام ورأى تلك الموقعة وصاح فى نومه ... سلمنا، كيف سمع سارية ذلك الكلام؟ هل أيضاً سارية نام وسمع صوت عمر فى النوم؟
(27/6)
يا إخوتى الكرام: لايجوز أن خرج الكرامة عن واقعها وظاهرها وحالها، هى كرامة أمر خارق للعادة، كالمعجزة، لكن تلك تقع على يد الرسول وهذه على يد العبد الصالح الولى القانت لله جلّ وعلا، تلك على يد نبى هذه على يد ولى..فقط، فهى خارق للعادة..خارق ما جرت العادة بمثله ولو كانت على حسب المعروف المألوف لما كانت كرامة كما لو كانت معجزة إذا وقعت على يد نبى.
وقد ثبت فى مسند الإمام أحمد والصحيحين من حديث ابى هريرة رضي الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: [قد كان فى الأمم قبلكم محدثون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن فى أمتى أحد منهم فعمر] ، ما معنى محدثون؟ ملهمون مكاشفون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن فى أمتى أحد منهم فعمر، قال الحافظ ابن حجر عليه رحمه الله فى الفتح: وقول النبى صلى الله عليه وسلم فإن يكن فى أمتى أحد فعمر لن يورده مورد الترديد، يعنى إذا فرض وجود واحد من هذا الصنف فى هذه الأمة فهو عمر ... لا، إنما أورده مورد التحقيق، فكأن النبى صلى الله عليه وسلم يقول: الأمم السابقة كان فيها هذا الصنف وهذا النوع يكاشفون ويحدثون من غير أن يكونوا انبياء ومن غير أن ينزل عليهم وحى السماء، فهذه الأمة من باب الأولى أن يكاشف فيها الصالحون وأن يخبروا بشىء مما يقع عن طريق الكرامة وهى أمر خارق للعادة ... عن طريق الكرامة لما؟ لأهذه الأمة أكرم على من الأمم السابقة.
(27/7)
فإذا كان هذا الأمر فى الأمم السابقة فهو فى هذه الأمة من باب الأولى، كما تقول لهذا العبد الصالح إن يكن لى صديق فأنت، وأنت لاتشك فى صداقته ولاتريد نفى الصداقة أيضاً عن غيره إنمل تريد أن تجزم بأنه صديق لك من غير تردد، فإذاً أورد مورد التحقيق لامورد التشكيك والترديد، وهناك قول ثانى لكنه ضعيف، أن الحديث أورد مورد الترديد، والسبب أن الأمم السابقة كانت تحتاج الى ما يثبت إيمانها ما بين الحين والحين بواسطة الكرامات، وأما هذه الأمة ففيهاهذا القران الذى تكفل الله بحفظه وفيه تبيان كل شىء وهو معجز، فهذا بمثابة معجزة تتكرر كل لحظة، ولذلك لاداعى لأن يوجد فيهم مكاشفون محدثون ملهمون كما كان فى الأمم السابقة ... يوجد لكن بقلة لكن الأمم السابقة بكثرة، وعلى التعليل الأول وهو الأقوى: يوجد فى هذه الأمة بكثرة أكثر مما وجد فى الأمم السابقة.. فهى أكرم على الله من الأمم السابقة إذاً ما جرى لاإشكال فيه وليس هذا عن طريق الحروف المقطعة ولا عن طريق النظر فى النجوم وإستنباط سعود ونحوس ولا عن طريق حساب الجُمّل ... أكرمه الله بهذا وأوقع الله ذلك كما أخبر وهو على كل شىء قدير،..كرامة يكاشف بها، وللإمام ابن تيمة رحمه الله رسالة عظيمة ينبغى أن تقرأوها مراراً، قاعدة فى المعجزات والكرامات وهى غير رسالته (الفرقان بين أولياء الحمن وأولياء الشيطان) ، وهذه القاعدة التى فى المعجزات والكرامات موجودة ضمن (مجموع الفتاوى) فى الجزء الحادى عشر صفة 311.. قاعدة فى المعجزات والكرامات وطبعت أيضاً هذه الرسالة مستقلة، إذاً هذا علم يخفى على غيره ...
(27/8)
يا سارية الجبل الجبل، وهنا الأمر كذلك، مثال لما يكون فيه خارق العادة فى جنس القدرة، يقدر على ما يعجز عنه غيره، هل بإمكان أحد منا أن يحول التراب الى ذهب؟ لا، فقديقدر الله بعض الصالحين على أن يمسك قطعة التراب يضغط عليها هكذا تصبح ذهباً خالصاً، هذا وقع؟ وقع، ولاينكر هذا إلاّ من هو ضال مخرف، متى وقع هذا؟ يقول الحافظ ابن كثير فى تفسير هـ فى الجزء الثالث صفة 399 عند تفسير قوله تعالى فى سورة القصص، حكاية عن العبد المخذول قارون، {قال إنما أوتيته على علم عندى} يقول: قال بعض الناس، على علم عندى فى صنعة الكيمياء، أى أنه يحول التراب والخشب الى ذهب.، يقول الإمام ابن تيمية: وصنعة الكمياء زغل وتلبيس وغش وتدليس وليست بحقيقة ولايمكن ان يقلب المعادن الى غير ماهيتها فالخشب خشب والحديد حديد والذهب ذهب ولا يمكن أن نقلب النحاس الى ذهب على الإطلاق، لكن بإمكاننا أن ندلس ونغش نطليه ذهب ونقول هذا ذهب، لكن إذا أخذه الصائغ يكشفه ويقول هذا نحاس مطلى بذهب من نقلبه حقيقة نقلب العين وأن التركيب أن تكون زرات نحاس تصبح زرات ذهب هذا مستحيل،. قال وأما قلب الأعيان، هذا كلام الإمام ابن كثير فى هذا المكان فى الجزء الثالث صفة 399، (وأما قلب الأعيان عن طريق الكرامة فهذا جائز وواقع لأن ليس بقدرة المخلوقات إنما بمشيئة رب الأرض والسماوات، كما جرى لحيوة ابن شريح المصرى إمام الديار المصرية فى زمانه عليه رحمه الله، ورضي الله عن حيوة ابن شريح توفى سنة 158 وحديثه مخرج فى الكتب الستة وهو ثقة وفوق الثقة ترجمه الإمام الذهبى فى تذكرة الحفاظ فى الجزء الأول صفحة 185 وترجمه فى الكاشف فقال: له أحوال وكرامات، وهذا فى تفسير ابن كثير، وهو فى تذكرة الحفاظ.،
(27/9)
من كراماته "أن سائلاً سأله ولم عند حيوة ابن شريح ما يعطيه، وعلم صدق السئل وحاجته، فأخذ مدرة من الأرض (قطعة طين يابسة متجمدة) فأجالها فى يده إش هى معمل، وألقاها فى يد السائل، فقلبها الله ذهباً خالصأ ".
وفى تذكرة الحفاظ قصة أخرى وهى " أن رجلاً دخل عليه ورأى فقره وحاجته، فقال: أما يسأل حيوة ابن شريح ربه فليغنيه، يقول فنظر إلىّ فأخذ حصاة فرمانى بها وإذا هى ذهب خالص، فقلت: ما أفعل بها، قال أنفقها على نفسك " وأما بعد ذلك تريد أنت يعنى أننى أسأل ربى أن يكفينى، فأنا فى نعمة وستر وعافية، خذ هذه الحصاة، لا تظن أنى فقير لهوانى على الله لا أنظر الحصاة ارميها إليك فتصبح ذهبا، وأما أنا فى سترى معافيا.... وكان إذا أخذ عطائه كما فى تذكرة الحفاظ، وتهذيب التهذيب فى ترجمته، وكان عطائه ستين ديناراً " إذا أخذ عطائه يفرقه قبل أن يصل الى بيته، فإذا دخل الى البيت ونام وجده تحت فراشه ستون ديناراً، فعلم ابن عم له بذلك، فأخذ عطائه فوزعه، فذهب الى بيته فنام ثم قلب الفراش ما رأى شيئاً ونظر تحت الفراش بحيث كاد أن يحفر الأرض، فما حصل شيئا، فجاء لحيوة ابن شريح، وقال: أفسدت علىّ مالى وضيعته، قال: وما ذاك، قال: أنت تعطى عطائك للمحتاجين فإذا رجعت الى بيتك وجدت ففعلت مثل فعلك فلم أجد شيئاً، فقال: أنا أعطيت ثقة، وأنت أعطيت تجربة. أنا أعطيت ثقة واثق بالله جلّ وعلا، وأما أنت تريد أن تجرب رب العالمين سبحانه وتعالى فخذلك وأوكلك الى نفسك {وما أنفقتم من شىء فهو يخلفه وهو خير الرازقين} أعطيتُ ثقة وأعطيتَ تجربة،....حقية قدر على ما يعجِز عنه أهل الأرض قاطبة، لاأقول إن الجهد البشرى الإعتيادى يعجِز عن هذا التكنولوجيا المتطورة فى هذه الحياة ليس بوسعها أن تحول الحديد الى ذهب ... نحن لا ننكر على الإطلاق لكن بمشيئة رب الأرض والسماوات {إنما أمرنا لشىء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} .
(27/10)
والحقيقة الأمر كما قال الله {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل لكل شىء قدراً} ، كيف هذا،. يا عبد الله كل العالم بما فيه من عرشه الى فرشه من جنود الله وطوع أمره فإذا كنت فى بيتك واحتجت وقال الله للوسادة التى تتوسدها كونى ذهبا أى شىء يعجزه، نحتاج الى ربط القلب بالله حلّ وعلا، ولو أخذ الناس بهذه الأية لوسعتهم هذه الأية {ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شىء قدرا} .
يقول الإمام ابن تيمية عليه رحمه الله فى الرسالة المشار إليها: (إذا صح الإيمان علماً وعملاً، إ عتقاد نظيف سليم وعمل صالح مستقيم، واحتاج صاحبه الى كرامة وخارق عادة فلا بد أن تخرق له العادة) ، لابد {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً} ، {إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً} ، إذا هذا خارق العادة فيما يتعلق بجانب القدرة، هذا من أمور الكمال، خارق العادة فيما يتعلق بجانب الغنى فيسغنى عما يحتاج إليه العباد، كيف هذا؟ العباد بحاجة الى طعام وشراب، وهل يسغنى أحد من البشر عن ذلك؟ لا، قد يجعل الله بعض عباده مستغنياً عن ذلك وهو على كل شىء قدير، وقع؟ وقع هذا.
(27/11)
ذكر الإمام الذهبى فى ترجمة العبد الصالح إبراهيم التيمى، والقصة فى تذكرة الحفاظ فى الجزء الأول صفحة 7 "توفى وما أكمل أربعين سنة علبه رحمه الله، وكان يقول: كم بينكم وبين القوم، أقبلت عليهم الدنيا فهربوا منها، وأدبرت عنكم فتبعتموها.، كم بينكم وبينهم، تقبل عليهم فيتركونها، وأنتم تولى عنكم فتلحقونها.. وكان يقول: إذا رأيت الرجل يتهون بتكبيرة الإحرام فاغسل يدك منه، وبلغ من شهامته ورجولته أن شرطة الحجاج..العبد المخذول عامله الله بما يستحق وقد أفضى الى ما قدم، ولا أحد يتعصب لأهل الباطل فيقول: ما فائدة التجريح؟، فالحب والبغض أوثق عرى الإيمان،، يقول الذهبى عليه رحمه الله عندما ترجم الحجاج فى الجزء الرابع صفحة 343، الذى قسمه الله سنة 95، بعد أن ترجمه يقول: نبُغِضُه ولا نحبه، نسبه ولانحبه ونُبغِضُهُ فى الله. فإن الحب فى الله والبغض فيه أوثق عرى الإيمان، له حسنات مغمورة فى بحر ذنوبه. فإذاً نحب من أطاع الله ونُبغِض من عصى الله، ليس موضوع تجريح.
أرسل الحجاج شرطته فى طلب إبراهيم النخعى وكان شيخاً كبيراً طاعناً فى العمر، فطلبت الشرطة إبراهيم النخعى، فقيل: فى المسجد..... أين إبراهيم، فقام إبراهيم التيمى ليقدم نفسه فدائاً لإبراهيم النخعى، وما خرج النخعى بعد ذلك حتى مات الحجاج، متوارياً منه، فقال: أنا إبراهيم، فأخذه الحجاج وحبسه فى الشمس حتى تغير وذبل، فجاءت أمه تزوره فما عرفته من تغير حالته حتى كلمها، ثم مات إبراهيم التيمى: صاحب الكرامات، حديثه فى الكتب الستة رضي الله عنه وأرضاه ... ثم مات، فرأى الحجاج فى نومه، قائلاً يقول له: مات فى سجنك رجل من أهل الجنة، أما تتوب وتستحى من الله.، فلما إستيقظ من الذى توفى فى السجن هذه الليلة، فقالوا: إبراهيم التيمى.، قال: حُمُمٌ من الشيطان، ألقوه على مزبلة..... هذا الحجاج العبد المخذول، أنظر لهذه المروءة وهذه الشهامة عند هذا العبد إبراهيم التيمى.
(27/12)
يقول الذهبى فى ترجمته، كما قلت فى تذكرة الحفاظ، وتوفى سنة 92، يقول: كان يمكث شهرين لا يأكل ولا يشرب، ليس فى وسع الإنسان هذا وهو محتاج الى الطعام والشراب، فهذا خارق للعادة وهو كرامة فى جنس الغنى، يستغنى عما يحتاج إليه العباد، وترجمه فى سير أعلام النبلاء أيضاً، فقال: دخل عليه بعض قرابته فقذف له حبة عنب، فقال: منذ 40 يوماً لم أطعم ثم أخذ هذه الحبة فلاكها فى فيه ثم لفظها ... هذه كرامة، وكون الإنسان يمكث شهرين لا يأكل ولا يشرب، هذا خارق للعادة..لكن كما قلنا هذا كرامة، فالكرامة تقع فى العلم فيطلع الله بعض عباده علي ما يخفى على غيره....تقع الكرامةفى القدرة فيمكنه الله من فعل ما يعجز عنه غيره، تقع فى الغنى فيستطيع أن يستغنى عمايحتاج إليه غيره.. وعليه فما وقع من أبى الحكم بن برّجان هو من الكرامة ولا إشكال فى ذلك مطلقاً.
