.. وقال جل وعلا – في الإخبار عن حال الفجار، الذين نكثوا عهودهم مع العزيز القهار –: {وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (1) }
__________
(1) اعلم أخي – علمني الله وإياك – أن المعتمد في تفسير الآية الكريمة، الذي لا يصح القول بغيره أن الآية المباركة نازلة في منافقين لم يسموا، ولم تعلم أعيانهم، وقد وقعت حوادث ظاهرة لكثير من المكلفين، وتحدث عنها القرآن الكريم، ولم تعرف أعيان المقصودين، فما في هذه الآية الكريمة أولى، لأنها تتحدث عن أمر باطني، وهو نقض العهود مع الرب المعبود، ولا يطلع على ذلك إلا خالق الوجود، ولله – جل وعلا – في إخفاء تسميتهم حكم لا يعلمها إلا هو، وقد أخبر ربنا العظيم نبيه الكريم – صلى الله عليه وسلم – في نفس سورة التوبة أنه يوجد في أهل المدينة المنورة من مهر في النفاق، وليس عنده علم عما في قلوبهم من الشقاق، فغيره – صلى الله عليه وسلم – لا يعلم ذلك باتفاق، قال الله – جل وعلا –: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} التوبة101، وسورة التوبة تكرر فيها: ومنهم، ومنهم وذلك هتكاً لسرائر المنافقين، لعلهم يتوبون إلى رب العالمين، ولذلك سميت بسورة الفاضحة، ثبت ذلك عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – في صحيح البخاري – كتاب التفسير – أول سورة الحشر: (8/629) بشرح ابن حجر، وصحيح مسلم – كتاب التفسير – سورة الأنفاق وبراءة والحشر: (4/2322) عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس – رضي الله تعالى عنهم أجمعين –: سورة التوبة، قال: آلتوبة؟ بل هي الفاضحة، ما زالت تنزل ومنهم ومنهم، حتى ظنوا أنها لن تبقي أحداً منهم إلا ذكر فيها، وقد اقتصر في عزو هذه الرواية في الدر المنثور: (3/208) إلى أبي عبيد وابن المنذر، وأبي الشيخ، وابن مردويه، وتبعه على ذلك الألوسي في روح المعاني: (10/40) وهذا عجيب منهما فهو في الصحيحين فالعزو إليهما أولى وأقوى، وعزاه السيوطي في الإتقان: (1/92) إلى البخاري فقط وقد علمت وجوده في الصحيحين، وقد ورد تسميتها بالفاضحة أيضاً عن عمر بن الخطاب – رضي الله تعالى عنه – عند أبي الشيخ كما في الدر والإتقان، وورد تسميتها بذلك أيضاً عن قتادة في تفسير ابن أبي حاتم كما في الإتقان في الأمكنة المتقدمة.
وأولئك المنافقون اللئام عاهدوا الملك العلام على مواساة فقراء الأنام، والاستقامة على هدي الإسلام، إذا أعطاهم ربنا شيئاً من الحطام، فلما أغدق عليهم ربنا – جل وعلا – صنوف الأموال مالوا عن طريق الاستقامة والاعتداء، ونقضوا عهودهم مع ذي العزة والجلال، فهم في تنفيذ ما عزموا عليه كاذبون، وعن الوفاء بعهدهم معرضون فجازاهم الحكم العدل من جنس ما يعلمون، وزادهم رجساً إلى رجسهم الملعون، وما ظلمهم الله وكلن كانوا أنفسهم يظلمون، وقد علم ربنا أنهم لن يقلعوا عن العصيان، وسيصحبهم الخذلان حتى لقاء الرحمن – جل وعلا – نقل الحصاص في أحكام القرآن: (3/144) عن مجاهد – رحمه الله تعالى – أن الله – جل وعلا – حرمهم التوبة كما حرم إبليس.
فإن قيل: كيف اعتبرهم ربنا بالمال باخلين، مع أن الزكاة كانت تؤخذ من المنافقين؟
والجواب عن ذلك يا أخي في الدين: إن الزكاة وإن أخذت من الأموال الظاهرة كالأنعام والزروع والثمار وعروض التجارة، فالأموال الباطنة كالنقدين لا يعلم مقدارهما إلا صاحبهما، يضاف إلى هذا أن الزكاة فيهما موكولة إلى أصحابها، فالمنافقين وإن أخذ منهم زكاة الأموال الظاهرة فقد بخلوا بزكاة الأموال الباطنة، ويضاف إلى هذا أيضاً، أنه شتان شتان بين من يخرج زكاة ماله طيبة بها نفسه، وبين من يراها أنها جزية أو أخت الجزية، فهذا هو المعنى الصحيح للآية الكريمة، فاعلمه فعلم المرء بنفعه، والله – تبارك وتعالى – أعلم.
واعلم – سددك الله تعالى – أنه قد جرى في كثير من كتب التفسير تساهل كثير فيما يتعلق في بيان المعنيين بهذه الآية الكريمة، وكثرت منهم في ذلك الأقاويل، وليس لها أي اعتبار عند طالب العلم النحرير، لأنه ليس لها في ميزان النقد الجليل، وعلم الجرح والتعديل، [وزن كثير] وزن كثير أو قليل، وإليك خلاصة ذلك مع التحقيق الوفير، فاغتنمه واشكر الرب القدير
القول الأول:
وعليه اقتصر كثير من المفسرين منهم الواحدي في أسباب النزول: (171-172) والوجيز في تفسير القرآن العزيز: (1/348) ، والزمخشري في الكشاف: (2/203) والرازي في مفاتيح الغيب: (16/138) ، وابن جزي في التسهيل: (2/181) ، وابن كثير في تفسير: (2/373-374) ، والثعالبي في الجواهر الحسان: (2/143-144) ، والخطيب الشربيني في السراج المنير: (1/634-635) ، وأبو السعود في إرشاد العقل السليم: (4/85) ، والجمل في حاشيته على الجلالين: (2/301-302) ، والسيوطي في لباب النقول: (120/121) ، والإتقان: (4/99) ، والدر المنثور: (3/260-261) ، وتكملة تفسير الجلال المحلى: (185) ، والقاسمي في محاسن التأويل: (8/3208) ، والشوكاني في فتح القدير: (2/386) ، والسيد قطب في ظلال القرآن: (3/1680) ، وقال ابن العربي في أحكام القرآن: (2/980-981) عن هذا السبب: إنه أصح الروايات وهو حديث مشهور، وكذلك قال القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: (8/208-210) ، والرازي في تفسيره: (16/138) وقال الألوسي في روح المعاني: (10/144) إنه الأشهر، وهو الصحيح.
وذكر ذلك الخبر في تفسير الآية الكريمة الطبري في جامع البيان: (10/130-131) وهو في معالم التنزيل: (3/124-126) ، وكتاب التأويل: (3/125-126) ، وتفسير البيضاوي: (1/353) ، والنسفي: (2/100) ، وتفسير المراغي: (10/169) والتفسير الواضح: (2/74-75) ، وتفسير ابن سعدي المسمى بتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان: (3/137) ،وصفوة التفاسير: (1/551) ، ومختصر تفسير ابن كثير: (2/157-158) ، وكرر الرازي الاستشهاد به في عدة أماكن من تفسيره غير ما تقدم: (10/2، 28/91-92) والبحر المحيط: (5/74) ، وروح البيان: (3/469-470) ، وتفسير النيسابوري: (10/128-129) ، وورد الخبر في الإحياء: (3/264-265) وتلبيس إبليس: (178، 181) ، والتبصرة: (1/138) ، والاستبصار: (280) ، والمنهاج في شعب الإيمان: (2/514-516) ، وأطال الحليمي في توجيه الخبر، ولم يأت بطائل.
وهذا نص الخبر عن أبي أمامة – رضي الله تعالى عنه – أن ثعلبة بن حاطب الأنصاري أتى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ادع الله أن يزقني مالاً، فقال – صلى الله عليه وسلم –: "ويحك يا ثعلبة، قليل تؤدي شكره، خير من كثير لا تطيقه" قال أبو أمامة – رضي الله تعالى عنه – ثم قال ثعلبة مرة أخرى، فقال – صلى الله عليه وسلم –: "أما ترضى أن تكون مثل نبي الله، فوالذي نفسي بيده، لو شئت أن تسير معي الجبال ذهباً وفضة لسارت" فقال ثعلبة: والذي بعثك بالحق لئن دعوت الله أن يرزقني مالاً، لأوتين كل ذي حق حقه. فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "اللهم ارزق ثعلبة مالاً" فاتخذ غنماً، فنمت كما ينمو الدود فضاقت عليه المدينة، فتنحى عنها، فنزل وادياً من أوديتها، حتى جعل يصلي الظهر والعصر في جماعة، ويترك ما سواهما، ثم نمت وكثرت فتنحى حتى ترك الصلوات إلا الجمعة، وهي تنمو كما ينمو الدود، حتى ترك الجمعة، فسأل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عنه، فأخبر خبره فقال: "يا ويح ثعلبة، يا ويح ثعلبة، يا ويح ثعلبة" وأنزل الله – جل وعلا –: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} التوبة103، ونزلت عليه فرائض الصدقة، فبعث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – رجلين على الصدقة، وكتب لهما كتاباً كيف يأخذان الصدقة من المسلمين، وقال لهما: "مروا بثعلبة، وبفلان – رجل من بني سليم – فخذا صدقاتهما" فخرجا حتى أتيا ثعلبة، فسألاه الصدقة وأقرآه كتاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: ما هذه إلا جزية، ما هذه إلى أخت الجزية، ما أدري ما هذا؟ انطلقا حتى تفرغا ثم عودوا إليّ، فانطلقا، وسمع بهما السلمي، فاستقبلهما بخيار ماله، فقالا: لا يجب عليك هذا، فقال: خذاه فإن نفسي بذلك طيبة، فأخذا منه، فلما فرغا من صدقاتهما مرا بثعلبة، فقال: أروني كتابكما، فنظر فيه، فقال: ما هذه إلا أخت الجزية انطلقا حتى أرى رأيي، فانطلقا حتى أتيا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فلما رآهما، قال: "يا ويح ثعلبة" قبل أن يكلمهما، ودعا للسلمي بالبركة، فأخبراه بالذي صنع ثعلبة، والذي صنع السلمي، فأنزل الله – جل وعلا – في ثعلبة: {وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} التوبة إلى آخر الآيات وكان عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم – رجل من أقارب ثعلبة، فسمع ذلك، فخرج حتى أتاه، فقال: ويحك يا ثعلبة، قد أنزل الله فيك كذا وكذا، فأتى ثعلبة النبي – صلى الله عليه وسلم – وسأله أن يقبل منه صدقته، فقال – صلى الله عليه وسلم –: "إن الله منعني أن أقبل منك صدقتك" فجعل يحثو التراب على رأسه، فقال – صلى الله عليه وسلم –: "هذا عملك، قد أمرتك فلم تطعني" فرجع ثعلبة إلى منزله، وقبض رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولم يقبل منه شيئاً، ثم أتى أبا بكر – رضي الله تعالى عنه – حين استخلف، فقال: قد علمت منزلتي من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وموضعي من الأنصار، فاقبل صدقتي، فقال أبو بكر – رضي الله تعالى عنه –: لم يقبلها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأنا أقبلها؟ فقبض أبو بكر – رضي الله تعالى عنه – ولم يقبضها، فلما ولي عمر – رضي الله تعالى عنه – أتاه فقال: يا عمر اقبل صدقتي، فقال: لم يقبلها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولا أبو بكر، وأنا أقبلها منك، فقبض ولم يقبلها، ثم ولي عثمان – رضي الله تعالى عنه – فأتاه فسأله أن يقبل صدقته، فقال: لم يقبلها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولا أبو بكر ولا عمر، وأنا لا أقبلها منك، فلم يقبلها منه وهلك ثعلبة في خلافة عثمان – رضي الله تعالى عنه–.
وهذا الخبر الوارد في سبب نزول الآية الكريمة، وفيه تعيين المراد بالذين عاهدوا الله – جل جلاله – ثم نقضوا عهدهم وأخلفوه بثعلبة بن حاطب باطل باطل، لا يقبله مسلم عاقل لعدة أمور، هاكها يا أخي الفاضل:
الأول:
الخبر مروي من طريق معان بن رفاعة السلمي عن أبي عبد الملك على بن يزيد الألهاني عن القاسم بن عبد الرحمن مولى عبد الرحمن بن يزيد بن معاوية عن أبي أمامة الباهلي – رضي الله تعالى عنه –.
أما معان بن رفاعة السلمي فهو وإن وثقه على بن المديني ودحيم كما في تهذيب التهذيب: (10/201) فقد قال عنه ابن حبان في المجروحين: (3/36) منكر الحديث يروي مراسيل كثيرة، ويحدث عن أقوام مجاهيل، لا يشبه حديثه حديث الأثبات، فلما صار الغالب على روايته ما تنكر القلوب استحق ترك الاحتجاج به، ونقل ابن حجر في تهذيب التهذيب تضعيفه عن ابن معين وقال الجوزجاني: ليس بحجة 10هـ.
والذي حط عليه كلام المحققين في أمره أنه لين الحديث بذلك حكم عليه يعقوب بن سفيان البسوي في المعرفة والتاريخ: (2/451) ، وابن حجر في التقريب: (2/258) ، وقال الذهبي في الميزان: (4/134) ، وهو صاحب حديث ليس بمتقن 1هـ قلت: ومع تليين الأئمة له فأمره أيسر ممن بعده.
وأما علي بن يزيد الألهاني بفتح الهمزة وسكون اللام وفي آخرها نون، نسبة إلى ألهان بن حمدان كما في اللباب: (1/83) ، والمغني: (31) فمتفق على ضعفه، وحكم عليه البخاري في التاريخ الكبير: (6/301) ، والضعفاء الصغير: (82) بأنه منكر الحديث، وقال النسائي في الضعفاء والمتروكين: (77) : متروك الحديث وقال ابن حبان في المجروحين: (2/110) منكر الحديث جداً، ويجب التنكب عن روايته لما ظهر عمن فوقه ودونه من ضد التعديل، وقال في: (2/63) إذا اجتمع في إسناد خبر عبيد الله بن زحر، وعلي ابن يزيد، والقاسم أبو عبد الرحمن لا يكون متن الخبر إلا مما عملت أيديهم، فلا يحل الاحتجاج بهذه الصحيفة، قال ابن حجر في تهذيب التهذيب: (7/13) ليس في الثلاثة من اتهم إلا علي بن يزيد، وأما الآخران فهما في الأصل صادقان، وإن كان يخطئان وقد أطال الحافظ في تهذيب التهذيب: (7/396-397 في نقل كلام الأئمة في تضعيفه فمن ذلك، قال ابن معين: علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة كلها ضعاف، وقال يعقوب: وهيّ الحديث، كثير المنكرات، وقال أبو زرعة: ليس بالقوي أحاديثه منكرة، وقال الحاكم أبو أحمد: ذاهب الحديث، وقال أبو نعيم: منكر الحديث، وقال الساجي: اتفق أهل العلم على ضعفه 10هـ قلت: ومن كان كذلك فخبره مطروح عن رتبة الاعتبار، وانظر مزيد تقرير لما تقدم في بيان حاله في المغني في الضعفاء: (2/457، وميزان الاعتدال: (3/161-162) والجرح والتعديل: (6/208-209) .
وأما القاسم بن عبد الرحمن فهو في درجة معان ولعله أرفع درجة منه، وهو وإن قال عنه ابن حبان في المجروحين: (2/212) يروي عن أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – المعضلات، ويأتي عن الثقات بالأشياء المقلوبات، حتى يسبق إلى القلب أنه كان كالمعتمد لها، ثم نقل بسنده إلى الإمام أحمد أنه قال فيه: منكر الحديث، ما أرى البلاء إلا من قبل القاسم، ونقل ذلك عن الإمام أحمد أيضاً ابن حجر في تهذيب التهذيب: (8/323) ، وبعضه في الميزان: (3/373) فالمعتمد في أمره أنه صدوق كما في تهذيب التهذيب: (2/118) فحديثه مقبول إن شاء الله تعالى.
وإذا كان المعتمد في حال معان اللين، وفي حال علي بن يزيد الألهاني الضعف الشديد فالحديث مردود، وبذلك حكم عليه الأئمة ذوو التحقيق المشهود، قال الحافظ في الفتح: (3/266) إنه حديث ضعيف لا يحتج به، وقال في الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف: (77) هذا إسناد ضعيف جداً، وقال في الإصابة: (1/198) إن صح الخبر ولا أظن يصح، وقال الإمام العراقي في المغني عن حمل الأسفار في الأسفار: (3/266) رواه الطبراني بسند ضعيف، وقال الإمام الهيثمي في مجمع الزوائد: (7/32) رواه الطبراني وفيه على بن يزيد الألهاني وهو متروك، وحكم الإمام الذهبي على الحديث في تجريد أسماء الصحابة: (1/66) بأنه منكر بمرة، وقال الإمام ابن حزم في المحلى: (11/207-208) في رواته معان بن رفاعة، والقاسم بن عبد الرحمن، وعلى بن يزيد وكلهم ضعفاء، وقال الشيخ عبد الفتاح أبو غدة في تعليقه على الأجوبة الفاضلة للأسئلة العشرة الكاملة: (108) هي قصة تالفة مريضة، وفي تفسير العلي القدير: (2/357) لم تثبت صحتها.
واعلم أخي النبيه أن المراد بقول ابن العربي ومقلده القرطبي، وقول الرازي أيضاً: إن الحديث مشهور: المشهور على الألسنة، وبين العامة والوعاظ والقصاص، لا المشهور الاصطلاحي وهو ما رواه ثلاثة فأكثر ولم يبلغ عدد التواتر، ولم يقل العدد عن ثلاثة في كل طبقة من طبقات السند انظر أنواع الحديث المشهور في تدريب الراوي: (368-370) ، وشرح البيقونية: (75-76) وتيسير مصطلح الحديث: (22-24) .
وقد جمع ما اشتهر على الألسنة من الأحاديث السخاوي في المقاصد بالحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة، واختصره ابن الديبع في كتابه تمييز الطيب من الخبيث فيما يدور على ألسنة الناس من الحديث، وألف في هذا الشأن السيوطي كتاب الدر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة، والعجلوني كتاب كشف الخفاء ومؤيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسن الناس وكلها مطبوعة، وانظر كتباً كثيرة ألفت في هذا الشأن في الرسالة المستطرقة: (191-192) .
الثاني:
ثعلبة بن حاطب – رضي الله تعالى عنه – من الأنصار – رضي الله تعالى عنهم – وقد شهد بدراً فيما قرر أئمتنا الأبرار، ابن سعد في الطبقات: (3/460) ، وابن عبد البر في الاستيعاب: (1/200) على هامش الإصابة، وابن الأثير في أسد الغابة: (1/283-285) وابن حجر في الإصابة: (1/198) ، ولم يذكر هؤلاء غير ابن حجر من اسمه ثعلبة بن حاطب في الصحابة إلا واحدا فقط، أما ابن حجر اثنين مسميين بهذا الاسم فقال:
ثعلبة بن حاطب بن عمرو بن عبيد بن أمية بن زيد بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس الأنصاري، ذكره موسى بن عقبة، وابن إسحاق في البدريين ن وكذا ابن الكلبي، وزاد أنه قتل بأحد.
وثعلبة بن حاطب أو ابن أبي حاطب الأنصاري ذكره ابن إسحاق فيمن بنى مسجد الضرار، وروى البارودي وابن السكن وابن شاهين وغيرهم في ترجمة الذي قبله من طريق معان بن رفاعة عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة – رضي الله تعالى عنه – أن ثعلبة بن حاطب الأنصاري قال: يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم ادع الله أن يرزقني مالاً ... الحديث.
قال الحافظ: وكون صاحب هذه القصة إن صح الخبر، ولا أظن يصح هو البدري المذكور قبله نظر، وقد تأكدت المغايرة بينهما بقول ابن الكلبي: إن البدري استشهد بأحد، ويقوي ذلك أيضاً أن ابن مردويه روى في تفسيره من طريق عطية العوفي عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – في الآية المذكورة قال: إن رجلاً يقال له: ثعلبة بن أبي حاطب من الأنصار، أتى مجلساً فأشهدهم فقال: لئن آتانا الله من فضله، فذكر القصة بطولها، فقال: إنه ثعلبة بن أبي حاطب والبدري قد اتفقوا على أنه ثعلبة بن حاطب، وقد ثبت عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: "لا يدخل النار أحدٌ شهد بدراً والحديبية"، وحكى – صلى الله عليه وسلم – عن ربه – عز وجل – أنه قال أهل بدر "اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" الحديث الأول خرجه الإمام أحمد في المسند: (3/396) عن جابر – رضي الله تعالى عنه – وأخرجه في: (6/362) عن أم مبشر – رضي الله تعالى عنها –، وفي: (6/285) عن أمنا حفصة – رضي الله تعالى عنها –. ورواه عنها أيضاً ابن ماجه – كتاب الزهد – باب ذكر البعث: (2/1431) ، وورد في صحيح مسلم – كتاب فضائل الصحابة – باب فضائل أصحاب الشجرة –: (16/58) بشرح النووي عن أم مبشر – رضي الله تعالى عنها – بلفظ: "لا يدخل النار – إن شاء الله – من أصحاب الشجرة أحد الذين بايعوا تحتها" وهو عنها أيضاً في المسند: (6/420) ، ونحوه في المسند: (3/35) ، وسنن أبي داود – كتاب السنة – باب في الخلفاء: (15/41) ، وسنن الترمذي – كتاب المناقب – باب ما جاء في فضل من بايع تحت الشجرة: (9/183) ، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح كلهم عن جابر بن عبد الله – رضي الله تعالى عنهم أجمعين –.
والحديث ورد من رواية على – رضي الله تعالى عنه – في صحيح البخاري – كتاب المغازي – باب فضل من شهد بدراً –: (7/305) ، وباب غزوة الفتح وما بعث به حاطب بن أبي بلتعة يخبرهم بغزو النبي – صلى الله عليه وسلم –: (7/519) ، وكتاب التفسير – سورة الممتحنة – باب: "لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء": (8/633) ، وكتاب الجهاد – باب الجاسوس –: (6/143) ، وباب إذا اضطر الرجل إلى النظر في شعور أهل الذمة والمؤمنات إذا عصين الله – تبارك وتعالى – وتجريدهن: (6/190) ، وفي كتاب الاستئذان – باب من نظر في كتاب من يحذر على المسلمين ليستبين أمره: (11/46) ، وكتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم – باب ما جاء في المتأولين: (12/304) بشرح ابن حجر في جميع ما تقدم، وصحيح مسلم – كتاب فضائل الصحابة – باب من فضائل حاطب بن أبي بلتعة وأهل بدر: (16/55-56) بشرح النووي، وسنن أبي داود – كتاب الجهاد – باب في حكم الجاسوس إذا كان مسلماً: (3/108-110) ، وسنن الترمذي – كتاب التفسير – سورة الممتحنة: (9/43-45) ، والمسند: (1/80، 105) .
وورد من رواية أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – في سنن أبي داود – كتاب السنة – باب في الخلفاء: (5/42) ، والمسند: (2/295) ، والطبراني في الأوسط بسند جيد كما في مجمع الزوائد: (6/106) وسنن الدارمي – كتاب الرقاق – باب في فضل أهل بدر: (2/313) .
وورد في رواية ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – في المسند: (..../331) ، وإسناده صحيح كما في تعليق الشيخ شاكر على المسند: (5/25) "3062"، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: (9/119-120) رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط باختصار ورجال أحمد رجال الصحيح غير أبي بلح الغزاري وهو ثقة وفيه لين.
وورد من رواية ابن عمر – رضي الله تعالى عنهما – في المسند أيضاً: (2/109) ورواه أبو يعلى بنحوه كما في مجمع الزوائد: (9/303) ، وفيه رجال أحمد رجال الصحيح.
وورد من رواية جابر بن عبد الله – رضي الله تعالى عنهما – في المسند: (3/350) ، ورواه أبو يعلى أيضاً كما في مجمع الزوائد: (9/303) وفيه: رجال أحمد رجال الصحيح.
وورد من رواية عمر بن الخطاب – رضي الله تعالى عنه – عند الطبراني في الكبير والأوسط، وأبي يعلى والبزار ورجالهم رجال الصحيح كما في مجمع الزوائد: (9/304) .
وورد عن رواية عبد الرحمن بن حاطب بن أبي بلتعة عن أبيه عند الطبراني في الكبير والأوسط ورجالهما ثقات كما في مجمع الزوائد: (9/304) ، والحديث فيه قصة طويلة في بعث حاطب بن أبي بلتعة كتاباً لأهل مكة يخبرهم فيه ببعض أمر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فانظرها فيما تقدم.
فائدة:
المراد من قول الله – عز وجل – لأهل بدر: "اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" غفران ذنوبهم في الآخرة، وإلا فلو وجب على أحدهم حد مثلاً لم يسقط عنه في الدنيا كما قال الحافظ في الفتح: (10/259) ، وفي الحديث بشارة عظيمة لأهل بدر الكرام، في أنهم يوافون الله الكريم بالإيمان، وما يصدر منهم من هفوات مغفور عند ربنا الرحمن، وبهذا جزم ابن القيم في الفوائد: (16) ، وهو أحد تأويلين ذكرهما الرازي في تفسيره: (23/191) .
هذا وقد أشكل معنى الحديث على كثير من الناس، لأن ظاهره إباحة كل الأعمال لهم، وتخييرهم فيما شاؤوا منها وذلك ممتنع، وللخلوص من ذلك:
ا) قال الإمام ابن الجوزي: ليس المراد من قوله: "اعملوا" الاستقبال وإنما هو للماضي، وتقدير الكلام: أي عمل كان لكم فقد غفرته، أي: غفرت لكم بهذه الغزوة ما سلف من ذنوبكم ودلل على قوله بشيئين: 1- لو كان للمستقبل كان جوابه " فسأغفر لكم ". 2- كان يكون إطلاقاً في الذنوب ولا وجه لذلك.
وهذا القول ضعيف لوجهين: 1- لفظ "اعملوا" يأباه فإنه للاستقبال دون الماضي، وقوله: "قد غفرت لكم" لا يلزم أن يكون اعملوا مثله، لأن المراد من قوله: "قد غفرت" تحقيق وقوع المغفرة قي المستقبل، ولهذا نظائر كثيرة في القرآن الكريم ففي أول سورة النحل: "أَتَى أَمْرُ اللهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ". 2- نفس الحديث يرده، فإنه سببه قصة حاطب – رضي الله تعالى عنه – وذلك واقع بعد غزوة بدر لا قبلها، وهو سبب الحديث وهو مراد منه قطعاً، كما في الفوائد: (15) .
ب- أورد الرازي احتمالاً ثانياً في بيان معنى الحديث وخلاصته: افعلوا ما شئتم من النوافل من قليل أو كثير فقد غفرت لكم وأعطيتكم الدرجات العالية في الجنة، ولا يخفى مصادمة هذا لسبب ورود الحديث، فالمعتمد في بيان معناه ما تقدم فاعلم، وللشيخ أحمد شاكر في رسالته كلمة الفصل في قتل مدمني الخمر: (83-85) تعليل عليل لهذا الحديث الجليل، وخلاصته: سقوط بعض العقوبات الدنيوية وإن كانت حداً مقدراً من أهل بدر الكرام، وذلك باطل باتفاق أئمة الإسلام.
فمن يكون بهذا المثابة كيف يعقبه الله – تبارك وتعالى – نفاقاً في قلبه، وينزل فيه ما نزل، فالظاهر أنه غيره، والله تعالى أعلم 1هـ ونقل السيوطي في الحاوي للفتاوى: (2/97) كلام ابن حجر الذي نقله عن الكلبي في التفرقة بين ثعلبة بن حاطب وثعلبة بن أبي حاطب وارتضاه، وكذلك فعل الألوسي في روح المعاني: (10/143) حيث قال: وليس هو البدري – أي: الذي نزلت فيه الآية الكريمة – لأنه استشهد بأحد – رضي الله تعالى عنه – 10هـ، وقد أورد ابن الأثير في أسد الغابة: (10/285) في ترجمة ثعلبة بن حاطب البدري – رضي الله تعالى عنه – القصة المتقدمة الباطلة، وقال: وكلهم – أي: ابن عبد البر، وابن منده، وأبو نعيم هذه الترجمة، فإما أن يكون ابن الكلبي قد وهم في قتله، أو تكون القصة غير صحيحة، أو يكون غيره، وهو هو لا شك فيه 10هـ.
قال عبد الرحيم – غفر الله له ذنوبه أجمعين – الاحتمال الثاني الذي ذكره ابن الأثير هو الصحيح وعليه التعويل، وقد تقدم إقامة البرهان على عدم ثبوت تلك الرواية عند أئمة الإسلام، وما حاوله الإمام ابن حجر اعتماداً على ما نقله عن ابن الكلبي وأيده ابن مردويه من التفرقة بين ثعلبة بن حاطب، وثعلبة بن أبي حاطب، وأن الأول بدري استشهد بأحد، وأما الثاني فهو الذي توفي في خلافة عثمان – رضي الله تعالى عنه – وهو المعني بالآية المتقدمة، وفيه نزلت، فتلك المحاولة منه على فرض ثبوت الخبر كما قال: إن صح الخبر ولا أظن يصح، وقد جزم هو بعدم ثبوته وصحته في الفتح، وفي تخريج أحاديث الكشاف كما تقدم فتذكر ولا تغفل، وقد تبعه على تلك المحاولة السيوطي، والألوسي، وتلك المحاولة لا يدعمها نقل ثابت، ولا برهان واضح، إنما بنيت على مجرد الفروض والاحتمالات، ويظهر لي بطلانها لخمسة أمور بينات، فاستمع إليها واشكر رب الأرض والسموات:
الأمر الأول:
عدم صحة الخبر الوارد في سبب نزول الآية الكريمة، كما بينت ذلك بالأدلة القوية المتينة، ومن المعلوم أن الاشتغال بتأويل الروايات، وإزالة ما فيها من إشكالات متوقف على كونها من الثابتات، ولا داعي لشيء من ذلك إذا كانت الواهيات الباطلات.
الأمر الثاني:
الذين صنفوا في طبقات الصحابة الطيبين من أئمتنا المتقدمين كابن منده، وأبي نعيم، وابن عبد البر، والذهبي – عليهم رحمة رب العالمين – لم يذكروا غلا رجلاً واحداً من الصحابة الكرام يسمى بثعلبة بن حاطب الأنصاري – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – وما ورد في رواية ابن الكلبي من وجود رجل يسمى بثعلبة بن أبي حاطب فلا يعول عليه، لأن الكلبي محمد بن السائب أقل أحواله أنه متروك، وقد اتهم بالكذب، بل صرح هو بالاعتراف بكذبه ففي التاريخ الكبير: (1/101) ، والجرح والتعديل: (7/271) ، والمجروحين: (2/254) ، وميزان الاعتدال: (3/557) ، وتهذيب التهذيب: (96/180) عن سفيان الثوري قال: قال الكلبي: ما حدثت عن أبي صالح عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – فهو كذب فلا ترووه، وقال ابن حبان في المجروحين: (2/255) وضوح الكذب فيه أظهر من أن يحتاج إلى الإغراق في وصفه، لا يحل ذكره في الكتب، فكيف الاحتجاج به، وانظر حاله في غير ما تقدم في الضعفاء الصغير: (101) ، والضعفاء والمتروكين للنسائي: (91) ، والضعفاء والمتروكين للدارقطني: (342) ، والمعرفة والتاريخ: (3/35) باب من يرغب عن الرواية عنهم –، وتنزيه الشريعة: (1/105) – فصل في سرد أسماء الوضاعين والكذابين ومن كان يسرق الأحاديث ويقلب الأخبار ومن اتهم بالكذب والوضع من رواة الأخبار – وتقريب التهذيب: (2/163) ، وفي الإتقان: (4/239) ، وأوهى الطرق عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – طريق الكلبي عن أبي صالح عنه، فإن انضم على ذلك رواية محمد بن مروان السدي الصغير فهي سلسلة من الكذب.
وتأييد رواية الكلبي برواية ابن مردويه عن عطية العوفي عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – لا ينفع لأن عطية بن سعد العوفي ضعيف كما في الضعفاء والمتروكين للنسائي: (86) ، وانظر حاله في التاريخ الكبير: (8/7) ، والجرح والتعديل: (6/382-383) ، والمجروحين: (2/176) ، وميزان الاعتدال: (3/79) ، وتهذيب التهذيب: (7/224-226) ، والإتقان في علوم القرآن: (4/239) .
الأمر الثالث:
الادعاء بأن ثعلبة بن حاطب البدري – رضي الله تعالى عنه – استشهد يوم أحد مردود، وذلك الزعم غير موجود لأمرين:
1- الذين صنفوا في طبقات الصحابة الكرام، وبيان عددهم، من أئمتنا الذين تقدم ذكرهم لم يقل واحد منهم إن ثعلبة بن حاطب – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – استشهد يوم أحد.
2- الذين استشهدوا في غزوة أحد – رضي الله تعالى عنهم – معروفون، وأحصى العلماء عددهم، وضبطوا أسماءهم، ولم يذكر من بينهم ثعلبة بن حاطب انظر سيرة ابن هشام: (2/122-127) ذكر من استشهد يوم أحد.
لا داعي لقول الكلبي على أنه من جملة الاحتمالات للتوفيق بين الروايات، كما مال إلى ذلك ابن الأثير في أسد الغابة: (1/285) .
الأمر الرابع:
حكي تردد واضطراب في زمن موت ثعلبة بن حاطب – رضي الله تعالى عنه – من بعض من كتب في تراجم الصحابة الكرام – رضي الله تعالى عنهم – فقيل: توفي في خلافة عمر، وقيل: في خلافة عثمان – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – كما في الاستيعاب: (1/201) ، والقول الأول وهم، ولم يعول عليه أحد، وهو أولى من قول الكلبي إنه استشهد بأحد، والصحيح وفاته في خلافة عثمان – رضي الله تعالى عنهم أجمعين –.
الأمر الخامس:
اتهام ثعلبة بن حاطب البدري، لا يؤثر على مقامه العالي الجلي، عند ربنا العظيم العلي لأن ذلك الاتهام، وقع عن طريق الاجتهاد الخاطئ، والتأويل المعذور، ولن يضير ذلك ثعلبة ولا من اتهمه عند العزيز الغفور، كما لم يضر حاطب بن أبي بلتعة – رضي الله تعالى عنه – عندما راسل أهل مكة يخبرهم ببعض أمر النبي – صلى الله عليه وسلم – قول عمر – رضي الله تعالى عنه –: إنه قد نافق، دعني أضرب عنقه يا رسول الله، فقال له النبي – صلى الله عليه وسلم –: "إنه قد شهد بدراً، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: "اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" وتقدم الحديث قريباً.
قال ابن هشام في السيرة النبوية: (1/522) بعد أن نقل عن ابن إسحاق: أن ثعلبة بن حاطب، ومعتب بن قشير هما اللذان عاهدا الله لئن آتانا من فضله لنصدقن الله، ولنكونن من الصالحين، إلى القصة، ومعتب بن قشير، هو الذي قال يوم أحد: "لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا" آل عمران 154 إلى القصة، وهو الذي قال يوم الأحزاب: كان محمد – صلى الله عليه وسلم – يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا لا يأمن أن يذهب إلى الغائط، فأنزل الله – عز وجل –: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً} الأحزاب12، وأن ثعلبة بن حاطب، وأخاه الحارث بن حاطب ومعتب بن قشير من منافقي الأنصار الذين اجتمعوا مع اليهود، – قال ابن هشام بعد أن نقل ذلك –: معتب بن قشير، وثعلبة والحارث ابنا حاطب هم من بني أمية بن زيد من أهل بدر، وليسوا من المنافقين، فيما ذكر لي من أثق به من أهل العلم، وقد نسب ابن إسحاق ثعلبة والحارث في بني أمية بن زيد في أسماء أهل بدر 10هـ.
وقد اتهم ثعلبة بن حاطب، ومعتب بن قشير، بأنهما شاركا في بناء مسجد الضرار كما في سيرة ابن هشام: (2/530) ، والبداية والنهاية: (5/22) ، وإن ثبت ذلك فلن يضرهما – إن شاء الله تعالى – فلعلهما خدعا من قبل بعض المنافقين، كما خدع حاطب بن أبي بلتعة من قبل حبه لأهله وقرابته، فأقدم على ما أقدم، ثم تاب الجميع مما تبين لهم خطؤه من فعلهم، والله غفور رحيم، وليس معنى غفران الله – جل وعلا – لمن شهد بدراً العصمة من الذنوب والخطأ، إنما المراد الغفران لهم في الآخرة، كما تقدم بيان ذلك عند حديث: "اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم".
وبما تقدم نجزم بأن الآية ليست نازلة في ثعلبة بن حاطب لأنه من أهل بدر الكرام – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – ولا يوجد في الصحابة الكرام من يسمى بذلك الاسم غيره، وكانت وفاته في خلافة عثمان – رضي الله تعالى عنه –.
ثالث الأمور في بيان ما في تلك الرواية من البهتان والزور:
إن تلك الرواية لنصوص الشرع القطعية الثبوت والدلالة من أن التوبة مقبولة من المكلفين ما لم يغرغر العبد بروحه، أو تطلع الشمس من مغربها، قال الله – عز وجل –: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} النساء17-18 فكل من عصى الله فهو جاهل وكل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب، انظر تقرير هذا في صفحة: (22-23) من كتاب الملل والنحل، وقال – جل وعلا – في سورة الأنعام: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ} الأنعام158، والمراد بقوله – جل وعز –: " أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ " طلوع الشمس من مغربها، انظر أدلة هذا في صفحة: (24-25) من كتاب الملل والنحل.
وقد دعا ربنا الكريم عباده المجرمين الذين قتلوا أولياءه الصالحين إلى التوبة لرب العالمين فقال – وهو الرؤوف الرحيم –: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} البروج10، قال الحسن البصري – عليه رحمة الله تعالى – كما في تفسير ابن كثير: (4/466) انظروا إلى هذا الكرم والجود، قتلوا أولياءه، وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة 10هـ وإذا كان هذا في حق الفجار الذين قتلوا الأبرار وعذبوهم بالنار فما ظنك بمن ارتكب ما دون ذلك من الأوزار، وجاء يهرول تائباً إلى العزيز الغفار، وينثر التراب على رأسه تذللاً للعزيز الجبار، وقولهم: إنه فعل ما فعل خشية العار، يحتاج إلى دليل كالنهار، ثم هو مناف لما روي من مجيئه إلى أبي بكر وعمر وعثمان الأئمة الأخيار – رضي الله تعالى عنهم – وعرضه عليهم قبول صدقته لينجو في دار القرار.
رابع الأمور في مخالفة تلك الرواية للحق الثابت والنور:
انفردت هذه القصة بأمر لا نظير له في الشرع، لأن ثعلبة إما أن يعامل معاملة المؤمنين فتؤخذ منه الزكاة، أو معاملة الكفار المرتدين فيضرب عنقه لجحوده فريضة رب العالمين أما كونه يعامل معاملة المؤمنين في بعض الأمور، ومعاملة الكفار في بعضها الآخر فهذا لا نظير له في الشرع، ولا يثبت ذلك الحكم بخبر شديد الضعف منكر السند والمتن حكم على انفراده وإلى هذا أشار ابن حزم في المحلى: (11/207-208) ، فقال: هذه صفة أوردها الله – تبارك وتعالى – يعرفها كل من فعل ذلك من نفسه، وليس فيها نص ولا دليل على أن صاحبها معروف بعينه، لأن الله – عز وجل – أمر بقبض زكوات أموات المسلمين، وأمر النبي – صلى الله عليه وسلم – عند موته أن لا يبقى فيه جزيرة العرب دينان، فلا بخلو ثعلبة من أن يكون مسلماً فعرض على أبي بكر وعمر – رضي الله عنهما – قبض زكاته ولابد، ولا فسحة في ذلك، وإن كان كافراً ففرض أن لا يقر في جزيرة العرب، فسقط هذا الأثر بلا شك ثبت عن نبينا – صلى الله عليه وسلم – الأمر بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب عن عدة من الصحابة الكرام – عليهم الرحمة والرضوان – وإليك البيان:
روت ذلك أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنها – قالت: كان آخر ما عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن قال: " لا يترك بجزيرة العرب دينان " كما في المسند: (6/275) ورواه الطبراني في الأوسط، ورجال أحمد رجال الصحيح غير ابن إسحاق وقد صرح بالسماع، كما في مجمع الزوائد: (5/325) وورد ذلك عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – في سنن أبي داود – كتاب الخراج والفيء – باب في إخراج اليهود من جزيرة العرب –: (3/425) ، وسنن الترمذي – كتاب الزكاة – باب ما جاء ليس على المسلمين جزية –: (2/398) ، وسنن البيهقي – كتاب الجزية – باب لا يسكن أرض الحجاز مشرك: (9/208) عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: "لا يجتمع ملتان في بلد واحد" وفي لفظ البيهقي: "لا يجتمع قبلتان في جزيرة العرب".
وثبت في صحيح البخاري – كتاب الجزية – باب إخراج اليهود من جزيرة العرب: (6/271) وكتاب الجهاد – باب هل يستشفع إلى أهل الذمة، ومعاملتهم: (6/170) ، وكتاب المغازي – باب مرض النبي – صلى الله عليه وسلم – ووفاته: (8/132) بشرح ابن حجر في الجميع، وصحيح مسلم – كتاب الوصية – باب ترك الوصية لمن ليس له شيء يوصي فيه: (3/1258) ، وسنن أبي داود، والبيهقي – في المكانين المتقدمين – عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – مرفوعاً "أخرجوا المشركين من جزيرة العرب".
وروى ذلك أيضاً أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح – رضي الله تعالى عنه – ففي المسند: (1/195-196) بإسنادين رجالهما ثقات متصل إسنادهما كما في مجمع الزوائد: (5/325) ، وسنن الدارمي – كتاب السير – باب إخراج المشركين من جزيرة العرب –: (2/233) ، والسنن الكبرى للبيهقي – المكان المتقدم، ومسند أبي يعلى كما في مجمع الزوائد: (5/325) عن أبي عبيدة – رضي الله تعالى عنه – قال: آخر ما تكلم به النبي – صلى الله عليه وسلم –: "أخرجوا اليهود أهل الحجاز، وأهل نجران من جزيرة العرب" ورواه الحميدي في مسنده بلفظ: "أخرجوا يهود الحجاز من الحجاز".
ونقلت ذلك أمنا أم سلمة – رضي الله تعالى عنها – روى ذلك الطبراني من طريقين رجال أحدهما رجال الصحيح كما في مجمع الزوائد: (5/325) قالت: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "أخرجوا اليهود من جزيرة العرب".
وورد ذلك عن عمر بن عبد العزيز – رحمه الله تعالى – مرسلاً في الموطأ – كتاب الجامع – باب ما جاء في إجلاء اليهود من المدينة: (2/892) ، ومن طريقه البيهقي في المكان المتقدم – بلفظ: "لا يبقين دينان بأرض العرب".
وورد ذلك عن محمد بن شهاب الزهري – رحمه الله تعالى – مرسلاً أيضاً في المصدرين المتقدمين بلفظ: "لا يجتمع دينان في جزيرة العرب" قال مالك – رحمه الله تعالى –: قال ابن شهاب: ففحص عن ذلك عمر بن الخطاب – رضي الله تعالى عنه – حتى أتاه الثلج واليقين، أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "لا يجتمع دينان في جزيرة العرب" فأجلى يهود خيبر.
وروي ذلك عن أبي رافع – رضي الله تعالى عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أمر أن لا ندع في المدينة ديناً غير الإسلام، رواه الطبراني، وفيه شريك وعبد الله بن محمد بن عقيل وفيهما ضعف، وحديثهما حسن كما في مجمع الزوائد: (5/325) .
وروي ذلك عن عليّ – رضي الله تعالى عنه – فيما عهد إليه النبي – صلى الله عليه وسلم – ففي المسند: (1/87) عن عليّ – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "يا عليّ إن وليت الأمر بعدي فأخرج أهل نجران من جزيرة العرب"، قال الهيثمي في المجمع: (5/185) فيه قيس غير منسوب، والظاهر أنه قيس بن الربيع وهو ضعيف، وقد وثقه شعبة والثوري، وبقية رجاله ثقات وقد جزم الشيخ شاكر في تعليقه على المسند: (2/70) "661" بأن قيساً هو ابن الربيع، وأنه ثقة، ولذلك قال: إسناده صحيح.
وقد عزم نبينا – صلى الله عليه وسلم – على إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب إن عاش ففي صحيح مسلم – كتاب الجهاد والسير – باب إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب: (3/1388) ، وسنن الترمذي – كتاب السير – باب ما جاء في إخراج اليهود من جزيرة العرب: (5/330) ، وسنن أبي داود، والبيهقي في المكانين المتقدمين، والمسند: (1/29، 32) عن عمر بن الخطاب – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلا مسلماً". وفي رواية للترمذي والبيهقي وأحمد: "لئن عشت إن شاء الله لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أترك فيها إلا مسلماً".
تلك تسعة روايات من الصحابة الكرام – رضي الله تعالى عنهم – وهذه رواية عاشرة ثبتت في المسند: (1/32) موقوفة على عمر – رضي الله تعالى عنه – قال: "لئن عشت إن شاء الله لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب"، قال الشيخ شاكر في تعليقه على المسند: (1/248) "215" إسناده صحيح، وقد عاش وحقق الله له أمنيته كما تقدم في رواية الموطأ وسنن البيهقي – رضي الله تعالى عنه –، وجزاه عن الإسلام وأهله خير الجزاء. وحكى الطبري في تفسيره نحو هذا عن بعض السلف وعبارته: (10/133-134) ، وقال قوم كان العهد الذي عاهد الله هؤلاء المنافقون شيئاً نووه في أنفسهم ولم يتكلموا به، ثم ساق بسنده إلى سعيد بن ثابت قال: قوله – عز وجل –: " وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللهَ " الآية إنما هو شيء نووه في أنفسهم ولم يتكلموا به، ألم تسمع إلى قوله: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ} التوبة78.
خامس الأمور في تفنيد تلك الرواية عند أهل الحبور:
إن سورة التوبة من أواخر ما نزل من القرآن الكريم، كما ثبت ذلك عن عثمان بن عفان – رضي الله تعالى عنه – وتحدثت آياتها عما جرى في غزوة تبوك وكانت في رجب سنة تسع كما في سيرة ابن هشام: (2/515) والمعتمد أن فريضة الزكاة كانت سنة اثنتين للهجرة المباركة قال ابن كثير في البداية والنهاية: (3/347) : وفيها – السنة الثانية – فرضت الزكاة ذات النصب وفرضت زكاة الفطر 1هـ ونسب الصنعاني في سبل الإسلام: (2/159) ذلك القول لأكثر العلماء وانظر تفصيل القول في هذه المسألة في فتح الباري: (3/266) ودلل الحافظ على أن الزكاة كانت مفروضة سنة خمس يقيناً، وذلك لا يمنع تقدم فريضتها فاعلم.
وإذا كانت سورة التوبة من أواخر ما نزل من القرآن الكريم، وتحدثت عما وقع في غزوة تبوك وهي في السنة التاسعة فكيف يلتئم ذلك مع ما ورد في تلك الرواية المنكرة، وأنزل الله – جل وعلا –: " خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً " ونزلت عليه فرائض الصدقة إلخ مع أن فرضية الزكاة كان السنة الثانية للهجرة الشريفة.
وقد أشار إلى الأمور الثلاثة الأخيرة رشيد رضا في تفسير المنار: (1/561) فقال بعد أن أورد قصة ثعلبة المتقدمة: وفي الحديث إشكالات تتعلق بسبب نزول الآيات:
1- ظاهر سياق القرآن أن نزول الآية كان في سفر غزوة تبوك، وظاهره أيضاً أن الآية نزلت عقيب فرضية الزكاة، والمشهور أنها فرضت في السنة الثانية.
2- عدم قبول توبة ثعلبة، وظاهر الحديث لا سيما بكاؤه أنها توبة صادقة.
3- كان العمل جارياً على معاملة المنافقين بظواهرهم، وظاهر الآيات أنه يموت على نفاقه، ولا يتوب من بخله وإعراضه، وأن النبي – صلى الله عليه وسلم – عامله بذلك، لا بظاهر الشريعة ولا نظير له في الإسلام 1هـ مختصراً مرتباً.
* وصفوة المقال:
إن تلك القصة باطلة عند العلماء الأطهار، لخمسة أمور لها اعتبار، فسندها منكر لا يثبت بحال، وثعلبة بدري من الأبرار – عليه رضوان العزيز الغفار – وفيها مخالفة لنصوص الشرع الثابتة الواضحة وضوح الشمس في رابعة النهار، الدالة على قبول التوبة ما لم يغرغر العبد بروحه أو تطلع الشمس عليه من مغربها في هذه الدار، ثم القصة متناقضة عند أولي الاعتبار حيث لم تعط لثعلبة حكم المؤمنين الأخيار، ولا حكم الكافرين الفجار، ولا نظير لذلك في شريعة الواحد القهار وخامس الأمور مخالفة تلك القصة للتاريخ، ففريضة الزكاة كانت في السنة الثانية، وسورة التوبة من أواخر ما نزل من القرآن الكريم.
القول الثاني في سبب نزول الآية الكريمة:
قيل أنها نزلت في حاطب بن أبي بلتعة – رضي الله تعالى عنه – كان له مال بالشام فأبطأ عنه، فجهد له جهداً شديداً، فحلف بالله لئن أتانا الله من فضله – أي من ذلك المال – لأصدقن منه، ولأصلن، فآتاه ذلك المال، فلم يفعل، فنزلت الآية الكريمة: " وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللهَ " إلخ ذلك في زاد المسير، والجامع لأحكام القرآن، ولباب التأويل، والبحر المحيط، في الأماكن المتقدمة.
وهذا السبب باطل لأمرين، هاكهما لتقربهما العين:
ا) وردت تلك الرواية عن طريق محمد بن السائب الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما -، وقد تقدم بيان حال الكلبي عند الكلام على القول الأول ونقلت هناك إقرار الكلبي على نفسه بالكذب وقوله: ما حدثت عن أبي صالح عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – فهوكذب فلا ترووه.
ب) حاطب بن أبي بلتعة من أهل بدر الكرام، وممن شهد بيعة الرضوان – عليهم جميعاً رضوان ربنا الرحمن – وتقدم عند القول الأول وإخبار النبي – صلى الله عليه وسلم – بأنه لا يدخل النار أحد شهد بدراً والحديبية، وأخبر عن ربه – عز وجل – أنه قال لأهل بدر: "اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم"، وثبت في صحيح مسلم – كتاب فضائل الصحابة – باب من فضائل حاطب ابن أبي بلتعة وأهل بدر: (16/57) بشرح النووي، وسنن الترمذي – كتاب المناقب – باب فيمن سب أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم –: (9/384) ، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، والمسند: (3/349) عن جابر بن عبد الله – رضي الله تعالى عنهما – ورواه أحمد في المسند: (6/362) والطبراني ورجالهما رجال الصحيح كما في مجمع الزوائد: (9/3.4) عن أم مبشر أيضاً – رضي الله تعالى عنها – أن عبداً لحاطب جاء رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يشكو حاطباً، فقال: يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ليدخلن حاطب النار، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "كذبت لا يدخلها، فإنه شهد بدراً والحديبية" وإذا كان الأمر كذلك فكيف يعقبه الله – عز وجل – نفاقاً في قلبه إلى يوم يلقاه، هذا لا يقول به عاقل، انظر ترجمة حاطب بن أبي بلتعة – رضي الله تعالى عنه – في الاستيعاب: (1/348-351) على هامش الإصابة، وأسد الغابة: (1/431-433) والإصابة: (1/200) القسم الأول، وتجريد أسماء الصحابة: (1/113-114) وطبقات ابن سعد: (3/114-115) .
القول الثالث في سبب نزول الآية:
قيل: إن ثعلبة بن حاطب، ومعتب بن قشير خرجا على ملأ فقالا: والله لئن رزقنا الله لنصدقن فلما رزقهما بخلا، فنزلت هذه الآية ورد ذلك في زاد المسير، والجامع لأحكام القرآن، والبحر المحيط – في الأماكن المتقدمة – منسوباً إلى الحسن ومجاهد – عليهما رحمة الله تعالى –.
وهذا القول باطل، وقد تقدم عند بيان بطلان القول الأول استحالة نزولها في ثعلبة بن حاطب – رضي الله تعالى عنه –، وذكرت هناك أيضاً عدم صحة نزولها أيضاً في معتب بن قشير – رضي الله تعالى عنه – لأنه بدري، وما اتهم به فبعضه لم يثبت ولا يصح، وبعضه له فيه عذر الاجتهاد، وخطؤه مغفور عند رب العباد، إن شاء الرحيم التواب، انظر ترجمته في الاستيعاب: (3/462) ، وفيه: شهد بدراً وأحداً، وكان قد شهد العقبة 1هـ والإصابة: (3/443) – القسم الأول –، وتجريد أسماء الصحابة: (2/86) ، وأسد الغابة: (5/222) ، والاستبصار: (290) .
القول الرابع في سبب نزول الآية:
قيل: إنها نزلت في نبتل بن الحارث، وجد بن قيس، وثعلبة بن حاطب، ومعتب بن قشير، قالوا: لئن آتانا الله من فضله لنصدقن، فلما آتاهم من فضله بخلوا به، فنزلت الآية الكريمة. وورد ذلك في الكتب الثلاثة المتقدمة منسوباً إلى الضحاك – عليه رحمة الله تعالى –.
وهذا القول لا يصح، وهو مردود كسابقه، وقد علمت بالأدلة القوية بطلان نزولها في ثعلبة ابن حاطب، ومعتب بن قشير – رضي الله تعالى عنهما – وأما الآخران فقد اتهما بالنفاق، وقد قيل: إن الجد بن قيس تاب وحسن إسلامه كما في الاستيعاب: (250-251) ، وأسد الغابة: (1/327) ، والإصابة: (1/228-229) القسم الأول، وتجريد أسماء الصحابة: (1/80) .
وأما نبتل بن الحارث فقال ابن حجر في الإصابة: (3/549) القسم الأول – ذكره أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب النسب مقروناً بأخيه أبي سفيان، وقد ذكره ابن الكلبي ثم البلاذري في المنافقين، فيحتمل أن يكون أبو عبيد اطلع على أنه تاب.
قال عبد الرحيم – غفر الله له ذنوبه أجمعين –: وعلى فرض عدم توبة الجد بن قيس، ونبتل بن الحارث مما اتهما به من النفاق، فليس في قصتهما ما في قصة ثعلبة من مجيئه بصدقته إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – ثم إلى خلفائه الثلاثة – رضي الله تعالى عنهم – من بعده، وعدم قبولهم جميعاً لصدقته، إنما غاية ما في الأمر أنهما عاهدا الله الكريم على الإحسان إلى عباد الله المحتاجين، ومواساة الفقراء والمساكين، ثم بخلا على عباد الرحمن، ونكثا العهد مع ذي الجلال والإكرام، والأمر في هذا يسير، وليس في القول به مخالفة لشرع الله الجليل، هذا إن ثبت هذا القول، مع أن في النفس من ثبوته شيء كبير، لأن السند في تلك الكتب لم يذكر حتى نقف على حالة تلك الرواية، وعلى فرض ثبوتها، وثقة ناقليها، فهي منقول الضحاك – عليه رحمة الله تعالى – وذلك القول وإن كان له حكم الإرسال ففي الحكم بموجب تلك الرواية المرسلة بالنفاق على بعض المكلفين غير مستقيم، يضاف إلى هذا أن تلك الرواية تركت في حق ثعلبة بن حاطب، ومعتب بن قشير – رضي الله تعالى عنهما – ولم يؤخذ بها فيهما، لما علمت من حالهما، فعدم الأخذ بها أيضاً في حق الجد بن قيس، ونبتل بن الحارث أقوم واسم، والله – جل وعلا – أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه نبينا الكريم، والحمد لله العليّ الأكرم.(3/78)
التوبة75-78.
5- صدق في الأعمال، وتحقيق ذلك بمطابقة الأحوال الباطنة للأعمال الظاهرة، وحذار حذار من دلالة الظاهر على خلاف ما في الباطن كأن يتحلى المكلف بحلية الصادقين المخلصين، والزاهدين المتوكلين وليس منهم، فيلبس ثيابهم على غير قلوبهم وأرواحهم، فيكون كافياً في دلالة الظاهر على الباطن، فكم من واقف على هيئة الخشوع في صلاته، وقلبه غافل عن الصلاة لاه عنها، فمن ينظر إليه يراه قائماً بين يدي الله – عز وجل – وهو بالباطن قائم في السوق بين يدي شهوة من شهواته، وكم ممن يمشي على هيئة السكون والوقار وليس باطنه موصوفاً بذلك، فهذا وما قبله وما شاكلهما من الأفعال يعرب بلسان الحال عن الباطن إعراباً يكون المكلف فيه كاذباً، حيث دل الظاهر على خلاف ما هو في الباطن، ولا ينجو العبد من هذا إلا باستواء السريرة والعلانية، بأن يكون باطنه مثل ظاهره، أو خيراً من ظاهره.
... مما ينبغي التنبه له أن مخالفة الظاهر للباطن تعتبر كذباً وإن صدر ذلك من المكلف من غير التفات للخلق ودون قصد إلى نظرهم، وأما إذا قصد إطلاع الناس على أعماله الظاهرة فذلك الرياء المحبط للعمل في الآخرة، كما تقدم في القسم الثاني.(3/79)
6- صدق في مقامات الدين: وهذا القسم هو أعلا درجات الصدق عند المتقين، ولا يتم إلا بالرسوخ في تلك المقامات، وبلوغ المكلف فيها أعلى الدرجات، لأن الصدق لا يطلق إلا عند اكتمال حقيقة الشيء من جميع الجهات، قال رب المخلوقات – جل جلاله –: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} الحجرات15، وقال – عز وجل –: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} الأنفال2-3، وقال – جل ثناؤه –: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} البقرة177.
فمن ادعى الإيمان، فمن علامة صدقه في ذلك المقام، تحقيق تلك الأوصاف الحسان، ومن ادعى الخوف والرجاء، فلا يصدق في دعواه إلا إذا أخذ نفسه بما في هذا البحث المبارك وهكذا الأمر في سائر مقامات الدين، كالزهد والرضا، والتوكل، وحب رب العالمين، فتنبه يا أخي ولا تكن من الغافلين.(3/80)
وصفوة الكلام يا أخا الإسلام: إن منزلة الصدق في شرع الرحمن، ميزت أهل النفاق من أهل الإيمان، وفرقت بين سكان الجنتان وأهل النيران، قال ذي الجلال والإكرام: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} الأحزاب24، فالإيمان أساه الصدق، كما أن النفاق أساسه الكذب، ولا يجتمعان في قلب عبد. ثبت في مسند البزار وأبي يعلى بسند صحيح عن سعد بن أبي وقاص – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "يطبع المؤمن على كل خلة غير الخيانة والكذب (1)
__________
(1) انظر مجمع الزوائد – كتاب الإيمان – باب ما جاء أن الصدق من الإيمان –: (1/92) ، وقال: رواه البزار وأبو يعلى ورجاله رجال الصحيح، وقال المنذري في الترغيب والترهيب: (3/595) ، رواته رواة الصحيح، وذكره الدارقطني في العلل مرفوعاً وموقوفاً، وقال: الموقوف أشبه بالصواب 10هـ، ونسب العراقي تخريجه أيضاً في تخريج أحاديث الإحياء: (3/133) إلى ابن عدي في مقدمة الكامل، وغلى ابن أبي الدنيا في الصمت، وذكر كلام الدارقطني المتقدم، وفي فيض القدير: (6/463) ، قال ابن حجر في الفتح: سنده قوي، والحديث عزاه السيوطي في الفتح الكبير: (1/1003) إلى سنن الدارقطني، وسنن البيهقي، ونص على أنه حسن.
والحديث رواه الإمام أحمد في المسند: (5/252) عن أبي أمامة – رضي الله تعالى عنه – وهو منقطع بين الأعمش وبين أبي أمامة كما في مجمع الزوائد: (1/92) ، والترغيب والترهيب: (3/595) وعزا تخريجه العراقي في تخريج أحاديث الإحياء: (3/133) إلى مصنف ابن أبي شيبة ومقدمة الكامل لابن عدي.
ورواه الطبراني في الكبير عن ابن عمر – رضي الله تعالى عنهما – كما في مجمع الزوائد: (1/93) وفيه عبيد الله بن الوليد وهو ضعيف، ورواه عنه البيهقي في شعب الإيمان عن طريق آخر ضعيف أيضاً كما في فيض القدير: (6/463) .
والرواية الأولى ثابتة كما تقدم، وتغني عن الطريقين الآخيرين، وبها يتقويان، وقد ورد الحديث موقوفاً على ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه – عند الطبراني في معجمه الكبير بسند رجاله ثقات كما في مجمع الزوائد: (1/93) .(3/81)
".
والصدق خير للعبد من العاجل والآجل، والخلل فيه ضرر على العبد في دار الزوال ودار القرار، أما خيرية ذلك في دار الانتقال فيشير إليها ما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن حكيم بن حزام – رضي الله تعالى عنه – أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم – قال: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما"، قال الحافظ في الفتح: وفي الحديث أن الدنيا لا يتم حصولها إلا بالعمل الصالح، وأن شئوم المعاصي يذهب بخيري الدنيا والآخرة (1) .
__________
(1) انظر صحيح البخاري – كتاب البيوع – باب إذا بين البيعان، ولم يكتما ونصحا –: (4/309) ، وباب ما يمحق الكذب والكتمان في البيع –: (4/312) ، وباب "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا": (4/328) ، وباب إذا كان البائع بالخيار هل يجوز البيع؟: (4/334) بشرح ابن حجر في الجميع، وفي المكان الأول وكلامه المتقدم وصحيح مسلم – كتاب البيوع – باب الصدق في البيع والبيان –: (3/1164) ، وسنن أبي داود – كتاب البيوع – باب في خيار المتابعين: (3/737-738) ، وسنن الترمذي – كتاب البيوع – باب ما جاء في البيعين بالخيار ما لم يتفرقا –: (4/245) ، وسنن النسائي – كتاب البيوع – باب ما يجب على التجار من التوقية في مبايعتهم: (7/215) ، وباب وجوب الخيار للمتابعين قبل افتراقهما –: (7/217) ، وسنن الدارمي – كتاب البيوع – باب في البيعان بالخيار ما لم يتفرقا –: (2/250) ، والمسند: (3/402، 403، 434) ، ومسند الطيالسي: (1/266) – منحة المعبود –.(3/82)
وأما خيرية ذلك للمكلفين يوم الدين، فيشير إليها قول رب العالمين: {قَالَ اللهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} المائدة119، وقال – جل وعلا – في سورة الزمر: {وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} الزمر33-35.
فالصدق سيف الله في أرضه، ما وضع على شيء إلى قطعه، ولا واجه باطلاً إلا صرعه، من صال به لم ترد صولته، ومن نطق به علت على الخصوم كلمته، فهو روح الأعمال، ومحك الأحوال، والحامل على اقتحام الأهوال، والباب الذي دخل منه الواصلون إلى حضرة ذي الجلال، وهو أساس بناء الدين، وعمود فساط اليقين، ودرجته تالية لدرجة "النبوة" التي هي أرفع درجات العالمين، ومن مساكنهم في الجنات تجري العيون والأنهار إلى مساكن الصديقين، كما كان من قلوبهم إلى قولبهم في هذه الدار مدد متصل ومعين، قال بعض الصالحين: من لم يؤد الفرض الدائم لم يقبل منه الفرض المؤقت، قيل: وما الفرض الدائم؟ قال: الصدق (1) .
__________
(1) ذلك هو نص كلام الإمام ابن القيم – رحمه رب العالمين – في مدارج السالكين: (2/268-279) وبعضه موجود في مجموع الفتاوى: (10-15) فانظره ففيه تقرير كون الصدق والإخلاص هما في الحقيقة تحقيق الإيمان والإسلام والفارق بين المؤمن والمنافق هو الصدق.(3/83)
ولذلك أمر الله رسوله – صلى الله عليه وسلم – أن يسأله أن يجعل مدخله ومخرجهن على الصدق، فقال – جل وعلا – في سورة الإسراء: {وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً} الإسراء80، وأخبر الله الكريم عن خليله إبراهيم – على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأتم التسليم – أنه سأله أن يهب له لسان صدق في الآخرين، فقال في سورة الشعراء: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} الشعراء83-84، وبشر الله عباده المؤمنين بأن لهم قدم صدق، ومقعد صدق فقال – جل جلاله – في فاتحة سورة يونس: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ} يونس1-2، وقال – جل ثناؤه – في آخر سورة القمر {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} القمر54-55 (1) .
__________
(1) أفاد ذلك الجمع والترتيب الإمام ابن القيم في مدارج السالكين: (2/270-272) ، وفسره بما خلاصته: فهذه خمسة أشياء: مدخل الصدق، ومخرج الصدق، ولسان الصدق، وقدم الصدق، وحقيقة الصدق في هذه الأشياء: هو الحق الثابت المتصل بالله – عز وجل – الموصل إليه – جل وعلا – وهو ما كان به وله من الأقوال والأعمال، وجزاء ذلك في الدنيا والآخرة.
فمدخل الصدق ومخرج الصدق: أن يكون دخوله حقاً ثابتاً لله – عز وجل – وفي مرضاته، فالظفر بالبغية وحصول المطلوب، ضد مخرج الكذب ومدخله الذي لا غاية له يوصل إليها، ولا له ساق ثابتة يقوم عليها، وما خرج أحد من بيته ودخل سوقه، أو مدخلاً آخر إلا بصدق أو كذب، فمخرج كل واحد ومدخله لا يعدو الصدق والكذب، والله المستعان.
وأما لسان الصدق: فهو الثناء الحسن عليه من سائر من يأتي بعده من الأمم بالصدق، ليس ثناء الكذب، كما قال – جل وعلا – عن إبراهيم وذريته من الأنبياء والمرسلين – على نبينا وعليهم أفضل الصلاة وأتم التسليم –: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلّاً جَعَلْنَا نَبِيّاً وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً} مريم49-50، والمراد باللسان ههنا: الثناء الحسن، فلما كان الصدق باللسان، وهو محله، أطلق الله ألسنة العباد بالثناء على الصادق جزاء وفاقاً، وعبر به عنه.
وأما قدم الصدق، ففسر بالجنة، وفسر بمحمد – صلى الله عليه وسلم – وفسر بالأعمال الصالحة والثلاثة مرادة قدم صدق، لأن حقيقة القدم ما قدموه وما يقدمون عليه، وهم قدموا الأعمال الصالحة، ورأس ذلك الإيمان بمحمد – صلى الله عليه وسلم – ومحبته ويقدمون على الجنات الواسعات عند رب الأرض والسموات.
وأما مقعد الصدق فهو الجنة عند الرب – تبارك وتعالى – 10هـ وإنما ذكر لفظ المقعدون المجلس للإشارة إلى أنه لا زوال له، وهم يلازمون ذلك المكان، ولبثهم فيه لا يعتريه انفصام كما في الإتقان: (2/366) ، وفي روح المعاني: (27/96) نقلاً عن جعفر الصادق – رحمه الله تعالى –: مدح المكان بالصدق، فلا يقعد فيه إلا أهل الصدق، وهو المقعد الذي يصدق الله فيه مواعيد أوليائه بأنه يبيح – عز وجل – لهم النظر إلى وجهه الكريم 10هـ من علينا بذلك إنه رؤوف رحيم.(3/84)
هذه هي منزلة الصدق، وتلكم هي أقسامه العظام، وهيهات ثم هيهات أن توجد على وجه التمام والكمال في إنسان، فكل واحد منا إن لم يكن متحقق النفاق، فيحتمل كونه من أهله باتفاق، وإذا تردد حالنا بين ذينك الأمرين، فينبغي أن يعظم خوفنا من رب الكونين، والناظر في حياة سلفنا الصالح يرى تحقق ذلك فيهم رأى العين، ففي أصح الكتب الصنفة عقد الإمام البخاري – عليه رحمة الملك الباري – رباب في كتاب الإيمان، يشير إلى شدة خوف سلفنا الكرام، فقال – عليه رحمة ربنا الرحمن –: باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر، وقال إبراهيم التيمي: ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذباً، وقال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول إنه على إيمان جبريل وميكائيل، ويذكر عن الحسن: ما خافه إلا مؤمن، ولا أمنه إلا منافق، وما يحذر من الإصرار على النفاق والعصيان من غير توبة لقول الله تعالى: {وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} آل عمران135.(3/85)
وشرح الحافظ ابن حجر – عليه رحمة الله تعالى – تلك النقول في صفحتين كبيرتين، وخلاصتهما قوله: وقال إبراهيم التيمي وهو من فقهاء التابعين وعبادهم، وقوله: مكذوباً يروى بفتح الذال، يعني: خشيت أن يكذبني من رأى عملي مخالفاً لقولي، فيقول: لو كنت صادقاً ما فعلت خلاف ما تقول وإنما قال ذلك لأنه كان يعظ الناس، ويروى بكسر الذال، وهي رواية الأكثر، ومعناه: أنه مع وعظه الناس لم يبلغ غاية العمل، وقد ذم الله – عز وجل – من أمر بالمعروف، ونهى عن المنكر، وقصر في العمل فقال – جل وعلا –: {كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} الصف3، فخشي أن يكون مكذباً، أي: مشابهاً للمكذبين، وهذا التعليق وصله المصنف في تاريخه عن أبي نعيم، وأحمد بن حنبل في الزهد عن ابن مهدي كلهما عن سفيان الثوري عن أبي حبان التيمي عن إبراهيم المذكور.
قوله: قال ابن أبي مليكه، هذا التعليق وصله ابن أبي خيثمة في تاريخه، لكن أبهم العدد وكذا أخرجه محمد بن نصر المروزي مطولاً في كتاب الإيمان له، وعينه أبو زرعة الدمشقي في تاريخه من وجه آخر مختصراً كما هنا، وقد أدرك ابن أبي مليكة جماعة من أجلة الصحابة الكرام، وروى عنهم منهم أمنا عائشة، وأختها أسماء، وأمنا أم سلمة، والعباد له الأربعة: ابن عباس، وابن عمر، وابن الزبير، وابن عمرو، وأبو هريرة وغيرهم – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – وقد جزم بأنهم كانوا يخافون النفاق في الأعمال، ولم ينقل عنهم خلاف ذلك، فكأنه إجماع، وذلك لأن المؤمن قد يعرض عليه في عمله فيشوبه مما يخالف الإخلاص، ولا يلزم من خوفهم من ذلك وقوعه منهم، بل ذلك على سبيل المبالغة منهم في الروع والتقوى، وقال ابن بطال: إنما خافوا لأنهم طالت أعمارهم حتى رأوا من التغير ما لم يعهدوه ولم يقدروا على إنكاره، فخافوا أن يكونوا داهنوا بالسكوت.(3/86)
قوله: ويذكر عن الحسن، هذا التعليق وصله جعفر الفريابي في كتاب صفة المنافق له من طرق متعددة بألفاظ مختلفة، وقد يستشكل ترك البخاري الجزم به مع صحته عنه، وذلك محمول على قاعدة ذكرها لي شيخنا أبو الفضل الحافظ العراقي – رحمه الله تعالى – وهي: أن البخاري لا يخص صيغة التمريض يضعف الإسناد، بل إذا ذكر المتن بالمعنى، أو اختصره أتى بها أيضاً ـ لما علم من الخلاف في ذلك، فهنا كذلك، وقد أوقع اختصاره له لبعضهم الاضطراب في فهمه، فقال الإمام النووي: "ما خافه إلا مؤمن، ولا أمنه إلا منافق"، يعني: الله – عز وجل -، وكذا شرحه جماعة، وهذا الكلام وإن كان صحيحاً لكنه خلاف مراد المصنف، وخلاف مراد من نقله عنه، والذي أوقعهم في هذا هو الاختصار، وإلا فسياق كلام الحسن البصري يبين أنه إنما أراد النفاق فلنذكره، روى الفريابي عن المعلى بن زياد قال: سمعت الحسن يحلف في هذا المسجد بالله الذي لا إله إلا هو ما مضى مؤمن قط ولا بقي إلا وهو من النفاق مشفق، ولا مضى منافق قط ولا بقي إلا وهو من النفاق آمن، وكان يقول: من لم يخف النفاق فهو منافق، وروى الإمام أحمد في كتاب الإيمان عن الحسن قال: والله ما مضى مؤمن ولا بقي إلا وهو يخاف النفاق، وما أمنه إلا منافق.(3/87)
قوله: وما يحذر، وهو بضم أوله، وتشديد الذال المعجمة، ويورى بتخفيفها، وما مصدرية، والجملة في محل جر لأنها معطوفة على خوف، أي باب ما يحذر، وفصل بين الترجمتين بالآثار لتعليقها بالأولى فقط، ومفهوم الآية التي ذكرها: مدح من استغفر لذنبه ولم يصر، وذم من لم يفعل ذلك ومن أصر على نفاق المعصية خشي عليه أن يفضي به إلى نفاق الكفر، وكأن المصنف لمح بحديث عبد الله بن عمرو – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – المخرج عند أحمد مرفوعاً قال: ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون، أي: يعلمون أن من تاب تاب الله عليه، ثم لا يستغفرون، قاله مجاهد وغيره، وللترمذي عن أبي بكر الصديق – رضي الله تعالى عنه – مرفوعاً: "ما أصر من استغفر، وإن عاد في اليوم سبعين مرة" إسناد كل منهما حسن (1) .
__________
(1) انظر صحيح البخاري وشرحه فتح الباري: (1/109-112) ، وانظر أثر إبراهيم التيمي موصولاً كما ذكر الحافظ في التاريخ الكبير: (1/335) ، وكتاب الزهد: (363) ، وهو في كتاب صفات المنافقين: (51) والعباد له الأربعة هم كما ذكرتهم، كما نص على ذلك أئمة المصطلح قال السيوطي في ألفيته: (223) :
والبحْرُ وابنا عُمَرَ وعَمْرو ... وابنُ الزبير في اشتهار يجري
دون ابن ِ مسعود لهم عبادلة ... وغلطُوا مَنْ غيْر هذا مَالَ لَهْ<
وقيل لهم ذلك لأنهم عاشوا حتى احتيج إلى عالمهم، فإذا اجتمعوا على شيء قيل: هذا قول العبادلة، كما في فتح المغيث: (3/109) ، ومقدمة ابن الصلاح معها التقييد والإيضاح: (303) وتدريب الراوي: (405) .
وانظر حديث عبد الله بن عمرو – رضي الله تعالى عنهما – الذي عزاه الحافظ إلى المسند، في المسند: (2/165، 219) ، ورواه الطبراني أيضاً كما في مجمع الزوائد – كتاب التوبة – باب فيمن يصر على الذنب: (10/191) ، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح غير حبان بن زيد الشرعبي، ووثقه ابن حبان 10هـ وقد حكم عليه الحافظ في التقريب: (1/147) بأنه ثقة، ولفظ الحديث كاملاً: "ارحموا ترحموا، واغفروا يغفر لكم، ويل لأقماع القول، ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون" والأقماع جمع قمع بسكون الميم وفتحها ما يصب فيه الدهن وغيره كما في مختار الصحاح: (577) "قمع".
وانظر حديث أبي بكر – رضي الله تعالى عنه – كما عزاه الحافظ في سنن الترمذي – كتاب الدعوات – باب: "ما أصر من استغفر" –: (9/206-207) ، وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث أبي نصيرة وليس إسناده بالقوي، وهو في سنن أبي داود – كتاب الوتر – باب الاستغفار –: (2/177) ، والحديث حسنه الحافظ كما تقدم وفيه مولى أبي بكر وهو مجهول كما نص على ذلك الحافظ أيضاً في تهذيب التهذيب: (12/256-295) وعليه فلعله حسنه في الفتح لشواهده، أما حال السند على انفراد فقد قال الترمذي: ليس إسناده بالقوي، ونقل ذلك عنه العراقي في تخريج أحاديث الإحياء: (1/321) ، ولم يعترض عليه.(3/88)
وقد بلغ من شدة خوف سلفنا الطيبين من أخلاق المنافقين، أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يسأل حذيفة بن اليمان – عليهم رضوان ربنا الرحمن – هل سماه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من جملة المنافين، حسبا عهد إليه بسره في هذا الأمر العظيم، فيجيبه حذيفة – رضي الله تعالى عنهما –: لا، ولا أوءمن منها أحداً بعدك (1) . وقد تكرر ذلك منه، فدخل على أمنا أم سلمة – رضي الله تعالى عنها – فقال لها: بالله منهم أنا؟ فقالت: لا، ولا أبريء أحداً بعدك (2) .
__________
(1) روى ذلك ابن إسحاق بلاغاً، فقال: وذكر لنا في تفسير ابن كثير: (2/384) ، وثبت في صحيح مسلم – كتاب صفات المنافقين وأحكامهم –: (4/2143) ، والمسند: (4/320، 5/390) ، عن حذيفة – رضي الله تعالى عنه – قال قال النبي – صلى الله عليه وسلم –: "في أصحابي اثنا عشر منافقاً لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط، ثمانية منهم تكفيكهم الدبيلة سراج من نار يظهر في أكتافهم حتى ينجم من صدورهم" أي: يظهر ويعلو، وانظر مجمع الزوائد: (1/107، 113) – كتاب الإيمان – باب في المنافقين – ففيه عدة روايات بمعنى تلك الرواية.
(2) روى ذلك البزار بسند رجاله رجال الصحيح كما في مجمع الزوائد: (1/72) ، ونص الحديث كاملاً عن أم سلمة أن عبد الرحمن بن عوف دخل عليها – رضي الله تعالى عنهما – فقال: يا أمه قد خفت أن يهلكني مالي، أنا أكثر قريش مالاً، قالت يا بني فانفق، فإني سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول:"إن من أصحابي من لا يراني بعد أن أفارقه" فخرج عبد الرحمن بن عوف فلقي عمر فأخبره بالذي قالت أم سلمة – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – فدخل عليها عمر فقال: الحديث.(3/89)
وثبت في صحيح البخاري عن الأسود بن يزيد النخعي قال: كنا في حلقة عبد الله بن مسعود فجاء حذيفة – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – حتى قام علينا، فسلم ثم قال: لقد أنزل النفاق على قوم خير منكم، قال الأسود: سبحان الله، إن الله يقول: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً} النساء145، فتبسم عبد الله بن مسعود، وجلس حذيفة في ناحية المسجد، فقام عبد الله بن مسعود، فتفرق أصحابه، فرماني بالحصاة فأتيته، فقال حذيفة: عجبت من ضحكة، وقد عرف ما قلت لقد أنزل النفاق على قوم كانوا خيراً منكم ثم تابوا، فتاب الله عليهم (1) .
ولما قيل للحسن البصري – عليه رحمة الله تعالى –: إن أقواماً يقولون: إنا لا نخاف النفاق، قال: والله لأن أكون أعلم أني بريء من النفاق أحب إليّ من تلاع الأرض ذهباً، ولما قيل له: يقولون: إن لا نفاق اليوم، قال: لو هلك المنافقون لاستوحشتم في الطريق، ولو نبت للمنافقين أذناب ما قدرنا أن نطأ الأرض بأقدامنا (2) .
__________
(1) انظر صحيح البخاري – كتاب التفسير – سورة النساء – باب "إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ": (8/266) بشرح ابن حجر، ومراد حذيفة – رضي الله تعالى عنه – كما في الفتح ملخصاً ابتلي من كان من طبقة الصحابة بالنفاق، وارتد بعضهم ونافق، ومنهم من تاب وأناب، ومنهم من أصر على التباب، فاحذروا الاغترار، فإن القلوب تتقلب في الليل والنهار، والأعمال بالخواتيم فحذار حذار من الأمن من مكر رب العالمين، وإن كنتم في إيمانكم من الصادقين.
(2) انظر تلك النقول عن الحسن البصري – عليه رحمة الله تعالى – في الإحياء: (1/128-129) ، وفي: (4/169) قال الحسن: لو أعلم أني بريء من النفاق كان أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس. وانظر قوله هذا وما قبله في كتاب صفات المنافقين: (44، 48، 49) ومن نظم الزمخشري كما في ترجمته في آخر الكشاف: (4/309) .
زمانٌ كلٌ حِب ٍ فيه خَبٌ ... وطَعْمُ الخِل ِ خَلٌ لو يُذاقُ
لهم سُوقٌ بِضاعتُه نِفَاق ٌ ... فنَافِقْ فالنفاقُ له نَفَاقُ(3/90)
فإذا تأمل المسلم ذلك، وخاصة طالب العلم انخلع قلبه، وطار لبه، فنحن ندعي الإيمان، بل ونصف للناس الإسلام، وعندنا تفريط في العمل بشريعة رب الأنام، وتلك صفة المنافقين اللئام، كما قال حذيفة بن اليمان – عليهما رضوان رب الأنام –: المنافق الذي يصف الإسلام ولا يعمل به (1) ، وفي المسند بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو، وعقبة بن عامر – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم – قال: "أكثر منافقي أمتي قراؤها (2)
__________
(1) روى ذلك عن حذيفة – رضي الله تعالى عنه – أبو نعيم في حلية الأولياء: (1/282) ، والرازي في كتاب صفات المنافقين: (43) .
(2) انظر رواية عبد الله بن عمرو – رضي الله تعالى عنهما – في المسند: (2/175) ، وروى ذلك عنه الطبراني كما في مجمع الزوائد: (6/230) قال الهيثمي: ورجاله ثقات، وكذا رجال أحد إسنادي أحمد ثقات وحكم الشيخ شاكر في تعليقه على المسند: (10/162-164) رقم "6633، 6634، 6637" على إسناد المسند بالصحة، والحديث رواه ابن المبارك في الزهد: (152) ، والبيهقي في شعب الإيمان كما في جمع الجوامع: (1/137) ، وهو في كتاب صفات المنافقين: (33) .
وانظر رواية عقبة بن عامر – رضي الله تعالى عنه – في المسند: (4/151، 154) ، ورواها عنه الطبراني كما في مجمع الزوائد: (6/229) قال الهيثمي: واحد أسانيد أحمد ثقات أثبات، والحديث رواه أيضاً الخطيب في تاريخ بغداد: (1/357) والرازي في كتاب صفات المنافقين: (32-33) .
والحديث رواه الطبراني أيضاً عن عصمة بن مالك – رضي الله تعالى عنه – وفي سنده الفضل بن المختار وهو ضعيف كما في مجمع الزوائد: (6/230) .(3/91)
" وبأولئك المنافقين، يؤيد الله الدين وليس لهم خلاق عند رب العالمين، كما ثبت في الصحيحين عن رسولنا الكريم – عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم –: "إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر" وفي المسند: "إن الله – عز وجل سيؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم (1)
__________
(1) انظر صحيح البخاري – كتاب الجهاد – باب إن الله يؤيد الدين بالرجل الفاجر –: (6/179) وفي كتاب المغازي – باب غزوة خيبر –: (7/417) ، وفي كتاب القدر – باب العمل بالخواتيم –: (11/498) بشرح ابن حجر في الجميع، وصحيح مسلم – كتاب الإيمان – باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه: (1/105) ، وسنن الدارمي – كتاب السير – باب إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر –: (2/240-241) ، والمسند: (2/309) كلهم عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه –.
وانظر رواية المسند: (5/45) عن أبي بكرة – رضي الله تعالى عنه – رواها الطبراني ورجالهما ثقات كما في مجمع الزوائد: (5/302) .
ورواه عن أنس – رضي الله تعالى عنه – ابن حبان في صحيحه – موارد الظمآن – كتاب الجهاد – باب فيمن يؤيد بهم الإسلام –: (387) ، وأبو نعيم في الحلية: (3/13، 6/262) ، والبزار والطبراني في الأوسط وأحد أسانيد البزار ثقات الرجال: كما في مجمع الزوائد: (5/302) ،ورواه الضياء المقدسي في المختارة، والنسائي في سننه الكبرى كما في جمع الجوامع: (1/181) .
ورواه ابن حبان – المكان السابق – عن ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه – مرفوعاً، ورواه الطبراني عنه موقوفاً كما في مجمع الزوائد –: (5/303) .
ورواه الطبراني عن أبي موسى الأشعري – رضي الله تعالى عنه – بلفظ: "نزلت سورة نحواً من براءة، فحفظت منها: إن الله ليؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم" كما في مجمع الزوائد: (5/302) وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح غير على بن زيد وفيه ضعف، ويحسن حديثه لهذه الشواهد.
ورواه الطبراني أيضاً عن عبد الله بن عمر – رضي الله تعالى عنهما – قال قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "إن الله – عز وجل – ليؤيد هذا الدين برجال ما هم من أهله" كما في مجمع الزوائد: (5/302-303) ، وقال الهيثمي: فيه عبد الرحمن بن زياد بن أنعم وهو ضعيف لغير كذب فيه 1هـ قلت ويحسن أيضاً لما تقدم من الشواهد.
ورواه أيضاً الطبراني عن النعمان بن مقرن في ترجمة عمرو بن النعمان بن مقرن وضبب عليه، ولا يستحق التضبيب لأنه صواب، وقد ذكر المزي في ترجمة أبي خالد الوالبي أنه روى عن عمرو بن النعمان بن مقرن، وعن النعمان بن مقرن، قلت: ورجاله ثقات، قرر ذلك الهيثمي في مجمع الزوائد: (5/303) .
ومعنى قوله: ضبب عليه: كتب (صـ) ويسمى هذا تضبيب وتمريض، وهو: أن لا يمد الكاتب على ما ثبت نقلاً، وهو فاسد لفظاً أو معنى، أو ضعيف أو ناقص، خطاً أو له كالصاد، ولا يلزقه بالممدود عليه لئلا يظن ضرباً وإبطالاً، ويسمى ذلك ضبة لكون الحرف مقفلاً بها، لا يتجه لقراءة، كضبة الباب يقفل بها كما في تدريب الراوي: (298-299) ، وفي الألفية مع شرحها فتح المغيث:
وإن أتى في الأصْل لحْنُ أو خطأ ... فقيل: يروى كيف جاء غلطاً
ومذهبُ المحصلين يُصلِحُ ... ويقرأ الصّوابَ وهو الأرْجَحُ
في اللحْن لا يخْتلفُ المعنى به ِ ... وصوبوا الإبْقاء مع تضبيبهِ
ويذكر الصوابَ جانِباً كذا ... عن أكثر الشيوخ نقلاً أخِذا
والحديث رواه ابن النجار عن كعب بن مالك – رضي الله تعالى عنه – كما في جمع الجوامع: (1/177) ورواه أيضاً أبو نعيم في الحلية: (3/13) عن الحسن مرسلاً
وورد في معنى هذا الحديث عدة أحاديث فانظرها في مجمع الزوائد: (5/302-303) .
ولفظ حديث أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – كاملاً في الصحيحين، قال أبو هريرة – رضي الله تعالى عنه – شهدنا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – خيبر، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لرجل معه ممن يدعي الإسلام: " هذا من أهل النار " فلما حضر القتال قاتل الرجل من أشد القتال وكثرت به الجراح، فأثبتته، فجاء رجل من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: يا رسول الله، أرأيت الذي تحدثت أنه من أهل النار؟ قاتل في سبيل الله من أشد القتال، فكثرت به الجراح، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم –: "أما إنه من أهل النار" فكاد بعض المسلمين يرتاب، فبينما هو على ذلك إذا وجد الرجل ألم الجراح، فأهوى بيده إلى كنانته فانتزع منها سهماً فانتحر بها، فاشتد رجال من المسلمين إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقالوا: يا رسول الله، صدق حديثك، انتحر فلان فتقل نفسه، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "يا بلال قم فأذن، لا يدخل الجنة إلا مؤمن، وإن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر".(3/92)
".
واعلم أخا الإسلام أن النفاق نفاقان، أحدهما مخرج من ملة الإسلام، وملحق صاحبه في أسفل دركات النيران، ومحل هذا النفاق الجنان، حيث يظهر صاحبه الإيمان، ويبطن الكفران، ويدخل في هذا كل ما يستلزم ذلك من أوصاف أهل الخسران المنافية لأصل الإيمان، كأن لا يرى وجوب تصديق الرسول – صلى الله عليه وسلم – فيما أخبر، ولا وجوب طاعته فيما أمر، ولا وجوب الانتهاء عما عنه زجر، أو يحصل له المسرة بانخفاض الدين، وظهور المشركين، أو يظهر منه المساءة بعلو الدين، واندحار الكافرين، ونحو ذلك من صفات الملاعين، التي لا يكون صاحبها إلا عدواً لرب العالمين، ولرسوله الهادي الأمين – عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم –، وهذا هو النفاق المحض ويقال له: النفاق الأكبر.(3/93)
وأما النفاق الثاني فمحله الأعمال (1) ، كأن يطلب العلم لغير وجه ربنا ذي الجلال، كما هو حال المرائين، أو يطلب العلم بالله من غير خبره، أو العمل لله من غير أمره، كما ابتلي بالأول كثير من المتكلمين، وبالثاني كثر من المتصوفين، فكل من الفريقين يعتقد وجوب تصديق الرسول – صلى الله عليه وسلم – فيما قال وأخير، وطاعته بما طلب وأمر لكنهم في سلوكهم العلمي والعملي غير سالكين هذا المسلك، بل يسلكون مسلكاً آخر، إما من جهة القياس والنظر، وإما من جهة الذوق والوجد، وإما من جهة التقليد، وما جاء عن الرسول – صلى الله عليه وسلم – وإما أن يعرضوا عنه، وإما أن يردوه إلى ما سلكوه، فانظر نفاق هذين الصنفين مع اعترافهم باطناً وظاهراً بأن محمداً – صلى الله عليه وسلم – أكمل الخلق وأفضلهم، وهو رسول الله إليهم وأعلمهم، ويدخل في هذا النوع الإعراض عن الجهاد، والكذب في الحديث، والخلف في الوعد، والتلبس بالخيانة، والفجور عند المخاصمة، فكل هذا من خصال أهل النفاق ويقال له: النفاق الأصغر عند أهل السنة باتفاق.
__________
(1) وفي سنن الترمذي – كتاب الإيمان – باب ما جاء في عالمة المنافق –: (7/290-291) : روى عن الحسن البصري – رحمه الله تعالى – أنه قال: النفاق نفاقان: نفاق العمل، ونفاق التكذيب.(3/94)
والنفاق الأول، وهو النفاق الأكبر يوجب سوء الخاتمة قطعاً، ويفضي إلى أسفل دركات جهنم حقاً وصدقاً، والنفاق الثاني يؤدي إلى سوء الخاتمة أيضاً، فإن استحكمت في المكلف تلك الصفات الخبيثات فقد يتزعزع إيمانه عند الممات، فيلقى الله بالكفر وهو أشنع السيئات، وإذا كان فيه شيء من تلك الصفات الرديات، ولم تستحكم فيه كل البليات، فقد تعرض له عند السكرات، فيميل إليها لتعلقه بالقاذورات، فتفارقه روحه في تلك اللحظات، وهو وإن لم ينتزع منه الإيمان، فقد لقي ربه بالعصيان، وأمره مفوض إلى الرحمن، إن شاء عامله بالفضل والامتنان، وإن شاء عذبه بالنيران ثم نقله إلى دار الجنان، فهو الحكيم العليم، ذو الجلال والإكرام (1) .
__________
(1) انظر تقرير ذلك وتفصيله في مجموع الفتاوى: (28/434-436، 7/471، 639-640) وإحياء علوم الدين: (1/129، 4/169-171) .(3/95)
وإذا كنا نرى سلامة أنفسنا من النفاق الأول، ونحن منه سالمون بعون الله العظيم، فإن النفاق الثاني لي فيه درجة الراسخين، وإذا كان سلفنا الأبرار قد اتهموا أنفسهم بالنفاق تواضعاً من نفوسهم الكريمة وإجلالاً لربنا ذي الصفات العظيمة (1) ،
__________
(1) كما ثبت في صحيح مسلم – كتاب التوبة – باب فضل دوام الذكر والفكر في أمور الآخرة والمراقبة، وجواز ترك ذلك في بعض الأوقات، والاشتغال بالدنيا: (4/2106) ، وسنن الترمذي – كتاب صفة القيامة – باب "60": (7/201-202) ، وسنن ابن ماجه – كتاب الزهد – باب المداومة على العمل –: (2/1416) ، والمسند: (4/178، 346) ، وهذا لفظ صحيح مسلم: عن حنظلة الأسيدي – وكان من كتاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: لقيني أبو بكر – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قال قلت: نافق حنظلة، قال: سبحان الله، ما تقول؟ قال قلت: نكون عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيراً، قال أبو بكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر، حتى دخلنا على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قلت: نافق حنظلة يا رسول الله، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "وما ذاك؟ " قلت: يا رسول الله نكون عندك، تذكرنا بالنار والجنة، حتى كأنا رأى عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيراً، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "والذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونوا عندي، وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم، وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة" ثلاث مرات.
وورد نحوه عن أنس بن مالك أن أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً – قالوا للنبي – صلى الله عليه وسلم – وذكر الحديث بنحو ما تقدم، وهو في المسند: (3/175) ، ورواه البزار ورجاله رجال الصحيح غير زهير بن محمد الرازي وهو ثقة، ورواه أبو يعلى أيضاً كما في مجمع الزوائد: كتاب الزهد – باب ساعة وساعة –: (10/308) ، وباب علامة البراءة من النفاق –: (10/310) وقال أيضاً الهيثمي: رجال أبي يعلى رجال الصحيح غير غسان بن برزين وهو ثقة.
وورد نحوه أيضاً من رواية أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – قال: قلنا يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذا رأيناك رقت قلوبنا، وذكر الحديث بنحوه ما تقدم وفيه زيادة في آخره في وصف الجنة، وإجابة دعوة الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، والمظلوم، وهو في المسند: (2/304-305) ، وسنن الترمذي – كتاب صفة الجنة – باب ما جاء في صفة الجنة ونعيمها –: (8/210-211) ، وقال الترمذي: هذا حديث ليس إسناده بذلك القوي، وليس هو عندي بمتصل، وقد روي هذا الحديث بإسناد آخر عن أبي مدله عن أبي هريرة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – 10هـ وقد أخرج الإمام أحمد الحديث من طريق الإسناد الآخر الذي أشار إليه الترمذي، وأخرجه من ذلك الطريق الحميدي أيضاً في مسنده ك (2/486) ، قال الأرناؤوط في تعليقه على جامع الأصول: (10/497، 11/13) له طرق وشواهد يقوى بها، فهو حسن بشواهده، وفي حال سلفنا الأبرار يقال ما ذكره الغزالي في الإحياء: (4/170) ، وقال بعضهم لبعض العارفين: إني أخاف على نفسي النفاق، فقال: لو كنت منافقاً لما خفت النفاق، والأثر رواه الطبراني في الكبير بسند منقطع عن الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود – رضي الله تعالى عنه – كما في مجمع الزوائد – كتاب الإيمان – باب البراءة من النفاق: (1/114) .(3/96)
فحالي يختلف تماماً عن حالهم، فما أخبر إلا بما أنه فيّ محقق، ومنه وجل، والله الكريم، أسأل أن يتوب عليّ وعلى إخواني وأخواتي من المسلمين والمسلمات، وأن يتكرم علينا بتثبيت الإيمان في قلوبنا عند الممات، وأن يدخل عظيم جرمنا في عظيم عفوه، إنه واسع المغفرة كثير الرحمات.
وختاماً للكلام على النفاق، المؤدي لسوء خاتمة المكلف عند الفراق، وخذلانه يوم التلاق، أدعو بما دعا به سيد الخلق على الإطلاق – صلى الله عليه وسلم – فعسى ربنا الكريم الخلاق، يحفظنا من البلاء والشقاق، ويجعلنا من أهل الخير، إنه سميع الدعاء، ثبت في المستدرك بإسناد صحيح عن أنس بن مالك – رضي الله تعالى عنهما – قال: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول في دعائه: "اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل والجبن والبخل، والهرم والقسوة، والغفلة والعيلة والذلة والمسكنة، وأعوذ بك من الفقر والكفر، والفسوق والشقاق، والنفاق والسمعة والرياء، وأعوذ بك من الصمم والبكم، والجنون والجزام، والبرص وسيء الأسقام (1) .
__________
(1) انظر المستدرك – كتاب الدعاء –: (1/530-5319، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، واقره الذهبي، ورواه الطبراني في المعجم الصغير: (1/114) ، قال الهيثمي في مجمع الزوائد: (10/143) رجاله رجال الصحيح، وبعضه في الصحيح.
وروى أبو داود في سننه – كتاب الصلاة – باب في الاستعاذة –: (2/191) ، والنسائي في كتاب الاستعاذة – باب الاستعاذة من الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق –: (8/232) ، عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان يدعو يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الشقاق، والنفاق، وسوء الأخلاق"، ضعف الإمام النووي في الأذكار: (337) سنده، وأقره ابن علان في الفتوحات الربانية –: (7/222) ، وبذلك جزم الشيخ الأرناءوط في تعليقه على جامع الأصول: (4/357) ، وقوي حكمه بكلام الإمام النووي – عليهم جميعاً رحمة الله تعالى – وما قبله يشهد له، وله شواهد أخرى ثابتة فاعلم هذا، والله تعالى أعلم.(3/97)
البلية الثانية من السبب الثاني لسوء الخاتمة تلبس المكلف بالبدعة:
... وحد البدعة عند أهل الإيمان: كل محدث في دين الإسلام، عن طريق الزيادة أو النقصان، مع زعم التقرب بذلك إلى الرحمن، وهي قسمان:
القسم الأول:
... مكفرة لصاحبها الخلود بالنيران، وضابطها: إنكار ما هو متواتر من شرع الإسلام، ومعلوم من الدين بالضرورة عند كل من ينتمي إلى الإيمان، كما هو الحال في بدعة زنادقة الصوفية وبدعة الغلاة من القدرية الغوية، وأصحاب هذا النوع من البدعة يعاملون في الدنيا معاملة الكفار، ولهم في الآخرة جهنم وبئس القرار.
القسم الثاني:(3/98)
.. بدعة مفسقة، وهي: كل بدعة ليست مكفرة، وهي دركات، وشرها ما كان متعلقاً بالاعتقادات، كبدعة المعتزلة والخوارج، والمنحرفين عن الصوفية الذين لم يصلوا إلى دركة الزنديقية، وصاحب هذه البدعة يعتبر في الدنيا من أهل الإسلام، ويعزز بما يردعه عن الزيغ والطغيان، وأما في الآخرة فيستحق العذاب الشديد، دون أن يحكم عليه بالتخليد، إذا لقي الله بالتوحيد، وتعتبر بدعته من أخبث الذنوب، ويزيد جرمها على الكبائر من المعاصي عند علام الغيوب، وقد تقدم عند بيان طرق الشياطين في إغواء المكلفين، أن الشيطان يقدم إيقاع الناس بالبدعة على إيقاعهم بالكبيرة، ولا يقدم شيئاً على إيقاعهم بالبدعة إلا الشرك، والسبب في ذلك أن المبتدع مع مضادته لشرع الرحمن، ومحادته لرب الأنام، ومشاقته لخاتم الرسل الكرام – عليه وعليهم جميعاً أفضل الصلاة وأزكى السلام – يرى نفسه أنه من أهل الإحسان، وأنه سيدخل الجنة بسلام، ولذلك فهو يزدري أهل السنة الكرام، وهذا خسران ما بعده خسران، وهيهات هيهات أن يوفق للإقلاع عما هو عليه من التزوير والخداع والبهتان، والرجوع إلى جادة الإسلام، كما قال الإمام سفيان الثوري – عليه رحمة ربنا الرحمن –: إن البدعة أحب إلى إبليس من المعصية، لأن المعصية يتاب منها، والبدعة لا يتاب منها، قال شيخ الإسلام ابن تيمية – عليه رحمة رب البرية –: ومعنى قوله: إن البدعة لا يتاب منها: أن المبتدع الذي يتخذ ديناً لم يشرعه الله – جل وعلا – ولا رسوله – صلى الله عليه وسلم – قد زين له سوء عمله فرآه حسناً، فهو لا يتوب ما دام يراه حسناً لأن أول التوبة العلم بأن فعله شيء ليتوب منه، أو بأنه ترك حسناً مأموراً به أمر إيجاب أو استحباب ليتوب ويفعله، فما دام يرى فعله حسناً، وهو سيء في نفس الأمر فإنه لا يتوب (1) .
__________
(1) تقدم في صفحة: (121) بيان من نقل ذلك عن سفيان، وانظر مجموع الفتاوى: (10/9) ، وكرر نفس المعنى في: (14/467) ، فقال: والسالكون للشريعة المحمدية إذا ابتلوا بالذنوب لم تكن التوبة عليهم من الآصار والأغلال، بل من الحنيفية السمحة، وأما أهل البدع ... إلخ، وقال في: (28/470) : اتفق أئمة الإسلام على أن هذه البدع المغلظة شر من الذنوب التي يعتقد أصحابها أنها ذنوب ... إلخ، وانظر السنة لابن أبي عاصم: (1/21-22) .
وقد تقدم في صفحة: (102، 105، 121) ، كلاماً سديداً عن البدع والتنفير منها، وفي كتاب الملل والنحل: (12/43-51) تفصيل لأقسام البدعة، وحكم كل قسم، وبيان للكتب التي فصلت ذلك.(3/99)
.. قال مقيد هذه الصفات – غفر الله له السيئات –: ولتلك الاعتبارات، خشي علينا خير البريات – عليه صلوات وسلام رب الأرض والسموات – الوقوع في البدع المهلكات، وحذرنا من تلك الضلالات وأمرنا بالتمسك بسننه الثابتات الواضحات، حسبما سار عليه سلفنا الأبرار أهل العقول الزاكيات، ثبت في كتب الحديث الشريفات عن العرباض بن سارية – رضي الله تعالى عنه – قال: صلى بنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ذات يوم – صلاة الفداة – ثم أقبل علينا، فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كأن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ قال: "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن كان عبداً حبشياً فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة (1) .
__________
(1) انظر الحديث الشريف في سنن أبي داود – كتاب السنة – باب في لزوم السنة –: (5/13-15) ، وسنن الترمذي – كتاب العلم – باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدعة –: (7/319-321) ، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وسنن ابن ماجه – المقدمة باب إتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين: (1/15-16) ، والمستدرك – كتاب العلم –: (1/95-98) ، وقال: هذا حديث صحيح على شرطهما جميعاً، ولا أعرف له علة، وقد صح هذا الحديث والحمد لله، وأقره الذهبي، والمسند: (4/126-127) ، وعزاه لهؤلاء الخمسة ابن حجر في الفتح: (13/253) ، وكذلك المنذري في الترغيب والترهيب: (1/79) لكن دون الأخير، وانظر الحديث في سنن الدارمي – المقدمة – باب إتباع السنة –: (1/44-45) ، وفي السنة لابن أبي عاصم: (1/17-19، 29-30) ، وشرح السنة – كتاب الإيمان – باب الاعتصام بالكتاب والسنة –: (1/205) ، والشريعة للآجري: (46-47) ، وسنن النسائي – كتاب العيدين – باب كيف الخطبة –: (3/153-154) وفي الأخير بن زيادة: "وكل صالة في النار" وانطلاقاً من مدلول هذا الحديث الشريف كان شعار أهل السنة الكرام إتباع السلف وشعار المبتدعة اللئام ترك ذلك كما في مجموع الفتاوى: (4/155) ، وفي ترتيب المدارك: (1/172) سأل رجل مالكاً فقال: من أهل السنة؟ فقال الإمام مالك – رضي الله تعالى عنه –: الذين ليس لهم لقب يعرفون به، لا جهمي، ولا رافضي، ولا قدري.(3/100)
.. وقد كان لرأفته ورحمته بأمته – عليه صلوات الله وسلامه – يحذر أمته من الابتداع عند آكد لقاء، وأوجب اجتماع، ألا وهو شهود صلاة الجمعة ثبت في صحيح مسلم وغيره عن جابر بن عبد الله – رضي الله تعالى عنهما – قال: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش، يقول: "صبحكم ومساكم" ويقول: "بعثت أنا والساعة كهاتين" ويقرن بين أصبعيه السبابة والوسطى، ويقول: "فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدى هدى محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة" ثم يقول: "أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، ومن ترك مالاً فلأهله، ومن ترك ديناً أو ضياعاً فإليّ وعليّ (1) ".
... وتقدم في أوائل هذا الكتاب المبارك حديث أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنها – عن نبينا – صلى الله عليه وسلم –: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" وفي رواية لمسلم: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد (2) ".
__________
(1) انظر صحيح مسلم – كتاب الجمعة – باب تخفيف الصلاة والخطبة –: (2/592) ، ورواه ابن ماجه – المقدمة – باب اجتناب البدع والجدل –: (1/17) ، والمسند: (3/310، 319، 371) ، وشرح السنة: (1/16) ، والشريعة للآجري: (45-46) .
والحديث رواه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة – باب الاقتداء بسنن رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: (13/249) بشرح ابن حجر، والدارمي في المقدمة – باب في كراهية أخذ الرأي: (1/69) كلاهما موقوفاً على ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه – ولفظ البخاري عن مرة الهمداني قال: قال عبد الله إن أحسن الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد – صلى الله عليه وسلم – وشر الأمور محدثاتها ـ وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين.
(2) انظر صفحة: (7) وفي هذا المكان إثبات دوران الشرع المطهر على ثلاثة أحاديث هذا أحدها،.(3/101)
.. وقد تتابع سلفنا الصالح على التحذير من البدعة، والتواصي بالابتعاد عنها فقال عبد الله بن مسعود – رضي الله تعالى عنه –: اتبعوا ولا تبتدعوا، وقال رجل لابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – أوصني، فقال: نعم، عليك بتقوى الله والاستقامة، اتبع ولا تبتدع، وقال حذيفة بن اليمان – رضي الله تعالى عنهما –: يا معشر القراء، استقيموا فقد سبقتم سبقاً بعيداً، فإن أخذتم يميناً وشمالاً لقد ضللتم ضلالاً بعيداً (1) .
__________
(1) انظر الأول في كتاب الباعث على إنكار البدع والحوادث: (14) ، وسنن الدارمي – المقدمة – باب في كراهية أخذ الرأي: (1/69) ، ونسب الشاطبي في الموافقات: (1/79) تخريجه لابن وضاح أيضاً، وانظر الأثر الثاني في سنن الدارمي – المقدمة – باب من هاب الفتيا وكره التنطع والتبدع –: (1/53) ، والباعث على إنكار البدع والحوادث: (16) ، والأثران في شرح السنة: (1/214) ، والأثر الثالث في صحيح البخاري – كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة – باب الاقتداء بسنن رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: (13/250) بشرح ابن حجر وخلاصة ما قاله الحافظ:: (13/257) في شرحه وضبط: قوله " استقيموا" أي: اسلكوا طريق الاستقامة، وهي كناية عن التمسك بأمر الله – جل وعلا – فعلاً وتركاً، وقوله فيه: "سبقتم" بفتح أوله وحكي الضم، والأول المعتمد وقوله: "سبقاً بعيدا" أي: ظاهراً، ووصفه البعد لأنه غاية شأو السابقين، وكلام حذيفة – رضي الله تعالى عنه – منتزع من قول الله – تبارك وتعالى –: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} الأنعام153.(3/102)
.. واعلم أخا الإسلام أن الأمور تغيرت بعد موت نبينا – عليه الصلاة والسلام – وكلما امتد الزمان زادت البلايا والفتن وعظم الامتحان، وفي صحيح البخاري عن نبينا – عليه الصلاة والسلام –: "لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده، شر منه" وتقدم عن عبد الله بن مسعود – رضي الله تعالى عنه – موقوفاً عليه: لا يأتي عليكم عام إلا وهو شر من الذي قبله، أما إني لست أعني عاماً أخصب من عام، ولا أميراً خيراً من أمير، ولكن علماءكم وخياركم وفقهاءكم يذهبون، ثم لا تجدون منهم خلفاً، وتجيء أقوام يقيمون الأمر برأيهم (1) .
__________
(1) الحديثان مفصل تخريجهما في كتاب الملل والنحل: (3) ، وذكر الشيخ على القاري في مرقاة المفاتيح: (5/141) قصة في تقرير معنى الحديث فقال: وهذا من مقتضيات البعد البعدية عن زمان الحضرة النبوية، فإنها بمنزلة المشعل المنور للعالم، فكلما أبعد عن قربه وقه في زيادة ظلام من أنفسهم وقد أدركت الصحابة – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – مع كمال صفاء باطنهم التغير من أنفسهم بعد دفنه، وحكى عن بعض المشايخ الكبار قال: إني كنت في جامع شيراز مشغولاً بوردي في ليل إذ هجم على الخاطر، وأراد بالخروج من غير ظهور داع وباعث، فخرجت فإذا امرأة ملتصقة بجدار، فخطر لي أنها تريد بيتها وتخاف في طريقها من أهل الفساد، فذكرت لها ذلك فأشارت إليّ بأن نعم، فتقدمت عليها، وقلت لها ما قال موسى لابنة شعيب – على نبينا وعليهم الصلاة والسلام – إن أخطأت الطريق القويم ارمي حجراً يدلني على الطريق المستقيم، فأوصلتها إلى بيتها ورجعت إلى حزبي ولم يخطر لي حينئذ شيء من الخطرات النفسانية، ثم بعد مدة من الأزمنة المتأخرة عن تلك الحالة الروحانية هجس في النفس، وتوسوس في الخاطر من الأمور الشيطانية فتأملت أنه هل باعث هذا تغير في مأكلي، أو مشربي، أو ملبسي، أو في مقصدي لعبادتي وطاعتي، أو حدوث حادث في صحبة أحبتي، أو خلطة ظالم وأمثال ذلك، فما رأيت سبباً لظهور هذه الحالة إلا بعد زمان الحضرة، الموجب لحصول هذه الخطرة.(3/103)
.. وفي معجم الطبراني الكبير بسند صحيح عن خيثمة قال: قال عبد الله بن مسعود – رضي الله تعالى عنه – لامرأته: اليوم خير من أمس؟ فقالت: لا أدري، فقال: لكني أدري، أمس خير من اليوم واليوم خير من غد، وكذلك حتى تقوم الساعة، وفيه أيضاً عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – قال: ما أتى على الناس عام إلا أحدثوا فيه بدعة، أو أماتوا فيه سنة، حتى تحيا البدع، وتموت السنن (1) .
__________
(1) الأثر الأول في مجمع الزوائد: كتاب الفتن – باب فيما مضى من الزمان، وما بقي منه: (7/286) ، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح، وانظر الأثر الثاني فيه في: (1/188) كتاب العلم – باب في البدع والأهواء –. وقال الهيثمي: رجاله موثقون.(3/104)
.. وقد شعر الصحابة الأبرار، بما شعروا به بعد موت نبينا المختار – عليه صلوات وسلام ربنا العزيز الغفار – ففي المسند وسنن الترمذي وابن ماجه عن أنس بن مالك – رضي الله تعالى عنهما – قال: لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – المدينة أضاء فيها كل شيء فلما كان اليوم الذي مات فيه، أظلم منها كل شيء، وما نفضنا الأيدي عن النبي – صلى الله عليه وسلم – حتى أنكرنا قلوبنا" وفي لفظ للمسند: "وما فرغنا من دفنه حتى أنكرنا قلوبنا"، وفي لفظ الترمذي: "وما نفضنا الأيدي وإنا لفي دفنه حتى أنكرنا قلوبنا" وفي مسند البزار بسند جيد عن أبي سعيد الخدري – رضي الله تعالى عنه – قال: "وما نفضنا أيدينا من دفنه حتى أنكرنا قلوبنا" ويزيد أنس وأبو سعيد – رضي الله تعالى عنهما – بقولهما ذلك، أن القلوب تغيرت عما عهدوه في حياته – صلى الله عليه وسلم – من الألفة والشفاء والرقة، لفقدان ما كان يمدهم به من التعليم والتأديب – عليه صلوات الله وسلامه (1)
__________
(1) انظر أثر أنس بن مالك – رضي الله تعالى عنهما – في سنن الترمذي – كتاب المناقب – باب ما جاء في فضل النبي – صلى الله عليه وسلم –: (9/242) ، وقال الترمذي: هذا حديث صحيح غريب، وسنن ابن ماجه – كتاب الجنائز – باب ذكر وفاته ودفنه – صلى الله عليه وسلم –: (1/522) ، والمسند: (3/221، 268) ، وفي سنن الدارمي – المقدمة – باب في وفاة النبي –صلى الله عليه وسلم –: (1/41) ، والمسند أيضاً: (3/240، 287) عن أنس – رضي الله تعالى عنه – وذكر النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: شهدته يوم دخل المدينة فما رأيت يوماً قط كان أحسن ولا أضوأ من يوم دخل علينا فيه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وشهدته يوم موته، فما رأيت يوماً كان أقبح ولا أظلم من يوم مات فيه رسول الله – صلى الله عليه وسلم –.
وانظر نسبة قول أبي سعيد الخدري – رضي الله تعالى عنه – إلى مسند البزار في فتح الباري: (8/149) ، وفيه الحكم على سند الرواية بأنه جيد، وإيضاح ذلك القول وبيان معناه مأخوذ منه أيضاً، ونقله عنه الزقاني في شرح المواهب اللدنية: (8/297) ،وحكم الهيثمي في مجمع الزوائد: (9/38) على سند البزار بأن رجاله رجال الصحيح.
قال عبد الرحيم – غفر الله له ذنوبه أجمعين –: ومما يقرر ما تقدم ويوضحه بمثال عملي واقع ما رواه ابن ماجه في سننه – كتاب الجنائز – باب ذكر وفاته ودفنه – صلى الله عليه وسلم –: (1/522) عن أمنا أم سلمة زوج النبي – صلى الله عليه وسلم – قالت: كان الناس في عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذا قام المصلى يصلي لم يعد بصر أحدهم موضع قدميه، فلما توفي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان الناس إذا قام أحدهم يصلي لم يعد بصر أحدهم موضع جبينه فتوفي أبو بكر وكان عمر – رضي الله تعالى عنهما – فكان الناس إذا قام أحدهم يصلي لم يعد بصر أحدهم موضع القبلة، وكان عثمان بن عفان – رضي الله تعالى عنه – فكانت الفتنة، فتلفت الناس يميناً وشمالاً" قال الحافظ أبو عبد الله في تسلية أهل المصائب: (19) إسناده مقارب، ونقل ذلك عنه السفاريني في غذاء الألباب وأقره (2/335) ، وقال، قلت: والآن تفاقم الأمر، وتلاشى الحال فكم من قائم في الصلاة وهو غير مكترث بها، حتى لا يفرق بعين قلبه بين وقوفه فيها، ووقوفه في الأسواق، فيا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، ويا الله إنك لا تخيب من دعاك.
ومعنى قوله: إسناده مقارب – بكسر الراء وفتحها – أن بعض الرواة في سند الحديث يقارب الناس في حديثه، ويقاربونه أيضاً، وليس حديثه بشاذ ولا منكر، كما في فتح المغيث: (1/339) ، وانظر تدريب الراوي: (234) .
وقد قرر العلماء الكرام أن أعظم المصائب المصيبة في الدين، وأعظم مصائب الدين موت نبينا الهادي الأمين – عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم – انظر تسلية أهل المصائب: (18-19) ، وغذاء الألباب: (2/334-335) ، وشرح الزرقاني على المواهب اللدنية: (8/283-297) ، وفي صحيح مسلم – كتاب فضائل الصحابة – باب من فضائل أم أيمن – رضي الله تعالى عنه –: (4/1079-1908) ، وسنن ابن ماجه – كتاب الجنائز – باب ذكر وفاته ودفنه – صلى الله عليه وسلم –: (1/523-524) ، عن أنس بن مالك قال: قال أبو بكر بعد وفاة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لعمر – رضي الله تعالى عنهم أجمعين –: انطلق بنا إلى أم أيمن، كما كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يزورها، قال: فلما انتهينا إليها بكت، فقالا لها ما يبكيك؟ ما عند اله خير لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقالت: إني لأعلم أن ما عند الله خير لرسوله، ولكن أبكي لأن الوحي قد انقطع عن السماء، قال: فهيجتهما على البكاء فجعلا يبكيان معها، وورد في سنن ابن ماجه – كتاب الجنائز – باب ما جاء في الصبر على المصيبة –: (1/510) عن أمنا عائشة – رضي اله تعالى عنها – قالت: فتح رسول الله – صلى الله عليه وسلم – باباً بينه وبين الناس، أو كشف ستراً فإذا الناس يصلون وراء أبي بكر – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – فحمد الله على ما رأي من حسن حالهم ورجاء أن يخلفه اللهف يعم بالذي رآهم، فقال: يا أيها الناس أيما أحد من الناس أو من المؤمنين أصيب بمصيبة فليعتز بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري، فإن أحداً من أمتي، لن يصاب بمصيبة بعدي أشد عليه من مصيبتي" الحديث من رواية موسى بن عبيدة وهو ضعيف مع كونه من العباد كما في تقريب التهذيب: (2/286) ، وقد تقدم في هذا الكتاب المبارك: (.......) قول نبينا – صلى الله عليه وسلم – "أنا فرط أمتي لن يصابوا بمثلي" وهو حديث حسن، ويشهد لهذا فاعلم.(3/105)
–.
ولما رأي الصحابة الأطهار – رضي الله تعالى عنهم – ما ابتدعه بعض الأشرار، أنكروه غاية الإنكار، غضباً لله الواحد القهار، وتأثروا بسبب ذلك تأثراً يذيب الجبال الكبار، ثبت في صحيح البخاري عن الزهري قال: دخلت على أنس بن مالك – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – بدمشق، وهو يبكي، فقلت ما يبكيك؟، فقال: لا أعرف شيئاً مما أدركت إلا هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضيعت (1) .
__________
(1) انظر صحيح البخاري – كتاب مواقيت الصلاة – باب تضييع الصلاة عن وقتها –: (2/13) بشرح ابن حجر ورواه الترمذي في سننه – كتاب صفة القيامة – باب: "18" بلفظ: ما أعرق شيئاً مما كنا عليه على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقلت – القائل هنا أبو عمران الجوني – أين الصلاة؟ قال: أولم تصنعوا في صلاتكم ما قد علمتم، قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه من حديث أبي عمران الجوني، وقد روي من وجه عن أنس – رضي الله تعالى عنه –.
قال الحافظ في الفتح: (2/13-14) كان قدوم أنس – رضي الله تعالى عنه – إلى دمشق في إمارة الحجاج على العراق، قدمها شاكياً من الحجاج للخليفة، وهو إذ ذاك الوليد بن عبد الملك، ثم قرر معنى الأثر بأن مراد أنس – رضي الله تعالى عنه – أنه لا يعرف شيئاً موجوداً من الطاعات معمولاً به على وجهه غير الصلاة، وهذه الصلاة أيضاً قد ضيعت بإخراجها عن وقتها، لأن الحجاج وغيره من الأمراء في ذلك الوقت كانوا يؤخرون الصلاة عن وقتها، وإطلاق أنس – رضي الله تعالى عنه – محمول على ما شاهده من أمراء الشام والبصرة خاصة.
هذا وقد ورد في صحيح البخاري – كتاب الأذان – باب إثم من لم يتم الصفوف –: (2/209-210) بشرح ابن حجر، والمسند: (3/113-114) عن بشير بن يسار الأنصاري عن أنس بن مالك – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – أنه قدم المدينة، فقيل له: ما أنكرت منا منذ يوم عهدت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ما أنكرت شيئاً إلا أنكم لا تقيمون الصفوف، قال الحافظ في الفتح: هذا الإنكار غير الإنكار الذي تقدم ذكره في باب تضييع الصلاة عن وقتها، فإن ذاك كان بالشام وهذا بالمدينة وهذا يدل على أن أهل المدينة كانوا في ذلك الزمان أمثل من غيرهم في التمسك بالسنن.(3/106)
وتكرر هذا النكير من الصحابة الكرام – عليهم الرحمة والرضوان – ففي المسند عن أم الدرداء – رضي الله تعالى عنها – قالت: دخل علي أبو الدرداء – رضي الله تعالى عنهما – وهو مغضب، فقلت: من أغضبك؟ قال: والله لا أعرف فيهم من أمر محمد – صلى الله عليه وسلم – شيئاً إلا أنهم يصلون جميعاً.
وتكرر أيضاً من كبار التابعين – عليهم رحمة رب العالمين – ففي الموطأ عن مالك بن أبي عامر الأصبحي قال: ما أعرف شيئاً مما أدركت عليه الناس إلا النداء بالصلاة (1) .
__________
(1) انظر الرواية الأولى في المسند: (6/443) ، والثانية في الموطأ – كتاب الصلاة – باب ما جاء في النداء للصلاة –: (1/72) ، ومالك بن أبي عامر من كبار التابعين روي عن عمر، وعثمان، وطلحة، وعقيل بن أبي طالب، وأبي هريرة وأمنا عائشة – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – ولذلك صنفه ابن حجر في التقريب: (2/225) في الطبقة الثانية، وهو ثقة، أخرج عنه الستة كما في تهذيب التهذيب: (10/19) .
قال الباجي في شرح الموطأ: (1/138) قوله: ما أعرف شيئاً.... إلخ يريد الصحابة – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – لأنه قد أنكر أكثر أفعال أهل عصره، ورأى أنها مخالفة لما أدرك من أفعال الصحابة وذلك أن التغيير يمكن أن يلحق صفة الفعل كتأخير الصلاة عن أوقاتها، ويمكن أن يلحق الفعل جملة كترك الأمر بكثير من المعروف، والنهي عن كثير من المنكر مع علم الناس بذلك كله، وقوله: "إلا النداء" يريد أنه باق على ما كان عليه، ولو دخله تغيير لعرف الناس ذلك، ولعرفوا أول من غيره، فاتصل الخبر بالمدينة على ما كان عليه لم يدخله تغيير ولا تبديل، وفي شرح الزرقاني على الموطأ: (1/150) ، قال ابن عبد البر: فيه أن الأذان لم يتغير عما كان عليه، وكذا قال عطاء، ما أعلم تأذينهم اليوم يخالف تأذين من مضى، وفيه تغير الأحوال عما كانت عليه زمن الخلفاء الأربع – رضي الله تعالى عنهم – في أكثر الأشياء.(3/107)
وإذا كان الحال في العصر الأول جرى فيه ما جرى، فكيف الحال بالعصور بعده، لقد تغير بلا شك كل شيء، وعبد الناس أنفسهم، واتبعوا أهواءهم وتحاكموا إلى الأعراف والتقاليد وعكفوا حول الشيطان المريد، ونبذوا وراءهم ظهرياً شرع الرب المجيد، إلا قلة يسيرة من ذوي الرشد السديد جعلنا الله منهم بمنه وكرمه فهو الفعال لما يريد، قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله تعالى –: وقد توسع من تأخر عن القرون الثلاثة الفاضلة في غالب الأمور التي أنكرها أئمة التابعين وأتباعهم، ولم يقتنعوا بذلك حتى مزجوا مسائل الديانة بكلام اليونان، وجعلوا كلام الفلاسفة أصلاً يردون إليه ما خالفه من الآثار بالتأويل ولو كان مستكرها، ثم لم يكتفوا بذلك حتى زعموا أن الذي رتبوه هو أشرف العلوم وأولاها بالتحصيل، وأن من لم يستعمل ما اصطلحوا عليه فهو عامي جاهل، فالسعيد من تمسك بما كان عليه السلف، واجتنب ما أحدثه الخلف 10هـ ورحمة الله على السيد قطب إذ يقول في كتابه العظيم: "معالم في الطريق": إن العالم يعيش اليوم كله في جاهلية من ناحية الأصل الذي تنبثق منه مقومات الحياة وأنظمتها، هذه الجاهلية تقوم على أساس الاعتداء على سلطان الله في الأرض، وعلى أخص خصائص الألوهية، وهي الحاكمية، إنها تسند الحاكمية إلى البشر فتجعل بعضهم لبعض أرباباً، لا في الصورة البدائية الساذجة التي عرفتها الجاهلية الأولى، ولكن في صورة إدعاء حق وضع التصورات والقيم، والشرائع والقوانين، والأنظمة والأوضاع، بمعزل عن منهج الله – جل وعلا – للحياة، وفيما لم يأذن به الله – عز وجل – نحن اليوم في جاهلية كالجاهلية التي عاصرها الإسلام أو أظلم، كل ما حولنا جاهلية، تصورات الناس وعقائدهم، عاداتهم، وتقاليدهم موارد ثقافاتهم، فنونهم وآدابهم، شرائعهم وقوانينهم، حتى الكثير مما نحسبه ثقافة إسلامية، ومراجع إسلامية، وفلسفة إسلامية، وتفكيراً إسلامياً، وهو كذلك، من صنع هذا الجاهلية (1) .
__________
(1) انظر كلام الحافظ في الفتح: (13/253) ، وكلام سيد قطب في معالم في الطريق: (9، 23) ، وقال في: (18) ذلك الجيل – جيل الصحابة الكرام – استقى من ذلك النبع وحده – وهو القرآن – فكان له في التاريخ ذلك الشأن الفريد، ثم ما الذي حدث؟ اختلطت الينابيع صبت في النبع الأول الذي استقت منه الأجيال التالية فلسفة الإغريق ومنطقهم، وأساطير الفرس وتصوراتهم، وإسرائيليات اليهود ن ولاهوت النصارى، وغير ذلك من رواسب الحضارات والثقافات، واختلط هذا كله بتفسير القرآن الكريم، وعلم الكلام، كما اختلط بالفقه الأصول أيضاً، وتخرج على ذلك النبع المشوب سائر الأجيال بعد ذلك، فلم يتكرر ذلك الجيل أبداً 10هـ وهذا الكلام مع أنه جد ثقيل لكنه هو حال واقعنا الهزيل، وما سلم منه إلا القليل، وفي صون المنطق والكلام عن فن المنطق: (9) قال الصلاح الصفدي: حكى أن المأمون لما هادن بعض ملوك النصارى، كتب يطلب منه خزانة كتب اليونان، وكانت عندهم مجموعة من بيت لا يظهر عليه أحد، فجمع الملك خواصه من ذوي الرأي واستشارهم في ذلك فكلهم أشار عليه بعدم تجهيزها إليه إلا بطريق واحد فإنه قال: جهزها إليهم فما دخلت هذه العلوم على دولة شرعية إلا أفسدتها وأوقعت بين علمائها، وحدثني من أثق به أن الشيخ تقى الدين بن تيمية كان يقول: ما أظن أن الله يغفل عن المأمون، لإدخاله هذه العلوم الفلسفية إلى الأمة الإسلامية 1هـ ملخصاً وبتصريف يسير.(3/108)
وإذا كان ذلك هو حال البدعة، فلا ينجو منها إلا من كان كامل اليقظة، يحتكم إلى السنة في كل سكنة وحركة، وهيهات أن يتم ذلك لأحد منا، وبالتالي فلا نعلم بم سيختم لنا، ونسأل الله الكريم أن يثبتنا، فهو أرحم بنا من أنفسنا.
أما البدع المكفرة فسيختم لصاحبها بأعظم الحسرة، لأنه ليس من المسلمين وسيلقى جزاءه عند رب العالمين، هذا ابن الفارض الذي كان ينعق في شعره باتحاد الخالق بمخلوقاته، لما احتضر ورأى حقائق الأمور، استبان له أنه كان في دعواه دجال مغرور، وله جزاء ذلك الويل والثبور، فقال وهو الملوم المحسور:
إنْ كان منْزلتي في الحبِّ عِندكمُجج ... ما قد لَقيتُ فقد ضَيّعْتُ أيامي
أمْنية ٌ ظفِرتْ نفسي بها زمنا ... واليومَ أحْسبها أضغاثُ أحْلاميج(3/109)
قال أبو حبان – عليه رحمة ربنا الرحمن –: ومن بعض اعتقادات النصارى استنبط من تستر بالإسلام ظاهراً وانتمى إلى الصوفية حلول الله في الصور الجميلة، ومن ذهب من ملاحدتهم إلى القول بالاتحاد والوحدة، وعدد أبو حبان طائفة من أعيانهم منهم ابن عربي، وابن الفارض ثم قال: وإنما سردت أسماء هؤلاء نصحاً لدين الله – عز وجل – يعلم الله ذلك، وشفقة على ضعفاء المسلمين ولحذروا فهم شر من الفلاسفة الذين يكذبون الله – تبارك وتعالى – ورسله – عليهم الصلاة والسلام – ويقولون بقدم العالم، وينكرون البعث، وقد أولع جهلة ممن ينتمي للتصوف بتعظيم هؤلاء، وادعائهم أنهم صفوة الله وأولياءه (1) .
__________
(1) انظر البحر المحيط: (3/449) ، وانظر ما أنشده الزائغ التائه الزنديق ابن الفارض في مجموع الفتاوى: (2/246) ، وفيه: حدثني الشيخ رشيد الدين بن المعلم عن الشيخ إبراهيم الجعبري أنه حضر ابن الفارض عند الموت، وهو ينشد، فذكر البيتين، ثم قال الشيخ ابن تيمية: وحدثني الفاضل تاج الدين بن الزنباري أنه سمع الشيخ إبراهيم الجعبري يقول: رأيت في منامي ابن عربي وابن الفارض وهما شيخان أعميان يمشيان ويتعثران ويقولان: كيف الطريق؟، وكرر الإمام ابن تيمية – عليه رحمة الله تعالى – ذكر البيتين المتقدمين ففي مجموع الفتاوى أيضاً: (4/73-74) : وابن الفارض من متأخري الاتحادية صاحب القصيدة التائهة المعروفة: "بنظم السلوك" وقد نظم فيها الاتحاد نظماً رائق اللفظ، فهو أخبث من لحكم جنزير في صينية من ذهب، وما أحسن تسميتها بنظم الشكوك.... ولما حضرته الوفاة أنشد....
وابن الفارض هو عمر بن على الهالك سنة اثنتين وثلاثين وست مائة قبل ابن عربي بست سنتين وكل (وكل) منهما دجال مأفون ينعق بالاتحاد الملعون قال الإمام ابن حجر – عليه رحمة الله تعالى – في لسان الميزان: (4/318) في ترجمة ابن الفارض: وقد كنت سألت شيخنا الإمام سراج الدين البلقيني عن ابن عربي، فبادر الجواب بأنه كافر فسألته عن ابن الفارض فقال: لا أحب أن أتكلم فيه قلت: فما الفرق بينهما، والموضع واحد؟ وأنشدته من التائهة، فقطع عليّ بعد إنشاد عدة أبيات بقوله: هذا كفر، هذا كفر.
وقد تقدم في هذا الكتاب المبارك بيان حال الضال ابن عربي: (.......) وهذا – ابن الفارض – صورة طبق الأصل له، وتشابهت قلوبهم، فتشابهت أحوالهم وكتبهم فكتاب فصوص الحكم لابن عربي ليس فيه إلا تكرار نغمة الاتحاد الفاحشة الموحشة كما قال شيخ الإسلام مصطفى صبري – عليه رحمة الله تعالى – في كتاب موقف العقل: (1/94) ، وكتاب الفتوحات لابن عربي يقول عنه الشيخ مصطفى صبري في الكتاب المتقدم: (3/285) نقلاً عن كتاب العلم الشامخ: (456) : إذا حققت وأنصفت وعندك توفيق وللكتاب والسنة عندك قيمة، ونظرت بعدها في كتب الفلاسفة والمنجمين والباطنية وأهل الخواص والسحر بأنواعه تجد ذرية بعضها من بعض فإن أحببت كتاباً ينوب عن الجميع فالفتوحات لابن عربي 10هـ ولذلك قال عنه أبو حبان في البحر: (6/156) ينبغي أن يسمى كتاب الفتوح المكية بالقبوح الهلكية، وفي: (5/175) وتعوذ أبو حبان بالرحمن مما جاء في ذلك الكتاب من الهذيان، وقد أطال أئمة الإسلام الكرام في التحذير من ابن الفارض ذي الخسران، وبيان ما في كتبه من شنيع الضلالات والآثم، وقد أورد ابن حجر في اللسان: (4/317-318) اثني عشر بيتاً مما قاله ابن الفارض في قصيدته التائهة التي وسوس له بها الشيطان، ثم قال الإمام ابن حجر: وفي قصائده من هذا النمط فيما يتعلق بالاتحاد شيء كثير، وقال الذهبي في الميزان: (3/214-215) ينعق بالاتحاد الصريح في شعره، وهذه بلية عظيمة فتدبر ولا تستعجل، ولكنك حسن الظن بالصوفية، وما ثم إلى زي الصوفية، وإشارات مجملة، وتحت الزي والعبارة فلسفة وأفاعي، فقد نصحتك، والله الموعد.
ونقل الإمام البقاعي في كتابه مصرع التصوف المسمى أيضاً بتنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي في صفحة: (214-217) عن أربعين عالماً رموه بالزندقة، وهم من دعائم الدين من عصر ابن الفارض إلى عصر الإمام البقاعي المتوفى: (885) – عليه رحمة الله تعالى – وختم الكلام بقوله: فقد صارت نسبة العلماء له إلى الكفر متواترة تواتراً معنوياً، ثم تتبع في الصفحات التالية ما في القصيدة التائهة من أمور كفرية، وقد زادت تلك القصيدة على سبعمائة بيت.
وبذلك تعلم أيها المسترشد المهتدي – هداني الله وإياك صراطه المستقيم – أن ما جاء في شذرات الذهب: (5/152) من أن الشيخ عبد الرؤوف المناوي قرر في طبقات الصوفية له وجوب اعتقاد رفعة منزلة ابن عربي وابن الفارض ومن على شاكلتهما، ولزوم تعظيمهم، مع تحريم النظر في كتبهم على من لم يصل لدرجتهم، كلام باطل ظاهر السقوط، وليس هو إلا صرير باب أو طنين ذباب، فاحترسوا من ذلك التباب يا أولي الألباب.
واعلم أخي في الإيمان أنه لا يحسن القول في أولئك الزنادقة اللئام، إلا صنفان:
أ) عتاة من أتباع الشيطان، وهم في دركة أولئك في الضلال والكفران.
ب) لا يعلمون أحوالهم العلم التام، وينخدعون بانتساب أولئك للإسلام.
فالصنف الأول غواة، والصنف الثاني لا يعول على أقوالهم عند الهداة، وإلا فقل لي بربك – جل جلاله – ما الذي حملهم على إظهار الكفر وإبطان الإيمان وهم في دار الإسلام؟ قال الإمام ابن الجوزي: في المنتظم: (8/185) ، ونقلت من خط أبي الوفاء بن عقيل – عليهم جميعاً رحمة الله الجليل – أنه قال من العجائب أن المعري أظهر من الكفر البارد، الذي لا تبلغ منه مبلغ شبهات الملحدين، بل قصر فيه كل التقصير، وسقط من عيون الكل، ثم اعتذر بأن لقوله باطناً، وأنه مسلم في الباطن، فلا عقل له ولا دين، لأنه تظاهر بالكفر، وزعم أنه مسلم في الباطن، وهذا عكس قضايا المنافقين والزنادقة حيث تظاهروا بالإسلام وأبطنوا الكفر، فهل كان في بلاد الكفار حتى يحتاج إلى أن يبطن الإسلام فلا أسخف عقلاً ممن سلك هذه الطريقة التي هي أخس من طريقة الزنادقة والمنافقين إذا كان المتدين يطلب نجاة الآخرة لا هلاكها في الدنيا حين طعن في الإسلام في بلاد الإسلام، وأبطن الكفر، وأهلك نفسه في المعاد، فلا عقل له، ولا دين 10هـ وقد تقدمت في هذا الكتاب المبارك ترجمة الزنديق الغوي أبي العلاء المعري: (......) فاحذر تلك الوساوس يا من نور الله قلبه بالإيمان، وليعظم غضبك عندها إجلالاً للملك الرحمن، وحذار حذار من مسلك المنافقين الذين يحيلون عند حقوق رب العالمين، ومن أجل حظوظهم يخاصمون الخلق أجمعين – جعلنا الله بمنه وكرمه ممن يعظمه حق تعظيمه، ويتقيه حق تقاته، ويحب ويبغض فيه، ويعادي ويسالم من أجله إنه سميع الدعاء....(3/110)
أما البدعة المفسقة، فحال صاحبها متردد بين الختم له بالكفران، أو بالفسوق والعصيان، إذا لم يتكرم عليه ربنا الرحمن، بالتثبيت في ذلك الأوان، ويكون حاله كحال من اتصف بالنفاق الأصغر، كما تقدم في البلية الأولى من السبب الثاني، وذلك لأن صاحب البدعة المفسقة لا يقل دركة عن اتصاف المكلف بالنفاق، بل إن خطر البدعة أشنع باتفاق، لأن حال المبتدع بشير إلى أن الشريعة غير تامة ولا كاملة، وهو يستدرك عليها ببدعته، وهذا أسوأ أنواع الكذب، ولذلك قال الإمام مالك – رحمه الله تعالى –: وأي فتنة أعظم من أن ترى أن اختيارك لنفسك خير من اختيار الله ورسوله – صلى الله عليه وسلم (1) – وقد توعد الله العظيم كل مفتر بالذلة والغضب فقال – جل وعلا –: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} الأعراف152، قال الإمام مالك – عليه رحمة الله تعالى –: ما من مبتدع إلا وهو يجد فوق رأسه ذلة، وقرأ هذه الآية، وقال سفيان بن عيينة – عليه رحمة الله تعالى –: ليس في الأرض صاحب بدعة إلا وهو يجد ذلة تغشاه، قال: وهي في كتاب الله – عز وجل –.
__________
(1) نقل ذلك عنه الإمام أبو شامة بسنده إليه في كتابه الباعث على إنكار البدع والحوادث: (22) .(3/111)
قالوا: وأين هي؟ قال: أوما سمعتم قوله تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا"؟ قالوا: يا أبا محمد هذه لأصحاب العجل خاصة، قال: لا اتلوا ما بعدها: " وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ " فهي لكل مفتر ومبتدع إلى يوم القيامة (1) . نسأل رب الأرض والسموات، أن يحفظنا من المخالفات، وأن يجعلنا من أهل الموافقات، المتبعين لشرعه في الحركات والسكنات، لنحظى بحسن الخاتمة عند الممات، إنه سميع قريب مجيب الدعوات.
البلية الثالثة من السبب الثاني لسوء الخاتمة: التعلق بالدنيا
__________
(1) انظر قول الإمام مالك في زاد المسير: (3/266) ، وتفسير القرطبي ك (7/292) ، ولباب التأويل: (3/293) ، ومفاتيح الغيب: (15/13) ، وانظر قول سفيان بن عيينة في زاد المسير: (3/266) ، وتفسير القرطبي: (9/49) ، ورواه عنه ابن أبي حاتم، والبيهقي في شعب الإيمان، وأبو الشيخ كما في الدر المنثور: (3/128) ، وانظره في معالم التنزيل، وفي لباب التأويل: (2/293) – الأول على هامش الثاني –.(3/112)
.. وهذه البلية من المهلكات، وقل من سلم منها من المكلفين والمكلفات، والنفس إذا تعلقت بشيء كرهت مفارقته، والخروج عنه، ومن أجل ذلك كره الناس القدوم على ربهم، لأنهم عمروا دنياهم، واستأنسوا بها، روى الدارمي في سننه، وأبو نعيم في حليته، أن الخليفة سليمان بن عبد الملك مر بالمدينة المنورة وهو يريد مكة المكرمة، فأقام بها أياماً، فقال: هل بالمدينة أحد أدرك أحداً من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم –؟ فقالوا له: أبا حازم، فأرسل إليه، فلما دخل عليه قال له: يا أبا حازم ما هذا الجفاء؟ قال أبو حازم: يا أمير المؤمنين، وأي جفاء رأيت مني؟ قال: أتاني وجوه أهل المدينة ولم تأتني، قال أبو حازم: يا أمير المؤمنين، أعيذك بالله أن تقول ما لم يكن، ما عرفتني قبل هذا اليوم، ولا أنا رأيتك، فالتفت سليمان إلى محمد بن شهاب الزهري، فقال: أصاب الشيخ، وأخطأت، قال سليمان: يا أبا حازم، ما لنا نكره الموت؟ قال أبو حازم: لأنكم أخربتم الآخرة، وعمرتم الدنيا، فكرهتم أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب.(3/113)
.. قال سليمان: أصبت يا أبا حازم، فكيف القدوم غداً على الله – عز وجل –؟ قال أبو حازم: أما المحسن فالغائب يقدم على أهله، وأما المسيء فكالآبق يقدم على مولاه، فبكى سليمان وقال: ليت شعري مالنا عند الله – جل وعلا –؟ قال أبو حازم: أعرض عملك على كتاب الله – عز وجل – قال سليمان: وأي مكان أجده؟ قال أبو الحازم: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} الانفطار13-14، فقال سليمان: فأين رحمة الله – جل وعلا –؟ قال أبو حازم: {إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} الأعراف56 (1) .
__________
(1) كما قال الله – جل وعلا – في سورة الأعراف: (56) ، وقد أخذت تلك المحاورة بين سليمان وأبي حازم ثلاث صفحات فانظرها في سنن الدارمي – باب إعظام العلم –: (1/155-158) – وحلية الأولياء: (3/234-237) ، وصفة الصفوة: (2/158-160) ، ومن بديع أبي حازم سلمه بن دينار كما في الأخيرين: ما مضى من الدنيا فحلم، وما بقي فأماني، وقوله: عند تصحيح الضمائر تغفر الكبائر، وإذا عزم العبد على ترك الآثام أتته الفتوح، وكان يمر على الفاكهة في السوق فيقول: موعدك الجنة، توفي سنة أربعين ومائة – عليه رحمة الله تعالى – وقد أخرج له الجماعة، وقال ابن خزيمة كما في تهذيب التهذيب: (4/144) لم يكن في زمانه مثله، وقال الذهبي في تذكرة الحفاظ: (1/134) : كان فقيه النفس، ومناقبه كثيرة، وكان ثقة فقيهاً ثبتاً كثير العلم، كبير القدر، وانظر ترجمته المباركة في المعرفة والتاريخ: (1/676-680) .(3/114)
.. وقد شوهد من أحوال المتعلقين بالدنيا عند الاحتضار، ما يدعو العاقل للزهادة في هذه الدار، وتعليق الهمة بدار القرار، قال الغزالي في الإحياء – عليه رحمة رب الأرض والسماء –: إن المرء يموت على ما عاش عليه، ويحشر على ما مات عليه، ولذلك نقل عن بقال أنه كان يلقن عند الموت كلمتي الشهادة، فيقول: خمسة ستة أربعة، فكان مشغول النفس بالحساب الذي طال إلفه له قبل الموت (1) . وقد حدثني بعض الصالحين أنه حضر موت جار له، فلقنه كلمة التوحيد، فأجابه بقوله: القفل بليرتين، القفل بليرتين، ثم خرجت روحه، ومثل هذا كثير كثير، فنسأل الله الثبات عند الممات.
... واعلم أن صاحب التعلق بالدنيا إذا وصل تعلقه بها إلى درجة العبودية الخالصة لها بحيث جعلها غايته الأولى، ولم يأخذ من دين الله – جل وعلا – إلا بما لا يتعارض معها، فهو في صف الكافرين، وإن زعم أنه من المؤمنين، وسيختم له بما يسود وجهه عند رب العالمين، ويصليه العذاب الأليم، كما قال ربنا العظيم: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ} محمد12.
__________
(1) انظر الإحياء: (4/175) ، وقد ثبت عن نبينا – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: "من مات على شيء بعثه الله عليه"، رواه الحاكم في المستدرك – كتاب الرقاق –: (4/313) ، وأحمد في المسند: (3/314) ورواه أبو يعلى، والضياء المقدسي في المختارة كما في الجامع الكبير: (1/835) كلهم عن جابر بن عبد الله – رضي الله تعالى عنهما – مرفوعاً، قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط مسلم، وأقره الذهبي.(3/115)
.. وأما إذا لم يصل المتعلق بالدنيا إلى تلك الدركة، بل اقتصر تعلقه بها على حرصه عليها وفرحه بإقبالها، وحزنه على إدبارها، فمال إليها وعمرها، وأنس بزهرتها وزينتها، ولم يكن حاله فيها كحال المسافر الذي يعبر ولا يعمر، والناس يتفاوتون في نسبة ذلك التعلق ما بين مقل ومكثر وما بين ذلك من المراتب المتفاوتات، التي لا يحيط بها إلا رب الأرض والسموات، ويخشى على صاحب هذا التعلق من سوء الخاتمة، بمقدار ركونه إلى هذه الدنيا الفانية، وهو وإن لم يختم له بمثل حال من جعل الدنيا إلهه، فإن روحه قد تفيض وهو مشغول البال بهذه الدنيا الدنية، فيلقى رب البرية على تلم الحالة الردية.(3/116)
واعلم أخا الإسلام أن نبينا – عليه الصلاة والسلام – كان أزهد الناس في هذا الحطام، وما ركن إلى الدنيا ساعة من الزمان، ثبت في المسند وصحيح ابن حبان والمستدرك بسند صحيح عن عمرو بن العاص – رضي الله تعالى عنه – أنه قال للناس وهو على المنبر: ما أبعد هديكم من هدي نبيكم، أما هو فأزهد الناس في الدنيا، وأما أنتم فأرغب الناس فيها، وقال أيضاً – رضي الله تعالى عنه –: لقد أصبحتم وأمسيتم ترغبون فيما كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يزهد فيه، أصبحتم ترغبون في الدنيا، وكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يزهد فيها، والله ما أتت على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ليلة من دهره إلا كان الذي عليه أكثر مما له، فقال بعض أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قد رأينا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يستسلف (1) .
__________
(1) انظر المسند: (3/203، 204) ، واللفظ له ولرجاله رجال الصحيح كما في مجمع الزوائد: (10/315) وفيه: ورواه الطبراني، وانظر موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان – كتاب علامات نبوة نبينا – صلى الله عليه وسلم – باب في زهده –: (526) ، والمستدرك – كتاب الرقاق –: (4/315) ، وقال الحاكم هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وأقره الذهبي على التصحيح لكنه قال: ليس على شرط واحد منهما، وانظره في مسند الطيالسي – منحة المعبود: (2/44) .(3/117)
.. وقد كان فداه أبي وأمي وعليه صلوات الله وسلامه – يرد نعيم الدنيا عندما يعرض عليه من قبل أصحابه الأبرار، ويخبر عن حاله في هذه الدار، بما يبين أنه في سفر وارتحال، فليست الدنيا بدار قرار، ومالها عنده أي مقدار ولا اعتبار، روى الأئمة الكرام: أحمد والترمذي وابن ماجه وغيرهم – عليهم رحمة الله تعالى –: بسند صحيح عن عبد الله بن مسعود – رضي الله تعالى عنه – قال: نام رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على حصير، فقام وقد أثر في جبينه فقلنا يا رسول الله: لو اتخذنا لك وطاء، فقال: "مالي وللدنيا؟ ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها"، هذا لفظ الترمذي، ورواية ابن ماجه بنحوه، ورواه الطبراني بلفظ: "دخلت على النبي – صلى الله عليه وسلم – وهو في غرفة كأنها بيت حمام – أي: لما فيها من الحر والكرب – وهو نائم على حصير قد أثر بجنبه، فبكيت فقال – صلى الله عليه وسلم –: "ما يبكيك يا عبد الله؟ قلت: يا رسول الله، كسرى وقيصر يطؤون على الخز والديباج والحرير، وأنت نائم على هذا الحصير، قد أثر بجنبك؟ قال – صلى الله عليه وسلم –: "فلا تبك يا عبد الله، فإن لهم الدنيا ولنا الآخرة، وما أنا والدنيا وما مثلي ومثل الدنيا إلا كمثل راكب نزل تحت شجرة ثم سار وتركها (1)
__________
(1) انظر سنن الترمذي – كتاب الزهد – باب: "44": (7/110) ، وقال هذا حديث حسن صحيح، وفي الباب عن عمرو بن عباس – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – والمسند: (1/393، 441) ، وسنده صحيح كما قال الشيخ شاكر في تعليقه على المسند: (5/264، 6/114) رقم: "3709، 4208". وسنن ابن ماجه – كتاب الزهد – باب مثل الدنيا –: (2/1376) ، وانظر رواية الطبراني في مجمع الزوائد –: (10/326) ، وفيه: وفي سنده عبيد الله بن سعيد قائد الأعمشي وثقه ابن حبان وضعفه جماعة، وبقية رجاله ثقات.
وانظر الحديث في المستدرك – كتاب الرقاق –: (4/310) ، وأورده الحاكم شاهداً لحديث ابن عباس في دخول عمر – وقوله مثل قول ابن مسعود – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – وانظره في مسند الطيالسي – منحة المعبود –: (2/120) ، والزهد للإمام أحمد: (8) وطبقات ابن سعد: (1/467) ، وحلية الأولياء: (2/102، 4/234) ، وعزاه السيوطي في جمع الجوامع: (1/711) لهناد ومعجم الطبراني الكبير، وشعب الإيمان للبيهقي، وعزاه المنذري في الترغيب والترهيب: (4/178) إلى كتاب الثواب لأبي الشيخ، وانظره في كتاب الأمثال للرامهرمزي: (55) .(3/118)
".
وقد تكرر ذلك منه – فداه نفسي وعليه صلوات الله وسلامه ربي – مع عدة من الصحابة الكرام – عليهم الرحمة والرضوان – ففي المسند والمستدرك وصحيح ابن حبان وغير ذلك من دواوين الإسلام بسند صحيح عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – دخل عليه عمر بن الخطاب – رضي الله تعالى عنه – وهو على حصير قد أثر في جنبه، فقال: يا نبي الله، لو اتخذت لك فراشاً أوثر من هذا؟ فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "مالي وللدنيا؟ ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف، فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار ثم راح وتركها (1) ".
__________
(1) انظر المسند: (1/301) ، ورجاله رجال الصحيح غير هلال بن خباب وهو ثقة كما في مجمع الزوائد: (10/326) ، وقال الشيخ شاكر في تعليقه على المسند: (4/262) "2744" إسناده صحيح، والمستدرك – كتاب الرقاق –: (4/309-310) ، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه، وأقره الذهبي، وموارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان – كتاب الزهد – باب ما جاء في عيش السلف –: (626) ، وعزاه السيوطي في الجامع الكبير: (1/711) إلى معجم الطبراني الكبير، وشعب الإيمان للبيهقي.(3/119)
وفي سنن ابن ماجه، ومستدرك الحاكم بسند صحيح عن ابن عباس قال حدثني عمر بن الخطاب – رضي الله تعالى عنهم – قال: دخلت على رسول الله وهو على حصير، قال: فجلست فإذا عليه إزار، وليس عليه غيره، وإذا قد أثر الحصير في جنبه، وإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصاع، وقرظ في ناحية الغرفة – والقرظ: شيء يدبغ به الجلد – وإذا إهاب معلق – والإهاب: الجلد غير المدبوغ فابتدرت عيناي، فقال: صلى الله عليه وسلم –: "ما يبكيك يا ابن الخطاب؟ " فقلت: يا نبي الله، ومالي لا أبكي؟ وهذا الحصير قد أثر في جنبك، وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى، وذلك كسرى وقيصر في الثمار والأنهار، وأنت نبي الله وصفوته، وهذه خزانتك، قال – صلى الله عليه وسلم –: يا ابن الخطاب ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا؟ قلت: بلى (1)
__________
(1) انظر سنن ابن ماجه – كتاب الزهد – باب ضجاع آل محمد – صلى الله عليه وسلم –: (2/1390-1391) ، والمستدرك – أول حديث في كتاب الأطعمة –: (4/104) ، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وأقره الذهبي.
والحديث رواه ابن حبان في موارد الظمآن – كتاب الزهد - باب ما جاء في عيش السلف: (626) وأحمد في المسند: (3/139-140) ، وأبو يعلى كما في مجمع الزوائد: (10/326) ، وفيه: رجال أحمد رجال الصحيح غير مبارك بن فضالة وقد وثقه جماعة، وضعفه جماعة، كلهم رووه عن أنس بن مالك أن عمر بن الخطاب – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – دخل على النبي – صلى الله عليه وسلم – فذكر نحو ما تقدم، وهو في سنن الترمذي مختصر – كتاب صفة القيامة – باب: "28": (7/168) ، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وأصل الحديث في الصحيحين ضمن حديث إيلاء النبي – صلى الله عليه وسلم – من أزواجه – رضي الله تعالى عنهن – انظر صحيح البخاري – كتاب المظالم – باب الغرفة والعلية المشرفة وغير المشرفة في السطوع ونحوها: (5/114-116) ، وفي كتاب التفسير – سورة التحريم – باب: "تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ": (8/657-658) ، وكتاب النكاح – باب موعظة الرجل ابنته لحال زوجها: (9/278-279) بشرح ابن حجر في الجميع ومسلم في كتاب الطلاق – باب في الإيلاء واعتزال النساء وتخييرهن: (2/1106-1113) ، وهو في سنن الترمذي – كتاب التفسير – سورة التحريم: (9/55، 58) ، والمسند: (1/33-34) .
وقد ورد الحديث من رواية أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنها – وفيه مشاركة أبي بكر لعمر – رضي الله تعالى عنهما فيما جرى، روى ذلك ابن حبان – المكان السابق – وفي سنده الماضي بن محمد وهو ضعيف كما في التقريب: (2/223) ، وأشار المنذري في الترغيب والترهيب: (4/201) إلى وجوده في سند ابن حبان، وفصل الكلام في حاله في: (4/278) ، ورواه الطبراني في الأوسط كما في المجمع: (10/327) ، وفي سنده عبد العزيز بن يحيى المدني نزيل نيسابور وهو كذاب.
وورد الحديث من رواية أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – في مسند البزار كما في مجمع الزوائد: (10/327) ، وفيه داود بن فراهيج، وثقه جماعة، وضعفه آخرون، وبقية رجاله رجال الصحيح وهو في المسند أيضاً: (2/298) .
وورد الحديث من رواية جندب – رضي الله تعالى عنه – في معجم الطبراني كما في مجمع الزوائد: (10/327) ، وفيه سند الحديث عمر بن زياد وثقه ابن حبان، وفيه ضعف وبقية رجاله رجال الصحيح.(3/120)
".
وتلك المعاني الجليلة، كان يغرسها نبينا – صلى الله عليه وسلم – في صدور أصحابه ذوي المراتب النبيلة – رضي الله تعالى عنهم – وكانوا أشد الوجل، إذا لم يقوموا بها على الوجه الأكمل، وكان يظهر عليهم عند اقتراب الأجل، ما فيه عبرة لمن عقل، روى ابن ماجه وغيره بسند رجاله ثقات عن أنس بن مالك – رضي الله تعالى عنهما – قال: اشتكي سلمان الفارسي فعاده سعد بن أبي وقاص – رضي الله تعالى عنهما – فرآه يبكي، فقال له سعيد: ما يبكيك يا أخي؟ أليس قد صحبت رسول الله – صلى الله عليه وسلم –؟ أليس؟ قال سلمان: ما أبكي واحدة من اثنتين، ما أبكي ضناً للدنيا، وكراهية للآخرة، ولكن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عهد إليّ عهداً فما أراني إلا قد تعديت، قال: وما عهد إليك؟ قال: عهد إليّ أنه يكفي أحدكم مثل زاد الراكب، ولا أراني إلا قد تعديت، وأما أنت يا سعد فاتق الله عند حكمك إذا حكمت، وعند قسمك إلا قسمت، وعند همك إذا هممت.(3/121)
ولا تظن أخي المبارك أن سلمان الفارسي – رضي الله تعالى عنه – تعلقت همته بالدنيا، وتعدى حدود الشرع المطهر، فهو من الزهاد، والعباد، الذين يعدون العدة ليوم التناد، فما قال ما قال إلا تواضعاً لذي العزة والجلال، ورهبة من الكبير المتعال، وكل ما تركه – رحمه الله ورضي عنه – بضعة وعشرين درهماً، وأمتعة قومت بأربعة عشر أو خمسة عشر درهماً، هذا وهو أمير المدائن وتحت إمرته زهاء ثلاثين ألفاً من المسلمين، وعطاؤه خمسة آلاف درهم، وما انتفع منه بدرهم في مصالحه العاجلة، إنما كان ينفقه كله طلباً لرضوان الله في الحياة الآجلة، ويعيش من عمل يده (1) .
__________
(1) انظر سنن ابن ماجه – كتاب الزهد – باب الزهد في الدنيا –: (2/1374-1375) قال المنذري في الترغيب والترهيب: (4/168) ورواته ثقات احتج بهم الشيخان إلا جعفر بن سليمان فاحتج به مسلم وحده، وانظره في المستدرك – كتاب الرقاق –: (4/317) ، وقال الحاكم: وهذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأقره الذهبي، صحيح ابن حبان – موارد الظمآن – كتاب الزهد – باب ما يكفي من الدنيا –: (614) ، وكتاب الزهد للإمام أحمد: (28-152) ورواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير الحسن بن يحيى بن الجعد وهو ثقة كما في مجمع الزوائد: (10/254) ، وحلية الأولياء: (1/195-197) .
هذا وقد ورد تسمية القائل لسلمان بسعد في رواية ابن ماجه، والحاكم، وأبي نعيم في الحلية، وورد تسمية القائل في رواية الطبراني، وأبي نعيم أيضاً، وورد عند أبي نعيم أيضاً ضم عبد الله ابن مسعود إلى سعد وورد التنصيص على كون ابن مسعود قال ذلك لسلمان في طبقات خليقة بن خياط كما في الإصابة: (2/63) ، وعند ابن حبان وأبي نعيم أيضاً نسبة القول لن حضر دون تسمية أعيانهم – رضي الله تعالى عنهم أجمعين –. والذي يظهر لي – والله أعلم – أن كل من تقدم ذكرهم قالوا له ذلك وكان ذلك في أوقات مختلفة حسب مجيء المرض لسلمان، ويدل على هذا أمران:
الأول: موت ابن مسعود سنة ثلاث وثلاثين قبل سلمان وبثلاث سنين – رضي الله تعالى عنهم.
الثاني: ما ورد في الحلية: (1/208) ، أن سلمان قال لامرأته افتحي أبواب العلية، فإن لي اليوم زواراً لا أدري من أي هذه الأبواب يدخلون عليّ، ثم دعا بمسك، وقال لزوجه، انضحيه حول فراشي، ثم انزلي فامكثي فسوف تطلعين فتريني على فراشي، فاطلعت فإذا هو قد أخذ روحه كأنه نائم على فراشه – رضي الله تعالى عنه –.
هذا وقد ورد في رواية ابن ماجه عن ثابت قال: فبلغني أنه ما ترك إلا بضعة وعشرين درهماً من نفقة كانت عنده، وفي الحلية عن الحسن وحميد قوم متاعه فبلغ نحواً من عشرين درهماً، وفي صحيح ابن حبان، والحلية: فجمع مال سلمان فكان قيمته خمسة عشر درهماً، قال أبو نعيم: وقال عامر بن عبد الله ديناراً واتق الباقون على بضعة عشر درهماً وفي رواية الطبراني والحلية عن علي ابن بذيمة قال: بيع متاع سلمان فبلغ أربعة عشر درهماً قال الهيثمي في المجمع: (10/254) ، وإسناده جيد غلا أن علي بن بذيمة لم يدرك سلمان فإن كانت تركته تأخرت فهو متصل، ونحوه في الترغيب والترهيب: (4/225) ، والذي يظهر أنه ترك بضعة وعشرون درهماً وأمتعة قومت دون عشرين درهماً والله أعلم.
وسلمان الفارسي يقال له سلمان بن الإسلام، وسلمان الخير، عاش على الراجح أزيد من خمسين ومائتي سنة، كان يقول: أضحكني ثلاث، وأبكاني ثلاث، ضحكت من مأمل الدنيا والموت يطلبه، وغافل لا يغفل عنه، وضاحك ملء فيه لا يدري أمسخط ربه أم مرضيه، وأبكاني ثلاث: فراق الأحبة محمد وحزبه – صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه الطاهرين – وهول المطلع عند غمرات الموت، والوقوف بين يدي رب العالمين حين لا أدري إلى النار انصرافي أم إلى الجنة، انظر ذلك وغيره من ترجمته العطرة المباركة في الحلية: (1/185-208) ، وصفة الصفوة: (1/523-556) ، والإصابة: (2/62-63) القسم الأول من حرف السين، وأسد الغابة: (../417-421) ، وشذرات الذهب: (1/44) والمعارف: (117) ، وطبقات ابن سعد: (6/16-17) .(3/122)
وقد تكرر من الصحابة مثل موقف سلمان – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – ففي معجم الطبراني ومسند أبي يعلى عن يحيى بن جعدة قال: عاد خباباً ناس من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقالوا: أبشر يا أبا عبد الله ترد على محمد – صلى الله عليه وسلم – فقال: فكيف بهذا وأشار إلى البيت وأسفله، وقد قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "إنما يكفي أحدكم من الدنيا كزاد الراكب"، وفي طبقات ابن سعد والحلية عن طارق بن شهاب قال: عاد خباباً نفر من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقالوا: أبشر يا أبا عبد الله، إخوانك تقدم عليهم غداً، فبكى، وقال: أما إنه ليس بي جزع، ولكنكم ذكرتموني أقواماً وسميتم لي إخواناً، وإن أولئك قد مضوا بأجورهم كما هي وإني أخاف أن يكون ثواب ما تذكرون من تلك الأعمال ما أوتينا بعدهم، وفي الحلية أيضاً عن شقيق بن سلمة، قال: دخلنا على خباب بن الأرت في مرضه، فقال: إن في هذا التابوت ثمانين ألف درهم، والله ما شددت لها من خيط، ولا منعتها من سائل، ثم بكى، فقلنا: ما يبكيك؟ قال: أبكي أن أصحابي مضوا ولم تنقصهم الدنيا شيئاً، وإنا بقينا بعدهم حتى لم نجد لها موضعاً إلا التراب، ولوددت أنها كذا وكذا، بعراً أو غيره (1) .
__________
(1) انظر مجمع الزوائد: كتاب الزهد – باب ما يكفي من الدنيا –: (10/253-254) ، وقال الهيثمي: رواه أبو يعلى والطبراني، ورجاله رجال الصحيح غير يحيى بن جعدة وهو ثقة، وقال المنذري في الترغيب والترهيب: (4/223) : إسناده جيد وطبقات ابن سعد: (1/166) ، والحلية: (1/144-146) ، وفي الحلية: (1/360) الحديث المتقدم عن يحيى بن جعدة وكذلك في مسند الحميدي: (1/83) ورواه البيهقي في شعب الإيمان، والبارودي، والضياء المقدسي في المختارة كما في مجمع الجوامع: (1/289) ،وانظر خير طارق بن شهاب في مسند الحميدي: (10/86) ، وكتاب الزهد لابن المبارك: (183-184) ، وقوله: لم نجد له موضعاً إلا التراب، يرد به الإنفاق في البنيان كما في الفتح: (10/129) وقد روى ذلك القول عنه البخاري في كتاب المرضى – باب تمني المريض الموت –: (10/127) ، وكتاب الرقاق – باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها: (11/244) بشرح ابن حجر في الجميع، وهو في مسند الحميدي: (1/83-84) وورد في المستدرك – كتاب معرفة الصحابة –: (3/383) بسند صححه الحاكم وأقره الذهبي عن خباب – رضي الله تعالى عنه – قال: لقد خشيت أن يذهب بأجورنا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ما أصبنا بعده من الدنيا.(3/123)
وورد في الصحيحين وغيرهما عن أبي وائل، قال: عدنا خباباً فقال: هاجرنا مع النبي – صلى الله عليه وسلم – نريد وجه الله، فوقع أجرنا على الله تعالى، فمنا من مضى ولم يأخذ من أجره شيئاً، منهم مصعب بن عمير قتل يوم أحد، وترك نمرة، فإذا غطينا رأسه بدت رجلاه وإذا غطينا رجليه بدا رأسه، فأمرنا النبي – صلى الله عليه وسلم – أن نغطي رأسه، ونجعل على رجليه من الإذخر، ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها (1) ".