(27/13)
وأي غرابة أن يكرم الله ذلك العبد عبد السلام بن عبد الرحمن بن برّجان الذى توفى سنة 536، وأن يخبره الله بأنه سيكون فتح بيت المقدس سنة 582 رجب، وحصل هذا والله على كل شئ قدير ... أى غرابة، لاسيما كان هذا فى عهد عبدين صالحين..العبد الأول وهو ملك بلاد الشام فى ذلك الوقت التابع للخلافة العباسية.....من الذى يقال له شهيد وما أُستشهد، لكن حقق الله له أُمنيته كما يقول الذهبى، فلا ينطق أحد إسمه إلا وينعته بالشهادة مع أنه مات على فراش نور الدين الشهيد ... ما أحد يقول إلا نور الدين الشهيد محمود بن زنكى، وهو شيخ وأُستاذ وأمير صلاح الدين الأيوبى، كان صلاح الدين الأيوبى من قواده ومن جنوده، وفتح الله على يد هذا العبد الصالح محمود بن زنكى التركى، وصلاح الدين الأيوبى الكردى بلاد مصر بعد أن بقيت بلاد ردة وإلحاد ثلاثةقرون، من270 على يد العبيديين الملعونين الذين يُسمَّون بالفاطميين، ومؤسس الدولة فى المغرب عبيد الله بن ميمون القدَّاح الذى إدعى أنه من آل البيت وهوهويهودى ربيب مجوسى ثم إدعى الرفض وحقيقته الكفر المحض ... من الذى قضى على هذه الدولة؟ صلاح الدين الأيوبى، فى عهد نور الدين زنكى ... كان ذلك سنة 567،قبل وفاة نور الدين بسنتين، لأنه توفى سنة 569،وأما صلاح الدين الأيوبى فإمتدت حياته حتى فتح الله على يديه بيت المقدس، وتوفى سنة 589 بعد شيخه بعشرين سنة....وفتح بيت المقدس قلنا كان سنة 582 أى بعد فتح بيت المقدس بسبع سنين.
(27/14)
وقد أعد نور الدين محمود زنكى منبر، ونُجِّر فى حياته، وجعله فى بيته من أجل أن يتم فتح بيت المقدس ليكون ذلك المنبر فى المسجد الأقصى ... لكن ما حقق الله أُمنيته ومات قبل ذلك، فجاء بعد ذلك تلميذه قائده العبد الصالح صلاح الدين الأيوبى فحقق ذلك وأتى بذلك المنبر الذى عُمل فى عهد نور الدين، وخُطِب عليه فى 4 شعبان سنة 582،وحقق الله تلك الكرامة لذلك الرجل الصالح. محمود زنكى نور الدين، يقول علمائنا: ما جاء بعد الخلفاء الراشدين وعمر ابن عبد العزيز خير للمسلمين منه...... وكان يقول: وددت لو أن الله بعثنى فى بطون السباع وحواصل الطير.....فأى مانع أن يكرم الله ذلك العبد الصالح فى عهد إمارة هذا العبد الصالح بتلك المكاشفة وذلك العلم وقد كان هذا العبد الصالح: محمود بن زنكى نور الدين يطلعه الله جلّ وعلا على بعض الأمور عن طريق الكرامات.
(27/15)
أنظروا الى هذه القصة التى أوردها الإمام الذهبى عليه رحمه الله فى سير أعلام النبلاء فى الجزء العشرين فى ترجمته صفة 531.، " حاصل هذه القصة أن الفرنج النصارى لما حاصروا دمياط، فى عهد نور الدين الشهيد بقى عشرين يوماً لا يأكل شيئا إنما يقتصر على الماء حتى تغير من ضعفه وهو مدمن اللجؤ الى ربه فرأى إمام الجيش الذى يصلى بهم الصلاة النبى عليه الصلاة والسلام فى الرؤية وقال له: بشر نور الدين بأن الفرنج سيغلبون ويخذلون ويولون وأنه سيحصل النصر والتمكين لنور الدين ... وقال النبى صلى الله عليه وسلم هذا لإمام الصلاة بعد أن شكى إمام الصلاة حال المسلمين للنبى صلى الله عليه وسلم كما قلت فى النوم، وقال: بلغ الأمر بهذا الإمام أمير نور الدين الشهيد أنه عشرين يوماً ما ذاق طعاما واقتصر على الماء، قال: بشره، فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أخشى ألاّ يصدقنى، فقال له النبى صلى الله عليه وسلم: قل له علامة صدقى يوم حارم.... هذا سر يعرفه نور الدين الشهيد، يقول: فلما صليت الفجر جئت الى نور الدين الشهيد عليه جميعاً رحمه الله فهبت أن أكلمه وكان له هيبة عظيمة، فقال: ما لك تخبرنى أو أخبرك، قلت: أخبرنى ما عندك، قال: رأيت النبى صلى الله عليه وسلم فى النوم وأخبرك بكذا وكذا ... إذ هذا الإمام الصالح رأى النبى صلى الله عليه وسلم أيضاً.، وهنيئاً لتلك الرعية بذلك الإمام، ثم قال إمام الصلاة لهذا القائد البطل المغوار: أريد أن تخبرنى عن سر يوم حارم..
(27/16)
إنتهينا الآن من رؤيا أطلعك الله عليها وكاشفك الله بها، لكن مايوم حارم؟ ما هو هذا السر؟ أنا ما أعلمه لإنما قال لى النبى صلى الله عليه وسلم: إذا لم يصدقك نور الدين، فقل: العلامة يوم حارم، قال: لما التقينى مع الفرنج فى تلك الموقعة إعتزلت عن العسكر وعفرت جبهتى فى التراب وقلت: يا رب إن الجند جندك، والبلاد بلادك، والعباد عبادك، ومن أنا بينهم؟ فأسألك أن تجبر خاطرهم وأن تعطيهم ما يليق بكرمك، أما أنا لا قيمة لى وشأن.. أنا لا شأن لى، من أنا؟ لكن هؤلاء عبادك وهذه بلادك فاجبرهم خاطرهم وأعطهم ما يليق بكرمك.. يقول: فغلب الله الفرنجة وكسرهم ونصرنا عليهم..هذا يوم حارم، هذا الدعاء الذى حصل هذا سر بينى وبين الله ما اطلع عليه أحد، والنبى صلى الله عليه وسلم فى الرؤية يقول لك: هذا السر، كلمة السر، هل يعلمك بهذا الأمر؟ إذاً هنا مكاشفة عن طريق الرؤية وهذا كرامة، وأى غضاضة وغرابة فى هذا.
يقول الإمام ابن تيمة عليه رحمه الله: الكرامة فى هذه الأمة كالمطر، وما نعرفه مما وقع عياناً فلا يحصى.. الكرامات فى هذه الأمة كالمطر..... فإذاً لا إشكال فى أن يقول ذلك العبد الصالح: إن فتح بيت المقدس يكون فى وقت كذا عن طريق خارق للعادة عن طرق كرامة يكرمه الله بذلك وهو على كل شىء قدير.... نعم ينبغى أن نفرق بين الكرامة وبين المخاريق والحيل، هذا لابد من التفريق بينه وبين الكرامات.، فإنسان يعمل لنا مخاريق وشعوذة ويدجل ويلبس..هذا ليس بكرامة، ولعل الله يمد فى الحياة لأتكلم على خوارق العادات وعلى ما فيها من عظات.، فما كان يجرى من الحلاج الحسين ابن منصور الذى قتل على الزندقة سنة 311 خوارق للعادات لكن كلها مخاريق!!!
(27/17)
وهكذا كان ما يجرى على يد العبد المخذول الثانى، محمد بن التمرت الذى توفى سنة 524، وهو الذى كان يلقب جماعته بالموحدين ... وهم ضالون، معطلون، أول من دخل أدخل التعطيل الى بلاد المغرب، وكان يدعى أنه المهدى المعصوم المبشر به فى الوحى المعلوم محمد بن عبد الله بن التمرت..... بلغ من شطف الحلاج وهذا العبد المخذول،، أنهما يأخذان بعض الناس الى المقبرة فيدفنانه وهو حى ثم يقولان له بواسطة مواطئة بينه وبين هذا المدفون، سنحضر الآن الأحياء، وأنا أقول إننى أحيى بعض الموتى، فإذا ناديك أخرج، أخرج من قبرك وكلمنى على أنك ميت وبعثت.... ثم كما الإمام ابن كثير: من أعان ظالماً سلطه الله عليه، فكان يناديهم فبعد أن يخرجوا، ويقولوا نحن كنا أمواتاً وأنت أحييتنا وأنت وأنت، يعيده ويدس عليهم التراب ويقتلهم، جزاء وفاقا، ومن أعان ظالماً سلطه الله عليه {كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه الى عذاب السعير} ، هذا مخاريق وهذه شعوذة، لا يجوز أن ندخل هذا الآن فى شىء من الكرامات،، هكذا ما يقع أحياناً من حدق وفراسة وذكاء، ويخبر الإنسان ببعض الأمور عن طريق النظر فى الأسباب العادية هذا لايقال له كرامة ... وأنا أعرف بعض الناس ممن هو عادى ولا أتهمه وأقول هذه ليست كرامة له العلم عند الله، لكن مثل هذا ممكن أن يقال عن طريق الذكاء وعن طريق كما قلنا الفراسة إذا كان عند الإنسان حدق ومهارة بواسطة التأمل فى الحوادث الواقعة، فقيل له: طاغوت فى بعض البلاد....
(27/18)
ستطول مدته أو ستقصر، فقال: ستطول جدا، أنا أذكر هذا الكلام قاله من سنين طويلة لعلها تلك الفترة عشرين سنة أو أكثر، وواقع الأمر حصل هذا، فهذا إما كرامة ولا مانع أو إما على حسب النظر فى الأسباب العادية إذا كان عنده ذكاء وحذق لابد أيضاً من التمييز ويمكن أن يكون هنا نظر، وهنا شىء من الحذق،، فكان بعض المنجمين، عندما يولد مولود، يقول: سيعيش كذا على حسب أعمال الغالب لأنه فى الغالب سيعيش، فإذا عاش واحد فقط، يقولون: صدقت فراستك، لكنه لو مات مائة لايقولون: كذبت فراستك..... يحفظون ما يؤيد قوله ولايحفظون ما يخلف هذا، فالأصل فى هذا أنه سيعيش والموت طارىء فيأتى على كل حى، لكن سيعيش الى عمر أمثاله، إذا كان الأمر كذلك،. أرى أن الأمة مخدرة وليس عند العباد فى هذه الأوقات روجوع الى رب الأرض والسماوات، إذاً هذا الطاغوت سيجلس مستريحاً دون مناوئة، ستطول إماعن طريق حذق والنظر فى الأسباب التى يمكن أن يدركها الذكى وإما عن طريق كرامة إذا كان رجلاً صالحاً والعلم عند الله..... إذاً، هذا لابد من التفريق كما قلنا بين الكرامة وبين بعد ذلك المخاريق والشعوذة، بين الكرامة وبين ما يمكن أن يستنبط عن طريق الذكاء والحذق والفراسة الرياضية الطبيعية، لابد من التمييز بين هذا وهذا.
القول العاشر: وهو أخر ماقيل فى بيان معنى الحروف المقطعة أوائل بعض سور القران الكريم، وكما الثامن والتاسع والعاشر كلها مردودة مرفوضة أقوال لايجوز القول بها.. القول التاسع قلنا فيه شعبة من شعب الباطنية وادعاء الكهانة وعلم الغيب.......
(27/19)
القول العاشر قال به العلماء محدثين فى العصر المنحط، قالوا: إن معنى هذه الحروف المقطعة معلوم ولا داعى أن نبذل جهداً ووسعاً وكلفة فى الوقوف على المراد منه، ما هو معناها؟ قالوا: هذه نغم موسيقى أودعه الله جلّ وعلا فى كتابه لتطرب له الأذان، هذا القران حوى جميع العلوم ومن جملة هذه العلوم، علم الموسيقى.... وعليه لما نأتى ب {آلم} نقول: لحن موسيقى نغم موسيقى الغرض من ذلك أن تطرب الأذان لسماع هذا النغم، هذا هو مغناها ولا يقصد منها غير ذلك، قال بهذا عبد الكريم الخطيب فى كتابه الذى سماه أيضاً وهذه بلية (التفسير القرآنى بالقرآن) وكان هذا رئيس قسم التفسير فى الرياض، وكان يدرس علم التفسير وعلوم القرآن فى الدراسات العليا ولعل التعبير الأدق لها سفلى ...
يقول: {آلم} نغم موسيقى يقرر هذا فى كتابه فى الجزء الأول صفحة 23 الى 25 لا داعى للإجتهاد فى البحث عن معناها. يقول: فهى مطلع موسيقى تقوم عليه وحدة النغم فى ترتيل آيات السورة وكل حرف منها له نغم مستقل،،وهذا القول قال به ايضاً عبد الرزاق نوفل، صاحب كتاب (معجزة الأرقام والترقيم فى القرآن الكريم) ، وصاحب كتاب (أسئلة حرجة) ، وقد أفضى الى ما قدم.... أسئلة حرجة، وهل صدره سيكون حرجاً أو منشرحا ً العلم عند الله، أما كتبه فقد ملأها قاذورات وضلالات، يقول فى هذا الكتاب وهو من أوله الى آخره سفاهة وسخط، ولم يبنى على دليل معجزة الأرقام والترقيم، الحروف المقطعة ثم بعد ذلك، لما تسة عشر حرفاً؟، لما سبعة عشر حرفاً؟، ولما، ولما، (معزة الأرقام والترقيم) وهذا قاله قبله بعض الموهوسين فجاء هو وانتحله، وادعى أن المسألة لا زالت ذكرى وهو أول من استضها وأول من يبحث فيها ويلفت الأذهان الى الأرقام والترقيم.... لكن المسألة ذكرت قبله وأنها هوس قال به بعض الناس ورد عليه..
(27/20)
يقول الراوى فى كتابه فى التفسير، فى تفسير سورة الفاتحة فى الجزء الأول صفحة 178 إ ن قيل لما خلت الفاتحة من سبعة أحرف وهى " التاء والجيم والخاء والزال والشين والظاء والفاء " يقول الفاتحة ليس فيها سبعة أحرف لما؟ ماذا ستقول أنت؟ قال: لأن هذه الحروف مشعرة بالخذى والعذاب، والله يقول عن جهنم {لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم} فكل حرف من هذه الأحرف يشعر بعذاب ... ففاتحة الكتاب سلمت من ألأحرف للإشارة الى أن من قرأ فاتحة الكتاب لا يدخل باباً من أبواب النار، ثم قال مقرراً هذا: التاء من السبور، (لاإله إلاالله!) والجيم من جهنم، والخاء من خذى، والزال من الزفير والزقوم، والشين من الشقاوة، واللام من لظى، والفاء من فراق، طيب يمكن أن نعكس عليك هذا، فنقول أيضاً الحروف المذكورة فى الفاتحة تدل على أسماء جهنم وعلى الشدة والخذى والعار، فنقول لك: الذال الذين تدل على الذلة، والغين غير: تدل على الغواش، {لهم منجهنم مهاد ومن فوقهم غواش} ، والنون إهدنا: تدل على النار، والحاء: تدل على الحميم، والميم: تدل على المهاد،، هذا بحث هذا؟ هذا تفسير؟، أو هذا تكسير؟!