__________
(1) انظر صحيح البخاري – كتاب الجنائز – باب إذا لم يجد كفناً إلا ما يواري رأسه أو قدميه غطى رأسه: (3/142) ، وكتاب مناقب الأنصار – باب هجرة النبي – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه – رضي الله تعالى عنهم أجمعين إلى المدينة: (7/226، 7/253) ، وكتاب المغازي – باب غزوة أحد: (7/354) ، وباب من قتل من المسلمين يوم أحد –: (7/374) ، وكتاب الرقاق – باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها: (11/245) ، وباب فضل الفقر –: (11/273) بشرح ابن حجر في جميع ما تقدم. وصحيح مسلم – كتاب الجنائز – باب في كفن الميت –: (2/649) ، وسنن الترمذي – كتاب المناقب – باب مناقب مصعب بن عمير – رضي الله تعالى عنه –: (9/377) ، وسنن النسائي – كتاب الجنائز – باب القميص في الكفن –: (4/32) ، والمسند: (5/109، 112، 6/395) ، ومسند الحميدي: (1/84) .(3/124)
وما خشيه سلمان وخباب خشيه كل من امتدت حياته من الصحابة – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – بعد موت نبينا – صلى الله عليه وسلم – روى البخاري في صحيحه عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف – رضي الله تعالى عنهم – أن عبد الرحمن بن عوف أتى بطعام – وكان صائماً – فقال: قتل مصعب بن عمير – وهو خير مني – كفن في بردة إن غطي رأسه بدت رجلاه، وإن غطي رجلاه بدا رأسه وأراه قال: وقتل حمزة – وهو خير مني – ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط – أو قال: أعطينا من الدنيا ما أعطينا وقد خشينا أن تكون حسناتنا قد عجلت لنا، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام (1) .
__________
(1) انظر صحيح البخاري – كتاب الجنائز – باب إذا لم يوجد إلا ثوب واحد –: (3/142) ، وباب الكفن من جميع المال – (3/141) ، وكتاب المغازي – باب غزوة أحد: (7/353) ، وهو في كتاب الزهد لابن المبارك: (183) .(3/125)
وهكذا كان حال صديق هذه الأمة أبو بكر الصديق – رضي الله تعالى عنه – مع أنه لم ينل من الدنيا شيئاً، ولم يتغير حاله في معيشته عن حاله السابق في عهد نبينا – صلى الله عليه وسلم – وحياته، وروى البزار عن زيد بن أرقم قال: كنا مع أبي بكر الصديق – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – فاستسقى، فأتى بماء وعسل، فلما وضعه على يده بكى وانتحب حتى ظننا به شيئاً، ولا نسأله عن شيء فلما فرغ، قلنا: يا خليفة رسول الله – صلى الله عليه وسلم –، ما حملك على هذا البكاء؟ قال بينما أنا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذ رأيته يدفع عن نفسه شيئاً، ولا أرى شيئاً، فقلت: يا رسول الله، ما الذي أراك تدفع ولا أرى شيئاً؟ فقال: "الدنيا تطولت لي، فقلت: إليك عني، فقالت: أما إنك لست بمدركي" قال أبو بكر – رضي الله تعالى عنه –: فشق عليّ، وخشيت أن أكون خالفت أمر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولحقتني الدنيا، ورواه الحاكم في المستدرك عن زيد بن أرقم أيضاً بلفظ: كنا مع أبي بكر الصديق – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – فدعا بشراب فأتي بماء وعسل، فلما أدناه من فيه بكى وبكى حتى أبكى أصحابه، فسكتوا وما سكت، ثم عاد فبكى حتى ظنوا أنهم لم يقدروا على مسألته، قال: ثم مسح عينيه، فقالوا: يا خليفة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ما أبكاك؟ قال: كنت مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فرأيته يدفع عن نفسه شيئاً، ولم أر معه أحداً، فقلت: يا رسول الله ما الذي تدفع عن نفسك؟ قال: "هذه الدنيا مثلت لي، فقلت لها: إليك عني، ثم رجعت فقالت: إن أفلت مني فلن ينفلت مني من بعدك (1)
__________
(1) انظر رواية البزار في مجمع الزوائد – كتاب الزهد – باب فيمن كره الدنيا –: (10/254) ، وقال الهيثمي: وفيه عبد الواحد بن زيد الزاهد وهو ضعيف عند الجمهور، وذكره ابن حبان في الثقات وقال: يعتبر حديثه إذا كان فوقه ثقة، ودونه ثقة، وبقية رجاله ثقات، قال المنذري في الترغيب والترهيب: (4/207) بعد ذكر كلام ابن حبان، وهو كنا كذلك، وعزاه أيضاً إلى ابن أبي الدنيا وانظر رواية الحاكم في المستدرك – كتاب الرقاق –: (4/309) ، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وتعقبه الذهبي بقوله قلت: عبد الصمد بن عبد الوارث تركه البخاري وغيره 10هـ والذي يظهر للعبد الضعيف وهم الذهبي فيما قاله، فالبخاري ما تركه، وترجم له في التاريخ الكبير: (6/105) ، وقال: سمع شعبة وأباه وهشاماً الدستوائي 10هـ وما ورد في الجرح والتعديل: (6/51) من أن أبا حاتم قال عنه شيخ مجهول فالكلام فيه سقط ومبتور، ولذلك قال محقق الكتاب: لعله ههنا سقط، فإن عبد الصمد بن عبد الوارث مشهور معروف 10هـ وقد حكم عليه الذهبي نفسه في الكاشف: (2/173) بأنه حجة وأشار إلى أنه من رجال السنن الأربعة، وقال ابن حجر في التقريب: (1/507) صدوق، ثبت في شعبة، ونقل في تهذيب التهذيب: (6/327 -328) توثيقه عن ابن حبان، وابن سعد، وابن قانع، وابن نمير، وقال الحاكم ثقة مأمون، وقد ذكر شيخ الإسلام الحافظ العراقي في تخريج أحاديث الإحياء: (3/198) تصحيح الحاكم، ولم يعترض عليه – ونسب تخريجه أيضاً إلى ابن أبي الدنيا، والبيهقي من طريقه بلفظه.(3/126)
".
فتأمل يا عبد الله تلك الأخبار عن سلفنا الأبرار، وانظر كيف اشتد وجلهم مما أصابوه من الدنيا عن طريق الحلال، واشتد خوفهم عند فراق هذه الدار، لا حزناً عليها ولا زهداً في مقابلها، ولكن خشية عدم الالتزام بالمسلك الأقوم الذي كان عليه نبينا – صلى الله عليه وسلم – مع أنهم – رضي الله تعالى عنهم – لم يشدوا خيطاً على ما أتاهم من مال، ولم يمنعوه من تعرض لهم بالسؤال وبذلوه في الخيرات آناء الليل وأطراف النهار، فكيف بنا وقد ركنا إلى الدنيا، فلم نقنع منها بالقليل ولم نشبع من الكثير، وقد حذرنا رسولنا الجليل – صلى الله عليه وسلم – من هذا المسلك الحقير؟ نسأل الله أن يبصرنا بعواقب الأمور، وأن يوفقنا لإيثار الآخرة على دار الغرور، لنحظى بخاتمة السعادة عند انتقالنا إلى القبور، ولنفوز برضوان ربنا الغفور في دار الحبور والسرور.(3/127)
روى الأئمة الكرام أحمد في مسنده، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، والطبراني في معجمه، وغيرهم بسند صحيح رجاله ثقات عن أبي موسى الأشعري – رضي الله تعالى عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: "من أحب دنياه أضر بآخرته، ومن أحب آخرته أضر بدنياه، فآثروا ما يبقي على ما يغني (1)
__________
(1) انظر المسند: (4/412) ، وصحيح بن حبان – موارد الظمآن – كتاب الزهد – باب فيمن أحب دنياه أو آخرته: (612) ، والمستدرك – كتاب الرقاق –: (4/308، 319) ، وانظر رواية الطبراني في مجمع الزوائد: (10/249) ، ورواه أيضاً البزار، قال الهيثمي: ورجال أحمد والطبراني والبزار ثقات، وكذلك قال المنذري في الترغيب والترهيب: (4/175) ، ونسبه أيضاً إلى كتاب الزهد للإمام البيهقي وقد صحح الحاكم الحديث فقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وقال في المكان الثاني صحيح، وأقره الذهبي في المكان الثاني، وتعقبه في الأول فقال، قلت: فيه انقطاع، مع أن السند فيهما من رواية عمرو بن أبي عمرو عن المطلب بن عبد الله بن حنطب عن أبي موسى الأشعري – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – والذي يظهر لي – والله أعلم – أن السند متصل، وقد أطال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الرسالة للإمام الشافعي: (97-103) الكلام فيمن سمي بالمطلب وهو من بني حنطب فارجع إليه فلن تظفر به في مكان آخر، والذي حط عليه كلامه – رحمه الله تعالى –: أن المطلب الذي يروي عنه عمرو بن أبي عمرو كان رجلاً في عصر عمر بن الخطاب – رضي الله تعالى عنه – وأنه من المحتمل جداً بل من الراجح القريب من اليقين أنه من صغار الصحابة من طبقة ابن عمر وجابر – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – وأن من اليقين – الذي لا يدخله الشك – أنه إن لم يكن صحابياً فهو من كبار التابعين، وأن المحدثين الذين أعلوا رواياته بالإرسال، وبأنه لم يدرك فلاناً وفلاناً من الصحابة، وأنه لم يسمع منهم، إنما شبه لهم هذا المطلب بمن يسمى بهذا الاسم من المتأخرين عن عصره، وهم من بني حنطب.
وقد حكى العراقي في تخريج ألأحاديث الإحياء: (3/197) ، والمنذري في الترغيب والترهيب: (4/175) تصحيح الحاكم ولم يعترضا عليه.(3/128)
".
وقد أخبرنا نبينا – صلى الله عليه وسلم – أن فرح المرء بالحياة العاجلة، وحرصه على جمع عروضها الزائلة، يفسد أعظم من أفساد الذباب الضارية في قطعان الغنم الغافلة ثبت في المسند وسنن الترمذي وغيرهما بإسناد صحيح عن كعب بن مالك – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه"، وفي معجم الطبراني الأوسط بسند جيد حسن عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "ما ذئبان ضاريان جائعان باتا في زريبة غنم أغفلها أهلها يفترسان ويأكلان بأسرع فساداً فيها من حب المال والشرف في دين المرء المسلم (1)
__________
(1) انظر المسند: (3/456، 460) ، وسنن الترمذي – كتاب الزهد – باب: "43": (7/109-110) ، وقال الترمذي: هذا حديث صحيح حسن ورواه الدارمي في كتاب الرقاق – باب ما ذئبان جائعان –: (2/304) ورواية الطبراني في الأوسط في مجمع الزوائد – كتاب الزهد – باب في حب المال والشرف –: (10/250) ، وقال الهيثمي: إسناده جيد وكذلك قال المنذري في الترغيب والترهيب: (4/177) ، وعن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – رواه أيضاً أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح غير محمد بن عبد الملك زنجويه، وعبد الله بن محمد بن عقيل، وقد وثقا كما في مجمع الزوائد، وقال المنذري في المكان السابق: إسناده جيد، وهو في الحلية أيضاً: (7/89) ، ونسبه ابن رجب في شرح هذا الحديث – مطبوع ضمن جامع بيان العلم وفضله: (1/167) إلى سنن النسائي الكبرى وكذلك العراقي في تخريج أحاديث الإحياء: (3/226) .
والحديث ورد عن ابن عمر –رضي الله تعالى عنهما – أيضاً في مسند البزار، قال الهيثمي – المكان السابق –: وفيه قطبة بن العلاء، وقد وثق، وقال المنذري – المكان السابق – إسناده حسن وهو في الحلية: (7/89) ، ونسبه السيوطي في جمع الجوامع: (1/704) إلى تاريخ ابن عساكر.
وورد من رواية عاصم بن عدي – رضي الله تعالى عنه – في معجم الطبراني الأوسط وإسناده حسن كما في مجمع الزوائد – المكان السابق –.
وورد حديث ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – عند الطبراني في الأوسط أيضاً وفيه عيسى بن ميمون وهو ضعيف، وقد وثق، كما في المجمع – المكان السابق – وهو في الحلية: (10/219-220) .
وورد أيضاً من رواية أبي سعيد الخدري – رضي الله تعالى عنه – عند الطبراني في الأِوسط لكن فيه خالج بن يزيد العمري وهو كذاب كما في المجمع – المكان السابق – وانظر حال خالد في الميزان: (1/646) ، وفيه: كذبه أبو حاتم، ويحيى، وقال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الأثبات وقرر ذلك ابن حجر في اللسان: (2/390) .
وورد الحديث من رواية أسامة بن زيد – رضي الله تعالى عنهما – في حلية الأولياء: (7/89) ونقل ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله: (1/167) عن وهب بن منيه أنه قال: إن جمع المال وغشيان السلطان لا يبقيان من حسنات المرء إلا كما يبقي ذئبان جائعان ضاريان سقطا في حظار فيه غنم، فباتا يجوسان حتى أصبحا.
هذا وللإمام العلم الحافظ الصالح شيخ الإسلام ابن رجب الحنبلي – رحمه الله تعالى – رسالة فذة مباركة في شرح هذا الحديث، مطبوعة ضمن جامع بيان العلم وفضله: (1/167-183) فانظرها لزاماً.(3/129)
".
وقد حقق الصحابة الكرام – رضوان الله تعالى عليهم – الزهد في متاع الدنيا وعرضها من مال ومنزلة وجاه، فعلت رتبتهم، وكانوا أفضل ممن جاء بعدهم، ولو عملوا من الصالحات الظاهرة أكثر منهم، روى الحاكم في المستدرك عن عبد الله بن مسعود، رضي الله تعالى عنه – قال: أنتم: أي: يا معشر التابعين – أكثر صلاة، وأكثر صياماً من أصحاب محمد – صلى الله عليه وسلم –، وهم كانوا خيراً منكم قالوا: وبم؟ قال: كانوا أزهد منكم في الدنيا، وأرغب منكم في الآخرة (1) .
__________
(1) انظر المستدرك – كتاب الرقاق –: (4/315) ، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وأقره الذهبي، ورواه الطبراني كما في مجمع الزوائد: (10/325) ، وقال الهيثمي: فيه عمارة بن يزيد صاحب ابن مسعود ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات 10هـ وعمارة موجود في سند الحاكم ولكن ليس بالصفة التي ذكرها الهيثمي، بل هو عمارة بن عمير عن عبد الرحمن بن يزيد عن ابن مسعود – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – فتأمل كلام الهيثمي، وانظر سند الطبراني، وانظر الأثر في كتاب الزهد والرقاق: (173) ، وحلية الأولياء: (1/136) .(3/130)
وفي كتاب الزهد للإمام ابن المبارك، وحلية الأولياء عن إبراهيم التيمي – عليهم جميعاً رحمة الله تعالى – قال: كم بينكم وبين القوم؟ أقبلت عليهم الدنيا فهربوا منها، وأدبرت عنكم فاتبعتموها (1) .
وما خوف من خاف ممن تقدم ذكرهم من الصحابة الطاهرين من إقبال الدنيا عليهم إلا خشية نقصان درجتهم عند رب العالمين، لأن كل من أصاب من الدنيا نعيماً نقص من درجاته عند رب العالمين، وإن كان عليه كريماً، روى ذلك ابن أبي الدنيا بسند جيد عن ابن عمر – رضي الله تعالى عنهما – ونص كلامه: لا يصيب عبد من الدنيا شيئاً إلا نقص من درجاته عند الله – جل وعلا – وإن كان عليه كريماً (2) .
__________
(1) انظر كتاب الزهد والرقاق: (194) ، وحلية الأولياء: (4/212) ، وروي عنه في: (4/214) أنه قال: إن من كان قبلكم يفرون من الدنيا وهي مقبلة عليهم، ولهم من القدم ما لهم، وأنتم تتبعونها وهي مدبرة عنكم ولكم من الأحداث مالكم، فقيسوا أمركم وأمر القوم، وكان يقول كما في الحلية: (4/215) إذا رأيت الرجل يتهاون في التكبيرة الأولى فاغسل يدك منه، انظر أخباره الطيبة، وترجمته العطرة في صفة الصفوة: (3/90-92) ، وفيه كانت وفاته سنة اثنتين وتسعين وذكر سبباً لذلك يدل على نبله وفضله فانظره لزاماً وانظر تذكرة الحفاظ: (10/73) وتهذيب التهذيب: (1/176-177) .
(2) انظر الترغيب والترهيب: (4/163) ، وفيه: رواه ابن أبي الدنيا وإسناده جيد، وروي عن عائشة – رضي الله تعالى عنها – مرفوعاً، والموقوف أصح، ونقل الحافظ في الفتح: (11/280) كلام المنذري في حكمه على سند الموقوف بأنه جيد، ولم يعترض عليه.(3/131)
قال عبد الرحيم – غفر الله له ذنوبه أجمعين، ورفع من قلبه حب الدنيا والتعلق بها آمين لي وللمسلمين –: ولأثر ابن عمر – رضي الله تعالى عنهما – شواهد ثابتة في الشرع المطهر، واضحة المعنى ظاهرة الدلالة كوضوح الشمس في رابعة النهار، وكظهور القمر ليلة البدر، فمن ذلك ما ثبت في صحيح مسلم وغيره عن عبد الله بن عمرو – رضي الله تعالى عنهما – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: "ما من غازية تغزو في سبيل الله فيصيبون الغنيمة إلا تعجلوا ثلثي أجرهم من الآخرة ويبقى لهم الثلث، وإن لم يصيبوا غنيمة تم لهم الأجر" وفي لفظ لمسلم وغيره أيضاً: "ما من غازية أو سرية تغزو فتغنم إلا كانوا قد تعجلوا ثلثي أجورهم، وما من غازية أو سرية تخفق وتصاب إلا تم أجورهم (1)
__________
(1) انظر صحيح مسلم – كتاب الإمارة – باب قدر ثواب من غزا فغنم ومن لم يغنم –: (3/1514-1515) ، وسنن أبي داود – كتاب الجهاد – باب في السرية تخفق –: (3/18) ، وسنن النسائي – كتاب الجهاد – باب ثواب السرية تخفق –: (6/16) ، وسنن ابن ماجه – كتاب الجهاد – باب النية في القتال: (2/931) ، والمسند: (2/169) .
قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم –: (13/52) : وأما معنى الحديث فالصواب الذي لا يجوز غيره أن الغزاة إذا سلموا أو غنموا يكون أجرهم أقل من أجر من لم يسلم، أو سلم ولم يغنم وأن الغنيمة هي في مقابل جزء من أجر غزوهم، فإذا حصلت لهم فقد تعجلوا ثلثي أجرهم المترتب على الغزو، وتكون هذه الغنيمة من جملة الأجر، وهذا موافق للأحاديث الصحيحة المشهورة عن الصحابة – رضي الله تعالى عنهم – كقوله: منا من مات ولم يأكل من أجره شيئاً ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهد بها، تقدم في صفحة: (.....) تخريج هذا القول، فهذا الذي ذكرناه هو الصواب، وهو ظاهر الحديث، ولم يأت حديث صريح صحيح يخالف هذا فتعين حمله على ما ذكرناه 10هـ وكذلك قرر الحافظ في الفتح: (6/8-10) ، والألوسي في روح المعاني: (11/28) .(3/132)
". أسأل الله الكريم رب العرش العظيم، أن يرفع من قلوبنا التعلق بزهرة الدنيا وزينتها لحب لقاءه، ونحظى برضاه، إنه مولانا وحسبنا ونعم الإله ربنا (1) .
مسألة جليلة:
يتعلق بالخوف من سوء الخاتمة، بالأسباب المفضية إليها أمر مهم ينبغي التنبيه عليه، وهو: الاستثناء في الإيمان، أي: قول الإنسان: أنا مؤمن إن شاء الرحمن ووجه تعلق هذه المسألة بخوف سوء الخاتمة، وبالأمور الموصلة إليها، أن المؤمن لا يخلو من تقصير، ولا يعلم إلى أي شيء سيصير، وكم وكم يختم لمدعي الإيمان بموجب خلوده في النيران – نسأل الله الكريم السلامة من ذلك، والنجاة من جميع المهالك، فهو الرحيم المالك – وإليك تفصيل القول في ذلك.
للناس في هذه المسألة ثلاثة أقوال مشهورة، وفي الكتب مزبورة:
القول الأول:
حرم الاستثناء في الإيمان على المكلفين من البرية، طائفة من الحنفية وعدد من الفرق الزائغة الغوية، وهم: المعتزلة، والخوارج، والمرجئة، والجهمية.
وحجتهم في ذلك أمران باطلان:
الأمر الأول:
تفسيرهم للإيمان بالتصديق الذي بقلب الإنسان، دون اعتبار العمل بالأركان، وزعموا أن التصديق لا تتفاوت نسبه في الإنس والجان، وعليه فلا يجوز الاستثناء في الإيمان، لأنه متحقق بالجنان، وثابت بالبرهان.
الأمر الثاني:
__________
(1) من أدعية أبي الدرداء – رضي الله تعالى عنه – كما في الحلية: (1/219) والزهد – الرقاق –: (224) ، وصفة الصفوة: (1/639) : اللهم إني أعوذ بك من تفرقة القلب، قيل: وما تفرقة القلب؟ قال: أن يوضع لي في كل واد مال وكان يقول كما في الحلية: (1/217-218) : يا أهل دمشق ألا تستحيون؟ تجمعون ما لا تأكلون وتبنون ما لا تسكنون، وتأملون ما لا تبلغون، فقد كان القرون من قبلكم يجمعون فيوعون، ويأملون فيطيلون، ويبنون فيوثقون، فأصبح جمعهم بوراً، وأملهم غروراً، وبيوتهم قبوراً، هذه عاد قد ملأت ما بين عدن إلى عمان أموالاً وأولاداً، فمن يشتري مني تركة آل عاد بدرهمين؟(3/133)
زعمهم أن من استثنى في إيمانه من المكلفين، فهو من الشاكين، وذلك كفر برب العالمين، ويوجب لصاحبه الخلود في سجين.
والأمران باطلان يا طالب العلم الهمام، فاحذر تلك الوساوس والأوهام
* أما الأول فمنقوص من وجهين:
1- قصر الإيمان على التصديق بالجنان مخالف لصريح القرآن، وللأحاديث المتواترة عن خير الأنام – عليه الصلاة والسلام – ولما أجمع عليه سلفنا الكرام – عليهم الرحمة والرضوان – من أن الإيمان تصديق بالجنان، وإقرار باللسان وعمل بالأركان، يزيد بالطاعة والإذعان، وينقص بالفسوق والعصيان (1) .
__________
(1) انظر إيضاح هذا وتقريره في فتح الباري: (1/46-47) ، وشرح النووي لصحيح مسلم: (1/144-150) ، وشرح السنة – كتاب الإيمان – باب بيان أن الأعمال من الإيمان، وأن الإيمان يزيد وينقص، والرد على المرجئة: (1/33-47) ، وكتاب الإيمان ابن منده: (1/305) فما بعدها باب ذكر ما يدل على أن اسم الإيمان واقع على من يصدق بجميع ما أتى به المصطفى – صلى الله عليه وسلم – عن الله نية وإقراراً وعملاً وإيماناً – وباب ذكر ما يدل على أن الإيمان هو الطاعات كلها –: (1/327) فما بعدها، وباب ذكر خبر يدل على أن الإيمان قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالأركان يزيد وينقص: (2/341) ، فما بعدها وانظر كتاب الإيمان الكبير، وكتاب الإيمان الأوسط لابن تيمية ضمن المجلد السابع من مجموع الفتاوى، وانظر كتاب الإيمان لابن أبي شيبة وكتاب الإيمان لأبي عبيد القاسم بن سلام كل منهما في خمسين صفحة.(3/134)
2- على التنزل في تفسير الإيمان بالتصديق فقط، فالقول بعدم تفاوت نسبة التصديق غلظ، لان نفس التصديق يزيد بكثرة الأدلة وتظاهرها، فالاعتقاد عقدة على القلب تارة تشتد وتقوى، وتارة تضعف وتسترخي، كحال العقدة على الخيط تماماً، يضاف إلى ذلك أن القيام بالأعمال يؤثر في نمام التصميم وزيادته، كما يؤثر سقى الماء في نماء الأشجار، ولذينك الاعتبارين كان إيمان الصديقين، أقوى من إيمان سائر المكلفين، فلا تؤثر فيهم وساوس الشياطين، بل لا تعتريهم شبهة في الدين، ولا تزال قلوبهم منشرحة بنور رب العالمين في كل حين، ولا يحصل ذلك المقام الكريم لغيرهم من المؤمنين ولا يشكك في هذا ذو عقل سليم (1) .
وإذا ذانك الوجهان – وهما ثابتان بالبرهان – فيصح الاستثناء في الإيمان، لأنه غير متحقق على وجه التمام، فاعلم هذا يا أخا الإسلام.
* وأما الأمر الثاني فمردود أيضاً:
... لأن الاستثناء في الإيمان، لا يعني شك الإنسان في ربنا الرحمن، بل ذلك اعتبارات حسان، عند سلفنا الكرام، سيأتيك بيانها بالحجة والبرهان، عند القول الثالث إن شاء ذو الجلال والإكرام.
القول الثاني:
أوجب أبو يعلى وطائفة من المحدثين الكرام الاستثناء في الإيمان، وحجتهم في ذلك بعض حجج القول الثالث، وسأنبه عليها عند بيان القول الثالث واستعراض حججه فانظرها هناك.
القول الثالث:
قول السلف الأخيار وهو مذهب أهل السنة الأبرار، أن كل من الاستثناء وعدمه جائزان باعتبار، لكن لما نبز أهل البدع الأشرار، أهل السنة الأطهار، بأنهم شكاك (2) ولاستثنائهم في إيمانهم بالعزيز الغفار، استحب أهل السنة الكرام، الاستثناء في الإيمان، رداً على أهل الزيغ والطغيان، وإليك تفصيل قولهم بالبرهان.
أولاً:
__________
(1) انظر تفصيل ذلك وتقريره في إحياء علوم الدين: (1/125) ، وشرح صحيح مسلم: (1/148-149) .
(2) انظر نبز المرجئة لأهل السنة بذلك اللقب الشنيع في مجموع الفتاوى: (5/111، 7/666) .(3/135)
.. جواز ترك الاستثناء في الإيمان برب الأرض والسماء، نظراً لدخول المكلف في الإيمان، وجريان أحكامه عليه في دار الامتحان، عندما يقر بعقيدة الحق باللسان، قال الإمام سفيان الثوري – عليه رحمة ربنا الرحمن –: نحن مؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله، وما ندري ما نحن عند الله – عز وجل – وقال أيضاً: الناس عندنا مؤمنون مسلمون في المناكحة والطلاق والأحكام فأما عند الله – جل وعلا – فلا ندري ما هم، وقال أيضاً: نحن مؤمنون، والناس عندنا مؤمنون، وهؤلاء القوم – أي: أهل البدع من المرجئة وأشباههم – يريدون منا أن نشهد أنا عند الله مؤمنون، ولم يكن هذا فعال من مضى (1) .
ثانياًَ:
... جواز الاستثناء في الإيمان برب الأرض والسماء لأربعة أشياء:
1- للشك في كمال الإيمان لا في أصله عند الإنسان، فكل مكلف لا يجزم ببلوغه في إيمانه درجة التمام، بل عنده شيء كثير من النقصان، يدل على هذا وجهان سديدان:
الوجه الأول:
... لا يتحقق كمال الإيمان إلا بالبراءة من النفاق، ولا يسلم مكلف منه باتفاق، كما تقدم تقرير ذلك، فمل عن الشقاق.
الوجه الثاني:
__________
(1) انظر نسبة تلك الأقوال إليه في الإحياء: (1/127) ، ومسائل الإمام أحمد: (274) ، وشرح السنة (1/42) ، وفي مجموع الفتاوى: (7/669) وأما جواز إطلاق القول بأني مؤمن فيصح إذا عني به أصل الإيمان دون كماله، والدخول فيه دون تمامه، وفي شرح صحيح مسلم: (1/150) : فمن أطلق نظر إلى الحال، وأحكام الإيمان جارية عليه في الحال.(3/136)
.. يشترك لكمال الإيمان، القيام بطاعة الرحمن، ولا يمكن لأي مكلف كان أن يدعي حصولها على وجه الكمال والتمام، قال ذو الجلال والإكرام: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} الأنفال2-4، وقال – جل جلاله –: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} الحجرات15، وقال – عز وجل –: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} البقرة177، فمن ادعى كمال الإيمان فعليه بتحقيق تلك الأوصاف الحسان، ليكون من المؤمنين حقاً عند الرحمن، ومن الصادقين في دعواهم بالبرهان، وقد ثبت عن نبينا – عليه الصلاة والسلام – أنه قال: "الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان (1)
__________
(1) وورد الحديث بلفظ: "بضع وستون شعبة" ولا منافاة بين الروايتين لأن القليل داخل في الكثير، انظر روايات الحديث الشريف في صحيح البخاري – كتاب الإيمان – باب أمور الإيمان –: (1/51) بشرح ابن حجر، وصحيح مسلم – كتاب الإيمان – باب بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها، وأدناها، وفضيلة الحياء وكونه من الإيمان: (1/63) ، وسنن أبي داود – كتاب السنة – باب في رد الإرجاء: (5/55-56) ، وسنن الترمذي – كتاب الإيمان – باب ما جاء في استكمال الإيمان وزيادته ونقصانه: (7/278-279) ، وسنن النسائي – كتاب الإيمان وشرائعه – باب ذكر شعب الإيمان –: (8/96-97) ، وسنن ابن ماجه – المقدمة – باب في الإيمان –: (1/22) ، والمسند: (2/379، 414، 445) ، ومسند الطيالسي – منحة المعبود – كتاب الإيمان – باب ما جاء في شعب الإيمان: (1/23) ، وشرح السنة – كتاب الإيمان – باب بيان أن الأعمال من الإيمان: (1/34) ، وكتاب الإيمان لأبي عبيد: (60-61) كلهم عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه –.(3/137)
". فمن قام بجميع شعب الإيمان فقد صدق في دعواه الإيمان، واستحق دخول الجنان، ونيل رضوان الرحمن، ومن لا فأمره موكول لمشيئة ذي الجلال والإكرام، ولا ينبغي له أن يجزم بدعوى الإيمان، بل يقول: أنا مؤمن إن شاء ربنا الرحمن، وهذا هو المنقول عن السلف الكرام، روى أبو عبيد في كتاب الإيمان عن الحسن البصري – رحمهما الله تعالى – قال: قال رجل عند عبد ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه – أنا مؤمن، فقال ابن مسعود: فأنت من أهل الجنة؟ قال: أرجو: فقال ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه –: أفلا وكلت الأولى كما وكلت الأخرى؟ وروى عبد الرزاق في مصنفه عن شقيق – رحمهما الله تعالى – قال: كنا مع ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه – في سفر، فلقي ركباً، فقلنا: من القوم؟ قالوا: نحن المؤمنون، فقال ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه –: فهلا قالوا نحن من أهل الجنة؟ قال الشيخ ابن تيمية نقلاً عن الشيخ أبي إسماعيل الأنصاري – عليهما رحمة الله تعالى –: فذهب سلف أصحاب الحديث كابن مسعود وأصحابه – رضي الله تعالى عنهم – وابن عيينة، وأكثر علماء الكوفة، ويحيى بن سعيد القطان، فيما يرويه عن علماء أهل البصرة، وأحمد بن حنبل، وغيره من أئمة السنة – رحمهم الله جميعاً – الاستثناء في الإيمان، وهذا متواتر عنهم وصرحوا بأن الاستثناء إنما هو لأن الإيمان يتضمن فعل الواجبات، فلا يشهدون لأنفسهم بذلك، كما لا يشهدون لها بالبر والتقوى، فإن ذلك مما لا يعلمونه (1) .
__________
(1) انظر أثر ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه – في كتاب الإيمان لأبي عبيد: (67-68) ، ومصنف عبد الرازق: (11/127) ، وورد في كتاب الإيمان لابن أبي شيبة أيضاً: (9، 46) ، وانظر ما نقله الشيخ ابن تيمية عن الشيخ الأنصاري في مجموع الفتاوى: (7/438-439) ، باختصار يسير وفي الإحياء: (1/127) ، وقيل للحسن البصري – عليه رحمة الله تعالى –: أمؤمن أنت؟ فقال: إن شاء الله، فقيل له: لم تستثني يا أبا سعيد في الإيمان؟ فقال: أخاف أن أقول نعم، فيقول الله – سبحانه وتعالى –: كذبت يا حسن، فتحق عليّ الكلمة، وكان يقول: ما يؤمنني أن يكون الله – جل وعلا – قد اطلع عليّ في بعض ما يكره، فقال: اذهب فلا قبلت لك عملا، فأنا أعمل في غير معمل.(3/138)
2- للشك في الخاتمة، فلا يدري الإنسان، أيختم له عند الموت بالإيمان، أم يسلب عنه في ذلك الأوان، وقد تقدم بيان شدة خوف سلفنا الكرام من سوء الختام، ولذلك ينبغي على الإنسان الاستثناء في الإيمان، وتعليل الاستثناء بخوف سوء الخاتمة مع صحته، وبه علل كثير من المتأخرين، فليس ذلك التعليل مراداً من قول ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه – ومما شاكله من أقوال السلف الكرام، ومن فهم ذلك من كلامهم فهو غالط عليهم، ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية – عليه رحمة رب البرية –: إن الإمام أحمد وغيره من السلف – عليهم رحمة الله تعالى – لم يكن هذا مقصودهم – أي: تعليل الاستثناء بخوف سوء الخاتمة – وإنما مقصودهم أن الإيمان المطلق يتضمن فعل المأمورات، فقوله: أنا مؤمن، كقوله: أنا ولي الله – جل وعلا –، وأنا مؤمن تقي، وأنا من الأبرار، ونحو ذلك، وابن مسعود – رضي الله تعالى عنه – لم يكن يخفى عليه أن الجنة لا تكون إلا لمن مات مؤمناً وأن الإنسان لا يعلم على ماذا يموت، فإن ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه – أجل قدراً من هذا، وإنما أراد: سلوه هل هو في الجنة إن مات على هذه الحال؟ كأنه قال: سلوه أيكون من أهل الجنة على هذه الحال؟ فلما قال: الله أعلم، قال: أفلا وكلت الأولى كما وكلت الثانية، يقول: هذا التوقف يدل على أنك لا تشهد لنفسك بفعل الواجبات، وترك المحرمات، فإنه من شهد لنفسه بذلك شهد لنفسه أنه من أهل الجنة إن مات على ذلك (1) .
__________
(1) انظر مجموع الفتاوى: (7/417-418) ، وورد تقرير ذلك أيضاً في: (7/432، 439، 669) .(3/139)
والحاصل: أن تعليل الاستثناء في الإيمان بخوف سوء الخاتمة تعليل صحيح مقبول، وإن لم يكن ذلك التعليل هو المراد من قول أئمة السلف الفحول، قال الإمام البغوي – عليه رحمة ربنا القوي –: ويجوز أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، لا على معنى الشك في إيمانه واعتقاده مت حيث علمه بنفسه، فإنه فيه على يقين وبصيرة، بل على معنى الخوف من سوء العاقبة، وخفاء علم الله – تبارك وتعالى – فيه عليه، فإن أمر السعادة والشقاء يبتني على ما يعلم الله من عبده، ويختم عليه أمره لا على ما يعلمه العبد من نفسه (1) .
__________
(1) انظر شرح السنة: (1/41) ، ونحوه في إيحاء علوم الدين: (1/129-130) ، والمنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج: (1/150) .(3/140)
3- خشية تزكية النفس، والله – جل وعلا – قد نهى عن ذلك وحذر منه، فقال – جل وعلا –: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} النجم32، وقال – جل جلاله –: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُّبِيناً} النساء49-50، وقيل لحكيم: ما الصدق القبيح؟ قال: ثناء المرء على نفسه، وعقب الغزالي على هذا بقوله: والإيمان من أعلا صفحات المدح، والجزم به تزكية مطلقة، وصيغة الاستثناء كأنها نقل من عرف التزكية، كما يقال للإنسان: أنت طبيب، أو فقيه، أو مفسر؟، فيقول: نعم، إن شاء الله – تبارك وتعالى – لا في معرض التشكيك، ولكن لإخراج نفسه عن تزكية نفسه، فالصيغة صيغة الترديد، والتضعيف لنفس الخبر، ومعناه التضعيف للازم من لوازم الخبر وهو التزكية (1) ، ولذلك لما قيل لعلقمة – عليه رحمة الله تعالى – أمؤمن أنت؟ قال: أرجو (2) .
__________
(1) انظر الإحياء: (1/127) ، ونحوه في مجموع الفتاوى: (7/668) ، وكتاب الإيمان لأبي عبيد القاسم بن سلام: (69) ، واعلم أنه لا ينبغي للإنسان أن يخبر بمحاسن نفسه إلا لمصلحة شرعية، كما قال نبي الله يوسف – على نبينا وعليه الصلاة والسلام –: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} يوسف55، وانظر ذلك في الإحياء: (3/278) .
(2) روى ذلك عنه ابن أبي شيبة في كتاب الإيمان: (9) ، وأبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الإيمان أيضاً: (68) ، ونقله عنه الغزالي في الإحياء: (1/127) .(3/141)
4- طلباً للتأدب بذكر الله – جل وعلا – في كل حال، وإحالة الأمور كلها إلى مشيئة الله – تبارك وتعالى –، فبذلك أمر الله نبيه – صلى الله عليه وسلم – فقال – جل وعلا –: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ} الكهف23-24، ولم يقصر ربنا ذلك على ما يشك فيه، بل جعله أيضاً فيما لا يشك في حصوله، وهو واقع لا محالة، فقال – جل وعلا –: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً} الفتح27، ولذلك كان نبينا – صلى الله عليه وسلم – يقول: إن شاء الله فيما يخبر عنه معلوماً كان أو مشكوكاً كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – قال: أتى رسول الله –صلى الله عليه وسلم المقبرة، فقال: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون" وفيه أيضاً عن بريدة – رضي الله تعالى عنه – قال: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر، فكان قائلهم يقول: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون، أسأل الله لنا ولكم العافية (1) ،
__________
(1) تقدم تخريج الحديثين الشريفين في هذا الكتاب المبارك ك ( ... /196) ..(3/142)
ومن المعلوم أن اللحوق بهم غير مشكوك، ولكن مقتضى الأدب ذكر الله – جل وعلا – وربط الأمور به، وهذه الصيغة دالة عليه، حتى صار بعرف الاستعمال عبارة عن إظهار الرغبة والتمني، فإذا قيل لك: إن فلاناً سيموت سريعاً، فتقول: إن شاء الله، فيفهم منه رغبتك لا تشكك، وإذا قيل لك: فلان سيزول مرضه ويصح، فتقول: إن شاء الله، بمعنى الرغبة فقد صارت الكلمة معدولة عن معنى التشكيك إلى معنى الرغبة، وكذلك العدول إلى معنى التأدب بذكر الله – تبارك وتعالى – كيف كان الأمر (1) .
__________
(1) هذا تقرير الإمام الغزالي في الإحياء: (1/127-128) ، وبه قال سلفنا الكرام ففي كتاب الإيمان لأبي عبيد بن سلام عن الأوزاعي قال: من قال: أنا مؤمن فحسن، ومن قال: أنا مؤمن إن شاء الله فحسن" لقول الله – عز وجل –: "لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ" وقد علم أنهم داخلون، ونحوه في مجموع الفتاوى: (7/668-229، 682) .(3/143)
وهذه الاعتبارات الأربعة للاستثناء في الإيمان هي عمدة من قال بموجب الاستثناء في الإيمان، لا سيما على الاعتبارين الأوليين ويليهما الثالث، لكن القول بالوجوب في كل حال وعلى كل اعتبار غير مسلم وقد علمت وجه اعتبار عدم الاستثناء في الإيمان عند أهل السنة الكرام، وعليه فالوجهان جائزان، وهذا هو العدل من الكلام، في هذه المسألة العظيمة الشأن، قال الإمام النووي – عليه رحمة الله تعالى –: والقول بالتخيير حسن صحيح نظراً إلى مأخذ القولين، ورفعاً لحقيقة الخلاف، وقال الإمام ابن تيمية – عليه رحمة الله تعالى –: وأما الاستثناء في الإيمان فالناس فيه على ثلاثة أقوال، منهم من يوجبه، ومنهم من يحرمه، ومنهم من يجوز الأمرين باعتبارين، وهذا أصح الأقوال، وكرر ذلك الكلام أيضاً، فقال: ومنهم من يجوزه أو يستحبه، وهذا أعدل الأقوال، وإنما ذكر أن الاستثناء سنة بمعنى أنه جائز رداً على من نهى عنه، وقال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام – عليه رحمة الله تعالى –: كان الأوزاعي يرى الاستثناء وتركه واسعين (1) .
* خوف سلفنا الصالحين من رب العالمين – جل وعلا –:
__________
(1) انظر شرح صحيح مسلم: (1/150) ، ومجموع الفتاوى: (7/429، 666، 681) والإيمان لأبي عبيد: (68) .(3/144)
.. سأختم بحث الخوف من ربنا العظيم، بذكر نماذج من خوف سلفنا الطيبين، لنحذو حذوهم الكريم، ونحظى برحمة أرحم الراحمين، فعند ذكرهم تنزل الرحمات، ويرضى رب الأرض والسموات (1) .
__________
(1) ولذلك قال سفيان ابن عيينة – عليه رحمة الله تعالى –: عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة، كما في مسائل الإمام أحمد لأبي داود: (283) ، وصفة الصفوة: (1/45) ، والمصنوع من معرفة الحديث الموضوع: (125) ، والأسرار المرفوعة: (249-250) ، والمقاصد الحسنة: (292) ، وتمييز الطيب من الخبيث: (110) ، وأسنى المطالب: (140) ، وليس لهذا الأثر أصل في المرفوع، وفي علوم الحديث لابن الصلاح: (368) مع المحاسن: روينا عن أبي عمر وإسماعيل بن نجيد أنه سال أبا جعفر أحمد بن حمدان – وكانا عبدين صالحين – فقال له: بأي نية أكتب الحديث؟ فقال: ألستم تروون أنه عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة؟ قال: نعم، قال: فرسول الله – صلى الله عليه وسلم – رأس الصالحين 10هـ قال الشيخ القاري في الأسرار المرفوعة: (250) إن كان "تروون" بواوين فيدل في الجملة على أنه حديث، وله أصل، وإن كان "ترون" من الرواية مجهولاً أو معلوماً فلا دلالة فيه إذ معناه: تعتقدون أو تظنون 10هـ والذي يظهر لي – والله تعالى أعلم – أن لفظ "تروون" وإن كان بواوين، فلا دلالة فيه على أنه حديث، لأن معناه: تروون عن غيركم من العلماء موقوفاً عليهم من قولهم، وانظر أثر أبي عمرو بن الجنيد المتقدم في فتح المغيث: (2/313) ، وقد نسب الغزالي في الإحياء: (2/231) كلام ابن عيينة المتقدم حديثاً مرفوعاً، وتعقبه العراقي في تخريج أحاديث الإحياء، فقال: ليس له أصل في المرفوع، وإنما هو من كلام سفيان بن عيينة، كذا رواه ابن الجوزي في مقدمة صفوة الصفوة.
هذا وقد ورد عن سلفنا الطيبين الحث على ذكر الصالحين ففي أسد الغابة: (4/162) قال ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما –: أكثروا ذكر عمر بن الخطاب – رضي الله تعالى عنه – فإنكم إذا ذكرتموه ذكرتم العدل، وإذا ذكرتم العدل ذكرتم الله – تبارك وتعالى –.(3/145)
* خوف صديق هذه الأمة أبي بكر – رضي الله تعالى عنه –:
تقدمت الإشارة إلى شدة وجله، وكثرة بكاءه، حتى أبكى من حوله، عندما استسقى فأتي بماء وعسل وسأقتصر على ذكر خبرين موجزين من أخباره الكثيرة الشهيرة، الدالة على عظيم خوفه من ربنا ذي النعم الكثيرة، روى الإمام أحمد في كتاب الزهد عن أبي عمران الجوني قال: قال أبو بكر الصديق – رضي الله تعالى عنه –: وددت أني شعرة في جنب عبد مؤمن، وروى الحسن البصري قال: قال أبو بكر الصديق – رضي الله تعالى عنه –: والله لوددت أني كنت هذه الشجرة تؤكل وتعضد (1) ، وإذا كان هذا حال صديق هذه الأمة في الخوف من ربه، فكيف ينبغي أن يكون حال غيره، ولكن هيهات أن يصل أحد إلى ذلك المطلوب، لأن الخوف ليس من كثرة الذنوب، إنما هو من صفاء القلوب، ومراقبة علام الغيوب.
* هذه الأمة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله تعالى عنه –:
__________
(1) انظر كتاب الزهد ك (108، 112) ، ونقلهما ابن الجوزي في صفة الصفوة: (1/251) ، والأثر الثاني في مختصر منهاج القاصدين: (334) .(3/146)
تقدمت الإشارة – أيضاً – إلى شدة خوفه، بحيث كان يسأل حذيفة بن اليمان وأمنا أم سلمة عن نفسه – رضي الله تعالى عنهم أجمعين –،ويقول: هل سماني رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من المنافقين؟ وقد بلغت به شدة الخوف مبلغاً عظيماً، حتى صار في وجهه المبارك خطان أسودان من كثرة البكاء خشية للرحمن، وسأقتصر أيضاً على خبرين من أخباره المتواترة، الدالة على شدة وجله مما يكون في الدار الآخرة، قال عبد الله بن عامر بن ربيعة: رأيت عمر بن الخطاب – رضي الله تعالى عنه – أخذ تينة من الأرض، فقال: ليتني كنت هذه التينة، ليتني لم أخلق، ليت أمي لم تلدني ليتني لم أك شيئاً، ليتني كنت نسياً منسيا (1) . وهذا القول كقول سابقه أبي بكر –رضي الله تعالى عنهما –، فلما ظهرت القلوب، تماثلت الأقوال في الدلالة على الخوف من علام الغيوب.
وكان – رضي الله تعالى عنه – شديد المحاسبة لنفسه، ليحظى برضوان ربه، وكان يحث الرعية للاتصاف بتلك الرتبة العلية قال ثابت بن حجاج قال عمر بن الخطاب – رضي الله تعالى عنه –: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، فإنه أهون عليكم في الحساب إذا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر، يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية (2) .
__________
(1) انظر إحياء الأثر في صفة الصفوة: (1/285) ، وتاريخ عمر بن الخطاب – رضي الله تعالى عنه –: (187) وإحياء علوم الدين: (4/180) .
(2) انظره في الزهد لابن المبارك: (103) ، والزهد للإمام أحمد: (120) وسنن الترمذي – كتاب صفة القيامة –: (7/166) ، ويروي..... فذكره، وقوت القلوب: (1/157) ، وحلية الأولياء: (1/52) والإحياء: (4/391) ، وصفة الصفوة: (1/286) ، وتاريخ عمر بن الخطاب – رضي الله تعالى عنه –: (201) ، وذم الهوى: (40) ، والمصباح المضيء: (1/353، 2/7) ، وأسد الغابة: (4/172) ، ومختصر القاصدين: (401) ، ومحاضرة الأبرار لمن هو من الأشرار: (1/136) .(3/147)
* خوف الصحابة الأبرار من العزيز الغفار:
من تأول حال الصحابة الكرام تحقق عنده بالبرهان، شدة خوفهم من ربنا الرحمن، فكانوا – رضي الله تعالى عنهم – يقلون الكلام، ويبتعدون عن الحرام، ويصلون بالليل والناس نيام، وأعينهم تفيض بالدمع لرب الأنام، ثم هم في النهار فرسان في نشر دين الإسلام، وباختصار يقول الواقف على أحوالهم الحسان: إنهم كانوا في حياتهم كأنهم ينظرون إلى ما في الآخرة رؤيا عيان، روى أبو نعيم في حلية الأولياء، وابن الجوزي في صفة الصفوة أن علياً – رضي الله تعالى عنه – صلى صلاة الفجر، فلما سلم انفتل عن يمينه، ثم مكث كأن عليه كآبة، حتى إذا كانت الشمس على حائط المسجد قيد رمح، قال وقلب يده: لقد رأيت أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فما أرى اليوم أحدا يشبههم، لقد كانوا يصبحون شعثاً صفراً غبراً بين أعينهم أمثال ركب المعزى، قد باتوا لله سجداً وقياماً، يتلون كتاب الله – جل وعلا – يراوحون بين جباههم وأقدامهم، فإذا أصبحوا فذكروا الله – عز وجل – مادوا كما تميد الشجرة في يوم الريح ن وخملت أعينهم حتى تبل ثيابهم، والله لكأن القوم باتوا غافلين (1) .
... ولقد أخبر ابن عباس عن حال الصحابة الطيبين – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – فقال: قلوبهم بالخوف فرحة، وأعينهم باكية، يقولون: كيف نفرح والموت وراءنا، والقبر أمامنا، والقيامة موعدنا، وعلى جهنم طريقنا، وبين يدي الله – عز وجل – موقفنا (2) .
__________
(1) انظر الأثر في حلية الأولياء: (1/76) ، وصفة الصفوة: (1/331-332) ،وإحياء علوم الدين: (4/180) ، ومختصر منهاج القاصدين: (334) .
(2) ورد ذلك في إحياء علوم الدين: (4/181) .(3/148)
.. وثبت في السنن بسند صحيح حسن عن العرباض بن سارية – رضي الله تعالى عنه – قال: صلى بنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ذات يوم – صلاة الغداة – ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كأن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ قال: "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة" الحديث (1) .
* خوف التابعين من رب العالمين:
__________
(1) انظر تكملة الحديث وتخريجه مفصلاً في صفحة: (.....) من هذا الكتاب المبارك.(3/149)
سار المهتدون من التابعين، على هدي الصحابة الطاهرين، في الخوف من رب العالمين، وسيبقى ذلك ديدن الصالحين، إلى يوم الدين، جعلنا الله الكريم منهم بمنه ورحمته آمين آمين وإليك بعض نماذج من أحوالهم النفيسة، لتكون زاداً لك في هذه الدنيا الخسيسة، روى أبو نعيم في الحلية عن إمام التابعين الحسن البصري – عليه رحمة رب العالمين – أنه قال: يحق لمن يعلم أن الموت مورده، وأن الساعة موعده، وأن القيام بين يدي الله – تبارك وتعالى – مشهده، أن يطول حزنه في الدنيا، وكان يقول: إن المؤمن لا يصبح إلا خائفاً وإن كان محسناً لا يصلحه إلا ذلك، ولا يمسي إلا خائفاً، وإن كان محسناً، لأنه بين مخافتين، بين ذنب قد مضى لا يدري ماذا يصنع الله – تبارك وتعالى – فيه، وبين أجل قد بقي لا يدري ما يصيب فيه من المهالك، وقال أيضاً: إن المؤمن قوام على نفسه يحاسب نفسه لله – جل وعلا –، وإنما خف الحساب على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر على غير محاسبة، إن المؤمن يفجأه الشيء بعجبه، فيقول: والله إني لأشتهيك، وإنك لمن حاجتي ولكن والله ما من وصلة إليك، هيهات قد حل بيني وبينك، ويفرط منه الشيء فيرجع إلى نفسه فيقول: ما أردت إلى هذا، مالي ولهذا والله مالي عذر بها، ووالله لهذا أبداً إن شاء الله تعالى، إن المؤمنين قوم أوثقهم القرآن، وحال بينهم وبين هلكتهم، إن المؤمن أسير في الدنيا يسعى في فكاك رقبته، ولا يأمن شيئاً حتى يلقى الله – عز وجل – يعلم أنه مأخوذ عليه في ذلك كله، وقال أيضاً: المؤمن من يعلم أن ما قال الله – عز وجل – كما قال، والمؤمن أحسن الناس عملاً، وأشد الناس خوفاً، لو أنفق جبلاً من مال ما أمن دون أن يعاين – أي: الجنة، ويدخلها – لا يزداد صلاحاً وبراً وعبادة إلا ازداد فرقاً يقول: لا أنجو وكان يقول: والله لا يؤمن عبد بهذا القرآن، إلا حزن، وذبل، وإلا نصب، وإلا ذاب وتعب، والله يا بن(3/150)
آدم لئن قرأت القرآن، ثم آمنت به ليطولن في الدنيا حزنك، وليشتدن في الدنيا خوفك وليكثرن في الدنيا بكاؤك (1) .
وقد كان رحمه الله تعالى – يلتزم بما يقول، وينتصح بما ينصح به غيره، ففي الحلية وصفة الصفوة عن إبراهيم بن عيسى اليشكري قال: ما رأيت أطول حزناً من الحسن، وما رأيته إلا حسبته حديث عهد بمصيبة، وفي صفة الصفوة عن حكيم بن جعفر قال: قال لي مسمع: لو رأيت الحسن لقلت قد بث عليه حزن الخلائق من طول تلك الدمعة، وكثرة ذلك النشيج، وفيه عن محمد بن سعد قال يزيد بن حوشب: ما رأيت أخوف من الحسن وعمر بن عبد العزيز – رحمهم الله جميعاً – كأن النار لم تخلق إلا لهما، وعن خفص بن عمر قال: بكى الحسن، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: أخاف أن يطرحني غداً في النار ولا أبالي (2) .
__________
(1) انظر تلك الأخبار في الحلية: (2/132، 133، 153، 157-158) ، والخبر الأول ذكره الحافظ في الفتح: (11/320) ، وانظر بعض تلك الأخبار في صفة الصفوة: (3/234-235) ، والزهد للإمام أحمد: (258-259) .
(2) انظر حلية الأولياء: (2/133) ، وصفة الصفوة: (3/233) ، والزهد للإمام أحمد: (259، 266) ومن أجل وجود تلك الصفات المباركات فيه شهد له معاصروه بأنه على هدي الصحابة الأبرار ففي طبقات ابن سعد: (7/161-162) ، قال أبو قتادة العدوي: عليكم بهذا الشيخ – يعني الحسن البصري – فإني والله ما رأيت رجلاً قط أشبه رأياً بعمر بن الخطاب – رضي الله تعالى عنه – منه، وقال أبو إسحاق الهمداني: كان الحسن يشبه أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وروى في: (7/174) عن عروة بن الزبير قال: قال رجل لابن سيرين: رأيت كأن طائراً أخذ أحسن حصاة في المسجد، فقال ابن سيرين: إن صدقت رؤياك مات الحسن، فلم يلبث إلا قليلاً حتى مات عليه رحمة رب الأرض والسموات.(3/151)
وفي إحياء علوم الدين: مر الحسن – عليه رحمة الله تعالى – بشاب وهو مستغرق في ضحكه، وهو جالس مع قوم في مجلس فقال له الحسن: يا فتى هل مررت بالصراط؟ قال: لا، قال: فهل تدري إلى الجنة تصير أم إلى النار؟ قال: لا، قال: فما هذا الضحك؟ فما رؤي ذلك الفتى بعدها ضاحكاً، وقال رجل للحسن: يا أبا سعيد كيف أصبحت؟ قال: بخير: كيف حالك؟ فقال الحسن: تسألني عن حالي، ما ظنك بناس ركبوا سفينة، حتى توسطوا البحر فانكسرت سفينتهم فتعلق كل إنسان منهم بخشبة، على أي حال يكونون؟ قال الرجل: على حال شديدة، قال الحسن: حالي أشد من حالهم، قال الغزالي: وروي أنه ما ضحك الحسن أربعين سنة، وكنت إذا رأيته قاعداً كأنه أسير قدم لتضرب عنقه، وإذا تكلم كأنه يعاين الآخرة فيخبر عن مشاهدتها فإن سكت كأن النار تسعر بين عينيه، وعوتب في شدة خوفه وحزنه، فقال: ما يؤمنني أن يكون الله – عز وجل – قد اطلع علي في بعض ما يكره، فمقتني فقال: اذهب فلا غفرت لك، فأنا أعمل في غير معتمل (1) .
__________
(1) انظر الإحياء: (4/181، 183-184) ، وانظر الخبر الأول في كتاب الزهد لابن المبارك: (105) وشبيه بالخبر الثاني في الزهد للإمام أحمد: (262) .(3/152)
وإذا كان يزيد بن حوشب يقول: ما رأيت أخوف من الحسن وعمر بن عبد العزيز وكأن النار لم تخلق إلا لهما، وقد علمت مما تقدم من النقول حال الحسن، فاسمع إلى حال عمر بن عبد العزيز كما تخبر من تخالطه في سره وتطلع على حقيقة أمره، ألا وهي زوجه فاطمة – رحمهم الله تعالى جميعاً – روى الأئمة الكرام ابن المبارك، وأحمد، وأبو نعيم عن المغيرة بن حكيم، قال: قالت لي فاطمة بنت عبد الملك: يا مغيرة قد يكون في الرجال من هو أكثر صلاة وصوماً من عمر بن عبد العزيز، ولكن لم أر رجلاً من الناس قط كان أشد فرقاً من ربه – عز وجل – من عمر بن عبد العزيز، كان إذا دخل بيته ألقى بنفسه في مسجده، فلا يزال يبكي ويدعو، حتى تغلبه عيناه، ثم يستيقظ فيفعل مثل ذلك ليلته أجمع (1) .
وروى أبي نعيم في الحلية عن عبد السلام مولى مسلمة بن عبد الملك أن عمر بن عبد العزيز بكى فبكت زوجته فاطمة، فبكى أهل الدار، لا يدري هؤلاء ما أبكى هؤلاء، فلما تجلت عنهم العبرة قالت فاطمة: يا أبي أنت يا أمير المؤمنين مم بكيت؟ فقال: ذكرت – يا فاطمة – منصرف القوم من بين يدي الله – عز وجل – فريق في الجنة، وفريق في السعير، ثم صرخ وغشي عليه، وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه كان إذا ذكر الموت انتفض انتفاض الطير، وبكى حتى تجري دموعه على لحيته (2) .
__________
(1) انظر الزهد لابن المبارك: (308) ، والزهد للإمام أحمد: (299) ، والحلية: (5/260) .
(2) انظر الخبرين في حلية الأولياء: () 5/269، 316) ، والأول في البداية والنهاية: (9/264) ، وصفوة الصفوة: (2/121) ، ونحو الخبر الثاني في الزهد لابن المبارك: (309) .(3/153)
وكان يوصي الناس بإصلاح السرائر والاستعداد لليوم الآخر فيقول: يا أيها الناس أصلحوا سرائركم تصلح علانيتكم، واعملوا لآخرتكم تكفوا دنياكم، واعلموا أن رجلاً ليس بينه وبين آدم – علي نبينا وعليه الصلاة والسلام – أب حي لمغرق حتى الموت (1) .
واعلم أخي الكريم أن غالبية سلفنا الطيبين كانوا على ذلك الخلق العظيم فالإمام عبد الأعلى التيمي – عليه رحمة الله تعالى – يقول: شيئان قطعا عني لذاذة الدنيا: ذكر الموت، والوقوف بين يدي الله – عز وجل – (2) .
وقد بلغ بهم الخوف من الرحمن – جل وعلا – مبلغاً عظيماً قال الجنيد سمعت السري السقطي – عليهما رحمة الله تعالى – يقول: إني لأنظر إلى أنفي كل يوم مراراً مخافة أن يكون وجهي قد اسود، وقال إبراهيم بن أدهم كان عطاء السلمي – عليهما رحمة الله تعالى – يمس جلده بالليل خوفاً من ذنوبه، مخافة أن يكون قد مسخ (3) .
__________
(1) كما في الحلية: (5/265-266) ، وقد أخبرت زوجه فاطمة كما في الحلية: (5/315) أن جل مرضه كان بسبب خوفه من ربه – عز وجل – وفي كتاب الزهد للإمام أحمد: (291) بكى عمر بن عبد العزيز حتى بكى الدم.
(2) كما في حلية الأولياء: (5/89) ، وتقدم في صفحة: (....) من هذا الكتاب المبارك نقل الكلام عنه في ملازمة البكاء للعلماء الأتقياء.
(3) انظر الخبر الأول في الحلية: (10/116) ، وصفة الصفوة: (2/376) ، وإحياء علوم الدين: (4/181) ، ومختصر منهاج القاصدين: (335) ، والخبر الثاني في الحلية: (6/222) ، والإحياء: (4/182) .(3/154)
قال العبد الخطاء مقيد هذه الأخبار عن أئمتنا الأتقياء: كيف لا يعظم خلف سلفنا النجباء من مالك جميع الأشياء، وقد دلت آيات القرآن الكريم، أنه لا تحصل النجاة من دار الجحيم، والفوز بدار النعيم، إلا بالخوف من رب العالمين، فاستمع للدلالة على ذلك من آي الذكر الحكيم حسبما نقل عن سلفنا الصالحين، روى أبو نعيم في الحلية عن إبراهيم التيمي – عليهما رحمة الله تعالى – أنه قال: ينبغي لمن لم يحزن أن يخاف أن يكون من أهل النار، لأن أهل الجنة قالوا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} فاطر34، وينبغي لمن لم يشفق أن يخاف أن لا يكون من أهل الجنة، لأنهم قالوا: {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} الطور26 (1) اللهم ارزقنا خشيتك في السر والعلانية، واجعل سرنا خيراً من علانيتنا، واجعل علانيتنا صالحة، واختم لنا بما يرضيك عنا، واجعل خير أيامنا يوم لقاك، بفضلك ورحمتك يا من لا يخيب من رجاك.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، والحمد لله رب العالمين.
ثانيا: رجال المؤمنين، رحمة أرحم الراحمين:
... تقدم البرهان على أن الخوف والرجاء متلازمان، وتقدم أيضاً البيان على أن ما يقع في قلب الإنسان من الأمور المستقبلة في الأزمان، إن كانت من الخيرات الحسان، حصل للقلب تعلق بها، وطمع في وجودها، ورغبة في حصلوها، وارتياح بسبب حلولها، وذلك هو الرجاء.
... وبناء على ما تقدم يقال في تعريف الرجاء: إنه ارتياح القلب لانتظار محمود تمهدت أسبابه الدخلة تحت اختيار العبد، ولم يبق إلا ما ليس في اختياره، وهو فضل الرب – جل وعز –.
وفي تعريف الرجاء أمران مهمان، ينبغي أن يعرفهما بنو الإسلام وهما:
__________
(1) انظر حلية الأولياء: (4/215) والآية الأولى من سورة فاطر: (33) ، والآية الثانية من سورة الطور: (26) .(3/155)
الأمر الأول: لا يطلق اسم الرجاء إلا على ما يقع التردد في حصوله، فلا يقال ذلك اللفظ فيما هو مقطوع في حصوله، كما هو الحال في الخوف تماماً، يقال: أرجو نزول المطر، وأخاف انقطاعه، وأرجو مغفرة ذنوبي يوم الحساب، وأخاف من المؤاخذة والعقاب، ولا يقال: أرجو نزول المطر وقت نزوله، وأخاف انقطاعه وقت انقطاعه، وأرجو قيام القيامة، وأخاف عدم قيامها.
الأمر الثاني: إذا لم يبذل المكلف ما في وسعه من الأسباب، فهو في دعوى الرجاء كذاب، وذلك حماقة وغرور، وعجز وتمن من قبل أهل الشطط والثبور، وإليك تقرير هذا بالأمثلة الحسيات، ثم إقامة البرهان عليه بالأدلة البينات (1) .
المثال الأول:
... من رجا حصول الولد بذل ما في وسعه من الأسباب الممكنة للحصول عليه بطريقة محكمة، فيسعى في تحصيل منكح له قابل للولادة، ولا يكفي حصوله عنده لوجود الولد، حتى يلقي البذر فيه عند أهل الرشد، وهذا ما في وسه كل أحد، ثم يرجو فضل ربه الصمد، في خلق الولد، ودفع الآفات عنه وعن أمه إلى أن يكتمل حمله، ويتسهل خروجه، فمن قام بذينك الأمرين: بذل ما في الوسع، وانتظار فضل الرب – جل وعلا – فهو كيس عاقل.
... ومن رجا الولد ولم ينكح ما هو قابل للولادة، أو نكح ولم يلق في منكوحه البذر فهو أحمق مغرور باتفاق أهل العقول، ولا يعتبر ذلك من الرجاء عند الأذكياء الأزكياء، بل هو عته وسفاهة باتفاق العقلاء.
وهكذا الحال في رجاء رحمة رب الأرض والسماء، سواء بسواء، فمن رجاها، ولم يعمل بمقتضاها، فهيهات هيهات أن يلقاها.
المثال الثاني:
__________
(1) انظر إيضاح هذا في إحياء علوم الدين: (4/139) ، ومدارج السالكين: (2/35) ، ومختصر منهاج القاصدين: (316-318) ، وموعظة المؤمنين: (342) ، واتحاد السادة المتقين: (9/165-166) ، والتعريفات: (97) – باب الراء –.(3/156)
.. إذا رجا المزارع محصولاً طيباً، طلب أرضاً طيبة، وألقى فيها بذراً جيداً غير عفن ولا مسوس، ثم أمده بما يحتاج إليه، وهو: سوق الماء إليه في أوقاته، ثم نقى الأرض من الشوك والحشيش وكل ما يمنع نبات البذر أو يفسده، وهذا الأمر في وسعه، فإذا انتظر بعد ذلك فضل ربه – جل وعز – في دفع الصواعق، والآفات المفسدة إلى أن يتم الزرع ويبغ غايته فهو راج حقيقة، وانتظاره رجاء حقاً.
وأما إذا بث المزارع في أرض صلبة سبخة مرتفعة لا ينصب إليها الماء، ولم يشتغل بتعهد البذر أصلاً، أو كان البذر عفناً مسوساً، ثم انتظر محصولاً جيداً فهو مغرور بلا ارتياب، فكيف يكون حكمه إذا لم يلق في الأرض بذراً أصلاً عند أولي الألباب، لا شك أنه في رجاءه أحمق كذاب، وذلك الرجاء سفاهة وتباب.(3/157)
فاعتبروا بذلك يا أهل العقول، وقيسوا رجاء العبد رحمة العزيز الغفور، برجاء المزارع بلوغ المأمول، وجودة المحصول، فالدنيا مزرعة الآخرة عند الأكياس العدول (1)
__________
(1) جملة: "جملة مزرعة الآخرة" أوردها الغزالي في الإحياء: (4/19) على أنها حديث نبوي وقال العراقي في تخريجه: لم أجده بهذا اللفظ مرفوعاً، وروى العقيلي في الضعفاء، وأبو بكر ابن لال في مكارم الأخلاق من حديث طارق بن أشيم: "نعمت الدنيا لمن تزود منها لآخرته" وإسناده ضعيف 10هـ، ونص السبكي في طبقات الشافعية: (6/356) على أن ما أورده الغزالي لم يجد له إسناداً، وذكره الصفاني في الموضوعات: (55) ، وقال عنه السخاوي في المقاصد الحسنة: (217) لم أقف عليه مع إيراد الغزالي له في الإحياء، وتبعه على ذلك تلميذه ابن الديبع في تمييز الطيب من الخبيث فيما يدور على ألسنة الناس من الحديث: (80) ، والفتني في تذكرة الموضوعات: (174) ، والعجلوني في كشف الخفاء (1/412) ، والحوت في أسنى المطالب: (151) وعلى القاري في المصنوع في معرفة الحديث الموضوع: (101) ، والأسرار المرفوعة: (199) ، وفيه: ومعناه صحيح يقتبس من قوله – جل وعلا –: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ} الشورى20، وانظره في الفوائد الموضوعة: (104) .
هذا وقد أخرج الحاكم في المستدرك – كتاب الرقاق –: (4/312-131) عن طارق – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: نعمت الدار الدنيا لمن تزود منها لآخرته حتى يرضي ربه – عز وجل –، وبئست الدار لمن صدته عن آخرته، وقصرت به عن رضاء ربه، وإذا قال العبد: قبح الله الدنيا، قالت: قبح الله أعصانا لربه" قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، وتعقبه الذهبي بقوله: قلت: بل منكر، وعبد الجبار بن وهب لا يعرف، روى عنه يحيى بن أيوب العابد 10هـ وقال في الميزان: (2/535) ، ونقله عنه ابن حجر في اللسان وأقره: (3/390) : عبد الجبار بن وهب لا يدري من هو، قال العقيلي: حديث غير محفوظ، ثم ذكر له الحديث المتقدم، وقال الذهبي: قال العقيلي: هذا يروى من قول علي – رضي الله تعالى عنه –.(3/158)
فالقلب كالأرض، والإيمان كالبذر فيه، والطاعات جارية مجرى تقليب الأرض وتطهيرها، ومجرى حفر الأنهار وسياقة الماء إليها، والقلب المستهتر بالدنيا المستغرق بها كالأرض السبخة التي لا ينمو فيها البذر، ويوم القيامة يوم الحصاد، ولا يحصد أحد إلا ما زرع، ولا ينمو زرع إلا من بذر الإيمان، وقلما ينفع إيمان مع خبث القلب وسوء أخلاقه، كما لا ينمو بذر في أرض سبخة.
والعبد إذا بث بذر الإيمان، وسقاه بماء الطاعات، وطهر القلب عن شوك الأخلاق الرديئة وانتظر من فضل الله – عز وجل – تثبيته على ذلك إلى الموت، وحسن الخاتمة المفضية إلى المغفرة كان انتظاره رجاء حقيقياً في نفسه، باعثاً له على المواظبة، والقيام بمقتضى أسباب الإيمان في إتمام أسباب المغفرة إلى الموت.
وإن قطع العبد عن بذر الإيمان تعهده بماء الطاعات، أو ترك القلب مشحوناً برذائل الأخلاق، وانهمك في طلب اللذات، ثم انتظر المغفرة فانتظاره حمق وغرور، وهو من أهل الزيغ والثبور.
المثال الثالث:
لو استأجر كريم أجيراً، ليقوم بإصلاح بيته وتحسينه، وشرط له أجره معلومة وكان الشارط المستأجر يفي بوعده، بل يزيد عليه بمقتضى كرمه وفضله، فالأجير يتوقع الأجرة على التمام، بل والزيادة عليها بمقتضى الفضل والإحسان، إن قام بالعمل خير قيام وتوقعه رجاء حقاً عند الأنام.
أما إذا هدم الأجير البيت ونقضه، وأتلفه وأفسده، ثم جلس ينتظر الأجرة، ويتوقع عليها الزيادة، اعتماداً على كرم المستأجر وإحسانه فانتظاره غرور، وتوقعه دجل وزور عند جميع أهل العقول.
والله رب العالمين، خلق المكلفين، للقيام بشرعه المبين، ووعدهم على ذلك جنات النعيم، فمن قام بما خلق من أجله، ثم رجا الله الكريم من فضله، فهو راج عند الفضلاء، وحاشا أن يخيب رجاؤه عند رب الأرض والسماء.(3/159)
ومن عطل جوارحه عن الطاعات، وشغلها بالمخالفات، ثم رجا دخول الجنات، فهو من أهل السفاهات والحماقات عند أهل النهى الزاكيات، وهيهات أن يحصل ما رجاه عند رب الأرض والسموات.
ما بالُ دينك ترضى أن تُدنسَهُ ... وثوبك الدهرَ مغسولٌ من الدّنس ِ
ترجو النجاة ولم تسْلكْ مسَالِكها ... إنّ السفينة لا تجري على اليَبَس ِ
والله – جل وعلا – قرر هذا في كتابه فقال في سورة آل عمران: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} آل عمران185، فماذا سيوفى من لم يقم بالعمل، ولم يقع منه إلا الفساد والزلل؟ إنه سيعاقب لما جرى منه من الخلل، فإذا طمع صاحب هذه الحالة في المثوبة عند الله – عز وجل – فهو بلا شك من أهل الزيغ والخطل، قال الإمام ابن القيم – عليه رحمة الله تعالى –: الفرق بين الرجاء والتمني: أن التمني يكون مع الكسل، ولا يسلك بصاحبه طريق الجد والاجتهاد، والرجاء يكون مع بذل الجهد وحسن التوكل، ولهذا أجمع العارفون على أن الرجاء لا يصح إلا مع العمل (1) .
وإليك بعد تلك الأمثلة الواضحات، الأدلة البينات، من كلام رب الأرض والسموات، وحديث خير البريات – عليه أزكى السلام وأفضل الصلوات –، وأقاويل سلفنا أهل العقول الزاكيات.
آيات القرآن الكريم:
__________
(1) انظر مدارج السالكين: (2/35) وانظر الأمثلة الثلاثة والكلام عليها في الإحياء: (4/139-140، 3/374) ، ومختصر منهاج القاصدين: (317) ، وموعظة المؤمنين: (342، 303) .(3/160)
دل كلام ربنا الرحمن، على أن رجاء نيل الرضوان ودخول الجنات الحسان منوط بعمل الإحسان، والالتزام بشرع الإسلام، قال ذو الجلال والإكرام: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} البقرة218، قال الغزالي – عليه رحمة الملك الباري –: معناه: أولئك الذين يستحقون أن يرجوا رحمة الله – تبارك وتعالى – وما أراد به تخصيص وجود الرجاء، لأن غيرهم أيضاً قد يرجو، ولكن خصص بهم استحقاق الرجاء (1) .
وقال – جل وعز –: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} طه82، فعلق ذو الجلال والإكرام، المغفرة على أربعة شروط حسان: التوبة من جميع الذنوب والآثام، ورسوخ الإيمان في الجنان، وقيام الجوارح بشعائر الإسلام، والاستمرار على ذلك حتى لقاء الرحمن، قال الغزالي – عليه رحمة الله –: وعد المغفرة في جميع كتاب الله – عز وجل – منوط بالإيمان والعمل الصالح جميعاً، لا بالإيمان وحده (2) .
__________
(1) انظر إحياء علوم الدين: (4/140) وأقره الزبيدي في إتحاف السادة المتقين: (9/167) وقال القرطبي في تفسيره: (3/50) ، وإنما قال: "يرجون" وقد مدحهم لأنه لا يعلم أحد في هذه الدنيا أنه صائر إلى الجنة، ولو بلغ في طاعة الله – جل وعلا – كل مبلغ لأمرين، أحدهما: لا يدري بم يختم له، والثاني لئلا يتكل على عمله، ونحوه في السراج المنير: (1/141) ، وروح المعاني: (2/111) .
(2) انظر الإحياء: (3/371) ، ونحوه: (4/167) ، وانظر تفسير الآية الكريمة كما قررت في الجامع لأحكام القرآن: (11/231) ، وتفسير ابن كثير: (3/161) ، وروح المعاني: (16/240) .(3/161)
وقال – جل وعلا –: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} فاطر29-30، قال أبو السعود – عليه رحمة الرب المعبود –: والإخبار برجائهم من أكرم الأكرمين عدة قطعية بحصول مرجوهم 10هـ، وقال الإمام ابن كثير – عليه رحمة ربنا الكبير – يخبر – تبارك وتعالى – عن عباده المؤمنين الذين يتلون كتابه، ويؤمنون به، ويعملون بما فيه من إقامة الصلاة والإنفاق مما رزقهم الله – تبارك وتعالى – في الأوقات المشروعة ليلاً ونهاراً، " سِرّاً وَعَلَانِيَةً "، " يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ " أي: يرجون ثواباً عند الله – عز وجل – لابد من حصوله (1) .
__________
(1) انظر إرشاد العقل السليم: (7/152) ، وتفسير القرآن الكريم: (3/554) ، ونقل الإمام الألوسي كلام أبي السعود، وقال: وفي إخباره – تبارك وتعالى – عنهم بذلك – أي: بقوله: " يَرْجُونَ " إشارة إلى أنهم لا يقطعون بنفاق تجارتهم، بل يأتون ما أتوا من الطاعة وقلوبهم وجلة أن لا يقبل منهم.(3/162)
وقال – جل ثناؤه –: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} الأعراف55-56، وتقدم في هذا الكتاب المبارك ما دار بين الإمام أبي حازم وخليفة المسلمين سليمان بن عبد الملك – عليهم جميعاً رحمة الله تعالى – وفيه قول سليمان: ليت شعري ما لنا عند الله؟ – جل وعلا – فقال له أبو حازم: اعرض عملك على كتاب الله – عز وجل – قال: وأي مكان أجده؟ قال: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} الانفطار13-14، قال سليمان: فأين رحمة الله يا أبا حازم؟ فقال أبو حازم: {إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} الأعراف56 (1) .
وقد أخبر ربنا الكبير أن من رجا ثوابه الجزيل، فعليه العمل بما في التنزيل، مريداً بذلك وجهه الجليل، فقال – جل جلاله – في آخر سورة الكهف: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} الكهف110، قال الإمام ابن كثير – عليه رحمة الله تعالى –: " فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ " أي: ثوابه، وجزاء عمله الصالح، " فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً " أي: ما كان موافقاً لشرع الله – عز وجل –، " وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً " وهو الذي يراد به وجه الله وحده، لا شريك له: وهذان ركنا العمل المتقبل، لابد أن يكون خالصاً لله – جل وعلا – صواباً على شريعة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – (2) .
__________
(1) انظر صفحة: (.....-......) من هذا الكتاب المبارك لترى من خرج تلك المحاورة المباركة.
(2) انظر تفسير ابن كثير: (3/108) ، وتقدم الكلام على ركني قبول الأعمال في:(3/163)
وقد استنكر ربنا الوهاب، على من رجا حصول الثواب، دون القيام بالأسباب، والالتزام بما شرعه الله من الهدى والصواب، فقال – جل وعز –: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَماً مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} الأعراف168-170، وخلاصة معنى الآيات الكريمات كما ورد في تفاسير أئمتنا الثقات: أن رب الأرض والسموات فرق بني إسرائيل في الأرض طوائف متعددة، مختلفات، فيهم الصالح والطالح، واختبرهم – جل وعلا – بالرجاء والشدة، والرغبة والرهبة، والعافية والبلاء، لعلهم يستقيمون على شريعة رب الأرض والسماء، ويقلعون عن الزيغ والالتواء، فخلف بعد ذلك الجيل ما هو شر من الحمير ليس فيهم من الخير قليل ولا كثير، ورثوا دراسة التوراة، واستعاضوا عنها بزينة الحياة، ويقولون كذاباً وغروراً: سيغفر لنا وننال أجراً كبيراً، وذلك الفعل ديدنهم، فكلما لاح لهم شيء من الدنيا استخلفهم وجذبهم، وقد أخذ عليهم ربنا الميثاق، بأن لا يقولوا إلا الحق، ولا يكونوا من أهل الشقاق، وفي ذلك إشارة إلى فساد مسلكهم في أخذهم الحطام، وكذبهم فيما صدر عنهم من الكلام، بأنه سيغفر لهم عند ربنا الرحمن، ثم ختم ربنا الكريم الكلام على مسلكهم الأثير، بما يفيد كونهم من المجانين، حيث آثروا الدنيا على ما عند الله العظيم من(3/164)
النعيم المقيم، ثم بعد وصف أولئك الملاعين، بين الله وصف عباده الصالحين، فأخبر عن تمسكهم بشرعه القويم، وقيامهم بشرائع الدين، فلهم الأجر الوافر عند رب العالمين.
وقد أخبر معاذ بن جبل – رضي الله تعالى عنه – عن صدور ما يقارب وصف الحمقى المغرورين من بني إسرائيل في هذه الأمة ففي سنن الدارمي عنه – رضي الله تعالى عنه – قال: سيبلى القرآن في صدور أقوام كما يبلى الثوب، فيتهافت، يقرؤونه لا يجدون له شهوة ولا لذة، يلبسون جلود الضأن على قلوب الذئاب، أعمالهم طمع، لا يخالطه خوف، إن قصروا قالوا: سنبلغ، وإن أساؤوا قالوا: سيغفر لنا، إنا لا نشرك بالله شيئاً (1) .
__________
(1) انظر سنن الدارمي – كتاب فضائل القرآن – باب في تعاهد القرآن –: (2/439) ، وانظر معنى الآية المتقدمة في تفسير ابن كثير: (2/260) ، وروح المعاني: (9/95-98) ، والتسهيل لعلوم التنزيل: (2/52) ، وتفسير القرطبي: (7/310-313) ، وفيه الاستشهاد بأثر الدارمي عن معاذ – رضي الله تعالى عنه – في مشابهة المفترين أصحاب الأماني من هذه الأمة لمن ماثلهم في بني إسرائيل، وعبارته: وهذا الوصف الذي ذم الله – تبارك وتعالى – به هؤلاء موجود فينا، ثم سرد الأثر المتقدم، وقال بعد تفسير قول الله – تبارك وتعالى –: "أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ" قلت: وهذا الذي لزم هؤلاء وأخذ عليهم به الميثاق في قول الحق، لازم لنا على لسان نبينا – صلى الله عليه وسلم – وكتاب ربنا – عز وجل – ولا خلاف فيه في جميع الشرائع، والحمد لله.(3/165)
وشبيه بتلك الآيات في الدلالة قول الله – جل وعلا –: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً أَاطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً} مريم77-80، ثبت في الصحيحين وغيرهما عن خباب بن الأرت – رضي الله تعالى عنه – قال: كنت قيناً – أي: حداداً – في الجاهلية فعملت للعاص بن وائل سيفاً، فجئت أتقاضاه، فقال: لا أعطيك حتى تكفر بمحمد – صلى الله عليه وسلم – قلت: لا أكفر بمحمد – صلى الله عليه وسلم – حتى يميتك الله ثم يحييك، قال: وإني لمبعوث من بعد الموت؟ قلت: بلى، قال: فذرني حتى أموت ثم أبعث، فسوف أوتي مالاً وولداً فأقضيك، فأنزل الله – عز وجل –: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً أَاطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً} مريم77-80 (1) .
__________
(1) انظر صحيح البخاري – كتاب البيوع – باب ذكر القين والحداد: (4/317) ، وكتاب الإجازة – باب هل يؤاجر الرجل نفسه من مشرك في أرض الحرب؟: (4/452) ، وكتاب الخصومات – باب التقاضي: (5/77) ، وكتاب التفسير – سورة مريم – باب: " أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً ": (8/429) ، وباب: " أَاطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً ": (8/430) ، وباب: " كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً ": (8/431) ، وباب: " وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً ": (8/431) ، بشرح ابن حجر في الجميع، وصحيح مسلم – كتاب صفات المنافقين وأحكامهم – باب سؤال اليهود النبي – صلى الله عليه وسلم – عن الروح: (4/2153) ، وسنن الترمذي – كتاب التفسير – سورة مريم: (8/308-309) ، والمسند: (5/110، 111) ، وطبقات ابن سعد: (3/164) ، وتفسير ابن جرير: (16/91-92) ، ومسند الطيالسي – منحة المعبود – كتاب التفسير – سورة مريم: (2/21) ، وأسباب النزول للواحدي: (204) ، ونسبه السيوطي في الدر المنثور (4/283) إلى سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، والبيهقي في الدلائل، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن حبان، وابن مردويه، والطبراني أيضاً.(3/166)
ومثل آية سورة مريم تماماً قول الله – جل جلاله –: {لَا يَسْأَمُ الْإِنسَانُ مِن دُعَاء الْخَيْرِ وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} فصلت49-50، وذلك التمني تخرص وغرور، وهو من وساوس اللعين الغرور، وهو قياس فاسد خسيس، ومن جنس إمامهم إبليس، وما ضل من ضل إلا بذلك المسلك التعيس، وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس (1) .
__________
(1) انظر سنن الدارمي – المقدمة – باب تغير الزمان، وما يحدث فيه: (1/65) ، وجامع بيان العلم وفضله – ذكر من ذم القياس على غير أصل: (2/76) عن الحسن وابن سيرين – عليهم جميعاً رحمة الله –: أول من قاس إبليس، زاد ابن سيرين: وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس، وهذا في القياس على غير أصل، والقول في دين الله بالظن كما قال ذلك سائر الفقهاء فيما نقله عنهم ابن عبد البر وقد أطال الإمام الغزالي في الإحياء (4/372-373) ، في بيان فساد ذلك القياس وأتى بما يسر به الأكياس، وخلاصته: إن المشركين استدلوا بما لا يدل على الإكرام، بل يدل على هوائهم عند الرحمن، فانظر ذلك لزاماً يا أخا الإسلام.(3/167)
تلك دلالات القرآن، وفيها الحجة والبرهان، على أن رجاء رحمة الرحيم الرحمن، منوط بالعمل بشرائع الإسلام، والثبات على هدي خير الأنام، نبينا محمد – عليه الصلاة والسلام – ومن فرط في ذلك من إنس وجان، ورجا من ربه الإحسان، والتنعم بدخول الجنان، فهو من ذوي السفاهة والخسران، ومن أهل الحماقة والخذلان، ورجاؤه أضغاث أحلام، بل هو من تسويلات الشيطان، بلا خوف عند أهل الإيمان، رزقنا الله الأدب معه في جميع الأحيان، ومن علينا بحسن الختام، والتلذذ بالنظر إلى وجهه الكريم في غرف الجنان.
دلالات الحديث النبوي على ذلك التقرير السوي:
... سأقتصر على حديث واحد فقط في بيان ذلك الإيضاح القوي الصحيح، وهو في بابه نص صريح لما فيه من قوة البيان ووضوح التصريح، ورد في المسند والمستدرك، وسنن الترمذي، وابن ماجه وغيرهم من كتب الحديث الشريفة عن شداد بن أوس – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله – عز وجل – (1) .
__________
(1) انظر المسند: (4/124) ، والمستدرك – كتاب الإيمان: (1/57) ، وكتاب التوبة والإنابة: (4/251) ، وسنن الترمذي – كتاب صفة القيامة – باب: "26": (7/165-166) ، وسنن ابن ماجه – كتاب الزهد – باب ذكر الموت والاستعداد له: (2/1423) ،ومسند الطيالسي – منحة المعبود – كتاب الترغيب في الأعمال الصالحة – باب الترغيب في خصال من أعمال البر مجتمعة، والترهيب من ضدها: (2/32) ، وتاريخ بغداد: (12/50) ، وحلية الأولياء: (1/267، 8/174) ، وعزاه السيوطي في جمع الجوامع: (1/438) إلى العسكري في الأمثال، وابن أبي الدنيا في محاسبة النفس، وإلى البيهقي في السنن الكبرى، وللطبراني في المعجم الكبير.
والحديث قال عنه الحاكم في المكان الأول: هذا حديث صحيح على شرط البخاري، ولم يخرجاه، وتعقبه الذهبي بقوله قلت: لا والله، وأبو بكر بن أبي مريم الغساني واه، وقال الحاكم في المكان الثاني: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، وأقره الذهبي مع كونه من طريق أبي بكر بن أبي مريم، ومدار الحديث عليه في جميع الروايات، وقد رمز السيوطي لصحته في الجامع الصغير، فتعقبه المناوي في شرح الجامع الصغير المسمى بفيض القدير: (5/68 بكلام الذهبي المتقدم، وقول ابن طاهر: مدار الحديث على أبي بكر بن أبي مريم وهو ضعيف جداً 10هـ وقد حسنه الترمذي، ونقل التحسين عنه النووي في رياض الصالحين: (46، ولم يعترض عليه، وكذلك ابن علان في دليل الفالحين: (2/305) ، وقال الشيخ الأرناؤوط في تعليقه على جامع الأصول: (..../13) في سنده أبو بكر بن أبي مريم الغساني وهو ضعيف ومدار الحديث عليه، ومع ذلك فقد قال الترمذي: هذا حديث حسن 10هـ واقتصر العراقي في تخريج أحاديث الإحياء على عزو الحديث إلى الترمذي وابن ماجه، وذكر خلاصة ما تقدم دون ميل إلى شيء منها السخاوي في المقاصد الحسنة: (329-330) ،وابن الديبع في تمييز الطيب من الخبيث: (127-128) ، والعجلوني في كشف الخفاء: (1/136) ، والبنا في بلوغ الأماني: (19/22) ، واستدل به على أنه حديث ثابت ابن تيمية في مجموع الفتاوى: (14/460-461) ، والمعلمي في التنكيل: (196) ، وضعفه الألباني في تعليقه على التنكيل، ومشكاة المصابيح: (3/1454) ، والذي يظهر للعبد الضعيف راقم هذه الحروف أن أبا بكر بن أبي مريم الغساني مع أنه ضعيف فالحديث حسن لما له من الشواهد الكثيرة، وما في أبي بكر بن أبي مريم من ضعف فسببه ضعف حفظه وهو مع ذلك متماسك ومن أوعية العلم، وهو من العباد البكائين، وما فيه من ضعف يزول إذا شهد لروايته ما ثبت عن الأئمة الفحول، انظر ترجمته والحكم عليه في تقريب التهذيب: (2/398) ، وتهذيب التهذيب: (12/28-30) ، وميزان الاعتدال: (4/497-498) .(3/168)
.. والحديث الشريف – كما ترى – كلمة الفصل في هذا المقام، حيث وقع التصريح فيه بأن الناس صنفان، عاقل يقوم على حساب نفسه، ويبذل جهده فيما ينفعه بعد موته، فهو حقيق برجاء رحمة ربه، والصنف الثاني أحمق أخرق يرخي لنفسه العنان، لتتخبط في وساوس الشيطان، ثم يتمنى على الملك الرحمن، ما يزينه له الشيطان – نعوذ بالله من الخذلان –.
بعض الآثار عن سلفنا الأبرار في بيان حقيقة رجاء الأخيار، وحماقة الأشرار:
... الآثار عنهم في ذلك كثيرة، إليك ثلاثة منها شهيرة، فيها دلالة لتلك المسألة الجليلة الكبيرة، قال الإمام معروف الكرخي – رضي الله تعالى عنه –: طلب الجنة بل عمل ذنب من الذنوب وانتظار الشفاعة بلا سبب نوع من الغرور، وارتجاء رحمة من لا يطاع جهل وحمق، وقال: رجاؤك لرحمة من لا تطيعه خذلان وحمق (1) .
__________
(1) كما في حلية الأولياء: (8/367) ، وطبقات الصوفية للسلمي: (89) ، ومختصر القاصدين: (318) ، وشرح الحكم لابن عباد: (1/66) ، ومعرفو الكرخي من أئمة الهدى وكانت وفاته في نهاية القرن الثاني – رحمه الله تعالى – رئي بعد موته على حالة حسنة وهو ينشد:
موتُ التقيّ حياةٌ لا نفاد لها ... قد مات قوم وهم في الناس أحياء
وهو من أسرة نصرانية فأسلم وأسلمت أسرته تبعاً له، وكان يقول: نعوذ بالله من طول الأمل، فإنه يمنع خير العمل، وكلام العبد فيما لا يعنيه خذلان من الله – عز وجل – وقال: إنما الدنيا قدر تغلي وكييف يرمى، وسأل عبد الله أباه الإمام أحمد – عليهما رحمة الله تعالى – هل كان مع معروف الكرخي شيء من العلم؟ فقال له: يا بني كان معه رأس العلم خشية الله – عز وجل –، انظر هذا وغيره من ترجمته المباركة في الحلية: (8/260-268) ، وصفة الصفوة (2/318-324) ،وفيه: إنما اقتصرنا ههنا على اليسير من أخباره لأنا قد جمعنا أخباره ومناقبه في كتاب أفردناه لها، والمختصر في أخبار البشر: (2/33) ، وشذرات الذهب: (1/360) ، وطبقات الصوفية للسملي: (82-90) ، والرسالة القشيرية: (1/74-78) ، والطبقات الكبرى للشعراني: (1/84) ، وتاريخ بغداد: (13/199-209) .(3/169)
.. وقال العابد الجأر يحيى بن معاذ – عليه رحمة العزيز الغفار –: من أعظم الاغترار عندي التمادي في الذنوب مع رجاء العفو من غير ندامة، وتوقع القرب من الله – عز وجل بغير طاعة، وانتظار الجنة ببذر النار، وطلب دار المطيعين بالمعاصي، وانتظار الجزاء بغير عمل، والتمني على الله – عز وجل – مع الإفراط في الأمل، وقال أيضاً: الذي حجب الناس عن التوبة طول الأمل وعلامة التائب، إسبال الدمعة، وحب الخلوة، والمحاسبة للنفس، عند كل همة، وكان يقول – عليه رحمة الله تعالى –: عمل كالسراب، وقلب من التقوى خراب، وذنوب بعدد الرمل والتراب، ثم طمع في الكواعب الأتراب؟ هيهات، هيهات، أنت سكران بغير شراب، ما أكملك لو بادرت أملك، ما أجلك لو بادرت أجلك، ما أقوالك لو خالفت هواك، وقال أيضاً: الكيس من فيه ثلاث خصال: من بادر بعمله، وتسوف بأمله، واستعد لأجله، والمغبون يوم القيامة من فيه ثلاث خصال: من قرض أيامه بالباطلات، وبسط جوارحه على الحسرات، ومات قبل إفاقته من السكرات، ومن أقواله لا يزال العبد مقروناً بالتواني ما دام على الأماني (1) .
__________
(1) انظر القول الأول في الإحياء: (4/140) ، وشرحه: (9/167) ، وانظر القول الثاني والثالث في صفة الصفوة: (4/90-91) ، والقول الرابع في الحلية: (10/58) ، والخامس في طبقات الصوفية للسلمي: (111) ، وانظر ترجمته العطرة في الكتب الثلاثة الأخيرة، وفي الرسالة القشيرية: (1/113-114) ، والمنتظم: (5/16-17) ، وشذرات الذهب: (2/838) ، وتاريخ بغداد: (14/208-212) ، والطبقات الكبرى للشعراني: (1/94) ، وحالة أهل الحقيقة مع الله – عز وجل –: (84) ، وكانت وفاته سنة ثمان وخمسين ومائتين – رحمه الله تعالى – ومن أقواله السديدة: ليكن حظ المؤمن منك ثلاثاً: إن لم تنفعه فلا تضره، وإن لم تفرجه فلا تغمه، وإن لم تمدحه فلا تذمه، ومنها: يا ابن آدم لا يزال دينك متمزقاً ما دام القلب بحب الدنيا متعلقاً، ومنها: الدنيا لا قدر لها عند ربنا وهي له، فما ينبغي أن يكون قدرها عندك وليست لك؟ ومنها: إن الدرهم عقرب، فإن لم تحسن رقيته فلا تأخذه بيدك، فإنه إن لدغك قتلك، ومنها: من خان الله في السر هتك ستره في العلانية، ومن طريف ما روي عنه أنه رأى رجلاً يقلع جبلاً في يوم حار، وهو يغني، فقال: مسكين ابن آدم قلع الأحجار أهون عليه من ترك الأوزار.(3/170)
وفي حلية الأولياء: عن معاوية بن قرة قال: دخلت على مسلم بن يسار – رحمهم الله جميعاً – فقلت: ما عندي كبير عمل إلا أني أرجو الله – عز وجل – وأخاف منه – فقال مسلم بن يسار: ما شاء الله، من خاف من شيء حذر منه، ومن رجا شيئاً طلبه، وكان مسلم بن يسار يقول: من رجا شيئاً طلبه، ومن خاف من شيء هرب منه، وما أدري ما حسب رجاء امرئ عرض له بلاء لم يصير عليه لما يرجو وما أدري ما حسب خوف امرئ عرض له شهوة لم يدعها لما يخشى، وفي الحلية والإحياء: كان مسلم بن يسار يطيل السجود لله الواحد القهار، فوقع الدم في ثنيتيه فسقطتا فدفنهما، فقال له رجل: إنا لنرجو الله – عز وجل – فقال مسلم: هيهات، هيهات من رجا شيئاً طلبه، ومن خاف شيئاً هرب منه (1) .
__________
(1) انظر حلية الأولياء: (2/291-292) ، والإحياء: (3/374) ، ومسلم بن يسار توفي في نهاية القرن الأول – عليه رحمة الله تعالى – قال ابن كثير في البداية والنهاية: (9/186) ، كان لا يفضل عليه أحد في زمانه، وكان عابداً ورعاً زاهداً كثير الصلاة والخشوع وكان يقول كما في الحلية: (2/294) : ما تلذذ المتلذذون بمثل الخلوة بمناجاة الله – عز وجل – وقد بلغ تلذذه بمناجاة ربه – جل وعلا – كما في الكتابين السابقين وصفة والصفوة: (3/239-240) ، وطبقات ابن سعد: (7/186) أنه كان قائماً يصلي فوقع إلى جنبه حريق فما شعر به حتى طفئت النار، وانهدمت ناحية من المسجد، ففزع أهل السوق لهدتها، وإنه لفي المسجد في صلاته فما التفت، وهو من رجال أبي داود والنسائي، وابن ماجه كما في التقريب: (2/247) ، وفيه: إنه فقيه ثقة، عابد، وانظر ترجمته الطيبة في تهذيب التهذيب: (10/140-141) ، ومشاهير علماء الأمصار: (88) وشذرات الذهب: (1/119) .
ومعاوية بن قرة القائل لمسلم بن يسار ما قال من أئمة التابعين الكبار توفي سنة ثلاثة عشرة ومائة – عليه رحمة الله تعالى – وهو من رجال الكتب الستة ثقة عالم كما في التقريب: (2/261) وفي الحلية: (2/299) ، وصفة الصفوة: (3/257) عنه قال: كما عند الحسن البصري – رحمهم الله تعالى جميعاً – فتذاكرنا أي العمل أفضل، فكلهم اتفقوا على قيام الليل، فقلت أنا: ترك المحارم فانتبه لها الحسن، فقال: تم الأمر ثم الأمر – بالتاء المثناة، والثاء المثلثة –، وكان يقول: من يدلني على بكاء بالليل بسام بالنهار، انظر ترجمته الكريمة في تهذيب التهذيب: (10/216-217) ، وطبقات ابن سعد: (7/221) ، ومشاهير علماء الأمصار: (92) ، وشذرات الذهب: (1/147) .(3/171)
فتأمل أخي المسلم تلك النقول عن سلفنا الأتقياء لتقف على حقيقة الرجاء، فقد بدل معنى ذلك اللفظ عند السفهاء، ولم يفهموا منه إلا الجراء والجسارة على رب الأرض والسماء، قال الإمام الغزالي في الإحياء: ما لا يبعث على العمل فهو تمن وغرور، ورجاء كافة الخلق هو سبب فتورهم وسبب إقبالهم على الدنيا، وسبب إعراضهم عن الله – تبارك وتعالى – وإهمالهم السعي للآخرة، فذلك غرور، وقد أخبر النبي – صلى الله عليه وسلم – أن الغرور سيغلب على قلوب آخر هذه الأمة وقد كان ما وعد به – صلى الله عليه وسلم – فلقد كان الناس في الأعصار الأول يواظبون على العبادات، ويؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون، يخافون على أنفسهم وهم طول الليل والنهار في طاعة ربهم، يبالغون في التقوى والحذر من الشبهات، والشهوات ويبكون على أنفسهم في الخلوات، وأما الآن فترى الخلق آمنين مسرورين مطمئنين غير خائفين مع إكبابهم على المعاصي، وانهماكهم في الدنيا، وإعراضهم عن الله – عز وجل – زاعمين أنهم واثقون بكرم الله – تبارك وتعالى – وفضله راجون لعفوه ومغفرته، كأنهم يزعمون أنهم عرفوا من فضله وكرمه ما لم يعرفه الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – والصحابة والسلف الصالحون – رضي الله تعالى عنهم – فإن كان هذا الأمر يدرك بالتمني، وينال بالهوينى فعلام إذن بكاء أولئك وخوفهم وحزنهم؟ (1) .
__________
(1) انظر الإحياء علوم الدين: (3/375) ، ونحوه في مختصر منهاج القاصدين: (247-248) .(3/172)
والحديث الذي أشار إليه الغزالي من غلبة الغرور على آخر هذه الأمة رواه أهل السنن والحاكم في المستدرك، وابن حبان في صحيحه عن أبي أمية الشعباني قال: أتيت أبا ثعلبة الخشني، فقلت له: كيف تصنع في هذه الآية؟ قال: أية آية؟ قلت: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} المائدة105، قال: أما والله لقد سألت عنها خبيراُ، سألت عنها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: "بل ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوى متبعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك، ودع العوام، فإن من روائكم أيام الصبر، الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم" قيل: يا رسول الله – أجر خمسين رجلاً منا أو منهم؟ قال: "لا، بل أجر خمسين رجلاً منكم (1)
__________
(1) انظر الحديث الشريف في سنن الترمذي – كتاب التفسير – سورة المائدة –: (8/222) ، وقال: هذا حديث حسن غريب، وسنن أبي داود – كتاب الملاحم – باب الأمر والنهي –: (4/512) ، وسنن ابن ماجه – كتاب الفتن – باب قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ ": (2/1330-1331) ، والمستدرك – كتاب الرقاق: (4/322) ، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأقره الذهبي، وصحيح ابن حبان – موارد الظمآن – كتاب الفتن – باب فيمن بقي في حثالة كيف يفعل –: (457-458) ، وتفسير ابن جرير: (7/3) ، وأحكام القرآن للجصاص: (2/30) ، ومعالم التنزيل: (2/101) ، وحلية الأولياء: (2/30) ، وعزاه السيوطي في الدر: (2/339) إلى البغوي في معجمه، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وأبي الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي في شعب الإيمان، والحديث حسنه الترمذي كما علمت ونقل ذلك عنه العراقي في المغني عن حمل الأسفار في الأسفار: (2/304، 3/359) ، ولم يعترض عليه، وصححه الحاكم وأقره الذهبي كما تقدم ونقل السيوطي في الدر تصحيح الحاكم أيضاً ولم يعترض عليه.
والحديث الشريف بمعنى الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود في المكان المتقدم، وابن ماجه في كتاب الفتن – باب التثبيت في الفتنة: (2/1307-1308) ، والنسائي في السنن الكبرى كما في تهذيب السنن: (6/190) ، وأحمد في المسند: (2/162، 212، 220، 221) ، وأسانيد المسند جميعها صحيحة كما في تعليق الشيخ شاكر على المسند: (10/12، 11/194، 12/12، 19-20) "6508، 6987، 7049، 7063"، وذكر في المكان الأول فوائد تتعلق في تحقيق نسبة رواية الحديث إلى عبد الله بن عمرو – رضي الله تعالى عنهما – وأطال في ذلك ووسع الكلام بحيث استغرق سبع صفحات كاملة فارجع إليها إن شئت، والحديث رواه الحاكم في المستدرك – كتاب الفتن: (4/435-525) ، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأقره الذهبي ولفظ الحديث عن عبد الله بن عمرو – رضي الله تعالى عنهما – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: "يوشك أن يأتي زمان يغربل الناس فيه غربلة، ويبقى حثالة من الناس، قد مرجت عهودهم وأمنياتهم، واختلفوا وكانوا هكذا " – وشبك بين أصابعه – قالوا: فكيف تأمرنا يا رسول الله؟ قال: "تأخذون ما تعرفون، وتدعون ما تنكرون، وتقبلون على أمر خاصتكم، وتدعون أمر عامتكم" قال سعيد بن منصور المكي أحد رواة الحديث: "حثالة الناس": رداءتهم، ومعنى قوله: "مرجت عهودهم": إذا لم يفوا بها 10هـ والحديث أشار إليه البخاري معلقاً في كتاب الصلاة – باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره –: (1/565) بشرح ابن حجر، وقال الحافظ: وصله إبراهيم الحربي في غريب الحديث له 10هـ وأشار إليه البخاري أيضاً في ترجمة باب فقال في كتاب الفتن – باب إذا بقي في حثالة من الناس: (13/38) بشرح ابن حجر والحديث رواه ابن حجر والحديث رواه ابن حبان – المكان المتقدم – والطبراني في الأوسط بإسنادين رجال أحدهما رجال الصحيح كما في مجمع الزوائد: (7/283) – كتاب الفتن – باب في أيام الصبر وفيمن يتمسك بدينه في الفتن – عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "كيف أنت يا عبد الله بن عمرو إذا بقيت في حثالة من الناس؟ " الحديث، واعلم أن ما ذكره الشيخ شاكر في المكان المشار إليه قريباً من أن حديث أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – هذا لم يجده في شيء من الكتب الستة، وأن صاحب مجمع الزوائد لم يذكره ولذلك لا يستطيع الجزم بأنه في الكتب الستة ولا بأنه من الزائد، غفلة منه فقد ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد فاعلم.
قال عبد الرحيم الطحان – غفر الله له جميع العصيان –: يتعلق هذان الحديثان الشريفان بقطب الإسلام، وبما تدور عليه رحى الإيمان، ألا وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والآثام وفيه مباحث عظام سأتكلم على خمسة منها جسام حسب دلالة هذين الحديثين من أحاديث نبينا – عليه الصلاة والسلام –.
الأول:
من قدر على تغيير المنكر من غير وقوع أذى عليه من ضرب أو قتل فواجب عليه التغيير، وترك ذلك عصيان للرب الكبير، وموصل إلى عذاب السعير قال الإمام ابن عبد البر فيما نقله عنه الإمام القرطبي في تفسيره: (4/48) – عليهما رحمة الله تعالى –: أجمع المسلمون على أن المنكر واجب تغييره على كل من قدر عليه، وأنه إذا لم يلحقه بتغييره إلا اللوم الذي لا يتعدى إلى الأذى، فإن ذلك لا يجب أن يمنعه من تغييره 10هـ وقال الإمام ابن العربي – عليه رحمة الله تعالى – في أحكام القرآن: (1/266) : المسلم البالغ القادر يلزمه تغيير المنكر، والآيات في ذلك كثيرة، والأخبار متظاهرة، وهي فائدة الرسالة، وخلافة النبوة، وهي ولاية الإلهية لمن اجتمعت فيه الشروط المتقدمة 10هـ وقال الإمام الغزالي – عليه رحمة الملك الباري – في الإحياء: (2/308) ، قد ظهر بالأدلة أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب وأن فرضه لا يسقط مع القدرة إلا بقيام قائم به 1هـ.
قال عبد الرحيم الطحان – وهذا الأمر تدل عليه آيات القرآن، وأحاديث خير الأنام – عليه الصلاة والسلام – وعليه كان مسلك سلفنا الكرام.
فمن الآيات قول رب الأرض والسموات في سورة الحجرات: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} الحجرات9، والآية الكريمة – كما ترى – نص صريح في وجوب إزالة المنكر باليد لمن قدر عليه حيث أمر الله – جل وعلا – بقتال المعتدين، ولم يرفعه عنهم إلا بعد الفيء إلى أمر رب العالمين وترك ما هم عليه من البغي والظلم المبين، كما قرر ذلك الجصاص في أحكام القرآن الكريم: (2/32) .
ومن الأحاديث الصحيحة القوية قول خير البرية – صلى الله عليه وسلم –: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان"، أخرجه مسلم في كتاب الإيمان – باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان –: (1/69) ، والترمذي – كتاب الفتن – باب ما جاء في تغيير المنكر باليد أو باللسان أو بالقلب: (6/337) ، والنسائي – كتاب الإيمان وشرائعه – باب تفاضل أهل الإيمان –: (8/98) ، وابن ماجه – كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها – باب ما جاء في صلاة العيدين: (1/406) ، وفي كتاب الفتن – باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: (2/1330) ، وأبو داود – كتاب الصلاة – باب الخطبة يوم العيد: (1/677) ، وفي كتاب الملاحم – باب الأمر والنهي: (4/511) ، وأحمد في المسند: (3/10، 20، 49، 52-53) والجصاص في أحكام القرآن: (2/30) كلهم عن أبي سعيد الخدري – رضي الله تعالى عنه –.
وفي رواية للنسائي: "من رأى منكم منكراً فغيره بيده فقد برئ، ومن لم يستطع أن يغيره بيده فغيره بلسانه فقد برئ، ومن لم يستطع أن يغيره بلسانه فغيره بقلبه فقد برئ وذلك أضعف الإيمان".
وثبت في صحيح مسلم في المكان المتقدم، وصدر الحديث في المسند: (1/458-461) عن ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: "ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي، إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل".
وكلمة "خلوف" بضم الخاء، وهي جمع خلف بإسكان اللام، وهو الخالف بشر، وأما بفتح اللام فهو الخالف بخير هذا هو الأشهر، وقال جماعة من أهل اللغة: يقال كل واحد منهما بالفتح والإسكان، ومنهم من جوز الفتح في الشر، ولم يجوز الإسكان في الخير، كما في شرح الإمام النووي: (2/28) .
وقد كان سلفنا الكرام يقومون بهذا الأمر خير قيام ففي كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للإمام الخلال: (142) قال أبو بكر المروزي سألت أبا عبد الله – يعني الإمام المبجل أحمد بن حنبل – عليهم جميعاً رحمة الله تعالى – عن كسر الطنبور، قال: يكسر وقال عمر بن صالح: رأيت الإمام أحمد بن حنبل مر به عود مكشوف فقام فكسره، وقال عمر بن الحسين: كسر أحمد بن حنبل طنبوراً في يد غلام لأبي عبد الله نصر بن حمزة، فذهب الغلام إلى مولاه، فقال: كسر أحمد بن حنبل الطنبور، فقال له مولاه: فقلت له إنك غلامي؟ قال: لا، قال: فاذهب فأنت حر لوجه الله – عز وجل – وقال: وكيع بن الجراح (المتوفى سنة سبع وتسعين ومائة وهو إمام المسلمين في وقته كما قال الإمام أحمد عليهما رحمة الله تعالى – كما في تهذيب التهذيب: (11/126) : خذ الطنبور فاكسره على رأس صاحبه كما فهل ابن عمر – رضي الله تعالى عنهم أجمعين –.
ولا خلاف بين سلفنا الكرام في وجوب إزالة المنكرات والآثام على كل من قدر على ذلك من أهل الإسلام، ولا ضمان عليه على القول الحق المعتمد في شريعة الرحمن، ففي الدر المختار وحاشيته رد المحتار: (6/212) ، قال أبو يوسف ومحمد بن الحسن صاحبا أبي حنيفة – عليهم جميعاً رحمة الله تعالى –: لا يصح بيع آلات اللهو، ولا يضمن متلفها قيمتها ولو كانت لكافر، وهذا هو المعتمد في المذهب الحنفي، وعليه الفتوى عندهم، وفي الاختيار: (3/65) لأنها أعدت للمعاصي فلا تضمن كالخمر، ومتلفها يتأول فيها النهي عن المنكر، وأنه مأمور به شرعاً فلا يضمن كأذن القاضي، بل وأولى 1هـ وفي المنهاج وشرحه السراح الوهاج: (269-270) ، (والأصنام وآلات الملاهي لا يجب في إبطالها شيء) لأنها محرمة الاستعمال (والأصح أنها لا تكسر الكسر الفاحش بل تفصل لتعود كما قبل التالف) ومقابله تكسر حتى تنتهي إلى حد لا يمكن اتخاذ آلة محرمة منه (فإن عجز المنكر عن رعاية هذا الحد لمنع صاحب المنكر) منه (أبطله كيف تيسر) إبطاله ويشترك في جواز إزالة هذا المنكر الرجل والمرأة، ولو أرقاء وفسقة 1هـ وهذا هو قول الإمام مالك – عليه رحمة الله تعالى – كما في الإفصاح: (2/33) ، وتقدم قول الإمام أحمد وفتياه فكن منها على بال يا صاحب الرشد والكمال، فهذه نصوص المذاهب الأربعة، في لزوم تغيير المنكر باليد لكل من رآه ذكراً كان أو أنثى، وأنه لا ضمان عليه في إتلاف المنكرات، وهو مأجور عند رب الأرض والسموات، وقد بوب الإمام الخلال في كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باباً بهذا الخصوص فقال: باب الإنكار على زعم أنه عليه الغرم في كسر شيء من المنكرات: (145-146) ، وأورد ضمن ذلك الباب آثاراً شتى في تقرير ذلك منها أن أبا السفر سأل الإمام أحمد عن رجل رأى في يد رجل عوداً أو طنبوراً فكسره، أصاب أو أخطأ، وما عليه في كسره؟ فقال الإمام أحمد: قد أحسن، وليس عليه في كسره شيء، ومنها، قال وكيع: ليس للمعاصي قيمة، مثل الطنبور وشبهه.
وأورد الإمام الخلال في كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في باب ما يجب على الرجل من تغيير المنكر إذا سمع وعلم مكانه ولم ير مكانه بعينيه، أو يراه في الطريق أن ينكره، آثاراً كثرة عن سلفنا الصالح في تغيير المنكر باليد لكل مكلف، من جملة ذلك فتيا الإمام أحمد – عليه رحمة الله تعالى – بأن من سمع الغناء من بيت فعليه أن يجمع عليه الجيران، ويهول عليه، ويشهر به ليرتدع من غيه، ونقل الخلال عن أحمد بن عبد الحميد الكوفي، قال: كان محمد بن مصعب إذا سمع صوت عود أو طنبور من دار أرسل إليهم: أن أرسلوا إليّ ذلك الخبيث، فإن أرسلوا به إليه كسره وإلا قعد على الباب يقرأ القرآن، فيجتمع الناس فيقولون: محمد بن مصعب، فلا يدع قراءته حتى يخرج إليه ذلك الخبيث فيكسره، ومر يوماً بدار فسمع صوت عود يضرب به، فقرع الباب، فنزلت جارية فقال لها: يا جارية، قولي لمولاتك تحدر العود حتى أكسره، فصعدت فقالت لمولاتها شيخ بالباب، قال كذا وكذا، قالت: هذا شيخ أحمق، فضربت بعودين فجلس محمد بن مصعب على الباب وقرأ، فاجتمع الخلق، وارتفعت الأصوات بالبكاء فسمعت المرأة الضجة، فقالت: يا مولاتي تعالي انزلي فاسمعي، فلما سمعت قالت: أحدري العودين حتى يكسرهما.
ومحمد بن مصعب توفي سنة ثمان وعشرين ومائتين – عليه رحمة الله تعالى – وكان صالحاً قانتاً مجاب الدعوة، وكان يقول: يا رب من زعم أنك لا تتكلم، ولا ترى في الآخرة فهو كافر بوجهك لا يعرفك أشهد أنك فوق العرش فوق سبع سموات، ليس كما يقول أعداؤك الزنادقة، كما في تاريخ بغداد: (3/280) ، وطبقات الحنابلة: (1/321) .
وفي الإحياء: (2/320) إذا ظهرت أصوات المزامير والأوتار بحيث جاوز ذلك حيطان الدار فمن سمع ذلك فله دخول الدار وكسر الملاهي.
قال راقم هذه الحروف – حفظه الله من الفتن والحتوف –: وهذا الأمر – أعني تغيير المنكر باليد – ينبغي فهمه ووعيه وعياً جيداً فقد فرط بالعمل به المسلمون من قرون، وخلدوا للدعة والذلة والسكون، بل ضيعوا العلم به وانحرفوا عن الشرع الميمون، وتلك بلية كل بلية بجانبها تهون، والله المستعان على ما يصفون.
واعلم أخي طالب الحق المبين أنه لا تعارض بين ما تقدم تقريره بالبراهين وبين وظيفة الحسبة في الشرع القويم فالحسبة هي أمر بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله كما في الأحكام السلطانية للماوردي: (240) ، ومعالم القربة: (51) ، وذلك الأمر هو مقصود جميع الولايات الإسلامية كما في الحسبة: (6) للشيخ ابن تيمية، والمحتسب هو المعين من قبل الحكومة الإسلامية للقيام بتلك المهمة العلية، والحسبة تصح من كل مسلم سواء كان محتسباً معينا لذلك أو متطوعاً في نشر شريعة الرب المالك، ومقاومة أهل المنكر وقمع المهالك، وقد ذكر الماوردي في الأحكام السلطانية: (240-241) تسعة فروق جوهرية للفرق بين المتكوع بالحسبة والمعين لها من قبل الحكومة الإسلامية، هاك خمسة من تلك الفروق الجلية:
الفرق الأول: فرض الحسبة متعين على المحتسب المتعين لها بحكم الولاية، وفرضها على غيره داخل في فروض الكفاية.
الفرق الثاني: قيام المعين للحسبة من حقوق تصرفه الذي لا يجوز أن يتشاغل عنه، وقيام غيره بها من نوافل عمله الذي يجوز أن يتشاغل عنه.
الفرق الثالث: يجب على المعين للحسبة أن يبحث عن المنكرات الظاهرة ليصل على إنكارها ويفحص عما ترك من المعروف الظاهر ليأمر بإقامته وليس على غيره بحث ولا فحص.
الفرق الرابع: للمعين على الحسبة أن يعزز في المنكرات الظاهرة، وليس للمتطوع أن يعزز على منكر، بل يقتصر على إزالته فقط.
الفرق الخامس: يجوز للمعين على الحسبة أن يرتزق على حسبته من بيت المال، ولا يجوز لغيره أن يرتزق على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
قال الإمام الغزالي – عليه رحمة الملك الباري – في الإحياء: (2/311) اشتراط الإذن من جهة الإمام والوالي في الحسبة فاسد، فإن الآيات والأخبار التي أوردناها تدل على أن كل من رأى منكراً فكست عليه عصى، إذ يجب عليه نهيه أينما رآه، وكيفما رآه على المعلوم، فالتخصيص بشرط التفويض من الإمام تحكم لا أصل له، والعجب أن الروافض قالوا: لا يجوز الأمر بالمعروف ما لم يخرج الإمام المعصوم، وهو الإمام الحق عندهم، وهؤلاء أخس رتبة من أن يكلموا، بل جوابهم أن يقال لهم إذا جاؤوا على القضاء طالبين لحقوقهم في دمائهم وأموالهم: إن نصرتكم أمر بالمعروف، واستخراج حقوقكم من أيدي من ظلمكم نهي عن المنكر، وطلبكم لحقكم من جملة المعروف، وما هذا زمان النهي عن الظلم وطلب الحقوق، لأن الإمام الحق بعد لم يخرج، فإن قيل: في الأمر بالمعروف إثبات سلطنة وولاية واحتكام على المحكوم عليه، ولذلك لم يثبت للكافر على المسلم مع كونه حقاً، فينبغي أن لا يثبت لأحاد الرعية إلا بتفويض من الولي وصاحب الأمر، فنقول: إما الكافر فممنوع لما فيه من السلطنة وعز الاحتكام، والكافر ذليل، فلا يستحق أن ينال عز التحكم على المسلم، وأما آحاد المسلمين فيستحقون هذا العز بالدين والمعرفة وما فيه من عز السلطنة والاحتكام لا يحوج إلى تفويض كفز التعليم والتعريف إذ لا خلاف في أن تعريف التحريم والإيجاب لمن هو جاهل، ومقدم على المنكر بجهله لا يحتاج إلى إذن الولي، وفيه عز الإرشاد، وعلى المعرف ذل التجهيل، وذلك يكفي فيه مجرد الدين، وكذلك النهي، وشرح القول في هذا أن الحسبة لما خمس مراتب، أولها: التعريف، والثاني: الوعظ بالكلام اللطيف، والثالث: السب والتعنيف، ولست أعني بالسب الفحش، بل أن يقول: يا جاهل، يا أحمق، ألا تخاف الله، وما يجري هذا المجرى، والرابع: المنع بالقهر بطريق المباشرة ككسر الملاهي، وإراقة الخمر واختطاف الثوب الحرير من لابسه، واستلاب الثوب المغصوب منه ورده على صاحبه، والخامس: التخويف والتهديد بالضرب ومباشرة الضرب له حتى يمنع عما هو عليه كالمواظب على الغيبة والقذف فإن سلب لسانه غير ممكن، ولكن يحمل على اختيار السكوت بالضرب، وهذا قد يحوج إلى استعانة وجمع أعوان من الجانبين، ويجر ذلك إلى قتال.
وسائر المراتب لا تخفى وجه استغنائها عن إذن الإمام، إلا المرتبة الخامسة، فإن فيها نظراً سيأتي، أما التعريف والوعظ فكيف يحتاج إلى إذن الإمام، وأما التجهيل والتحميق والنسبة إلى الفسق وقلة الخوف من الله – عز وجل – وما يجري مجراه فهو كلام صدق، والصدق مستحق بل أفضل الدرجات كلمة حق عند إمام جائر، كما ورد في الحديث الشريف – تقدم تخريجه في كتاب الملل والنحل – فإذا جاز الحكم على الإمام على مراغمته، فكيف يحتاج إلى إذنه، وكذلك كسر الملاهي وإراقة الخمور فإنه تعاطي ما يعرف كونه حقاً من غير اجتهاد، فلم يفتقر إلى الإمام وأما جمع الأعوان وشهر الأسلحة فذلك قد يجر إلى فتنة عامة ففيه نظر، واستمرار عادات السلف على الحسبة على الولاة قاطع بإجماعهم على الاستغناء عن التفويض بل كل من أمر بمعروف فإن كان الوالي راضياً به فذاك، وإن كان ساخطاً له، فسخطه له منكر يجب الإنكار عليه، فكيف يحتاج إلى إذنه في الإنكار عليه، ويدل على ذلك عادة السلف في الإنكار على الأئمة، ثم بعد أن سرد الغزالي عدة حوادث في ذلك قال: ففي سياق هذه الحكايات بيان الدليل على الاستغناء عن الإذن 10هـ.
وقد وسع الإمام الجصاص القول في ذلك وأطال، وأتى بما يشرح صدور الأبرار، فقال في أحكام القرآن: (2/29-34) ، ونعم ما قال: وفي هذه الأخبار دلالة على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لهما حالان: حال يمكن فيها تغيير المنكر وإزالته، ففرض على من أمكنه إزالة ذلك بيده أن يزيله، وإزالته باليد تكون على وجوه منها: أن لا يمكنه إزالته إلا بالسيف، وإن يأتي على نفس فاعل المنكر، فعليه أن يفعل ذلك، كمن رأى رجلاً قصده أو قصد غيره بقتله، أو بأخذ ماله ن أو قصد الزنا بامرأة، أو نحو ذلك، وعلم أنه لا ينتهي إن أنكره بالقول أو قاتله بما دون السلاح، فعليه أن يقتله، لقوله – صلى الله عليه وسلم –: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده" فإذا لم يمكنه تغييره بيده إلا بقتل المقيم على هذا المنكر فعليه أن يقتله فرضاً عليه، وإن غلب في ظنه أنه إن أنكره بيده ودفعه عنه بغير سلاح انتهى عنه لم يجز له الإقدام على قتله، وإن غلب في ظنه أنه إن أنكره بالدفع بيده، أو بالقول امتنع عليه، ولم يمكنه بعد ذلك دفعه عنه، ولم يمكنه إزالة هذا المنكر إلا بأن يقدم عليه بالقتل من غير إنذار منه له فعليه أن يقتله، وذكر أبن رستم عن محمد بن الحسن – عليهم جميعاً رحمة الله تعالى – في رجل غصب متاع رجل، وسعك قتله حتى تستنفذ المتاع وترده إلى صاحبه، وكذلك قال أبو حنيفة – رحمه الله تعالى – في السارق إذا أخذ المتاع وسعك أن تتبعه حتى تقتله إن لم يرد المتاع، وقال محمد بن الحسن قال أبو حنيفة في اللص الذي ينقب البيوت يسعك قتله، وقال في رجل يريد قلع سنك: لك أن تقتله إذا كنت في موضع لا يعينك الناس عليه، وهذا الذي ذكرناه يدل على قوله تعالى: "فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ" – عز وجل – وترك ما هم عليه من البغي والمنكر، وقول النبي – صلى الله عليه وسلم –: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده" يوجب ذلك أيضاً، لأنه قد أمر بتغييره بيده على أي وجه أمكن ذلك، فإذا لم يمكنه تغييره إلا بالقتل فعليه قتله حتى يزيله، ولذلك قلنا في أصحاب المكوس والضرائب التي يأخذونها من أمتعة الناس: إن دماءهم مباحة، وواجب على المسلمين قتلهم، ولكل واحد من الناس أن يقتل من قدر عليه منهم من غير إنذار منه له، ولا التقدم إليهم بالقول لأنه معلوم من حالهم أنهم غير قابلين إذا كانوا مقدمين على ذلك مع العلم بحظره، ومتى أنذرهم من يريد الإنكار عليهم امتنعوا منه حتى لا يمكن تغيير ما هم عليه من المنكر فجائز قتل من كان منهم مقيماً على ذلك، وجائز مع ذلك تركهم لمن خاف إن أقدم عليهم بالقتل أن يقتل، إلا أن عليه اجتنابهم والغلظة عليهم بما أمكن وهجرانهم، وكذلك حكم سائر من كان مقيماً على شيء من المعاصي الموبقات مصراً عليها مجاهراً بها فحكمه حكم من ذكرنا في وجوب النكير عليهم بما أمكن، وتغيير ما هم عليه بيده، وإن لم يستطع فلينكره بلسانه، وذلك إذا رجا أنه إن أنكر عليهم أن يزولوا عنه ويتركوه، فإن لم يرج ذلك وغلب في ظنه أنهم غير قابلين منه مع علمهم بأنه منكر عليهم وسعه السكوت عنهم بعد أن يجانبهم، ويظهر هجرانهم، لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: "فليغيره بلسانه، فإن لم يستطع فليغيره بقلبه" وقوله – صلى الله عليه وسلم –: "فإن لن يستطع" قد فهم منه أنهم إذا لم يزولوا عن المنكر فعليه إنكاره بقلبه سواء كان في تقية أو لم يكن، لأن قوله: "فإن لم يستطع" معناه أنه لا يمكنه إزالته بالقول فأباح له السكوت في هذه الحال.
ثم قال الإمام الجصاص – عليه رحمة الله تعالى –: لما ثبت بما قدمنا ذكره من القرآن، والآثار الواردة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – وجوب فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبينا أنه فرض على الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين وجب أن لا يختلف في لزوم فرضه البر والفاجر لأن ترك الإنسان لبعض الفروض لا يسقط عنه فروضاً غيره، ولم يدفع أحد من علماء الأمة وفقهائها سلفهم وخلفهم وجوب ذلك إلا قوم من الحشو وجهال أصحاب الحديث فإنهم أنكروا قتال الفئة الباغية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالسلاح، وسموا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فتنة إذا احتيج فيه إلى السلام وقتال الفئة الباغية، مع ما سمعوا فيه من قول الله – تبارك وتعالى –: "فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ" وما يقتضيه اللفظ من وجوب قتالها بالسيف وغيره، وزعموا مع ذلك أن السلطان لا ينكر عليه الظلم والجور، وقتل النفس التي حرم الله، وإنما ينكر على غير السلطان بالقول، أو باليد بغير سلاح، فصاروا شراً على الأمة من أعدائها المخالفين لها لأنهم أقعدوا الناس عن قتال الفئة الباغية، وعن الإنكار على السلطان الظلم والجور حتى أدى ذلك إلى تغلب الفجار بل المجوس وأعداء الإسلام حتى ذهبت الثفور وشاع الظلم، وخربت البلاد وذهب الدين والدنيا، وظهرت الزندقة والغلو، ومذاهب التنوية والخرمية والمزدكية، والذي جلب ذلك كله عليهم ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وترك الإنكار على السلطان الجائر والله المستعان 10هـ.
الإمام الجصاص هو أبو بكر أحمد بن على الرازي الفقيه الحنفي انتهت الرحلة في زمنه إليه وكان على طريقة من تقدمه في الورع والزهد والعبادة والصيانة وخوطب على أن يلي قضاء القضاة مرتين فامتنع، توفي سنة سبعين وثلاث مائة – عليه رحمة الله تعالى – انظر أخبار أبي حنيفة وأصحابه: (166-167) ، وتاريخ بغداد: (4/314-315) ، والمنتظم: (7/105-106) ، وتذكرة الحفاظ: (3/959) ، والبداية والنهاية: (11/297) ، وطبقات المفسرين للداودي: (1/56) ، وشذرات الذهب: (3/71) ، والفوائد البهية: (28) ، والجصاص بفتح الجيم والصاد المشددة وفي آخرها صاد نسبة إلى العمل بالجص وتبييض الجدران كما في اللباب: (1/281) .
قال مقيد هذه الصفحات – غفر الله الكريم له الزلات، وأقاله العثرات –: تقدمت الأدلة الشرعية عند دراسة فرقة القدرية أنه يجب على الرعية خلع الإمام الجائر إن أمكن فلا فتنة عمية، وإلا فينصح ويخوف من مغبة أحواله الردية، ولا يطاع في مخالفة رب البرية، فكن على بال من تلك القضية السوية.
واعلم أخا الإسلام أنه يتعلق بتغيير المنكر باليد ثلاثة أمور عظام، فدونك بيانها بالحجة والبرهان:
أولها:
إذا قدر الناس على إزالة المنكرات، ولم يأخذوا على أيدي السفهاء والسفيهات، عم سخط الله للمخلوقات، وهم بصدد نزول العقوبة عليهم في جميع الأوقات، وربك يمهل ولا يهمل، ثم يأخذ ولا يؤخر، ثبت في صحيح البخاري وغيره عن النعمان بن بشير – رضي الله تعالى عنهم جميعاً – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: "مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً، ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونحوا جميعاً" انظر صحيح البخاري – كتاب الشركة – باب هل يقرع في القسمة؟ والاستهام فيه: (5/132) ، وكتاب الشهادات – باب القرعة في المشكلات: (5/292) بشرح ابن حجر فيهما، وانظره في سنن الترمذي – كتاب الفتن – باب منه – أي: من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر –: (6/737-338) ، والمسند: (4/268-270) .
وفي المسند والسنن عن قيس بن جازم قال: قام فينا أبو بكر – رضي الله تعالى عنه – فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إنكم تقرؤون هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} المائدة105، وإني سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه، أوشك أن يعمهم الله بعقاب".
حاشية: انظر سنن الترمذي – كتاب الفتن – باب ما جاء في نزول العذاب إذا لم يغير المنكر: (6/335) ، وكتاب التفسير – سورة المائدة: (8/221) ، وقال: هذا حديث حسن صحيح وقد رواه غير واحد عن إسماعيل بن أبي خالد نحو هذا الحديث مرفوعاً، وروى بعضهم عن إسماعيل عن قيس عن أبي بكر قوله، ولم يرفعوه، وقال في المكان المتقدم في كتاب الفتن، وفي الباب عن عائشة، وأم سلمة والنعمان بن بشير، وعبد الله بن عمر، وحذيفة – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – وهذا حديث صحيح، وهكذا روى غير واحد عن إسماعيل نحو حديث يزيد، ورفعه بعضهم عن إسماعيل، وأوقفه بعضهم 1هـ وانظره في سنن أبي داود – كتاب الملاحم – باب الأمر والنهي: (4/510) ، وسنن ابن ماجه – كتاب الفتن – باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: (2/1327) ، والمسند: (1/2، 5، 7، 9) ، وهو أول حديث فيه، وقد صححه الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على المسند في الأماكن الأربعة الآتية: (1/153، 163، 168) وضعف سند الرواية الخامسة في: (1/176) ، وانظره في مسند الحميدي: (1/3-4) ، وهو ثالث حديث فيه، ومسند أبي بكر: (154-157) رقم: "86، 87، 88، 89"، وصحيح ابن حبان – موارد الظمآن – كتاب الفتن – باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: (455) والعزلة للخطابي: (26) ، وجامع البيان: (7/64) ، وأحكام القرآن للجصاص: (2/31) ، واستشهد به الحافظ في الفتح: (13/60) ، ونسب السيوطي في الدر: (2/339) تخريجه إلى ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، والعدني، وابن منيع، وأبي يعلى في مسانيدهم، وإلى النسائي في السنن الكبرى، والكجي في سننه وإلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم والدارقطني في الأفراد، وأبي الشيخ وابن مردويه، والبيهقي في شعب الإيمان، والضياء في المختارة 10هـ.
هذا وقد أخرج القسم المرفوع من الحديث عن جرير بن عبد الله البجلي – رضي الله تعالى عنه – مرفوعاً كل من الترمذي في المكان الأول، وأبي داود، وابن ماجه وصحيح ابن حبان في الأمكنة المتقدمة وهو في المسند: (4/361، 363، 366) ، ونسبه السيوطي في الدر: (2/339) إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد أيضاً.
قال راقم هذه الحروف: وآية المائدة تدل على أمر زين، حسبما جاء في شريعة رب الكونين ولا يفهم منها شيء من الدعة وترك القيام بالدعوة كما يتعلق بذلك أهل الشين، فاستمع للتحقيق الذي تقر به العين.
أما الأمر الحق الذي لا تدل الآية الكريمة إلا عليه، فهو ما فهمه صديق هذه الأمة – رضي الله تعالى عنه – ونبه إليه، وهو الذي اختاره ابن جرير في تفسيره: (7/65) ، وعقد الخنصر عليه، ونقله عنه الخازن في لباب التأويل: (2/103) ، ومال إليه، ونص عبارة الإمام ابن جرير – عليه رحمة ربنا الجليل –: وأولي هذه الأقوال، واصح التأويلات عندنا بتأويل هذه الآية ما روي عن أبي بكر الصديق – رضي الله تعالى عنه – فيها، وهو: يا أيها الذين آمنوا ألزموا أنفسكم العمل بطاعة الله – عز وجل – وبما أمركم به، وانتهوا عما نهاكم الله تعالى عنه "ولاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ"يقول: فإنه لا يضركم ضلال من ضل إذا أنتم رمتم العمل بطاعة الله – عز وجل – وأديتم فيمن ضل ما ألزمكم الله به فيه من فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يركبه أو يحال ركوبه، والأخذ على يديه إذا رام ظلماً لمسلم أو معاهد، ومنعه منه، فأبى النزوع عن ذلك، ولا ضير عليكم في تماديه في غيه وضلاله، إذا أنتم اهتديتم، وأديتم حق الله – تبارك وتعالى – فيه 1هـ.
قال عبد الرحيم: فلا مناص من تغيير معصية رب العالمين، فإن قدر على ذلك بيده، فلا تبرأ ذمته إلا بقمع المنحرفين عن صراط الله المستقيم، وإذا عجز عن التغيير باليمين فليصدع بالجهر بالحق المبين، وليقم بما يقتضيه نحو ذلك من الفعل الكريم، إذا لم يجد قوله في المنصوحين، كما سيأتي بيان ذلك بعد حين، وهو في ذلك الحال في سعة من تركهم، وتفويض أمرهم إلى ربهم، كما دل على ذلك أحاديث أبي ثعلبة الخشني، وعبد الله بن مسعود، وأبي هريرة – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – وقد تقدمت مخرجة في أول المبحث الشريف.
وأما الأمر الباطل الذي لا تدل عليه الآية بحال، فهو ما يفهمه أهل الجبن والخور والضلال من أن واجب الإنسان منحصر في العناية بنفسه للبلوغ إلى درجة الكمال، وما عليه بعد ذلك من حرج في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وشنآن أهل الزيغ المنحرفين عن الاعتدال غضباً لذي العزة والجلال، وهذا هو فهم أكثر صوفية هذا العصر الأرذال، بل وأكثر من ينتسب إلى شريعة الكبير المتعال من نساء ورجال، ونسأل الله تغير الحال إلى أحسن الأحوال فهو الكريم ولما يشاء فعال.
ثاني الأمور المتعلقة بتغيير الضلال والفجور بالقوة والفعل المبرور:
تقدم في أول هذا البحث الشريف أن من قدر على تغيير المنكر من غير وقوع أذى عليه من ضرب أو قتل فواجب عليه التغيير، وإن لحقه لوم وتعنيف من ذوي الشر والتقصير، والذي أريد أن أقرره هنا أنه لو خشي وقوع ضرب لبدنه، وقتل لنفسه من جراء أمره ونهيه فلا يجبا عليه، ولو اقتحمهما لصحة النية لديه، فذلك مما يشكر عليه، عند من تصير الأمور إليه، قال الإمام أبو بكر بن العربي في أحكام القرآن: (1/266-267) : فإن خاف على نفسه من تغيير المنكر الضرب أو القتل، فإن رجا زواله جاز له عند أكثر العلماء الاقتحام عند هذا الغرر، وإن لم يرج فأي فائدة فيه؟ والذي عندي: أن النية إذا خلصت فليقتحم كيف كان ولا يبالي، فإن قيل: هذا إلقاء بيده إلى التهلكة، قلنا: قد بينا معنى الآية في موضعها 1هـ، قال عبد الرحيم: وهذا هو الحق المبين وتوهم القرطبي في تفسيره: (4/48) معارضة هذا لما نقل من إجماع المسلمين، لا صحة له يا أخي الكريم، وفي إحياء علوم الدين: (2/345) إذا علم المتطوع بالحسبة أنه يصاب بمكروه ولكن يبطل المنكر بفعله كما يقدر على أن يرمي زجاجه الفاسق بحجر فيكسرها، ويريق الخمر الذي فيها أو يضرب العود الذي في يده ضربة مختطفة فيكسره في الحال ويتعطل عليه هذا المنكر، ولكن يعلم أنه يرجع إليه فيضرب رأسه، فهذا ليست الحسبة عليه بواجبة وليست بحرام بل هي مستحبة ويدل على الاستحباب الخبر الذي أوردناه في فضل كلمة الحق عند الإمام الجائر – تقدم تخريج الحديث في كتاب الملل والنحل –.
قال الغزالي: فإن قيل: فما معنى قوله – تبارك وتعالى –: "وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ" البقرة 195، قلنا: لا خلاف في أن المسلم الواحد له أن يهجم على صف الكفار، ويقاتل وإن علم أنه يقتل، وهذا ربما يظن أنه مخالف لموجب الآية وليس كذلك فقد قال ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما –: ليس التهلكة ذلك، بل ترك النفقة في طاعة الله – تبارك وتعالى – أي: من لم يفعل ذلك فقد أهلك نفسه، وقال البراء بن عازب – رضي الله تعالى عنه –: التهلكة: هو أن يذنب ثم يقول لا يتاب عليّ، وقال أبو عبيدة – رضي الله تعالى عنه –: هو أن يذنب ثم لا يعمل بعده خيراً حتى يهلك.
حاشية: انظر أثر ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – في: (2/116-117) من تفسير الطبري، وتفسير الثوري: (59) ، ورواه عنه وكيع والبيهقي والفريابي وابن المنذر كما في الدر المنثور: (1/207) ، ونقل هذا القول عن عدد من السلف الكرام فانظر تفصيل ذلك في جامع البيان والدر المنثور، وتفسير الثوري، وانظر أثر البراء في تفسير الطبري: (2/118) ، ومستدرك الحاكم – كتاب التفسير – سورة البقرة: (2/275-276) ،وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وأقره الذهبي، ورواه عنه وكيع بن عيينة والفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم كما في الدر: (1/208) ، ونقل هذا القول عن غيره من السلف أيضاً فانظر ذلك في جامع البيان والدر المنثور.
وأما أثر أبي عبيدة فلم أعثر عليه، والذي يظهر لي وجودهم من الطابع في زيادة "أبي" لأن الأثر منقول عن عبيدة السلماني التابعي لا عن أبي عبيدة الصحابي كما في تفسير الطبري: (2/118) ، ورواه عنه وكيع وعبد بن حميد كما في الدر: (1/208) ، والله أعلم.
وإذا جاز أن يقاتل الكفار حتى يقتل جاز أيضاً له ذلك في الحسبة، ولكن لو علم أنه لا نكابة لهجومه على الكفار كالأعمى يطرح نفسه على الصف أو العاجز فذلك حرام، وداخل تحت عموم آية التهلكة، وإنما جاز له الإقدام إذا علم أنه يقاتل على أن يقتل، أو علم أنه يكسر قلوب الكفار بمشاهدتهم جرأته، واعتقادهم في سائر المسلمين قلة المبالاة وحبهم للشهادة، فتنكسر بذلك شوكتهم، فكذلك يجوز للمحتسب له أن يعرض نفسه للضرب والقتل إذا كان لحسبته تأثير في رفع المنكر، أو في كسر جاه الفاسق، أو في تقوية أهل الدين 1هـ.
قال مقيد هذه الصفحات: ومال كلام الإمامين ابن العربي والغزالي شيء واحد فإذا صلحت نية المحتسب، وأراد إعزاز الدين، وكسر شوكة الفاسقين، وتقوية قلوب المؤمنين، وإظهار تفاهة الدنيا عند الصادقين، وتعليق همتهم بما عند رب العالمين، فليقدم كيف كان ولا يبالي بأحد من المخلوقين، كما قال سحرة فرعون اللعين عندما آمنوا برب العالمين، وتهددهم عدو الله بالعذاب الأليم: {قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} طه72-73.
قال عبد الرحيم: نقل عن سلفنا الصالحين، ثلاثة أقوال في تفسير قول رب العالمين: {وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} البقرة195 والآية الكريمة أعم من ذلك وإليك التحقيق المنير للحوالك:
القول الأول:
نقل عن عدد من السلف البررة أن المراد من الإلقاء بالأيدي إلى التهلكة: الامتناع عن بذل النفقة في قتال أعداء الله الكفرة، لأن ذلك سيؤدي إلى استيلاء العدو عليهم وإهلاكهم، نقل هذا عن حبر الأمة وبحرها ابن عباس، وعن حذيفة ابن اليمان، وعن البراء بن عازب أيضاً وعن جم غفير من التابعين – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – كما تقدمت الإشارة إلى ذلك في التعليقة السابقة، فالإلقاء بالأيدي إلى التهلكة راجع إلى عدم النفقة المأمور بها في قوله – جل وعلا – في صدر الآية: "وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله".
القول الثاني:
قال كثير من سلفنا الأبرار: إن المراد من الإلقاء بالأيدي إلى التهلكة: القنوط من رحمة العزيز الغفار، وعدم التوبة من الذنوب والأوزار، وذلك من خصال الأشرار، وهو موصل بلا شك إلى الهلكة في هذه الدار، وإلى العذاب الأليم في النار، وممن قال بهذا القول البراء بن عازب، والنعمان بن بشير، وعبيدة السلماني – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – والأثر ثابت عن البراء ثبوت صحة كما تقدم بيان ذلك في التعليقة السابقة وقول الألوسي في روح المعاني: (2/78) إن القول بذلك في غاية البعد، ولم أر من صحح خبر البراء سوى الحاكم، وتصحيحه لا يوثق به 1هـ لا يؤبه به، ولا يركن إليه، ولا يعول عليه، فخبر البراء على شرط الشيخين كما قال الحاكم وأقره الذهبي، ونقل ذلك عنه السيوطي في الدر ولم يعترض عليه، وأثر النعمان بن بشير رواه الطبراني في الكبير والأوسط ورجالهما رجال الصحيح كما في مجمع الزوائد: (6/317) ، ورواه عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن مردويه، والبيهقي في شعب الإيمان كما في الدر المنثور: (1/208) ونقله البغوي في معالم التنزيل عن أبي قلابة: (1/172) ، وهو من التابعين.
وعلى هذا القول يكون قوله – جل وعلا –: "وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ" متعلقاً بقوله – جل جلاله – في الآيات السابقة: {فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} البقرة192.
القول الثالث:
قال بعض سلفنا ذوي الرشاد: إن المراد من الإلقاء بالأيدي إلى الهلاك ترك الجهاد، والإقامة مع الأهل والمال والأولاد، نقل هذا عن أبي أيوب – عليه رضوان علام الغيوب – ففي السنن وصحيح ابن حبان والمستدرك عن أسلم أبي عمران التجيبي قال: كنا بمدينة فأخرجوا غلينا صفاً عظيماً من الروم فخرج إليهم من المسلمين مثلهم أو أكثر، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر، وعلى الجماعة فضالة بن عبيد – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل عليهم، فصاح الناس، وقالوا: سبحان الله، يلقي بيديه إلى التهلكة، فقام أبو أيوب الأنصاري – عليه رضوان ربنا الباري – فقال: يا أيها الناس إنكم تتأولون هذه الآية هذا التأويل، وإنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار لما أعز الله الإسلام، وكثر ناصروه، قال بعضنا لبعض سراً دون رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله قد أعز الإسلام وكثر ناصروه فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله – تبارك وتعالى – على نبيه – صلى الله عليه وسلم – يرد علينا ما قلنا: "وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ" فكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو فما زال أبو أيوب – عليه رضوان علام الغيوب – شاخصاً في سبيل الله – عز وجل حتى دفن بأرض الروم بالقسطنطينية.
حاشية: انظر سنن الترمذي – كتاب التفسير – سورة البقرة –: (8/164-165) ، وقال: هذا حديث حسن غريب صحيح، وسنن أبي داود – كتاب الجهاد – باب في الجرأة والجبن: (3/27) ، ومستدرك الحاكم – كتاب التفسير – سورة البقرة –: (2/275) ، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وأقره الذهبي، وصحيح ابن حبان – موارد الظمآن – كتاب الجهاد – باب ما جاء في الجرأة –: (401) ، ومسند الطيالسي – منحة المعبود – كتاب التفسير – سورة البقرة –: (2/13) ، وتفسير الطبري: (2/119) ، وأحكام القرآن للجصاص: (1/262) ، ورواه ابن عبد الحكم في فتوح مصر: (269-270) ، وعبد بن حميد، والنسائي وأبو يعلى، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه، والبيهقي في سننه كما في الدر المنثور: (1/207) .
وعلى هذا القول فقوله – جل وعلا –: "وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ" متعلق بقوله – جل وعز – في الآيات السابقة: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ} البقرة190.
قال راقم هذه الحروف: التهلكة مصدر كالهلك والهلاك، والمراد من النهي عن الإلقاء بالأيدي إلى التهلكة النهي عن كل ما يتسبب عنه هلاك النفس وشقاؤها، وذلك شامل للأقوال الثلاثة وغيرهما، وما تقدم من الأقوال عن سلفنا الأبرار هو من باب اختلاف التنوع لا اختلاف التضاد، قال الإمام الجصاص في أحكام القرآن: (1/262) : وليس يمتنع أن يكون جميع هذه المعاني مرادة بالآية، لاحتمال اللفظ لها، وجواز اجتماعها من غير تضاد ولا تناف 10هـ وهذا ما قرره الإمام ابن كثير فقال في تفسيره الجليل: (1/229) ، ومضمون الآية الأمر بالإنفاق في سبيل الله في سائر وجوه القربات ووجوه الطاعات خاصة صرف الأموال في قتال الأعداء وبذلها فيما يقوي به المسلمون على عدوهم والإخبار عن ترك فعل ذلك بأنه هلاك ودمار لمن لزمه واعتاده 10هـ. وقرر ذلك قلهما الإمام ابن جرير فقال في تفسيره الكبير: (2/119) ، والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله – جل ثناؤه – أمر بالإنفاق في سبيله بقوله: "وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ" وسبيله: طريقه الذي شرعه لعباده وأوضحه لهم، ومعنى ذلك: وأنفقوا في إعزاز ديني الذي شرعته لكم بجهاد عدوكم الناصبين لكم الحرب على الكفر بي، ونهاهم أن يلقوا بأيديهم إلى التهلكة فقال: "وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ"،وذلك مثل، والعرب تقول للمستسلم للأمر أعطى فلان بيديه وكذلك يقال للممكن من نفسه مما أريد به أعطى بيديه، فمعنى قوله – عز وجل –: "وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ": لا تستسلموا للهلكة فتعطوها أزمتكم فتهلكوا، والتارك النفقة في سبيل الله عند وجوب ذ ... لك عليه مستسلم للهلكة بتركه أداء ما فرض الله عليه في ماله، وذلك أن الله – جل ثناؤه – جعل أحد سهام الصدقات المفروضات الثمانية في سبيله فقال – جل وعلا –: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} التوبة60، فمن ترك إنفاق ما لزمه من ذلك في سبيل الله على ما لزمه كان للهلكة مستسلماً، وبيديه للتهلكة ملقياً، وكذلك الآيس من رحمة الله لذنب سلف منه ملق بيديه إلى التهلكة، لأن الله قد نهى عن ذلك فقال: {وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} يوسف87، وكذلك التارك غزو المشركين وجهادهم في حال وجوب ذلك عليه في حال حاجة المسلمين إليه مضيع فرضاً علق بيده إلى التهلكة، فإذا كانت هذه المعاني كلها يحتملها قوله – جل وعلا –: "وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ" ولم يكن الله – عز وجل – خص منها شيئاً دون شيء فالصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله نهى عن الإلقاء بأيدينا لما فيه هلاكنا، والاستسلام للهلكة وهي العذاب بترك ما لزمنا من فرائضه فغير جائز لأحد منا الدخول في شيء يكرهه الله منا مما نستوجب بدخولنا فيه عذابه، غير أن الأمر وإن كان كذلك فإن الأغلب من تأويل الآية: وأنفقوا أيها المؤمنون في سبيل الله – ولا تتركوا النفقة فيها فتهلكوا باستحقاقكم بترككم ذلك عذابي 1هـ.
وعلى كل حال فليس معنى الآية الكريمة بكل اعتبار عدم مقاومة الأخيار للأشرار وإن تحققوا إصابتهم بالأخطار ثبت في مسند الإمام أحمد: (4/281) بسند رجاله رجال الصحيح غير سليمان ابن داود الهاشمي، وهو ثقة كما في مجمع الزوائد: (5/328) ، وبوب عليه الهيثمي باباً في كتاب الجهاد بهذا الخصوص فقال: باب فيمن يحمل على العدو وحده، ولفظ الأثر عن أبي إسحاق، قال: قلت للبراء بن عازب – رضي الله تعالى عنهم أجمعين –: الرجل يحمل على المشركين أهو ممن ألقى بيده إلى التهلكة؟ قال: لا، لأن الله – عز وجل – بعث رسوله – صلى الله عليه وسلم – فقال: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ} النساء84، إنما ذاك في النفقة، رواه الطبري في تفسيره: (2/118) بلفظ: "لا، ليقاتل حتى يقتل، قال الله لنبيه – صلى الله عليه وسلم –: "فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ"، قال الجصاص في أحكام القرآن: (1/262) ، وقيل: هو – أي التهلكة – أن يقتحم الحرب من غير نكاية في العدو، وهو التأويل الذي تأوله القوم الذي أنكر عليهم أبو أيوب – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – وأخبر فيه بالسبب، ثم قرر الجصاص أن حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على تلك الشاكلة، فمن رجا نفعاً في الدين فبذل نفسه فيه حتى قتل كان في أعلا درجات الشهداء 10هـ وفي كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لخلال: (93-94) باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باليد، قال أبو عبد الله – الإمام أحمد – عليه رحمة الله تعالى –: نحن نرجو إن أنكر بقلبه فقد سلم، وإن أنكر بيده فهو أفضل، وسئل عن الرجل يأمر بالمعروف بيده، فقال: إن قوي على ذلك فلا بأس به، فقيل له: قد جاء عن النبي – صلى الله عليه وسلم –: "ليس للمؤمن أن يذل نفسه"
حاشية: أخرجه الترمذي – كتاب الفتن – باب "67": (7/35) ، وقال: هذا حديث حسن غريب، وابن ماجه – كتاب الفتن – باب قوله تعالى –: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ": (2/1332) ، والمسند: (5/405) ، ورواه أبو يعلى، والضياء في المختارة كما في جمع الجوامع: (1/940) كلهم عن حذيفة – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه " قالوا: وكيف يذل نفسه؟ قال: "يتعرض من البلاء لما لا يطيق".
والحديث رواه البزار والطبراني في الكبير والأوسط من رواية ابن عمر – رضي الله تعالى عنهما – ورجال الطبراني في الكبير رجال الصحيح غير زكريا بن يحيى بن أيوب ذكره الخطيب، روى عن جماعة وروى عنه جماعة ولم يتكلم فيه أحد، ورواه الطبراني في الأوسط أيضاً عن على –رضي الله تعالى عنه – من طريق الخضر عن الجارود ولم ينسبا ولم أعرفهما كما في مجمع الزوائد: (7/275) .
بأن يعرضها من البلاء ما لا طاقة له به، قال: ليس هذا من ذلك 10هـ وهذا – بلا شك – كلام العلماء الصلحاء، لأن ما ينال الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر من الإيذاء من قبل المردة والسفهاء سيكون سبباً لرفعة درجته وعزة نفسه عند رب الأرض والسماء، حيث حصل منه الوفاء بالصفقة التي تمت بين خالق الأشياء، وبين أهل الخوف والرجاء {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} التوبة111، ومن الطريف ما يتعلق بهذه الآية، وجليله وجميله أن حمزة والكسائي وخلف – عليهم رحمة الله تعالى – قرأوا بتقديم الفعل المجهول في: " فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ " كما في تقريب النشر: (103) ، وفي ذلك دلالة على عظيم مدحهم لتعلق هممهم بالاستشهاد في سبيل الله رب العباد، ومن لم يرزق منهم شرف الاستشهاد فما وهن بعد قتل إخوانه أهل الرشاد، بل قاتل بجرأة حتى قتل أهل الفساد والعناد كما في حجة القراءات: (325) ، وروح المعاني: (11/29) .
ثالث التنبيهات المتعلقة بإزالة المنكرات:
إذا كان مغير المنكر بيده لا يلحقه من تغييره إلا اللوم والتعنيف فيجب عليه إزالة الفساد، واحتساب أجره على ما يلقاه من الأذى عند رب العباد، وأما إذا تحقق حصول ضرب له فما فوقه جاز له أن يغيره، بل يستحب، وما يصيبه من الأذى يكافئه عليه الرب.
والذي أريد بيانه هنا: تحديد درجة الاحتمال التي تسقط عن المكلف واجب تغيير المنكر باليد، قال الغزالي في الإحياء: (2/316) : إن غلب على الظن أنه يصاب لم يجب، وإن غلب أنه لا يصاب وجب، ومجرد التجويز لا يسقط الوجوب، فإن ذلك ممكن في كل حسبة، وإن شك فيه من غير رجحان فهذا محل نظر، فيحتمل أن يقال: الأصل الوجوب بحكم العمومات، وإنما يسقط بمكروه، والمكروه هو الذي يظن أن يعلم حتى يكون متوقعاً، وهذا هو الأظهر، ويحتمل أن يقال إنما يجب عليه إذا علم أنه لا شرر فيه عليه، أو ظن أنه لا ضرر عليه، والأول أصح نظراً إلى قضية العمومات الموجبة للأمر بالمعروف 1هـ.
وصفوة الكلام إن تحقق إصابته بضرب فما فوقه لا يجب عليه التغيير باليد، وكذلك إن غلب على ظنه، ويستحب له في تينك الحالتين التغيير واحتساب أجره عند الخبير البصير، ومجرد تجويز حلول العذاب عليه واحتمال نزوله به لا يسقط وجوب تغيير المنكر باليد بالإجماع، وأما إذا شك من غير رجحان في أحد الطرفين فالمعتمد وهو الحق وجوب إزالة المنكر باليد نظراً لقضية الأصل ولا يوجد ما يعارضه، فعض أخي الجليل بالنواجذ على هذا التفصيل، وقم بما يجب عليك نحو العليّ الكبير، وحذار حذار من المبالاة بالمخلوق الحقير الذي ليس له من الأمر قليل ولا كثير، ولا يملك من نقير ولا قطمير.
ثاني المباحث الخمسة:
إذا عجز المكلف عن تغيير المنكر بيده حسب التفصيل المتقدم بأدلته فيتعين عليه الإنكار باللسان إذا لم يخش وقوع ضرر على الأبدان كما تقدم بيان هذا في أحاديث خير الأنام – عليه الصلاة والسلام – فإن زالت المعاصي والآثام بذلك النصح والبيان فالأمة في خير وعافية من ربنا الرحمن، وإلا فهي مهددة بالعقوبة والانتقام، وسيعم ذلك جميع الأنام، كما قال ذو الجلال والإكرام: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} الأنفال25، قال الإمام ابن كثير في تفسيره لهذه الآية الكريمة: (2/298-299) : يحذر الله – تبارك وتعالى – عباده المؤمنين فتنة واختباراً ومحنة يعم بها المسيء وغيره لا يخص بها أهل المعاصي، ولا من باشر الذنب بل يعمها حيث لم تدفع ولم ترفع 1هـ وروى ابن جرير في تفسيره: (9/144) ، وابن أبي حاتم كما في الإكليل: (113) ، وابن المنذر، وأبو الشيخ كما في الدر: (3/177) عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – قال: أمر الله – عز وجل – المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم الله بالعذاب، قال الإمام ابن كثير: (2/299) ، وهذا تفسير حسن جداً، والقول بأن هذا التحذير يريعم الصحابة وغيرهم وإن كان الخطاب معهم هو الصحيح، ويدل عليه الأحاديث الواردة في التحذير من الفتن، ولذلك كتاب مستقل يوضح فيه – إن شاء الله تعالى – كما فعله الأئمة وأفردوه بالتصنيف 1هـ وهذا هو المعتمد في تفسير الآية الكريمة، وهو الذي تعضده الأحاديث الصحيحة كما في تفسير القرطبي: (7/391) ، وسيأتيك ذكرها قريباً فلا تعجل، وفي تفسير الطبري: (9/144) عن مجاهد قال: هي أيضاً لكم، وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك كما في الدر المنثور: (3/177) ، قال: تصيب الظالم، والصالح عامة.
قال عبد الرحيم: وتلك الإصابة العامة تكون عقوبة للمفسدين، وإخوانهم المقرين لهم على معصية رب العالمين، وأما في حق المنكرين لما يسخط أحكم الحاكمين فتكون طهرة لهم عند مالك يوم الدين، ومصيبة ينالون بها الأجر الكريم، وإليك بعض أحاديث خاتم النبيين – عليه وعليهم أفضل الصلاة وأتم التسليم – في تقرير ذلك الأمر العظيم.
ثبت في الصحيحين وغيرهما عن أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنها – قالت: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "يغزو جيش الكعبة، فإذا كانوا ببيداء من الأرض يخسف بأولهم وآخرهم" قالت: قلت يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كيف يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم؟، قال: "بخسف بأولهم وآخرهم ثم يبعثون على نياتم".
حاشية: انظر صحيح البخاري بشرح الحافظ: (4/338) – كتاب البيوع – باب ما ذكر في الأسواق – وعلق الجملة الأولى منه في كتاب الحج – باب هدم الكعبة – عن أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنها – مرفوعاً: (3/460) بشرح ابن حجر، وانظره في صحيح مسلم – كتاب الفتن – باب الخسف بالجيش الذي يؤم البيت: (4/2208-2011) ، وهو في المسند: (6/105، 259) ، ورواه مسلم أيضاً في نفس المكان عن أم سلمة – رضي الله تعالى عنها – وهو عنها في سنن الترمذي – كتاب الفتن – باب "10": (6/337) ، وأشار إلى الرواية المتقدمة، وسنن ابن ماجه – كتاب الفتن – باب جيش البيداء: (2/1351) ، وسنن أبي داود – كتاب المهدي: (4/476) ، والمسند: (6/289 - 290، 316-317، 323) ، ورواه عنها الطبراني في الكبير والأوسط وأبو يعلى كما في مجمع الزوائد – كتاب الفتن – باب ما جاء في المهدي –: (7/314-316) .
والحديث رواه الترمذي عن صفية – رضي الله تعالى عنها – في كتاب الفتن – باب ما جاء في الخسف: (6/347) ، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وابن ماجه في المكان المتقدم، وأحمد المسند: (6/336-337، 337) .
والحديث رواه ابن ماجه عن حفصة – رضي الله تعالى عنها – في المكان المتقدم، وهو في المسند: (6/286، 287) ، ومسند الحميدي: (1/137) رقم "286"، ورواه الطبراني في الأوسط عن أم حبيبة – رضي الله تعالى عنها – كما في مجمع الزوائد في المكان المتقدم –، ورواه البزار عن أنس بن مالك – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – كما في مجمع الزوائد في المكان المتقدم.
وقوله: "أسواقهم" بالمهملة والقاف جمع سوق، والمعنى: أهل أسواقهم أو السوقة منهم، وقوله: "ومن ليس منهم" أي: من رافقهم ولم يقصد موافقتهم، كما في الفتح: (4/340) ، وفي رواية لمسلم: "فقلنا يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إن الطريق قد يجمع الناس، قال: نعم، فيهم المستبصر والمجبور، وابن السبيل، يهلكون مهلكاً واحداً، ويصدرون مصادر شتى، يبعثهم الله على نياتهم" ووجه الاستدلال بهذا الحديث الشريف أن أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنها – لما استشكلت وقوع العذاب على من لا إرادة له في القتال الذي هو سبب العقوبة، أجيبت بأن العذاب يقع عاماً لحضور آجالهم، ثم يبعثون على نياتهم، فيخسف بالجميع لشؤم الأشرار، ثم يعامل كل أحد عند الحساب بحسب قصده، كما في الفتح: (4/340-341) ، وقال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم: (18/7) في هذا الحديث من الفقه: التباعد من أهل الظلم والتحذير من مجالستهم ومجالسة البغاة ونحوهم من المبطلون لئلا يناله ما يعاقبون به، وفيه: أن من كثر سواد قوم جرى عليه حكمهم في ظاهر عقوبات الدنيا 10هـ ونحوه في شرح السنوسي: (7/239) .
وثبت في الصحيحين والمسند عن ابن عمر – رضي الله تعالى عنهما – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "إذا أنزل الله بقوم عذاباً أصاب العذاب من كان فيهم ثم بعثوا على أعمالهم" وفي رواية ابن حبان عن أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنها – قالت: قلت يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: إن الله إذا أنزل سطوته بأهل الأرض وفيهم الصالحون فيهلكون بهلاكهم؟ فقال: "يا عائشة إن الله – عز وجل – إذا أنزل سطوته بأهل نقمة وفيهم الصالحون فيصابون معهم، ثم يبعثون على نياتهم".
حاشية: انظر صحيح البخاري بشرح الحافظ: (13/60) – كتاب الفتن – باب إذا أنزل الله بقوم عذاباً، وصحيح مسلم آخر كتاب الجنة وصفة نعيمها: (4/220) ، والمسند: (2/40) ، وصحيح ابن حبان – موارد الظمآن – كتاب الفتن – باب أنهلك وفينا الصالحون: (457) ، واستشهد الحافظ في الفتح: (13/60) برواية ابن حبان وحكى المنذري في الترغيب والترهيب: (3/227) تصحيح ابن حبان وأقره.
قال الحافظ في الفتح: (13/60) قوله: "أصاب العذاب من كان فيهم" أي: ممن ليس هو على رأيهم، وقوله: "ثم بعثوا على أعمالهم" أي: بعث كل واحد منهم على حسب عمله – إن كان صالحاً فعقباه صالحة، وإلا فسيئة، فيكون ذلك العذاب طهرة للصالحين، ونقمة على الفاسقين أخرج البيهقي في شعب الإيمان من طريق الحسن بن محمد بن أبي طالب عن أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – مرفوعاً: "إذا ظهر السوء في الأرض أنزل الله بأسه فيهم، قيل: يا رسول الله وفيهم أهل طاعته؟ قال: نعم ثم يبعثون إلى رحمة الله تعالى" 10هـ قال راقم هذه الحروف: وهذه الرواية رواها أحمد في المسند: (6/41) ، وفي إسناده امرأة لم تسم كما في مجمع الزوائد: (7/268) .