(27/21)
لا إله إلا الله......الفاتحة خلت من سبعة أحرف لأن أبواب جنهم سبعة هذه تشعر بالخذى، طيب ما الفارق بين الجيم والحاء؟ الجيم من جنهم والحاء من حميم، لما ذكرت الحاء ولم تذكر الجيم؟ هذا لايقال، ولا يجوز أن ندخل العقل فى غير مجاله، الكتاب من أوله الى أخره كله حول هذا الهوس، ذكر الأيات وجعل جزء الآية أية من أجل أن يأفق أنها تسعة عشرحرفاً أو سبعة عشر حرفاً ليوفق بينها وبين أيات زعم أنها بهذه الأحرف، طيب الأية لما لا تكملها من أولها لتأخذ جزء منها، تتلاعب.. يقول فى صفحة 48: هناك من اوجه الإعجاز الأخرى ما هو سابق فى الزمان كإعجازه الموسيقى، ثم ذكر أن الحروف التى جاءت فى فواتح السور رمزاً لحركة السورة الموسيقية وما زالت أوجه إعجازه الموسيقية تترا وهذا كما قلت له كتب كثيرة كلها تحمل الجيف والقاذورات والبلاء..إعجاز موسيقى، لما جاء فى كتابه أسئلة حرجة الى حديث الدجال ونزول عيسى ابن مريم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، تقدم أن محمد عبد الرشيد رضا، وبعد ذلك الآن صاحب كتاب (مواعظ العلم والإيمان) وإنتقل من الشك الى الإيمان، والله أعلم بالإيمان الذى إنتقل إليه المخذول مصطفى محمود.. كلهم ينكرون موضوع خروج الدجال ونزول عيسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، يقول فى صفحة 99،: أحاديث الدجال كلها خرافة وأحاديث نزول عيسى ابن مريم كلها مدسوسة، ثم بعد ذلك فى مكانين صفحة 28و64، سؤال حرج أين الله؟ يقول: من الضلال ما يعلمه الناس لأولادهم أن فى السماء....، النبى صلى الله عليه وسلم يقول للجارية: أين الله، قالت: فى السماء،. يقول: لأنه فى عصر الفضاء بقى الأولاد يتناقضون مع ما يتلقونه فى بيوتهم، ومع ما يشاهدونه فى حياتهم، فقد غزى الناس الفضاء ووصلوا للقمر، وما رأوا الله فلو كان فى السماء لرأوه، هذا كقول فرعون تماما، {يا هامان ابنى لى صرحا لعلى أبلغ الأسباب، أسباب السماوات فأطلع الى إله موسى} ..
(27/22)
أيها المخذول، هل الإله جل وعلا عندما نقول فى السماء يعنى فى هذه الأجرام السماوية السبعة؟ إذا كان كرسيه وسع السماوات والأرض، المراد من السماء العلو المطلق، أأمنتم من فى السماء، إما أن تقول السماء بمعنى العلو ففى ظرفية على حقيقتها،،وإما أن تقول: أأمنتم من على السماء وهو فوقها لأن السماء كالأرض، فكيف يكون الله فى داخلها، السماء والأرض سواء، والله جل وعلا ليس فى شىء من مخلوقاته، {ليس كمثله شىء وهو السيع البصير} والله منفصل مباين لخلقه فى ذاته وصفاته وأفعاله وعلى عرشه بائن من خلقه لا ذاته فى شىء من المخلوقات ولا المخلوقات فى شىء من الخالق، منفصل عنهم سبحانه وتعالى هو العلى العظيم، فالسماوات والأرض سواء، أنه يكون فى السماوات ولا يكون فى الأرض نعوذ بالله من هذا الخذلان، أما هنا، من فى السماء، عندما أقول أين الله؟ فى السماء نقصد من السماء العلو المطلق، وإذا كنا نقصد من السماوات الأجرام المعروفة فهنا يكون معنى {فى} بمعنى على، {لأصلبنكم فى جذوع النخل} أى على جذوع النخل، {فامشوا فى مناكبها} على مناكبها، {فسيحوا فى الأرض} على الأرض سيحوا عليها وامشوا عليها، وماتمشى فى داخلها وتكون فى وسطها، وهنا كذلك على السماء أو فيها بمعنى العلو، فيقول: الآن بدأ يتناقض الجيل عندما نقول له الله فى السماء، وغزى الفضاء وما حصل هذا، ومثل هذا كثير وكثير، فبقول: هذا إشارة الى علم الموسيقى.
(27/23)
وهذا القول قاله ايضاً محمد صبيح فى كتابه (بحث جديد عن القرآن) فى صفة 95، فنقل عن زكى مبارك، إنتبهوا إخوتى الكرام من أين جاء هذا القول اللعين، أن الأحرف المقطعة هى نظم موسيقى، نقل زكى مبارك عن المسيوبلانشو، هذا كما تقدم معنا نقل عن مصطفى محمود عن الكاتب البولاندى، أن المراد من الدجال هو التكنولوجيا والعلم الحديث، لأنه أعور، يقول: ليس له صلة بربه، هذا العور الذى فيه، وهنا ينقل عن المسيوبلانشو، صار يعنى المستشرقون سيتكلمون فى تفسير كلام الله ونرجع إليهم، يقول: الحروف المقطعة هى مطلع موسيقى يقوم عليه وحدة النغم فى ترتيل أيات السورة،، يقول هو عن المسيوبلانشو، يقول: الحروف المقطعة إشارات وبيانات موسيقية يتبعها المرتلون، وكانت الموسيقى القديمة بسيطة ليست كالموسيقى الحديثة معقدة آلات كثيرة، فكانت الموسيقى القديمة، يقول من حرف أو حرفين أو ثلاثة لا تتجاوز خمسة أحرف ... فجاء إذاً القران موافقاً للموسيقى البسيطة، وهذا وراءه بعد ذلك أنه من صنع البشر وأن النبى صلى الله عليه وسلم حاك الناس فى هذا الأسلوب الذى كانوا يفعلونه، فلأن الموسيقى القديمة كانت بسيطة بدائية فجاء القرآن على هذه الوتيرة وعلى هذه الشاكلة، يقول زكى مبارك: ونحن مع إعترافنا وإعتدادنا بهذا القول نتوقف حتى تظهر الكنائس الحبشية والكنائس الشامية فى بلاد الحبشة والشام مدى صحة هذا القول وهذه الموسيقى كانت عندهم بسيطة ليست معقدة من حرف أو حرفين إلى خمس، فإن كان كذلك فيصح تفسير الحروف المقطعة بأنها موسيقى موافقة للموسيقى القديمة، مع إعتزازنا بهذا القول نتوقف فى من الحكم ظ الكنائس الحبشية والكنائس الشامية لتبحث لنا وتقرر لنا ماذا كان فى القديم من نغم يتبع فى الكنائس قبل تطور آلات الموسيقى.....
(27/24)
نعوذ بالله من هذا الخذى،، هذا القول الذى وقف زكى مبارك عنده لهذا الحد، قال: نتوقف حتى تحكم الكنائس، ماإرتضاه أيضاً محمد صبيح وقال: نحن نتفق بأن له قيمة لكن هذا القول لا ينبغى أن يهمل إنما هو قول معتبر وهو يقرب من قول المتقدمين: إنها حروف لتنبيه السامعين، أين هذا من ذاك؟
فهناك قلنا التنبيه كما يكون بلفظ يفهم يكون بلفظ لايفهم، فنقول: ياأيها الذين أمنوا،.ياأيها النبى، ياأيها الناس، يا بنى آدم، ونقول أيضاً: {آلم} أما قياس هذا على هذا، هذا فى منتهى الفساد الشقاء، فإذاً هذا تفسير عاشر وهو باطل منكر..
(27/25)
السيد قطب عليه رحمه الله وغفر الله له ولجميع المسلمين والمسلمات فى تفسيره (فى ظلال القرآن) وقع أحياناً عليه رحمة الله من غير قصد فى شىء من هذا، ولم يتنبه له عليه رحمه الله، فمثلاً فى كتاب فى تفسير سورة النجم.. يقول عنها: منظومة موسيقية علوية منغمة يسرى النغم الموسيقى في دمائها المقطعى وفى إقاع فواصلها ... وأنا أقطع قطعاً بأن هذا العبد الصالح ولا نزكى أحدأً على الله جل وعلا، ونسأل الله أن يجعله فى جنات النعيم بفضله ورحمته إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين: أنه ما يقصد من أن هذه على أوتار الموسيقى، إنما يقصد هنا من الموسيقى: صوت يلتذ منه السامع، عندما يقرأ {والنجم إذا هوى. ما ضل صاحبكم وما غوى} ، صوت يلتذ منه السامع، لكن يبقى، هل يجوز أن نعبر عنه بأنه نغم موسيقى وإيقاع موسيقى؟ يبقى ذلل يرد على قائله مهما كان شأنه، لكن شتان أن ترد خطأ المخطىء إذا كان صالحاً وتعثر، وبين أن ترد خطأ من يضلل ويفسد فى دين الله، شتان بين هذا وذاك، هذا ترد خطائه برفق وتلتمس له عذراً وتدعو له.، وأما ذاك تحذر الأمة منه، فينبغى أن نفرق بين هذا وذاك،، فإذاً هذا حاله عندما قال هذا، هذه فى الحقيقة ذلل ينبغى أن يحذف، ويكرر سيد قطب عليه رحمه الله هذا فى تفسيره، يقول إقاعها الموسيقى ونغمها الموسيقى، هذا لايجوز أن يقال فى تشبيه هذه الأمور المستحسنة بهذه الأمور السترذلة، لاسيما والموسيقة لها فى العصر شأن لايخفى علينا.
(27/26)
وقد عملت مقابلة مع بعض المشايخ الزائغين، فقال مدللاً على حل الموسيقى (وسيدقطب عليه رحمه الله لا يقول الموسيقى حلال يقول حرام، لكن يعبر عن إيقاع فواصل الأيات بأنها نغم موسيقى، يأخذ من الموسيقى تشبيهاً معروفاً وهو اللذة والطرب وابتهاج الأذن بسماع هذا الترتيل المبارك، لايقصدأن الموسيقى حلال، فبض الزائغين عملت له مقابلة، فقال: الموسيقى حلال وقد ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبى موسى الأشعرى: [إننى إستمعت الى قرأتك وقد أوتيت مزماراً من مزامير داود] ، وهذا مما يدل على حل الموسيقى، ثم أخبر عن نفسه بأنه يطرب لفلانة وفلانة ويسمع لفلانة ... أيها العبد المضل بعد أن كنت ضالاً: من الذى أباح لك أن تستمع لغناء المرأة، لو قلنا إن الموسيقى حلال، وعندك عود تضرب به فى بيتك أو تضرب لك زوجتك، لو قلنا: من الذى أباح لك أن تسمع لإم جرثوم وشادية وبلية، من الذى أباح لك؟ أوريد أن أعلم؟ منالذى أباح لك أن تسمع للمغنيات الفاجرات؟، فكون الموسيقى تقول حلال، وتتلاعب بمدلولات النصوص هذا خذلان ... خذلان ثانى: تسمع للنساء، أوليس الغناء والموسيقى هو من الخضوع بالقول بالإتفاق، وهل المرأة عندما تغنى يكون كلامها جذلاً فصلاً أو بترقيق تنطيط، والله يقول للنساء عندما تكلم الرجال دون غناء {فلا تخضعن بالقول} ، فماذا بعد الغناء والموسيقى من خضوع وعندما تسمع لتلك الخبيثة وتستدل بأن ابى موسى الأشعرى رضي الله عنه أوتى مزماراً من مزامير آل داود، نعوذ بالله من الخذلان وإنطماس البصيرة..
(27/27)
إخوتى الكرام: الحديث رواه الإمام أحمد ورواه الشيخان فى صحيحيهما والترمذى والنسائى وابن ماجة عن ابى موسى الأشعرى رضي الله عنه، أن النبى صلى الله عليه وسلم مر عليه وهو يقرأ القرآن فى الليل، وقال [له لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود] ثبت فى رواية المستدرك للحافظ فى الجزء الثالث صفحة 466، أن ابى موسى الأشعرى رضي الله عنه، قال: لو علمت بمكانك لحبرت لك تحبيرا، المراد من مزامير آل داود: أى أوتيت صوتاً حسناً، كصوت نبى الله داود وأوتاره عندما كان يقرأ الزبور، قيل لذلك مزمار: تشبيهاً باللذة المطربة التى تقع فى المزمار، لكن ما كان عند نبى الله مزمار.
المراد مزمار من مزامير آل داود: أوتيت صوتاً عذباً رطباً ندياً، كما كان يقول لذلك العبد الصالح عندما كان يجلس ويقرأ الزبور فى الصحراء الطيور تظله من عذوبة صوته، فأوتيت صوتاً حسناً، كما أوتى ذلك العبد الصالح على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، ليس المراد بالمزمار والموسيقى.
(27/28)
ولذلك ثبت فى الحلية عن ابى عثمان النهدى أنه قال: دخلت على ابى موسى الأشعرى، فسمعته يقرأ القرآن فكان صوته ألذ وأحسن من الصنج والبربطى، والناى، الصنج: حديدتان يضرب بهما، والبربط يقول العلماء: ألة تشبه العود، والناى: الزمارة، صوته ألذ من هذه، أى إذا كان أهل الفجور يتلذذون بهذه والطبيعة الإنسانية تتلذذ بهذا، كما يتلذذ الإنسان بالزنا، وليس فى هذا دليل على حله، وليس اللذة مقتضية للحل، كون الإنسان إذا سمع المزمار يطرب لا يدل على أنه حلال، كما أنه إذا زنا يلتذ ... إنما صوت ابى موسى الأشعرى ألذ من صوت العود والزمار ة والصنج، كما ثبت هذا فى الحلية عن ابى عثمان النهدى بسند صحيح، فإذا ليس المراد: مزمار أنه كان عنده ألة يزمر بها، صوت حسن، صوتك يشبهه فى الحسن والعذوبة، وبهذا ينتهى الكلام على الأحرف المقطعة فى بعض سور القرآن، وأما تفسير أية سورة لقمان سنتدارسه فى الموعظة الأتية إن شاء الرحمن وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيرا، سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، والسلام ورحمة الله وبركاته..
(27/29)
تفسير (18)
(تفسير)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
تفسير (18)
قولاً سديداً الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، الحمد لله رب العالمين، شرع لنا ديناً قويماً، وهدانا صراطاًمستقيماً، وأسبغ علينا نعمه ظاهرةً وباطنة وهو اللطيف الخبير.
اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله، انت رب الطيبين، وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، ولى الصالحين وخالق الناس أجمعين ورازقهم {وما من دابة فى الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كلٌ فى كتاب مبين} {ياأيها الناس أُذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون} .
وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمةً للعالمين، وشرح به الصدور وأنار به العقول، وأفتح به آذاناً صماً وأعيناًعمياً وقلو باًغلفاً، فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به الله نبياً عن أُمته، ورضى الله عن أصحابه الطيبين، وعن من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين {ياأيها الناس اتقوا ربكم الذى خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءاً واتقوا الله الذى تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً} ، {ياأيها الذين آمنوا إتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} ، {ياأيها الذين آمنوا إتقوا الله وقو لح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاًعظيماًْْْْ} .
أما بعد معشر الأخوة الكرام..
(28/1)
انتهينا من مدارسة وبيان معنى الحروف المقطعة المذكورة فى أوائل بعض سور القرآن الكريم ونحن نتدارس فى الأصل تفسير سورة لقمان رضي الله عنه وعن سائر الصالحين والصالحات، وبدايتها {آلم. تلك آيات الكتاب الحكيم. هدى ورحمة للمحسنين} وذكرت أن الحروف المقطعة الموجودة فى بعض سور القرآن الكريم أجمع أئمتنا الكرام على أن لها معنى وذكرت لحكمة لأمرين معتبرين ... ثم بينت بعد ذلك هذا المعنى الذى من أجله ذُكرت الحروف المقطعة، وتلك الحكمة التى من أجلها وردت الحروف المقطعة فى أوائل بعض سور القرآن الكريم.... هل يدرس فى ذلك المعنى ويوقف على تلك الحكمة من جميع الوجوه، أو من وجه دون وجه؟، فقلت هذا محل الخلاف بين أئمتنا الكرام على قولين....
القول الأول: لايمكن أن ندرس الحكمة من جميع الوجوه ولا أن نقف على المعنى على وجه التمام والكمال، فغاية مانعلمه فى الأحرف المقطعة: أنها حروف من حروف الهجاء من حروف لغة العرب، إذ فتح الله بها بعض السور من كتابه جل وعلا، فهى حروف من حروف اللغة العربية، لكن ماذا يقصد بها وما الحكمة التى من أجلها ذكرت من أجلها هذه الأحرف فى أوائل بعض السور، هذا ما نقف عنده ولا نتكلم فيه.
القول الثانى: أنه يمكن الوقوف على ذلك المعنى وإدراك تلك الحكمة، وقلت: كما تعددت أقوال القائلين بهذا القول الى ما يزيد على ثلاثين قولاً، ذكرت منها عشرة أقوال، سبعة ممكن أن تقبل. وهى متفاوتة فى درجات القبول، وثلاثة مردودة، ختمت الكلام على الأحرف المقطعة بها فى أخر موعظتى المتقدمة.
وأما الآن سنشرع فى مدارستنا بعد الأحرف المقطعة فى أول سورة لقمان {آلم. تلك آيت الكتاب الحكيم} نتدارس إن شاء الله تفسير الأية الثانية من سورة لقمان وهى {تلك آيات الكتاب الحكيم} المؤلفة من أربعة كلمات....
(28/2)
إخوتى الكرام.. تقدم معنا أن الحروف المقطعة الموجودة فى بعض سور القرآن الكريم تعتبر آية فى مصاحف الكوفة، ونحن نسير على هذا الإختلاف فى مصاحفنا، وقراءتنا فى الأصل تنتمى لقراءة حفص عن عاصم إلى بلاد الكوفة، وعاصم كان هناك وفى مصاحفنا {آلم} تعتبر آية، وقلت ما عدى الحروف المقطعة فى أوائل السور آية إلا الكوفيون فى مصاحف الكوفة، وهذا ثابت عن نبينا صلى الله عليه وسلم، وما بدؤه حرف التهجى فآية لكوف وطس كما تقدم معنا عند بيان آيات سورة لقمان، فى هذه راء، هى هذه الراء من الأحرف المقطعة {آلر} هذا لا يعتبر آية فى مصاحف الكوفة، وطس، وهكذا المثل للتى أُبتدئت بحرف واحد من ن وق
وقال: هذه الآية تعتبر الفواتح فيها آية فى مصاحف الكوفة، إذاً {آلم} الآية الأولى، والآية الثانية هى التى نتدارسها الآن {تلك آيات الكتاب الحكيم} تلك إسم الإشارة، وآيات جمع آية والكتاب الذى نُعت بعد ذلك بالحكمة {آيات الكتاب الحكيم} ، هذه الكلمات الأربعة سنتدارسها، ونسأل الله العظيم بفضله ورحمته أن يلهمنا رشدنا وأن يبصرنا بعواقب أُمورنا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
(28/3)
إخوتى الكرام.. أما الكلمة الأولى واللفظة الأولى فهى {تلك} تلك إسم إشارة، ووضع هذا الإسم فى اللغة العربية للإشارة به إلى بعيد غائب إذا كان مؤنثا، كما أن ذلك يشار به إلى البعيد الغائب إذا كان مذكرا، بعكس هذا وهذه ... فهذه يشار بها إلى القريب الحاضر إذا كان مؤنث، وهذا يشار بها إلى القريب إذا كان مذكراً..... وعليه تلك يشار بها إلى الشئ البعيد، وإلى الشئ الغائب إذا كان مؤنثاً، لكن أسماء الإشارة تتناوب، فيعبر أحياناً فى لغة العرب عن الحاضر القريب الموجود المشاهد بإسم الإشارة البعيد، كما يُعبر عن البعيد الغائب بإسم الإشارة القريب...... فما المراد هنا من إسم الإشارة؟ هل يُراد شئ حاضر قريبأ أُشير به بإسم الإشارة الذى وُضع كما قلنا للبعيد، أو أن المراد بهذا الإسم شئ غائب بعيد؟
لعلمائنا الكرام فى هذه المسألة قولان، القول الأول: أن المراد من إلإشارة هنا شئ حاضر قريب وليس بشئ غائب بعيد {آلم. تلك ... } فماذا نقول إذاً فى معنى (تلك) (هذه) {تلك آيات الكتاب الحكيم} أى (هذه آيات الكتاب الحكيم) تلك بمعنى هذه، والذين قالوا بهذا إختلفوا أيضاً فيما بينهم في توجيه هذا القول وتعليلهم إلى ثلاثة أقوال:
إذا فسرنا إسم الإشارة الذى هو للبعيد بما يشار به إلى شئ حاضر قريب، هؤلاء قالوا تعليل هذا القول إلى ثلاثة أقوال إختلفوا فى تعليلهم، القول الأول.
(28/4)
القول الأول: ذهب إليه الإمام ابن كثير عليه رحمه الله وعدد من أئمة اللغة كمعمر ابن المثنى ابى عبيدة فى كتابه (مجاز القرآن) ويقصد بالمجاز تفسير القرآن، لا يقصد بالمجاز المعنى الإصطلاحى عند المتأخرين، كتاب ابى عبيدة معمر بن المثنى فى مجاز القرآن وتفسير القرآن وتأويل القرآن وشرح القرآن وبيان معنى القرآن، ولا يقصد بالمجاز، المجاز الإصطلاحى عند المتأخرين الذى يقابل الحقيقة، لا ثم لا، المجاز بمعنى التفسير.، زلذلك يقول البخارى عليه رحمه الله فى صحيحه عندما ينقل قول ابى عبيدة معمربن المثنى {آلم} مجازها، مجاز أوائل الصور، ما معنى مجازها؟ تفسيرها، والقول فيها كما يقال فى أوائل السور، قد تقدم معنا الإشارة الى هذا، وهنا ابو عبيدة معمر بن المثنى عليه رحمه الله فى الجزء الأول صفحة 28 عند مطلع ومفتتح وبداية سورة البقرة {آلم. ذلك} إسم إشارة للبعيد لكنه بصيغة المذكر، {ذلك الكتاب} وهنا إسم إشارة للبعيد تلك، لكن المراد آيات، هناك كتاب مذكر وهنا آيات مؤنث، والصيغتان للبعيد الغائب، يقول ابى عبيدة: ذلك الكتاب، هذا الكتاب، والعرب قد تخاطب الشاهد، أى الحاضر القريب، فتظهر له مخاطبة الغائب.
والإمام ابن كثير عليه رحمه الله عندما فسر تلك بهذه {تلك آيات الكتاب الحكيم} ، هذه آيات الكتاب الحكيم، {ذلك الكتاب لاريب فيه} ، هذا الكتاب لاريب فيه، قال عليه رحمه الله فى الجزء الأول صفحة 39: العرب تعاوض بين إسمى الإشارة، أى تجعل واحدا عوضاً عن الأخر، فهما يتعاقبان فهذا يحل مع هذا فأحيانا تستعمل صيغة إسم الإشارة التى هى للبعيد، تقصد بها القريب الحاضر، وأحيانا تستعمل إسم الإشارة التى هى للقريب الحاضر وتريد بها مشارا إليه غائبا بعيدا، تعاوض بين إسمى الإشارة، قال معمر بن المثنى والشاهد على هذا ما ورد فى كلام العرب، يقول خُفاف بن نُدبة من شعراء العرب:
أقول له والرمح يقطر مثنه ... تأمل خفافا إننى أنا ذلك
(28/5)
يقطر (يأطر) مثنه: أى يقطع مثنه وظهره، ويفصله عن بعضه، مثنه: مثن هذا المضروب.
إننى انا ذلك: ما الأصل أن يقول؟ إننى أنا هذا، أى أنا حاضر بين يديك، أنا خفاف الذى أضربك هذه الضربة التى تقطع ظهرك.
أشار إليه بإسم الإشارة الذى هو للبعيد وهو حاضر موجود، إننى أنا هذا.
لكن الإمام الألوسى فى روح المعانى عليه رحمه الله فى الجزء صفحة 105، قال: وليس هذا بنص صريح على أن المراد من قول خفاف بن ندبة: إننى أنا ذلك، أنا هذا، أى أشار بإسم الإشارة الذى هو للبعيد الى حاضر قريب، لإحتمال أن يريد خفاف، إننى أنا ذلك الرجل الذى كنت تسمع به وتحدث عنه، فهو إذاً غائب بعيد، كان يسمع به هذا المضروب، إننى أنا ذلك، فكأن الإمام الألوسى عليه رحمه الله يقول: صيغة إسم الإشارة هنا التى هى للبعيد على بابها وعلى حقيقتها يقصد منها ما هو بعيد غائب ليس بحاضر شاهد، إننى أنا ذلك، ذلك الرجل الذى كنت تسمع به وتحدث عنه خذ هذه الضربة منه التى تأطر مثنك وتقطع ظهرك.
(28/6)
أقول: لكن ما قاله الإمام ابن كثير عليه رحمه الله وهكذا قبله معمر بن مثنى على علماء الإسلام جميعا رحمه الله ورضوانه، إن ما قاله هؤلاء العلماء، هذان وغيرهما له شواهد كثيرة فى كتاب الله جل وعلا، وقد جاءت صيغة إسم الإشارة للبعيد ويراد منها الحاضر الشاهد القريب، فمن ذلك قول الله جل وعلا فى سورة الأنعام آية 83 {وتلك حجتنا ءاتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم} ، قال هذا بعد ذكر الحجة التى منحها الله ووهبها لخليله إبراهيم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، {فلما جن عليه الليل رءا كوكبا قال هذا ربى فلما أفل قال لا أحب الأفلين. فلما رءا القمر بازغا قال هذا ربى فلما أفل قال لئن لم يهدنى ربى لأكونن من القوم الضآلين. فلما رءا الشمس بازغة قال هذا ربى هذا أكبر فلما أفلت قال يا ياقوم إنى برىء مما تشركون. إنى وجهت وجهى للذى فطر السواوات والأرض حنيفا مسلما وما أنا من المشركين. وحآجه قومه قال أتجاجونى فى الله وقد هدان ولاأخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربى شيئا وسع ربى كل شىء علما أفلا تتذكرون. وكيف أخاف ما أشركتن ولا تخافون أنكم أشركتم بالله مالم ينزل به سلطانا فأى الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون. الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} .
(28/7)
ماذا قال بعد ذلك {وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم} ، تلك: بعيدة غائبة أو حاضرة قريبة إشير إليها، الإصل: وهذه حجتنا متقدمة التى منحها الله لخليله إبراهيم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، الأصل: وهذه حجتنا التى تقدم ذكرها وسردها واستمعتم إليها وبينت بيانا شافيا وافيا، هذه الحجة آتيناها لخليلنا إبراهيم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، فعبر عنها بإسم الإشارة الذى هو للبعيد لكن المشار إليه حاضر مشاهد قريب ليس بغائب بعيد، وتلك حجتنا: معناها هذه حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء، وهكذا فى سورة السجدة آية 6 {الم. تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين. أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون. الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون. يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون} .
ماذا قال بعد ذلك {ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم} ، ذلك: إسم إشارة يشار به للغائب البعيد، والأصل هنا أن يقال: هذا المتحدث عنه {تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين. الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون} والأصل أن يقول: هذا عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم الذى ذكرت أوصافه ةنعوته سبحانه وتعالى وما قام به من أعمال وأفعال وخلق وتدبير هذا هو الله العزيز الرحيم، فعبر عنه بذلك كما تقم معنا: العرب يعاوضون بين أسماء الإشارة فيجعلون إسم الإشارة الذى هو للبعيد للحاضر القريب المشاهد، ذلك: بمعنى هذا عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم.