حاشية: وفي المستدرك – كتاب الفتن والملاحم –: (4/516) ، عن أنس بن مالك قال: دخلت على أمنا عائشة ورجل معها – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – فقال الرجل: يا أم المؤمنين، حدثينا عن الزلزلة فقالت: يا أنس إن حدثتك عنها عشت حزيناً، وبعثت حين تبعث وذلك الحزن في قلبك، فقلت: يا أماه حدثينا، فقالت: إن المرأة إذا خلعت ثيابها في غير بيت زوجها هتكت ما بينها وبين الله – عز وجل – من حجاب، وإن تطيبت لغير زوجها كان عليها ناراً وشنارا، فإذا استحلوا الزنا وشربوا الخمور بعد هذا وضربوا المعازف غار الله في سمائه، فقال للأرض: تزلزلي بهم، فإن تابوا ونزعوا، وإلا هدمها عليهم، فقال أنس: عقوبة لهم؟ قالت: رحمة وبركة وموعظة للمؤمنين، ونكالاً وسخطة وعذاباً للكافرين، قال أنس: فما سمعت بعد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حديثاً أنا أشد به فرحاً مني بهذا، بل أعيش فرحاً، وأبعث حين أبعث وذلك الفرح في قلبي، أو قال في نفسي، قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وتعقبه الذهبي بقوله: بل أحسبه موضوعاً على أنس، ونعيم بن حماد منكر الحديث إلى الغاية، مع أن البخاري روى عنه 1هـ وفي حكم الذهبي مبالغة بل مجازفة، فما سبب وضع الحديث؟ ونعيم لا يصل أمره على حد غاية النكارة، فهو في الميزان: (4/267) قال عنه: أحد الأئمة الأعلام على لين في حديثه 1هـ وقال عنه في الكاشف: (3/182) مختلف فيه 1هـ والمعتمد في أمره ما قاله الحافظ في التقريب: (2/305) صدوق يخطئ كثيراً 1هـ والحديث استشهد به ابن القيم في إغاثة اللهفان: (1/264) من غير طريق نعيم، ونسب تخريجه لابن أبي الدنيا، وله شواهد كثيرة صحيحة.
وورد مثلها أيضاً في المسند: (6/304، 318) بإسنادين رجال أحدهما رجال الصحيح كما في المجمع: (7/268) عن أمنا أم سلمة – رضي الله تعالى عنها – قالت سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: "إذا ظهرت المعاصي في أمتي عمهم اله بعذاب من عنده فقلت: يا رسول الله أما فيهم صالحون؟ قال: بلى، قلت: فكيف يصنع بأولئك؟ قال: يصيبهم ما أصاب الناس، ثم يصيرون إلى مغفرة من الله ورضوان.
وما تقدم من الأحاديث الصحيحة من عموم هلاك الناس صالحهم وطالحهم، عند انتشار المنكرات بين ظهرانيهم، ثم يتفاوتون عند ربهم بحسب نياتهم، يوضح ما ورد من الأحاديث المصرحة باستواء الناس في عقوبة العاجل، دون بيان مصيرهم في الآجل فتنبه لهذا البيان، واحمل الأحاديث الساكتة عن بيان مصير المتقين عند الرحمن، مع مشاركتهم في العقوبة العاجلة لأهل العصيان، على تلك التحقيقات الحسان، من أمثال حديث أمنا حبيبة بنت أبي سفيان عن أمنا زينب بنت جحش – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – دخل عليها يوماً فزعاً يقول: "لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه – وحلق بأصبعيه الإبهام والتي تليها – قالت أمنا زينب ابنة جحش قلت: يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث".
حاشية: انظر صحيح مسلم البخاري بشرح ابن حجر: (13/11، 105-106) – كتاب الفتن – باب قول النبي – صلى الله عليه وسلم –: "ويل للعرب من شر قد اقترب" – باب يأجوج ومأجوج –، وصحيح مسلم – أول كتاب الفتن –: (4/2207) ، وسنن الترمذي – كتاب الفتن – باب ما جاء من خروج يأجوج ومأجوج: (6/348-349) ، وسنن ابن ماجه – كتاب الفتن – باب ما يكون من الفتن: (2/1305) ، والمسند: (4/428-429) ، ومسند الحميدي: (1/147-148) ، ورواه الطبراني في الأوسط عن أمنا أن حبيبة – رضي الله تعالى عنها – بسند رجاله ثقات، ورواه في الصغير والأوسط عن أنس – رضي الله تعالى عنه – بسند رجاله رجال الصحيح كما في مجمع الزوائد: (7/269) .
قال الإمام ابن العربي في عارضة الأحوذي: (9/36) ، ونقله عنه الحافظ في الفتح: (13/109) ، قوله: "نعم" في هلاك الصالح مع الطالح البيان بأن الخير يهلك بهلاك الشرير، وفيه وجهان: أحدهما: إذا لم يغير عليه خبثه. والثاني: إذا غير لكنه لم ينفع التغيير، بل كثر المنكر بعد النكير، فيهلك حينئذ القليل والكثير، ويحشر كل أحد على نيته، عدل الله في حكمه بحكمته 1هـ، وقال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم: (18/3-4) : "الخبث" فتح الخاء والباء، وفسره الجمهور بالفسوق والفجور، وقيل المراد: الزنا خاصة، وقيل: أولاد الزنا، والظاهر أنه المعاصي مطلقاً، ومعنى الحديث: أن الخبث إذا كثر فقد يحصل الهلاك العام، وإن كان هناك صالحون 10هـ، وما فسر به الجمهور لفظ: "الخبث"، واستظهره الإمام النووي فواه الحافظ في الفتح: (13/109) فقال: وهو أولى، لأنه قابله بالصلاح 10هـ قلت: وذلك شامل لفشو أولاد الزنا، ويدخل ذلك الأمر دخولاً في الخبث فاعلم، وفي المسند: (6/333) ورواه أبو يعلى والطبراني وفي سند الحديث محمد بن عبد الرحمن بن لبيبة وثقه ابن حبان وضعفه ابن معين، ومحمد بن إسحاق قد صرح بالسماع فالحديث صحيح أو حسن، كما قال الهيثمي في المجمع: (6/257) ، عن أمنا ميمونة – رضي الله تعالى عنها – قالت: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: "لا تزال أمتي بخير – ولفظ أبي يعلى والطبراني: لا تزال أمتي بخير متماسك أمرها – ما لم يفشى فيهم ولد الزنا، فإذا فشا فيهم ولد الزنا فأوشك أن يعمهم الله بعذاب".
قال عبد الرحيم الطحان – غفر الله له الآثام – يتعلق بإنكار باللسان، تنبيهان عظيمان فكن على بال منها يا أخا الإسلام:
التنبيه الأول:
إذا خشي الإنسان من وقوع ضرر على الأبدان إذا أمر بالمعروف ونهى عن الآثام عن طريق اللسان، فيجوز له السكوت كما تقدم في ذلك البيان، ويجوز له بل يستحب الجهر والإعلان، وتحمل البلاء الذي يقع على الأبدان ولو كان عن طريق الحسام أو التحريق بالنيران، طلباً لنيل الرضوان، والأجور العظام، عند ذي الجلال والإكرام، وإليك تقرير هذا بالأدلة القوية الحسان.
ثبت في المسند والسنن بإسناد صحيح حسن أن رجلاًً سأل النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: أي الجهاد أفضل؟ فقال النبي – صلى الله عليه وسلم –: "كلمة حق عند سلطان جائر" ولاشك في أن ذلك مظنة خوف من وقوع ضرر عليه كما في الإحياء: (2/315) بل أقول – القائل راقم هذه الحروف – إن وقوع الضرر عليه متحقق وقوعه في الغالب لديه، ومع ذلك فقد أثنى نبينا – صلى الله عليه وسلم – عليه، وفي الحديث الذي يشهد له ما قبله: "سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله".
حاشية: تقدم تخريج الرواية الأولى في كتاب الملل والنحل: (35) ، وأما الرواية الثانية فرواها الحاكم في المستدرك – كتاب معرفة الصحابة – رضي الله تعالى عنهم –: (3/195) ، والخطيب في تاريخ بغداد: (6/377) بلفظ: "أفضل الشهداء" قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وتعقبه الذهبي بقوله ك قلت حفيد الصغار لا يدري من هو 10هـ وقد تابعه حكيم بن زيد الأشعري في رواية الحديث عن إبراهيم الصائغ عند الخطيب، وحكيم متروك كما في الميزان: (1/586) عن الأزدي، وفي اللسان: (2/244) ، وأسند له عن عطاء عن جابر – رضي الله تعالى عنه – رفعه: "أفضل الشهداء حمزة ... " الحديث 10هـ وقد أخرج الحديث الطبراني في الأوسط بسند فيه راو ضعيف عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – كما في مجمع الزوائد: (7/272، 9/268) ،ونسب السيوطي في الجامع الصغير رواية جابر – رضي الله تعالى عنه – إلى الضياء المقدسي، ونسبها المناوي في الشح: (4/121) إلى الدليمي، وفي مسند البزار وفيه ممن لم أعرفه اثنان كما في مجمع الزوائد: (7/272) عن أبي عبيدة – رضي الله تعالى عنه – قال: قلت يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أي الشهداء أكرم على الله – عز وجل – قال: "رجل قام إلى إمام جائر فأمره بمعروف ونهاه عن منكر فقتله" قال عبد الرحيم: والرواية الصحيحة المتقدمة: "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر" تشهد لهذا الحديث فيعتضد بها فاعلم، والله تعالى أعلم.
وهذا الأمر – أعني جواز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باللسان، وإن خشي على نفسه من بغي أهل الظلم والعدوان – يقرره أيضاً ما تقدم قريباً من جواز تغيير المنكر بالفعال، وإن تحقق لحوق الأضرار به من قبل الأشرار، بل إن ذلك يدل على جواز تغيير المنكر باللسان، وإن تأكد وقوع الضرر على نفسه من أهل العصيان من باب أولى عند أئمة الإسلام، لأن وقوع الضرر عليه في حال تغييره المنكر بيديه آكد وأقوى لديه، فإذا جاز ما هو أقوى، فجواز ما دونه أولى وأحرى.
واعلم أن هذا الأمر الذي أرشدت الأدلة إليه حرض سلفنا الكرام عليه ولهم في ذلك مواقف مزبورة، وأقوال سديدة مأثورة، ينالون عليها – إن شاء الله – أجوراً كثيرة، عند ربنا العالم بما في السريرة، قال ابن حبان – عليه رحمة ربنا الرحمن – في مشاهير علماء الأمصار: (195) ذكر مشاهير أتباع التابعين بخراسان الذين سكنوها من الثقات والأثبات في الروايات، إبراهيم بن ميمون الصائغ، أبو إسحاق من أهل مرو، من الآمرين بالمعروف، والمواظبين على الورع، الموصوف مع الفقه في الدين والعبادة الدائمة، قتله أبو مسلم الخراساني سنة إحدى وثلاثين ومائة – رحمه الله تعالى – 1هـ. وبذلك أرخه البوي في المعرفة والتاريخ: (3/350) ، وفي الميزان: (1/69) ، وشذرات الذهب: (1/181) ، قتله أبو مسلم الخراساني ظلماً 10هـ وفي تهذيب التهذيب: (1/173) قال ابن معين: ثقة وكان إذا رفع المطرقة فسمع النداء لم يردها 10هـ وإليك سبب قتله كما في أحكام القرآن للجصاص: (2/33) قال الإمام عبد الله بن المبارك: لما بلغ أبا حنيفة قتل إبراهيم الصائغ – رحمهم الله جميعاً بكى حتى ظننا أنه سيموت، فخلوت به، فقال: كان والله رجلاً عاقلاً، ولقد كنت أخاف عليه هذا الأمر، قلت: وكيف كان سببه؟ قال: كان يقدم ويسألني، وكان شديد البذل لنفسه في طاعة الله – عز وجل – وكان شديد الورع، وكنت ربما قدمت إليه شيئاً فيسألني عنه، ولا يرضاه ولا يذوقه، وربما رضيه فأكله، فسألني عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى أن اتفقنا على أنه فريضة من الله – تبارك وتعالى – فقال لي: مد يدك حتى أبايعك، فأظلمت الدنيا بيني وبينه، فقلت: ولم؟ قال: دعاني على حق من حقوق الله – عز وجل – فامتنعت عليه، وقلت له: إن قام به رجل وحده قتل ولم يصلح للناس أمر، ولكن إن وجد عليه أعواناً صالحين، ورجلاً يرأس عليهم مأموناً على دين الله – جل وعلا – لا يحول، قال: وكان يقتضي ذلك كلما قدم عليّ تقاضى الغريم الملح، كلما قدم عليّ تقاضاني، فأقول له: هذا أمر لا يصلح بواحد، ما أطاقته الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – حتى عقدت عليه من السماء، وهذه فريضة ليست كسائر الفرائض، لأن سائر الفرائض يقوم بها الرجل وحده، وهذا متى أمر به الرجل وحده أشاط بدمه، وعرض نفسه للقتل، فأخاف عليه أن يعين على قتل نفسه، وإذا قتل الرجل لم يجترئ غيره أن يعرض نفسه، ولكنه ينتظر، فقد قالت الملائكة: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} البقرة30 ثم خرج إلى مرو حيث كان أبو مسلم، فكلمه بكلام غليظ فأخذه فاجتمع عليه فقهاء خراسان وعبادهم حتى أطلقوه، ثم عاوده، فزجره، ثم عاوده، ثم قال ما أجد شيئاً أقوم به لله – تبارك وتعالى – أفضل من جهادك، لأجاهدك بلساني ليس لي قوة بيدي، ولكن يراني الله، وأنا أبغضك فيه، فقتله 10هـ.
قال عبد الرحيم – غفر الله له ذنوبه أجمعين –: ومن طريف ما يتعلق بحادثة إبراهيم بن ميمون الصائغ أنه هو أحد رواة الحديث الرائع: "سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فتله" فهو الذي رواه عن عطاء عن جابر بن عبد الله – رضي الله تعالى عنهم –، وقد دل مسلكه على مطابقة عمله لقوله، طلباً لنيل رضوان ربه، نسأل الله أن يتقبل عمله المبرور، وأن يمن علينا بمثل سعيه المشكور، إنه عزيز غفور.
واعلم أخي الكريم أنه لا خلاف بين سلفنا الصالحين في استحباب الجهر بالحق المبين إذا قوي المكلف على تحمل العذاب الأليم من قبل أعداء الله المجرمين، فإن لم يوطن المكلف نفسه على تحمل العذاب، وخشي أن يجره ذلك إلى الانحراف عن شرع الملك الوهاب، فلا ضير عليه في عدم الإنكار بلسانه على أهل التباب، مع لزومه الصواب، كما سأوضح هذا عما قريب بفصل الخطاب.
وإذ قد اتضح لك الحق الواضح، فنزل عليه كلام سلفنا الصالح ففي كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: (86) قيل لشعيب بن حرب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال: لولا السيف والسوط وأشباه هذا لأمرنا ونهينا، فإن قويت فأمر وانه، وفيه: (83-84) ذكر الإمام أحمد ابن مروان الذي صلب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فترحم عليه، وقال: قد قضى ما عليه وذكر أيضاً ابن أبي خالد، وكان الإمام أحمد عرف قصته في إقدامه فقال: قد عانت عليه نفسه وفيه: (90) ، وفي الإحياء: (2/308) قيل لسفيان الثوري: ألا تأتي السلطان فتأمره؟ فقال: إذا انبثق البحر فمن يسكره؟ وفي الإحياء أيضاً – نفس المكان السابق – قيل للفضيل بن عياض: ألا تأمر وتنهي؟ فقال: إن قوماً أمروا ونهوا فكفروا، وذلك أنهم لم يصبروا على ما أصيبوا.
قال راقم هذه الحروف – وقاه الله من الفتن والحتوف – وعلى القولين الأخيرين قول الفضيل بن عياض وسفيان – عليهم جميعاً رحمة ربنا الرحمن – يتنزل ما ثبت عن نبينا – عليه الصلاة والسلام –: "لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه، قالوا: وكيف يذل نفسه؟ قال: يتعرض من البلاء لما لا يطيق" وقد تقدم تخريج الحديث قريباً وهو حديث حسن، فمن علم عدم انتفاع المنصوح بنصحه لغلبة الشح عليه، وإيثار الدنيا لديه، واتباعه لهواه مع إعجابه به جاز له عدم أمره ونهيه، فكيف إذا تحقق وقوع عذاب به، وانضم إلى ذلك شدة جزعه وعدم صبره، بحيث سيقود ذلك للتلبس بمنكرات طلباً للتخلص مما حل به من بليات، إن سكوته في هذه الحالة متعين ليسلم له دينه، فكم وكم من إنسان قام بالجهر بالحق ومقارعة أهل العصيان، فلما نزلت به العقوبة والانتقام، لجأ لصنف آخر من أهل الإجرام، بينهم وبين من عاداهم خلاف على اكتساب الحطام، فأعطاهم الولاء، لينجو مما نزل به من البلاء فحل عليه غضب رب الأرض والسماء، بل بعضهم صار في عين من عاداه وصار من حزبه ووالاه، ولم يبال بمقت مولاه، فلته ثم ليته ترك الأمر من أول الأمر، لئلا يقع فيما وقع فيه من فساد وفكر، نسأل الله الإخلاص والثبات، وحسن الخاتمة عند الممات، إنه كريم مجيب الدعوات.
وصفوة المقال: يجوز السكوت عند تلك الاعتبارات، كما دل على ذلك الأحاديث الثابتة عن خير البريات – صلى الله عليه وسلم – والجهر بالحق لمن قوي عليه أفضل وإن جر عليه أشنع النكبات وأفظع العقوبات، وليس ذلك إلقاء بالنفس للتهلكات، بل ذلك من باب بيعها في سبيل رب الأرض والسموات، ولا يقوى على ذلك إلا أصحاب الهمم العالميات، ففي المسند والسنن، وصحيح ابن حبان عن أبي سعيد الخدري – رضي الله تعالى عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قام خطيباً فكان فيما قال: "ألا لا يمنعن رجلاً هيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه" فبكى أبو سعيد، وقال: قد والله رأينا أشياء فهبنا، وفي لفظ المسند: "لا يمنعن أحدكم مخافة الناس أن يتكلم بحق إذا علمه" وفي لفظ له أيضاً: "ألا لا يمنعن أحدكم رهبة الناس أن يقول بحق إذا رآه أو شهده، فإنه لا يقرب من أجل، ولا يباعد من رزق أن يقول بحق، أو يذكر بعظيم" ولفظ ابن حبان: "لا يمنعن أحدكم مخافة الناس أن يقول أو يتكلم بحق إذا رآه أو عرفه" قال أبو سعيد: فما زال بنا البلاء حتى صرنا وإنا لنبلغ في السر، والحديث رواه البيهقي في شعب الإيمان بسند حسن عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: "لا ينبغي لمؤمن شهد مقاماً فيه حق إلا تكلم به، فإنه لن يقدم أجله، ولن يحرمه رزقاً هو له".
حاشية: انظر الحديث في سنن الترمذي – كتاب الفتن – باب ما جاء فيما أخبر به النبي – صلى الله عليه وسلم - - أصحابه بما هو كائن إلى يوم القيامة –: (6/351-352) ، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وسنن ابن ماجه – كتاب الفتن – باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: (2/1328) ، وصحيح ابن حبان – موارد الظمآن – كتاب الفتن – باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر –: (456) ، والمسند: (3/5، 19، 44، 47، 50، 53، 84، 87، 92) – ورواه الطبراني كما في الأوسط ومجمع الزوائد: (7/265) ، وأبو يعلى، والبيهقي كما في جمع الجوامع: (1/939) ، وانظر رواية البيهقي في شعب الإيمان في المغني عن حمل الأسفار في الأسفار: (2/305) ، وروى تلك الرواية أيضاً ابن النجار في الجامع الكبير: (1/393) .
وقد قام سفيان الثوري – عليه رحمة الله تعالى – بالمسلكين، فجهر بالحق المبين، وعرض نفسه لبطش الظالمين، فحفظه رب العالمين، من كيدهم الأثيم، ثم توارى عنهم واعتزل، حتى جاءه الأجل – عليه رحمة الله عز وجل –
حاشية: وبهذا يجعل الجمع بين مقارعته للجائرين، وبين قوله: "إذا انبثق البحر فمن يسكره" فقد جهر بالحق في وجه المنصور، واستمر على التحذير فيما يجري منه ومن عماله من قصور، حتى إن المنصور حين هرج إلى مكة أرسل الخشابين، وقال لهم: إن رأيتم سفيان فاصلبوه فنصبوا الخشب ونادوا عليه في المسجد الحرام، وكان رأسه في حجر الفضيل بن عياش ورجلاه في حجر ابن عيينة، فقالوا له: يا أبا عبد الله اتق الله، ولا تشمت بنا الأعداء، فقام وتقدم إلى أستار الكعبة ثم أخذها وقال: برئت منه إن دخلها أبو جعفر المنصور فمات أبو جعفر قبل أن يدخل الكعبة، وكان مسلك سفيان مع المهدي كمسلكه مع أبيه، فأمر بقتله أيضاً فخرج سفيان إلى البصرة واعتزل ولم يزل بها حتى أدركه الأجل، قال الذهبي في تذكرة الحفاظ: (1/206) مات في البصرة في الاختفاء من المهدي، فإنه كان قوالاً بالحق شديد الإنكار، وانظر ترجمته المباركة، ومواقفه مع المنصور والمهدي في تاريخ بغداد: (9/151-174) ، وحلية الأولياء: (6/356-393، 7/3-144) ، وصفة الصفوة: (3/147-152) ، والبداية والنهاية: (10/134) ، وتهذيب التهذيب: (4/111-115) .
وانظر مجمع الزوائد – كتاب الفتن –: (7/272-275) ففيه عدة تراجم يشير بها إلى ذلك، باب الكلام بالحق عند الحكام، باب فيمن خاف فأنكر بقلبه ومن تكلم – باب من خشي من ضرر على غيره وعلى نفسه، ودللت على أن ذلك هو فريضة الله عليه في ذلك الحال ثم بينت بالأدلة اشتراك أهل الخير والكمال بالعذاب مع الضلال إذا لم يزل الضلال فما وجه التوفيق بين الأمرين في المآل؟.
والجواب عن ذلك أخي الكريم: إن نزول العذاب على الصالحين في ذلك الحين من باب المصائب التي يثابون عليها عند رب العالمين، لأنهم قاموا بفريضة الله عليهم في مقارعة الفاسقين لكنهم لبقائهم في دار الظالمين عذبوا بما عذب الله به المجرمين، لما تقدم من الأدلة المصرحة بعموم العذاب لمن هو في تلك الدار من الساكنين، فالمكان الذي يعمل فيه بالعصيان مهدد بعقوبة ذي العزة والانتقام، وإذا نزل بطش الرحمن عم من في ذلك المكان، فالبلاء عام عام ولذلك حذرنا نبينا – صلى الله عليه وسلم – من حضور الأمكنة التي يظن فيها وقوع الإجرام ففي مسند الإمام أحمد ومسند البزار بسند حسن عن خرشة بن الحارث – رضي الله تعالى عنه – وكان من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: "لا يشهدن أحدكم قتيلاً، لعله أن يكون قتل ظلماً، فيصيبه السخط" ولفظ البزار: "فتنزل السخطة عليهم فتصيبه معهم" وروى الطبراني والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "لا تقفن عند رجل يقتل مظلوماً فإن اللعنة تنزل على من حضره ولم يدفع عنه، ولا تقفن عند رجل يضرب مظلوماً فإن اللعنة تنزل على من حضره ولم يدفع عنه".
حاشية: انظر الحديث الأول في المسند: (4/167) ، ومجمع الزوائد: (7/300) ، وفيه: فيه ابن لهيعة وفيه ضعف وهو حسن الحديث، وقد أورد ابن الأثير في أسد الغابة: (2/127) ، وابن حجر في الإصابة: (1/423) الحديث في ترجمته.
وانظر الحديث الثاني في تخريج أحاديث الإحياء: (2/305) ، وفيه: رواه الطبراني بسند ضعيف والبيهقي في شعب الإيمان بسند حسن.
فإذا انتشرت الردايا عمت البلايا، قال الشيخ الصالح بلال بن سعد – رحمه الله تعالى – إن الخطيئة إذا أخفيت لم تضر إلا صاحبها، وإذا أظهرت فلم تغير ضرت العامة.
حاشية: كما في الزهد والرقاق لابن المبارك: (476) ، والحلية: (5/222) ، وصفوة الصفوة: (4/217) والإحياء: (2/308) ورد ذلك عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – مرفوعاً في معجم الطبراني الأوسط لكن في إسناده مروان بن سالم الفطاري، وهو متروك كما في مجمع الزوائد: (7/268) .
فإن قيل: فما العمل وكيف تحصل النجاة؟ فالجواب: لا تحصل النجاة في هذه الدار إلا بالهجرة من دار الأشرار، كما هو مسلك الأخبار، في سائر الأعصار والأمصار، قال الإمام القرطبي في تفسيره: (7/392) ، وفي التذكرة: (629) قال علماؤنا: الفتنة إذا علمت هلك الكل، وذلك عند ظهور المعاصي، وانتشار المنكر، وعدم التغيير، وإذا لم تغير وجب على المؤمنين المنكرين لها بقلوبهم هجران تلك البلدة والهرب منها، وهكذا كان الحكم فيمن كان قبلنا من الأمم، كما في قصرة السبت حين هجروا العاصين، وقالوا: لا نساكنكم وبهذا قال السلف – رضي الله تعالى عنهم – روى ابن وهب عن مالك – رحمهم الله جميعاً – أنه قال: تهجر الأرض التي يصنع فيها المنكر جهاراً ولا يستقر فيها 10هـ.
وقصة أصحاب السبت ينبغي تدبرها في هذا الوقت، لما بين حالنا وحالهم من التشابه التام والسعيد من اعتبر بغيره من الأنام، ونسأل الله الكريم حسن الختام، وإليك البيان في عدة نقاط حسان:
1- أمر الله اليهود بتعظيم يوم الجمعة، فاختاروا السبت مكانه متعللين بأن الله لم يخلق فيه شيئاً، لأنه بدأ الخلق يوم الأحد، وفرغ يوم الجمعة، وهذا من تنطعهم وضلالهم وتقديم آراءهم على شرع ربهم، وقد سار النصارى على نهجهم في المعاندة والمحادة فاختاروا بوم الأحد، لان الله بدأ الخلق فيه، فألزم الله كلا بما اختار، ووضع عليهم في ذلك الإصر والأغلال فحرم ذو العزة والجلال على اليهود الأرذال الصيد يوم السبت وجعل الأسماك تظهر بكثرة يوم السبت على الماء رافعة رؤوسها، ثم تختفي بقية الأيام امتحاناً من الله لهم، جزاء لما صدر عنهم قال الله – جل وعلا –: {واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} الأعراف163، وقال – جل وعز –: {إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} النحل124، قال مجاهد كما في تفسيره: (1/355) ، وتفسير الطبري: (14/130) اتبعوه – يعني يوم السبت – وتركوا الجمعة، وروى ابن أبي حاتم عن السدي كما في فتح الباري: (2/355) ، والدر: (4/134) ، قال: إن اله – عز وجل – فرض على اليهود الجمعة، فأبوا وقالوا: يا موسى إن الله لم يخلق يوم السبت شيئاً فاجعل لنا السبت، فلما جعل عليهم السبت استحلوا فيه ما حرم عليهم.
وقد أشار نبينا – صلى الله عليه وسلم – لاختلاف من قبلنا في يوم الجمعة، وهدايتنا له، ففي الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، وهذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه، فهدانا الله له، فهم لنا فيه تبع فاليهود غداً والنصارى بعد غد"، وفي لفظ لمسلم وغيره عن أبي هريرة وحذيفة بن اليمان – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – قالا: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا، فكان لليهود يوم السبت، وكان للنصارى يوم الأحد، فجاء الله بنا فهدانا الله ليوم الجمعة، فجعل الجمعة والسبت والأحد، وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة، نحن والآخرون من أهل الدنيا، والأولون يوم القيامة، والمقضي لهم قبل الخلائق" وفي رواية البزار بسند رجاله رجال الصحيح: "المغفور لهم قبل الخلائق".
حاشية: انظر الرواية الأولى في صحيح البخاري – كتاب الجمعة – باب فرض الجمعة –: (2/353) ، وباب هل على من لم يشهد الجمعة غسل من النساء والصبيان وغيرهم؟: (2/382) ، وفي كتاب أحاديث الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – باب: "54": (6/515) بشرح ابن حجر في الجميع، وصحيح مسلم – كتاب الجمعة – باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة: (2/585-586) ، وسنن النسائي – كتاب الجمعة – باب إيجاب الجمعة: (3/71) ، وصحيح ابن خزيمة – كتاب الجمعة – باب ذكر فرض الجمعة: (3/109-110) ، وشرح السنة – كتاب الجمعة – باب فرض الجمعة: (4/200-201) ، ومعالم التنزيل: (4/124) ، والأم: (1/188) ، والمسند: (2/243-249، 274، 312، 341-342، 502-503) ، وتاريخ بغداد: (2/257) .
ووردت الجملة الأولى من الحديث الشريف: "نحن الآخرون والسابقون يوم القيامة" في صحيح البخاري – كتاب الوضوء – باب البول في الماء الدائم: (1/345) ، وكتاب الجهاد – باب يقاتل من رواء الإمام ويتقي به،: (6/116) ، وأول كتاب الإيمان والنذور: (11/517) ، وكتاب الديات – باب من أخذ حقه واقتضى دون السلطان: (12/216) ، وكتاب التعبير – باب النفخ في المنام –: (12/423) ، وكتاب التوحيد – باب قول الله تعالى –: "يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ": (13/464) بشرح ابن حجر في جميع ما تقدم، والمسند: (2/473، 504) ، وتاريخ بغداد: (2/160) ، ونحوه عند ابن ماجه – كتاب الزهد – باب صفة أمة محمد – صلى الله عليه وسلم –: (2/1434) لكن من رواية ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – بلفظ: "نحن آخر الأمم وأول من يحاسب، يقال: أين الأمة الأمية ونبيها؟ فنحن الآخرون الأولون".
وانظر رواية الحديث الثانية في صحيح مسلم – المكان المتقدم – وسنن النسائي – المكان المتقدم أيضاً – وسنن ابن ماجه – كتاب إقامة الصلاة – باب في فرض الجمعة: (1/344) .
واعلم أن أول من جمع أهل المدينة قبل هجرة النبي – صلى الله عليه وسلم – إليهم، وتولي الصلاة بهم وتذكيرهم: أسعد بن زرارة – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – كما في مصنف عبد الرزاق: (3/159) – كتاب الجمعة – باب أول من جمع عن ابن سيرين مرسلاً، وصحح الحافظ في الفتح: (2/355) إسناده، وفي المستدرك – كتاب الجمعة: (1/280) بسند صحيح على شرط مسلم قاله الحاكم وأقره الذهبي عن عبد الرحمن بن كعب قال: كنت قائد أبي حين ذهب بصره إذا خرجت به إلى الجمعة، فسمع الأذان صلى على أبي أمامة أسعد بن زرارة، واستغفر له فمكثت كثيراً لا يسمع أذان الجمعة إلا فعل ذلك، فقلت: يا أبت أرأيت استغفارك لأبي أمامة كلما سمعت الأذان للجمعة ما هو؟ قال: أي بني كان أول من جمع بنا في المدينة، وفي كتاب الثقات لابن حبان: أول جمعة جمعت بالمدينة جمعها أبو أمامة أسعد بن زرارة – رضي الله تعالى عنه – 10هـ قال الحافظ في الفتح: (2/355) مرسل ابن سيرين يدل على أن أولئك الصحابة الكرام – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – اختاروا يوم الجمعة بالاجتهاد ولا يمنع أن يكون النبي – صلى الله عليه وسلم – علمه بالوحي وهو بمكة، فلم يتمكن من إقامتها، ثم قال: وعلى هذا فقد حصلت الهداية للجمعة بجهتي البيان والتوفيق، وقيل في الحكمة في اختيارهم الجمعة وقوع خلق آدم فيه، والإمام إنما خلق فناسب أن يشتغل بالعبادة فيه، ولأن الله – تبارك وتعالى – أكمل فيه الموجودات، وأوجد فيه الإنسان الذي ينتفع بها، فناسب أن يشكر على ذلك بالعبادة 10هـ.
2- لما فرض الله – جل وعلا – عليهم ما اختاروه، وامتحنهم بما امتحنهم به ليعلم هل يطيعوه، تجاوزا الحرمات، وارتكبوا الموبقات، فصاد فريق منهم الأسماك في يوم الإسبات، ولما لم يعاجلوا بالعقوبات، تبعهم على مسلكهم جم غفير من أهل العقول المنكوسات، ولكيفية اصطيادهم حالتان، كل منهما من وساوس الشيطان:
الحالة الأولى:
عن طريق الاحتيال الماكر، دون الاصطياد المباشر، وذلك بعمل أحواض وبرك قرب البحر فإذا دخل إليها السمك منعوها من العودة إلى البحر عن طريق وضع حواجز بين الأحواض والبرك وبين البحر، فإذا جاء يوم الأحد أخرجوها من تلك الأحواض وأكلوها، ومثل هذا أيضاً وضع مصائد وشباك للسمك يوم السبت فإذا دخلت تلك المصائد والشباك لا تستطيع الخروج منها، والعودة إلى البحر، فيصيدوها يوم الأحد ويدخل في هذا أيضاً ما فعله بعضهم من أخذ السمك وخرم أنفه وربطه بحبل ضرب له وتد في الساحل ثم يلقي السمك في الماء فإذا جاء يوم الأحد شد الحبل واخرج السمك، وكل هذا نقل عنهم، وجرى منهم، وهذا من باب التحايل على ما حرم الله – جل وعلا – ولليهود فيه مهارة ولهم عليه جسارة، وعاقبة ذلك الخذلان والخسارة، وقد حذرنا نبينا الأمين – عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم - من ذلك المسلك الأثيم فقال – فداه أبي وأمي –: "لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل".
حاشية: أخرجه الإمام ابن بطة – عليه رحمة الله تعالى – في كتابه: "إبطال الحيل": (47) عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – مرفوعاً، حكم الشيخ ابن تيمية على إسناده بأنه حسن كما في مجموع الفتاوى: (29/29) ، وانظر اعتماده للحديث في كتابه: "إبطال التحليل": (24) ، وقال الإمام ابن كثير في تفسيره: (2/257) إسناده جيد: ويصحح الترمذي بمثل هذا الإسناد كثيراً، ومثل ذلك قال الإمام ابن القيم في إغاثة اللهفان: (1/348) ، وكتب سبعين ومائة صفحة في الحيل من: (1/338-391، 2/3-121، وختم الكلام بقوله لعلك تقول: قد أطلت الكلام في هذا الفصل جداً، وقد كان يكفى الإشارة إليه، فيقال: بل الأمر أعظم مما ذكرنا، وهو بالإطالة أجد فإن بلاء الإسلام ومحنته عظمت من هاتين الطائفتين، أهل المكر والمخادعة، والاحتيال في العلميات، وأهل التحريف السفسطة والقرمطة في العلميات، وكل فساد في الدين، بل في الدنيا فمنشؤه من هاتين الطائفتين، وانظر الرسالة التدمرية: (13) ، ففيه الحكم على الزائغين بأنهم يسفسطون في العقليات ويقرمطون في السمعيات، وفي: (67) نقل عن الإمام أحمد – عليهما رحمة الله تعالى – أنه قال: أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل والقياس، فالتأويل في الأدلة السمعية والقياس في الأدلة العقلية 10هـ ومر هذا موضحاً سابقاً.
الحالة الثانية:
عن طريق التأويل الجائر للاصطياد المباشر حيث سول لهم الشيطان أن المراد من النهي: النهي عن الأكل منها يوم السبت، لا النهي عن اصطيادها ثم أكلها في غيره من الأيام، وهذا من باب تحريف النصوص، وهو مسلك المجرمين اللصوص، وتأويل النص بما لا يدل عليه، لا يقل سوءاً من جحده والاعتراض عليه، بل ذلك أشنع وأفظع، حيث إن المؤول مع زيغه يزعم أنه مطيع لربه، ورحمة الله على من قال كما في فتح الباري: (10/66) :
وأشربها وأزعمها حراماً ... وأرجو عفو رب ذي امتنانج
ويشربها ويزعمها حلالاً ... وتلك على المسيء خطيئتان
ولما قرر الإمام الألوسي في روح المعاني تحريم المزامير والأغاني ختم الكلام بكلام نوراني فقال: (21/79) ثم إنك إذا ابتليت بشيء من ذلك فإياك ثم إياك أن تعتقد أن فعله أو سماعه قربة كما يعتقد ذلك من لا خلاق له ... إلخ.
3- فلما جرى من أولئك ما جرى من الاعتداء على شريعة الله المطهرة، انقسم بنو إسرائيل نحو ذلك المسلك الوبيل ثلاثة أقسام على القول المعتمد من الأقاويل:
أ) قسم شارك في ذلك العمل الرذيل، وارتكب معصية الله الجليل.
ب) قسم عارض ذلك العمل، ثم فارق من اقترفه غضباً لله – عز وجل –.
جـ) قسم أعرض عن فعل الموبقات، وفارق من تلبس بالقاذورات، لكنه لم يعارضهم فيما قاموا به من ضلالات، لتيقنه عدم انتفاعهم بالإرشادات.
وإلى الأصناف الثلاثة أشار رب الأرض والسموات بقوله: {وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} الأعراف164.
وما قيل: إن بني إسرائيل انقسموا قسمين نحو ذلك العمل الوبيل، فهو قول هزيل، وإليك الإيضاح بالبيان الجليل:
نقل عن الكلبي كما في تفسير الطبري: (9/67) ، وغيره، قال: هما فرقتان الفرقة التي وعظت والتي قالت لم توعظون قوماً الله مهلكهم هي الفرقة الثانية وهي الموعوظة، لكن رد ذلك البغوي في معالم التنزيل: (2/303) ، والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن: (7/307) ، وغيرهما، وسبب الرد لو كانوا فرقتين لقالت الناهية للعاصية: ولعلكم تتقون، بالكاف بدل الهاء.
ونقل في بيان انقسام بني إسرائيل إلى قسمين في ذلك الزمان، تعليل آخر يعود لما قدمته من البيان ففي تفسير الطبري: (9/63) ، وابن المنذر، وابن أبي حاتم كما في الدر: (3/137) عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – قال: هي قرية على شاطئ البحر، يقال لها: أيلة، حرم الله – عز وجل – عليهم الحيتان يوم سبتهم فكانت الحيتان تأتيهم يوم سبتهم شرعاً على ساحل البحر، فإذا مضى يوم السبت لم يقدروا عليها، فمكثوا بذلك ما شاء الله – تبارك وتعالى –، ثم إن طائفة منهم أخذوا الحيتان يوم سبتهم، فنهتهم طائفة، وقالوا: تأخذونها، وقد حرمها الله – عز وجل – عليكم يوم سبتكم، فلم يزدادوا إلا غياً وعتواً، وجعلت طائفة أخرى تنهاهم، فلما طال ذلك عليهم قالت طائفة من النهاة: تعلمون أن هؤلاء قوم قد حق عليهم العذاب،: " لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ"، وكانوا أشد غضباً لله – عز وجل – من الطائفة الأخرى، فقالوا: " قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ"، وكل قد كانوا ينهون، فلما وقع عليهم غضب الله – جل وعلا – نجت الطائفتان اللتان قالوا: " لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ" والذين قالوا: " مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ"، وأهلك الله – جل وعلا – أهل معصيته الذين أخذوا الحيتان فجعلهم قردة وخنازير 1هـ.
فهذا القول يرجع للتقسيم الذي فصلته، فالناهون قسمان، قسم استمر على نهيه ونكيره على المخالفين لرب العالمين، ثم فارقهم خشية أن يحل به بطش أحكم الحاكمين، وقسم أعرض عن النهي عن المنكر عندما لاح لهم أن المعتدين من أهل سقر، وليس فيهم من يعتبر ويتذكر، ثم فارقوا الظالمين الظغام غضباً لذي العزة والانتقام، فعاد التقسيم إلى ثلاثة أقسام، قسم متلبس بالعصيان، وقسم ناء عن الآثام، وقسم ساكت باللسان، منكر بالجنان، بعد أن يئس من هداية أهل الطغيان.
4- وبعد أن اعتدى الظالمون من بني إسرائيل على حرمات الله الجليل، أنزل الله عليهم عذابه الوبيل، فمسخهم قردة وخنازير، فنجا من أعرض عن فعل تلك الأوزار، وفارق ديار أهل البوار، عارضهم أو لم يعارضهم، نهاهم أو لم ينهاهم ليأسه منهم، وهلك من فعل فعلهم، أو لم يفارق ديارهم وإن لم يفعل أوزارهم، لكن الأدلة المنقولة عن سلفنا الطيبين دلت على مفارقة المؤمنين في ذلك الحين ديار المعتدين، وبهذا يجتمع شمل الأقوال في هذا المقام، فقد نقل عن بعض سلفنا الكرام كابن عباس – عليهم جميعا رضوان ربنا الرحمن – توقف في أول الأمر في مصير الذين لم ينهوا عن الآثام وقالوا لناهين: " لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً"، ونقل عنه أيضاً الحكم بهلاكهم كأهل العصيان، ولعل ذلك منه قبل أن يتبين له مفارقتهم للمعتدين، فلما تبين له ذلك قال بنجاتهم مع الناهين عن معصية رب العالمين، وإليك الروايات الواردة عنه بذلك يا أخي الكريم.
روى ابن جرير في تفسير (9/66-67) ، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ كما في الدر: (3/137) عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – قال: ابتدعوا السبت، فابتلوا فيه، فحرمت عليهم فيه الحيتان، فكانوا إذا كان يوم السبت شرعت لهم الحيتان ينظرون إليها في البحر، فإذا انقضى السبت ذهبت فلم تر حتى السبت المقبل، فإذا جاء السبت جاءت شرعاً، فمكثوا ما شاء الله أن يمكثوا كذلك، ثم إن رجلاً منهم أخذ حوتاً فخرم أنفه، ثم ضرب له وتداً في الساحل، وربطه، وتركه في الماء، فلما كان الغد أخذه فشواه فأكله ن ففعل ذلك وهم ينظرون ولا ينكرون، ولا ينهاه منهم أخد إلا عصبة منهم نهوه، حتى ظهر ذلك في الأسواق، وفعل علانية، قال: فقالت طائفة للذين ينهون: " لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ"، {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ} الأعراف165-166، قال ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما –: كانوا أثلاثاً، ثلث نهوا، وثلث قالوا: " لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ"، وثلث أصحاب الخطيئة، فما نجا إلا الذين نهو وهلك سائرهم، فأصبح الذين نهوا عن السوء ذات يوم في مجالسهم يتفقدون الناس لا يرونهم وقد باتوا من ليلتهم وغلقوا عليهم دورهم فجعلوا يقولون: إن للناس لشأناً فانظروا ما شأنهم، فاطلعوا في دورهم فإذا القوم قد مسخوا في ديارهم قدرة يعرفون الرجل بعينه، وإنه لقرد، ويعرفون المرأة بعينها وإنها لقردة، قال الله – جل وعلا –: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ} البقرة65 -66.
فهذه الرواية تدل على كون الساكتين عن الإنكار على المعتدين كانوا من جملة المعذبين.
وبذلك عنون الإمام ابن جرير في تفسيره، فقال: وقال آخرون: بل الفرقة التي قالت: " لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ" كانت من الفرقة الهالكة، وقال الإمام ابن كثير في تفسيره: (2/258) القول الثاني أن الساكتين كانوا من الهالكين، ثم بعد أن سرد الرواية المتقدمة قال: وهذا إسناد جيد عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – ولكن رجوعه إلى قول عكرمة في نجاة الساكتين أولى من القول بهذا لأنه تبين له حالهم بعد ذلك.
وورد عنه ما يدل على الوقف في أمر الساكتين ففي تفسير الطبري: (9/67) ، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ كما في الدر: (3/138) عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – قال: نجا الناهون، وهلك الفاعلون، ولا أدري ما صنع بالساكتين، واخرج عنه عبد بن حميد وأبو الشيخ كما في الدر: (3/138) ، قال: لأن أكون علمت أن القوم الذين قالوا: " لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ" نجوا مع الذين نهوا عن السوء أحب إليّ من جمر النعيم، ولكني أخاف أن تكون العقوبة نزلت بهم جميعاً.
وهذا التوقف كان في بداية الأمر من ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – قبل أن يتبين له مباينة الساكتين للمعتدين، وانفصالهم عنهم في ذلك الحين، كما في تفسير الطبري: (1/261، 64-65، والحاكم في المستدرك – كتاب التفسير –: (2/323) ، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، وأقره الذهبي، والبيهقي في السنن الكبرى: (10/92-93) ، وأحكام القرآن للشافعي: (2/173-177) ، وعبد الرزاق، وابن أبي حاتم، كما في الدر: (10/75، 3/137) عن عكرمة، قال: جئت ابن عباس – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – يوماً وهو يبكي، وإذا المصحف في حجره فأعظمت أن أدنو، ثم لم أزل على ذلك حتى تقدمت فجلست فقلت: ما يبكيك يا ابن عباس جعلني الله فداءك؟ فقال: هؤلاء الورقات، قال: وإذا هو في سورة الأعراف، قال: تعرف أيلة، قلت: نعم، قال: فإنه كان بها حي من يهود سيقت الحيتان إليهم يوم السبت شرعاً بيضاً سماناً كأنها المخاض تنتطح ظهورها لبطونها بأفنيتهم وأبنيتهم، فكانوا كذلك برهة من الدهر ثم إن الشيطان أوحى إليهم فقال: إنما نهيتم عن أكلها يوم السبت، فخذوها فيه وكلوها في غيره من الأيام، فقالت ذلك طائفة منهم، وقالت طائفة منهم: بل نهيتم عن أكلها وأخذها وصيدها في يوم السبت، وكانوا كذلك حتى جاءت الجمعة المقبلة فعدت طائفة بأنفسها وأبنائها ونسائها واعتزلت طائفة ذات اليمين ونهت، واعتزلت طائفة ذات اليسار وسكتت، وقال الأيمنون: ويلكم لا تتعرضوا لعقوبة الله – عز وجل -، وقال الأيسرون: " لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً"، قال الأيمنون: " مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ" فهو أحب إلينا أن لا يصابوا ولا يهلكوا، وإن لم ينتهوا فمعذرة إلى ربكم، فمضوا على الخطيئة، فقال الأيمنون: قد فعلتم يا أعداء الله، والله لا نبايتكم الليلة في مدينتكم، والله ما نراكم تصبحون حتى يصيبكم الله – عز وجل – بخسف أو قذف أو بعض ما عنده من العذاب، فلما أصبحوا ضربوا عليهم الباب ونادوا فلم يجابوا، فوضعوا سلماً، وأعلوا سور المدينة رجلاً، فالتفت إليهم، فقال: أي عباد الله قردة والله تعاوى لها أذناب، قال: ففتحوا فدخلوا عليهم، فعرفت: القردة أنسابها من الإنس ولا تعرف الإنس أنسابها من القردة، فجعلت القرود تأتي نسيبها من الإنس فتشم ثيابه وتبكي فتقول لهم: ألم ننهكم عن كذا؟ فتقول برأسها: نعم، ثم قرأ ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما -: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} الأعراف165، قال: فأرى اليهود الذين نهوا قد نجوا، ولا أرى الآخرين ذكروا، ونحن نرى أشياء ننكرها فلا نقول فيها، قال، قلت: أي جعلني الله فداك، ألا ترى أنهم قد كرهوا ما هم عليه وخالفوهم، وقالوا: "لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً"، قال: فأمر بي فكسيت ثوبين غليظين، وفي رواية للطبري: (9/66) ، وعبد بن حميد، وابن المنذر كما في الدر: (3/138) عن عكرمة قال: قرأ ابن عباس – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – هذه الآية: "لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً"، فقال: لا أدري أنجا القوم أو هلكوا؟ فما زلت أبصره حتى عرف أنهم نجوا، وكساني حلة.
ففي هذه الرواية التصريح بنجاة الساكتين، لأنهم كرهوا اعتداء المسرفين وخالفوهم في ديارهم ذلك الحين، ولذلك لم يدر الخيار بما حل بالأشرار من عذاب العزيز الجبار حتى تسلقوا عليهم الجدار، ضحوة النهار، ولو كانوا معهم لعلموا بما صار إليه حالهم، وصفوة المقال: أن جميع الأخيار اعتزلوا، لكن قسم منهم أنكروا وقسم سكتوا، وجميع الروايات المصرحة بنجاة من حصلت له النجاة فيها التنصيص على اعتزال المؤمنين آنذاك لأهل الضلالات، روى الطبري في تفسيره: (9/67) عن أبي صالح: وضعت اليهود يوم السبت، وسبتوه على أنفسهم، فسبته الله عليهم ولم يكن السبت قبل ذلك، فوكده الله عليهم، وابتلاهم فيه بالحيتان، فجعلت تشرع يوم السبت فيتقون أن يصيبوا منها، حتى قال رجل منهم: والله ما السبت بيوم وكده الله علينا، ونحن وكدناه على أنفسنا، فلو تناولت من هذا السمك، فتناول حوتاً من الحيتان، فسمع بذلك جاره فخاف العقوبة فهرب من منزله، فلما مكث ما شاء الله – عز وجل – ولم تصبه عقوبة تناول غيره أيضاً في يوم السبت، فلما لم تصبهم العقوبة كثر من تناول في يوم السبت، واتخذوا يوم السبت وليلة السبت عيداً يشربون فيه الخمور، ويلعبون فيه بالمعازف، فقال لهم خيارهم وصلحاؤهم: ويحكم انتهوا عما تفعلون إن الله مهلككم أو معذبكم عذاباً شديداً، أفلا تعقلون، ولا تعتدوا في السبت، فأبوا فقال خيارهم: نضرب بيننا وبينهم حائطاً، ففعلوا، وكان إذا كان ليلة السبت تأذوا بما يسمعون من أصواتهم وأصوات المعازف حتى إذا كانت الليلة التي مسخوا فيها سكنت أصواتهم أول الليل، فقال خيارهم: ما شأن قومكم قد سكنت أصواتهم الليلة؟ فقال بعضهم: لعل الخمر غلبتهم فناموا، فلما أصبحوا لم يسمعوا لهم حساً، فقال بعضهم لبعض: ما لنا لا نسمع من قومكم حساً؟ فقالوا لرجل: اصعد الحائط، وانظر شأنهم، فصعد الحائط فرآهم يموج بعضهم في بعض قد مسخوا قردة، فقال لقومه: تعالوا فانظروا إلى قومكم ما لقوا، فصعدوا فجعلوا ينظرون إلى الرجل فيتوسمون فيه، فيقولون: أي فلان، أنت فلان، فيومئ بيده إلى صدره، أي: نعم بما كسبت يداي.
وقال عبد الرحيم – ستره رب العالمين –: ما دلت عليه الحادثة المتقدمة في بني إسرائيل، من وجوب مفارقة الصالحين لأهل العمل الرذيل، ليحصل لهم النجاة من الأخذ الوبيل من قبل الرب الكبير، قررته شريعة ربنا الجليل، كما تقدم تقرير هذا بشيء من التفصيل، وقد حكى الحافظ في الفتح: (13/61) عن ابن أبي حمزة – رحمهم الله جميعاً – أنه جنح إلى أن الذين يقع لهم العذاب في الدنيا إنما يقع بسبب سكوتهم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأما من أمر ونهى فهم المؤمنون حقاً ولا يرسل الله – جل وعلا – عليهم العذاب، بل يدفع بهم العذاب، فقد رده الحافظ بعد حكايته له، وهو حقيق بالرد لأن الله – جل جلاله – يدفع بالأبرار العذاب عن الفجار، ما دام للحق ظهور وانتشار، وهيمنة على الأقطار، فإذا كثر الأشرار نزل بالجميع عذاب العزيز الجبار، ويختلف حكمهم في دار القرار حسب أعمالهم ونياتهم في هذه الدار، ولا ينجو من العذاب العاجل، إلا من فارق ديار أهل الباطل، وقول الإمام القرطبي في تذكرته: (628-629) على هذا يتنزل، ونص كلامه: إذا كره الصالحون ما صنع المفسدون، وأخلصوا كراهيتهم لله – تبارك وتعالى – وتبرؤوا من ذلك حسب ما يلزمهم، ويجب لله – عز وجل – عليهم غير معتدين سلموا 1هـ وهذا محمول قطعاً على الهجرة، من ديار الظالمين، إذا لم تزل معصية رب العالمين، لأن ذلك دليل الإخلاص في الكراهية، والقيام بما يقتضيه التبرؤ التام، ويدل على هذا قوله بعد ذلك: فالفتنة إذا عمت هلك الكل، وذلك عند ظهور المعاصي، وانتشار المنكر، وعدم التغيير وإذا لم تغير وجب على المؤمنين المنكرين لها بقلوبهم هجران تلك البلدة والهرب منها، وهكذا كان الحكم فيمن كان قبلنا من الأمم، كما في قصة أصحاب السبت حين هجروا العاصين، وقالوا: لا نساكنكم، وبهذا قال السلف – رضي الله تعالى عنهم – 10هـ.
وبذلك تعلم أن ما نسبه ابن حجر للإمام القرطبي في تذكرته من أن أهل الطاعة لا يصيبهم العذاب في الدنيا بجريرة العصاة، فيه نظر، فقد علمت كلامه الدال على تقييد النجاة بمفارقة دار الضلال، وما أجل ما قاله الحافظ في الفتح: (13/61) في بيان ما يستفاد من حديث ابن عمر – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – وقد تقدم: "إذا أنزل الله بقوم عذاباً أصاب العذاب من كان فيهم، ثم بعثوا على نياتهم" ويستفاد من الحديث: مشروعية الهرب من الكفار، ومن الظلمة لأن الإقامة معهم من إلقاء النفس إلى التهلكة، هذا إذا لم يعنهم ولم يرضى بأفعالهم، فإن أعان أو رضي فهو منهم وسيأتي لهذا مزيد بيان عبد المبحث الثالث في هذه المسألة العظيمة الشأن.
5- لما فشا في بني إسرائيل الاعتداء على حرمات الله الجليل، عاقبهم ربنا القدير بالأخذ الوبيل، فجعل منهم القردة والخنازير، وأشار إلى ذلك في ثلاث سورة من سور التنزيل، سورة البقرة: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ} البقرة65-66، وفي سورة المائدة: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللهِ مَن لَّعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ} المائدة60، وفي سورة الأعراف: {واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ} الأعراف163-166، وكان من مسخ نحواً من سبعين ألفاً كما في زاد المسير: (1/95) ، والجامع لأحكام القرآن: (7/307) ، ونقل عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – في تفسير الطبري: (9/69) ، وقتادة كما في تفسير الطبري: (1/262) ، وعبد بن حميد كما في الدر: (1/75) أنهما قالا: صار شباب القوم قردة، وصارت المشيخة خنازير 10هـ وقد وقع ذلك المسخ حقيقة على الأبدان، ثم ماتوا بعد ثلاثة أيام، ولم يعقبوا بعد أن عذبوا عذاب الهوان، ويتعلق بمسخهم مسألتان، ينبغي بيان الحق فيما بالأدلة القوية الحسان:
المسألة الأولى:
ادعى مجاهد بن جبر – عليه رحمة الله تعالى – أن المسخ وقع على قلوب بني إسرائيل، ولم تمسخ أبدانهم قردة، وخنازير كما في تفسيره: (1/77-78) ، وتفسير ابن جرير: (1/263) ، وابن أبي حاتم وابن المنذر كما في الدر: (1/75) ، وإسناد ذلك إلى مجاهد جيد كما في تفسير ابن كثير: (1/105) فالقول ثابت عنه، حاصل المعنى فيه أن المسخ معنوي وليس بحقيقي، وما ذلك إلا من باب ضرب المثل لهم، كما مثلهم بالحمار يحمل أسفاراً في قول الله – جل وعلا –: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} الجمعة5.
وقد حكى ذلك عن مجاهد ولم يرده أبو السعود في إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم: (1/110) ، والشوكاني في فتح القدير: (1/96) ، مع أنه لم يذكر إلا القول بمسخهم حقيقة في تفسير سورة الأعراف: (2/257-259) ، وكذلك حكاه القاسمي في محاسن التأويل: (1/150، 7/2890) ، ولم يرده، بل يفهم من كلامه الميل إليه، ونصر ذلك القول محمد رشيد رضا وشيخه محمد عبده في تفسير المنار: (1/344) كما هي عادتهما في مثل هذا، ونص كلامهما: روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد أنه قال: ما مسخت صورهم، ولكن مسخت قلوبهم، فمثلوا كما مثلوا بالحمار في قوله – عز وجل –: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} الجمعة5، ومثل قوله – جل وعلا –: {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} المائدة60، والخسوء في قوله: {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ} البقرة65، وهو الطرد والصغار، والأمر للتكوين أي: فكانوا بحسب سنة الله – تبارك وتعالى – في طبع الإنسان وأخلاقه كالقردة المستذلة المطرودة من حضرة الناس، والمعنى: أن هذا الاعتداء الصريح لحدود هذه الفريضة قد جرأهم على المعاصي والمنكرات، بلا خجل ولا حياء، حتى صار كرام الناس يحتقرونهم، ولا يرونهم أهلاً لمجالستهم ومعاملتهم، وذهب جمهور المفسرين إلى أن معنى: " كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ " أن صورهم مسخت فكانوا قردة حقيقيين، والآية ليست نصاً فيه، ولم يبق إلا النقل، ولو صح لما كان في الآية عبرة ولا موعظة للعصاة لأنهم يعلمون بالمشاهدة أن الله – جل وعلا – لا يمسخ كل عاص فيخرجه من نوع الإنسان إذ ليس ذلك من سننه في خلقه، وإنما العبرة الكبرى في العلم بأن من سنن الله – تبارك وتعالى – في الذين خلوا أن من يفسق عن أمر ربه، ويتنكب الصراط الذي شرعه له ينزل عن مرتبة الإنسان، ويلتحق بعجماوات الحيوان، وسنة الله واحدة فهو يعامل القرون الحاضرة بمثل ما عامل به القرون الخالية 10هـ.
قال عبد الرحيم – غفر الله له ولوالديه وللمسلمين –: لا يرتاب عاقل في بطلان قول مجاهد إمام التابعين، وذلك معدود من زلله عند الصالحين، ومن تبع زلل العلماء، فهو من الضالين، قال سليمان التيمي شيخ المسلمين – عليه رحمة رب العالمين –: لو أخذت برخصة كل عالم أو زلة كل عالم اجتمع فيك الشر كله.
حاشية: انظر نسبة ذلك إليه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: (159) ، وجامع بيان العلم وفضله: (2/91، وعقب ابن عبد البر على قوله بقوله: هذا إجماع لا أعلم فيه خلافاً، وانظره في الحلية: (3/32، وتذكرة الحفاظ: (1/151، وفي الكتابين الأخيرين ترجمة حسنة له، فانظرها، وقد وصفه الذهبي في التذكرة بقوله: شيخ الإسلام ... قال شعبة ما رأيت أحداً أصدق من سليمان التيمي كان إذا حدث عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – تغير لونه، وقال ولده معتمر: مكث أبي أربعين سنة يصوم يوماً ويفطر يوماً، ويصلي صلاة الفجر بوضوء العشاء، قلت: القائل الذهبي –: كان عابد البصرة وعالمها، وكان يقول كما في الحلية: الحسنة نور في القلب وقوة في العمل، والسيئة ظلمة في القلب وضعف في العمل والشتاء غنيمة العبد، وإن الرجل ليذئب الذئب فيصبح وعليه مذلته، روى عنه أهل الكتاب الستة، وتوفي سنة ثلاث وأربعين مائة – عليه رحمة الله تعالى – وانظر ترجمته المباركة أيضاً في كتاب تهذيب التهذيب: (4/201-207) ، وصفوة الصفوة: (3/296-300) ، وشذرات الذهب: (1/212) ، والمعرفة والتاريخ: (2/268) ، وفيه: كان يسبح في كل سجدة وركعة سبعين تسبيحة.
وروى مثله عن معمر وإبراهيم بن أدهم – عليهم رحمة الله وتعالى – كما في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: (159-160) ، ونص كلام إبراهيم بن أدهم: من حمل شاذ العلماء حمل شر كبيراً، ولعله لم يبلغ مجاهداً النقل الصحيح عن بنينا – صلى الله عليه وسلم – كما سيأتي بيانه عما قريب، وأما قلسفة محمد رشيد رضا، وشيخه فهي لا تعدوا عن كونها صرير باب أو طنين ذباب، وإليك نقض ما حبكه من الشبه والارتياب، وإثبات الصواب بفضل الخطاب.
دل على وقوع المسخ على الأبدان للمعتدين من بني إسرائيل في ذلك الزمان، خمسة أدلة حسان، فتدبرها يا أخا الإسلام:
الدليل الأول:
ثبوت ذلك عن نبينا – عليه الصلاة والسلام – ففي صحيح مسلم وغيره عن ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رجل يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – القردة والخنازير هي مما مسخ؟ فقال النبي – صلى الله عليه وسلم –: "إن الله – عز وجل – لم يهلك قوماً، أو يعذب قوماً فيجعل لهم نسلا، وإن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك".
انظر صحيح مسلم بشرح النووي: (16/214) – كتاب القدر – باب بيان الآجال والأرزاق لا تزيد ولا تنقص –، والمسند: (1/413، 433، 455، 466) ، وورد فيه بنحوه في: (1/390، 395، 397، 421) ، ورواه الحميدي: (1/68-69) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار: (4/991) ، ورواه أبو يعلى والطبراني عن أمنا أم سلمة – رضي الله تعالى عنها – كما في مجمع الزوائد: (8/11-12) كتاب الفتن – باب ما جاء في المسخ، والقذف وإرسال الشياطين والصواعق – وفيه: فيه ليت بن أبي سليم مدلس، وبقية رجالهما رجال الصحيح، ورواه أيضاً الطبراني في الأوسط عن ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما – كما في المجمع: (8/11-12) ، وفيه: فيه مسلمة بن علي وهو ضعيف، والرواية المتقدمة عن ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه – تشهد لهاتين الروايتين فاعلم، وانظر رواية أبي يعلى أيضاً في المطالب العالية: (3/334) – كتاب التفسير – سورة الأعراف.
والحديث صحيح، وهو نص صريح في وقوع المسخ على الأبدان، لكن القردة والخنازير الموجودة الآن، ليست من نسل ما مسخ في ذلك الزمان لأن الله – عز وجل – لا يجعل لما مسخ نسلاً، بل يستأصلهم، ويقطع دابرهم.
الدليل الثاني:
ظاهر الآيات الثلاث في السور الثلاثة تدل على أن المسخ وقع حقيقة على الأبدان، وترك الظواهر لا يجوز عن أهل الإيمان، ففي ذلك فتح لباب الزندقة الباطنية للتلاعب بالنصوص الشرعية، فلو لم يدل على كون المسخ حقيقة إلا ظواهر النصوص لكفى ذلك دليلاً عند طيبي النفوس، وقد كرر شيخنا المبارك – عليه رحمة ربنا القدوس – في أضواء البيان، التنويه بمنزلة هذا الدليل عند علماء الإسلام ففي: (4/672-673) مثلاً يقول: والقاعدة المقررة عند العلماء أن نصوص الكتاب والسنة لا يجوز صرفها عن ظاهرها المتبادر منها إلا بدليل الرجوع إليه 10هـ وانظر إيضاح هذا بالأدلة القوية، وما يترتب على مخالفته من بلايا ردية في القاعدة الثالثة من الرسالة التدمرية: (47-51) .
الدليل الثالث:
القول بوقوع المسخ على الأبدان هو قول جمهور العلماء الكرام، ولم ينقل في هذا خلاف عن المتقدمين إلا ما حكي عن مجاهد – عليهم جميعاً رحمة رب العالمين – وهو معذور لعدم وقوفه على الدليل المبرور، وظنه أن ذلك من باب المثل لأهل الثبور، وبالتالي فقوله شاذ مهجور، رده الأئمة الفحول قال الإمام ابن جرير – عليه رحمة ربنا الكبير في تفسيره (1/263) : وهذا القول الذي قاله مجاهد قول لظاهر ما دل عليه كتاب الله – تبارك وتعالى – مخالف، وذلك أن الله – تبارك وتعالى – أخبر في كتابه أنه جعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت، كما أخبر – جل وعلا – أنهم قالوا لنبيهم – على نبينا وعليه الصلاة والسلام –: {أَرِنَا اللهِ جَهْرَةً} النساء153، وأن الله – تعالى ذكره – أصعقهم عند مسألتهم ذلك ربهم، وأنهم عبدوا العجل، فجعل توبتهم قتل أنفسهم، وأنهم أمروا بدخول الأرض المقدسة، فقالوا لنبيهم: {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} المائدة24، فابتلاهم بالتيه، فسواء قائل قال: هم لم يمسخهم قردة، وقد أخبر – جل ولعا – أنه جعل منهم قردة وخنازير، وآخر قال: لم يكن شيء مما أخبر الله – تبارك وتعالى – عن بني إسرائيل أنه كان منهم من الخلاف على أنبيائهم والنكال والعقوبات التي أحلها الله – عز وجل – بهم، ومن أنكر شيئاً من ذلك، وأقر بآخر منه سئل البرهان على قوله، وعورض فيما أنكر من ذلك بما أقر به، ثم يسال الفرق بين خبر مستفيض، أو أثر صحيح، هذا مع خلاف قول مجاهد قول جميع الحجة التي لا يجوز عليها الخطأ والكذب فيما نقلته مجمعة عليه، وكفى دليلاً في فساد قول إجماعها على تخطئته 1هـ.
وفي كلام الإمام ابن جرير تقرير للدليل الثاني والثالث فتدبر، وتبعه على كلامه الإمام الألوسي في روح المعاني: (1/283) ، وعبارته: وظاهر القرآن أنهم مسخوا قردة على الحقيقة، وعلى ذلك جمهور المفسرين، وهو الصحيح 10هـ، وقال الإمام ابن الجوزي في زاد المسير (1/95) : وقول مجاهد بعيد، وقال الإمام ابن كثير في تفسيره: (1/105) هذا قول غريب خلاف الظاهر من السياق في هذا المقام وفي غيره 10هـ وعلى رد قول مجاهد، وتقرير كون المسخ وقع حقيقة على الأبدان سار المفسرون الكرام، انظر معاني القرآن للفراء: (1/43) ومعاني القرآن للزجاج: (1/427) ، ومعالم التنزيل: (1/69) ، ومفاتيح الغيب: (3/111) ، وأحكام القرآن لابن العربي: (2/798) ، والجامع لأحكام القرآن: (1/441) ، ولباب التأويل: (1/69) ، والبحر المحيط: (1/346) والجواهر الحسان: (1/75) ، والتسهيل لعلوم التنزيل: (1/50، 2/53) ، والسراج المنير: (1/67) .
الدليل الرابع:
في مسخ أبدانهم حقيقة موعظة بليغة، وعبرة كبيرة، كيف لا، وقد رأى الناس حلول أشنع العقوبات بمن خالفوا رب الأرض والسموات، ومن لم ير ذلك من المكلفين والمكلفات فقد سمع به في محكم الآيات، وذلك بلا شك مما يدعوا الصنفين من رأى مصير المعتدين بعينيه، أو سمعه بأذنيه، لخشية رب الكونين، والحذر من عقوبته التي عاقب بها أهل الشين، وإن لم تعجل العقوبة لبعض أهل الآثام فما يستقبلهم في الآخرة من هوله الولدان، روى ابن جير في تفسيره: (9/68) عن الحسن البصري، ورواه عنه أبي شيبة، وعبد ابن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ – رحمهم الله جميعاً – كما في الدر: (3/138) أنه تلا ذات يوم: {واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} الأعراف163، فقال: كان حوتاً حرمه الله – جل وعلا – عليهم في يوم السبت، وأحله لهم فيما سوى ذلك، فكان يأتيهم في اليوم الذي حرمه الله – عز وجل – عليهم كأنه المخاض لا يمتنع من أحد، ولما رأيت أحداً يكثر الاهتمام بالذنب إلا واقعه – قال: فجعلوا يهمون ويمسكون حتى أخذوه، فأكلوا أوخم أكلة أكلها قوم قط، أثقله خزياً في الدنيا، وأشده عقوبة في الآخرة، وايم الله ما حوت أخذه قوم فأكلوا أعظم عند الله – عز وجل – من قتل رجل مؤمن، وللمؤمن أعظم حرمة عند الله من حوت، ولكن الله جعل موعد قوم الساعة، والساعة أدهى وأمر، وصدق إذ يقول: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ} البقرة65، وفي تفسير ابن جرير عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما –: (1/261) ، هذا تحذير لهم من المعصية.
إذا علمت هذا فلن ترتاب أنه من الفاسد البارد السمج المرذول قول محمد رشيد رضا وشيخه محمد عبده، لو صح النقل بمسخهم حقيقة لما كان في الآية عبرة ولا موعظة للعصاة.....
هذا عدل عما في قولهما من جسارة شنيعة، على نصوص الشريعة، رزقنا الله الأدب والإيمان وجعل عقولنا تابعة لهدي الإسلام، وحفظنا من وساوس الشيطان، إنه رحيم رحمن.
الدليل الخامس:
إن وقوع المسخ أمر ممكن وقد ورد به السمع فيجب الإيمان به، وقد دلت الأدلة السمعية على وقوعه في مسر في هذه الأمة فيما سيأتي من الزمان كما وقع لأهل العصيان فيما مضى من الأزمان وفي ذلك تقرير للدليل الرابع لما في هذا الأمر من تحذير عظيم للمفسدين، وموعظة للمتقين، ثبت في أصح الكتب بعد كتاب رب العالمين عن أبي عامر أو أبي مالك الأشعري – رضي الله تعالى عنهما – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: "ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والمعازف، ولينزلن أقوام إلى جنب علم يروح عليهم بسارحة لهم، يأتيهم – يعني الفقير – لحاجة، فيقولون: ارجع إلينا غداً، فيبيتهم الله، ويضع العلم، ويمسخ آخرون قردة وخنازير إلى يوم القيامة". وثبت في سنن ابن ماجه بإسناد صحيح عن أبي مالك الأشعري – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "ليشربن ناس من أمتي الخمر، ويسمونها بغير اسمها، يعزف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات، يخسف الله بهم الأرض، ويجعل منهم القردة والخنازير" وروى ابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: "لا تقوم الساعة حتى يكون في أمتي خسف ومسخ وقذف"، وقال الإمام ابن القيم – عليه رحمة الله تعالي –: وقد تظاهرت الأخبار بوقوع المسخ في هذه الأمة، وهو مقيد في أكثر الأحاديث بأصحاب الغناء وشاربي الخمر، وفي بعضها مطلق.
حاشية: انظر الحديث الأول في صحيح البخاري: (10/51) بشرح ابن حجر – كتاب الأشربة – باب ما جاء فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه –، وأخره أيضاً البيهقي في السنن الكبرى – كتاب صلاة الخوف – باب ما ورد في التشديد في لبس الخز –: (3/372) ، ورواه أبو داود مختصراً في كتاب اللباس – باب ما جاء في الخز –: (4/319) .
وإياك – أخي الكريم – ثم إياك أن تغتر بدندنة ابن حزم حول هذا الحديث حيث زعم أن الحديث منقطع من جهة أن الإمام البخاري لما رواه قال: قال هشام بن عمار ثم ساق الحديث بسنده، وغاب عن ابن حزم أن هشام بن عمار من شيوخ الإمام البخاري الذين لقيهم وأخذ عنهم، فالحديث متصل، لأن البخاري ليس من أهل التدليس، وإذا روى الراوي عن شيخه الذي لقيه وروى عنه بأي صيغة فذلك محمول على الاتصال والسماع ما لم يكن الراوي مدلساً فلا يعتد بروايته حتى يصرح بالسماع ونحوه، وقد اعتبر العلماء الكرام عزو الراوي لشيخه بصيغة: "قال وأن" ونحوهما كعزوه إليه بصيغة: "عن" قال الشيخ العراقي في ألفيته:
وإنْ يكن أول الإسناد حُذفْ ... مع صيغة الجَزم فتعلقاً عُرفْ
ولو إلى آخره، أما الذي ... لشيخه عَزا بقال فكذى
عَنْعَنَة ٍ كخبَر المعازف ... لا تُصغ ِ لابن حزم ٍ المُخالِف ِ
وقد رد العلماء قاطبة على ابن حزم قوله في تضعيف هذا الحديث، وعدم العمل بموجبه انظر مقدمة ابن الصلاح معها التقييد والإيضاح: (89-90) ، وفتح المغيث: (1/55-57) ، وفتح الباري: (10/52-53) ، وإغاثة اللهفان: (1/277-278) ، وفيه: ولم يصنع من قدح في صحة هذا الحديث شيئاً كابن حزم نصرة لمذهبه الباطل في إباحة الباطل في إباحة الملاهي، وزعم أنه منقطع لأن الإمام البخاري لم يصل سنده به، وجواب هذا الوهم من وجوه، ثم ذكر خمسة وجوه فارجع لما قيدته يده المباركة – عليه رحمة الله تعالى – وقال أيضاً في روضة المحبين: (130) : وأما أبو محمد – أي ابن حزم – فإنه على قدر يبسه وقسوته في التمسك بالظاهر، وإلغائه المعاني والمناسبات والحكم والعلل الشرعية، انماع في باب العشق والنظر وسماع الملاهي المحرمة، فوسع هذا الباب، وضيق باب المناسبات والمعاني، والحكم الشرعية جداً، وهو من انحرافه في الطرفين حين رد الحديث الذي رواه البخاري فأبطل سنة صحيحة ثابتة عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لا مطعن فيها بوجه 1هـ ورد الإمام الألوسي عليه في روح المعاني: (21/76) لكنه عكر رده وكدره بعبارات قاسية لا أستبيح ذكرها فالله يغفر لنا ولهم جميعاً، إنه هو الغفور الرحيم.
وانظر الرواية الثانية في سنن ابن ماجه – كتاب الفتن – باب العقوبات –: (2/1333) ، قال الإمام ابن القيم في إغاثة اللهفان: (2/278) : وهذا إسناد صحيح 1هـ والحديث رواه ابن حبان في صحيحه قريباً من رواية ابن ماجه، وانظر: موارد الظمآن – كتاب الأشربة – باب فيمن يستحل الخمر: (336) .
وانظر الحديث الثالث في: موارد الظمآن – كتاب الفتن – باب في المسخ وغيره –: (466) ، ورواه الطبراني في المعجم الصغير: (2/76) ، والأوسط كما في مجمع الزوائد: (8/11) – كتاب الفتن – باب في المسخ والقذف وإرسال الشياطين والصواعق – عن أبي سعيد الخدري عن النبي – صلى الله عليه وسلم – ولفظه: "يكون في هذه الأمة خسف ومسخ وقذف في متخذي القيان، وشاربي الخمر ولابسي الحرير"، وقال الهيثمي: وفيه زياد بن أبي زياد الحصاص ابن حبان، وضعفه الجمهور وبقية رجاله ثقات 1هـ وقد حكم ابن حجر في التقريب: (1/267) على زياد بأنه ضعيف، وقال الذهبي في الميزان: (2/89) مجمع على ضعفه، ورد على ابن حبان قوله: ربما يهم، ونقل عن ابن الجوزي أنه قال: في الرواة سبعة زياد بن أبي زياد ليس فيهم مجروح سوى الجصاص 1هـ وقال النسائي في الضعفاء والمتروكين: (45) ليس بثقة، وانظر حاله في المغني في الضعفاء: (1/243) ، والجرح والتعديل: (3/532) ، والتاريخ الكبير: (3/355) ، والروايات المتقدمة تشهد له فاعلم.
وانظر كلام الإمام ابن القيم – عليه رحمة الله تعالى – في تظاهر الأحاديث في وقوع المسخ في هذه الأمة في إغاثة اللهفان: (1/284) ، وفيه بعد ذلك مباشرة: قال سالم ابن أبي الجعد – عليه رحمة الله تعالى – ليأتين على الناس زمان يجتمعون فيه على باب رجل ينتظرون أن يخرج إليهم فيطلبون إليه حاجة، فيخرج إليهم وقد مسخ قرداً، أو جنزيراً، وليمزن الرجل على الرجل في حانوته يبيع، فيرجع إليه وقد مسخ قرداً أو جنزيراً، وقال أبو هريرة – رضي الله تعالى عنه –: لا تقوم الساعة حتى يمشي الرجلان على العمل يعملانه، فيمسخ أحدهما قرداً أو خنزيراً، فلا يمنع الذي نجا منهما ما رأى بصاحبه أن يمضي إلى شأنه ذلك حتى يقضي شهوته، وحتى يمشي الرجلان إلى الأمر يعملانه فيخسف بأحدهما، فلا يمنع الذي نجا منهما ما رأى بصاحبه أن يمشي لشأنه ذلك، حتى يقضي شهوته، وقال عبد الرحمن بن غنم: يوشك أن يقعد اثنان على رحاً يطحنان فيمسخ أحدهما والآخر ينظر، وقال مالك بن دينار: بلغني أن ريحاً تكون في آخر الزمان وظلم، فيفزع الناس إلى علمائهم، فيجدونهم قد مسخوا.
وقرر الإمام ابن القيم نحو ذلك في: (1/344-346) أيضاً فقال: وقد جاء ذكر المسخ في عدة أحاديث ... ثم بعد أن سرد ما تقدم من الآثار وغيرها قال: وقد ساق هذه الأحاديث والآثار ابن أبي الدنيا بأسانيدها في كتاب ذم الملاهي، فالمسخ على صورة القردة والخنازير واقع في هذه الأمة ولابد، وهو في طائفتين: علماء السوء الكاذبين على الله – جل وعلا – ورسوله – صلى الله عليه وسلم – الذين قلبوا دين الله تعالى وشرعه، فقلب الله – تبارك وتعالى – صورهم كما قلبوا دينه، والمجاهرين المتهتكين بالفسق والمحارم، ومن لم يمسخ منهم في الدنيا مسخ في قبره، أو يوم القيامة، وبكل حال فالمسخ لأجل الاستحلال بالاحتيال قد جاء في أحاديث كثيرة، قال شيخنا – يعني: ابن تيمية عليهم جميعاً رحمة رب البرية –: وإنما ذلك إذا استحلوا هذه المحرمات بالتأويلات الفاسدة، فإنهم لو استحلوا مع اعتقاد أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – حرمها كانوا كفاراً، ولم يكونوا من أمتي، ولو كانوا معترفين بأنها حرام ولأوشك أن لا يعاقبوا بالمسخ كسائر الذين يفعلون هذه المعاصي، مع اعترافهم بأنها معصية، ولما قيل فيهم: "يستحلون" فإن المستحيل للشيء هو الذي يفعله معتقداً حله، فيشبه أن يكون استحلالهم للخمر يعني أنهم يسمونها بغير اسمها كما جاء في الحديث، فيشربون الأنبذة المحرمة ولا يسمونها خمراً. واستحلالهم المعازف باعتقادهم أن آلات اللهو مجرد سمع صوت فيه لذة، وهذا لا يحرم، كأصوات الطيور.. وهذه التأويلات ونحوها واقعة في الطوائف الثلاثة الذين قال فيهم عبد الله ابن المبارك – رحمه الله تعالى –.
وهل أفسدَ الدينَ إلا الملوكج ... وأحبار سَوءْ ورهبانها
ومعلوم أنها لا تغني عن أصحابها من الله شيئاً، بعد أن بلغ الرسول – صلى الله عليه وسلم – وبين تحريم هذه الأشياء بياناً قاطعاً، مقيماً للحجة 10هـ وتقدم في هذا الكتاب المبارك: (...../.....) أبيات عبد الله بن المبارك، كما تقدم في: (...../.....) الإشارة إلى تحريم اتخاذ المعازف وكون اقتنائها ديائة.
قال عبد الرحيم – غفر الله له ذنوبه أجمعين – وإن طالت بنا حياة فسنرى وقوع ذلك في كثير من المكلفين والمكلفات، وما أظنه إلا قريباً، فلا تستبعدوه وخافوا منه واحذروه.
المسألة الثانية:
يتعلق بالقول بمسخهم حقيقة رأيان فاسدان، لابد من أن يتنبه لها طلبة العلم الكرام، لئلا تزل بهم الأقدام، وإليك يا أخي البيان:
الرأي الأول:
يقوم على الظن بعدم انقراض من مسخ واستئصالهم، واحتمال بقائهم وتناسلهم، وقد تبنى هذا القول الإمام ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث: (173) والزجاج في معاني القرآن: (2/437) ، وعبارة الأول: وأنا أظن أن القردة والخنازير هي الممسوخ بأعيانها توالدت، واستدللت على ذلك بقول الله – عز وجل–: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللهِ مَن لَّعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} المائدة60، فدخول الألف واللام في القرود والخنازير يدل على المعرفة، وعلى أنها هي القرود التي نعاين، ولو كان أراد شيئاً انقرض ومضى لقال: وجعل منهم قردة وخنازير، إلا أن يصح حديث أم حبيبة – رضي الله تعالى عنها – في الممسوخ، فيكون كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم – ومما يزيد في الأدلة على أن القرود هي الممسوخ بأعيانها إجماع الناس على تحريمها بغير كتاب ولا أثر كما أجمعوا على تحريم لحوم الناس بغير كتاب ولا أثر 10هـ ونص كلام الزجاج قال قوم: جائز أن تكون هذه القرود المتولدة أصلها منهم، وقال قوم: المسخ لا يبقي ولا يتولد، والجملة: أنا أخبرنا بأنهم جعلوا قردة، والقردة هي التي نعرفها، وهي أكثر شيء في الحيوان شبهاً بابن آدم، والله أ‘لم كيف كان أمرهم بعد كونهم قردة 10هـ.
وهذا الرأي باطل قطعاً، وإذا كان الإمام ابن قتيبة قال ما قال عن طريق الظن، وعلق البث في الأمر على حديث أمنا أم حبيبة – رضي الله تعالى عنها – فحديثها قد صح وتقدم أيضاً من رواية عبد الله بن مسعود – رضي الله تعالى عنه – في صحيح مسلم وفيه قال: قال رجل يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – القردة والخنازير هي مما مسخ؟ فقال النبي – صلى الله عليه وسلم –: "إن الله – عز وجل – لا يهلك قوماً أو يعذب قوماً، فيجعل لهم نسلاً، وإن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك"، ولذلك قال الإمام ابن الجوزي في زاد المسير: (1/388) فلا يلتفت إلى ظن ابن قتيبة 1هـ، وفي هذا الحجاج رد لكلام الزجاج، والله أعلم كيف كان أمرهم بعد كونهم قردة، فقد أعلمنا نبينا – صلى الله عليه وسلم – بأمرهم، وأن الله – جل وعلا – قطع دابرهم، واستأصلهم.
وأما ما مال إليه ابن قتيبة من تقوية قوله بكون القردة الموجودة من نسل القردة الممسوخة بإجماع المسلمين على تحريم أكلها من غير كتاب ولا أثر، كما أجمعوا على تحريم أكل لحوم الناس فغير مسلم ولا سديد لثلاثة أمور:
الأول:
تحريم أكل الإنسان لإكرامه، فمن أشنع الكبائر قتله، ولا يباح لأحد أن يقتل غيره وإن اضطر لأكله إذا كان معصوم الدم، ويجوز في حالة الاضطرار أكله إذا كان ميتاً على القول المعتمد الصحيح مع أن بعض الفقهاء منع من ذلك أيضاً لعموم قول نبينا – صلى الله عليه وسلم –: "كسر عظم الميت ككسره حياً".
حاشية: أخرجه أبو داود – كتاب الجنائز – باب في الحفار يجد العظم هل يتنكب ذلك المكان –: (3/543-544) ، وابن ماجه – كتاب الجنائز – باب في النهي عن كسر عظم الميت –: (1/516) ، وأحمد في المسند: (6/58، 100، 105، 168، 169، 200، 263) ، والدارقطني – كتاب الحدود: (3/188) ، وانظره في السنن الكبرى للبيهقي: (4/58) ، وحلية الأولياء: (7/95) ، وتاريخ بغداد: (12/106، 13/120) ، وأخبار أصبهان: (2/186) ، مشكل الآثار: (2/108) ، وصحيح ابن حبان – موارد الظمآن: (196) ، كلهم عن أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنها – مرفوعاً، ورواه الإمام مالك في الموطأ ك (1/238) – كتاب الجنائز – باب ما جاء في الاختفاء – بلاغاً عنها موقوفاً عليها.
والحديث رواه ابن ماجه – في المكان المتقدم – عن أمنا أم سلمة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – والحديث صحيح بشواهده كما في تعليق الشيخ الأرناؤوط على جامع الأصول: (11/163) ،وقال الحافظ في التلخيص الحبير: (3/92) حسنه ابن القطان، وذكر القشيري أنه على شرط مسلم.
قال ابن قدامة في المغني: (11/79-80) ، وإن لم يجد المضطر إلا آدمياً محقون الدم لم يبح له قتله إجماعاً، ولا إتلاف عضو منه، لأنه مثله فلا يجوز أن يقي نفسه بإتلاف غيره، وهذا لا خلاف فيه، ون كان مباح الدم كالحربي والمرتد فذكر القاضي أن له قتله وأكله لأن قتله مباح وهكذا قال أصحاب الشافعي لأنه لا حرمة له، فهو بمنزلة السباع، وإن وجده ميتاً أبيح أكله لأن أكله مباح بعد قتله فكذلك بعد موته، وإن وجد معصوماً ميتاً لم يبح أكله في قول أصحابنا وقال الشافعي وبعض الحنفية يباح ن وهو أولى لأن حرمة الحي أعظم، واحتج أصحابنا بقول النبي – صلى الله عليه وسلم –: "كسر عظم الميت ككسر عظم الحي"، واختار أبو الخطاب أن له أكله، وقال: لا حجة في الحديث ههنا، لأن الأكل من اللحم لا من العظم والمراد من الحديث التشبيه في أصل الحرمة لا في مقدارها، بدليل اختلافهما في الضمان والقصاص ووجوب صيانة الحي بما لا يجب به صيانة الميت 10هـ والذي يظهر لي أن الحديث محمول على حصول الإثم في حالة الاختيار، فإن قيل: فهلا أجزتم ذلك في حياته أيضاً في حالة الاضطرار كما أجزتموه في موته؟ فالجواب: ليست حياة أحدهما بأولى من حياة الآخر، فلا يباح ذلك لأحدهما، وأما إذا كان ذلك واقع منه على نفسه فقد صحح النووي في المنهاج: (568) جواز قطع بعضه لأكله بشرط فقد الميتة ونحوها، وكون الخوف في قطعه أقل، ومنع الحنابلة ذلك كما في المغني: (11/79) لأن ذلك ربما كان سبباً في قتله فيكون قاتلاً لنفسه ولا يتيقن حصول البقاء بأكله، فهذا في وقوع ذلك من نفسه على نفسه، أما على غيره فلا خلاف في منع ذلك وتحريمه، وفي أحكام القرآن لابن العربي: (4/1623) ، والجامع لأحكام القرآن: (15/126) ، وأحكام القرآن للجصاص: (30/378) : الاقتراع على إلقاء الآدمي في البحر لا يجوز عند أحد من الفقهاء، وما جرى لنبي الله يونس – على نبينا وعليه الصلاة والسلام – خاص به، لتحقيق برهانه وزيادة إيمانه.
الثاني:
المعتمد في سبب تحريم أكل لحم القردة أمران وهما:
1- كونها من الخبائث وهي محرمة بنص القرآن، قال ربنا الرحمن: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ} الأعراف157، ويكفي في التدليل على كون القردة من الخبائث حصول المسخ بصورتها، ولعله على هذا يحمل قول من قال من الفقهاء: إنها مسخ فلا تحل ففي المغني: (11/67) وهو – القرد – مسخ فيكون من الخبائث المحرمة 1هـ أي صورتها صورة ما وقع به المسخ للمجرمين، ولا يكون ذلك إلا بما هو خبيث مشين، وأما إذا قصد بأن القردة الموجودة من نسل الممسوخ حقيقة فباطل باطل، لثبوت الحديث الصحيح بانقراض الممسوخ وعدم تناسله.
2- هي من السباع التي تعدو بنابها وتفترس به، وهذا هو المعتمد في التعليل بمنع أكل لحم القردة منع تحريم عند الحنفية كما في الاختيار: (5/13) ، والشافعية كما في السراج الوهاج: (565) ، والحنابلة كما في الكافي: (1/489) ، ودليل هذا القول ما ثبت في الصحيحين وغيرهما أن النبي – صلى الله عليه وسلم – "نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع".
حاشية: انظر صحيح البخاري: (9/657) بشرح ابن حجر – كتاب الذبائح والصيد – باب أكل كل ذي ناب من السباح، وصحيح مسلم – كتاب الصيد والذبائح – باب تحريم أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير –: (3/1533-1534) ، وسنن الترمذي – كتاب الصيد – باب ما جاء في كراهية كل ذي ناب وذي مخلب: (5/183-184) ، وكتاب الأطعمة – باب ما جاء في الأكل من آنية الكفار: () 6/99، وسنن أبي داود – كتاب الأطعمة – باب النهي عن أكل السباع –: (4/159) ، وسنن النسائي – كتاب الصيد والذبائح – باب تحريم أكل السباع: (7/177) ، وسنن ابن ماجه – كتاب الصيد – باب أكل كل ذي ناب من السباع: (2/1077) ، وسنن الدارمي – كتاب الأضاحي – باب ما لا يؤكل من السباع –: (2/85) ، والموطأ – كتاب الصيد – باب تحريم أكل كل ذي ناب من السباع: (2/496) ، والمسند: (4/193-194) ، ومسند الطيالسي – منحة المعبود – كتاب الأطعمة – باب النهي عن أكل ذي ناب من السبع –: (2/327) ، ومسند الحميدي: (2/386) ، وشرح معاني الآثار: (4/190) ، والسنن الكبرى للبيهقي: (9/331) ومسند الشافعي: (380) كلهم من رواية أبي ثعلبة الخشني – رضي الله تعالى عنه –.
ورواه عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – مسلم والبيهقي، وابن ماجه، والنسائي، ومالك، والطحاوي، والشافعي في الأمكنة المتقدمة، وهو في سنن الترمذي – كتاب الأطعمة – باب ما جاء في لحوم الحمر الأهلية: (6/98) ، والمسند: (2/236، 366، 418) ، مشكل الآثار: (4/375) .
وورد من رواية ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما – عند مسلم -، وأبي داود، والدارمي، والطحاوي، وابن ماجه، والطيالسي في الأمكنة المتقدمة، وهو في سنن النسائي – كتاب الصيد والذبائح – باب إباحة أكل لحوم الدجاج،: (7/182:7/182) ، وكتاب البيوع – باب بيع المغانم قبل أن تقسم: (7/265) ، وسنن البيهقي: (9/315) ، ومنتقى ابن الجارود رقم: "892، 893"، والمسند: (1/244، 289، 302، 326، 327، 332، 339، 373) .
وورد عن جابر بن عبد الله – رضي الله تعالى عنهما – عند الترمذي في أول مكان متقدم، وهو في المسند: (3/323) .
وورد عن العرباض بن سارية – رضي الله تعالى عنه – عند الترمذي – كتاب الأطعمة – باب ما جاء في كراهية أكل المصبورة: (5/180-182) ، وورد عن على – رضي الله تعالى عنه – عند الطحاوي في المكان المتقدم، وفي المسند: (1/147) ، وورد هذا المقداد بن معد يكرب عند أبي داود – كتاب السنة – باب في لزوم السنة: (5/10-12) ، والمسند: (4/130-131، 132) ، وورد عن خالد بن الوليد – رضي الله تعالى عنه – عند أبي داود – في المكانين الأوليين، وفي سنن النسائي – كتاب الصيد والذبائح – باب تحريم أكل لحوم الخيل –: (7/178) ، والمسند: (4/89، 90) ، وورد عن أبي الدرداء – رضي الله تعالى عنه – في المسند: (5/195، 445) ، ومسند الحميدي: (1/95) ، وبالجملة فهو حديث مجمع على صحته كما قال ابن عبد البر فيما نقله عنه الحافظ في التلخيص: (4/166) ، وقال الطحاوي في شرح معاني الآثار: (4/190) قامت الحجة عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بنهيه عن أكل كل ذي ناب من السباع وتواترت بذلك الآثار عنه – صلى الله عليه وسلم –.
الثالث:
خالف المالكية في تحريم أكل لحم القرد، فنقل عنهم أربعة أقوال في أكله وهي: التحريم والكراهية، والإباحة مطلقاً، والإباحة إن أكل الكلأ وإلا كان مكروها، والمعتمد عندهم القول بالكراهية لأن قوله – جل وعلا –: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} الأنعام145، يفيد حل أكله وعدك حرمته، ومراعاة قول الجمهور بمنع أكله وتحريمه تقتضي كراهيته كما في حاشية الدسوقي: (2/105) .
قال عبد الرحيم: وإذ قد ثبت الفرق المبين، بين سبب المنع من أكل القرود وأكل الآدميين مع وجود خلاف أيضاً في الأول عند أئمة المسلمين فلا يصح قياس أحدهما على الآخر عند أهل الدين، للتوصل بذلك إلى أن القردة من جملة الممسوخين، فبطل بذلك قول الإمام ابن قتيبة – علينا وعليه رحمة أرحم الراحمين – والعلم عند الله رب العالمين.
الرأي الثاني:
يجزم بكون القردة والخنازير الموجودة على ظهر الأرض من نسل أولئك الممسوخين وقد تبنى هذا القول وقرره بما لا يدل عليه الإمام أبو بكر بن العربي في أحكام القرآن: (2/798-799) ، ونص كلامه: قال علماؤنا: اختلف الناس في الممسوخ هل ينسل أم لا؟ فمنهم من قال: إن الممسوخ لا ينسل، ومنهم من قال: ينسل، وهو الصحيح عندي، والدليل عليه أمران:
أحدهما:
حديث النبي – صلى الله عليه وسلم – حين سئل عن الضب، فقال: "إن أمة من الأمم مسخت، فأخشى أن يكون الضب منها".
حاشية: أخرجه الإمام مسلم في كتاب الصيد والذبائح – باب إباحة الذب: (3/102-103) بشرح الإمام النووي، والإمام أحمد في المسند: (3/323، 380) ، والإمام البيهقي في كتاب الضحايا – باب ما جاء في الضب: (9/324) ، والإمام الطحاوي في شرح معاني الآثار – باب أكل الضب: (4/198) كلهم عن جابر بن عبد الله – رضي الله تعالى عنهم أجمعين –.
ورواه عن أبي سعيد الخدري – رضي الله تعالى عنه – كل من الأئمة مسلم في المكان المتقدم وكذلك البيهقي والطحاوي، وابن ماجه – كتاب الصيد – باب الضب: (2/1079) ، والخطيب في تاريخ بغداد: (11/376) .
ورواه أيضاً عن عبد الرحمن بن حسنة – رضي الله تعالى عنه – كل من الأئمة: البيهقي والطحاوي في المكانين المتقدمين، وأبو يعلى، والطبراني في الكبير، والبزار ورجال الثلاثة الصحيح كما في مجمع الزوائد: (4/37) – كتاب الصيد – باب في الضب –.
ورواه عن ثابت بن وديعة – رضي الله تعالى عنه – كل من الأئمة: البيهقي والطحاوي في المكانين المتقدمين، وأحمد في المسند: (5/390) من حديث حذيفة بن اليمان محالاً به على ثابت بن وديعة – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – ورواه النسائي في كتاب الصيد والذبائح – باب الضب –: (7/176) ، وأبو داود – كتاب الأطعمة – باب في أكل الضب: (4/154) والدارمي في كتاب الصيد – باب في أكل الضب: (2/20) .
ورواه عن حذيفة بن اليمان – رضي الله تعالى عنهما – البزار ورجاله رجال الصحيح كما في المجمع: (4/37) ، ورواه أيضاً عن سمرة – رضي الله تعالى عنه – كل من الأئمة: أحمد في المسند: (5/19، 21) ، والطحاوي في المكان المتقدم، والبزار والطبراني في الكبير والأوسط باختصار، ورجال البزار ثقات كما في مجمع الزوائد: (4/37) ورواه أيضاً الطبراني من طريق آخر في الكبير بسند رجاله ثقات كما قال الهيثمي.
ورواه عن عبد الرحمن بن غنم – رضي الله تعالى عنه – أحمد في المسند: (2/227) ، قال الهيثمي في المجمع: (4/37) ، وقد ذكر لعبد الرحمن بن غنم ترجمة فهو مرسل حسن الإسناد، على رأي الإمام أحمد 1هـ وعبد الرحمن بن غنم يسمى به رجلان أحدهما صحابي والآخر مختلف في صحبته، وقال أحمد، أدرك ولم يسمع كما ذكر ذلك الحافظ في الإصابة: (2/417-418) القسم الأول، و: (3/97-98) القسم الثالث، ولا يغيبن عنك اصطلاحه في الإصابة، وللأخير ترجمة في طبقات ابن سعد: (7/441) ، والاستيعاب على هامش الإصابة: (2/224-425) ، وأسد الغابة: (3/487-188) ، وتجريد أسماء الصحابة: (1/354) ، ولم يذكروا الأول.
وثبت عنه – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: "الفأر مسخ، ألا ترى إذا وضع له ألبان الإبل لم يشربها".
حاشية: أخرجه الإمام مسلم: (18/124) بشرح النووي – كتاب الزهد – باب أحاديث متفرقة – والبخاري: (6/351) بشرح ابن حجر – كتاب بدء الخلق – باب خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال، وأحمد في المسند: (2/234، 279، 289، 411، 597، 507) عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "فقدت أمة من بني إسرائيل لا يدرى ما فعلت، ولا أراها إلا الفأر، ألا ترونها إذا وضعت لها ألبان الإبل لم تشربه، وإذا وضع لها ألبان الشاة شربته".
ووجه الاستشهاد منه عدم شرب الفأر ألبان الإبل، وقد كان ذلك من جملة الأشياء التي حرمها نبي الله يعقوب – على نبينا وعليه الصلاة والسلام – على نفسه فحرمها قومه تبعاً له، ففي المسند: (1/273، 274، 278) ، وسنن الترمذي – كتاب التفسير – سورة الرعد –: (8/277-278) ، وتفسير الطبري: (4/5) ، والتاريخ الكبير للبخاري: (2/114) ، وأسانيد المسند صحيحة كما قال الشيخ شاكر في تعليقه على المسند: (4/156، 161) رقم: "2471، 2483، 2514"، وقال الترمذي حسن صحيح غريب، وكذلك ورد في تحفة الأحوذي: (4/129) لكن في الطبعة المصرية: (5/294) حسن غريب، ولفظ الرواية الأولى في المسند عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – قال: حضرت عصابة من اليهود رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقالوا: يا أبا القاسم، حدثنا عن خلال نسألك عنها، لا يعلمهن إلا نبي، فكان فيما سألوه: أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه، قبل أن تنزل التوراة؟ قال: فأنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى، هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب – عليه السلام – مرض مرضاً شديداً، فطال سقمه، فنذر لله نذراً لئن شفاه الله من سقمه ليحرمن أحب الشراب إليه، وأحب الطعام إليه، فكان أحب الطعام إليه لحمان الإبل، وأحب الشراب إليه ألبانها؟ ". فقالوا: اللهم نعم، وقد حرم يعقوب – على نبينا وعليه الصلاة والسلام – العروق أيضاً، وزائدتا الكبد، والكليتان، والشحم إلا ما على الظهر، فانظر تفصيل ذلك في زاد المسير: (1/422-423) ، وتفسير ابن كثير: (1/381-382) ، وتفسير ابن جرير: (4/2-5) ، وفيه: قال أبو جعفر وأولى هذه الأقوال بالصواب قول ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – الذي رواه الأعمش عن حبيب عن سعيد عنه أن ذلك العروق، ولحوم الإبل (وألبانها) لأن اليهود مجمعة إلى اليوم على ذلك من تحريمها، كما كان عليه من ذلك أوائلها، وقد روي عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم بنحو ذلك خير وهو، ثم سرد الحديث المتقدم.
وانظر ما يتعلق بذلك في الدر: (2/51-52) ، والمستدرك: (2/292) – كتاب التفسير – سورة آل عمران –، ومعالم التنزيل: (1/380) ، ولباب التأويل: (1/380) مطبوع مع سابقه.
وروى البخاري عن عمرو بن ميمون أنه قال: رأيت في الجاهلية قردة قد اجتمع عليها قردة قد زنت فرجموها فرجمتها معهم، ثبت في بعض نسخ البخاري، وسقط من بعضها وثبت في بعض الحديث: وقد زنت، وسقط هذا اللفظ عند بعضهم.
حاشية: انظر صحيح البخاري بشرح ابن حجر – كتاب مناقيب الأنصار – رضي الله تعالى عنهم – باب القسامة في الجاهلية والحديث في التاريخ الكبير أيضاً: (6/367) ، وانظر ترجمة عمرو بن ميمون في الاستيعاب على هامش الإصابة: (2/542-544) ، وأسد الغابة: (4/275-276) ، وتجريد أسماء الصحابة: (1/418) ، والإصابة: (3/118) – القسم الأول –، وطبقات ابن سعد: (6/117-118) ، وفيه المعرفة والتاريخ: (2/563) ، وتذكرة الحفاظ: (1/65) ، وشذرات الذهب: (1/82) ، كان عمر بن ميمون إذا دخل المسجد فرئي ذكر الله – عز وجل – وانظر الجرح والتعديل: (6/285) ، وحلية الأولياء: (4/148-154) ، وصفة الصفوة: (3/35) ، والمعارف: (188) ، وفي التقريب: (2/80) مخضرم مشهور ثقة عابد مات سنة أربع وسبعين وقيل بعدها، أخرج حديثه الستة – عليه رحمة الله تعالى –.
هذا وقد استنكر ابن عبد البر في الاستيعاب خبره المتقدم في رجم القردة فقال: هذا عند جماعة أهل العلم منكر، إضافة الزنا إلى غير مكلف، وإقامة الحدود في البهائم، ولو صح لكانوا من الجن لأن العبادات في الجن والإنس دون غيرهما، وقد كان الرجم في التوراة، وقال ابن عبد البر: إن مدار الخبر على عبد الملك بن مسلم عن عيسى بن حطان، وليسا ممن يحتج بهما 1هـ وتبعه على هذا ابن الأثير في أسد الغابة، فقال: وهذا مما أدخل في صحيح البخاري 1هـ ومال إلى ذلك القرطبي في تفسيره: (1/441) فحكى عن الحميدي أنه قال: لعل هذا الحديث من المقحمات في كتاب البخاري 1هـ وذلك منهم – رحمهم الله جميعاً، مردود منكر، فند أقوالهم الحافظ ابن حجر في الفتح: (7/160) ، والإصابة، وعبارته في الفتح: وإنما قال ذلك – يعني ابن عبد البر – لأنه تكلم عن الطريق التي أخرجها الإسماعيلي حسب وأغرب الحميدي في الجمع بين الصحيحين فزعم أن هذا الحديث وقع في بعض نسخ البخاري، وأن أبا مسعود وحده (هو إبراهيم بن محمد بن عبيد أبو مسعود الدمشقي المتوفى سنة: 401 هـ وهو عليه رحمة الله تعالى – له أطراف الصحيحين كما في الرسالة المستطرقة: 167) ذكره في الأطراف، قال: وليس في نسخ البخاري أصلاً فلعله من الأحاديث المقحمة في كتاب البخاري، وما قاله مردود، فإن الحديث المذكور في معظم الأصول التي وقفنا عليها ... وأما تجويزه أن يزاد في صحيح البخاري ما ليس منه فهذا ينافي ما عليه العلماء من الحكم بتصحيح جميع ما أورده البخاري في كتابه، ومن اتفاقهم على أنه مقطوع بنسبته إليه وهذا الذي قاله تخيل فاسد يتطرق منه عدم الوثوق بجميع ما في الصحيح، لأنه إذا جاز في واحد لا بعينه جاز في كل فرد فرد، فلا يبقى لأحد الوثوق بما في الكتاب المذكور. واتفاق العلماء ينافي ذلك والطريق التي أخرجها البخاري دافعة لتضعيف ابن عبد البر للطريق التي أخرجها الإسماعيلي، وإنما أطنبت في هذا لئلا يغتر ضعيف بكلام الحميدي فيعتمده، وهو ظاهر الفساد 10هـ.
قال الإمام ابن العربي: فإن قيل: وكأن البهائم بقيت فيهم معارف الشرائع حتى ورثوها خلفاً عن سلف إلى زمان عمرو بن ميمون الأودي؟ قلنا: نعم، كذلك كان، لأن اليهود غيروا الرجم، فأراد الله – جل وعز – أن يقيمه في مسوخهم حتى يكون إبلاغاً في الحجة على ما أنكروه من ذلك وغيروه، حتى تشهد عليهم كتبهم وأحبارهم ومسوخهم حتى يعلموا أن الله – عز وجل – يعلم ما يسرون وما يعلنون، ويحصى ما يبدلون وما يغترون، ويقيم عليهم الحجة من حيث لا يشعرون، وينصر نبيه – صلى الله عليه وسلم – وهم لا ينصرون 10هـ هذا كله كلام ابن العربي، الأمر الثاني في كلامه غير موجود كما أشار إليه في بداية الكلام فتأمل يا أخا الإسلام.
قال عبد الرحيم – غفر الله ذنوبه أجمعين –: ليس فيما ذكره ابن العربي دلالة على أن القرود من نسل الممسوخين في الزمن القديم، لأن من أمعن النظر، واستقرأ الأدلة الواردة في هذا الشأن، وجمع بينها الجمع المعتبر، تبين له أن الحديثين الأوليين كانا ظناً من النبي – صلى الله عليه وسلم – وخوفاً من أن يكون الضب والفار مما مسخ، وذلك عن طريق الحدس، والتخمين قبل أن يوحى إليه – صلى الله عليه وسلم – بما آل إليه أمر الممسوخين، وقد أوحي إليه بعد ذلك بالحق المبين، فبين لنا أن القردة ليست من نسل الممسوخين، وتقدم قريباً الحديث الذي رواه الإمام مسلم وغيره، وفيه: قال رجل يا رسول الله – القردة والخنازير مما مسخ؟ فقال النبي – صلى الله عليه وسلم –: "إن الله – عز وجل – لم يهلك قوماً، أو يعذب قوماً فيجعل لهم نسلاً، وإن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك" هذا ما قرره الأئمة الكرام، الطحاوي في شرح معاني الآثار: (4/199) ، والقرطبي في تفسيره: (1/442) ، وابن حجر في الفتح: (6/353، 7/160) ، وعبارة الأول: بين رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في هذا الحديث أن المسوخ لا يكون لها نسل , ولا عقب، فعلمنا بذلك أن الضب لو كان مما نسخ لم يبق، فانتفى بذلك أن يكون الضب بمكروه من قبل أنه مسخ، أو قبل ما جاز أن يكون مسخاً.
وأما حديث عمرو بن ميمون في رؤية رجم القردة قردة زنت، ومشاركته في رجمها فلا يلزم أن تكون القردة المذكورة من نسل الممسوخين، فيحتمل أن يكون الذين مسخوا لما صاروا على هيئة القردة مع بقاء أفهامهم عاشرتهم القردة الأصلية للمشابهة في الشكل فتلقوا عنهم بعض ما شاهدوه من أفعالهم فحفظوها، وصارت فيهم، واختص القرد بذلك لما فيه من الفطنة الزائدة على غيره من الحيوانات، وقابلية التعليم لكل صناعة مما ليس لأكثر الحيوان، ومن خصاله أنه يضحك ويطرب ويحكي ما يراه، وفيه من شدة الغيرة ما يوازي الآدمي، ولا يتعدى أحدهم إلى غير زوجته، فلا يدع في الغالب أن يحملها ما ركب فيها من الغيرة على عقوبة من اعتدى إلى ما لم يختص به من الأنثى ومن خصائصه أن الأنثى تحمل أولادها كهيئة الآدمية، وربما مشى القرد على رجليه، لكن لا يستمر على ذلك، ويتناول الشيء بيده، ويأكل بيده، وله أصابع مفصلة إلى أنامل وأظافر، ولشعر عينيه أهداب...... وقد ذكر أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتاب الخيل له من طريق الأوزاعي، أن مهراً أنزى على أمه فامتنع فأدخلت في بيت وجللت بكساء وأنزى عليها فنزى، فلما شم ريح أمه عمد إليها ذكره فقطعه بأسنانه من أصله، فإذا كان هذا الفهم في الخيل مع كونها أبعد عن الفطنة من القردة فجوازها في القرود أولى، هذا كله كلام الحافظ في الفتح: (7/160-161) ، وفي عيون الأخبار: (2/84) قالوا: ليس شيء يجتمع فيه الزواج والغيرة إلا الإنسان والقردة، وانظر كتاب حياة الحيوان: (4/36-44) باب جملة القول في القرد والخنزير.
وللإمام ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث: (172-173) كلام جيد حول ما نقل عن عمرو بن ميمون في رجم القردة قدرة، ومشاركته لهم في رجمها وهو: ويمكن أن يكون عمرو بن ميمون رأى القرود ترجم فظن أنها ترجمها لأنها زنت وهذا لا يعلمه أحد إلا ظناً، لأن القرود لا تنبئ عن أنفسها، والذي يراها تتسافد لا يعلم أزنت أم لم تزن، هذا ظن، ولعل الشيخ عرف أنها زنت بوجه من الدلائل لا نعلمه، فإن القرود أزنى البهائم والعرب تضرب بها المثل، فتقول: أزنى من قرد، ولولا أن الزنا منه معروف ما ضربت به المثل، وليس شيء أشبه بالإنسان في الزواج والغيرة منه، والبهائم قد تتعادى، ويثب بعضها على بعض، ويعاقب بعضها بعضاً، فمنها ما يعض ومنهال ما يخدش، ومنها ما يكسر ويحطم، والقرود ترجم بالأكف التي جعلها الله – عز وجل – لها كما يرجم الإنسان، فإن كان إنما رجم بعضها بعضاً لغير زنا فتوهمه الشيخ لزنا فليس ببعيد، وإن كان الشيخ قد استدل على الزنا منها بدليل، وعلى أن الرجم كان من أجله فليس ذلك أيضاً ببعيد، لأنها على ما أعلمتك أشد البهائم غيرة، وأقربها من بني آدم أفهاماً....... ولسنا نقول: إنها فعلت ذلك بحكم التوراة، ولكنا نقول: إنها عاقبت بالرجم إما على الزنا، أو على غير ذلك من أجل أكفها، كما يخدش غيرها، ويعض، ويكسر، إذ كانت أكفها كأكف بني آدم، وكان ابن آدم لا ينال ما يريد أذاه إذا بعد عنه إلا بالرجم 10هـ.
وصفوة الكلام في هذه المسألة العظيمة الشأن أن المسخ وقد حقيقة على الأبدان، فيمن عتوا عن أمر ربنا الرحمن، من بني إسرائيل اللئام، ومنعوا حالة مسخهم من الشراب والطعام، كما منعوا من إعقاب الولدان، ولم يكتب لهم العيش بعد المسخ إلا ثلاثة أيام، ليكونوا عبرة وموعظة للأنام، وهذا هو المنقول عن السلف الكرام، ففي جامع البيان: (1/261) عن حبر الأمة وبحرها – عليه الرضوان –: مسخهم الله – عز وجل – قردة بمعصيتهم ولم يحيوا في الأرض إلا ثلاثة أيام ولم تأكل ولم تشرب ولم تنسل وقد خلق الله – جل وعلا – القردة، والخنازير وسائر الخلق في الستة الأيام التي ذكرها الله – جل جلاله – في كتابه، فمسخ هؤلاء القوم في صورة القردة، وكذلك يفعل بمن شاء كما يشاء ويحوله كما يشاء، وفي تفسير ابن حاتم كما في الدر: (1/705) عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – أيضاً: ما كان للمسخ نس، وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم أيضاً عن الحسن البصري – رحمه الله تعالى – كما في الدر المنثور: (1/75) انقطع ذلك النسل.
حاشية: وبالتحقيق الذي تقدم تعلم أخي المكرم كذب الحديث الموضوع على نبينا – صلى الله عليه وسلم – وهو من الموضوعات للإمام ابن الجوزي – كتاب المبتدأ – باب ذكر المسوخ: (1/185-186) عن عليّ – رضي الله تعالى عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – سئل عن المسوخ، فقال: "هم اثنا عشر: الفيل، والدب، والخنزير، والقرد، والأرنب، والضب، والوطواط، والعقرب، والعنكبوت، والدعموص، وسهيل، والزهرة، فقيل: ما سبب مسخهم؟ فقال: أما الفيل فكان جباراً لوطياً، لا يدع رطباً ولا يابساً، وأما الدب فكان رجلاً مؤنثاً يدعو الرجال إلى نفسه، وأما الخنزير فكان من قوم نصارى فسألوا ربهم نزول المائدة، فلما نزلت عليهم كانوا أشد ما كانوا كفراً، وأشده تكذيباً، وأما القرد فيهود اعتدوا في السبت، وأما الأرنب فكانت امرأة لا تظهر من حيض ولا من غير ذلك، وأما الضب فكان أعرابياً يسرق الحاج بمحجنه – كل معوج الرأس كالصولجان – كما في المعجم الوسيط: (1/159) – باب الحاء – وأما الوطواط فكان يسرق الثمار من رؤوس النخيل، وأما العقرب فكان رجلاً لداغاً لا يسلم على لسانه أحد، وأما العنكبوت فكان امرأة سحرت زوجها، وأما الدعموص فكان رجلاً نماماً يفرق بين الأحبة، وأما سهيل فكان عشاراً باليمن، وأما الزهرة فكانت امرأة نصرانية ابنة بعض ملوك بني إسرائيل، وهي التي فتن بها هاروت وماروت، وكان اسمها أناهيد".
قال ابن الجوزي: هذا حديث موضوع على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وما وضعه إلا ملحد يقصد وهن الشريعة بنسبة هذا إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أو مستهين بالدين لا يبالي ما فعل، والمتهم به مغيث مولى جعفر الصادق، قال أبو الفتح الأزدي: مغيث كذاب خبيث لا يساوي شيئاً، روى حديث المسوخ، وهو حديث منكر، ثم ذكر ابن الجوزي أن الحديث الصحيح المتقدم: "إن الله لم يهلك قوماً، أو يعذب قوماً فيجعل لهم نسلاً، وإن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك" يرد هذا.
وقد وافق الأئمة ابن الجوزي في حكمه على الحديث بالوضع وأقروه انظر تنزيه الشريعة: (1/177-178) – الفصل الأول من كتاب المبتدأ –، واللآلئ المصنوعة: (1/157-158) ، والفوائد المجموعة: (491) ، وفي الميزان: (4/142) معتب عن مولاه جعفر الصادق، قال أبو الفتح الأزدي: معتب كذاب، وقيل: اسمه مغيث، وله حديث باطل.(3/173)
".
أسأل الله العظيم أن يجعلنا من الخائفين الراجين، كما يريد رب العالمين، إنه كريم رحيم.
تم بحمد الله..(3/174)
بسم الله الرحمن الرحيم
الملل والنحل:
... الملل جمع ملة، ومعناها في اللغة: الطريقة والسنة، أي: سنة الناس وطريقهم، ومنه الملة: أي الموضع الذي يختبر فيه، لأنه يؤثر في مكانها كما يؤثر في الطريق، وأصل ذلك اللفظ في اللغة من أمللت الكتاب إذا أمليته على غيرك، ولملاحظة ذينك الاعتبارين في الملة - المعنى وأصله - أطلق لفظ الملة في اللغة على الدين والشريعة، لأنهما طريقان متبعان يسير عليهما من ينتمي إليهما، وهما مشروعان من رب العالمين - تبارك وتعالى - وفي حديث نزول نبي الله عيسى في آخر الزمان - على نبينا وعليه الصلاة والسلام - يقول رسولنا - صلى الله عليه وسلم -: "ويهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام" (1) .
... وأما عند علماء الشرع المطهر، فالدين والملة مختلفان في الاعتبار، وإن كانا متحدين بالذات ويتحدد ذلك الاختلاف في ثلاث جهات:
1. الشريعة من حيث وجوب طاعتها تسمى ديناً، ومن حيث جمعها لمن ينتمي إليها تسمى ملة.
__________
(1) - انظر إيضاح ذلك في لسان العرب: (14/154) "ملل" والمفردات: (471) كتاب الميم ومجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر: (1/5) وحديث نزول نبي الله عيسى في آخر الزمان - على نبينا وعليه الصلاة والسلام - متواتر كما في تفسير ابن كثير: (4/132) ،ونظم المتناثر من الحديث المتواتر: (147) ، والرواية المستشهد بها رواها أبو داود في كتاب الملاحم - باب خروج الدجال -: (4/499) وأحمد في المسند: (2/406، 437) عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنهم أجمعين-.(4/1)
2. ينسب الدين إلى الله – جل وعلا – فهو وضع إلهيٌ يدعو أصحاب العقول، إلى قبول ما هو عند الرسول – صلى الله عليه وسلم –، أما الملة فلا تضاف إلا إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – ولا تكاد تنسب إلى غيره، فلا يقال: ملة الله – جل وعلا –، ولا يقال: ملتي، وملة زيد كما يقال: دين الله – عز وجل –، وديني، ودين زيد، قال الله – جل وعلا –: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} النساء125.
3. الدين يستعمل في جملة الشرائع وآحادها، أما الملة فلا تستعمل إلا في آحاد الشرائع.
النحل:
... جمع نحلة، وهي في اللغة ما ينتحله الإنسان، أي: يلتزمه، ويجعله كالملك له، كما يتملك الهدية، ويحوزها، ولهذا الاعتبار أطلق في اللغة لفظ النحلة على الدين، لأن المرء يلتزمه ويأخذ به نفسه، يقال: ما نحلتك؟ أي: ما دينك؟ وعليه فيصح إطلاق لفظ الملة على النحلة أيضاً ومنه ما ورد في بعض روايات الحديث الصحيح الثابت عن نبينا – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: "ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل، حتى إن كان منهم من أتى أمه علانية لكان في أمتي من يصنع ذلك، وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلهم في النار، إلا ملة واحدة، قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ - صلى الله عليه وسلم – قال: ما أنا عليه وأصحابي (1) " فالمراد من الملل في هذا الحديث الشريف: النحل، وفرق الأهواء والزيغ والضلال.
__________
(1) - انظر إيضاح هذا في لسان العرب: (14/174) "نحل" والحديث أخرجه بهذا اللفظ الإمام الترمذي في كتاب الإيمان – باب ما جاء في افتراق الأمة: (7/297) وسيأتيك عما قريب تفصيل القول في تخريجه بما يشرح الصدر إن شاء الله تعالى.(4/2)
.. وأما علماء الشرع فيخصون لفظ النحل بأصحاب الأهواء والآراءالذين يدَّعون الالتزام بشريعة واحدة غراء، نزل بها وحي رب الأرض والسماء، أو لا يدعون الالتزام بشريعة سمحاء، بل يعولون على الأوهام والآراء، كحال الفلاسفة والزنادقة السفهاء، فالصنفان يشملهما القول بأنهم أصحاب نحل من ادعى منهم الالتزام بشريعة أو لم يدع ذلك (1) .
وسنتدارس في هذه السنة أصحاب الأهواء، وأهل النحل الخبيثة الشنعاء، الذين يدعون الانتساب لرسالة خاتم الأنبياء – عليه صلوات الله وسلامه – وتتحدد دراستنا لتلك الفرق على النحو التالي:
1. تعداد أمهات الفرق الخبيثة، مع بيان أبرز آرائها الخسيسة.
2. تفصيل القول في فرقة الشيعة الردية، وبيان أقسامها الغوية.
3. دراسة موسعة للتصوف والصوفية، وتقييمها حسب الأدلة الشرعية.
... وأبدأ الدراسة بتمهيد للبحث يتضمن الإشارة إلى بيان حالة الناس قبل مبعث خاتم الأنبياء والمرسلين محمد – صلى الله عليه وسلم – وإليك تفصيل ذلك – حفظنا الله بمنه وكرمه من الآفات والمهالك.
حالة الناس قبل الإسلام:
__________
(1) - هذا ما ظهر لي من تتبع كلام الأئمة، وإن كان بعضهم يرى تخصيص لفظ الملل بأهل الديانات ولفظ النحل بمن عداهم، وصنيع الشهرستاني في كتابه "الملل والنحل": (1/11) على هامش الفِصَل في الملل والأهواء والنحل يدل على ذلك، وصنيع ابن حزم في كتابه "الفِصَل في الملل والنحل" يدل على الأول في الجملة، حيث قال في: (2/88) قد أكملنا بعون الله الكلام في الملل فلنبدأ بحول الله – عز وجل – ذكر نحل أهل الإسلام وافتراقهم فيها، وإيراد ما شغب به من شغب منهم فيما غلط فيه من نحلته، وإيراد البراهين الضرورية على إيضاح نحلة الحق من تلك النحل كما فعلنا في الملل.(4/3)
.. كان الناس قبل الإسلام يعيشون في بيداوات من الجهل والظلم، والتقليد الأعمى، وفوضى الأخلاق يعيثون في الأرض فساداً، وسأقتصر على وصف حالهم، بكلام بعضهم، ثبت في مسند الإمام أحمد – عليه رحمة الله تعالى – بإسناد صحيح في حديث جعفر الطويل، وهجرته مع المؤمنين إلى الحبشة – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – وفيه أن جعفر بن أبي طالب قال للنجاشي: أيها الملك، كنا قوماً أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه، وصدقه، وأمانته، وعفافه، فدعانا إلى الله – عز وجل – لنوحده، ونعبده، ونخلع ما نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام، وعدد عليه أمور الإسلام، فصدقناه وآمنا، واتبعناه على ما جاء به، فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئاً، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث فلما قهرونا وظلمونا وشقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلدك، واخترناك على من سواك، ورغبنا إلى جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك (1) .
__________
(1) - انظر المسند: (1/202، 5/291) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: (6/27) : رجاله رجال الصحيح غير ابن إسحاق، وقد صرح بالسماع 1هـ والحديث رواه ابن خزيمة في صحيحه في كتاب الزكاة: (4/13) رقم 2260، وقد أشار إلى رواية ابن خزيمة للحديث الحافظ في الفتح: (13/353) والحديث رواه ابن إسحاق كما في سيرة ابن هشام: (2/87) مع الروض الأنف، وانظره في البداية والنهاية: (3/73) .(4/4)
.. وذلك الضلال الذي كان يسري في العباد، ويخيم على البلاد، كان عاماً شاملا ً لم ينج منه إلا بقايا من أهل الكتاب، الذين ثبتوا على شرع ربهم، ولم يتلاعبوا فيه، ومن أجل ذلك عم مقت رب العالمين للناس أجمعين، إلا تلك الثلة من المتمسكين بالهدي القويم من أهل الكتاب السابقين، كما ثبت هذا في المسند وصحيح مسلم عن عياض بن حمار المُجاشِعِي – رضي الله تعالى عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال ذات يوم في خطبته: ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا، كل مال نحلته عبداً حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً، وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء، تقرؤه نائماً ويقظان" الحديث (1) .
... وقد قام نبينا – صلى الله عليه وسلم – بمهمة البلاغ والبيان أحسن قيام، ونشر بين الناس النور والهدى والعرفان، ولم يقبضه ربه العظيم إلى جواره الكريم حتى أقام به الملة العوجاء، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، فترك الناس على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك (2) .
__________
(1) - انظر صحيح مسلم – كتاب الجنة وصفة نعيمها – باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار: (4/2197) ، رقم 2865، ومسند أحمد: (4/162، 166) .
(2) - تقدم توثيق هذه الصفات وتخريجها في كتاب التوحيد: (أ، 7) .(4/5)
وبعد ذلك الاكتمال، على أحسن حال، قام شياطين الإنس بتحريش من شياطين الجن عدة محاولات للقضاء على الإسلام، بمختلف الأساليب والألوان، لكن أنى يستطيعون ذلك وقد تكفل ربنا المنان بحفظ الإسلام والقرآن، لذلك ارتدوا على أدبارهم خاسئين فانصرفوا لتشكيك المسلمين بعد أن أعياهم تغيير شرع رب العالمين، فظفروا بعد غير قليل من الدهماء المفتونين، ولن يزال ذلك البلاء في ازدياد، كلما امتدت بهذه الأمة الآماد، وهذا كما ثبت عن رسولنا خير العباد – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: "لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده شر منه، حتى تلقوا ربكم (1) ".
__________
(1) - أخرجه البخاري في كتاب الفتن – باب لا يأتي زمان إلا الذي بعده شر منه: (13/20) بشرح ابن حجر عن الزبير بن عديّ قال أتينا أنس بن مالك – رضي الله تعالى عنهم – فشكونا إليه ما يلقون من الحجاج فقال: اصبروا ثم ذكر الحديث. ورواه الترمذي في كتاب الفتن – باب 35: (6/361) ،وقال: هذا حديث حسن صحيح، وفي مسند الدارمي في المقدمة – باب تغير الزمان – وما يحدث فيه: (1/65) عن ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه – موقوفاً: لا يأتي عليكم عام إلا وهو شر من الذي كان قبله، أما إني لست أعني عاماً أخصب من عام، ولا أميراً خيراً من أمير ولكنْ علماؤكم وخياركم وفقهاؤكم يذهبون ثم لا تجدون منهم خَلَفاً وتجيء أقوام يقيسون الأمر برأيهم.(4/6)
وقد أخبرنا نبينا – صلى الله عليه وسلم – أن الناس دخلوا في دين الله أفواجاً، وسيخرجون منه أفواجاً ففي مستدرك الحاكم وغيره بإسناد صحيح عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – قال: تلا رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً} النصر2، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "ليخرجن منه أفواجاً كما دخلوا فيه أفواجاً" وفي المسند وغيره عن جار لجابر بن عبد الله – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – قال: قدمت من سفر، فجاءني جابر يسلم علي فجعلت أحدثه عن افتراق الناس، ومما أحدثوا، فجعل جابر يبكي، ثم قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: "إن الناس قد دخلوا في دين الله أفواجاً، وسيخرجون منه أفواجاً (1) ".
__________
(1) - انظر مستدرك الحاكم – كتاب الفتن والملاحم –: (4/496) ، ورواه أيضاً الدارمي في المقدمة – باب في وفاة النبي – صلى الله عليه وسلم –: (1/41) ، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأقره الذهبي، وانظر الرواية الثانية في المسند: (3/343) ، وأخرجها أيضاً ابن مردويه كما في الدر المنثور: (6/408) ، قال الهيثمي في مجمع الزوائد: (7/281) – كتاب الفتن – باب خروج ناس من الدين ونعوذ بالله من ذلك – جار جابر لم أعرفه، وبقية رجاله رجال الصحيح، قلت: وما قبله يشهد له.(4/7)
قال عبد الرحيم – غفر الله ذنوبه أجمعين –: من عجيب أمر هذه الأمة أنها جمعت ما تفرق في غيرها من الفضائل والبلايا، بل زادت عليها في المزايا والرزايا، فتقيها خير الأتقياء، وشقيها شر الأشقياء، وقد أشار إلى ذلك رسولنا إمام الأنبياء – صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً – بقوله الثابت عنه في دواوين السنة الغراء: افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، فواحدة في الجنة، وسبعون في النار، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، فإحدى وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، والذي نفس محمد – صلى الله عليه وسلم – بيده لتفرقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة واحدة في الجنة وثنتان وسبعون في النار، قيل: يا رسول الله من هم؟ قال: الجماعة، وفي رواية: "ما أنا عليه وأصحابي" (1) .
__________
(1) - هذا لفظ رواية ابن ماجه في كتاب الفتن – باب افتراق الأمم –: (2/1322) عن عوف بن مالك ورواه أيضاً بنحوه عن أبي هريرة وأنس – رضي الله تعالى عنهم – وانظر روايات الحديث في سنن الترمذي – كتاب الإيمان – باب ما جاء في افتراق هذه الأمة –: 7/297 عن أبي هريرة، وعبد الله بن عمرو، وقال: حديث أبي هريرة حسن صحيح، وحديث ابن عمرو مفسر حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وفي الباب عن سعد وعبد الله بن عمرو وعوف بن مالك، وسنن أبي داود – كتاب السنة – باب شرع السنة: (5/4-5) عن أبي هريرة ومعاوية، وسنن الدارمي – كتاب السير – باب افتراق هذه الأمة –: (5/241) عن معاوية والمستدرك – كتاب الإيمان –: (1/6) ، وكتاب العلم: (1/28) عن أبي هريرة في الأول، وقال: وقد روى عن سعد بن أبي وقاس، وعبد الله بن عمرو، وعوف بن مالك عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مثله، ورواه في الثاني عن أبي هريرة، ومعاوية، وعبد الله بن عمرو، وعمرو بن عوف المزني، وقال بعد حديث معاوية، هذه أسانيد تقوم بها الحجة في تصحيح هذا الحديث، وقد روى هذا الحديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وعمرو بن المزني بإسنادين تفرد بإحداهما عبد الرحمن بن زياد الأفريقي، والآخر كثير بن عبد الله المزني، ولا تقوم بهما الحجة، واقره الذهبي على ذلك، كما حكم على حديث أبي هريرة بأنه على شرط مسلم , أقره الذهبي، ورواه أحمد في المسند: (2/332) عن أبي هريرة، وفي: (3/120، 145) عن أنس، وفي: (4/102) عن معاوية، وانظر الأحاديث الثلاثة في الفتح الرباني: (24/6-7) ، ورواه ابن حبان انظر موارد الظمآن: (454) كتاب الفتن باب افتراق الأمم_عن أبي هريرة، وذكره البغوي في شرح السنة-كتاب الإيمان – باب رد البدع والأهواء –: (1/213) عن عبد الله بن عمرو، ومعاوية وعبد القاهر في أول كتابه الفرق بين الفرق: (4-7) بسنده عن أبي هريرة وعبد الله بن عمرو وأنس، وقال: للحديث الوارد على افتراق الأمة أسانيد كثيرة، وقد رواه عن النبي – صلى الله عليه وسلم – جماعة من الصحابة، كأنس بن مالك، وأبي هريرة، وأبي الدرداء، وجابر، وأبي سعيد الخدري، وأبي بن كعب، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأبي أمامة، وواثلة بن الأسقع وغيرهم، وساقه ابن الجوزي في تلبيس إبليس: (7-8) بسنده إلى ابن عمرو ورواه البيهقي في شعب الإيمان عن عائشة كما في الفتح الكبير: (1/206) ، والطبراني في الأوسط والكبير عن أبي أمامة كما في مجمع الزوائد: (7/258) ، وقال الهيثمي: فيه أبو غالب وثقه ابن معين وغيره، وبقية رجال الأوسط ثقات، وكذلك أحد إسنادي الكبير، ورواه الطبراني أيضاً من رواية عمرو بن عوف، وفيه كثير بن عبد الله وهو ضعيف وقد حسن حديثه الترمذي كما في مجمع الزوائد: (7/260) وتقدم الكلام على كثير بن عبد الله عند عزو الرواية إلى المستدرك، ورواه أبو يعلى عن أنس وفيه أبو معشر نجيح، وهو ضعيف كما في مجمع الزوائد: (7/258) ، وانظر الحديث من رواية أبي هريرة وعبد الله بن عمرو، وأنس، وسعد، ومعاوية في كتاب الشريعة للآجري: (14-18) .
واعلم – وفقك الله تعالى – أن الحديث صحيح بلا شك، فقد تقدم من صححه من أساطين العلم، وأئمته، وجهابذة المحدثين وقادته، ونص على ذلك أهل العلم من المتقدين والحديثين انظر تعليق الشيخ عبد القادر الأرناؤوط على جامع الأصول: (10/33) ، وتعليق الشيخ شعيب على شرح السنة: (1/213) ، وقول الشيخ القاري في المرقاة: (3/137) وتحصل أن حديث افتراق الأمة صحيح من غير شك، فلا يعبأ بقول ابن حزم في الفصل: إن هذا الحديث لا يصح عن طريق الإسناد 1هـ وانظر كلام بان حزم في الفصل: (3/138) حيث ذكر أن الحديث لا يصح أصلا ً عن طريق الإسناد، وما أراك تتوقف في رد كلام ابن حزم بعد الاطلاع على أقوال الفحول من المتقدمين والمتأخرين في تصحيح الحديث، لأن ذلك من جملة انحراف ابن حزم – وشذوذه، ومن الحزم أن لا تتبع – فيما ينفرد فيه – ابن حزم، وانظر كلام ابن القيم فيه في روضة المحبين: (130) ، والشيخ ابن تيمية في مجموع الفتاوى: (4/395) ، وقد صحح الحديث الشيخ الألباني، وأورده في سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم: (203، 204) وعزا تخريجه أيضاً للآجري في الشريعة، ولابن بطة في الإبانة، واللالكائي في شرح السنة، ثم فند كلام ابن حزم، ورد عليه، لكن من العجيب قوله: وأما ابن حزم فلا أدري أين ذكر ذلك، وأول ما يتبادر للذهن أنه في كتابه، الفصل في الملل والنحل، وقد رجعت إليه وقلبت مظانه فلم أعثر عليه 1هـ وقد تصفح كاتب هذه الأسطر – سترنا الله تعالى – الفصل فوجد الحديث في نصف ساعة.
وقد ذكر ابن كثير الحديث في تفسيره: (1/390) ، وقال إنه رُوي من عدة طرق 1هـ وذكره الشوكاني في فتح القدير: (1/371) وعد من خرجه وصححه، ووافق على ذلك 10هـ وأورده ابن الوزير في الروض الباسم: (2/115) عند ذكر الأحاديث التي رواها معاوية، ونقلت عن غيره من الصحابة – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – فذكر أن هذا الحديث روي عن غير معاوية ممن لم تطعن فيهم الشيعة، وذكره الشهرستاني في الملل والنحل: (1/13) ، وقال: والناجية أبداً من الفرق واحدة 1هـ، وقال الشيخ العراقي في المغني عن حمل الأسفار في الأسفار: (3/225) أسانيد الحديث جياد 1هـ وقال الشيخ ابن تيمية في مجموع الفتاوى: (22/360) الحديث صحيح مشهور في السنن والمساند كسنن أبي داود، والترمذي، والنسائي (الكبرى) وغيرهم، وأطال في شرح الحديث وتقرير معناه بحيث أخذ ذلك خمس عشر صفحة. وانظر مجموع الفتاوى: (3/245-259) ، والحديث صححه أيضاً الشاطبي في الاعتصام: (2/189) وكتب في شرحه مائة صفحة حتى: (2/287) ، وصححه الفتني في تذكرته: (15) ورمز لصحته السيوطي في الجامع الصغير كما في الفيض: (2/20) ، وقال المناوي: قال الزين العراقي: أسانيده جياد، وقد عده المؤلف – أي السيوطي – من المتواتر 10هـ وصححه السخاوي في المقاصد الحسنة: (158) ووافقه ابن الديبع في مختصره "تمييز الطيب من الخبيث": (60) والعجلوني في كشف الخفا: (1/149-151) ، وعده الشيخ الكتاني في كتابه نظم المتناثر: (32-34) من الأحاديث المتواترة.
واعلم – علمني الله وإياك – أنني توسعت في تخريج الحديث لأمرين يستدعيان ذلك ويتحتم على طالب العلم الحذر منهما لئلا يضل مع من ضل وهما:
1- تضعيف ابن حزم للحديث، وتناقل كثير من المحدثين ذلك عنه، بل وزيادتهم عليه، فالأستاذ محيي الدين عبد الحميد يحكي الخلاف في صحة هذا الحديث، ويسترسل في حكاية نفي صحته مدعياً أنه ما من إسناد روي به إلا وفيه ضعف، انظر تعليقه على الفرق بين الفرق: (7) ، وهو كلام باطل بلا شك، وأشد بطلاناً منه قول الدكتور عبد الرحمن بدوي في كتابه مذاهب الإسلاميين: (33-34) الفرق الإسلامية لا تدخل تحت حصر، والمؤلفون الإسلاميون المتقدمون الذين كتبوا عن الفرق، وبخاصة من هم من أهل السنة أرادوا أن يحصروها استناداً إلى حديث موضوع، ثم بعد أن سرد الحديث المتقدم قال: ولهذا الحديث بصوره المختلفة أسانيد كثيرة استوفاها الحافظ الزيلعي في تخريج أحاديث الكشاف ... ومع هذا لا يمكن أن يكون الحديث صحيحاً، وهو كلام لا يستحي الإنسان من صفع قائله فضلا ً عن اشتهاء سماعه.
2- ما قرأته في كتاب التفكير الفلسفي في الإسلام: (97-101) ، وسمعته مشافهة من بعض مدرسي التوحيد والملل والنحل من أن الحديث روي بلفظ: "كلها في الجنة إلا واحدة" وفي رواية: "كلها في الجنة إلا الزنادقة" وهذا يعارض الحديث المتقدم، وهذا الحديث موضوع مكذوب على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – باتفاق أئمة الحديث، ولما سمعت هذا من بعض من يدرسون الملل والنحل قلت له: أثبت صحة الحديث وخذ ما شئت، ولما شرعت في تخريج الحديث المتقدم، نشطت الكلام عليه وعلى بيان من أخرجه وصححه، وأتبعت ذلك بالكلام على الحديث الثاني الموضوع "كلها في الجنة إلا واحدة" مما لن تراه مجموعاً في كتاب والحمد لله تعالى على ما وفق وتكرم وأنعم.
وانظر الحكم على وضع حديث "كلها في الجنة إلا واحدة" في الموضوعات: (1/267-268) – كتاب السنة وذم البدع – باب افتراق هذه الأمة – قال ابن الجوزي: هذا الحديث لا يصح عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال علماء الصناعة، وضعه الأبرد بن الأشرس وكان وضاعاً كذاباً، وأخذه منه ياسين الزيات فقلب إسناده وخلطه، وسرقه عثمان بن عفان، أما الأبرد فقال محمد بن إسحاق بن خزيمة، كذاب وضاع، وأما ياسين فقال يحيى: ليس حديثه بشيء، وقال النسائي: متروك الحديث، وأما عثمان فقال علماء النقل متروك الحديث لا يحل كتب حديثه إلا على سبيل الاعتبار، وأما حفص بن عمر فقال أبو حاتم الرازي: كان كذاباً، وقال العقيلي: يحدث عن الأئمة بالبواطيل، قال المصنف – ابن الجوزي – وهذا الحديث على هذا اللفظ لا أصل له، وقد رواه عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وابن عمر، وأبو الدرداء، ومعاوية وابن عباس، وجابر، وأبي هريرة، وأبو أمامة، وواثلة، وعوف بن مالك، وعمرو بن عوف المزني قالوا فيه: "واحدة في الجنة" وهي الجماعة 1هـ وقد أقر السيوطي هذا الحكم في اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة: (1/248) – كتاب السنة – ونقل عن العقيلي قوله: هذا حديث لا يرجع منه إلى صحة، قال السيوطي: والحديث المعروف "واحدة في الجنة وهي الجماعة" 1هـ وأورده ابن عراق في تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الموضوعة الشنيعة: (1/310) – في كتاب السنة في الفصل الأول – مشيراً بذلك إلى أن حكم ابن الجوزي على الحديث بالوضع لم يخالف فيه، كما هو معلوم من اصطلاحه، وقد أشار إلى الحديث الذهبي في الميزان: (1/78) في ترجمة أبرد بن أشرس، وانظره في لسان الميزان أيضاً: (1/128، 6/56) ، والميزان أيضاً: (4/133) ، واللسان: (2/405) ، والميزان: (1/662) وفي تذكرة الموضوعات: (15) لا أصل له، وهذه اللفظة إن قيلت فيما ذكر إسناده تدل على أن السند لا عبرة به لوجود كذاب فيه، أو وضاع كما في مقدمة المصنوع في معرفة الحديث الموضوع: (20-21) ، وقد حكم العجلوني في كشف الخفا أيضاً: (1/309) ، بأن الحديث لا أصل له، ونقل الكتاني في نظم المتناثر الحكم على الحديث بالكذب والوضع عن السفاريني ثم ذكر أن ابن الجوزي رواه في الموضوعات، وتبعه السيوطي في اللآلئ، وقال ابن تيمية: لا أصل له، بل هو موضوع مكذوب باتفاق أهل العلم بالحديث.
والحديث قد أورده الشعراني في كشف الغمة: (1-26) في باب الاعتصام بالكتاب والسنة بعد الرواية الصحيحة المتقدمة فقال: وفي رواية: "كلها في الجنة إلا واحدة" ولم يذكر إسناد ذلك، ولم يعزه إلى أحد أيضاً، وأما ما نقله العجلوني في كشف الخفاء: (1/150) نقلا ً عن الميزان للشعراني من أن الحاكم صحح الحديث باللفظ الغريب، فلم أره في المستدرك ولعله في تاريخ نيسابور ولم ينسب أحد من العلماء الذين وقفت على أقوالهم حول هذا الحديث تصحيح الحديث للحاكم غير ما نقله العجلوني عن الشعراني، وقد تقدم تخريج الحاكم للحديث من ستة طرق عن أربعة من الصحابة في كتاب الإيمان والعلم: (1/6، 128) ، وحكم على رواية: "كلها في النار إلا واحدة" بالصحة ووافقه الذهبي، وما نقله العجلوني في المكان المتقدم أيضاً من أن ابن حجر خرج الحديث بالرواية المكذوبة في تخريج أحاديث مسند الفردوس، فهو كلام مبتور فماذا قال ابن حجر عن الحديث عند تخريجه له؟ فكتاب الفردوس لشيرويه بن شهريار الديلمي فيه من الأحاديث الموضوعة ما شاء الله تعالى، قال ابن تيمية في منهاج السنة: (3/17) وهو وإن كان من طلبة الحديث ورواته، فإن الأحاديث التي جمعها، وحذف أسانيدها ونقلها من غير اعتبار لصحيحها وضعيفها وموضوعها، ولهذا كان فيه من الموضوعات أحاديث كثيرة جداً 10هـ والحديث المتقدم بلا شك من جملة ما في مسند الفردوس من الأحاديث الموضوعة الشنيعة المرذولة، قال الشيخ الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم 204، وقد حاول بعض ذوي الأهواء من المعاصرين تمشية حال هذا الحديث بهذا اللفظ الباطل: "كلها في الجنة إلا واحدة" وتضعيف الحديث الصحيح: "كلها في النار إلا واحدة"،وقد بينت وضع ذاك: "كلها في الجنة إلا واحدة"، في سلسلة الأحاديث الضعيفة رقم 1035، ولم يطبع المجلد الثالث من السلسلة المذكورة التي فيها الحديث المشار إليه مع بيان وضعه، فاغتنم ما سبق من التحرير، والحمد لله العلي الكبير.(4/8)
والحديث ثابت ثبوت، صحة، ولتعدد طرقه حكم عليه العلماء الكرام بتواتره، كما هو مبين في التخريج، فاغتنم ما فيه وسل الله المزيد.
وإذا كان حال الأمة سيصير إلى ما ذكرت فعليك أيها المسترشد، يا من تريد نصح نفسك، بالتمسك بصراط ربك، حسبما كان عليه الخيرة من سلفك، فلو رجعت إلى رشدك، وتأملت الأمور من حولك لعلمت أنك في زمان لو جد فيه الصديقون لاستغاثوا بالله مما يجري فيه من الزيغ والمجون، فحذار حذار من التفريط والإهمال، والاسترسال فيما يشقيك في الحال، والمآل، فكم وكم انسلخ من دين الله بسبب ذلك نساء ورجال، روى الإمام أحمد في المسند والطبراني في المعجم الأوسط عن النعمان بن بشير – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – قال: صحبنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وسمعناه يقول: "إن بين يدي الساعة فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمناً، ثم يمسي كافراً، ويمسي مؤمناً، ثم يصبح كافراً، يبيع أقوام خلاقهم بعرض من الدنيا يسير" قال الحسن البصري – رحمه الله تعالى -: "والله لقد رأيناهم صوراً ولاعقول، أجساماً ولا أحلام، فراش نار، وذُبَّان طمع، يغدو أحدهم بدرهمين، ويروحون بدرهمين، يبيع أحدهم دينه بثمن العنز (1)
__________
(1) - انظر المسند: (4/273) ، ومجمع الزوائد: (7/309) ، وقال الهيثمي: فيه مبارك بن فضالة، وثقه جماعة، وفيه لين، وبقية رجاله رجال الصحيح 1هـ وللحديث شواهد كثيرة، ثابتة صحيحة منها ما في صحيح مسلم – كتاب الإيمان – باب الحث على المبادرة بالأعمال قبل تظاهر الفتن: (1/110) وسنن الترمذي – كتاب الفتن – ما جاء ستكون فتن كقطع الليل المظلم: (6/355) عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: "بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً، ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراًَ، يبيع دينه بعرض من الدنيا" ورواه الترمذي أيضاً عن أنس بن مالك، وأشار إلى رواية الحديث أيضاً عن جندب، والنعمان ابن بشير، وأبي موسى – رضي الله تعالى عنهم أجمعين –.(4/9)
" نسأل الله العظيم بوجهه الكريم أن لا يُزِيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، إنه سميع مجيب.
أمهات الفرق الزائغة
الفرقة الأولى القدرية:
... تنسب هذه الفرقة الضالة إلى مقالتها التي ضلت بها، وخالفت فيها الحق الثابت، وتلك المقالة النكراء تتعلق بسبق علم الله الجليل للأشياء قبل حدوثها، وتقديره لها خيرها وشرها وينقسم أصحاب هذه البدعة الخبيثة إلى قسمين:
أ) قدرية غلاة: وهم الذين نفوا تقدير الله للأشياء في القدم، ونفوا تقدم علمه بها، وزعموا أنها مستأنفة العلم، أي: إنما يعلمها الله – جل جلاله – بعد وقوعها، وكذبوا على الله – سبحانه وتعالى وجل عن أقوالهم الباطلة علواً كبيراً – (1) .
__________
(1) - قال الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم: (1/156) ، وهذا القول: قول غلاتهم، وليس قول جميع القدرية، وكذب قائله وضل وافترى – عافانا الله وسائر المسلمين – 10هـ وفي درء تعارض العقل والنقل للإمام ابن تيمية: (2/332) ، وذكر عن طائفة أنهم يقولون: يعلم الأشياء قبل كونها إلا أعمال العباد، فإنه لا يعلمها إلا في حال كونها، وهذا قول غلاة القدرية، كمَعْبَد الجُهَني وأمثاله.(4/10)
.. وقد نبتت تلك الفرقة الضالة في أواخر أيام الصحابة الكرام (1)
__________
(1) - قال الشهرستاني في الملل والنحل: (1/384) فلما ابتدع هؤلاء التكذيب بالقدر رده عليهم من بقي من الصحابة كعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وواثلة بن الأسقع، وكان أكثره بالبصرة والشام، وقليل منه بالحجاز، ولم يكن أحد على عهد الخلفاء الراشدين ينكر القدر..(4/11)
– رضوان الله تعالى عليهم أجمعين – وأول حديث في صحيح مسلم فيه التصريح بذلك، كما في بيان حكم أولئك فعن يحيى بن يعمر قال: كان أولمن قال في القدر بالبصرة مَعْبَد الجُهني، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن حاجين أو معتمرين، فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر، فَوُفِّقَ لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – داخلا ً المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه، والآخر عن شماله، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إليّ، فقلت: أبا عبد الرحمن إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرؤون القرآن ويتقفَّرون العلم، وذكر من شأنهم – وأنهم يزعمون أن لا قدر، وأن الأمر أُنُف، قال: فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم برآء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه (أي: في سبيل الله) ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر، ثم قال حدثني أبي عمر بن الخطاب قال: بينما نحن عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ذات يوم إ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا، قال: صدقت، قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه، قال: فأخبرني عن الإيمان، قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال: صدقت، قال: فأخبرني عن الإحسان، قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، قال: أخبرني عن الساعة، قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل، قال: أخبرني عن أماراتها، قال: أن تلد(4/12)
الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان، قال: ثم انطلق، فلبثتُ ملياً، ثم قال لي: يا عمر أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم (1) ".
__________
(1) - انظر صحيح مسلم – أول كتاب الإيمان –: (1/150-160) بشرح النووي، ورواه أبو داود في كتاب السنة – باب في القدر –: (5/69-73) ، والترمذي في كتاب الإيمان – باب ما جاء في وصف جبريل للنبي – عليهما الصلاة والسلام – الإسلام والإيمان –: (7/271-275) ، والآجري في الشريعة – باب الإيمان – بأنه لا يصح لعبد إيمان حتى يؤمن بالقدر خيره وشره ولا يصح له الإيمان إلا به: (188-189) ، وفي: (205) ، وابن منده في الإيمان: (1/117-150) ، وقد كرره من طرق متعددة، وورد الحديث بدون ذكر قصة يحيى بن يعمر في صحيح البخاري في كتاب الإيمان – باب سؤال جبريل للنبي – عليهما الصلاة والسلام – عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة: (1/114) ، وفي كتاب التفسير – سورة لقمان –: (8/513) بشرح ابن حجر فيهما، ومن رواية أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – وهو كذلك في مسند الإمام أحمد: (4/426) ، ورواه النسائي في كتاب الإيمان – باب نعت الإسلام – وباب صفة الإيمان والإسلام: (8/88-91) عن عمر وأبي هريرة – رضي الله تعالى عنهما – وكذلك رواه عنهما ابن ماجه في المقدمة – باب في الإيمان –: (1/24-25) , وكرر بعض حديث أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – في كتاب الفتن – باب أشراط الساعة –: (2/342) ، وانظره من رواية عمر كتاب السنة لابن أبي عاصم: (1/55-58) ، ومن رواية جرير بن عبد الله في كتاب الشريعة للآجري: (189) ، ومن رواية ابن عباس في المسند والبزار، ومن رواية ابن عامر أو أبي عامر أو أبي مالك في المسند أيضاً، ومن رواية أنس عند البزار – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – كما في مجمع الزوائد: (1/38-40) .(4/13)
.. وقد تكرر ذلك السؤال عن ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما – ففي معجم الطبراني الكبير أن رجلا ً أتى ابن عمر فقال: يا أبا عبد الرحمن، إنا نسافر فنلقى أقواماً يقولون: لا قدر، قال: فإذا لقيتم أولئك فأخبروهم أن ابن عمر برئ منهم، كنا عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذ أتاه رجل حسن الوجه طيب الريح، نقي الثوب، فقال: السلام عليك يا رسول الله، أأدنو منك؟ قال: "ادنه، فدنا دنوة قالوا ذلك مراراً، حتى اصطكت ركبتاه ركبتي النبي – صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، ما الإسلام؟ قال: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة وحج البيت، وصيام رمضان، والغسل من الجنابة، قال: فإذا فعلت ذلك فأنا مسلم؟ قال: نعم، قال: صدقت، فما الإيمان؟، قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والجنة والنار، والقدر خيره وشره، حلوه ومره من الله، قال: إذا فعلت فأنا مؤمن؟ قال: نعم، قال: صدقت، فما الإحسان: قال: تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، قال: فإذا فعلت ذلك فأنا محسن، قال: نعم، قال: صدقت، قلنا ما رأينا رجلاً أطيب ريحاً، ولا أشد توقيراً للنبي – صلى الله عليه وسلم – وقوله للنبي – صلى الله عليه وسلم – صدقت، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم – عليّ بالرجل، فقمنا وقمتُ أنا إلى طريق من طرق المدينة، فلم نر شيئاً، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – هل تدرون من هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا جبريل يعلمكم مناسك دينكم، ما جاءني في صورة قط إلا عرفته إلا في هذه الصورة (1)
__________
(1) - ورجال السند موثقون كما في مجمع الزوائد: (1/40-41) ، والجمع بين هذا الحديث وما قبله أن ابن عمر حضر مع أبيه – رضي الله تعالى عنهما – سؤال جبريل للنبي – عليهما الصلاة والسلام – فروى الحديث تارة عن نفسه كما في معجم الطبراني، ورواه تارة عن والده كما في الروايات الأخرى، وفعل ذلك مع حضوره بنفسه، لأن والده عمر تغيب عن المجلس بعد تفرق الصحابة الكرام – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – في طلب الرجل، فلم يحضر عمر قول النبي – صلى الله عليه وسلم –: "إنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم" كما دل على هذا قوله: "فلبثتُ ملياً" وفي رواية النسائي والترمذي: "فلبثت ثلاثاً" وورد في رواية أبي عوانة: "فلقيني رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بعد ثلاث" وفي رواية ابن حبان: "بعد ثالثة" وعند ابن منده: "بعد ثلاثة أيام" كما في الفتح: (1/125) ، فأخبر عمر بذلك ولده عبد الله فروى ابن عمر الحديث عن والده مع حضوره بنفسه لتلك النكتة. ولم أر من أشار إلى ذلك، والله تعالى أعلم.(4/14)
".
... وتكررت مرة أخرى معه أيضاً، وأعلن براءته ممن أظهر القول بالقدر، عندما بلغه ذلك عن بعض أصحابه، ففي المسند وسنن الترمذي بسند صحيح عن نافع قال: بينما نحن عند عبد الله بن عمر – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – قعوداً إذ جاء رجل، فقال: إن فلاناً يقرأ عليك السلام، لرجل من أهل الشام، فقال عبد الله: بلغني أنه أحدث حدثاً، فإن كان كذلك فلا تقرأن عليه مني السلام، سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: "إنه سيكون في أمتي مسخ وقذف، وهو في الذندقية والقدرية".(4/15)
وفي رواية المستدرك وسنن أبي داود بسند صحيح: عن نافع قال: كان لابن عمر –رضي الله تعالى عنهم أجمعين – صديق من أهل الشام يكاتبه، فكتب إليه عبد الله بن عمر: إنه بلغني أنك تكلمت في شيء من القدر، فإياك أن تكتب إليّ، فإني سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: "إنه سيكون في أمتي أقوام يكذبون بالقدر (1)
__________
(1) - انظر الرواية الأولى في المسند: (2/137،108) ، وسنن الترمذي – كتاب القدر – باب 16: (6/324) ، وهو في سنن ابن ماجه – كتاب الفتن – باب الخسوف: (2/1350) ، وشرح السنة كتاب الإيمان – باب وعيد القدرية: (1/151) ، والحديث قال عنه الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب، وقال الشيخ شاكر في تعليقه على المسند: (9/97) 6208، إسناده صحيح وأورده الإمام الهيثمي في المجمع: (7/203) وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح، وانتقد الشيخ شاكر صنيع الإمام الهيثمي في إيراده الحديث في الزوائد لوروده في سنن الترمذي وابن ماجه والانتقاد في محله والحديث رواه الإمام أحمد في المسند: (2/108) ، والترمذي في المكان المتقدم مقتصرين على القسم المرفوع من الحديث، وانظر الرواية الثانية في المستدرك – كتاب الإيمان: (1/84) ، وسنن أبي داود – كتاب السنة – باب لزوم السنة: (5/20) وهو في المسند: (2/90) ، والحديث قال عنه الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وأقره الذهبي، وحكم الشيخ شاكر في تعليقه على المسند: (8/43) 5639 بأن إسناده صحيح.
فائدة: قال الإمام ابن القيم – رحمه الله تعالى – في إغاثة اللهفان: (1/345) : المسخ على صورة القردة والخنازير، واقع في هذه الأمة ولابد، وهي في طائفتين:
1- علماء السوء الكاذبين على الله ورسوله – صلى الله عليه وسلم –، والذين قلبوا دين الله – جل وعلا – وشرعه، فقلب الله – تبارك وتعالى – صورهم، كما قلبوا دين الله.
2- المجاهرين المتهكمين بالفسق والمحارم، ومن لم يمسخ منهم في الدنيا، مسخ في قبره أو يوم القيامة 10هـ.(4/16)
".
حكم القدرية الغلاة:
... قال الإمام النووي – رحمه اله تعالى – هذا الذي قاله ابن عمر – رضي الله تعالى عنهما – ظاهر في تكفيره القدرية، قال القاضي عياض – رحمه الله تعالى – هذا في القدرية الأول الذين نفوا تقدم علم الله – تبارك وتعالى – بالكائنات والقائل بهذا كافر بلا خلاف، وهؤلاء الذين ينكرون القدر هم الفلاسفة في الحقيقة، قال غيره: ويجوز أنه لم يرد بهذا الكلام التكفير المخرج من الملة، فيكون من قبيل كفران النعم، إلا أن قوله: "ما قبله الله منه" ظاهر في التكفير، فإن إحباط الأعمال إنما يكون بالكفر إلا أنه يجوز أن يقال في المسلم: لا يقبل عمله لمعصيته، وإن كان صحيحاً (1) .
... قال عبد الرحيم – غفر الله له ذنوبه أجمعين –: ما استظهره الإمام النووي أولا ً من دلالة فتوى ابن عمر – رضي الله تعالى عنهما – على كفر القدرية الغلاة، وأيده بما نقله عن القاضي عياض هو الحق في هذا الباب، وبه قال السلف أولو الألباب، فقد نقل الإمام ابن تيمية عن الأئمة المرضية مالك، والشافعي، وأحمد ذوي المراتب العلية – عليهم جميعاً رحمة رب البرية – أن من جحد علم الله السابق، وقال إن الله لا يعلم أفعال العباد حتى يعملوها، فقد كفر وحكى الإمام ابن القيم في شفاء العليل اتفاق السلف على تكفير غلاة القدرية ومتقدميهم (2) .
__________
(1) - انظر شرح الإمام النووي لصحيح مسلم: (1/156) .
(2) - انظر مجموع الفتاوى: (7/385، 8/66، 430 -450) ، ودرء تعارض العقل والنقل: (9/402) ، وشفاء العليل: (28، 186) .(4/17)
.. وقد ذكر الإمام السخاوي – عليه رحمة الملك الباري – أن من البدع التي لا شك في تكفير قائلها: إنكار علم الله بالمعدوم، والقول بأن الله – جل وعلا – لا يعلم الأشياء حتى يخلقها، أو إنكار علمه – جل جلاله – بالجزئيات (1) .
أصل مقالة تلك الفرقة الزائغة، وأبرز مجرميها:
... لم تحدث تلك المقالة النكراء في شريعة الله الغراء، بسبب اجتهاد خاطئ من قبل أصحابها إنماتم ذلك من عدو ماكر حاقد على الإسلام والمسلمين، قصداً للتلاعب بهذا الدين القويم – ضل سعيهم اللعين –.
... فأول من افترى ذلك الإثم المبين رجل خبيث من النصارى المجرمين وهو سوسن اللعين، ثم تبناه زائغان من المسلمين روى الآجري عن الأوزاعي – عليهما رحمة الله تعالى – أنه قال: أول من نطق في القدر: رجل من أهل العراق، يقال له: سَوْسَن، وكان نصرانياً فأسلم، ثم تنصر فأخذ عنه مَعْبَد الجُهني، وأخذ غَيْلان عن مَعْبَد (2) .
... أما "سَوْسَن" الخبيث فلم أقف على نهاية أمره فيما وقفت عليه من كتب أئمتنا الكرام، ولعله لحق بديار قومه المشركين، كما رجع إلى دينهم المعوج السقيم، وهذا ديدن أكثر رؤوس الضلالات يشيعونها ويحملون غيرهم تبعتها، ليبوء بإثمها وعقوبتها.
__________
(1) - انظر فتح المغيث: (1/309) ، ونحوه في منهج ذوي النظر: (106) ، وتدريب الراوي: (216) والفتح المبين لشرح الأربعين: (73) ، وسنن البيهقي – كتاب الشهادات – باب ما ترد به شهادات أهل الأهواء: (10/203) ، ومناقب الشافعي للبيهقي: (1/468) .
(2) - انظر كتاب الشريعة: (243) ، ومثله في البداية والنهاية: (9/34) وتهذيب التهذيب: (10/226) ، وما جاء في مجموع الفتاوى: (7/384) من تسميته بسيسويه فهو تصحيف في الطباعة.(4/18)
.. وأما "معبد الجهني" الذي تلقى تلك الضلالة عن "سوسن النصراني" فقد حذر منه السلف الكرام، وضللوه وحكموا عليه بالإجرام، ثم حل به بأس ذي العزة والانتقام، فشيخ الإِسلام في زمن التابعين الحسن البصري – عليه رحمة رب العالمين – كان ينهي عم مجالسة معبد، ويقول: لا تجالسوه، فإنه ضال مضل (1) ، وقال طاوس – عليه رحمة الله تعالى –: أخروا معبداً الجهني، فإنه كان قدرياً يتكلم في القدر، ورآه مرة في الطواف فقال له: أنت المفتري على الله، القائل ما لا تعلم؟ فقال معبد: إنه يكذب عليّ، ودخل طاوس على ابن عباس – رضي الله تعالى عنهم – وسأله عن الذين يقولون في القدر، فقال ابن عباس: رضي الله تعالى عنهما –: أروني بعضهم، فقال الحاضرون: صانع ماذا؟ قال: إذاً أضع يدي في رأسه فأدق عنقه (2) ، وقد قال عمرو بن العاص – رضي الله تعالى عنه – لمعبد الجهني لما اجتمع به: يا تيس جهينة ما أنت من أهل السر ولا العلانية، وإنه لا ينفعك الحق، ولا يضرك الباطل، وعقب الإمام ابن كثير رحمه الله الجليل – على ذلك بقوله: ولهذا كان هو أول من تكلم في القدر، ويقال: إنه أخذ ذلك عن رجل من النصارى من أهل العراق يقال له سوسن 10هـ ونقل ابن حجر عن مسلم بن يسار- رحمهم الله جميعاً – أنه كان يقول: إن معبداً يقول بقول النصارى (3) .
__________
(1) - انظره في كتاب الشريعة: (243) ، وميزان الاعتدال: (4/141) ، والبداية والنهاية: (9/34) وتهذيب التهذيب: (10/226) ، وفيه جاء مثل ذلك عن الحسن من وجوه كثيرة.
(2) - انظر ذلك في كتاب الشريعة: (124، 241) ، ونحوه في تهذيب التهذيب: (10/226) .
(3) - انظر الخبر الأول في البداية والنهاية: (9/34) ، والثاني في تهذيب التهذيب: (10/226) ، وانظر ابتداعه لتلك الضلالة وعدم موافقة أحد له من أصحاب الهداية في طبقات ابن سعد: (7/264) عن عبد الله بن عون.(4/19)
وقد روى ابن منده عن يحيى بن يعمر – رحمهم الله تعالى جميعاً – ما يدل على أن بداية معبد الجهني كانت منحرفة حيث ذكر عنه أنه كان فيه زهو، وكان يتوثب على جيرانه، ثم قرأ القرآن، وفرض الفرائض وقص على الناس، ثم إنه صار من أمره أن العمل أنف، من شاء عمل خيراً، ومن شاء عمل شراً (1) .