(28/8)
ومثل هذا قول الله جل وعلا فى سورة الممتحنة فى آية10 {يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن وآتوهم ما أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن ولا تمسكوا بعصم الكوافر واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا....} ماذا قال بعد ذلك {ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم} ما الأصل أن يقول: هذا حكم الله يحكم بينكم، هذا هو الذى تقدم ذكره، وهو أننا نمتحن المؤمنات إذا جئن مهاجرات، لإنها هاجرت رغبة فى الله ورسوله خالصة صادقة، ما هاجرت ل ... زوج، ولا رغبة فى أرض أو التزوج من غير زوجها، إنما هاجرت مؤمنة بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا إستبان لنا هذا فلا يجوز أن نعيدها الى الكفار، ولايجوز أيضاً أن نمسك بعصم الكوافر زوجة كافرة، ثم بعد ذلك نعطى مهور النساء اللآتى هاجرن الينا وهن مؤمنات لى الكفار عندما هاجرت هذه المؤمنة من ذلك المكان، ألأصل أن يقول: هذا حكم الله يحكم بينكم، أشير إليه وذكر ووضح وهو حاضر، فقال: {ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم} .
(28/9)
ومثل هذا الكثير الكثير وإن أردت أن تتحقق من هذا فانظر الى هذا الأمر الذى يوضح هذه القضية غاية الأيضاح، كيف أشار ربنا جل وعلا الى الحاضر القريب بصيغة إسم الإشارة التى هى للبعيد، ثم بين أن المراد من تلك الصيغة التى هى للبعيد الحاضر الموجود القريب، يقول الله جل وعلا {ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم} ، بعد أن قص قصة عبدة عيسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، الأصل: هذا نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم. إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون. {الحق من ربك فلا تكن من الممترين. فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين. إن هذا ... } ، مع أنه قال فى أول الآيات، {ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم} ذلك، وهنا {إن هذا لهو القصص الحق..} ذلك هو هذا وهذا هو ذلك، فذكر إسم الإشارة الذى هو للبعيد فى أول الأمر ثم بين المراد منه وأنه حاضر أشير إليه وهو قريب موجود مشاهد بيننا ليس بغائب عنا
{إن هذا لهو القصص الحق....} ، أى: إن ذلك الذى تلوناه عليك وأخبرناك عنه بصيغة إسم الإشارة التى وضعت للبعيد يراد منها ما هو حاضر موجود بين يديك، {إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم} .
(28/10)
هذا القول الأول: أن أسماء الإشارة تتعاقب ويحل بعضها محل بعض وينوب بعضها عن بعض، لكن هذا القول كما ترون مع سلامته وظهور الأدلة عليه يبقى فى نفسى نحوه شىء فهو كما يقال جاف جاف ماسخ ماسخ، وماعندنا شك فى أن صيغة إسم الإشارة التى للبعيد يعبر بها عن الحاضر القريب المشاهد المحسوس، لكن نقول هل من ذلك نكتة لما عبر عن الأمر القريب بإسم إشارة وضع للبعيد؟ نحن معكم فى هذا، وهذا وارد فى كلام الله جل وعلا ولغة العرب بكثرة.، لكن ما الحكمة وما النكتة وماالسبب وما العلة فى هذا التعبير؟ حقيقة القول الثانى الذى قال به كثير ممن أئمة اللغة العربية وإرتضاه جمهور المفسرين هو أظهر وأقوى من القول الأول، الذى ذكره الإمام السكاك فى (مفتاح العلوم) توفى سنة 626 عليه رحمه الله، يقول: {تلك أيات الكتاب الحكيم} تلك بمعنى هذه، لكن أشير بإسم الإشارة الذى هو للبعيد الى حاضر قريب تنزيلاً للبعد الرتبى منزلة البعد الحقيقى.
وحقيقة هذا القول تطرب له الآذان وتبتهج به النفوس وتنشرح القلوب لقبوله.، يقول: هذه الآيات آيات جليلة سخيمة لها شأن عظيم، فإذا رتبتها ليست هى من حيث تلاوتها من حيث رسمها بعيدة أو قريبة، لا، من حيث منزلتها من حيث رتبتها منحيث مكانتها من حيث رفعة قدرها، هل منزلتها قريبة سهلة أم عالية عالية عالية؟ فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على سائر الخلق، وهذا الكلام يعلو ولا يعلى، ويحكم ما دونه، أعلاه مثمر وأسفله مغدق، وما هو من كلام البشر...... إذا كان الأمر كذلك فنحن عندنا البعد ينقسم الى قسمين.. بعد حسى: يشار إليه بإسم الإشارة الذى هو للبعيد، تلك.
(28/11)
بعد معنوى: وهو الذى عبر عنه السكاك ببعد الرتبة والمنزلة، فإذاً نزل البعد المعنوى فى الرتبة والمنزلة منزلة البعد الحسى، فعبر عنه بتلك، إذاً {تلك آيات الكتاب الحكيم} ، هذه آيات الكتاب الحكيم تتلى عليكم، لما ذكر إسم الإشارة الذى هو للبعيد والغائب؟ نقول نزل هذه الآيات فى رتبتها وعلو شأنها ورفعة قدرها لمنزلة البعد الحسى، فبعد الرتبة كالبعد الحسى فلذلك هنا يشار إلى بعدها فى الرتبة والمنزلة وجلالة القدر لا فى البعد الحسى، وحقيقة هذا القول أوجه وألطف من القول الأول، ولذلك قال الإمام الألوسى عليه رحمه الله فى (روح المعانى) : هذا هو تعليل البعد، يعنى كيف أشار الى القريب بصيغة البعيد هذا هو تعليل البعد فى إسم الإشارة، أى البعد فى الرتبة والمنزلة، ونور القرب يلوح عليه، يعنى هذا القول هو القريب المستضاء وهو المقبول أننا نقول هنا، تلك بمعنى هذه أشير الى ما هو حاضر قريب بإسم إشارة لبعيد غائب تنزلة للبعد الرتبى منزلة البعد الحسى الحقيقى.
(28/12)
هل لهذا شاهد؟ نعم يقول الله جل وعلا فى سورة يوسف مخبراً عن امرأة العزيز الآية 32 {وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين. فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكأ وآتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم. قالت فذلكن الذي لمتننى فيه.....} ، فذلكن، المراد هنا البعد الحسى الحقيقى أو بعد المنزلة والرتبة ما الدليل؟ فى الآيات..... آية كريمة واضحة أوضح من الشمس فى رابيعة النهار، {فلما رأينه أكبرنه} واضح {وقلنا حاش لله ما هذا بشرا..} هذا من طراز آخر، واضح هذا، هذا ليس له أحكام البشر {ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم} إذاً هن إعترفن برفعة قدره وعلو شأنه وبعد منزلته وأنه ليس على غرار البشر، إذاً منزلته علية ولذلك: فذلكن: أى هذا الحاضر بيننا منزلته عالية جميلة رفيعة بعيدة بعيدة، {فذلكن الذى لمتننى فيه ... } ، فهنا إسم الإشارة جاء بصيغة البعد والمراد منه القرب، لكن لما عبر عن هذا القريب بإسم إشارة بعيد لبعد رتبته ومنزلته وقدره وشأنه، كما قلنا وفى الآيات قرينة قوية على هذا فلما رأينه أكبرنه وعظمنه وبجلنه ورأين له شأن عظيم {وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم} ، قالت الأصل: فهذا الذى لومتتنى فيه، ولو جاء التعبير بهذا لما كان فى الكلام توسية لنبى الله يوسف عليه السلام ما يليق به من القدر والمقدار، وهذه إشارات العزيز القهار سبحانه وتعالى.
(28/13)
إخوتى الكرام: وأسرار القرآن لا يقف اللإنسان عليها إلا إذا تذوق لغة العرب وأحاط بها، فإن (فذلكن) تأدية لمقام (فهذا) هذا لحن فى كلام الله، لأن هذا حاضر موجود وعنده نقول فهذا لأن قلبك ممحون وقلبك مأخوذ، ولو كان عندك طهارة وإدراك لهذا القرآن لكنت مثل العربى الذى يدرك ترتيب الكلام وحلاوة الكلام يهز رأسه طرباً.....يقول ومنزل هذا الكلام هو ذو الجلال والإكرام، (فذلكن) لأنه لو قال (فهذا الذى لومتننى فيه) يقول أين إذاً رفعة القدر التى ذُكرت لهذا النبى فى الآيات السابقة.. ضاعت؟ لذا عُبرعنها بما يدل على مكانته وعلو شأنه، فهنا ليس المراد منه البعد الحسى باٍلإتفاق، هو حاضر، فإذاً المراد من البعد بإسم الإشارة فذلكن للرتبة التى إتفق عليها النسوة، أكبرنه، و {حاش لله ما هذا بشراً} ، و {إن هذا إلا ملك كريم} {فذلكن الذى لومتننى فيه} .
(28/14)
إذاً {وتلك حجتنا} هذه حجتنا، نقول فيها ما نقوله الآن فى القول الثانى، نقل هذه حجتنا، عبر عنها الإشارة التى هى للبعيد، هنا أنها حجة محكمة قسيمة فصيحة بليغة، أخرست الخصم وأسكتته، فهذه يقال لها تلك ولا يقال هذه للإشارة إلى بعدها فى الرتبة والمنزلة والقدر، لا فى البعد الحسى والبعد الحقيقى، وهكذا فى سائر الأُمورّ {ذلك عالم الغيب والشهادة} لو قال هذا لكن فى الكلام شئ من التعجيل الذى لا يتناسب مع جلال ذى الجلال والإكرام، لذلك ألاداه تشير إلى عظيم منزلة هذا الرب، وأنه إله جليل عظيم ليس كأحد من المخلوقات، ذلك الإله الجليل العظيم الذي له كل كمال، ويتنزه عن كل نقصان، ذلك الذى فعل ما تقدم {عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم} ، فنقول إذاً إسم الإشارة الذي هو للبعيد يعبر به عن القريب لكن ينبغى أن يكون لذلك التعبير سبب ونكتة وحكمة، وهو أنه يراعى البعد الرتبى المنزول، الرتبة المنزلة فى المعنى فى القدر، وفى الشأن وننزل هذا منزلة البعد الحسى الحقيقى، وهذا القول حقيقة كما قلت إنه أقوى وأوجه من القول الأول.
(28/15)
القول الثالث: ذهب إليه الإمام الراجعى عليه رحمة الله، وذكره على أنه وجه مؤتمن. ووجه مقبول فى تفسيره فى الجزء الثانى صفحة 53 وبعد أن قرره رد عليه الإمام الألوسى عليه رحمه الله، فانظروا لحافز كلام هذين العبدين عليهما وعلى جميع المسلمين والمسلمات رحمة الله ومغفرته، يقول الإمام الرازى: {تلك آيات الكتاب الحكيم} {ذلك الكتاب لاريب فيه هدى للمتقين} يقول: إسم الإشارة ذا، ذو إسم الإشارة، هذا موضوع للقريب وللبعيد، الوضع اللغوى، إسم الإشارة يشار به الى حاضر والى غائب، الى موجود والى بعيد، لكن فى الإستمعال، خص الناس إدخال الهاء على القريب، فيقولون: هذه وهذا، وإدخال اللام على البعيد فيقولون: ذلك وتلك، فإذاً الوضع، وضع اللغة لا يختلف، إسم الإشارة يعبر به عن البعيد وعن القريب، لكن الإختلاف فى إستعمال الناس، إذا أرادوا أن يشيروا الى قريب يدخلون على إسم الإشارة ذا: الهاء فيقولون هذا، إذا أن يشيروا به الى بعيد يقولون: ذلك إسم الإشارة هوهو، لكن هنا أدخلوا اللام وهنا أدخلوا الهاء، ذلك هذا، هذا ذلك، عندما يريدون أن يشيروا به الى بعيد ليأكد الإشارة فيأتى باللام، وعندما يريد أن يشير الى قريب يدخل عليه الهاء، وعليه تلك يقول: هذه خالفت عرف إستعمال الناس، لكنها فى اللغة موضوعة أصالة كما قلنا ليعبر بها عن مشار إليه قريب أو بعيد، وعليه فلا إشكال تلك بمعنى هذه لما؟
(28/16)
فأسم الإشارة واحد عرف الناس فقط هو الذى خص تلك بأنها للبعيد وهذه للقريب، يقول هذا مثل لفظ الدآبة، الدابة موضوعة فى اللغة لكل ما يدب ويمشى على وجه الأرض من إنسان وغيره، كون العرف الإستعمالى عند الناس خصها بالبهائم بالدواب ولا يطلقون على الإنسان لفظ دابة يكون هذا عرفاً للناس، عرف إصطلاحى إستعماله، لكن لو جاء وأطلق متكلماً على الإنسان لفظ الدآبة {وما من دآبة فى الأرض إلاّ على الله رزقها} {وكأين من دآبة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم} سبحانه وتعالى، فإذاً قوله: تلك، المراد من إسم الإشارة هذه، قل لا إشكال فى ذلك من ناحية الوضع وأصل الإستعمال فى اللغة تلك وهذه سواء، لكن هذا فى الإستعمال إصطلاح الناس يفرقون بين تلك وبين هذه كما يفرقون بين هذا وذلك، هذا إصطلاح للناس لكن الوضع اللغوى ليس كذلك، قال الإمام الألوسى عليه رحمه الله معلقاً على كلام الإمام الرازى: هذا كلام مخالف لما قرره علماء اللغة {وفوق كل ذى علم عليم} أى أن صيغة إسم الإشارة هذا بمعنى ذلك وهذه بمعنى تلك وهذه يشار بها الى قريب وبعيد وهذه الى قريب وبعيد والصيغة واحدة فى الوضع اللغوى، قل ليس كذلك، علماء اللغة يخالفون فى هذا {وفوق كل ذى علم عليم} والذى نخلص منه فى نهاية هذا المبحث القول الأول، إسم الإشارة تلك هنا، المراد منه على القول الأول شىء قريب حاضر {تلك آيات الكتاب} بمعنى هذه، لكن إختلف الأئمة فى تعليل هذا القول على ثلاثة أقوال:
القول الأول: ذهب إليه ابن كثير وابو عبيدة معمر ابن المثنى، وغيرهما من أئمة الإسلام،: الى أن أسماء الإشارة تتناوب وتتعاوض ويؤتى بهذه بدل تلك فلا حرج فى ذلك، مع أن تلك موضعة للبعيد وهذه موضعة للقريب لكن تتناوب.
(28/17)
القول الثانى: نعم تتناوب لكن، لنكتة وحكمة وهى يلاحظ فى الحضر القريب عندما يعبر عنه بإسم الإشارة الموضوعة للبعيد يلاحظ بعد الرتبة والمنزلة والقدر، وننزل البعد الرتبى منزلة البعد الحسى الحقيقى.
القول الثالث: قول الرازى وهو أن كلاً من صيغ أسماء الإشارة موضوعة فى الأصل ليشار بها إلى قريب أو إلى بعيد فى أصل الوضع لكن الإستعمال خص إدخال الهاء على إسم الإشارة إذا كان قريباً ليشار به إلى قريب، وإدخال اللام على إسم الإشارة ليشار به إلى بعيد، هذا عرف الناس وإستعمالهم، أما فى الوضع اللغوى فالأمر ليس كذلك ... أظهر هذه الأقوال كما قلت وأوجهها أوسطها.