... وكانت عاقبة أمره خسراً، إذ ذاق وبال أمره فقتل سنة ثمانين على الراجح في عهد خلافة عبد الملك بن مروان، والذي تولى قتله الحجاج بن يوسف الثقفي – فعاقبه عقوبة عظيمة ثم قتله لخروجه على الخلافة وقيل: إن عبد الملك بن مروان هو الذي صلبه ثم قتله لتكلمه في القدر، قال الإمام ابن كثير – عليه رحمة الرب القدير – وقيل: إن الأقرب قتل عبد الملك له 1هـ والذي يظهر للعبد الضعيف: أن الحجاج هو الذي تولى قتله بطلب من عبد الملك بن مروان لإفساده أذهان الناس بما استحدثه من القول في القدر، ووافق ذلك خروج معبد على الخلافة، فقتله الحجاج بعد أن نكل به (2) .
... وبعد مقتل معبد الجهني آل ذلك المذهب الردي إلى غَيْلان الدمشقي الذي كان تلميذاً لمعبد الغوي، وقد حذر السلف الصالح من غَيْلان، وكانت عاقبة أمره إلى الخسران، قال مكحول: حسب غيلان الله، لقد ترك هذه الأمة في مثل لجج البحار، وقال له: ويحك يا غيلان، لا تموت إلا مفتوناً (3) .
__________
(1) - انظر ذلك في كتاب الإيمان: (1/143) .
(2) - انظر إيضاح ذلك في البداية والنهاية: (9/34) ، وتهذيب التهذيب (10/226) .
(3) - انظر ذينك الخبرين في الشريعة: (242) ، ونحوه في تهذيب التهذيب: (4/424) ولسان الميزان: (4/424) .(4/20)
.. وقد أظهر غيلان مذهبه في زمن الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز – رحمه الله تعالى – ورضي عنه (1) – فاستدعاه عمر فأظهر غَيْلان الرجوع، وقال لعمر: قد كنت أعمى فبصرتني، وأصم فأسمعتني، وضالاً فهديتني، أشهدك يا أمير المؤمنين أني تائب مما كنت أقول، فقال عمر: اللهم إن كان عبدك غيلان صادقاً فثبته، وإن كان كاذباً فاجعله آية للمؤمنين.
__________
(1) - وكانت خلافته لعشر مضين من شهر صفر الخير سنة تسع وتسعين هجرية، حتى توفي لخمس بقين من رجب سنة إحدى ومائة، انظر ترجمته العطرة في البداية والنهاية: (9/192-219) ، وانظر أخباره في كتاب الخليفة الزاهد للشيخ عبد العزيز سيد الأهل.(4/21)
.. لكن غيلان كان كاذباً فما أقر به على نفسه من الرجوع عن ذلك المذهب الردي والتوبة إلى ربه القاهر القوي – "وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ (1) " فأظهر في زمن الخليفة هشام بن عبد الملك (2) الكلام في القدر، فناظره شيخ المسلمين الأوزاعي – عليه رحمة الملك الباقي – وأفتى بقتله إن لم يرجع عن زيغه، فأصر على سوء اعتقاده، فأخذه هشام بن عبد الملك فقطع لسانه ثم قتله وصلبه، وبذلك تحققت دعوة الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز – رضي الله تعالى عنه – قال الساجي: كان غيلان قدرياً، دعا عليه عمر بن عبد العزيز فقتل وصلب، وكان غير ثقة ولا مأمون، وكان مالك ينهى عن مجالسته، وقال الآجري: كان غيلان مصراً على الكفر بقوله في القدر، فإذا حضر عند عمر بن عبد العزيز نافق، وأنكر أن يقول بالقدر، فدعا عليه عمر بأن يجعله الله – عز وجل – آية للمؤمنين إن كان كذاباً، فأجاب الله – عز وجل – فيه دعوة عمر، فتكلم غيلان في وقت هشام، فقتله وصلبه، وقبل ذلك قطع يده ولسانه.
__________
(1) - كما قال ربنا – جل وعلا – في سورة فاطر، آية: (43) .
(2) - وكانت بداية خلافته سنة خمس ومائة: وليس بينه وبين عمر بن عبد العزيز إلا خلافة أخيه يزيد ابن عبد الملك، كما في البداية والنهاية: (9/233) .(4/22)
.. وقد حسَّن أئمة الإسلام ما فعله الخليفة هشام، بالضال غيلان، فكتب رجاء بن حَيْوَة (1) إلى هشان يقول له: بلغني – يا أمير المؤمنين – أنه وقع في نفسك شيء من قتل غيلان، فوالله لقتله أفضل من قتل ألفين من الروم، وقال عبادة بن نُسَيّ (2) لما بلغه قتل غيلان: أصاب أمير المؤمنين السنة والقضية، ولأكتبن إلى أمير المؤمنين، فلأحسنن له ما صنع، وقد قرر الإمام ابن تيمية أن قتل غيلان موافق للأدلة الشرعية، فقال – عليه رحمة رب البرية –: والمسلمون أقاموا الحجة على غيلان وناظروه، وبينوا له الحق، كما فعل عمر بن عبد العزيز – رضي الله تعالى عنه – واستتابه، ثم نكث بعد التوبة فقتلوه (3) .
وبمقتل غيلان انتهى مذهب القدرية الغلاة (4) ، وآل ذلك المذهب إلى المعتزلة الغواة، فنحتوا المذهب بعض النحت، وهذبوه نوعاً ما، وهم القدرية المعتزلة، وإليك تفصيل أمرهم.
ب- القسم الثاني قدرية معتزلة:
__________
(1) - وهو شيخ أهل الشام، ثقة فقيه كما في تذكرة الحفاظ: (1/118) ، وتهذيب التهذيب: (1/248.)
(2) - وهو شيخ أهل الشام، ثقة فاضل، قال مسلمة بن عبد الملك الأمير: بعبادة بن نُسَيّ، ورجاء بن حَيْوَة وعدي بن عدي ننصر على الأعداء، وينزل الله الغيث من المساء – رحمهم الله جميعاً – كما في تهذيب التهذيب: (5/114) .
(3) - انظر درء تعارض العقل والنقل: (7/173) ، وانظر تفصيل ما تقدم في كتاب الشريعة: (228-229، 232) ، ولسان الميزان: (4/424) ، والمعارف: (212) ،وإياك والإصغاء لما جاء في كتاب طبقات المعتزلة السفهاء: لعبد الجبار صاحب البدع والأهواء: (229-233) من مجازفة في الثناء، على غيلان وغيره من الأشقياء.
(4) - قال الإمام ابن حجر في الفتح: (1/119) ، قال القرطبي وغيره: قد انقرض هذا المذهب ولا نعرف أحداً ينسب إليه من المتأخرين 10هـ ونحوه في شرح الإمام النووي: (1/154) .(4/23)
يتلخص قول هذه الفرقة الضالة في القدر: أن الله – جل وعلا – عالم بأفعال العباد قبل وقوعها – وهذا خلاف قول القدرية الغلاة –، وهو قول أهل الحق الهداة، لكن القدرية المعتزلة أُركسوا في الضلال المبين، ومخالفة السلف الصالحين، فقالوا: إن أفعال المكلفين، مقدورة لهم وواقعة على جهة الاستقلال، والله قدر الخير وأراده، ولم يقدر الشر ولم يرده، وهذا المذهب مع كونه مذهباً باطلاً في الدين أخف من مذهب الغلاة المتقدمين، ويرد على هذا المذهب باختصار بما قاله الإمام الشافعي شيخ الأخيار – عليهم جميعاً رحمة العزيز الغفار – ناظروا القدرية بالعلم فإن أقروا به خصموا، وأن أنكروه كفروا، يعني يقال للقدري: أيجوز أن يقع في الوجود خلاف ما تضمنه العلم، فإن منع وافق قول أهل السنة، وإن أجاز لزمه نسبة الجهل إلى الله وهو كفر – تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً – (1) .
وقد ناظر أئمة السنة الكرام، أكابر المعتزلة اللئام، وفندوا ما تعلقوا به من أوهام، وإليك بعض تلك المناظرات المحكمة الحسان:
__________
(1) - انظر إيضاح ذلك في فتح الباري: (1/119) ، وشرح الإمام النووي: (1/154) ، ومجموع الفتاوى: (23/349) .(4/24)
.. اجتمع الإمام أبو إسحاق الإسفراييني (1) من أئمة أهل السنة – عليه رحمة الله تعالى – مع القاضي عبد الجبار المعتزلي (2) .
__________
(1) - نسبة إلى إسفرايين بليدة بنواحي نيسابور إليها ينسب أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الإمام المشهور المتوفى سنة ثمان عشرة وأربعمائة، كما في اللباب: (1/55) ، وطبقات الشافعية الكبرى: (4/256-262) والبداية والنهاية: (12/24) ، وشذرات الذهب: (3/209) ، وتبيين كذب المفتري: (243-244) .
(2) - وهو من غلاة المعتزلة كما في الميزان: (2/533) ، وهو الذي تلقبه المعتزلة قاضي القضاة، ولا يطلقون هذا اللقب على سواه، ولا يعنون به عند الإطلاق غيره، وهو إمام الاعتزال في زمانه كما في طبقات الشافعية: (5/97) ، قال ابن العماد في الشذرات: (4/202) عمر دهراً في غير السنة وتوفي سنة خمس عشرة وأربعمائة وانظر ترجمته في طبقات المفسرين للسيوطي: (59) ،وطبقات المفسرين للداودي: (1/262) ، ولسان الميزان: (3/386) ، وتاريخ بغداد: (11/113) .(4/25)
فقال المعتزلي: سبحان من تنزه عن الفحشاء، ومراده بذلك أن المعاصي كالسرقة والزنا بمشيئة العبد، دون مشيئة الرب – جل وعلا – لأن الله أعلا وأجل من أن يشاء القبائح في زعم المعتزلة، فقال الإمام أبو إسحاق: كلمة حق أريد بها باطل، ثم قال: سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء، فقال عبد الجبار: أفيريد ربنا أن يعصى؟ فقال أبو إسحاق: أفيعصى ربنا مكرهاً، فقال عبد الجبار: أتراه يخلقه فيّ، ويعاقبني عليه؟ فقال أبو إسحاق: أتراك تفعله جبراً عليه؟ أأنت الرب وهو العبد؟ فقال عبد الجبار، أرأيت إن دعاني إلى الهدى، وقضى عليّ بالردى، أتراه أحسن إليّ أم أساء؟ فقال أبو إسحاق: إن كان الذي منعك منه ملكاً لك فقد أساء، وإن كان له فأعطاك ففضل، وإن منعك فعدل، وهو الذي يفعل ما يشاء، فبهت عبد الجبار، وقال الحاضرون: ما لهذا جواب (1) .
__________
(1) - انظر تلك المناظرة في طبقات الشافعية الكبرى: (4/261-262، 5/98) ، ودفع إيهام الاضطراب عن آي الكتاب: (286) ، ومجموع الفتاوى الكبرى: (18/140) ، وتحفة المريد: (1/60) ، وفتح الباري: (13/451) .(4/26)
وقد وقعت قصة لأعرابي مع إمام المعتزلة الغوي، خصمه بها الأعرابي، ودحض مذهبه الردي وحاصل تلك الحادثة: أنه جاء أعرابي إلى عمرو بن عبيد وقال له: ادع الله لي أن يرد عليَّ حمارتي فقد سرقت مني، فقال عمرو بن عبيد، اللهم إن حمارته قد سرقت ولم ترد سرقتها فارددها عليه، فقال الأعرابي: يا شيخ السوء كف عن دعائك الخبيث، إن كانت سرقت ولم يرد سرقتها، فقد يريد ردها ولا ترد، وفي كتاب الشريعة للآجري، قال أبو الفضل العباس بن يوسف الشِّكْلِي، قال بعض العلماء مسألة يقطع بها القدري، يقال له: أخبرنا أراد الله – عز وجل – من العباد أن يؤمنوا فلم يقدر أو قدر ولم يرده؟ فإن قال: قدر فلم يرد، قيل له: فمن يهدي من لم يرد الله هدايته؟ فإن قال: أراد فلم يقدر، قيل له: لا يشك جميع الخلق أنك كفرت يا عدو الله (1) .
أشنع ضلالات القدرية المعتزلة، وأركان نحلتهم الباطلة:
ضم المعتزلة إلى ضلالهم في قدر الله ومشيئته ضلالات أخرى، قام على مجموعها مذهب الاعتزال عرفت بأصول المعتزلة، وها هي مفصلة:
__________
(1) - انظر الشريعة: (244) ، والشِّكْلِي: بكسر الشين المعجمة، وسكون الكاف، وفي آخرها اللام هذه النسبة إلى شِكْل، وينسب إليها أبو الفضل العباس بن يوسف الشِّكْلِي، كان روعاً ناسكاً – عليه رحمة الله تعالى – كما في اللباب: (2/205) .(4/27)
1- العدل: وإليه ينسبون أنفسهم فيقولون: الطائفة العدلية، قال شيخ الإسلام ابن تيمية – عليه رحمة رب البرية – ومضمون عدلهم: أن الله – جل وعلا – لم يشأ جميع الكائنات ولا خلقها كلها، ولا هو قادر عليها كلها، بل عندهم أن أفعال العباد لم يخلقها الله لا خيرها ولا شرها، ولم يرد إلا ما أكمر به شرعاً، وما سوى ذلك فإنه يكون بغير مشيئة 10هـ وفي شرح الطحاوية: أما العدل فستروا تحته نفي القدر، وقالوا: إن الله لا يخلق الشر ولا يقضي به، إذ لو خلقه ثم يعذبهم يكون ذلك جوراً، والله عادل لا يجور، ويلزم على هذا الأصل الفاسد أن الله – تبارك وتعالى – يكون في ملكه ما لا يريده، فيريد الشيء ولا يكون ولازمه وصفه بالعجز – تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً (1) – ولله در قاضي القضاء عبد الرحمن العلامي – عليه رحمة الله تعالى – إذ أنشد:
قالوا يريدُ ولا يكون مراده ... عَدَلوا ولكن عن طريق المعرفة (2) .
__________
(1) - انظر مجموع الفتاوى: (13/357-386) ، وهو ضمن دقائق التفسير أيضاً: (1/34، 70) وشرح الطحاوية: (474) ، والتنبيه والرد: (37) .
(2) - كما في البحر المحيط: (4/386) ، وقاضي القضاة العلامي يعرف بابن بنت الأعز، وهو شيخ أبي حيان، وكان من أحسن القضاة سيرة توفي سنة خمس وتسعين وستمائة كما في طبقات الشافعية الكبرى: (8/172-175) ، وفيه ذكر محنة له، كاده بها الحساد، فوقاه من مكرهم رب العباد.(4/28)
قال عبد الرحيم – غفر الله له ذنوبه أجمعين –: سبب ضلال القدرية المعتزلة في إرادة الله ومشيئته: هو التسوية بين إرادة الله الشرعية، وإرادته الكونية القدرية، وذلك السبب هو سبب ضلال مقابلهم أيضاً وهم القدرية الجبرية، لكن اختلفت كيفية ضلال الفرقتين، في إرادة رب الكونين، فالقدرية المعتزلة ألغت إرادة الله الكونية، والقدرية الجبرية نفت إرادة الله الشرعية، وسوى كل من الفرقتين بين الإرادتين، فالجبرية ألغت اختيار العبد، ونفت عن المكلف الاختيار، وقالوا: هو كالريشة في مهاب الهواء، وهو مجبور على أفعاله، والقدرية أثبتت للعبد الاختيار والإرادة استقلالاً، وقالوا: لا دخل لمشيئة الله وإرادته في فعله، وليس لله – عز وجل – إلا الأمر والنهي، أما اختيار أحد الأمرين فواقع من قبل العبد واختياره، دون تعلق ذلك بإرادة الله ومشيئته، فالعبد هو الذي يخلق أفعال نفسه ويقدرها: وما يفعله من الكفر والفسوق والعصيان واقع بمشيئته لا بمشيئة الرحمن، وقد وصل الشطط بثمامة بن الأشرس المعتزلي، أنه امتنع عن إطلاق القول بأن الله خلق الكافر، لأن الكافر: كفر، وإنسان، والله لا يخلق الكفر (1) .
__________
(1) - انظر الملل والنحل: (1/110) ، وهلك ثمامة سنة ثلاثة وسبعين ومائة، قال الذهبي في الميزان: (1/371-372) من كبار المعتزلة، ومن رؤوس الضلالة 10هـ وفي تاريخ بغداد: (7/148) كان رجل في سفينة في البحر، فسمع هاتفاً يهتف، وهو يقول: لا إله إلا الله كذب المريسي على الله، ثم عاد الصوت فقال: لا إله إلا الله على ثمامة لعنة الله، وفي مجموع الفتاوى: (5/110) كان ثمامة بن أشرس يقول: ثلاثة من الأنبياء مشبهة: موسى وعيسى ومحمد عليهم صلوات الله تعالى وسلامه، وانظر بقية مخازيه في الفرق بين الفرق: (172-175) ، والفصل في الملل والأهواء والنحل: (8/148-149) ولسان الميزان: (2/83-84) .(4/29)
وقد هدى الله أهل السنة الكرام، للحق الذي دلت عليه آيات القرآن، وأحاديث النبي – صلى الله عليه وسلم – فقالوا: إن الله – جل وعلا – قدر الأشياء في الأزل، وشاءها، وأرادها خيرها وشرها، فلا يقع شيء إلا وفق إرادته ومشيئته، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وإرادة الله – جل وعلا – تنقسم إلى قسمين:
1- إرادة شرعية: ولا تكون إلا فيما يحبه الله ويرضاه، وهي مرادفة للأمر، ومستلزمة للرضا، وقد يوجد مقتضاها، وقد يتخلف، قال الله – عز وجل –: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} الذاريات56، وقال – جل وعلا –: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ} النساء64، وتخلف المراد لا ينتج عنه أي إشكال، لأن مرد ذلك إلى الإرادة الشرعية.
... وقد يوجد مقتضاها، وقد يتخلف، والواقع أنه قد تخلف في الأكثرية الغالبية، فالله – جل وعلا – أخبرنا في الآيتين الكريمتين أنه فعل كذا لنفعل نحن كذا، يوضح هذا ما ثبت في المسند والصحيحين عن أنس بن مالك – رضي الله تعالى عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: "يقول الله تبارك وتعالى – لأهون أهل النار عذاباً يوم القيامة: لو كانت لك الدنيا وما فيها أكنت مفتدياً بها؟ فيقول: نعم، فيقول: قد أردت منك أهون من هذا، وأنت في صلب آدم أن لا تشرك بي (أحسبه قال) ولا أدخلك النار، فأبيت إلا الشرك (1) ".
__________
(1) - انظر صحيح مسلم – كتاب صفات المنافقين – باب طلب الكافر الفداء بملء الأرض ذهباً: (4/2160) وصحيح البخاري – أول كتاب الأنبياء –: (6/363) ، وكتاب الرقاق – باب من نوقش الحساب عذب –: (11/400) ، وباب صفة الجنة والنار –: (11/416) بشرح ابن حجر في الجميع، والمسند: (3/127، 129، 218، 239) .(4/30)
2- إرادة كونية: وتكون فيما يحبه الله – جل وعلا – وفيما لا يحبه، وهي مرادفة للمشيئة العامة وتستلزم المحبة أو السخط، ولا يتخلف مقتضاها بحال، قال الله – عز وجل –: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاء اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} البقرة253.
... وقال – تبارك وتعالى –: {فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} الأنعام125.
... والعلاقة بين الإرادة الشرعية، والإرادة الكونية القدرية، منحصرة في أربع صور، هاك بيانها:
1. وجود الإرادتين واجتماعهما: كما هو الحال في إيمان المؤمنين، فالله – جل وعلا – قد أمرهم بالإيمان، وشاءه لهم.
2. انتفاء الإرادتين وعدم حصولهما، وذلك في كفر المؤمنين، فالله – تبارك وتعالى – لم يأمرهم به، بل نهاهم عنه، وما شاءه لهم.
3. ثبوت الإرادة الكونية، وانتفاء الإرادة الشرعية، مثل كفر الكافر، فالله – عز وجل – لم يأمره به، وهو واقع بمشيئته.(4/31)
4. وجود الإرادة الشرعية، وانتفاء الإرادة الكونية، عكس الصورة الثالثة، كحال إيمان الكافر فالله – جل وعلا – أراد منه الإيمان حيث أمره به لكنه لم يشأه له (1) .
__________
(1) - انظر تفصيل هذا وإيضاحه في مجموع الفتاوى: (8/186-190) ، وشفاء العليل: (280-282) ، وشرح الطحاوية: (59-60) ، وروح المعاني: (23/244) ، والإتحافات السنية: (66-69) ، وشرح الواسطية للشيخ الهراس: (45) ، وانظر أحكام القرآن لابن العربي: (3/1234) ، وفيه: وهذه الجملة: "ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن" من نفيس اعتقاد أهل السنة 0 وانظر الانتقاء في فضائل الأئمة الثلاثة الفقهاء: (80) ، والسنن الكبرى للبيهقي: (10/206) ، والاعتقاد له أيضاً: (72) ، والأسماء والصفات له أيضاً: (172) ، ومناقب الشافعي له أيضاً: (1/412) ، والبداية والنهاية: (10/254) ، وطبقات الشافعية الكبرى: (1/295) ، ففي كل ما تقدم شعر محكم عظيم للإمام الشافعي – عليه رحمة رب العالمين – قال ابن عبد البر في الانتقاء: وهو من شعره الذي لا يختلف فيه، وهو أصح شيء عنه، وهو من أثبت شيء في الإيمان بالقدر، وهذه هي الأبيات:
فما شِئْتَ كان وإنْ لم أشَأ ... وما شِئْتُ إن لم تشأ لم يكنْ
خَلقْتَ العباد على ما علِمْتَ ... في العلم يجري الفتى والمسن
ج
على ذا مَنَنْتَ وهذا خَذلْتَ ... وهذا أعَنْتَ وذا لم تُعِن
فمنهم شقي ومنهم سعيد ... ومنهم قبيح ومنهم حسن(4/32)
2- التوحيد: وتوحيدهم تلحيد، فهو توحيد الجهمية الذي مضمونه نفي الصفات عن رب البريات – جل وعلا – والقول بخلق القرآن، وعدم رؤية المؤمنين للرحمن في دار السلام (1) .
قال عبد الرحيم: ومن عجيب أمر الزائغين أنهم يسترون مذاهبهم المرذولة بألفاظ معسولة فهذا محمد بن تُوْمَرْت البربري نفى صفات رب العالمين، كحال إخوانه من المعتزلة الضالين، وخلع على أصحابه لقب "الموحدين (2) ".
3- المنزلة بين المنزلتين:
__________
(1) - انظر مجموع الفتاوى: (13/357-386) ، وشرح العقيدة الطحاوية: (474) ، ومن أجل ذلك قيل للمعتزلة: إنهم مخانيث الجهمية، ومن قال عنهم: إنهم مخانيث الفلاسفة، لأنه لم يعلم أن جهماً سبقهم إلى هذا الأصل، أو لأنهم مخانيثهم من بعض الوجوه، وانظر مجموع الفتاوى: (8/227، 6/359) ولأجل هذا الأصل والذي قبله من أصولهم الباطلة حكم الشيخ ابن تيمية على المعتزلة الردية بأنهم مشبهة في الأفعال، معطلة في الصفات، كما في مجموع الفتاوى: (8/125) .
(2) - توفي سنة أربع وعشرين وخمسمائة، وكان يدعي أنه معصوم، وهو بالإجماع مخصوم، ودخل في أمور منكرة كثيرة كما في منهاج السنة: (2/167) ، ومجموع الفتاوى: (13/386) ، وشذرات الذهب: (4/70-72) وفي مجموع الفتاوى: (8/493) يقول شيخ الإسلام: ومن العجب أن المعتزلة – يفتخرون بأنهم أهل "التوحيد" وهم في توحيدهم نفوا الصفات نفياً يستلزم التعطيل والإشراك.(4/33)
.. وبسبب قولهم بهذه الضلالة المخزية، سموا معتزلة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية – عليه رحمة رب البرية –: اختلف الناس في قديم الزمان في الفاسق الملي، وهو أول اختلاف حدث في الملة، هل هو كافر أو مؤمن؟ فقالت الخوارج: إنه كافر وقالت الجماعة – أهل السنة الكرام –: إنه مؤمن، وقالت طائفة: نقول هو فاسق، لا مؤمن ولا كافر، ننزله منزلة بين المنزلتين وخلدوه في النار، واعتزلوا حلقة الحسن البصري وأصحابه – عليهم رحمة الله تعالى – فسموا معتزلة 10هـ فالفاسق لا يسمى مؤمناً بوجه من الوجوه، كما لا يسمى كافراً، فنزلوه في منزلة بين منزلتين فمرتكب الكبيرة خرج من الإيمان، ولم يدخل في الكفر، هذا في أحكام الدنيا، أما في الآخرة فحكموا عليه بالخلود في النار، وقالوا: ما الناس إلا رجلان: سعيد لا يعذب، أو شقي لا ينعم، والشقي نوعان: كافر وفاسق (1) .
... قال عبد الرحيم: ما ابتدعه المعتزلة من القول بالمنزلة بين المنزلتين، لم يوافقهم عليه أحد من سائر طوائف المسلمين، وذلك القول منكر في الدين، وترده من جهات كثيرة أدلة الشرع الحكيم، وأبرز تلك الأدلة ثلاثة:
__________
(1) - انظر مجموع الفتاوى: (3/182-183، 7/484، 8/242، 257، 670، 13/386) ، وشرح الطحاوية: (474) والتنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع: (36-37) .(4/34)
أ- المكلفون في شرع الرحمن صنفان: كافر من أهل النيران، ومسلم من أهل الجنان، ولا واسطة بينهما في المكلفين من إنس وجان، فحكم المعتزلة على فاعل الكبيرة بعدم الكفر والإيمان قول مخترع من وساس الشيطان، والقول الحق في ذلك ما قرره أهل السنة الكرام، من أن فاعل الكبيرة لم يخرج عن الإسلام، وهو مؤمن بإيمانه، فاسق بعصيانه، ويصح نفي الإيمان عنه نظراً لانتفاء كماله الواجب، ويصح إطلاق الإيمان عليه نظراً إلى إقراره، كما يصح نفي الكفر عنه لانتفاء حقيقته، ويصح إطلاقه عليه نظراً لفعله فعل الكافرين، وبهذا القول تجتمع أدلة الشرع المبين، ويزول ما بينها من تعارض متوهم في أذهان الزائغين (1) .
__________
(1) - انظر تقرير هذا وتوضيحه في مجموع الفتاوى: (8/14-15، 241، 524) ، وفتح الباري: (1/46) وشرح الإمام النووي على صحيح مسلم: (1/146-147، 217-220) .(4/35)
ب- حكم المعتزلة على فاعل الكبيرة بالخلود في النار، مناقض للأدلة القطعية في شرع الله الواحد القهار، وأصرحها ما ثبت عن نبينا – صلى الله عليه وسلم –: "ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة" قال أبو ذر – رضي الله تعالى عنه – قلت: وإن زنى، وإن سرق، قال: "وإن زنى وإن سرق"، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال "وإن زنى وإن سرق "ثلاثاً"، ثم قال في الرابعة: "رغم أنف أبي ذر" فخرج أبو ذر وهو يقول: وأن رغم أنف أبي ذر (1) .
__________
(1) - هذا لفظ رواية الإمام مسلم في كتاب الإيمان – باب من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة، ومن مات مشركاً دخل النار –: (1/95) ، ورواه بمثله الإمام أحمد في مسنده: (5/166) ، وانظره في صحيح البخاري أول كتاب الجنائز: (3/110) ، وفي كتاب بدء الخلق – باب ذكر الملائكة –: (6/306) ، وفي كتاب الاستئذان – باب من أجاب بلبيك وسعديك: (11/61) ، وفي كتاب الرقاق – باب 14: (11/264) وفي كتاب التوحيد – باب 33 –: (13/461) ، وبنحوه أيضاً في كتاب الاستقراض – باب أداء الديون: (5/55) بشرح ابن حجر في جميع ما تقدم، وهو في المسند أيضاً: (5/152، 161) ، وسنن الترمذي آخر كتاب الإيمان –: (7/299) واستظهر ابن حجر – رحمه الله تعالى – في الفتح: (3/111، 6/311) أن القائل في جميع ما تقدم أبو ذر – رضي الله تعالى عنه – والمقول له هو النبي – صلى الله عليه وسلم – وقد ورد التصريح بذلك في رواية البخاري في كتاب الاستئذان المتقدمة، وكذلك في روايته في كتاب اللباس – باب الثياب البيض –: (10/283) بشرح ابن حجر، ووقع التصريح بكون القائل هو النبي – صلى الله عليه وسلم – والمقول له جبريل – عليه السلام – في صحيح البخاري – كتاب الرقاق – باب المكثرون هم المقلون: (11/261) بشرح ابن حجر، وفي صحيح مسلم أيضاً في كتاب الزكاة – باب الترغيب في الصدقة: (2/688) وفيه زيادة: "وإن شرب الخمر"، وللجمع بينهما يقال كما في الفتح: (3/111) يمكن أن يكون النبي – صلى الله عليه وسلم – قال مستوضحاً، وأبو ذر – رضي الله تعالى عنه – قاله مستبعداً 1هـ.(4/36)
قال الإمام النووي – عليه رحمة الله تعالى –: اعلم أن مذهب أهل السنة وما عليه أهل الحق من السلف والخلف: أن من مات موحداً دخل الجنة قطعاً على كل حال، فإن كان سالماً من المعاصي كالصغير، والمجنون، والذي اتصل جنونه بالبلوغ، والتائب توبة صحيحة من الشرك أو غيره من المعاصي إذا لم يحدث معصية بعد توبته، والموفق الذي لم يبتل بمعصية أصلاً، فكل هذا الصنف يدخلون الجنة ولا يدخلون النار أصلاً، وأما من كانت له معصية كبيرة ومات من غير توبة، فهو في مشيئة الله تعالى، فإن شاء عفا عنه، وأدخله الجنة أولاً وجعله كالقسم الأول، وإن شاء عذبه القدر الذي يريده – سبحانه وتعالى – ثم يدخله الجنة، فلا يخلد في النار أحد مات على التوحيد، ولو عمل من المعاصي ما عمل كما أنه لا يدخل الجنة أحد مات على الكفر ولو عمل من أعمال البر ما عمل، هذا مختصر لمذهب أهل الحق في هذه المسألة وقد تظاهرت أدلة الكتاب والسنة وإجماع من يعتد به من الأئمة على هذه القاعدة، وتواترت بذلك نصوص تحصل العلم القطعي، ثم قال عقب الحديث المتقدم: وأما قوله – صلى الله عليه وسلم –: "وإن زنى وإن سرق" فهو حجة لمذهب أهل السنة أن أصحاب الكبائر لا يقطع لهم بالنار، وأنهم إن دخلوها أخرجوا منها، وختم لهم بالخلود في الجنة 10هـ.
ونحوه في فتح الباري، وعبارة الحافظ: وفي الحديث: أن أصحاب الكبائر لا يخلدون في النار وأن الكبائر لا تسلب اسم الإيمان (1) .
__________
(1) - انظر شرح النووي على صحيح مسلم: (1/217، 2/97) ، وفتح الباري:: (3/111) ، وفيه والحكمة في الاقتصار على الزنا والسرقة الإشارة إلى جنس حق الله، وحق العباد.(4/37)
ج- لا يستقيم في كرم الرحيم الرحمن ضياع أجر أصل الإيمان، وجميع طاعات الرحمن، بمعصية يقع فيها الإنسان، قال شيخ الإسلام – عليه رحمة ذي الجلال والإكرام –: إن الله – جل وعلا –لم يجعل شيئاً يحبط جميع الحسنات إلا الكفر، كما أنه لم يجعل شيئاً يحبط جميع السيئات إلا التوبة والمعتزلة مع الخوارج يجعلون الكبائر محبطة لجميع الحسنات حتى الإيمان (ويرد هذا القول صريح القرآن) قال الله – تبارك وتعالى –: {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} البقرة217، فعلق الحبوط بالموت على الكفر، وقد ثبت أن هذا – فاعل الكبيرة – ليس بكافر، والمعلق بشرط يعدم عند عدمه (1) .
4- إنفاذ الوعيد: ويقصد المعتزلة بذلك وجوب عقاب الله للعاصين، وتخليدهم في نار الجحيم، فلا تقبل فيهم شفاعة الشافعين، ولا يصح لله أن يغفر لهم في حين من الأحايين (2) .
__________
(1) - انظر مجموع الفتاوى: (8/492) ، ونحوه في الإحياء: (1/125) ، وانظر لزاماً حبوط بعض الأعمال لما يقع فيها من شوائب من قبل العمال في الوابل الصيب: (11-14) .
(2) - انظر إيضاح هذا في مجموع الفتاوى: (13/358، 387) ، وشرح الطحاوية: (474) ، والملل والنحل: (1/52) ، والفرق بين الفرق: (118-119) ، وفيه: إن واصلاً وعمراً وافقا الخوارج في تأبيد عقاب صاحب الكبيرة في النار، مع قولهما بأنه موحد، وليس بمشرك ولا كافر، ولهذا قيل للمعتزلة: إنهم مخانيث الخوارج، لأن الخوارج لما رأوا لأهل الذنوب الخلود في النار سموهم كفرة وحاربوهم، والمعتزلة رأت لهم الخلود في النار، ولم تجسر على تسميتهم كفرة، ولا جسرت على قتال أهل فرقة منهم، فضلاً عن قتال جمهور مخالفيهم 10هـ.(4/38)
.. قال عبد الرحيم – غفر الله له ذنوبه أجمعين – يدور هذا الأصل من أصول المعتزلة السفهاء على أمرين دل على بطلانهما شريعة رب الأرض والسماء، وهما:
أ) تخليد عصاة المؤمنين في نار الجحيم، وقد تقدم بطلان هذا بآي الذكر الحكيم، وأحاديث سيد ولد آدم أجمعين – عليه صلوات الله وسلامه –.
ب) وجوب عقوبة العصاة، وعدم جواز المغفرة لأصحاب السيئات، من المؤمنين والمؤمنات، ولو شفع لهم خير البريات – عليه أزكى السلام وأفضل الصلوات – أو أراد رحمتهم رب الأرض والسموات، وزعموا أنه لو لم تقع عقوبة المجرمين لحصل الخلف في وعيد رب العالمين، والله لا يخلف الميعاد، كما أخبر بذلك رب العباد: آل عمران: (9) .
... قال مقيد هذه الأسطر – ستره الله تعالى –: وهذا الأمر الثاني باطل أيضاً، لدلالة الأدلة الشرعية القطعية على أن جميع الوعيدات مشروطة بشرطين، وإذا انحزم أحدهما فلا تحصل تلك الوعيدات، وذانك الشرطان هما:(4/39)
1- عدم توبة المذنب وإنابته إلى ربه، فلو تاب لن يلتحق به العقاب كما قال الرحيم التواب: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً} النساء17، وروى ابن جرير وغيره عن قتادة – رحمهم الله جميعاً – قال: اجتمع أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فرأوا أن كل شيء عصى به فهو جهالة عمداً كان أو غيره وروى هو وغيره أيضاً عن الضحاك – رحمهم الله جميعاً قال: كل شيء قبل الموت فهو قريب (1) .
وقد دلت الأحاديث الصحيحة الثابتة عن نبينا – صلى الله عليه وسلم – أن توبة العبد صحيحة مقبولة ما لم يعاين أحوال الآخرة، وذلك في حالتين:
__________
(1) - انظر الأثرين في تفسير ابن جرير: (4/204) ، والأثر الأول رواه عبد الرزاق أيضاً وروى الثاني سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، والبهيقي في الشعب كما في الدر المنثور: (2/130) وقد ورد ذلك المعنى عن جم غفير من السلف بعبارات مختلفة فانظرها، وفي تفسير ابن كثير: (1/463) ، قال الألوسي في روح المعاني: (4/238) : المراد من الجهالة: الجهل والسفه وبارتكاب ما لا يليق بالعاقل، ولا عدم العلم، والجهل بهذا المعنى واردة في كلام العرب كقوله:
ألا لا يجهلنْ أحدٌ علينا ... فنَجْهَلَ فوق جَهْل الجاهلينا
وانظر كتاب الحسنة والسيئة للإمام ابن تيمية: (204-207) ضمن شذرات البلاتين.(4/40)
أ) بلوغ الروح الحلقوم، ومكابدة غم الغرغرة، كما قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر" وفي لفظ اجتمع أربعة من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: "إن الله – تبارك وتعالى – يقبل توبة العبد قبل أن يموت بيوم" فقال الثاني: آنت سمعت هذا من رسول الله – صلى الله عليه وسلم –؟ قال: نعم، قال: وأنا سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: "إن الله – تبارك وتعالى – يقبل توبة العبد قبل أن يموت بنصف يوم" فقال ثالث: آنت سمعت هذا من رسول الله – صلى الله عليه وسلم –؟ قال: نعم، قال: وأنا سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: "إن الله – تبارك وتعالى – يقبل توبة العبد قبل أن يموت بضحوة" فقال الرابع: آنت سمعت هذا من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: نعم، قال: وأنا سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: "إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر بنفسه (1)
__________
(1) - الرواية الأولى في سنن الترمذي – كتاب الدعوات – باب 103: (9/192) ، وقال: هذا حديث حسن غريب، ونقل المنذري في الترغيب والترهيب: (4/93) ، والذهبي في الميزان: (2/552) ، والعراقي في تخريج أحاديث الإحياء: (4/447) تحسين الترمذي ولم يعترضوا عليه وقد صححه الحافظ في الفتح: (11/353) ورواه الحاكم في المستدرك – كتاب التوبة والإنابة: (4/257) ،وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأقره الذهبي ورواه ابن حبان كما في موارد الظمآن – كتاب التوبة – باب إلى متى تقبل التوبة: (607) ورواه ابن ماجه في كتاب الزهد – باب ذكر التوبة –: (2/1420) ، ورواه أحمد في المسند: (2/132-153) وسنده صحيح كما في تعليق الشيخ شاكر: (9/19) 6460 ورواه البغوي في شرح السنة – كتاب الدعوات – باب التوبة: (5/91) ورواه أبو نعيم في الحلية: (5/190) ، ورواه البيهقي في شعب الإيمان كما في الدر: (2/131) كلهم من رواية ابن عمر – رضي الله تعالى عنهما – وما جاء في سنن ابن ماجه تسميته ابن عمرو فهو وهم كما في تفسير ابن كثير: (1/463) ، وتعليق الشيخ شاكر: (9/20) ، والرواية الثانية رواها الإمام أحمد في المسند: (3/425، 5/362) ورجاله رجال الصحيح غير عبد الرحمن البَيْلماني وهو ثقة كما في مجمع الزوائد: (10/197) ، ورواه الحاكم في كتاب التوبة والإنابة: (4/257) ، وسكت عليه هو والذهبي، وروى نحوه البيهقي في الشعب كما في الدر: (2/131) كلهم عن رجل من الصحابة – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – والحديث رواه الحاكم أيضاً في المكان المتقدم، وسكت عليه هو والذهبي، وأحمد في المسند: (2/206) وفيه راوٍ لم يسم وبقية رجاله ثقات كما في مجمع الزوائد: (10/197) ، والطيالسي كما في منحة المعبود: (2/78) ، وعزاه السيوطي في الجامع الكبير إلى ابن جرير، والخطيب في المتفق والمفترق، والبيهقي في شعب الإيمان كلهم من رواية عبد الله بن عمرو – رضي الله تعالى عنهما –، وألفاظ الروايات متقاربة، وهذا لفظ الحاكم: "من تاب قبل موته بعام تيب عليه، حتى قال: بشهر، حتى قال: بجمعة، حتى قال: بيوم، حتى قال: بساعة، حتى قال: بفواق" وهو الزمن اليسير، وأصل اللفظ في لغة العرب يطلق على ما بين الحلبتين، فإذا حلبت الناقة تترك وقتاً يسيراً حتى ينزل شيء من اللبن ثم تحلب فما بين الحلبتين يقال له فواق كما في تفسير غريب القرآن لابن قتيبة: (378) ، وزاد المسير: (7/107) ، والبحر المحيط: (7/387) والفواق بضم الفاء، وفتحها بمعنىً واحد وفي سورة ص: {وَمَا يَنظُرُ هَؤُلَاء إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ} 15 قرأ حمزة والكسائي وخلف بضم الفاء والباقون بفتحها في تقريب النشر: (167) ، وانظر حجة القراءات: (613) ، والحديث رواه الخطيب في تاريخ بغداد: (8/317) عن عبادة بن الصامت – رضي الله تعالى عنه – ورواه عنه أيضاً الطبري في تفسيره: (4/205) ، وفي سنده انقطاع كما في تعليق الشيخ الأرناؤوط على جامع الأصول: (2/513) ، والحديث رواه الحاكم في المكان المتقدم، وقال صحيح الإسناد وأقره الذهبي ورواه ابن حبان – في المكان المتقدم أيضاً – وأحمد في المسند: (5/174) ، والبزار كما في مجمع الزوائد: (10/198) ، والبخاري في التاريخ الكبير: (2/161) ، ونسبه السيوطي في الجامع الكبير: (1/186) إلى أبي يعلى، والضياء المقدسي، والبغوي في الجعديات كلهم عن أبي ذر – رضي الله تعالى عنه – ولفظ المسند: "إن الله يقبل توبة عبده، أو يغفر لعبده ما لم يقع الحجاب، قالوا: يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وما الحجاب؟ قال: أن تموت النفس وهي مشركة"، والحديث بالرواية الأولى رواه ابن مَرْدُوْيَهْ عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – كما في تفسير ابن كثير: (1/464) ، والبزار أيضاًكما في مجمع الزوائد: (10/98) وعنه رواه الديلمي أيضاً كما في الجامع الكبير: (1/176) لكن بمعناه دون لفظه، وبالرواية الأولى رواه الطبري في تفسيره: (4/205) مرسلاً عن الحسن البصري: وبشير بن كعب – رحمهم الله جميعاً – قال الإمام ابن كثير في تفسيره: (1/464) وهذا مرسل حَسَنٌ عن الحسن.(4/41)
".
ب- طلوع الشمس من مغربها، وذلك من أشرطة الساعة الكبرى، ودليل هذا ما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: "لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت من معربها آمن الناس كلهم أجمعون، فيومئذ لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً".
... وثبت في صحيح مسلم وغيره عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها، تاب الله عليه"، وفي صحيح مسلم وغيره أيضاً عن أبي موسى – رضي الله تعالى عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: "إن الله – عز وجل – يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها".(4/42)
.. وثبت في سنن أبي داود وغيره عن معاوية – رضي الله تعالى عنه – قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها"، وفي لفظ للإمام أحمد: "فإذا طلعت طبع على كل قلب بما فيه، وكفى الناس العمل (1)
__________
(1) - انظر الحديث الأول في صحيح البخاري – كتاب التفسير – سورة الأنعام – باب 9، 10: (8/297) وكتاب الرقاق – باب 40: (11/352) ، وفي كتاب الفتن – باب 25: (13/82) ، بشرح ابن حجر في الجميع، وانظره في صحيح مسلم – كتاب الإيمان – باب بيان الزمن الذي لا يقبل فيه إيمان: (1/137) ، وسنن أبي داود – كتاب الملاحم – باب أمارات الساعة: (4/492) ، وسنن ابن ماجه – كتاب الفتن – باب طلوع الشمس من مغربها –: (2/1352) ، ومسند الإمام أحمد: (2/231، 313، 350، 372، 398، 530) ، وتفسير ابن جرير: (8/71، 72، 73، 74، 75) ، ومعالم التنزيل: (2/204) ، وانظر الدر المنثور: (3/57) وتفسير ابن كثير: (2/193) لترى من خرجه غير ما تقدم، وانظر الحديث الثاني في صحيح مسلم – كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار – باب استحباب الاستغفار والإكثار منه: (4/2076) ، وفي المسند: (2/257، 395، 427، 495، 506-507) ،وفي تفسير ابن جرير: (8/73) ، ومعالم التنزيل: (2/204) وشرح السنة – كتاب الدعوات – باب التوبة –: (5/83) ، ورواه ابن حبان، وابن زَنْجُوْيَهْ كما في الجامع الكبير: (1/761) ، وعبد الرزاق في تفسيره كما في تعليق الشيخ شاكر على المسند: (14/19) ، والطبراني في الأوسط كما في مجمع الزوائد: (10/198) ، هذا وقد وقفت على كلام للإمامين المباركين ابن كثير والهيثمي فيه غرابة، وأردت التعليق عليه، فرأيت الشيخ شاكر سبقني إلى ذلك، وما سبقني إليه هو ما أردت تقييده، لذلك آثرت ذكر كلامه بعد وقوفي عليه، والحمد لله رب العالمين، قال في تعليقه على حديث 7697 وهو في المسند: (2/275) : إسناده صحيح، ورواه الطبري في التفسير، ونقله عنه ابن كثير: (2/193) ثم قال عقب روايته: "لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة"، وعليه في هذا استدراك، فإنه في صحيح مسلم بنحوه، فلا ينبغي في هذا أن يوصف بأنه لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة، وأغرب مما صنع ابن كثير صنيع الحافظ الهيثمي، فإنه ذكر في مجمع الزوائد باللفظ الذي في صحيح مسلم، ثم قال: رواه الطبراني في الأوسط 10هـ مختصراً وانظر الحديث الثالث في صحيح مسلم – كتاب التوبة – باب قبول التوبة من الذنوب –: (4/2112) ، وفي مسند الإمام أحمد: (4/395، 404) ومعالم التنزيل: (2/204) ، وشرح السنة – كتاب الدعوات – باب التوبة: (5/82) ، ورواه الدارقطني في الصفات كما في الجامع الكبير: (1/182) . وانظر الحديث الرابع في سنن أبي داود – كتاب الجهاد – باب في الهجرة هل انقطعت؟ (3/7-8) ، والمسند: (1/192، 4/99) ، والدارمي في كتاب السير – باب أن الهجرة لا تنقطع –: (2/240) ، والحديث رواه الطبراني وابن عساكر والبيهقي كما في الجامع الكبير: (1/908) ، والنسائي في السنن الكبرى كما في الفتح: (11/354) وسنده جيد، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: (5/251) : ورواه الطبراني في الأوسط والصغير، والبزار، ورجال أحمد ثقات 1هـ، وقد حكم الشيخ شاكر في تعليقه على المسند: (1671) على إسناد الإمام أحمد بالصحة، وانظر الكلام على انحصار المقصود من الهجرة، في الهرب والطلب، وأقسام كل وحكمه في بحث سديد رشيد في أحكام القرآن لابن العربي: (484-487) ، ونقل خلاصة ذلك القرطبي في تفسيره: (5/349-351) ، وانظر فتح الباري: (6/37-39) .(4/43)
".
... والحكمة في عدم قبول التوبة في ذلك الوقت أن طلوع الشمس من مغربها أول ابتداء قيام الساعة بتغير العالم العلوي، فإذا شوهد ذلك حصل الإيمان الضروري بالمعاينة، وارتفع الإيمان بالغيب، فهو كالإيمان عند الغرغرة، وهو لا ينفع، فالمشاهدة لطلوع الشمس من المغرب مثله، والآثار المتقدمة متفقة ودلالتها صريحة في إغلاق باب التوبة عند طلوع الشمس من المغرب، وعدم انفتاحه بعد ذلك؛لأن طلوع الشمس من مغربها أول الإنذار بقيام الساعة (1) .
__________
(1) - انظر إيضاح هذا وتقريره في فتح الباري: (11/354-355) ، وتفسير ابن جرير: (8/76) والتذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة: (826-827) ، والإشاعة لأشراط الساعة: (169) والإذاعة لما كان ويكون بين يدي الساعة: (169) .(4/44)
2- عدم مغفرة الله الجليل لعبده المخطيء الذليل: كما دلت على ذلك آي التنزيل، وقررته أحاديث البشير النذير – صلى الله عليه وسلم – قال الله – جل وعلا –: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً} النساء116 (1) ،
__________
(1) - من سورة النساء: (116) ، وفي سورة النساء أيضاً: (48) {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} ، وثبت في مسند أبي يعلى بسند رجاله رجال الصحيح غير حرب بن سريج وهو ثقة كما في مجمع الزوائد: (7/5) ، والبيهقي في الاعتقاد: (87-88) وابن أبي عاصم في السنة: (2/398، 471) ، ورواه أيضاً ابن الضريس، وابن المنذر، وابن عدي بسند صحيح كما في الدر: (2/169) ، والبزار بسند جيد كما في مجمع الزوائد أيضاً: (10/210) عن ابن عمر – رضي الله تعالى عنهما – قال: كنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر حتى سمعنا من نبينا – صلى الله عليه وسلم –: "إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ"، وقال: "إنني ادخرت دعوتي وشفاعتي لأهل الكبائر من أمتي" فأمسكنا عن كثير مما كان في أنفسنا، ثم نطقنا بعد ورجونا" والأثر مروي عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – أيضاً في معجم الطبراني الأوسط كما في مجمع الزوائد: (10/378) ، ولذلك كانت تلك الآية أرجى آية في القرآن المجيد، لأهل التوحيد روى ذلك الواحدي عن علي بن الحسين – رحمهم الله جميعاً – كما في الإتقان: (4/150) ، وفي سنن الترمذي – كتاب التفسير – سورة النساء –: (8/209) عن علي – رضي الله تعالى عنه – قال: ما في القرآن من آية أحب إليّ من هذه الآية: "إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ"، قال الترمذي هذا حديث حسن غريب، والأثر رواه الفِرْيابي أيضاًكما في الدر: (2/169) ،ونقل القرطبي في تفسيره: (5/246) ، والسيوطي في الدر والإتقان: (4/150) تحسين الترمذي للأثر وسكناً عليه، قال الشيخ الأرناؤوط في تعليقه على جامع الأصول: (2/92) : حسنه الترمذي مع أن فيه ثُوَيْراً، وهو ابن أبي فاخِتة وهو ضعيف كماقال الحافظ في التقريب 1هـ انظر التقريب: (1/121) وزاد: ورُمِىَ بالرفض 1هـ وانظر حاله في الميزان أيضاً: (1/375-376) ، والضعفاء والمتروكين للنسائي: (27) ، والتاريخ الكبير: (2/183-184) ، قال عبد الرحيم: ووجه كون تلك الآية أرجى آية في القرآن: أن الرحيم الرحمن أخبرنا أن ما عدا الشرك مردود أمره إلى المشيئة، فالعقاب عدل، والرحمة فضل، والفضل أليق بأفعال الرحمن، يضاف إلى هذا أن الآية فتحت باب الأمل على أهل الزلل، والكريم إذا أطمع حقق والله أعلم، وطلباً للفائدة في معرفة أرجى آية في القرآن الكريم، قف على ذلك المبحث العظيم في الإتقان: (4/148-153) ، والبرهان: (1/446-448) ، والجامع لأحكام القرآن: (12/208-209) وأضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن: (6/114) ، وتفسير ابن كثير: (1/511) .(4/45)
وثبت في الصحيحين وغيرهما عن عبادة بن الصامت – رضي الله تعالى عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم – قال – وحوله عصابة من أصحابه: "بايعوني على أن لا تشركوا شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن وفَّى منكم فأجره على الله ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً ثم ستره الله فهو إلى الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه" فبايعناه على ذلك (1) .
__________
(1) - انظر صحيح البخاري – كتاب الإيمان – باب 11: (1/64) ، وفي كتاب مناقب الأنصار – باب 43: (7/219) ، وفي كتاب التفسير – سورة الممتحنة – باب 3: (8/638) ، وفي كتاب الحدود – باب الحدود كفارة –: (12/84) ، وفي باب توبة السارق: (12/108) ، وفي كتاب الديات – باب 2: (12/192) وفي كتاب الأحكام – باب بيعة النساء –: (13/303) ، وفي كتاب التوحيد – باب في المشيئة والإرادة –: (13/446) بشرح ابن حجر في جميع ما تقدم، وانظره في صحيح مسلم – كتاب الحدود – باب الحدود كفارات لأهلها –: (3/1333) ، وفي سنن النسائي – كتاب البيعة – باب البيعة على الجهاد –: (7/128) وباب البيعة على فراق المشرك: (7/133) ، وباب ثواب من وفى بما بايع عليه –: (7/144) ، وفي كتاب الإيمان – باب البيعة على الإسلام –: (8/95-96) ، وفي سنن الترمذي – كتاب حدود – باب ما جاء أن الحدود كفارة لأهلها –: (5/134-135) ، وسنن ابن ماجه – كتاب الحدود – باب الحد كفارة: (2/868) ، وسنن الدارمي – كتاب السير – باب في بيعة النبي – صلى الله عليه وسلم –: (2/220) ، والسنن الكبرى للبيهقي – كتاب الأشربة – باب الحدود كفارات –: (8/328) ، وفي الاعتقاد: (86) والمسند: (5/314، 320) ، وثبت معنى حديث عبادة عن علي أيضاً – رضي الله تعالى عنهما – أخرج الترمذي في كتاب الإيمان – باب 11:/ (7/286) ، وقال: هذا حديث حسن غريب صحيح، وابن ماجه في المكان المتقدم، والحاكم في كتاب الحدود: (4/388) ، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وأقره الذهبي، وفي كتاب التفسير – سورة حم عسق: (2/245) ، وقال أيضاً صحيح على شرط الشيخين وأقره الذهبي والبيهقي في المكان المتقدم، وأحمد في المسند: (1/85، 99، 159) ، وسنده صحيح كما في تعليق الشيخ شاكر: (1/188) 775، والحكيم الترمذي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه كما في الدر: (6/9) ، وقد استشهد به الحافظ في الفتح: (1/67) . وهذا لفظ الترمذي: عن علي – رضي الله تعالى عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: "من أصاب حداً فعجل عقوبته في الدنيا أعدل من أن يُثَنِّى على عبده العقوبة في الآخرة، ومن أصاب حداً فستره الله عليه، وعفا عنه فالله أكرم من أن يعود إلى شيء قد عفا عنه".(4/46)
قال الإمام النووي – عليه رحمة الله تعالى –: هذا الحديث عام مخصوص، موضع التخصص منه قوله – صلى الله عليه وسلم –: "ومن أصاب من ذلك شيئاً" إلى آخره، والمراد به ما سوى به الشرك، وإلا فالشرك لا يغفر به، ولا تكون عقوبته كفارة له، وفي هذا الحديث فوائد، منها: الدلالة لمذهب أهل الحق أن المعاصي غير الكفر لا يقطع صاحبها بالنار إذا مات ولم يتب منها، وبل هو بمشيئة الله تعالى، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذبه، خلافاً للخوارج والمعتزلة (1) .
__________
(1) - انظر شرح الإمام النووي على صحيح مسلم: (1/223-224) ، ونحوه في فتح الباري: (1/68) ، وقال السيوطي في زهر الربى على المجتبى: (8/96) إلى أن المخاطب بقوله: "ومن أصاب من ذلك شيئاً" إلخ، المسلمون، فلا يدخل فيه المشرك حتى يحتاج إلى إخراج، وفي الدر المنثور: (2/169) أخرج أبو داود في ناسخه وابن أبي حاتم في تفسيره عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – أنه قال: إن الله حرك المغفرة على من مات وهو كافر، وأرجأ أهل التوحيد إلى مشيئته، فلم يؤيسهم من المغفرة.(4/47)
.. وقال عبد الرحيم – غفر الله له ذنوبه أجمعين –: من أعظم رحمات رب العالمين، على عباده الموحدين حصول الشفاعة لهم من نبينا الهادي الأمين – عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم –، وإن كانوا للعظائم مرتكبين، وللموبقات فاعلين، وتلك الشفاعة لا تحصل إلا بعد إذن للشافع من رب العالمين، ورضاء من المشفوع له من المكلفين، فعاد الأمر إلى مشيئة رب العالمين، ورحمة أرحم الراحمين، فالفضل منه وإليه – سبحانه وتعالى – ثبت في المسند والسنن عن أنس بن مالك – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي (1)
__________
(1) - انظر المسند: (3/213) ، وسنن الترمذي – كتاب صفة القيامة – باب 12: (7/151) ، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وسنن أبي داود – كتاب السنة – باب في الشفاعة: (5/106) ، والبزار والطبراني في الصغير والأوسط كما في مجمع الزوائد: (10/378) ، وانظر في المعجم الصغير: (1/160، 2/119) وكتاب التوحيد لابن خزيمة: (270-271) ، وصحيح ابن حبان – موارد الظمآن – (645) رقم 2596، والشريعة للآجري: (338-339) ، والاعتقاد للبيهقي: (96) ، والمستدرك – كتاب الإيمان –: (1/69) وكتاب السنة لابن أبي عاصم: (2/399) ، وحلية الأولياء: (7/261) ، ورواه أيضاً الطبراني في الكبير، والبيهقي في شعب الإيمان، والضياء المقدسي في الأحاديث المختارة كما في الجامع الكبير: (1/556) كلهم عن أنس – رضي الله تعالى عنه – ورُوِيَ الحديث عن جابر بن عبد الله – رضي الله تعالى عنهما –..(4/48)
"، وفي سنن ابن ماجه بإسناد صحيح عن أبي موسى الأشعري – رضي الله تعالى عنه – قال، قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم –: "خُيِّرْتُ بين الشفاعة وبين أن يدخل نصف أمتي الجنة، فاخترت الشفاعة، لأنها أعم وأكفى، أترونها للمتقين؟ لا، ولكنها للمذنبين، الخطائين، المتلوثين (1) ".
وخلاصة الكلام: إن وعيد الله ذي الجلال والإكرام، لأهل المعاصي والآثام مقيد بشرطين عند أهل السنة الكرام: عدم توبة المذنبين، وعدم عفو أرحم الراحمين، وقد وافق المعتزلة على الأمر الأول، وقيدوا به أخبار الوعيد المطلقة في العصاة والفسقة، لثبوته بأدلة منفصلة محققة، والأمر الثاني كالأول تماماً فهو ثابت بأدلة منفصلة، وقوة تلك الأدلة تساوي قوة أدلة الأمر الأول، فالأخذ بأحدهما ونبذ الآخر تفريق بين متماثلين، وذلك شطط في القول، وسفاهة في العقل، وهو مسلك الزائغين الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، ولذلك حكم الإمام أبو عمرو بن العلاء على إمام المعتزلة السفهاء بأنه أعجم القلب، لا يعي كلام الرب، وإليك تلك المناظرة التي دارت بينهما.
قال عمر بن عبيد إمام المعتزلة: قولي في أصحاب الكبائر: إن الله وعد وعداً، وأوعد إيعاداً، فهو منجز إيعاده كما هو منجز وعده، فقال له أبو عمرو بن العلاء: إمام أهل السنة الأتقياء: إنك رجل أعجم، لا أقول أعجم اللسان، ولكن أعجم القلب، إن العرب تعد الرجوع عن الوعد لؤماً، وعن الإيعاد كرماً، وأنشد:
ولا يرهبُ ابنُ العم – ما عشتُ – سطوَتي ... ولا يَخْتَشي من سَطوَةِ المُتَهَدّدِ
__________
(1) - انظر سنن ابن ماجه – كتاب الزهد – باب في الشفاعة –: (2/1441) ، ورواه الإمام أحمد في المسند: (1/75) ، والبيهقي في الاعتقاد: (96) ، والطبراني ثلاثتهم عن ابن عمر – رضي الله تعالى عنهما – ورجال الطبراني رجال الصحيح غير النعمان بن قراد وهو ثقة كما في مجمع الزوائد: (10/378) .(4/49)
وإني وإنْ أوْعَدْتُهُ ... لمُخْلِفُ إيعادِي ومنجزُ موعِدِي (1)
... ومما ينبغي التنبيه له أن عدم إنفاذ الوعيد فيمن أوعده رب العالمين، لا يعتبر ذلك خلفاً لميعاده ولا كذباً في أحكامه، لأنه تقدم بالبرهان القطعي أن جميع عمومات الوعيد مقيدة بمشيئة الرب المجيد، فإن شاء عذب، وإن شاء غفر ورحم، وهو الفعال لما يريد – سبحانه وتعالى – وقد ورد التنصيص على هذا المعنى من نبينا – صلى الله عليه وسلم – فقال: "من وعده الله على عمل ثواباً فهو منجزه له، ومن وعده على عمل عقاباً فهو فيه بالخيار (2) ".
5- الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر:
__________
(1) - انظر تلك المناظرة في مفاتيح الغيب: (7/183-184) ، وفيه النقل أيضاً عن الواحدي أنه قال: خلف الوعيد كرم عند العرب، والدليل عليه أنهم يمدحون بذلك، قال الشاعر: ... وإنْ أوْعَدَ الضَّرَّاءَ فالعَفْوُ مانِعُه
0@إذا وَعَدَ السَّرَّاءَ أنجزَ وَعْدَهُ
(2) - أخرجه أبو يعلى والبزار كما في المطالب العالية – كتاب الإيمان والتوحيد – باب العفو عما دون الشرك: (3/99) ، وابن أبي عاصم في كتاب السنة: (2/466) وأخرجه الخرائطي في مكارم الأخلاق والبيهقي في البعث، وابن عساكر في تاريخه كما في جمع الجوامع: (1/841) كلهم عن أنس بن مالك – رضي الله تعالى عنه – والحديث في تفسير ابن كثير: (2/510) ، والدر: (2/170) ، وفيه سهيل بن أبي حزم القُطَعِي – بضم القاف وفتح الطاء نسبة إلى قُطَيْعَة بطن من زبيد كما في اللباب: (3/46) من رجال السنن الأربعة حكم عليه ابن حجر في التقريب: (1/338) بأنه ضعيف، وفي الميزان: (2/244) ما يدل على ذلك الحكم 0لكن الحديث له شواهد ثابتة يرتقي بها إلى درجة الحسن وقد تقدم قريباً في صفحة (34) حديث عبادة بن الصامت – رضي الله تعالى عنه – وهو بمعنى هذا الحديث، وانظر تفصيل الكلام عليه في سلسلة الأحاديث الصحيحة: (2463) .(4/50)
.. وحاصل قولهم في هذا الأصل: أنه يتحتم علينا أن نأمر غيرنا بما أُمرنا به، وأن نلزمه بما يلزمنا، ورتبوا على ذلك جواز الخروج بالسيف على أئمة الجور (1) .
واعلم علمني الله وإياك – أن الأئمة الحكام ثلاثة أقسام:
__________
(1) - انظر إيضاح هذا في مجموع الفتاوى: (13/386) ، ودقائق التفسير: (1/35) ، وشرح الطحاوية: (475) فالمعتزلة جمعوا بتلك الأصول بين عدة ضلالات فهم جهمية في الصفات، وعيدية في الأسماء والأحكام، قدرية في القدر، وزادوا على ذلك الخروج على الأئمة، كما في مجموع الفتاوى: (6/55) .(4/51)
1- إمام شرعي، صالح تقي، وهو من كان مسلماً ذكراً، بالغاً، عاقلا ً، حراً عدلاً، بايعته الأئمة عن رضاً واختيار (1) .
__________
(1) - وهذه الشروط السبعة شروط صحة لانعقاد خلافته، واختلف في اشتراط القرشية: أي كون الخليفة من قريش هل هو شرط كمال أو صحة والجمهور على أنه شرط صحة لا يعدل عنه عند وجوده وما زاد على ذلك فهو من شروط الكمال والأفضلية مثل كونه ذا خبرة ورأي حصيف بأمر الحرب، وتدبير الجيش، وسد الثغور، وحماية بيضة المسلمين، ودرع الأمة، والانتقام من الظالم، والأخذ للمظلوم وكونه لا تلحقه رقة في إقامة الحدود، ولا فزع في ضرب الرقاب، وقطع الأعضاء، وكونه من أهل الجهاد، ويمكنه الاستغناء عن استفتاء غيره في الحوادث، انظر تفصيل تلك الأمور في فتح الباري: (13/114-119) ، والجامع لأحكام القرآن: (1/264-271) ، ونقله عنه شيخنا في الأضواء: (1/50-57) وانظر تحفة المريد: (2/100) ، والأحكام السلطانية للماوردي: (6) .(4/52)
فهذا من الأبرار، وتجب طاعته في السر والجهار، ولا يخرج عليه إلا الفجار الأشرار، ثبت في صحيح مسلم وغيره عن عوف بن مالك – رضي الله تعالى عنه – قال، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلّون عليهم ويصلّون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم، ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم، قالوا: يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أفلا ننابذهم بالسيف عند ذلك؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، لا ما أقاموا فيكم الصلاة، ألا من ولي عليه والٍ فرآه يأتي شيئاً من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يداً من طاعة (1)
__________
(1) - انظر صحيح مسلم – كتاب الإمارة – باب خيار الأئمة وشرارهم –: (3/1482) ، وسنن الدارمي – كتاب الرقاق – باب في الطاعة ولزوم الجماعة –: (2/324) ، وهو في المسند: (6/24، 28) ورواه الترمذي في كتاب الفتن – باب 77: (7/41) عن عمر بن الخطاب – رضي الله تعالى عنه – وقال هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث محمد بن أبي حميد / ومحمد يُضعَّف من قبل حفظه 1هـ وفي بعض نسخ الترمذي الحكم عليه بالغرابة فقط كما في تحفة الأحوذي: (3/246) ، وتعليق الشيخ الأرناؤوط على جامع الأصول: (4/67) والحكم عليه بالحُسن وارد في طبعة حمص، وهي السابقة وفي طبعة مصر: (4/529) ، وفي طبعة الترمذي مع شرحه العارضة: (9/120) ، ومحمد بن أبي حميد ضعيف كما في التقريب: (2/156) ، لكن رواية مسلم تشهد له فترفعه إلى درجة الحسن، والحديث رواه الطبراني في الكبير والأوسط من حديث عقبة بن عامر – رضي الله تعالى عنه – وفيه بكر بن يونس وثقه أحمد والعِجْلي، وضعفه البخاري وأبو زرعة، وبقية رجاله رجال الصحيح كما في مجمع الزوائد: (5/224) والمراد من قوله: "ما أقاموا الصلاة" إقامة أمور الدين، وهذا من باب التعبير عن العام بأهم أفراده وأظهرها كما ثبت في صحيح البخاري – كتاب المناقب – باب مناقب قريش: (6/533) ، وكتاب الأحكام – باب الأمراء من قريش –: (13/113) بشرح ابن حجر فيهما، وسنن الدارمي – كتاب السير – باب في فضل قريش –: (2/242) والمسند: (4/94) ، وكتاب السنة لابن أبي عاصم –: (2/528) عن معاوية – رضي الله تعالى عنه – قال سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: "إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كَبَّهُ الله في النار على وجهه، ما أقاموا الدين".(4/53)
".
... وثبت في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة ربه، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال: فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه (1) ".
__________
(1) - انظر صحيح البخاري – كتاب الأذان – باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة، وفضل المساجد: (2/143) ، وفي كتاب الزكاة – باب الصدقة باليمين –: (3/293) ، وفي كتاب الرقاق – باب البكاء من خشية الله – مختصراً –: (11/312) ، وفي كتاب الحدود – باب فضل من ترك الفواحش –: (12/112) بشرح ابن حجر في جميع ما تقدم، وصحيح مسلم – كتاب الزكاة – باب فضل إخفاء الصدقة –: (2/715) ، وسنن الترمذي – كتاب الزهد – باب ما جاء في الحب في الله تعالى –: (4 /598) ، وسنن النسائي – كتاب آداب القضاة – باب الإمام العادل –: (8/196) ، والموطأ – كتاب الشعر – باب ما جاء في المتحابين في الله: (2/952) ، والمسند: (2/439) ، وانظر فتح الباري: (2/144) فقد جمع الحافظ عدد مَنْ ورد أنهم يظللون من تحت ظل العرش فبلغوا أربع سبعات (28) وأفردهم في جزء سماه: "معرفة الخصال الموصلة إلى الظلال".(4/54)
.. وقد أشاد نبينا – صلى الله عليه وسلم – برفعة قدر الإمام العادل عند الحكم العدل – جل جلاله – وأخبرنا أن دعوته مجابة لا ترد، ففي المسند وغيره عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "ثلاثة لا يرد دعاؤهم: الصائم حتى يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام يوم القيامة، وفتح لها أبواب السماء، ويقول الرب – عز وجل – بعزتي لأنصرنك ولو بعد حين (1) ".
__________
(1) - انظر المسند: (2/445، 305) ، وصحيح ابن حبان – موارد الظمآن –: (597) ، وصحيح ابن خزيمة: (3/199) ، ومسند الطيالسي – منحة المعبود –: (1/255) ، وسنن الترمذي – كتاب الدعوات –: (9/225) 3592، وقال: هذا حديث حسن، ورواه في كتاب صفة الجنة – باب ما جاء في صفة الجنة ونعيمها: (7/211) ، وانظره في سنن ابن ماجه – كتاب الصيام – باب في الصائم لا ترد دعوته –: (1/557) ، وسنن البيهقي وعزاه الإمام ابن كثير في تفسيره: (1/319) إلى سنن النسائي الكبرى، وسند الحديث صحيح كما في تعليق الشيخ شاكر على المسند: (15/187) 8030.(4/55)
2- إمام غوي مريد، جبار شقي عنيد، وهو من فرط في شرع الرب المجيد، ولم ينفذه على رعيته من العبيد، فيجب قتاله في كل آن وحين، وسواء كانت بيعته ثابتة من قبل المسلمين، ثم طرأ عليه ذلك الوصف اللعين، أو تسلط عليهم ابتداءً كحال العتاة الجبارين، وقد ثبت عن نبينا الأمين – عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم – أنه قال "يكون عليكم أمراء هم شر عند الله من المجوس (1) " وأرشدنا النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى قتالهم، ومنابذتهم بما في وسعنا، ففي صحيح مسلم وغيره عن ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل (2) ".
__________
(1) - رواه الطبراني في الصغير: (20/90) ، والأوسط أيضاً كما في مجمع الزوائد: (5/235) كتاب الخلافة – باب في أئمة الظلم والجور وأئمة الضلال – عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – ورجاله رجال الصحيح خلا مؤمل بن إهاب وهو ثقة، وفي الحلية: (1/280) عن حذيفة – رضي الله تعالى عنه – موقوفاً: "ليكونن عليكم أمراء لا يزن أحدهم عند الله يوم القيامة قشرة شعيرة".
(2) - انظر صحيح مسلم – كتاب الإيمان – باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان –: (10/70) 80 وهو في مسند الإمام أحمد: (1/458، 461) ، وسنده صحيح كما في تعليق الشيخ شاكر: (6/175، 187) ، (4379، 4402) ، ورواه البيهقي في الاعتقاد: (122) .(4/56)
.. وقد وردت الأحاديث كثيرة عن خير خلق الله – صلى الله عليه وسلم – بقتال الأئمة الضالين إذا لم يحكموا بشرع رب العالمين، وظهرت المجاهرة بالمنكر المبين، ففي الصحيحين وغيرهما عن جنادة بن أبي أمية قال: دخلنا على عبادة بن الصامت – وهو مريض – رضي الله تعالى عنه – فقلنا: حدثنا أصحك بحديث ينفع الله به، سمعْتَهُ من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: دعانا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فبايعناه على السمع والطاعة، في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان (1) ، قال الإمام النووي – عليه رحمة الله تعالى –: هكذا هو لمعظم الرواة، وفي معظم النسخ "بواحاً" بالواو، وفي بعضها "براحاً" والباء مفتوحة فيهما، ومعناها: كفراً ظاهراً 10هـ، وقال الحافظ ابن حجر نقلا ً عن الإمام الخطابي – عليهما رحمة الله تعالى – مَنْ رواه بالراء فهو قريب مِنْ هذا المعنى، وأصل البراح الأرض القفراء التي لا أنيس فيها ولا بناء، وقيل: "البراح": البيان، قال الحافظ: ووقع في رواية الطبراني: "إلا أن يكون معصية الله بواحاً"، وعند أحمد: "ما لم يأمروك بإثم بواحاً (2) ".
__________
(1) - انظر صحيح مسلم – كتاب الإمارة – باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية: (4/1470) ، وصحيح البخاري – كتاب الفتن – باب 2: (13/5) بشرح ابن حجر، والمسند: (5/314) ، وفي: (5/321) بلفظ "ما لم يأمروك بإثم بواحاً".
(2) - انظر شرح الإمام النووي: (12/228) ، وفتح الباري: (13/8) ، وتقدمت رواية الإمام أحمد في المسند وقوله: "عندكم من الله فيه برهان" أي: نص آية أو خبر صحيح لا يحتمل التأويل، ومقتضاه أنه لا يجوز الخروج عليهم ما دام فعلهم يحتمل التأويل كما في فتح الباري: (13/8) .(4/57)
.. قال مقيد هذه الصفحات – فرج الله عنه وعن المسلمين الكربات –: تقدمت قريباً رواية الصحيح أيضاً: "أفلا ننابذهم بالسيف؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة" وكل من الحديثين صريح في أن الإمام إذا أمر بالآثام، وضاد شرع الرحمن، ينبغي أن يزال بالحسام، وقد قرر الحافظ الهمام، الإمام ابن حجر شيخ الإسلام – عليه رحمة الله تعالى – أن الإمام ينعزل بالكفر بإجماع العلماء الكرام فيجب على كل مسلم عند ذلك القيام، فمن قوي على ذلك فله المثوبات العظام، ومن داهن فعليه الوزر والآثام، ومن عجز وجبت عليه الهجرة ومفارقة تلك الأوطان (1) .
__________
(1) - انظر فتح الباري: (13/8، 123) ، ومثله في شرح الإمام النووي: (12/229) حيث نقل عن القاضي عياض – عليهما رحمة الله تعالى – أن الإمامة لا تنعقد لكافر إجماعاً، ولو طرأ عليه الكفر انعزل، وكذا لو ترك إقامة الصلاة والدعاء إليها، فيخرج عن حكم الولاية، وتسقط طاعته، ويجب على المسلمين القيام عليه وخلعه، ونَصْبُ إمام عادل إن أمكنهم ذلك، فإن لم يقع ذلك إلا لطائفة وجب عليهم القيام بخلع الكافر 10هـ، وقد تقدم حديث يصرح باستمرار الهجرة وداوامها، وأشرت هنا إلى عدة كتب بحثت تلك المسالة بحثاً سديداً، وبيَّنَتْ أنواع الهجرة بياناً رشيداً، فانظر صفحة (36) من هذا البحث المبارك، قال الإمام ابن العربي في أحكام القرآن: (1/484) الهجرة تنقسم إلى ستة أقسام: الأول: الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام، وكانت فرضاً في أيام النبي – صلى الله عليه وسلم – وهذه الهجرة باقية مفروضة إلى يوم القيامة.(4/58)
.. قال عبد الرحيم الطحان – غفر الله له سائر الآثام –: ما قاله الأئمة الكرام، من وجوب مهاجرة دار الكفر إلى دار الإسلام، كان متحققا ميسوراً فيما مضى من الأزمان، عند وجود دارَيِ الكفر والإسلام، وأما إذا عم الظلام بلاد الأنام، ولم يكن هناك خليفة ولا إمام، فما على المكلف إلا مقارعة الكفر أينما كان، والعض بالنواخذ على هي النبي – صلى الله عليه وسلم – والحذر من مشاركة الطغام فيما يتهافتون فيه من الإجرام، مع السعي الحثيث لإعادة دولة الإسلام، فمن قام بذلك فهو من الناجين بسلام، المتقين الله حسب ما في الوسع والإمكان، وهذا كما ثبت عن حذيفة بن اليمان – عليه رضوان الرحيم الرحمن – أنه قال: كان الناس يسألون رسول الله – صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم، وفيه دَخَنٌ، قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يَسْتَنُّون بغير سنتي ويهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر، قلت: فهل بعد الخير من شر؟ قال: نعم: دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها، قلت: يا رسول الله صفهم لنا، فقال: هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك (1) .
3- إمام جائز، وله حالتان:
__________
(1) - انظر صحيح البخاري – كتاب المناقب – علامات النبوة في الإسلام –: (6/515) ، وكتاب الفتن – باب كيف الأمر إذا لم تكن جماعة؟: (13/35) بشرح ابن حجر فيهما، وصحيح مسلم – كتاب الإمارة – باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن، وفي كل حال: (4/1475) ، وسنن ابن ماجه – كتاب الفتن – باب العزلة –: (2/1317) .(4/59)
الحالة الأولى: أن يكون متصفاً بالشروط المرضية، وتمَّت له البيعة، ثم طرأ عليه بعد ذلك مُفَسِّقٌ كأن جار، أو تلبس ببعض المعاصي الكبار، كشرب الخمر أو تعاطي عهر.
الحالة الثانية: أن يتغلب على الناس على كره منهم، ويقودهم بغير رضاهم، فهو مغتصب لسلطان الأمة معتدٍ على الذمة.
ولهاتين الحالتين حالتان:
أ) يجب خلعه إن أمكن بلا ظلم ولا فتنة، لأن ذلك من النصح له وللأمة، وهو ممكن دون ارتكاب محظور، فلا يترك (1) .
ب) إذا لك يمكن عزله إلا بالوقوع في فتنة عمياء، وجر الأمة إلى بلاء، فالواجب الصبر على طاعته، وعدم الخروج عن كلمته، وخالف المعتزلة في هذا، فالتزموا الخروج عليه بالسيف، ولو أدى ذلك إلى فتنة وحيف، ومعلوم ما في هذا القول من الفساد والإفساد، والشقاق والعناد، ولذلك حذرنا منه خير هاد – صلى الله عليه وسلم أبد الآباد – وقد تقدم حديث عوف بن مالك، وعبادة بن الصامت، ومعاوية – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – وفيها التنصيص على أنه لا يجوز الخروج على الأئمة وإن جاروا، وعصوا ما أقاموا الدين، ولم يظهروا الكفر المبين.
__________
(1) - وهذه تكاد تكون فرضية، وتتصور في إمام عاقل أُخبر بأن الأمة لا تريده لما جرى منه من فسق وجور فلم يعارض ذلك، واستجاب له.(4/60)
.. وهذا إذا لم يقدروا على خلعه بلا فتنة وظلم وحرب كما قرر ذلك أئمة الدين ففي فتح الباري نقلا ً عن الداودي بواسطة ابن التين – عليهما رحمة رب العالمين – قال: الذي عليه العلماء في أمراء الجور أنه إن قدر على خلعه فلا فتنة ولا ظلم وجب، وإلا فالواجب الصبر 1هـ ونحوه في تنوير الأبصار وشرحه الدر المختار، وحاشيته رد المحتار، وحاصل ذلك أن الإمام إذا جار لا ينعزل إذا كان يترتب على عزله فتنة ومفسدة احتمالاً لأخف المضرتين وأدناهما أو كان له قهر وغلبة لعوده بالقهر والغلبة، فلا يفيد عزله، وإن لم يكن له قهر ومنعة، ولا يترتب على عزله مفسدة ومضرة ينعزل بجوره (1) .
... واعلم- علمني الله وإياك - أنه بهذا التفصيل يظهر أنه لا تعارض بين قول بعض أهل السنة الكرام: تنفسخ إقامة الخليفة بفسقه الظاهر المعلوم، ويخلع، وبين قول من قال من أهل السنة الأبرار: لا يجوز القيام عليه، ولا خلعه إذا ارتكب فسقاً، فالقول الأول ينزل على الحالة الأولى والثانية على الثانية، ولا تعارض بينهما، والله تعالى أعلم.
تنبيهان:
الأول: في حالة طاعة الإمام الذي طرأ عليه الفسق ينبغي ضرورة الالتزام بأمرين، فالتفريط بأحدهما هلاك:
__________
(1) - انظر فتح الباري: (13/8) ، ورد المحتار: (4/264) ، وانظر البحث في هذه المسألة في شرح الإمام النووي على صحيح مسلم: (12/229) ، والجامع لأحكام القرآن: (1/271) ، وأضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن –: (1/271) ، والأحكام السلطانية للماوردي: (17) .(4/61)
أ) إذا أمر الإمام بمعصية فلا سمع له ولا طاعة، ثبت في الصحيحين وغيرهما عن عبد الله بن عمر – رضي الله تعالى عنهما – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: "على المرء المسلم السمع والطاعة، فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية، فلا سمع له ولا طاعة (1)
__________
(1) - انظر صحيح البخاري – كتاب الجهاد – باب السمع والطاعة للإمام –: (6/115) ، وكتاب الأحكام – باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية –: (13/121) بشرح ابن حجر فيهما، وصحيح مسلم – كتاب الإمارة – باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية –: (4/1469) ، وسنن أبي داود – كتاب الجهاد – باب في الطاعة –: (3/93) ، وسنن الترمذي – كتاب الجهاد – باب ما جاء لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق –: (6/30) ، وسنن النسائي – كتاب البيعة – باب جزاء من أمر بمعصية فأطاع –: (7/142) ، وسنن ابن ماجه – كتاب الجهاد – باب لا طاعة في معصية الله –: (2/956) والمسند: (2/17، 142) ، وشرح السنة – كتاب الإمارة والقضاء – باب الطاعة في المعروف: (10/43) ..(4/62)
"، وفي الصحيحين وغيرهما أيضاً عن علي – رضي الله تعالى عنه – قال: بعث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – سرية، واستعمل عليهم رجلاً من الأنصار، وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا فأغضبوه في شيء، فقال: اجمعوا لي حطباً، فجمعوا له، ثم قال: أوقدوا ناراً، فأوقدوا، ثم قال: ألم يأمركم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن تسمعوا لي وتطيعوا؟ قالوا: بلى، قال: فادخلوها، قال: فنظر بعضهم إلى بعض، فقالوا: إنما فررنا إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من النار، فكانوا كذلك، وسكن غضبه، وطفئت النار، فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: "لو دخلوها ما خرجوا منها، إنما الطاعة في المعروف" وفي رواية "لا طاعة في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف (1) ".
__________
(1) - انظر صحيح البخاري – كتاب المغازي – باب 59: (8/58) ، وكتاب الأحكام – باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية –: (13/122) ، وأول كتاب أخبار الآحاد –: (13/233) بشرح ابن حجر في الجميع – وصحيح مسلم – كتاب الإمارة – باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية: (4/1469) ، وسنن أبي داود – كتاب الجهاد – باب في الطاعة –: (3/92) ، وأشار إليه الترمذي في كتاب الجهاد – باب لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق – ق: (6/30) ، وهو في سنن النسائي – كتاب البيعة – باب جزاء من أمر بمعصية فأطاع –: (7/142) ، والمسند: (1/82، 94، 124) وانظره من رواية أبي سعيد الخدري – رضي الله تعالى عنه – في سنن ابن ماجه – كتاب الجهاد – باب لا طاعة في معصية الله –: (2/955) ، والمسند: (3/67) ، وانظر روايات متعددة عن عدة من الصحابة الكرام – رضي الله تعالى عنهم – فيها البيان التام بأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الرحمن في مجمع الزوائد: (/225-229) كتاب الخلافة – باب لا طاعة في معصية الله – عز وجل.(4/63)
ب) ينبغي على الرعية نصح الإمام إذا جرى منه ما يوقعه في الفسق والعصيان، فذلك من الواجبات العظام، وعليه يقوم أمر الإسلام، كما ثبت في صحيح مسلم وغيره عن تميم الداري – رضي الله تعالى عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: "الدين النصيحة، قلنا لمن: قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم (1) ".
__________
(1) - انظر صحيح مسلم – كتاب الإيمان – باب بيان أن الدين النصيحة –: (1/74) ، وسنن النسائي – كتاب البيعة – باب النصيحة للإمام: (7/140) ، وسنن أبي داود – كتاب الأدب – باب في النصيحة: (5/233) ، وكتاب السنة لابن أبي عاصم: (2/519) ، والمسند: (4/102) ، وكلهم من رواية تميم الداري، ورواه النسائي في المكان المتقدم عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – وعنه أيضاً الترمذي في كتاب البر والصلة – باب ما جاء في النصيحة –: (6/173) ، وابن أبي عاصم في السنة: (2/90) ، وأحمد في المسند: (2/297) ، ورواه عن ابن عمر – رضي الله تعالى عنهما – الدارمي – في كتاب الرقاق – باب الدين النصيحة: (2/311) ، وعنه رواه البزار مختصراً كما في مجمع الزوائد: (1/87) ورجاله رجال الصحيح، ورواه عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – الإمام أحمد في المسند: (1/351) ، وعنه أيضاً رواه البزار، والطبراني في الكبير وأبو يعلى كما في مجمع الزوائد: (1/87) ورواه عن ثوبان – رضي الله تعالى عنه – ابن أبي عاصم في السنة: (2/521) , والطبراني في الأوسط وفيه أيوب بن سويد وهو ضعيف لا يحتج به كما في مجمع الزوائد: (1/87) ، والحديث علقه البخاري بصيغة الجزم – في كتاب الإيمان – باب قول النبي – صلى الله عليه وسلم –: "الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم": (1/137) بشرح ابن حجر، قال الحافظ: أورده المصنف هنا ترجمة باب، ولم يخرجه مسنداً في هذا الكتاب لكونه على غير شرطه، ونبه بإيراده على صلاحيته في الجملة.(4/64)
وقد بين لنا نبينا – صلى الله عليه وسلم – أن كلمة الحق عند الإمام الجائر، من أعظم ما يقرب إلى الرب القاهر، ففي السنن بإسناد صحيح حسن عن أبي عبد الله طارق ابن شهاب البجلي الأحمس أن رجلاً سأل النبي – صلى الله عليه وسلم –: أي الجهاد أفضل؟ قال: "كلمة حق عند سلطان جائر (1) ".
__________
(1) - انظر سنن النسائي – كتاب البيعة – باب فضل من تكلم بالحق عند إمام جائر –: (7/144) ، وسنده صحيح كما في الترغيب والترهيب: (3/225) ، وهو في المسند: (4/314، 315) ، ورواه عن أبي أمامة – رضي الله تعالى عنه – ابن ماجه في كتاب الفتن – باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: (2/1330) وإسناده صحيح أيضاً كما في الترغيب والترهيب: (3/225) ، وهو في المسند: (251، 256) ، ورواه ابن ماجه أيضاً في نفس المكان عن أبي سعيد الخدري – رضي الله تعالى عنه – وهو في المسند: (3/19، 61) ، وكتاب العزلة للخطابي: (86) ، وسنن الترمذي – كتاب الفتن – باب ما جاء أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر –: (6/338) ، وسنن أبي داود – كتاب الملاحم – باب الأمر والنهي: (4/514) قال الترمذي هذا حديث حسن غريب، وأشار إلى رواية أبي أمامة فقال: وفي الباب عن أبي أمامة – رضي الله تعالى عنه – 1هـ وفي سند حديث أبي سعيد – رضي الله تعالى عنه – عطية العَوْفي وهو صدوق ويخطئ كثيراً وهو مدلس أيضاً كما في التقريب: (2/24) ، وقد عنعن في السند، وحديث أبي أمامة، وطارق بن شهاب – رضي الله تعالى عنهم – يشهد له، ولأجل ذلك حسنه الترمذي، وانظر الترغيب والترهيب: (3/225) ، وتعليق الشيخ الأرناؤوط على جامع الأصول: (1/333) .(4/65)
فليحذر المسلم المهتدي من التفريط في هذين الأمرين، ليفوز في الدارين، ثبت في المستدرك والسنن بإسناد صحيح حسن عن كعب بن عجرة – رضي الله تعالى عنه – قال: خرج إلينا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ونحن تسعة، وخمسة وأربعة، أحد العددين من العرب، والآخر من العجم فقال: "اسمعوا، هل سمعتم؟ إنه سيكون بعدي أمراء، فمن دخل عليهم، فصدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم، فليس مني، ولست منه، وليس بوارد عليّ، ومن لم يدخل عليهم، ولم يعنهم على ظلمهم، ولم يصدقهم، فهو مني، وأنا منه، وهو وراد على الحوض (1)
__________
(1) - انظر سنن الترمذي – كتاب الفتن – باب تحريم إعانة الحاكم الظالم –: (7/38) ، وقال: هذا حديث صحيح غريب لا نعرفه إلى من حديث مسعر من هذا الوجه، وفي الباب عن حذيفة وابن عمر – رضي الله تعالى عنهم –، ورواه أيضاً في كتاب الصلاة – باب ما ذكر في فضل الصلاة –: (2/373) ، وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، وسنن النسائي – كتاب البيعة – باب الوعيد لمن أعان أميراً على الظلم –، ورواه في الباب الذي بعده – باب من لم يعن أميراً على الظلم –: (7/143) ، والمستدرك – كتاب الفتن والملاحم: (4/422) ، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأقره الذهبي، والمسند: (5/243) ، وصحيح ابن حبان – موارد الظمآن – كتاب الإمارة – باب فيمن يدخل على الأمراء –: (378) ، وحلية الأولياء: (7/249، 8/248) ، وكتاب العزلة للخطابي: (86) ، والحديث رواه الإمام أحمد في المسند: (3/321، 399) عن جابر بن عبد الله، ورواه في: (4/267) عن النعمان بن بشير، وفي: (5/384) عن حذيفة، وفي: (2/95) عن ابن عمر، وهو في مسند ابن عمر للطرسوسي: (40) رقم 70، ورواه الإمام أحمد في: (3/24) عن أبي سعيد الخدري، وفي: (5/111) عن خباب بن الأرت، ورواه عن الأخيرين ابن حبان في المكان المتقدم، وانظر مجمع الزوائد – كتاب الخلافة – باب في أبوب السلطان والتقرب منها، وباب الكلام عند الأئمة، وباب فيمن يصدق الأمراء بكذبهم ويعينهم على ظلمهم –: (7/246-248) فقد أورد الإمام الهيثمي أحاديث كثيرة في ذلك المعنى – رضي الله تعالى عن الصحابة أجمعين – وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.(4/66)
".
وهذا الأمر – أي نصح الأئمة، والجهر بالحق عندهم – إذا لم تقم به الأمة، فقد تُوُدِّعَ منها ولا خير فيها، وسيحل البلاء بها، وينزل سخط الله عليها، كما ثبت هذا عن نبينا – صلى الله عليه وسلم – ففي المسند والمستدرك بإسناد صحيح عن عبد الله بن عمر – رضي الله تعالى عنهما – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "إذا رأيت أمتي تهاب الظالم إن تقول له: إنك ظالم فقد تُوُدِّعَ منهم (1) ".
__________
(1) - انظر المسند: (2/63، 190) ، والمستدرك – كتاب الأحكام –: (4/96) ، والحديث رواه البزار والطبراني كما في مجمع الزوائد: (7/262، 270) ، وقد صححه الحاكم فقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأقره الذهبي، والمنذري أيضاً في الترغيب والترهيب: (3/232) ،وقال الشيخ شاكرفي تعليقه على المسند: (10/39) 6521 إسناده صحيح، والحديث ذكره السيوطي في الجامع الكبير: (1/59) ، وزاد نسبته إلى ابن أبي الدنيا في كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإلى ابن عدي، والبيهقي في شعب الإيمان، والحديث رواه الطبراني في الأوسط عن جابر بن عبد الله – رضي الله تعالى عنهما كما في مجمع الزوائد: (7/270) ، قال الهيثمي فيه: سنان بن هارون، وهو ضعيف، وقد حسن الترمذي حديثه، وبقية رجاله ثقات، ونسب السيوطي في الجامع الكبير: (1/59) تخريجه أيضاً إلى الحاكم عن سليمان بن كثير بن أسعد بن عبد الله بن مالك الخزاعي عن أبيه عن جده.(4/67)
وإذا قام المسلم بذلك فقد أدى ما عليه، وخرج من العهدة، وبرئت ذمته من جور الأئمة، ويا ويل الأئمة ثم يا وليهم، إذا لم يلتزموا بما نُصحوا، وانحرفوا عن شرع الله وقسطوا، قال الله – جل وعلا –: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (1) } وفي الصحيحين أن عبيد الله بن زياد أمير البصرة في زمن معاوية وولده يزيد عاد الصحابي الجليل معقل بن يسار – رضي الله تعالى عنهم – في مرضه، فقال له معقل: إني محدثك حديثاً سمعته عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: "ما من عبد يسترعيه الله رعية فلم يحطها بنصيحة إلا لم يجد رائحة الجنة" وفي رواية في الصحيحين أيضاً: "ما من والٍ يلي رعية من المسلمين، فيموت وهو غاش لهم إلا حرم الله عليه الجنة (2) ".
__________
(1) - من سورة الجن: (15) ، والقاسطون هم الجائرون، من قسط إذا جار، أما أقسط فبمعنى عدل كما في تفسير غريب القرآن لابن قتيبة: (490) ، ومدارك التنزيل: (5/273) ، والجامع لأحكام القرآن: (19/16) وفتح القدير: (5/299) ، والبحر المحيط: (8/350) .
(2) - انظر روايتي الحديث الشريف في صحيح البخاري – كتاب الأحكام – باب من استرعى رعية فلم ينصح: (13/127) بشرح ابن حجر، وصحيح مسلم – كتاب الإيمان – باب استحقاق الوالي الغاش لرعيته النار: (1/125-126) ، وكتاب الإمارة – باب فضيلة الإمام العادل، وعقوبة الجائر –: (3/1460) ، والمسند: (5/25) ، وسنن الدارمي – كتاب الرقاق – باب العدل بين الرعية: (2/324) .(4/68)
وفي المسند وسنن الترمذي عن أبي سعيد الخدري – رضي الله تعالى عنه – قال، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "إن أحب الناس إلى الله يوم القيامة، وأدناهم منه مجلساً إمام عادل وأبغض الناس إلى الله، وأبعدهم منه مجلساً إمام جائر (1) ".
التنبيه الثاني:
__________
(1) - انظر المسند: (3/22، 55) ، وسنن الترمذي – كتاب الأحكام – باب ما جاء في الإمام العادل: (5/9) ، وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وفي الباب عن عبد الله بن أبي أوفى – رضي الله تعالى عنه – رواه الطبراني في الأوسط مختصراً كما في الترغيب والترهيب: (3/167) بلفظ: "أشد الناس عذاباً يوم القيامة إمام جائر" والحديث في سنده عطيه العَوْفي وهو صدوق ويخطئ كثيراً وكان يدلس كما في التقريب: (2/24) ، وقد عنعن، ولكن للحديث شواهد كثيرة، ولذلك حسنه الترمذي ونقل المنذري في الترغيب والترغيب تحسين الترمذي ولم يعقبه، وانظر تعليق الشيخ الأرناؤوط على جامع الأصول: (4/55) .(4/69)
لا يجوز أن يكون للمسلمين في الدنيا إلا خليفة واحد، كما قرر ذلك الشرع المطهر، لئلا يتفرق شمل المسلمين، ويتشتت شملهم، وتضع منزلتهم، وتتلاشى مكانتهم، وتضمحل هيبتهم، وتذهب ريحهم وقوتهم، ويصيح بأسهم بينهم، ثبت في صحيح مسلم وغيره عن أبي سعيد الخدري – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما (1)
__________
(1) - انظر صحيح مسلم – كتاب الإمارة – باب إذا بويع لخليفتين: (2/242) بشرح النووي، ورواه البيهقي في السنن الكبرى – كتاب قتال أهل البغي – باب لا يصلح إمامان في عصر واحد –: (8/144) والبغوي في شرح السنة – كتاب الإمارة والقضاء – باب من يخرج على الإمام والوفاء ببيعة الأول: (10/56) ، وفي المستدرك: (2/156) ، وقد أخرج مسلم، ثم ذكر ما تقدم، والحديث رواه الطبراني في الأوسط، والبزار عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – وفيه أبو هلال وهو ثقة كما في مجمع الزوائد – كتاب الخلافة – باب النهي عن مبايعة خليفتين: (5/198) ، ورواه الطبراني في الكبير والأوسط بسند رجاله ثقات عن سعيد بن جبير أن عبد الله بن الزبير قال لمعاوية – رضي الله تعالى عنهم أجمعين –: وأنت يا معاوية أخبرتني أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: "إذا كان في الأرض خليفتان، فاقتلوا أخرهما" انظر مجمع الزوائد: (5/198) ، ورواه الخطيب في تاريخ بغداد: (1/239) عن أنس – رضي الله تعالى عنه – وورد في سنن البيهقي: (8/144) قال البيهقي: وروينا في حديث السقيفة أن الأنصار حين قالوا: منا رجل ومنكم رجل، قال عمر بن الخطاب – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – يومئذ: سيفان في غمد لا يصطلحان، وقال أبو بكر – رضي الله تعالى عنه – في خطبته يومئذ: وإنه لا يحل أن يكون للمسلمين أميران، هنالك تترك السنة، وتظهر البدعة، وتعظم الفتنة، وليس لأحد على ذلك صلاح..(4/70)
" قال الإمام النووي – عليه رحمة الله تعالى –: واتفق العلماء على أنه لا يجوز أن يعقد لخليفتين في عصر واحد، سواء اتسعت دار الإسلام، أم لا، وقال إمام الحرمين في كتابه "الإرشاد" قال أصحابنا لا يجوز عقد لشخصين، قال: وعندي أنه لا يجوز عقدها لاثنين في صقع واحد، وهذا مجمع عليه، قال: فإن بعد ما بين الإمامين، وتخلت بينهما شسوع فللاحتمال فيه مجال، قال: وهو خارج من القواطع، وحكى المازري: هذا القول عن بعض المتأخرين من أهل الأصل، وأراد به إمام الحرمين، وهو قول فاسد مخالف لما عليه السلف والخلف، لظواهر إطلاق الأحاديث، والله أعلم 10هـ (1) .
__________
(1) - انظر شرح صحيح مسلم: (12/32) ، ونقل الأُبُّي في إكمال المعلم، والسنوسي في مكمل إكمال المعلم مطبوعان معاً الثاني منهما في الحاشية: (5/204) عن القاضي عياض رد قول إمام الحرمين والحكم عليه بأنه غير سديد، وهو مخالف لما عليه السلف والخلف، ولظاهر إطلاق الأحاديث 10هـ ومن العجيب أن يرد القرطبي في تفسيره: (1/274) قول الكرامية المجوزين نصب خليفتين في عصر واحد لجواز بعث نبيين في عصر واحد، كحال علي ومعاوية – رضي الله تعالى عنهما – بقوله: والجواب أن ذلك جائز لولا منع الشرع منه، لقوله: "فاقتلوا الآخر منهما"، ولأن الأمة مجمعة عليه، وأما معاوية فلم يدع الإمامة لنفسه، وإنما ادعى ولاية الشام بتولية مَنْ َقْبَلُه من الأئمة، ومما يدل على هذا إجماع الأمة في عصرهما على أن الإمام أحدهما، وما قال أحدهما: إني أمام، ومخالفي إمام، فإن قالوا: العقل لا يحيل ذلك، وليس في السمع ما يمنع منه، قلنا: أقوى السمع الإجماع، وقد وجد على المنع 1هـ من العجيب حقاً أن يرد القرطبي قول الكرامية، ويعلل المنع أيضاً بأن وجود إمامين يؤدي إلى النفاق والشقاق، وحدوث الفتن والافتراق، وزوال النعم، ثم يقول: لكن إن تباعدت الأقطار، وتباينت كالأندلس وخراسان جاز ذلك 1هـ كيف يجوز ذلك، والإجماع قام على منع التعدد مطلقاً كما قرر هو وما توهمه من مسوغ التعدد لتباعد الأقطار مجرد وهم، لأن الأمير من قبل الخليفة يدير أمر تلك البلدة مع ارتباطه بالخلافة، لتكون كلمة المسلمين واحدة، مرتبطة بقيادة واحدة، وبذلك تتم وحدتها، ويجتمع شملها.(4/71)
وما ذكره الإمام النووي لا ينبغي التوقف في صوابه، كما لا ينبغي التوقف في بطلان قول إمام الحرمين، فالنص بخلافه، وإذا صادم القياس نصاً فهو فاسد الاعتبار، ومطروح لا يلتفت إليه ومع هذا فهو فاسد أيضاً من حيث النظر، فالمفاسد التي تنتج من تعدد الخلفاء جسيمة وخيمة أفظعها تفريق أوصال الأمة، وتشتيت شملها، هذا إذا لم يجر الأمر إلى التناحر والمنازعات بين الخلفاء، مع أن واقع تعدد الأمراء سينتج عنه الشقاق بلا نزاع، والواقع أكبر دليل على ذلك وصدق الله إذ يقول: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} الأنبياء22 فعند تعدد الخلفاء يصبح بأس الأمة فيما بينها، وتترك الأمة تبليغ دعوة ربها، وتهمل نشرها، مع أن ذلك هو عملها ووظيفتها.
والملاحظ أن تعدد الخلفاء مع دلالته على التفرق والتمزق، والتنافر والتناحر فيما بين أولئك فهو يدل دلالة واضحة على تشتيت أمر كل خليفة من أولئك الخلفاء في خلافته، وما تعدد الحكام إلا لتضعضع أمر الخلافة الأولى، وتشتت شملها، حيث أدى ذلك لانقسامات الداخلية، ولاستبداد الأمراء بحكم ولاياتهم، بحيث كان الخليفة صورة لا حقيقية، ولم يكن له من الخلافة إلا الاسم، مما أدى ذلك في النهاية إلى انفصال أجزاء عن بناء الدولة المسلمة، وانسلاخ بلدان عن جسمها، فالتشتت الداخلي أدى للانسلاخ الخارجي، وبذلك تعلم أن تعدد الخلفاء نذير بكل سوء، لدلالته على تفرق الكلمة، وتشتت الشمل داخلاً وخارجاً، والله المستعان، وعليه التكلان، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
أسباب انتشار مذهب الاعتزال أهل الزيع والضلال:(4/72)
بعد تلك الجولة المباركة، في بيان أسس مذهب الاعتزال الباطلة، وتقرير صحة أقوال أهل السنة الثابتة، سأكمل البيان في بيان سبب انتشار مذهب المعتزلة أهل الزيع والهذيان (1) ، وأستمد التوفيق من ربي الرحمن، فهو الجواد ذو الجلال والإكرام.
إن المتفحص في مذاهب المبطلين، يرى أن مذهب المعتزلة أكثرها انتشاراً في بلدان المسلمين ولذلك أسباب كثيرة، أبرزها:
1- اتصالهم بالخلفاء والأمراء: واستطاعوا بدهائهم جلبهم إليهم، فتبنى عدد منهم أقوالهم وركنوا إليهم، وأسندوا إليهم مهام دولتهم، فعمرو بن عبيد المؤسس الثاني لمذهب الاعتزال كان جليس الخليفة أبي جعفر المنصور، وصفيه، وأحمد بن أبي دؤاد كان قاضي القضاة لثلاثة من الخلفاء، المعتصم، ثم الواثق، ثم المتوكل، وفي عهده طرد من القضاء وحل به البلاء، وأبو الهذيل العلاف كان أستاذَ الخليفة المأمون (2) .
__________
(1) - وبذلك وصفهم هارون الرشيد كما في شرف أصحاب الحديث: (55) فقال: طلبت أربعة فوجدتها في أربعة: طلبت الكفر فوجدته في الجهمية، وطلبت الكلام والشغب فوجدته في المعتزلة، وطلبت الكذب فوجدته في الرافضة، وطلبت الحق فوجدته مع أصحاب الحديث، وقال كما في صفحة: (78) المروءة في أصحاب الحديث، والكلام في المعتزلة، والكذب في الروافض.
(2) - سيأتيك عما قريب ترجمة عمرو بن عبيد، وقد تقدمت ترجمة ابن أبي دؤاد في كتاب التوحيد، وكذلك أبو الهذيل العلاف، وهو إمام القدرية في زمانه، كما في درء تعارض العقل والنقل: (1/305) .(4/73)
.. ذلك هو حال المعتزلة مع جهاز الحكم، وأهل السنة كانوا على نقيض ذلك تماماً، وسبب ذلك ما قدمته من وجود شيء من الخلل في جهاز الحكم، وتلبس الحكام بشيء من الظلم فآثر أهل السنة الابتعاد عنهم، ومن اضطر لمخالطتهم نصحهم ولم يركن إليهم، وما أرادوا بالأمرين إلا الاحتراز من الشين، وإرضاء رب الكونين، وفي سنن الدارمي عن ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه –: من أراد أن يكرم دينه فلا يدخل على السلطان، ولا يخلون بالنسوان ولا يخاصمن أهل الأهواء (1) . وقد بلغ الأمر بأهل السنة الكرام أن يحترزوا ممن يخالط السلطان، قال سعيد بن المسيب – عليه رحمة الرحمن الرحيم –: إذا رأيتن العالم يغشى الأمراء فاحترزوا منه، فإنه لص، وقيل للأعمش – رحمه الله تعالى –: لقد أحييت العلم لكثرة من يأخذ عنك، فقال: لا تعجبوا، ثلث يموتون قبل الإدراك، وثلث يلزمون أبواب السلاطين فهو شر الخلق والثلث الباقي لا يفلح منه إلا القليل (2) .
__________
(1) - انظر سنن الدارمي – المقدمة – باب من قال: العلم الخشية وتقوى الله: (1/77) .
(2) - انظر قول سعيد في الإحياء: (1/66، 74) ، وقول الأعمش فيه أيضاً: (1/74) ، وفي جامع بيان العلم وفضله: (1/185) ، وفيه أيضاً قال الأعمش: شر الأمراء أبعدهم من العلماء، وشر العلماء أقربهم من الأمراء، وانظره في بهجة المجالس: (1/322) ، وقد ورد معنى هذا في حديث رواه ابن ماجه في – المقدمة – باب الانتفاع بالعلم والعمل به: (1/94) عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: "إن أبغض القراء إلى الله الذين يزورون الأمراء" قال العراقي في تخريج أحاديث الإحياء: (1/74) : سنده ضعيف.(4/74)
ب- وجود عدد منهم من أهل اللسن والفصاحة في كل طبقة من طبقاتهم، فاستطاعوا بذلك استمالة الناس إليهم، وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما عن نبينا – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: "إن من البيان لسحراً (1) " فمؤسس المذهب واصل بن عطاء الغزَّال مِنْطيق فصيح ذكي بليغ، وأبو الهذيل العلاف مناظر مفوه، وخطيب مِصْقَعٌ، كان يستشهد بثلاثمائة بيت من الشعر في مناظرته، وقد تقدم في كتاب التوحيد بيان قوة عارضته، وشدة ذكائه، وألمعيته.
__________
(1) - انظر صحيح البخاري – كتاب النكاح – باب في الخطبة –: (9/201) ، وكتاب الطب – باب إن من البيان لسحراً: (10/237) بشرح ابن حجر فيهما، وسنن أبي داود – كتاب الأدب – باب ما جاء في المتشدق في الكلام: (5/275) ، وسنن الترمذي – كتاب البر والصلة –: باب ما جاء في أن من البيان سحراً –: (6/30) ، والموطأ – كتاب الكلام – باب ما يكره من الكلام بغير ذلك الله –: (2/986) ، والمسند: (2/16، 59، 62، 94) ، ورواه أحمد عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – في: (1/269، 273، 303، 309، 327، 332) ، وسنده صحيح كما في تعليق الشيخ شاكر: (4/138) رقم 2424 وعن ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه – في: (1/397، 454) وإسناده صحيح كما في تعليق الشيخ شاكر: (5/293) 3778، ورواه عن معد بن يزيد السلمي – رضي الله تعالى عنه – في: (3/470) ، وعن عمار بن ياسر – رضي الله تعالى عنهما – في: (4/263) ، وعنه رواه مسلم في كتاب الجمعة: (6/158) بشرح النووي، وهو في سنن الدارمي – كتاب الصلاة – باب في قصر الخطبة –: (1/365) ، والحديث رواه الطبراني عن أنس – رضي الله تعالى عنه – وفيه العباس بن الفضل وهو متروك كما في مجمع الزوائد: (8/123) .(4/75)
.. ويضاف إلى ذلك الأمر، عنايتهم بالثرثرة، وعدم الاقتصار في الكلام على الضرورة، فمجالسهم قيل وقال، وشغب وجدال، وذلك مما يخدع به السذج الجهال، وقد شهد أمير المؤمنين هارون الرشيد، باتصافهم بذلك الحال، كما تقدم قريباً فكن منه على بال.
3- تعاونهم فيما بينهم على نشر ما يدعون إليه وتساندهم في بث ما اتفقوا عليه، حتى استطاعوا في نهاية الأمر، إقناع المأمون بما يدعون إليه من وزر، فصبا إليهم ومال، وتقلد مذهب الخزي والعار، واضطهدوا أئمة السنة الأبرار، وتغيرت الأمور، وتكدرت الأحوال، وكثر البلاء واستطار، إذ تبع ذلك المذهب غفير من الأغمار، واستمر الحال على ذلك العار حتى أزاله العزيز القهار على يد المتوكل إمام الأبرار.
... وقد ضرب المتقدمون الأمثال، بتعاون المعتزلة الضلال، فقالوا معبرين عن مدى الاحتفاء والإجلال: اعتد به، كاعتداد الشيعي بالشيعي، والمعتزلي بالمعتزلي (1) – جمعنا الله على الهدى، وحفظنا من الزيغ والردى.
نشأة تلك الفرقة المنكرة، وحكمها في شريعة الله المطهرة:
__________
(1) - انظر تفصيل الكلام على أسباب انتشار مذهب المعتزلة اللئام، في تقديم الأستاذ محمد محيى الدين عبد الحميد لكتاب مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين: (21-22) ، وفي كتاب التنبيه والرد: (40) يقول الإمام أبو الحسن الملطي – رحمه الله تعالى –: واعلم أن للمعتزلة سوى من ذكرناهم جماعة كثيرة قد وضعوا من الكتب والهوس ما لا يحصى، ولا يبلغ جمعه، وهي في كل بلدة وقرية، ولا تخلو منهم الأرض.(4/76)
.. ظهر مذهب المعتزلة في أوائل المائة الثانية، قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى – كان الناس في قديم الزمان قد اختلفوا في الفاسق المِلِّي، وهو أول اختلاف حدث في الملة، هل هو كافر أو مؤمن؟ فقالت الخوارج: إنه كافر، وقالت الجماعة أهل السنة: إنه مؤمن، وقالت طائفة: نقول هو فاسق، لا مؤمن، ولا كافر، ننزله منزلة بين المنزلتين، وخلدوه في النار، واعتزلوا حلقة الحسن البصري وأصحابه – رحمهم اله جميعاً – فسموا معتزلة (1) .
__________
(1) - انظر مجموع الفتاوى الكبرى: (3/182-183) ، وأفاد في: (10/358) أن انتشارا أمر المعتزلة تم بعد موت الحسن البصري وابن سيرين – عليهما رحمة الله تعالى – وذكر في: (8/228) أن قتادة وغيره قالوا: أولئك المعتزلة.(4/77)
.. وأول من قال إن مرتكب الكبيرة: لا مؤمن ولا كافر، إنما هو منزلة بين الإيمان والكفر في الدنيا ومخلد في النار في الآخرة هو: واصل بن عطاء الغزَّال، المتكلم البليغ المتشدق، وكان من تلاميذ الحسن البصري – رحمه الله تعالى – فلما قال ما قال، طرده من مجلسه، فاعتزل عنه، وجلس في ناحية من مسجد البصرة، وانضم إليه عمرو بن عبيد، فقيل لهما ولأتباعهما: المعتزلون، أو المعتزلة لاعتزالهم مجلس الحسن البصري، ولاعتزالهم قول الأمة في دعواهم: إن الفاسق من أمة الإسلام لا مؤمن ولا كافر. قال الذهبي – عليه رحمة الله – في الميزان: كان واصل من أجلاد المعتزلة، قال أبو الفتح الأزدي: هو رجل سوء كافر، مات سنة إحدى وثلاثين ومائة (1) .
__________
(1) - انظر إيضاح ذلك وترجمة واصل في وفيات الأعيان: (3/130، 248، 5/61) ، وميزان الاعتدال: (4/329) ولسان الميزان: (6/214-215) ، وشذرات الذهب: (1/182-183) ، والفرق بين الفرق: (20-21، 117-119) ، والتنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع: 38، والملل والنحل: 1/53-57 واحذر ما جاء في طبقات المعتزلة للمعتزلي عبد الجبار: (234-241 من إسفاف ومجازفة في الثناء على واصل الضال، وما ذكره في صفحة: (234) من الحديث في فضل واصل: "سيكون في أمتي رجل يقال له واصل، يفصل بين الحق والباطل" فهو من لهو الحدث، ومن أشنع الكلام الخبيث، ولا يصدر إلا من رقيع خسيس.(4/78)
.. وقد تبع عمرو بن عبيد واصل بن عطاء على تلك المقالة النكراء، وبلغ من شدة تعلقه به أن زوجه أخته، والطيور على أشكالها تقع، وقال له: زوجتك أختي إذ لم يكن لي بنت، وما بي إلا أن يكون لك عقب، وأنا خاله، فما حقق الله أمنيته، وقطع نسلهما، وماتا جميعاً، ولم يعقبا، وفي الميزان، وتهذيب التهذيب نقلا ً عن ابن حبان – عليه رحمة الرحيم الرحمن – كان عمرو بن عبيد من أهل الورع والعبادة، إلى أن أحدث ما أحدث، واعتزل مجلس الحسن البصري – عليه رحمة الله تعالى – هو وجماعة معه، فمسوا بالمعتزلة – وكان يشتم الصحابة – رضي الله تعالى عنهم – ويكذب في الحديث وَهْماً لا تعمُّداً، قال ابن حجر معلقاً على كلام ابن حبان وغيره: والكلام فيه، والطعن عليه كثيراً جداً وبذلك ختم ترجمته. وفي البداية والنهاية نقلا ً عن الحسن البصري – عليه رحمة الله تعالى – قال: عمرو بن عبيد سيد شباب القراء ما لم يحدث، قالوا: فأحدث والله أشد الحدث، وقد قال عبد الله ابن المبارك – عليه رحمة الله تعالى –:
أيها الطالب علماً ... ايتِ حماد بن زيدِ
فخذِ العلم بحلم ... ثم قيده بقيدِ
وذر البدعة من ... آثار عمرو بن عبيدِ
... قال الإمام ابن كثير – عليه رحمة الرب الجليل –: وقد كان عمرو بن عبيد محظياً عند أبي جعفر المنصور، وكان المنصور يحبه ويعظمه، لأنه كان يفد على المنصور مع القراء، فيعطيهم المنصور فيأخذون، ولا يأخذ عمرو منه شيئاً، وكان يسأله أن يقبل كما يقبل أصحابه، فلا يقبل منه، فكان ذلك مما يغر المنصور ويروج به عليه حاله، لأن المنصور كان بخيلا ً، وكان يعجبه ذلك منه وينشد:
كلكم يمشي رويد ... كلكم يطلب صيد
غير عمرو بن عبيد(4/79)
.. ولو تبصر المنصور لعلم أن كل واحد من أولئك القراء خير من ملء الأرض مثل عمر بن عبيد، والزهد لا يدل على صلاح، فإن بعض الرهبان قد يكون عنده من الزهد مال لا يطيقه عمرو، ولا كثير من المسلمين في زمانه، مات عمر سنة ثلاث وأربعين ومائة (1) .
حكم تلك الفرقة:
__________
(1) - انظر ما تقدم وغيره في ميزان الاعتدال: (3/273-280) ، وتهذيب التهذيب: (/70-75) والبداية والنهاية: (10/78-80) ، والفرق بين الفرق: (20، 120-121) ، والملل والنحل: (1/56) وتاريخ بغداد: (12/166-188) ، وفيه في: (183) عن سلام بن أبي مطيع قال: لأنا أرجي للحجاج مني لعمرو بن عبيد، إن الحجاج إنما قتل الناس على الدنيا، وإن عمرو بن عبيد أحدث فتنة، فقتل الناس بعضهم بعضاً، وانظر وفيات الأعيان: (3/130-133) ، والمعارف: (212) ، ومروج الذهب: (3/313-314) وشذرات الذهب: (1/211) .(4/80)
.. الذي حط عليه كلام المحققين، الحكم عليهم بالضلال، وتفويض شأنهم إلى الكبير المتعال – جل جلاله – قال الإمام الذهبي في الميزان، وقال أحمد بن زهير: سمعت يحيى بن معين – عليهم جميعاً رحمة رب العالمين – يقول: كان عمرو بن عبيد من الدهرية، قلت: وما الدهرية؟ قال: الذين يقولون لا شيء، إنما الناس مثل الزرع، وكان يرى السيف، قال المؤلف – الإمام الذهبي – لعن الله الدهرية، فإنهم كفار، وما كان عمرو هكذا 10هـ.(4/81)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – عليه رحمة رب البرية –: نصوص الإمام أحمد – رحمه الله تعالى – صريحة بالامتناع من تكفير الخوارج والقدرية وغيرهم 10هـ ونقل عن السلف تكفير من نفى الكتاب والعلم من القدرية، ولم يكفروا من أثبت العلم ولم يثبت خلق الأفعال، قال: وأقدم من بلغنا أنه تكلم في تعيين الفرق الهالكة وتضليلهم يوسف بن أسياط، ثم عبد الله بن المبارك – وهما إمامان جليلان من أجلاء أئمة المسلمين عليهما رحمة رب العالمين – قالا: أصول البدعة: الروافض، والخوارج، والقدرية، والمرجئة، فقيل لابن مبارك: والجهمية؟ فأجاب: بأن أولئك ليسوا من أمة محمد – صلى الله عليه وسلم – وكان يقول: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية، وهذا الذي قاله اتبعه عليه طائفة من العلماء من أصحاب أحمد وغيرهم، وقالوا: إن الجهمية كفار فلا يدخلون في الاثنتين والسبعين فرقة، كما لا يدخل فيهم المنافقون الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام وهم الزنادقة، وقال آخرون من أصحاب أحمد وغيرهم: بل الجهمية داخلون في الاثنين والسبعين فرقة، وجعلوا أصول البدع خمسة، ثم قال شيخ الإسلام: من أخرج الجهمية منهم لم يكفرهم فإنه لا يكفر سائر أهل البدع، بل يجعلهم من أهل الوعيد بمنزلة الفساق والعصاة، ويجعل قوله – صلى الله عليه وسلم –: "هم في النار" مثل ما جاء في سائر الذنوب، مثل أكل مال اليتيم وغيره كما قال – جل جلاله –: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} النساء10.
ومن أدخل الجهمية فيهم – أي: في الفرق الضالة البالغ عدد ثنتين وسبعين فرقة – منهم على قولين:(4/82)
.. منهم من يكفرهم كلهم، وهذا إنما قاله بعض المتأخرين المنتسبين إلى الأئمة، أو المتكلمين وأما السلف والأئمة فلم يتنازعوا في عدم تكفير "المرجئة" و"الشيعة المفضلة" ونحو ذلك، ولم تختلف نصوص الإمام أحمد في أنه لا يكفر هؤلاء، وإن كان من أصحابه من حكى في تكفير جميعه أهل البدع – من هؤلاء وغيرهم – خلافاً عنه، أو في مذهبه، حتى أطلق بعضهم تخليد هؤلاء وغيرهم، وهذا غلط على مذهبه وعلى الشريعة.
... ومنهم من لم يكفر أحداً من هؤلاء إلحاقاً لأهل البدع بأهل المعاصي، قالوا: فكما أن من أصول أهل السنة والجماعة أنهم لا يكفرون أحداً بذنب، فكذلك لا يكفرون أحداً ببدعة، والمأثور عن السلف والأئمة: إطلاق أقوال بتكفير "الجهمية" المحضة (1) .
__________
(1) - انظر ما تقدم في ميزان الاعتدال: (3/280) ، ومجموع الفتاوى: (23/348، 3/350-352) وكرر نحو ذلك في أماكن من مجموع الفتاوى: (28/50، 3/229، 282) .(4/83)
.. وصفوة كلامه – رحمه الله تعالى – أن من عدا الجهمية لا يكفرون، وفي تكفير الجهمية نزاع، والمنقول عن السلف القول بكفرهم، وبناء على هذا فالمعتزلة ضلال وليسوا بكفار، وهذا ما قرره شيخ الإسلام ابن قدامة في رسالته إلى الشيخ محمد بن الخضر بن تيمية – عليهم جميعاً رحمة الله تعالى – ومما قاله في ذلك: ثم إن الإمام أحمد – الذي هو أشد الناس على أهل البدع – قد كان يقول للمعتصم: يا أمير المؤمنين، ويرى طاعة الخلفاء الداعين إلى القول بخلق القرآن، وصلاة الجمع والأعياد خلفهم ولو سمع الإمام أحمد من يقول هذا القول – تكفير أهل البدع، وتخليدهم في النار – الذي لم يرد عن النبي – صلى الله عليه وسلم – ولا عن أحد قبله – أي: قبل الإمام أحمد – لأنكره أشد الإنكار، فقد كان ينكر أقل من هذا (1) .
__________
(1) - انظر الذيل على طبقات الحنابلة: 2/156، والرسالة طويلة لخص منها ابن رجب قرابة أربع صفحات، وأشار إلى تأليف ابن قدامة إلى هذه الرسالة في ترجمة ابن قدامة: (2/139) فقال في عد تصانيفه، منها: رسالة إلى الشيخ فخر الدين بن تيمية في تخليد أهل البدع في النار. وانظر نحوه ما ذكره ابن قدامة عن الإمام أحمد في مجموع الفتاوى: (23/349) وفي: (8/430، 460) قرر عدم تكفير الأئمة للمعتزلة ولا لمقابلهم من الجبرية، إنما كفروا من نفى علم الله بالأشياء قبل وقوعها.(4/84)
.. قال عبد الرحيم – غفر الله له ذنوبه أجمعين – إطلاق الكفر على الزائغين المبتدعين، من قبل بعض السلف الصادقين، محمول على واحد من أمور أربعة عن المهتدين، فاعلم ذلك ولا تكن من الغافلين، قال الإمام البغوي – عليه رحمة رب العالمين – بعد أن قرر وجوب هجر الزائغين المفسدين، وسير السلف على ذلك الهدي القويم –: ثم هم مع هجرانهم كفوا عن إطلاق اسم الكفر على أحد من أهل القبلة، لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – جعلهم كلهم من أمته – أي في الحديث المتقدم في افتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة –. وروي عن جماعة من السلف تكفير من قال بخلق القرآن، روي ذلك عن الأئمة الكرام مالك، وابن عيينة، وابن المبارك، والليث بن سعد، ووكيع بن الجراح، وغيرهم – رحمهم الله جميعاً –. وناظر الشافعي – رحمه الله تعالى – حفصاً الفَرْدَ، فقال: حفص: القرآن مخلوق، فقال الشافعي: كفرت بالله العظيم (1) .
والأمور الأربعة التي يحمل عليها إطلاق الكفر على المبتدعين هي:
__________
(1) - انظر شرح السنة: (1/228) ، وانظر مناقشة الشافعي لحفص الفرد المعتزلي وحكمه بالكفر على من قال بخلق القرآن في الأسماء والصفات: (252) ، والسنن الكبرى: (10/206) ، ومناقب الشافعي: (10/460) والانتقاء: (82) ، وتبيين كذب المفترى: (339) ، والمقاصد الحسنة: (304) ، وفيه: تكفير الشافعي لحفص الفرد ثابت، وانظر كشف الخفاء: (2/94) ، وتدريب الراوي: (216) ، ومنهج ذوي النظر: (106) ، والبداية والنهاية: (10/254) ، ومجموع الفتاوى: (23/349) ، وآداب الشافعي ومناقبه: (194) ، وذلك الحكم قاله الإمام أحمد أيضاً ففي مسائل الإمام أحمد: (262) قال أبو داود: قلت لأحمد: من قال القرآن مخلوق أكافر هو؟ قال: أقول هو كافر.(4/85)
1- كفر لا يخرج عن الملة: فهو كفر دون كفر، قال الإمام البغوي وأجاز الشافعي شهادة أهل البدع، والصلاة خلفهم مع الكراهة على الإطلاق، فهذا القول منه دليل على أنه إن أطلق عليه بعضهم اسم الكفر في موضع أراد به كفراً دون كفر (1) .
2- فعل المبتدعين، يشابه فعل الكافرين، ولوجود ذلك الاتفاق بينهما، صح إطلاق لفظ الكفر على المبتدعة منهما، ولم تطبق على المبتدعين أحكام الكفر، لقيام شبهة عندهم لهم فيها شائبة عذر، قال الإمام ابن تيمية: وكذلك الإمام الشافعي لما قال لحفص الفَرْد حين قال: القرآن مخلوق، كفرت بالله العظيم، بين له أن هذا القول كفر، ولم يحكم بردة حفص بمجرد ذلك، لأنه لا يتبين له الحجة التي يكفر بها، ولو اعتقد أنه مرتد لسعى في قتله، وقد صرح في كتبه بشهادة أهل الأهواء والصلاة خلفهم (2) .
__________
(1) - انظر شرح السنة: (1/228) ، وانظر نحو ذلك التعليل في الذيل على طبقات الحنابلة: (2/156) .
(2) - انظر مجموع الفتاوى: (23/349) ، وقال قبل ذلك: (23/346) : وحقيقة الأمر في ذلك – أي في تكفير أهل البدع – أن القول قد يكون كفراً، فيطلق القول بتكفير صاحبه، ويقال: من قال كذا فهو كافر. لكن الشخص المعين الذي قاله لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها، وهكذا الأقوال التي يكفر قائلها، قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص لمعرفة الحق، وقد تكون عنده ولم تثبت عنده، ولم يتمكن من فهمها، وقد يكون عرضت له شبهات يعذره الله فيها، ونحو ذلك في: (7/619) .(4/86)
3- إن ذلك الزيغ سيؤدي إلى الكفر في نهاية المطاف، لما يتلبس به المبتدع من شنيع الأوصاف وإذا كانت المعاصي بريد الكفر، فإن البدع بريدها السريع، مع الضمان الوثيق، لذلك الوصف الشنيع، قال شيخ الإسلام ابن تيمية – عليه رحمة الله تعالى –: كانوا يقولون: إن البدع مشتقة من الكفر، وآيلة إليه (1) .
4- إطلاق الكفر على المبتدعين، من باب التغليظ والردع للزائغين، زجراً لهم عن إفكهم المبين وتنفيراً لغيرهم من ذلك المسلك الوخيم (2) .
__________
(1) - انظر قول العلماء الكرام: الصغيرة تجر إلى الكبيرة، وهي تجر إلى الكفر، لأن المعاصي بريد الكفر في الفتح المبين لشرح الأربعين: (118) ، وكشف الخفاء: (2/213) ، ونحو ذلك في الإحياء: (4/32) ، وانظر مجموع الفتاوى: (6/359) ، كانوا يقولون: إن البدع مشتقة من الكفر , وآيلة إليه..
(2) - انظر توجيه إطلاق لفظ الكفران، ونفي الإيمان، عن أهل الفسوق والعصيان في فتح الباري: (1/112) ، وشرح الإمام النووي على صحيح مسلم –: (2/57) ، ومجموع الفتاوى: (7/524-525) ، ومدارج السالكين: (1/395-397) ، وأجوبة الحافظ ابن حجر عن أحاديث المشكاة: (3/1778-1779) .(4/87)
وبهذه التحقيقات العلية، يتبين الوجه في إطلاق لفظ "المجوس" على القدرية، في قول خير البرية – عليه صلوات الله وسلامه بكرة وعشية –: "القدرية مجوس هذه الأمة، إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم (1)
__________
(1) - رواه أبو داود في سننه – كتاب السنة – باب في القدر –: (5/66) ، والحاكم في المستدرك – كتاب الإيمان –: (1/85) وأحمد في المسند: (2/86، 125) ، وابن أبي عاصم في كتاب السنة: (1/149-150) ، والآجري في الشريعة: (190) ، والطبراني في الأوسط كما في مجمع الزوائد: (7/205) ، كلهم عن ابن عمر – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – ورواية الحاكم وأبي داود وإحدى روايات ابن أبي عاصم من طريق أبي حازم سلمة بن دينار عن ابن عمر. قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين إن صح سماع أبي حازم من ابن عمر، وأقره الذهبي، قال الهيثمي في تهذيب السنن: (7/58) : هذا منقطع، أبو حازم لم يسمع من ابن عمر، ووصله الآجري وفيه زكريا بن منظور، ومن طريقه أخرجه الطبراني: قال الهيثمي: زكريا بن منظور وثقه أحمد بن صالح وغيره، وضعفه جماعة 10هـ والذي حط عليه كلام ابن حجر في التقريب: (1/261) أنه ضعيف، ورواية أحمد الأولى، وإحدى روايات ابن أبي عاصم عن طريق عمر بن عبد الله، وعمر مولى غفرة لم يسمع أحداً من الصحابة كما في تهذيب التهذيب: (7/472) نقلا ً عن ابن معين، فالسند منقطع. ومع هذا فقد حكم ابن حجر عليه في التقريب: (2/59) بالضعف..ورواه أحمد في المكان الثاني متصلا ً عن مولى غفرة عن نافع عن ابن عمر، وقد علمت حال مولى غفرة، ومع ذلك فقد مال الشيخ شاكر في تعليقه على المسند: (8/279) 6077 إلى ترجيح الحكم عليه بالصحة، وأن علة الانقطاع في الرواية الأولى قد زالت، وقد ورد في بعض روايات ابن أبي عاصم، والآجري والطبراني في الصغير: (2/14) من طريق الحكم بن سعيد عن الجعيد بن عبد الرحمن عن نافع به، وساقه البخاري في التاريخ الكبير: (2/341) في ترجمة الحكم بن سعيد، وحكم عليه بالنكارة، وكذلك عَدَّ الذهبيُّ في الميزان: (1/570) هذا الحديثَ من مناكير الحكم بن سعيد، وأقر ذلك ابن حجر في اللسان: (2/332) ، ونقله أيضاً عن العقيلي، وابن عدي، والحديث رواه ابن أبي عاصم أيضاً من طريق إسماعيل بن داود عن سليمان بن بلال عن أبي حسين عن نافع به، وإسماعيل ضعفه أبو حاتم كما في الميزان: (1/226) ، وقال البخاري في التاريخ الكبير: (1/374) : إنه منكر الحديث، وانظر حديث ابن عمر أيضاً في الميزان: (2/79) ، والمجروحين لابن حبان: (1/314) .
وقد روي الحديث عن حذيفة بن اليمان – رضي الله تعالى عنهما – بنحو الحديث المتقدم في سنن أبي داود في المكان المتقدم، وفي المسند: (5/406-407) ، وكتاب السنة لابن أبي عاصم: (1/144) كلهم عن عمر مولى غفرة عن رجل من الأنصار عن حذيفة، وتقدم الكلام في مولى غفرة، والرجل الأنصاري مجهول كما في تهذيب السنن: (7/61) .
وروي الحديث أيضاً عن جابر بن عبد الله – رضي الله تعالى عنهما – في سنن ابن ماجه – المقدمة – باب في القدر –: (1/35) ، ومعجم الطبراني الصغير: (1/221) ، وكتاب السنة لابن أبي عاصم: (1/144) والشريعة للآجري: (190) بزيادة: "وإن لقيتموهم فلا تسلموا عليهم" ورجال السند ثقات إلا أن أبا الزبير محمد بن مسلم بن تدردس المكي مدلس كما في التقريب: (2/207) وقد عنعن.
وري الحديث عن أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنها – في كتاب السنة لابن أبي عاصم: (1/146) بنحو ما تقدم، وسنده ضعيف كما قال الشيخ الألباني في تعليقه عليه.(4/88)
".
... قال ابن الأثير – عليه رحمة الملك الكبير – في جامع الأصول: القدرية في إجماع أهل السنة والجماعة: هم الذين يقولون: الخير من الله، والشر من الإنسان، وإن الله لا يريد أفعال العصاة، وسموا بذلك، لأنهم أثبتوا للعبد قدرة توجد الفعل بانفرادها واستقلالها دون الله – جل وعلا – ونفوا أن تكون الأشياء بقدر الله وقضائه، وهؤلاء مع ضلالتهم يضيفون هذا الاسم إلى مخالفيهم من أهل الهدى، فيقولون: أنتم القدرية حين تجعلون الأشياء جارية بقدر من الله، وأنكم أولى بهذا الاسم منا، وهذا الحديث يبطل ما قالوا، فإنه – صلى الله عليه وسلم – قال: "القدرية مجوس هذه الأمة" ومعنى ذلك: أنهم لمشابهتهم المجوس في مذهبهم، وقولهم بالأصلين، وهما: النور والظلمة، فإن المجوس يزعمون: أن الخير من فعل النور، والشر من فعل الظلمة فصاروا بذلك ثَنَوِيَّةً، وكذلك القدرية، لما أضافوا الخير إلى الله، والشر إلى العبيد أثبتوا قادِرَيْنِ خالِقَيْنِ للأفعال، كما أثبت المجوس، فأشبهوهم، وليس كذلك غير القدرية، فإن مذهبهم أن الله – عز وجل – خالق الخير والشر، لا يكون شيء منهما إلا بخلقه ومشيئته، فالأمران معاً مضافان إليه خلقاً وإيجاداً، وإلى العباد مباشرة واكتساباً (1) .
__________
(1) - انظر جامع الأصول: (10/128) نحوه في مجموع الفتاوى: (8/452) ، وشرح الإمام النووي على صحيح مسلم: (1/154) وقد استدل الإمام الآجري في الشريعة: (168) على شقاء القدرية بالحديث الوارد عن خير البرية – صلى الله عليه وسلم – في تشبيههم بشرذمة المجوس الردية، فقال: فإن قال قائل: هم عندك أشقياء؟ قلت: نعم، فإن قال قائل: بماذا؟ قلت: كذا قال النبي – صلى الله عليه وسلم –، وسماهم "مجوس هذه الأمة" 10هـ وتلك التسمية لا تستلزم كفرهم كما تقدم، قال الحافظ ابن حجر في أجوبته عن أحاديث المشكاة: (3/1779) : المراد أنهم كالمجوس في إثبات فاعِلَيْنِ، لا في جميع معتقد المجوس، ومن ثم ساغت إضافتهم إلى هذه الأمة 1هـ.(4/89)
فائدة علية هي خاتمة الكلام على تلك الفرقة الردية الغوية:
أفاد شيخ الإسلام – عليه رحمة الرحيم الرحمن – أن القدرية ثلاثة أقسام:
القسم الأول: قدرية مشركة:
وهو الذين اعترفوا بالقضاء والقدر، وزعموا أن ذلك يوافق الأمر والنهي قال الله – عز وجل –: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ} الأنعام148، مثلها في سورة النحل35: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} .
... وهؤلاء يؤول أمرهم إلى تعطيل الشرائع، والأمر والنهي، مع الاعتراف بالربوبية العامة لكل مخلوق، وقد ابتلي بهذا الجهميةُ وطوائفُ من الفقراء والصوفية، ولن يستتب لهم ذلك، وإنما يفعلونه عند موافقة أهوائهم كفعل المشركين من العرب، وإذا خولف هوى أحد منهم قام في دفعه متعدياً للحدود غير واقف عند حد كما كانت تفعل المشركين أيضاً قال بعض العلماء: أنت عند الطاعة قدري وعند المعصية جبري، أي مذهب وافق هواك تمذهبت به، إذ هذه الطريقة تتناقض عند تعارض إرادات البشر فهذا يريد أمراً، والآخر يريد ضده، وكل من الإرادتين مقدرة، فلابد من ترجيح إحداهما، أو غيرهما.
القسم الثاني قدرية مجوسية:(4/90)
.. وهم الذين يجعلون لله – جل وعلا – شركاء في خلقه، كما جعل الأولون لله – جل وعلا – شركاء في عبادته، فيقولون: خالق الخير غير خالق الشر ويقول من كان منهم في ملتنا: إن الذنوب الواقعة ليست بمشيئة الله – عز وجل – وربما قالوا: ولا يعلمها أيضاً فيجحدون مشيئته النافذة، وقدرته الشاملة، ولهذا قال ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما –: الإيمان بالقدر نظام التوحيد، فمن وحد الله، وآمن بالقدر تم توحيده، ومن وحد الله، وكذب بالقدر نقض تكذيبه توحيده. ويزعمون أن هذا هو العدل، ويضمون إلى ذلك سلب الصفات، ويسمونه: التوحيد، كما يسمي الأولون التلحيد: التوحيد، فيلحد كل منهما في أسماء الله وصفاته، وقد وقع بذلك المعتزلة، والمتأخرون من الشيعة.
القسم الثالث قدرية إبليسية:
... وهم الذين صدقوا الله بأن الله – جل وعلا – صدر عنه الأمران، لكن عندهم هذا تناقض، وهذا حال الزنادقة الملاعين، كالمعري وشيعته المجرمين (1) .
... هذه هي أصناف الزائغين في قدر رب العالمين، وقد تكرم الله الكريم، بهداية عباده المخلصين إلى صراطه المستقيم، فأثبتوا أمر الله ونهيه، كما أثبتوا قدره وحكمته، وعولوا على القدر في المصائب، واستغفروا ربهم ولاذوا به عند المعايب – جعلنا الله العظيم من حزبه المفلحين، وختم لنا بالحسنى آمين.
والحمد لله رب العالمين..
__________
(1) - انظر تفصيل ذلك وإيضاحه في مجموع الفتاوى: (8/256-261، 3/111-128، 8/107) ، وأثر ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – رواه الآجري في الشريعة: (215) وانظره في شرح الطحاوية: (225) .(4/91)
التعليق على الطحاوية
(مبحث الإسراء والمعراج)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
بسم الله الرحمن الرحيم
المحاضرة الأولى 21/2/1421 هـ
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد..
فأول مبحث عندنا هو: مبحث: الإسراء والمعراج
المراد بالإسراء:
ما حصل لنبينا عليه الصلاة والسلام من رحلة مباركة من مكة المكرمة إلى المسجد الأقصى في جزء من الليل وتبع ذلك العروج به إلى السموات العلا إلى مستوىً سمع فيه صريف الأقلام أي حسها وكتابتها في اللوح المحفوظ عندما تكتب تقدير الله جلا وعلا، ثم أعيد عليه صلوات الله وسلامه إلى مكة المكرمة ولا زال فراشه دافئاً أي: لم يبرد بعد فراق النبي صلي الله عليه وسلم، وذلك أن الفراش يدفأ من أثر احتكاك الإنسان به وتنفسه ويسخن عندما ينام الإنسان فيه وهكذا عندما يجلس الإنسان، لذلك ورد في معجم الطبراني أو البزار – شك الشيخ الطحان – بسند ضعيف [أن امرأة جاءت إلى النبي عليه الصلاة والسلام تناجيه في مسألة وتستفتيه في أمر في مسجده عليه صلوات الله وسلامه عليه وبعد أن انتهت وقامت جاء رجل وأراد أن يجلس مكانها، قال: لا حتى يبرد المكان] .
فالشاهد:
أن الإنسان عندما يجلس في مكان أو ينام في هذا المكان يكون فيه شيء من دفئه وحرارته الغريزية.
وسنتناول مبحث الإسراء والمعراج ضمن مراحل متعددة:
المرحلة الأولي:
يجب علينا إذا أردنا أن نتكلم على هذا الحادث العظيم الجليل الشريف المبارك أن نذكر الآية التي أشارت إليه في سورة سميت باسم هذا الحادث المبارك وهي سورة (الإسراء) ، وتسمي أيضا بسورة (بني إسرائيل) وتسمي أيضا بسورة (سبحان) فلها ثلاثة أسماء، وأسماء السور توقيفية مبناها على النقل لا على العقل وعلى الرواية لا على الرأي، إما من الصحابة فلكلامهم حكم الرفع إلى نبينا عليه صلوات الله وسلامه ورضي الله عنهم أجمعين، وإما النقل عن التابعين فلذلك حكم الرفع المرسل فيقبل قول التابعي:(5/1)
(1) إذا تعزز بقول تابعي الآخر.
(2) إذا كان قائله من أئمة التفسير الذين أخذوا تفسيرهم عن الصحابة كمجاهد بن جبر وسعيد بن جبير عليهم جميعاً رحمة الله.
فأسماء السور إذن توقيفية وكذا القول بأن هذا مكي وهذا مدني وأسباب النزول كلها مبنية على الرواية لا على الرأي وعلى النقل لا على العقل.
يقول ربنا الجليل في أولها (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير) .
هذه الآية لابد من تفسيرها وكل من يتكلم على حادث الإسراء والمعراج ينبغي أن يستعرض تفسير هذه الآية لتربط المباحث ببعضها.
(سبحان) مأخوذة من السَّبْح وهو الذهاب والإبعاد في الأرض، ومنه يقال السابح الذي يسبح في البركة وفي البحر سابح لأنه يبعد ويذهب بعيداً في حال سباحته، ولذلك لا تصلح السباحة في مكان ضيق محصور متر في متر ونحوها.
فسبحان مأخوذة في أصلها اللغوي من السبح وهو الذهاب والإبعاد في الأرض كما ذكرنا ولفظ (سبحان) إما أن يكون مصدر (سبَّح - يسبح – تسبيحاً – وسبحاناً) على وزن (كفر – يكفر – تكفيراً وكفراناً) وهذا المصدر منصوب يعامل إما من لفظه فنقدر نُسبِّحُ الله سبحاناً، وإما من غير لفظه فنقدر: أُنَزِّهُ الله سبحاناً، وكلا التقديرين صحيح، وأما سبحان عَلَمٌُ على التسبيح انتصب بفعل مضمر، ثم نُزِّل ذلك العلم منزلة الفعل وسد مَسَدَّهُ.
وأما معنى (سبحان) فقد جاء لثلاثة معانٍ في القرآن:
1- أولها:(5/2)
تنزيه الله عن السوء وتبرئته من كل نقص، قال الإمام ابن كثير عليه رحمات ربنا الجليل في آخر سورة الصافات عند قوله: (سبحان ربك رب العزة عما يصفون) الآيات قال: "كثيراً ما يقرن الله بين التسبيح والتحميد" (سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين) يقرن بين التسبيح والتحميد؛ لأن كلاً منهما يكمل الآخر "، فالتسبيح فيه تبرئَة لله عن النقائص ويستلزم ذلك إثبات المحامد إذن فيتضمن نفي النقص عن الله ويستلزم إثبات الكمال له، والحمد بالعكس يتضمن إثبات الكمال لله ويستلزم نفي النقص عنه فكل منها يستلزم الآخر.
التسبيح يتضمن معناه الأصلي – نفي النقص عن الله وذلك يستلزم إثبات الكمال فإذا انتفى النقص ثبت الكمال وكل نفي لا يدل على إثبات ما يضاده فلا مدح فيه.
س: إثبات الكمال بلفظ التسبيح من أي أنواع الدلالات هل هو دلالة تضمن أم دلالة مطابقة أم دلالة التزام؟
جـ: دلالة التزام، فإن معنى دلالة التضمن هو أن يدل اللفظ على ما وضع له أي وضع لأجل أن يدل على تبرئة الله عن النقص، وأما معنى دلالة الالتزام فهو دلالة اللفظ على أمر خارج عن المعني لكن لازم له فإذا نُفي النقص ثَبَتَ الكمال.
فمثلاً: الحمد يتضمن إثبات الكمال والمحامد لله وذلك يستلزم نفي النقص فكل منهما يستلزم الآخر ويدل عليه فقرن الله بينهما فكأن الدلالة التي في لفظ التسبيح جيء بالحمد ليدلل الله عليها دلالة تضمن ودلالة مطابقة لا دلالة التزام، وهكذا الدلالة التي في الحمد وهي نفي النقص عن الله جيء بلفظ التسبيح ليدل عليها صراحة وتضمناً ومطابقة لا التزاماً.
فـ[نفي النقص عن الله يستلزم إثبات الكمال وإثبات الكمال يستلزم نفي النقائص] ولذلك يقرن الله بين التسبيح والحمد لكن أصل معنى التسبيح تنزيه الله عن كل نقص وسوء.(5/3)
لذلك قال ربنا جل وعلا: (وقالوا اتخذ الله ولداً) فبأي شيء عقب على هذا الكلام؟ (سبحانه) تعالى وتنزه عن هذا النقص، فهكذا كل نقيصة يقولها الكفار ينفيها الله جل وعلا عن نفسه بلفظ التسبيح.
إذن تنزيه الله عن السوء وقد ورد في مستدرك الحاكم (1/502) في كتاب الذكر والدعاء عن طلحة بن عبيد الله – أحد العشرة المبشرين بالجنة رضوان الله عليهم – قال [سألت النبي صلي الله عليه وسلم عن معني التسبيح فقال نبينا عليه الصلاة والسلام: هو تنزيه الله عن كل سوء] إذن فهذا هو معنى التسبيح، تبرئة الله عن النقائص وعن السوء.
وهذا الأثر صححه الحاكم وقال إسناده صحيح لكن تعقبه الذهبي وقال: قلت: ليس كذلك ثم بين أن فيه ثلاث علل:
العلة الأولي: فيه طلحة بن يحي بن طلحة بن عبيد الله الحفيد، منكر الحديث كما قال البخاري.
العلة الثانية: وفيه حفص تالف الحديث واهٍ، وحفص هذا هو الذي نقرأ بقراءته فهو في القراءة إمام لكنه في الحديث تالف ضعيف، فإنه ما صرف وقته لحفظ الحديث وضبطه فكان إذا حدث يَهِِمُ وسبب الضعف عدم الضبط لا عدم الديانة فانتبه.. فإن سبب الضعف إما زوال الديانة أو زوال الضبط وليس في زوال الضبط منقصة وإن كانت روايته تُردُّ، لكن إذا كان الضعف بسبب ضياع العدالة؛ لأنه فاسق، كذاب، شارب للخمر، مرتكب الكبيرة، وما شاكل هذا فهذا هو النقص، أما إذا كان الإنسان لا يحفظ، وإذا حفظ ينسى، وإذا حدث يخلط، فهو مردود الرواية وسبب الرد عدم الضبط وذلك لأنه لابد من عدالة وضبط فإذا رُدَّتْ رواية الراوي لعدم ضبطه فلا منقصة في دينه، وإذا رُدَّتْ رواية الراوي لعدم عدالته فهذا هو البلاء.
وحفص من ناحية العدالة عدل وفوق العدل، عدل إمام رضا، لكن في ناحية ضبط الحديث واهي الحديث تالف الحديث.(5/4)
العلة الثالثة: وفيه أيضاً عبد الرحمن بن حماد منكر الحديث كما قال ابن أبي حاتم، فالحديث من ناحية الإسناد ضعيف لكن المعنى صحيح، أي تفسير سبحان الله والتسبيح بأنه تبرئة الله عن كل سوء وعن كل نقص، ثبوت هذا عن نبينا صلى الله عليه وسلم ضعيف من حيث الإسناد لكن المعنى صحيح.
2- ثانيها:
ويأتي التسبيح بمعنى التعجب، وهذه المعاني ضروري معرفتها في هذا المبحث إذ لها معانٍ كبيرة وخفية فلفظ (سبحان) هذا وحده يدلنا على أن الإسراء كان بالروح وبالجسد كما سيأتينا، فلفظ سبحان على حسب ما فيها من دلالتين: إما تنزيه الله عن كل نقص أو التعجب، نستدل على أن الإسراء والمعراج كان بالروح والجسد، كيف هذا؟
لو كان رسولنا عليه الصلاة والسلام كذاباً – وحاشاه من ذلك- وقال: أسرى الله بي إلى بيت المقدس وعرج بى إلى السموات ورجعت ولم يكن ذلك قد حصل، فإذا أقره الله فماذا يكون في هذا؟ يكون فيه منقصة في حق الله، فإذن هذا يكذب عليه وهو يؤيده بخوارق العادات من إنزال القرآن وغيره أفلا يكون في هذا منقصة والله تعالى يقول: (ولو تقول علينا بعض الأقاويل) .
فلفظ (سبحان) إذن أول ما يدل عليه أن الإسراء والمعراج بالجسد لا بالروح فقط لأن هذا لو كان على خلاف ذلك لما كان هنا داعٍ لتعجيب العباد من هذا، فالروح كل واحد يرى أنه أسري بها، فقد يري الكافر أنه أسري بها إلى الصين التي هي أبعد من بيت المقدس، وهذا واضح ولو كان النبي صلي الله عليه وسلم يخبر بخلاف الحقيقة فكيف يقره الله وهو أحكم الحاكمين ورب العالمين؟!
لذلك قال أئمتنا: المعجزة تدل على صدق الرسول لأنها بمثابة قول الله: صدق
عبدي فيما بلغ عني.(5/5)
فلو كان نور مثلاً حاضراً في مجلس الأمير، والأمير جالس، وقام وقال أنا رسول الأمير إليكم وأنني مسئول عن أمور الرعية، وأنا نائبه، وقد فوض إلي تدبير الشؤون في هذه المنطقة وأنا ممثله وليس عندي كتاب عنه وما تكلم هو، لكن الدليل على أنني رسوله وأنني نائبه أن الأمير يقعد الآن أمامكم عشر مرات فقام الأمير وجلس وقام وجلس وقام وجلس عشر مرات وما تكلم، أفلا يدل هذا على صدقه؟ نعم يدل دلالة أقوى من الكلام، ولو كان كذاباً لقال الأمير: اضربوا رقبته.
فعندما يقول نبينا عليه الصلاة والسلام للقمر بيده هكذا فينشق فلقتين فهذا لو كان كذاباً لما أيده الله، فإذا كان من علامة صدقه أنه يشير إلى القمر فينشق (اقتربت الساعة وانشق القمر) ولو كان كذاباً لما أيده الله.
وانظر إلى مسيلمة الكذاب لما قيل له: إن محمداً عليه الصلاة والسلام يبصق في عين الأرمد فيبرأ، فقد بصق في عين علي بن أبي طالب وكان يشتكي عينيه فما اشتكى منهما بعد ذلك، فقال مسيلمة هاتوا أرمداً لأبصق في عينيه فأتي له بأرمد فبصق في عينيه فعمي.
فجوزي بنقيض قصده لذا قال أئمتنا: تلك معجزة وهذه إهانة وذلك خارق للعادة وهذا خارق للعادة لكن ليفضحه الله.
وقيل له كان النبي صلي الله عليه وسلم يضع يده في الماء فيفور الماء من بين أصابعه ولما كان صلوات الله وسلامه عليه مع أصحابه في صلح الحديبية كانوا (1500) شخصاً وكفاهم الماء القليل عندما وضع في تور من ماء – إناء صغير- أصابعه صلوات الله عليه فبدأ الماء يفور من بين أصابعه فقيل لمسيلمة عندنا بئر ماؤها قليل لعلك تدخل فيها وتقرأ عليها وتتمتم ليبارك لنا في مائها ففعل فغارت. فهذا خارق للعادة لكنه إهانة وذلك خارق للعادة لكنه معجزة.
إذن فلا يظن أن البحث في معنى سبحان من باب النافلة بل هو مرتبط ببحثنا فـ (سبحان) سيأتي أنه من الأدلة على أن الإسراء كان بالروح والجسد.(5/6)
فـ (سبحان) تأتي بمعني التعجب، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة كما في صحيح البخاري: [سبحان الله: إن المؤمن لا ينجس] وأول الحديث يقول أبو هريرة: [لقيت النبي عليه الصلاة والسلام في بعض طرق المدينة أو مكة وكنت جنباً فانخنست منه] أي تسللت في خفية وتواريت عنه لئلا يراني – وقد كان من عادة النبي صلي الله عليه وسلم إذا التقى بأصحابه يصافحهم ويداعبهم ويضاحكهم وليس حاله كحال الجبابرة الطغاة، لذلك لما حج النبي صلي الله عليه وسلم وفداه أبي وأمي فرد فردا ولا إليك إليك أي ما أحد يقال له تنح من أمام النبي عليه الصلاة والسلام، فالناس يمشون بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله وهو مع الناس، نَفَرٌ منهم، فإذن له لما رأى أبو هريرة النبي عليه الصلاة والسلام وكان أبو هريرة جنباً يقول: انخنست منه أي تسللت في خفية لئلا يصافحني فكيف يصافحني وأنا جنب، وقد كان يظن أن الإنسان إذا أجنب تنجس [فذهب فاغتسل ثم جاء، قال أين كنت يا أبا هريرة؟ قال كنت جنباً فكرهت أن أجالسك قال: سبحان الله إن المؤمن لا ينجس] فما معنى (سبحان الله) هنا؟ معناها: أتعجب منك يا أبا هريرة، أنت حافظ العلم وراوية الإسلام كيف يخفى عليك هذا الحكم في شريعة الرحمن.
(أسرى) قال علماء اللغة سرى وأسرى بمعنىً واحد مثل سقى وأسقى، قال
حسان بن ثابت رضي الله عنه:
حي النضيرة ربت الخدر ... أسرت إليّ ولم تكن تسري
النضيرة في البيت إما زوجته أو ابنته أو أخته المقصود جاءته في الليل ويحييها أسرت إليه ولم تكن تسري، قال علماؤنا: جمع حسان اللغتين في هذا البيت أسرت فهذا أن أسرى وتسري من سرت لأنها لو كانت من أسرت لقال تُسري.(5/7)
قيل إنه سير الليل خاصة، وعليه فذكر (ليلاً) في الآية للإشارة إلى تقليل الزمن في تلك الليلة فما سراه لم يكن في مدة الليلة بكاملها إنما كان الإسراء والمعراج به كان في جزء من الليل ولم يكن في جميع الليلة، ويدل على هذا قراءة بن مسعود وحذيفة وهى قراءة شاذة (سبحان الذي أسري بعبده بالليل) بدلاً من (ليلاً) أي أن السرى حصل لنبينا صلوات الله عليه وسلامه والإسراء به حصل في جزء من الليل فذكر ليلاً، فالتنكير هذا للتقليل حصل له في جزء من الليل وكما ذكرنا فراشه دافئ
وقال الزجاج: هو مطلق السير في ليل أو نهار وعليه فذكر الليل لبيان وقت الإسراء.
(بعبده) هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أفضل خلق الرحمن ونعته بهذا الوصف وهو العبودية لأمرين معتبرين:
الأمر الأول:
أنه أكمل النعوت وأشرف الخصال في حق البشر؛ لأن العبودية تتضمن أمرين اثنين: حب كامل وذل تام، ولا يكون العبد عبداً إلا بهذين الأمرين، فيحب الله محبة تامة كاملة، ويتذلل تذللاً تاماً كاملاً، فمن بلغ هذين الأمرين يقال له: هو عبد، وهذه أشرف صفة ولذلك نعت الله نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم بهذا الوصف الذي يشير إلى هذين الأمرين في أعلى المقامات وأجلها منها قوله تعالى: (سبحان الذي أسرى بعبده) ، (الحمد لله الذي أنزل على عبده) ، (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا) ، (وأنه لما قام عبد الله يدعوه) فينعته ربنا بلفظ العبودية؛ لأنه أشرف وصف في المخلوق وهو أن يكون عبداً للخالق، أي يحبه حباً تاماً ويتذلل إليه تذللاً تاماً.(5/8)
ونبينا عليه الصلاة والسلام نال من هذين الوصفين أعلى نصيب ممكن في حق البشر لذلك فهو أشرف المخلوقات على الإطلاق، ثبت في المستدرك ومسند البزار بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه موقوفاً عليه وله حكم الرفع إلى نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: [خيار ولد آدم] وفي رواية: [سيد ولد آدم خمسة محمد وإبراهيم وموسى وعيسى ونوح وسيد خلقه محمد عليه صلوات الله وسلامه] .
فقد اتفق أئمتنا – وهذا قد مر معكم في مبحث النبوة في المستوى الأول في شرح العقيدة الطحاوية – على أن أفضل البشر الأنبياء وأفضل الأنبياء الرسل وأفضل الرسل أولو العزم وهم الخمسة الذين ذكرهم الله في آيتين من كتابه (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم) آية 7 من سورة الأحزاب، وفى سورة الشورى آية رقم 13 (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) فأفضل الرسل أولو العزم، وأفضل أولو العزم الخليلان إبراهيم ومحمد على نبينا وعلى جميع أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه وأفضل الخليلين أكملها خلة وأعظمها محبة لربه وهو محمد صلى الله عليه وسلم.
فخلة إبراهيم لربه دون خلة نبينا عليه الصلاة والسلام لربه، والخلة هي أكمل مراتب المحبة وهي في المحبة كالمقت في الغضب فكما أن المقت أعظم أنواع الغضب، فالخلة أعلى مراتب المحبة.
قد تخليت مسلك الروح مني ... وبذا سمي الخليل خليلا(5/9)
ولذلك ثبت في الصحيحين عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: [لو كنت متخذاً خليلاً من أهل الأرض لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن صاحبكم خليل الله] فليس في قلبي متسع لغير ربي، فمحبتي كلها له فهذا أعلى الحب وأكمله ولذلك يقول إبراهيم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه كما في حديث الشفاعة الطويل الثابت في مسلم وغيره عندما [يذهبون إليه فيقولون له اشفع لنا فأنت اتخذك الله خليلاً فيقول: إنما كنت خليلاً من وراء وراء، اذهبوا إلى محمد عليه الصلاة والسلام فإنه عبد صالح قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فيذهبون له فيشفع لهم] وهي الشفاعة العظمي والمقام المحمود الذي يغبطه عليه الأولون والآخرون، النبيون والمرسلون عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه.
نعم يلي نبينا في الفضيلة إبراهيم فهو خليل الرحمن وما بلغ مرتبة الخلة إلا نبينا عليه الصلاة والسلام وأبونا إبراهيم، فإبراهيم جعل قلبه للرحمن بشهادة ذي الجلال والإكرام حيث قال: (إذ جاء ربه بقلب سليم) ، وجعل بدنه للنيران وماله للضيفان وولده للقربان أما يستحق هذا أن يتخذه ربنا الرحمن خليلاً وحقيقة الخلة كاملة، والمحبة تامة والعبد هو من جمع حباً وذلاً، يحب ربه من كل قلبه بكل قلبه، ويتذلل له بجميع جوارحه.
فمن حقق هذين الأمرين فهو عبد، فالنعت إذن بوصف العبودية هذا مدح ليس بعده مدح أن يقول لك ربك عبدي، هذا شرف لك ليس بعده شرف.
ومما زادني عجباً وتيهاً ... وكدت بأخمصي أطأ الثُّريا
دخولي تحت قولك يا عبادي ... وأن صيرت أحمد لي نبيا
ولكل ما سبق نُعت النبيُّ صلي الله عليه وسلم بـ (عبده) .
الأمر الثاني:(5/10)
الذي من أجله وصفه الله بهذا الوصف خشية أن تغلو الأمة فيه، فنعته بوصف العبودية لتعرف الأمة وظيفة النبي صلى الله عليه وسلم ومكانته لا نقول: بما أنه أفضل المخلوقات وأسرى الله به وعرج به إلى السماء وأنزل عليه القرآن وفضله على العالمين إذن نذهب نصلي لقبره ركعتين وعندما نذبح نقول بسم محمد وعندما نقع في كربة نقول يا رسول الله فرج عنا، فلئلا تقع الأمة في هذا الضلال أخبرنا الله أنه عبد فإذا كان عبداً فلا يحق أن تصرف له شيئاً من العبادة، فهذا خاص لله جل وعلا.
فَنُعِتَ بهذا الأمر لأجل المدح والتحذير من الغلو ثبت في صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: [لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله] عليك صلوات الله وسلامه يا أفضل خلق الله ويا أكرم رسل الله، والإطراء وهو المجاوزة في المدح والمبالغة فيه.
إخوتي الكرام..... إذا ذكر الإنسان النبي عليه الصلاة والسلام فينبغي أن يذكره بالتبجيل والتوقير والاحترام وأن يتبع هذا عليه الصلاة والسلام.
وأما ما شاع بين الناس في هذه الأيام لما خربت قلوبهم وأظلمت من جفاء نحو ذكر نبينا عليه الصلاة والسلام تراه على المنبر وأحيانا داعي يقول: كما قال رسولكم محمد بن عبد الله، فهذا ينبغي أن يضرب على فمه حتى تسيل الدماء منه، فهذا جفاء وقلة حياء بل كان الواجب أن يقول قال محمد رسول الله، هل نعته الله بأنه ابن عبد الله في كتابه؟ وهل في نسبته لأبيه مدح؟ لا إنما في نسبته إلى الله مدح فالواجب أن يقال: رسول الله خاتم النبيين وغيرها فبهذا نعته الله: (محمد رسول الله) ، (محمد عبد الله ورسوله) ، (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله إليكم وخاتم النبيين) ، (يا أيها النبي اتق الله) ، (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل لك) ، ولم ترد إضافته إلى أبيه في القرآن.(5/11)
ولا يجوز أن تضيفه إلى أبيه إلا في مقام النسب فقط، فتأتي بنسبه فتقول: هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب – إلخ النسب ما عدا هذا ذكره مضافاً إلى أبيه من البذاء والجفاء وقلة الحياء وعدم تعظيم خاتم الأنبياء عليه صلوات الله وسلامه، فانتبهوا لهذا. تضيفه لله فلا حرج قال محمد بن عبد الله ورسوله لكن ليس: قال محمد بن عبد الله. (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً) .
وقد أفتى ابن حجر الهيتمي بأن من قال عن نبينا عليه الصلاة والسلام بمقام الدعوة والتبليغ قال محمد بن عبد الله بأنه يعزر.
وحقيقة الأمر كذلك لأن هذا كما قلنا من عدم توقير النبي عليه الصلاة والسلام.
(المسجد الحرام)
الأحاديث الواردة في الإسراء والمعراج وردت في الظاهر متعارضة، لكن نجمع بينها فيزول التعارض:
ورد أنه أسري به من بيت بنت عمه فاخِتة أم هانئ بنت أبي طالب.
وورد أنه أسري به من شعب أبي طالب.
وورد أنه أسري به من بيته ففرج سقف بيته ونزل الملكان وأخذاه.
وورد أنه أسري به من الحجر من الحطيم وهو حجر إسماعيل.
قال الحافظ ابن حجر: لا تعارض بينها، فكان نبينا عليه الصلاة والسلام نائما في بيت بنت عمه أبي طالب فاخِتة أم هانئ، وبيتها كان في شعب أبي طالب، وأضيف إليه سقف بيته فرج لأجل سكناه فيه؛ لأنه يسكن فيه وإن كان لا يتملكه كما تقول فتح علي باب حجرتي وأنت في الفندق فأضيفت إليه الحجرة تملكاً في السكن لسكنه فيها وكذا أضيف البيت للنبي صلى الله عليه وسلم لسكناه فيه ثم بعد أن أخرج من بيت أم هانئ في شعب أبي طالب وقيل له بيته لأنه يسكنه أُخذ عليه صلوات الله وسلامه إلى الحجر ولازال فيه أثر النعاس وأُرْجِعَ فيه، ثم بعد ذلك هيأ من ذلك المكان وأخرج من باب المسجد الحرام إلى رحلة الإسراء والمعراج فحصلت جميع هذه الأمور من بيت أم هانئ في شعب أبي طالب وهذا بيته وأُخذ إلى الحِجْر وأُسري به من حِجْر إسماعيل وهو الحطيم.
المحاضرة الثانية(5/12)
الثلاثاء 16/3/1412هـ
وقد أضيف بيت بنت عمه أبي طالب أم هانئ فاختة للنبي صلى الله عليه وسلم لسكناه فيه كما قال الله جل وعلا: (لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم) فالإضافة هنا للسكن أو للملك؟ هي للسكن، ولو كنت تملك البيت، لكنك أجرته فلا يجوز أن تدخله وإن كان ملكاً لك وهنا أضيف البيت إليه لسكناه فيه، هذا البيت هو لبنت عمه في شعب أبي طالب وأضيف إليه هو ضمن الحرم.
والمراد من (المسجد الحرام) حرم مكة المكرمة، وليس المراد منه خصوص المسجد لأن لفظ المسجد الحرام شامل لحرم مكة، ولذلك من صلى في أي بقعة من بقاع الحرم تضاعف صلاته مائة ألف صلاة ولا يشترط هذا أن يكون في خصوص المسجد الحرام الذي يحيط بالكعبة بخلاف مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فالأجر هناك بألف لمن صلى في خصوص المسجد أما مكة فكلها حرم في أي جهة تصلى في مسجد الكعبة الذي يحيط بالكعبة أو في أي مسجد آخر فالصلاة تضاعف بمائة ألف صلاة والله تعالى أشار إلى هذا في كتابه فقال: (هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام) أي عن مكة، وهذا وقع في صلح الحديبية، والله جل وعلا يقول: (إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواءً العاكف فيه والباد) فما المراد بالمسجد الحرام هنا؟ هل المراد خصوص المسجد وبقعته التي تحيط بالكعبة؟ لا، بل المراد مكة يستوي فيها البادي والحاضر فهذه خصوصية لمكة، جميع بقعة الحرم يقال لها مسجد حرام.(5/13)
وعليه فإن المراد بقوله: (من المسجد الحرام) أي من مكة المكرمة سواء كان في بيت أم هانئ أو سواء كان في الحجر، لكنني قد جمعت بين هذه الألفاظ وقلنا: إنه كان نائما في بيت أم هانئ وهو شعب أبي طالب، وأضيف البيت إليه لسكناه وقيل إنه أسري به من الحجر والحطيم الذي حطم وفصل من الكعبة عندما ضاقت بقريش النفقة وهو حجر إسماعيل وهو جزء نصف دائري يبعد عن الكعبة قليلاً ومازال موجوداً إلى الآن وهو من الكعبة ومن مر بينه وبين الكعبة فكأنما مر في جوف الكعبة تماماً، ولو كنت تطوف فيما بينه وبين الكعبة لم يصح الطواف بل لابد من الطواف خارج حجر إسماعيل، وهذا الحجر الأصل أنه من الكعبة لكن لما ضاقت النفقة بقريش سابقاً فصلوا هذه البقعة عن الكعبة وحوطوا عليها للإشارة إلى أنها من الكعبة وبقي البناء على هذا والنبي عليه الصلاة والسلام قال لأمنا عائشة والحديث في صحيح البخاري: [لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فنقض وأدخلت حجر إسماعيل وجعلت له باباً شرقياً وغربياً يدخل الناس ويخرجون] أي إلى جوف الكعبة، لكن ما فعل النبي عليه الصلاة والسلام هذا لئلا يقول الناس وهم حديثو عهد بجاهلية بدأ يتلاعب في هذا البيت المعظم الذي هو بيت الله الحرام، فتركه على ما كان ولا حرج في ذلك ولا مضرة ثم بقي على هذه الشاكلة. لما جاء عبد الله بن الزبير نقض البيت الحرام وأدخل الحجر وجعل له بابين: باباً من الشرق وباباً من الغرب ولما قتل رضي الله عنه وأرضاه في الحروب التي جرت بينه وبين بني أمية في عهد عبد الملك بن مروان أمر عبد الملك بأن يعاد البيت كما كان فأعادوه إلى هذه الكيفية الموجودة الآن.(5/14)
ولما جاء أبو جعفر المنصور – الخليفة العباسي - استشار الأئمة وعلى رأسهم الإمام مالك عليهم رحمة الله في أن يعيد البيت كما فعله عبد الله بن الزبير فقال الإمام مالك: الله الله يا أمير المؤمنين في هذا البيت ألا يصبح ألعوبة بأيدي الحكام كل واحد يأتي ينقضه من أجل أهواء سياسية، عبد الله بن الزبير أصاب السنة فمن أجل أن يخالفه بنو أمية نقضوا البيت، فأنت الآن ستخالفهم وتعيد البيت نكاية ببني أمية، فيأتي حاكم بعد ذلك نكاية بك ينقضه، فيصبح البيت ملعبة، فاتركه على شاكلته.
الشاهد: أنه صلى الله عليه وسلم نائماً في الحجر في الحطيم فجاءه ملكان وأخرجاه إلى باب المسجد وبدأت رحلة الإسراء والمعراج، هذه الأمور الأربعة المسجد الحرام والحجر وشعب أبي طالب وبيته كلها يشملها المسجد الحرام.
(إلى المسجد الأقصى) هو بيت المقدس المعروف والموجود في بلاد الشام في فلسطين وسمي بالأقصى وهو الأبعد لأنه لم يكن على وجه الأرض في ذلك الوقت إلا مسجدين المسجد الحرام والمسجد الأقصى، والمسجد الأقصى بالنسبة للمسجد الحرام بعيد المسافة، كما قال المشركون خمسة عشر يوماً ذهاباًً وخمسة عشر يوماً إياباً فيحتاج من يسافر إليه شهراً كاملاً ذهاباً وإياباً، فقيل الأقصى أي الأبعد مسافة لأنه هو أبعد مسجد عن مكة وما كان على وجه الأرض في ذلك الوقت إلا هذين المسجدين المسجد الحرام والمسجد الأقصى، أما مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فلم يكن له وجود لأنه حصل بعد الهجرة وسيأتينا أن حادثة الإسراء والمعراج كانت قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إن شاء الله.
إذن المسجد الأقصى قيل له: أقصى لبعد المسافة بيه وبين مكة.(5/15)
والمسجد الحرام هو أول بيت وضع للناس كما قال الله تعالى: (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدىً للعالمين) . بكة ومكة اسمان مترادفان، سميت بكة ومكة لأنها تبك وتمك رؤوس الجبابرة وتقسم ظهورهم وما أحد أرادها بسوء إلا عاجله الله بالعقوبة.
بك هو قطع العنق ودقه، وهكذا المك، بك ومك، وسميت ببكة وبمكة مأخوذ من المك يقال: إذا خرجت أمعاؤه ونفسه وروحه من كثرة الزحام، ولما يحصل فيها أيضاً زحام حول الطواف عند اجتماع الناس من كل فج عميق.
فإذن قيل لها مكة وبكة لحصول الزحام فيها ولعقوبة الله لكل من أرادها بسوء.
والمسجد الحرام بمكة هو أول بيت وضع للناس يليه المسجد الأقصى، وبينهما أربعون عاماً كما ثبت في صحيح مسلم عن نبينا عليه الصلاة والسلام من حديث أبي ذر، ولا يشكلن عليك هذا الدليل وإياك أن تقول إن أول من بنى بيت الله الحرام إبراهيم وأول من بنى بيت المقدس داود فليس الأمر كذلك. أول من بنى المسجد الحرام الملائكة ثم بنت بيت المقدس بعده بأربعين عاماً.
وهناك قول ثانٍ ولا يصح غير هذين القولين، أول من بنى المسجد الحرام آدم وآدم حج إلى بيت الله الحرام قطعاً وجزماً وهكذا جميع أنبياء الله ورسله كلهم حجوا بيت الله الحرام.
والبيت المعمور في السموات بعد ذلك هذا على حيال وعلى اتجاه الكعبة التي في الأرض تماماً، وهذا البيت – المسجد الحرام – كان موجود من عهد آدم إلى أن تقوم الساعة، كان يحجه ويزوره وآدم زار البيت وحج واعتمر وهكذا جميع أنبياء الله ورسله ثم بعض بنى آدم بنى المسجد الأقصى وكان بينهما أربعون عاماً هذا كلام النبي صلى الله عليه وسلم وهو في صحيح مسلم ونص الحديث: [أول مسجد بنى المسجد الحرام قلت: ثم أي يا رسول الله؟ قال: المسجد الأقصى، قلت: كم كان بينهما؟ قال: أربعون عاماً] .
فقيل له أقصى لأن مسافته بعيدة عن المسجد الحرام.
(الذي باركنا حوله)(5/16)
البركة هي: ثبوت الخير للشيء والله جعل بركات عظيمة حول المسجد الأقصى هذه البركات شاملة لبركات الدين والدنيا.
أما الدين فهي مكان بعثة الأنبياء والمرسلين عليهم صلوات الله وسلامه، في بلاد الشام.
وأما الدنيا فما فيها من الخيرات والزروع والثمار لا يوجد في الأرض له مثيل ونظير، فالخيرات فيها عظيمة فيما يتعلق بخيرات الدين وفيما يتعلق بخيرات الدنيا.
(باركنا حوله)
ديناً ودنيا ولذلك اعتبر نبينا عليه الصلاة والسلام أصول الفساد في بلاد الشام علامة على فساد سائر البلدان لأن المكان المبارك إذا فسد فغيره أفسد؛ ثبت في صحيح ابن حبان ومسند الإمام أحمد وسنن الترمذي عن قرة بن إياس – والحديث حسنه الترمذي وصححه ابن حبان – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم] وأهل الشام الآن أخبث من الشيطان إلا من رحم ربه وقليل ما هم، ولذلك فالبشرية فيها هذا البلاء والغثاء والضلال لأن الخيار فسدوا فكيف سيكون حال الأشرار؟! المكان الذي بارك الله فيه ضل وزاغ فكيف سيكون حال الأمكنة الأخرى؟!
وحديث الصحيحين عندما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأمة [وأنه لن تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله قال: وهم بالشام ظاهرون] فإذن بركة الدين والدنيا، ونزول عيسي على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه في آخر الزمان سيكون في بلاد الشام عند المنارة البيضاء شرقي دمشق كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ويطلب المسيح الدجال عليه وعلى جميع الدجاجلة لعنة الله وغضبه فيقتله بباب لد في فلسطين، فإذا رآه الدجال إنماع كما ينماع الملح في الماء فيقول: اخسأ عدو الله فإن لك ضربة لن تخطأك فيضربه عيسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه فيقتله.(5/17)
وليقرر إليه هذه البركة على أتم وجه أتى بأسلوب مقرر في البلاغة وهو أسلوب الالتفات وهو نقل المخاطب من هيئة إِلى هيئة ومن صيغة إلى صيغة، فمثلاً: يكون يتحدث في حال الحضور فينتقل إلى الغيبة ويكون في حال الإفراد فينتقل إلى الجمع، ويكون في حال غيبة فينتقل إلى حضور وهكذا، فيغير في أسلوب الكلام من أجل أن يلفت الأذهان ويشحذها وأن هذا أمر عظيم ينبغي أن تقفوا عنده، فأين الالتفات في الآية؟(5/18)
المُخاطِبُ هو الله – سبحانه - غير في الكلام، فكان الكلام على صيغة (سبحان الذي أسرى) وأسرى غيبة، (أسرى بعبده) فلم يقل أسريت بعبدي، ولم يقل: سبحاني أسريت بعبدي، أو سبحاننا أسرينا بعبدنا على وجه التعظيم – من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله، إذ أصل الكلام أن يقول: سبحاننا أسرينا بعبدنا ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله فتكون باركنا مثل سبحاننا وأسرينا وعبدنا، لكن قال تعالى: (سبحان الذي أسري بعبده) على جهة الغيبة ثم قال (ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله) فلو أراد أن يكون الكلام متفقاً مع الغيبة لقال: سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بارك حوله ليريه من آياته إنه هو السميع البصير إذن فالمتكلم نقل كلامه من غيبة إلى حضور ومن جهة إلى جهة. وغرضه الأصلي أن يشحذ الذهن وأن يشد الانتباه لمضمون الكلام لئلا يحصل ملل وسآمة من مجيء الكلام على صورة واحدة، ثم للتنبيه وهنا فائدة خاصة أيضاً، أما غرض الالتفات العام شحذ الأذهان وجلب الانتباه ثم في كل مكان له غرض خاص، فما هو الغرض الخاص هنا؟ للإشارة إلى عظيم تلك البركات الموجودة حول المسجد الأقصى فلأجل أن يقرر تلك البركات وكثرتها ونفعها نقل الكلام من هيئة إلى هيئة، شحذ الذهن ثم قرر تلك البركات، يدل على هذا: أنه أتى بنون التعظيم التي يعظم بها ربنا نفسه كأنه يقول: العظيم لا يفعل إلا أمراً عظيماً، وهناك بركات جسيمة جعلتها حول المسجد الأقصى.
وهذا المسجد الأقصى الذي فرطنا فيه وفرطنا في بلاد الإسلام كلها بل فرطنا في الإسلام وما أقمنا وزناً للرحمن ولا لنبينا عليه الصلاة والسلام.
(لنريه من آياتنا)(5/19)
الآيات العظيمة التي رآها نبينا عليه الصلاة والسلام تأتي الإشارة إليها إن شاء الله ضمن مبحث خاص فيما حصل له قبل إسرائه، وعند إسرائه عليه الصلاة والسلام ولا زال في الأرض وعندما عرج به في السموات وعندما رقي إلى ما فوق السموات، فهذه الآيات الأربع سنتكلم عنها إن شاء الله.
إذن آيات قبل رحلة الإسراء وسيأتينا منها شق الصدر الشريف لنبينا عليه صلوات الله وسلامه، وما حصل له أثناء رحلته قبل أن يصل إلى السماء، وما حصل له في السموات، وما حصل له بعد السموات من آيات عظيمة: تكليم الله حصل له، ولكن هل حصلت الرؤية أم لا؟ سنتكلم عن هذا كله إن شاء الله عند مبحث خاص في الآيات التي رآها نبينا عليه الصلاة والسلام.
(إنه هو السميع البصير) الضمير في (إنه) يعود على الله جل وعلا على المعتمد، (إنه) أي إن الله (هو السميع البصير) ، وفي ذلك دلالة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما بلغ ويقول ويدعي، فلو كان مفترياً هذا الأمر وأنه أسري به وعرج ولم يكن ذلك قد حصل فإن الله سميع لأقواله بصير فلبطش وأخذه أخذ عزيز مقتدر، كما قال لنبيه موسى وهارون (إنني معكما أسمع وأرى) فإذا أراد ذاك اللعين – وهو فرعون – أن يتحرك فأنا لست بغائب، أنا أسمع وأنا أرى، أخسف به الأرض أرسل عليه حاصباً من السماء فتخطفه الملائكة من جميع الجهات، فأنا معكما أسمع وأرى.
ولذلك قال نبينا عليه الصلاة والسلام لأبي بكر في حادثة الهجرة: [ما ظنك باثنين الله ثالثهم] (إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا) فإذا كان الله معك فلا تخف ولو كادك أهل الأرض ومعهم أهل السماء لو حصل ذلك، فالله سيتولاك ويجعل لك فرجاً ومخرجاً من حيث لا تحتسب، كما قال الله جل وعلا: (ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب) .(5/20)
ثبت في مسند الإمام أحمد ومستدرك الحاكم عن أبي ذر رضي الله عنه [أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ عليه هذه الآية (ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب) ثم قال: يا أبا ذر لو أن الناس كلهم أخذوا بهذه الآية لوسعتهم فمازال يكررها عليّ حتى نعست] .
إذن (إنه هو السميع البصير) يعود على الله جل وعلا، هو سميع بصير ففي ذلك إشارة إلى صدق نبينا الكريم عليه صلوات الله وسلامه فيما ادعى وأخبر فلو كان الأمر بخلاف ذلك لما أقره الله ولما تركه ولعاجل له العقوبة: (ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين) .(5/21)
وقيل: إن الضمير يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيما حكاه أبو البقاء العُكْبَري (إنه) أي أن النبي صلى الله عليه وسلم سميع بصير، سميع لأوامر الله، بصير بي وفي ذلك إشارة إلى حصول رؤية نبينا عليه الصلاة والسلام لربه، والمعتمد أنه حصلت له الرؤية، لكن هل بقلبه أم بعين رأسه؟ نشير إلى هذا عند الآيات التي رآها فوق السموات، فالرؤية حصلت له (ما زاغ البصر وما طغى) وكما قال نبينا عليه الصلاة والسلام: [رأيت نوراً] وكما قال ابن عباس: [رأى محمد عليه الصلاة والسلام ربه مرتين] لكن هل هذه رؤية قلبية أم بصرية بعين رأسه، سنفصل الكلام على هذا في حينه إن شاء الله تعالى إذن سميع لأوامر الله، بصير بي، ليس حاله كحال غيره فانظر للفارق العظيم بينه وبين الكليم على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام، أما موسى الكليم فهو الذي طلب من الله جل وعلا أن يمكنه من رؤيته وأن يأذن له بالنظر إليه فقال: (لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني، فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً وخر موسى صعقاً) إذن تشوق للأمر فقال الله تعالى: لا يحصل لك ولا تتمكن من ذلك ثم لما تجلى الله للجبل صعق موسي وخر مغشياً عليه، بينما نبينا عليه الصلاة والسلام دعي للأمر دون أن يتشوق وأن يتطلع وأن يطلب، ثم ثبته الله فما زاغ البصر وما طغى.
شتان شتان بين من يقول الله عنه: (ما زاغ البصر وما طغى) وبين من يقول عنه: (وخر موسى صعقاً) ، ولذلك قال أئمتنا: نبينا مراد، وموسى مريد، وشتان بين المراد والمريد.
ذاك هو يطلب ثم لا يثبت ولا يتمكن، بينما هذا يطلبه الله، عليهم صلوات الله وسلامه.
وقال أئمتنا: نبينا يطير وموسى يسير، وشتان بين من يطير ومن يسير.(5/22)
وقال أئمتنا: إن موسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه مظهر للجلال والفخر الإلهي، كما أن عيسى مظهر للجمال والنور الإلهي، ومحمد عليه صلوات الله وسلامه مظهر للكمال الإلهي فجمع الجلال وجمع الجمال فهو الضحوك القتال، يخفض جناحه للمؤمنين وهو بهم رؤوف رحيم، ويفلق هام الكافرين ويغلظ عليهم، وهو عليهم شديد عظيم، وهذا هو حال الكمال، أن تضع كل شيء في موضعه، أما أن تغلظ على المؤمنين وتشد عليهم فهذا في الحقيقة في غير محله، فهارون نبي من أنبياء الله المصطفين الأخيار، لما رجع نبي الله موسى على نبينا وعليهما صلوات الله وسلامه إلى قومه بعد مناجاة ربه وقد عبدوا العجل، ماذا فعل؟ أخذ بلحية أخيه هارون وبرأسه يجره إليه ويضربه، وحمل ألواح التوراة وألقاها حتى تكسرت، وقال هارون: ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي، لم تضربني إذا عبد بنو إسرائيل فماذا أفعل أنا؟ (لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي) ، أي أما خشيت أن نخاصمهم ونقاتلهم ثم تأتي وتقول: لقد عملت مشكلة في بني إسرائيل وفرقت بينهم، فانتظرت قدومك لأجل أن نبحث في أمرهم ونعيدهم إلى حظيرة الإسلام، وهذا جرى من موسى أي موسى وهو أكبر من هارون وله عليه دالة، ثم هو أعلى منه مكانه في النبوة، لكن هذا غضب وانفعال ودالة أخ على أخيه فهل هذا كمال؟ لا ليس بكمال، بل هو قهر وجلال.
وانظر إلى نبي الله عيسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، فهو على العكس لم يرفع صوته قط على أحد، وحياته كلها حياة وسلم وصفح وُحلم ورحمة، فهذا جمال لكن انظر إلى الكمال كيف يضع الأمر في موضعه؟ (وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم) ، (جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليكم) ، يضع كل شيء في موضعه فهذا من الكمال.
من الذي حاز الكمال من الصحابة؟(5/23)
أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقط، ومن عداه إما جمال أو جلال، فعمر جلال ومظهر للانتقام والشدة والبطش في الحق، لكن ليس عند مظهر الجمال فعمر رضي الله عنه أرسل إلى امرأة بلغه حولها ريبة ففي الطريق بدأت تولول وتقول مالي ولأمير المؤمنين عمر، مالي ولعمر، فأسقطت خوفاً منه قبل أن تصل إليه.
وكان يحلق رأسه في الحج بعد أن انتهي من النسك فتنحنح عمر: احم احم والحلاق يحلق رأسه، فأحدث – أي الحلاق – في سراويله، هيبة من عمر، هذا عمر، ومن الذي كان يجرؤ أن يعاركه، وهو الذي يقول النبي عليه الصلاة والسلام فيه – والحديث في الصحيحين [ما سلكت فجاً إلا سلك الشيطان فجاً غير فجك] .
وعثمان مظهر جمال ورقة وحلم وصفح فلا يخطر ببال أحد أنه يمكن أن ينتقم من شخص أو يبطش به، هذا هو الذي جرأ السفهاء عليه لما وسع عثمان المسجد كما في صحيح البخاري، وفي منبر النبي صلى الله عليه وسلم وقال أيها الناس إنكم أكثرتم أي كل واحد يتكلم ويطلق لسانه ولا يستحي من الله مع أنه كان خليفة راشداً ذا النورين ما علم هذا لأحد من خلق الله، أنه تزوج بنتي نبي، قال: وإني سمعت الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: [من بنى لله مسجداً ولو كَمَفْحَصِ قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة] .
ولنسأل: من الذي وسع المسجد قبله؟
هو عمر، لكن هل تكلم أحد عندما وسع عمر المسجد والله لو أن واحداً همس لأتى به عمر ووطأ على رقبته، لكن انظر إلى عثمان هو الذي يعتذر لهم يقول: أكثرتم، أكثرتم عليّ من الكلام في المدينة، فما عملته حتى تتكلموا عليّ؟ مسجد النبي عليه الصلاة والسلام وسعته فماذا في هذا؟! فسبحان الله خليفة يعتذر.(5/24)
ثم لما اجتمع الثوار الأشرار لحصاره وبقي خمساً وعشرين يوماً يحاصروه جاءه عليٌّ والحسن والحسين رضي الله عنهم أجمعين والصحابة يطلبون منه أن يأذن لهم في نصرته فقال لهم: من كان سامعاً مطيعاً ولي عليه في رقبته بيعة، ولي عليه حق السمع والطاعة فليلق سلاحه ولينصرف حتى يحكم الله بيني وبينهم وهو خير الحاكمين، ولا أريد أن يراق من أجلي قطرة دم، إن يقتلوني فالله يحاسبهم، وإذا انكفوا عن طغيانهم فحصل الذي أريد، أما أن يحصل قتال فهذا لا أريده، هذا ممكن أن يحصل في عهد عمر رضي الله عنه.
فهناك جلال وهناك جمال وأما أبو بكر فهو الكمال.
إخوتي الكرام.. من لطف الله بهذه الأمة أن الخليفة بعد الرسول عليه الصلاة والسلام هو أبو بكر، ووالله لو جاء غيره لطاشت عقول الصحابة لأن أبا بكر هو صورة طبق الأصل للنبي عليه الصلاة والسلام، وما يختلفان إلا أن ذاك محمد رسول الله صلوات الله عليه وسلامه – وهذا عتيق الله أبو بكر الصديق، فذاك رسول وهذا صديق لا يختلفان في الطبيعة ولا بمثقال ذرة، وإن أردت أن تتحقق من هذا، انظر لصلح الحديبية لما أمرهم النبي عليه الصلاة والسلام الصلح مع المشركين على أن يرجع هو والمؤمنون هذا العام ليأتوا في العام الآتي، وكتبوا شروطاً فيها قسوة في الظاهر على المسلمين، فمن الذي لج وضج؟ إنه عمر، بدأ ينفعل ويغضب غاية الغضب فذهب إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال: ألسنا على الحق؟ قال: بلي، فقال: أليسوا على الباطل؟ قال: بلى، قال: علام نعطى الدنية في ديننا؟! سيوفنا معنا والله معنا نبيدهم ونستأصل خضراءهم فماذا كان جواب النبي صلى الله عليه وسلم؟ يا عمر إني رسول الله ولن يضيعني الله.(5/25)
ثم ذهب إلى أبي بكر وقال: يا أبا بكر ألسنا على الحق؟ قال: بلى، قال أليسوا على الباطل؟ قال: بلى، قال: علام نعطى الدنية في ديننا؟! فماذا كان جوابه لعمر دون أن يسمع جواب النبي عليه الصلاة والسلام؟ قال: يا عمر اعرف قدرك إنه رسول الله ولن يضيعه الله فهذا كلام من مشكاة واحدة، اعرف قدرك من أنت لتفور لتثور؟، إن هذا رسول الله لا ينطق عن الهوى، يسدده في جميع أحواله، فأنا وأنت لا نعلم إلا الحاضر، لكن هذا رسول الله يوجهه من يعلم الغيب من يعلم السر وأخفى، فاعرف قدرك وقف عند حدك.
لو جاء بعد النبي عليه الصلاة والسلام خليفة غير أبي بكر، والله لطاشت عقول الصحابة وجنوا على قيد الحياة، ولم هذا؟
لأنهم أصيبوا بنبيهم عليه الصلاة والسلام، وهذه أعظم المصائب في الدين، المصيبة الثانية أنه قد جاءهم من ليس على طبيعته وبالتالي تغيرت عليهم الأمور من جميع الأحوال، فالنبي عليه الصلاة والسلام ذهب ثم جاء من لا يمثله تماماً، لا أقول عنده انحراف، حاشا وكلا أن يكون في أحد الصحابة انحراف، لكن شتان بين طبيعة أبي بكر وطبيعة غيره، فجاءهم أبو بكر، ولذلك يعتبر أبو بكر برزخاً، أي مثل الحياة البرزخية بين الدنيا والآخرة، فهو برزخ بين حياة النبي عليه الصلاة والسلام وبين الحياة التي جاءت بعد ذلك لتكون انتقالاً، وليخف عليهم أثر فراق النبي عليه الصلاة والسلام، فما فقدوا في عهد أبي بكر إلا شخص النبي عليه الصلاة والسلام، وأما الرعاية والتوجيه والحلم والشدة في موضعها كل هذا موجودٌ كما كان النبي عليه الصلاة والسلام فيهم.
المرحلة الثانية:
مباحث الإسراء والمعراج
المبحث الأول:
اتفق أهل الحق على أن الإسراء والمعراج كانا بروح النبي عليه الصلاة والسلام وبدنه يقظة لا مناماً دل على هذا ثمانية أمور، كلها حق مقبول:
الأمر الأول:(5/26)
افتتاح آية الإسراء بلفظ التسبيح (سبحان) ، وقد تقدم معنا أن من معاني التسبيح تنزيه الله عن السوء والتعجب، والأمران يدخلان هنا، فالله جل وعلا ينزه نفسه عن السوء في مطلع هذه السورة للإشارة إلى أن طعن المشركين في خبر نبينا الأمين عليه صلوات الله وسلامه طعنهم في خبره بأنه أسرى به وأن هذا لا يمكن أن يحصل له وأن هذا مستحيل وأن هذا بعيد، فهذا نقص يتنزه الله عنه فهو على كل شيء قدير.
وفي ذلك أيضاً تعجيب للمسلمين وللخلق أجمعين لما حصل لنبينا الأمين عليه صلوات الله وسلامه، والتعجب يحصل عند أمر غريب أو أمر غير مألوف؟ بل يحصل عند أمر غريب، ولذلك افتتحه بقوله (سبحان) ، فالتنزيه يدل على حصول الإسراء والمعراج والطعن في هذا طعن في قدرة الله التي لا تحد بحد، والتسبيح إذا كان معناه التعجب تعجبوا مما حصل للنبي عليه الصلاة والسلام من إسراء بروحه وجسده ومعراج بروحه وجسده في جزء من الليل.
الأمر الثاني: أو اللفظة الثانية:
(عبده) العبد هو اسم لمجموع الروح والجسد، هذا كقول الله جل وعلا: (وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئاً) للروح أم للجسد؟ لهما.
وكقوله تعالى: (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً) فأتى عليه لم يكن شيئاً للروح أم للجسد؟ لروحه ولجسده ولا كانت روحه والله خلقه ونفخ فيه الروح وهو على كل شيء قدير فالعبد والإنسان هذان اسمان للروح وللجسد فليس اسماً للجسد فقط، ولا للروح فقط، والله سبحانه يقول (سبحان الذي أسري بعبده) فدخل في لفظ العبد جسد النبي عليه الصلاة والسلام وروحه.
الأمر الثالث: أو اللفظ الثالث:(5/27)
في الآية (السميع البصير) وتقدم معنا أن الأظهر في (أنه هو السميع البصير) أنه يعود على الله جل وعلا وفي ذلك دلالة على أن الإسراء كان بروح النبي عليه الصلاة والسلام وجسده يقظة لا مناماً، لأن الأمر لو لم يكن كذلك وادعاه النبي عليه الصلاة والسلام فكيف يتركه السميع البصير، فلو كان مفترياً ومختلقاًً لهذا وتقولاً على الله لما أقره السميع البصير لأن الله لا يؤيد الكذاب ولا يناصر المخادع ويهتك ستر المنافق، فكيف إذاً يدعي النبي عليه الصلاة والسلام هذا ولم يكن يحصل له، والله سميع بصير يقره.
وإذا عاد إلى النبي عليه الصلاة والسلام – كما ذكرنا قبل أنه أحد الأقوال – فقلنا إن الأمر كذلك فهو سميع لأوامري بصير بي، حدثت له الرؤية في حادث الإسراء والمعراج.
الأمر الرابع:
قول الله تعالى في وصف نبينا عليه الصلاة والسلام في سورة النجم عندما تعرض لذكر حادثة الإسراء والمعراج وأنه رأى في الملأ الأعلى ما رأى، قال: (ما زاغ البصر وما طغى لقدر رأى من آيات ربه الكبرى) وقوله في الآيات (ولقد رآه نزلة أخرى) أي ولقد رأى نبينا عليه الصلاة والسلام جبريل، (نزلة أخرى) أي مرة أخرى (عند سدرة المنتهى، عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى) فراش من ذهب ومن الألوان التي لا يوجد مثلها في زمن من الأزمان، أنواع عند سدرة المنتهي فراش من ذهب كما هو ثابت هذا في الصحيح عن نبينا عليه الصلاة والسلام، (ما زاغ البصر وما طغى) ، وزيغ البصر هذا يقع للإنسان يقظة لا مناماً.
الأمر الخامس: أو الدليل الخامس:(5/28)
لما تحدث الله سبحانه وتعالى عن مكانة النبي صلى الله عليه وسلم في سورة الإسراء، أخبرنا عن عظيم ما حصل له وعن عظيم ما رآه، فقال جل وعلا: (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة الناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغياناً كبيراً) ، ثبت في صحيح البخاري وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: [هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم] ، وهذه الرؤيا حقيقية هي فتنة وامتحان يظهر فيها المؤمن المصدق والكافر الجاحد عندما قال لهم نبينا عليه الصلاة والسلام أسري بي في جزء من الليل إلى بيت المقدس ثم عرج بي للسموات العلى ثم عدت إلى بيت المقدس، ثم عدت إلى مكة في جزء من الليل وفراشي دافئ فهذا فتنة أم لا؟ نعم هو فتنة، ولذلك سيأتينا أن تكذيب المشركين هذا دليل على أن الإسراء والمعراج بروح النبي صلى الله عليه وسلم وجسده في اليقظة لا في المنام، لأنه لو كان في المنام لقالوا له: أنت ذهبت إلى بيت المقدس، أما نحن فذهبنا في هذه الليلة إلى الصين فينبغي أن تكون نبوتنا نحن أعلى من نبوتك لأنك تذهب إلى بيت المقدس أما نحن فنذهب إلى أبعد، فالقول بأنه كان في المنام ليس فيه معجزة للرسول صلي الله عليه وسلم وأمر خارق للعادة قد حصل له، وهو – أي الأمر الخارق – أنهم يذهبون لبيت المقدس خمسة عشر يوماً ذهاباً وخمسة عشر يوماً إياباً ويقطعها هو في جزء من الليل يضاف إلى هذا أنه يعرج به إلى السموات العلى ويعاد في جزء من الليل.(5/29)
إذن رؤيا عين أريها رسول الله صلي الله عليه وسلم ومتى ثبتت له هذه؟ في حادث الإسراء والمعراج (الشجرة الملعونة في القرآن) أي أيضاً جعلناها فتنة للناس وهي شجرة الزقوم، ولذلك لما نزل قول الله جل وعلا للإخبار بأن الكفار يأكلون من شجرة الزقوم قال أبو جهل عليه لعنة الله وغضبه مستهزءاً بكلام الله جل وعلا ومستخفاً بمحمد عليه صلوات الله وسلامه: أتدرون ما الزقوم؟! هي عجوة يثرب بالزبد – (عجوة) أي أجود أنواع التمر، (الزبد) عندما يوضع على التمر قشدة الحليب وخلاصة الحليب الدسم – والله لأن أمكنني الله منها لأتزقمنها تزقماً، ونقول له: هنيئاً مريئاً بالزقوم، فقال الله تعالى: (إن شجرة الزقوم طعام الأثيم كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم) فإن شجرة الزقوم فتنة ووجه كونها فتنة: قال المشركون: يا محمد أنت تخبرنا أن شجرة الزقوم تخرج في أصل الجحيم، فهل بدأت تهذي تخرف، كيف تنبت الأشجار في وسط النار، والنار تحرق الأشجار، أفليست هذه فتنة؟!!.
إخوتي الكرام.... هذه نار الدنيا تحرق الأشجار من طبيعة خاصة وإذا أراد الله أن ينبت في نار الدنيا شجراً فإنه على كل شيء قدير. (قصة القسيس مع الشيخ الحلبي الصالح لما وضع جبته داخل جبته وألقاها في فرن فاحترقت جبة القسيس ولم تحترق جبة الشيخ الصالح إلخ) .
حقيقة إن هذه القوانين التي وضعها الله سبحانه لتتحكم في هذا الكون لا نستطيع أن نخرج نحن عنها، لكن إذا أراد الله تعالى أن يبطلها فهو على كل شيء قدير، فالنار المحرقة يجعلها ظلاً بارداً والظل البارد يجعله الله سموماً محرقاً فإنه على كل شيء قدير.
وإذا أراد الله أن يجعل الارتواء والري في البترول فإذا شربته ترتوي ويذهب الظمأ ويجعل العطش في الماء فهو على كل شيء قدير، أي فهل الماء بطبيعته يروي الإنسان؟ لا بل جعل الله فيه هذه الخاصة، فإذا أبطلها فإنه على كل شيء قدير.(5/30)
هذا اللسان هل يتكلم وحده، أم جعل الله فيه هذه الخاصية؟ بل جعل الله فيه هذه الخاصية ولذلك إذا أراد أن يُنْطق يدك، فهل تنطق اليد؟ نعم (شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون) ، (اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم) ، والذي أنطق اللسان ينطق اليد وينطق الرجل وتشهد الجلود كما أخبر ربنا المعبود سبحانه وتعالى، فهذه القوانين تتحكم فيَّ وفيك، فأنا لا أستطيع أن أُنطق يدك فأقول لليد تكلمي فلا تتكلم. إنطاق اليد وإنطاق اللسان بالنسبة لقدرته سواء، أُذِنَ لِلِّسان فنطق، فإذا أذن لليد بالنطق نطقت.
والأرض يوم القيامة ماذا يكون حالها (يومئذ تحدث أخبارها) ثبت في المستدرك وسنن الترمذي بسند صحيح عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: [تشهد على ابن آدم بما عمل على ظهرها من خير أو شر] فالأرض هذه ستشهد عليك، ولا تقل كيف ستتكلم الأرض، إذ كيف تكلم لسانك؟ فكم من إنسان له لسان ولا يستطيع أن يتكلم به أي أخرس، هل لسانه أقصر من لساننا أو أطول أو شكله مختلف؟ لا بل هو هو ولكن ما أذن الله له بالنطق، فهو على كل شيء قدير.
ولذلك أنت يا ابن آدم تتكلم بلحم وتسمع بعظم وتبصر بشحم والله على كل شيء قدير.
فالعين مادة شحمية، والأذن عظام متجوفة بواسطتها تنتقل إليك ذبذبات الأصوات وتسمع، فإذا ابتلى الله إنساناً بالصمم فهل يستطيع أن يسمع؟ لا مع أن له أذناً. ...
وإذا أفقد الله النور من البصر فلا يستطيع أن يرى مع أن له عينين لدرجة أنك لو نظرت إليه أحياناً ما تظن أنه أعمىً، لكنه أعمىً.
ولذلك فاوت الله بين عباده لئلا يقول الناس هذا طبيعة، فلو كان كلهم يتكلمون لقال الناس هذا طبيعة، واللسان من طبيعته أن يتكلم، لكننا نقول له فلان عنده لسان ولا يتكلم، ولو كان طبيعة لتكلم هو ولتكلمت جميع الألسنة.(5/31)
وهنا كذلك شجرة تنبت في النار والنار تحرق الأشجار، فهذه القوانين تتحكم فيَّ وفيك ولا تتحكم فيمن خلقها وأوجدها وهو رب العالمين سبحانه وتعالى، ولو تحكمت فيه لكان محكوماً ولما كان حاكماً وهو الذي لا يسأل عما يفعل، لا راد لحكمه، ولا معقب لقضائه، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وبم يتميز المؤمن عن غيره؟ ولذلك الشيطان يحزن عندما يموت العابد الجاهل، ويفرح عندما يموت العالم العليم الذكي، قالوا لمَ؟ قال: العابد كنا نضله ونخدع الأمة به باسم الشرع، وأما هذا العالم – فإننا ننصب للناس أشباكاً وأشراكاً – مصايد ونتعب فيها فيأتي العالم بكلمة واحدة يبطل حيلنا، ولذلك نحن إذا مات العالم نفرح وإذا مات العالم الجاهل نحزن، لأنه كان مصيدة لنا وأما ذاك فكان يكشف مصائدنا قالوا: وكيف؟ قال أريكم، فأخذ إبليس أعوانه وذهبوا إلى عابد جاهل وقالوا له: هل يستطيع الله أن يخلق الدنيا في جوف بيضة؟ فقال: وكيف يكون هذا؟ إنه لا يستطيع ولا يقدر على هذا فقال إبليس لأتباعه: كفر وهو لا يدري، ثم ذهبوا إلى عالم وقالوا: هذه الدنيا على سعتها ولا ترى طرفها فهل يستطيع الله أن يوجدها في داخل بيضة؟ فقال: ومن يمنعه؟ قالوا: وكيف يدخلها في داخل بيضة؟ قال يقول لها: كوني فكانت فيوسع البيضة، ويصغر الدنيا وهو على كل شيء قدير، فمن الذي يمنعه؟ ثم قال لهم إبليس: انظروا كيف يفعل بنا العالم وكيف نفعل بالعابد الجاهل.
ولذلك هنا هذا الجاهل أبو الجهل أبو جهل لما نزلت الآية قال كيف تخبرنا أن شجرة الزقوم تخرج في أصل الجحيم؟ فهل بدأت تخرف؟ فكيف الأشجار تنبت في النار؟ (إن شجرة الزقوم طعام الأثيم كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم) .
الأمر السادس:(5/32)
ركوب نبينا عليه الصلاة والسلام للبراق فهذا مما يدل على أن الإسراء والمعراج كان بروح النبي عليه الصلاة والسلام وجسده يقظة لا مناما، ثبت في سنن الترمذي وصحيح ابن حبان بسند صحيح عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [أتيت بالبراق مسرجاً ملجماً – يضع خطوه عند منتهى طرفه] وهذا الحديث إلى هنا ثابت في الصحيحين، زاد الترمذي وابن حبان: [فلما قدمه لي جبريل نفر فقال له جبريل: مالك؟ والله ما ركبك خير منه، فما فارفضَّ عرقاً] (مسرجاً: أي عليه السرج ليركب عليه الراكب) ، (ملجماً: أي عليه اللجام) ، (خطوه عند منتهى طرفه: أي إلى مقدار ما يرى فرجله تصل إلى ذلك) ، (فارفضّ: أي بدأ يتصبب من العرق)
فهذا البراق الذي ركبه نبينا عليه الصلاة والسلام كان في اليقظة.
يقول أئمتنا وإنما حصل في البراق شيء من الامتناع والنفور في أول الأمر؛ لأمرين:
أالأمر الأول:
لأنه لم يروض منذ فترة، فالأنبياء كانوا يركبون على البراق قبل نبينا عليه الصلاة والسلام عندما كانوا يزورون بيت الله الحرام لكن من عهد عيسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه إلى عهد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ما رُكب البراقُ، وعادة الخيل إذا أُهملت فترة ولم تُركب يصبح فيها نفور وتند وتشرد؛ لأنها ليست مروضة فلابد من اعتياد الركوب عليها ليسهل انقيادها ويسهل. فإذن من فترة طويلة لم تركب هذه الدابة التي كان يركب الأنبياء قبل نبينا عليه الصلاة والسلام عليها وانظر إلى الحمير الأهلية الآن التي تسمى الإنسية بسبب عدم خوفها من الناس ولكن تراها الآن تهرب وذلك لقلة استعمالها وهي دابة كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام دون البغل وفوق الحمار، يقال لها البراق، إما مأخوذة من البريق: وهو اللمعان؛ لأن لونها أبيض يتلألأ نوراً وإما من البرق، وهو منتهى السرعة لأنها تضع خطوها عند منتهى طرفها.
ب الأمر الثاني:(5/33)
ولعله أوجه الأمرين وأقوى وهو الذي يظهر لي والعلم عند الله، أنها ندت ونفرت وامتنعت امتناع زهو وخيلاء لا امتناع نفور وإباء، فلما جيء بالبراق إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليركبه بدأت ترقص وتهرول ولا تنقاد ولا تجلس بسكينة بجواره لما حصل لها من الطرب والفرح لأنه سيركبها خير المخلوقات محمد عليه الصلاة والسلام، وهذه حالة الإنسان عندما يفرح فرحاً شديداً يوصله إلى البطر فتراه يرقص، فالإنسان عندما يبشر بنعمة حصلت له قد يشتد فرحة بها لدرجة توصله إلى درجة الأشر والبطر، وهذا مذموم في حق الإنسان، لكن عندما يصل هذه الدرجة فما يكون حاله؟ تراه يقوم ويرقص ويأتي بحركات موزونة ليخبر عن فرحه، كما أن المصيبة عندما تشتد عليه ولا يملك نفسه فانظر ماذا يفعل؟ [ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية] ، ولذلك لا جزع ولا بطر، والمؤمن في حال النعمة يشكر الله وفي حال المصيبة يصبر.
الشاهد: أن هذه الدابة من شدة فرحها بدأت تهرول وترقص وتعمل حركات كما هو حال الخيل عندما يعتريها الزهو، فما كان نفورها نفور امتناع إنما كان للزهو والخيلاء كأنها تقول: أنا سأطرب وأرقص لما سيحصل لي من المنزلة العظيمة وهي ركوب خاتم الأنبياء والمرسلين عليه صلوات الله سلامه على ظهري، وهذه في الحقيقة منقبة عظيمة للبراق.
الشاهد إخوتي الكرام..... ركوب نبينا عليه الصلاة والسلام على ظهر البراق وإحضار البراق له هذا دليل على أنه حصل في اليقظة.
الأمر السابع:(5/34)
تكذيب المشركين لنبينا الأمين عليه صلوات الله وسلامه، دليل على أن تلك الحادثة وقعت له يقظة لا مناماً، فلو كانت مناما لما كان هناك داعٍ للتكذيب ولقالوا له: ما حصل لك في الرؤية يحصل لنا ما هو أبعد منه وليس في هذه دليل على مكانتك ونبوتك وصدقك وأنك رسول الله، فلما كذبوه دل على أنه بروحه وجسده يقظة لا مناماً، لاسيما عندما أخبرهم بعد ذلك بما يزيل تكذيبهم وسيأتينا في ذكر الآيات التي رآها – قالوا: إن كان كما تقول يا محمد، فانعت لنا المسجد الأقصى – وهذا لا يقال لرؤيا منامية إنما حصل له في اليقظة – وصفه لنا كم عدد أبوابه وكم عدد نوافذه وماذا يوجد فيه من أساطين؟ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: لما قالوا لي هذا أحرجت حرجاً عظيماً حتى أتى جبريل على نبينا وعليه الصلاة والسلام لي ببيت المقدس ووضعه أمامي فجعلت أنظر إليه وأنعته لهم باباً باباً، وجبريل إما اقتلع بيت المقدس وأتاه به – والله على كل شيء قدير – وإما أتى بمثال له، فكل من الأمرين يحصل به المراد وهو وصف المسجد الأقصى.
الأمر الثامن أو الدليل الثامن وهو آخرها:
نقول حادثة الإسراء والمعراج هي أمر ممكن، ورد به السمع فيجب الإيمان به، وهذه قاعدة عضوا عليه بالنواجذ وانتبهوا لها
? كل ممكن: أي يجوز وقوعه ولا يحيل حصوله.
? ورد السمع به: أي أخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام به، بأنه أُسري به وعُرج مثلاً.
? يجب الإيمان به: فلا يجوز تأويله ولا إخراجه عن ظاهره وكل من فعل هذا ففيه شعبة من شعب الباطنية ومسلك من مسالكهم.
فمثلاً عذاب القبر ممكن أم مستحيل؟ ممكن، نعيم القبر ممكن أم مستحيل؟ ممكن(5/35)
ورد بهما السمع فنؤمن بهما، ولا نقول كيف يكون؟! بل الواجب الإيمان به والتسليم ومثلهما وجود الموازين والصراط في يوم القيامة ممكن ورد به السمع نؤمن به، وكوننا لا نتوصل إليه بحواسنا، فهذا أمر لا يعنينا، لكن هل هذا مستحيل؟ لا، فإذا كان مستحيل هنا مجال البحث وهل تأتي الشريعة بما تحيله العقول، لا يمكن أن يتعارض معقول مع منقول، إذا تعارضا فالآفة في أحدهما، إما في النقل فلم يصح، وإما في العقل فليس بصريح ولا سديد فلا يتعارض نقل وعقل هذا شرع الله وهذا خلقه وليس في خلقه من تفاوت وليس في شرعه من تضارب (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت) ، (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً) .
وقد ألف الإمام ابن تيمية رحمه الله كتاباً في عشر مجلدات يدور حول هذا الموضوع سماه: (موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول) فلا يتعارض نقل صحيح مع عقل صريح، هذا الكتاب لو وزن ذهبا لكان أغلى من وزنه ذهباً، ويسمى (درء تعارض العقل والنقل) .
ولذلك قال أئمتنا: لا تأتي الشرائع بما تحيله العقول لكن تأتي بما تحار فيه العقول، وشتان ما بين الحيرة والإحالة، فالإحالة لا يمكن أن تقع، أما الحيرة فموجودة فيما تشاهده، فكيف بما لا تشاهده؟ لسانك ينطق، وهو قطعة لحم فهذا يحير العقل أم لا؟ لكن الإنسان من غلظ كبده، وتبلد شعوره وإحساسه، ما يقع حسه عليه باستمرار يغفل عن الحكمة فيه ولا يعتبر في شأنه والله يقول: (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) ، كم من لسان يتكلم، فهذا يحار فيه العقل أم يحيله العقل؟ هذه حيرة تحير، فكيف تكلم هنا العضو من الإنسان فهذه حيرة مقصودة من الشارع، كما قلنا تنطق بلحم وتبصر بشحم وتسمع بعظم، كيف هذا؟ (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) ، وهذا الخلق الذي هو في أحسن تقويم هذا مما يحار العقل فيه ولا يحيله لأنه مشاهد أمامنا، ولكن من أي شيء؟ خلق من ماء مهين كما قال ربنا جل وعلا.(5/36)
وهذا الإنسان وتكونه لو لم نره في حياتنا وقيل لنا: من هذا الماء يخلق إنسان له رجلان يمشي عليهما، ويدان يبطش بهما ورأس يدرك به وله أعضاء وتتحرك كله من هذه النطفة، لقلنا له أنت تخرف، كيف من هذه النطفة يخلق هذا، ولكن لمشاهدتنا له قل اعتبارنا به.
يقول أئمتنا: لو لم نر حيواناً يمشي على بطنه والله يقول هذا في كتابه (فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع) ، لاستغرب كثير من الناس بل لأحال بعضهم وأنكر وجود حيوان يمشي على بطنه، لكن لما رأينا الحية تمشي على بطنها فحينئذ قلنا ممكن، ورأينا إنساناً يمشي على رجلين، ورأينا دابة تمشي على أربع فقلنا ممكن، ولو أراد الله الإنسان أن يمشي على رأسه ممكن وهذا سيقع يوم القيامة (ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم) فهم يمشون على وجوههم وليس على أرجلهم، وقيل لقتادة: كيف يمشي على وجهه؟ قال: أوليس الذي أمشاهم على رجلين بقادر على أن يمشيهم على الوجوه؟! فكل هذا مما يحير العقل لا مما يحيله.(5/37)
والحيرة مقصودة ليسلم المخلوق بعجزه لخالقه، لكن الإحالة باطلة، ومثال الإحالة الجمع بين النقيضين، نفي النقيضين، هذا مستحيل، فلو قيل لنا: هل يقدر الله أن يوجد هذا حياً ميتاً في وقت واحد فماذا يكون الجواب؟ نقول: هذا ليس متعلق القدرة والعقل يحيل هذا ولكن هل نقول ممكن أم غير ممكن؟ لا نقول ممكن ولا غير ممكن، أن يوجد الله هذا حياً ميتاً في وقت واحد لا نقول إنه ممكن لأنه ليس متعلق بقدرة بل هو مستحيل، ولا نقول غير ممكن لأن هذا سوء أدب مع الله، لأن متعلق القدرة الممكنات والجائزات، وهذا مر في شرح الطحاوية في مبحث القدرة والإرادة، وهو مفصل في موضعه، فلو قيل هل يستطيع الله أن يقلب فلاناً إلى سيارة؟ نقول نعم لأنه ممكن وهو على كل شيء قدير، وهل يستطيع أن يمسخه قرداً أو خنزيراً؟ نقول ممكن ولكن هل يستطيع أن يجعله حياً وميتاً في آنٍ واحدٍ؟ نقول: الحياة نقيض الموت فإذا كان حيا فليس بميت وإذا كان ميتا فليس بحي، فكيف ستتعلق القدرة بما يحيله العقل لا بما يحار فيه؟.
وعندما يمسخ الإنسان (فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين) هذا المسخ يحيله العقل أم يحار فيه بل يحار فيه، إنسان سوي ثم مسخ.
يذكر الإمام ابن كثير في تفسيره عند سورة القصص أنه كان بعض الناس في مسجد نجران وعنده وسامة وجمال فقال له بعض الحاضرين: ما أجملك، يعني خلقة بهية خلقك الله عليها – فقال: أنت تتعجب من حسني! الله يتعجب من حسني، فبدأ يتصاغر أمام الناظرين وهم يرونه حتى صار طوله شبراً، فهذا ممكن أم مستحيل؟ ممكن لكن يحار فيه العقل.
لذلك يمكن أن تأتي الشريعة بمستحيل، فنقول هذا الشيء إما موجود وإما معدوم، ولكن هل يمكن أن يجتمعا؟ لا يمكن أن يجتمعا ولا أن يرتفعا، قال أئمتنا:
"عقول البشر قاطبة تقرر أن النقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان" أي لا يمكن وجودهما ولا يمكن انتفاؤهما، بل لابد من وجود واحد منهما.(5/38)
عذاب القبر ممكن وهو مما يحار فيه العقل ولا يحيله، ولو وضع صِدِّيق وزنديق في قبر واحد لكان القبر روضة من رياض الجنة على الصِدِّيق وحفرة من حفر النار على الزنديق، فإن قيل كيف هذا؟ نقول: هذا مما تحار فيه العقول وتعجز عن الوصول إليه من جميع الجهات فتسلم بعجزها لرب البريات، (وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً) .
العلم للرحمن جل جلاله ... وسواه في جهلائه يتغمغم
ما للتراب وللعلوم وإنما ... يسعي ليعلم أنه لا يعلم
فنحن نسعى لنعلم أننا كنا لا نعلم لا لنتعلم.
ونحن نسعى ما كنا نجهله لا لنصل لدرجة العلم، لأن العلم لمن هو بكل شيء عليم (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً) .
انظر إلى الإمام الشافعي عليه رحمة الله – وهذا حال أئمتنا – يقول:
كلما أدبني الدهر ... أراني نقص عقلي
وإذا ما ازددت علماً ... زادني علماً بجهلي
فحن نتعلم لنكشف جهلنا لا لنصل إلى مستوى ربنا جل وعلا، ولا يمكن أن تأتي الشريعة بما تحيله العقول، حادث الإسراء والمعراج، كونه يسرى به من مكة إلى بيت المقدس إلى السموات العلا ثم يعاد في جزء من الليل، هل هو ممكن أم مستحيل؟ وهل يتصور العقل وجوده أم يحيل وجوده؟ هو ممكن ويتصور العقل وجوده، وقد ورد به السمع وهو الذي لا ينطق عن الهوى – فيجب الإيمان به.
ولو كان مستحيلاً لا يقبله العقل لقلنا: انظروا لعل السمع ما صح، أما أن يصح السمع والعقل يحيل فهذا لا يمكن أن يقع على الإطلاق.
فمثلاً حديث [خلق الله الورد من عرق النبي صلي الله عليه وسلم] هو حديث موضوع، فهذا العقل يكذبه لأن الورد كان موجوداً قبل النبي صلى الله عليه وسلم، فإذن العقل يحيل هذا فكيف تقولون إن الورد خلق من عرق النبي صلى الله عليه وسلم.(5/39)
في المقابل قد يقول قائل: الإسراء والمعراج باطل، ورد به السمع لكن العقل يحيله، وعليه فنرد السمع، نقول: لأن العقل ليس بصريح إنما هذا العقل قبيح، فلو كان عقلاً صريحاً لاحترم نفسه وقال: هذا ليس بمستحيل، لأنه ليس فيه جمع بين النقيضين وليس فيه نفي للنقيضين، فيتصور وجوده – ويتصور عدمه، فإذا شاء ربنا أحد الممكنات فليس بمستحيل (كن فيكون) ، (وهو على كل شيء قدير) .
س: ما هي مواصفات العقل الصريح؟
جـ: العقل الصريح لا يمكن أن يوجد ولا أن يحصل في غير المؤمن الذي يخاف من الله ومن عدا المؤمن سيقول يوم القيامة: (لو كنا نسمع أو نعقل) كما أخبرنا الله عنهم، فكل من عدا المؤمن فليس عند واحد منهم عقل صريح، لكن قد تقل نسبة الحماقة وقد تكثر وأول الحمقى اللعين إبليس، لأنه أول من اعترض على الله، وهذا عقل صريح أم عقل قبيح؟ بل هو قبيح، فماذا قال لله: (رب فأنظرني إلى يوم يبعثون) ، (رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين) فيا إبليس يا ملعون، بماذا تخاطب الحي القيوم؟ تقول رب، إذن هو ربك خلقك فكيف تعترض عليه وتقول (أأسجد لمن خلقت طيناً) ، (أنا خير منه) أنت تقول رب، أمرتني بالسجود لآدم ثم تقول هذا خلاف الحكمة، فأنت سفيه الحكمة تقتضي أن يسجد آدم لي لأنني أنا من نار وهو من طين، ولنناقش كلامه: أنت تقول الله خلقك وأعطاك الحكمة فهل يعقل لمن أعطاك الحكمة أن يرضى لنفسه بالسفاهة فهذا لا يقبله عقل.
أمر ثانٍ نناقشك فيه سلمنا أن عندك حكمة فأنت تقول النار أحسن من الطين، ولم أحسن مع أن طبيعة النار الطياشة والتفريق، وطبيعة الطين الرزانة والهدوء؟ وانظر إلى نتيجة الطين ونفعه للمخلوقات أجمعين تضع فيه حبة يعطيك شجرة فيها من كل زوج بهيج، والنار تحرق ثيابك إن لم تحرقك فالطين طبيعته الإصلاح، والنار طبيعتها الإفساد.(5/40)
سلمنا أن النار أفضل من الطين فهل يلزم مَنْ خُلِق من عنصر شريف أن يكون شريفا، وهل يلزم مَنْ خُلِقَ من عنصر خبيث أن يكون خبيثاً، أم كل نفس بما كسبت رهينة؟ إذا كانت النفس من باهلة والعرق والنسب من بني هاشم فماذا ينفع النسب؟ ألم يقل الله (تبت يدا أبي لهب) ؟!
إذا افتخرت بآباء لهم نسب ... قلنا صدقت: ولكن بئسما ولدوا
فهب أن النار أجود العناصر وأحسنها، فهل يلزم أن تكون أنت أفضل المخلوقات؟ لا يلزم، فانظر إلى هذه السفاهة، ولهذا أول الحمقى إبليس، وأول من مات من المخلوقات على وجه الإطلاق إبليس، وهو منظر إلى يوم الدين، لأن كل من عصى الله ذهبت منه الحياة الحقيقية (أفمن كان ميتاً فأحييناه) فهذا ميت لكنه في صورة حي.
وبالجهل قبل الموت موت لأهله ... * ... وأبدانهم قبل القبور قبورج
وأرواحهم في وحشة من جسومهم ... * ... وليس حتى النشور نشورج
ولذلك العقل الصريح هو الذي يلتزم بشرع الله الصحيح، قال تعالى: (إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب) ، قال أبو العالية وقتادة وغيرهم: أجمع أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام أن كل من عصى الله فهو جاهل، وأن كل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب.(5/41)
فالعقل الصريح ضابطه هو الذي لا يأتي بسخف ولا يتعالى على شرع الله ولا يأتينا بعد ذلك بمضحكات بمبكيات كما هو الحال في الدولة الأمريكية فالزنا في القانون الوضعي عندهم حلال، ومنعت المخدرات بل وتطارد عصاباتها، وتعمل مؤتمرات لمكافحتها، بينما لم تمنع المسكرات وسميت بمشروبات روحية وأهل الأرض من أهل القوانين الوضعية كلهم يسميها حلال، والمخدرات حرام مع أن الخمر أقوى في التحريم من الحشيش والأفيون، فهذه ألحقت بالخمر كما قال أئمتنا لوجود علة الإسكار فألحقت به تحريماً ونجاسة وحداً، ففيها حكم الخمر، لكن انظر إلى عقول البشرية: من يتاجر بالمخدرات يطلب ويشنق ويحكم عليه بالإعدام، ومن يتاجر بالمسكرات يعطى ترخيصاً من الدولة، فهذا عقل صريح أو عقل قبيح؟.
ولقد وصل حال هذه العقول في الدولة البريطانية – ولكن أين من يغزو هذه الدول غزواً فكرياً ويكشف ضلالاتها وأفكارها للناس – ومن المعمول به في قانونها أن اللواط مباح ولا حرج فيه، بل يجوز التزاوج بين الرجال، فهذا عقل صريح أم قبيح؟ وأعجب لهذه العقول التي ضلت ولعنها الله كيف تزعم أنها ستحل مشاكلنا، اللواط الذي فطر الله العباد على استقباحه واستهجانه تبيحه أرقى الدول، بل إنه جائز عن طريق التزاوج، ولم يكتفوا بأن يجعلوه معصية، أو أمرا عاديا غير رسمي فكل من ينحرف عن شرع الله فهو ذو عقل قبيح؛ لأن شرع الله نور (قد جاءكم من الله نور) فمن خرج عن النور فليس له إلا الظلام، والظلمة قبح.
فهذا هو ضابط العقل الصحيح الصريح من العقل الفاسد المنتكس القبيح
وما لم يكن عون من الله للفتى ... فأول ما يقضي عليه اجتهاده
إخوتي الكرام ... عندنا وصفان ذكاء وزكاء، والثواب والعقاب يتعلق بالوصف الثاني وهو الزكاء، ويحمد به الإنسان حمداً حميداً.(5/42)
فالذكاء هو تفتح في الذهن وإدراك لعواقب الأمور وسرعة استحضار وقوة حفظ، فهذا ذكاء، وهو مثل الثعلب، ولا يوجد منه في حيله واحتياله لكنه خبيث النفس نجسها، ولذلك قال أئمتنا في كثير ممن غضب الله عليهم كأبي العلاء المعري الذي هلك سنة 449هـ قال ابن كثير في ترجمته في البداية والنهاية في حوادث سنة 449هـ قال: "كان ذكياً ولم يكن زكياً".
والزكاء هو طهارة القلب وموافقة شرع الرب، فهذه هي الفضيلة، أما كون الإنسان عنده بلادة في الذهن وعنده تحجر لا يستطيع أن يحفظ ولا يستحضر فذهنه فيه شيء من الإغلاق بسبب شواغل وصوارف، فلس في هذا مذمة عند الله وليس عليه النقص، لكن إذا كانت نفسه خبيثة فهذا هو البلاء وخير الناس من اجتمع فيه الذكاء والزكاء، لكن إذا انعدم واحد منهما فإياك أن تعدم الزكاء، ولهذا مهمة الأنبياء تزكية الناس لا أن يكونا أذكياء فالذكاء بيد الله وقد يحصل للإنسان عليه وقد لا يحصل، والعقول تتفاوت (هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم) من التزكية (قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها) .
المبحث الثاني:
حادث الإسراء والمعراج خارق للعادة، ولذا قلنا إنه ممكن ورد به السمع وخوارق العادات تنقسم إلى ستة أقسام:
1- الإرهاص ... 2- المعجزة ... 3- الكرامة
4- المعونة ... 5- الاستدراج ... 6- الإهانة
فهذه كلها يقال لها خوارق للعادات، لكن ماذا يقصد بخارق العادة؟ هو تخلف الملزوم عن لازمه، أو وجود الملزوم دون اللازم.
مثال: تخلف الملزوم عن لازمه:
النار من طبيعتها ولازمها الإحراق، فلو أججنا ناراً عظيمة وألقينا فيها إنساناً وما احترق، فهذا يكون خارقاً للعادة.
مثال وجود الملزوم دون اللازم:(5/43)
وجود ولد بدون والد أو بدون أم أو بدونهما، وإن كان هذا حسب العادة لا يوجد، فمن أراد أن يولد له أولاد فلابد من زوجة، ومن أرادت أن يأتيها أولاد فلابد من زوج، لكن لو ولد مولود من غير أب – كحال عيسى عليه السلام – فهذا خارق لعادة (قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغياً، قال كذلك قال ربك هو علي هين) ، وهذا مما يحار فيه العقل ولا يحيله.
وإذا وجد مولود من غير أم – كحال حواء – خلقها الله من أبينا آدم فهذا أيضاً خارق للعادة وإذا وجد مخلوق من غير أب ولا أم – كحال أبينا آدم عليه السلام – فهذا كله خارق للعادة وقد وجد الملزوم في الأمثلة الثلاثة السابقة دون وجود لازمه.
وهذا الملزوم اتصاله بلازمه أو حصوله بلا لازمه، وجوده وانفصاله مما يجيزه العقل ويقبله أم مما يحيله ويرفضه؟ نقول: بل هو مما يجيزه، وقد تقدم معنا أن العقل يمنع المستحيل فقط وهو اجتماع النقيضين، أو نفي النقيضين، أو اجتماع الضدين، فهذا هو المستحيل فقط، (1)
__________
(1) س: ذكرتم أن النقيضين لا يجتمعان، فكيف اجتمعت الذكورية والأنوثية في المخنث المشكل؟
الجواب: هل ذكر الله المخنث في كتابه؟ لا لم يذكره الله في كتابه لأن الخنثي في حقيقة أمره إما ذكر أو أنثى، فهو أشكل علينا، لذلك نقول فيه: يرجى انكشاف حاله – أي انكشافه بعد البلوغ – فإن تكعب الثديان في صدره فهو أنثى وإن حاض فهو أنثى، وإن رق صوته فهو أنثى، بينما الغلام لو بلغ يخشن صوته وقبل بلوغه صوته ناعم والجارية بالعكس فبمجرد أن تبلغ يصبح صوتها ناعماً، وقبل البلوغ صوتها أخشن من صوتها بعد البلوغ، فالمرأة صوتها أرق من صوت الجارية التي لم تبلغ، فإذا خرجت لحية فهو ذكر، فالحاصل أنه أشكل علينا لكنه في حقيقة الأمر إما ذكر أو أنثى ولذلك قال الله تعالى وهذا انظروه في كتب التفسير بلا استثناء عند قوله تعالى: (لله ملك السموات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثاًو يهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكراناً وإناثا ويجعل من يشاء عقيماً) يقول علماؤنا: لم يذكر الله غير هذين الصنفين للإشارة إلى أن الخنثى في نهاية أمره إما ذكر وإما أنثى فلا إشكال وما اجتمع النقيضان، النقيضان متى يكونا؟ إذا تصورنا وجود شخص له آلتان فهو في إحدى الآلتين تزوج وأحبل وولد، وفي إحدى آلتيه تزوج به وحمل وولد له فهنا يحصل اجتماع النقيضين، ولكن هذا لا يتصور وجوده؛ لأن الخنثى مثاله إما ذكر وإما أنثى.
... ولذلك قال أئمتنا: قبل ظهور علامات البلوغ من ذكورة وأنوثة نميزه في صغره فمن أي آلتيه يبول فإن بال من آلة الذكورة فهو ذكر وإن بال منهما فأ يتهما يبول منها أسبق، وإن بال منهما في وقت واحد فأيتهما يبول منها أكثر. وهذا واضح.
... أما إن مات الخنثى بعد ولادته مباشرة أي بعد وفاة والده بقليل فإن الولد الخنثى ليس له ولد غيره: فهذا إن كان أنثى له النصف، وللأم السدس لوجود الفرع الوارث، والباقي للإخوة أعمام الخنثى، وإن كان ذكر فله كل المال تعصيباً والأم لها السدس وبعد وفاة الابن الخنثى المال كله يؤول المال كله إلى الأم..... إلخ المسألة فنورثه بالافتراضين ثم نعطيه متوسط ما خرج له في الافتراضين على أنه نصف ذكورة ونصف أنوثة، وهذا لأجل جل عاجل في الدنيا، أما هو في حقيقة الأمر ذكر أو أنثى.(5/44)
أما نفي الضدين فهذا ليس بمستحيل فالبياض والسواد مثلاً ضدان لا يجتمعان فإما أبيض أو أسود، ويصح أن يرتفعا فقد يكون أحمر لا أبيض ولا أسود.
فكل ما يتقابل مع غيره تقابل سلب وإيجاب فهما نقيضان، بحيث إذا وجد أحدهما انتفى الآخر كالحياة والممات، والذكورة والأنوثة وغيرهما فإذن ما تقدم هو خارق للعادة، لكن هل يتصور أن يقع خارق للعقل؟ نقول: لا ولا يمكن أن تأتي شرائع الله بما تحيله العقول، إنما تأتي بما تحار فيه العقول أججت نار عظيمة لو مر طير في أقصى الجو لخر مشوياً، فكيف يوضع خليل الله إبراهيم عليه الصلاة السلام في المنجنيق من مكان بعيد يقذف ويلقى في النار؟ وهو لو لم يلق في النار لتكسرت عظامه من أثر الإلقاء والرمي، وإنما وضعوه في المنجنيق لأنهم لا يستطيعون أن يقتربوا من النار لإلقائه فيها، فيلقى في النار فتكون برداً وسلاماً ولا تحرق النار إلا وثاقه، فكان مقيدا ثم صار مطلقا، فهذا يتصوره العقل ولا يحيله، وهذا ليس بأغرب من أننا خلقنا من ماء مهين، كما أن الله قادر على أن يخلق إنساناً من غير هذه القطرات التي هي من ماء مهين – كما خلق عيسى – فمن الذي يمنعه؟ لذا قال: (هو علي هين) فهذا خارق للعادة وليس خارق للعقل فليتنبه!!
ولا يمكن أن يقع شيء خارق للعادة وليس خارقاً للعقل فيه آفة – كما تقدم – يقول إن هذا مستحيل فنقول: الآفة في عقلك الهزيل، وليس هذا مستحيل، ولذلك قلنا خارق للعادة أي لم تجر العادة به فهو غريب، فكوننا خلقنا من هذا الماء غريب لكن جرب به العادة، وكوننا نتكلم بقطعة اللحم اللسان غريب لكن جرب به العادة، ولو أن أصبعك تكلمت لاعتبر الناس هذا خارقٌ للعادة، ولو أن الحصى سبحت كما سيأتينا في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم حصىً تسبح كما يسبح اللسان فهذا غريب ما جرت به العادة فهو خارق للعادة، وهو في الحقيقة لا غرابة فيه بالنسبة لقدرة الله تعالى.(5/45)
إذن خارق العادة ليس بخارق للعقل فلابد من التفريق بين خارق لعادة وخارق العقل، وخارق العقل هذا بين نقيضين، نفي نقيضين، جمع ضدين، فهذا لا يمكن أن يقع، ولذلك ما كانت معجزة نبي من الأنبياء أن يقول أجعلكم أحياءً وأمواتاً، موجودين ومعدومين؟ هذا مستحيل هذه سفسطة ولا يمكن أن تقع، ولكن معجزة نبي أنه يحيي الموتى، فهذا مستحيل أم ممكن؟ نقول: ممكن ميت يموت فيقول خذوا بقرة واذبحوها واضربوه ببعضها فيحيى بإذن الله (كذلك يحي الله الموتى) ، فإحياء الميت خارق للعادة التي جعلها الله تتحكم فينا نحن وفيما عدا الله.
فجعل الله سنناً في هذه الحياة لا يستطيع أحد أن يخرج عنها، فإذا شاء الله جل وعلا أن يبطل هذه السنن، أفليس بقادر على ذلك؟ بلى.
فنقول: إبطال لتلك السنة، إيقاف لمفعولها، خرق للعادة إلى غير ذلك من العبارات وليس هذا بمستحيل، بل إن هذا دليل على قدرة الله الجليل سبحانه وتعالى.
وخوارق العادات كما ذكرنا ستة أقسام:
القسم الأول: الإرهاص
مأخوذ من الرهْص، وهو أساس الشيء، يقال إرهاص، أساس البيت القواعد التي يبني عليها هذه يقال في اللغة رهْص.
وهو: خارق للعادة يقع على يد من سيكون نبيا قبل نبوته.
وسميت إرهاصاً لأنها بمثابة التأسيس لما سيليه، وهو المعجزة والإخبار بنبوته، فيكون هذا بمثابة لفت ربنا لأذهان الناس وأنظارهم بأن هذا المخلوق الذي جرى على يديه إرهاصات سيكون له شأن في المستقبل القريب فترقبوا ذلك.
مثاله: شق صدر نبينا عليه الصلاة والسلام عندما كان عند حليمة، وسيأتينا هذا ضمن الآيات التي حصلت لنبينا عليه الصلاة والسلام عند الإسراء والمعراج في مبحث مستقل ونبين أن شق صدر النبي عليه الصلاة والسلام وقع أربع مرات.
مرة عند حليمة عندما كان عمره سنتان وثلاثة أشهر.
ومرة عندما كان عمره عشر سنين.
ومرة عندما كان في غار حراء وجاءه جبريل في أول نزوله عليه.
والمرة الرابعة في حادث الإسراء والمعراج.(5/46)
وكل هذه المرات ثابتة صحيحة أتعرض لها إن شاء الله تعالى، فيشق صدره من ثغره بنحره إلى شعرته عليه الصلاة والسلام – وهو منبت العانة – ثم يخرج قلبه ويغسل بقَسْطٍ من ذهب بماء زمزم ثم يحشى إيماناً وحكمة ثم يلتأم صدره الشريف عليه صلوات الله وسلامه.
فالشق هذا الذي حدث له وعمره سنتان وثلاثة أشهر وعمره عشر سنين هذا خارق للعادة يأتيه ملكان فيضجعانه، ولذلك أرادت حليمة أن تعيده إلى أمه وعمه عندما شق صدره وهو صغير خشيت أن يكون قد أصابه مس من قبل الجن، لأنها ظنت أن هذا من فعل جن، فصدره عندما يشق ويستخرج قلبه ويغسل هذا خارق للعادة لكنه لم يكن نبياً في ذلك الوقت فهذا بمثابة إرهاص وإعلام بأن هذا المولود له شأن في المستقبل، وقد كان له أعظم الشؤون عليه صلوات الله وسلامه، في يوم ولادته حصل إرهاص عظيم فأمه آمنه عندما تلده يخرج منها نور كما تتحدث هي عن ذلك، يضيء من هذا النور قصور بُصرى في بلاد الشام، وعندما ولد تراه قد ولد مختوناً فلم يختنه خاتن، مسروراً أي سرته مقطوعة، ثم بعد ذلك يرسل الله في ذلك العام طيراً أبابيل على الجند الذين جاءوا لهدم بيت الله العتيق، فهذا كله إرهاص، أي حصل في هذه البلدة خبر غريب من أجله فعلنا هذه الأعاجيب، فانتبهوا!
إنه نبينا عليه الصلاة والسلام، لذا تؤرخ ولادته بعام الفيل التي وقعت إرهاصا لولادته وإرهاصاً لنبوته وإخباراً بما سيكون له من الشأن العظيم.(5/47)
وفي رحلته بعد ذلك إلى بلاد الشام عندما ذهب مع ميسرة - غلام خديجة – وعندما ذهب قبل ذلك مع عمه أبي طالب كان الغمام يظلله عليه الصلاة والسلام لوجود الحر الشديد فكان أينما ذهب غمامة فوق رأسه عليه الصلاة والسلام كأنه يحمل مظلة تظلله من حرارة الشمس، وهذا أيضاً إرهاص وهكذا بقية الأنبياء عندما جعل الله لهم خوارق للعادات قبل نبوتهم، فعيسى تسمعه يقول عند ولادته: (إني عبد الله آتاني الكتاب) ويقول: (وبراً بوالدتي) فتكلمه في المهد يعد إرهاصاً لأمر سيحصل لنبوته.
وموسى عليه الصلاة والسلام عندما يلقى في البحر (فإذا خفت عليه فألقيه في اليم) نجيناه من التلف بالتلف، نجيناه من فرعون بالبحر ليقوده إلى فرعون، وفرعون لم يتلفه، فنجيناه على يدي فرعون، وهذا رب العالمين الذي إذا أراد شيئاً فلا راد لحكمه ولا معقب لقضائه، فموسى ألقي في اليم هرباً من فرعون فنجاه الله على يدي فرعون، وصار هلاك فرعون على يد هذا المولود الذي رُبِّيَ في حجره وكان يضرب لحيته في صغره، فهذا إرهاص عظيم، فهل خافت المرأة على ولدها تلقيه في البحر، أن إذا كان في البحر تأخذه؟
القسم الثاني: المعجزة:
هي أمر خارق للعادة يجريه الله تعالى على يد النبي، ليكون برهاناً على صدقه في أنه رسول الله وقد تقترن المعجزة بدعوى التحدي، وقد لا تقترن، فلا يشترط في المعجزة أن تكون مقترنة بدعوى التحدي..
فمعجزة القرآن الكريم مقرونة بدعوى التحدي (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله) .
بقية المعجزات: كتكثير الطعام، وتسبيحه، وتسبيح الحصى، وانشقاق القمر (اقتربت الساعة وانشق القمر) حنين الجذع إلى النبي عليه الصلاة والسلام من المتواتر فكل هذا لم يقترن بالتحدي.(5/48)
وهذه المعجزة لا يمكن لأحد أن يعارضها، ولذلك هي سالمة من المعارضة لأنه متى ما عارضها بطلت نبوة النبي، فلو قال النبي عليه الصلاة والسلام علامة صدقي أن ينشق القمر ويشير بإصبعه إلى القمر فينقلب فلقتين، ويظهر بين الفلقتين جبل حراء، فلقة عن يمينه وفلقة عن شماله ويقول مشركو مكة سحركم محمد عليه الصلاة والسلام، فقال بعض العقلاء فيهم -وليس فيهم عاقل - إذا سحرنا محمد فلن يسحر أهل الأرض، فسلوا التجار الذين سيعودون من بلاد الشام فهل رأوا انشقاق القمر في بلاد الشام في هذا الوقت أم لا؟
فلما عاد التجار من بلاد الشام سألوهم، هل انشق القمر في ليلة كذا؟ قالوا: نعم، فماذا قال المشركون (سحر مستمر) ، فهذا قد سحر أهل الأرض جميعاً هكذا زعموا وحاشاه صلى الله عليه وسلم فإذن هذه لم تقترن بدعوى التحدي وقد تقترن بدعوى التحدي لكن لا يمكن أن تعارض، فلو قال مسيلمة الكذاب أنت شققت القمر في هذه الليلة وأنا سأشقه في الليلة التي ستليها، وحقيقة لو شق لبطل صدق النبي عليه الصلاة والسلام وظهر أنه دعيٌّ وليس نبي، ولذلك اشترطنا سلامتها من المعارضة، فلا يمكن لأحد أن يعارضها، أيد الله أنبياءه بالمعجزات.
بالمعجزات أيدوا تكرُّما ... وعصمة الباري لكلٍ حتِّما(5/49)
فنبي الله موسى عليه الصلاة والسلام عندما يخرج مع بني إسرائيل حسبما أمرهم ربنا الجليل وأسرى ببني إسرائيل ليلاًً ثم تبعهم فرعون وجنوده وصار البحر أمام نبي الله موسى وفرعون وراءه، فماذا قال المؤمنون في ذلك الوقت: (إنا لمدركون) ، فانظر إلى العبد الواثق بربه حيث قال: (كلا إن معيَِ ربي سيهدين) ، (فأوحينا إليه أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم) ، فهذه معجزة النبي، البحر يصبح اثني عشر طريقاً يبسا ً والماء يتجمد كأنه جدران، والطرق بينها ثم هذا الماء عندما يتجمد والطرق اثنا عشر طريقاً لأنهم كانوا اثنا عشر سبطا وفريقاً جعل الله في هذه الطرق عندما تجمد الماء في هذه الحواجز نوافذ وطرقات ليرى كل فريق الفريق الآخر عندما يسيرون حتى لا يظن كل فريق أنه هو الناجي فقط والفرق الأخرى ماتت فكل واحد ينظر إلى صاحبه كأن بينهم حاجز من الزجاج، فهذا كله خارق للعادة جرى على يد نبي فهو إذن معجزة.
القسم الثالث: الكرامة:
هي: خارق للعادة يجريه الله على يد العبد الصالح.
والعبد الصالح هو المؤمن الذي يفعل المأمورات من واجبات ومستحبات ويترك المنهيات من محرمات ومكروهات ولا ينهمك في اللذات والمباحات فهذا يقال له: صالح ولي، صدّيق، فحاله كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (مالي وللدنيا إنما أنا كراكب قال تحت شجرة ثم راح وتركها) .
فإذا جرت على يد العبد الصالح خارق من خوارق العادات فيقال لها كرامة.
مطرف بن عبد الله بن الشخير من أئمة التابعين كان إذا دخل إلى بيته تسبح معه آنية البيت وهذا ثابت، والله على كل شيء قدير.(5/50)
والكرامات في هذه الأمة كالمطر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم – والحديث في الصحيحين -[قد كان في الأمم قبلكم محدثون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن في أمتي أحد منهم فعمر] عمر بن الخطاب رضي الله عنه سيد محدثي وملهمي هذه الأمة يخبر بأمور الغيب من غير أن ينزل عليه وحي، وما نظر إلى شيء وقال أراه كذا إلا كان كما يقول و"كان ينظر إلى الغيب من ستر رقيق" كما قال ابن عباس رضي الله عنهما.(5/51)
الحسن البصري - عليه رحمة الله - كان الحجاج يرسل شرطته ليقبضوا عليه وهو جالس على سريره في صحن داره فتدخل الشرطة وتقول أين أبو سعيد؟ أين الحسن البصري؟ وهو ينظر إليهم ويبتسم ويخرجون، فهذا خارق للعادة، إنَّ عينيك تبصر ولكن حال الله بينك وبين الرؤيا أما قال الله في كتابه: (وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً) ، وقد ثبت في المستدرك بسند صحيح كالشمس عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها أن قول الله تعالى (تبت يدا أبي لهب وتب) لما نزل جاءت العوراء أم جميل - أم قبيح – زوجة أبي لهب تولول وفي يدها حجر يملأ اليد، وتقول: أين محمد؟ فقد بلغني أنه هجاني، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يجلس في فناء الكعبة وبجواره أبو بكر فقال: يا رسول الله أخاف عليك منها – أي لأنها سفيهة، امرأة فليست رجلاً لنقاتله وفي يدها فلو تواريت – فقال سيحول الله بيني وبينها، فقرأ قرآناً فاعتصم بالله منها فبدأ يراها ولا تراه فوقفت على رأس أبي بكر – والنبي عليه الصلاة والسلام بجواره – فقالت: أين صاحبك يا أبا بكر؟ قال: وماذا تريدين؟ قالت: بلغني أنه قد هجاني، فقال: والله ما يقول الشعر وهو صادق (وما علمناه الشعر وما ينبغي له) والهجو والهجاء إنما يكون في الشعر فقالت: قد علمت قريش أني من أعلاها نسباً، ثم ذهبت تولول وتقول: مذمماً أبينا، وأمره عصينا، ودينه قلينا أي أن هذا عندنا مذموم أبيناه فلا نتبعه، ونعصي أوامره ودينه نكرهه فليفعل ما يشاء.(5/52)
هذا إن وقع لنبي فهو معجزة كما هو الحال هنا، وإن وقع لعبد صالح فهو كرامة، ويذكر الإمام القرطبي عن نفسه كرامة أكرمه الله بها في بلاد الأندلس عند قول الله جل وعلا (وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً) في سورة الإسراء وانظروها في تفسيره عند هذه الآية يقول: لما دخل الفرنج – النصارى - إلى بلاد الأندلس كنت في حصن منثور في ذلك المكان وكنت في الصحراء وفي العراء ولا توجد شجرة أتوارى بها ولا أكمة أختبئ وراءها - أي تل مرتفع أو منبسط - وأنا في ذلك المكان وجحافل الجيش تتقدم، يقول: فالتجأت إلى الله وقرأت القرآن فصرت أراهم ولا يرونني، وبدأت أسمع أصواتهم، يقول بعضهم لبعض: هذا الرجل الذي ظهر لنا ثم توارى عنا ما هو؟ فيقول له الآخر: لعله ديبلة يقول هذا في لغتهم لعله جني ظهر ثم اختفى، يقول أنا أسمع كلامهم وأراهم ولا يرونني، فهذه يقولها عن نفسه والله على كل شيء قدير.
قال الإمام بن تيمية في (مجموع الفتاوى في 11/331) : "إذا صح الإيمان علماً وعملاً واحتاج صاحبه إلى خرق العادة، سيخرق الله له العادة ولابد، لأن الله يقول: (إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً) ويقول: (ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب) "لكن هذا يحتاج إلى تصليح الإيمان علماً وعملاً، ولذلك إخوتي الكرام: من لجأ إلى مخلوق دل على انفصاله عن الخالق.
(ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم) ، لكن هو إذا صح إيمانه علماً وعملاً، علم نافع واعتقاد حق بالله وعمل صالح وإذا قال يا رب، لم يتخل عنه رب العالمين، لأنه قطع على نفسه مبدأً فقال (ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب) فلو كادته السموات والأرض لجعل الله له من بينهن فرجاً ومخرجاً والله على كل شيء قدير، وعندما يعرض العبد عن هذا يكله الله إلى نفسه وفلا يبالي في أي وادٍ هلك.
القسم الرابع: المعونة(5/53)
هي: خارق للعادة يجري على يد مؤمن مستور لم يظهر منه فسق ولا بدعة لكن ليس في درجة الذي قبله في الصلاح والاستقامة ولا يعرف عنه جد واجتهاد في طاعة الله فعل المأمورات من واجبات ومستحبات، وترك المنهيات من محرمات ومكروهات وعدم انهماك في اللذات فهذا ليس كذلك بل هو من عوام المسلمين، فلا تظهر عليه بدعة ولا فسق ولا يعرف بالصلاح والتقدم والاجتهاد في دين الله وما أكثر ما يجري من خوارق للعادات على يد عوام المؤمنين ليكرمهم بها رب العاملين إكراماً لهم وتثبيتاً للإيمان في قلوبهم مثلاً: تقع بعض الحوادث ممن شاهدوها يقول لن ينجو منها أحد، فيقال لك: كل من وقع عليه الحادث سلم فهذا من باب معونة الله.
إنسان يسقط من الدور السابع في مكان ضيق على بلاط فينزل وما يخدش عظمة ولا جلدة.
القسم الخامس: الاستدراج
هو: خارق للعادة يجريه الله على يد عبد مخذول، صاحب العمل المرذول (فاسق، كافر، مبتدع، ضال مضل) على وفق مراده فيجري الله علي يده خوارق للعادات ويستدرج من حيث لا يعلم مثاله: الخوارق التي ستحدث على يد الدجال وهي خوارق عظيمة يأتي إلى الخربة – كما ثبت في الصحيحين – فيقول لها: أخرجي كنوزك فتتبعه كيعاسيب النحل، أي كجماعات النحل عندما تتبع رئيستها ومليكتها. ويأمر السماء أن تمطر فتمطر والأرض أن تنبت فتنبت وغير ذلك من الخوارق التي ستحصل على يد عبد كافر.
وفي هذه الخوارق لهذا الصنف من الناس امتحان للبشر، هل سيغترون بهذه الظواهر ويتبعونهم أم لا؟(5/54)
مع ما سيأتي به من آيات فيه أيضاً آيات تدل على أنه أرذل المخلوقات، فهو مثلاً ينظر بعين واحدة، وعلى جبينه مكتوب كافر يقرأها كل شخص سواء كان أمياً أو متعلماً فنقول له: أنت أعور ولا تستطيع أن تغير عورك، فكيف تحيي وتميت ولا تستطيع أن ترد عينك سليمة لتبصر ولتجعل صورتك صورة كاملة لا تشويه فيها، ولكنه لا يقدر على هذا لأنه عندما يعطيه الله بعض الخوارق لا يعني هذا أنه يتصرف تصرفاً مطلقاً بل إنه لا يزال ضمن البشرية وهو عبد مقهور لكن الله جعله فتنة للناس، هل يخدعون بهذه الأمور أم يتبعون الحق الثابت المزبور؟ فإذن فيه علامة تبين ضلاله، كما نقول له هذه الكتابة على جبينك امسحها كما أنك بعد ذلك لا يسخر لك من المركوبات إلا الحمار فلا تستطيع ركوب الخيل أو الفرس.
فكل هذا من باب إذلال الله له لذا هو كما قال النبي عليه الصلاة والسلام [هو رجس على رجس]
القسم السادس: الإهانة
هي: خارق للعادة يجريه لله على يد العبد المخذول (الفاسق، المبتدع، الضال، الكافر) لكن بنقيض قصده ومراده والأقسام الخمسة الأولى كلها وفق مراد من أجراها الله على يديه.
مثالها: ما جرى لمسيلمة – وقد ذكرناها لكم – أنه بصق في عين إنسان فعمي، فهذا خارق للعادة لأن البصق عادة لا يتسبب في عمى الإنسان، لكنه بصق في عين شخص ليبرأ فصار أعمىً فأراد أن يبرأه فأعماه فحصل له نقيض قصده.
إخوتي الكرام.... وهذه الأقسام الستة من الخوارق تقع في واحد من ثلاثة أمور هي أمور الكمال بأسرها:
1- إما في العلم
2- وإما في القدرة
3- وإما في الغنى
فالعلم: بأن يعلم ما يجهله غيره ويعلمه الله جل وعلا من غير سبب يتعلم منه العباد، فهذا خارق للعادة في أمور العلم.
لأن أمور الكمال بأسرها علم وقدرة وغنىً فقط، وكل كمال مرده إلى واحدة من هذه الأمور الثلاثة فالله بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير وغني عن العالمين.(5/55)
ولا يوجد أحد من خلق الله له صفة الكمال في هذه الأمور الثلاثة أو في واحد منها، لأن هذه الأمور مختصة بالرب ولذا أمر الله نبيه بأن ينفيها عن نفسه فقال جل وعلا كما في سورة الأنعام: (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إليّ) .
(لا أقول لكم عندي خزائن الله) فنفى الغني.
(ولا أعلم الغيب) فنفى العلم.
(ولا أقول لكم إني ملك) أقدر على مالا تقدرون عليه فنفى القدرة، فأنا مثلكم إنما أنا بشر لا أستغني عما تحتاجون إليه ولا أعلم إلا ما علمني ربي.
وهكذا أمر الله أول الرسل بعد آدم - على نبينا وعلى جميع الأنبياء صلوات الله وسلامه – وهو نوح أن يقول: (ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك) فأول الرسل إلى البشرية نفى هذه الأمور عن نفسه وكذا آخرهم عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه فمثلاً: القرآن معجزة للرسول صلى الله عليه وسلم وخارق في أمور العلم (وعلمك ما لم تكن تعلم) فوقوع هذا الخارق معجزة، ولو وقع خارق من أمور العلم لغير النبي لقيل له كرامة معونة: إلخ ...
فعمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما كان يخطب على المنبر أيام خلافته والجيوش الإسلامية في بلاد فارس تقاتل في سبيل الله وكان قد أمَّر عليه رجلاً يدعى سارية، وهو في أصل الجبل والعدو من الجهة الأخرى للجبل يتسلقونه ليصيروا فوق المسلمين ويرشقونهم بنبال كالمطر فكشف الله لعمر هذه الموقعة هو في المدينة والموقعة في نهاوند في بلاد الفرس وصاح يا سارية الجبل فسمع سارية صوت عمر ورقي الجبل وإذا بجنود الفرس يتسلقون الجبال فصال المسلمون فوقهم وكتب الله النصر لهم فهذا تعليم لعمر، ثم هناك كرامة أخرى وهي أن صوته يصل إلى سارية وذاك ينفذ ذاك الأمر ويكتب الله لهم النصر.(5/56)
والقصة صحيحة وقد ألف الحافظ الحلبي جزءاً في طرقها وحكم عليها بالصحة، والإمام السخاوي في المقاصد الحسنة حكى عن شيخه الحافظ ابن حجر عليهم رحمة الله أن إسنادها في درجة الحسن وطرقها كثيرة وفيرة.
والشيخ محمد حامد الفقي -عليه رحمة الله ومغفرته- وهو الذي علق على كتاب مدارج السالكين ذكر كلاما ً منكراً حول هذه القصة في تعليقه على المدارج، فانتبهوا له واحذروه إلى مر معكم، يقول: إن عمر لا يعلم الغيب، ويقول له: يا عبد الله: لا يعلم الغيب إلا الله لكن إذا علَّم الله عمر هذا فأي حرج في هذا، أفلسنا نؤمن بالكرامات؟ أما قال الله عن مريم بأنها صديقة ولا يوجد في النساء نبية كما قال الله تعالى: (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم) ، فالنبوة من جنس الذكورة فقط، كما أنه لا يصلح أن يكون في النساء إمامة – الإمامة – بحيث تكون أميرة وخليفة، فلا يجوز أن يكون في النساء نبية إذ كيف تبلغ دعوة الله وتتصل بالناس وهي مأمورة بالستر وأن تقر في بيتها؟ وهذا ليس من باب الامتهان لها إنه ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى فهذه الرتبة لا تتناسب مع طبيعتها فهي في مكان آخر وهذا واضح ولها أجر بعد ذلك عند الله إن كانت تقوم بما أوجب الله عليها فيما يتعلق بطبيعتها وفيما يتعلق بما هو عائد إليها فإذن لا تكون إمامة [لا يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة] ولا تكون نبية، فمريم صديقة بنص القرآن (وأمه صديقه) ، أفلم تثبت لها الكرامات؟ (كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً، قال: يا مريم أنى لك هذا قالت: هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب) وانتبه: لم شك زكريا واستغرب وجود الرزق عندها؟ فهو يقول: يا مريم عندك رزق لا يمكن أن نقول إن أحداً من الخلق أحضره إليك لا عن طريق المعونة والمساعدة والإحسان ولا عن طريق الهبة، بل إن الرزق الذي يأتيك لا وجود له في هذه البلاد، ولو كان له وجود لقلنا جارتك ساعدتك، أو أحد أحسن إليك.(5/57)
فما عاد هناك مجال أن يقال أنت تتصلين اتصالاً محرماً ببعض الناس، فإنه يأتيك شيء لا نظير له، فهذا مما يدهش العقول فمن أين جاءك؟
قالت (هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب) ولو كان لما يأتيها نظير ومثيل لأمكن أن يقال هو إما مساعدة وإما وحاشاها – خيانة – ولكن لا هذا ولا هذا فهو شيء لا يمكن أن يحصل من قبل بشر.
فإذا كانت كرامات الأولياء ثابتة فانظر ماذا يعلق الشيخ محمد حامد الفقي على هذه القصة: "عمر لا يعلم الغيب وهذه القصة وإن كانت ثابتة فمعناها وتأويلها أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما كان يخطب على المنبر أخذته سنة فنام فكشف الله له في الرؤيا عن حال الموقعة ثم صاح بأعلى صوته" لكن نقول: لو سلمنا لك بهذا فكيف سمع سارية صوت عمر إن كان علمه عن طريق الرؤيا، ولكن لا نعلم بما ذكرت، فهل يعقل أن ينام عمر على المنبر؟ فلو حصل ونام عمر على المنبر
فإذا أحدث الخطباء في هذه الأيام على المنبر لكان قليلاً!
فيا إخوتي لا نشطت في التأويل بحيث نصل إلى درجة الإنكار فهو لا يريد أن يقول باطلة لأن هذا ثابت، فيقول هذا معنى هذا، فتنبهوا! إذن فهذا من خارق العادة في العلم.(5/58)
الثاني خارق العادة في القدرة فيقدر على ما يعجز عنه غيره ومنه قصة عرش بلقيس قال الله تعالى عنه (ولها عرش عظيم) والعرش سرير الملك مرصع بالجواهر واليواقيت وحجمه كبير، قال نبي الله سليمان كما حكى الله عنه (أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين، قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك) ، وكان سليمان عليه الصلاة والسلام من الصباح حتى الظهر يقضي بين رعيته ويعلمهم، فقبل انفضاض المجلس سيكون العرش عندك (قال الذي عنده علم الكتاب) هو رجل صالح اسمه آصَف، (أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك) أي إذا نظرت إلى شيء فقبل أن تغمض عينيك عنه يكون العرش عندك أي في ثوان ٍ ليظهر الله كرامة هذا العبد الصالح على قوة وجهد الجن مع ما معهم من قوة إمكانات، فهذا له مكانة عند الله أعلى وسيأتي بهذا العرش من اليمن إلى بيت المقدس قبل أن يرتد طرف سليمان إليه (فلما رآه مستقراً قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر) .
إخوتي الكرام.... ما سبق هذا هو المعنى الحق أما من قال: (قال الذي عنده علم الكتاب) هو جبريل أو (قال الذي عنده علم الكتاب) هو نبي الله سليمان فهذا باطل.
وهذه كما قال الإمام الذهبي في كتاب العلو للعلي الغفار ص 57 "سبحان الله ما أعظم هذه الكرامة ولا ينكر كرامات الأولياء إلا جاهل"
الثالث: خارق للعادة في مجال الغنى، فيستغني عما يحتاج إليه الناس
ثبت في ترجمة العبد الصالح إبراهيم التيمي أنه كان يمكث شهرين لا يأكل ولا يشرب، والإنسان إذا امتنع عن الشراب ثلاثة أيام يموت، إذا امتنع عن الطعام سبعة أيام – على أكبر تقدير – يموت.
فهذا العبد الصالح عنده غنىً عن الطعام والشراب، والله على كل شيء قدير، فإذا جعل الملائكة لا يأكلون ولا يشربون فما الذي يمنعه من أن يجعل العبد بهذه الصفة ويكرمه بذلك؟(5/59)
ومكث مرة أربعين يوماً، فأعطاه بعض أهله حبة عنب فأكلها، فمكث أربعين يوما ولما أكل لم يأكل إلا حبة العنب فقط فهذا غنىً عما يحتاج إليه الناس.
ذكر الإمام بن كثير عند قوله تعالى: (قال إنما أوتيته على علم عندي) حكايته عن قارون يقول: قال بعض الناس: (على علم عندي) أي بصنعة الكيمياء؟ أي أنه يقلب الخشب والحجر والنحاس إلى ذهب، وقال هذا هوس فالمعادن وحقائق الأشياء لا يمكن أن تقلب، فالخشب خشب والحجر حجر والحديد حديد، ولا يمكن أن نقلبه ذهباً أو فضة، يقول وأما قلب حقائق الأشياء إلى ذهب وفضة عن طريق خرق العادة من باب الكرامة فهذا جائز لأنه ليس بمشيئة الناس بل بمشيئة الله، كما جرى لحَيْوَة بن شُرَيْح وكان قد جاءه سائل فسأله – والقصة ثابتة صحيحة ثابتة في تهذيب التهذيب وتذكرة الحفاظ في ترجمة حَيْوَة بن شُرَيْح من شيوخ ورجال الكتب الستة فعلم حيوة صدقه واحتياجه، فأخذ مَدَرَة من الأرض – قطعة طين متجمدة – فأجالها في يده فوضعها في يد السائل فقلبها الله ذهباً خالصاً والله على كل شيء قدير، فهذا ليس بمشيئة المخلوقات إنما هو بمشيئة رب الأرض والسموات.
الشاهد: حادثة الإسراء والمعراج خارقة للعادة ترجع إلى العلم أو القدرة أو الغنى؟ ترجع إلى القدرة، أقدره الله على ما يعجز عنه البشر إلا من أكرمه الله بذلك، فيسري به إلى البيت المقدس ويعرج به إلى السموات السابعة فيعاد إلى بيت المقدس، ويعاد إلى مكة في جزء من الليل ولازال فراشه دافئاً.
وهذه الأمور الستة قد جمعها بعض أئمتنا في ستة أبيات من الشعر لطيفة وهي:
1- إذا رأيْتَ الأمرَ يخْرِقُ عادةً ... فمعجزةٌ إنْ مْن نبيٍّ لنا ظَهَرْ
2- وإن بان من قبل وصف نبوة ... فالإرهاصَ سِمْه ُ تتبع القومَ في الأثرْ
3- وإن جاء يوماً من ولي فإنه ... الكرامة في التحقيق عند ذوي النظرْ
4-وإن كان من بعض العوام صدوره ... فكنوه حقا بالمعونة واشتهرْ(5/60)
5- ومن فاسق إن كان وفق مراده ... يسمي بالاستدراج فيما قد استقرْ
6- وإلا فالإهانة عندهم وقد ... تمت الأقسام عند من اختبرْ
ومن شاء الرجوع إليه فلينظر في كتاب: لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية في شرح الدرة المضيئة في العقيدة الأثرية للإمام السفاريني (2/392) ، والدرة المضيئة له وشرحها في مجلدين وهو من الكتب النافعة في علم التوحيد على هدي السلف، وقد تعرض فيه لمبحث خوارق العادات وذكر الستة.
بعض علماء التوحيد أضاف أمراً سابعاً لكنه لا يعتبر من خوارق العادات وهو: السحر، وهذه إضافة باطلة، فإنه لا يعتبر من خوارق العادات لأنه يتوصل إليه بالأسباب العادية فهناك أنواع من أنواع الكفريات من سلكها وصل إلى السحر فهو علم وتعلم مثل الموسيقى هذا حرام وذاك حرام، ولذلك من السبع الموبقات كما قال النبي عليه الصلاة والسلام السحر، وما شاع بين الناس من حديث مكذوب وهو: [تعلموا السحر ولا تعملوا به] فهذا لا يصح نسبته إلى النبي عليه الصلاة والسلام وهو خرافة، لأن تعلم السحر لا يحصل إلا بالكفر واستعانة بالقوى الخبيثة الشريرة من الشياطين والعفاريت، لكن هو علم عن طريق أسباب من تعلمها وصل إليه مثل الغناء والرقص والموسيقى وقلة الحياء.
لكنه لا يحصل إلا بمشيئة الله قال تعالى: (وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله) ، وهذا كما لو أطلقت رصاصة على إنسان فأنت الذي باشرت القتل لكنه لم يمت إلا بمشيئة الله وتقديره وإرادته ولكنك تعاقب على مباشرتك للقتل، ولو صبر القاتل على مقتوله لحظة لمات دون أن يقتله فالمقتول مات بأجله ولم يقدم القاتل أجله عن موعده بل ساعة قتله هي أجله، فلم يقدم أجله ولا طرفة عين لكن القاتل مسئول عن فعله.(5/61)
وهناك عندما يمارس السحر ويفرق بين المرء وزوجه ويؤذي الإنسان ويكسب جسمه وهناً وضعفاً فهو بإذن الله، وقد سحر نبينا عليه الصلاة والسلام لكن لم يؤثر على عقله غاية ما كان إنه يصاب في بدنه بوهن وضعف واستمر به السحر أشهر عليه صلوات الله عليه وسلامه وزاد مفعوله فيه مدة أربعين يوماً وكان يشعر بتعب ثم أنزل الله عليه المعوذتين فقرأهما فقام وكأنما نشط من المقال عليه صلوات الله وسلامه والحديث في الصحيحين.
فالسحر إذن بواسطة تعلم أشياء معلومة، وهو كما لو تعلمت فن القتال فضربت إنساناً فآذيته لكن بشيء معلوم، والساحر يؤذي بشيء معلوم، لكن ذلك بشيء ظاهر وهذا بشيء معلوم خفي، فالإيذاء بالسحر لا يكون إلا عن طريق مدارسة ولا يوصل إليه إلا بأسباب معلومة يتلقاها الناس بخلاف خوارق العادات فهذه لا دخل فيها لكسب ظاهر، إنما هي محض تقدير الله جل وعلا ومشيئته وبالتالي ليس السحر من خوارق العادات.
المبحث الثالث
أكم مرة وقع فيها الإسراء والمعراج:
الإسراء والمعراج لهما حالتان:
الحالة الأولي: حالة وقوعهما في اليقظة، فلم يقعا إلا مرة واحدة قبل الهجرة، وسيأتي تحديد وقت حصولهما.
وقد حكى الإمام ابن حجر في فتح الباري (7/203) في هذه المسألة عشرة أقوال في تكرر الإسراء والمعراج – والمعتمد فيها – أن إسراء ومعراج اليقظة بنبينا عليه الصلاة والسلام كان مرة واحدة.(5/62)
قال الإمام ابن القيم في زاد المعاد في هدي خير العباد: "والعجب ممن يدعي ويزعم تعدد الإسراء والمعراج في اليقظة فكيف سيحمل التعدد على فرضية الصلاة " فقد فرضت الصلاة ليلة المعراج وكانت خمسين فخفضت إلى خمس عندما كان يتلقى هذا من الله وينزل على نبي الله موسى عليه السلام – وسيأتينا هذا في الآيات التي رآها في السماء وما حصل له من عجائب – فإذا قلنا إن حادث الإسراء والمعراج قد تكرر إذن نعيد المسألة في كل حادث كانت خمسين وترجع إلى خمس وترجع إلى خمس فهذا لا يمكن أن يقع ويحصل، فإسراء ومعراج اليقظة هذا وقع مرة واحدة.
الحالة الثانية: حالة وقوعهما في المنام بروح نبينا عليه الصلاة والسلام فلا مانع من تكرارها، أي أن يسرى بروحه فتذهب روحه إلى بيت المقدس وهو نائم ويعرج بروحه إلى السماء وهو نائم، فلا مانع من تعدده ولو وقع ألف مرة.
والإمام النووي في فتاويه المشهورة – وهو كتاب مطبوع في 300 صفحة تقريباً – ذهب في هذه الفتاوى إلى أن الإسراء والمعراج وقعا مرتين لنبينا عليه الصلاة والسلام مرة في المنام ومرة في اليقظة.
وذهب بعض الأئمة كالمهلب – كما حكى هذا الحافظ في الفتح – وذهب إليه الإمام ابن العربي والإمام السهيلي وأبو نصر عبد الرحيم القشيري وغيرهم: إلى أن الإسراء والمعراج في المنام تكرر فوقع قبل الهجرة ووقع بعدها، فاختلفوا في عدد المرات في المنام، أما في اليقظة بروحه وجسده فلم تقع إلا مرة واحدة.
نعم التبس الأمر على بعض رواة الحديث عندما أخبرهم نبينا عليه الصلاة والسلام أنه عرج به وأسريَ به في غير اليقظة فظنوا أن ذلك الإسراء والمعراج حصل في اليقظة مع أنه حصل في المنام فلا مانع كما قلنا أن يعرج به وبغيره عليه الصلاة والسلام، أو يسرى به وبغيره عليه الصلاة والسلام في المنام لا في اليقظة.(5/63)
إذا فقد ذهب الإمام النووي إلى وقوعهما مرة في المنام وذهب غيره إلى أنها حصلت أكثر من مرة، فوقع قبل الهجرة وبعدها والذين قالوا أنه وقع قبل الهجرة قالوا وقع قبل أن يسرى به ويعرج به في اليقظة فأسري به وعرج بروحه ليكون توطئة لإسراء ومعراج الجسد بعد ذلك، ثم بعد أن هاجر فأسْرِيَ وعُرج بروحه وهو نائم ليكون بمثابة التشويق وتذكرة بالنعمة التي حصلت له قبل هجرته.
أمتى حصلا ووقعا لنبينا عليه الصلاة والسلام؟
ذهب الإمام الزهري – من أئمة التابعين – ولكلامه هذا حكم الرفع المرسل إلى أن الإسراء والمعراج حصلا ووقعا قبل الهجرة بسنة.
وذهب الإمام ابن سعد في الطبقات الكبرى إلى أنه وقع قبل الهجرة بثمانية عشر شهراً قلت: ولا تعارض بين القولين فيما يظهر لي والعلم عند الله، فمن قال عرج به وأسرى قبل الهجرة بسنة ألغى الكسر وأخبر عن العدد الصحيح ومن قال عرج به وأسري قبل الهجرة بثمانية عشر شهراً (سنة ونصف) أخبر عن حقيقة ما وقع وأثبت الكسر، فالإسراء والمعراج إذن وقعا قبل الهجرة بسنة ونصف.
جـ- لم وقعا في ذلك الوقت؟ (الحكمة من وقوعها في ذلك الوقت) :
في العام العاشر للبعثة لا للهجرة حدث أمران عظيمان في حياة نبينا عليه الصلاة والسلام كان لهما أثر كبير وهما:
أولهما: موت زوجه خديجة، وخديجة هي أفضل نساء هذه الأمة على المعتمد وقيل فاطمة ابنتها، وقيل أمنا عائشة، وذهب بعض العلماء إلى أن كل واحدة منهن فيها فضيلة ومزية لا توجد في الأخرى، لكن أمنا خديجة رضي الله عنها لها منزلة عظيمة في قلب النبي عليه الصلاة والسلام، فهي أول من آمن به من النساء، نصرته وواسته وأعانته بمالها، رزقها الله منها الأولاد وكانت نعم الزوج رضي الله عنها، فمن كان يبث إليه سره ويأنس في خلوته ذهب ومات.(5/64)
ثانيهما: موت عمه أبي طالب بعد شهر وخمسة أيام، وأبو طالب كان مشركاً وكافراً ولم يؤمن بالنبي عليه الصلاة والسلام (1)
__________
(1) ثبت في صحيح مسلم عن نبينا عليه الصلاة والسلام [أنه قيل له عمك أبو طالب كان ينصرك ويحميك ويدافع عنك هل نفعه ذلك عند الله؟ فقال: لا، إلا أنه كان في غمرات من نار جهنم فأخذته فوضع في ضحضاح من نار جهنم وضع في أخمصي رجليه جمرتان من نار جهنم يغلي منهما دماغه وإنه لأهون أهل النار عذاباً ويرى نفسه أشد أهل النار عذاباً.]
[ولما احتضر جاءه النبي عليه الصلاة والسلام وقال له: يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله وكان عنده أبو جهل وأضرابه، فقالوا: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فكان آخر ما قاله أنه على ملة عبد المطلب]
وثبت في النسائي [أن علياً رضي الله عنه جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقال يا رسول الله إن عمك- وهو والد علي - عمك الشيخ الضال قد مات، قال: اذهب فوار أباك] أي ادفنه من غير تغسيل ولا صلاة فهذا مشرك.
فنزل قول الله لما قال النبي عليه الصلاة والسلام بعمه بعد أن مات – لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عنك (ما كان للني والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا ذوي قربي من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم) لكن مع ذلك فجهده ما ضاع فهو أهون أهل النار عذاباً، وهذا من الشفاعات الخاصة لنبينا عليه الصلاة والسلام لأن الكفار كما قال الله تعالى فيهم (لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون) .
ولا يدخل الجنة لأنه كافر والله حرم الجنة على الكافرين.
عند الشيعة فقط أبو طالب أفضل من أبي بكر فأبو طالب في الجنة وأبو بكر في النار، قالوا كيف يكون والد علي كافراً؟ أقول فكيف يكون والد إبراهيم الخليل كافراً.
الشيعة جعلوا حب آل البيت ستاراً وهم زنادقة فلا يؤمنون بدين ولا يدخلون في الإسلام رغبة ولا رهبة إنما كيداً للإسلام وكيداً لأهله ولكن لابد من شيء يستترون به وهو حب آل البيت فهذه ستارة وإلا فما علي عندهم بأحسن حالاً من أبي بكر، وقالوا كلاماً لو ثبت لكان علي أحسن من أبي بكر عندهم وحاشاهم جميعاً من ذلك.
يقال لهم كيف زوج علي ابنته لعمر؟! – وهو عندهم كافر – أجابوا بجوابين:
- ... متقدموهم: من باب التقية ليرفع عن نفسه ضررهم.
- ... متأخروهم زفت إليه جنية بصورة أم كلثوم بنت فاطمة.
قال جعفر الصادق: " يقولون التقية ديني ودين آبائي أي: عندهم كذبوا؛ دين آل البيت التقوى لا التقية التقية دين اليهود ".(5/65)
لكن له صلة عظيمة بنبينا عليه صلوات الله وسلامه من سائر أعمامه فعمه العباس لم يكن مؤمناً في ذلك الوقت ثم آمن فيما بعد، وعمه أبو لهب لم يكن مؤمناً وما آمن وكان يؤذي النبي عليه الصلاة والسلام والعباس لم يكن له من المكانة في قومه كما لأبي طالب، فأبو طالب هو الذي ورث مكانة عبد المطلب وصار سيد قريش، فكانت له كلمة نافذة فما استطاع سفيه في مكة أن يمد يده أو يلوح بأصبعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مدة حياة أبي طالب وهو الذي كان يقول له: "والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفيناً" وكانت قريش تهاب أبا طالب وتخاف سطوته ويخشون إذا آذوا النبي عليه الصلاة والسلام أن يثأر أبو طالب لابن أخيه من باب الحمية، فكانوا ينكفون عن أذى النبي عليه الصلاة والسلام ولذلك غاية ما وقع قبل العام العاشر للبعثة أذىً على أصحابه ولم يقع عليه أذىً عليه صلوات الله وسلامه، فلما مات عمه أبو طالب اشتد أذى المشركين على أصحابه بل وعلى النبي عليه الصلاة والسلام ووصل الأمر إلى أنهم أخذوا الجزور وهي الكرشة التي فيها الفرث والزبل – وطرحوها على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم بجوار الكعبة فإذن اشتد عليه الأذى وكثر بعد موت عمه أبي طالب، وصار يلاقي أذىً شديداً خارج البيت وإذا عاد إلى البيت فليس هناك من يؤنسه ويزيل همومه، فاشتد به الأذى وضاقت عليه الأرض بما رحبت في ذلك الوقت، في العام العاشر للبعثة الذي سمي بعام الحزن، فخرج النبي عليه الصلاة والسلام من شدة الكرب الذي لحقه من المشركين إلى الطائف يلتمس نصرة من ثقيف، فكانوا أخبث من عتاة قريش وأهل مكة.
فردوا عليه أقبح رد أما بعضهم فيقول: أما وجد الله رسولا ً غيرك ليرسله؟
والآخر يقول: والله لو كُنْتَ رسولاً لأمزقن ثياب الكعبة!(5/66)
ثم ما اقتصر الأمر على أذى اللسان، بل أغروا به السفهاء وبدأوا يقذفونه بالحجارة حتى أدموا عقبيه عليه صلوات الله وسلامه ومعه مولاه زيد بن حارثة يقيه هذه الحجارة فتارة يكون أمامه وتارة وراءه وتارة عن يمينه وتارة عن شماله، والحجارة تأتيه من قبل السفهاء من كل جهة.
إذن فكان الأمر في منتهى الكرب والشدة، فلجأ بعد خروجه من الطائف إلى بستان عنب ولجأ إلى الله جل وعلا بالدعاء وقال الدعاء الذي رواه الطبراني وذكره الإمام محمد بن إسحاق في المغازي والطبراني رواه عن محمد بن إسحاق أيضاً وهو مدلس وقد عنن الحديث فهو من ناحية الإسناد في الظاهر فيه ضعف لكن المعنى حق وثابت، وهو حقيقة مع ضعف الإسناد فيه إلا أن الناظر فيه يرى عليه نور النبوة، قال: (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلي بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي ولكن عافيتك هي أوسع لي أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك (.
فغار الله لنبينا عليه الصلاة والسلام وأرسل له ملك الجبال وقال: إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين – الجبلين – وأريحك منهم حتى كأنه لا يوجد شيء اسمه قريش على وجه الأرض، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا، أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله (فهذا هو الرؤوف الرحيم عليه صلوات الله وسلامه.
إذن اشتد عليه الأذى في العام العاشر للبعثة، وأخذ فترة طويلة والنبي عليه الصلاة والسلام يصبر والهجرة كانت في العام الثالث عشر للبعثة فهل يُترك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بعدما لاقاه من إيذاء وشدة بلا حادث جليل يرضيه ويأنسه؟! هذا مستبعد!!
لذلك فقد حصل له صلوات الله وسلامه عليه بعد عودته من الطائف أمران وحادثتان:(5/67)
الحادث الأول: قبل أن يدخل إلى مكة عندما وصل إلى نخلة، وهي على الطريق القديم لمكة ويسمى طريق السيل حديث كان يسلكه المسلمون والعرب في الجاهلية لسهولته ويقع عليه ميقات أهل نجد قرن المنازل، ويقال له قرن المنازل على بعد 70 كيلومتراً من مكة، وطريق السيل هذا طوله من الطائف إلى مكة 120 كيلومتراً، وهناك طريق آخر جديد يسمى طريق الهدا وهو طريق جبلي شق حديثا وطوله إلى مكة قرابة 80 كيلومتراً، الشاهد أنه لما وصل إلى نخلة وهي تبعد قرابة 4 كيلومترات عن مكة المكرمة – أكرمه الله بأمر عظيم وأكرم الجن برؤية نبينا الكريم عليه صلوات الله وسلامه فصرف له نفراً من الجن يستمعون قراءته وآمنوا به في نخلة: (وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين) ، وفي هذا تأنيس للنبي صلى الله عليه وسلم وبشارة، فكأنما الله تعالى يقول له: اصبر إن جهل عليك البشر، فالجن – الذين لا تستبعد من طبيعتهم الجهالة والعشرة – انظر كيف عرفوا قدرك وآمنوا بك واستمعوا لقراءتك فعما قريب سأفتح قلوب البشر لدعوتك.
فإذن هذه بشارة حصلت له بعد الأذى الذي حصل له من البشر جاء الجن واستمعوا لقراءته وآمنوا به (قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجباً يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحداً) والله تعالى أنزل سورة كاملة سماها باسم هذه الحادثة فسميت سورة (الجن) .(5/68)
الحادث الثاني: بعد أن دخل مكة عليه الصلاة والسلام واطمأن فيها بعض الوقت أكرمه الله بحادثة الإسراء والمعراج، وكأن الله تعالى يقول لنبيه عليه الصلاة والسلام: أعلم أنه لا يوجد من قبلنا غضب عليك، فإذا جهل عليك البشر فليس هذا لغضب منا عليك فمكانتك عندنا عظيمة جليلة، أعطيناك ما لم نعط أحداً من العالمين، فيسرى بك إلى بيت المقدس، ثم نقدمك على أفضل خلق الله وهم الأنبياء والمرسلون في بيت المقدس فيجمع لك الأنبياء وعددهم (124.000) فجمعوا كلهم في بيت المقدس كما سيأتينا في الآيات التي رآها في بيت المقدس، الأنبياء كلهم من آدم إلى عيسى عليهم صلوات الله وسلامه كلهم يجتمعون ويتقدمهم نبينا عليه الصلاة والسلام ويصلي بهم ركعتين ويلقي كل واحد خطبة – كما سيأتينا – ويتحدث بما من الله به عليه فيختم الخطب نبينا عليه الصلاة والسلام ويتحدث بما من الله به عليه، فيقول خليل الرحمن إبراهيم: بهذا فضلكم محمد، وعليه صلوات الله وسلامه.
إذن أفضل خلق الله أنبياء الله ورسله أنت تتقدم عليهم ويتبركون برؤيتك وأنت إمامهم ويظهر فضلك عليهم، وفي هذا كله تأنيس لقلبه عليه صلوات الله وسلامه وتطمين وتثبيت عظيم ثم ما هو أعلي من هذا حيث رفعك في السماء، فكما قدمناك عليهم في الأرض نرفعك عليهم في السماء فإذا كان أرفع واحد فيهم وهو إبراهيم في السماء السابعة ودونه الكليم موسي في السماء السادسة فأنت ترفع إلى ما هو أعلي من ذلك، بل جبريل علي نبينا عليه صلوات الله وسلامه عندما يرتفع بعد السماء السابعة يقف ويقول لنبينا عليه الصلاة والسلام: تقدم، ولو تقدمت لحظة لاحترقت، وما منا إلا له مقام معلوم، ثم يعرج نبينا عليه الصلاة والسلام – كما تقدم معنا – إلى مستوىً سمع فيه صريف الأقلام وماذا يسطر في لوح الرحمن، ثم ناجاه ربه وكلمه، وهل حصلت له الرؤية النظرية أم القلبية؟ سنتحدث في هذا عند مبحث الآيات التي رآها فوق السموات.(5/69)
فهذه الآيات العظيمة التي رآها لتدل على عظيم رضوان الله عليه، فكأن الله تعالي يقول له: (لا تحزن إذا جهل عليك السفهاء، فهذا قدرك عند الأتقياء وعند الفضلاء وعند رب الأرض والسماء، فالملائكة تتبرك برؤيتك، وأنبياء الله ورسله يفرحون بلقائك، والله جل وعلا يدعوك لجنابه الأعلى، فمن هؤلاء البشر إذا جهلوا عليك؟)
إذا أهل الكرام يكرموني ... فلا أرجو الهوان من اللئام
والرجاء من الأضداد فيأتي بمعني الأمل ويأتي بمعني الخوف والوجل وهنا بمعني الخوف، أي فلا أخاف الهوان من اللئام.
فاللئيم إذا أهانك والكريم إذا أكرمك فلا تبال بإهانة اللئيم، لكن لو أن الكريم أهانك وأبغضك وتغير قلبه عليك وعبس في وجهك فحقيقة لا يلذ لك طعم الحياة، وتقول: إذن أبغضني الله عندما أذاني الكرام، وعندما تغير قلبهم علي، لكن الواقع أن اللئام هم الذين آذوك وكذلك السفهاء، فهذا مما يدل على عظيم قدره عند الله جل وعلا وهنا لئام يؤذونك، وكرام يتبركون برؤيتك.
ونشير هنا إلى أنه: بالإجماع يتبرك بنبينا عليه الصلاة والسلام بجسده الشريف، وبفضلاته ببصاقه ومخاطه، وبشعره وبملابسه وبأثاثه، بلا خلاف بين أهل السنة وإذا حصل الإنسان شعره من شعر النبي عليه الصلاة والسلام وقبلها ومرغ خده عليها فهنيئا له هنيئا، فالتبرك بآثاره جائز بالاتفاق، وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام هو الذي يوزع أحيانا شعره على الصحابة، كما حصل هذا في الحديبية، وأخذ أنس بعض الشعرات وأوصي أن توضع تحت لسانه بعد موته – ووضعت – من أجل أن يسدده الله عند سؤال الملكين.(5/70)
وكأنه بعد حصول هذه المميزات لنبينا عليه الصلاة والسلام يقول له برنا: ليس في إيذاء السفهاء لك منقصة، وليس في ذلك غضب منا عليك، فاعلم هذا وقم بالدعوة بجد ونشاط وحذار حذار أن تسير مع الميول البشرية والطبيعة الإنسانية فتقول ضاقت علي الأرض بما رحبت قومي آذوني وكثر صبري عليهم مع ما حصلت منهم من الإعراض، ذهبت إلى الطائف فقابلوني أشنع مقابلة، وطبيعة البشر قد تخور وتضعف، فلا بد من تثبيت فأكلمه الله بالإسراء والمعراج وهذا في غاية التثبيت له عليه صلوات الله وسلامه وفعلا بعد هذه الحادثة كان نشاطه للدعوة أكثر وقام يدعو بجد ونشاط ولذلك في صبيحة اليوم التالي لليلة الإسراء والمعراج لقيه أبو جهل فقال: يا محمد، هل من خبر جديد؟ قال نعم أسري بي هذه الليلة إلى بيت المقدس، قال أو تستطيع أن تخبر قومك إذا دعوتُهم؟ قال: نعم فبين ثباته ولم يبال بأحد عليه صلوات الله وسلامه، فدعاهم أبو جهل وقال: اسمعوا ما يقول محمد، فقالوا: انعت لما بيت الله المقدس يقول نبينا عليه الصلاة والسلام: فكربت كربا شديداً، لم أكرب مثله قط لأنني ما أثبته – أي ما علمت أحوال بيت المقدس وكم فيه من نافذة وكم له من باب فكيف سأنعته لهم، يقول: فأتي جبريل ببيت المقدس فوضعه عند دار عقيل بن أبي طالب، وأنا أنظر إليه فجعلت أنعته لهم باباً بابا وشباكاً شباكا.
فهذا هو حال النبي صلي الله عليه وسلام بعد ذلك الحادث العظيم، فقد صار عنده عزم وحماس للدعوة أكثر من الأول.
إخوتي الكرام ... حادثة الإسراء والمعراج وقعت بعد هذين الحادثين المريرين وفاة زوجه وعمه وكل منهما كان له مواقف خاصة مع نبينا عليه صلوات الله وسلامه، وإذا كان الأمر كذلك فإذن هنا حزن على وفاتهم ثم هنا حزن لمزيد الأذى بعد موتهما فكان لابد من تسلية لنبينا صلي الله عليه وسلم.(5/71)
ولذلك كان أئمتنا يقولون: من أقعدته نكاية اللئام، أقامته إعانة الكرام، لئام يؤذونك ويقعدونك عن دعوتك ويثبطونك، فلابد من معين ومساعد يشد أزرك ويقويك وهم الكرام، لكن البلية في عصرنا أن اللئام كثر، فهم يقعدونك ويؤذونك ولا تجد كريما تأوي إليه إلا من رحم الله.
إخوتي الكرام ... الصحابة رضوان الله عليهم عندما اشتد عليهم أذى المشركين بمكة أشار عليهم النبي عليه الصلاة والسلام أن يهاجروا إلى الحبشة وقال: هناك رجل عادل لا يظلم عنده أحد فاذهبوا إليه لعل الله أن يجعل عنده فرجاً ومخرجاً.
وبالفعل حصل ما تمناه النبي صلي الله عليه وسلم حتى أنهم لم يعودوا إلى مكة بل ما عادوا إلا لما هاجر النبي صلي الله عليه وسلم إلى المدينة فلحقوه هناك.
ولكن هل تركهم المشركون يهاجرون إلى الحبشة دون أن يلاحقوهم؟
لا بل أرسلوا عمر بن العاص وكان مشركا يومها – وعبد الله بن أبي ربيعة في طلبهم ومعهما الهدايا والقصة طويلة وردت في حديث طويل رواه الإمام أحمد في المسند وأخذ فيه ثلاث صفحات عن أمنا أم سلمة رضي الله عنها لأنها كانت من جملة المهاجرات إلى الحبشة، والحديث إسناده صحيح.
وهو في المسند: (1/201-203) ، (5/290-292)(5/72)
قلنا أنه لما اشتد أذي المشركين علي الصحابة رضوان الله عليهم أمرهم النبي صلي الله عليه وسلم بأن يذهبوا ويهاجروا إلى الحبشة، فطالب المشركين بإعادتهم وقال البطارقة الذين كانوا في مجلس النجاشي صدقوا أيها الملك أرسلهم دون أن تسمع كلامهم فقومهم أعلم بهم وقد كانوا يعلمون أن أصعب شيء عليهم أن يسمع النجاشي (أصحمة) كلامهم لأنه عاقل، وإذا كان عاقلا وسمع كلامهم سيقضي بالحق وبالتالي لن يُسلَّم هؤلاء لعتاة قريش وسيحسن ضيافتهم ويكرمهم، فكان أقبح شيء على هذا الوفد بمشورة العتاة في مكة أقبح شيء أن يستدعي النجاشي (أصحمة) هؤلاء الثلة الذين كانوا بضعاً وسبعين ما بين رجل وامرأة رضي الله عنهم أجمعين فكان أشنع شيء عليهم أن يستدعيهم ويسمع كلامهم، فلما قال البطارقة: صدقوا أرسلهم، قال: لا، والله قوم لجأوا إلي واختاروني على من سواي كيف أطردهم قبل أن أسمع كلامهم، فإذا كان ما يقول هؤلاء حقاً من أنهم مفسدون وخائبون ومخربون سلمتهم إليهم، وإذا لم يكونوا كذلك فلا أطردهم ما رغبوا في جواري.
فاستدعاهم وقال لهم: ما هذا الدين الذي فارقتم به دين قومكم ولم تدخلوا في ديني،- وكان هو على النصرانية – قالوا والذي تولي الإجابة هو جعفر بن أبي طالب ابن عم النبي صلي الله عليه وسلم: أيها الملك كنا في جاهلية وشر، نعبد الأصنام ونأكل الميتة والجيف ونقطع الأرحام ونسيء الجوار ويأكل القوي منا الضعيف فبعث الله فينا رسولاً منا نعرف صدقه ونسبه، فدعانا إلى عبادة الله وحده لا شريك له وأمرنا أن ننبذ ما كان يعبد آباؤنا من الأصنام، وأمرنا بالصلاة وصدق الحديث وصلة الأرحام فآمنا به وصدقناه، فعدا علينا قومنا وآذونا فلجأنا إليك واخترناك على من سواك. فقال لهم: إن كنتم كذلك فلكم الأمن في بلادي.(5/73)
وفي اليوم الثاني قال عمر بن العاص لعبد الله بن أبي ربيعة، لأذهبن إلى الملك ولأوغرن صدره عليهم، ولأحرضنه عليهم ولأقولن له إنهم يقولون في عيسي قولاً عظيماً، وهو أنه عبد الله ورسوله، لأن النصارى يقولون هو ابن الله، ولأبيدن خضراءهم بهذا الكلام، وكان عبد الله بن أبي ربيعة وهو على شركه فيه رحمة فقال: رفق بهم فإنهم أبناء العم والعشيرة، فقال بل لابد.
فذهب إلى الملك وقال: أيها الملك إنهم يقولون في عيسى قولاً عظيماً، فاستدعاهم فقالوا لجعفر ماذا نقول؟ قال ما نقول إلا ما علمنا نبينا عليه الصلاة والسلام وليكن ما هو كائن. فقال لهم النجاشي: ماذا تقولون في عيسى؟ قالوا: ما نقول إلا ما علمنا نبينا عليه الصلاة والسلام فتلا عليهم صدر سورة مريم فلما وصل إلى قول الله: (ذلك عيسى بن مريم قول الحق الذي فيه يمترون، ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم) .
وانتبه لموقفهم هذا فلا يعني هروبنا وفرارنا من بلدة إلى بلدة فراراً بديننا أن نتنازل عن ديننا وقيمنا بل الواجب أن نثبت عليها كما خرجنا وفررنا بسببها إلى أن نلقى الله وهو راضٍ عنا إذ لا يعقل أن تهاجر وتقاتل من أجل مبدأ ثم لما تغير بلدك تتنازل عن هذا المبدأ الذي هاجرت بسببه.(5/74)
إذن فتلا عليه هذه الآيات ولما قال: (ما كان لله أن يتخذ من ولد) نخر البطارقة، ولما قال عيسى في السورة (قال: إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً وجعلني مباركاً أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً، وبراً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً) فقال النجاشي: وإن نخرتم؟ وبكي حتى اخضلت لحيته من دموع عينيه ثم أخذ عودة صغيرة من أرض وقال والله ما زاد علي وصف عيسى بمقدار هذه، فهذا هو وصف عيسى هو عبد الله ورسوله وليس هو بثالث ثلاثة وليس هو ابن الله جل وعلا، ثم قال لجعفر ولمن معه: أنتم سيوم أنتم سيوم أنتم سيوم والسيوم في لغة الحبشة الأحرار أي مثل الغنم السائمة تمشي وترعي أينما تريد، ولذلك الغنم إذا كانت سائمة فيها زكاة وإذا كانت تعلف فليس فيها زكاة – من سبكم غرم، من سبكم غرم، من سبكم غرم، والله ما أحب أن لي دَبْراً من ذهب، والدبر هو الجبل العظيم الكبير بلغة الحبشة – وأن أحداً منكم يؤذى هذا العبد الصالح النجاشي (أصحمة) لما مات صلى عليه نبينا عليه الصلاة والسلام صلاة الغائب كما في الصحيحين.
وقد ثبت في سنن أبي داود في كتاب الجهاد، باب النور يري على قبر الشهيد (؟؟؟؟؟) ، قالت أمنا عائشة رضي الله عنها: [كنا نتحدث أنه لا يزال يرى على قبر النجاشي نور بعد موته (وفي الحقيقة فإنه يستحق هذا الإكرام من ربنا الرحمن.
فأولا: اعتقد اعتقاد الحق.
وثانيا: بذل ما في إمكانه حسبما وسعه في ذلك الوقت فالرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت في مكة ولا يمكن الهجرة إليه.
وثالثا: نصر هؤلاء المؤمنين، فقام بما في وسعه وهو إن شاء الله في عداد المؤمنين الموحدين، فهذا هو النجاشي العبد الصالح ولا مثيل له في عصرنا.
فتن لكن لا يوجد نجاشي، لئام فاضت الأرض بهم فيضاً لكن لا يوجد ما يقابلهم من الكرام بحيث إذا ذهب الإنسان إليهم يجد النصر.(5/75)
هذا فيقال رؤيته لهم في بيت المقدس لا يلزم أن تكون بنفس الصورة التي تكون في السماء يضاف إلى هذا أنه اجتمع بـ (124.000) نبياً في لحظات من ليل، فكيف سيتمكن من أن يحفظ أشكالهم ويتثبت من صورهم، كما هو الحال في بيت المقدس عندما قال له المشركون انعته لنا، مع أنه رآه فالرؤية لا يلزم منها العلم بالمرئي على وجه التمام، والإحاطة به بحيث لو رآه مرة ثانية يقول هذا هو فلان لأنه جم غفير التقى بهم في لحظات، والعلم عن الله.
الحكمة السادسة: لأن لبيت المقدس من تلك الجهة المصعد إلى السماء، أي باب السماء الذي يفتح يكون بحيال بيت المقدس.
قال الحافظ ابن حجر: والذي يظهر ضعف هذا لأن باب السموات الذي يفتح وينزل منه الملائكة يكون حيال الكعبة وفي وجهتها وسمتها لا على جهة بيت المقدس.
الحكمة السابعة: وقلنا نقلها عن ابن أبي جمرة، قال: ليظهر الله الحق، عند من يريد إخماده ووجه هذا: لو أن النبي عليه الصلاة والسلام أخبرهم أنه عرج به إلى السموات العلا، ورأي في السموات ما رأي لقالوا له كذاب، وما عنده قرينة تدل على صدقه ولا على كذبه فلا يستطيع أن يثبت لهم صدقه، لكن عندما قال لهم أسري بي إلى بيت المقدس قالوا: كذاب قال: يا جماعة أنا تحققت من هذا وتأكدت، قالوا: انعته لنا، فلما وصف لهم بيت المقدس الذي رأوه بأعينهم ظهر لهم الحق وقد حاولوا إخماده، أما السموات فلم يروها ولو قالوا له انعتها لنا، فسينعتها بشيء لا يعلموه، أما بيت المقدس فظهر الحق لهم عندما نعته لهم فظهر الحق عند من يريد أن يخمده ويبطله.(5/76)
الحكمة الثامنة: تظهر لي وما ذكرها الحافظ ابن حجر رحمه الله – والعلم عند الله – وهي أنه أسري بنبينا عليه الصلاة والسلام إلى بيت المقدس ثم عرج به إلى السموات العلى ليرتقي من كمال إلى كمال. فنقله إلى الكمال الأرضي وهو الاجتماع بالأنبياء وإظهار تقديمه عليهم وفضله عليهم، ثم نقله إلى ما هو أعلى من ذلك وهو العروج به إلى السموات العلا والالتقاء برب العالمين، فنقل من كمال إلي كمال أسري به ثم عرج ولو حصل العكس لم يكن في رؤيته الأنبياء فائدة معتبرة لأن أعلي الكمال حصل له وهو الاجتماع برب العالمين ولقاؤه.
المبحث الرابع
الآيات التي رآها خير البريات عليه صلوات الله وسلامه في حادثة الإسراء والمعراج:
وتنقسم هذه الآيات إلى أربعة أقسام (لنريه من آياتنا الكبرى) :
القسم الأول: آيات عظيمة رآها وحصلت له قبل البدء برحلة الإسراء والمعراج.
القسم الثاني: آيات أرضية رآها عندما أسري به إلى بيت المقدس.
القسم الثالث: آيات سماوية رآها عندما عرج به إلى السموات العلا.
القسم الرابع: آيات عظيمة حصلت له بعد رقي السموات.
وسنفصل الكلام في هذه الآيات الأربع إن شاء الله تعالي.
القسم الأول:
الآيات التي حصلت له قبل البدء برحلة الإسراء والمعراج: حصلت له حادثة عظيمة وهي حادثة شق صدر نبينا عليه الصلاة والسلام.(5/77)
ثبت في الصحيحين من حديث أنس عن أبي ذر، ومن حديث أنس عن النبي عليه الصلاة والسلام ومن حديث مالك بن صعصعة، وثبت في المسند من حديث أنس عن أبي بن كعب - فالحديث عن أربعة من الصحابة – وفيه يقول النبي صلي الله عليه وسلم: (فُرِجَ سقف بيتي فنزل ملكان فأخذاني وأضجعاني وشقا ما بين ثغرة نحري – هي المكان المنخفض الذي يكون بين الترقوتين في أصل الرقبة – إلى شعرتي – أي مكان منبت العانة – وأخرجا قلبي فغسلاه في طست – بكسر الطاء وفتحها وإثبات التاء وحذفها وهو الطشت المعروف الآن – من ذهب فغسلاه بماء زمزم ثم حشيا قلبي وصدري – وفي رواية (حشيا صدري ولغاديدي) أي عروق رقبتي – إيمانا وحكمة (.
هذا حصل له قبل حادثة الإسراء والمعراج: شق صدره، استخرج قلبه، وضع في طست من ذهب، غسل بماء زمزم، ثم حشي قلبه وصدره، ولغاديده أي جميع عروقه ومنافذه حشي إيمانا وحكمة ثم التأم صدره عليه صلوات الله وسلامه.
قال الحافظ ابن حجر: "شق سقف البيت من قبل الملكين فيه إشارة إلى أن صدر نبينا عليه الصلاة والسلام سينشق ويلتئم دون حصول أثر فيه كما التأم هذا السقف بعد ذلك"، ونحن في عصورنا لو شق جزء من الإنسان وأعيدت خياطته لبقي أثر الشق، بل يقول الأطباء إنه إذا شق بطن الإنسان فإنه لا يعود إلى طبيعته الأولى مهما كتب له من شفاء وعافية، ويبقى معرضاً للفتق فتراه يمنع من حمل الشيء الثقيل حتى لا تتفتق خياطة هذا كله مع تقدم العلم، وهو في شأن نبينا عليه الصلاة والسلام معجزة.
قال الإمام ابن حجر في الفتح: واختير الطست من ذهب ليتناسب هذا الطست مع مكانة نبينا عليه الصلاة والسلام والكرامات التي تحصل له، فهو من أواني الجنة، والنبي صلى الله عليه وسلم صائر إليها بل محرمة على غيره ولا تفتح لأحد قبله.(5/78)
الأمر الثاني: الذهب لا يأكله التراب ولا يظهر عليه صدىً ونبينا عليه الصلاة والسلام كذلك بدنه لا تأكله التراب، ولا يعتريه تغير وهو يوم يبعث كحاله يوم دفن عليه صلوات الله وسلامه، والله حرم على الأرض أجساد الأنبياء كما ثبت في السنة بإسناد صحيح (إن الله حرم على الأرض أجساد الأنبياء (.
الأمر الثالث من الحكم في اختيار الطست من الذهب: أن الذهب هو أثقل المعادن في الوزن النوعي فلو وزنت قطعة (ذهب 5سم × 5سم) لقلت على قطعة (حديد 5 سم × 5سم) ، فإذن الذهب أثقل المعادن وزناً ونبينا عليه الصلاة والسلام أثقل الخلق وزناً وقدرة، ووزن بالأمة كلها فرجح عليه صلوات الله وسلامه وهو أكرم الخلق على الله وأفضلهم عنده.
الأمر الرابع: أن في لفظ الذهب تفاؤل بإذهاب الرجس عن نبينا عليه الصلاة والسلام وتطهيره تطهيراً، وهذا ما حصل له عندما استخرج منه حظ الشيطان وغسل قلبه بماء زمزم.
الأمر الخامس: أن في لون الذهب تفاؤل بحصول النظرة والبهجة لنبينا عليه الصلاة والسلام ودعوته وإشراق نوره في العالمين، وهذا الذي حصل.
الأمر السادس: أن الذهب أعز المعادن وأغلاها، وكذا نبينا عليه الصلاة والسلام أعز المخلوقات وأنفسها.
ولهذا كله غسل قلبه بطست من ذهب
وإنما غسل بماء زمزم لأن ماء زمزم هو أشرف الحياة وأصله نزل من الجنة وهو هزمة جبريل على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه لأم إسماعيل عندما اشتد عليها العطش، والذي دلها على ذلك المكان وحفره جبريل بواسطة ضربة إسماعيل برجله، فإذن ماء مبارك من الجنة حفره جبريل للنبي المبارك إسماعيل الذي هو والد نبينا عليه الصلاة والسلام، وينتمي إليه، فهو ابن الذبيحين عليه صلوات الله وسلامه.(5/79)
وماء زمزم هو أشرف مياه الأرض وقد ثبت بإسناد حسن عن نبينا عليه الصلاة والسلام (ماء زمزم لما شرب له (وهو (طعام طعم وشفاء سقم (كما ثبت هذا عن نبينا عليه الصلاة والسلام في صحيح مسلم، وكان كثير من الصالحين يتقوتون بماء زمزم فهو ماء وغذاء، ويمكث أربعين يوماً - كما يقول الإمام ابن القيم – لا يدخل شيء جوفه إلا ماء زمزم، وانظروا فضل ماء زمزم في كتاب زاد المعاد في هدي خير العباد (4/392) وما لزمزم من خواص وآثار وهو يخبر عن نفسه أنه كان يمكث الأيام المتوالية ما يتغذى إلا بماء زمزم.
فهو إذن ماء مبارك ومن أجل هذا غسل قلب نبينا عليه الصلاة والسلام به.
قد يقول قائل: كيف غسل قلب النبي عليه الصلاة والسلام بطست من ذهب، والذهب محرم استعماله على الذكور والإناث؟
ذكر أئمتنا جوابين:
الأول: وهو ضعيف في نظري – وهو أنه كان قبل التحريم.
الثاني: وهو المعتمد أن هذه الحادثة من خوارق العادات وهي متعلقة بأمور الغيب وهي بأمر الآخرة ألصق منها وأقرب من أمر الدنيا، ولذلك لها أحكام الآخرة، فكما أننا في الآخرة نحلّى بأساور من ذهب (وحلوا أساور من ذهب) فحادثة الإسراء والمعراج لها أحكام الآخرة لا أحكام الدنيا، وهذه من باب خوارق العادات ولذلك لها حكم خاص خص الله به نبينا عليه الصلاة والسلام.
قال ابن حجر: قوله (حشياه إيماناً وحكمة) فيه إشارة إلى أن الحكمة هي أفضل شيء بعد الإيمان، ورأس الحكمة خشية الرحمن، والحكمة باختصار: وضع كل شيء في موضعه فالعبادة توضع للمعبود بحق وهو الله جل وعلا فلا نصرفها لغيره فهذه حكمة، ومن عبد غير الله فهو سفيه سفه نفسه: (ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه) وهل هناك سفاهة أعظم من أن يصرف حق الخالق للمخلوق (إن الشرك لظلم عظيم) .
فالحكمة هي أعلي الفضائل بعد الإيمان ولذلك حشي قلب نبينا عليه الصلاة والسلام وصدره ولغاديده وحكمة.(5/80)
قد يسأل سائل فيقول: كيف حشي إيماناً وحكمة، والإيمان والحكمة من الأشياء المعنوية؟
الجواب: يحتمل هذا أمرين:
الأمر الأول: أن تجسيد تلك المعاني إلى أشياء حسية، فالإيمان الذي هو معنىً جُسِّد في شيء حسي يعلمه الله ولا نعلمه، وأدخل في قلب نبينا عليه صلوات الله وسلامه، ومثله الحكمة ولهذا نظائر: فالموت أمر معنوي، وسيجسد يوم القيامة – كما ثبت في الصحيحين – في صورة كبش أملح ثم يوقف بين الجنة والنار ويذبح بينهما ويقال: يا أهل الجنة خلود بلا موت ويا أهل النار خلود بلا موت.
والأعمال التي نقوم بها من طاعات ومعاص ٍ هذه معان ٍ أيضاً، وستجسد يوم القيامة كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام (كلمتان خفيفتان على اللسان حبيبتان إلى الرحمن ثقيلتان في الميزان سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم (متفق عليه، فإذن تجسد وتثقل الميزان فالطاعة تجسد وتوزن والمعصية تجسد وتوزن يوم القيامة، ولذلك قال أئمتنا: الذي يوزن يوم القيامة ثلاثة أشياء: الأعمال والعمال وصحف الأعمال.
الأعمال وإن كانت معان ٍ وأعراضاً يجسدها الله بكيفية يعلمها ولا نعلمها، والعمال وهم المكلفون، قال الله عن الكافرين (فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً) ، ورِجْْلُ عبدِ الله بْن ِ مسعودٍ – كما ثبت في المسند – أثقل عند الله من جبل أحد، وصحف الأعمال كما هو في حديث البطاقة وغيره.
وقد تقع هذه الثلاثة لكل واحد وقد يقع بعضها لبعض الناس والعلم عند الله، لكن دلت النصوص الشرعية على أن الذي يوزن يوم القيامة الأعمال والعمال وصحف الأعمال.(5/81)
الشاهد الآن: أن الأعمال معان ٍ وأعراض يجسدها الله وتوزن، وكذلك هنا الإيمان معنىً لا يقوم بنفسه فجسد بكيفية يعلمها الله ولا نعلمها وهذا من أمور الغيب التي نؤمن بها ولا نبحث في كيفيتها، وقد تقدم معنا في الدليل الثامن من أدلة الإسراء والمعراج أن كل ممكن ورد به السمع وجب الإيمان به، وتجسيد الأعمال والموت وغيرها من المعاني ممكن وليس بمستحيل وقد ورد به السمع فيجب الإيمان به.
الأمر الثاني: أن يكون الإيمان والحكمة قد مثلا بشيء ثم أدخل مثالهما الذي يدل عليهما ويعبر عنهما في قلب نبينا عليه الصلاة والسلام وصدره ولغاديده.
ولهذا نظير: عندما (كان نبينا عليه الصلاة والسلام يصلي صلاة الكسوف وتقدم ومد يده ثم تأخر وقال عرضت عليَّ الجنة والنار ومدت يدي لآخذ عنقوداً من عنب من عناقيد الجنة فلو أخذته لأكلتم منه إلى أن تقوم الساعة (والحديث في الصحيحين.
فهذا عن طريق التمثيل أم عن طريق التجسيد؟ بل هو عن طريق التمثيل، فمثل له شكل الجنة والنار في جدار القبلة عندما كان يصلي عليه صلوات الله عليه وسلامه.
فإما أنهما جسدا أو مثلا والعلم عند الله، أي ذلك وقع، فنؤمن بأنه قد حشي قلب نبينا عليه الصلاة والسلام إيماناً وحكمة.
قال أئمتنا: اشتملت هذه الحادثة على ما يدهش السامع فضلاً عن المشاهد فالسامع عندما يسمع هذه الأخبار يدهش، فكيف بنبينا عليه الصلاة والسلام الذي رأى هذا، ليعلم عظيم قدرة الله في نفسه وليتحقق من ذلك وليثبت قلبه في تبليغ دعوة الله على أتم وجه وأكلمه، لاسيما وقد حصل هذا بعد حوادث أليمة ومريرة مرت عليه كما قلنا من موت زوجه وعمه، واشتداد أذى المشركين عليه بعد ذلك عليه صلوات الله وسلامه، فانظروا إلى هذه العجائب كيف نفعلها ونحن على كل شيء قادرون.
إذن في بداية حادثة الإسراء والمعراج وقبل السير فيها شق صدر نبينا عليه الصلاة والسلام وقد شق الصدر الشريف لنبينا عليه الصلاة والسلام أربع مرات:(5/82)
المرة الأولى: عندما كان عمره عليه صلوات الله وسلامه سنتان وثلاثة أشهر، ثبت هذا في مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم ومستدرك الحاكم عن أنس رضي الله عنه عندما كان نبينا عليه الصلاة والسلام مع الغلمان عند مرضعته حليمة جاءه ملكان وأضجعانه وشقا صدره وقالا: هذا حظُُّ الشيطان منك، فأخرجا علقة من قلبه فطرحاها ثم حشيا قلبه إيماناً وحكمة وانصرفوا، وقام النبي عليه الصلاة والسلام يلعب مع الصبيان، وذهب الذين كانوا معه إلى مرضعته حليمة وأخبروها الخبر فخشيت أن يكون هذا من قبل الجن ولذلك أرادت أن تعيده إلى أمه وعمه بعد ذلك.
المرة الثانية: عندما كان عمره عشر سنين، شق صدره عليه صلوات الله وسلامه، ثبت هذا في مسند الإمام أحمد (5/139) شق صدره عليه الصلاة والسلام وغسل قلبه مرة ثانية ومليء إيماناً وحكمة، والحديث رواه أيضاً أبو نُعيم في دلائل النبوة عن أبي بن كعب عن أبي هريرة (أنه كان جريئاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله، فسأله عن حادثة شق الصدر، وكيف حصلت له؟ فأخبره أنه كان في عمره عشر سنين – وانظروا يخبر عن هذا وكان يعي ويدرك في هذه السن [فأتاه ملكان وأضجعانه وشقا صدره.... (إلخ الحديث.
المرة الثالثة: عندما كان عمره أربعين سنة، في غار حراء، والحديث في ذلك صحيح رواه أبو نُعيم في دلائل النبوة ص (69) ، وذكره الحافظ في الفتح مقراً له، وهو في درجة الحسن على حسب اصطلاحه (1/460) و (13/481) عن أمنا عائشة رضي الله عنها: تخبر عن النبي عليه الصلاة والسلام (أنه عندما جاءه جبريل في غار حراء شق صدره وحشي قلبه إيماناً وحكمة (.
والمرة الرابعة: وهي التي معنا وكان عمره إحدى وخمسين سنة ونصف السنة، وقد قلنا إنها في الصحيحين والمسند عن أربعة من الصحابة.(5/83)
والمرة الأولى من هذه الحوادث لشق صدر نبينا عليه الصلاة والسلام انتزع فيها حظ ُّ الشيطان وأما ما بعدها فكان تهييئاً لقلبه لأن يتلقى ما سيرد عليه من واجبات وتكاليف. فالأولى من باب التخلية وما تبعها من باب التقوية والتحلية.
حادثة شق الصدر أشار إليها ربنا في كتابه في سورة (الانشراح) وتُسمى سورة (الشرح) (ألم نشرح لك صدرك) والسورة مكية باتفاق المفسرين، وفيها يشير ربنا إلى الأمر العظيم الذي وقع له في مكة.
والاستفهام في الآية للتقرير، ومعناه: حمل المخاطب على الإقرار بأمر قد استقر عنده وعلمه وثبت لديه – فكأن الله يقول لنبيه عليه الصلاة والسلام أقد شرحنا لك صدرك أي شققناه شقاً حسياً، وأنت رأيت هذا بعينيك.
وقد أرود الإمام الترمذي في كتاب التفسير عند سورة الانشراح حادثة شق صدر نبينا عليه الصلاة والسلام في تفسير هذه السورة، ليشير إلى أن المراد بالشرح شق صدره حساً عليه صلوات الله وسلامه.
وهكذا فعل الإمام الحاكم في مستدركه في كتاب التفسير عند تفسير سورة الانشراح فأورد حديث شق صدر نبينا عليه الصلاة والسلام، وشرح صدر نبينا عليه الصلاة والسلام شامل – في الحقيقة - لأمرين:
أشامل للشرح حساً، وهو ما وقع في هذه المرات الأربع.
ب وشامل للشرح معنىً، وهو تقوية قلبه لتحمل ما سينزل عليه ثم ليقوم بموجبه.
فحصل إذن الشرح الحسي والشرح المعنوي.
قال الإمام ابن كثير في تفسيره: شرح صدره حساًَ لا ينافي شرح صدره معنىً، فحصل له الأمران عليه صلوات الله وسلامه.
وثبت في كتاب دلائل النبوة للبيهقي – لا لأبي نُعيم- (1/352) عن قتادة قال (ألم نشرح لك صدرك) المراد من ذلك الشق الحسي الذي حصل لنبينا عليه الصلاة والسلام.(5/84)
وقال الإمام أبو بكر بن العربي في كتابه أحكام القرآن عند تفسير سورة الانشراح (ألم نشرح لك صدرك) أي شرحاً حسياً وحقيقياً عندما كان عند ظئره – أي مرضعته – حليمة وعندما أسري به، فاقتصر على حادثتين من الحوادث الأربع التي وقعت لنبينا عليه الصلاة والسلام، ثم قال: وشرحنا لك صدرك معنىً عندما جمعنا لك التوحيد في صدرك وأنزلنا عليك القرآن، وعلمناك ما لم تكن تعلم وكان فضلنا عليك عظيماً، فحصل لك هذا وشرحنا لك صدرك عندما ألهمناك العمل بما أوحينا إليك وقويناك عليه.
ثم قال الإمام ابن العربي: وبهذا يحصل كمال الشرح وزوال التَّرَح – وهو الغم.
الحاصل أن سورة ألم نشرح لك تدل على حادثة شق الصدر التي حدثت لنبينا عليه صلوات الله وسلامه.
القسم الثاني:
الآيات الأرضية التي رآها عندما أسري به إلى بيت المقدس ماذا رأى من آيات؟
وقد رأى آيات كثيرة، سنتكلم على خمسة منها فقط، على طريق الإيجاز – وإن شاء الله تعالى، دون تفصيل في غيرها:
الآية الأولي: ركوب البراق:
ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتيت بالبراق مسرجاً ملجماً – وهو دابة دون البغل وفوق الحمار وهو دابة أبيض، يضع خطوه عند منتهى طرفه]
وتقدم معنا في سنن الترمذي وصحيح ابن حبان – عندما قدم البراق لنبينا عليه الصلاة والسلام (استصعب عليه (، وفي رواية ابن عباس في المغازي: (قدم البراق لنبينا عليه الصلاة والسلام وعدم انقياد وعدم ذلة وفي خلقه صعوبة وشراسة – فقال له جبريل على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه مالك فما ركبك أكرم على الله منه. (
وفي رواية ابن إسحاق قال له جبريل: (أما تستحي، فارْفَضَّ عرقاً (وتقدم معنا أي تصبب عرقاً، وتقدم معنا إخوتي الكرام أن سبب شراسته ونفوره أمران ذكرناهما هناك.(5/85)
إذن هذا البراق وهو آية حصلت لنبينا عليه الصلاة والسلام في إسرائه، أما عندما عرج به وهو في المعراج سنتكلم على هذا في الآيات التي رآها في السموات إن شاء الله تعالى.
وهذه الآية العظيمة التي حصلت لنبينا عليه الصلاة والسلام – من باب خرق العادات – وكما تقدم معنا أن كل ما ورد به السمع يجب الإيمان به، ووجود دابة اسمها البراق ممكن وليس مستحيلاً، والإسراء بنبينا عليه الصلاة والسلام من مكة إلى بيت المقدس ممكن وليس مستحيلاً، وورد السمع بكليهما، بالبراق الحديث السابق و (سبحان الذي أسرى بعبده من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى) ، وبما أن الأمرين كليهما ممكن وورد السمع به فيجب الإيمان به، لأن القسمة العقلية في الأشياء الموجودة بأسرها تنحصر في ثلاثة لا رابع لها:
1- وجود واجب.
2- وجود مستحيل ممتنع.
3- وجود ممكن جائز.
أما الواجب فلا يتصور في العقل هدمه، كوجود ربنا سبحانه وتعالى وحياته، وهذا ما يسمى بواجب الوجود فلا يتصور زوال الحياة أو الفناء على رب الأرض والسماء، فهذا واجب الوجود، وهو أول بلا بداية، وآخر بلا نهاية (اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء (
أما المستحيل الممتنع فهو – كما ذكرنا سابقاً – الجمع بين النقيضين أو نفي النقيضين.
أما الجائز الممكن فهو يتصور وجوده ويتصور عدمه ليس وجوده في الحياة فقط بل في جميع الاعتبارات غنىً وفقر، ذكورته وأنوثته وجماله، ودمامته، وطوله وقصره، وكونه إنساناً أو جماداً فهذا كله ممكن يقدره الله أن يقلب الجماد إلى إنسان كقوله تعالى (إذ انبعث أشقاها) الآيات.(5/86)
وذلك أن قوم ثمود قالوا لنبيهم صالح عليه الصلاة والسلام: لن نؤمن لك إلا أن تخرج لنا ناقة عشراء (أي حامل ملقحة) من صخرة؟ فقال لهم: إن أخرجتها تؤمنون؟ فقالوا نؤمن، فدعا ربه فأخرج لهم ناقة عشراء من صخرة صماء، ثم لما خرجت ولدت وليداً ورأوها ورأوا ودلها وسمعوا صوته ثم بعد ذلك قال لهم: إن كان الأمر كذلك فهذه الناقة لها حق عليكم فهذا الماء الذي تردونه يوم لكم ويوم لها، فأما اليوم الذي لكم فتزودوا ما شئتم، وأما اليوم الذي لها فاحلبوا منها ما شئتم، أي بدل الماء لكم لبن، لكن لا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم.
ثم بعد ذلك عقروها فعاقبهم الله ودمر عليكم، فهذا ممكن ورد السمع به فيجب الإيمان به.
فلابد من أن يحترم الإنسان عقله ويقف عند حده ولا يهوس ولا يوسوس ولا يرتاب ولا يشك فهذه هي قدرة الله إذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون.
والآن في عصرنا توجد مدرسة تسمى المدرسة العقلية، وهي حقيقة مدرسة رديَّة وليست بمدرسة للعقل بل مدرسة زوال العقل، ومدرسة خبل لا مدرسة عقل، ولا عقلاء تقول هذه المدرسة:
(كل خارق للعادة ننفيه أو نؤوله بما يتمشي مع العقل) ، هكذا تقول مع أنه قد علمنا أن الخارق للعادة هو في الأصل ليس خارقاً للعقل وليس بمستحيل ولا يوجد بين خارق العادة والعقل معارضة ولا تضارب حتى نجمع بينهما بل نقول العقل يسلم والله على كل شيء قدير.
وقالوا: لابد من جعل الإسلام بصورة تقبلها الأذهان في هذه الأيام.
قلنا لهم: وماذا تفعلون بالخوارق الموجودة في القرآن أو السنة الصحيحة؟
قالوا: هذه سهلة مثلاً:
1- (اقتربت الساعة وانشق القمر) :
يقول رشيد رضا ومحمد عبده: (وانشق القمر) أي ظهر الحق ووضح، وأما انشقاق القمر فهذه خرافة تتنافي مع العقل والإسلام لم يأت بهذه الأشياء لئلا يحرج الناس وهل النبوة لا تثبت إلا بخوارق العادة؟(5/87)
2- (واضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم) يقولون: حصل في البحر انحسار ثم عاد إلى مكانه وغرق فرعون وقومه، لكن لم يحصل بخارق من خوارق العادة أي لم يحصل بسبب ضرب موسى البحر بعصاه، قلنا لهم إذن كيف يحصل؟
قالوا: البحر فيه مد وجزر فلما وصل موسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه ومن معه إلى شاطئه حصل فيه جزر أي انحسر ماؤه، فسار نبينا عليه الصلاة والسلام، وهذه سنة طبيعية دائمة الحصول في البحر، فإذن جف عندما وصل موسى لكن عندما تبعهم فرعون مد البحر نفسه فحصل فيه امتداد وغرق فرعون.
ولكن هل يقبل هذا التأويل عقل؟!
سبحان الله أنتم أردتم أن تمشوا هذه المعجزة مع العقل فأتيتم بما هو أغرب على العقل؟ فكيف سيحصل الانحسار والجزر ثم تمشي فيه المخلوقات ولا تغوص أرجلهم في المكان الذي كان فيه ماء، وانظر للسيل مثلا ً عندما يجف من وادٍ فيبقى الوادي أكثر من شهر ولا تستطيع أن تمشي فيه من أثر الطين والوحل، فكيف هذا الجيش بكامله سيمرون عليه؟! كما قال تعالى (طريقاً يبساً لا تخاف دركاً ولا تخشى) .
ثم لو سلمنا لكم أنه جف بطريق الانحسار والجزر، فكيف الحال مع جيش فرعون الذي كان وراء جيش موسى وما بينهما مسافة؟! كما قال قوم موسى (إنا لمدركون) فإذا انحسر البحر وتقدم فيه موسى 100 متر فإن فرعون وراءه وإلى أين سيفر موسى ما دام البحر أمامه لم ينحسر إلا جزء منه؟! بل لابد من جفاف البحر كله وهذا لم يحصل، وهذا على التسليم بقولكم.
3- (وتفقد الطير فقال مالي لا أرى الهدهد) :
يقولون: الطير هو جيش والهدهد هو اسم أمير الجيش.
4- (حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة) :
يقولون: وادي النمل هو اسم لوادٍ يسمى بهذا الاسم، قالت نملة: أي امرأة عرجاء واسمها نملة.
وإنما قالوا كل هذا قالوا: لنخرج القرآن من هذه المعجزات التي لا تتمشى مع العقل فأتوا حقيقة بما لو ثبت لكان هو الذي لا يتمشى مع العقل.(5/88)
إخوتي الكرام ... أول دعامة عندنا من دعامات الإيمان، الإيمان بالرحمن، فهل هذا غيب أم مشاهدة؟ بل هو غيب (الذين يؤمنون بالغيب) ، ولا يثبت للإنسان قدم في الإيمان إلا أن يؤمن بالغيب.
فلم نأتي بعد بذلك ونشوش ونكثر اللغط حول هذه الأمور التي أخبرنا عنها العزيز الغفور الذي إذا أراد شيئا فإنما يقول له كن فيكون.
وهذه المدرسة العقلية لها في عصرنا رواج وانتشار ويستقي من ضرعها المدعو محمد الغزالي جند جنوده وطياشته تحت ستار هذه المدرسة لمحاربة حديث الرسول صلى الله عليه وسلم بحجة أنه لا يتمشى مع العقل فكم من حديث في الصحيحين رواه ويقول لا يتنافى مع العقل.
فمثلاً: حديث مجيء ملك الموت إلى موسى – وهو في الصحيحين – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [جاء ملك الموت إلى موسى ليقبض روحه فضربه نبي الله موسى فقلع عينه فذهب إلى ربه وقال، رب أرسلتني إلى عبد من عبادك لا يريد الموت، قال: اذهب إليه فليضع يده على مسك ثور – أي جلد ثور- فإن له بل شعره تغطيها يده سنة] ومعلوم أن موسى كان مما آتاه الله بسطة في جسمه، ويقول عنه صلى الله عليه وسلم في حديث الإسراء [كأنه من رجال أزد شنوءة] أي طويل جهيد ضخم، فالله أعلم كم سيكون حجم يده؟! وتتمة الحديث [قال ثم ماذا؟ قال: ثم الموت، قال من الآن، قال من الآن] .
ويقول هذا المدعو عن الحديث خرافة من الخرافات، أشبه بالخرافات المنقولة عن بني إسرائيل يقول هذا مع أن الحديث في أصح كتاب بعد كتاب الله، وهو البخاري ومن بعده مسلم.
ثم يقول: فكيف يضرب موسى ملك الموت؟ وكيف يقلع عينه؟ وكيف لا يرغب موسى في لقاء الله؟(5/89)
سبحان الله! كل هذا لا وجود له في الحديث فمن أين أتيت به؟ كما أن موسى أعلى منزلة من ملك الموت عند الله، يضاف إلى هذا أن الأنبياء لا تقبض أرواحهم إلا بعد تخييرهم فجاء ملك الموت ليخير موسى وهذه للأنبياء خاصة ولذلك قال نبينا عليه الصلاة والسلام على المنبر: [إن عبداً خيره الله بين الدنيا وبين الآخرة فاختار ما عند الله، فبكى أبو بكر رضي الله عنه، قال الصحابة: علام يبكي هذا الرجل؟] وإنما بكى رضوان الله عليه لأنه علم أن هذا العبد المخير هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإذن الأنبياء لا يقبضون إلا بعد أن يخيروا، وإذا قبضوا يدفنوا في مكانهم، والأرض لا تأكل أجسادهم وأبدانهم إكراماً من الله لهم.
فجاء ملك الموت إلى موسى فقال له: أمرني الله بقبض روحك إذا شئت – وقد كان في طبع نبي الله موسى حدة كما ذكرت لكم وسأوضحه في الآيات السماوية التي حصلت لخير البرية عليه صلوات الله وسلامه في رحلة المعراج فضربه وهو كما قلنا أرفع منه منزلة وهل ضربه (1) في عالم الحقيقة أم في عالم المثال؟
__________
(1) هل صح أن عمر رضي الله عنه قلع عين ملك الموت في قبره؟ لم يحصل هذا لعمر رضي الله عنه وأرضاه لكن النبي صلى الله عليه وسلم – والحديث في الصحيحين – يقول لعمر [ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك] أما أن عمر قلع عين ملك الموت فهذا لم يحصل ولم يقع.(5/90)
بل كان هذا في عالم المثال، فملك الموت لم يأت لموسى بصورته الحقيقية، وكذلك كان جبريل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في غير صورته، فكان يأتي بصورة دحية الكلبي أو في صورة أعرابي سائل وغيرها من الصور ولا يأتيه بصورته الحقيقية إذ أن صورته الحقيقية أن له ستمائة جناح، وملك الموت لو جاء بصورته الحقيقية لهدمت العمارات من رؤية صورته، فإذا جاء ملك الموت بصورة صديق لموسى وهذا من باب الغيب الذي نؤمن به ولا نبحث في كيفيته، فموسى له دالة ومنزلة ورتبه على ملك الموت فضربه فقلع عينه المثالية وليس في هذا إشكال.