وكما تقدم معنا أمثلة للإشارة بإسم الإشارة لبعيد إلى قريب لنكتة لطيفة على القول التالى: سيأتى أيضاً إسم الإشارة الذى هو للقريب ويشار به إلى بعيد أيضاً لنكتة لطيفة، لا لمجرد التناوب والتعارض، ولا لأن كلاً من الصيغتين موضوعة ليشار بها إلى قريب أو بعيد كما يقول الرازى، إنما لنكتة (يشار بإسم الإشارة القريب للبعيد كما يشار بإسم الإشارة الذى هو للبعيد إلى قريب) .
(28/18)
مثال ما ثبت فى الصحيحين من سنن الترمذى والنسائى ومسند الإمام أحمد وموطأ الإمام مالك، وإذا كان الحديث فى الصحيحين فهو فى أعلى درجات الصحة عن أنس بن مالك رضي الله عنه (قال: كان النبى صلى الله عليه وسلم يذهب إلى قباء فكان يزور أُم حرام بنت ملحان فكان إذا زارها تقدم له الطعام على نبينا رضي الله عنها ثم كان يقيل عندها (من القيلولة ولذلك بوب الإمام البخارى رحمه الله باب على هذا الحديث فى كتاب بإسم زان فقال باب من زار قوماًفقال عندهم أى نام عندهم القيلولة، قال يقيل بمعنى سكن وقال يقيل بمعنى نام، الماضى فيهما واحد لكن فيما بعد يختلفون، قال يقيل إذا تكلم ونطق، قال يقيل إذا نام، وقال يقيل إذا رد سلعته وأعطى الثمن للمشترى، فإذا رد البائع السلعة يقال مقيل، (قال يقيل نام) (قال يقول يتكلم) ثلاثة قبيل ثلاثة....القيلولة يَقيل، والإقالة يُقيل، والقول يقول..... هذا فى المضارع يظهر لكن فى الماضى، فصيغة قال يقول وقال يقيل واحدة، باب من زار قوما فقال عندهم، فكانت بعد أن تطعمه أم حرام بنت ملحان رضي الله عنها ينام النبى صلى الله عليه وسلم عندها القائلة، فإستيقظ عليه صلوات الله وسلامه فى يوم من الأيام وهو يضحك، فقالت: ما الذى أضحكك بأبى أنت وأمى يا رسول صلى الله عليه وسلم، قال: أناس من أمتى عرضوا علىّ، (أى فى المنام) يركبون كبد هذا البحر، كبد أى وسط البحر، كبد هذا ... هذا أم ذلك..الأصل ذلك المعروف الذى هو بعيد، كبد هذا البحر كأنه حاضر فى قباء يسير إليه، يركبون كبد هذا البحر ملوكاً على الأسِّرة، أو كملوكً على الأسِّرة، فقالت أدع الله أن يجعلنى منهم، ولذلك بوب الإمام البخارى عليه رحمةالله فى كتابه الجهاد على الحديث فى باب آخر فقال: باب الجهاد للرجال والنساء وقال الرجال والنساء الشهادة فى سبيل الله، فقالت أدع الله أن يجعلنى منهم، فدعا لها النبى صلى الله عليه وسلم، وفى رواية قال: أنت منهم.
(28/19)
ورد فى رواية أبى داود أن أم حرام بنت ملحان كانت تغسل رأسها فأستيقظ النبى صلى الله عليه وسلم وهو يضحك فقالت: أتضحك من رأسى يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا ناس من أمتى عرضوا على يركبون ثبج هذا البحر ملوكاً على الأسرة، أو كالملوك على الأسرة، فقالت: أدع الله أن يجعلنى منهم، فدعا لها وقال: أنت منهم، ثم نام صلى الله عليه وسلم مرة أخرى، فأستيقظ وهو يضحك صلى الله عليه وسلم مرة أخرى، فقال: ما الذى يضحكك بأبى أنت وأمى يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ناس من أمتى يركبون ثبج هذا البحر ملوكاً على الأسرة أو كملوك على الأسرة، قالت: أدع الله لى أن أكون منهم، قال: أنت من الأولين) انتهى.
ولامانع أن أم حرام بنت ملحان ظنت وخطر ببالها، أليس عندها يقين بأنها ستموت مع الدفعة الأولى، ظنت أنه سيمتد بها حياة، فهى تريد إذاً الغزوتين، الغزوة الأولى والثانية، لكنها أستشهدت رضي الله عنها فى الغزوة الأولى سنة إثنين....والغزوة فى البحر لها عشرة أضعاف الغزوة فى البر كما ثبت هذا فى المستدرك بسند صحيح أقره عليه الذهبي عن نبينا عليه الصلاة والسلام أن غزوة فى البحر تعدل عشر غزوات فى البر، ومن أجاز البحر فكأنما قطع الأودية كلها، عندما يقطع البحر له أجر من قطع أودية الأرض بكاملها، والمائد فيه عندما يركب من أجل الغزو والجهاد فى سبيل الله لا من أجل والعربدة والفسوق كما يفعل فى هذه الأيام، والمائد فيه كالمتفحق بدمه فى سبيل الله عندما يركب البحر ليغزو ويعتريه الميادان والصداع ودوار الرأس له كأجر من يموت فى البر وينغمس بدمه ويتلطخ بذلك الدم، كالمتفحق بدمه فى سبيل الله.، والحديث كما قات أخوتى الكرام فى المستدرك بسند صحيح.
(28/20)
ثم حرام بنت ملحان، خرجت فى عهد عثمان رضي الله عنه وعن سائر الصحابة الكرام، وهى أول غزوة غزاها المسلمون فى البحر سنة 28 فى عهد معاوية، عندما فتحت قبرص، وكان معاوية أميراً على بلاد الشام من قبل عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أجمعين، وكان يستأذنه مراراً فى أن يركب البحر من أجل الغزو فى سبيل الله فكان عمر يمتنع ويقول: راكب البحر كدود على عود فإذا إنكسر العود هلك الدود، ولا أريد أن أجر أمة محمد صلى الله عليه وسلم الى مخاطر نغزو الآن من البر وفضل الله واسع، لما جاء عثمان إستأذن معاوية رضي الله عنهم أجمعين عثمان بن عفان رضي الله عنه وعن سائر الصحابة الكرام فى الغزو فأذن له، فأول عزوة إنطلقت فى البحر فى سبيل الله سنة 28 وفى تلك السنة فتحت قبرص، وكانت تحقيقاً لهذه البشارة النبوية أم حرم بنت ملحان فى تلك الغزوة، فركبت البحر ونزلت فى قبرص، وركبت دآبتها بعد ذلك فسقطت عنها وماتت، ويقال عن قبرها فى قبرص (قبر الشهيدة) ، قبر المرأة الصالحة أم حرام بنت ملحان ...
(28/21)
إخوتى الكرام الحديث كما قلت فى الصحيحين، وكنت ذكرت مرة أمام بعض الإخوة عندما كنت فى أبها من الأخوة الصالحين المدرسين فى تحفيظ القران، فقال: ما صلة أم حرام بالنبى صلى الله عليه وسلم، قات: ليس بينهما صلة، حكى ابن عبد البر: أنها كانت خالته من الرضاعة فهى من الحارم، وأشار الى هذا الإمام أبو بكر بن العربى ولكن هذا لا يثبت، وليس بين النبى صلى الله عليه وسلم وبين أم حرام بنت ملحان أى قرابة ولا صلة، هى امرأة من هذه الأمة، قال: كيف يدخل عليها، قلت: من هو محمد صلى الله عليه وسلم، قال: رسول الله، قلت: رسول الله إذاً وصلنا، وصلنا للمطلوب، والله الذى لاإله إلا هو المؤمن يأمن رسل الله صلى الله عليه وسلم على زوجته وبناته أكثر بكثير مما يأمن والده ووالد زوجته على زوجته وبناته، إذا دخل والد زوجتك على زوجتك فى غيبتك هل يتنعروجهك وهل تقول له لما دخلت وأنت رجل، فرسول الله صلى الله عليه وسلم أطهر بكثير من هذا، ولا تصح المقارنة، وهو مع نساء الأمة كالمحارم، وهذه خصوية له صلى الله عليه وسلم، وهذا هو تحقيق الحافظ الدمياطى عليه رحمه الله، والحافظ بن حجر فى الفتح فى الجزء الحادى عشر صفحة 38، قال: أحسن الأجوبة دعوى الخصوصية وأن هذا خاص بخير البرية صلى الله عليه وسلم.،. وقد ثبت فى الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: كان النبى صلى الله عليه وسلم لايدخل على أحد من النساء إلا على أزواجه، إلا أم سليم، وهى أخت أم حرام بنت ملحان، إلا أم سليم فإنه كان يدخل عليها، فقيل له فى ذلك: فقال: أرحمها، قتل أخوها حرام معى، قوله معى أى فى بيتى وفى عهدى وفى طاعتى، ولم يقتل حرام فى غزوة مع النبى صلى الله عليه وسلم إنما قتل فى بئر معونة، ولم يكن النبى صلى الله عليه وسلم فى تلك الغزوة، ولما طعن بالسيف كما هو فى الصحيحين، ضرب حرام نادى بأعلى صوته: فزت ورب الكعبة.
(28/22)
وثبت مثل هذا لعامر بن صهيرة عندما طعنه جبار بن سلمة، فقال: فزت ورب الكعبة، فقال الطاعن: بأى شىء يفوز، يطعن ويضرب والدماء تخرج من بدنه وتسال على وجهه، يقول: فزت ورب الكعبة، ثم أسلم قاتل حرام، وأسلم قاتل عامر بن صهيرة جبار بن سلمة، عندما رجع الى عقله ورشده، ذاك يموت ويتحسر على حياته ولم يحصل بعد مماته إلا الشقاء، وهذا يموت ويقول: فزت ورب والكعبة، بإى شىء فاز، فقيل له: بعد هذه الحياة حياة أخرة هى الحيوان، وأما هذه ظلٌ زائل لابقاء له، فأمن واهتدى بعد أن قتل جبار بن سلمة، عامر بن صهيرة مولى وغلام ابى بكر رضي الله عنهم أجمعين، وهكذا المشرك التى قتل أيضاً حرام أيضاً أمن واهتدى بعد ذلك، فزت ورب الكعبة، فقيل للنبى صلى الله عليه وسلم فى ذلك: كيف تدخل على أم سليم، قال: قتل أخوها معى، كان يدخل إذاً من باب مواساتها.
وقد بوب الإمام البخارى عليه رحمه الله على هذا الحديث التالى باباً فى كتاب الجهاد، فقال: باب من جهز غازياً أو خلف غازياً فى أهله بخير، ثم أورد حديث، من جهز غازياً فقد غزا، ومن خلف غازيا فى أهله بخير فقد غزا، ثم أورد هذا الحديث الذى فيه، أن النبى صلى الله عليه وسلم كان لا يدخل على امرأة من النساء إلا على أزواجه وعلى أم سليم، وفى الحديث كما ترون ما كان يدخل إلا على أم سليم، وتقدم معنا فى الصحيحين، كان يدخل على أم حرام بنت ملحان، فلذلك ذهب بعض العلماء، كما ذكر هذا الحافظ فى الفتح والحميدى وغيره، الى أنه ما كان يدخل على غير أم سليم، فدخولى على أم سليم، يعنى يقصد على أم سليم، وأما أم حرام بنت ملحان فكان يزورها بمقدار.
(28/23)
قال الحافظ بن حجر وهذا فى الحقيقة خطأ والحقيقة أن أم سليم وأم حرام، كانتا فى منزل واحد، وكل واحدة لها حجرة، وكان النبى صلى الله عليه وسلم يدخل عليهما، أم سليم هى أم أنس، وأم حرام هى خالة أنس، وهما أختان، فكان يزورهما النبى صلى الله عليه وسلم مواساة لهما لأن أخاهما قتل، كيف يدخل على النساء بلا محرم؟ نقول ــــ هو آمن على نسائنا منا على بناتنا، ووالله إنه آمن على بنتى منى، ولذلك قد، وهذا يقع، وقد يقع أحياناً إعتداء من بعض المحارم على محارمهم، يقع، ولعل هذا العصر إمتلأ بمن يعتدى على أخته ومن يعتدى أحياناً على أمه، الحوادث فى هذا كثيرة نسأل الله اللطف والعافية، وقلت للإخوة الذين فى بيوتهم هذه الأجهزة الخبيثة الملعونة جهاز التلفاز، قلت: أنا لا أتصور بيتا فيه هذا الجهاز إلا وفيه زنا، إما يزنى ببنات الجيران وبأخواته، وإماأن يظهر وإماأن يخفى، يعنى هذا وجد فى البيت ولا يوجد عهر هذا مستحيل عادة، لكن عندما تأجج الشهوات فى قلوب هؤلاء الشباب والشابات ماذا سيحصل للأمر، سيحصل ما يندى له الجبين، ولو كان فى الأمم السابقة من أتى أمه علانية ليوجد فى هذه الأمة من يفعل ذلك إذاً يوجد فى هذه الأمة من يزنى بأمه لكن لا يفعل هذا علانية، فالحوادث التى ثبتت بزنا الأخوة بأخواتهم والأباء ببناتهم أوصيب منهم من بال، ليست واحدة، ما عرض على أنا فقط حوادث متعددة أعرف الأباء الذيت أبتلوا بهذا، ولد زنا بأخته نسأل الله العافية.
(28/24)
مرة إتصلت بعض النساء بأحد الشيوخ عندنا فى أبها، وهذه لم تعرض على مباشرة لكن قلت له علم الله عرضت علىّ بعض القصص من الأباء الذين أبتلوا بهذا فى بيوتهم ثم يعترف بسبب ماحصل فى بيته من هذه الأجهزة الخبيثة، تتصل به مرأة فى وسط الليل تقول: شيخ فلان، نعم، ماذا تريدين ياأمة الله؟، فلما تحققت منه، بدأت تبكى على سماعة التليفون، قال: مالك، قالت: دخلت الى حجرة النوم وإذا بالولد فوق البنت، الآن هل هذا المشهد منه إليه تتصل به، وأبونا غائب وماذا أتصرف وماذا أفعل، قال: وما السبب فيها، قالت: لما أدخل هذه الأجهزة فسد الأولاد، فالشيخ يقول: ماذا أقول لها، يا أمة الله دبرى الأمر، واحتاطى من المستقبل نسأل الله لنا ولكم العافية، هذا مثله كثير وكثير، إذاً يتصور إعتداء من المحارم على محارمهم؟ يتصور.