وهذا كما لو ضربْتَ شخصاً تحبه ويحبك، وقلعت عينه لكن في المنام ثم أخبرته في الصباح برؤياك فتراه، يقول لك لو قلعت عيني الأخرى، وهل ضربك عندي إلا أحلى من العسل وهذا مشاهد فإذا لوح موسى لملك الموت وضربه في عالم المثال فليس فيه منقصة، فهذا الضرب كان انفعال مؤقت وغضب ولا لأجل نفور منه.
فذهب ملك الموت إلى الله جل وعلا فرد عينه المثالية التي قلت في عالم المثال دون تغير لحقيقة الأمر، ولا تسأل عن كيفية هذا.
ثم جاء ملك الموت إلى موسى فقال له: إني مرسل من قبل الله بخبر ٍ آخر، فالله يقول لك إن شئت أن نقبض روحك الآن فقد انتهى أجلك، وإن شئت أن نمد في حياتك فلك ذلك لكن على أن تضع يدك على مسك ثور، فكم سنة ستعيشه يبارك الله لك فيها، فقال موسى: فبعدها؟ فقال له ملك الموت: لابد من الموت، فقال: فمن الآن، فقبض روحه وقال: اللهم قربني وأدنني من الأرض المباركة رمية حجر فيستحب إذن الدفن في الأرض الصالحة المباركة بجوار بيت المقدس وسيأتينا في حديث الإسراء أن النبي صلى الله عليه وسلم رآه عند الكثيب الأحمر قائماً يصلي في قبره، ثم قال: لو كُنْتُ ثَمَّ لأريتُكم قبره الذي يصلي فيه نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام.
فهل في فهم هذا الحديث على هذا المعنى إشكال؟
فإن قيل: كيف فعل نبي الله موسي هذا في عالم المثال؟(5/91)
نقول: لأنه أعلى من الملك منزلة وله عليه دالة، فله أن يعزره، كما أن للأستاذ أن يعزر أحد طلابه إذا ألح عليه في الأسئلة، فله أن يعزره ولو كانت أسئلته كلها جيدة ولا منقصة في هذا للمُعزِّر ولا للمُعزَّر.
وهذا قد كان في القديم، ولكن للأسف الآن ما عاد الطالب ليتحمل تعزيراً من أستاذه بل تراه يصول ويجول إذا قال له الأستاذ أو الشيخ اسكت أو ضغط على أذنيه، ونحو هذا من المتغيرات والله المستعان.
(قصة أحد الطلاب الذين أرادوا تهذيب نفوسهم وطلبوا العلم عند أحد المشايخ وألح عليه في طلبه، وبعدما قال له الشيخ كذبت – اختباراً له – اغتاظ الطالب وسب الشيخ ومن علمه وسب أهل الأرض جميعاً..إلخ القصة) .
(قصة شيخنا الطحان مع شيخه الشنقيطي في شأن القنوت لما قال له كذبت، فماذا كان موقف شيخنا الطحان؟)
فهنا عندما يضرب موسى ملك الموت فهل في هذا محظور أو إشكال، وهل هذه منقصة، ووالله لو ضربه في عالم الحقيقة لما كان عليه منقصة لأنه أرفع من ملك الموت.
أوليس قد ضرب أخاه هارون وأخذ بلحيته ورأسه يجره إليه فهذا انفعال في وقت محدد زال أثره بعد ذلك.
فانظر إلى أفكار هذه المدرسة العقلية الرديَّة وانتبهوا منها.
قد يقول قائل: لما جيء بالبراق – الذي ركبه نبينا عليه الصلاة والسلام – مع أنه بإمكان ربنا أن يسري بنبينا عليه الصلاة والسلام إلى بيت المقدس دون البراق؟
نقول: فعل هذا لاعتبارين:
الاعتبار الأول: تأنيس بالعادة عند خرق العادة، فقد جرت العادة عندما يدعوك أمير أو صاحب منصب أن يقدم لك مركوباً ويحضر لك عطية ويرسل من يخدمك من أجل أن يصحبك إلى بيته، فهذا مما جرت به العادة.
فآنس ربنا نبيه بالعادة عند خرق العادة لئلا يكون الخارق من جميع الجهات، بل من جهة يأنس فيقدم له مركوب يركبه، ومن جهة أخرى هذا المركوب خرق للعادة وهذا واضح.(5/92)
الاعتبار الثاني: ليكون أبهى وأفخم لنبينا المكرم عليه صلوات الله وسلامه عندما يسري به إلى بيت المقدس في صورة راكب.
والراكب أعز وأبهى وأعلى مما لو أخذ إلى بيت المقدس في غير هذه الصورة، فلو نقل دون ركوب دابة فيكون قد وصل إلى بيت المقدس في صورة نائم مغمىً عليه، ولو قيل له: ضع خطوك من مكة إلى جهة بيت المقدس ففي خطوتين تصل إلى هناك فهذا يكون قد وصل في صورة ماش ٍ.
وأيها أعز الراكب أم النائم أو الماشي؟ بل الراكب، وانظر إلى ربنا ماذا يقول عن أهل الجنة (وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً) والذي سيق دوابهم لا هم، فيسق المتقون وهم يركبون الدواب، فإذن يدخلون الجنة وهم يركبون الدواب والنجائب – جمع نجيبة وهي السباقة من الخيل الكريمة العتاق – ليكون أعز لهم وأبهى، ولا يساقون لأن سوق الإنسان منقصة له.
وهذا المعني أي معنى الآية (وسيق الذين اتقوا ربهم إلى..) يكاد يكون المفسرين مجمعين عليه وما خالف فيه إلا قليل، ولا يوجد أثر مرفوع إلى نبينا عليه الصلاة والسلام في هذه الدلالة، وهي أن المتقين تساق نجائبهم، لكن أخذ المفسرون هذا من قول الله تعالى: (يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً) قال ابن منظور في لسان العرب (4/480) الوفد هم الركبان المكرمون. وانظر إلى كلام الإمام القرطبي رحمه الله في تفسيره (15/285) يقول في حق الفريقين " وسيق بلفظ واحدة فسوق أهل النار طردهم إليها بالخزي والهوان كما يفعل بالأسارى والخارجين إلى السلطان إذا سيقوا إلى حبس أو قتل.
وسوق أهل الجنان سوق مراكبهم إلى دار الكرامة والرضوان لأنه لا يذهب بهم إلا راكبين كما يفعل بمن يشرف ويكرم من الوافدين على بعض الملوك، فشتان ما بين السوقين"
وهذا هو الذي ذكره الإمام ابن كثير في تفسيره (4/65) ، وهذا إخبار عن حال السعداء المؤمنين حين يساقون على النجائب وفداً إلى الجنة.(5/93)
وأما في حق الكفار فقال تعالى: (وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمراً) ، فهنا هم سيقوا ودفعوا كما يدفع المسجون المجرم في هذه الحياة إذلالاً لهم، كما قال تعالى: (إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون) ولذلك (احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم) فيدفع أولهم على آخرهم، وآخرهم على أولهم كما يفعل بالمجرمين في هذه الحياة.
ولذلك انظر إلى ما قاله الله عن أبواب الجنة وما قاله عن أبواب النيران:
(حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها) فهذا لأبواب جهنم، أي تفتح بغتة وفجأة، فيساق ولا يدري إلى أن يذهب فلما يقترب منها تصيح وتفتح أبوابها فجأة وتلتهمهم.
وقال عن أبواب الجنة (حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها) فتساق ركائبهم ونجائبهم التي يركبون عليها والجنة مفتحة أبوابها وهم ينظرون إليها فيطيرون شوقاً ويسرجون الدواب من أجل أن يصلوا إلى نعيم الكريم الوهاب، فإذن هنا الأبواب مفتوحة.
ولذلك كان الجلوس عند الباب مذلة، والأمير عندنا في الدولة الإسلامية لا يغلق باباً ولا يتخذ حجاباً، لأنه لو فعل هذا لأذل الرعية، ولما وصل إليه وإلى مجلسه إلا أناس مخصصون.
؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
عن بصر نبينا عليه الصلاة والسلام بحيث رأى بيت المقدس وهو في مكة، وأي غرابة في هذا؟ وهذا ما تفيده رواية الصحيحين [فجلى الله لي] أي أظهر وكشف وبين.
والأمور الثلاثة محتملة والعلم عند الله، فأي ذلك حصل حقيقة؟ لا يعلم ذلك إلا الله، وحقيقة هذه الآية أكبر شاهد على صدق نبينا عليه الصلاة والسلام في دعواه أنه أسري به، وأنه رسول الله حقاً وصدقاً.
الآية الثالثة:(5/94)
وحصلت له في داخل المسجد الأقصى، جمع الله له الأنبياء من سمي منهم في القرآن ومن لم يسم من عهد آدم إلى عهده عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، وتقدم معنا عدتهم (124.000) جمعوا في تلك الليلة، ولما أقيمت الصلاة ليصلوا ركعتين تعظيماً لله تقدم جبريل بأخذ بيدي محمد عليه الصلاة والسلام وقدمه إماماً بهم – وهو أفضلهم وأكرمهم كما تقدم معنا وهو أفضل الخلق على الإطلاق – فصلَّى بهم ركعتين ثم بعد الصلاة جلس الأنبياء يتحدثون بفضل الله عليهم فكل واحد ألقى خطبة – إذن (124.000) خطبة ألقيت في تلك اللحظة – أثنى فيها على ربه وذكر ما مَنَّ الله به عليه ثم ختم الخطب نبينا عليه الصلاة والسلام فقال في خطبته: إن الله بعثني رحمة للعالمين، وأرسلني للناس كافة بشيراً ونذيراً وأنزل علي القرآن فيه تبيان كل شيء وجعل أمتي خير الأمم وجعل أمتي وسطاً وأمتي هم الأولون والآخرون يوم القيامة – أي آخرون في الزمن، والأولون أي يوم القيامة – وشرح الله صدري ووضع عني وزري ورفع لي ذكري وجعلني فاتحاً وخاتماً، ففتح الله به آذاناً عمياً وقلوباً غلفاً وآذاناً صماً وهو خاتم النبيين فقال خليل الرحمن إبراهيم بهذا فضلكم محمد، وإبراهيم هو الذي يليه في الفضل وهو صاحب المرتبة الثانية بعد نبينا عليه الصلاة والسلام فاعترف أن هذا النبي هو أفضل أنبياء الله ورسله.(5/95)
والحديث في ذلك وارد في المعجم الكبير للطبراني، ومسند البزار، ومسند أبي يعلى بسند رجاله رجال الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: [ثم دخلنا المسجد فنشر الله لي الأنبياء من سمي ومن لم يسم – أي في القرآن – فصليت بهم ... ] وانظروا الحديث إخوتي الكرام في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (1/68) للإمام الحافظ ابن حجر الهيثمي، وهو غير ابن حجر الهيتمي، وغير ابن حجر العسقلاني العالم الحافظ المشهور فلا تخلطوا بين الثلاثة فالهيثمي توفي سنة 807هـ، والهيتمي من علماء القرن العاشر الهجري، والعسقلاني توفي سنة 852 هـ وهو تلميذ الهيثمي.
إخوتي الكرام ... من هذا الكتاب (مجمع الزوائد ومنبع الفوائد) لو وزن بالذهب وقيل لطالب العلم اختر الذهب أو هو، لقال الطالب الحقيقي لو أعطيتموني عشرة أمثاله من ذهب، لما أخذتها وأخذت الكتاب.
وهذا الكتاب في زوائد ستة كتب على ستة كتب، فإذا جمعت الستة مع هذا تكاد أن تكون جمعت السنة بأسرها وقل أن يخرج حديث عن هذه الكتب التي هي ستة مع هذا الكتاب.
فهذا زوائد ستة كتب وهي مسند الإمام أحمد، ومسند البزار، ومسند أبي يعلى والمعجم الكبير للطبراني، والمعجم الأوسط له والمعجم الصغير له أيضاً.
على ستة كتب وهي البخاري ومسلم وأبو داوود والنسائي والترمذي، وابن ماجه (وفي الحقيقة قد جرى خلاف بين العلماء في عد الكتاب السادس من اصطلاح الكتب الستة) المشهور هل هو ابن ماجه وهو المشهور أو موطأ مالك كما هو في جامع الأصول لابن الأثير أو مسند الدارمي، والذي مشى عليه الهيثمي في مجمع الزوائد هو عد ابن ماجه) .
الآية الرابعة من الآيات الأرضية:
وحصلت له في بيت المقدس أيضاً، وتكررت في السماء فلن نعيد الكلام عليها عندما نصل إلى الآيات السماوية التي رآها خير البرية صلوات الله عليه وسلامه عندما عرج به.
هذه الآية هي أنه قدم له أربعة أقداح:(5/96)
وهذا خلاصة الروايات وبعد أن أذكرها لكم وحاصل ما فيها أرشدكم إلى مصادرها لترجعوا إليها لأن في بعض الروايات أنه قدم له قدحان، وبعضها ثلاثة أقداح وبعضها أنه حصل هذا في بيت المقدس وبعضها أنه حصل في السماء عند سدرة المنتهى.
والمعتمد أنه تكرر عرض الآنية على نبينا عليه الصلاة والسلام مرة في بيت المقدس ومرة في السماء وكل مرة لها حكمة كما تقدم معنا في شق صدر النبي صلى الله عليه وسلم أربع مرات وكل مرة لها حكمة وهذا الأمر كذلك، ومجموع الآنية أربع لكن بعض الرواة قصر في الحفظ فذكر بعض هذه الآنية.
الحاصل أن مجموع ما عرض على الرسول صلى الله عليه وسلم أربع آنية في حادثة الإسراء بعد أن ألقى كل نبي خطبته في بيت المقدس: يقول النبي عليه الصلاة والسلام: [ثم جاءني جبريل بأربعة آنية، إناء فيه ماء، وإناء فيه عسل، وإناء فيه لبن، وإناء فيه خمر، فقال: ألا تشرب يا محمد؟ عليه صلوات الله وسلامه] وكان سبب هذا الشرب وسبب عرض الآنية عليه هو لما حصل له من العطش في هذه الرحلة المباركة من مكة إلى بيت المقدس فإذن كان عرض الآنية عليه في الدنيا من أجل دفع الظمأ والعطش -[قال: فأخذت إناء الماء فشربت منه قليلا ً، فقال لي جبريل: لو ارتويت منه لغرقت وغرقت أمتك] والسبب في هذا أن الماء ليس كاللبن الذي هو شراب وغذاء، إذ أن اللبن غذاء الفطرة وأما الماء فهو دافع العطش والظمأ فقط فيأخذ الإنسان بمقدار دفع الحاجة فلو أخذ منه أكثر من المطلوب لآذى نفسه، ولو سلك الإمام طريق الأذى فالرعية سيسيرون وراءه، فأنت لو أخذت من الماء أكثر من حاجتك لنتج عن هذا أنك تغرق في شعب الدنيا وأوديتها وحطامها ولذائذها وتنهمك فيها وتعرض عن الآخرة وحاشاك من ذلك، إنما هذا على سبيل الافتراض البعيد ولغرقت أمتك أي لتبعت الدنيا وأعرضت عن الآخرة.(5/97)
إذن الانهماك في الماء والأخذ منه فوق الحاجة يدل على ركون إلى الدنيا، وقد كان نبينا عليه الصلاة والسلام أزهد خلق الله في حطام الدنيا وهو الذي يقول: [مالي وللدنيا إنما أنا كراكب قال تحت شجرة ثم راح وتركها] ، وقال في الحديث (قال) ولم يقل (نام) لأن القيلولة وقتها قصير من بعد الظهر إلى العصر بخلاف النوم، فإنه يكون طويلا ً لوقوعه في الليل، وهذا هو حال نبينا عليه الصلاة والسلام كان قليل النوم وكان يقوم الليل حتى تورمت قدماه، فإذا فرغت فانصب أي إذا فرغت من طاعة فانصب إلى طاعة أخرى وعملك جد متواصل وليس عندك كسل ولا فتور كما هو الحال في جامعاتنا الهابطة (4) شهور إجازة وعطلة، أي الطالب يصبح عاطلا ً، وطالب العلم الحقيقي لا يتوقف عن العلم إلا في مناسبات شرعها الإسلام كالعيدين، وما عداهما فلا ينبغي أن يتوقف عن العلم أو يعطى عطلة والله المستعان، فلا يوجد في قاموس المسلمين شيء اسمه عطلة لأن الله سبحانه يقول لنبيه ونحن له في هذا تبع (فإذا فرغت فانصب) ، فإذا فرغت من طاعة وعمل فانصب إلى عمل آخر ولا تظن أن العمل انتهى لأن الدنيا مزرعة الآخرة ولابد من غرس عمل متواصل، أما الحصاد ففي يوم الدين (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره) والمزارع لا يعرف العطلة في موسم الزراعة، فذاك هو حال نبينا عليه الصلاة والسلام مع الدنيا.
[وأما إناء العسل فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم وشرب منه قليلا ً] وذلك لأن العسل شفاء كما قال تعالى: (يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس) فإذن هو بمثابة الدواء والإنسان يأخذ منه بمقدار الحاجة، فالنبي صلى الله عليه وسلم أخذ منه غذاءً لشفاء البدن وصحته.(5/98)
والعسل من آيات الله البارزة التي يخرج من هذا الحيوان وهي النحلة، قيل لبعض الصالحين: بأي شيء عرفت ربك؟ قال: بالنحلة قالوا: وكيف؟ قال: بأحد طرفيها تعسل وبالطرف الآخر تلسع، ومقلوب العسل لسع، أي عكس كلمة (عسل) خطاً (لسع) .
وهذا من عظيم قدرة الله كيف يخلق المتضادات وليس المتناقضات في بدن واحد، ففيها سمية وفيها مادة حلوة عسلية، والعسل هذا من الأغذية المباركة وقد ثبت في سنن ابن ماجه ومستدرك الحاكم (4/200، 403) بسند صحيح كالشمس عن عبد الله بن مسعود مرفوعاً، وروي موقوفاً عليه بإسنادين والموقوف له حكم الرفع وفيه [عليكم بالشفاءين العسل والقرآن] أما القرآن فقوله تعالى دال على ذلك (قد جاءكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين) وهو – أي القرآن – لعقولنا كالشمس لأعيننا، وعين بلا أنوار لا ترى وعقل بلا وحي لا يهتدي، وهو لأرواحنا كالماء للسمك، فسمك بلا ماء لا يعيش وأرواح بلا قرآن ميتة (أومن كان ميتاً فأحييناه) (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا) .(5/99)
وأما العسل فهو الشفاء الثاني، وقد توصل من نحاسة بعض الأطباء ونكدهم وغلظ قلوبهم وفساد عقولهم في هذه الأيام أنهم يصفون الخمر علاجاً لبعض الأمراض؟ فهل يعقل أن تصبح أم الخبائث شفاءً والشفاء صار داءً؟ لكننا في عصر اختلت فيه الموازين من جميع جهاتها فصار الباطل حقاً والحق باطلا ً، وصار الكذاب صادقاً والصادق كذاباً، ونطق الرويبضة في أمر العامة وهو الحقير ابن الحقير؟، فإذن صار الشفاء وهو العسل في عصرنا داءً، وهذا العسل مثل التمر الذي هو أطيب طعام وأنفعه للبدن، ويقول الأطباء – وسيأتينا الإشارة له عند اللبن – لا يوجد غذاء فيه جميع ما يحتاجه الجسم إذا أخذه الإنسان لا يحتاج غيره إلا اللبن والتمر فقط، ولو عشت طول حياتك لم تأكل إلا لبناً وتمراً لعشت في أتم صحة وعافية، وقد كانت أهلة تمرُّ على بيوت النبي صلى الله عليه وسلم التسع ولا يوقد في بيته نار، فقال عروة: يا خالتي – عائشة – ما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان التمر والماء. ولم تقل الأبيضان من باب التغليب وتعلق الصحة بالتمر، وجعلته أسود لأن غالب تمر المدينة أسود.
[استطرد الشيخ في ذكر خبث الغرب في تحضيرهم للأغذية وأنهم لا يتورعون عن تنجيسها بغائطهم وبولهم ثم ذكر شيخ الإسلام مصطفى صبري آخر شيخ للإسلام لآخر دولة إسلامية وهو صاحب كتاب (موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين) في أربع مجلدات، وصاحب كتاب (قولي في المرأة) رد فيه على قاسم أمين، الشاهد يقول شيخ الإسلام مصطفى صبري في كتابه (موقف العقل والعلم والعالم) لو أن الكفار صدروا إلينا عذرتهم رطبة لأكلناها، وهو كذلك، وما مرت فترة على الدولة الإسلامية ضربت فيها بالذل نحو أعداء الله إلا في هذا الأيام وهذا العصر)
فالعسل هو الشفاء والخمر هو الداء، وإذا كان الأمر كذلك فلا داعي لأن نشرب زجاجة العسل كلها بل نشرب بمقدار الحاجة. ولذلك فقد شرب النبي صلى الله عليه وسلم ما يحتاجه فقط.(5/100)
[وأما اللبن فشرب منه نبينا صلى الله عليه وسلم وتضلع] أي حتى صار اللبن – والمقصود باللبن الحليب – في جميع ضلوعه وملأها بحيث ما بقي فيه مسلك، فتضلع كما يسن لنا أن نتضلع من ماء زمزم، أي لا يبقي في أضلاعك وبينها فجوة إلا ودخلها ماء زمزم، وآية ما بين المؤمنين والمنافقين التضلع من ماء زمزم وماء زمزم لما شرب له كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام والحديث بسند حسن وتقدم.
فإذن كما تتضلع من ماء زمزم لأجل البركة، فاللبن تضلع منه نبينا عليه الصلاة والسلام لأنه غذاء الفطرة، وهو شراب وطعام، وعليه يعيش المولود من بني الإِنسان في صغره فيبقى سنتين يرضع من ثدي أمه هذا ولا يأكل ولا يشرب غيره.
إذن فإذا كنا على فطرتنا السوية فإننا نتزود من اللبن ولذلك أرشدنا نبينا صلى الله عليه وسلم إلى أدب ينبغي أن نحافظ عليه إذا شربنا اللبن لنخبر عن استقامة فطرتنا، وإذا أكلنا أو شربنا غيره نقول دعاءً آخر ثبت في مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود والترمذي وابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [من أطعمه الله طعاماً فليقل: اللهم بارك لنا فيما رزقتنا وارزقنا خيراً منه، ومن أسقاه الله لبناً فليقل: اللهم بارك لنا فيما رزقتنا وزدنا منه] فلم يقل هنا وارزقنا خيراً منه بل قال وزدنا منه، بينما ذكر في الأول وارزقنا خيراً منه لأن كل طعام هناك ما هو خير منه وأنفع وأطيب ثم قال: [فإني لا أعلم ما يجزيء عن الطعام والشراب إلا اللبن] فلا تقل إذا شربت لبناً وارزقنا خيراً منه.
ولأجل ذلك تضلع النبي صلى الله عليه وسلم من اللبن، وما بقي بين ضلوعه مسلك لدخول قطرة من شراب، [فقال له جبريل: هديت الفطرة] .
[وأما الخمر فما مد نبينا صلى الله عليه وسلم يده إليه أبداً ولم يشرب منه] .(5/101)
وقد يقول قائل: ولم لم يشرب منها وهذه من خمر الجنة التي لا تسكر وليست من خمر الدنيا المسكرة بل هي من نهر الخمر الذي يجري في الجنة مع الأنهار الأخرى التي تخرج من أصل سدرة المنتهى؟
نقول: حتى لا يقوم مقام تهمة، وحتى لا يقف موقف تهمة، لأن لفظها واسمها خمر والخمر محرمة في الدنيا على هذه الأمة وحتى لا يقال إن النبي صلى الله عليه وسلم شرب الخمر رغم أنها طاهرة وتلك مسكرة إلا أن الناس والعامة لا تعرف هذا ولا تدركه ولو عرفته لبقي في نفسها شيء نحو رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم فلأجل أن يحصل التذرع بفعل النبي صلى الله عليه وسلم – الذي هو حقيقة لا إشكال فيه لو فعله – إذا شرب الخمر، فما شربها صلى الله عليه وسلم لأجل ذلك [فقال له جبريل: لو شربت الخمر لغويت وغَوِيَتْ أمتك] ، وفي رواية [قال له: لما اتبعك أحد] لأنهم سيتوسعون ويخرجون عن دين الحي القيوم فيقولون نبينا شرب الخمر فنحن أيضاً نشربها مع اختلاف الخمرين لكن العامة لا تدرك هذا ولا تعيه.
إخوتي الكرام ... العلماء ينظر إليهم العامة دائماً ويقتدون بهم، فالعالم إذا توسع في المباح توسع العامة في المكروهات، وإذا توسع في المكروهات توسعوا في المحرمات فإذا وقع العالم في الحرام كفرت العامة فتنبهوا لهذا رحمكم الله.
لذلك لا يجوز للمؤمن أن يقوم مقام تهمة أو أن يقف موقف ريبة، فمثلا ً إذا ذهب طالب العلم إلى مكان ريبة، ومكان فساد كشواطئ البحار ولكن ابتعد عن مكان الفساد وصد وجهه عن المفسدين فهذا في الحقيقة ليس عليه وزر أو إثم لكن لو رآه الناس موجوداً في هذا المكان لبدؤوا باتهامه، ولو كان يجلس بعيداً لأن الناس لا تعذر، فكان الواجب على هذا الطالب أن لا يذهب إلى هذا المكان المحدد أو في هذا الوقت بل يحاول أن يتجنب مثل هذه الأوقات والأماكن حتى لا يتكلم عليه الناس ولا يتذرع العامة بفعله.(5/102)
فمن أقام نفسه مقام ريبة وتهمة فلا يلومن من أساء به الظن، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقمن مقام تهمة وريبة – هذا ليس بحديث ولكن معناه صحيح – وقد وردت أحاديث بهذا المعنى منها في الصحيحين [فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه] ودلَّ عليه حديث في المستدرك وسنن الترمذي وغيره بسند صحيح عن عطية السعدي: [لا يبلغ العبد درجة المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به بأس] .
فيحتاط نبينا عليه الصلاة والسلام – وهو إمامنا في الاحتياط والورع – لم يمد يده إلى الخمر مع أنها طاهرة وحلال ومنعشة ونافعة سنشربها في الآخرة حتى لا يتذرع العامة بفعله إذا شربها.
وهذه الآنية عرضت على نبينا عليه الصلاة والسلام في بيت المقدس – كما ذكرنا – لدفع العطش وعرضت عليه فوق السموات العلا عند سدرة المنتهى من باب الضيافة والكرم، فلما رأى هذه الأنهار الأربعة تنبع من أصل سدرة المنتهى قدم له من كل نهر إناء فيه من ذلك النهر.
وحاله في السموات كحاله في الأرض فشرب من الماء قليلا ً، والعسل قليلا ً، واللبن تضلع منه وأما الخمر فما مد نبينا عليه الصلاة والسلام يده إليه أبداً.
ومن رأى نفسه في المنام وهو يشرب لبناً فليحمد الله، لأن هذه الرؤيا تدل على أمرين:
(1) أنه على الفطرة والدين المستقيم.
(2) أن الله سيمنحه العلم النافع العظيم.
وفي صحيح البخاري في كتاب التعبير بوب البخاري باباً بهذا الخصوص، فقال: باب اللبن في النوم، ثم ساق الحديث إلى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [بينما أنا نائم أتيت بقدح من لبن فشربت منه حتى إني لأرى الري يخرج من تحت أظافري، ثم أعطيت فضلي عمر، قال فما أولت ذلك يا رسول الله، وقال: العلم] وعمر هو سيد المُحَدَّثين والْمُلْهَمِيْنَ في هذه الأمة فلا غرابة.(5/103)
وثبت في مسند البزار بسند فيه ضعف ويشهد له ما تقدم والحديث في مجمع الزوائد (7/183) في كتاب تعبير الرؤى، باب اللبن في المنام من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [اللبن في المنام فطرة] .
وفي حديث البخاري السابق منقبة لعمر وقد حصلت منقبة أخرى له في صحيح البخاري أيضاً في كتاب العلم يقول نبينا عليه الصلاة والسلام [رأيت الناس يعرضون عليَّ وعليهم قُمُص – جمع قميص وهو ما يلبسه الإنسان – منها ما يبلغ الثدي ومنها ما دون ذلك وعرض عليَّ عمر بن الخطاب في ثوب يجره، قالوا: فما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: الدين] .
الآية الخامسة:
وهي من الآيات الأرضية، وهي ما رآه صلى الله عليه وسلم في طريقه من مكة إلى بيت المقدس.
فقد رأى آيات عظيمة وهي كثيرة كثيرة كثيرة ولا أريد التوسع فيها، لكن ارجعوا إلى مجمع الزوائد (1/65) فما بعدها وانقلوا هذه الآيات واكتبوها مع هذا المبحث وانظروا في فتح الباري (7/199) فما بعدها وانظروا في جامع الأصول (11/310) .
وسأقتصر هنا في شرحي على آيتين والباقي تأخذونه من هذه الكتب فإنه كثير كثير:
الآية الأولى: ثبت في صحيح مسلم وسنن النسائي عن أنس رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مررت ليلة أسري بي على موسى في قبره عند الكثيب الأحمر- وهو التلة من الرمل – وهو قائم يصلي] .
وقد كنت أشرت سابقاً إلى أن أجساد الأنبياء في قبورهم لا تتغير، وهم أحياء فيها حياة يعلمها الله، ولا نعلم كيفيتها، ويكرمهم الله بكرامات عظيمة كما كان يكرمهم في حياتهم، من هذه الكرامات أن نبي الله موسى كان يصلي في قبره، ورآه نبينا عليه الصلاة والسلام يصلي في قبره، فإن قيل: كيف هذا؟ نقول: قلنا إن حادثة الإسراء والمعراج معجزة ونبي الله موسى في عالم البرزخ، فالاطلاع عليه هذا من باب خرق العادات والممكنات التي أكرم الله بها خير البريات عليه صلوات الله وسلامه.(5/104)
وقال النبي صلى الله عليه وسلام لأصحابه لما ذكر لهم ذلك [لو كنت ثَمَّ لأريتكم قبره] ، أي لو كنت أنا وأنتم في ذلك المكان لأريتكم قبره عند الكثيب الأحمر عند البلاد المباركة.
فهذه آية نؤمن بها وهي من الإيمان بالغيب الذي نؤمن به ونكل علم معرفته إلى خالقه.
الآية الثانية: وإنما اخترتها وأردت ذكرها لما فيها من غبرة وعظة، وهي إذا كانت المرأة تصل عزيمتها إلى هذا الحد، فالرجل ينبغي أن يستحي من الله وأن تكون عزيمته – على الأقل كعزيمتها – لا أقل منها.
فهذه الكرامة التي رآها نبينا عليه الصلاة والسلام لامرأة صالحة ضعيفة مستضعفة وهذا كله من باب الاطلاع على ما في عالم البرزخ من عذاب أو نعيم، وعالم البرزخ لا يمكن أن نعلمه إلا عن طريق وحي صادق، فإذا نطق من لا ينطق عن الهوى آمنا به وصدقناه.
ثبت في مسند الإمام أحمد والبزار والمعجم الكبير للطبراني والمعجم الأوسط له أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما عن نبينا عليه الصلاة والسلام قال: [مررت ليلة أسري بي بوادٍ فإذا فيه ريح طيبة، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذه رائحة ماشطة ابنة فرعون وأولادها] .
س: ما السبب في حصول هذه الكرامة لها؟
جـ: [كانت تسرح شعر ابنة فرعون وتمشطه فسقط المشط من يدها، فقالت باسم الله، فقالت هذه العاتية ابنة فرعون: أبي] أي باسم أبي الذي هو إله فالله يعني أبي، لأنه قال: أنا ربكم الأعلى، وكان رباً – كما يدعي – لأن الأنهار تجري من تحته، فتقول له يا منحوس، من الذي أجرى الأنهار من تحتك؟ فإنك تفتخر بملك غيرك، وتفتخر بنهر أجراه غيرك هل أنت الذي أجريتها وهل أنت الذي شققتها؟ إن هذه الأنهار التي تجري من تحتك عما قريب ستجري من فوقك وكل من ادعى دعوى قتله الله بدعواه.(5/105)
يقول أئمتنا احذروا الدعوى، هي بلوى وإن صحت، فلا تقل أنا أحفظ وأنا أعلم كذا، فإنك حتى ما قلت (أنا) استوجبت الخزي بل الواجب أن تقول هذا بفضل الله وبرحمته ولذلك قال الله في الحديث القدسي: [فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه] ، (وما بكم من نعمة فمن الله) فهو الذي وفق.
ولذلك العاتي النمروذ عندما تكبر وتجبر وقال أنا أحيي وأميت، أماته الله بأضعف جنده ببعوضة فقط، فدخلت إلى دماغه من أنفه، وبدأت تدور في رأسه فكان يجمع حاشيته وأصحابه ويعطيهم الأحذية الكبيرة الثقيلة ويقول لهم أخفقوني على رأسي لأجل أن تموت هذه البعوضة، فكان وزراؤه يضربونه – وقد كانت البعوضة تخمد عندما يأتيها الضرب فتقف ولا تتحرك، فإذا توقفوا عن الضرب بدأت بالحركة والطيران داخل دماغه حتى قتل ضرباً بالأحذية، فأنت يا من تقول بأنك تحيي وتميت لم تستطع أن تميت بعوضة، فإذن كل من ادعى بدعوى قتله الله بدعواه.
قال هارون الرشيد لمحمد بن السماك – وكان من العلماء الواعظين الصالحين – إذا كان الله حكيماً وخلق كل شيء لحكمة فعلام خلق الذباب؟ فقال: ليذل به الملوك يا أمير المؤمنين، أي أنت يا أمير المؤمنين لا يدخل عليك أحد إلا باستئذان إلا الذباب فإنما يدخل من غير استئذان.(5/106)
[فالماشطة سقط المدرا (المشط) من يدها فقالت باسم الله، قالت ابنة فرعون: أبي قالت: لا. ربي وربك ورب أبيك، فقالت: أأخبر أبي بذلك؟ قالت: أخبريه، فأخبرته، فدعاها فرعون فقال لها: ألك رب غيري؟، قالت: نعم، ربي وربك الله، فأمرها أن تحضر هي وأولادها وقال: إما أن ترجعي عن دينك وتدخلي في ديني وتؤمني بأنني أنا الله الرب وإما أن أقتلك، فقالت، اقتلني بما شئت ولكن لي طلب عندك، قال: لك ما تريدين، قالت: إذا قتلتني فاجمع بين عظامي وعظام أولادي وادفنا في قبر واحد، فقال: لك ذلك] فوافق على ذلك لما لها عندهم من المنزلة والمكانة إذ أنت من خدم البيت ومن الحاشية لكن لأنك خرجت عن الدين فلابد لك من القتل.
[فأتي بنقرة من نحاس] وهي الحلة الكبيرة والقدر الواسع بحجم الغرفة بل البيت وهذه هي التي عذب بها النصارى في بلاد الأندلس المسلمين لما سقطت الأندلس، فقد كانوا يأتون بهذه القدور – النقرة – ويضعون تحتها ناراً حتى يحمى الماء فيها ويغلي غلياناً عظيماً، ثم يؤتى بالمؤمن، ويقال له إما أن ترجع عن دينك وإما أن نلقيك فيها وهم أفواج فلا يرجع عن دينه ثم يأتي بالثاني ويخير وهكذا وما يصدهم ذلك عن دين الله رغم ما يرونه من العذاب الشديد لدرجة أن هذا الماء من حرارته يذوب فيه اللحم والعظم فلا يبقي للمؤمن أثر فيه ولكنهم يثبتون على إيمانهم.
(قصة أحد المشايخ الذين حاولوا دخول مسجد قرطبة الذي صار كنيسة وكيف منعهم القسيس من دخوله – إلخ القصة) ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
[فأحماها وبدأ يضع أولادها واحداً بعد واحد فيها وهي تصبر وتحتسب حتى ألقاهم جميعاً وبقي بين يديها ولد صغير لازال رضيعاً في المهد فأشفقت عليه وخافت، فلما أخذوه منها ليلقى في هذه النقرة ارتاعت وتغيرت، فظن فرعون أنها سترجع عن دينها شفقة على ابنها الصغير، فقال هذا الغلام الصغير: يا أماه إنك على الحق فاصبري وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة] .(5/107)
قال نبينا عليه الصلاة والسلام: [لم يتكلم في المهد إلا أربعة ابن ماشطة فرعون، وشاهد يوسف، وعيسى عليه السلام، وصاحب جُريج] .
وصاحب جُريج هذا حديثه في الصحيحين وهو عابد وراهب [عندما كان يصلي دعته أمه فقال اللهم أمي وصلاتي] ولو كان فقيهاً لأجاب أمه لأنه إذا دعتك أمك وأنت في نافلة فاقطع النافلة وأجب أمك لأن إجابتها فريضة والنافلة سنة لك أن تقطعها. [ثم قالت: يا جُريج، فقال: اللهم أمي وصلاتي، ثم قالت: يا جُريج (للمرة الثالثة) فقال: اللهم أمي وصلاتي فقالت أمه: والحمد لله أنها لم تدع عليه بغير هذا – اللهم لا يموت جُريج حتى يرى وجوه المياميس – أي الزانيات – وكان هناك راعٍ يرعى الغنم وهناك امرأة بغي اتصل بها هذا الراعي عن طريق الحرام وأحبلها قيل لها من أين هذا؟ قالت: من جُريج العابد الذي يعبد ربه في هذه الصومعة، فغضب بنو إسرائيل وحملوا المعاول والعصي وجاءوا إلى صومعته فهدموها، فقال لهم ماذا تفعلون؟ قالوا: تدعي أنك عابد راهب معتدل ثم بعد ذلك تعتدي على هذه المرأة، فقال: أين الغلام؟ فقيل له هذا، فأتى إليه جُريج ونقر على بطنه وقال: من أبوك يا بابوس؟ قال: فلان الراعي، فأكب الناس على قدمي جُريج يقبلونها ويقولون له نبني لك صومعة لبنة من ذهب ولبنة من فضة فقال: بل أعيدوها كما كانت] .
لكنه رأى وجوه المياميس رأى هذه المرأة التي وجهها منكر فيه هذا البلاء والغضب لأنه ما أجاب أمه، حذار حذار أن يدعو عليك أحد والديك إذن فهؤلاء تكلموا في المهد.
[فلما قال لها الغلام هذا طرحت الولد في النقرة ثم أخذوها وألقوها مع أولادها فاحترقوا جميعاً فجمع فرعون – عليه لعنة الله – عظامهم (1)
__________
(1) كيف شم النبي صلى الله عليه وسلم رائحة قبرها مع أن طريق الرحلتين لا يمر على مصر فكيف كان هذا وبماذا يفسر؟ =
= لا يلزم من شم نبينا عليه الصلاة والسلام لتلك الرائحة الزكية الطيبة في رحلته أن يكون قبر الماشطة وأولادها في طريق النبي عليه الصلاة والسلام فقبرها وقبر أولادها في بلاد مصر0 إخوتي الكرام ... كما قلنا هذه من أحوال البرزخ التي أطلعها الله لنبيه عليه الصلاة والسلام: ولتوضيح الأمر: ألم ير النبي صلى الله عليه وسلم في طريق رحلته أناساً تقرض ألسنتهم وشفاههم مقاريض من نار، ثم قال من هؤلاء يا جبريل؟ فقال له: هؤلاء خطباء الفتنة.
وهؤلاء لم يوجدوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم إنما سيوجدون بعده وسيخطبون لكنهم عرضوا عليه في هذا الوقت وكذلك رأى عذاب من يتثاقل عن الصلاة والصلاة إلى ذلك الوقت لم تفرض ورأى عذاب من لا يؤدي الزكاة والزكاة لم تفرض إلى ذلك الوقت، فإن قيل: كيف هذا؟ نقول: هذا من باب إطلاع الله لنبيه عليه الصلاة والسلام على مغيب وقع أو سيقع، وكذا قبر ماشطة فرعون لم يكن في طريقه لكن أطلعه الله عليه وأشمه رائحته.
إذن فلا يشترط فيمن رآهم يعذبون أن يكونوا في طريق رحلته بل هذا كله من خوارق العادات ومن إطلاع الله لنبيه عليه الصلاة والسلام لبعض المغيبات ولا إشكال في هذا.
ولذلك فبالنسبة للأنبياء عليهم الصلاة والسلام عندما جمعهم الله في بيت المقدس وجمع له بعضهم في السموات العلا هل كان الاجتماع بأرواحهم أم بأرواحهم وأجسادهم؟ ذكر الحافظ ابن حجر الأمرين قيل: بعثوا من قبورهم من جميع أقطار الدنيا وقيل أرواحهم تشكلت في بيت المقدس0 قلت: السكوت في هذه المواطن من ذهب لأنها من أمور الغيب. وأمور الغيب إذا لم نطلع عليها فنؤمن بها دون البحث في كيفيتها، إذا جمع الله أجسادهم فهو على كل شيء قدير وإذا شكل الله أرواحهم فهو على كل شيء قدير ولا يجوز مطلقاً أن نفهم ما يجري في البرزخ على حسب ما يجري في الدنيا فهذا الدار لها أحكام وقوانين خاصة.
فنحن في الدنيا الأحكام من عذاب ونعيم تقع على البدن فقط والروح تتأثر بذلك تبعاً للبدن لا أصلا ً وفي البرزخ على العكس تماماً فالنعيم والعذاب يقع أصالة على الروح، والبدن يشعر بذلك تبعاً.؟؟؟؟؟؟؟؟
وفي الآخرة فهذه أكمل الدور – فالأحكام من عذاب ونعيم يقع أصالة على الروح والبدن كل واحد يشعر بعذاب ونعيم دون تبعية لغيره، (مثل ضربه الشيخ باستعمال ميزان البصل في وزن الذهب) فلكل شيء موازين خاصة فإياك أن تقيس البرزخ على الدنيا، وإياك أن تقيس الآخرة على البرزخ.(5/108)
ودفنهم في قبر واحد] ولذلك فهؤلاء لهم ذلك النعيم العظيم لهم في البرزخ فبمجرد أن دفنوا حصلت لهم تلك الرائحة الشذية العطرية الطيبة من قبرهم في ذلك.
فإذن النبي صلى الله عليه وسلم لما أسري به شم هذه الرائحة الطيبة من ماشطة ابنة فرعون ومن أولادها الذين قتلوا معها.
إخوتي الكرام ... هذا حال الحق عندما يدخل القلوب سواء كانت عند ذكور أو عند إناث، فانظروا إلى ثبات هذه المرأة على الحق وعدم مبالاتها بأطغى أهل الأرض في ذلك الوقت هو فرعون وماذا يملك فرعون وغيره من الجبابرة؟ هل يملك أكثر من قطع الرقبة؟ لا، ولكن الحال كما قال السحرة لفرعون (فاقض ما أنت قاض ٍ إنما تقضي هذه الحياة الدنيا) . أما غير هذا فليس في وسع أحد أن يفعله.
ثم إن الموت سيصير إليه القاتل والمقتول، فهل سلم فرعون من الموت، وهل الأنبياء سلموا من الموت؟ لا، فهل في موتي منقصة لي؟ وليس القوي الذي يخاف من موت بدنه، إنما القوي الذي يخاف من موت القلب، فالقلب إذا مات هنا الطامة، وهذا الذي يوجب غضب الله والخسران للأبد أما موت البدن فما الذي يُخوِّف منه؟ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم [تحفة المؤمن الموت] ، فالمسلم إذا مات انتقل من عناء إلى لقاء رب الأرض والسماء، انتقلت من شدة وبلاء إلى نعيم ورخاء. فإذا مت فماذا في هذا؟!! ووالله إن نعمة الله علينا بالموت أعظم من نعمته علينا بالحياة، فإذا مت انتقلت من دار إلى دار، ولذلك للإنسان ثلاث دور: الدار الأولى: الدنيا وفي الدنيا دور متعددة أولها بطن الأم فهذا وإن سكنته وخرجت منه، ثم هذه المساكن التي تسكنها الله أعلم بعددها تسكن في الشام في مصر في لبنان في مصر في استراليا العلم عند الله.
الدار الثانية دار البرزخ، وهي أوسع من دار الدنيا وأحسن منها بكثير ثم أكمل الدور وأتمها وهي الدار الثالثة دار الآخرة.(5/109)
فإذن الانتقال إلى البرزخ بالموت كالانتقال من رأس الخيمة إلى مصر ولا فرق هنا عباد وهناك عباد قال تعالى: (يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون) فهل يشترط أن نقيم في رأس الخيمة؟ كلا، إذن فكذلك لا يشترط أن نقيم في الحياة فأنت في كنف الله ورعايته إن كان في الدنيا تقوم بالواجب عليك، وإن كان في البرزخ فلا واجب عليك بل يكرمك الله جل وعلا بكرامات لا تخطر على بال وإن كان في الآخرة فرحمتُهُ أوسع وأوسع.
فالمؤمن إذن لا يخاف الموت بل إنه يفرح بالموت وكان عدد من الصالحين إذا جاءهم الموت يقولون: حبيب، جاء على فاقة، لأننا في الدنيا نتألم كما يتألم الكفار لكن في النتيجة نختلف، فنحن يأتينا الموت راحة وهم ينتقلون من عذاب إلى عذاب أشد (إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله مالا يرجون) وهذه الآية في المعارك فنحن نرجو الشهادة وهم يرجون عرضاً من الدنيا ولو لم يكن في الدنيا تعب إلا إدخال الطعام وإخراجه لكفى، فعندما يمضغ ويأكل في اليوم مرتين أو ثلاثاً، ثم يجلس في الخلاء في صورة يستحي منها أفليس في هذا تعب؟ وهذا غير ما يحصل لك من نكد أو تعب أو إيذاء في هذه الدنيا، وكذلك فأنت تملأ وتفرغ وتملأ وتفرغ وهكذا ولذلك كان بعض الصالحين يقول: أشتهي أن يجعل الله رزقي في حصاة أمصها والله استحيت من ربي من كثرة دخولي الخلاء.
وهذا الطعام الذي يدخل إلى جوفك لو كشف للناس عنه لهربوا من نتن ريحه ولذلك أنت أولك نطفة مذرة وآخرك جيفة قذرة وفيما بينهما تحمل العذرة(5/110)
فهذا تعب ما بعده تعب فإذا من الله عليك بدار البرزخ ثم بالجنة، ليس هناك عناء ولا بلاء ولا حدث ولا مخاط ولا بصاق، والطعام والشراب يخرج منك على هيئة رشح من جبينك أطيب من المسك ولذلك كل الطعام هناك ليس من باب حفظ البدن من تلف أو لحاجته لطعام، إنما من باب التلذذ والتفكه كما قال تعالى: (وفاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون) وقال: (وأمددناهم بفاكهة) فسماها فاكهة.
فإذن ماتت ماشطة ابنة فرعون وعذبت فماذا جرى لها؟ ثم انظر لهذه الكرامة بتعجب نبينا عليه الصلاة والسلام لطيب رائحتها.
لذلك هذا المسلك الذي سلكته هذه المرأة الصالحة يجب أن يسلكه الذكور والإناث بلا استثناء.
ولله الحمد توجد من هذه النماذج في عصرنا (قصة الطالبة الصالحة في أبهى التي كانت تشترط على من يتقدم لخطبتها ألا يدخل تليفزيوناً أو منكراً للبيت: إلخ القصة) .
وهذا ما رآه نبينا عليه الصلاة والسلام في رحلته المباركة مما كشف الله له أطلعه عليه مما يكون في عالم البرزخ مما كان قد حصل – من الذنوب – والذنوب التي ستحصل وأطلعه عليها قبل وقوعها.
وهذا كما أطلعه الله – عندما كان في المدينة والحديث في الصحيحين – مثل عذاب رجلين حيث قال صلى الله عليه وسلم: [إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستبرئ (وفي رواية يتنزه) من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة] .
هاتان آيتان شرحناهما مفصلتين والآن نذكر جملة من الآيات التي وقفنا عليها في الكتب التي ذكرت في أول هذا المبحث في أول الحديث عن الآية الخامسة، وسنذكر هذه الآيات على وجه الإيجاز والاختصار مع ذكر مرجعها:
الآية الثالثة: مر صلى الله عليه وسلم على قوم يزرعون في يوم ويحصدون ي يوم كلما حصدوا عاد كما كان فقال: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء المجاهدون في سبيل الله تضاعف لهم الحسنة بسبعمائة ضعف وما أنفقوا من شيء فهو يخلفه.
انظر: مجمع الزوائد (1/67) ، فتح الباري (7/200) .(5/111)
الآية الرابعة: ومر صلى الله عليه وسلم على قوم ترضخ (تدق تكسر) رؤوسهم بالصخر كلما رضخت عادت كما كانت ولا يفتر عنهم من ذلك شيء، قال: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين تثاقلت رؤوسهم عن الصلاة.
انظر: مجمع الزوائد (1/67) ، فتح الباري (7/200) .
الآية الخامسة: مر على قوم على أدبارهم رقاع وعلى أقبالهم رقاع يسرحون كما تسرح الأنعام إلى الضريع والزقوم ورضف جهنم (أي حجارتها المحماة) ، قال: ما هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين لا يؤدون صدقات أموالهم (أي لا يزكون) ، وما ظلمهم الله، وما الله بظلام للعبيد.
انظر: مجمع الزوائد (1/67) ، فتح الباري (7/200) .
الآية السادسة: مر على قوم بين أيديهم لحم في قدر نضيج، ولحم آخر نيئ خبيث فجعلوا يأكلون الخبيث ويدعون النضيج الطيب، قال: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: الرجل من أمتك يقوم من عند امرأته حلالا ً، فيأتي المرأة الخبيثة فيبيت معها حتى يصبح، والمرأة تقوم من عند زوجها حلالا ً طيباً فتأتي الرجل الخبيث فتبيت عنده حتى تصبح.
انظر: مجمع الزوائد (1/67) ، فتح الباري (7/200) .
الآية السابعة: مر على رجل قد جمع حزمة عظيمة من حطب لا يستطيع حملها ثم هو يريد أن يزيد عليها، فقال: يا جبريل من هذا؟ قال: هذا رجل من أمتك عليه أمانة الناس لا يستطيع أداءها ثم هو يزيد عليها ويطلب آخر.
انظر: مجمع الزوائد (1/68) ، فتح الباري (7/200) .
الآية الثامنة: مر على قوم تقرض شفاههم وألسنتهم بمقاريض من حديد كلما قرضت عادت كما كانت لا يفتر عنهم من ذلك شيء، قال: يا جبريل، ما هؤلاء؟ قال: خطباء الفتنة.
انظر: مجمع الزوائد (1/68) ، فتح الباري (7/200) .
الآية التاسعة: مر على جحر صغير يخرج منه ثور عظيم فيريد الثور أن يدخل من حيث خرج فلا يستطيع، فقال: ما هذا يا جبريل؟، قال: هذا الرجل يتكلم بالكلمة العظيمة فيندم عليها فيريد أن يردها فلا يستطيع.
انظر: مجمع الزوائد (1/68) ، فتح الباري (7/200) .(5/112)
الآية العاشرة: أتى صلى الله عليه وسلم على وادٍ فوجد ريحاً طيبة ووجد ريح مسك مع صوت، فقال: ما هذا؟ قال: صوت الجنة تقول يا رب ائتني بأهلي وبما وعدتني فقد كثر غرسي وحريري وسندسي وإستبرقي وعبقري ومرجاني وقضبي وذهبي وأكوابي ومما في وأباريقي وفواكهي وعسلي وثيابي ولبني وخمري، ائتني بما وعدتني، قال: لك كل مسلمة ومسلم ومؤمن ومؤمنة ومن آمن بي وبرسلي وعمل صالحاً ولم يشرك بي شيئاً ولم يتخذ من دوني أنداداً فهو آمن ومن سألني أعطيته ومن أقرضني جزيته ومن توكل علي كفيته إني أنا الله لا إله إلا أنا لا خلف لميعادي، قد افلح المؤمنون، تبارك الله أحسن الخالقين فقالت: قد رضيت.
انظر (1/68) .
11- الآية الحادية عشرة: أتى صلى الله عليه وسلم على وادٍ فسمع صوتاً منكراً، فقال: يا جبريل ما هذا الصوت؟، قال: هذا صوت جهنم تقول: يا رب ائتني بأهلي وبما وعدتني فقد كثرت سلاسلي وأغلالي وسعيري وحميمي وغساقي وغسليني وبعد قعري واشتد حري، ائتني بما وعدتني، قال: لك كل مشرك ومشركة وخبيث وخبيثة وكل جبار لا يؤمن بيوم الحساب، قالت: قد رضيت.
انظر المجمع (1/68) .
12- الآية الثانية عشرة: انتهى النبي صلى الله عليه وسلم – وهو راكب البراق – إلى أرض ذات نخل فقال جبريل: انزل، فنزل، ثم قال: صل، فصلى، ثم ركب فقال له: أتدري أين صليت؟، قال الله أعلم، قال: صليت بيثرب، صليت بطيبة، وإنها المهاجرة.
انظر المجمع (1/73) ، الفتح (7/199) .
13- الآية الثالثة عشرة: ثم بلغ أرضاً بيضاء فقال له: انزل، فنزل، ثم قال له: صل فصلى ثم ركب، فقال له أتدري أين صليت؟ قال: الله أعلم، قال صليت بمدين، صليت عند شجرة موسى، وفي رواية: صليت بطور سيناء حيث كلم الله موسى عليه السلام.
انظر المجمع (1/73) ، الفتح (7/199) .(5/113)
14- الآية الرابعة عشرة: ثم قال له جبريل انزل، فنزل فقال صل، فصلى، ثم ركب فقال له: أتدري أين صليت؟، قال: الله أعلم، قال: صليت ببيت لحم حيث ولد عيسى بن مريم.
انظر المجمع (1/73) ، الفتح (7/199) .
15- الآية الخامسة عشرة: مر النبي صلى الله عليه وسلم في أرض غمة (ضيقة) منتنة، ثم أفضى به المسير إلى أرض فيحاء طيبة، فقال: يا جبريل كنا نسير في أرض غمة نتنة ثم إلى أرض فيحاء طيبة فقال تلك أرض النار وهذه أرض الجنة – وفي رواية: تلك أرض أهل النار وهذه أرض أهل الجنة.
انظر المجمع (1/74) .
16- الآية السادسة عشرة: أتى على رجل قائم فقال من هذا يا جبريل؟ قال: هذا أخوك عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام.
انظر المجمع (1/74) ، الفتح (7/199، 200) .
17- الآية السابعة عشرة: ثم سار فسمع صوتاً فأتى على رجل فقال: من هذا معك؟ قال هذا أخوك محمد صلي الله عليه وسلم فسلم ودعا لي بالبركة وقال سل لأمتك التيسير، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: من هذا يا جبريل؟ قال: هذا أخوك موسى صلى الله عليه وسلم.
انظر المجمع (1/74) الفتح (7/199، 200) .
18- الآية الثامنة عشرة: ثم سار صلى الله عليه وسلم، فرأى شيئا، فقال: ما هذه يا جبريل؟ قال هذه شجرة أبيك إبراهيم، فقال: أدنو منها؟ قال: نعم، فدنا منها فرحب ودعا لي بالبركة.
انظر المجمع (1/74) ، الفتح (7/199، 200) .
19- الآية التاسعة عشرة: رأى الدجال فقال: وأراني – أي جبريل – الدجال ممسوخ العين اليمنى شبهته بِقَطَن بن عبد العزى.
انظر المجمع (1/75) .
20- الآية العشرون: عرض له رجل عن يمين الطريق – في ذهابه إلى بيت المقدس – فجعل يناديه يا محمد إلى الطريق – مرتين – فقال له جبريل امض ولا تكلم أحداً، ثم أخبره أن الرجل الذي عرض له عن يمين الطريق هم اليهود دعته إلى دينهم.
انظر المجمع (1/77) .(5/114)
21- الآية الحادية والعشرون: عرض له رجل عن يسار الطريق، فقال له: إلى الطريق يا محمد فقال له جبريل: امض ولا تكلم أحداً، ثم قال له جبريل: تدري من الرجل الذي دعاك عن يسار الطريق؟ قال: لا، قال: تلك النصارى دعتك إلى دينهم.
انظر المجمع (1/77) .
22- الآية الثانية والعشرون: عرضت له امرأة حسناء جميلة، فقال له جبريل: هذه المرأة الحسناء هي الدنيا دعتك إلى نفسها. انظر المجمع (1/77) ، ووقع في الفتح (7/199) أنه مر بامرأة عجوز فقال له جبريل هذه الدنيا.
23- الآية الثالثة والعشرون: مر بشيء يدعوه متنحياً عن الطريق، فقال له جبريل: سر، ثم قال له: الذي دعاك هو إبليس.
انظر الفتح (7/199) .
24- الآية الرابعة والعشرون: مر بقوم بطونهم كالبيوت فيها الحيات ترى من خارج بطونهم، فقال هم هؤلاء يا جبريل، قال هؤلاء أكلة الربا.
انظر الفتح (7/200) ، المجمع (1/66) .
25- الآية الخامسة والعشرون: مر بقوم مشافرهم (شفاههم) كالإبل يلتقمون حجراً فيخرج من أسافلهم، فقال له جبريل: هؤلاء آكلة أموال اليتامى.
انظر الفتح (7/200) .
26- الآية السادسة والعشرون: لما دخل المدينة التي فيها بيت المقدس من بابها الثامن أي قبلة المسجد فربط دابته ثم دخل المسجد من باب فيه مثل الشمس والقمر.
انظر المجمع (1/73) .
27- الآية السابعة والعشرون: مر بعير لقريش بمكان كذا وكذا قد أضلوا بعيراً لهم فسلم عليهم وقال بعضهم لبعض: هذا صوت محمد، وحاجه المشركون في مكة لما أخبرهم الخبر فقال لهم: مررت بعير لكم في مكان كذا قد أضلوا بعيراً لهم وأنا مسيرهم لكم ينزلون بكذا ثم يأتونكم يوم كذا وكذا يقدمهم جمل آدم عليه مسح أسود وغرارتان سوداوتان، فلما كان ذلك اليوم أشرف الناس ينظرون حتى كان قريباً من نصف النهار، أقبلت العير يقدمهم ذلك الجمل الذي وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
انظر المجمع (1/73، 74، 75) الفتح (7/200) .(5/115)
28- الآية الثامنة والعشرون: لما أخبرهم بخبر الإبل السابقة، قالوا له: هل مررت بإبل لبني فلان؟، قال: نعم وجدتهم في مكان كذا وكذا قد انكسرت لهم ناقة حمراء فوجدتهم وعندهم قصعة من ماء فشربت ما فيها، فقالوا: أخبرنا ما عدتها وما فيها من الرماة، قال: قد كنت عن عدتها مشغولا ً فقام فأتي بالإبل فعدها وعلم ما فيها من الرعاة ثم أتى قريشاً فقال لهم: سألتموني عن إبل بني فلان فهي كذا وكذا وفيها من الرعاء ابن أبي قحافة وفلان وهي مصبحتكم بالغداة عند الثنية، قال: فقعدوا إلى الثنية ينظرون أَصَدَقَهُمْ؟ فاستقبلوا الإبل فسألوا: هل انكسرت لكم ناقة حمراء؟ قالوا نعم، قالوا: فهل كان عندكم قصعة؟ قال أبو بكر: أنا والله وضعتها فما شربها أحد ولا أهراقوه في الأرض.
انظر المجمع (1/75) ، الفتح (7/200) .
29- الآية التاسعة والعشرون: لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد الأقصى وصلى فيه وعرضت عليه الآنية انطلق به جبريل حتى أتى الوادي الذي في المدينة – أي المدينة التي فيها المسجد – فإذا جهنم تكشف عن مثل الزرابي، فقال الصحابة: يا رسول الله كيف وجدتها؟ قال مثل الحمة المسخنة.
انظر المجمع (1/73) .
هذا ما تيسر لي جمعه من الآيات التي رآها نبينا عليه الصلاة والسلام في طريقه من مكة إلى بيت المقدس أو العكس مما يدخل تحت الآيات الأرضية التي رآها النبي صلى الله عليه وسلم.
القسم الثالث:
آيات سماوية رآها نبينا عليه الصلاة والسلام عندما عرج به إلى السموات العلا:
الآية الأولي:
المِعْراج أو المُعْراج – بكسر الميم أو ضمها – وهذا أول الآيات كما أن البراق هو أول الآيات الأرضية، فالبراق من مكة إلى بيت المقدس، ومن بيت المقدس إلى السموات العلا كان الصعود عن طريق المعراج أو المعراج، وهو آلة يعرج عليها ويُصْعَدُ بها كالسلم أو الدرج أو المصعد عندنا في حياتنا.(5/116)
قال نبينا عليه الصلاة والسلام كما في مغازي ابن إسحاق – [فأتيت بالمعراج فلم أر شيئا أحسن منه] وهو الذي يشخص إليه الميت بعينيه إذا حضره أجله] فالميت عندما يموت ينظر إلى فوق، فينظر إلى هذا المعراج الذي ستعرج إليه روحه.
[وكان مرقاة من ذهب ومرقاة من فضة، وكان مكللا ً باللؤلؤ من جنة الفردوس] فهذا هو المعراج نؤمن به ونفوض العلم بكيفيته إلى ربنا جل وعلا، وعما قريب سيراه كل واحد وينظر إليه بعينه عندما يحضره أجله ويرى مقعده من الجنة أو النار عن طريق المعراج فإذا كان صالحاً فتحت له أبواب السماء وإلا أغلقت.
الآية الثانية:
آيات رآها عندما عرج به إلى السموات:(5/117)
ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث مالك بن صعصعة، عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: ".... فانطلق بي جبريل حتى أتى السماء الدنيا (السماء الأولى) فاستفتح (استأذن) فقيل من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد " [عليه صلوات الله وسلامه] وهذا أي قول الملائكة من معك يحتمل أن السماء شفافة فرأوا من هو خارجها أو أنهم سمعوا حساً للنبي عليه الصلاة والسلام معه، أو رأوا زيادة أنوار عرجت عندما ارتقى جبريل فاستفتح من أجل أن يلج السماء فقيل من؟ قال: جبريل، قيل ومن معك؟ قال: محمد [فقال (حراس السماء الدنيا) أَوَقَدْ بعث إليه؟] أي أذن له بأن يدخل وطلب لمناجاة الله، وسؤال الملائكة هذا يحتمل عدة أمور إما أنه من باب التعجب إذ كيف حصل للنبي صلى الله عليه وسلم هذه المرتبة العظيمة الجليلة، فتعجب الملائكة من هذا، أو أن هذا للاستبشار، أي استبشاراً بلقائه وفرحاً بمجيئه، ويحتمل (قاله الحافظ) أنهم قالوا هذا إعلاماً للنبي صلى الله عليه وسلم بأنهم يعلمون أنه سيأتي ويؤذن له في الدخول فكأنهم يقولون: نحن عندنا علم بمجيئه لكن هل حان الوقت وبُعث إليه وأرسلك الله يا جبريل إليه في هذا الوقت؟ أي نحن علمنا بأنه محمداً صلى الله عليه وسلم سيأتي ويدخل لكن ما حُدَِِّدَ لنا الوقت، [فقال: نعم، فقيل: مرحباً به فنعم المجيء جاء، ففتحت السماء، فلما خَلَصْتُ (أي دخلت إليها وسرت فيها) فإذا فيها آدم، فقال جبريل: هذا أبوك آدم فسلم عليه، فسلمت عليه، فرد علي السلام ثم قال لي مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح] .
إخوتي الكرام.... ثم عرج به إلى السماء الثانية، ولكنا سنذكر على سبيل الاختصار الأنبياء الذين لقيهم في هذه السموات السبع، ولا أريد أن أستعرض ألفاظ الحديث لأنه في كل سماء لما يستأذن يُقال: أو قد بعث إليه؟ فيقال: نعم، فيفتح له فيقول فإذا فيها فلان من الأنبياء.... ومن أراد نص الحديث فليرجع إليه في صحيح البخاري أو مسلم.(5/118)
ففي السماء الأولى (السماء الدنيا) نبي الله آدم عليه السلام.
وفي السماء الثانية ... ... نبيا الله عيسى ويحيى عليهما السلام.
وفي السماء الثالثة ... ... نبي الله يوسف عليه السلام.
وفي السماء الرابعة ... ... نبي الله إدريس عليه السلام.
وفي السماء الخامسة ... ... نبي الله هارون عليه السلام.
وفي السماء السادسة ... ... نبي الله موسى عليه السلام.
وفي السماء السابعة ... ... نبي الله وخليله إبراهيم عليه السلام.
الأنبياء كلهم جمعوا لنبينا عليه الصلاة والسلام في بيت المقدس، أما في السموات السبع فما اجتمع إلا بثمانية من الأنبياء (1)
__________
(1) هل ترتيب الأنبياء في السموات السبع باق ٍ أم أنهم رُتِّبُوا كذلك لحادثة الإسراء والمعراج للنبي صلى الله عليه وسلم؟ وإذا كانوا باقين حسب هذا الترتيب فأين الأنبياء والرسل الباقون عليهم السلام؟
الجواب: هؤلاء الأنبياء ليست مساكنهم في السماء إنما [الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام 0 رواه أبو يعلى والبزار ورجال أبي يعلى ثقات، انظر المجمع (8/211) وقد نصَّ المُناوي في فيض القدير (3/184) على أن الحديث في درجة الحسن وهو من حديث أنس ٍ رضي الله عنه، والحديث رواه أيضاً البيهقي في حياة الأنبياء وتمام في فوائده وابن عساكر في تاريخ دمشق، انظر الجامع الكبير (1/359) ، لكن جمعوا في بيت المقدس وليست مساكنهم – إنما كما قلنا – إما أن أرواحهم تشكلت أو خرجوا من قبورهم واجتمعوا في بيت المقدس لعلة يعلمها الله ولا نعلمها وهو من أمور الغيب وخوارق العادات.
وجُمِعَ بعضهم في السموات، وليست مساكنهم ولا هم يجلسون فيها، لكن ينبغي أن يحصل لنبينا عليه الصلاة والسلام لقاء لمن حالُه يشابه حالَه، ولذلك رتب هؤلاء، وهناك بعض من لم؟؟؟؟؟؟؟ له ولم يلقه في السموات وهو أفضل ممن رتب له كنبي الله نوح – وهو من أولي العزم ولم يذكر ويرتب ولم يكن في هذه السموات في لقاء خير البريات عليه صلوات الله وسلامه، لأنه ليس بينه وبين نبينا عليه الصلاة والسلام – في حاله مع أمته – أي مشابهة، فقومه لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً وما استجاب له إلا قليل، ولو رتب لنبينا عليه الصلاة والسلام لربما فهم نبينا عليه الصلاة والسلام - سيصبر ويصبر ويصبر وأن حال هذه الأمة كمن يريد أن يخض الماء ليخرج منه زبداً!! ولربما قال: أنا حالي يشبه نبي الله نوح عليه السلام.
ولذلك قلنا عُرِض له من يشبه حاله مع أمته كحال أولئك، لترتيبات معينة فإذن ليست منازلهم في السماء على هذا الترتيب إنما رتبوا في حادث الإسراء والمعراج هذا الترتيب.
ولماذا كان هذا الترتيب؟ هذا هو الذي استعملنا عقولنا في إدراك حكمته، وأما بعد ذلك فأعيدوا قبورهم وهم أحياء يصلون باستثناء نبي الله عيسى عليه السلام الذي رفعه الله إليه.
وسأضرب لكم مثلاً ولله المثل الأعلى، لما يأتي أمير إلى مسؤول فإنه يرتب له شخصيات معينة للقائه على حسب وزنه ومنزلته، وليس هؤلاء مكانهم هذا، إنما جيء بهم في هذا الوقت لأجل لقاء طارئ وهنا كذلك.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(5/119)
إن قيل: ما الحكمة في الاقتصار على هؤلاء الأنبياء فقط دون غيرهم، وكونهم بهذا الترتيب من السماء الأولى إلى السابعة؟
فنقول:
أما آدم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه فجعل في السماء الأولى ليحصل مباشرة أُنس النبوة بالأبوة، الابن محمد عليه الصلاة والسلام والأب الأول للبشرية كلها آدم عليه الصلاة والسلام، ولم يجعل في السماء الأولى من باب دنو منزلته إنما من باب أن هذا أب أول لجميع البشر، ولذلك فينبغي للابن أن يلتقي بأبيه قبل غيره.
ولذلك لو دخلت بيتك الذي فارقته سنوات ورأيت أخاك ولم تر أباك لن تفرح وتسعد حتى ترى أباك، وهذا مشاهد ومجرب.
ليكون في ذلك إشارة أيضاً – كما قال الحافظ ابن حجر نقلا ً عن السهيلي وابن أبي جمرة – إلى أنك يا محمد بعد هذه الحادثة سيحصل لك ما حصل لأبيك فلا تحزن.
وماذا حصل لآدم؟
خروج من الجنة وهي وطنه، وأنت سيحصل لك خروج من مكة، وبالفعل حصل هذا بعد سنة ونصف، ولذلك قلنا الإسراء وقع قبل الهجرة بسنة ونصف.
وآدم بعد خروجه من الجنة ازداد رفعة، وكان آدم بعد خروجه خيراً منه قبل خروجه (ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى) ، فاجتباه ربه بعدما خرج، وأما ما حصل منه ف [كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون] وإذا أقلع الإنسان عن معصية وأناب يكون حاله بعد المعصية خيراً من حاله قبل التوبة.
إذن فسيحصل لك ما حصل لآدم وليس في هذا مضرة عليك فكما أن آدم بعد خروجه ارتفع قدره وعلا ذكره ولو بقي في الجنة لما وجدت هذه البشرية التي توحد الله وتعبده فقدر الله له الخروج (ليقضي الله أمراً كان مفعولاً) ، وأنت بعد خروجك سيرتفع ذكرك ويعلو أمرك ويظهر دينك وهذا الذي حصل.(5/120)
لاسيما وقد ذكرنا في الآيات التي رآها في رحلته من مكة إلى بين المقدس أنه أمره جبريل بالصلاة في مكان ثم أخبره أنه صلى بطيبة، ثم قال له وإليها المهاجرة بفتح الجيم، أي ستكون دار لهجرتك، فإذن أخبر في الأرض أنه سيهاجر، فحتى لا يصبح في قلبه شيء ويخاف – هذا من الطبائع البشرية – وحتى لا ينكسر قلبه ويغتم ارتفع به إلى الكمالات وقابل هناك الأب الصالح أول من قابل فكأنه قيل له: الهجرة فيها خير كما حصل في الانتقال لهذا الأب الذي تقابله خير عندما هاجر من الجنة إلى الدنيا.
ولِمَ كان عيسى ويحيى عليهما السلام في السماء الثانية؟
هناك عدة أجوبة والجواب المعتمد وهو الحق إن شاء الله وهو من باب الحكم التي تُشم كشم الوردة: لأنه ليس بين نبينا عليه الصلاة والسلام وبين نبي الله عيسى نبي آخر فهو أولى الناس به، وأما يحيى فهو ابن خالة عيسى فبما أنهما ابنا الخالة فقُرِنا في سماء واحدة، وقد ثبت في الصحيحين عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: [أنا أولى الناس بعيسى بن مريم في الدنيا والآخرة، والأنبياء إخوة لعلات أمهاتهم شتى دينهم واحد] وفي رواية أخرى مختصر البخاري (7341) [أنا أولى الناس بابن مريم والأنبياء أولاد علات ليس بيني وبين نبي] .
فإذن بعد أن حصل أُنس النبوة بالأبوة سيلتقي بعد ذلك بإخوانه الذين هم أقرب الناس إليه من غيرهم وأولهم عيسى عليه السلام.
أما يوسف، فالحكمة من كونه في السماء الثالثة بعد الثانية بعد أن حصل أُنس النبوة بالأبوة وأنس الأخ بأخيه الأقرب، فإنه سيحصل لنبينا عليه الصلاة والسلام أُنس خاص بنبي فيه شبه بنبينا عليه الصلاة والسلام من وجهين:(5/121)
حسن الصورة وبهاء المنظر وجمال الطلعة، فنبي الله يوسف أعطاه الله شطر الحسن، ونبينا عليه الصلاة والسلام له الحسن بكامله. فأجمل الناس بعد نبينا عليه الصلاة والسلام هو يوسف فعندما يرى هذا النور يتلألأ منه يحصل حينئذ شيء من الشبه الظاهري، يضاف إليه شبه آخر يتعلق بالدعوة وهو:
أنه لاقى مكراً وكيداً من أخوته لأبيه، وقرابته حيث مكروا به وألقوه في الجب وبعد ذلك مكن الله له في الأرض وجاءه إخوته فقال لهم (هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون قالوا إنك لأنت يوسف، قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين، قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين، قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين) سورة يوسف 89-92، وما حصل ليوسف هو عين ما حصل لنبينا عليه الصلاة والسلام فآذاه قرابته وعشيرته وطردوه من مكة وسيؤذونه وسيعيده الله بعد ذلك وسيقول لهم ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم فيقول، لا تثريب عليكم اليوم، اذهبوا فأنتم الطلقاء الأحرار وقد وقع كل هذا، فهذا أيضاً شبه، فليحصل إذن استحضار لتلك المعاني، الصورة واحدة وما حصل لهذا النبي من المكر فسيحصل لك، وما حصل له من الظفر والنصر سيحصل لك.
4- وأما السماء الرابعة ففيها إدريس عليه الصلاة والسلام، كما قال الله تعالى (ورفعناه مكاناً علياً) وإنما قال مكاناً علياً وهو في السماء الرابعة وليس في السابعة لأنه في الوسط، والوسط مكان مرتفع ومعتدل.
وفي ذلك إشارة إلى أن هذا العلو الذي حصل لهذا النبي بعد الثالثة – وهي الرابعة – سيحصل لنبينا عليه الصلاة والسلام في هذه الحياة الدنيا وقد حصل له، وأن رسالتك وديانتك وسط (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً) خياراً عدولاً تعتدلون في أحكامكم التي أنزلها ربكم عليكم.(5/122)
5- وأما السماء الخامسة ففيها هارون عليه الصلاة والسلام، وفي ذلك إشارة إلى قربه من نبي الله موسى وهارون تابع لموسى عليهما الصلاة والسلام فليكون إذن بمثابة تمهيد للقاء موسى عليه السلام.
وفي ذلك إشارة لنبينا عليه الصلاة والسلام ليوطن نفسه على تحمل ما تحمله هارون من موسى عليهما السلام.
وفي ذلك أيضاً إشارة عظيمة أيضاً وهي أن هارون رجع قومه إلى محبته بعد أن نفرتهم منه وعداوتهم له، وهذا سيحصل لنبينا عليه الصلاة والسلام فقومك سيحبونك بعد معاداتهم لك، فحالك كحال هارون فقد كان محبباً في قومه أكثر من نبي الله موسى عليه السلام وكانوا ينفرون من موسى ويأنسون بهارون عليهما صلوات الله وسلامه للين عريكته وعدم شدته وله فيهم منزلة عظيمة، الحاصل أن في لقائه بهارون تذكير له بطبيعة موسى ولذلك كأنه يقال: إذا لقيت موسى فاصبر وتحمل فإن له مقامات عند ربه وهو مدلل عنده.
6- وأما موسى عليه الصلاة والسلام، فاجتمع بهذا النبي في السماء السادسة ليعلم أنه رفيع القدر أعلى من هارون، فنبينا أعلى من هارون كما أن موسى أعلى من هارون إذن فأنت أعلى ممن تقدمك والحكمة الثانية: ليحصل لك ما حصل لهذا النبي من؟؟؟؟ فعاداه فرعون قومه فصبر فمكنه الله منه ونصره عليه، فأنت سيعاديك فرعون هذه الأمة – أبو جهل – فاصبر وستمكن منه وستقطع رقبته في يوم بدر وهذا الذي حصل، فيوم بدر بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم كغرق فرعون بالنسبة لموسى عليه الصلاة والسلام.
7- أما السماء السابعة، فكأنه يقال له: بدأنا الأمر بالأب الأبعد فلنختمه بالأب الأدنى وهو خليل الرحمن إبراهيم، أبو العرب، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم (ابن الذبيحين) فعبد الله ذبيح لأن عبد المطلب نذر أن يذبح أحد أولاده إذا عثر على زمزم فوقعت القرعة على عبد الله ثم فكه بعشر ديات، وإسماعيل ذبيح بنص القرآن، وقد نجى الله الذبيحين.(5/123)
فكما أنك استأنست بأبيك الذي هو أبعد الآباء فلتستأنس بأبيك الذي هو أقرب الآباء إليك ممن هو نبي وهو خليل الرحمن، وليس في آبائه نبي آخر بعد ذلك ليستأنس به جاء من عبد المطلب أو غيره.
وحكمة ثانية: فأنت خليل وهو خليل فلابد أن يجتمع الخليل مع الخليل ثم إن خلتك أعلى من خلته لأنك سترفع إلى مكان فوقه بعد ذلك فرغم أنه في أعلى الرتب وهي السماء السابعة لكن نبينا صلى الله عليه وسلم سيرفع إلى مكان فوقه.
وفي ذلك إشارة – أيضاً – كما قال علماؤنا: إلى ما سيحصل لنبينا عليه الصلاة والسلام في المستقبل، فالسماء السابعة فيها خليل الرحمن إبراهيم، وأنت ستخرج من مكة وستدخلها في العام السابع في عمرة القضاء بعد صلح الحديبية لأن هذا كان في العام السادس وقد تم الاتفاق على أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في السنة التالية ورُدَّ هذا العام، فجاء في العام السابع ودخل مكة واعتمر، ثم في العام الثامن فتحت مكة إذن فهذه المناسك التي في مكة وأقام إبراهيم هذا البيت على الدعائم الأولى التي أسس عليها البيت فأنت ستعود لمكة في العام السابع وستفرض عليك مناسك الحج كما فرضت على خليل الله إبراهيم (وأذن في الناس بالحج) ، وأنت ستؤذن وتدعو الناس إلى لك.
فهذا هو مجمل الحكم عن الالتقاء بهؤلاء الأنبياء الثمانية صلوات الله وسلامه عليهم.
تعارض وجمع:
ورد في بعض روايات البخاري أن نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام [لقيه نبينا عليه الصلاة والسلام في السماء السابعة] ، قال الحافظ ابن حجر: ورد هذا في رواية أنس وشَرِيك ضبط هذا....؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
وشريك هذا هو الذي يروي حديث الإسراء والمعراج عن أنس رضي الله عنه، وله أوهام لكن هنا – كما يقول الحافظ- ضبطه وليس هذا من أوهامه.
[وموسى في السماء السابعة بفضل كلام الله له] .(5/124)
قال الحافظ ابن حجر: لا إشكال بين هذه الرواية والروايات المتقدمة ولا تعارض فنبي الله موسى مكانه الحقيقي في السادسة لكن بعد أن عرج بنبينا عليه الصلاة والسلام السابعة صحبه موسى إلى غير داره الحقيقية كمرافق بفضل كلام الله له.
أي بما أن الله كلم موسى تكليماً واتخذ إبراهيم خليلاً فجمع الله الخليلين مع الكليم في السماء السابعة، هذا هو الجمع المعتبر.
وبقي موسى في السماء السابعة حتى عاد نبينا عليه الصلاة والسلام، وظهر أثر هذا: مَرَّ عليه وسأله ماذا فرض عليك؟ قال: خمسين صلاة، قال ارجع فسله التخفيف إلى أن خفضت إلى خمس، فنبينا عليه الصلاة والسلام لم يكن ينزل إلى السادسة إلى موسى ويسأله عما فرض عليه، ويمر مروراً على إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام.
فإذن موسى عليه الصلاة والسلام لازال منتظراً له في السماء السابعة ثم هو معه إلى السماء السادسة ثم بقي فيها وأعيد نبينا عليه الصلاة والسلام إلى مكانه.
ورد في رواية الإمام مسلم – وهذه الرواية ليست في البخاري عن أنس رضي الله عنه – وحديثنا في الآية الثانية وعما فيها من عجائب – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [فإذا بإبراهيم مسنداً ظهره إلى البيت المعمور، فإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه] والبيت المعمور الذي هو في السماء كالكعبة في الأرض.
وهذه آية عظيمة رآها نبينا عليه الصلاة والسلام.
قال الحافظ ابن حجر "وفي هذا دلالة على أن أكثر المخلوقات هم الملائكة فلابد لجنس من الأجناس تزايد وتكاثر بهذه النسبة، فمنذ أن أوجد الله الكون إلى هذه الساعة يدخل إلى البيت المعمور سبعون ألفاً لا يعودون إليه، فالملائكة هم أكثر خلق الله (وما يعلم جنود ربك إلا هو) .
والإنسان وكل الله به 160 ملكاً، وفي حديث عند الطبراني: [وكل الله بالمؤمن 160 ملكاً يحفظونه للبصر من ذلك سبعة أملاك] وهو في المعجم الكبير وسنده ضعيف.(5/125)
والله يشير إلى هذا في كتابه (له معقباتٌ من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله) فهناك ملائكة تتعاقب على حراسته وحفظه ويعقب بعضها بعضاً في تقييد عمله وتسطير ما يحصل منه.
وقد جرى في السماء السادسة عند رؤية نبينا عليه الصلاة والسلام لنبي الله موسى كليم الله موقفٌ ينبغي أن نقف عنده.
المحاضرة الثانية عشرة
6/4/1412هـ
هذا الموقف لما تجاوز نبينا عليه الصلاة والسلام موسى بكى – أي موسى- فقيل له ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلاماً بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي] هذه رواية وورد أيضاً في رواية ابن مسعود رضي الله عنه [أن نبينا عليه الصلاة والسلام لما مر بموسى هو يرفع صوته فيقول: أكرمْتَهُ، وفضلْتَهُ، فقال نبينا عليه الصلاة والسلام من هذا؟ فقال جبريل: هذا موسى، قال: ومن يعاتب؟ فقال: يعاتب ربه فيك، قال: كيف يرفع صوته على ربه؟ فقال: إن الله قد عرف له حدته] أي انفعاله وغضبه.
وفي رواية في مسند أبي يعلى والبزار بسند حسن [أن نبينا عليه الصلاة والسلام قال: سمعت صوتا وتذمرا فسألت جبريل، فقال هذا موسى، قلت ـ على من تذمر؟ قال: على ربه، قلت: على ربه؟! قال: إنه قد عرف ذلك منه.]
والتذمر شبه الاعتراض والتأثر.
وهذا الموقف الذي جرى من نبي الله موسى ينبغي أن نقف عنده لنحلله وننظر إليه:
ما جرى من نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام لا يعتبر حسداً، فالحسد من الكبائر والأنبياء معصومون عن ذلك، وحاشا لنبي أن يكون حسوداً وحاسداً لأحد على ما فضله الله وأنعم به عليه.
فإن قيل: فما تعليل هذا الكلام إذن؟(5/126)
نقول: إن موسى عليه الصلاة والسلام قال ما قال من باب الحزن على ما فاته من؟؟؟؟ الذي سبقه به محمد عليه الصلاة والسلام، وكان ذلك الحزن منه بسبب أمته – نبي إسرائيل فعندما لم يتبعوه على الوجه الكامل المرضي لم يكن لهم من الحسنات كما لهذه الأمة ولو اتبعوه ابتاعاً كاملاً لحصل هم حسنات ثم كتبت حسناتهم في صحيفة نبي الله موسى من دل على خير فله أجر فاعله، ولذلك نبينا عليه الصلاة والسلام له أجر هذه الأمة إلى أن تقوم الساعة.
ولعل الله أعلم موسى بذلك وأن هذه الأمة حالها ليس كحال أمتك ومن أجل هذا ارتفع هذا النبي عليك لزيادة قدره عندي لأن حسناته لم يأت بها أحد من خلقي، فعدا عن حسناته الخاصة وجهده الذاتي فإن له حسنات تأتي بسببه بعد ذلك فيكتب له أجره إلى يوم القيامة.
فموسى عليه الصلاة والسلام عندما جاوزه نبينا عليه الصلاة والسلام بدأ يحصل منه هذا التذمر لا من باب حسد نبينا عليه الصلاة والسلام إنما من باب الحزن على ما فرطت به بنو إسرائيل مما أدى به إلى أن تكون منزلته نازلة.
وأضرب لكم مثلاً: لو أن عندك ولداً عنيداً بليداً وأنت تبذل ما في وسعك لتوجيهه فلا يتوجه. ثم مرَّ بك بعد ذلك بعض أولاد أصحابك وكان عليه ذكاء ونجابة وألمعية فأنت قد يحصل منك الآن تذمر وانفعال وغضب على ولدك وقد يسوء كلامك وخلقك؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟.
وهذاهو الذي حصل من نبي الله موسى، فإنه ليس من باب الحسد إنما من باب الحزن والتأنيب لقومه وأمته على ما تسببوا به من إنزال مرتبته.
ونسأل الله أن لا يجعلنا ممن يسودون وجه نبينا عليه الصلاة والسلام وأن يجعل نبينا عليه الصلاة والسلام يباهي بنا الأمم يوم القيامة، إنه على كل شيء قدير.
2- قوله عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه غلام، وليس في هذا تحقير فانتبه لهذا فإن الإنسان يمر بأربعة مراحل رئيسة في عمره:
أ- المرحلة الأولى: غلام، ما دون التكليف من 15 سنة فما دونها.(5/127)
ب- المرحلة الثانية: شباب، وهي من 15 سنة إلى 30سنة ومدها الإمام ابن القيم إلى 40 سنة، وقال هذا حد الشباب وفيها – أي في الأربعين – تكتمل قوى الإنسان ويبلغ أشده (حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة) ، وما بعث الله نبياً إلا على أربعين هذا على الأعم الأغلب، انظروا روح البيان للألوسي (26/18، 19) ، لأن قواه العقلية تكون قد اكتملت وتكون عنده التؤدة والتأني والثبات والرزانة ووضع الأمور في مواضعها.
جـ- المرحلة الثالثة: كهولة، وهي من 40 سنة – إلى 60 سنة.
د- المرحلة الرابعة: شيخوخة، وهي من 60 سنة إلى الوفاة نسأل الله حسن الخاتمة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يجوز ذلك] والحديث في المسند والسنن بسند صحيح.
فإذن قوله غلام أي لازال صبياً ناهز الاحتلام، فلم يصفه بأنه شاب وكيف هذا؟
ذكر أئمتنا جوابين عن هذا:
1- الجواب الأول: ونقل عن المتقدمين كابن أبي جمرة وغيره، أن هذا من باب دالة موسى على نبينا عليه الصلاة والسلام.
فموسى أكبر منه، ونبينا مع موسى كالغلام مع الشيخ من ناحية العمر، فهو وإن كان يزيد على الخمسين سنة (51 سنة ونصف) ودخل في الكهولة فعبر عنه بأنه غلام – في أول مراحل العمر بالنسبة إلى عمر نبي الله موسى، فالفارق بينهما يجعل هذا العمر الذي يزيد على خمسين سنة كأنه سنة مع عمر نبي الله موسى عليه صلوات الله وسلامه، لاسيما وأن لموسى دالة عليه ومنزلة لكبر سنه ولسبقه له في النبوة والرسالة، ولأنه سيشير عليه – كما سيأتي – بأمر ينفعه وينفع أمته فجزاه الله عنا خيراً.
2- الجواب الثاني: ذكره الحافظ ابن حجر – وهو في تقديري أقوى الجوابين – فقال إن هذا ليس من باب أن نبينا مع موسى كالغلام مع الشيخ، إنما عبر بغلام هنا ليخبره عن قوة نبينا عليه الصلاة والسلام وعزمه ونشاطه.(5/128)
فهو كبير في العمر لكن همته همة الشباب، وهمته همة من لم يعرف تعباً في الحياة بل لازال؟؟؟؟؟؟ له كل شيء وهو جاهل لذلك قوته مجتمعة لم تبذل هنا وهناك، ولم يتعب في حياته وهذا هو حال الناس.
فإذن ليدلل على عزيمته وقوته رغم كونه في سن الكهولة، وهذا حاله صلى الله عليه وسلم، يقول على رضي الله عنه [كنا إذا اشتد الوطيس وحمت المعركة أشجعنا يلوذ برسول الله صلى الله عليه وسلم] .
وفي غزوة حنين عندما نصب المشركون كميناً للنبي صلى الله عليه وسلم والصحابة؟؟؟؟؟؟ بنبال كالمطر فتفرق الصحابة، وثبت النبي صلى الله عليه وسلم وكان يردد: أنا النبي لا كذب *** أنا ابن عبد المطلب
ثم قال يا عباس، نادِ في الصحابة، يا أهل بيعة العقبة، يا أهل بيعة الشجرة، يا أهل بدر أي نادهم يا عباس ليجتمعوا إليَّ وهو ينادي ويقول:
أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلبج
فإذن ما فيه من عزم ونشاط هو عزم الشباب لا عزم الكهولة ولذلك سماه غلاماً؟؟؟؟ هو في آخر مراحل الغلام وأول مراحل الشباب.
قال الحافظ ابن حجر: وقد تأيد هذا بالحديث الصحيح الثابت في صحيح البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه [أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطوف على نسائه التسع في الساعة الواحدة من ليل أو نهار بغسل واحد فقيل لأنس: أو كان رسول الله عليه الصلاة والسلام يطيق ذلك؟ فقال: كنا نتحدث أن الله أعطاه قوة ثلاثين] .
وفي كتاب صفة الجنة لأبي نُعيم بسند صحيح – [أن الله أعطاه قوة أربعين رجلا ً من أهل الجنة] وقوة الرجل في أهل الجنة تعدل قوة مائة رجل من أهل الدنيا أكلا ً وشرباً ومباشرة.(5/129)
فنضرب 40×100 فيكون الناتج 4000، إذن قوة نبينا عليه الصلاة والسلام إذا قورنت برجال أهل الأرض فإنها تعدل قوة (4000) رجلا ً، فهل يكون من هذا شأنه كهلا؟!! ولذا قيل له غلام؛ لأن مَنْ هذا حاله وشأنه لا يقال فيه [هذا الشيخ أو الكهل الذي بعث بعدي فقد يفهم منه أنه ضعيف ليس عنده قوة] ، فرسولنا صلى الله عليه وسلم فيه نشاط الغلمان لا عمرهم، وعمره عمر الكهول.
وهذا خير ما يكون في الإنسان رزانة ووقار أي كبير في السن، لكن عزمه قوي يغلب عزم الشباب.
إخوتي الكرام ... يكرم الله جل وعلا عباده بما شاء سبحانه وتعالى، وقد ذكر أئمتنا في ترجمة سُليم بن عِتْر قاضي مصر في عهد معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وسُليم هو من أئمة التابعين توفي سنة 75هـ ذكر أئمتنا أنه كان يختم كل ليلة ثلاث مرات – وهو؟؟؟؟ ويتصل بأهله ثلاث مرات.
وهذه قوة عجيبة يكرم الله بها عبده، فأولاً يختم القرآن في كل ليلة وهذا ورد ثلاث مرات وهو القاضي الذي فرغ نفسه لشؤون الناس في النهار فإذا جن الليل؟؟؟؟؟.
وقد ذكر هذا في سير أعلام النبلاء للذهبي 4/132،وفي غيره.
يقول الإمام الذهبي في ترجمته: "سُليم بن عِتْر الإمام الفقيه قاضي مصر ووعظها وقاصُّها وعابدها – "ثم قال: "وروي عنه أنه كان يختم كل ليلة ثلاث ختمات ويأتي امرأته ويغتسل ثلاث مرات، وأنها قالت بعد موته: رحمك الله، لقد كنت ترضي ربك وترضي أهلك" إلخ ترجمته.
ويقول الشيخ شعيب الأرناؤوط – وهو المعلق على سير أعلام النبلاء -: ولا يعقل ذلك، ربما لا يصح عنه"
لماذا لا يعقل هذا؟ وقد قلنا إن خارق العادة ليس بمستحيل ولا بمخالف للعقل.
فلو أن الله أكرم أحد عباده بأن يختم القرآن كل ليلة مائة مرة يعقل هذا أم لا يعقل؟ بل يعقل وأن يتصل بأهله مائة مرة، يعقل هذا أم لا يعقل؟ بل يعقل.
فلماذا لا يعقل وليس هو بمستحيل، لذلك فانتبهوا إخوتي الكرام إذا أردتم أن تتكلموا وزنوا كلامكم بميزان الشرع.(5/130)
ولو قال هذا المعلق: "هذا غريب والله على كل شيء قدير" فلا بأس، ولكن انظر كيف يقول لا يعقل وربما لا يصح، فما دام ليس معقولاً عندك قل لا يصح ولا تقل ربما، فإذن كيف صار كلا منا لا احتراز فيه ولا احتراس ثم قال:؟؟؟؟ لأنه مخالف لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: (لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث) رواه أبو داود والترمذي بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص.
ولكن نحن نقول هذه كرامة وليست من المستحيلات حتى نردها.
والإمام النووي في كتابه التبيان في آداب حملة القرآن – وهذا الكتاب – لابد أن يكون عند كل طالب علم، وهكذا كتاب (الأذكار) وهكذا (رياض الصالحين) فهذه الكتب الثلاثة للإمام النووي لا يكون في البيت خير أو نور إذا لم تكن هذه الكتب فيه، وينبغي أن تجهز هذه الكتب في جهاز المرأة عندما تزف لزوجها.
فالإمام النووي في هذا الكتاب – التبيان – في ص 47 يقول: "كان السلف رضي الله عنهم لهم عادات مختلفة في قدر ما يختمون فيه، فروى ابن أبي داود عن بعض السلف رضي الله عنهم أنهم كانوا يختمون في كل شهرين ختمة واحدة، وعن بعضهم في كل شهر ختمة وعن بعضهم في كل عشر ليال ختمة، وعن بعضهم في كل ثمان ليال، وعن الأكثر في كل سبع ليال وعن بعضهم في كل ست ليال وعن بعضهم في كل خمس ليال، وعن بعضهم في كل أربع ليال وعن كثيرين في كل ثلاث ليال، وعن بعضهم في كل ليلتين، وختم بعضهم في كل يوم وليلة ختمة، ومنهم من كان يختم في كل يوم ليلة ختمتين ومنهم من كان يزيد عن ثلاثة، وختم بعضهم ثماني ختمات أربعاً بالليل وأربعاً بالنهار".
فمن الذين كانوا يختمون ختمة في اليوم والليلة عثمان بن عفان وتميم الداري وسعيد بن جبير ومجاهد والشعبي وآخرون.
ومن الذين كانوا يختمون ثلاث ختمات سُليم بن عِتْر – وهذا هو الذي ذكرنا قصته – وكان؟؟؟؟؟؟؟؟(5/131)
ثلاث ختمات، وروى أبو عمر الكندي في كتابه في قضاة مصر أنه كان يختم في الليل أربع ختمات، قال الشيخ الصالح أبو عبد الرحمن السلمي: سمعت الشيخ أبا عثمان المغربي؟ كان ابن الكاتب رحمه الله يختم في النهار أربع ختمات وفي الليل أربع ختمات، وهذا ما بلغنا في اليوم والليلة.
ثم يقول في آخر المبحث: "والاختيار أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص فمن كان يظهر بدقيق الفكر لطائف ومعارف فليقتصر على قدر ما يحصل له كمال فهم ما يقرأه، وكذا من كان مشغولا ً بنشر العلم أو غيره من مهمات الدين ومصالح المسلمين العامة فليقتصر على قدر يحصل بسببه إخلال بما هو مُرصد له، وإن لم يكن من هؤلاء المذكورين فليستكثر ما أمكنه من غير خروج إلى حد الملل والهذرهة".
هذا كله – كما قلت – يخرج منه ما ذكر – أن هذا من باب الكرامة
فسعيد بن جبر رحمه الله ثابت بالإسناد الصحيح إليه أنه كان يختم القرآن بين المغرب والعشاء.
كيف هذا والوقت بين المغرب والعشاء قصير لا يزيد على ساعتين على أكبر تقدير، ولو أخر العشاء ساعة فهل يختم القرآن في ثلاث ساعات؟ على أقل تقدير الحافظ المجد الذي يقرأ القرآن عن ظهر قلب قراءة حدراً يحتاج إلى خمس ساعات، فكيف إذن قرأه سعيد ابن جبير بين المغرب والعشاء؟
نقول هذه كرامة، إذ كيف أسري بنبينا عليه الصلاة والسلام وعرج به وحصل له ما حصل في هذه الرحلة المباركة في جزء من الليل.
ولذلك يقول أئمتنا عن هذه الكرامة التي تقع في وقت قصير هي من باب (نشر الزمان: أي توسعته، فهذا الزمن يوسع في حقك لكنه يبقى بالنسبة لغيرك كما هو.
إخوتي الكرام ... الذي ينظر في أحوال سلفنا فسيجد حقيقة أن الله كان يبارك لهم في كل شيء في طعامهم وشرابهم وأولادهم وأهليهم، وبيوتهم وعلمهم.
بعض مؤلفات بعض العلماء لو أردنا أن نقرأها فستنتهي أعمارنا قبل أن؟؟؟؟ من قراءتها فقط فكيف بمن ألفها كيف ألفها في هذا الزمن؟(5/132)
مؤلفات ابن الجوزي زادت على (500) مصنف ولا أقول مجلداً، فـ (زاد المسير) هو أحد كتب ثلاثة له في التفسير يقع في (9 مجلدات) ، و (المغني) له في (20مجلداً) ، و (المنتظم) له في (10 مجلدات) ، وصفة الصفوة له أيضاً في (4 مجلدات) وحدث بعد ذلك وما شئت ومع ذلك يروي هذه الكتب بالسند، وهي كتب موجودة بين أيدينا الآن!!
وأما السيوطي فمؤلفاته زادت على (900) مصنف، يكتبونها كتابة ولو جاء أحد ينسخها نسخاً فقط لما استطاع أن يكتبها طول حياته، فهي كرامة من الله لهم.
فلا يقال بعد ذلك: لا يعقل، بل هي موجودة ووجودها دليل على أنها ليست مخالفة للعقل وليست بمستحيل بل نقول إن هذا خرق للعادة وإكرام من الله لهذا الإنسان والله على كل شيء قدير.
فهو؟؟؟؟ أمي لا يقرأ ولا يكتب – وهو شيخ الإسلام – فإنه إذا سمع حفظ أقوى من جهاز التسجيل ولا يخطئ ولا يلحن بحرف، حدثه بمائة حديث بأسانيدها بمجلس واحد، يعيده لك على الترتيب، أوليس قد جرى نحو هذا للبخاري؟
فعندما أراد الذهاب لبغداد أرادوا أن يمتحنوه فعمدوا إلى مائة حديث، فقسموها على عشرة طلاب فكل طالب عنده عشرة أحاديث، فأخذوا متون أحاديث زيد وأعطوه لعمرو ومتون أحاديث عمرو لزيد، ومتون أحاديث خالد أعطوها لمحمد ومتون أحاديث محمد لخالد وهكذا فعلوا بالعشرات الباقية.(5/133)
فلما جاء إلى بغداد وكما قلنا أرادوا أن يمتحنوه وهل هو أمير المؤمنين في الحديث أم لا؟، في الأول قال: حديث كذا بإسناد كذا، فقال: لا أعرفه، ثم قال الثاني كذلك أحاديثه والثالث والرابع....... حتى انتهى العشرة وهو يقول في الأحاديث كلها لا أعرفه، فالذين يعرفون هذا المقلب يقولون: هو إمام هدى ثابت راسخ والجهال يقولون: سبحان الله عشرة أحاديث لم يعرف ولا واحد منها، أهذا هو أمير المؤمنين في الحديث!! فلما انتهى العشرة من عشراتهم قال للأول: قم أنت عشرة أحاديثك هي كذا على الترتيب الحديث الأول، الثاني، الثالث، الرابع، وأسانيدها، أسانيد الرابع فاسمعها فذكرها له (أي ذكر البخاري) وهكذا فرد مائة متن لمائة إسناد، فما بقي أحد في المجلس إلا قام وقبل رأسه وجبهته.
فهذا هو العلم
فهل يقال عن هذا لا يعقل؟ أم يقال هذه كرامات أكرمهم الله بها وفضلهم على كثير ممن خلق تفضيلاً، والله لو أراد الإنسان أن يصل إلى هذا المسلك بجده واجتهاده فإنه عاجز عاجز عاجز، إلا إذا من الله عليه بذلك.
فحقا ً إنه أمر عظيم ما حصل من الإمام البخاري ولذلك يقول الإمام العراقي في ألفيته:
.................................. ... نحو امتحانهم إمام الفنججج
في مائة لما أتى بغداد ... فردها وجود الإسناد(5/134)
وهنا في قصته (سُليم) نقول لا يعقل!!!! دعنا من هذا فإن الله يكرم عباده بما شاء، فبعض يكرمه أحياناً بقوة الجسم وأحيانا بقوة الفكر، وأحياناً بهما، وأحياناً وأحياناً فيطوف صلى الله عليه وسلم على نسائه التسع بغسل واحد في ساعة، إن هذا ليس بمقدور البشر والنبي صلى الله عليه وسلم بين لنا أنه إذا اتصل الإنسان بأهله ووجد نشاطاً من نفسه معاودة الوطء فأراد أن يتصل مرة ثانية فليغتسل أو ليتوضأ على أقل تقدير ليكون أنشط حتى لا يعتريه فتور، فكيف به صلى الله عليه وسلم يطوف على نسائه التسع بغسل واحد؟! ثبت في معجم الطبراني بسند رجاله ثقات عن أنس بن مالك رضي الله عنه [أنه كان عنده أكّار – أي مزارع – فاستعدت عليه زوجته – أي اشتكته لأنس – وقالت لا يدعني في ليل ولا في نهار، وجسمي لا يتحمل، فقضى بينهما أنس على أن لا يزيد في كل يوم وليلة على ست مرات] وهذا ثابت في مجمع الزوائد (4/295) في كتاب النكاح، وبوب عليه الإمام الهيثمي باب فيمن يكثر الجماع.
ألزمه بها أنس، لكن كم يريد هو؟ الله أعلم.
فهذا حقيقة خارق للعادة وليس هذا في مقدور البشر.
ولذلك إخوتي الكرام ... من حكمة مشروعية ربنا لتعداد الزواج هذا، فلو أن هناك رجلا ًعنده هذه القوة والشهوة وليس عنده إلا امرأة واحدة فماذا تفعل له؟
هل تعطله وتحجزه عن امرأته؟، أو تتركه يذهب يتلمس طريق الحرام هنا وهناك؟ إن أفضل علاج وأنجحه وأنجعه لمثل هذا هو التعدد، وما ألزم الله أحداً بالتعدد وإن كان رغب فيه وهذا شرع الله الحكيم (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) .
الحاصل أن نبينا عليه الصلاة والسلام كان كهلا ً عندما أسري به لكنه – كما قلنا – شابٌ وفوق الشباب، عليه الصلاة والسلام فإذن هذا ليس من باب التنقيص.
3- كيف يرفع نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام صوته، ويتذمر، والله يتحمل ذلك منه ويعرف له ذلك؟
نقول: هذا مدلل، والمدلل له حساب خاص، فإياك أن تقيس نفسك عليه.(5/135)
سفيان الثوري عليه رحمة الله عندما طلبه الشُّرَطةُ في عهد أبي جعفر المنصور، وطلب في عهد هارون الرشيد أيضاً، فلما كان في عهد أبي جعفر المنصور أرسل في طلب سفيان وأرسل الخشابين قبله إلى مكة وقال لهم انصبوا الأخشاب لأصلب عليها سفيان الثوري، أي يشنقه ويصلبه فذهبت الشُّرَطةُ إلى المسجد الحرام، وسفيان الثوري بين الفضيل بن عياض وسفيان بن عيينة، ورأسه في حجر الفضيل ورجلاه في حجر سفيان بن عيينة ويغطيانه من أجل ألا تراه الشُّرَطةُ ويقبضوا عليه، ثم قالا له: يا سفيان اخرج من المسجد ولا تشمت بنا الأعداء أي اخرج وتوارى فليس حلا ً أن نغطيك هكذا لأنهم سيرونك، فقام رحمه الله ورضي عنه وتعلق بأستار الكعبة وقال: برئت من الله إن دخل أبو جعفر المنصور مكة وأنا حي. مع أن أبا جعفر على الطريق أرسل الخشابين وهو في أثرهم ووراءهم، فلما وصل أبو جعفر على حدود مكة قبض الله روحه فمات، وما دخل مكة، والقصة انظروها في تذكرة الحفاظ وسير أعلام النبلاء في ترجمة سفيان الثوري وفي غيرهما كذلك.
إن قال قائل كيف يصدر هذا من سفيان الثوري؟
نقول: هذا مدلل، فلا تجعل نفسك مثله.
وهذا نبي الله موسى اتخذه نجياً وكليماً (وكلم الله موسى تكليماً) وفضله بذلك، فإذن هو من المدللين، وإذا كان ذلك كذلك فإنه يصبح بين المدلل وبين من يتدلل عليه أحيانا من؟؟؟؟؟؟ مالا يصلح أن تصدر من غيره، وهذا هو الذي جرى من نبي الله موسى، فتحمل الله منه لأنه مدلل.
قال أئمتنا:
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد ... جاءت محاسنه بألف شفيع
(وإذا الحبيب أتى بذنب واحد) ، أخطأ وتذمر ورفع صوته وصاح.
(جاءت محاسنه بألف شفيع) : فهذا يقاوم أعتى أهل الأرض في زمنه ويصبر، فإذا جرى منه وقد كنت قلت لكم أن موسى عليه الصلاة والسلام مظهر للجلال والقهر الإلهي، كما أن عيسى عليه الصلاة والسلام مظهر للجمال، ونبينا عليه الصلاة والسلام مظهر للكمال: (جلال وجمال) .(5/136)
فهذا مدلل وإذا كان كذلك فلا تقس على نفسك، وما جرى منه: حبيب وحبيب يتناجيان بما بينهما، فهل يجرؤ أحد منا أن يذهب إلى الكعبة ويقول يارب إني أبرأ منك إذا لم تقتل فلاناً وأمته؟
والله إني لأخشى أن تنزل عليك صاعقة من السماء تحرقك، لأن كل واحد منا ينبغي أن يعلم مكانته ومنزلته، وعليه فينبغي أن نقف عند حدنا.
إذن المدلل له مكانة، أبو بكر رضي الله عنه من المدللين أم لا؟
هو من المدللين على نبينا عليه صلوات الله وسلامه، وسأذكر لكم قصتين باختصار:
القصة الأولى: رواها الإمام البخاري في صحيحه في كتاب فضائل أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام في فضائل أبي بكر ومناقبه:
انظر (مختصر صحيح البخاري للزبيدي 1522)
اختصم أبو بكر وعمر وكان المخطئ أبا بكر رضي الله عنه، فذهب أبو بكر إلى عمر فقال أثمّ هو؟ قالوا: نعم، فاعتذر أبو بكر إلى عمر، فما قبل عمر، فخرج أبو بكر مغاضباً إلى النبي عليه الصلاة والسلام فلما وصل عرف النبي صلى الله عليه وسلم ما في وجهه، فقال: أمّا صاحبكم فقد غامر؟؟؟؟؟؟ وقال: يا رسول الله، إنه كان بيني وبين ابن الخطاب شيء، فأسرعت إليه ثم ندمت فسألته أن يغفر لي فأبى عليّ، فأقبلت إليك، فقال: يغفر الله لك يا أبا بكر – ثلاثاً -، ثم إن عمر ندم وأتى منزل أبي بكر فسأل أثمَّ أبو بكر؟ فقالوا: لا، فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسلم عليه فجعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتمعَّر (أي تذهب نضارته من الغضب) حتى أشفق أبو بكر، فجثا على ركبتيه، فقال – أي أبو بكر – يا رسول الله أنا كنت أظلم – مرتين – فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذبت وقال أبو بكر: صدق، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركوا لي صاحبي؟ فهل أنتم تاركوا لي صاحبي فما أوذي بعدها] فهو إذن من المدللين.(5/137)
فإذا غضب أبو بكر على أحد وتكلم عليه فيجب أن يتحمل عمر ومن دونه وليس من حققه أن يعترض على أبي بكر أو يعتب عليه ولو وطئ رقبته، فهذا أبو بكر له مكانته فاعترف أنه ذو شيبة المسلمين ووالدهم.
ولو أن الزوج أخطأ على زوجته وضربها فهل يجوز لها أن تضربه؟
لا يجوز لها أن تلوح بيدها له فضلا ً على أن تضربه.
فإن قيل: فهو لم ضربها مخطأً؟
نقول: هذا زوج، روى أحمد والنسائي بإسناد جيد رواته موثوقون مشهورون [ولو كان من قدمه إلى مَفْرَقِ رأسه قَرْحة تنْبَجِسُ بالقبيح والصديد ثم استقبلته فلحسته ما أدت حقه] كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام، فهو إذن زوج فإن؟؟؟؟؟ عليها فعليها أن تتودد له ليصفو قلبه وليعود إلى صوابه، وأما أن تقول: ضربتني مخطئاً فخذ؟؟؟؟؟ فنعوذ بالله من هذا، ألم تعلم مثل هذه المرأة أنه زوج؟!
فإذا كانت الزوجة ليس من حقها أن تضرب زوجها – لأنه مدلل عليها – فليس من حق أحد من الأمة أن ينظر إلى أبي بكر نظراً فيه شيء من الشر والغضب فضلا ً على أن يأخذهم؟؟؟؟؟؟؟؟(5/138)
القصة الثانية: رواها الإمام الحاكم في مستدركه والطبراني في معجمه، وغيره بسند صحيح عن ربيعة بن كعب الأسلمي قال كنت أخدم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي: يا ربيعة ألا تتزوج قلت: لا والله يا رسول الله ما أريد أن أتزوج وما عندي ما يقيم المرأة، وما أحب أن يشغلني عنك شيء. ثم عرض عليه الزواج مرة ثانية فرفض، ثم وافق في الثالثة فأرسل صلى الله عليه وسلم إلى حي من الأنصار ليزوجوه فزوجوه، ثم جمع له الصحابة الصداق وزن نواة من ذهب ثم عاونوه على الوليمة.....(5/139)
الحديث أخذ قرابة صفحتين في المجمع) ، ثم قال ربيعة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاني بعد ذلك أرضاً وأعطى أبا بكر أرضاً، وجاءت الدنيا فاختلفنا في عِذق نخلة [لأنها متدلية على الأرض] فقلت أنا: هي في حَدّي، وقال أبو بكر هي في حَدّي وكان بيني وبين أبي بكر كلام، فقال لي أبو بكر كلمة كرهتها، وندم – أي أبو بكر – فقال: يا ربيعة رد علي مثلها حتى يكون قصاصاً، قلت: لا أفعل، قال أبو بكر: لتقولن أو لأستعدي عليك برسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: ما أنا بفاعل، قال وضرب الأرض [وضرب الأرض برجله مغضباً] وانطلق أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وانطلقت أتلوه، فجاء أناس من أسلم فقالوا: رحم الله أبا بكر، في أي شيء يستعدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي قال لك ما قال؟ فقلت: أتدرون من هذا، هذا أبو بكر الصديق، هذا ثاني اثنين، هذا ذو شيبة المسلمين إياكم لا يلتفت إليكم يسمعكم فيلتفت إليكم – فيراكم تنصروني عليه فيغضب فيأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيغضب لغضبه، فيغضب الله عز وجل لغضبهما فيهلك ربيعة، قالوا: ما تأمرنا، قال ارجعوا فانطلق أبو بكر رحمة الله عليه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتبعته وحدي حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فحدثه الحديث كما كان، فرفع رأسه إلي فقال يا ربيعة مالك وللصديق، قلت: يا رسول الله، كان كذا، كان كذا، قال لي كلمة كرهتها فقال لي قل كما قلت حتى يكون قصاصاً فأبيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ترد عليه، ولكن قل: غفر الله لك يا أبا بكر، قال الحسن: فولى أبو بكر رحمه الله يبكي.
والقصة أوردها الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد 4/256، 257 في كتاب النكاح.
فهذا مدلل وموسى مدلل، فإذا ارتفع صوته فما الذي يحصل؟ فيجري بينه وبين حبيبه ما يجري فلا تدخل نفسك بينهما فأنت واجبك أن تحافظ على الحدود الشرعية التي قيدت بها.(5/140)
الآية الثالثة: من الآيات الثلاث التي رآها في السموات عندما عرج به إلى السموات العلا رؤية سدرة المنتهى وما يوجد حولها من عجائب:
ثبت في حديث الإسراء والمعراج الذي تقدم معنا من رواية مالك بن صعصعة رضي الله عنه وفيه: يقول النبي صلى الله عليه وسلم [ثم رُفِعْتُ إلى سدرة المنتهى [[وضبط: ثم رُفِعَتْ لي سدرة المنتهى أي أظهرت وبينت فإذا نَبِقْهَا (بفتح النون وإسكان الباء، ويقال بكسر الباء وهو ثمر السدر مثل قلال هجر (جمع قلة وهى وعاء كبير يوضع فيه الماء من الفخار، وهجر بلده في البحرين وإذا ورقها مثل آذان الفيلة، قلت: ما هذه يا جبريل؟: قال: هذه سدرة المنتهى، وإذا أربعة أنهار تخرج من أصلها: نهران باطنان (أي يسيران إلى داخل الجنة) ونهران ظاهران (إلى خارجها) قلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: أما الباطنان فنهران في الجنة، وأما الظاهران فالنِّيْل والفرات] .
وسنبحث هنا عدة أمور:
المبحث الأول: (سدرة المنتهى) سميت بهذا الاسم لثلاثة أمور:
[لما أسري بي انتُهي بي إلى سدرة المنتهى، وإليها ينتهي ما يهبط فيُقبض منها، ينتهي ما يعرج من الأرض فيُقبض منها، وهي في السماء السادسة] .
إذن سدرة المنتهى في السماء السادسة فما يعرج من الأرض ويصعد ينتهي إليها فلا؟؟؟؟؟؟ وما يهبط من السماء فما فوقها وينزل يكون محل هبوطه عندها، ثم تأخذه الملائكة الموكلة بتبليغه إلى ما شاءت، من أهل سدرة المنتهى، فما يصعد يقف عند سدرة المنتهى وما يهبط يقف عند سدرة المنتهى ثم تتولى الملائكة؟؟؟؟؟؟ وتوزيعه حسب ما يأمرها الله عز وجل.
الثاني: قال الإمام النووي عليه رحمة الله: سميت سدرة المنهتى لأن علم الملائكة ينتهي إليها فلا يتجاوزها.(5/141)
فالملائكة لا تعلم ماذا يوجد بعد سدرة المنتهى، وسدرة المنتهى أصلها في السماء السادسة – كما ذكرنا – وأغصانها وفروعها في السماء السابعة والملائكة لا تتجاوز هذا، ولذلك تقدم في حديث المعراج – وسيأتي هذا معنا في الآيات الرابعة أن نبينا عليه الصلاة والسلام عُرج به وتوقف جبريل لما وصلا إلى سدرة المنتهى (وما منا إلا له مقام معلوم وقال: لو تقدمت طرفة عين لاحترقت) .
الثالث: نقله الإمام الطبري في تفسيره (27/31) عند تفسير سورة النجم فروى بسنده إلى أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: [سميت بسدرة المنتهى لأنه ينتهي إليها أرواح؟؟؟؟؟؟ من المؤمنين] فإذن أرواح المؤمنين تكون في أصل سدرة المنتهى في ذلك المكان.
المبحث الثاني
وصف الله هذه السدرة في كتابه بقوله (إذ يغشى السدرة ما يغشى) .
والذي غشي السدرة عدة أمور منها:
أ- ما ثبت في حديث ابن مسعود المتقدم في صحيح مسلم وفيه [أنه غشيها فراش من ذهب] أي مملوءة بفراش من ذهب.
قد يقول قائل: فراش من ذهب له روح كيف هذا؟
نقول: يا عبد الله، لماذا هذا التفكير؟ فهل إذا كان الفراش من عصب أو لحم يمكن أن يكون فيه روح ويتحرك وإذا كان من ذهب لا يمكن؟ لماذا هذا التفكير؟
ألم ينزل على نبي الله أيوب عليه الصلاة والسلام عندما اغتسل بعد أن برأ من مرضه عندما قال الله له: (هذا مغتسل بارد وشراب) فسقط عليه جراد من ذهب فبدأ نبي الله أيوب يغترف من هذا الجراد فقال الله له: ما هذا يا أيوب أوليس قد أغنيتك؟ فقال يا رب لا غنى لي عن بركتك. أي هذه البركة نزلت من عندك فأنا سآخذها وأجمعها.
والحديث في صحيح البخاري، وهذا حصل في حياتنا الدنيوية هنا، أفلا يعقل في مثل هذه الرحلة المباركة التي حصلت لخير البرية عليه الصلاة والسلام أن يكون هناك فراش من ذهب يطير حولها ويعيش فيها وكل هذه الرحلة خوارق وعجائب.(5/142)
ب- ورد عن أبي سعد الخدري وابن عباس رضي الله عنهم قالا: [إنه يغشاها ملائكة الله] وثبت في سنن البيهقي عن أبي سعد الخدري رضي الله عنه أنه قال: [على كل ورقة منها ملك لله] .
جـ- ورد أنه تغشاها أنوار عظيمة، ففي صحيح مسلم من حديث أنس رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: [فلما غشيها من أمر الله ما غشيها (أي من أنواره) تغيرت فما أحد من خلالها؟؟؟؟ يستطيع أن ينعتها من حسنها]
المبحث الثالث
قال نبينا عليه الصلاة والسلام عن هذه السدرة:
[فإذا نَبْقِها مثل قلال هجر، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة] .
هذه الشجرة التي هي سدرة المنتهى، وهذا النبق الذي هو الثمر والذي هو كقلال هجر لِمَ خصت بالذكر ووضعت في ذلك المكان ورآها نبينا عليه الصلاة والسلام؟
خصت لثلاثة أمور:
أولها: ثمرها طيب.
ثانيها: رائحتها ذكية.
ثالثها: ظلها واسع.
فإذن لها طعم ولها ريح ولها ظل، فخصت لهذه الاعتبارات الثلاثة، وهذه الاعتبارات الثلاثة تشبه الإيمان فالمؤمن ينبغي أن يكون:
رائحته: قوله حسناً ...
ظله: وفعله حسناً ...
طعامه: ونيته حسنة
بمثابة شجرة السدر طعم ورائحة وظل.
وهكذا المؤمن فالقول الذي يصدر منه هو بمثابة الرائحة الذكية التي تعبق وتفوح، فلا يتكلم إلا بطيب، كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام [من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت] ، فهو قول حسن يعبق به المجلس ويفوح فلا نتكلم بما يخدش الآذان أو في عرض مسلم.
والعمل الذي يصدر منه هو بمثابة ظل شجر السدر، فهو عمل صالح؟؟؟؟؟ النية التي تصدر منه هي بمثابة الطعم وهي أطيب وأطيب مما ذكر.
فإذن ذكرت هذه الشجرة وخصت في ذلك المكان ورآها نبينا عليه الصلاة والسلام؟؟؟؟؟ الإيمان الذي كلف به عليه الصلاة والسلام وبتبليغه يشبه هذه الشجرة التي غشاها ما غشاها، ونبقها في تلك الصورة الحسنة البهية وراحتها ذكية.(5/143)
وقد شبه نبينا عليه الصلاة والسلام المؤمن بالأترجة إذا قرأ القرآن،؟؟؟؟؟؟؟ يقرأ القرآن، ثبت في الصحيحين وسنن النسائي وغيرها من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب] والأترجة هي المانجو الآن، ويمكن أن يقال شجر التفاح يعد لها هي في الأصل المانجو، وهي موجودة في بلاد مصر بكثرة، وهكذا التفاح ريحه طيب وطعمه حلو، ولو اشتريت ثمر المانجو ووضعته في البيت، فإنك إذا دخلت إلى البيت تشم ريحه إذا كان ناضجاً وكأن البيت مطيب، وهكذا الطعم. ثم قال: [ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة طعمها طيب، ولا ريح لها] فتوجد نية طيبة لكن لا توجد رائحة حسنة من هذا المؤمن.
ثم قال: [ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة] ، والريحانة ريحها طيب لكن طعمها مر وكذا حال هذا المنافق فالقول الذي يصدر منه هو بمثابة الرائحة الطيبة، أما النية فهي سيئة الله أعلم بحال صاحبها، فتجده يتجمل بقراءة القرآن فتحصل منه رائحة طيبة. ثم قال [ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظل لا ريح لها وطعمها خبيث] .(5/144)
فإذن شبه المؤمن الذي يقرأ القرآن بالأترجة، وشبه في حديث الإسراء والمعراج بشجرة السدر، وضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثلا ً لاستمرار الخيرية في المؤمن وعند انقطاع المؤمن عن الخير بشجرة النخيل، ففي الصحيحين وغيرهما من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال [إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مِثْل المسلم يعني مثل المسلم – أي هي تشبهه) فحدثوني ما هي؟ قال عبد الله بن عمر: فوقع الناس في شجر البوادي ووقع في نفسي أنها النخلة فاستحييت لأنه كان عاشر عشرة فيهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وقد كان صغيراً – ثم قالوا حدثنا ما هي يا رسول الله، قال: هي النخلة] فلما قال لوالده عمر: أنا علمت أنها النخلة ولكنني استحيت أن أقولها؟ فقال: لأن تكون قلتها لكان أحب إلي من كذا وكذا من الأرض ذهباً، ليكون له قدر عند النبي صلى الله عليه وسلم عندما يوفق إلى الحكمة وليسدد للصواب.
(ألم تر كيف ضرب الله مثلا ً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفروعها في السماء) فالكلمة الطيبة هي التوحيد: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
والشجرة الطيبة كشجرة السدر وشجرة التفاح وشجر النخيل وشجر الأترجة.
(تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون) وهكذا المؤمن هو في الأرض لكن أعماله تصعد إلى الله جل وعلا (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) .
المبحث الرابع
الأنهار التي رآها نبينا عليه الصلاة والسلام تخرج من أصل سدرة المنتهى:
قلنا رأى النبي صلى الله عليه وسلم نهرين باطنين ونهرين ظاهرين، أما الباطنان فهما الكوثر والرحمة ويخرجان من عين هي أمّ لهما أسمها السلسبيل وأما الظاهران فهما النيل والفرات كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام.(5/145)
وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال [سيحان وجيحان والنيل والفرات كلها من أنهار الجنة] وسيحان وجيحان نهران في بلاد سمرقند التي هي الآن تحت حكم الاتحاد السوفيتي فك الله أسر بلاد المسلمين، والنيل في بلاد مصر، والفرات في بلاد الشام، وهذه الأنهار كلها من الجنة.
فإن قيل: كيف نجمع بين هذا الحديث وبين حديث الإسراء والمعراج الذي ذكر فيه نهرين فقط؟
نقول: وهو الجواب المعتمد الذي قرره الإمام النووي رحمه الله والحافظ ابن حجر:
لا إشكال في ذلك، فسيحان وجيحان من أنهار الجنة، لكن لا ينبعان من أصل سدرة المنتهى، وأما النيل والفرات فمن أنهار الجنة ولكن ينبعان من أصل سدرة المنتهى ثم يتفجران للناس في الأرض فالنيل والفرات لهما مزيد بركة وفضل ومزية على سيحان وجيحان.
وانظروا شرح الإمام النووي على صحيح مسلم (17/177) وفتح الباري (7/203) .
ما المراد هنا من كون هذه الأنهار الظاهرة (النيل والفرات وسيحان وجيحان) من الجنة؟)
ذكر علماؤنا قولين:
القول الأول: ذكره القاضي عياض – وهو في نظري مردود مع جلالة قائله _وهو أن في كون سيحان وجيحان والنيل والفرات من أنهار الجنة إشارة إلى معجزة عظيمة من معجزات نبينا عليه الصلاة والسلام وهي: أن البلاد التي فيها تلك الأنهار عما قريب ستفتح ويسلم أهل تلك البلاد ويؤولون إلى الجنة بعد ذلك، فهذه الأنهار ليس ماؤها من الجنة فعبر بالمحل وأراد من سيحل فيها في المستقبل من أهل الجنة.
وهذا في منتهى التكلف فيما يظهر لي ولا داعي دائماً لإخراج اللفظ من ظاهره.(5/146)
القول الثاني: وهو المعتمد وهو الذي قرره شيخ الإسلام الإمام النووي وابن حجر وغيرهما أن هذه الأنهار من أنهار الجنة حقيقة، فماؤها ينزل من الجنة بكيفية يعلمها الله ولا نعلمها ونحن نحن معشر أهل السنة نؤمن بأن الجنة مخلوقة، وأن النار مخلوقة، وإذا كان الأمر كذلك فالأنهار موجودة في الجنة الآن، وهذان النهران الظاهران (النيل والفرات) يصبان في النيل والفرات في الأرض بكيفية يعلمها الله جل وعلا.
وحقيقة لو أكرمك الله بشرب ماء النيل قبل أن يلوثه أهل الضلال والأباطيل بما سار عليه من مياه المجاري، وكذا الفرات، فأنت لو ذهبت إلى منبع النيل الأصلي لوجدت الماء أحلى وأطيب من العسل، لأنه من أنهار الجنة.
ولا يوجد ماء على وجه الأرض يعدل ماء النيل أو الفرات اللهم إلا ماء زمزم – كما تقدم معنا فإنه أفضل المياه.
وكذا لو ذهبت إلى النهر الثاني (الفرات) وشربت من ذلك الماء الصافي قبل أن يعكر المعكرون لانتعشت انتعاشاً ليس بعده انتعاش.
وهكذا سيحان وجيحان:
هذا ما يتعلق بالمبحث الرابع.
وختام الكلام على الآيات الثلاث التي رآها نبينا عليه الصلاة والسلام معراجه في السموات العلا: رأى الملائكة الكرام – كما تقدم معنا – كما رأى خليل الرحمن إبراهيم وكيف أن البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه إلى قيام الساعة.
وقد أخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام عن أحوال بعض الملائكة الذين رآهم،؟؟؟؟؟ وأميرهم ورئيسهم هو جبريل عليه الصلاة والسلام – كما أن سيد البشر وأميرهم وأولهم نبينا عليه الصلاة والسلام.
ثبت في مسند البزار ومعجم الطبراني الأوسط بسند رجاله ثقات عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: [مررت ليلة أسري بي بالملأ الأعلى (وهم الملائكة) فإذا جبريل كالحِلْس البالي من خشية الله] .
والحِلْس: المتاع والثياب، أي كالمتاع والثياب الممزق الذي مضى عليه وقت كثير من الدهر فبلى.(5/147)
وهذا هو حال الملائكة الكرام على نبينا وعليهم الصلاة والسلام.
القسم الرابع: آخر الآيات وآخر مباحث الإسراء والمعراج:
آيات عظيمة حصلت له بعد رقي السموات.
أكرمه الله بعدة أمور منها:
1- فرض الصلوات الخمس.
2- مغفرة الكبائر لأمته الذين لا يشركون بالله شيئاً.
3- خواتيم سورة البقرة.
4- رؤية الله.
5- كلام الله.
فهذه آيات حصلت لخير البريات عليه صلوات الله وسلامه فوق السموات (؟؟؟) بعد أن انتهى من السماء السابعة وعُرج به إلى مستوىً سمع فيه صريف الأقلام.
وهذه أعظم الجوائز، وعندما اجتمع الحبيب بحبيبه فيعطيه أحسن التحف وهي الخمسة السابقة.
أولاً: أما الصلوات الخمس:
فقد فرضت في تلك الليلة من رحلته المباركة.
ثبت في صحيح مسلم من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وهو يروي لأصحابه حديث الإسراء والمعراج: [ففرض الله علي خمسين صلاة في كل يوم وليلة فمررت فنزلت إلى موسى – وتقدم معنا أن موسى صار في السماء السابعة بعد أن كان في السادسة – فقال: ما فرض ربك على أمتك؟ قلت خمسين صلاة، فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فإن أمتك لا يطيقون ذلك فإني قد بلوت بني إسرائيل قبلك وخبرتهم] أي أنا أعلم الناس بأحوال الناس؟؟؟؟ لن تطيق خمسين صلاة، إذ قد فرض الله على بني إسرائيل صلاتين في الغداء والعشي فما أطاقوها ولا فعلوها، فكيف ستؤدي أمتك خمسين صلاة؟ إنها لن تطيق ذلك.(5/148)
[قال نبينا عليه الصلاة والسلام: فرجعت إلى ربي فقلت: يا رب خفف عن أمتي، فحط عني خمساً، فرجعت إلى موسى فقلت: حط عني خمساً، قال: فإن أمتك لا يطيقون ذلك فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، يقول نبينا عليه الصلاة والسلام: فلم أزل أرجع بين ربي وبين موسى، حتى قال، يا محمد، إنهن خمس صلواتٌ كل يوم وليلة بكل صلاة عشر فذلك خمس صلاة (إذن نزل وصعد تسع مرات) ، ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت عشراً، ومن هم بسيئة ولم يعملها لم تكتب شيئاً فإن عملها كتبت سيئة واحدة، قال: فنزلت إلى موسى، فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف (أي ليخفف من الخمس أيضاً شيئاً) فقلت: قد رجعت إلى ربي حتى استحييت منه] وفي رواية البخاري (فقلت: لكن أرضى وأسلم) أي لا أريد أن أرجع إلى ربي مرة عاشرة لأنه راجعه تسع مرات حتى خفف الصلوات إلى خمس.
[فلما جاوزت نادى منادٍ: أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي، فهي خمس وفي الأجر خمسون] .
هذا هو الحديث الذي يقرر أن الصلوات فرضت في ليلة المعراج فوق السموات العلا بينه وبين ربه جل وعلا، ثم نزل ومر على نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام وهو في السماء السابعة وهذا الحديث عندنا حوله عدة تنبيهات:
أ - ورد في رواية الصحيحين من حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [فوضع عني شطرها] وتقدم معنا هنا: أنه وضع عنه خمس صلوات، خمس صلوات حتى خففت إلى خمس ورواية أبي ذر شطرها، والشطر النصف أي خمس وعشرين.
وفي رواية البخاري من حديث مالك بن صعصعة: [فوضع عني عشراً] و؟؟؟؟ وخمساً فكيف نجمع بين هذه الألفاظ؟(5/149)
نقول لا إشكال على الإطلاق: فالمراد من الشطر إما البعض وهو الخمس وليس النصف الذي هو خمس وعشرين، أو أن المراد منه النصف لكن ليس بمرة واحدة إنما بمرات متعددة فأخبر عن وضع الشطر في خمس مرات كل مرة يضع خمساً وخمساً وخمساً وخمساً فالمجموع خمسة وعشرون وهذا شطر الخمسين. وأما العشر: فالمراد أنه وضعها في مرتين.
لكن الذي وقع حقيقة وضع خمس صلوات في كل مرة، هذا هو الجمع بين هذه الروايات.
ب- تنبيه حول رجوع نبينا عليه الصلاة والسلام إلى ربه:
كيف رجع نبينا عليه الصلاة والسلام إلى ربه يسأله التخفيف في المرات التسع؟؟ ولم يرجع في المرة العاشرة؟
نقول: لعله علم أن الله لما فرض عليه الخمسين لم يفرضها فرض إلزام، فبقي هنالك مجال للمراجعة، فلما وصلت إلى خمس وقد أخبره في المرة الأخيرة أنها خمس في كل يوم وليلة وهي في الأجر خمسون علم أن الأمر صار أمر إلزام وحتم فلا يمكن أن أطلب التخفيف فقال [أرضى وأسلم] .
يضاف إلى هذا أنه إذا طلب التخفيف في المرة العاشرة (الأخيرة) وقد حط عنه خمساً خمساً فإذا حط عنه الخمس المتبقية فستبقى هذه الأمة بلا فريضة؟؟ تقوم بها، ولذلك لو سأل في المرة العاشرة التخفيف فإن حاله يدل على أنه يريد إسقاط هذه الفريضة عن هذه الأمة، وهذا لا يليق ولذلك قال [أرضى وأسلم] ، وأما المرات السابقة فلعله علم بقرينة من القرائن أن ما فرض ليس من باب الجزم ويدل على هذا أن الله قد أجاب سؤاله وخفف عنه حتى وصلت إلى خمس صلوات.
جـ- ما الحكمة من فرضية الصلاة في تلك الليلة المباركة، وفي ذلك المكان الذي هو أشرف الأمكنة فوق السموات العلا.
ذكر العلماء حكمة معتبرة، وتبدو لي حكمة معتبرة لعلها أوجه مما هو موجود في الكتب والعلم عند الله.(5/150)
1- الحكمة التي ذكروها هي: أن النبي عليه الصلاة والسلام في ليلة الإسراء والمعراج رأى حال الملائكة وعبادتهم لربهم جل وعلا، فمنهم الراكع الذي لا يرفع رأسه من الركوع، ومنهم الساجد الذي لا يرفع رأسه من السجود، ومنهم القائم لله عز وجل، هكذا عبادتهم، فتطلع نبينا عليه الصلاة والسلام لهذه العبادات العظيمة التي يقوم بها الملائكة العظام، فأجاب تطلعه وحقق أمنيته فأعطاه هذه العبادات بأسرها التي يقوم الملائكة في ركعة واحدة من ركعات الصلاة ففيها قيام وفيها ركوع وفيها سجود.
أي: ليجمع الله لهذه الأمة عبادات الملائكة بأسرها في ركعة من ركعات الصلاة.
2- والحكمة التي تبدو لي هي: أن الصلاة إنما فرضت في ذلك المكان المعتبر لما فيها من عظيم الأثر فالصلاة لها أثر في الإنسان لا يوجد هذا الأثر في غيرها من عبادات الرحمن، فالجهاد الذي هو ذروة سنام الإسلام، والزكاة والحج والصوم وهكذا ما شئت من العبادات لا يوجد في هذه العبادات أثر كأثر الصلاة من تزكية للنفس ومن داوم مراقبة الرب جل وعلا، ومن؟؟؟؟؟ بين المؤمنين في هذه الصلوات.
فإذن الآثار التي توجد في الصلاة لا توجد في غيرها، فكل يوم ينبغي أن تصلي خمس مرات ولعل الإنسان لا يمر عليه يوم ويصلي أقل من أربعين ركعة وأحياناً يزيد، فالفرائض سبعة عشر ركعة والسنة الراتبة اثنا عشرة صار المجموع 29، ثم ضم إليها قيام الليل الذي هو ثماني ركعات صار العدد 37، مع ثلاث ركعات الوتر صار العدد40 ركعة، هذا إذا لم يؤد سنة الضحى، ونافلة قبل العصر، ونافلة قبل المغرب، إذا لم يتطوع تطوعا؟؟؟؟؟ ويحيي ما بين العشاءين بالصلاة كما هو حال الصالحين.(5/151)
فأنت تصلي هذا العدد في اليوم وهذا له أثر جليل، أما الصوم فيجيء شهر متواصل تصوم وينقضي، وفيه آثار عظيمة لكن ليس كأثر الصلاة، ولذلك كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه – كما في موطأ مالك – يكتب إلى عماله: [إن أهم أمركم عندي الصلاة فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع] ، وأول ما يحاسب عليه العبد من أعمال يوم القيامة هو الصلاة، فإن صلحت نظر في سائر عمله وحوسب عليه وإلا فالويل له.
فإذن الصلاة لها أثر معتبر ومنزلة عظيمة وإذا كان الأمر كذلك فتعظيماً لشأنها فرضت في مكان؟؟؟؟ وأحسنه؟؟؟ وأغلاه وهو فوق السموات العلا من قبل الله إلى عبده محمد عليه صلوات الله وسلامه عليه مباشرة ودون أن يتخلل ذلك واسطة من جبريل أو غيره.
ثانياً: مغفرة الكبائر لأمته الذين لا يشركون به شيئاً:
... ثبت في صحيح مسلم وسنن النسائي والترمذي من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: [فأُعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً – أي مما أعطي – (لما رفع فوق السماء السابعة) : الصلوات الخمس، وخواتيم سورة البقرة، وغُفِرَ لمن لم يشرك بالله من أمته شيئا المقحماتُ] أي غفرت المقحمات لمن لم يشرك بالله من أمته والمقحمات هي الذنوب العظيمة الكبيرة التي تقحم صاحبها وتزجه في نار جهنم.
... وقد ثبت في سنن الترمذي بسند صحيح عن نبينا عليه الصلاة والسلام قال: [يقول الله: يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك....] وآخر الحديث هو محل الشاهد: [يا ابن آدم لو أتيتني بقُراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة] أي لو أتيت بما يقارب ملء الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة، وهذا من فضل الله على هذه الأمة، فنسأل الله أن يتوفانا على الإيمان بفضله ورحمته إنه ذو الجلال والإكرام.(5/152)
.. وقد أخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام في أحاديث صحيحة متواترة أن شفاعته لأهل الكبائر من أمته، والحديث في مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي وقال: حسن صحيح، ورواه أبو داوود والحاكم وابن حبان وغيرهم عن أنس رضي الله عنه – وهو مروي عن غيره عند غيرهما أيضاً – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي] ، فالله سبحانه وتعالى يشفّع نبيه في أهل الكبائر ويقبل شفاعته ويغفر لهم ويرحمهم فهو أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، وهذه أعظم تُحفة حصلت لهذه الأمة في حادث الإسراء والمعراج.
المحاضرة الحادية عشرة
8/4/1412هـ
... وعقيدتنا معشر أهل السنة أن أصحاب الكبائر يفوض أمرهم إلى ربنا القاهر فلا نحكم عليهم بنار، ولا ننزلهم جنة، لكن نرجو لهم المغفرة.
... هذا إذ لم يتوبوا، فإذا تابوا تاب الله عليهم، ومن يمت ولم يتب من ذنبه، فأمره مفوض لربه، فإن عذبه الله على ذنوبه فهذا عدل، وإن غفر له فهذا فضل، وأفعال الله تدور بين هذين الحكمين عدل، أو فضل، ولا دخل للظلم أو الجور في أفعاله سبحانه وتعالى؛ لأن أفعال الله إما أن تكون عدلاً أو فضلاً أو جوراً، والجور يتنزه الله عنه، يقول تعالى كما في الحديث القدسي [إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا] ، ويقول (ولا يظلم ربك أحداً) ويقول (ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلماً ولا هضماً) ، فبقي العدل والفضل فمن عذبه فبعدله، ومن غفر له وأدخله الجنة فبفضله سبحان الله.(5/153)
وهذا فيه رد على الفرق الضالة من الخوارج والمعتزلة الذين يخلدون فاعل الكبيرة في النار وكذلك فيه رد على فرقة الإباضية بزعامة مفتي عمان في هذه الأيام أحمد الخليلي، فإن هذا يرد على الخوارج الذين يكفرون فاعل الكبيرة – مع أن الإباضية فرقة من الخوارج، لكن يقول: هم مخلدون في النار وليسوا بكفار، فمن فعل كبيرة من زناً أو سرقة أو شرب خمر فهو مخلد في النار لكن – كما يقول – ليس بكافر ثم يقول وقد أخطأت الخوارج بتكفيره.
نقول له: ما الفارق بين قولك وقول الخوارج في النهاية والآخرة، هل يوجد هناك فرق؟
لا يوجد فارق أبداً، فالخوارج قالوا: يخلد فاعل الكبيرة في النار، وأنت تقول إنه يخلد في النار فما الفرق إذن؟!!
لكن الخوارج أجرأ منك على الباطل فقالوا: هو في الدنيا كافر، أما أنت فتذبذبت وقلت إنه مؤمن.
فنقول لك: إذا كان مؤمناً فكيف ستخلده في نار جهنم مع فرعون وأبي لهب وأبي جهل؟!! إن هذا لهو الضلال بعينه.
وقد نشر في هذا الوقت كتاباً سماه (الحق الدامغ) ، وكله باطل ليس فيه حق، أراد أن يقرر فيه ثلاث مسائل فحشاها ضلالاً وباطلاً:
1- نفي رؤية الله في الآخرة، ومن قال بالرؤية فهو ضال!!
2- كلام الله مخلوق.
3- أهل الكبائر مخلدون في نار جهنم.
وقد ضلَّ في هذه المسائل الثلاثة وحرف الكلام عن مواضعه، وافترى على الشريعة المطهرة، وهذا الكتاب الذي ألفه، سبقه إلى تأليف مثله زنديق ضال خبيث حيث ألف كتاباً سماه (الدامغ) ومؤلفه هو أحمد بن يحيى الرواندي المتوفى سنة 298هـ، يقول الحافظ ابن حجر في لسان الميزان في ترجمته ألف كتاب الدامغ ليرد به على القرآن ويبين – على زعمه – تناقضه – ثم قال: أجاد الذهبي في حذفه فلم يذكره في ميزانه، وإنما ذكرته لألعنه.
فهذا ألف الحق الدامغ في هذا العصر، ونحن نقول له: إنك تتحلى - أو تتقبح – بقبائح مستعارة فهذا العنوان سبقك إليه زنديق ضال. فذاك ألف الدامغ ليدمغ به القرآن على زعمه.(5/154)
وهذا – الخليلي – ألف الدامغ ليدمغ به عقيدة أهل السنة والجماعة، فانتبهوا لهذا!!.
وهذا بمنصب مفتي عمان وقد قلقل أذهان أهل السنة في ذلك المكان، وقبل أن آتي إلى رأس الخيمة من أبها اتصل بي بعض الأخوة من عمان وأرسل لي رسالة صغيرة بحدود ثلاثين صفحة، نشرها ذلك المفتي هناك حول جواب على سؤال وجه إليه، وهو أن رؤية الله في الآخرة مستحيلة، ومن قد آمن بهذا فهو ضال يشبه الخالق بالمخلوق , ذكر كلاماً باطلاً، وقد قال لي هذا الأخ: هذه الرسالة زعزع بها أهل السنة، إذ أنه منطيق في الكلام، وصاحب كلام معسول ويأتي بأمور متشابهة وكما قال يصطاد في الماء العكر.
فأعظم منه من الله بها على نبينا عليه الصلاة والسلام وعلى هذه الأمة أن بُشِّر نبيه عليه الصلاة والسلام بأنه سيغفر لهذه الأمة المقحمات وهى الذنوب الكبائر وهذا فضل عظيم، وهذه تحفة عظيمة، وحتى هذه التحفة على قدر المتحِف والمهدِي، وعلى قدر المُتحَف والمُهْدى، فهذه هدية بين الله ونبيه حبيبه وخير خلقه، فماذا ستكون؟!
حقيقة لابد أن تكون أنفس الهدايا والتحف، فأمتك لن نسوءك فيهم، فمن جاءنا؟؟؟؟؟؟ وعليه من الذنوب أمثال الجبال – إذا لم يشرك بالله شيئاً – نغفر له برحمتنا الواسعة نسأل الله أن يدخل عظيم جرمنا في عظيم عفوه إنه واسع المغفرة.
ثالثا: خواتيم سورة البقرة:
... وهذه هي التحفة الثالثة، وقد نزلت على نبينا عليه الصلاة والسلام في الإسراء والمعراج؟؟ بالآيتين في ذلك المكان وامتن الله على نبيه عليه الصلاة والسلام بهما، وبما لهما من الفضائل العظام.
وقد وردت بذلك الأحاديث الكثيرة ففي مسند الإمام أحمد بسند حسن عن عقبة بن عامر الجهني قال: [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له اقرأ الآيتين من آخر سورة البقرة، فإنهما من كنز من تحت العرش] أي هذه من الكنوز الثمينة وتلقيتها من تحت عرش الرحمن، فهذا إذن مال عظيم؟؟ ثمين نتقرب به إلى رب العالمين.(5/155)
وقد أخبرنا النبي عليه الصلاة والسلام عن منزلة هاتين الآيتين، ففي الصحيحين، وسنن النسائي والترمذي من حديث أبي مسعود رضي الله عنه (وقد ورد في بعض الكتب ابن مسعود، كتفسير ابن كثير وغيره وهذا خطأ مطبعي صوابه: أبو مسعود وهو الأنصاري البدري وليس عبد الله بن مسعود فهذا من المهاجرين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [الآيتان من آخر سورة البقرة من قرأهما في ليلة كفتاه] .
قال الإمام النووي: (كفتاه) تحتمل أمرين لعل الله يجمعهما للقارئ بفضل رحمته:
1- كفتاه عن قيام الليل إذا لم يتيسر له أن يقوم في تلك الليلة لغلبة نوم أو تعب، فيكون له أجر قيام الليل بفضله ورحمته، ولا يقل قائل: أقرهما ولا أقوم للقيام وسأحصل الأجر.
2- كفتاه تلك الليلة كل مكروه وأذىً وبلية تقع في تلك الليلة.
وقد ثبت في سنن الترمذي وصحيح ابن حيان ومستدرك الحاكم بسند صحيح عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: [الآيتان من آخر سورة البقرة لا تُقرآن في دار ثلاث مرات فيقربها الشيطان] أي فمن قرأها ثلاث مرات في بيته فلا يقرب الشيطان هذا البيت في ذلك اليوم.
وروى ابن مَرْدُوْيَهْ عن علي رضي الله عنه أنه قال [لا أرى أحداً يعقل ينام قبل أن يقرأ آية الكرسي والآيتين من آخر سورة البقرة] ومعنى كلامه أنه لا يمكن أن يكون ببالي أن أرى مسلماً يعقل – أي ليس بكافر، وليس بصغير حتى نقول إنه لا يدرك منزلة هذه الآيات – بل هو مسلم عاقل ينام دون أن يقرأ آية الكرسي والآيتين من آخر سورة البقرة، فحافظوا على ذلك.
أما آية الكرسي كما في صحيح البخاري: [من قرأها إذا أخذ مضجعه لا يقربه شيطان حتى يصبح] وهي أفضل آي القرآن على الإطلاق، فأفضل آياته آية الكرسي وأفضل سوره سورة الإخلاص.(5/156)
وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي بن كعب رضي الله عنه [أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: أي آيات في كتاب الله أعظم؟ فقلت: آية الكرسي، فضرب النبي عليه الصلاة والسلام في صدري وقال: ليهنك العلم أبا المنذر] ومعنى ليهنك هنيئاً لك وأحسن على هذه الإصابة.
وفي آية الكرسي اسمان: الحي القيوم إذا سئل بهما أعطى وإذا دعي بهما أجاب.
وكان النبي عليه الصلاة والسلام – كما في سنن الترمذي وغيره – [إذا اجتهد في الدعاء يقول: يا حي يا قيوم] أي إذا دعا دعاءً يلح به وهو مهم فإنه يناجي ربه بهذين الاسمين: يا حي، يا قيوم.
وقد أوصى نبينا عليه الصلاة والسلام – كما في مستدرك الحاكم وعمل اليوم والليلة لابن السني بسند صحيح عن أنس رضي الله عنه [أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لابنته فاطمة ما يمنعك أن تقولي ما أوصيتك به، تقولين إذا أصبحت وإذا أمسيت يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث فأصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين] فهذا توسل إلى الله بحياته وقيوميته.
فحافظوا عليه صباحاً ومساءً، فإنه هدية من نبينا عليه الصلاة والسلام لبِضْعَتِه فلتأخذ به أنت وهذان الاسمان هما أصل لسائر صفاته، فكل صفة لله أصلها الحي أو القيوم.
فالصفات الذاتية بأسرها لا يثبت شيء منها لله إلا بعد ثبوت الحياة له جل وعلا، والصفات الفعلية بأسرها من الخلق والرزق والإحياء والإماتة والإعزاز والإذلال وما شاكلها لا تثبت لله إلا إذا ثبتت القيومية له.
فهو حي حياة كاملة فلا تأخذه سنة ولا نوم، ومن باب أولى لا يطرأ عليه فناء ولا يموت سبحانه وتعالى، وهو قيوم قائم بنفسه مقيم لشؤون غيره يدبر أمور عباده (أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت) .(5/157)
وقد ورد في سنن ابن ماجه بسند حسن – وهو في غيره أيضاً – عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: [الاسم الأعظم في ثلاث سور] قال القاسم بن عبد الرحمن، راوي الحديث، وهو من أئمة التابعين – فطلبته فوجدته في سورة البقرة وآل عمران وطه.
فهي في سورة البقرة في آية الكرسي آية (255) .
في سورة آل عمران الآية الثانية: (الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم) .
وفي سورة طه الآية (111) : (وعنت الوجوه للحي القيوم) .
وما ذكر الله اسمي الحي القيوم مقترنين إلا في هذه السور الثلاث، فقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث [اسم الله الأعظم في ثلاث سور] قرينة – كما قال أئمتنا – على أن هذين الاسمين هما اسم الله الأعظم لكن مع هذا نقول اختلف أئمتنا لقرائن هل هو هذا، أم يا ذا الجلال والإكرام؟ أم لفظ الله؟ وقيل غير ذلك، وكل فريق أورد أدلة له، لكن هذا – الحي القيوم – فيما يظهر أظهرها؛ لأن له ميزة على سائر أسماء الله سبحانه وتعالى، فإنهما كما قلنا أصلان لسائر أسماء وصفات الله سبحانه وتعالى فلا يستبعد أن يكونا هما اسم الله الأعظم، سبحانه وتعالى لاسيما مع قرينة [في ثلاث سور] .
ومبالغة النبي صلى الله عليه وسلم في الالتجاء إلى الله عندما يهمه أمر بـ (يا حي يا قيوم) فهذا مما يدل على أن لهذا منزلة، وكذلك تعليمه لابنته فاطمة أن تلجأ إلى الله في الصباح والمساء بـ (يا حي يا قيوم) والعلم عند الله.
يقول الإمام ابن تيمية – كما نقل عنه هذا تلميذه ابن القيم في مدارج السالكين: "لهذين الاسمين المباركين الأثر في حياة القلب ما ليس لغيرهما" ويقول "ومن تجريبات السالكين أن من واظب عليه قبل صلاة الفجر أحيا الله قلبه".
أي أن من تجريبات السالكين أنهم كانوا يلهجون بهذين الاسمين قبل صلاة الفجر فيحيي الله جل وعلا قلوبهم ويجعلها منشرحة منورة مطمئنة.(5/158)
س: هل ثبت أن الاسم الأعظم من الغيب الذي لا يعلمه إلا الولي الصالح أو أنه استنتاج حيث أنه لم يصرح به الرسول صلى الله عليه وسلم؟
جـ- لم يثبت هذا عن نبينا عليه الصلاة والسلام، ونقول: هو استنتاج من أحاديثه ويَتَوَصَّلُ إلى معرفته أصحابُ العقول السليمة الواعية بالنظر في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم – أحياناً – يشير إلى شيء ممكن أن يصل الإنسان إليه عن طريق النظر والتفكير فيما أشار إليه، كما في تعيين ليلة القدر فإنه صلى الله عليه وسلم لم يحددها ولكن أشار في أحاديثه إلى أشياء يمكن التوصل عن طريقها إلى معرفة الليلة.
إذن فالتحفة الثالثة خواتيم سورة البقرة، وقد ثبت في صحيح مسلم وسنن النسائي عن ابن عباس الله رضي الله عنهما: [أن جبريل على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه كان جالساً مع النبي ففتح باباً من السماء فسطع نورٌ ونزل ملك منه فقال جبريل: هذا ملك لم ينزل إلى الأرض قط ثم جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وقال: يا محمد، أبشر بنورين قد أوتيتهما فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لن تقرأ بحرف منهما إلا أوتيته] .
وقد يقول قائل: هل نزل هذا الملك بفاتحة الكتاب وبالآيتين من آخر سورة البقرة؟
نقول: لا، الملك لم ينزل يهما إنما نزل مخبراً بفضلهما، إذ أن هذه الآيات – كما قلنا – نزلت على النبيِّ عليه الصلاة والسلام وبُلِّغها فوق السموات العلا.
وقد ثبت في الصحيحين عن نبينا عليه الصلاة والسلام أن المؤمنين عندما يقرؤون آخر سورة البقرة؟؟؟؟؟؟؟ جملة فيها دعاء يقول الله قد فعلت.(5/159)
.. (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير) فيقول الله: قد فعلت؟؟؟؟؟؟ (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت، ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) يقول الله: قد فعلت، (ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا) قد فعلت، (ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به) قد فعلت، (واعف عنا) قد فعلت، (واغفر لنا) قد فعلت، (وارحمنا) قد فعلت (أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين) قد فعلت. فلا يقرؤون بجملة إلا يقول الله قد فعلت.
... وأما سورة الفاتحة فقد ثبت في الصحيح عن نبينا عليه الصلاة والسلام أن الله جل وعلا قال: [قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد (الحمد لله رب العالمين) قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال (الرحمن الرحيم) قال الله: أثنى عليّ عبدي، وإذا قال (مالك يوم الدين) مجدني عبدي، وفي رواية: قال [فوض إليّ عبدي] وإذا قال (إياك نعبد وإياك نستعين) قال: هذا بيني وبين عبدي] وتكملة الحديث: [ولعبدي ما سأل] أي: بعد أن أثنى علي العبد فليسأل ما يريد فأنا سأجيبه.
س: هل الأجر المذكور فيما سبق يترتب على مجرد التلفظ أم على إدراك المعنى؟
جـ: الأصل أن الأجر يترتب على القراءة التامة الكاملة بحضور القلب وخشوعه، وفهم المعنى ومعرفته، وحسن التلاوة وسلامتها، فإن نقص شيء من ذلك نقص الأجر بحسابه.(5/160)
.. فإذا أخل بالقراءة السليمة نقص الأجر، وإذا أخل بالخشوع والمراقبة والاستحضار والتفكر نقص الأجر، وإذا أخل في فهم المعنى نقص الأجر، وهذا كالصلاة فإنها؟؟؟؟؟. كاملة، وكل ما نقص من كمالها ينقص من أجرها ولذلك ثبت في السنن عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنَّ العبد يصلي الصلاة وما يكتب له نصفها، وما يكتب له ثلثها، وما يكتب له ربعها، وما يكتب له خمسها، حتى وصل وما يكتب له عشرها، وإذ لم يكتب عشرها مع أنه صلى، والقراءة كذلك.
... فإذن الثواب الذي نيط بالقراءة وعلق بها هو للقراءة الكاملة التي فيها – كما ذكرنا – خشوع التلاوة وفهم المعنى، وسلامة النطق، فإذا أخل بشيء من ذلك نقص من أجره، وقد يصل إلى حالة: [رُبَّ قارئ للقرآن والقرآن يلعنه] ، نسأل الله العافية، وقد يصل المصلي إلى حالة [لا تزيده صلاته من الله إلا بعداً] وقد يصل الصائم إلى حالة [ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش] ، وقد يصل القائم إلى حالة [ليس له من قيامه إلا التعب والسهر] .
... ولذلك كان بعض الصالحين من أجل هذه المخاوف يقول: "من لم ير أن طاعاته ستدخله الجنة فقد عقله وضاعت بصيرته، أي عليه أن يقول: إن طاعاتي قد تستوجب لي النار، فكيف بمخالفاتي، وواقع الأمر كذلك، فطاعاتنا كم فيها من نقص وشوائب، ولو قدمت لبشر لما رضي بها لما فيها من نقص وتفريط، فكيف لو قدمت إلى أرحم الراحمين، لكن ليس لنا تعويل إلا على فضل الله الجليل، كما قال الأعرابي عندما تعلق بأستار الكعبة: "اللهم إن استغفاري مع إصراري لؤم وإن تركي للاستغفار مع علمي بواسع فضلك عجز مني (؟؟؟؟؟) ، يا من تتحبب إلينا بالنعم، ونتبغَّض إليك بالمعاصي، يا من إذا وَعَد وفَّى، وإذا توعّد تجاوز وعفى أدخل عظيم جرمي في عظيم عفوك" الأمر كذلك فهذا حال البشر إذا رجعوا إلى عقولهم.(5/161)
.. ولذلك كان الصالحون يقولون: "اللهم إن أطعناك فبفضلك والمنة لك، وإن عصيناك ف؟؟؟؟؟؟؟ وعدلك والحجة لك، اللهم بحق قيام حجتك علينا وانقطاع حجتنا اغفر لنا". أي نحن؟؟؟؟؟ عاجزون مستسلمون، وحقيقة.. لعل هذا يرضي ربنا علينا.
... الحجاج وهو الظالم المشهور سفاك الدماء عندما يخاطب بمثل هذا الأسلوب يلين ويرق قلبه، فقد أساء أناس مرة في حقه فأحضرهم وأعمل السيوف في رقابهم حتى وصل إلى واحد منهم فقال له: قف أيها الأمير، قال: وماذا تريد أن تقول؟ قال: إن أخطأنا عليك وجنينا فلا تخطئ أنت؟؟؟؟؟؟ العفو عنا، فطرح الحجاج سيفه وقال: أما في هؤلاء من يحسن يعتذر؟! أي هؤلاء الذين قطعت رؤوسهم لا يوجد فيهم شخص واحد يحسن الكلام والاعتذار ويقول كقول هذا.
... ونقول نحن حالنا يستوجب قعر جهنم، لكن لا تعويل لنا إلا على فضل الله، فإن عذبنا فهذا ما نستحق وإن رحمنا فهذا جود منه وإحسان، أما أنه نريد أن يكون لنا عند الله يد وعليه منة ونقول فعلنا وفعلنا ونخص الحسنات، فبئس هذا العمل وهذا القول، وهذه الحسنات لا يعلم حالها عندما فعلت إلا الله سبحانه وتعالى، فلنحسن التوبة والاعتذار فكما قلنا حسن الأسلوب يرق قلوب الجبابرة فكيف بأرحم الراحمين وأكرم الأكرمين سبحانه وتعالى ذي الفضل العظيم، فخواتيم سورة البقرة إذن هي التحفة الثالثة.
رابعا: رؤية الله سبحانه وتعالي:
؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ السموات العلا.
... ومبحث الرؤية مرّ في منهج السنة الأولى، وقد مرّ معكم مختصراً، وتكلم عن رؤية المؤمنين ربهم جل وعلا يوم القيامة، لكن هناك مباحث أخرى تتعلق بموضوع الرؤية منها:
1- النساء وهل يرين ربهن في الآخرة أم لا؟
وهذه المسألة شهيرة ولم يتعرض لها في شرح الطحاوية، وقد ألف أئمتنا كتباً فيها من جملة ذلك: تحفة الجلساء برؤية النساء لرب الأرض والسماء للإمام السيوطي، وهو مطبوع ضمن الحاوي للفتاوى له (2/397) .(5/162)
والأقوال في هذه المسألة ثلاثة، والمعتمد أنهن يرين الله سبحانه وتعالى وهن مكلفات كما أن الذكور مكلفون، وسبب الخلاف ورود بعض الروايات التي استدل منها بعض الناس على خلاف ذلك وأورد بحثاً فقال النساء لا يرين الله جل وعلا، وهذا باطل، وكان لابد من التعرض لهذا؟؟؟؟؟.
2- موضوع الرؤيا المنامية لربنا جل وعلا، هل تحصل أم لا؟
... نعم تحصل، والله جل وعلا يُرى في المنام، وقد رآه نبينا عليه الصلاة والسلام – وهذا ليس بخصوصية له. وقرر هذا الإمام ابن تيمية وغيره عليهم جميعاً رحمة الله.
... يقول الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء (2/167) : "ولم يأتنا نص جلي بأن النبي عليه الصلاة والسلام رأى الله تعالى بعينيه فأما رؤية المنام فجاءت من وجوه متعددة مستفيضة".
... وأما رؤية الله عياناً في الآخرة فأمر متيقن تواترت به النصوص، جمع أحاديثها؟؟؟ والبيهقي وغيرهما".
... ففي رؤية الله في المنام ثابتة باتفاق أهل السنة، وقد حكى ابن حجر في فتح الباري في الجزء الثالث عشر الإجماع على أن الله يُرى في المنام.
... وقد رآه أبو حنيفة والإمام أحمد والإمام الأوزاعي وأبو سليمان الرَبْعي (محدث دمشق) ، ورآه عدد غيرهم 0 وأنا أعرف بعض من رآه ممن قصّ عليّ رؤيته، والله تعالى على كل شيء قدير.
... ولو كان البحث معنا في الرؤيا لذكرت الأدلة على ذلك بتوسع، لكن نذكر نزراً منها:
ثبت عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: "خير ما يرى النائم في منامه أن يرى ربه، أو نبيه عليه الصلاة والسلام، أو أبويه أو أحدهما ماتا على الإسلام".
... وثبت في سنن الدرامي في كتاب الرؤى باب رؤية الرب في المنام، ثم نقل: عن ابن سيرين بسند صحيح قال: " من رأى ربه في المنام دخل الجنة"
. أي هذا هو تأويل الرؤيا إذا رآها.
... ثم بعد ذلك حديث معاذ، الذي ألف الإمام ابن رجب حوله كتاباً سماه (اختيار؟؟؟؟؟ في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى) .(5/163)
3- رؤية نبينا عليه الصلاة والسلام لربنا جل وعلا، فهذه المباحث حولها شيء من الخلاف ولابد من؟؟؟؟؟؟؟؟؟ الآخرين فليس لنا به الآن شغل أو علاقة لضيق الوقت، ولعله يأتي في حينه إن شاء الله في مبحث الرؤيا، فنقول وبالله التوفيق:
... اتفق أهل الحق على أن رؤية الله لم تحصل لأحد من الأنبياء في هذه الحياة الدنيا من آدم إلى عيسى عليه السلام أو لأحد من البشر.
... وأن من ادعاها لنفسه أو لأحد غير نبينا عليه الصلاة والسلام فهو ضال، وهذا محل وفاق وإجماع، لكن حصل خلاف في نبينا عليه الصلاة والسلام فقط.
... ودليل هذا الإجماع ما ثبت في صحيح مسلم وسنن الترمذي وابن ماجه عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال [واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا] هذا لفظ ابن ماجه.
... ولفظ الإمام مسلم في صحيحه (18/56 – بشرح النووي) : [تعلموا (أي اعلموا) أنه لن يرى أحد منكم ربه عز وجل حتى يموت] .
... وهذا الحديث ذكره نبينا عليه الصلاة والسلام عند معرض ذكره للدجال عليه لعنة ذي العزة والجلال لأن الدجال يدعي أنه الرب، فيقول لنا النبي صلى الله عليه وسلم يكفي في بطلان دعواه أن الله لا يرى في هذه الحياة الدنيا ولا يراه أحد من المخلوقات فيها فـ[اعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا] ، والدجال أعور وربكم ليس بأعور.
فإن قيل: لماذا لم يدخل النبي صلى الله عليه وسلم ضمن هذا الكلام لأنه عام يشمل كل أحد؟
فالجواب: أن المتكلم لا يدخل في عموم كلامه فيوجهه لغيره ويستثنى هو من الكلام فلا يشمله فذلك لم يدخل النبي صلى الله عليه وسلم ضمن هذا الكلام.(5/164)
ذكر الحافظ ابن حجر في فتح الباري (13/96) حيث قال بعد ذكر الحديث من رواية الإمام مسلم المتقدم "وفيه تنبيه على أن دعواه الربوبية كذب، لأن رؤية الله مقيدة بالموت والدجال يدعي أنه الله، ويراه الناس مع ذلك، وفي هذا الحديث رد على من يزعم أنه يرى الله في اليقظة تعالى الله عن ذلك، ولا يرد على ذلك رؤية النبي صلى الله عليه وسلم له ليلة الإسراء لأن ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم فأعطاه الله في الدنيا القوة التي يُنعم الله بها على المؤمنين في الآخرة".
فذكر هنا أن الله خص نبينا عليه الصلاة والسلام بهذا، وفي (8/608) منه – أي من فتح الباري في كتاب التفسير في تفسير سورة النجم تعرض لهذا المبحث، فقال: "فإن جازت الرؤية في الدنيا عقلاً فقد امتنعت سمعاً، لكن من أثبتها للنبي صلى الله عليه وسلم له إن يقول: أن المتكلم لا يدخل في عموم كلامه".
فإذن النبي صلى الله عليه وسلم لا يشمله العموم السابق فهو مستثنىً، وهذا كما أنه صلى الله عليه وسلم أخبر هذه الأمة بأنه لا يحل لهم أن يجمعوا بين أكثر من أربع نسوة وقال لمن أسلم وعنده تسع نسوة [اختر أربعاً وفارق سائرهن] ، فهو لم يدخل في هذا الكلام بل له حكم خاص خصه الله به.
وهنا في هذا الحديث لا يدخل النبي صلى الله عليه وسلم في عموم هذا الكلام ولا يقال إنه لن تحصل الرؤية حتى يموت صلوات الله عليه وسلامه.
وعليه فقد اختلف أهل السنة في مسألة رؤية نبينا عليه الصلاة والسلام لربه ليلة الإسراء والمعراج على أربعة أقوال أذكرها على سبيل الإجمال ثم أفصل الكلام فيها عازياً كل قول لأهله من أهل السنة والسلف مبيناً دليله، مرجحاً – بعد ذلك – ما يظهر لي أنه راجح والعلم عند الله.
القول الأول: حصلت الرؤية بعيني رأسه صلى الله عليه وسلم.
القول الثاني: حصلت الرؤية بقلبه.
القول الثالث: لم تحصل الرؤية.
القول الرابع: التوقف، فلا نقول حصلت له، ولا نقول: لم تحصل.
وسنفصل الكلام فيها الآن:(5/165)
المحاضرة الخامسة عشر
9/4/1412هـ
القول الأول:
أن رؤية نبينا عليه الصلاة والسلام لربه جل وعلا حصلت بعيني رأسه:
... قال بهذا جمّ غفير من أئمة الإسلام، منهم: الإمام الحسن البصري، وكان يحلف على ذلك وقد أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء (7/381) في ترجمة العبد الصالح إبراهيم بن طهمان وهو من رجال الكتب الستة ثقة وفوق الثقة، توفي سنة 163هـ، أورد في ترجمته أنه كان يقول: "والله الذي لا إله إلا هو لقد رأى محمد عليه الصلاة والسلام ربه".
... قال الإمام الألوسي في روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع مثاني (27/54) : "وأنا أقول برؤية نبينا عليه الصلاة والسلام لربنا".
... وهذا القول قال به الإمام السخاوي وهو تلميذ الحافظ ابن حجر وصاحب كتاب المقاصد الحسنة التحفة اللطيفة في أخبار المدينة الشريفة (1/30) .
... والتحفة اللطيفة تتكلم عن المدينة المنورة كما أنه ألفت كتب في أخبار مكة مثل أخبار مكة للأزرقي، وشفاء الغرام بأخبار البلد الحرام، والعِقد الثمين في أخبار البلد الأمين للإمام الفاسي، وهذا أحسن ما كتب في أخبار مكة ومن دخلها يقع في (8 مجلدات) ، وكذلك ألفت كتب في أخبار المدينة من ذلك الكتاب السابق الذكر الذي ألفه الإمام السخاوي وهو كتاب جليل، وكتاب المغانم المطابة في أخبار طابة للفيروز آبادي.
... الشاهد أنه قال في التحفة اللطيفة: "وأنا أقول برؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه" وقد انتصر لهذا القول الإمام ابن خزيمة في كتاب التوحيد وقرره في صفحات كثيرة تزيد على الثلاثين (من 197 - 230)
دليل هذا القول وعمدته خمسة أمور:
أولها: آثار ثابتة عن الصحابة لها حكم الرفع إلى نبينا عليه الصلاة والسلام:
1- روى ابن خزيمة في كتاب التوحيد ص 199 بإسناد قوي قاله الحافظ في الفتح 8/108 عن أنس رضي الله عنه قال [رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه] .(5/166)
2- روى الإمام الطبري في تفسيره، وابن خزيمة في كتاب التوحيد، والحاكم في المستدرك 2/469 بسند صحيح على شرط الشيخين أقره عليه الذهبي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: [اصطفى الله إبراهيم بالخلة، واصطفى موسى بالتكليم، واصطفى محمداً صلى الله عليه وسلم بالرؤية] ؟؟؟؟؟؟؟؟ له الرؤية، وأي هذه التحف والعطايا أغلى؟
حتماً إنها الرؤية فهي أغلى العطايا.
... فموسى اصطفاه الله بالكلام، وإبراهيم اصطفاه الله بالخلة، ونبينا عليه الصلاة والسلام حصل له التكليم – كما سيأتيننا – وحصلت له الخلة، وخلته أكمل خلة لربه ولذلك يقول خليل الله إبراهيم – كما في حديث الشفاعة وهو حديث متواتر – عندما يذهب الخلق ويقولون اشفع لنا فقد اتخذك الله خليلاً فيقول [إنما كنت خليلاً من وراء وراء، اذهبوا إلى محمد عليه الصلاة والسلام فإن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر] .
... فإذن هو خليلٌ وكليمٌ، وله فضل لم يحصل لغيره من النبيين وهو الرؤية.
3- روى الطبراني في معجمه الأوسط بسند لا بأس به – والأثر في مجمع الزوائد (1/79) – عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: [رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه مرتين، مرة ببصره ومرة بفؤاده] . إذن فهذه آثار مصرحة بأن نبينا عليه الصلاة والسلام حصلت له الرؤية للعزيز الغفار.
ثانيها: احتمال الآيات لهذا القول:
... انتبه!! هناك فارق كبير بين قولنا نص الآيات وبين احتمالها، وإذا احتملت الآية هذا فاللائق بكرم الله ومنزلة رسول الله عليه الصلاة والسلام حصول هذا الأمر له.
ونقول: إذا احتملت وكان الاحتمال صحيحاً وجيهاً فهذا كافٍ في الدلالة.
... فإذن الآيات تحتمل ولا تنص، لأنها لو نصت لما كان هناك مجال للخلاف في هذه القضية والذي دفعنا لقول هذا الاحتمال – كما قلنا – تفضيل الله لنبيه عليه الصلاة والسلام على غيره من؟؟؟ ولا مانع من أن تفضيله الله تعالى بهذا الأمر.(5/167)
.. أي أن منزلة نبينا عليه الصلاة والسلام يليق بها حصول هذا التفضيل، فإذا احتملت الآيات ما يليق بكرم الله ومنزلة رسول الله عليه الصلاة والسلام ثبت هذا له كما سيثبت للمؤمنين في جنات النعيم، والله على كل شيء قدير.
أما الآيات التي تحتمل هذا، فهي أربع آيات:
1- قول الله تعالى: (إنه هو السميع البصير) .
وقد تقدم الكلام عليها عند آية الإسراء وقلنا في تفسير الضمير ومرجعه قولان:
الأول: أن يعود على الله، وهذا هو المعتمد أي أن الله سميع بصير.
الثاني: وحكى هذا أبو البقاء العُكْبري يمكن أن يعود على النبي صلى الله عليه وسلم أنه، أي هذا النبي الذي أسري به وعرج سميع لأوامري بصير بي حصلت له الرؤية وليس حاله كحال نبي الله موسى وهذا القول ليس هو المعتمد في تفسير الآية لكن الآية تحتمل هذا وليس في هذا الاحتمال؟؟؟؟؟ حتى نقول إنه مطروح وهذا هو المطلوب وهو كافٍ في الدلالة.
2- قوله تعالى: (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس) .
وقد تقدم ذكر هذه الآية، وقلنا إنه ثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: [هي رؤيا عين أُرِيْها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم] .
وهذه الرؤيا شاملة للآيات العظيمة التي رآها في الأرض وفي السماء وفي؟؟؟؟؟.
إذن إطلاق الآية بأن الله أرى نبيه عليه الصلاة والسلام آيات عظيمة بعينيه، أفلا يدخل في هذا الإطلاق رؤيته لربه جل وعلا؟ يدخل.
وهذا احتمال في الآية وهو احتمال مقبول.
3- قوله تعالى في سورة النجم: (ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى) .
في بيان المراد بالضمائر في قوله (دنا فتدلى) قولان لسلفنا الكرام:(5/168)
الأول وهو الظاهر: أنها تعود على جبريل عليه السلام، اقرأ الآيات وانظر إلى الترتيب (والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علَّمه شديد القوى) . الذي علمه هو شديد القوى جبريل، تابع الآيات (ذو مرة فاستوى وهو بالأفق الأعلى ثم دنا) أي جبريل (فتدلى فكان) من النبي عليه الصلاة والسلام (قاب قوسين أو أدنى) ؟؟؟؟؟؟ الله إلى نبيه محمد عليه الصلاة والسلام بواسطة هذا الذي دنا فتدلى في تلك الساعة ما أوحى.
... وهذا هو الظاهر من الآيات، وهو أن هذه الرؤية حصلت من نبينا لجبريل وما رآه إلا مرتين في صورته الحقيقية، مرة في حادثة الإسراء والمعراج، ومرة رآه بأجياد، وله ستمائة جناح قد سد الأفق، (ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى) هذه هي الرؤية الثانية (عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى ... ) الآيات.
الثاني: أنها تعود على الله سبحانه وتعالى فتقول (ثم دنا) أي الرب جل وعلا، وقد ثبت هذا في صحيح البخاري في حديث الإسراء: [ثم دنا الجبار رب العزة فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى] من نبينا عليه الصلاة والسلام وحصل بينهما ما حصل (فأوحى إليه ما أوحى) وحصلت له الرؤية.
إذن فالدنو والتدلي هنا للرب جل وعلا، ولا يقال كيف دنا وكيف تدلى؟ لأن صفات؟؟؟ إقرار وإمرار، نقر بالصفة ولا نبحث في كيفيتها فعندما يقول (الرحمن على العرش) استوى نقول الاستواء معلوم والكيف مجهول، وكل ما خاطر ببالك فالله بخلاف ذلك.
... وإذا بحثت في الكيفية فقد مثلت، وإذا نفيت النص فقد عطلت، فلا تمثيل ولا تعطيل (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) .
والعجز عن دَرَك الإدراك إدراكُ ... والبحث في كنه ذات الإله إشراكُج
فلو قيل لنا: ما معنى استوى؟ نقول: معناها استوى، وما معنى دنا فتدلى؟ نقول: دنا فتدلى، فتفسيرها قراءتها وقراءتها تفسيرها فقط دون أن نكيف معنىً من المعاني نتخيله بأذهاننا.(5/169)
وعليه نقول: ليس الدنو بأغرب من نزول الرب إلى السماء كل ليلة [وهو حديث متواتر نؤمن به ومنكره ضال] .
وهذا الحديث: مع أنه في صحيح البخاري إلا أنه جرى حوله كلام، رواية شريك؟؟؟؟؟؟ لذلك قيل: إن شريك وهم في هذا اللفظ المذكور.
... السند في صحيح البخاري صحيح لكن يوجد في المتن وهم، وهذا كما يوجد حديث في صحيح مسلم انقلب على الراوي مع أن الإسناد صحيح [حتى لا تعلم يمينه ما أنفقت شماله] والأصل [حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه] ؟؟؟؟؟ وهنا كذلك قيل إن آفة هذا الحديث وهم الراوي لا ضعف السند.
لكن الحافظ ابن حجر في الفتح كأنه لم يرتض اتهام شريك بالوهم في هذا اللفظ المذكور فقال: روى الأموي في مغازيه بسند حسن عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: [ثم دنا منه ربه فتدلى] يقول: وهذه الرواية شاهد لرواية شريك وأنه ليس بواهم فيها.
... ويكفي أن يدخل هذا المعنى – الثاني – في الآية وأن لا يقال دخوله باطل وغير محتمل، لكن هل هو راجح أم مرجوح؟ فهذا موضوع آخر.
4- قوله تعالى: (ألم نشرح لك صدرك)
وتقدمت معنا، وتقدم معنا أن الشرح يراد منه أمران:
الأول: شرح معنوي، أي عن طريق شق صدره عليه صلوات الله وسلامه أربع مرات ثابتة صحيحة.
الثاني: شرح معنوي أي أن الله ألقى في قلبه العلم النافع والسكينة والطمأنينة وشرح صدره بذلك ووفقه للعمل بما ألقى في قلبه ثم رفع ذكره وأعلى مقامه ورتبته فحصل له الشرح من جميع الجهات.
فنقول: أليس من أعظم أنواع شرح الصدر رؤية الله جل وعلا؟ بلى.
وحقيقة كل شرح دون حصول رؤية الله فليس بشرح كامل، فإن الله سبحانه يمن على نبيه عليه الصلاة والسلام بأنه شرح له صدره على وجه التمام والكمال بحيث لم يبق في هذا الصدر؟؟؟ للشرح مرة ثانية، فلو لو تحصل له الرؤية فهل حصل الشرح التام الكامل؟ أم أننا نقول إنه يحتاج إلى شرح آخر مرة ثانية؟.(5/170)
.. ولذلك يكتمل نعيم الجنة ويطيب برؤية الله جل وعلا، ولولا هذا لما تلذذ أهل الجنة في الجنة، فكما أن هذه الدنيا لا تطيب إلا بمعرفة الله والأنس بذكره سبحانه وتعالى ولولا هذا؟؟؟ الحياة علينا، فهناك كذلك الجنة بلا رؤية لله كالدنيا بلا معرفة لله، فماذا تكون الفائدة من هذه الحياة إنما تكون كحياة البهائم.
... يقول الإمام الحسن البصري – عليه رحمة الله – كما في كتاب الاعتقاد للإمام البيهقي -: "والله لو علم العابدون أنهم لن يروا ربهم في الآخرة لزهقت أنفسهم" أي لماتوا، فكيف نعبد إلهاً في هذه الحياة، لم نره في الحياة لحكمة وهي حتى لا يكون الإيمان إيمان مشاهدة، لكن أن تصبح الحياة كلها إلى ما لا نهاية لن نرى فيها نور وجه ربنا الكريم؟ فهذا مما لا يرضاه أحد.
... وإن أحدنا لا يرضاه مع الزوجة فضلا ً عن المعبود، ولله المثل الأعلى – فيتزوج زوجة لا يراها ولا تراه بل مجرد كتابة عقد هي في الهند وهو في رأس الخيمة، فهل هذا مما يرضاه أحد؟ لا هذا مما لا يرضاه أحد – وهي زوجة – فكيف بالمعبود الذي نعبده جل وعلا ثم لا نتمتع برؤية نور وجهه.
وألا يتمنى أحدنا أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!!!.
كما في معجم الطبراني عن أنس رضي الله عنه – مرفوعاً بسند حسن – [سيوشك أحدكم يتمنى أن ينظر إليَّ ولو بأهله وماله] وواقع الأمر كذلك، ولو قيل: يمكن لكم أن تروا نبينا صلى الله عليه وسلم، فكيف رؤية رب العالمين؟ وكيف نعبد إلهاً لا نراه؟!!.
ساء ظن الإباضية بربهم – وهم فرقة من الخوارج – حيث يقولون رؤية الله ضلال ومن؟؟؟؟؟؟ وهل يوجد عندنا حبيب أعظم من ربنا جل وعلا الذي خلقنا ونعبده؟!!.
فإذن آنسنا الله في هذه الحياة بذكره وفي الآخرة بعد الممات لا نأنس إلا برؤية وجهه سبحانه وتعالى، إذن دخول هذا المعنى في الآية لا مانع منه والآية تحتمله، وهذا غرضنا. هذا هو الدليل الثاني.(5/171)
ثالثها: من أثبت الرؤية فمعه زيادة علم، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ:
وعندنا قاعدة مقررة: المثبت مقدم على المنافي.
... وقد حصل عندنا الإثبات في أثر ابن عباس وليس رؤية مطلقة بل قيد فقال مرة ببصره ومرة بفؤاده، فالتصريح برؤية النبي صلى الله عليه وسلم بعيني رأسه ثابت ولنضرب مثالا ً: لو قلت للأخ إبراهيم: رأيت والدك هذا اليوم في رأس الخيمة، فقال: أنا أعلم أن والدي في مكة، فأنا أثبتُّ وهو ينفي فبكلام من نأخذ؟
نأخذ بكلام المثبت، ولا يعني هذا أن كلام النافي باطل أو أنه كذاب، لكن النافي يخبرنا ما كان، والأصل عدم ثبوت مجيء والدك إلا ببينة، فأنا أثبت – وأنت متعلق بالحال السابق، وهنا من نفى الرؤية فهو متعلق بالحال السابق، ومن أثبت فمعه دليل زائد فيقدم على النافي.
رابعاً: خصوصيات نبينا عليه الصلاة والسلام كثير وفيرة، فما المانع من أن يخصه بهذا؟!.
س: فهل هناك محظور أو مانع؟ وهل الرؤية في الدنيا مستحيلة أم ممكنة؟
جـ: ممكنة لكن ورد الشرع بأنها لا تحصل لغير نبينا عليه الصلاة والسلام فنحن ننفيها عن طريق منع الشرع لا عن طريق الاستحالة العقلية، ولو كانت مستحيلة عقلاً لما سألها موسى عليه الصلاة والسلام (قال رب أرني أنظر إليك) ، ومعنى المستحيل أنه كفر، فهل يسأل موسى عليه السلام كفراً من ربه؟!.
... فدل هذا على أنه كان يعلم أن الرؤية ممكنة، فإذا أراد الله أن يكرم بعض عباده بها أكرمه، فموسى تطّلع لهذا فقال الله له: إنك لا تتأهل لذلك في الدنيا، لكن انظر إلى الجبل إن استقر فسوف تراني، وتعليق الرؤية على ممكن يدل على أن الرؤية ممكنة، فلو ثَبت الله الجبل لرأى موسى ربه، لكن لما تجلى ربنا للجبل (جعله دكاً وخرّ موسى صَعِقاً) الشاهد؟؟؟ أنه علق الرؤية على ممكن فدل ذلك على أن الرؤية ممكنة.(5/172)
.. وإذا كان الأمر كذلك فموسى سأل الرؤية ولكنه أخبر أنه لا يتأهل لهذا في الدنيا لأنه دون نبينا عليه الصلاة والسلام لا لنقص فيه، ولكن – كما قلنا - الكمالات تتفاوت فنبينا أفضل من موسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه قطعاً وجزماً، بل قلنا – إن خليل الرحمن إبراهيم أفضل من موسى.
... فإذن الرؤية جائزة عقلاً ممتنعة سمعاً وشرعاً للحديث الذي ذكرنا [واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا] وقلنا المتكلم لا يدخل في عموم كلامه، فبقي النبي صلى الله عليه وسلم مستثنىً، فهي إذن خصوصية فما المانع منها؟ لا يوجد شيء يمنع من ذلك.
خامسها: في هذا القول تأكيد لحصول الرؤية للمؤمنين في جنات النعيم:
؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ فنحن إذا قلنا بهذا القول نقطع الطريق على المعتزلة والخوارج الذين ينفون رؤية المؤمنين لربهم؟؟؟؟ هل يمكن لمخلوق أن يرى ربه؟ فنقول لهم حصل لنبينا عليه الصلاة والسلام فإذن هي ليست مستحيلا ً فنحن سنراه في الآخرة.
لكن عندما نقول لم تحصل لنبينا عليه الصلاة والسلام فيبقى البحث في الرؤية في الآخرة هل حصلت له؟؟؟؟ أن لن تحصل لأحد؟!!.
... أما إذا قلنا أن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه حصلت فإن هذا مما سيريحنا من مجادلتهم ونقاشهم.
القول الثاني:
يثبت رؤية نبينا علية الصلاة والسلام لربه، لكن بقلبه لا بعيني رأسه.
س: وما المراد بالرؤية القلبية هل هي العلم؟(5/173)
المراد من الرؤية القلبية أن يراه بقلبه كما يراه ببصره، وليس المراد منها العلم عند أصحاب هذا القول، لأن العلم مشترك بينه وبين سائر المؤمنين فكلهم يعلمون الله ولو كان المراد (رآه بقلبه) أي علمه ليلة المعراج، فهذا لا يستقيم فإنه كان يعلمه قبل ذلك وكلنا نعلم هذا فما الداعي إذن للقول بأن نبينا عليه الصلاة والسلام رأي ربه بقلبه أي علمه؟!!!! وقد قال أصحاب هذا القول: ولا يشترط عقلاً لحصول الرؤية أن يرى الإنسان بعينيه اللتين هما في رأسه، فقد يرى بأصبعه وقد يرى برجله وقد يرى ببطنه وقد يرى بظهره وقد يرى بقلبه.
فإنه لم ير ربنا بعيني رأسه، لكن جعل له في قلبه بصراً فرأى ربه، كما كان للنبي صلى الله عليه وسلم رؤية من وراء ظهره وله عينان يبصر بهما، ويرى من ورائه كما يرى من أمامه وهكذا جعل الله له في قلبه.
وقد قال بهذا القول أئمة أجلاء منهم:
الإمام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، والإمام ابن كثير وجمّ غفير وفي تقديري وعلمي أن هذا القول ضعيف لعدة أمور:
إطلاق الرؤية ينصرف إلى رؤية البصر لا إلى رؤية القلب، ونحن عندنا قد ثبتت الرؤية مطلقة ومقيدة، فالمقيدة أثر ابن عباس (ببصره) ، والمطلقة – كقول أنس [رأى محمد عليه الصلاة والسلام ربه] .
ولا أعلم من أين أتى أصحاب هذا القول بقولهم إنه رآه بقلبه؟!
نقول: وثبت عنده [ببصره] وبقية الروايات عن الصحابة مطلقة، فعندما يقول أنس: [رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه] فهذا اللفظ المطلق عندما يسمعه الإنسان يفهم منه أنها رؤية بصرية، لأن الرؤية إذا أطلقت فهي رؤية بصرية بعيني الرأس، فنقول: إطلاق الآثار المصرحة بحصول الرؤية لنبينا عليه الصلاة والسلام تدل على أن الرؤية بالبصر لا بالقلب.
؟؟؟؟؟ رضي الله عنهما بأنه رآه ببصره.
3- أن هذا خصوصية وذاك خصوصية فما الداعي لاعتبار هذا وإلغاء ذاك، وما الذي يرجح خصوصيتكم على خصوصيتنا.
4- القول بالقول الأول يدخل فيه هذا القول دون العكس.(5/174)
فلو قلنا إنه رآه بقلبه فقط لما دخلت رؤية البصر، ولو قلنا إنه رآه ببصره فلا مانع من أن يراه بقلبه أيضاً.
إذن فالرؤية البصرية لا تمنع الرؤية القلبية، بخلاف العكس، وإذا كان الأمر كذلك فالذي يتناسب مع فضل الله ومع منزلة رسول الله عليه الصلاة والسلام ودلالة الآثار أنه قد رآه بالأمرين، ببصره وبقلبه والله على كل شيء قدير.
والإباضية والخوارج والمعتزلة خالفوا في موضوع الرؤية ونفوا حصولها وقالوا هي مستحيلة فنقول نبي الله موسى سأل الرؤية، وهذا من أعظم أدلة أهل السنة على أن رؤية الله في الدنيا ممكنة فضلا ً عن الآخرة، لأنها أي الرؤية لو كانت كفراً وضلالاً فهل كان يسألها نبي من أولي العزم؟!!
وانظر إلى سفاهة الزمخشري عند هذه الآية (لن تراني) يقول لن تفيد التأبيد وهذا في الدنيا والآخرة، ونقول له: ألم يقل الله عن اليهود (ولن يتمنوه أبداً بما قدمت أيديهم) ؟ ثم أخبر عنهم وعن أهل النار عموماً بأنهم سيتمنون الموت (ونادوا يا مالك ليقضي علينا ربك) فإذن المراد بـ (لن تراني) أي في الدنيا، فما الذي جعلك تقول إنه في الآخرة أيضاً لن تراه؟!!
ثم بعد ذلك هجا أهل السنة ببيتين من الشعر في (كشافه) فيقول:
لجماعة سَمَّوا هَواهم سنة ... لجماعة حُمْرٌ لعمري موكفهْ
قد شبهوه بخلقه فتخوفوا ... شنع الورى فتستروا بالبلكفهْ
(حمر موكفة) هي حمير عليها الإكاف فهي مستعدة للركوب، والإكاف هو الذي يوضع على ظهر الحمار كالسراج للخيل.
(البلكفة) هي قولنا نراه بلا كيف، ويقصد أننا لما قلنا بأننا نرى ربنا خفنا أن يقول النار عنا مشبهة وأن يشنعوا علينا ويقولون كيف شبهتموه بالورى فتسترنا بالبلكفة، فحذار حذار من البلكفة فإنه من منصوبات طواغيت شيوخهم، هذا كلامه، وهو اعتقادنا بأننا كلما ذكرنا صفة قلنا: نؤمن بها من غير كيف لأن الله يقول (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) .(5/175)
ونحن نقول إن كان هو شاعراً أفلا يوجد عندنا شعراء، فانظر بماذا أجابه أهل السنة:
هل نحن من أهل الهوى أم أنتم ... ومن الذي منا حمير موكفهْج
اعكس تصب فالوصف فيكم ظاهر ... كالشمس فارجع عن مقال الزخرفهْ
أترى الكليم أتى بجهل ما أتى ... وأتى شيوخك ما أتوا عن معرفهْ
إن الوجوه إليه ناظرة بذا ... جاء الكتاب فقلت هذا سفهْ
نطق الكتاب وأنت تنطق بالهوى ... فهوى الهوى بك في الهاوي المتلفهْ
فليلزم هو وكذلك الإباضية حدهم وليقفوا عنده، هل صار أعظم نعيم نتمناه ضلال؟ والذي يسأله يكون من الكافرين؟ نعوذ بالله من هذا.
القول الثالث:
ينفي الرؤية، أي لم تحصل هذه الرؤية للنبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء والمعراج.
تبنى هذا القول أمنا عائشة غفر الله لها ورضي عنها.(5/176)
ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث مسروق أنه قال لأمنا عائشة: [يا أمتاه هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه؟ فقالت: لقد قفّ شعري مما قلت] ومعنى هذا أن شعري قام من هول هذه الكلمة العظيمة فكيف تقول هذا، والإنسان إذا اعتراه وجل يصاب بمثل هذا كما قال جل وعلا (الله أنزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين لا يخشون ربهم) فإذا اعتراك وجل وهم ينقبض جلدك وكأن هناك برداً شديداً وتشعر بشعر رأسك كأنه انتصب، فهذا هو القف، ثم قالت له: [أين أنت من ثلاث، من حدثك أن محمد صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد كذب، [وفي رواية فقد أعظم على الله الفرية] ورحمة الله على الإمام ابن خزيمة يقول في كتاب التوحيد ويلتمس عذراً لأمه: "قالت هذا في حال انفعال وغضب، ولا يجوز أن نقول إن من قال هذا إنه أخطأ فضلاً عن أن نقول إنه افترى فضلا ً عن أن نقول إنه أعظم الفرية" أي أن هذا الكلام صدر منها في حالة من الغضب ولا علم عندها في هذه المسألة فقالت على حسن ما عندها من العلم هذا اللفظ القاسي، فهي مخطئة في هذا وهي أمنا نستغفر لها ونترضى عنها ونسأل الله بفضله ورحمته أن يشفعها فينا إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.(5/177)
وهذه شفاعة شرعية، وليست شركية، فإنك إذا سألت الله أن يشفع فيك أحداً من خلقه فهذه شفاعة شرعية بالإجماع، أما لو قلت: يا عائشة اشفعي لنا، فهذا هو المحظور وهي شفاعة شركية، لكن لو قلت اللهم شفع في أبا بكر، عمر، عثمان، علي ... اللهم شفع فيّ نبيك عليه الصلاة والسلام، شفع فيّ أمنا عائشة فهذا خالص التوحيد، فتطلب من الله أن يشفع لا تطلب من المخلوق، لأنه لا يشفع أحد إلا بعد أن يأذن له الرحمن ويرضى للمشفوع بحصول الشفاعة له، ولذلك نحن نطلب من الله أن يشفع فينا هذه الصديقة رضي الله عنها، ثم قالت: [؟؟؟؟؟ والله يقول (لا تدركه الأبصار) ] ولو أردنا الوقوف معها لقلنا هل يصح هذا دليلاً على نفي الرؤية عن نبينا عليه الصلاة والسلام؟ ليس فيه دليل على الإطلاق، فالإدراك هو رؤية مع إحاطة والله جل وعلا يُرى ولا يُحاط به، فإذن الإدراك معنىً زائد على الرؤية هذا هو المعنى المعتمد.
وقيل لا تدركه: على التنزل لنجعل قول أمنا معتبراً، ويكون المعنى لا تدركه أي لا تراه في الدنيا بإحاطة أو غيرها ونستثني من هذا نبينا عليه الصلاة والسلام.
وقيل: وهو المعنى الثالث: لا تدركه في الآخرة إذا تجلى بنوره الذي هو نوره، فإذا تجلى بنوره الذي هو نوره فإنه لا يراه شيء في الدنيا ولا في الآخرة إلا مات واحترق والمؤمنون عندما يروه يكون بصورة تناسب قواهم في الآخرة، فإنه لو تجلى بنوره الذي هو نراه لم يره يابس إلا؟؟؟؟؟ ولا حي إلا مات، والأمر الثاني:
[ومن حدثك أن محمداً صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً مما أنزله الله عليه فقد كذب، والله يقول (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته) ومن حدثك أن محمداً صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب فقد كذب، والله يقول (قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله) ] .(5/178)
وورد في صحيح مسلم عن عبد الله بن شقيق (من التابعين) [أنه التقى بأبي ذر رضي الله عنهم أجمعين فقال له: ليتني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسأله؟ فقال: وماذا تريد أن تسأله؟ فقال: كنت سأسأله: هل رأيت ربك؟ فقال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، هل رأيت ربك؟ فقال: [نورٌ أنّى أراه] فهذا الأخير من كلام نبينا عليه الصلاة والسلام ومعظم من أورد هذا الحديث يقول هذا دليل على نفي الرؤية.
وأنا أقول: هل هذا دليل على نفي الرؤية أم على حصولها؟
الجواب: هذا الحديث دليل على حصول الرؤية، كيف هذا؟
يا إخوتي الكرام ... عندما أقول هذا رجل أنّى أراه، ما معنى هذا؟ معناه أنه كيفما أراه وفي أي حالة أراه فهو رجل.
وهذا هو جواب الإمام ابن خزيمة وتعليله فيقول أنّى ليست للاستبعاد وإنما لبيان أن هذا هو حال الله في جميع الأحوال.
فالمعنى هو أن الله جل وعلا كيفما أراه فهو نور، وهذا كقوله تعالى (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم) أي كيف شئتم، وليس المعنى أنّى لا أراه ومستبعد أن أراه.
فإذن هو يدل على حصول الرؤية، يدل على هذا الرواية الثانية في صحيح مسلم [رأيت نوراً]
وقال النافون للرؤية: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يره لكن رأى النور الذي هو حجابه، فإن الله لا يُرى في الحياة الدنيا، وحملوا أنّى على الاستبعاد لا على هذا لعموم الأحوال.
المحاضرة السادسة عشرة
وقد حاول أصحاب القول الثاني [الذين قالوا الرؤية قلبية ليست بصرية] أن يجمعوا بين القول الأول والثالث وأن يردوهما إلى القول الثاني فقالوا:
من أثبت الرؤية فمراده الرؤية القلبية.
ومن نفى الرؤية فمراده الرؤية البصرية.
وعليه فالأقوال الثلاثة بمعنىً واحد ولا اختلاف بينها، وهذا هو رأي الإمام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، والإمام ابن حجر في فتح الباري (8/608) مال إلى هذا وجمع بين الأقوال الثلاثة فردها إلى قول واحد.(5/179)
وهذا مع جلالة من رجحه وقال به – هو في نظري جمع ضعيف لأمرين معتبرين:
الأمر الأول: لا معارضة بين القول الأول والثاني عند أصحاب القول الأول فلا يجوز أن نرد قولهم إلى قول غيرهم.
ووجه عدم المعارضة وضحته لكم سابقاً: أن من أثبت الرؤية البصرية لا ينفي الرؤية القلبية بل يقول: إذا حصلت رؤية البصر فرؤية القلب حاصلة من باب أولى، وعليه فلا داعي للجمع بين القولين لأن أصحاب القول الأول لا يخالفونكم في قولكم.
الأمر الثاني: نقول: القول الثاني والثالث ينفيان الرؤية – أي الرؤية البصرية – وتقدمت معنا قاعدة ذهبية وهي أن المثبت مقدم على النافي.
فعندما تأتينا رواية الصحابي الجليل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: [رأى محمد عليه الصلاة والسلام ربه مرتين مرة ببصره ومرة بفؤاده] فهذا إثبات والإثبات لا يجوز أن نتركه لأجل نفي لأن المثبت مقدم على النافي، ومَنْ حفظ حجة على من لم يحفظ.
والعلم عند الله.
القول الرابع: التوقف، فلا نقول رآه ببصره ولا بقلبه ولا ننفي الرؤية، إنما نقول هذه مسألة لا يتعلق بها حكم دنيوي والنصوص متعارضة في الظاهر، فالسكوت أسلم ونفوض الأمر إلى الله جل وعلا.
إذن لما تعارضت الأدلة وكان لا يتعلق بها حكم ظاهري أو دنيوي لنجمع أو لنرجح، إذ لو كانت في حكم دنيوي لكان لابد من الترجيح أو الجمع لأجل أن نعمل ببعض النصوص، لكن بما أن الحالة ليست كذلك والمسألة من أمور الغيب فالسكوت عنها أولى.
وهذا ما ذهب إليه عدد من الأئمة منهم الإمام أبو العباس القرطبي، (ليس صاحب التفسير المشهور إنما هو صاحب كتاب المُفْهِِم في شرح صحيح مسلم) وقال: النصوص فيها متعارضة وأقاويل السلف مختلفة فمنهم من يثبت ببصره ومنهم من يثبت بقلبه ومنهم من ينفي، ولا يتعلق بهذه المسألة حكم دنيوي فالسكوت أسلم.(5/180)
وذهب إلى هذا سعيد بن جبير من أئمة التابعين كما حكي ذلك عن القاضي عياض في كتابه (الشفا في التعريف بحقوق المصطفى) وهو كتاب سيرة نبوي – في ص 97 حيث نقل القاضي عن سعيد بن جبير عليه رحمة الله أنه قال: لا أقول رآه ولا أقول لم يره.
ويفهم من كلام الإمام الذهبي عليه رحمة الله أنه يميل إلى هذا القول ففي سير أعلام النبلاء (10/114) يقول: "والذي دل عليه الدليل عدم الرؤية مع إمكانها فنقف عند هذه المسألة فإثبات ذلك أو نفيه صعب والوقوف سبيل السلامة والله أعلم، وإذا ثبت شيء قلنا به".
انظر لهذا الكلام الذي هو أصفي من الذهب وأحلى من العسل، وهذا الإنصاف وهذا هو حال أئمتنا في البحث العلمي فلا نعنف من أثبت الرؤية لنبينا عليه الصلاة والسلام في الدنيا ولا من نفاها بل نقول الله ورسوله أعلم، بلى نعنف ونبدع من أنكر الرؤية في الآخرة، إذ رؤية الله في الآخرة تثبت بنصوص متواتر.
وهذه المسألة أشار إليها الإمام الذهبي أيضاً في (2/167) وقد ذكرته سابقاً، فيقول: "ولم يأتنا نص جلي بأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى الله بعينيه، وهذه المسألة مما يسع المرء المسلم في دينه السكوت عنها، فأما رؤية المنام فجاءت من وجوه متعددة مستفيضة وأما رؤية الله سبحانه عياناً في الآخرة فأمر متيقن تواترت به النصوص وجمع أحاديث الرؤية الإمام البيهقي والإمام الدارقطني وغيرهما" فهذا فيما يظهر ميل الذهبي إلى هذا القول، أنه يتوقف ولا يعنف من قال بخصوص الرؤية ولا يعنف من نفاها.
وخلاصة الكلام ... في هذه المسألة أربعة أقوال ثابتة عن سلفنا الكرام وهي مما يسع الإنسان في هذه المسألة أن يقول بواحد منها، وإذ قال بواحد منها فلا يعنف ولا يبدع ولا يضلل لاختلاف السلف في هذه المسألة.
فلا نعنف من أنكر الرؤية في الآخرة فذاك يخالف أمراً مجمعاً عليه، فنبدعه ونحكم عليه بالضلال فانتبه لهذا.(5/181)
إخوتي الكرام ... العمدة والضابط في التماس عذر للمخالف من أمور الشرع وعدم التماس عذر له أمر واحد وهو اتفاق السلف واختلافهم فهم في العقائد والأحكام العملية (عبادات، معاملات، عقوبات) فمن خالفهم فيما اتفقوا عليه فهو ضال مبتدع ومن خالفهم فيما لم يتفقوا عليه فالمخالف في سعة فلا يبدع ما دام لم يقصد الهوى ولم يخبرنا أنه يفعل هذا شططاً وسفهاً.
وهذا له نظائر كثيرة سواء كان في العقائد أو في الأحكام فالأمر مستوٍ فيهما، فإذن ننظر لحال واقع السلف في هذه المسألة فإن أجمعوا فالمخالف ضال وإن اختلفوا فالأمر فيه سعة، وهنا لا نعنف المثبت ولا نعنف النافي ولا نعنف المتوقف.
ولأضرب لكم مثلاً في أمر فرعي:
آية الوضوء: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين ... )
فهناك أربعة أعضاء ثلاثة تغسل وواحد يُمسح لا خلاف فيها بين المسلمين، فمن خالف في هذا فهو ضال شيطانٌ رجيم، لكن بعد ذلك في كيفية الإتيان بهذه الأعضاء في الوضوء اختلف العلماء قالوا: هل يلزم الترتيب أم لا؟!، فلو جاء إنسان وتوضأ ولم يرتب صح الوضوء أم لا؟
عند الحنفية صح الوضوء، والترتيب بين هذه الأعضاء الأربعة مستحب لأن الله يقول (فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين ... ) والواو بإجماع أهل اللغة تفيد التشريك مع عدم الترتيب لا بمهلة ولا بدون مهلة، هذا كما تقول جاء زيد وبكر ومحمد وقد يكون محمد أولهم مجيئاً بخلاف ما لو قلت جاء زيد فبكر فمحمد فهنا الفاء للترتيب مع التعقيب فالأول وبعده الثاني مباشرة، وبخلاف ما لو قلت جاء زيد ثم إبراهيم فهنا ثم للترتيب مع التراخي.
فإذن الترتيب عند الحنفية سنة، وهو عند الجمهور واجب، وعليه لو جاء رجل وتوضأ ولم يرتب فهل يجرؤ إنسان أن يقول له وضوؤك باطل؟!.(5/182)
لا، لأن المسألة وقع الخلاف فيها بين السلف. وأبو حنيفة تابعي أدرك ستة من الصحابة، فالمسألة فيها سعة.
مثال آخر:
مسح الخفين بدل غسل الرجلين هذا لا خلاف فيه بين علماء الأمة، فإذا لبس الخفين على طهارة وجاء ليتوضأ فلا يلزمه أن ينزع خفيه بل يكفيه أن يمسح عليها.
فلو خالف أحد وقال لا يجوز المسح على الخفين ولو مسح ما صحت صلاته، فماذا نقول له؟
مبتدع وضال لأنه لا خلاف في هذا بين أئمتنا، والمخالف في هذا هم الشيعة فقط يقولون لو مسح على خفيه لم يصح وضوؤه، ولو غسل رجليه لم يصح وضوؤه بل يمسح على رجليه مسحاً فقط.
فخالفوا أهل السنة في الأمرين، في غسل الرجلين وفي المسح على الخفين، لكن نقول هل سبقهما إلى هذا أحد من السلف؟! وإن سبقهم أحد من السلف فلا يحق لأحد أن يضلل المخالف.
وأحاديث المسح على الخفين رويت عن العشرة المبشرين بالجنة وعلى رأسهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه - الذي يزعمون زوراً وبهتاناً أنهم ينتمون إليه، وكان يمسح على الخفين، كما نقل عنه تحريم نكاح المتعة – وهذا ثابت في صحيح مسلم عنه وهم يخالفونه في الأمرين، ولا يمسحون على الخفين، وينكحون نكاح متعة ويدعون أنهم ينتسبون إلى آل البيت، والزنا في البلدان كلها يقع في دور العهر والفجور والفنادق إلا في إيران فإنه يقع في المساجد عن طريق نكاح المتعة، فتذهب إلى هناك ويأتي آية الله – بل هو آية الشيطان – فيعقد لك على من تريد وهناك نساء جالسات ينتظرن من يأتي ليعقد عليهن نكاح متعة يوماً أو يومين أو ليلة أو ليلتين كما تريد، وهذا عندهم لا حرج فيه بل هو من الأمور الفاضلة كما أنه لا يعتبر نكاحاً كالنكاح المعروف، فلو كان عندك أربع نسوة وأردت أن تعقد على غيرهن نكاح متعة فلا حرج في ذلك، وإذا تمتعت مرة فأنت في درجة الحسن – كما يقولون – ومرتين في درجة الحسين، وثلاثة في درجة علي ... نعوذ بالله من هذا الضلال والعار.(5/183)
فإذن ننظر إلى المسألة هل تحتملها الأدلة أم لا؟ وكيف ذلك؟
نقول: خير من فيهم دين الله هم سلف هذه الأمة، فإذا اختلفوا دل هذا على أن الدليل يحتمل ويحتمل، ولا يوجد نص يرجح، فالمسألة بقيت محتملة والأقوال كلها جائزة، والإنسان يأخذ بما هو أقرب للمراد حسب اجتهاده، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
وإذا لم يختلفوا – فهم خير من فهم دين الله – فاتفاقهم هذا يدل على أن النص ليس له معنىً إلا هذا ولذلك المخالف ضال ومبتدع.
ولذلك إخوتي الكرام ... كل من يدعو إلى الكتاب والسنة – كما يوجد في هذه الأيام – دون الرجوع إلى فهم السلف فهو ضال زنديق يريد أن يضلل الأمة وأن يقضي على الكتاب والسنة باسم الكتاب والسنة، ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخوارج المتقدمين الجدد والحديث في الصحيحين [يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرميّه، يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وقراءته مع قراءتهم لا تجاوز قراءتهم حناجرهم] ؟! هذا حال الخوارج، وقد تواترت الأحاديث في ذم الخوارج، فهؤلاء ماذا يقولون؟ يدعون إلى تحكيم الكتاب ويقولون لا حكم إلا لله، وعليّ عندما حَكَّم الرجال كفر.
ويوجد جماعة الآن يسمون بالقرآنيين يقولون ليس عندنا لا أبو بكر ولا عمر ولا أحمد ولا الشافعي، ليس عندنا إلا القرآن وعقولنا.
فانظر لألفاظ علمائنا لا نعنف من أثبت الرؤية، ولا نعنف من نفاها، فماذا تختار؟ يقول: السكوت أسلم وإذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب وهي ما لا يتعلق به حكم دنيوي وهي من أمور الغيب فلنكِلْ أمرها إلى الرب جل وعلا ولا نخوض فيها والعلم عند الله.(5/184)
انتبهوا لهذا طالب العلم لابد أن يحيط بهذه الأقوال الأربعة حتى إذا سمع قائلاً يقول بقول منها فليتمهل عليه ولا ينبذه بالبدعة ويقول له أنت مبتدع خالفت أهل السنة، انتبهوا المسألة مما اختلف فيها أهل السنة وفيها سعة وقد سبقنا في الخلاف فيها من قبل الصحابة والسلف الصالح رضوان الله عليهم، فابن عباس يثبت وأمنا عائشة تنفي والعلماء بعد ذلك على هذا المسلك وما دام الأمر كذلك فليسعنا ما وسعهم ولا يبدع بعضنا بعضاً والعلم عند الله.
س: ما المراد بالسلف هنا؟
جـ: المراد بالسلف هنا الصحابة والتابعون وتابعوهم، وهم القرون المفضلة بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم ثم بعد ذلك يفشوا الكذب كما يخبر النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث في صحيح البخاري: [خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم] ، قال عمران بن الحصين أو الراوي عنه: فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثاً] ثم يأتي بعد ذلك أقوام يشهدون ولا يستشهدون ويحلفون ولا يستحلفون ويخونون ولا يأتمنون [وفي بعض الروايات ينذرون ولا يوفون] ويظهر فيهم السِمَن يسبق يمين أحدهم شهادته وشهادته يمينه] أي يتعجل في كلامه ولا يتروي وهذا في العصور المتأخرة.
ولذلك الحديث المرسل الذي يرفعه التابعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم احتج به الجمهور، قالوا: لأن ذلك لم يفشُ فيه الكذب، فإنه حصل في العصور المتأخرة.
خامساً: كلام العزيز الغفور لنبينا عليه الصلاة والسلام المبرور:
كلمه الله جل وعلا فوق سبع سموات، فحصلت له الرؤية وحصل له الكلام ن وتقدم معنا ما يشير إلى هذا عند فرض الصلوات وفيه أن الله جل وعلا قال له بعد أن انتهت إلى خمس [أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي، هي خمس وهن في الآخرة خمسون] .
وهذا كلام يسمعه النبي صلى الله عليه وسلم من ربنا في ذلك الوقت، وهذا هو مما أطلعنا عليه من أنه حصل بينهما كلام، لكن ما الذي حصل بعد ذلك من مناجاة وتكليم؟ لا يعلم هذا إلا رب العالمين.(5/185)
وقد أشار الحافظ في الفتح (7/216) إلى هذا عند هذه الجملة من الحديث: "هذا من أقوى ما استدل به على أن الله كلم نبيه صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء والمعراج بغير واسطة".
إن قيل: من أين علمنا أن هذا التكليم كان من غير واسطة؟
الجواب: من لفظ الحديث [أمضيت فريضتي] ، ولو أن الملك هو الذي بلغه لقال أمضى الله فريضته يا محمد [خففت عن عبادي] هذا كلام من؟ إنه كلام الله، هذا كما يفعل ربنا كل ليلة حين ينزل إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: [من يدعوني فاستجب له، ومن يسألني فأعطيه ومن يستغفرني فأغفر له] والحديث متواتر، فجاء المؤولة وقالوا: معنى [ينزل ربنا] أي ينزل ملكه ونقول لهم: لو نزل الملك فهل يجوز أن يقول من يدعوني فأستجب له، ومن يسألني فأعطيه، ومن يستغفرني فأغفر له بل لو نزل أعلى الملائكة لما جاز له أن يقول هذا الكلام، لكن يقول لو كان الملك الذي ينزل – من يدعو الله فيستجيب له ... وهكذا.
وهنا لفظ الحديث يدل على أن المتكلم هو الله سبحانه وتعالى إذ لا يصح أن يتكلم بهذه الصيغة غير الله جل وعلا.
وقال الإمام ابن القيم في زاد المعاد في هدي خير العباد (1/80) – وهذا الكتاب لا ينبغي أن يخلو منه بيت مسلم وهو في خمس مجلدات وهو كتاب نافع ضروري ضموه إلى ما ذكرناه سابقاً كتاب الأذكار ورياض الصالحين والتبيان في آداب جملة القرآن – يقول عند تعداد مراتب الوحي فذكر مرتبة ثامنة للوحي وهي آخر المراتب وهي خاصة بنبينا عليه الصلاة والسلام ولم تحصل لغيره: "زاد بعضهم مرتبة ثامنة وهي تكليم الله لنبيه عليه الصلاة والسلام كفاحاً (أي من غير حجاب) على مذهب من يقول إنه رأى ربه، وهي مسألة خلاف بين السلف والخلف".(5/186)
وهي كما قلنا لم تحصل لغير نبينا عليه الصلاة والسلام، أما الكلام الذي حصل لموسى بحجاب، فهذه زيادة رآه وكلمة، والله يقول في كتابه: (ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء) فاستثنى من هذا نبينا عليه الصلاة والسلام فكلمه كفاحاً ومشافهة دون أن يكون هناك حاجز أو حجاب.
وإذا لم نقل بأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه فنقول الكلام حصل له بحجاب كما حصل لموسى عليه السلام.
والآن انتهينا من مبحث الإسراء والمعراج.
س: متى وقع الإسراء والمعراج بالتحديد؟
جـ: لا يُعلم زمن وقوعه بالتحديد لا في أي يوم ولا في أي شهر ولم يثبت هذا بسند صحيح عن أحد وكل تحديد لشهره أو ليومه أو لليلته فهو محض التخرص والكذب والافتراء على النبي عليه الصلاة والسلام.
أما الاحتفالات المزيفة بليلة الإسراء والمعراج فهذه احتفالات المنافقين الذين عادوا نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام، فبعد أن محوا نوره وشرعه أراد الشيطان أن يخدّرهم , أن يخّدر الناس باحتفالات وتواشيح وأناشيد وشيء من الخطب وأحياناً بكاء، ثم يزول أثر كل ذلك بعد قليل.
وهل احتفل الصحابة في حياتهم أو التابعون أو من بعدهم بإسراء ومعراج أو بمولد نبوي أو بحادث هجرة أو بغير ذلك؟ لا، ولكن هذا الآن صار عندنا أعظم الغايات وما كان الصحابة يبالون به ولا يعطونه شيئاً من الاهتمام، مع أنهم يعلمون في أي يوم أسري به صلى الله عليه وسلم ومتى عرج به لكن ما خطر ببال تابعي – لسلامة عقولهم – أن يسأل صحابياً عن اليوم بالتحديد، ولو سأله لأخبره لكن لا فائدة من هذا السؤال فليس من وراء معرفته على التحديد فائدة.(5/187)
ولكننا ما عملنا هذا إلا لما انحرفنا عن دين الله وحاربنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبدأنا نحتفل بهذه الشكليات التي هي بدع وصار حالنا كالنصارى فإنهم احتفلوا بعيد الميلاد- عندهم- بعد أن ضيعوا دينهم وغيروا هذا الدين وضيعوه فلذلك صاروا يحتفلون بهذه المراسيم، وهكذا نحن سلكنا مسلكهم وسنسلك مسلك من كان قبلنا شبراً بشبر وذراعا ً بذراع.
فإذن لم يضبط تاريخ هذه الحادثة ولعله لحكمة يشاؤها الله سبحانه وتعالى:
أولا ً: لئلا يعكف المسلمون على هذه الليلة ويجعلون لها مراسيم، وهذا واضح فإنهم عملوا لها مراسيم الآن مع أنها لم تعلم بالتحديد فكيف لو عُلِمتْ.
ثانياً: ليخبرنا الله أن هذه الأمور شكلية ولا وزن لها ولا قيمة، فليس المهم معرفة الزمن بالتحديد الذي وقعت فيه، لكن المهم الاتعاظ والوقوف عند هذه العبرة العظيمة وأخذ الأحكام والفوائد التي في هذه الحادثة.
س: إذا اختلف الأئمة بعد القرون المفضلة، فهل في الأمر سعة كما لو اختلفوا في عهد السلف؟
نقول: إن خالفوا في أمر متفق عليه بين الصحابة وتابعيهم ومن بعدهم فالمخالف حينئذ ضال وهذا لا يوجد في المذاهب الأربعة قطعاً.
وإن كانت المسألة جديدة وحادثة واختلفوا في حكم الله فيها ليلحقوها بأحد النصوص الشرعية الثابتة عن خير البرية عليه صلوات الله وسلامه، فاختلفوا في هذا فهنا الأمر فيه سعة ما دامت النصوص تشهد له.
إذن جرت مسألة ولا نص فيها فبحث العلماء في حكمها وشأنها فاختلفوا فبعضهم ألحقها بدليل حاظر وبعضهم ألحقها بدليل مُبيح فيبقى الأمر كما لو حصل الاختلاف في زمن الصحابة رضوان الله عليهم والأمر فيه سعة، ورحمة الله واسعة.(5/188)
لفضيلة الشيخ الدكتور
جمعها
أبو عبد الرحمن زيد محمد بكَّار
الكيلاني
بسم الله الرحمن الرحيم
المحاضرة الأولى 21/2/1421 هـ
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد
فأول مبحث عندنا هو:
مبحث: الإسراء والمعراج
المراد بالإسراء:
ما حصل لنبينا عليه الصلاة والسلام من رحلة مباركة من مكة المكرمة إلى المسجد الأقصى في جزء من الليل وتبع ذلك العروج به إلى السموات العلا إلى مستوى سمع فيه صريف الأقلام أي حسها وكتابتها في اللوح المحفوظ عندما تكتب تقدير الله جلا وعلا، ثم أعيد عليه صلوات الله وسلامه إلى مكة المكرمة ولا زال فراشه دافئاً أي: لم يبرد بعد فراق النبي صلي الله عليه وسلم، وذلك أن الفراش يدفأ من أثر احتكاك الإنسان به وتنفسه ويسخن عندما ينام الإنسان فيه وهكذا عندما يجلس الإنسان، لذلك ورد في معجم الطبراني أو البزار – شك الشيخ الطحان – بسند ضعيف [أن امرأة جاءت إلى النبي عليه الصلاة والسلام تناجيه في مسألة وتستفتيه في أمر في مسجده عليه صلوات الله وسلامه عليه وبعد أن انتهت وقامت جاء رجل وأراد أن يجلس مكانها، قال: لا حتى يبرد المكان]
فالشاهد:
أن الإنسان عندما يجلس في مكان أو ينام في هذا المكان يكون فيه شيء من دفئه وحرارته الغريزية.
وسنتناول مبحث الإسراء والمعراج ضمن مراحل متعددة:
المرحلة الأولي:(6/1)
يجب علينا إذا أردنا أن نتكلم على هذا الحادث العظيم الجليل الشريف المبارك أن نذكر الآية التي أشارت إليه في سورة سميت باسم هذا الحادث المبارك وهي سورة (الإسراء) ، وتسمي أيضا بسورة (بني إسرائيل) وتسمي أيضا بسورة (سبحان) فلها ثلاثة أسماء، وأسماء السور توقيفية مبناها على النقل لأعلى العقل وعلى الرواية لأعلى الرأي، إما من الصحابة فلكلامهم حكم الرفع إلى نبينا عليه صلوات الله وسلامه ورضي الله عنهم أجمعين، وإما النقل عن التابعين فلذلك حكم الرفع المرسل فيقبل قول التابعي: (1) إذا تعزز بقول تابعي الآخر (2) إذا كان قائله من أئمة التفسير الذين أخذوا تفسيرهم عن الصحابة كمجاهد بن جبر وسعيد بن جبير عليهم جميعاً رحمة الله.
فأسماء السور إذن توقيفية وكذا القول بأن هذا مكي وهذا مدني وأسباب النزول كلها مبنية على الرواية لأعلى الرأي وعلى النقل لأعلى العقل.
يقول ربنا الجليل في أولها (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير) .
هذه الآية لابد من تفسيرها وكل من يتكلم على حادث الإسراء والمعراج ينبغي أن يستعرض تفسير هذه الآية لتربط المباحث ببعضها.
(سبحان) مأخوذة من السَّبْح وهو الذهاب والإبعاد في الأرض، ومنه يقال السابح الذي يسبح في البركة وفي البحر سابح لأنه يبعد ويذهب بعيداً في حال سباحته، ولذلك لا تصلح السباحة في مكان ضيق محصور متر في متر ونحوها.(6/2)
فسبحان مأخوذة في أصلها اللغوي من المسبح وهو الذهاب والابتعاد في الأرض كما ذكرنا ولفظ (سبحان) إما أن يكون مصدر (سبَّح - يسبح – تسبيحاً – وسبحاناً) على وزن (كفر – يكفر – تكفيراً وكفراناً) وهذا المصدر منصوب يعامل إما من لفظه فنقدر نُسبِّحُ الله سبحاناً، وإما من غير لفظه فنقدر: أُنِّزهُ الله سبحاناً، وكلا التقديرين صحيح، وأما سبحان عَلَمٌُ على التسبيح انتصب بفعل مضمر، ثم نُزِّل ذلك العلم منزلة الفعل وسد مَسَدَّهُ.
وأما معنى (سبحان) فقد جاء لثلاثة معانٍ في القرآن:
1- أولها:
تنزيه الله عن السوء وتبرئته من كل نقص، قال الإمام ابن كثير عليه رحمات ربنا الجليل في آخر سورة الصافات عند قوله: (سبحان ربك رب العزة عما يصفون) الآيات قال: "كثيراً ما يقرن الله بين التسبيح والتحميد" (سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين) يقرن بين التسبيح والتحميد؛ لأن كلاً منها يكمل الآخر "، فالتسبيح فيه تبرئَة لله عن النقائص ويستلزم ذلك إثبات المحامد إذن فيتضمن نفي النقص عن الله ويستلزم إثبات الكمال له، والحمد بالعكس يتضمن إثبات الكمال لله ويستلزم نفي النقص عنه فكل منها يستلزم الآخر.
التسبيح يتضمن معناه الأصلي – نفي النقص عن الله وذلك يستلزم إثبات الكمال فإذا انتفى النقص ثبت الكمال وكل نفي لا يدل على إثبات ما يضاده فلا مدح فيه.
س: إثبات الكمال بلفظ التسبيح من أي أنواع الدلالات هل هو دلالة تضمن أم دلالة مطابقة أم دلالة التزام؟
جـ: دلالة التزام، فإن معنى دلالة التضمن هو أن يدل اللفظ على ما وضع له أي وضع لأجل أن يدل على تبرئة الله عن النقص، وأما معنى دلالة الالتزام فهو دلالة اللفظ على أمر خارج عن المعني لكن لازم له فإذا نُفي النقص ثَبَتَ الكمال.(6/3)
فمثلاً: الحمد يتضمن إثبات الكمال والمحامد لله وذلك يستلزم نفي النقص فكلاً منهما يستلزم الآخر ويدل عليه فقرن الله بينهما فكأن الدلالة التي في فظ التسبيح جيء بالحمد ليدلل الله عليها دلالة تضمن ودلالة مطابقة لا دلالة الالتزام، وهكذا الدلالة التي في الحمد وهي نفي النقص عن الله جيء بلفظ التسبيح ليدل عليها صراحة وتضمناً ومطابقة لا التزاماً.
فـ[نفي النقص عن الله يستلزم إثبات الكمال وإثبات الكمال يستلزم نفي النقائص] ولذلك يقرن الله بين التسبيح والحمد لكن أصل معنى التسبيح تنزيه الله عن كل نقص وسوء.
لذلك قال ربنا جل وعلا: (وقالوا اتخذ الله ولداً) فبأي شيء عقب على هذا الكلام (سبحانه) تعالى وتنزه عن هذا النقص، فهكذا كل نقيصة يقولها الكفار ينفيها الله جل وعلا عن نفسه بلفظ التسبيح.
إذن تنزيه الله عن السوء وقد ورد في مستدرك الحاكم (1/502) في كتاب الذكر والدعاء عن طلحة بن عبيد الله – أحد العشرة المبشرين بالجنة رضوان الله عليهم – قال [سألت النبي صلي الله عليه وسلم عن معني التسبيح فقال نبينا عليه الصلاة والسلام: هو تنزيه الله عن كل سوء] إذن فهذا هو معنى التسبيح، تبرئة الله عن النقائص وعن السوء.
وهذا الأثر صححه الحاكم وقال إسناده صحيح لكن تعقبه الذهبي وقال: قلت: ليس كذلك ثم بين أن فيه ثلاث علل:
العلة الأولي: فيه طلحة بن يحي بن طلحة بن عبيد الله الحفيد، منكر الحديث كما قال البخاري.(6/4)
العلة الثانية: وفيه حفص تالف الحديث واهٍ، وحفص هذا هو الذي نقرأ بقراءته فهو في القراءة إمام لكنه في الحديث تالف ضعيف، فإنه ما صرف وقته لحفظ الحديث وضبطه فكان إذا حدث يَهِمُ وسبب الضعف عدم الضبط لا عدم الديانة فانتبه!!!.. فإن سبب الضعف إما زوال الديانة أو زوال الضبط وليس في زوال الضبط منقصة وإن كانت روايته تُردُّ، لكن إذا كان الضعف بسبب ضياع العدالة؛ لأنه فاسق، كذاب، شارب للخمر، مرتكب الكبيرة، وما شاكل هذا فهذا هو النقص، أما إذا كان الإنسان لا يحفظ، وإذا حفظ ينسى، وإذا حدث يخلط، فهو مردود الرواية وسبب الرد عدم الضبط وذلك لأنه لابد من عدالة وضبط فإذا رُدَّتْ رواية الراوي لعدم ضبطه فلا منقصة في دينه، وإذا رُدَّتْ رواية الراوي لعدم عدالته فهذا هو البلاء.
وحفص من ناحية العدالة عدل وفوق العدل، عدل إمام رضا، لكن في ناحية ضبط الحديث واهي الحديث تالف الحديث.
العلة الثالثة: وفيه أيضاً عبد الرحمن بن حماد منكر الحديث كما قال ابن أبي حاتم، فالحديث من ناحية الإسناد ضعيف لكن المعنى صحيح، أي تفسير سبحان الله والتسبيح بأنه تبرئة الله عن كل سوء وعن كل نقص، ثبوت هذا عن نبينا صلى الله عليه وسلم ضعيف من حيث الإسناد لكن المعنى صحيح.
ثانيها: ويأتي التسبيح بمعنى التعجب، وهذه المعاني ضروري معرفتها في هذا المبحث إذ لها معانٍ كبيرة وخفية فلفظ (سبحان) هذا وحده يدلنا على أن الإسراء كان بالروح وبالجسد كما سيأتينا، فلفظ سبحان على حسب ما فيها من دلالتين: إما تنزيه الله عن كل نقص أو التعجب، نستدل على أن الإسراء والمعراج كان بالروح والجسد، كيف هذا؟(6/5)
لو كان رسولنا عليه الصلاة والسلام كذاباً – وحاشاه من ذلك- وقال: أسرى الله بي إلى بيت المقدس وعرج بى إلى السموات ورجعت ولم يكن ذلك قد حصل، فإذا أقره الله فماذا يكون في هذا؟ يكون فيه منقصة في حق الله، فإذن هذا يكذب عليه وهو يؤيده بخوارق العادات من إنزال القرآن وغيره أفلا يكون في هذا منقصة والله تعالى يقول: (ولو تقول علينا بعض الأقاويل) .
فلفظ (سبحان) إذن أول ما يدل عليه أن الإسراء والمعراج بالجسد لا بالروح فقط لأن هذا لو كان على خلاف ذلك لما كان هنا داعٍ لتعجيب العباد من هذا، فالروح كل واحد يرى أنه أسري بها، فقد يري الكافر أنه أسري بها إلى الصين التي هي أبعد من بيت المقدس، وهذا واضح ولو كان النبي صلي الله عليه وسلم يخبر بخلاف الحقيقة فكيف يقره الله وهو أحكم الحاكمين ورب العالمين؟!
لذلك قال أئمتنا: المعجزة تدل على صدق الرسول لأنها بمثابة قول الله: صدق عبدي فيما بلغ عني.
فلو كان نور مثلا حاضراً في مجلس الأمير، والأمير جالس، وقام وقال أنا رسول الأمير إليكم وأنني مسئول عن أمور الرعية، وأنا نائبه، وقد فوض إلي تدبير الشؤون في هذه المنطقة وأنا ممثله وليس عندي كتاب عنه وما تكلم هو، لكن الدليل على أنني رسوله وأنني نائبه أن الأمير يقعد الآن أمامكم عشر مرات فقام الأمير وجلس وقام وجلس وقام وجلس عشر مرات وما تكلم، أفلا يدل هذا على صدقه؟ نعم يدل دلالة أقوى من الكلام، ولو كان كذاباً لقال الأمير: اضربوا رقبته.
فعندما يقول نبينا عليه الصلاة والسلام للقمر بيده هكذا فينشق فلقتين فهذا لو كان كذاباً لما أيده الله، فإذا كان من علامة صدقه أنه يشير إلى القمر فينشق (اقتربت الساعة وانشق القمر) ولو كان كذاباً لما أيده الله.(6/6)
وانظر إلى مسيلمة الكذاب لما قيل له: إن محمداً عليه الصلاة والسلام يبصق في عين الأرمد فيبرأ، فقد بصق في عين علي بن أبي طالب وكان يشتكي عينيه فما اشتكي منهما بعد ذلك، فقال مسيلمة هاتوا أرمداً لأبصق في عينيه فأتي له أرمداً فبصق في عينيه فعمي.
فجوزي بنقيض قصده لذا قال أئمتنا: تلك معجزة وهذه إهانة وذلك خارق للعادة وهذا خارق للعادة لكن ليفضحه الله.
وقيل له كان النبي صلي الله عليه وسلم يضع يده في الماء فيفور الماء من بين أصابعه ولما كان صلوات الله وسلامه عليه مع أصحابه في صلح الحديبية كانوا (1500) شخصاً وكفاهم الماء القليل عندما وضع في تور من ماء – إناء صغير- أصابعه صلوات الله عليه فبدأ الماء يفور من بين أصابعه فقيل لمسيلمة عندنا بئر ماؤها قليل لعلك تدخل فيها وتقرأ عليها وتتمتم ليبارك لنا في مائها ففعل فغارت. فهذا خارق للعادة لكنه إهانة وذلك خارق للعادة لكنه معجزة.
إذن فلا يظن أن البحث في معنى سبحان من باب النافلة بل هو مرتبط ببحثنا فـ (سبحان) سيأتي أنه من الأدلة على أن الإسراء كان بالروح والجسد.(6/7)
فـ (سبحان) تأتي بمعني التعجب، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة كما في صحيح البخاري: [سبحان الله: إن المؤمن لا ينجس] وأول الحديث يقول أبو هريرة: [لقيت النبي عليه الصلاة والسلام في بعض طرق المدينة أو مكة وكنت جنباً فانخنست منه] أي تسللت في خفية وتواريت عنه لئلا يراني – وقد كان من عادة النبي صلي الله عليه وسلم إذا التقى بأصحابه يصافحهم ويداعبهم ويضاحكهم وليس حاله كحال الجبابرة الطغاة، لذلك لما حج النبي صلي الله عليه وسلم وفداه أبي وأمي فرد فردا ولا إليك إليك أي ما أحد يقال له تنح من أمام النبي عليه الصلاة والسلام، فالناس يمشون بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله وهو مع الناس، نَفَرٌ منهم، فإذن له لما رأى أبو هريرة النبي عليه الصلاة والسلام وكان أبو هريرة جنباً يقول: انخنست منه أي تسللت في خفية لئلا يصافحني فكيف يصافحني وأنا جنب، وقد كان يظن أن الإنسان إذا أجنب تنجس [فذهب فاغتسل ثم جاء، قال أين كنت يا أبا هريرة؟ قال كنت جنباً فكرهت أن أجالسك قال: سبحان الله إن المؤمن لا ينجس] فما معنى (سبحان الله) هنا؟ معناها: أتعجب منك يا أبا هريرة، أنت حافظ العلم ورواية الإسلام كيف يخفى عليك هذا الحكم في شريعة الرحمن.
(أسرى) قال علماء اللغة سرى وأسرى بمعنىً واحد مثل سقى وأسقى، قال
حسان بن ثابت رضي الله عنه:
حي النضيرة ربت الخدر ... أسرت إليّ ولم تكن تسري
النضيرة في البيت إما زوجته أو ابنته أو أخته المقصود جاءته في الليل يحييها أسرت إليه ولم تكن تسري، قال علماؤنا: جمع حسان اللغتين في هذا البيت أسرت فهذا أن أسرى وتسري من سرت لأنها لو كانت من أسرت لقال تُسري.(6/8)
قيل إنه سير الليل خاصة، وعليه فذكر (ليلاً) في الآية للإشارة إلى تقليل الزمن في تلك الليلة فما سراه لم يكن في مدة الليلة بكاملها إنما كان الإسراء والمعراج به كان في جزء من الليل ولم يكن في جميع الليلة، ويدل على هذا قراءة بن مسعود وحذيفة وهى قراءة شاذة (سبحان الذي أسري بعبده بالليل) بدلاً من (ليلاً) أي أن السرى حصل لنبينا صلوات الله عليه وسلامه والإسراء به حصل في جزء من الليل فذكر ليلاً، فالتنكير هذا للتقليل حصل له في جزء من الليل وكما ذكرنا فراشه دافئ
وقال الزجاج: هو مطلق السير في ليل أو نهار وعليه فذكر الليل لبيان وقت الإسراء.
(بعبده) هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أفضل خلق الرحمن ونعته بهذا الوصف وهو العبودية لأمرين معتبرين:
الأمر الأول:
أنه أكمل النعوت وأشرف الخصال في حق البشر؛ لأن العبودية تضمن أمرين اثنين: حب كامل وذل تام، ولا يكون العبد عبداً إلا بهذين الأمرين، فيحب الله محبة تامة كاملة، ويتذلل تذللاً تاماً كاملاً، فمن بلغ هذين الأمرين يقال له: هو عبد، وهذه أشرف صفة ولذلك نعت الله نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم بهذا الوصف الذي يشير إلى هذين الأمرين في أعلى المقامات وأجلها منها قوله تعالى (سبحان الذي أسرى بعبده) ، (الحمد لله الذي أنزل على عبده) ، (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا) ، (وأنه لما قام عبد الله يدعوه) فينعته ربنا بلفظ العبودية؛ لأنه أشرف وصف في المخلوق وهو أن يكون عبداً للخالق، أي يحبه حباً تاماً ويتذلل إليه تذللاً تاماً.(6/9)
ونبينا عليه الصلاة والسلام نال من هذين الوصفين أعلى نصيب ممكن في حق البشر لذلك فهو أشرف المخلوقات على الإطلاق، ثبت في المستدرك وميند البزار بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه موقوفاً عليه وله حكم الرفع إلى نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: [خيار ولد آدم] وفي رواية: [سيد ولد آدم خمسة محمد وإبراهيم وموسى وعيسى ونوح وسيد خلقه محمد عليه صلوات الله وسلامه] .
فقد اتفق أئمتنا – وهذا قد مر معكم في مبحث النبوة في المستوى الأول في شرح العقيدة الطحاوية – على أن أفضل البشر الأنبياء وأفضل الأنبياء الرسل وأفضل الرسل أولو العزم وهم الخمسة الذين ذكرهم الله في آيتين من كتابه (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم) آية 7 من سورة الأحزاب، وفى سورة الشورى آية رقم 13 (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) فأفضل الرسل أولو العزم، وأفضل أولو العزم الخليلان إبراهيم ومحمد على نبينا وعلى جميع أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه وأفضل الخليلين أكملها خلة وأعظمها محبة لربه وهو محمد صلى الله عليه وسلم.
فخلة إبراهيم لربه دون خلة نبينا عليه الصلاة والسلام لربه، والخلة هي أكمل مراتب المحبة وهي في المحبة كالمقت في الغضب فكما أن المقت أعظم أنواع الغضب، فالخلة أعلى مراتب المحبة.
قد تخليت مسلك الروح مني ... وبذا سمي الخليل خليلا(6/10)
ولذلك ثبت في الصحيحين عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: [لو كنت متخذاً خليلاً من أهل الأرض لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن صاحبكم خليل الله] فليس في قلبي متسع لغير ربي، فمحبتي كلها له فهذا أعلى الحب وأكمله ولذلك يقول إبراهيم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه كما في حديث الشفاعة الطويل الثابت في مسلم وغيره عندما [يذهبون إليه فيقولون له اشفع لنا فأنت اتخذك الله خليلاً فيقول: إنما كنت خليلاً من وراء وراء، اذهبوا إلى محمد عليه الصلاة والسلام فإنه عبد صالح قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فيذهبون له فيشفع لهم] وهي الشفاعة العظمي والمقام المحمود الذي يغبطه عليه الأولون والآخرون، النبيون والمرسلون عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه.
نعم يلي نبينا في الفضيلة إبراهيم فهو خليل الرحمن وما بلغ مرتبة الخلة إلا نبينا عليه الصلاة والسلام وأبونا إبراهيم، فإبراهيم جعل قلبه للرحمن بشهادة ذي الجلال والإكرام حيث قال (إذ جاء ربه بقلب سليم) ، وجعل بدنه للنيران وماله للضيفان وولده للقربان أما يستحق هذا أن يتخذه ربنا الرحمن خليلاً وحقيقة الخلة كاملة، والمحبة تامة والعبد هو من جمع حباً وذلاً، يحب ربه من كل قلبه بكل قلبه، ويتذلل له بجميع جوارحه.
فمن حقق هذين الأمرين فهو عبد، فالنعت إذن بوصف العبودية هذا مدح ليس بعده مدح أن يقول لك ربك عبدي، هذا شرف لك ليس بعده شرف.
ومما زادني عجباً وتيهاً ... وكدت بأخمصي أطأ الثُّربا
دخولي تحت قولك يا عبادي ... وأن صيرت أحمد لي نبيا
ولكل ما سبق نُعت النبيُّ صلي الله عليه وسلم بـ (عبده) .
الأمر الثاني:(6/11)
الذي من أجله وصفه الله بهذا الوصف خشية أن تغلو الأمة فيه، فنعته بوصف العبودية لتعرف الأمة وظيفة النبي صلى الله عليه وسلم ومكانته لا نقول: بما أنه أفضل المخلوقات وأسرى الله به وعرج به إلى السماء وأنزل عليه القرآن وفضله على العالمين إذن نذهب نصلي لقبره ركعتين وعندما نذبح نقول بسم محمد وعندما نقع في كربة نقول يا رسول الله فرج عنا، فلئلا تقع الأمة في هذا الضلال أخبرنا الله أنه عبد فإذا كان عبداً فلا يحق أن تصرف له شيئاً من العبادة، فهذا خاص لله جل وعلا.
فَنُعِتَ بهذا الأمر لأجل المدح والتحذير من الغلو ثبت في صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: [لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله] عليك صلوات الله وسلامه يا أفضل خلق الله ويا أكرم رسل الله، والإطراء وهو المجاوزة في المدح والمبالغة فيه.
إخوتي الكرام..... إذا ذكر الإنسان النبي عليه الصلاة والسلام فينبغي أن يذكره بالتبجيل والتوقير والاحترام وأن يتبع هذا عليه الصلاة والسلام.
وأما ما شاع بين الناس في هذه الأيام لما خربت قلوبهم وأظلمت من جفاء نحو ذكر نبينا عليه الصلاة والسلام تراه على المنبر وأحيانا داعي يقول: كما قال رسولكم محمد بن عبد الله، فهذا ينبغي أن يضرب على فمه حتى تسيل الدماء منه، فهذا جفاء وقلة حياء بل كان الواجب أن يقول قال محمد رسول الله، هل نعته الله بأنه ابن عبد الله في كتابه؟ وهل في نسبته لأبيه مدح؟ لا إنما في نسبته إلى الله مدح فالواجب أن يقال: رسول الله خاتم النبيين وغيرها فبهذا نعته الله (محمد رسول الله) ، (محمد عبد الله ورسوله) ، (ما كان محمداً أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله إليكم وخاتم النبيين) ، (يا أيها النبي اتق الله) ، (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل لك) ، ولم ترد إضافته إلى أبيه في القرآن.(6/12)
ولا يجوز أن تضيفه إلى أبيه إلا في مقام النسب فقط، فتأتي بنسبه فتقول: هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب – إلخ النسب ما عدا هذا ذكره مضافاً إلى أبيه من البذاء والجفاء وقلة الحياء وعدم تعظيم خاتم الأنبياء عليه صلوات الله وسلامه، فانتبهوا لهذا. تضيفه لله فلا حرج قال محمد بن عبد الله ورسوله لكن ليس: قال محمد بن عبد الله. (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً)
وقد أفتى ابن حجر الهيتمي بأن من قال عن نبينا عليه الصلاة والسلام بمقام الدعوة والتبليغ قال محمد بن عبد الله بأنه يعزر.
وحقيقة الأمر كذلك لأن هذا كما قلنا من عدم توقير النبي عليه الصلاة والسلام.
(المسجد الحرام)
الأحاديث الواردة في الإسراء والمعراج وردت في الظاهر متعارضة، لكن نجمع بينها فيزول التعارض:
ورد أنه أسري به من بيت بنت عمه فاخِتة أم هانئ بنت أبي طالب.
وورد أنه أسري به من شعب أبي طالب.
وورد أنه أسري به من بيته ففرج سقف بيته ونزل المكان وأخذاه.
وورد أنه أسري به من الحجر من الحطيم وهو حجر إسماعيل.
قال الحافظ ابن حجر: لا تعارض بينها، فكان نبينا عليه الصلاة والسلام نائما في بيت بنت عمه أبي طالب فاخِتة أم هانئ، وبيتها كان في شعب أبي طالب، أضيف إليه سقف بيته فرج لأجل سكناه فيه؛ لأنه يسكن فيه وإن كان لا يتملكه كما تقول فتح علي باب حجرتي وأنت في الفندق فأضيفت إليه الحجرة تملكاً في السكن لسكنه فيها وكذا أضيف البيت للنبي صلى الله عليه وسلم لسكناه فيه ثم بعد أن أخرج من بيت أم هانئ في شعب أبي طالب وقيل له بيته لأنه يسكنه أُخذ عليه صلوات الله وسلامه إلى الحجر ولازال فيه أثر النعاس وأُرْجِعَ فيه، ثم بعد ذلك هيأ من ذلك المكان وأخرج من باب المسجد الحرام إلى رحلة الإسراء والمعراج فحصلت جميع هذه الأمور من بيت أم هانئ في شعب أبي طالب وهذا بيته وأُخذ إلى الحِجْر وأُسري به من حِجْر إسماعيل وهو الحطيم.
المحاضرة الثانية(6/13)
الثلاثاء 16/3/1412هـ
وقد أضيف بيت بنت عمه أبي طالب أم هانئ فأختة للنبي صلى الله عليه وسلم لسكناه فيه كما قال الله جل وعلا: (لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم) فالإضافة هنا للسكن أو للملك؟ هي للسكن، ولو كنت تملك البيت، لكنك أجرته فلا يجوز أن تدخله وإن كان ملكاً لك وهنا أضيف البيت إليه لسكناه فيه، هذا البيت هو لبنت عمه في شعب أبي طالب وأضيف إليه هو ضمن الحرم.
والمراد من (المسجد الحرام) حرم مكة المكرمة، وليس المراد منه خصوص المسجد لأن لفظ المسجد الحرام شامل لحرم مكة، ولذلك من صلى في أي بقعة من بقاع الحرم تضاعف صلاته مائة ألف صلاة ولا يشترط هذا أن يكون في خصوص المسجد الحرام الذي يحيط بالكعبة بخلاف مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فالأجر هناك بألف لمن صلى في خصوص المسجد أما مكة فكلها حرم في أي جهة تصلى في مسجد الكعبة الذي يحيط بالكعبة أو في أي مسجد آخر فالصلاة تضاعف بمائة ألف صلاة والله تعالى أشار إلى هذا في كتابه فقال (هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام) أي عن مكة، وهذا وقع في صلح الحديبية، والله جل وعلا يقول: (إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواءً العاكف فيه والباد) فما المراد بالمسجد الحرام هنا؟ هل المراد خصوص المسجد وبقعته التي تحيط بالكعبة؟ لا، بل المراد مكة يستوي فيها البادي والحاضر فهذه خصوصية لمكة، جميع بقعة الحرم يقال لها مسجد حرام.(6/14)
وعليه فإن المراد بقوله: (من المسجد الحرام) أي من مكة المكرمة سواء كان في بيت أم هانئ أو سواء كان في الحجر، لكنني قد جمعت بين هذه الألفاظ وقلنا: إنه كان نائما في بيت أم هانئ وهو شعب أبي طالب، وأضيف البيت إليه لسكناه وقيل أنه أسري به من الحجر والحطيم الذي حطم وفصل من الكعبة عندما ضاقت بقريش النفقة وهو حجر إسماعيل وهو جزء نصف دائري يبعد عن الكعبة قليلاً ومازال موجوداً إلى الآن وهو من الكعبة ومن مر بينه وبين الكعبة فكأنما مر في جوف الكعبة تماماً، ولو كنت تطوف فيما بينه وبين الكعبة لم يصح الطواف بل لابد من الطواف خارج حجر إسماعيل، وهذا الحجر الأصل أنه من الكعبة لكن لما ضاقت النفقة بقريش سابقاً فصلوا هذه البقعة عن الكعبة وحوطوا عليها للإشارة إلى أنها من الكعبة وبقي البناء على هذا والنبي عليه الصلاة والسلام قال لأمنا عائشة والحديث في صحيح البخاري: [لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فنقض وأدخلت حجر إسماعيل وجعلت له باباً شرقياً وغربياً يدخل الناس ويخرجون] أي إلى جوف الكعبة، لكن ما فعل النبي عليه الصلاة والسلام هذا لئلا يقول الناس وهم حديثو عهد بجاهلية بدأ يتلاعب في هذا البيت المعظم الذي هو بيت الله الحرام، فتركه على ما كان ولا حرج في ذلك ولا مضرة ثم بقي على هذه الشاكلة. لما جاء عبد الله بن الزبير نقض البيت الحرام وأدخل الحجر وجعل له بابين: باباً من الشرق وباباً من الغرب ولما قتل رضي الله عنه وأرضاه في الحروب التي جرت بينه وبين بني أمية في عهد عبد الملك بن مروان أمر عبد الملك بأن يعاد البيت كما كان فأعادوه إلى هذه الكيفية الموجودة الآن.(6/15)
ولما جاء أبو جعفر المنصور – الخليفة العباسي - استشار الأئمة وعلى رأسهم الإمام مالك عليهم رحمة الله في أن يعيد البيت كما فعله عبد الله بن الزبير فقال الإمام مالك: الله الله يا أمير المؤمنين في هذا البيت ألا يصبح ألعوبة بأيدي الحكام كل واحد يأتي ينقضه من أجل أهواء سياسية، عبد الله بن الزبير أصاب السنة فمن أجل أن يخالفه بنو أمية نقضوا البيت، فأنت الآن ستخالفهم وتعيد البيت نكاية ببني أمية، فيأتي حاكم بعد ذلك نكاية بك ينقضه، فيصبح البيت ملعبة، فاتركه على شاكلته.
الشاهد: أنه صلى الله عليه وسلم نائماً في الحجر في الحطيم فجاءه ملكان وأخرجاه إلى باب المسجد وبدأت رحلة الإسراء والمعراج، هذه الأمور الأربعة المسجد الحرام والحجر وشعب أبي طالب وبيته كلها يشملها المسجد الحرام.
(إلى المسجد الأقصى) هو بيت المقدس المعروف والموجود في بلاد الشام في فلسطين وسمي بالأقصى وهو الأبعد لأنه لم يكن على وجه الأرض في ذلك الوقت إلا مسجدين المسجد الحرام والمسجد الأقصى، والمسجد الأقصى بالنسبة للمسجد الحرام بعيد المسافة، كما قال المشركون خمسة عشر يوماً ذهاباًً وخمسة عشر يوماً إياباً فيحتاج من يسافر إليه شهراً كاملاً ذهاباً وإياباً، فقيل الأقصى أي الأبعد مسافة لأنه هو أبعد مسجد عن مكة وما كان على وجه الأرض في ذلك الوقت إلا هذين المسجدين المسجد الحرام والمسجد الأقصى، أما مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فلم يكن له وجود لأنه حصل بعد الهجرة وسيأتينا أن حادثة الإسراء والمعراج كانت قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إن شاء الله.
إذن المسجد الأقصى قيل له: أقصى لبعد المسافة بيه وبين مكة.(6/16)
والمسجد الحرام هو أول بيت وضع للناس كما قال الله تعالى: (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدىً للعالمين) . بكة ومكة اسمان مترادفان، سميت بكة ومكة لأنها تبك وتمك رؤوس الجبابرة وتقسم ظهورهم وما أحد أرادها بسوء إلا عاجله الله بالعقوبة.
بك هو قطع العنق ودقه، وهكذا المك، بك ومك، وسميت ببكة وبمكة مأخوذ من المك يقال: إذا خرجت أمعاؤه ونفسه وروحه من كثرة الزحام، ولما يحصل فيها أيضاً زحام حول الطواف عند اجتماع الناس من كل فج عميق.
فإن قيل لها مكة وبكة لحصول الزحام فيها ولعقوبة الله لكل من أرادها بسوء.
والمسجد الحرام بمكة هو أول بيت وضع للناس يليه المسجد الأقصى، وبينهما أربعون عاماً كما ثبت في صحيح مسلم عن نبينا عليه الصلاة والسلام من حديث أبي ذر، ولا يشكلن عليك هذا الدليل وإياك أن تقول إن أول من بنى بيت الله الحرام إبراهيم وأول من بنى بيت المقدس داوود فليس الأمر كذلك. أول من بنى المسجد الحرام الملائكة ثم بنت بيت المقدس بعده بأربعين عاماً.
وهناك قول ثانٍ ولا يصح غير هذين القولين، أول من بنى المسجد الحرام آدم وآدم حج إلى بيت الله الحرام قطعاً وجزماً وهكذا جميع أنبياء الله ورسله كلهم حجوا بيت الله الحرام.
والبيت المعمور في السموات بعد ذلك هذا على حيال وعلى اتجاه الكعبة التي في الأرض تماماً، وهذا البيت – المسجد الحرام – كان موجود من عهد آدم إلى أن تقوم الساعة، كان يحجه ويزوره وآدم زار البيت وحج واعتمر وهكذا جميع أنبياء الله ورسله ثم بعض بنى آدم بني المسجد الأقصى وكان بينهما أربعون عاماً هذا كلام النبي صلى الله عليه وسلم وهو في صحيح مسلم ونص الحديث: [أول مسجد بنى المسجد الحرام قلت: ثم أي يا رسول الله؟ قال: المسجد الأقصى، قلت: كم كان بينهما؟ قال: أربعون عاماً] .
فقيل له أقصى لأن مسافته بعيدة عن المسجد الحرام.
(الذي باركنا حوله)(6/17)
البركة هي: ثبوت الخير للشيء والله جعل بركات عظيمة حول المسجد الأقصى هذه البركات شاملة لبركات الدين والدنيا.
أما الدين فهي مكان بعثة الأنبياء والمرسلين عليهم صلوات الله وسلامه، في بلاد الشام.
وأما الدنيا فما فيها من الخيرات والزروع والثمار لا يوجد في الأرض له مثيل ونظير، فالخيرات فيها عظيمة فيما يتعلق بخيرات الدين وفيما يتعلق بخيرات الدنيا.
(باركنا حوله)
ديناً ودنيا ولذلك اعتبر نبينا عليه الصلاة والسلام أصول الفساد في بلاد الشام علامة على فساد سائر البلدان لأن المكان المبارك إذا فسد فعيره أفسد؛ ثبت في صحيح ابن حبان ومسند الإمام أحمد وسنن الترمذي عن قرة بن إياس – والحديث حسنه الترمذي وصححه بن حبان – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم] وأهل الشام الآن أخبث من الشيطان إلا من رحم ربه وقليل ما هم، ولذلك فالبشرية فيها هذا البلاء والغثاء والضلال لأن الخيار فسدوا فكيف سيكون حال الأشرار؟! المكان الذي بارك ألله فيه ضل وزاغ فكيف سيكون حال الأمكنة الأخرى؟!
وحديث الصحيحين عندما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأمة [وأنه لن تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله قال: وهم بالشام ظاهرون] فإذن بركة الدين والدنيا، ونزول عيسي على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه في آخر الزمان سيكون في بلاد الشام عند المنارة البيضاء شرقي دمشق كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ويطلب المسيح الدجال عليه وعلى جميع الدجاجلة لعنة الله وغضبه – فيقتله بباب لد في فلسطين، فإذا رآه الدجال إنماع كما ينماع الملح في الماء فيقول: اخسأ عدو الله فإن لك ضربة لن تخطأك فيضربه عيسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه فيقتله.(6/18)
وليقرر إليه هذه البركة على أتم وجه أتى بأسلوب مقرر في البلاغة وهو أسلوب الالتفات وهو نقل المخاطب من هيئة إِلى هيئة ومن صيغة إلى صيغة، فمثلاً: يكون يتحدث في حال الحضور فينتقل إلى الغيبة ويكون في حال الإفراد فينتقل إلى الجمع، ويكون في حال غيبة فينتقل إلى حضور وهكذا، فيغير في أسلوب الكلام من أجل أن يلفت الأذهان ويشحذها وأن هذا أمر عظيم ينبغي أن تقفوا عنده، فأين الالتفات في الآية؟(6/19)
المُخاطِبُ هو الله – سبحان الله - غير في الكلام، فكان الكلام على صيغة (سبحان الذي أسرى) وأسرى غيبة، (أسرى بعبده) فلم يقل أسريت بعبدي، ولم يقل: سبحاني أسريت بعبدي، أو سبحاننا أسرينا بعبدنا على وجه التعظيم – من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله، إذ أصل الكلام أن يقول: سبحاننا أسرينا بعبدنا ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله فتكون باركنا مثل سبحاننا وأسرينا وعبدنا، لكن قال تعالى: (سبحان الذي أسري بعبده) على جهة الغيبة ثم قال (ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله) فلو أراد أن يكون الكلام متفقاً مع الغيبة لقال: سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بارك حوله ليريه من آياته إنه هو السميع البصير إذن فالمتكلم نقل كلامه من غيبة إلى حضور ومن جهة إلى جهة. وغرضه الأصلي أن يشحذ الذهن وأن يشد الانتباه لمضمون الكلام لئلا يحصل ملل وسآمة من مجيء الكلام على صورة واحدة، ثم للتنبيه وهنا فائدة خاصة أيضاً، أما غرض الالتفات العام شحذ الأذهان وجلب الانتباه ثم في كل مكان له غرض خاص، فما هو الغرض الخاص هنا؟ للإشارة إلى عظيم تلك البركات الموجودة حول المسجد الأقصى فلأجل أن يقرر تلك البركات وكثرتها ونفعها نقل الكلام من هيئة إلى هيئة، شحذ الذهن ثم قرر تلك البركات، يدل على هذا: أنه أتى بنون التعظيم التي يعظم بها ربنا نفسه كأنه يقول: العظيم لا يفعل إلا أمراً عظيماً، وهناك بركات جسيمة جعلتها حول المسجد الأقصى.
وهذا المسجد الأقصى الذي فرطنا فيه وفرطنا في بلاد الإسلام كلها بل فرطنا في الإسلام وما أقمنا وزناً للرحمن ولا لنبينا عليه الصلاة والسلام.
(لنريه من آياتنا)(6/20)
الآيات العظيمة التي رآها نبينا عليه الصلاة والسلام تأتي الإشارة إليها إن شاء الله ضمن مبحث خاص فيما حصل له قبل إسرائه، وعند إسرائه عليه الصلاة والسلام ولا زال في الأرض وعندما عرج به في السموات وعندما رقي إلى ما فوق السموات، فهذه الآيات الأربع سنتكلم عنها إن شاء الله.
إذن آيات قبل رحلة الإسراء وسيأتينا منها شق الصدر الشريف لنبينا عليه صلوات الله وسلامه، وما حصل له أثناء رحلته قبل أن يصل إلى السماء، وما حصل له في السموات، وما حصل له بعد السموات من آيات عظيمة: تكليم الله حصل له، ولكن هل حصلت الرؤية أم لا؟ سنتكلم عن هذا كله إن شاء الله عند مبحث خاص في الآيات التي رآها نبينا عليه الصلاة والسلام.
(إنه هو السميع البصير) الضمير في (إنه) يعود على الله جل وعلا على المعتمد، (إنه) أي إن الله (هو السميع البصير) ، وفي ذلك دلالة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما بلغ ويقول ويدعي، فلو كان مفترياً هذا الأمر وأنه أسري به وعرج ولم يكن ذلك قد حصل فإن الله سميع لأقواله بصير فلبطش وأخذه أخذ عزيز مقتدر، كما قال لنبييه موسى وهارون (إنني معكما أسمع وأرى) فإذا أراد ذاك اللعين – وهو فرعون – أن يتحرك فأنا لست بغائب، أنا أسمع وأنا أرى، أخسف به الأرض أرسل عليه حاصباً من السماء فتخطفه الملائكة من جميع الجهات، فأنا معكما أسمع وأرى.
ولذلك قال نبينا عليه الصلاة والسلام لأبي بكر في حادثة الهجرة: [ما ظنك باثنين الله ثالثهم] (إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا) فإذا كان الله معك فلا تخف ولو كادك أهل الأرض ومعهم أهل السماء لو حصل ذلك، فالله سيتولاك ويجعل لك فرجاً ومخرجاً من حيث لا تحتسب، كما قال الله جل وعلا: (ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب) .(6/21)
ثبت في مسند الإمام أحمد ومستدرك الحاكم عن أبي ذر رضي الله عنه [أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ عليه هذه الآية (ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب) ثم قال: يا أبا ذر لو أن الناس كلهم أخذوا بهذه الآية لوسعتهم فمازال يكررها عليّ حتى نعست] .
إذن (إنه هو السميع البصير) يعود على الله جل وعلا، هو سميع بصير ففي ذلك إشارة إلى صدق نبينا الكريم عليه صلوات الله وسلامه فيما ادعى وأخبر فلو كان الأمر بخلاف ذلك لما أقره الله ولما تركه ولعاجل له العقوبة: (ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين) .(6/22)
وقيل: إن الضمير يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيما حكاه أبو البقاء العكبري (إنه) أي إن النبي صلى الله عليه وسلم سميع بصير، سميع لأوامر الله، بصير بي وفي ذلك إشارة إلى حصول رؤية نبينا عليه الصلاة والسلام لربه، والمعتمد أنه حصلت له الرؤية، لكن هل بقلبه أم بعين رأسه؟ نشير إلى هذا عند الآيات التي رآها فوق السموات، فالرؤية حصلت له (ما زاغ البصر وما طغى) وكما قال نبينا عليه الصلاة والسلام: [رأيت نوراً] وكما قال ابن عباس: [رأى محمد عليه الصلاة والسلام ربه مرتين] لكن هل هذه رؤية قلبية أم بصرية بعين رأسه، سنفصل الكلام على هذا في حينه إن شاء الله تعالى إذن سميع لأوامر الله، بصير بي، ليس حاله كحال غيره فانظر للفارق العظيم بينه وبين الكليم على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام، أما موسى الكليم فهو الذي طلب من الله جل وعلا أن يمكنه من رؤيته وأن يأذن له بالنظر إليه فقال: (لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني، فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً وخر موسى صعقاً) إذن تشوق للأمر فقال الله تعالى: لا يحصل لك ولا تتمكن من ذلك ثم لما تجلى الله للجبل صعق موسي وخر مغشياً عليه، بينما نبينا عليه الصلاة والسلام دعي للأمر دون أن يتشوق وأن يتطلع وأن يطلب، ثم ثبته الله فما زاغ البصر وما طغى.
شتان شتان بين من يقول الله عنه: (ما زاغ البصر وما طغى) وبين من يقول عنه: (وخر موسى صعقاً) ، ولذلك قال أئمتنا: نبينا مراد، وموسى مريد، وشتان بين المراد والمريد.
ذاك هو يطلب ثم لا يثبت ولا يتمكن، بينما هذا يطلبه الله، عليهم صلوات الله وسلامه.
وقال أئمتنا: نبينا يطير وموسى يسير، وشتان بين من يطير ومن يسير.(6/23)
وقال أئمتنا: إن موسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه مظهر للجلال والفخر الإلهي، كما أن عيسى مظهر للجمال والنور الإلهي، ومحمد عليه صلوات الله وسلامه مظهر للكمال الإلهي فجمع الجلال وجمع الجمال فهو الضحوك القتال، يخفض جناحه للمؤمنين وهو بهم رؤوف رحيم، ويفلق هام الكافرين ويغلظ عليهم، وهو عليهم شديد عظيم، وهذا هو حال الكمال، أن تضع كل شيء في موضعه، أما أن تغلظ على المؤمنين وتشد عليهم فهذا في الحقيقة في غير محله، فهارون نبي من أنبياء الله المصطفين الأخيار، لما رجع نبي الله موسى على نبينا وعليهما صلوات الله وسلامه إلى قومه بعد مناجاة ربه وقد عبدوا العجل، ماذا فعل؟ أخذ بلحية أخيه هارون وبرأسه يجره إليه ويضربه، وحمل ألواح التوراة وألقاها حتى تكسرت، وقال هارون: ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي، لم تضربني إذا عبد بنو إسرائيل فماذا أفعل أنا؟ (لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي) ، أي أما خشيت أن نخاصمهم ونقاتلهم ثم تأتي وتقول: لقد عملت مشكلة في بني إسرائيل وفرقت بينهم، فانتظرت قدومك لأجل أن نبحث في أمرهم ونعيدهم إلى حظيرة الإسلام، وهذا جرى من موسى أي موسى وهو أكبر من هارون وله عليه دالة، ثم هو أعلى منه مكانه في النبوة، لكن هذا غضب وانفعال ودالة أخ على أخيه فهل هذا كمال؟ لا ليس بكمال، بل هو قهر وجلال.
وانظر إلى نبي الله عيسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، فهو على العكس لم يرفع صوته قط على أحد، وحياته كلها حياة وسلم وصفح وُحلم ورحمة، فهذا جمال لكن انظر إلى الكمال كيف يضع الأمر في موضعه؟ (وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم) ، (جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليكم) ، يضع كل شيء في موضعه فهذا من الكمال.
من الذي حاز الكمال من الصحابة؟(6/24)
أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقط، ومن عداه إما جمال أو جلال، فعمر جلال ومظهر للانتقام والشدة والبطش في الحق، لكن ليس عند مظهر الجمال فعمر رضي الله عنه أرسل إلى امرأة بلغه حولها ريبة ففي الطريق بدأت تولول وتقول مالي ولأمير المؤمنين عمر، مالي ولعمر، فأسقطت خوفاً منه قبل أن تصل إليه.
وكان يحلق رأسه في الحج بعد أن انتهي من النسك فتنحنح عمر: احم احم والحلاق يحلق رأسه، فأحدث – أي الحلاق – في سراويله، هيبة من عمر، هذا عمر، ومن الذي كان يجرؤ أن يعاركه، وهو الذي يقول النبي عليه الصلاة والسلام فيه – والحديث في الصحيحين [ما سلكت فجاً إلا سلك الشيطان فجاً غير فجك] .
وعثمان مظهر جمال ورقة وحلم وصفح فلا يخطر ببال أحد أنه يمكن أن ينتقم من شخص أو يبطش به، هذا هو الذي جرأ السفهاء عليه لما وسع عثمان المسجد كما في صحيح البخاري، وفي منبر النبي صلى الله عليه وسلم وقال أيها الناس إنكم أكثرتم أي كل واحد يتكلم ويطلق لسانه ولا يستحي من الله مع أنه كان خليفة راشداً ذا النورين ما علم هذا لأحد من خلق الله، أنه تزوج بنتي نبي، قال: وإني سمعت الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: [من بنى لله مسجداً ولو كَمَفْحَصِ قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة] .
ولنسأل: من الذي وسع المسجد قبله؟
هو عمر، لكن هل تكلم أحد عندما وسع عمر المسجد والله لو أن واحداً همس لأتى به عمر ووطأ على رقبته، لكن انظر إلى عثمان هو الذي يعتذر لهم يقول: أكثرتم، أكثرتم عليّ من الكلام في المدينة، فما عملته حتى تتكلموا عليّ؟ مسجد النبي عليه الصلاة والسلام وسعته فماذا في هذا؟! فسبحان الله خليفة يعتذر.(6/25)
ثم لما اجتمع الثوار الأشرار لحصاره وبقي خمساً وعشرين يوماً يحاصروه جاءه عليُّ والحسن والحسين رضي الله عنهم أجمعين والصحابة يطلبون منه أن يأذن لهم في نصرته فقال لهم: من كان سامعاً مطيعاً ولي عليه في رقبته بيعة، ولي عليه حق السمع والطاعة فليلق سلاحه ولينصرف حتى يحكم الله بيني وبينهم وهو خير الحاكمين، ولا أريد أن يراق من أجلي قطرة دم، إن يقتلوني فالله يحاسبهم، وإذا انكفوا عن طغيانهم فحصل الذي أريد، أما أن يحصل قتال فهذا لا أريده، هذا ممكن أن يحصل في عهد عمر رضي الله عنه.
فهناك جلال وهناك جمال وأما أبو بكر فهو الكمال.
إخوتي الكرام.. من لطف الله بهذه الأمة أن الخليفة بعد الرسول عليه الصلاة والسلام هو أبو بكر، ووالله لو جاء غيره لطاشت عقول الصحابة لأن أبا بكر هو صورة طبق الأصل للنبي عليه الصلاة والسلام، وما يختلفان إلا أن ذاك محمد رسول الله صلوات الله عليه وسلامه – وهذا عتيق الله أبو بكر الصديق، فذاك رسول وهذا صديق لا يختلفان في الطبيعة ولا بمثقال ذرة، وإن أردت أن تتحقق من هذا، انظر لصلح الحديبية لما أمرهم النبي عليه الصلاة والسلام الصلح مع المشركين على أن يرجع هو والمؤمنون هذا العام ليأتوا في العام الآتي، وكتبوا شروطاً فيها قسوة في الظاهر على المسلمين، فمن الذي لج وضج؟ إنه عمر، بدأ ينفعل ويغضب غاية الغضب فذهب إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال: ألسنا على الحق؟ قال: بلي، فقال: أليسوا على الباطل؟ قال: بلى، قال: علام نعطى الدنية في ديننا؟! سيوفنا معنا والله معنا نبيدهم ونستأصل خضراءهم فماذا كان جواب النبي صلى الله عليه وسلم؟ يا عمر إني رسول الله ولن يضيعني الله.(6/26)
ثم ذهب إلى أبي بكر وقال: يا أبا بكر ألسنا على الحق؟ قال: بلى، قال أليسوا على الباطل؟ قال: بلى، قال: علام نعطى الدنية في ديننا؟! فماذا كان جوابه لعمر دون أن يسمع جواب النبي عليه الصلاة والسلام؟ قال: يا عمر اعرف قدرك إنه رسول الله ولن يضيعه الله فهذا كلام من مشكاة واحدة، اعرف قدرك من أنت لتفور لتثور؟ ، إن هذا رسول الله لا ينطق عن الهوى، يسدده في جميع أحواله، فأنا وأنت لا نعلم إلا الحاضر، لكن هذا رسول الله يوجهه من يعلم الغيب من يعلم السر وأخفى، فاعرف قدرك وقف عند حدك.
لو جاء بعد النبي عليه الصلاة والسلام خليفة غير أبي بكر، والله لطاشت عقول الصحابة وجنوا على قيد الحياة، ولم هذا؟
لأنهم أصيبوا بنبيهم عليه الصلاة والسلام، وهذه أعظم المصائب في الدين، المصيبة الثانية أنه قد جاءهم من ليس على طبيعته وبالتالي تغيرت عليهم الأمور من جميع الأحوال، فالنبي عليه الصلاة والسلام ذهب ثم جاء من لا يمثله تماماً، لا أقول عنده انحراف، حاشا وكلا أن يكون في أحد الصحابة انحراف، لكن شتان بين طبيعة أبي بكر وطبيعة غيره، فجاءهم أبو بكر، ولذلك يعتبر أبو بكر برزخاً، أي مثل الحياة البرزخية بين الدنيا والآخرة، فهو برزخ بين حياة النبي عليه الصلاة والسلام وبين الحياة التي جاءت بعد ذلك لتكون انتقالاً، وليخف عليهم أثر فراق النبي عليه الصلاة والسلام، فما فقدوا في عهد أبي بكر إلا شخص النبي عليه الصلاة والسلام، وأما الرعاية والتوجيه والحلم والشدة في موضعها كل هذا موجودٌ كما كان النبي عليه الصلاة والسلام فيهم.
المرحلة الثانية:
مباحث الإسراء والمعراج
المبحث الأول:
اتفق أهل الحق على أن الإسراء والمعراج كانا بروح النبي عليه الصلاة والسلام وبدنه يقظة لا مناماً دل على هذا ثمانية أمور، كلها حق مقبول:
الأمر الأول:(6/27)
افتتاح آية الإسراء بلفظ التسبيح (سبحان) ، وقد تقدم معنا أن من معاني التسبيح تنزيه الله عن السوء والتعجب، والأمران يدخلان هنا، فالله جل وعلا ينزه نفسه عن السوء في مطلع هذه السورة للإشارة إلى أن طعن المشركين في خبر نبينا الأمين عليه صلوات الله وسلامه طعنهم في خبره بأنه أسرى به وأن هذا لا يمكن أن يحصل له وأن هذا مستحيل وأن هذا بعيد، فهذا نقص يتنزه الله عنه فهو على كل شيء قدير.
وفي ذلك أيضاً تعجيب للمسلمين وللخلق أجمعين لما حصل لنبينا الأمين عليه صلوات الله وسلامه، والتعجب يحصل عند أمر غريب أو أمر غير مألوف؟ بل يحصل عند أمر غريب، ولذلك افتتحه بقوله (سبحان) ، فالتنزيه يدل على حصول الإسراء والمعراج والطعن في هذا طعن في قدرة الله التي لا تحد بحد، والتسبيح إذا كان معناه التعجب تعجبوا مما حصل للنبي عليه الصلاة والسلام من إسراء بروحه وجسده ومعراج بروحه وجسده في جزء من الليل.
الأمر الثاني: أو اللفظة الثانية:
(عبده) العبد هو اسم لمجموع الروح والجسد، هذا كقول الله جل وعلا: (وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئاً) للروح أم للجسد؟ لهما.
وكقوله تعالى: (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً) فأتى عليه لم يكن شيئاً للروح أم للجسد؟ لروحه ولجسده ولا كانت روحه والله خلقه ونفخ فيه الروح وهو على كل شيء قدير فالعبد والإنسان هذان اسمان للروح وللجسد فليس اسماً للجسد فقط، ولا للروح فقط، والله سبحانه يقول (سبحان الذي أسري بعبده) فدخل في لفظ العبد جسد النبي عليه الصلاة والسلام وروحه.
الأمر الثالث: أو اللفظ الثالث:(6/28)
في الآية (السميع البصير) وتقدم معنا أن الأظهر في (أنه هو السميع البصير) أنه يعود على الله جل وعلا وفي ذلك دلالة على أن الإسراء كان بروح النبي عليه الصلاة والسلام وجسده يقظة لا مناماً، لأن الأمر لو لم يكن كذلك وادعاه النبي عليه الصلاة والسلام فكيف يتركه السميع البصير، فلو كان مفترياً ومختلقاًً لهذا وتقولاً على الله لما أقره السميع البصير لأن الله لا يؤيد الكذاب ولا يناصر المخادع ويهتك ستر المنافق، فكيف إذاً يدعي النبي عليه الصلاة والسلام هذا ولم يكن يحصل له، والله سميع بصير يقره.
وإذا عاد إلى النبي عليه الصلاة والسلام – كما ذكرنا قبل أنه أحد الأقوال – فقلنا إن الأمر كذلك فهو سميع لأوامري بصير بي، حدثت له الرؤية في حادث الإسراء والمعراج.
الأمر الرابع:
قول الله تعالى في وصف نبينا عليه الصلاة والسلام في سورة النجم عندما تعرض لذكر حادثة الإسراء والمعراج وأنه رأى في الملأ الأعلى ما رأى، قال: (ما زاغ البصر وما طغى لقدر رأى من آيات ربه الكبرى) وقوله في الآيات (ولقد رآه نزلة أخرى) أي ولقد رأى نبينا عليه الصلاة والسلام جبريل، (نزلة أخرى) أي مرة أخرى (عند سدرة المنتهى، عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى) فراش من ذهب ومن الألوان التي لا يوجد مثلها في زمن من الأزمان، أنواع عند سدرة المنتهي فراش من ذهب كما هو ثابت هذا في الصحيح عن نبينا عليه الصلاة والسلام، (ما زاغ البصر وما طغى) ,وزيغ البصر هذا يقع للإنسان يقظة لا مناماً.
الأمر الخامس: أو الدليل الخامس:(6/29)
لما تحدث الله سبحانه وتعالى عن مكانة النبي صلى الله عليه وسلم في سورة الإسراء، أخبرنا عن عظيم ما حصل له وعن عظيم ما رآه، فقال جل وعلا: (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة الناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغياناً كبيراً) ، ثبت في صحيح البخاري وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: [هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم] ، وهذه الرؤيا حقيقية هي فتنة وامتحان يظهر فيها المؤمن المصدق والكافر الجاحد عندما قال لهم نبينا عليه الصلاة والسلام أسري بي في جزء من الليل إلى بيت المقدس ثم عرج بي للسموات العلى ثم عدت إلى بيت المقدس، ثم عدت إلى مكة في جزء من الليل وفراشي دافئ فهذا فتنة أم لا؟ نعم هو فتنة، ولذلك سيأتينا أن تكذيب المشركين هذا دليل على أن الإسراء والمعراج بروح النبي صلى الله عليه وسلم وجسده في اليقظة لا في المنام، لأنه لو كان في المنام لقالوا له: أنت ذهبت إلى بيت المقدس، أما نحن فذهبنا في هذه الليلة إلى الصين فينبغي أن تكون نبوتنا نحن أعلى من نبوتك لأنك تذهب إلى بيت المقدس أما نحن فنذهب إلى أبعد، فالقول بأنه كان في المنام ليس فيه معجزة للرسول صلي الله عليه وسلم وأمر خارق للعادة قد حصل له، وهو – أي الأمر الخارق – أنهم يذهبون لبيت المقدس خمسة عشر يوماً ذهاباً وخمسة عشر يوماً إياباً ويقطعها هو في جزء من الليل يضاف إلى هذا أنه يعرج به إلى السموات العلى ويعاد في جزء من الليل.(6/30)
إذن رؤيا عين أريها رسول الله صلي الله عليه وسلم ومتى ثبتت له هذه؟ في حادث الإسراء والمعراج (الشجرة الملعونة في القرآن) أي أيضاً جعلناها فتنة للناس وهي شجرة الزقوم، ولذلك لما نزل قول الله جل ولعلا للإخبار بأن الكفار يأكلون من شجرة الزقوم قال أبو جهل عليه لعنة الله وغضبه مستهزءاً بكلام الله جل وعلا ومستخفاً بمحمد عليه صلوات الله وسلامه: أتدرون ما الزقوم هي عجوة يثرب بالزبد – (عجوة) أي أجود أنواع التمر، (الزبد) عندما يوضع على التمر قشدة الحليب وخلاصة الحليب الدسم – والله لأن أمكنني الله منها لأتزقمنها تزقماً، ونقول له: هنيئاً مريئاً بالزقوم، فقال الله تعالى: (إن شجرة الزقوم طعام الأثيم كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم) فإن شجرة الزقوم فتنة ووجه كونها فتنة: قال المشركون: يا محمد أنت تخبرنا أن شجرة الزقوم تخرج في أصل الجحيم، فهل بدأت تهذي تخرف، كيف تنبت الأشجار في وسط النار، والنار تحرق الأشجار، أفليست هذه فتنة؟ !!.
إخوتي الكرام.... هذه نار الدنيا تحرق الأشجار من طبيعة خاصة وإذا أراد الله أن ينبت في نار الدنيا شجراً فإنه على كل شيء قدير. (قصة القسيس مع الشيخ الحلبي الصالح لما وضع جبته داخل جبته وألقاها في فرن فاحترقت جبة القسيس ولم تحترق جبة الشيخ الصالح إلخ) . حقيقة.
إن هذه القوانين التي وضعها الله سبحانه لتتحكم في هذا الكون لا نستطيع أن نخرج نحن عنها، لكن إذا أراد الله تعالى أن يبطلها فهو على كل شيء قدير، فالنار المحرقة يجعلها ظلاً بارداً والظل البارد يجعله الله سموماً محرقاً فإنه على كل شيء قدير.
وإذا أراد الله أن يجعل الارتواء والري في البترول فإذا شربته ترتوي ويذهب الظمأ ويجعل العطش في الماء فهو على كل شيء قدير، أي فهل الماء بطبيعته يروي الإنسان؟ لا بل جعل الله فيه هذه الخاصة، فإذا أبطلها فإنه على كل شيء قدير.(6/31)
هذا اللسان هل يتكلم وحده، أم جعل الله فيه هذه الخاصية؟ بل جعل الله فيه هذه الخاصية ولذلك إذا أراد أن يُنْطق يدك، فهل تنطق اليد؟ نعم (شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون) ، (اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم) ، والذي أنطق اللسان ينطق اليد وينطق الرجل وتشهد الجلود كما أخبر ربنا المعبود سبحانه وتعالى، فهذه القوانين تتحكم فيَّ وفيك، فأنا لا أستطيع أن أُنطق يدك فأقول لليد تكلمي فلا تتكلم. إنطاق اليد وإنطاق اللسان بالنسبة لقدرته سواء، أذن للسان فنطق، فإذا أذن لليد بالنطق نطقت.
والأرض يوم القيامة ماذا يكون حالها (يومئذ تحدث أخبارها) ثبت في المستدرك وسنن الترمذي بسند صحيح عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: [تشهد على ابن آدم بما عمل على ظهرها من خير أو شر] فالأرض هذه ستشهد عليك، ولا تقل كيف ستتكلم الأرض، إذ كيف تكلم لسانك؟ فكم من إنسان له لسان ولا يستطيع أن يتكلم به أي أخرس، هل لسانه أقصر من لساننا أو أطول أو شكله مختلف؟ لا بل هو هو ولكن ما أذن الله له بالنطق، فهو على كل شيء قدير.
ولذلك أنت يا ابن آدم تتكلم بلحم وتسمع بعظم وتبصر بشحم والله على كل شيء قدير.
فالعين مادة شحمية، والأذن عظام متجوفة بواسطتها تنتقل إليك ذبذبات الأصوات وتسمع، فإذا ابتلى الله إنساناً بالصمم فهل يستطيع أن يسمع؟ لا مع أن له أذناً.
وإذا أفقد الله النور من البصر فلا يستطيع أن يرى مع أن له عينين لدرجة أنك لو نظرت إليه أحياناً ما تظن أنه أعمىً، لكنه أعمىً.
ولذلك فاوت الله بين عباده لئلا يقول الناس هذا طبيعة، فلو كان كلهم يتكلمون لقال الناس هذا طبيعة، واللسان من طبيعته أن يتكلم، لكننا نقول له فلان عنده لسان ولا يتكلم، ولو كان طبيعة لتكلم هو ولتكلمت جميع الألسنة.(6/32)
وهنا كذلك شجرة تنبت في النار والنار تحرق الأشجار، فهذه القوانين تتحكم فيَّ وفيك ولا تتحكم فيمن خلقها وأوجدها وهو رب العالمين سبحانه وتعالى، ولو تحكمت فيه لكان محكوماً ولما كان حاكماً وهو الذي لا يسأل عما يفعل، لا راد لحكمه، ولا معقب لقضائه، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وبم يتميز المؤمن عن غيره؟ ولذلك الشيطان يحزن عندما يموت العابد الجاهل، ويفرح عندما يموت العالم العليم الذكي، قالوا لمَ؟ قال: العابد كنا نضله ونخدع الأمة به باسم الشرع، وأما هذا العالم – فإننا ننصب للناس أشباكاً وأشراكاً – مصايد ونتعب فيها فيأتي العالم بكلمة واحدة يبطل حيلنا، ولذلك نحن إذا مات العالم نفرح وإذا مات العالم الجاهل نحزن، لأنه كان مصيدة لنا وأما ذاك فكان يكشف مصائدنا قالوا: وكيف؟ قال أريكم، فأخذ إبليس أعوانه وذهبوا إلى عابد جاهل وقالوا له: هل يستطيع الله أن يخلق الدنيا في جوف بيضة؟ فقال: وكيف يكون هذا؟ إنه لا يستطيع ولا يقدر على هذا فقال إبليس لأتباعه: كفر وهو لا يدري، ثم ذهبوا إلى عالم وقالوا: هذه الدنيا على سعتها ولا ترى طرفها فهل يستطيع الله أن يوجدها في داخل بيضة؟ فقال: ومن يمنعه؟ قالوا: وكيف يدخلها في داخل بيضة؟ قال يقول لها: كوني فكانت فيوسع البيضة، ويصغر الدنيا وهو على كل شيء قدير، فمن الذي يمنعه؟ ثم قال لهم إبليس: انظروا كيف يفعل بنا العالم وكيف نفعل بالعابد الجاهل.
ولذلك هنا هذا الجاهل أبو الجهل أبو جهل لما نزلت الآية قال كيف تخبرنا أن شجرة الزقوم تخرج في أصل الجحيم؟ فهل بدأت تخرف؟ فكيف الأشجار تنبت في النار؟ (إن شجرة الزقوم طعام الأثيم كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم) .
الأمر السادس:(6/33)
ركوب نبينا عليه الصلاة والسلام للبراق فهذا مما يدل على أن الإسراء والمعراج كان بروح النبي عليه الصلاة والسلام وجسده يقظة لا مناما، ثبت في سند الترمذي وصحيح ابن حبان بسند صحيح عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [أتيت بالبراق مسرجاً ملجماً – يضع خطوه عند منتهى طرفه] وهذا الحديث إلى هنا ثابت في الصحيحين، زاد الترمذي وابن حبان: [فلما قدمه لي جبريل نفر فقال له جبريل: مالك؟ والله ما ركبك خير منه، فما فارفضَّ عرقاً] (مسرجاً: أي عليه السرج ليركب عليه الراكب) ، (ملجماً ك أي عليه اللجام) ، (خطوه عند منتهى طرفه: أي إلى مقدار ما يرى فرجله تصل إلى ذلك) ، (فارفضّ: أي بدأ يتصبب من العرق)
فهذا البراق الذي ركبه نبينا عليه الصلاة والسلام كان في اليقظة.
يقول أئمتنا وإنما حصل في البراق شيئ من الامتناع والنفور في أول الأمر؛ لأمرين:
أالأمر الأول:
لأنه لم يروض منذ فترة، فالأنبياء كانوا يركبون على البراق قبل نبينا عليه الصلاة والسلام عندما كانوا يزورون بيت الله الحرام لكن من عهد عيسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه إلى عهد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ما رُكب البراقُ، وعادة الخيل إذا أُهملت فترة ولم تُركب يصبح فيها نفور وتند وتشرد؛ لأنها ليست مروضة فلابد من اعتياد الركوب عليها ليسهل انقيادها ويسهل، فإذا فإذن من فترة طويلة لم تركب هذه الدابة التي كان يركب الأنبياء قبل نبينا عليه الصلاة والسلام عليها وانظر إلى الحمير الأهلية الآن التي تسمى الإنسية بسبب عدم خوفها من الناس ولكن تراها الآن تهرب وذلك لقلة استعمالها وهي دابة كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام دون البغل وفوق الحمار، يقال لها البراق، إما مأخوذة من البريق: وهو اللمعان؛ لأن لونها أبيض يتلألأ نوراً وإما من البراق، وهو منتهي السرعة لأنها تضع خطوها عند منتهى طرفها.
ب الأمر الثاني:(6/34)
ولعله أوجه الأمرين وأقوى وهو الذي يظهر لي والعلم عند الله، أنها ندت ونفرت وامتنعت امتناع زهو وخيلاء لا امتناع نفور وإباء، فلما جيء بالبراق إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليركبه بدأت ترقص وتهرول ولا تنقاد ولا تجلس بسكينة بجواره لما حصل لها من الطرب والفرح لأنه سيركبها خير المخلوقات محمد عليه الصلاة والسلام، وهذه حالة الإنسان عندما يفرح فرحاً شديداً يوصله إلى البطر فتراه يرقص، فالإنسان عندما يبشر بنعمة حصلت له قد يشتد فرحة بها لدرجة توصله إلى درجة الأشر والبطر، وهذا مذموم في حق الإنسان، لكن عندما يصل هذه الدرجة فما يكون حاله؟ تراه يقوم ويرقص ويأتي بحركات موزونة ليخبر عن فرحه، كما أن المصيبة عندما تشتد عليه ولا يملك نفسه فانظر ماذا يفعل؟ [ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية] ، ولذلك لا جزع ولا بطر، والمؤمن في حال النعمة يشكر الله وفي حال المصيبة يصبر.
الشاهد أن هذه الدابة من شدة فرحها بدأت تهرول وترقص وتعمل حركات كما هو حال الخيل عندما يعتريها الزهو، فما كان نفورها نفور امتناع إنما كان للزهو والخيلاء كأنها تقول: أنا سأطرب وأرقص لما سيحصل لي من المنزلة العظيمة وهي ركوب خاتم الأنبياء والمرسلين عليه صلوات الله سلامه على ظهري، وهذه في الحقيقة منقبة عظيمة للبراق.
الشاهد إخوتي الكرام..... ركوب نبينا عليه الصلاة والسلام على ظهر البراق وإحضار البراق له هذا دليل على أنه حصل في اليقظة.
الأمر السابع:(6/35)
تكذيب المشركين لنبينا الأمين عليه صلوات الله وسلامه، دليل على أن تلك الحادثة وقعت له يقظة لا مناماً، فلو كانت مناما لما كان هناك داعٍ للتكذيب ولقالوا له: ما حصل لك في الرؤية يحصل لنا ما هو أبعد منه وليس في هذه دليل على مكانتك ونبوتك وصدقك وأنك رسول الله، فلما كذبوه دل على أنه بروحه وجسده يقظة لا مناماً، لاسيما عندما أخبرهم بعد ذلك بما يزيل تكذيبهم وسيأتينا في ذكر الآيات التي رآها – قالوا: إن كان كما تقول يا محمد، فانعت لنا المسجد الأقصى – وهذا لا يقال لرؤيا منامية إنما حصل له في اليقظة – وصفه لنا كم عدد أبوابه وكم عدد نوافذه وماذا يوجد فيه من أساطين؟ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: لما قالوا لي هذا أحرجت حرجاً عظيماً حتى أتى جبريل على نبينا وعليه الصلاة والسلام لي ببيت المقدس ووضعه أمامي فجعلت أنظر إليه وأنعته لهم باباً باباً، وجبريل إما اقتلع بيت المقدس وأتاه به – والله على كل شيء قدير – وإما أتى بمثال له، فكل من الأمرين يحصل به المراد وهو وصف المسجد الأقصى.
الأمر الثامن أو الدليل الثامن وهو آخرها:
نقول حادثة الإسراء والمعراج هي أمر ممكن، ورد به السمع فيجب الإيمان به، وهذه قاعدة عضوا عليه بالنواخذ وانتبهوا لها
* كل ممكن: أي يجوز وقوعه ولا يحيل حصوله.
* ورد السمع به: أي أخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام به، بأنه أُسري به وعُرج مثلاً.
* يجب الإيمان به: فلا يجوز تأويله ولا إخراجه عن ظاهره وكل من فعل هذا ففيه شعبة من شعب الباطنية ومسلك من مسالكهم.
فمثلاً عذاب القبر ممكن أم مستحيل؟ ممكن، نعيم القبر ممكن أم مستحيل؟ ممكن(6/36)
ورد بهما السمع فنؤمن بهما، ولا نقول كيف يكون؟! بل الواجب الإيمان به والتسليم ومثلهما وجود الموازين والصراط في يوم القيامة ممكن ورد به السمع نؤمن به، وكوننا لا نتوصل إليه بحواسنا، فهذا أمر لا يعنينا، لكن هل هذا مستحيل؟ لا، فإذا كان مستحيل هنا مجال البحث وهل تأتي الشريعة بما تحيله العقول، لا يمكن أن يتعارض معقول مع منقول، إذا تعارضا فالآفة في أحدهما، إما في النقل فلم يصح، وإما في العقل فليس بصريح ولا سديد فلا يتعارض نقل وعقل هذا شرع الله وهذا خلقه وليس في خلقه من تفاوت وليس في شرعه من تضارب (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت) ، (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً) .
وقد ألف الإمام ابن تيمية رحمه الله كتاباً في عشر مجلدات يدور حول هذا الموضوع سماه: (موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول) فلا يتعارض نقل صحيح مع عقل صريح، هذا الكتاب لو وزن ذهبا لكان أغلى من وزنه ذهباً، ويسمى (درء تعارض العقل والنقل) .
ولذلك قال أئمتنا: لا تأتي الشرائع بما تحيله العقول لكن تأتي بما تحار فيه العقول، وشتان ما بين الحيرة والإحالة، فالإحالة لا يمكن أن تقع، أما الحيرة فموجودة فيما تشاهده، فكيف بما لا تشاهده؟ لسانك ينطق، وهو قطعة لحم فهذا يحير العقل أم لا؟ لكن الإنسان من غلظ كبده، وتبلد شعوره وإحساسه، ما يقع حسه عليه باستمرار يغفل عن الحكمة فيه ولا يعتبر في شأنه والله يقول: (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) ، كم من لسان يتكلم، فهذا يحار فيه العقل أم يحيله العقل؟ هذه حيرة تحير، فكيف تكلم هنا العضو من الإنسان فهذه حيرة مقصودة من الشارع، كما قلنا تنطق بلحم وتبصر بشحم وتسمع بعظم، كيف هذا؟ (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) ، وهذا الخلق الذي هو في أحسن تقويم هذا مما يحار العقل فيه ولا يحيله لأنه مشاهد أمامنا، ولكن من أي شيء؟ خلق من ماء مهين كما قال ربنا جل وعلا.(6/37)
وهذا الإنسان وتكونه ولو لم نره في حياتنا وقيل لنا: من هذا الماء يخلق إنسان له رجلان يمشي عليهما، ويدان يبطش بهما ورأس يدرك به وله أعضاء وتتحرك كله من هذه النطفة، لقلنا له أنت تخرف، كيف من هذه النطفة يخلق هذا، ولكن لمشاهدتنا له قل اعتبارنا به.
يقول أئمتنا: لو لم نر حيواناً يمشي على بطنه والله يقول هذا في كتابه (فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع) ، لاستغرب كثير من الناس بل لأحال بعضهم وأنكر وجود حيوان يمشي على بطنه، لكن لما رأينا الحية تمشي على بطنها فحينئذ قلنا ممكن، ورأينا إنساناً يمشي على رجلين، ورأينا دابة تمشي على أربع فقلنا ممكن، ولو أراد الله الإنسان أن يمشي على رأسه ممكن وهذا سيقع يوم القيامة (ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم) فهم يمشون على وجوههم وليس على أرجلهم، وقيل لقتادة: كيف يمشي على وجهه؟ قال: أوليس الذي أمشاهم على رجلين بقادر على أن يمشيهم على الوجوه؟! فكل هذا مما يحير العقل لا مما يحيله.(6/38)
والحيرة مقصودة ليسلم المخلوق بعجزه لخالقه، لكن الإحالة باطلة، ومثال الإحالة الجمع بين النقيضين، نفي النقيضين، هذا مستحيل، فلو قيل لنا: هل يقدر الله أن يوجد هذا حياً ميتاً في وقت واحد فماذا يكون الجواب؟ نقول: هذا ليس متعلق القدرة والعقل يحيل هذا ولكن هل نقول ممكن أم غير ممكن؟ لا نقول ممكن ولا غير ممكن، أن يوجد الله هذا حياً ميتاً في وقت واحد لا نقول إنه ممكن لأنه ليس متعلق بقدرة بل هو مستحيل، ولا نقول غير ممكن لأن هذا سوء أدب مع الله، لأن متعلق القدرة الممكنات والجائزات، وهذا مر في شرح الطحاوية في مبحث القدرة والإرادة، وهو مفصل في موضعه، فلو قيل هل يستطيع الله أن يقلب فلاناً إلى سيارة؟ نقول نعم لأنه ممكن وهو على كل شيء قدير، وهل يستطيع أن يمسخه قرداً أو خنزيراً؟ نقول ممكن ولكن هل يستطيع أن يجعله حياً وميتاً في آنٍ واحدٍ؟ نقول: الحياة نقيض الموت فإذا كان حيا فليس بميت وإذا كان ميتا فليس بحي، فكيف ستتعلق القدرة بما يحيله العقل لا بما يحار فيه؟.
وعندما يمسخ الإنسان (فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين) هذا المسخ يحيله العقل أم يحار فيه بل يحار فيه، إنسان سوي ثم مسخ.
يذكر الإمام ابن كثير في تفسيره عند سورة أنه كان بعض الناس في مسجد نجران وعنده وسامة وجمال فقال له بعض الحاضرين: ما أجملك، يعني خلقة بهية خلقك الله عليها – فقال: أنت تتعجب من حسني! الله يتعجب من حسني، فبدأ يتصاغر أمام الناظرين وهم يرونه حتى صار طوله شبراً، فهذا ممكن أم مستحيل؟ ممكن لكن يحار فيه العقل.
لذلك يمكن أن تأتي الشريعة بمستحيل، فنقول هذا الشيء إما موجود وإما معدوم، ولكن هل يمكن أن يجتمعا؟ لا يمكن أن يجتمعا ولا أن يرتفعا، قال أئمتنا:
"عقول البشر قاطبة تقرر أن النقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان" أي لا يمكن وجودهما ولا يمكن انتفاؤهما، بل لابد من وجود واحد منهما.(6/39)
عذاب القبر ممكن وهو مما يحار فيه العقل ولا يحيله، ولو وضع صِدِّيق وزنديق في قبر واحد لكان القبر روضة من رياض الجنة على الصِدِّيق وحفرة من حفر النار على الزنديق، فإن قيل كيف هذا؟ نقول: هذا مما تحار فيه العقول وتعجز عن الوصول إليه من جميع الجهات فتسلم بعجزها لرب البريات، (وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً) .
العلم للرحمن جل جلاله ... وسواه في جهلانه يتغمغم
ما للتراب وللعلوم وإنما ... يسعي ليعلم أنه لا يعلم
فنحن نسعى لنعلم أننا كنا لا نعلم لا لنتعلم.
ونحن نسعى ما كنا نجهله لا لنصل لدرجة العلم، لأن العلم لمن هو بكل شيء عليم (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً) .
انظر إلى الإمام الشافعي عليه رحمة الله – وهذا حال أئمتنا – يقول:
كلما أدبني الدهر ... أراني نقص عقلي
وإذا ما ازدت علماً ... زادني علماً بجهلي
فحن نتعلم لنكشف جهلنا لا لنصل إلى مستوى ربنا جل وعلا، ولا يمكن أن تأتي الشريعة بما تحيله العقول، حادث الإسراء والمعراج، كونه يسرى به من مكة إلى بيت المقدس إلى السموات العلا ثم يعاد في جزء من الليل، هل هو ممكن أم مستحيل؟ وهل يتصور العقل وجوده أم يحيل وجوده؟ هو ممكن ويتصور العقل وجوده، وقد ورد به السمع وهو الذي لا ينطق عن الهوى – فيجب الإيمان به.
ولو كان مستحيلاً لا يقبله العقل لقلنا: انظروا لعل السمع ما صح، أما أن يصح السمع والعقل يحيل فهذا لا يمكن أن يقع على الإطلاق.
فمثلاً حديث [خلق الله الورد من عرق النبي صلي الله عليه وسلم] هو حديث موضوع، فهذا العقل يكذبه لأن الورد كان موجوداً قبل النبي صلى الله عليه وسلم، فإذن العقل يحيل هذا فكيف تقولون إن الورد خلق من عرق النبي صلى الله عليه وسلم.(6/40)
في المقابل قد يقول قائل: الإسراء والمعراج باطل، ورد به السمع لكن العقل يحيله، وعليه فنرد السمع، نقول: لأن العقل ليس بصريح إنما هذا العقل قبيح، فلو كان عقلاً صريحاً لاحترم نفسه وقال: هذا ليس بمستحيل، لأنه ليس فيه جمع بين النقيضين وليس فيه نفي للنقيضين، فيتصور وجوده – ويتصور عدمه، فإذا شاء ربنا أحد الممكنات فليس بمستحيل (كن فيكون) ، (وهو على كل شيء قدير) .
س: ما هي مواصفات العقل الصريح؟
جـ: العقل الصريح لا يمكن أن يوجد ولا أن يحصل في غير المؤمن الذي يخاف من الله ومن عدا المؤمن سيقول يوم القيامة: (لو كنا نسمع أو نعقل) كما أخبرنا الله عنهم، فكل من عدا المؤمن فليس عند واحد منهم عقل صريح، لكن قد تقل نسبة الحماقة وقد تكثر وأول الحمقى اللعين إبليس، لأنه أول من اعترض على الله، وهذا عقل صريح أم عقل قبيح؟ بل هو قبيح، فماذا قال لله: (رب أنظرني إلى يوم يبعثون) ، (رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين) فيا إبليس يا ملعون، بماذا تخاطب الحي القيوم؟ تقول رب، إذن هو ربك خلقك فكيف تعترض عليه وتقول (أأسجد لمن خلقت طيناً) ، (أنا خير منه) أنت تقول رب، أمرتني بالسجود لآدم ثم تقول هذا خلاف الحكمة، فأنت سفيه الحكمة تقتضي أن يسجد آدم لي لأنني أنا من نار وهو من طين، ولنناقش كلامه: أنت تقول الله خلقك وأعطاك الحكمة فهل يعقل لمن أعطاك الحكمة أن يرضى لنفسه بالسفاهة فهذا لا يقبله عقل.
أمر ثانٍ نناقشك فيه سلمنا أن عندك حكمة فأنت تقول النار أحسن من الطين، لم أحسن مع أن طبيعة النار الطياشة والتفريق، وطبيعة الطين الرزانة والهدوء؟ وانظر إلى نتيجة الطين ونفعه للمخلوقات أجمعين تضع فيه حبة يعطيك شجرة فيها من كل زوج بهيج، والنار تحرق ثيابك إن لم تحرقك فالطين طبيعته الإصلاح، والنار طبيعتها الإفساد.(6/41)
سلمنا أن النار أفضل من الطين فهل يلزم مَنْ خُلِق من عنصر شريف أن يكون شريفا، وهل يلزم مَنْ خُلِقَ من عنصر خبيث أن يكون خبيثاً، أم كل نفس بما كسبت رهينة؟ إذا كانت النفس من باهلة والعرق والنسب من بني هاشم فماذا ينفع النسب؟ ألم يقل الله (تبت يدا أبي لهب) .
إذا افتخرت بآباء لهم نسب ... قلنا صدقت: ولكن بئس ما ولدوا
فهب أن النار أجود العناصر وأحسنها، فهل يلزم أن تكون أنت أفضل المخلوقات؟ لا يلزم، فانظر إلى هذه السفاهة، ولهذا أول الحمقى إبليس، وأول من مات من المخلوقات على وجه الإطلاق إبليس، وهو منظر إلى يوم الدين، لأن كل من عصى الله ذهبت منه الحياة الحقيقية (أفمن كان ميتاً فأحييناه) فهذا ميت لكنه في صورة حي.
وبالجهل قبل الموت موت لأهله ... **** ... وأبدانهم قبل القبور قبور
وأرواحهم في وحشة من جسومهم ... **** ... وليس حتى النشور نشور
ولذلك العقل الصريح هو الذي يلتزم بشرع الله الصحيح، قال تعالى: (إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب) ، قال أبو العالية وقتادة وغيرهم: أجمع أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام أن كل من عصى الله فهو جاهل، وأن كل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب.(6/42)
فالعقل الصريح ضابطه هو الذي لا يأتي بسخف ولا يتعالى على شرع الله ولا يأتينا بعد ذلك بمضحكات بمبكيات كما هو الحال في الدولة الأمريكية فالزنا في القانون الوضعي عندهم حلال، ومنعت المخدرات بل وتطارد عصاباتها، وتعمل مؤتمرات لمكافحتها، بينما لم تمنع المسكرات وسميت بمشروبات روحية وأهل الأرض من أهل القوانين الوضعية كلهم يسميها حلال، والمخدرات حرام مع أن الخمر أقوى في التحريم من الحشيش والأفيون، فهذه ألحقت بالخمر كما قال أئمتنا لوجود علة الإسكار فألحقت به تحريماً ونجاسة وحداً، ففيها حكم الخمر، لكن انظر إلى عقول البشرية: من يتاجر بالمخدرات يطلب ويشنق ويحكم عليه بالإعدام، ومن يتاجر بالمسكرات يعطى ترخيصاً من الدولة، فهذا عقل صريح أو عقل قبيح؟.
ولقد وصل حال هذه العقول في الدولة البريطانية – ولكن أين من يغزو هذه الدول غزواً فكرياً ويكشف ضلالاتها وأفكارها للناس – ومن المعمول به في قانونها أن اللواط مباح ولا حرج فيه، بل يجوز التزاوج بين الرجال، فهذا عقل صريح أم قبيح؟ وأعجب لهذه العقول التي ضلت ولعنها الله كيف تزعم أنها ستحل مشاكلنا، اللواط الذي فطر الله العباد على استقباحه واستهجانه تبيحه أرقى الدول، بل إنه جائز عن طريق التزاوج، ولم يكتفوا بأن يجعلوه معصية، أو أمرا عاديا غير رسمي فكل من ينحرف عن شرع الله فهو ذو عقل قبيح؛ لأن شرع الله نور (قد جاءكم من الله نور) فمن خرج عن النور فليس له إلا الظلام، والظلمة قبح.
فهذا هو ضابط العقل الصحيح الصريح من العقل الفاسد المنتكس القبيح
وما لم يكن عون من الله للفتى ... فأول ما يقضي عليه اجتهاده
إخوتي الكرام ... عندنا وصفان ذكاء وزكاء، والثواب والعقاب يتعلق بالوصف الثاني وهو الزكاء، ويحمد به الإنسان حمداً حميداً.(6/43)
فالذكاء هو تفتح في الذهن وإدراك لعواقب الأمور وسرعة استحضار وقوة حفظ، فهذا ذكاء، وهو مثل الثعلب، ولا يوجد منه في حيله واحتياله لكنه خبيث النفس نجسها، ولذلك قال أئمتنا في كثير ممن غضب الله عليهم كأبي العلاء المعري الذي هلك سنة 449هـ قال ابن كثير في ترجمته في البداية والنهاية في حوادث سنة 449هـ قال: "كان ذكياً ولم يكن زكياً".
والزكاء هو طهارة القلب وموافقة شرع الرب، فهذه هي الفضيلة، أما كون الإنسان عنده بلادة في الذهن وعنده تحجر لا يستطيع أن يحفظ ولا يستحضر فذهنه فيه شيء من الإغلاق بسبب شواغل وصوارف، فلس في هذا مذمة عند الله وليس عليه النقص، لكن إذا كانت نفسه خبيثة فهذا هو البلاء وخير الناس من اجتمع فيه الذكاء والزكاء، لكن إذا انعدم واحد منهما فإياك أن تعدم الزكاء، ولهذا مهمة الأنبياء تزكية الناس لا أن يكونا أذكياء فالذكاء بيد الله وقد يحصل للإنسان عليه وقد لا يحصل، والعقول تتفاوت (هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم) من التزكية (قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها) .
المبحث الثاني:
حادث الإسراء والمعراج خارق للعادة، ولذا قلنا إنه ممكن ورد به السمع وخوارق العادات تنقسم إلى ستة أقسام:
1- الإرهاص ... 2- المعجزة ... 3- الكرامة
4- المعونة ... 5- الاستدراج ... 6- الإهانة
فهذه كلها يقال لها خوارق للعادات، لكن ماذا يقصد بخارق العادة؟ هو تخلف الملزوم عن لازمه، أو وجود الملزوم دون اللازم.
مثال: تخلف الملزوم عن لازمه:
النار من طبيعتها ولازمها الإحراق، فلو أججنا ناراً عظيمة وألقينا فيها إنساناً وما احترق، فهذا يكون خارقاً للعادة.
مثال وجود الملزوم دون اللازم:(6/44)
وجود ولد بدون والد أو بدون أم أو بدونهما، وإن كان هذا حسب العادة لا يوجد، فمن أراد أن يولد له أولاد فلابد من زوجة، ومن أرادت أن يأتيها أولاد فلابد من زوج، لكن لو ولد مولود من غير أب – كحال عيسى عليه السلام – فهذا خارق لعادة (قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغياً، قال كذلك قال ربك هو علي هين) ،وهذا مما يحار فيه العقل ولا يحيله.
وإذا وجد مولود من غير أم – كحال حواء – خلقها الله من أبينا آدم فهذا أيضاً خارق للعادة وإذا وجد مخلوق من غير أب ولا أم – كحال أبينا آدم عليه السلام – فهذا كله خارق للعادة وقد وجد الملزوم في الأمثلة الثلاثة السابقة دون وجود لازمه.
وهذا الملزوم اتصاله بلازمه أو حصوله بلا لازمه، وجوده وانفصاله مما يجيزه العقل ويقبله أم مما يحيله ويرفضه؟ نقول: بل هو مما يجيزه، وقد تقدم معنا أن العقل يمنع المستحيل فقط وهو اجتماع النقيضين، أو نفي النقيضين، أو اجتماع الضدين، فهذا هو المستحيل فقط، (1)
__________
(1) س: ذكرتم أن النقيضين لا يجتمعان، فكيف اجتمعت الذكورية والأنوثية في المخنثي المشكل؟
الجواب: هال ذكر الله المخنث في كتابه. لا لم يذكره الله في كتابه لأن الخنثي في حقيقة أمره إما ذكر أو أنثى، فهو أشكل علينا، لذلك نقول فيه: يرجى انكشاف حاله – أي انكشافها بعد البلوغ – فإن تكعب الثديان في صدره فهو أنثى وإن حاض فهو أنثى، وإن رق صوته فهو أنثى، بينما الغلام لو بلغ يخشن صوته وقبل بلوغه صوته ناعم والجارية بالعكس فبمجرد أن تبلغ يصبح صوتها ناعماً، وقبل البلوغ صوتها أخشن من صوتها بعد البلوغ، فالمرأة صوتها أرق من صوت الجارية التي لم تبلغ، فإذا خرجت لحية فهو ذكر، فالحاصل أنه أشكل علينا لكنه في حقيقة الأمر إما ذكر أو أنثى ول1لك قال الله تعالى وهذا انظروه في كتب التفسير بلا استثناء عند قوله تعالى: (لله ملك السموات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثاً يهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكراناً وإناثا ويجعل من يشاء عقيماً) يقول علماؤنا: لم يذكر الله غير هذين الصنفين للإشارة إلى الخنثى في نهاية أمره إما ذكر وأما أنثى فلا إشكال وما اجتمع النقيضان، النقيضان متى يكونا؟ إذا تصورنا وجود شخص ما فهو في إحدى الآليتين تزوج وولد، وفي إحدى آليته تزوج به وحمل وولد له فهنا يحصل اجتماع النقيضين، ولكن هذا لا يتصور وجوده، لأن الخنثى مثاله إما ذكر وأما إنثى.
... ولذلك قال أئمتنا: قبل ظهور علامات البلوغ من ذكورة وأنوثة تميزه في صغره فمن أي آليته يبول فإن بال من آلية الذكورة فهو ذكر وإن بال منهما فيتهما يبول منها أسبق، وإن بال منهما في وقت واحد فأيتهما يبول منها أكثر وهذا واضح.
... أما إن مات الخنثى بعد ولادته مباشرة أي بعد وفاة والده بقليل فات الولد الخنثى ليس له ولد غيره: فهذا إن كان أنثى له النصف، وللأم السدس لوجود الفرع الوارث، والباقيللأخوة أعمام الخنثى، وإن كان ذكر فله كل المال تعصيباً وللأم السدس وبعد وفاة الابن الخنثى المال كله للأم إلخ المسألة فنورثه بالافتراضية ثم نعطيه متوسط ما خرج له في الافتراضين على أنه نصف ذكورة ونصف أنوثة، وهذا لأجل جل عاجل في الدنيا، أما في حقيقة الأمر ذكر أو أنثى.(6/45)
أما نفي الضدين فهذا ليس بمستحيل فالبياض والسواد مثلاً ضدان لا يجتمعان فإما أبيض أو أسود، ويصح أن يرتفعا فقد يكون أحمر لا أبيض ولا أسود.
فكل ما يتقابل مع غيره تقابل سلب وإيجاب فهما نقيضان، بحيث إذا وجد أحدهما انتفى الآخر كالحياة والممات، والذكورة والأنوثة وغيرهما فإذن ما تقدم هو خارق للعادة، لكن هل يتصور أن يقع خارق للعقل؟ نقول: لا ولا يمكن أن تأتي شرائع الله بما تحيله العقول، إنما تأتي بما تحار فيه العقول أججت نار عظيمة لو مر طير في أقصى الجو لخر مشوياً، فكيف يوضع خليل الله إبراهيم عليه الصلاة السلام في المنجنيق من مكان بعيد يقذف ويلقى في النار؟ وهو لو لم يلق في النار لتكسرت عظامه من أثر الإلقاء والرمي، وإنما وضعوه في المنجنيق لأنهم لا يستطيعون أن يقتربوا من النار لإلقائه فيها، فيلقى في النار فتكون برداً وسلاماً ولا تحرق النار إلا وثاقه، فكان مقيدا ثم صار مطلقا، فهذا يتصوره العقل ولا يحيله، وهذا ليس بأغرب من أننا خلقنا من ماء مهين، كما أن الله قادر على أن يخلق إنساناً من غير هذه القطرات التي هي من ماء مهين – كما خلق عيسى – فمن الذي يمنعه؟ لذا قال: (هو علي هين) فهذا خارق للعادة وليس خارق للعقل فليتنبه!!
ولا يمكن أن يقع شيء خارق للعادة وليس خارقاً للعقل فيه آفة – كما تقدم – يقول إن هذا مستحيل فنقول: الآفة في عقلك الهزيل، وليس هذا مستحيل، ولذلك قلنا خارق للعادة أي لم تجر العادة به فهو غريب، فكوننا خلقنا من هذا الماء غريب لكن جرب به العادة، وكوننا نتكلم بقطعة اللحم اللسان غريب لكن جرب به العادة، ولو أن أصبعك تكلمت لاعتبر الناس هذا خارقٌ للعادة، ولو أن الحصى سبحت كما سيأتينا في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم حصىً تسبح كما يسبح اللسان فهذا غريب ما جرت به العادة فهو خارق للعادة، وهو في الحقيقة لا غرابة فيه بالنسبة لقدرة الله تعالى.(6/46)
إذن خارق العادة ليس بخارق للعقل فلابد من التفريق بين خارق لعادة وخارق العقل، وخارق العقل هذا بين نقيضين، نفي نقيضين، جمع ضدين، فهذا لا يمكن أن يقع، ولذلك ما كانت معجزة نبي من الأنبياء أن يقول أجعلكم أحياء وأمواتا، موجودين ومعدومين؟ هذا مستحيل هذه سفسطة ولا يمكن أن تقع، ولكن معجزة نبي أنه يحيي الموتى، فهذا مستحيل أم ممكن؟ نقول: ممكن ميت يموت فيقول خذوا بقرة واذبحوها واضربوه ببعضها فيحيى بإذن الله (كذلك يحي الله الموتى) ، فإحياء الميت خارق للعادة التي جعلها لله تتحكم فينا نحن وفيما عدا الله.
فجعل الله سنناً في هذه الحياة لا يستطيع أحد أن يخرج عنها، فإذا شاء الله جل وعلا أن يبطل هذه السنن، أفليس بقادر على ذلك؟ بلى.
فنقول: إبطال لتلك السنة، إيقاف لمفعولها، خرق للعادة إلى غير ذلك من العبارات وليس هذا بمستحيل، بل إن هذا دليل على قدرة الله الجليل سبحانه وتعالى.
وخوارق العادات كما ذكرنا ستة أقسام:
القسم الأول: الإرهاص
مأخوذ من الرهْص، وهو أساس الشيء، يقال إرهاص، أساس البيت القواعد التي يبني عليها هذه يقال في اللغة رهْص.
وهو: خارق للعادة يقع على يد من سيكون نبيا قبل نبوته.
وسميت إرهاصاً لأنها بمثابة التأسيس لما سيليه، وهو المعجزة والإخبار بنبوته، فيكون هذا بمثابة لفت ربنا لأذهان الناس وأنظارهم بأن هذا المخلوق الذي جرى على يديه إرهاصات سيكون له شأن في المستقبل القريب فترقبوا ذلك.
مثاله: شق صدر نبينا عليه الصلاة والسلام عندما كان عند حليمة، وسيأتينا هذا ضمن الآيات التي حصلت لنبينا عليه الصلاة والسلام عند الإسراء والمعراج في مبحث مستقل ونبين أن شق صدر النبي عليه الصلاة والسلام وقع أربع مرات.
مرة عند حليمة عندما كان عمره سنتان وثلاثة أشهر.
ومرة عندما كان عمره عشر سنين.
ومرة عندما كان في غار حراء وجاءه جبريل في أول نزوله عليه.
والمرة الرابعة في حادث الإسراء والمعراج.(6/47)
وكل هذه المرات ثابتة صحيحة أتعرض لها إن شاء الله تعالى، فيشق صدره من ثغره بنحره إلى شعرته عليه الصلاة والسلام – وهو منبت العانة – ثم يخرج قلبه ويغسل بقَسْطٍ من ذهب بماء زمزم ثم يحشى إيماناً وحكمة ثم يلتأم صدره الشريف عليه صلوات الله وسلامه.
فالشق هذا الذي حدث له وعمره سنتان وثلاثة أشهر وعمره عشر سنين هذا خارق للعادة يأتيه ملكان فيضجعانه، ولذلك أرادت حليمة أن تعيده إلى أمه وعمه عندما شق صدره وهو صغير خشيت أن يكون قد أصابه مس من قبل الجن، لأنها ظنت أن هذا من فعل جن، فصدره عندما يشق ويستخرج قلبه ويغسل هذا خارق للعادة لكنه لم يكن نبياً في ذلك الوقت فهذا بمثابة إرهاص وإعلام بأن هذا المولود له شأن في المستقبل، وقد كان له أعظم الشؤون عليه صلوات الله وسلامه، في يوم ولادته حصل إرهاص عظيم فأمه آمنه عندما تلده يخرج منها نور كما تتحدث هي عن ذلك، يضيء من هذا النور قصور بُصرى في بلاد الشام، وعندما ولد تراه قد ولد مختوناً فلم يختنه خاتن، مسروراً أي سرته مقطوعة، ثم بعد ذلك يرسل إلله في ذلك العام طيراً أبابيل على الجند الذين جاءوا لهدم بيت الله العتيق، فهذا كله إرهاص، أي حصل في هذه البلدة خبر غريب من أجله فعلنا هذه الأعاجيب، فانتبهوا!
إنه نبياً عليه الصلاة والسلام، لذا تؤرخ ولادته بعام الفيل التي وقعت إرهاصا لولادته وإرهاصاً لنبوته وإخباراً بما سيكون له من الشأن العظيم.(6/48)
وفي رحلته بعد ذلك إلى بلاد الشام عندما ذهب مع ميسرة - غلام خديجة – وعندما ذهب قبل ذلك مع عمه أبي طالب كان الغمام يظلله عليه الصلاة والسلام لوجود الحر الشديد فكان أينما ذهب غمامة فوق رأسه عليه الصلاة والسلام كأنه يحمل مظلة تظلله من حرارة الشمس، وهذا أيضاً إرهاص وهكذا بقية الأنبياء عندما جعل الله لهم خوارق للعادات قبل نبوتهم، فعيسى تسمعه يقول عند ولادته: (إني عبد الله آتاني الكتاب) ويقول: (وبراً بوالدتي) فتكلمه في المهد يعد إرهاصاً لأمر سيحصل لنبوته.
وموسى عليه الصلاة والسلام عندما يلقى في البحر (فإذا خفت عليه فألقيه في اليم) نجيناه من التلف بالتلف، نجيناه من فرعون بالبحر ليقوده إلى فرعون، وفرعون لم يتلفه، فنجيناه على يدي فرعون، وهذا رب العالمين الذي إذا أراد شيئاً فلا راد لحكمه ولا معقب لقضائه، فموسى ألقي في اليم هرباً من فرعون فنجاه الله على يدي فرعون، وصار هلاك فرعون على يد هذا المولود الذي رُبِّيَ في حجره وكان يضرب لحيته في صغره، فهذا إرهاص عظيم، فهل خافت المرأة على ولدها تلقيه في البحر، أن إذا كان في البحر تأخذه؟
القسم الثاني: المعجزة:
هي أمر خارقة للعادة يجريه الله تعالى على يد النبي، ليكون برهاناً على صدقه في أنه رسول الله وقد تقترن المعجزة بدعوى التحدي، وقد لا تقترن، فلا يشترط في المعجزة أن تكون مقترنة بدعوى التحدي.
فمعجزة القرآن الكريم مقرونة بدعوى التحدي (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله) .
بقية المعجزات: كتكثير الطعام، وتسبيحه، وتسبيح الحصى، وانشقاق القمر (اقتربت الساعة وانشق القمر) حنين الجذع إلى النبي عليه الصلاة والسلام من المتواتر فكل هذا لم يقترن بالتحدي.(6/49)
وهذه المعجزة لا يمكن لأحد أن يعارضها، ولذلك هي سالمة من المعارضة لأنه متى ما عارضها بطلت نبوة النبي، فلو قال النبي عليه الصلاة والسلام علامة صدقي أن ينشق القمر ويشير بإصبعه إلى القمر فينقلب فلقتين، ويظهر بين الفلقتين جبل حراء، فلقة عن يمينه وفلقة عن شماله ويقول مشركو مكة سحركم محمد عليه الصلاة والسلام، فقال بعض العقلاء فيهم -وليس فيهم عاقل - إذا سحرنا محمد فلن يسحر أهل الأرض، فسلوا التجار الذين سيعودون من بلاد الشام فهل رأوا انشقاق القمر في بلاد الشام في هذا الوقت أم لا؟
فلما عاد التجار من بلاد الشام سألوهم، هل انشق القمر في ليلة كذا؟ قالوا: نعم، فماذا قال المشركون (سحر مستمر) ، فهذا قد سحر أهل الأرض جميعاً هكذا زعموا وحاشاه صلى الله عليه وسلم فإذن هذه لم تقترن بدعوى التحدي وقد تقترن بدعوى التحدي لكن لا يمكن أن تعارض، فلو قال مسيلمة الكذاب أنت شققت القمر في هذه الليلة وأنا سأشقه في الليلة التي ستليها، وحقيقة لو شق لبطل صدق النبي عليه الصلاة والسلام وظهر أنه دعيٌّ وليس نبي، ولذلك اشترطنا سلامتها من المعارضة، فلا يمكن لأحد أن يعارضها، أيد الله أنبياءه بالمعجزات.
بالمعجزات أيدوا تكرُّما ... وعصمة الباري لكلٍ حتِّما(6/50)
فنبي الله موسى عليه الصلاة والسلام عندما يخرج مع بني إسرائيل حسبما أمرهم ربنا الجليل وأسرى ببني إسرائيل ليلاًً ثم تبعهم فرعون وجنوده وصار البحر أمام نبي الله موسى وفرعون وراءه، فماذا قال المؤمنون في ذلك الوقت: (إنا لمدركون) ، فانظر إلى العبد الواثق بربه حيث قال: (كلا إن معيَِ ربي سيهدين) ، (فأوحينا إليه أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم) ، فهذه معجزة النبي، البحر يصبح اثني عشر طريقاً يبسا ً والماء يتجمد كأنه جدران، والطرق بينها ثم هذا الماء عندما يتجمد والطرق اثنا عشر طريقاً لأنهم كانوا اثنا عشر سبطا وفريقاً جعل الله في هذه الطرق عندما تجمد الماء في هذه الحواجز نوافذ وطرقات ليرى كل فريق الفريق الآخر عندما يسيرون حتى لا يظن كل فريق أنه هو الناجي فقط والفرق الأخرى ماتت فكل واحد ينظر إلى صاحبه كأن بينهم حاجز من الزجاج، فهذا كله خارق للعادة جرى على يد نبي فهو إذن معجزة.
القسم الثالث: الكرامة:
هي: خارق للعادة يجريه الله على يد العبد الصالح.
والعبد الصالح هو المؤمن الذي يفعل المأمورات من واجبات ومستحبات ويترك المنهيات من محرمات ومكروهات ولا ينهمك في اللذات والمباحات فهذا يقال له: صالح ولي، صدّيق، فحاله كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (مالي وللدنيا إنما أنا كراكب قال تحت شجرة ثم راح وتركها) .
فإذا جرت على يد العبد الصالح خارق من خوارق العادات فيقال لها كرامة.
مطرف بن عبد الله بن الشخير من أئمة التابعين كان إذا دخل إلى بيته تسبح معه آنية البيت وهذا ثابت، والله على كل شيء قدير.(6/51)
والكرامات في هذه الأمة كالمطر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم – والحديث في الصحيحين -[قد كان في الأمم قبلكم محدثون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن في أمتي أحد منهم فعمر] عمر بن الخطاب رضي الله عنه سيد محدثي وملهمي هذه الأمة يخبر بأمور الغيب من غير أن ينزل عليه وحي، وما نظر إلى شيء وقال أراه كذا إلا كان كما يقول و"كان ينظر إلى الغيب من ستر رقيق" كما قال ابن عباس رضي الله عنهما.(6/52)
الحسن البصري عليه رحمة الله، كان الحجاج يرسل شرطته ليقبضوا عليه وهو جالس على سريره في صحن داره فتدخل الشرطة وتقول أين أبو سعيد؟ أين الحسن البصري؟ وهو ينظر إليهم ويبتسم ويخرجون، فهذا خارق للعادة، إنَّ عينيك تبصر ولكن حال الله بينك وبين الرؤيا أما قال الله في كتابه: (وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً) ، وقد ثبت في المستدرك بسند صحيح كالشمس عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها أن قول الله تعالى (تبت يدا أبي لهب وتب) لما نزل جاءت العوراء أم جميل - أم قبيح – زوجة أبي لهب تولول وفي يدها حجر يملأ اليد، وتقول: أين محمد؟ فقد بلغني أنه هجاني، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يجلس في فناء الكعبة وبجواره أبو بكر فقال: يا رسول الله أخاف عليك منها – أي لأنها سفيهة، امرأة فليست رجلاً لنقاتله وفي يدها فلو تواريت – فقال سيحول الله بيني وبينها، فقرأ قرآناً فاعتصم بالله منها فبدأ يراها ولا تراه فوقفت على رأس أبي بكر – والنبي عليه الصلاة والسلام بجواره – فقالت: أين صاحبك يا أبا بكر؟ قال: وماذا تريدين؟ قالت: بلغني أنه قد هجاني، فقال: والله ما يقول الشعر وهو صادق (وما علمناه الشعر وما ينبغي له) والهجو والهجاء إنما يكون في الشعر فقالت: قد علمت قريش أني من أعلاها نسباً، ثم ذهبت تولول وتقول: مذمماً أبينا، وأمره عصينا، ودينه قلينا أي أن هذا عندنا مذموم أبيناه فلا نتبعه، ونعصي أوامره ودينه نكرهه فليفعل ما يشاء.(6/53)
هذا إن وقع لنبي فهو معجزة كما هو الحال هنا، وإن وقع لعبد صالح فهو كرامة، ويذكر الإمام القرطبي عن نفسه كرامة أكرمه الله بها في بلاد الأندلس عند قول الله جل وعلا (وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً) في سورة الإسراء وانظروها في تفسيره عند هذه الآية يقول:"لما دخل الفرنج – النصارى - إلى بلاد الأندلس كنت في حصن منسور في ذلك المكان وكنت في الصحراء وفي العراء ولا توجد شجرة أتوارى بها ولا أكمة أختبئ وراءها - أي تل مرتفع أو منبسط - وأنا في ذلك المكان وجحافل الجيش تتقدم، يقول: فالتجأت إلى الله وقرأت القرآن فصرت أراهم ولا يرونني، وبدأت أسمع أصواتهم، يقول بعضهم لبعض: هذا الرجل الذي ظهر لنا ثم توارى عنا ما هو؟ فيقول له الآخر: لعله ديبلة يقول هذا في لغتهم لعله جني ظهر ثم اختفى، يقول أنا أسمع كلامهم وأراهم ولا يرونني"، فهذه يقولها عن نفسه والله على كل شيء قدير.
قال الإمام بن تيمية في (مجموع الفتاوى في 11/331) : "إذا صح الإيمان علماً وعملاً واحتاج صاحبه إلى خرق العادة، سيخرق الله له العادة ولابد، لأن الله يقول: (إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً) ويقول: (ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب) "لكن هذا يحتاج إلى تصليح الإيمان علماً وعملاً، ولذلك إخوتي الكرام: من لجأ إلى مخلوق دل على انفصاله عن الخالق.
(ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم) ، لكن هو إذا صح إيمانه علماً وعملاً، علم نافع واعتقاد حق بالله وعمل صالح وإذا قال يا رب، لم يتخل عنه رب العالمين، لأنه قطع على نفسه مبدأً فقال (ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب) فلو كادته السموات والأرض لجعل الله له من بينهن فرجاً ومخرجاً والله على كل شيء قدير، وعندما يعرض العبد عن هذا يكله الله إلى نفسه وفلا يبالي في أي وادٍ هلك.
القسم الرابع: المعونة(6/54)
هي: خارق للعادة يجري على يد مؤمن مستور لم يظهر منه فسق ولا بدعة لكن ليس في درجة الذي قبله في الصلاح والاستقامة ولا يعرف عنه جد واجتهاد في طاعة الله فعل المأمورات من واجبات ومستحبات، وترك المنهيات من محرمات ومكروهات وعدم انهماك في اللذات فهذا ليس كذلك بل هو من عوام المسلمين، فلا تظهر عليه بدعة ولا فسق ولا يعرف بالصلاح والتقدم والاجتهاد في دين الله وما أكثر ما يجري من خوارق للعادات على يد عوام المؤمنين ليكرمهم بها رب العاملين إكراماً لهم وتثبيتاً للإيمان في قلوبهم مثلاً: تقع بعض الحوادث ممن شاهدوها يقول لن ينجو منها أحد، فيقال لك: كل من وقع عليه الحادث سلم فهذا من باب معونة الله.
إنسان يسقط من الدور السابع في مكان ضيق على بلاط فينزل وما يخدش عظمة ولا جلدة.
القسم الخامس: الاستدراج
هو: خارق للعادة يجريه الله على يد عبد مخذول، صاحب العمل المرذول (فاسق، كافر، مبتدع، ضال مضل) على وفق مراده فيجري الله علي يده خوارق للعادات ويستدرج من حيث لا يعلم مثاله: الخوارق التي ستحدث على يد الدجال وهي خوارق عظيمة يأتي إلى الخربة – كما ثبت في الصحيحين – فيقول لها: أخرجي كنوزك فتتبعه كيعاسيب النحل، أي كجماعات النحل عندما تتبع رئيستها ومليكتها. ويأمر السماء أن تمطر فتمطر والأرض أن تنبت فتنبت وغير ذلك من الخوارق التي ستحصل على يد عبد كافر.