(28/25)
هل يتصور خيانة من النبى صلى الله عليه وسلم نحو امرأة من نساء الأمة؟ من خطر هذا بباله فليجدد إيمانه، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم معصوم، معصوم يفعل ما يعله البشر ويعتريه ما يعترى البشر صلى الله عليه وسلم مما أحل الله له ويحتاج للبشر، أما فيما هو حرام حكمه كحكم الملائة الكرام، يعنى حال نبينا صلى الله عليه وسلم كحال جبريل على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، فهل يتصور من الملائكة التى تخالطنا الإعتداء على أعراضهم؟ هكذا نبينا صلى الله عليه وسلم.، وإذا كنت تأمن والدك وعمك من الدخول على بيتك، لأنه والد زوجتك، فهذا نبينا صلى الله عليه وسلم، وهو قدوتنا ومعصوم صلى الله عليه وسلم من كل خيانة ورذيلة، لكن هذا لايثبت لغيره، لكن لا يقال إذا بعد ذلك: شيخ فى الدين صالح ذاك ليس له ثوب العصمة واضح هذا، ليس له ثوب العصمة، فحذار حذار أن يخدعك الشيطان، قد يفعل شيخ الطرق يأتى يدخل على النساء، يقول: هذا شيخ، هذا شيخ، شيخ الطرق الصوفية يحرفون الظن، قال: هذا شيخ يخلو بالنساء، هذا شيخ، هذا صار مثل القسس عند النصارى، يخلو بالنساء ويفعل ويفعل، ويقال: هذا أب روحى، هذا قسيس، يعنى قسيس ملعون يخلو بالنساء ما عليه حرج، ذاك نبى عليه صلوات الله وسلامه، نبى رسول، إذا لم تؤمن بعصمته صلى الله عليه وسلم، كما حصل إيماناًمنك بنبوته فاختلف الأمر.
(28/26)
تفسير (19)
(تفسير)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
تفسير (19)
وتؤمن بعصمته صلى الله عليه وسلم كما حصل إيانا منا بنبوته فاختلف الأمر، ذاك فيما يتعلق بجانب المحرم حال الله بينه وبين ذلك صلى الله عليه وسلم، فيما يتعلق بجانب الحرام ليس له نفس بشرية صلى الله عليه وسلم، إنما هناك {ولتصنع على عينى} عناية ربانية فكونه على أم حرام بنت ملحان لا إشكال فى ذلك، هو آمن عليها من أنس بن مالك إذا كان أنس يدخل على خالته، فهذا نبينا صلى الله عليه وسلم، فقال لى هذا الأخ: يا شيخ نحن لو قلنا بهذا سنفتح باباً للمستشرقين، قلت: أف وتف لعقلك، نحن نستحى من إظهار ديننا ونخشى من المستشرقين، وأننا إذا قلنا هذا سنفتح الباب للمستشرقين يقولون: كيف إذا يحصل ويحصل، يا عبد الله أنت ما تعرف حقيقة النبوة، وعندما سنقرر هذا سنفتح باباً للشبهة وللمستشرقين، نعوذ بالله من هذا الضلال المبين، هذا رسول صلى الله عليه وسلم، فإذاً كان يدخل على أم حرام بنت ملحان وعلى أم سليم رضي الله عنهما وهما فى بيت واحد، وهذا هو وجه الجمع بين هذين الحديثين، فقال: أرحمها قتل أخوها معى.
(29/1)
إخوتى الكرام: إذاً الشاهد هنا يركبون ثبج هذا البحر، يركبون ثبج ذلك البحر، للغزو فى سبيل الله، كيف عبر عنه بإسم الإشارة التى هى للقريب الحاضر؟ قلنا لنكتة، فيكم من يستنبط هذه النكتة؟ هناك نكتة تنزيل البعد الرتبى فى المنزلة منزلة البعد الحقيقى الحسى، يشار لكن البحر غير موجوديشير إليه يركبون ثبج هذا البحر، أين هو؟ إذاً كأنه حاضر، واضح هذا، أى إشارة الى أن هذه الرؤية ليست رؤيا أضغاث أحلام، خلينا نجعل البعيد قريب، ورؤيا الأنبياء حق، هذا متحقق لا خلاف فيه، هذا متحقق وسيقع، وكأنه حصل وكأن البحر هذا هو أشير لك إليه وهم عليه يركبون ثبج هذا البحر، قوله: (ملوكاً على الأسرة أو كالملوك على الأسرة) فى ذلك إشارتان كما قال الحافظ بن حجر، الأول إشارة غلى أنه من أهل الجنة..فهذا وصفهم فى الآخرة يركبون البحر ولهم بعد ذلك المنزلة فى الآخرة إخواناً على سرر متقابلين كالملوك على الأسرة، وفى ذلك إشارة أخرى.. وهما متلازمتان.. إشارة إلى عظم حالهم وشدة قوتهم وإندفاعهم فى سبيل الله، فهم يركبون البحر وهم فى هذا التمكن وفى هذا الإعتداد يجاهدون فى سبيل الله، على هذا البحر الذى يميد وكأنهم ملوك على الأسرة فى حال الأمن والرخاء، وأنا أقول الأمران متلازمان حالهم الثانى ينتج عنه حالهم الأول ... فعندما يجاهدون فى سبيل الله بهذه النفوس الطيبة القوية هم على البحر كالملوك على الأسرة، هذا سينقلهم إلى سرر الآخرة المرفوعة بعد موتهم بفضل الله وكرمه.
(29/2)
الشاهد يركبون ثبج هذا البحر هذا القول الأول إخوتى الكرام فى بيان معنى إسم الإشارة تلك، هذه إسم الإشارة للبعيد عبر به عن مشار إليه حاضر قريب، ثم يتعاقبان ويتناوبان ... وإما ينزل البعد الرتبى منزلة البعد الحقيقى، وإم أن إسم الإشارة فى الأصل موضوع للمشار إليه بعيداً أوقريباً، لكن الإستعمال العرفى خصص القريب بإدخال الهاء عليه، والبعيد بإدخال اللام عليه، فجاء القرآن على أصل الوضع لا على حسب عرف الإستعمال ... ثلاثة أقوال كما قلت أظهرها وأقواها أوسطها والعلم عند الله جل وعلا.
هذا القول الأول، القول الثانى فى بيان المراد بإسم الإشارة..أما قلنا قولان فى أول الموعظة..إما أنه إسم إشارة لبعيد يشار به إلى قريب، إنتهينا وهؤلاء قلنا إختلفوا وعللوا قولهم بثلاثة أمور.
القول الثانى.. إسم الإشارة هنا تلك للبعيد والمشار إليه بعيد، وأختلف فى تعيين ذلك البعيد كما قال القرطبى على عشرة أقوال، وتلك الأقوال ذكرها الإمام الرازى وزاد عليها، أنا سأجملها بحيث تصل على التفصيل أحد عشر قولاً إن شاء الله فى بيان المراد بإسم الإشارة تلك على أن المشار إليه بعيد غائب ليس بحاضر قريب ... يعنى البحث عندما يكون فى المفردات اللغوية قد يكون فيه شئ من الجفاف، ولذلك ندخل من حديث إلى حديث ونربط هذا ببحثنا، لأجل أن يصبح فى البحث شئ كما يعنى يقال على تعبير الأخوة المصريين من الطراوة، على القول بأن المراد هنا إذاً مشار إليه غائب بعيد..ما المراد بذلك المشار؟ وأن إسم الإشارة الآن على ظاهرين، صيغة بعيدة يشار بها إلى بعيد، لا تناوب ولا تعارض ولا وضع ولا نكتة عندما عبر بالبعيد عن القريب..ما هى هذه الأقوال؟
(29/3)
القول الأول: قيل إن الله وعد نبيه صلى الله عليه وسلم بأن ينزل عليه كتاباً عندما بعثه، فأشار ربنا جل وعلا فى هذه الأية وفى نظائرها الى الوفاء بذلك الوعد الذى وعده به عندما بعثه {تلك آيات الكتاب} ذلك الكتاب الذى وعدناك بإنزاله، هذا هو، إذاً تلك يشار الى ذلك الوعد الغائب البعيد، هل الله نبيه صلى الله عليه وسلم بأن ينزل عليه كتاب؟ نعم، ورد هذا فى الحديث وورد فى القرآن، وهذان القولان إعتبرتهما واحد، والقرطبى جعلهما قولين، لذلك قلت: ستكون تسعة، لكن بعد ذلك أزيد قولاً من الرازى فتصبح أحدى عشر قولاً.
(29/4)
حدث فى السنة ما يشير الى هذا الوعد ففى مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم، وإذا ذكرت كما قلت أخوتى الكرام الحديث فى الصحيحين أو فى أحدهما فلا داعى أن نقول إنه صحيح لأن هذا مقطوع به فكونوا على علم بذلك، إذا لم يكن الحديث فى أحد الصحيحين نشير الى درجته إن شاء الله، فى صحيح مسلم والحديث فى المسند عن عياض بن شمار النجاشعى قال: قام فينا النبى صلى الله عليه وسلم خطيباً ذات يوم، فقال إن ربى أمرنى أن أعلمكم ما علمنى فى يومى هذا مما جهلتم، أى أعلمكم فى يومى هذاما جهلتموه وما علمنى ربى وأنزل على [كل مال نحلته عبداً فهو حلال] هذا حديث قدسى ولم يصرح النبى صلى الله عليه وسلم بإضافته الى ربه كأن يقول، قال الله تعالى: [كل مال نحلته عبداً فهو حلال] الله سخر لنا ما فى السماوات والأرض والناس هم الذين أحلوا وحرموا كما فعل المشركون عندما جعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً، فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركئنا، كما فعلوا بالوصيلة والسائبة والحام والبحيرة، الشرائه الشيطانية التى كانوا يشرعونها، إذاً الأصل فى الأشياء الحل، ولا يثبت التحريم إلا بنص، الأصل فى الأشياء الحل عندما يأكل الإنسان البندورة أيلزم أن يستدل على ذلك بنص جزئى فى حل البندورة، كلوا البندورة فإنها حلال، عندما يأكلها يقول: كيف تأكل، قل: سخر لكم ما فى السماوات والأرض، بين لنا ما حرم علينا وما سكت عنه فهو داخل فى دائرة الإباحة، الأصل فى الأشياء الإباحة والحل [كل مال نحلته عبد فهو حلال] أى يقول الله كما قلت، وإنى خلقت عبادى حنفاء كلهم على الإسلام وعلى الفطرة فاجتالتهم الشياطين عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بى ما لم ينزل به سلطانا.
(29/5)
هذا الحديث القدسى [وإن الله نظر الى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب] والمقت هو أشد الغضب وأعظم انواع السخظ {كبر مقتا عند الله أن تقولوا على الله مالا تفعلون} ، ولذلك نكاح المقت ماهو: أن يتزوج الإنسان منكوحة أبيه، هذا ليس فاحشة هذا أيضا مقت، {ولاتنكحوا مانكح آبائكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وسآء سبيلا} وأما هنا نكاح امرأة الأب، والمعتمد عند الحنابلة وهذا أظهر أقوال الإسلام: أن من وطء إحدى محارمه من منكوحة أبيه أوغيره ممن تحرم عليه على التأبيد يقتل كيف ماكان حاله، سواء بعقد أو بعهر بغير عقد، إذا وطء إحدى محارمه حده القتل، لأنه فرج محرم قطعى التحريم لا يباح بحال ليس للإنسان فى ذلك شبهة، وقد ثبت فى المستدرك وغيره من حديث البراء بن عازب، أنه رأى عمه يحمل راية، فقال: الى أين، قال: الى ذاك الذى تزوج زوجة أبيه، فقد أمرنى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أضرب رقبته وأن آخذ ماله ألفى ألف فى بيت المال، وأن أخذ ماله، يقتل ويؤخذ هذا المال بعد ذلك فىء، إذاً مقت [إن الله نظر الى أهل الأرض فمقتهم (غضب عليهم أعظم أنواع الغضب) عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب] .
(29/6)
والسبب فى المقت الظلام الذى خيم على البشرية قبل بعثة خير البرية صلى الله عليه وسلم، إلا بقايا من أهل الكتاب الذين يتمسكون بالدين الحق الذى كان عليه عيسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه إلا بقايا من أهل الكتاب، وقال الله، أى لى للنبى صلى الله عليه وسلم: إنى بعثتك لابتليك وأبتلى بك وأنزلت عليك كتابا (أى سأنزل عليك كتابا، وأخبر عنه بصيغة الماضى لتحقق حصوله) ، لا يغسله الماء تقرأه نائما ويقذانا (إذا وعد الله نبيه صلى الله عليه وسلم عند بعثته بأن ينزل عليه كتابا لايغسله الماء أنجيلهم صدورهم ليست هذه الصحف {بل هو آيات بينات فى صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بأياتنا إلا الظالمون} ولو أحرقت المصاحف عن بكرة أبيها فلا يحصل تغير فى هذا القرآن، والمصاحف التى فى القلوب تساوى لعله المصاحف التى فى السطور، أناجيلهم صدورهم {ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر} ، وقال الله (تكملة الحديث، هذا محل الشاهد إنما من باب كما قلت إستعراض كمال الحديث للننظر الى أحكامه ولنخرج من هذا البحث الذى هو بحث لغوى محض فى بدء هذه الصورة) وقال الله لى: حرق قريشا (أى قاتلهم وحرقهم) فقلت ربى: إذا يثلهوا رأسى حتى يدعوه خبزتا، (اى يقطعوه ويشقوه كما يقطع الخبز ويقطّع ويشق) وأمرنى ربى، وقال لى ربى: حرق قريشا (أى قاتلهم وأصدع بالحق فيهم ولا تبالى) فقلت ربى: إذا يثلهوا رأسى حتى يدعوه خبزا، فقال الله لى: إستخرجهم كما استخرجوك واغزهم نغزك (أى نمكنك منهم ونعينك عليهم) وأنفق ينفق عليك، وابعث جيشا نبعث خمسة مثله، وقاتل بمن أطاعك من عصاك، (تكملة الحديث كما قلت) .
(29/7)
وأهل الجنة ثلاثة، إمام مقسط متصدق موفق (إذا لم يكن الإمام من هذا الصنف فهو من أهل النار أمير مقسط يتصدق ويتفقد الرعية ويواسى الفقراء والمحتاجين ومجالسه يحضرها أهل الحاجة والمسكنة لاأهل الكبرياء والغطرسة، إمام مقسط متصدق موفق، هذا من أهل الجنة) ورجل رحيم القلب على كل ذى قربى ومسلم من أهل الجنة، وعفيف متعفف ذو عيال (عفيف فى نفسه عندما تعطيه يتعفف ويقول: أنا فى نعمة وستر وعافية، وعنده عيال، هؤلاء من أهل الجنة) .
(29/8)
وأهل النار خمسة كلام النبى صلى الله عليه وسلم، الضعيف الذى لا زَبر له الذين هم فيكم تبعا، لايتبعون أهلاً ولا مالا (الذى لا زبر له: أى لاعقل له، ولا يقصد بالعقل هنا، العقل الغريزى أى المجنون، لا، إنما يقصد به هنا الأحمق السفيه الذى هو عالة على غيره همه أن يأخذ من هذا وذاك، ولذلك ليس له زوجة وليس له عمل، عاطل باطل لافى دين ولا فى دنيا، لازبر له، لايتبع شيئا ليس عنده أهل ولا مال، يحتال على هذا وينصب على هذا ويتطفل على هذا يعيش على عالة على الناس، كما هو الموجود فى كثير من الناس عندما تصل بهم الدنائة والخسة الى هذا كما قال بعض الكسالى معبارا عن هذا: والله ما فقرنا إضطرار إنما فقرنا إختيار، أى فنحن مضطرين للفقر يعنى مانحصل الغنى لا نحن إخترناه، لما؟ جماعة كلنا كسالى، وأكله ماله عيار، (هذا هو الضعيف الذى لا زبر له) أو لا تدرون من هم، أول ما ينطبق هذا الوصف على قسس النصارى عليهم لعائن الله المتتابعة الى يوم القيامة ليس له عمل لافى دين ولا فى دنيا، أما فى الدين أكذب خلق الله، أكذب من الشيطان الرجيم، الشيطان إذا رأى القسيس يبتعد عنه خشية أن يزيده خبثا وفسادا، ولذلك يقال عندنا فى بلاد الشام إذا أراد أن يخبر عن حقارة إنسان يقال (أكذب من الخورى والقسيس على الله يوم الأحد) لما يجلس يوم الأحد يكذب على الله، اسمع من الكذب الذى ابليس ماسمع به، هذا قسيس إذا الدين لا ليس عنده عبادة، وأما الدنيا جالس تراه مثل الثوب فى جسمه، طيب أنت فى الأصل زاهد إعتكفت فى هذه الصومعة فى هذه الكنيسة ينبغى أن تكون بمثل العود، رقبته فقط أغلظ من رقبة الثور يأكل حقيقة والله مالا تأكله عشرة ثيران ويحرم عليه النكاح، إذ لايجوز أن يتزوج هذا قسيس لكن يجوز أن يزنى الزواج حرام والزنا حلال، يزنى فى اليوم أحيانا بعشر نسوة، هذا قسيس زنا حلال أما النكاح.، هذا هو الضعيف الذى لازبر له.،
(29/9)
الذين هم فيكم تبعا لا يتبعون أهلا ولامالا، وهذا حال القسس، وانظر للنصارى مع قسسهم لو أن قسيسا لعينا يقول فى أمريكا سيجمع مائة ألف دولار، مليون دولار، عشرة ملاين دولار فى يوم كذا قبل أن تشرق الشمس، لوضعت أمامه على الطاولة فى الكنيسة قبل أن تشرق الشمس، هذا حاله، وانظر بعد ذلك لعلماء هذه الأمة فى هذه الأمة إذا سلموا من أذى الناس هم فى نعمة، إذا سلموا من الأذى، أما الإكرام فلا يخطر هذا على بال علماء الإسلام الصالحين ولا يريدونه من أحد، لكن إذا سلموا من الأذى هذه نعمة حقيقة.
(29/10)
رأى مرة بعض الناس رجلاً معه ثعلب قبض عليه، قيل: ماذا ستفعل بهذا الثعلب، قال: سأعذبه عذابا شديدا، قال: ولما؟، قال: كل فترة يأتى ويأكل لى الدجاج وأنا أطارده من جهة الى جهة وأمكننى الله منه، سأخذه الآن أمثل به تمثيل ما رأه يعنى مخلوق على وجه الأرض، قال: أتريد أن تعذبه، قال: نعم، والذى يكلمه طالب علم، قال: خذ هذه العمة وضعها على رأسه واتركه، فتركه يعانى من هذه الأمة ما يعانى، لا يطارد فى الحياة إلا علماء الإسلام، والله إن طالب العلم الصادق فى هذه الأيام ما تمر عليه لا أقول ليلة، لحظة، إلا ويتوقع فيها إما القتل وإما الإعتقال، لما هذا؟ القسيس، سمعتم عن قسيس فى بلاد النصارى يعقتل، لا إله إلا الله، لما زج بالعلماء فى بعض البلدان على التعبير اللعين حاكم تلك البلاد، بأنه مرمى الشيخ فى السجن كالكلب، يقول: زى الكلب، الكلب الذى يرقص زوجته مع كافر، ليس الذى يوضع وراء القضبان فى سبيل الرحمن، ماذا عمل مع القسيس سبب الفتنة وسبب كل بلاء، ماذا عمل يستطيع أن يضعه وأن يحبسه وراء الحديد والقضبان، غاية ما حصل صفق له وأعتبروا هذا نصر، أنه أقاله من المسئولية عن النصارى، وقال: إختاروا غيره ليحل محله، ثم أعيد بعد ذلك الى رتبته، فقط، وقيل له إلزم الإقامة فى بيتك، قسيس يقيم فى بيته، ثم ترسل له الدولة تتدس به بعد ذلك مكافآت يقولون: خاطرك لا يبقى علينا إلا الطيب لأجل ننتهى من المسلمين، نحن بعد ذلك نكرمك أكثر مما كنت تحصل، يلتمس لنا عذراً، وأما ذاك يقال عنه بكل قلة حياء هذا الشيخ فى السجن زى الكلب، العلماء صاروا زى الكلاب هذا حلنا، على من يصب أليم العذاب فى بلدان المسلمين، الزانى واللوطى والسكير والعربيد والمرابى كل هؤلاء كما يقال: يتمتعون بأقصى أنواع الحريات فى حالهم، فى حال محاربة رب الأرض والسماء، وأما هذا لا يوجد أحد يضيق عليه له، أجهزة المخابرات فى بلاد المسلمين بمن تطارد، تطارد الزناة، تطارد اللوطيين،
(29/11)
تطارد البنوك تطارد السينمات، من تطارد؟
تطارد الذين لايصلون أم تطارد من هم فى المسجد وعلى الخصوص خطيب الجمعة فقط، خطيب الجمعة هذا هو الذى تسجل خطبته، وبعد ذلك يحقق معه وصل الإنحطاط فى بعض بلدان المسلمين، إن الزنا حرام، فاستودعى بعد الخطبة مباشرة، قيل له: لما تتدخل فى الشئون الإجتماعية، قال: يا جماعة هذا مقرر فى كتاب الله {ولا تقربوا الزنا} ، قال: الدين شىء والحياة الحاضرة شىء أخر، مرة ثانية تقول الزنا حرام أو السفور حرام أو الخمر حرام نقطع رقبتك لالسانك، أنت فقط تقول للناس، أصدقوا الحديث أدوا الأمانة، وصلوا وصوموا وما شكل هذا، أما تعالج شئون الحياة، الزنا حرام وهذا زنا.،
(29/12)
مع أنه ماقال: يعنى ينبغى أن يجلد وأن يرجم والحكومة مقصرة، لا يحذرهم فقط من الزنا، يقوا: أمور إجتماعية لادخل لك فيها، هذا يعالجه القانون، هذا وصل الإنحطاط فى بلدان المسلمين، لايجوز أن يقال على المنبر الزنا حرام طيب، ماذا يوجد فى الكنائس بعد ذلك كل كذب وخيانة، وكل بعد ذلك غدر، ومكر بالمسلمين، وجدت فى بعض الكنائس دبابات توضع فى القبو فى البدروم، لإجل ما يخططونه للمسلمين فى المستقبل، دبابات، وهذه كلها يستر عليها وتمشى بسلام، و‘ذا وجدوا معك أنت، لا أقول مسدس، إذا وجدوا مسدساً أعانك الله، أردت مرة أن أدخل بعض الى بعض الدوائر فكان على الباب مسئول كأنه يعرفنى، قبل رأسى، ثم قال: أنا عبد مأمور، قلت: ماذا تريد، قال: أريد أن أفتش فتش ماذا عندك، أليس هذا من الذل أخوتى الكرام، مسلم فى بلدان المسلمين، بغض النظر عن كونه عالماً أم لا، يفتش على الباب، الذى يريد أن يغتال القاضى أو غيره، عندما يدخل لمحكمة شرعية، يعنى لايمكن أن يغتاله فى الخارج، لما هذه السفاهة، يعنى لا بى ولابىّ، مجرد حماقة وإذلال العباد، قال: عبد مأمور، قلت: فتش، مد يده الى جيبى من الخارج، قال: هذا إيش هو إيش هذا يا شيخ، قلت: كما ترى مسلم مصدى لإجل قطع يعنى أحيانا أمور لهذه الحياة إما من فاكهة إما من خيط أوكذا، قال: هذا ممنوع تدخل به فى هذه الدائرة، قلت: ماذا تريد، قال: أتركه عندى، يعنى لايريد يعمل معى تحقيق لا ملف لاتحويل للقضاء، أتركه عندى، عندما تخرج تأخذه، قلت: طيب، لاإله إلا الله، فلما خرجت ذاك بتقدير الله، ذهب وجاء واحد آخر، لكن أعطى المسئول الذى كان يفتش هذه القطعة لذاك، فلما جئت، قلت: أين المسئول، كان هنا، قال: ماذا تريد، قلت: أخذ منى حاجة وكذا، قال: أنت صاحب السكين، حاجة، لم أريد أن أقول سكين وأصبح أمام الناس يعنى، قلت: يا عبد الله، يعنى المسئلة الآن فى ستر الله، قال: أنتم مطاوعة يا أخوى كيف تحمل السكاكين فى جيبك،
(29/13)
يقول المطاوعة لازم يحملوا السكاكين والرشاشات، من الذى يحملها، الله جل وعلا يعنى رخص لنا ترخيصاً فقط {ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم} ، وإلا حمل السلاح حتى فى الصلاة مشروع، وهذا يعنى لاسيما إذا الأمة فى أحوال يعنى يخشى منها، قال: لا ياشيخ المطاوعة يعنى هؤلاء ما لازم يحملوا السلاح وهذا، قلت: لازم المطاوعة يكونوا مثل الأنعام كل واحد يذبحه ويركب على ظهره لا يقول له ماذا تفعل، لا إله إلا الله، هذا الوصف إخوتى الكرام: الضعيف الذى لازبر له الذين هم فيكم تبعا.، لا أحد يظن الضعيف أنه ضعيف مسكين يعنى لاقدرة له فى العمل أو أنه مثلا مسكين ضعيف فى المال لا ضعيف فى عقله، سخيف فى رأيه، وينطبق هذا قلت إنطباقا أولياً على القسس، وبعد ذلك فى المسلمين البطالين حدث ولا حرج، مشايخ الصوفية المخرفين كلهم يشملهم هذا الوصف، الضعيف الذى لازبر له، مخرف صوفى يخلو بالنساء ويأكل الأموال وليسأى عمل بطال، إنما هذا تنكة سمن وهذا علبة لبن وهذا فلوس وهذا وهذا، ضعيف لازبر له الذين هم فيكم تبعا لا يتبعون أهلا ولا مالا لا يقوم لا برعاية أهل وأسرة ويكدح ويتعب ويعمل من أجلهم وليس عنده مال ينميه، كما قلنا لادين ولا دنيا عالة على غيره، والخائن الذى لا يخفى له طمع وإن دق إلا خانه (كلمة يخفى بمعنى يظهر، وأخفى بمعنى كتم وأسر، وقيل كل من الصيغتين يستعمل فى الإظهار وفى الإخفاء فهذا من الألفاظ المتضادة.
(29/14)
يقال: أخفى وخفى، أخفى بمعنى أسر، أخفى بمعنى أظهر، خفى الشىء بمعنى أظهره، خفى الشىء بمعنى كتمه، من الألفاظ المتضادة، هذا مثل أسر {سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخفى بالليل وسارب بالنهار} أسروا قولكم: هنا بمعنى أخفوه واضح هذا، أسروا النجوى أخفوها الله جل وعلا يقول {وأسروا الندامة} يوم القيامة بمعنى أظهروها وأعلنوها فالإسرار بمعنى الإظهار وبمعنى الكتمان، فمثل الخوف يأتى بمعنى الوجل وبمعنى الأمل، وهذا الذى ألف فيه كتب الأضداد فى اللغة، وهنا الخائن الذى لايخفى له طمع، معنى لا يخفى: أى لا يظهر له طمع وإن دق إلا خانه، هذا صنفان من أهل النار خائن، والثالث رجل لا يصبح ولا يمسى إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك، يريد أن يعتدى على عرضك، أو أن يأخذ منك المال، خداع، والصنف الرابع: البخيل أو الكذاب، شك الراوى، والخامس: هو الشنظير، قيل وما الشنظير، قال: الفحاش أى سىء الخلق، الشاهد إخوتى الكرام من هذا الحديث، هو إنى منزل عليك كتابا لايغسله الماء تقرأه نائما ويقظان فإذا قول الله {تلك آيات الكتاب الحكيم} ذلك الكتاب الذى وعدت بغنزاله عليك هو المشار اليه، فالمشار إذا الى شىء غائب بعيد سبق ذكره فى أول بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم وإرساله، ورد فى القرآن ما يشير الى هذا، فيكم من يستحضر أية لعلكم تحفظون سورتها لكن يغيب عنكم إستحضارها، سورة المزمل تحفظونها، هات الآية التى فيها {إنا سنلقى عليك قولا ثقيلا} هذا القول الثقيل هو القرآن أشير إليه فى هذه الآيات فى سورة المزمل هى من جملة ما قيل إنها أول ما نزل على الإطلاق من أقوال ستة أرجحها خمسة آيات من سورة العلق هذا الأرجح وويليها بعد ذلك فى القوة ويمكن يجمع به وبين القول الأول: سورة المدثر كما ثبت فى صحيح مسلم عن جابر والحديث الأول عن أمنا عائشة فى الصحيحين، وأقوال الأربعة بعد ذلك كلها لا تخلوا من ضعف ويمكن أن يتكلف للتأليف بينها وبين ما
(29/15)