وفي هذه الخوارق لهذا الصنف من الناس امتحان للبشر، هل سيغترون بهذه الظواهر ويتبعونهم أم لا؟(6/55)
مع ما سيأتي به من آيات فيه أيضاً آيات تدل على أنه أرذل المخلوقات، فهو مثلاً ينظر بعين واحدة، وعلى جبينه مكتوب كافر يقرأها كل شخص سواء كان أمياً أو متعلماً فنقول له: أنت أعور ولا تستطيع أن تغير عورك، فكيف تحيي وتميت ولا تستطيع أن ترد عينك سليمة لتبصر ولتجعل صورتك صورة كاملة لا تشويه فيها، ولكنه لا يقدر على هذا لأنه عندما يعطيه الله بعض الخوارق لا يعني هذا أنه يتصرف تصرفاً مطلقاً بل إنه لا يزال ضمن البشرية وهو عبد مقهور لكن الله جعله فتنة للناس، هل يخدعون بهذه الأمور أم يتبعون الحق الثابت المزبور؟ فإذن فيه علامة تبين ضلاله، كما نقول له هذه الكتابة على جبينك امسحها كما أنك بعد ذلك لا يسخر لك من المركوبات إلا الحمار فلا تستطيع ركوب الخيل أو الفرس.
فكل هذا من باب إذلال الله له لذا هو كما قال النبي عليه الصلاة والسلام [هو رجس على رجس]
القسم السادس: الإهانة
هي: خارق للعادة يجريه لله على يد العبد المخذول (الفاسق، المبتدع، الضال، الكافر) لكن بنقيض قصده ومراده والأقسام الخمسة الأولى كلها وفق مراد من أجراها الله على يديه.
مثالها: ما جرى لمسيلمة – وقد ذكرناها لكم – أنه بصق في عين إنسان فعمي، فهذا خارق للعادة لأن البصق عادة لا يتسبب في عمى الإنسان، لكنه بصق في عين شخص ليبرأ فصار أعمى فأراد أن يبرأه فأعماه فحصل له نقيض قصده.
إخوتي الكرام.... وهذه الأقسام الستة من الخوارق تقع في واحد من ثلاثة أمور هي أمور الكمال بأسرها:
1- إما في العلم
2- وإما في القدرة
3- وإما في الغنى
فالعلم: بأن يعلم ما يجهله غيره ويعلمه الله جل وعلا من غير سبب يتعلم منه العباد، فهذا خارق للعادة في أمور العلم.
لأن أمور الكمال بأسرها علم وقدرة وغنىً فقط، وكل كمال مرده إلى واحدة من هذه الأمور الثلاثة فالله بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير وغني عن العالمين.(6/56)
ولا يوجد أحد من خلق الله له صفة الكمال في هذه الأمور الثلاثة أو في واحد منها، لأن هذه الأمور مختصة بالرب ولذا أمر الله نبيه بأن ينفيها عن نفسه فقال جل وعلا كما في سورة الأنعام (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إليّ)
(لا أقول لكم عندي خزائن الله) ... فنفى الغني
(ولا أعلم الغيب) ... ... ... فنفى العلم
(ولا أقول إني ملك) أقدر على مالا تقدرون عليه فنفى القدرة، فأنا مثلكم إنما أنا بشر لا أستغني عما تحتاجون إليه ولا أعلم إلا ما علمني ربي.
وهكذا أمر الله أول الرسل بعد آدم - على نبينا وعلى جميع الأنبياء صلوات الله وسلامه – وهو نوح أن يقول: (ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك) فأول الرسل إلى البشرية نفى هذه الأمور عن نفسه وكذا آخرهم عليهم جميعا صلوات الله وسلامه فمثلا: القرآن معجزة للرسول صلى الله عليه وسلم وخارق في أمور العلم (وعلمك ما لم تكن تعلم) فوقوع هذا الخارق معجزة، ولو وقع خارق من أمور العلم لغير النبي لقيل له كرامة معونة: إلخ ...
فعمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما كان يخطب على المنبر أيام خلافته والجيوش الإسلامية في بلاد فارس تقاتل في سبيل الله وكان قد أمر عليه رجلاً يدعى سارية، وهو في أصل الجبل والعدو من الجهة الأخرى للجبل يتسلقونه ليصيروا فوق المسلمين ويرشقونهم بنبال كالمطر فكشف الله لعمر هذه الموقعة هو في المدينة والموقعة في نهاوند في بلاد الفرس وصاح يا سارية الجبل فسمع سارية صوت عمر ورقي الجبل وإذا بجنود الفرس يتسلقون الجبال فصال المسلمون فوقهم وكتب الله النصر لهم فهذا تعليم لعمر، ثم هناك كرامة أخرى وهي أن صوته يصل إلى سارية وذاك ينفذ ذاك الأمر ويكتب الله لهم النصر.(6/57)
والقصة صحيحة وقد ألف الحافظ الحلبي جزءاً في طرقها وحكم عليها بالصحة، والإمام السخاوي في المقاصد الحسنة حكى عن شيخه الحافظ ابن حجر عليهم رحمة الله أن إسنادها في درجة الحسن وطرقها كثيرة وفيرة.
والشيخ محمد حامد الفقي عليه رحمة الله ومغفرته وهو الذي علق على كتاب مدارج السالكين ذكر كلاما ً منكراً حول هذه القصة في تعليقه على المدارج، فانتبهوا له واحذروه إلى مر معكم، يقول: إن عمر لا يعلم الغيب، ويقول له: يا عبد الله: لا يعلم الغيب إلا الله لكن إذا علَّم الله عمر هذا فأي حرج في هذا، أفلسنا نؤمن بالكرامات؟ أما قال الله عن مريم بأنها صديقة ولا يوجد في النساء نبية كما قال الله تعالى (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم) ، فالنبوة من جنس الذكورة فقط، كما أنه لا يصلح أن يكون في النساء إمامة – الإمامة – بحيث تكون أميرة وخليفة، فلا يجوز أن يكون في النساء نبية إذ كيف تبلغ دعوة الله وتتصل بالناس وهي مأمورة بالستر وأن تقر في بيتها؟ وهذا ليس من باب الامتهان لها إنه ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى فهذه الرتبة لا تتناسب مع طبيعتها فهي في مكان آخر وهذا واضح ولها أجر بعد ذلك عند الله إن كانت تقوم بما أوجب الله عليها فيما يتعلق بطبيعتها وفيما يتعلق بما هو عائد إليها فإذن لا تكون إمامة [لا يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة] ولا تكون نبية، فمريم صديقة بنص القرآن (وأمه صديقة) ، أفلم تثبت لها الكرامات؟ (كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً، قال: يا مريم أنى لك هذا قالت: هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب) وانتبه: لم شك زكريا واستغرب وجود الرزق عندها؟ فهو يقول: يا مريم عندك رزق لا يمكن أن نقول إن أحداً من الخلق أحضره إليك لا عن طريق المعونة والمساعدة والإحسان ولا عن طريق الهبة، بل إن الرزق الذي يأتيك لا وجود له في هذه البلاد، ولو كان له وجود لقلنا جارتك ساعدتك، أو أحد(6/58)
أحسن إليك.
فما عاد هناك مجال أن يقال أنت تتصلين اتصالاً محرماً ببعض الناس، فإنه يأتيك شيء لا نظير له، فهذا مما يدهش العقول فمن أين جاءك؟
قالت (هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب) ولو كان لما يأتيها نظير ومثيل لأمكن أن يقال هو إما مساعدة وإما وحاشاها – خيانة – ولكن لا هذا ولا هذا فهو شيء لا يمكن أن يحصل من قبل بشر.
فإذا كانت كرامات الأولياء ثابتة فانظر ماذا يعلق الشيخ محمد حامد الفقي على هذه القصة: "عمر لا يعلم الغيب وهذه القصة وإن كانت ثابتة فمعناها وتأويلها أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما كان يخطب على المنبر أخذته سنة فنام فكشف الله له في الرؤيا عن حال الموقعة ثم صاح بأعلى صوته" لكن نقول: لو سلمنا لك بهذا فكيف سمع سارية صوت عمر إن كان علمه عن طريق الرؤيا، ولكن لا نعلم بما ذكرت، فهل يعقل أن ينام عمر على المنبر؟ فلو حصل ونام عمر على المنبر
فإذا أحدث الخطباء في هذه الأيام على المنبر لكان قليلاً!
فيا إخوتي لا نشتط في التأويل بحيث نصل إلى درجة الإنكار فهو لا يريد أن يقول باطلة لأن هذا ثابت، فيقول هذا معنى هذا، فتنبهوا! إذن فهذا من خارق العادة في العلم.(6/59)
الثاني خارق العادة في القدرة فيقدر على ما يعجز عنه غيره ومنه قصة عرش بلقيس قال الله تعالى عنه (ولها عرش عظيم) والعرش سرير الملك مرصع بالجواهر واليواقيت وحجمه كبير، قال نبي الله سليمان كما حكى الله عنه (أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين، قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك) ، وكان سليمان عليه الصلاة والسلام من الصباح حتى الظهر يقضي بين رعيته ويعلمهم، فقبل انفضاض المجلس سيكون العرش عندك (قال الذي عنده علم الكتاب) هو رجل صالح اسمه آصف، (أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك) أي إذا نظرت إلى شيء فقبل أن تغمض عينيك عنه يكون العرش عندك أي في ثوان ٍ ليظهر الله كرامة هذا العبد الصالح على قوة وجهد الجن مع ما معهم من قوة إمكانات، فهذا له مكانة عند الله أعلى وسيأتي بهذا العرش من اليمن إلى بيت المقدس قبل أن يرتد طرف سليمان إليه (فلما رآه مستقراً قال هذا من فضل ربي لبلوني أأشكر أم أكفر) .
إخوتي الكرام.... ما سبق هذا هو المعنى الحق أما من قال: (قال الذي عنده علم الكتاب) هو جبريل أو (قال الذي عنده علم الكتاب) هو نبي الله سليمان فهذا باطل.
وهذه كما قال الإمام الذهبي في كتاب العلو للعلي الغفار ص 57 "سبحان الله ما أعظم هذه الكرامة ولا ينكر كرامات الأولياء إلا جاهل"
الثالث: خارق للعادة في مجال الغنى، فيستغني عما يحتاج إليه الناس
ثبت في ترجمة العبد الصالح إبراهيم التيمي أنه كان يمكث شهرين لا يأكل ولا يشرب، والإنسان إذا امتنع عن الشراب ثلاثة أيام يموت، إذا امتنع عن الطعام سبعة أيام – على أكبر تقدير – يموت.
فهذا العبد الصالح عنده غنىً عن الطعام والشراب، والله على كل شيء قدير، فإذا جعل الملائكة لا يأكلون ولا يشربون فما الذي يمنعه من أن يجعل العبد بهذه الصفة ويكرمه بذلك؟(6/60)
ومكث مرة أربعين يوماً، فأعطاه بعض أهله حبة عنب فأكلها، فمكث أربعين يوما ولما أكل لم يأكل إلا حبة العنب فقط فهذا غنىً عما يحتاج إليه الناس.
ذكر الإمام بن كثير عند قوله تعالى (قال إنما أوتيته على علم عندي) حكايته عن قارون يقول: قال بعض الناس: (على علم عندي) أي بصنعة الكيمياء؟ أي أنه يقلب الخشب والحجر والنحاس إلى ذهب، وقال هذا هوس فالمعادن وحقائق الأشياء لا يمكن أن تقلب، فالخشب خشب والحجر حجر والحديد حديد، ولا يمكن أن نقلبه ذهباً أو فضة، يقول وأما قلب حقائق الأشياء إلى ذهب وفضة عن طريق خرق العادة من باب الكرامة فهذا جائز لأنه ليس بمشيئة الناس بل بمشيئة الله، كما جرى لحَيْوَة بن شُرَيْح وكان قد جاءه سائل فسأله – والقصة ثابتة صحيحة ثابتة في تهذيب التهذيب وتذكرة الحفاظ في ترجمة حَيْوَة بن شُرَيْح من شيوخ ورجال الكتب الستة فعلم حيوة صدقه واحتياجه، فأخذ مَدَرَة من الأرض – قطعة طين متجمدة – فأجالها في يده فوضعها في يد السائل فقلبها الله ذهباً خالصاً والله على كل شيء قدير، فهذا ليس بمشيئة المخلوقات إنما هو بمشيئة رب الأرض والسموات.
الشاهد: حادثة الإسراء والمعراج خارقة للعادة ترجع إلى العلم أو القدرة أو الغنى؟ ترجع إلى القدرة، أقدره الله على ما يعجز عنه البشر إلا من أكرمه الله بذلك، فيسري به إلى البيت المقدس ويعرج به إلى السموات السابعة فيعاد إلى بيت المقدس، ويعاد إلى مكة في جزء من الليل ولازال فراشه دافئاً.
وهذه الأمور الستة قد جمعها بعض أئمتنا في ستة أبيات من الشعر لطيفة وهي:
1- إذا رأيْتَ الأمرَ يخْرِقُ عادةً ... فمعجزةٌ إنْ مْن نبيٍّ لنا ظَهَرْ
2- وإن بان من قبل وصف نبوة ... فالإرهاصَ سِمْة ُ تتبع القومَ في الأثرْ
3- وإن جاء يوماً من ولي فإنه ... الكرامة في التحقيق عند ذوي النظرْ
4- وإن كان من بعض العوام صدوره ... فكنوه حقا بالمعونة واشتهرْ(6/61)
5- ومن فاسق إن كان وفق مراده ... يسمي بالاستدراج فيما قد استقرْ
6- وإلا فالإهانة عندهم وقد ... تمت الأقسام عند من اختبرْ
ومن شاء الرجوع إليه فلينظر في كتاب: لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية في شرح الدرة المضيئة في العقيدة الأثرية للإمام السفاريني (2/392) ، والدرة المضيئة له وشرحها في مجلدين وهو من الكتب النافعة في علم التوحيد على هدي السلف، وقد تعرض فيه لمبحث خوارق العادات وذكر الستة.
بعض علماء التوحيد أضاف أمراً سابعاً لكنه لا يعتبر من خوارق العادات وهو: السحر، وهذه إضافة باطلة، فإنه لا يعتبر من خوارق العادات لأنه يتوصل إليه بالأسباب العادية فهناك أنواع من أنواع الكفريات من سلكها وصل إلى السحر فهو علم وتعلم مثل الموسيقى هذا حرام وذاك حرام، ولذلك من السبع الموبقات كما قال النبي عليه الصلاة والسلام السحر، وما شاع بين الناس من حديث مكذوب وهو: [تعلموا السحر ولا تعملوا به] فهذا لا يصح نسبته إلى النبي عليه الصلاة والسلام وهو خرافة، لأن تعلم السحر لا يحصل إلا بالكفر واستعانة بالقوى الخبيثة الشريرة من الشياطين والعفاريت، لكن هو علم عن طريق أسباب من تعلمها وصل إليه مثل الغناء والرقص والموسيقى وقلة الحياء.
لكنه لا يحصل إلا بمشيئة الله قال تعالى (وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله) ، وهذا كما لو أطلقت رصاصة على إنسان فأنت الذي باشرت القتل لكنه لم يمت إلا بمشيئة الله وتقديره وإرادته ولكنك تعاقب على مباشرتك للقتل، ولو صبر القاتل على مقتوله لحظة لمات دون أن يقتله فالمقتول مات بأجله ولم يقدم القاتل أجله عن موعده بل ساعة قتله هي أجله، فلم يقدم أجله ولا طرفة عين لكن القاتل مسئول عن فعله.(6/62)
وهناك عندما يمارس السحر ويفرق بين المرء وزوجه ويؤذي الإنسان ويكسب جسمه وهناً وضعفاً فهو بإذن الله، وقد سحر نبينا عليه الصلاة والسلام لكن لم يؤثر على عقله غاية ما كان إنه يصاب في بدنه بوهن وضعف واستمر به السحر أشهر عليه صلوات الله عليه وسلامه وزاد مفعوله فيه مدة أربعين يوماً وكان يشعر بتعب ثم أنزل الله عليه المعوذتين فقرأهما فقام وكأنما نشط من المقال عليه صلوات الله وسلامه والحديث في الصحيحين.
فالسحر إذن بواسطة تعلم أشياء معلومة، وهو كما لو تعلمت فن القتال فضربت إنساناً فآذيته لكن بشيء معلوم، والساحر يؤذي بشيء معلوم، لكن ذلك بشيء ظاهر وهذا بشيء معلوم خفي، فالإيذاء بالسحر لا يكون إلا عن طريق مدارسة ولا يوصل إليه إلا بأسباب معلومة يتلقاها الناس بخلاف خوارق العادات فهذه لا دخل فيها لكسب ظاهر، إنما هي محض تقدير الله جل وعلا ومشيئته وبالتالي ليس السحر من خوارق العادات.
كنا فيما سبق قد أشرنا إلى قصة الشيخ الصالح الحلبي إشارة وسنذكرها هنا:
لقيه ذات مرة قسيس ملعون فقال له: أنتم تزعمون أنكم أفضل منا، وموجود عندكم أ، جميع الناس سيرد النار ويدخلها (وإن منكم إلا واردها) فعلام أنتم أفضل منا إذن؟
وكان الشيخ يملك الجواب على هذا وهو أن يقول له هذه النار تحرقكم ولا تحرقنا فتكون برد وسلاما علينا وتكون حميما وعذابا عليكم، ولكن الشيخ علم أن هذا القسيس لن يقتنع بهذا الجواب ولن يستوعبه.(6/63)
وكان القسيس يلبس جبة فقال له الشيخ أعطني جبتك فأعطاه إياها فخلع الشيخ جبته وصرّهما ببعض فجعل الشيخ جبة القسيس من الداخل وجبته هم من الخارج ثم ذهبا إلى فرن وقال للخباز ضعهما في الفرن، فوضعهما وبعد ربع ساعة قال له أخرجهما فأخرجهما الخباز؟؟؟ فلما رأي القسيس ذلك قال أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، وعلم كيف أن النار تحرق الكافر ولا تحرق المؤمن وقد ورد سؤال هنا يقول: هل يعرف الإنسان من نفسه أنه سيقع له خارق للعادة، كيف عرف الشيخ الميمون أن جبته لن تحترق، وأن جبة القسيس ستحترق؟
وهذا سؤال يتعلق بهذه القصة وبكل قصة أو حادثة فيها خارق للعادة مما ذكر.
فنقول: خوارق العادات عندما تقع لها حالتان:
الحالة الأولى: أن يُعْلِمَ الله الإنسان بذلك بنزول ملك أو بإلهام، فيلهمه الله ذلك ويضطر إلى فعله فلا اختيار له في ذلك. وعلى الحالتين (أنزل الملك، أو الإلهام) فهذا من نوع الوحي،ولا يشترط أن يكون الإنسان نبيا لينزل عليه ملك.
فمريم – كما قلنا كانت صديقة، لأنه ليس في النساء نبية بالإجماع، ومع ذلك كانت تنزل عليها الملائكة (وإذ قالت الملائكة يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين) ونزل عليها جبريل وقال لها جئتك لأهب لك غلاماً زكياً. ثم قال لها بعد ذلك (وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنيا) ثم أمرها بعد ذلك أن تلزم الصمت. وأخبرها بأن ولدها سيدافع عنها، فهذا كله حصل بواسطة ملك.
وقد يقع كما قلنا عن طريق الإلهام فيقع في قلبك أمر يضطرك إلى فعل أمرٍ، ولا اختيار لك فيه.
الحالة الثانية:(6/64)
كنت ذكرت لكم هذا سابقا – نقلا عن الإمام ابن تيمية حيث قال في مجموع الفتاوى 11/331 "إذا صح الإيمان علماً وعملاً واحتاج صاحبه إلى خرق العادة خرق الله له العادة ولابد" أي أن الإنسان يعمل بالأسباب والباقي على الله، فعليه هو أن يسلك المسلك الشرعي الصحيح فإذا احتاج إلى كرامة خرق الله له العادة ولابد، لأن الله يقول (ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب) فهذا شرط، وجوابه، فإذا اتقيت الله فلن يتخلى الله عنك.
العلاء بن الحضرمي: والقصة ثابتة صحيحة في ترجمته في حلية الأولياء لأبي نعيم وصفة الصفوة لابن الخوري والفرقان بين؟ الرحمن وأولياء الشيطان لابن تيمية – حاصلها: أنه لما كان يغزو في بلاد الفرس، واعترضهم البحر كما اعترض نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام البحر، فوصلوا إليه والعدو وراءهم وليس عندهم سفن يقطعون بها البحر، فقال لهم العلاء قولوا: يا عليم، يا حليم، يا علي، يا عظيم، ثم جوزوا واتبعوني فبدأ يقولها وهم يقولونها وراءه، وسار وساروا خلفه فدخلوا البحر ومازالوا يقولونها فما ابتلت حوافر خيولهم، ثم قال لهم: من فقد شيء في هذا البحر فعلي؟ فقال له بعض الناس: سقط عني كذا وكذا، فدعا ربه على شاطئ البحر فقذف البحر له المتاع الذي سقط من ذلك الشخص.
فإذن هذه كرامة تقع للعبد الصالح، فذا احتاجها تقع له ولابد، فإذا أكرم الله نبيه موسى بانشقاق البحر معجزة، فيكرم الله الصالحين بانشقاق البحر كرامة.(6/65)
ويخبرنا نبينا عن كرامة وقعت لعبد صالح، والحديث في السنة ومعجم الطبراني بسند صحيح، وذكر؟؟؟؟؟ ذلك للناس، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دخل رجل؟؟ في الزمن الماضي – على أهله، فلما رأى ما بهم من الحاجة خرج إلى البرية، فلما خرج قالت لنفسها لو قمت إلى التنور فتجرته (أي أحميته لأن زوجها سيعود عما قريب ومعه رزق، فستعجن وتخبز) قمت إلى الرحى (الطاحونة) فهيأتها، ولو قمت إلى الجفنة (التي يوضع فيها الطعام) فأعددت أي أجهز نفسي بهذه الأمور إذا دخل زوجي بعد خروجه ولا نتأخر في إعداد الطعام، فتأخر الزوج ثم قالت: لأتفقد التنور الذي سجرته، ماذا حصل له؟ فجاءت إليه فإذا فيه جنوب شاة مشوية (جمع جنب أي لحم جنب الشاة وهو أطيب أنواع اللحوم) ، ثم ذهبت إلى الرحى فنظرت إليها فإذا هي تدور وتطحن البر، ونظرت إلي قصعتها فإذا هي ممتلأة طعاما، قالت: فأوقفت الرحى، قال نبينا عليه الصلاة والسلام لو تركتها لبقيت تدور إلى يوم القيامة، أي تدور وتطحن، والله على كل شيء قدير.
فهذا البعد لم يعلم أن الله سيرزقه هذا الرزق، ولكنه بذل ما عليه، وأخذ بالأسباب المؤدية إلى مثل هذه الخوارق، فرزقه الله هذا الرزق (وما من دابة إلا على الله رزقها) ، فخلقنا الله لنعبد وتكفل برزقنا.
فنقول: هذا الرجل جاء ولم يجد رزقا، فلم يقصر أيضا في العمل بالأسباب وطلب الرزق والبحث عنه والله يقول (فامشوا في مناكبها) ، فإذا مشيت وبذلت ما في وسعك ولم تحصل رزقا فهل ستموت جوعا؟
والله الذي لا إله إلا هو، الذي كان يرزق مريم وهي في محرابها سيرزقك ولا شك في ذلك (كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً، قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب) .
لكن هذا كله يحتاج إلى تحقيق الإيمان قولاً وعملاً.(6/66)
كان دجاجلة البطائحية من الصوفية المخرفين الذين ينتسبون إلى الرفاعية، فيعهد الإمام ابن تيمية يدخلون النار، فيشعذون حيث كانوا يدخلون بحبل فيدهنون أبدانهم بزيت يسمى اللوزرينج – كما يذكر شيخ الإسلام – وهذه مادة عازلة، فإذا دهن بها الجسم وتعرض للنار فلا يتأثر.
فقال لهم الإمام ابن تيمية، إن ما يحصل لكم ليس بخارق للعادة، بل هذا شعوذة لذلك سأدخل الحمام وتدخلون الحمام ونغتسل بالماء الحار ثم لتوقد أعظم نار وأدخلها أنا وأنتم والكاذب منا يحرقه الله!!
ووالله الذي لا إله إلا هو لو فعلها لأحرقهم الله ونجاه، كرامة له.
إن قيل: هل نزل عليه ملك؟
نقول: لا يشترط ذلك، فإنه قد صح الإيمان علماً وعملاً، اعتقاداً وفعلاً واحتاج لخرق العادة ليثبت كذبهم، فإنهم سيقولون له – أي لابد تيمية – نحن نفعل هذه الشعوذات تزعم – ونحن على حق وأنت على باطل وضلال، فيقول لهم: بل أنتم على باطل، فيقولون فكيف إذن تحدث لنا هذه الخوارق؟ فيقول: هذه ليست بخوارق، وسأثبت لكم ذلك فلنغتسل في الحمام ثم لندخل أنفسنا في النار والكاذب منا يحرقه الله، فهنا سيخرق الله له العادة ويثبت كذبهم وباطلهم حتى لا يلتبس الحق والباطل على العوام من الناس.
؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ لن يخلف وعده (وكان حقا علينا نصر المؤمنين) وإذا كنا مؤمنين فلن يكون عندنا شك في هذا الإيمان العظيم، وأما بعد ذلك، فإذا فرطنا وأتينا من قبل أنفسنا – كما هو الحال فنا توكلنا على أعدائنا وعلى الذين غضب الله عليهم العزيز القهار – فكيف ننتظر خرق العادات وكيف ننتظر الإجابة إذا دعو نسينا الله فنسينا (ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم) ، وليس المقصود بنسي الله لنا غفلته عنا بل إهماله لنا فإن الله لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض.(6/67)
قال الله لداوود عليه الصلاة والسلام: قل للظالم لم لا يذكرني فإنه إذا ذكرني سأذكره، لأنه يقول (فاذكروني أذكركم) وذكري إياه أن ألعنه.
أي فهو إذا ذكرني ذكرته ولابد ولكن شتان شتان بين من يذكره الله بالرحمة والثناء عليه في الملأ الأعلى وبين من يذكره باللعنة.
فكل ذاكر سيذكره الله، فإن كان تقيا فيذكر بالرضا والقبول،وإن كان شقيا فيذكر بالطرد والإبعاد.
الحاصل أن الإنسان قد يعلم أنه ستخرق له العادة، يعلم ذلك إما بنزول ملك يراه هو ولا نراه نحن أو بإلهام يقع في قلبه يضطره إلى فعل هذا دون اختيار وقد لا يعلم، لكن بحسب الظاهر يقول أنا بذلت ما علي وأخذت بهذا الأمر؟؟ الإيمان وتصحيحه قولاً وعملاً، والباقي على الله فهو الذي تكفل بالنتيجة كما أ، الإنسان يتزوج من أجل أن ينجب ذرية، فهذا بذل ما عليه وقد يرزق بذرية وقد لا يرزق.
عليك بذر الحب لا قَطْف الجني ... والله للساعين خير ضمين
وهو الذي (لا يضيع أجر من أحسن عملا)
فأنت هنا عليك أن تسير على المسلك الشرعي فإذا لزمك خارق للعادة، سيخرق الله هذا ولابد، وهو على كل شيء قدير.
كنا فيما سبق قد أشرنا إلى قصة الشيخ الصالح الحلبي إشارة وسنذكرها هنا:
لقيه ذات مرة قسيس ملعون فقال له: أنتم تزعمون أنكم أفضل منا، وموجود عندكم أن جميع الناس سيرد النار ويدخلها (وإن منكم إلا واردها) فعلام أنتم أفضل منا إذن؟
وكان الشيخ يملك الجواب على هذا وهو أن يقول له هذه النار تحرقكم ولا تحرقنا فتكون برداً وسلاماً علينا وتكون حميماً وعذاباً عليكم، ولكن الشيخ علم أن هذا القسيس لن يقتنع بهذا الجواب ولن يستوعبه.(6/68)
وكان القسيس يلبس جبة فقال له الشيخ أعطني جبتك فأعطاه إياها فخلع الشيخ جبته وصرّهما ببعض فجعل الشيخ جبة القسيس من الداخل وجبته هو من الخارج ثم ذهبا إلى فرن وقال للخباز ضعهما في الفرن، فوضعهما وبعد ربع ساعة قال له أخرجهما فأخرجهما الخباز فلما رأى القسيس ذلك قال أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، وعلم كيف أن النار تحرق الكافر ولا تحرق المؤمن وقد ورد سؤال هنا يقول: هل يعرف الإنسان من نفسه أنه سيقع له خارق للعادة كيف عرف الشيخ الميمون أن جبته لن تحترق وأن جبة القسيس ستحترق؟
وهذا سؤال يتعلق بهذه القصة وبكل قصة أو حادثة فيها خارق للعادة مما ذكر.
فنقول: خوارق العادات عندما تقع لها حالتان:
الحالة الأولى: أن يُعْلِمَ الله الإنسان بذلك بنزول ملك أو بإلهام، فيلهمه الله ذلك ويضطر إلى فعله فلا اختيار له في ذلك. وعلى الحالتين (أنزل الملك، أو الإلهام) فهذا من نوع الوحي، ولا يشترط أن يكون الإنسان نبياً لينزل عليه ملك.
فمريم كما قلنا كانت صديقة، لأنه ليس في النساء نبية بالإجماع، ومع ذلك كانت تنزل عليها الملائكة (وإذ قالت الملائكة يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين) ونزل عليها جبريل وقال لها جئتك لأهب لك غلاماً زكياً. ثم قال لها بعد ذلك (وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً) ثم أمرها بعد ذلك أن تلزم الصمت. وأخبرها بأن ولدها سيدافع عنها، فهذا كله حصل بواسطة ملك.
وقد يقع كما قلنا عن طريق الإلهام فيقع في قلبك أمر يضطرك إلى فعل أمرٍ، ولا اختيار لك فيه.
الحالة الثانية:(6/69)
كنت ذكرت لكم هذا سابقاً نقلا ً عن الإمام ابن تيمية حيث قال في مجموع الفتاوى 11/331 "إذا صح الإيمان علماً وعملاً واحتاج صاحبه إلى خرق العادة خرق الله له العادة ولابد" أي أن الإنسان يعمل بالأسباب والباقي على الله، فعليه هو أن يسلك المسلك الشرعي الصحيح فإذا احتاج إلى كرامة خرق الله له العادة ولابد، لأن الله يقول (ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب) فهذا شرط، وجوابه، فإذا اتقيت الله فلن يتخلى الله عنك.
العلاء بن الحضرمي: والقصة ثابتة صحيحة في ترجمته في حلية الأولياء لأبي نُعيم وصفة الصفوة لابن الجوزي والفرقان بين الرحمن وأولياء الشيطان لابن تيمية – حاصلها: أنه لما كان يغزو في بلاد الفرس، واعترضهم البحر كما اعترض نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام البحر، فوصلوا إليه والعدو وراءهم وليس عندهم سفن يقطعون بها البحر، فقال لهم العلاء قولوا: يا عليم، يا حليم، يا علي، يا عظيم، ثم جوزوا واتبعوني فبدأ يقولها وهم يقولونها وراءه، وسار وساروا خلفه فدخلوا البحر ومازالوا يقولونها فما ابتلت حوافر خيولهم، ثم قال لهم: من فقد شيء في هذا البحر فعلي؟ فقال له بعض الناس: سقط عني كذا وكذا، فدعا ربه على شاطئ البحر فقذف البحر له المتاع الذي سقط من ذلك الشخص.
فإذن هذه كرامة تقع للعبد الصالح، فإذا احتاجها تقع له ولابد، فإذا أكرم الله نبيه موسى بانشقاق البحر معجزة، فيكرم الله الصالحين بانشقاق البحر كرامة.(6/70)
ويخبرنا نبينا عن كرامة وقعت لعبد صالح، والحديث في السنة ومعجم الطبراني بسند صحيح، وذكر ذلك للناس، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دخل رجل - في الزمن الماضي – على أهله، فلما رأى ما بهم من الحاجة خرج إلى البرية، فلما خرج قالت لنفسها لو قمت إلى التنور فسجَّرتُه (أي أحميته لأن زوجها سيعود عما قريب ومعه رزق، فستعجن وتخبز) قمت إلى الرحى (الطاحونة) فهيأتها، ولو قمت إلى الجفنة (التي يوضع فيها الطعام) فأعدت (أي أجهز نفسي بهذه الأمور) حتى إذا دخل زوجي بعد خروجه ولا نتأخر في إعداد الطعام، فتأخر الزوج ثم قالت: لأتفقد التنور الذي سجرته، ماذا حصل له؟ فجاءت إليه فإذا فيه جنوب شياه مشوية (جمع جنب أي لحم جنب الشاة وهو أطيب أنواع اللحوم) ، ثم ذهبت إلى الرحى فنظرت إليها فإذا هي تدور وتطحن البُرَّ، ونظرت إلي قصعتها فإذا هي ممتلأة طعاماً، قالت: فأوقفت الرحى، قال نبينا عليه الصلاة والسلام لو تركتها لبقيت تدور إلى يوم القيامة، أي تدور وتطحن، والله على كل شيء قدير.
فهذا العبد لم يعلم أن الله سيرزقه هذا الرزق، ولكنه بذل ما عليه، وأخذ بالأسباب المؤدية إلى مثل هذه الخوارق، فرزقه الله هذا الرزق (وما من دابة إلا على الله رزقها) ، فخلقنا الله لنعبده وتكفل برزقنا.
فنقول: هذا الرجل جاء ولم يجد رزقاً، فلم يقصر أيضاً في العمل بالأسباب وطلب الرزق والبحث عنه والله يقول (فامشوا في مناكبها) ، فإذا مشيت وبذلت ما في وسعك ولم تحصل رزقاً فهل ستموت جوعاً؟
والله الذي لا إله إلا هو، الذي كان يرزق مريم وهي في محرابها سيرزقك ولا شك في ذلك (كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً، قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب) .
لكن هذا كله يحتاج إلى تحقيق الإيمان قولاً وعملاً.(6/71)
كان دجاجلة البطائحية من الصوفية المخرفين الذين ينتسبون إلى الرفاعية، في عهد الإمام ابن تيمية يدخلون النار، فيشعوذون حيث كانوا يدخلون بحيل فيدهنون أبدانهم بزيت يسمى اللوزرينج – كما يذكر شيخ الإسلام – وهذه مادة عازلة، فإذا دهن بها الجسم وتعرض للنار فلا يتأثر.
فقال لهم الإمام ابن تيمية، إن ما يحصل لكم ليس بخارق للعادة، بل هذا شعوذة لذلك سأدخل الحمام وتدخلون الحمام ونغتسل بالماء الحار ثم لتوقد أعظم نار وأدخلها أنا وأنتم والكاذب منا يحرقه الله.
ووالله الذي لا إله إلا هو لو فعلها لأحرقهم الله ونجاه، كرامة له.
إن قيل: هل نزل عليه ملك؟
نقول: لا يشترط ذلك، فإنه قد صح الإيمان علماً وعملاً، اعتقاداً وفعلاً واحتاج لخرق العادة ليثبت كذبهم، فإنهم سيقولون له – أي لابن تيمية – نحن نفعل هذه الشعوذات – كما تزعم - ونحن على حق وأنت على باطل وضلال، فيقول لهم: بل أنتم على باطل، فيقولون فكيف إذن تحدث لنا هذه الخوارق؟ فيقول: هذه ليست بخوارق، وسأثبت لكم ذلك فلنغتسل في الحمام ثم لندخل أنفسنا في النار والكاذب منا يحرقه الله، فهنا سيخرق الله له العادة ويثبت كذبهم وباطلهم حتى لا يلتبس الحق والباطل على العوام من الناس.
؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ لن يخلف وعده (وكان حقاً علينا نصر المؤمنين) وإذا كنا مؤمنين فلن يكون عندنا شك في هذا الإيمان العظيم، وأما بعد ذلك، فإذا فرطنا وأتينا من قبل أنفسنا – كما هو الحال فينا توكلنا على أعدائنا وعلى الذين غضب عليهم العزيز القهار – فكيف ننتظر خرق العادات وكيف ننتظر الإجابة إذا دعونا نسينا الله فنسينا (ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم) ، وليس المقصود بنسي الله لنا غفلته عنا بل إهماله لنا فإن الله لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض.(6/72)
قال الله لداوود عليه الصلاة والسلام: قل للظالم لم لا يذكرني فإنه إذا ذكرني سأذكره، لأنه يقول (فاذكروني أذكركم) وذكري إياه أن ألعنه.
أي فهو إذا ذكرني ذكرته ولابد ولكن شتان شتان بين من يذكره الله بالرحمة والثناء عليه في الملأ الأعلى وبين من يذكره باللعنة.
فكل ذاكر سيذكره الله، فإن كان تقياً فيذكر بالرضا والقبول، وإن كان شقياً فيذكر بالطرد والإبعاد.
الحاصل أن الإنسان قد يعلم أنه ستخرق له العادة، يعلم ذلك إما بنزول ملك يراه هو ولا نراه نحن أو بإلهام يقع في قلبه يضطره إلى فعل هذا دون اختيار وقد لا يعلم، لكن بحسب الظاهر يقول أنا بذلت ما علي وأخذت بهذا الأمر؟؟ الإيمان وتصحيحه قولاً وعملاً، والباقي على الله فهو الذي تكفل بالنتيجة كما أن الإنسان يتزوج من أجل أن ينجب ذرية، فهذا بذل ما عليه وقد يرزق بذرية وقد لا يرزق.
عليك بذر الحب لا قَطْف الجني ... والله للساعين خير ضمين
وهو الذي (لا يضيع أجر من أحسن عملا)
فأنت هنا عليك أن تسير على المسلك الشرعي فإذا لزمك خارق للعادة، سيخرق الله هذا ولابد، وهو على كل شيء قدير.
المبحث الثالث
أكم مرة وقع فيها الإسراء والمعراج:
الإسراء والمعراج لهما حالتان:
الحالة الأولي: حالة وقوعهما في اليقظة، فلم يقعا إلا مرة واحدة قبل الهجرة، وسيأتي تحديد وقت حصولهما.
وقد حكى الإمام بن حجر في فتح الباري (7/203) في هذه المسألة عشرة أقوال في تكرر الإسراء والمعراج – والمعتمد فيها – أن إسراء ومعراج اليقظة بنبينا عليه الصلاة والسلام كان مرة واحدة.(6/73)
قال الإمام ابن القيم في زاد المعاد في هدي خير العباد: "والعجب ممن يدعي ويزعم تعدد الإسراء والمعراج في اليقظة فكيف سيحمل التعدد على فرضية الصلاة " فقد فرضت الصلاة ليلة المعراج وكانت خمسين فخفضت إلى خمس عندما كان يتلقى هذا من الله وينزل على نبي الله موسى عليه السلام – وسيأتينا هذا في الآيات التي رآها في السماء وما حصل له من عجائب – فإذا قلنا إن حادث الإسراء والمعراج قد تكرر إذن نعيد المسألة في كل حادث كانت خمسين وترجع إلى خمس وترجع إلى خمس فهذا لا يمكن أن يقع ويحصل، فإسراء ومعراج اليقظة هذا وقع مرة واحدة.
الحالة الثانية: حالة وقوعهما في المنام بروح نبينا عليه الصلاة والسلام فلا مانع من تكرارها، أي أن يسرى بروحه فتذهب روحه إلى بيت المقدس وهو نائم ويعرج بروحه إلى السماء وهو نائم، فلا مانع من تعدده ولو وقع ألف مرة.
والإمام النووي في فتاويه المشهورة – وهو كتاب مطبوع في 300 صفحة تقريباً – ذهب في هذه الفتاوى إلى أن الإسراء والمعراج وقعا مرتين لنبينا عليه الصلاة والسلام مرة في المنام ومرة في اليقظة.
وذهب بعض الأئمة كالمهلب – كما حكى هذا الحافظ في الفتح – وذهب إليه الإمام ابن العربي والإمام السهيلي وأبو نصر عبد الرحيم القشيري وغيرهم: إلى أن الإسراء والمعراج في المنام تكرر فوقع قبل الهجرة ووقع بعدها، فاختلفوا في عدد المرات في المنام، أما في اليقظة بروحه وجسده فلم تقع إلا مرة واحدة.
نعم التبس الأمر على بعض رواة الحديث عندما أخبرهم نبينا عليه الصلاة والسلام أنه عرج به وأسريَ به في غير اليقظة فظنوا أن ذلك الإسراء والمعراج حصل في اليقظة مع أنه حصل في المنام فلا مانع كما قلنا أن يعرج به وبغيره عليه الصلاة والسلام، أو يسرى به وبغيره عليه الصلاة والسلام في المنام لا في اليقظة.(6/74)
إذا فقد ذهب الإمام النووي إلى وقوعها مرة في المنام وذهب غيره إلى أنها حصلت أكثر من مرة، فوقع قبل الهجرة وبعدها والذين قالوا أنه وقع قبل الهجرة قالوا وقع قبل أن يسرى به ويعرج في اليقظة فأسري وعرج بروحه ليكون توطئة لإسراء ومعراج الجسد بعد ذلك، ثم بعد أن هاجر أسري وعرج بروحه وهو نائم ليكون بمثابة التشويق وتذكرة بالنعمة التي حصلت له قبل هجرته.
أمتى حصلا ووقعا لنبينا عليه الصلاة والسلام؟
ذهب الإمام الزهري – من أئمة التابعين – ولكلامه هذا حكم الرفع المرسل إلى أن الإسراء والمعراج حصلا ووقعا قبل الهجرة بسنة.
وذهب الإمام ابن سعد في الطبقات الكبرى إلى أنه وقع قبل الهجرة بثمانية عشر شهرا قلت: ولا تعارض بين القولين فيما يظهر لي والعلم عند الله، فمن قال عرج به وأسرى قبل الهجرة بسنة ألغى الكسر وأخبر عن العدد الصحيح ومن قال عرج به وأسرى قبل الهجرة بثمانية عشر شهراً (سنة ونصف) أخبر عن حقيقة ما وقع وأثبت الكسر، فالإسراء والمعراج إذن وقعا قبل الهجرة بسنة ونصف.
جـ- لم وقعا في ذلك الوقت؟ (الحكمة من وقوعها في ذلك الوقت) :
في العام العاشر للبعثة لا للهجرة حدث أمران عظيمان في حياة نبينا عليه الصلاة والسلام كان لهما أثر كبير وهما:
أولهما: موت زوجه خديجة، وخديجة هي أفضل نساء هذه الأمة على المعتمد وقيل فاطمة ابنتها، وقيل أمنا عائشة، وذهب بعض العلماء إلى أن كل واحدة منهن فيها فضيلة ومزية لا توجد في الأخرى، لكن أمنا خديجة رضي الله عنها لها منزلة عظيمة في قلب النبي عليه الصلاة والسلام، فهي أول من آمن به من النساء، نصرته وواسته وأعانته بمالها، رزقها الله منها الأولاد وكانت نعم الزوج رضي الله عنها، فمن كان يبث إليه سره ويأنس في خلوته ذهب ومات.(6/75)
ثانيهما: موت عمه أبي طالب بعد شهر وخمسة أيام، وأبو طالب كان مشركاً وكافراً ولم يؤمن بالنبي عليه الصلاة والسلام (1)
__________
(1) ثبت في صحيح مسلم عن نبينا عليه الصلاة والسلام [أنه قيل له عمك أبو طالب كان ينصرك ويحميك ويدافع عنك هل نفعه ذلك عند الله؟ فقال: لا، إلا أنه كان في غمرات من نار جهنم فأخذته فوضع في ضحضاح من نار جهنم وضع في أخمصي رجليه جمرتان من نار جهنم يغلي منهما دماغه وإنه لأهون أهل النار عذاباً ويرى نفسه أشد أهل النار عذاباً.]
[ولما احتضر جاءه النبي عليه الصلاة والسلام وقال له: يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله وكان عنده أبو جهل وأضرابه، فقالوا: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فكان آخر ما قاله أنه على ملة عبد المطلب]
وثبت في النسائي [أن علياً رضي الله عنه جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقال يا رسول الله إن عمك وهو والد علي - عمك الشيخ الضال قد مات، قال: اذهب فوار أباك] أي ادفنه من غير تغسيل ولا صلاة فهذا مشرك.
فنزل قول الله لما قال النبي عليه الصلاة والسلام بعمه بعد أن مات – لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عنك (ما كان للني والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا ذوي قربي من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم) لكن مع ذلك فجهده ما ضاع فهو أهون أهل النار عذاباً، وهذا من الشفاعات الخاصة لنبينا عليه الصلاة والسلام لأن الكفار كما قال الله تعالى فيهم (لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون) .
ولا يدخل الجنة لأنه كافر والله حرم الجنة على الكافرين.
عند الشيعة فقط أبو طالب أفضل من أبي بكر فأبو طالب في الجنة وأبو بكر في النار، قالوا كيف يكون والد علي كافراً؟ أقول فكيف يكون والد إبراهيم الخليل كافراً.
الشيعة جعلوا حب آل البيت ستاراً وهم زنادقة فلا يؤمنون بدين ولا يدخلون في الإسلام رغبة ولا رهبة إنما كيداً للإسلام وكيداً لأهله ولكن لابد من شيء يستترون به وهو حب آل البيت فهذه ستارة وإلا فما علي عندهم بأحسن من أبي بكر، وقالوا كلاماً لو ثبت لكان علي أحسن من أبي بكر عندهم وحاشاهم جميعاً من ذلك.
يقال لهم كيف زوج على ابنته لعمر – وهو عندهم كافر – أجابوا بجوابين:
- ... متقدمهم: من باب التقية ليرفع عن نفسه ضرر عمر.
- ... متأخرهم زف إليه جنية بصورة أم كلثوم بنت فاطمة.
قال جعفر الصادق يقولون التقية وينتمون يأتي كذبوا دين آل البيت التقوى لا التقية التقية دين اليهود.(6/76)
لكن له صلة عظيمة بنبينا عليه صلوات الله وسلامه من سائر أعمامه فعمه العباس لم يكن مؤمناً في ذلك الوقت ثم آمن فيما بعد، وعمه أبو لهب لم يكن مؤمناً وما آمن وكان يؤذي النبي عليه الصلاة والسلام والعباس لم يكن له من المكانة في قومه كما لأبي طالب، فأبو طالب هو الذي ورث مكانة عبد المطلب وصار سيد قريش، فكانت له كلمة نافذة فما استطاع سفيه في مكة أن يمد يده أو يلوح بأصبعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مدة حياة أبي طالب وهو الذي كان يقول له: "والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفيناً" وكانت قريش تهاب أبا طالب وتخاف سطوته ويخشون إذا آذوا النبي عليه الصلاة والسلام أن يثأر أبو طالب لابن أخيه من باب الحمية، فكانوا ينكفون عن أذى النبي عليه الصلاة والسلام ولذلك غاية ما وقع قبل العام العاشر للبعثة أذىً على أصحابه ولم يقع عليه أذىً عليه صلوات الله وسلامه، فلما مات عمه أبو طالب اشتد أذى المشركين على أصحابه بل وعلى النبي عليه الصلاة والسلام ووصل الأمر إلى أنهم أخذوا الجزور وهي الكرشة التي فيها الفرث والزبل – وطرحوها على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم بجوار الكعبة فإذن اشتد عليه الأذى وكثر بعد موت عمه أبي طالب، وصار يلاقي أذىً شديداً خارج البيت وإذا عاد إلى البيت فليس هناك من يؤنسه ويزيل همومه، فاشتد به الأذى وضاقت عليه الأرض بما رحبت في ذلك الوقت، في العام العاشر للبعثة الذي سمي بعام الحزن، فخرج النبي عليه الصلاة والسلام من شدة الكرب الذي لحقه من المشركين إلى الطائف يلتمس نصرة من ثقيف، فكانوا أخبث من عتاة قريش وأهل مكة.
فردوا عليه أقبح رد أما بعضهم فيقول: أما وجد الله رسولا ً غيرك ليرسله؟
والآخر يقول: والله لو كُنْتَ رسولاً لأمزقن ثياب الكعبة!(6/77)
ثم ما اقتصر الأمر على أذى اللسان، بل أغروا به السفهاء وبدأوا يقذفونه بالحجارة حتى أدموا عقبيه عليه صلوات الله وسلامه ومعه مولاه زيد بن حارثة يقيه هذه الحجارة فتارة يكون أمامه وتارة وراءه وتارة عن يمينه وتارة عن شماله، والحجارة تأتيه من قبل السفهاء من كل جهة.
إذن فكان الأمر في منتهى الكرب والشدة، فلجأ بعد خروجه من الطائف إلى بستان عنب ولجأ إلى الله جل وعلا بالدعاء وقال الدعاء الذي رواه الطبراني وذكره الإمام محمد بن إسحاق في المغازي والطبراني رواه عن محمد بن إسحاق أيضاً وهو مدلس وقد عنن الحديث فهو من ناحية الإسناد في الظاهر فيه ضعف لكن المعنى حق وثابت، وهو حقيقة مع ضعف الإسناد فيه إلا أن الناظر فيه يرى عليه نور النبوة، قال: (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلي بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي ولكن عافيتك هي أوسع لي أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك (.
فغار الله لنبينا عليه الصلاة والسلام وأرسل له ملك الجبال وقال: إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين – الجبلين – وأريحك منهم حتى كأنه لا يوجد شيء اسمه قريش على وجه الأرض، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا، أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله (فهذا هو الرؤوف الرحيم عليه صلوات الله وسلامه.
إذن اشتد عليه الأذى في العام العاشر للبعثة، وأخذ فترة طويلة والنبي عليه الصلاة والسلام يصبر والهجرة كانت في العام الثالث عشر للبعثة فهل يترك رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما لاقاه من إيذاء وشدة بلا حادث جليل يرضيه ويأنسه؟ هذا مستبعد!!
لذلك فقد حصل له صلوات الله وسلامه عليه بعد عودته من الطائف أمرين وحادثتين:(6/78)
الحادث الأول: قبل أن يدخل إلى مكة عندما وصل إلى نخلة، وهي على الطريق القديم لمكة ويسمى طريق السيل حديث كان يسلكه المسلمون، والمعرب في الجاهلية لسهولته ويقع على ميقات أهل نجد قرن المنازل، ويقال له قرن المنازل على بعد 70 كيلومتر من مكة، وطريق السيل هذا طوله من الطائف إلى مكة 120 كيلومتر، وهناك طريق آخر جديد يسمى طريق الهدا وهو طريق جبلي شق حديثا وطوله إلى مكة قرابة 80 كيلومتر، والشاهد أنه لما وصل إلى نخلة وهي تبعد قرابة 4 كيلومتر عن مكة المكرمة – أكبر الله عليه بأعظم أمر وأكرم الجن برؤية نبينا الكريم عليه صلوات الله وسلامه فصرف له نفراً من الجن يستمعون قراءته وآمنوا به في نخلة: (وإذا صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضى ولو إلى قومهم منذرين) ، وفي هذا تأنيس للنبي صلى الله عليه وسلم وبشارة، فكأنما الله تعالى يقول له: اصبر إن جهل عليك البشر، فالجن – الذين لا تستبعد من طبيعتهم الجهالة والعثرة – انظر كيف عرفوا قدرك وآمنوا بك واستمعوا لقراءتك فعما قريب سأفتك قلوب البشر لدعوتك.
فإذن هذه بشارة حصلت له بعد الأذى الذي حصل له من البشر جاء الجن واستمعوا لقراءته وآمنوا به (قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فأمنا به ولن نشرك بربنا أحداً) والله تعالى أنزل سورة كاملة سماها باسم هذه الحادثة فسميت سورة (الجن) .(6/79)
الحادث الثاني: بعد أن دخل مكة عليه الصلاة والسلام واطمأن فيها بعض الوقت أكرمه الله بحادثة الإسراء والمعراج، وكأن الله تعالى يقول لنبيه عليه الصلاة والسلام: أعلم أنه لا يوجد من قبلنا غضب عليك، فإذا جهل عليك البشر فليس هذا لغضب منا عليك فمكانتك عندنا عظيمة جليلة، أعطيناك ما لم نعط أحداً من العالمين، فيسرى بك إلى بين المقدس، ثم نقدمك على أفضل خلق الله وهم الأنبياء والمرسلون في بيت المقدس فيجمع لك الأنبياء وعددهم (124.000) فجمعوا كلهم في بيت المقدس كما سيأتينا في الآيات التي رآها في بيت المقدس، الأنبياء كلهم من آدم إلى عيسى عليهم صلوات الله وسلامه كلهم يجتمعون ويتقدمهم نبينا عليه الصلاة والسلام ويصلي بهم ركعتين ويلقي كل واحد خطبة – كما سيأتينا – ويتحدثون بما من الله به عليهم فيختم الخطب نبينا عليه الصلاة والسلام ويتحدث بما من الله به عليه، فيقول خليل الرحمن إبراهيم: بهذا فضلكم محمد، وعليه صلوات الله وسلامه.
إذن أفضل خلق الله أنبياء الله ورسله أنت تتقدم عليهم ويتبركون برؤيتك وأنت إمامهم ويظهر فضلك عليهم، وفي هذا كله تأنيس لقلبه عليه صلوات الله وسلامه وتطمين وتثبيت عظيم ثم ما هو أعلي من هذا حيث رفعك في السماء، فكما قدمناك عليهم في الأرض نرفعك عليهم في السماء فإذا كان أرفع واحد فيهم وهو إبراهيم في السماء السابعة ودونه الكليم موسي في السماء السادسة فأنت ترفع إلى ما هو أعلي من ذلك، بل جبريل علي نبينا عليه صلوات الله وسلامه عندما يرتفع بعد السماء السابعة يقف ويقول لنبينا عليه الصلاة والسلام: تقدم، ولو تقدمت لحظة لاحترقت، وما منا إلا له مقام معلوم، ثم يعرج نبينا عليه الصلاة والسلام – كما تقدم معنا – إلى مستوي سمع فيه صريف الأقلام وماذا يسطر في لوح الرحمن، ثم ناجاه ربه وكلمه، وحصلت له الرؤية النظرية أم القلبية؟ سنتحدث في هذه عند مبحث الآيات التي رآها فوق السموات.(6/80)
فهذه الآيات العظيمة التي رآها لتدل على عظيم رضوان الله عليه، فكأن الله تعالي يقول له: (لا تحزن إلا جهل عليك السفهاء، فهذا قدرك عند الأتقياء وعند الفضلاء وعند رب الأرض والسماء،والملائكة تتبرك برؤيتك،وأنبياء الله ورسله يفرحون بلقائك، والله جل وعلا يدعوك لجنابه الأعلى، فمن هؤلاء البشر إذا جهلوا عليك؟)
إذا أهل الكرام يكرموني ... فلا أرجو الهوان من اللئام
والرجاء من الأصداد فيأتي بمعني الأمل ويأتي بمعني الخوف والوجل وهنا بمعني الخوف، أي فلا أخاف الهوان من اللئام.
فاللئيم إذا أهانك والكريم إذا أكرمك فلا تبالي بإهانة اللئيم، لكن لو أن الكريم أهانك وأبغضك وتغير قلبه عليك وعبس في وجهك فحقيقة لا يلذ لك طعم الحياة، وتقول: إذن أبغضني الله عندما أذاني الكرام، وعندما تغير قلبهم علي، لكن الواقع أن اللئام هم الذين آذوك ولذلك السفهاء، فهذا مما يدل على عظيم قدرة الله جل وعلا وهنا لئام يؤذونك،وكلام يتبركون برؤيتك.
ونشير هنا إلى أنه: بالإجماع يتبرك بنبينا عليه الصلاة والسلام بجسده الشريف، وبفضلاته ببصاقه ومخاطه، وبشعره وبملابسه وبأثاثه، بلا خلاف بين أهل السنة وإذا حصل الإنسان شعره من شعر النبي عليه الصلاة والسلام وقبلها ومرغ خده عليها فهنيئا له هنيئا، فالتبرك بآثاره جائز بالاتفاق، وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام هو الذي يوزع أحيانا شعره على الصحابة، كما حصل هذا في الحديبية،وأخذ أنس بعض الشعرات وأوصي أن توضع تحت لسانه بعد موته – ووضعت – من أجل أن يسدده الله عند سؤال الملكين.(6/81)
وكأنه بعد حصول هذه المميزات لنبينا عليه الصلاة والسلام يقول له برنا: ليس في إيذاء السفهاء لك منقصة، وليس في ذلك غضب عليك، فاعلم هذا وقم بالدعوة بجد ونشاط وحذار حذار أن تسير مع الميول البشرية والطبيعة الإنسانية فتقول ضاقت علي الأرض بما رحبت قومي آذوني وكثر صبري عليهم مع ما حصلت منهم من الأعراض، ذهبت إلى الطائف فقابلوني أشنع مقابلة، وطبيعة البشر قد تخور وتضعف، فلا بد من تثبيت فأكلمه الله بالإسراء والمعراج وهذا في غاية التثبيت له عليه صلوات الله وسلامه وفعلا بعد هذه الحادثة كان نشاطه للدعوة أكثر وقام يدعو بجد ونشاط ولذلك في صبيحة اليوم التالي لليلة الإسراء والمعراج لقيه أبو جهل فقال: يا محمد، هل من خبر جديد؟ قال نعم: أسري بي هذه الليلة إلى بيت المقدس، وقال أو تستطيع أن تخبر قومك إذا دعوتهم؟ قال: نعم – فبين ثباته ولم يبال بأحد عليه صلوات الله وسلامه، فدعاهم أبو جهل وقال: اسمعوا ما يقول محمد، فقالوا: انعت لما بيت الله المقدس يقول نبينا عليه الصلاة والسلام: فكربت كربا شديدا، لم أكرب مثله قط لأنني ما أثبته – أي ما علمت أحوال بيت المقدس وكم فيه من نافذة وكم له من أبواب فكيف سأنعته لهم، - يقول: فأتي جبريل ببيت المقدس فوضعه عند دار عقيل بن أبي طالب، وأنا أنظر إليه فجعلت أنعته لهم باباً بابا وشباكاً شباكا.
فهذا هو حال النبي صلي الله عليه وسلام بعد ذلك الحادث العظيم، فقد صار عنده عزم وحماس للدعوة أكثر من الأول.
إخوتي الكرام ... حادثة الإسراء والمعراج وقعت بعد هذين الحادثين المريرين وفاة زوجة وعمه وكل منهما كان له مواقف خاصة مع نبينا عليه صلوات الله وسلامه، وإذا كان الأمر كذلك فإذن هنا حزن على وفاتهم ثم هنا حزن لمزيد الأذى بعد موتهما فكان لابد من تسلية لنبينا صلي الله عليه وسلم.(6/82)
ولذلك كان أئمتنا يقولون: من أقعدته نكاية اللئام، أقامته إعانة الكرام، لئام يؤذونك ويقعدونك عن دعوتك ويثبطونك، فلابد من معين ومساعد يشد أزرك ويقويك وهم الكرام، لكن البلية في عصرنا أن اللئام كثر، فهم يقعدونك ويؤذونك ولا تجد كريما تأوي إليه إلا من رحم الله.
إخوتي الكرام ... الصحابة رضوان الله عليهم عندما اشتد عليهم أذى المشركين بمكة أشار عليهم النبي عليه الصلاة والسلام أن يهاجروا إلى الحبشة وقال: هناك رجل عادل لا يظلم عنده أحد فاذهبوا إليه لعل الله أن يجعل عنده فرجا ومخرجا.
وبالفعل حصل ما تمناه النبي صلي الله عليه وسلم حتى أنهم لم يعودوا إلى مكة بل ما عادوا إلى مكة إلا لما هاجر النبي صلي الله عليه وسلم إلى المدينة فلحقوه هناك.
س: لكن هل تركهم المشركون يهاجرون إلى الحبشة دون أن يلاحقوهم؟
جـ: لا بل أرسلوا عمر بن العاص وكان مشركا يومها – وعبد الله بن أبي ربيعة في طلبهم ومعهم الهدايا والقصة طويلة وردت في حديث طويل رواه الإمام أحمد في المسند وأخذ فيه ثلاث صفحات عن أمنا أم سلمة رضي الله عنها لأنها كانت من جملة المهاجرات إلى الحبشة،والحديث إسناده صحيح.
وحول السند: (1/201-203) ، (5/210-292)(6/83)
قلنا أنه لما اشتد أذي المشركين علي الصحابة رضوان الله عليهم أمرهم النبي صلي الله عليه وسلم بأن يذهبوا ويهاجروا إلى الحبشة، فطالب المشركين بإعادتهم وقال البطارقة الذين كانوا في مجلس النجاشي صدقوا أيها ال؟؟ الملك أرسلهم دون أن تسمع كلامهم فقومهم أعلم بهم وقد كانوا يعلمون أن أصعب شيء عليهم أن يسمع النجاشي أصخمة كلامهم لأنه عاقل، وإذا كان عاقلا وسمع كلامهم سيقضى بالحق وبالتالي لن يسلم هؤلاء لعتاة قريش وسيحسن ضيافتهم ويكرمهم، وفكان أقبح شيء على هذا الوفد بمشورة العتاة في مكة شيء أن يستدعي النجاشي أصمخة هؤلاء الثلة الذين كانوا بضعا وسبعين ما بين رجل وامرأة رضي الله عنهم أجمعين فكان أشنع شيء عليهم أن يستدعيهم ويسمع كلامهم، فلما قال البطارقة: صدقوا أرسلهم، قال: لا، والله قوم لجأوا إلى واختاروني على من سواي كيف أطردهم قبل أن أسمع كلامهم، فإذا كان ما يقول هؤلاء حقا من أنهم مفسدون وخائبون ومخربون سلمتهم إليهم، وإذا لم يكونوا كذلك فلا أطردهم ما رغبوا في جواري.
فاستدعاهم فقال لهم: ما هذا الدين الذي فارقتم به دين قومكم ولم تدخلوا في ديني، وكان هو على النصرانية – قالوا والذي تولي الإجابة هو جعفر بن أبي طالب ابن عم النبي صلي الله عليه وسلم: أيها الملك كفاني جاهلية وشر، نعبد الأصنام ونأكل الميتة والجيف ونقطع الأرحام ونسيء الجوار ويأكل القوي فينا الضعيف فبعث الله فينا رسولا منا نعرف صدقه ونسبه، فدعانا إلى عبادة الله وحده لا شريك له ويأمرنا أن ننبذ ما كان يعبد آباؤنا من الأصنام، وأمرنا بالصلاة وصدق الحديث وصلة الأرحام فآمنا به وصدقناه، فغدا علينا قومنا وآذونا فلجأنا إليك واخترناك على من سواك. فقال لهم: إن كنتم كذلك فلكم الأمر في بلادي.(6/84)
وفي اليوم الثاني قال عمر بن العاص لعبد الله بن أبي ربيعة، لأذهبن إلى الملك ولأوغرن صدره عليهم، ولأحرضنه عليهم ولأقولن له إنهم يقولون في عيسي قولا عظيما، وهو أنه عبد الله ورسوله، لأن النصارى يقولون هو ابن الله، ولأبيدن خضراءهم بهذا الكلام، وكان عبد الله بن أبي ربيعة وهو على شركه فيه رحمة فقال: رفق بهم فإنهم أبناء العم والعشيرة، فقال بل لابد.
فذهب إلى الملك وقال: أيها الملك إنهم يقولون في عيسي قولا عظيما، فاستدعاهم فقالوا لجعفر ماذا نقول؟ قال ما نقول إلا ما علمنا نبينا عليه الصلاة والسلام وليكن ما هو كائن. فقال لهم النجاشي: ماذا تقولون في عيسي؟ قالوا: ما نقول إلا ما علمنا نبينا عليه الصلاة والسلام فتلا عليهم صدر صورة مريم فلما وصل إلى قول الله (ذلك عيس بن مريم قول الحق الذي فيه يمترون، وما كان الله أين يتخذ ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم) .
وانتبه لموقفهم هذا فلا يعني هروبنا وفرارنا من بلدة إلى بلدة فرارا بديننا أن نتنازل عن ديننا وقيمنا بل الواجب أن نثبت عليها كما خرجنا وفررنا بسببها إلى أن نلقي الله وهو راض عنا إذ لا يعقل أن تهاجر وتقاتل من أجل مبدأ ثم لما تغير بلدك تتنازل عن هذا المبدأ الذي هاجرت بسببه.(6/85)
إذن فتلا عليه هذه الآيات ولما قال: (ما كان الله أن يتخذ ولد) نخر البطارقة، ولما قال عيسي في السورة (قال: إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا، وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا) فقال النجاشي: وإن نخرتم؟ وبكي حتى اخضلت لحيته من دموع عينيه ثم أخذ عودة صغيرة من أرض وقال والله ما زاد علي وصف عيسي بمقدار هذه، فهذا هو وصف عيسي هو عبد الله ورسوله وليس هو بثالث ثلاثة وليس هو ابن الله جل وعلا، ثم قال لجعفر ولمن معه: أنتم سيوم أنتم سيوم – والسيوم في لغة الحبشة الأحرار أي مثل الغنم السائمة تمشي وترعي أينما تريد،ولذلك الغنم إذا كانت سائمة فيها زكاة وإذا كانت تعلف فليس فيها زكاة – من سبكم غرم، من سبكم غرم، من سبكم غرم، والله ما أحب أن لي دبرا من ذهب، والدبر هو الجبل العظيم الكبير بلغة الحبشة – وأن أحداً منكم يؤذي هذا العبد الصالح النجاشي أصمخة لما مات صلي عليه نبينا عليه الصلاة والسلام صلاة الغائب كما في الصحيحين.
وقد ثبت في سند أبي داوود في كتاب الجهاد، باب النور يري على قبر الشهيد، قالت أمنا عائشة رضي الله عنها: [كنا نتحدث أنه لا يزال يري على قبر النجاشي نور بعد موته (وفي الحقيقة فإنه يستحق هذا الإكرام من ربنا الرحمن.
فأولا: اعتقد اعتقاد الحق.
وثانيا: بذل ما في إمكانه حسبما وسعه في ذلك الوقت فالرسول صلي الله عليه وسلم في ذلك الوقت في مكة ولا يمكن الهجرة إليه.
وثالثا: نصر هؤلاء المؤمنين، فقال بما في وسعه وهو إن شاء الله في عداد المؤمنين الموحدين، فهذا هو النجاشي العبد الصالح ولا مثيل له في عصرنا.
فتن لكن لا يوجد نجاشي، لئام فاضت الأرض بهم فيضا لكن لا يوجد ما يقابلهم من الكرام بحيث إذا ذهب الإنسان إليهم يجد النصر.(6/86)
هذا فيقال رؤيته لهم في بيت المقدس لا يلزم أن تكون بنفس الصورة التي تكون في السماء يضاف إلى هذا أنه اجتمع بـ (124.000) نبي في لحظات من ليل، فكيف سيتمكن من أن يحفظ أشكالهم ويتثبت من صورهم، كما هو الحال في بيت المقدس عندما قال له المشركون انعته لنا، مع أنه رآه فالرؤية لا يلزم منها العلم بالمرئي على وجه التمام، والإحاطة به بحيث لو رآه مرة ثانية يقول هذا هو فلان لأنه جم غفير التقي بهم في لحظات، والعلم عن الله.
الحكمة السادسة: لأن لبيت المقدس من تلك الجهة المصعد إلى السماء، أي باب السماء الذي يفتح يكون بحيال بيت المقدس.
قال الحافظ بن حجر: والذي يظهر ضعف هذا لأن باب السموات الذي يفتح وينزل منه الملائكة يكون حيال الكعبة وفي وجهتها وسمتها لأعلي جهة بيت المقدس.
الحكمة السابعة: وقلنا نقلها عن ابن أبي جمرة، قال: ليظهر الله الحق، عند من يريد إخماده ووجه هذا: لو أن النبي عليه الصلاة والسلام أخبرهم أنه عرج به إلى السموات العلا، ورأي في السموات ما رأي لقالوا له كذاب، وما عنده قرينة تدل على صدقه ولا على كذبه فلا يستطيع أن يثبت لهم صدقه، لكن عندما قال لهم أسري بي إلى بيت المقدس قالوا: كذاب قال: يا جماعة أنا تحققت من ذلك وتأكدت، قالوا: انعته لنا، فلما وصف لهم بيت المقدس الذي رأوه بأعينهم ظهر لهم الحق وقد حاولوا إخماده، أما السموات فلم يروها ولو قالوا له انعتها لنا، فسينعتها بشيء لا يعلموه، أما بيت المقدس فظهر الحق لهم عندما نعته لهم فظهر الحق عند من يريد أن يخمده ويبطله.(6/87)
الحكمة الثالثة: تظهر في وما ذكرها الحافظ ابن حجر رحمه الله – واعلم عند الله – وهي أ، هـ أسري بنبينا عليه الصلاة والسلام إلى بيت المقدس ثم عرج به إلى السموات العلي ليرتقي من كمال إلى كمال. فنقله إلى الكمال الأرضي وهو الاجتماع بالأنبياء وإظهار تقديمه عليهم وفضله عليهم، ثم نقله إلى ما هو أعلي من ذلك وهو العروج به إلى السموات العلا والالتقاء برب العالمين، فنقل من كمال إلي كمال أسري به ثم عرج ولو حصل العكس لم يكن في رؤيته الأنبياء فائدة معتبرة لأن أعلي الكمال حصل له وهو الاجتماع برب العالمين ولقاؤه.
المبحث الرابع:
الآيات التي رآها خير البريات عليه صلوات الله وسلامه في حادثة الإسراء والمعراج:
وتنقسم هذه الآيات إلى أربعة أقسام (لنريه من آياتنا الكبري) :
القسم الأول: آيات عظيمة رآها وحصلت له قبل البدء برحلة الإسراء والمعراج.
القسم الثاني: آيات أرضية رآها عندما أسري به إلى بيت المقدس.
القسم الثالث: آيات سماوية رآها عندما عرج به إلى السموات العلا.
القسم الرابع: آيات عظيمة حصلت له بعد رقي السموات.
وسنفصل الكلام في هذه الآيات الأربع إن شاء الله تعالي.
القسم الأول:
الآيات التي حصلت له قبل البدي برحلة الإسراء والمعراج: حصلت له حادثة عظيمة وهي حادثة شق صدر نبينا عليه الصلاة والسلام.(6/88)
ثبت في الصحيحين من حديث أنس عن أبي ذر، ومن حديث أنس عن النبي عليه الصلاة والسلام ومن حديث مالك بن صعصعة، وثبت في المسند من حديث أنس عن أبي بن كعب - فالحديث عن أربعة من الصحابة – وفيه يقول النبي صلي الله عليه وسلم: (فرج سقف بيتي فنول ملكان وأخذاني وأضجعاني وشقا ما بين ثغرة نحري – هي المكان المنخفض الذي يكون بين الترقوتين في أصل الرقبة – إلى شعرتي – أي مكان منبت العانة – وأخرجا قلبي فغسلاه في طست – بكسر الطاء وفتحها وإثبات التاء وضمها وهو الطشت المعروف الآن – من ذهب فغسلاه بماء زمزم ثم حشيا قلبي وصدري – وفي رواية (حشيا صدري ولغاديدي) أي عروق رقبتي – إيمانا وحكمة (.
هذا حصل له قبل حادثة الإسراء والمعراج: سق صدره، واستخرج قلبه، وضع في طشت من ذهب، غسل بماء زمزم، ثم حشئ قلبه وصدره، ولغاديده أي جميع عروقه ومناخذه حشي إيمانا وحكمة ثم التأم صدره عليه صلوات الله وسلامه.
قال الحافظ ابن حجر: "شق سقف البيت من قبل الملكين فيه إشارة إلى أن صدر نبينا عليه الصلاة والسلام سينشق ويلتئم دون حصول أثر فيه كما التأم هذا السقف بعد ذلك"، ونحن في عصورنا لو شق جزء من الإنسان وأعيدت خياطته لبقي أثر الشق، بل يقول الأطباء إنه إذا شق بطن الإنسان فإنه لا يعود إلى طبيعته الأولى مهما كتب له من شفاء وعافية، ويبقى معرضاً للفتق فتراه يمنع من حمل الشيء الثقيل حتى لا تتفتق خياطة هذا كله مع تقدم العلم، وهو في شأن نبينا عليه الصلاة والسلام معجزة.
قال الإمام ابن حجر في الفتح: واختير الطست من ذهب ليتناسب هذا الطست مع مكانة نبينا عليه الصلاة والسلام والكرامات التي تحصل له، فهو من أواني الجنة، والنبي صلى الله عليه وسلم صائر إليها بل محرمة على غيره ولا تفتح لأحد قبله.(6/89)
الأمر الثاني: الذهب لا يأكله التراب ولا يظهر عليه صدىً ونبينا عليه الصلاة والسلام كذلك بدنه لا تأكله التراب، ولا يعتريه تغير وهو يوم يبعث كحاله يوم دفن عليه صلوات الله وسلامه، والله حرم على الأرض أجساد الأنبياء كما ثبت في السنة بإسناد صحيح (إن الله حرم على الأرض أجساد الأنبياء (.
الأمر الثالث من الحكم في اختيار الطست من الذهب: أن الذهب هو أثقل المعادن في الوزن النوعي فلو وزنت قطعة (ذهب 5سم × 5سم) لقلت على قطعة (حديد 5 سم × 5سم) ، فإذن الذهب أثقل المعادن وزناً ونبينا عليه الصلاة والسلام أثقل الخلق وزناً وقدرة، ووزن بالأمة كلها فرجح عليه صلوات الله وسلامه وهو أكرم الخلق على الله وأفضلهم عنده.
الأمر الرابع: أن في لفظ الذهب تفاؤل بإذهاب الرجس عن نبينا عليه الصلاة والسلام وتطهيره تطهيراً، وهذا ما حصل له عندما استخرج منه حظ الشيطان وغسل قلبه بماء زمزم.
الأمر الخامس: أن في لون الذهب تفاؤل بحصول النظرة والبهجة لنبينا عليه الصلاة والسلام ودعوته وإشراق نوره في العالمين، وهذا الذي حصل.
الأمر السادس: أن الذهب أعز المعادن وأغلاها، وكذا نبينا عليه الصلاة والسلام أعز المخلوقات وأنفسها.
ولهذا كله غسل قلبه بطست من ذهب
وإنما غسل بماء زمزم لأن ماء زمزم هو أشرف الحياة وأصله نزل من الجنة وهو هزمة جبريل على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه لأم إسماعيل عندما اشتد عليها العطش، والذي دلها على ذلك المكان وحفره جبريل بواسطة ضربة إسماعيل برجله، فإذن ماء مبارك من الجنة حفره جبريل للنبي المبارك إسماعيل الذي هو والد نبينا عليه الصلاة والسلام، وينتمي إليه، فهو ابن الذبيحين عليه صلوات الله وسلامه.(6/90)
وماء زمزم هو أشرف مياه الأرض وقد ثبت بإسناد حسن عن نبينا عليه الصلاة والسلام (ماء زمزم لما شرب له (وهو (طعام طعم وشفاء سقم (كما ثبت هذا عن نبينا عليه الصلاة والسلام في صحيح مسلم، وكان كثير من الصالحين يتقوتون بماء زمزم فهو ماء وغذاء، ويمكث أربعين يوماً - كما يقول الإمام ابن القيم – لا يدخل شيء جوفه إلا ماء زمزم، وانظروا فضل ماء زمزم في كتاب زاد المعاد في هدي خير العباد (4/392) وما لزمزم من خواص وآثار وهو يخبر عن نفسه أنه كان يمكث الأيام المتوالية ما يتغذى إلا بماء زمزم.
فهو إذن ماء مبارك ومن أجل هذا غسل قلب نبينا عليه الصلاة والسلام به.
قد يقول قائل: كيف غسل قلب النبي عليه الصلاة والسلام بطست من ذهب، والذهب محرم استعماله على الذكور والإناث؟
ذكر أئمتنا جوابين:
الأول: وهو ضعيف في نظري – وهو أنه كان قبل التحريم.
الثاني: وهو المعتمد أن هذه الحادثة من خوارق العادات وهي متعلقة بأمور الغيب وهي بأمر الآخرة ألصق منها وأقرب من أمر الدنيا، ولذلك لها أحكام الآخرة، فكما أننا في الآخرة نحلّى بأساور من ذهب (وحلوا أساور من ذهب) فحادثة الإسراء والمعراج لها أحكام الآخرة لا أحكام الدنيا، وهذه من باب خوارق العادات ولذلك لها حكم خاص خص الله به نبينا عليه الصلاة والسلام.
قال بن حجر: قوله (حشياه إيماناً وحكمة) فيه إشارة إلى أن الحكمة هي أفضل شيء بعد الإيمان، ورأس الحكمة خشية الرحمن، والحكمة باختصار: وضع كل شيء في موضعه فالعبادة توضع للمعبود بحق وهو الله جل وعلا فلا نصرفها لغيره فهذه حكمة،ومن عبد غير الله فهو سفيه سفه نفسه: (ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه) وهل هناك سفاهة أعظم من أن يصرف حق الخالق للمخلوق (إن الشرك لظلم عظيم) .
فالحكمة هي أعلي الفضائل بعد الإيمان ولذلك حشي قلب نبينا عليه الصلاة والسلام وصدره إيمانا وحكمة.(6/91)
قد يسأل سائل فيقول: كيف حشي إيمانا وحكمة، والإيمان والحكمة من الأشياء المعنوية؟
الجواب: يحتمل هذا أمرين:
الأمر الأول: أن تجسيد تلك المعاني إلى أشياء حسية، فالإيمان الذي هو معنىً جُسِّد في شيء حسي يعلمه الله ولا نعلمه، وأدخل في قلب نبينا عليه صلوات الله وسلامه، ومثله الحكمة ولهذا نظائر: فالموت أمر معنوي، وسيجسد يوم القيامة – كما ثبت في الصحيحين – في صورة كبش أملح ثم يوقف بين الجنة والنار ويذبح بينهما ويقال: يا أهل الجنة خلود بلا موت ويا أهل النار خلود بلا موت.
والأعمال التي نقوم بها من طاعات ومعاص ٍ هذه معان ٍ أيضاً، وستجسد يوم القيامة كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام (كلمتان خفيفتان على اللسان حبيبتان إلى الرحمن ثقيلتان في الميزان سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم (متفق عليه، فإذن تجسد وتثقل الميزان فالطاعة تجسد وتوزن والمعصية تجسد وتوزن يوم القيامة، ولذلك قال أئمتنا: الذي يوزن يوم القيامة ثلاثة أشياء: الأعمال والعمال وصحف الأعمال.
الأعمال وإن كانت معان ٍ وأعراضاً يجسدها الله بكيفية يعلمها ولا نعلمها، والعمال وهم المكلفون، قال الله عن الكافرين (فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً) ، ورِجْْلُ عبدِ الله بْن ِ مسعودٍ – كما ثبت في المسند – أثقل عند الله من جبل أحد، وصحف الأعمال كما هو في حديث البطاقة وغيره.
وقد تقع هذه الثلاثة لكل واحد وقد يقع بعضها لبعض الناس والعلم عند الله، لكن دلت النصوص الشرعية على أن الذي يوزن يوم القيامة الأعمال والعمال وصحف الأعمال.(6/92)
الشاهد الآن: أن الأعمال معان ٍ وأعراض يجسدها الله وتوزن، وكذلك هنا الإيمان معنىً لا يقوم بنفسه فجسد بكيفية يعلمها الله ولا نعلمها وهذا من أمور الغيب التي نؤمن بها ولا نبحث في كيفيتها، وقد تقدم معنا في الدليل الثامن من أدلة الإسراء والمعراج أن كل ممكن ورد به السمع وجب الإيمان به، وتجسيد الأعمال والموت وغيرها من المعاني ممكن وليس بمستحيل وقد ورد به السمع فيجب الإيمان به.
الأمر الثاني: أن يكون الإيمان والحكمة قد مثلا بشيء ثم أدخل مثالهما الذي يدل عليهما ويعبر عنهما في قلب نبينا عليه الصلاة والسلام وصدره ولغاديده.
ولهذا نظير: عندما (كان نبينا عليه الصلاة والسلام يصلي صلاة الكسوف وتقدم ومد يده ثم تأخر وقال عرضت عليَّ الجنة والنار ومدت يدي لآخذ عنقوداً من عنب من عناقيد الجنة فلو أخذته لأكلتم منه إلى أن تقوم الساعة (والحديث في الصحيحين.
فهذا عن طريق التمثيل أم عن طريق التجسيد؟ بل هو عن طريق التمثيل، فمثل له شكل الجنة والنار في جدار القبلة عندما كان يصلي عليه صلوات الله عليه وسلامه.
فإما أنهما جسدا أو مثلا والعلم عند الله، أي ذلك وقع، فنؤمن بأنه قد حشي قلب نبينا عليه الصلاة والسلام إيماناً وحكمة.
قال أئمتنا: اشتملت هذه الحادثة على ما يدهش السامع فضلاً عن المشاهد فالسامع عندما يسمع هذه الأخبار يدهش، فكيف بنبينا عليه الصلاة والسلام الذي رأى هذا، ليعلم عظيم قدرة الله في نفسه وليتحقق من ذلك وليثبت قلبه في تبليغ دعوة الله على أتم وجه وأكلمه، لاسيما وقد حصل هذا بعد حوادث أليمة ومريرة مرت عليه كما قلنا من موت زوجه وعمه، واشتداد أذى المشركين عليه بعد ذلك عليه صلوات الله وسلامه، فانظروا إلى هذه العجائب كيف نفعلها ونحن على كل شيء قادرون.
إذن في بداية حادثة الإسراء والمعراج وقبل السير فيها شق صدر نبينا عليه الصلاة والسلام وقد شق الصدر الشريف لنبينا عليه الصلاة والسلام أربع مرات:(6/93)
المرة الأولى: عندما كان عمره عليه صلوات الله وسلامه سنتان وثلاثة أشهر، ثبت هذا في مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم ومستدرك الحاكم عن أنس رضي الله عنه عندما كان نبينا عليه الصلاة والسلام مع الغلمان عند مرضعته حليمة جاءه ملكان وأضجعانه وشقا صدره وقالا: هذا حظ ُ الشيطان منك، فأخرجا علقة من قلبه فطرحاها ثم حشيا قلبه إيماناً وحكمة وانصرفوا،وقام النبي عليه الصلاة والسلام يلعب مع الصبيان، وذهب الذين كانوا معه إلى مرضعته حليمة وأخبروها الخبر فخشيت أن يكون هذا من قبل الجن ولذلك أرادت أن تعيده إلى أمه وعمه بعد ذلك.
المرة الثانية: عندما كان عمره عشر سنين، شق صدره عليه صلوات الله وسلامه، ثبت هذا في مسند الإمام أحمد (5/139) شق صدره عليه الصلاة والسلام وغسل قلبه مرة ثانية ومليء إيماناً وحكمة، والحديث رواه أيضاً أبو نُعيم في دلائل النبوة عن أبي بن كعب عن أبي هريرة (أنه كان جريئاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله، فسأله عن حادثة شق الصدر، وكيف حصلت له؟ فأخبره أنه كان في عمره عشر سنين – وانظروا يخبر عن هذا وكان يعي ويدرك في هذه السن [فأتاه ملكان وأضجعانه وشقا صدره.... (إلخ الحديث.
المرة الثالثة: عندما كان عمره أربعين سنة، في غار حراء، والحديث في ذلك صحيح رواه أبو نُعيم في دلائل النبوة ص (69) ، وذكره الحافظ في الفتح مقراً له، وهو في درجة الحسن على حسب اضطلاحه (1/460) و (13/481) عن أمنا عائشة رضي الله عنها: تخبر عن النبي عليه الصلاة والسلام (أنه عندما جاءه جبريل في غار حراء شق صدره وحشي قلبه إيماناً وحكمة (.
والمرة الرابعة: وهي التي معنا وكان عمره إحدى وخمسين سنة ونصف السنة، وقد قلنا إنها في الصحيحين والمسند عن أربعة من الصحابة.(6/94)
والمرة الأولى من هذه الحوادث لشق صدر نبينا عليه الصلاة والسلام انتزع فيها حظ ُّ الشيطان وأما ما بعدها فكان تهييئاً لقلبه لأن يتلقى ما سيرد عليه من واجبات وتكاليف. فالأولى من باب التخلية وما تبعها من باب التقوية والتحلية.
حادثة شق الصدر أشار إليها ربنا في كتابه في سورة (الانشراح) وتسمى سورة (الشرح) (ألم نشرح لك صدرك) والسورة مكية باتفاق المفسرين، وفيها يشير ربنا إلى الأمر العظيم الذي وقع له في مكة.
والاستفهام في الآية للتقرير، ومعناه: حمل المخاطب على الإقرار بأمر قد استقر عنده وعلمه وثبت لديه – فكأن الله يقول لنبيه عليه الصلاة والسلام أقد شرحنا لك صدرك أي شققناه شقاً حسياً، وأنت رأيت هذا بعينيك.
وقد أرود الإمام الترمذي في كتاب التفسير عند سورة الانشراح حادثة شق صدر نبينا عليه الصلاة والسلام في تفسير هذه السورة، ليشير إلى أن المراد بالشرح شق صدره حساً عليه صلوات الله وسلامه.
وهكذا فعل الإمام الحاكم في مستدركه في كتاب التفسير عند تفسير سورة الانشراح فأورد حديث شق صدر نبينا عليه الصلاة والسلام، وشرح صدر نبينا عليه الصلاة والسلام شامل – في الحقيقة - لأمرين:
أشامل للشرح حساً، وهو ما وقع في هذه المرات الأربع.
ب وشامل للشرح معنىً، وهو تقوية قلبه لتحمل ما سينزل عليه ثم ليقوم بموجبه.
فحصل إذن الشرح الحسي والشرح المعنوي.
قال الإمام ابن كثير في تفسيره: شرح صدره حساًَ لا ينافي شرح صدره معنىً، فحصل الأمران عليه صلوات الله وسلامه.
وثبت في كتاب دلائل النبوة للبيهقي – لا لأبي نُعيم- (1/352) عن قتادة قال (ألم نشرح لك صدرك) المراد من ذلك الشق الحسي الذي حصل لنبينا عليه الصلاة والسلام.(6/95)
وقال الإمام أبو بكر بن العربي في كتابه أحكام القرآن عند تفسير سورة الانشراح (ألم نشرح لك صدرك) أي شرحاً حسياً وحقيقياً عندما كان عند ظئره – أي مرضعته – حليمة وعندما أسري به، فاقتصر على حادثتين من الحوادث الأربع التي وقعت لنبينا عليه الصلاة والسلام، ثم قال: وشرحنا لك صدرك معنىً عندما جمعنا لك التوحيد في صدرك وأنزلنا عليك القرآن، وعلمناك ما لم تكن تعلم وكان فضلنا عليك عظيماً، فحصل لك هذا وشرحنا لك صدرك عندما ألهمناك العمل بما أوحينا إليك وقويناك عليه.
ثم قال الإمام ابن العربي: وبهذا يحصل كمال الشرح وزوال التَّرَح – وهو الغم.
الحاصل أن سورة ألم نشرح لك تدل على حادثة شق الصدر التي حدثت لنبينا عليه صلوات الله وسلامه.
القسم الثاني:
الآيات الأرضية التي رآها عندما أسري به إلى بيت المقدس ماذا رأى من آيات؟
وقد رأى آيات كثيرة، سنتكلم على خمسة منها فقط، على طريق الإيجاز – وإن شاء الله تعالى، دون تفصيل في غيرها:
الآية الأولي: ركوب البراق:
ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتيت بالبراق مسرجاً ملجماً – وهو دابة دون البغل وفوق الحمار وهو دابة أبيض، يضع خطوه عند منتهى طرفه]
وتقدم معنا في سنن الترمذي وصحيح ابن حيان – عندما قدم البراق لنبينا عليه الصلاة والسلام (استصعب عليه (، وفي رواية ابن عباس في المغازي: (قدم البراق لنبينا عليه الصلاة والسلام وعدم انقياد وعدم ذلة وفي خلقه صعوبة وشراسة – فقال له جبريل على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه مالك فما ركبك أكرم على الله منه. (
وفي رواية ابن إسحاق قال له جبريل: (أما تستحي، فارفض عرقاً (وتقدم معنا أي تصبب عرقاً. وتقدم معنا إخوتي الكرام أن سبب شراسته ونفوره أمران ذكرناهما هناك(6/96)
إذن هذا البراق وهو آية حصلت لنبينا عليه الصلاة والسلام في إسرائه، إما عندما عرج به وهو في المعراج سنتكلم على هذا في الآيات التي رآها في السموات إن شاء الله تعالى.
وهذه الآية العظيمة التي حصلت لنبينا عليه الصلاة والسلام – من باب خرق العادات – وكما تقدم معنا أن كل ما ورد به السمع يجب الإيمان به، ووجود دابة اسمها البراق ممكن وليس مستحيلاً، والإسراء بنبينا عليه الصلاة والسلام من مكة إلى بيت المقدس ممكن وليس مستحيلاً، وورد السمع بكليهما، بالبراق الحديث السابق و (سبحان الذي أسرى بعبده من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى) ، وبما أن الأمرين كليهما ممكن وورد السمع به فيجب الإيمان به، لأن القسمة العقلية في الأشياء الموجودة بأسرها تنحصر في ثلاثة لا رابع لها:
1- وجود واجب.
2- وجود مستحيل ممتنع.
3- وجود ممكن جائز.
أما الواجب فلا يتصور في العقل هدمه، كوجود ربنا سبحانه وتعالى وحياته، وهذا ما يسمى بواجب الوجود فلا يتصور زوال الحياة أو الفناء على رب الأرض والسماء، فهذا واجب الوجود، وهو أول بلا بداية، وآخر بلا نهاية (اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء (
أما المستحيل الممتنع فهو – كما ذكرنا سابقاً – الجمع بين النقيضين أو نفي النقيضين.
أما الجائز الممكن فهو يتصور وجوده ويتصور عدمه ليس وجوده في الحياة فقط بل في جميع الاعتبارات غنىً وفقر، ذكورته وأنوثته وجماله، ودمامته، وطوله وقصره، وكونه إنساناً أو جماداً فهذا كله ممكن يقدره الله أن يقلب الجماد إلى إنسان كقوله تعالى (إذ انبعث أشقاها) الآيات.(6/97)
وذلك أن قوم ثمود قالوا لنبيهم صالح عليه الصلاة والسلام: لن نؤمن لك إلا أن تخرج لنا ناقة عشراء (أي حامل ملقحة) من صخرة؟ فقال لهم: إن أخرجتها تؤمنون؟ فقالوا نؤمن، فدعا ربه فأخرج لهم ناقة عشراء من صخرة صماء، ثم لما خرجت ولدت وليداً ورأوها ورأوا ودلها وسمعوا صوته ثم بعد ذلك قال لهم: إن كان الأمر كذلك فهذه الناقة لها حق عليكم فهذا الماء الذي تردونه يوم لكم ويوم لها، فأما اليوم الذي لكم فتزودوا ما شئتم،وأما اليوم الذي لها فاحلبوا منها ما شئتم، أي بدل الماء لكم لبن، لكن لا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم.
ثم بعد ذلك عقروها فعاقبهم الله ودمر عليكم، فهذا ممكن ورد السمع به فيجب الإيمان به.
فلابد من أن يحترم الإنسان عقله ويقف عند حده ولا يهوس ولا يوسوس ولا يرتاب ولا يشك فهذه هي قدرة الله إذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون.
والآن في عصرنا توجد مدرسة تسمى المدرسة العقلية، وهي حقيقة مدرسة ردية وليست بمدرسة للعقل بل مدرسة زوال العقل، ومدرسة خبل لا مدرسة عقل، ولا عقلاء تقول هذه المدرسة:
(كل خارق للعادة ننفيه أو نؤوله بما يتمشي مع العقل) ، هكذا تقول مع أنه قد علمنا أن الخارق للعادة هو في الأصل ليس خارقاً للعقل وليس بمستحيل ولا يوجد بين خارق العادة والعقل معارضة ولا تضارب حتى نجمع بينهما بل نقول العقل يسلم والله على كل شيء قدير.
وقالوا: لابد من جعل الإسلام بصورة تقبلها الأذهان في هذه الأيام.
قلنا لهم: وماذا تفعلون بالخوارق الموجودة في القرآن أو السنة الصحيحة؟
قالوا: هذه سهلة مثلاً:
1- (اقتربت الساعة وانشق القمر) :
يقول رشيد رضا ومحمد عبده: (وانشق القمر) أي ظهر الحق ووضح، وأما انشقاق القمر فهذه خرافة تتنافي مع العقل والإسلام لم يأت بهذه الأشياء لئلا يحرج الناس وهل النبوة لا تثبت إلا بخوارق العادة؟(6/98)
2- (واضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم) يقولون: حصل في البحر انحسار ثم عاد إلى مكانه وغرق فرعون وقومه، لكن لم يحصل بخارق من خوارق العادة أي لم يحصل بسبب ضرب موسى البحر بعصاه، قلنا لهم إذن كيف يحصل؟
قالوا: البحر فيه مد وجزر فلما وصل موسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه ومن معه إلى شاطئه حصل فيه جزر أي انحسر ماؤه، فسار نبينا عليه الصلاة والسلام، وهذه سنة طبيعية دائمة الحصول في البحر، فإذن جف عندما وصل موسى لكن عندما تبعهم فرعون مد البحر نفسه فحصل فيه امتداد وغرق فرعون.
ولكن هل يقبل هذا التأويل عقل؟
سبحان الله أنتم أردتم أن تمشوا هذه المعجزة مع العقل فأتيتم بما هو أغرب على العقل؟ فكيف سيحصل الانحسار والجزر ثم تمشي فيه المخلوقات ولا تغوص أرجلهم في المكان الذي كان فيه ماء، وانظر للسيل مثلا ً عندما يجف من وادٍ فيبقى الوادي أكثر من شهر ولا تستطيع أن تمشي فيه من أثر الطين والوحل، فكيف هذا الجيش بكامله سيمرون عليه كما قال تعالى (طريقاً يبساً لا تخاف دركاً ولا تخشى) .
ثم لو سلمنا لكم أنه جف بطريق الانحسار والجزر، فكيف الحال مع جيش فرعون الذي كان وراء جيش موسى وما بينهما مسافة؟! كما قال قوم موسى إنا لمدركون فإذا انحسر البحر وتقدم فيه موسى 100 متر فإن فرعون وراءه وإلى أين سيفر موسى ما دام البحر أمامه لم ينحسر إلا جزء منه؟! بل لابد من جفاف البحر كله وهذا لم يحصل، وهذا على التسليم بقولكم.
3- (وتفقد الطير فقال مالي لا أرى الهدهد)
يقولون: الطير هو جيش والهدهد هو اسم أمير الجيش.
4- (حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة)
يقولون: وادي النمل هو اسم لوادٍ يسمى بهذا الاسم، قالت نملة: أي امرأة عرجاء واسمها نملة.
وإنما قالوا كل هذا قالوا: لنخرج القرآن من هذه المعجزات التي لا تتمشى مع العقل فأتوا حقيقة بما لو ثبت لكان هو الذي لا يتمشى مع العقل.(6/99)
إخوتي الكرام ... أول دعامة عندنا من دعامات الإيمان، الإيمان بالرحمن، فهل هذا غيب أم مشاهدة؟ بل هو غيب (الذين يؤمنون بالغيب) ، ولا يثبت للإنسان قدم في الإيمان إلا أن يؤمن بالغيب.
فلم نأتي بعد بذلك ونشوش ونكثر اللغط حول هذه الأمور التي أخبرنا عنها العزيز الغفور الذي إذا أراد شيئا فإنما يقول له كن فيكون.
وهذه المدرسة العقلية لها في عصرنا رواج وانتشار ويستقي من ضرعها المدعو محمد الغزالي جند جنوده وطياشته تحت ستار هذه المدرسة لمحاربة حديث الرسول صلى الله عليه وسلم بحجة أنه لا يتمشى مع العقل فكم من حديث في الصحيحين رواه ويقول لا يتنافى مع العقل.
فمثلا: حديث مجيء ملك الموت إلى موسى – وهو في الصحيحين – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [جاء ملك الموت إلى موسى ليقبض روحه فضربه نبي الله موسى فقلع علينه فذهب إلى ربه وقال، رب أرسلتني إلى عبد من عبادك لا يريد الموت، قال: اذهب إليه فليضع يده على مسك ثور – أي جلد ثور- فإن له بل شعره تغطيها يده سنة] ومعلوم أن موسى كان مما آتاه الله بسطة في جسمه، ويقول عنه صلى الله عليه وسلم في حديث الإسراء [كأنه من رجال أزد شنوءة] أي طويل جهيد ضخم، فالله أعلم كم سيكون حجم يده؟! وتتمة الحديث [قال ثم ماذا؟ قال: ثم الموت، قال من الآن، قال من الآن] .
ويقول هذا المدعو عن الحديث خرافة من الخرافات، أشبه بالخرافات المنقولة عن بني إسرائيل يقول هذا مع أن الحديث في أصح كتاب بعد كتاب الله، وهو البخاري ومن بعده مسلم.
ثم يقول: فكيف يضرب موسى ملك الموت؟ وكيف يقلع عينه؟ وكيف لا يرغب موسى في لقاء الله؟(6/100)
سبحان الله كل هذا لا وجود له في الحديث فمن أين أتيت به؟ كما أن موسى أعلى منزلة من ملك الموت عند الله، يضاف إلى هذا أن الأنبياء لا تقبض أرواحهم إلا بعد تخييرهم فجاء ملك الموت ليخير موسى وهذه للأنبياء خاصة ولذلك قال نبينا عليه الصلاة والسلام على المنبر: [إن عبداً خيره الله بين الدنيا وبين الآخرة فاختار ما عند الله، فبكى أبو بكر رضي الله عنه، قال الصحابة: علام يبكي هذا الرجل؟] وإنما بكى رضوان الله عليه لأنه علم أن هذا العبد المخير هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإذن الأنبياء لا يقبضون إلا بعد أن يخيروا، وإذا قبضوا يدفنوا في مكانهم، والأرض لا تأكل أجسادهم وأبدانهم إكراماً من الله لهم.
فجاء ملك الموت إلى موسى فقال له: أمرني الله بقبض روحك إذا شئت – وقد كان في طبع نبي الله موسى حدة – كما ذكرت لكم وسأوضحه في الآيات السماوية التي حصلت لخير البرية عليه صلوات الله وسلامه في رحلة المعراج فضربه وهو كما قلنا أرفع منه منزلة وهل ضربه (1) في عالم الحقيقة أم في عالم المثال؟
__________
(1) هل صح أن عمر رضي الله عنه قلع عين ملك الموت في قبره؟ لم يحصل هذا لعمر رضي الله عنه وأرضاه لكن النبي صلى الله عليه وسلم – والحديث في الصحيحين – يقول لعمر [ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك] أما أن عمر قلع عين ملك الموت فهذا لم يحصل ولم يقع.(6/101)
بل كان هذا في عالم المثال، فملك الموت لم يأت لموسى بصورته الحقيقية، وكذلك كان جبريل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في غير صورته، فكان يأتي بصورة دحية الكلبي أو في صورة أعرابي سائل وغيرها من الصور ولا يأتيه بصورته الحقيقية إذ أن صورته الحقيقية أن له ستمائة جناح، وملك الموت لو جاء بصورته الحقيقية لهدمت العمارات من رؤية صورته، فإذا جاء ملك الموت بصورة صديق لموسى وهذا من باب الغيب الذي نؤمن به ولا نبحث في كيفيته، فموسى له ومنزلة ورتبه على ملك الموت فضربه فقلع عينه المثالية وليس في هذا إشكال.
وهذا كما لو ضربت شخصاً تحبه ويحبك، وقلعت عينه لكن في المنام ثم أخبرته في الصباح برؤياك فتراه، يقول لك لو قلعت عيني الأخرى، وهل ضربك عندي إلا أحلى من العسل وهذا مشاهد فإذا لوح موسى لملك الموت وضربه في عالم المثال فليس فيه منقصة، فهذا الضرب كان انفعال مؤقت وغضب ولا لأجل نفور منه.
فذهب ملك الموت إلى الله جل وعلا فرد عينه المثالية التي قلت في عالم المثال دون تغير لحقيقة الأمر، ولا تسال عن كيفية هذا.
ثم جاء ملك الموت إلى موسى فقال له: إني مرسل من قبل الله بخبر ٍ آخر، فالله يقول لك إن شئت أن نقبض روحك الآن فقد انتهى أجلك، وإن شئت أن نمد في حياتك فلك ذلك لكن على أن تضع يدك على مسك ثور، فكم سنة ستعيشه يبارك الله لك فيها، فقال موسى: فبعدها؟ فقال له ملك الموت: لابد من الموت، فقال: فمن الآن، فقبض روحه وقال: اللهم قربني وأدنني من الأرض المباركة رمية حجر فيستحب إذن الدفن في الأرض الصالحة المباركة بجوار بيت المقدس وسيأتينا في حديث الإسراء أن النبي صلى الله عليه وسلم رآه عند الكثيب الأحمر قائماً يصلي في قبره، ثم قال: لو كنت ثَمَّ لأريتكم قبره الذي يصلي فيه نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام.
فهل في فهم هذا الحديث على هذا المعنى إشكال؟
فإن قيل: كيف فعل نبي الله موسي هذا في عالم المثال؟(6/102)
نقول: لأنه أعلى من الملك منزلة وله عليه، فله أن يعزره، كما أن للأستاذ أن يعزر أحد طلابه إذا لح عليه في الأسئلة، فله أن يعزره ولو كانت أسئلته كلها جيدة ولا منقصة في هذا للمعزر ولا للمعزر.
وهذا قد كان في القديم، ولكن للأسف الآن ما عاد الطالب ليتحمل تعزيراً من أستاذه بل تراه يصول ويجول إذا قال له الأستاذ أو الشيخ اسكت أو ضغط على أذنيه، ونحو هذا من المتغيرات والله المستعان.
(قصة أحد الطلاب الذين أرادوا تهذيب نفوسهم طلبوا العلم عند أحد المشايخ وألح عليه في طلبه، وبعدما قال له الشيخ كذبت – اختباراً له – اغتاظ الطالب وسب الشيخ ومن علمه وسب أهل الأرض جميعاً..إلخ القصة) .
(قصة شيخنا الطحان مع شيخه الشنقيطي في شأن القنوت لما قال له كذبت، فماذا كان موقف شيخنا الطحان؟)
فهنا عندما يضرب موسى ملك الموت فهل في هذا محظور أو إشكال، وهل هذه منقصة، ووالله لو ضربه في عالم الحقيقة لما كان عليه منقصة لأنه أرفع من ملك الموت.
أوليس قد ضرب أخاه هارون وأخذ بلحيته ورأسه يجره إليه فهذا انفعال في وقت محدد زال أثره بعد ذلك.
فانظر إلى أفكار هذه المدرسة العقلية الردية وانتبهوا منها.
قد يقول قائل: لما جيء بالبراق – الذي ركبه نبينا عليه الصلاة والسلام – مع أنه بإمكان ربنا أن يسري بنبينا عليه الصلاة والسلام إلى بيت المقدس دون البراق؟
نقول: فعل هذا لاعتبارين:
الاعتبار الأول: تأنيس بالعادة عند خرق العادة، فقد جرت العادة عندما يدعوك أمير أو صاحب منصب أن يقدم لك مركوباً ويحضر لك عطية ويرسل من يخدمك من أجل أن يصحبك إلى بيته، فهذا مما جرت به العادة.
فآنس ربنا نبيه بالعادة عند خرق العادة لئلا يكون الخارق من جميع الجهات، بل من جهة يأنس فيقدم له مركوب يركبه، ومن جهة أخرى هذا المركوب خرق للعادة وهذا واضح.(6/103)
الاعتبار الثاني: ليكون أبهى وأفخم لنبينا المكرم عليه صلوات الله وسلامه عندما يسري به إلى بيت المقدس في صورة راكب.
والراكب أعز وأبهى وأعلى مما لو أخذ إلى بيت المقدس في غير هذه الصورة، فلو نقل دون ركوب دابة فيكون قد وصل إلى بيت المقدس في صورة نائم مغمىً عليه، ولو قيل له: ضع خطوك من مكة إلى جهة بيت المقدس ففي خطوتين تصل إلى هناك فهذا يكون قد وصل في صورة ماش ٍ.
وأيها أعز الراكب أم النائم أو الماشي؟ بل الراكب، وانظر إلى ربنا ماذا يقول عن أهل الجنة (وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً) والذي سيق دوابهم لا هم، فيسق المتقون وهم يركبون الدواب، فإذن يدخلون الجنة وهم يركبون الدواب والنجائب – جمع نجيبة وهي السباقة من الخيل الكريمة العتاق – ليكون أعز لهم وأبهى، ولا يساقون لأن سوق الإنسان منقصة له.
وهذا المعني أي معني الآية (وسيق الذين اتقوا ربهم إلى..) يكاد يكون المفسرين مجمعين عليه وما خالف فيه إلا قليل، ولا يوجد أثر مرفوع إلى نبينا عليه الصلاة والسلام في هذه الدلالة، وهي أن المتقين تساق نجائبهم، لكن أخذ المفسرون هذا من قول الله تعالى: (يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً) قال ابن منظور في لسان العرب (4/480) الوفدهم الركبان المكرمون. وانظر إلى كلام الإمام القرطبي رحمه الله في تفسيره (15/285) يقول في حق الفريقين " وسيق بلفظ واحدة فسوق أهل النار طردهم إليها بالخزي والهوان كما يفعل بالأسارى والخارجين إلى السلطان إذا سيقوا إلى حبس أو قتل.
وسوق أهل الجنان سوق مراكبهم إلى دار الكرامة والرضوان لأنه لا يذهب بهم إلا راكبين كما يفعل بمن يشرف ويكرم من الوافدين على بعض الملوك، فشتان ما بين السوقين"
وهذا هو الذي ذكره الإمام ابن كثير في تفسيره (4/65) ، وهذا إخبار عن حال السعداء المؤمنين حين يساقون على النجائب وفداً إلى الجنة.(6/104)
وأما في حق الكفار فقال تعالى (وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمراً) ، فهنا هم سيقوا ودفعوا كما يدفع المسجون المجرم في هذه الحياة لهم، كما قال تعالى: (إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون) ولذلك (احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم) فيدفع أولهم على آخرهم، وآخرهم على أولهم كما يفعل بالمجرمين في هذه الحياة.
ولذلك انظر إلى ما قاله الله عن أبواب الجنة وما قاله عن أبواب النيران:
(حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها) فهذا لأبواب جهنم، أي تفتح بغتة وفجأة، فيساق ولا يدري إلى أن يذهب فلما يقترب منها تصيح وتفتح أبوابها فجأة وتلتهمهم.
وقال عن أبواب الجنة (حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها) فتساق ركائبهم ونجائبهم التي يركبون عليها والجنة مفتحة أبوابها وهم ينظرون إليها فيطيرون شوقاً ويسرجون الدواب من أجل أن يصلوا إلى نعيم الكريم الوهاب، فإذن هنا الأبواب مفتوحة.
ولذلك كان الجلوس عند الباب مذلة، والأمير عندنا في الدولة الإسلامية لا يغلق باباً ولا يتخذ حجاباً، لأنه لو فعل هذا لأذل الرعية، ولما وصل إليه وإلى مجلسه إلا أناس مخصصون.
عن بصر نبينا عليه الصلاة والسلام بحيث رأى بيت المقدس وهو في مكة، وأي غرابة في هذا؟ وهذا ما تفيده رواية الصحيحين [فجلى الله لي] أي أظهر وكشف وبين.
والأمور الثلاثة محتملة والعلم عند الله، فأي ذلك حصل حقيقة؟ لا يعلم ذلك إلا الله، وحقيقة هذه الآية أكبر شاهد على صدق نبينا عليه الصلاة والسلام في دعواه أنه أسري به، وأنه رسول الله حقاً وصدقاً.
الآية الثالثة:(6/105)
وحصلت له في داخل المسجد الأقصى، جمع الله له الأنبياء من سمي منهم في القرآن ومن لم يسم من عهد آدم إلى عهده عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، وتقدم معنا عدتهم (124.000) جمعوا في تلك الليلة، ولما أقيمت الصلاة ليصلوا ركعتين تعظيماً لله تقدم جبريل بأخذ بيدي محمد عليه الصلاة والسلام وقدمه إماماً بهم – وهو أفضلهم وأكرمهم كما تقدم معنا وهو أفضل الخلق على الإطلاق – فصلَّى بهم ركعتين ثم بعد الصلاة جلس الأنبياء يتحدثون بفضل الله عليهم فكل واحد ألقى خطبة – إذن (124.000) خطبة ألقيت في تلك اللحظة – أثنى فيها على ربه وذكر ما من الله به عليه ثم ختم الخطب نبينا عليه الصلاة والسلام فقال في خطبته: إن الله بعثني رحمة للعالمين، وأرسلني للناس كافة بشيراً ونذيراً وأنزل علي القرآن فيه تبيان كل شيء وجعل أمتي خير الأمم وجعل أمتي وسطاً وأمتي هم الأولون والآخرون يوم القيامة – أي آخرون في الزمن، والأولون أي يوم القيامة – وشرح الله صدري ووضع عني وزري ورفع لي ذكري وجعلني فاتحاً وخاتماً، ففتح الله به آذاناً عمياً وقلوباً غلفاً وآذاناً صماً وهو خاتم النبيين فقال خليل الرحمن إبراهيم بهذا فضلكم محمد، وإبراهيم هو الذي يليه في الفضل وهو صاحب المرتبة الثانية بعد نبينا عليه الصلاة والسلام فاعترف أن هذا النبي هو أفضل أنبياء الله ورسله.(6/106)
والحديث في ذلك وارد في المعجم الكبير للطبراني، ومسند البزار، ومسند أبي يعلى بسند رجاله رجال الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: [ثم دخلنا المسجد فنشر الله لي الأنبياء من سمي ومن لم يسم – أي في القرآن – فصليت بهم ... ] وانظروا الحديث إخوتي الكرام في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (1/68) للإمام الحافظ ابن حجر الهيثمي، وهو غير ابن حجر الهيتمي، وغير ابن حجر العسقلاني العالم الحافظ المشهور فلا تخلطوا بين الثلاثة فالهيثمي توفي سنة 807هـ، والهيتمي من علماء القرن العاشر الهجري، والعسقلاني توفي سنة 852 هـ وهو تلميذ الهيثمي.
أخوتي الكرام ... من هذا الكتاب (مجمع الزوائد ومنبع الفوائد) لو وزن بالذهب وقيل لطالب العلم اختر الذهب أو هو، لقال الطالب الحقيقي لو أعطيتموني عشرة أمثاله من ذهب، لما أخذتها وأخذت الكتاب.
وهذا الكتاب في زوائد ستة كتب على ستة كتب، فإذا جمعت الستة مع هذا تكاد أن تكون جمعت السنة بأسرها وقل أن يخرج حديث عن هذه الكتب التي هي ستة مع هذا الكتاب.
فهذا زوائد ستة كتب وهي مسند الإمام أحمد، ومسند البزار، ومسند أبي يعلى والمعجم الكبير للطبراني، والمعجم الأوسط له والمعجم الصغير له أيضاً.
على ستة كتب وهي البخاري ومسلم وأبو داوود والنسائي والترمذي، وابن ماجه (وفي الحقيقة قد جرى خلاف بين العلماء في عد الكتاب السادس من اصطلاح الكتب الستة) المشهور هل هو ابن ماجه وهو المشهور أو موطأ مالك كما هو في جامع الأصول لابن الأثير أو مسند الدارمي، والذي مشى عليه الهيثمي في مجمع الزوائد هو عد ابن ماجه) .
الآية الرابعة من الآيات الأرضية:
وحصلت له في بيت المقدس أيضاً، وتكررت في السماء فلن نعيد الكلام عليها عندما نصل إلى الآيات السماوية التي رآها خير البرية صلوات الله عليه وسلامه عندما عرج به.
هذه الآية هي أنه قدم له أربعة أقداح:(6/107)
وهذا خلاصة الروايات وبعد أن أذكرها لكم وحاصل ما فيها أرشدكم إلى مصادرها لترجعوا إليها لأن في بعض الروايات أنه قدم له قدحان، وبعضها ثلاثة أقداح وبعضها أنه حصل هذا في بيت المقدس وبعضها أنه حصل في السماء عند سدرة المنتهى.
والمعتمد أنه تكرر عرض الآنية على نبينا عليه الصلاة والسلام مرة في بيت المقدس ومرة في السماء وكل مرة لها حكمة كما تقدم معنا في شق صدر النبي صلى الله عليه وسلم أربع مرات وكل مرة لها حكمة وهذا الأمر كذلك، ومجموع الآنية أربع لكن بعض الرواة قصر في الحفظ فذكر بعض هذه الآنية.
الحاصل أن مجموع ما عرض على الرسول صلى الله عليه وسلم أربع آنية في حادثة الإسراء بعد أن ألقى كل نبي خطبته في بيت المقدس: يقول النبي عليه الصلاة والسلام: [ثم جاءني جبريل بأربعة آنية، إناء فيه ماء،وإناء فيه عسل، وإناء فيه لبن، وإناء فيه خمر، فقال: ألا تشرب يا محمد؟ عليه صلوات الله وسلامه] وكان سبب هذا الشرب وسبب عرض الآنية عليه هو لما حصل له من العطش في هذه الرحلة المباركة من مكة إلى بيت المقدس فإذن كان عرض الآنية عليه في الدنيا من أجل دفع الظمأ والعطش -[قال: فأخذت إناء الماء فشربت منه قليلا ً، فقال لي جبريل: لو ارتويت منه لغرقت وغرقت أمتك] والسبب في هذا أن الماء ليس كاللبن الذي هو شراب وغذاء، إذ أن اللبن غذاء الفطرة وأما الماء فهو دافع العطش والظمأ فقط فيأخذ الإنسان بمقدار دفع الحاجة فلو أخذ منه أكثر من المطلوب لآذى نفسه، ولو سلك الإمام طريق الأذى فالرعية سيسيرون وراءه، فأنت لو أخذت من الماء أكثر من حاجتك لنتج عن هذا أنك تغرق في شعب الدنيا وأوديتها وحطامها ولذائذها وتنهمك فيها وتعرض عن الآخرة وحاشاك من ذلك، إنما هذا على سبيل الافتراض البعيد ولغرقت أمتك أي لتبعت الدنيا وأعرضت عن الآخرة.(6/108)
إذن الانهماك في الماء والأخذ منه فوق الحاجة يدل على ركون إلى الدنيا، وقد كان نبينا عليه الصلاة والسلام أزهد خلق الله في حطام الدنيا وهو الذي يقول: [مالي وللدنيا إنما أنا كراكب قال تحت شجرة ثم راح وتركها] ، وقال في الحديث (قال) ولم يقل (نام) لأن القيلولة وقتها قصير من بعد الظهر إلى العصر بخلاف النوم، فإنه يكون طويلا ً لوقوعه في الليل، وهذا هو حال نبينا عليه الصلاة والسلام كان قليل النوم وكان يقوم الليل حتى تورمت قدماه، فإذا فرغت فانصب أي إذا فرغت من طاعة فانصب إلى طاعة أخرى وعملك جد متواصل وليس عندك كسل ولا فتور كما هو الحال في جامعاتنا الهابطة (4) شهور إجازة وعطلة، أي الطالب يصبح عاطلا ً، وطالب العلم الحقيقي لا يتوقف عن العلم إلا في مناسبات شرعها الإسلام كالعيدين، وما عداهما فلا ينبغي أن يتوقف عن العلم أو يعطى عطلة والله المستعان، فلا يوجد في قاموس المسلمين شيء اسمه عطلة لأن الله سبحانه يقول لنبيه ونحن له في هذا تبع (فإذا فرغت فانصب) ، فإذا فرغت من طاعة وعمل فانصب إلى عمل آخر ولا تظن أن العمل انتهى لأن الدنيا مزرعة الآخرة ولابد من غرس عمل متواصل، أما الحصاد ففي يوم الدين (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره) والمزارع لا يعرف العطلة في موسم الزراعة، فذاك هو حال نبينا عليه الصلاة والسلام مع الدنيا.
[وأما إناء العسل فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم وشرب منه قليلا ً] وذلك لأن العسل شفاء كما قال تعالى (يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس) فإذن هو بمثابة الدواء والإنسان يأخذ منه بمقدار الحاجة، فالنبي صلى الله عليه وسلم أخذ منه غذاءً لشفاء البدن وصحته.(6/109)
والعسل من آيات الله البارزة التي يخرج من هذا الحيوان وهي النحلة، قيل لبعض الصالحين: بأي شيء عرفت ربك؟ قال: بالنحلة قالوا: وكيف؟ قال: بأحد طرفيها تعسل وبالطرف الآخر تلسع، ومقلوب العسل لسع، أي عكس كلمة (عسل) خطاً (لسع) .
وهذا من عظيم قدرة الله كيف يخلق المتضادات وليس المتناقضات في بدن واحد، ففيها سمية وفيها مادة حلوة عسلية، والعسل هذا من الأغذية المباركة وقد ثبت في سنن ابن ماجه ومستدرك الحاكم (4/200، 403) بسند صحيح كالشمس عن عبد الله بن مسعود مرفوعاً، وروي موقوفاً عليه بإسنادين والموقوف له حكم الربع وفيه [عليكم بالشفاءين العسل والقرآن] أما القرآن فقوله تعالى دال على ذلك (قد جاءكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين) وهو – أي القرآن – لعقولنا كالشمس لأعيننا، وعين بلا أنوار لا ترى وعقل بلا وحي لا يهتدي، وهو لأرواحنا كالماء للسمك، فسمك بلا ماء لا يعيش وأرواح بلا قرآن ميتة (أومن كان ميتاً فأحييناه) (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا) .(6/110)
وأما العسل فهو الشفاء الثاني، وقد توصل من نحاسة بعض الأطباء ونكدهم وغلظ قلوبهم وفساد عقولهم في هذه الأيام أنهم يصفون الخمر علاجاً لبعض الأمراض؟ فهل يعقل أن تصبح أم الخبائث شفاءً والشفاء صار داءً؟ لكننا في عصر اختلت فيه الموازين من جميع جهاتها فصار الباطل حقاً والحق باطلا ً، وصار الكذاب صادقاً والصادق كذاباً، ونطق الرويبضة في أمر العامة وهو الحقير ابن الحقير؟ ، فإذن صار الشفاء وهو العسل في عصرنا داءً، وهذا العسل مثل التمر الذي هو أطيب طعام وأنفعه للبدن، ويقول الأطباء – وسيأتينا الإشارة له عند اللبن – لا يوجد غذاء فيه جميع ما يحتاجه الجسم إذا أخذه الإنسان لا يحتاج غيره إلا اللبن والتمر فقط، ولو عشت طول حياتك لم تأكل إلا لبناً وتمراً لعشت في أتم صحة وعافية، وقد كانت أهلة تمرُّ على بيوت النبي صلى الله عليه وسلم التسع ولا يوقد في بيته نار، فقال عروة: يا خالتي – عائشة – ما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان التمر والماء. ولم تقل الأبيضان من باب التغليب وتعلق الصحة بالتمر، وجعلته أسود لأن غالب تمر المدينة أسود.
[استطرد الشيخ في ذكر خبث الغرب في تحضيرهم للأغذية وأنهم لا يتورعون عن تنجيسها بغائطهم وبولهم ثم ذكر شيخ الإسلام مصطفى صبري آخر شيخ للإسلام لآخر دولة إسلامية وهو صاحب كتاب (موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين) في أربع مجلدات، وصاحب كتاب (قولي في المرأة) رد فيه على قاسم أمين، الشاهد يقول شيخ الإسلام مصطفى صبري في كتابه (موقف العقل والعلم والعالم) لو أن الكفار صدروا إلينا عذرتهم رطبة لأكلناها، وهو كذلك، وما مرت فترة على الدولة الإسلامية ضربت فيها بالذل نحو أعداء الله إلا في هذا الأيام وهذا العصر)(6/111)
فالعسل هو الشفاء والخمر هو الداء، وإذا كان الأمر كذلك فلا داعي لأن نشرب زجاجة العسل كلها بل نشرب بمقدار الحاجة. ولذلك فقد شرب النبي صلى الله عليه وسلم ما يحتاجه فقط.
[وأما اللبن فشرب منه نبينا صلى الله عليه وسلم وتضلع] أي حتى صار اللبن – والمقصود باللبن الحليب – في جميع ضلوعه وملأها بحيث ما بقي فيه مسلك، فتضلع كما يسن لنا أن نتضلع من ماء زمزم، أي لا يبقي في أضلاعك وبينها فجوة إلا ودخلها ماء زمزم، وآية ما بين المؤمنين والمنافقين التضلع من ماء زمزم وماء زمزم لما شرب له كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام والحديث بسند حسن وتقدم.
فإذن كما تتضلع من ماء زمزم لأجل البركة، فاللبن تضلع منه نبينا عليه الصلاة والسلام لأنه غذاء الفطرة، وهو شراب وطعام، وعليه يعيش المولود من بني الإِنسان في صغره فيبقى سنتين يرضع من ثدي أمه هذا ولا يأكل ولا يشرب غيره.
إذن فإذا كنا على فطرتنا السوية فإننا نتزود من اللبن ولذلك أرشدنا نبينا صلى الله عليه وسلم إلى أدب ينبغي أن نحافظ عليه إذا شربنا اللبن لنخبر عن استقامة فطرتنا، وإذا أكلنا أو شربنا غيره نقول دعاءً آخر ثبت في مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود والترمذي وابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [من أطعمه الله طعاماً فليقل: اللهم بارك لنا فيما رزقتنا وارزقنا خيراً منه، ومن أسقاه الله لبناً فليقل: اللهم بارك لنا فيما رزقتنا وزدنا منه] فلم يقل هنا وارزقنا خيراً منه بل قال وزدنا منه، بينما ذكر في الأول وارزقنا خيراً منه لأن كل طعام هناك ما هو خير منه وأنفع وأطيب ثم قال: [فإني لا أعلم ما يجزيء عن الطعام والشراب إلا اللبن] فلا تقل إذا شربت لبناً وارزقنا خيراً منه.
ولأجل ذلك تضلع النبي صلى الله عليه وسلم من اللبن، وما بقي بين ضلوعه مسلك لدخول قطرة من شراب، [فقال له جبريل: هديت الفطرة] .(6/112)
[وأما الخمر فما مد نبينا صلى الله عليه وسلم يده إليه أبدا ولم يشرب منه] .
وقد يقول قائل: ولم لم يشرب منها وهذه من خمر الجنة التي لا تسكر وليست من خمر الدنيا المسكرة بل هي من نهر الخمر الذي يجري في الجنة مع الأنهار الأخرى التي تخرج من أصل سدرة المنتهى؟
نقول: حتى لا يقوم مقام تهمة، وحتى لا يقف موقف تهمة، لأن لفظها واسمها خمر والخمر محرمة في الدنيا على هذه الأمة وحتى لا يقال إن النبي صلى الله عليه وسلم شرب الخمر رغم أنها طاهرة وتلك مسكرة إلا أن الناس والعامة لا تعرف هذا ولا تدركه ولو عرفته لبقي في نفسها شيء نحو رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم فلأجل أن يحصل التذرع بفعل النبي صلى الله عليه وسلم – الذي هو حقيقة لا إشكال فيه لو فعله – إذا شرب الخمر، فما شربها صلى الله عليه وسلم لأجل ذلك [فقال له جبريل: لو شربت الخمر لغويت وغَوِيَتْ أمتك] ، وفي رواية [قال له: لما اتبعك أحد] لأنهم سيتوسعون ويخرجون عن دين الحي القيوم فيقولون نبينا شرب الخمر فنحن أيضاً نشربها مع اختلاف الخمرين لكن العامة لا تدرك هذا ولا تعيه.
إخوتي الكرام ... العلماء ينظر إليهم العامة دائماً ويقتدون بهم، فالعالم إذا توسع في المباح توسع العامة في المكروهات، وإذا توسع في المكروهات توسعوا في المحرمات فإذا وقع العالم في الحرام كفرت العامة فتنبهوا لهذا رحمكم الله.(6/113)
لذلك لا يجوز للمؤمن أن يقوم مقام تهمة أو أن يقف موقف ريبة، فمثلا ً إذا ذهب طالب العلم إلى مكان ريبة، ومكان فساد كشواطئ البحار ولكن ابتعد عن مكان الفساد وصد وجهه عن المفسدين فهذا في الحقيقة ليس عليه وزر أو إثم لكن لو رآه الناس موجوداً في هذا المكان لبدأوا باتهامه، ولو كان يجلس بعيداً لأن الناس لا تعذر، فكان الواجب على هذا الطالب أن لا يذهب إلى هذا المكان المحدد أو في هذا الوقت بل يحاول أن يتجنب مثل هذه الأوقات والأماكن حتى لا يتكلم عليه الناس ولا يتذرع العامة بفعله.
فمن أقام نفسه مقام ريبة وتهمة فلا يلومن من أساء به الظن، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقمن مقام تهمة وريبة – هذا ليس بحديث ولكن معناه صحيح – وقد وردت أحاديث بهذا المعنى منها في الصحيحين [فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه] ودلَّ عليه حديث في المستدرك وسنن الترمذي وغيره بسند صحيح عن عطية السعدي: [لا يبلغ العبد درجة المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس] .
فيحتاط نبينا عليه الصلاة والسلام – وهو إمامنا في الاحتياط والورع – لم يمد يده إلى الخمر مع أنها طاهرة وحلال ومنعشة ونافعة سنشربها في الآخرة حتى لا يتذرع العامة بفعله إذا شربها.
وهذه الآنية عرضت على نبينا عليه الصلاة والسلام في بيت المقدس – كما ذكرنا – لدفع العطش وعرضت عليه فوق السموات العلا عند سدرة المنتهى من باب الضيافة والكرم، فلما رأى هذه الأنهار الأربعة تنبع من أصل سدرة المنتهى قدم له من كل نهر إناء فيه من ذلك النهر.
وحاله في السموات كحاله في الأرض فشرب من الماء قليلا ً، والعسل قليلا ً، واللبن تضلع منه وأما الخمر فما مد نبينا عليه الصلاة والسلام يده إليه أبداً.
ومن رأى نفسه في المنام وهو يشرب لبناً فليحمد الله، لأن هذه الرؤيا تدل على أمرين:
(1) أنه على الفطرة والدين المستقيم.
(2) أن الله سيمنحه العلم النافع العظيم.(6/114)
وفي صحيح البخاري في كتاب التعبير بوب البخاري باباً بهذا الخصوص، فقال: باب اللبن في النوم، ثم ساق الحديث إلى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [بينما أنا نائم أتيت بقدح من لبن فشربت منه حتى إني لأرى الري يخرج من تحت أظافري، ثم أعطيت فضلي عمر، قال فما أولت ذلك يا رسول الله، وقال: العلم] وعمر هو سيد المُحَدِّثين والْمُلْهَمِيْنَ في هذه الأمة فلا غرابة.
وثبت في مسند البزار بسند فيه ضعف ويشهد له ما تقدم والحديث في مجمع الزوائد (7/183) في كتاب تعبير الرؤى، باب اللبن في المنام من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [اللبن في المنام فطرة] .
وفي حديث البخاري السابق منقبة لعمر وقد حصلت منقبة أخرى له في صحيح البخاري أيضاً في كتاب العلم يقول نبينا عليه الصلاة والسلام [رأيت الناس يعرضون عليَّ وعليهم قُمُص – جمع قميص وهو ما يلبسه الإنسان، منها ما يبلغ الثدي ومنها ما دون ذلك وعرض عليَّ عمر بن الخطاب في ثوب يجره، قالوا: فما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال الدين] .
الآية الخامسة:
وهي من الآيات الأرضية، وهي ما رآه صلى الله عليه وسلم في طريقه من مكة إلى بيت المقدس.
فقد رأى آيات عظيمة وهي كثيرة كثيرة كثيرة ولا أريد التوسع فيها، لكن ارجعوا إلى مجمع الزوائد (1/65) فما بعدها وانقلوا هذه الآيات واكتبوها مع هذا المبحث وانظروا في فتح الباري (7/199) فما بعدها وانظروا في جامع الأصول (11/310) .
وسأقتصر هنا في شرحي على آيتين والباقي تأخذونه من هذه الكتب فإنه كثير كثير:
1- الآية الأولى: ثبت في صحيح مسلم وسنن النسائي عن أنس رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مررت ليلة أسري بي على موسى في قبره عند الكثيب الأحمر- وهو التلة من الرمل – وهو قائم يصلي] .(6/115)
وقد كنت أشرت سابقاً إلى أن أجساد الأنبياء في قبورهم لا تتغير، وهم أحياء فيها حياة يعلمها الله، ولا نعلم كيفيتها، ويكرمهم الله بكرامات عظيمة كما كان يكرمهم في حياتهم، من هذه الكرامات أن نبي الله موسى كان يصلي في قبره، ورآه نبينا عليه الصلاة والسلام يصلي في قبره، فإن قيل: كيف هذا؟ نقول: قلنا إن حادثة الإسراء والمعراج معجزة ونبي الله موسى في عالم البرزخ، فالاطلاع عليه هذا من باب خرق العادات والممكنات التي أكرم الله بها خير البريات عليه صلوات الله وسلامه.
وقال النبي صلى الله عليه وسلام لأصحابه لما ذكر لهم ذلك [لو كنت ثَمَّ لأريتكم قبره] ، أي لو كنت أنا وأنتم في ذلك المكان لأريتكم قبره عند الكثيب الأحمر عند البلاد المباركة.
فهذه آية نؤمن بها وهي من الإيمان بالغيب الذي نؤمن به ونكل علم معرفته إلى خالقه.
2- الآية الثانية: وإنما اخترتها وأردت ذكرها لما فيها من غبرة وعظة، وهي إذا كانت المرأة تصل عزيمتها إلى هذا الحد، فالرجل ينبغي أن يستحي من الله وأن تكون عزيمته – على الأقل كعزيمتها – لا أقل منها.
فهذه الكرامة التي رآها نبينا عليه الصلاة والسلام لامرأة صالحة ضعيفة مستضعفة وهذا كله من باب الاطلاع على ما في عالم البرزخ من عذاب أو نعيم، وعالم البرزخ لا يمكن أن نعلمه إلا عن طريق وحي صادق، فإذا نطق من لا ينطق عن الهوى آمنا به وصدقناه.
ثبت في مسند الإمام أحمد والبزار والمعجم الكبير للطبراني والمعجم الأوسط له أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما عن نبينا عليه الصلاة والسلام قال: [مررت ليلة أسري بي بوادٍ فإذا فيه ريح طيبة، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذه رائحة ماشطة ابنة فرعون وأولادها] .
س: ما السبب في حصول هذه الكرامة لها؟(6/116)
جـ: [كانت تسرح شعر ابنة فرعون وتمشطه فسقط المشط من يدها، فقالت باسم الله، فقالت هذه العاتية ابنة فرعون: أبي] أي باسم أبي الذي هو إله فالله يعني أبي، لأنه قال: أنا ربكم الأعلى، وكان رباً – كما يدعي – لأن الأنهار تجري من تحته، فتقول له يا منحوس، من الذي أجرى الأنهار من تحتك؟ فإنك تفتخر بملك غيرك، وتفتخر بنهر أجراه غيرك هل أنت الذي أجريتها وهل أنت الذي شققتها؟ إن هذه الأنهار التي تجري من تحتك عما قريب ستجري من فوقك وكل من ادعى دعوى قتله الله بدعواه.
يقول أئمتنا احذروا الدعوى، هي بلوى وإن صحت، فلا تقل أنا أحفظ وأنا أعلم كذا، فإنك حتى ما قلت (أنا) استوجبت الخزي بل الواجب أن تقول هذا بفضل الله وبرحمته ولذلك قال الله في الحديث القدسي: [فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه] ، (وما بكم من نعمة فمن الله) فهو الذي وفق.
ولذلك العاتي النمروذ عندما تكبر وتجبر وقال أنا أحيي وأميت، أماته الله بأضعف جنده ببعوضة فقط، فدخلت إلى دماغه من أنفه، وبدأت تدور في رأسه فكان يجمع حاشيته وأصحابه ويعطيهم الأحذية الكبيرة الثقيلة ويقول لهم أخفقوني على رأسي لأجل أن تموت هذه البعوضة، فكان وزراؤه يضربونه – وقد كانت البعوضة تخمد عندما يأتيها الضرب فتقف ولا تتحرك، فإذا توقفوا عن الضرب بدأت بالحركة والطيران داخل دماغه حتى قتل ضرباً بالأحذية، فأنت يا من تقول بأنك تحيي وتميت لم تستطع أن تميت بعوضة، فإذن كل من ادعى بدعوى قتله الله بدعواه.
قال هارون الرشيد لمحمد بن السماك – وكان من العلماء الواعظين الصالحين – إذا كان الله حكيماً وخلق كل شيء لحكمة فعلام خلق الذباب؟ فقال: ليذل به الملوك يا أمير المؤمنين، أي أنت يا أمير المؤمنين لا يدخل عليك أحد إلا باستئذان إلا الذباب فإنما يدخل من غير استئذان.(6/117)
[فالماشطة سقط المدرا (المشط) من يدها فقالت باسم الله، قالت ابنة فرعون: أبي قالت: لا ربي وربك ورب أبيك، فقالت: أأخبر أبي بذلك؟ قالت: أخبريه، فأخبرته، فدعاها فرعون فقال لها: ألك رب غيري؟ ، قالت: نعم، ربي وربك الله، فأمرها أن تحضر هي وأولادها وقال: إما أن ترجعي عن دينك وتدخلي في ديني وتؤمني بأنني أنا الله الرب وإما أن أقتلك، فقالت، اقتلني بما شئت ولكن لي طلب عندك، قال: لك ما تريدين، قالت: إذا قتلتني فاجمع بين عظامي وعظام أولادي وادفنا في قبر واحد، فقال: لك ذلك] فوافق على ذلك لما لها عندهم من المنزلة والمكانة إذ أنت من خدم البيت ومن الحاشية لكن لأنك خرجت عن الدين فلابد لك من القتل.
[فأتي بنقرة من نحاس] وهي الحلة الكبيرة والقدر الواسع بحجم الغرفة بل البيت وهذه هي التي عذب بها النصارى في بلاد الأندلس المسلمين لما سقطت الأندلس، فقد كانوا يأتون بهذه القدور – النقرة – ويضعون تحتها ناراً حتى يحمى الماء فيها ويغلي غلياناً عظيماً، ثم يؤتى بالمؤمن، ويقال له إما أن ترجع عن دينك وإما أن نلقيك فيها وهم أفواج فلا يرجع عن دينه ثم يأتي بالثاني ويخير وهكذا وما يصدهم ذلك عن دين الله رغم ما يرونه من العذاب الشديد لدرجة أن هذا الماء من حرارته يذوب فيه اللحم والعظم فلا يبقي للمؤمن أثر فيه ولكنهم يثبتون على إيمانهم.
(قصة أحد المشايخ الذين حاولوا دخول مسجد قرطبة الذي صار كنيسة وكيف منعهم القسيس من دخوله – إلخ القصة)
[فأحماها وبدأ يضع أولادها واحداً بعد واحد فيها وهي تصبر وتحتسب حتى ألقاهم جميعاً وبقي بين يديها ولد صغير لازال رضيعاً في المهد فأشفقت عليه وخافت، فلما أخذوه منها ليلقى في هذه النقرة ارتاعت وتغيرت، وفظن فرعون أنها سترجع عن دينها شفقة على ابنها الصغير، فقال هذا الغلام الصغير: يا أماه إنك على الحق فاصبري وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة](6/118)
قال نبينا عليه الصلاة والسلام: [لم يتكلم في المهد إلا أربعة ابن ماشطة فرعون، وشاهد يوسف، وعيسى عليه السلام، وصاحب جُريج]
وصاحب جُريج هذا حديثه في الصحيحين وهو عابد وراهب [عندما كان يصلي دعته أمه فقال اللهم أمي وصلاتي] ولو كان فقيهاً لأجاب أمه لأنه إذا دعتك أمك وأنت في نافلة فاقطع النافلة وأجب أمك لأن إجابتها فريضة والنافلة سنة لك أن تقطعها. [ثم قالت: يا جُريج، فقال: اللهم أمي وصلاتي، ثم قالت: يا جُريج (للمرة الثالثة) فقال: اللهم أمي وصلاتي فقالت أمه: والحمد لله أنها لم تدع عليه بغير هذا – اللهم لا يموت جُريج حتى يرى وجوه المياميس – أي الزانيات – وكان هناك راع يرعى الغنم وهناك امرأة بغي اتصل بها هذا الراعي عن طريق الحرام وأحبلها قيل لها من أين هذا؟ قالت: من جُريج العابد الذي يعبد ربه في هذه الصومعة، فغضب بنو إسرائيل وحملوا المعاول والعصي وجاءوا إلى صومعته فهدموها، فقال لهم ماذا تفعلون؟ قالوا: تدعي أنك عابد راهب معتدل ثم بعد ذلك تعتدي على هذه المرأة، فقال: أين الغلام؟ فقيل له هذا، فأتى إليه جُريج ونقر على بطنه وقال: من أبوك يا بابوس؟ قال: فلان الراعي، فأكب الناس على قدمي جُريج يقبلونها ويقولون له نبني لك صومعة لبنة من ذهب ولبنة من فضة فقال: بل أعيدوها كما كانت] .
لكنه رأي وجوه المياميس رأى هذه المرأة التي وجهها منكر فيه هذا البلاء والغضب لأنه ما أجاب أمه، حذار حذار أن يدعو عليك أحد والديك إذن فهؤلاء تكلموا في المهد.
[فلما قال لها الغلام هذا طرحت الولد في النقرة ثم أخذوها وألقوها مع أولادها فاحترقوا جميعاً فجمع فرعون – عليه لعنة الله – عظامهم (1)
__________
(1) كيف شم النبي صلى الله عليه وسلم رائحة قبرها مع أن طريق الرحلتين لا يمر على مصر فكيف كان هذا وبماذا يفسر؟
لا يلزم من شم نبينا عليه الصلاة والسلام لتلك الرائحة الزكية الطيبة في رحلته أن يكون قبر الماشطة وأولادها في طريق النبي عليه الصلاة والسلام فقبرها وقبر أولادها في بلاد مصر إخوتي الكرام ... كما قلنا هذه من أحوال البرزخ التي أطلعها الله لنبيه عليه الصلاة والسلام: ولتوضيح الأمر: ألم ير النبي صلى الله عليه وسلم في طريق رحلته أناساً تقرض ألسنتهم وشفاههم مقاريض من نار، ثم قال من هؤلاء يا جبريل؟ فقال له: هؤلاء خطباء الفتنة.
وهؤلاء لم يوجدوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم إنما سيوجدون بعده وسيخطبون لكنهم عرضوا عليه في هذا الوقت وكذلك رأى عذاب من يتثاقل عن الصلاة والصلاة إلى ذلك الوقت لم تفرض ورأى عذاب من لا يؤدي الزكاة والزكاة لم تفرض إلى ذلك الوقت، فإن قيل: كيف هذا؟ نقول: هذا من باب إطلاع الله لنبيه عليه الصلاة والسلام على مغيب وقع أو سيقع، وكذا قبر ماشطة فرعون لم يكن في طريقه لكن أطلعه الله عليه وأشمه رائحته.
إذن فلا يشترط فيمن رآهم يعذبون أن يكونوا في طريق رحلته بل هذا كله من خوارق العادات ومن إطلاع الله لنبيه عليه الصلاة والسلام لبعض المغيبات ولا إشكال في هذا.
ولذلك فبالنسبة للأنبياء عليهم الصلاة والسلام عندما جمعهم الله في بيت المقدس وجمع له بعضهم في السموات العلا هل كان الاجتماع بأرواحهم أم بأرواحهم وأجسادهم؟ ذكر الحافظ ابن حجر الأمرين قيل. بعثوا من قبورهم من جميع أقطار الدنيا وقيل أرواحهم تشكلت في بيت المقدس قلت: السكوت في هذه المواطن من ذهب لأنها من أمور الغيب. وأمور الغيب إذا لم نطلع عليها فنؤمن بها دون البحث في كيفيتها، إذا جمع الله أجسادهم فهو على كل شيء قدير وإذا شكل الله أرواحهم فهو على كل شيء قدير ولا يجوز مطلقاً أن نفهم ما يجري في البرزخ على حسب ما يجري في الدنيا فهذا الدار لها أحكام وقوانين خاصة.
فنحن في الدنيا الأحكام من عذاب ونعيم تقع على البدن فقط والروح تتأثر بذلك تبعاً للبدن لا أصلا ً وفي البرزخ على العكس تماماً فالنعيم والعذاب يقع أصالة على الروح، والبدن يشعر بذلك تبعاً.
وفي الآخرة فهذه أكمل الدور – فالأحكام من عذاب ونعيم يقع أصالة على الروح والبدن كل واحد يشعر بعذاب ونعيم دون تبعية لغيره، (مثل ضربه الشيخ باستعمال ميزان البصل في وزن الذهب) فلكل شيء موازين خاصة فإياك أن تقيس البرزخ على الدنيا، وإياك أن تقيس الآخرة على البرزخ.(6/119)
ودفنهم في قبر واحد] ولذلك فهؤلاء لهم ذلك النعيم العظيم لهم في البرزخ فبمجرد أن دفنوا حصلت لهم تلك الرائحة الشذية العطرية الطيبة من قبرهم في ذلك.
فإذن النبي صلى الله عليه وسلم لما أسري به شم هذه الرائحة الطيبة من ماشطة ابنة فرعون ومن أولادها الذين قتلوا معها.
إخوتي الكرام ... هذا حال الحق عندما يدخل القلوب سواء كانت عند ذكور أو عند إناث، فانظروا إلى ثبات هذه المرأة على الحق وعدم مبالاتها بأطغى أهل الأرض في ذلك الوقت هو فرعون وماذا يملك فرعون وغيره من الجبابرة؟ هل يملك أكثر من قطع الرقبة؟ لا، ولكن الحال كما قال السحرة لفرعون (فاقض ما أنت قاض ٍ إنما تقضي هذه الحياة الدنيا) . أما غير هذا فليس في وسع أحد أن يفعله.
ثم إن الموت سيصير إليه القاتل والمقتول، فهل سلم فرعون من الموت، وهل الأنبياء سلموا من الموت؟ لا، فهل في موتي منقصة لي؟ وليس القوي الذي يخاف من موت بدنه، إنما القوي الذي يخاف من موت القلب، فالقلب إذا مات هنا الطامة، وهذا الذي يوجب غضب الله والخسران للأبد أما موت البدن فما الذي يُخوِّف منه؟ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم [تحفة المؤمن الموت] ، فالمسلم إذا مات انتقل من عناء إلى لقاء رب الأرض والسماء، انتقلت من شدة وبلاء إلى نعيم ورخاء. فإذا مت فماذا في هذا؟!! ووالله إن نعمة الله علينا بالموت أعظم من نعمته علينا بالحياة، فإذا مت انتقلت من دار إلى دار، ولذلك للإنسان ثلاث دور الدار الأولى: الدنيا وفي الدنيا دور متعددة أولها بطن الأم فهذا وإن سكنته وخرجت منه، ثم هذه المساكن التي تسكنها الله أعلم بعددها تسكن في الشام في مصر في لبنان في مصر في استراليا العلم عند الله.
الدار الثانية دار البرزخ، وهي أوسع من دار الدنيا وأحسن منها بكثير ثم أكمل الدور وأتمها وهي الدار الثالثة دار الآخرة.(6/120)
فإذن الانتقال إلى البرزخ بالموت كالانتقال من رأس الخيمة إلى مصر ولا فرق هنا عباد وهناك عباد قال تعالى: (يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون) فهل يشترط أن نقيم في رأس الخيمة؟ كلا، إذن فكذلك لا يشترط أن نقيم في الحياة فأنت في كنف الله ورعايته إن كان في الدنيا تقوم بالواجب عليك، وإن كان في البرزخ فلا واجب عليك بل يكرمك الله جل وعلا بكرامات لا تخطر على بال وإن كان في الآخرة فرحمتُهُ أوسع وأوسع.
فالمؤمن إذن لا يخاف الموت بل إنه يفرح بالموت وكان عدد من الصالحين إذا جاءهم الموت يقولون: حبيب، جاء على فاقة، لأننا في الدنيا نتألم كما يتألم الكفار لكن في النتيجة نختلف، فنحن يأتينا الموت راحة وهم ينتقلون من عذاب إلى عذاب أشد (إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله مالا يرجون) وهذه الآية في المعارك فنحن نرجو الشهادة وهم يرجون عرضاً من الدنيا ولو لم يكن في الدنيا تعب إلا إدخال الطعام وإخراجه لكفى، فعندما يمضغ ويأكل في اليوم مرتين أو ثلاثاً، ثم يجلس في الخلاء في صورة يستحي منها أفليس في هذا تعب؟ وهذا غير ما يحصل لك من نكد أو تعب أو إيذاء في هذه الدنيا، وكذلك فأنت تملأ وتفرغ وتملأ وتفرغ وهكذا ولذلك كان بعض الصالحين يقول: أشتهي أن يجعل الله رزقي في حصاة أمصها والله استحيت من ربي من كثرة دخولي الخلاء.
وهذا الطعام الذي يدخل إلى جوفك لو كشف للناس عنه لهربوا من نتن ريحه ولذلك أنت أولك نطفة مذرة وآخرك جيفة قذرة وفيما بينهما تحمل العذرة(6/121)
فهذا تعب ما بعده تعب فإذا من الله عليك بدار البرزخ ثم بالجنة، ليس هناك عناء ولا بلاء ولا حدث ولا مخاط ولا بصاق،والطعام والشراب يخرج منك على هيئة رشح من جبينك أطيب من المسك ولذلك كل الطعام هناك ليس من باب حفظ البدن من تلف أو لحاجته لطعام، إنما من باب التلذذ والتفكه كما قال تعالى: (وفاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون) وقال: (وأمددناهم بفاكهة) فسماها فاكهة.
فإذن ماتت ماشطة ابنة فرعون وعذبت فماذا جرى لها؟ ثم انظر لهذه الكرامة بتعجب نبينا عليه الصلاة والسلام لطيب رائحتها.
لذلك هذا المسلك الذي سلكته هذه المرأة الصالحة يجب أن يسلكه الذكور والإناث بلا استثناء.
ولله الحمد توجد من هذه النماذج في عصرنا (قصة الطالبة الصالحة في أبهى التي كانت تشترط على من يتقدم لخطبتها ألا يدخل تليفزيوناً أو منكراً للبيت: إلخ القصة) .
وهذا ما رآه نبينا عليه الصلاة والسلام في رحلته المباركة مما كشف الله له أطلعه عليه مما يكون في عالم البرزخ مما كان قد حصل – من الذنوب – والذنوب التي ستحصل وأطلعه عليها قبل وقوعها.
وهذا كما أطلعه الله – عندما كان في المدينة والحديث في الصحيحين – مثل عذاب رجلين حيث قال صلى الله عليه وسلم: [إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستبرئ (وفي رواية يتنزه) من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة] .
هاتان آيتان شرحناهما مفصلتين والآن نذكر جملة من الآيات التي وقفنا عليها في الكتب التي ذكرت في أول هذا المبحث في أول الحديث عن الآية الخامسة، وسنذكر هذه الآيات على وجه الإيجاز والاختصار مع ذكر مرجعها:
3- الآية الثالثة: مر صلى الله عليه وسلم على قوم يزرعون في يوم ويحصدون ي يوم كلما حصدوا عاد كما كان فقال: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء المجاهدون في سبيل الله تضاعف لهم الحسنة بسبعمائة ضعف وما أنفقوا من شيء فهو يخلفه.
انظر: مجمع الزوائد (1/67) ، فتح الباري (7/200) .(6/122)
4- الآية الرابعة: ومر صلى الله عليه وسلم على قوم ترضخ (تدق تكسر) رؤوسهم بالصخر كلما رضخت عادت كما كانت ولا يفتر عنهم من ذلك شيء، قال: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين تثاقلت رؤوسهم عن الصلاة.
انظر: مجمع الزوائد (1/67) ، فتح الباري (7/200) .
5- الآية الخامسة: مر على قوم على أدبارهم رقاع وعلى أقبالهم رقاع يسرحون كما تسرح الأنعام إلى الضريع والزقوم ورضف جهنم (أي حجارتها المحماة) ، قال: ما هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين لا يؤدون صدقات أموالهم (أي لا يزكون) ، وما ظلمهم الله، وما الله بظلام للعبيد.
انظر: مجمع الزوائد (1/67) ، فتح الباري (7/200) .
6- الآية السادسة: مر على قوم بين أيديهم لحم في قدر نضيج، ولحم آخر نيئ خبيث فجعلوا يأكلون الخبيث ويدعون النضيج الطيب، قال: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: الرجل من أمتك يقوم من عند امرأته حلالا ً، فيأتي المرأة الخبيثة فيبيت معها حتى يصبح، والمرأة تقوم من عند زوجها حلالا ً طيباً فتأتي الرجل الخبيث فتبيت عنده حتى تصبح.
انظر: مجمع الزوائد (1/67) ، فتح الباري (7/200) .
7- الآية السابعة: مر على رجل قد جمع حزمة عظيمة من حطب لا يستطيع حملها ثم هو يريد أن يزيد عليها، فقال: يا جبريل من هذا؟ قال: هذا رجل من أمتك عليه أمانة الناس لا يستطيع أداءها ثم هو يزيد عليها ويطلب آخر.
انظر: مجمع الزوائد (1/68) ، فتح الباري (7/200) .
8- الآية الثامنة: مر على قوم تقرض شفاههم وألسنتهم بمقاريض من حديد كلما قرضت عادت كما كانت لا يفتر عنهم من ذلك شيء، قال: يا جبريل، ما هؤلاء؟ قال: خطباء الفتنة.
انظر: مجمع الزوائد (1/68) ، فتح الباري (7/200) .
9- الآية التاسعة: مر على جحر صغير يخرج منه ثور عظيم فيريد الثور أن يدخل من حيث خرج فلا يستطيع، فقال: ما هذا يا جبريل؟ ، قال: هذا الرجل يتكلم بالكلمة العظيمة فيندم عليها فيريد أن يردها فلا يستطيع.(6/123)
انظر: مجمع الزوائد (1/68) ، فتح الباري (7/200) .
10- الآية العاشرة: أتى صلى الله عليه وسلم على وادٍ فوجد ريحاً طيبة ووجد ريح مسك مع صوت، فقال: ما هذا؟ قال: صوت الجنة تقول يا رب ائتني بأهلي وبما وعدتني فقد كثر غرسي وحريري وسندسي وإستبرقي وعبقري ومرجاني وقضبي وذهبي وأكوابي ومما في وأباريقي وفواكهي وعسلي وثيابي ولبني وخمري، ائتني بما وعدتني، قال: لك كل مسلمة ومسلم ومؤمن ومؤمنة ومن آمن بي وبرسلي وعمل صالحاً ولم يشرك بي شيئاً ولم يتخذ من دوني أنداداً فهو آمن ومن سألني أعطيته ومن أقرضني جزيته ومن توكل علي كفيته إني أنا الله لا إله إلا أنا لا خلف لميعادي، قد افلح المؤمنون، تبارك الله أحسن الخالقين فقالت: قد رضيت.
انظر (1/68) .
11- الآية الحادية عشرة: أتى صلى الله عليه وسلم على وادٍ فسمع صوتاً منكراً، فقال: يا جبريل ما هذا الصوت؟ ، قال: هذا صوت جهنم تقول: يا رب ائتني بأهلي وبما وعدتني فقد كثرت سلاسلي وأغلالي وسعيري وحميمي وغساقي وغسليني وبعد قعري واشتد حري، ائتني بما وعدتني، قال: لك كل مشرك ومشركة وخبيث وخبيثة وكل جبار لا يؤمن بيوم الحساب، قالت: قد رضيت.
انظر المجمع (1/68) .
12- الآية الثانية عشرة: انتهى النبي صلى الله عليه وسلم – وهو راكب البراق – إلى أرض ذات نخل فقال جبريل: انزل، فنزل، ثم قال: صل، فصلى، ثم ركب فقال له: أتدري أين صليت؟ ، قال الله أعلم، قال: صليت بيثرب، صليت بطيبة، وإنها المهاجرة.
انظر المجمع (1/73) ، الفتح (7/199) .
13- الآية الثالثة عشرة: ثم بلغ أرضاً بيضاء فقال له: انزل، فنزل، ثم قال له: صل فصلى ثم ركب، فقال له أتدري أين صليت؟ قال: الله أعلم، قال صليت بمدين، صليت عند شجرة موسى، وفي رواية: صليت بطور سيناء حيث كلم الله موسى عليه السلام.
انظر المجمع (1/73) ، الفتح (7/199) .(6/124)
14- الآية الرابعة عشرة: ثم قال له جبريل انزل، فنزل فقال صل، فصلى، ثم ركب فقال له: أتدري أين صليت؟ ، قال: الله أعلم، قال: صليت ببيت لحم حيث ولد عيسى بن مريم.
انظر المجمع (1/73) ، الفتح (7/199) .
15- الآية الخامسة عشرة: مر النبي صلى الله عليه وسلم في أرض غمة (ضيقة) منتنة، ثم أفضى به المسير إلى أرض فيحاء طيبة، فقال: يا جبريل كنا نسير في أرض غمة نتنة ثم إلى أرض فيحاء طيبة فقال تلك أرض النار وهذه أرض الجنة – وفي رواية: تلك أرض أهل النار وهذه أرض أهل الجنة.
انظر المجمع (1/74) .
16- الآية السادسة عشرة: أتى على رجل قائم فقال من هذا يا جبريل؟ قال: هذا أخوك عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام.
انظر المجمع (1/74) ، الفتح (7/199، 200) .
17- الآية السابعة عشرة: ثم سار فسمع صوتاً فأتى على رجل فقال: من هذا معك؟ قال هذا أخوك محمد صلي الله عليه وسلم فسلم ودعا لي بالبركة وقال سل لأمتك التيسير، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: من هذا يا جبريل؟ قال: هذا أخوك موسى صلى الله عليه وسلم.
انظر المجمع (1/74) الفتح (7/199، 200) .
18- الآية الثامنة عشرة: ثم سار صلى الله عليه وسلم، فرأى شيئا، فقال: ما هذه يا جبريل؟ قال هذه شجرة أبيك إبراهيم، فقال: أدنو منها؟ قال: نعم، فدنا منها فرحب ودعا لي بالبركة.
انظر المجمع (1/74) ، الفتح (7/199، 200) .
19- الآية التاسعة عشرة: رأى الدجال فقال: وأراني – أي جبريل – الدجال ممسوخ العين اليمنى شبهته بِقَطَن بن عبد العزي.
انظر المجمع (1/75) .
20- الآية العشرون: عرض له رجل عن يمين الطريق – في ذهابه إلى بيت المقدس – فجعل يناديه يا محمد إلى الطريق – مرتين – فقال له جبريل امض ولا تكلم أحداً، ثم أخبره أن الرجل الذي عرض له عن يمين الطريق هم اليهود دعته إلى دينهم.
انظر المجمع (1/77) .(6/125)
21- الآية الحادية والعشرون: عرض له رجل عن يسار الطريق، فقال له: إلى الطريق يا محمد فقال له جبريل: امض ولا تكلم أحداً، ثم قال له جبريل: تدري من الرجل الذي دعاك عن يسار الطريق؟ قال: لا، قال: تلك النصارى دعتك إلى دينهم.
انظر المجمع (1/77) .
22- الآية الثانية والعشرون: عرضت له امرأة حسناء جميلة، فقال له جبريل: هذه المرأة الحسناء هي الدنيا دعتك إلى نفسها. انظر المجمع (1/77) ، ووقع في الفتح (7/199) أنه مر بامرأة عجوز فقال له جبريل هذه الدنيا.
23- الآية الثالثة والعشرون: مر بشيء يدعوه متنحياً عن الطريق، فقال له جبريل: سر، ثم قال له: الذي دعاك هو إبليس.
انظر الفتح (7/199) .
24- الآية الرابعة والعشرون: مر بقوم بطونهم كالبيوت فيها الحيات ترى من خارج بطونهم، فقال هم هؤلاء يا جبريل، قال هؤلاء أكلة الربا.
انظر الفتح (7/200) ، المجمع (1/66) .
25- الآية الخامسة والعشرون: مر بقوم مشافرهم (شفاههم) كالإبل يلتقمون حجراً فيخرج من أسافلهم، فقال له جبريل: هؤلاء آكلة أموال اليتامى.
انظر الفتح (7/200) .
26- الآية السادسة والعشرون: لما دخل المدينة التي فيها بيت المقدس من بابها الثامن أي قبلة المسجد فربط دابته ثم دخل المسجد من باب فيه مثل الشمس والقمر.
انظر المجمع (1/73) .
27- الآية السابعة والعشرون: مر بعير لقريش بمكان كذا وكذا قد أضلوا بعيراً لهم فسلم عليهم وقال بعضهم لبعض: هذا صوت محمد، وحاجه المشركون في مكة لما أخبرهم الخبر فقال لهم: مررت بعير لكم في مكان كذا قد أضلوا بعيراً لهم وأنا مسيرهم لكم ينزلون بكذا ثم يأتونكم يوم كذا وكذا يقدمهم جمل آدم عليه مسح أسود وغرارتان سوداوتان، فلما كان ذلك اليوم أشرف الناس ينظرون حتى كان قريباً من نصف النهار، أقبلت العير يقدمهم ذلك الجمل الذي وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
انظر المجمع (1/73، 74، 75) الفتح (7/200) .(6/126)
28- الآية الثامنة والعشرون: لما أخبرهم بخبر الإبل السابقة، قالوا له: هل مررت بإبل لبني فلان؟ ، قال: نعم وجدتهم في مكان كذا وكذا قد انكسرت لهم ناقة حمراء فوجدتهم وعندهم قصعة من ماء فشربت ما فيها، فقالوا: أخبرنا ما عدتها وما فيها من الرماة، قال: قد كنت عن عدتها مشغولا ً فقام فأتى بالإبل فعدها وعلم ما فيها من الرعاة ثم أتى قريشاً فقال لهم: سألتموني عن إبل بني فلان فهي كذا وكذا وفيها من الرعاء ابن أبي قحافة وفلان وهي مصبحتكم بالغداة عند الثنية، قال: فقعدوا إلى الثنية ينظرون أَصَدَقَهُمْ؟ فاستقبلوا الإبل فسألوا: هل انكسرت لكم ناقة حمراء؟ قالوا نعم، قالوا: فهل كان عندكم قصعة؟ قال أبو بكر: أنا والله وضعتها فما شربها أحد ولا أهراقوه في الأرض.
انظر المجمع (1/75) ، الفتح (7/200) .
29- الآية التاسعة والعشرون: لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد الأقصى وصلى فيه وعرضت عليه الآنية انطلق به جبريل حتى أتى الوادي الذي في المدينة – أي المدينة التي فيها المسجد – فإذا جهنم تكشف عن مثل الزرابي، فقال الصحابة: يا رسول الله كيف وجدتها؟ قال مثل الحمة المسخنة.
انظر المجمع (1/73) .
هذا ما تسر لي جمعه من الآيات التي رآها نبينا عليه الصلاة والسلام في طريقه من مكة إلى بيت المقدس أو العكس مما يدخل تحت الآيات الأرضية التي رآها النبي صلى الله عليه وسلم.
القسم الثالث:
آيات سماوية رآها نبينا عليه الصلاة والسلام عندما عرج به إلى السموات العلا:
الآية الأولي:
المِعْراج أو المُعْراج – بكسر الميم أو ضمها – وهذا أول الآيات كما أن البراق هو أول الآيات الأرضية، فالبراق من مكة إلى بيت المقدس، ومن بيت المقدس إلى السموات العلا كان الصعود عن طريق المعراج أو المعراج، وهو آلة يعرج عليها ويُصْعَدُ بها كالسلم أو الدرج أو المصعد عندنا في حياتنا.(6/127)
قال نبينا عليه الصلاة والسلام كما في مغازي ابن إسحاق – [فأتيت بالمعراج فلم أر شيئا أحسن منه] وهو الذي يشخص إليه الميت بعينيه إذا حضره أجله] فالميت عندما يموت ينظر إلى فوق، فينظر إلى هذا المعراج الذي ستعرج إليه روحه.
[وكان مرقاة من ذهب ومرقاة من فضة، وكان مكللا ً باللؤلؤ من جنة الفردوس] فهذا هو المعراج نؤمن به ونفوض العلم بكيفيته إلى ربنا جل وعلا، وعما قريب سيراه كل واحد وينظر إليه بعينه عندما يحضره أجله ويرى مقعده من الجنة أو النار عن طريق المعراج فإذا كان صالحاً فتحت له أبواب السماء وإلا أغلقت.
الآية الثانية:
آيات رآها عندما عرج به إلى السموات:(6/128)
ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث مالك بن صعصعة، عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال ".... فانطلق بي جبريل حتى أتى السماء الدنيا (السماء الأولى) فاستفتح (استأذن) فقيل من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمدً [عليه صلوات الله وسلامه] وهذا أي قول الملائكة من معك يحتمل أن السماء شفافة فرأوا من هو خارجها أو أنهم سمعوا حساً للنبي عليه الصلاة والسلام معه، أو رأوا زيادة أنوار عرجت عندما ارتقى جبريل فاستفتح من أجل أن يلج السماء فقيل من؟ قال: جبريل، قيل ومن معك؟ قال: محمد [فقال (حراس السماء الدنيا) أَوَقَدْ بعث إليه؟] أي أذن له بأن يدخل وطلب لمناجاة الله، وسؤال الملائكة هذا يحتمل عدة أمور إما أنه من باب التعجب إذ كيف حصل للنبي صلى الله عليه وسلم هذه المرتبة العظيمة الجليلة، فتعجب الملائكة من هذا، أو أن هذا للاستبشار، أي استبشاراً بلقائه وفرحاً بمجيئه، ويحتمل (قاله الحافظ) أنهم قالوا هذا إعلاماً للنبي صلى الله عليه وسلم بأنهم يعلمون أنه سيأتي ويؤذن له في الدخول فكأنهم يقولون: نحن عندنا علم بمجيئه لكن هل حان الوقت وبُعث إليه وأرسلك الله يا جبريل إليه في هذا الوقت؟ أي نحن علمنا بأنه محمداً صلى الله عليه وسلم سيأتي ويدخل لكن ما حُدِدَ لنا الوقت، [فقال: نعم، فقيل: مرحباً به فنعم المجيء جاء، ففتحت السماء، فلما خَلَصْتُ (أي دخلت إليها وسرت فيها) فإذا فيها آدم، فقال جبريل: هذا أبوك آدم فسلم عليه، فسلمت عليه، فرد علي السلام ثم قال لي مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح] .(6/129)
إخوتي الكرام.... ثم عرج به إلى السماء الثانية، ولكنا سنذكر على سبيل الاختصار الأنبياء الذين لقيهم في هذه السموات السبع، ولا أريد أن أستعرض ألفاظ الحديث لأنه في كل سماء لما يستأذن يُقال: أو قد بعث إليه؟ فيقال: نعم، فيفتح له فيقول فإذا فيها فلان من الأنبياء.... ومن أراد نص الحديث فليرجع إليه في صحيح البخاري أو مسلم.
ففي السماء الأولى (السماء الدنيا) نبي الله آدم عليه السلام.
وفي السماء الثانية ... ... نبيا الله عيسى ويحيى عليهما السلام.
وفي السماء الثالثة ... ... نبي الله يوسف عليه السلام.
وفي السماء الرابعة ... ... نبي الله إدريس عليه السلام.
وفي السماء الخامسة ... ... نبي الله هارون عليه السلام.
وفي السماء السادسة ... ... نبي الله موسى عليه السلام.
وفي السماء السابعة ... ... نبي الله وخليله إبراهيم عليه السلام.
الأنبياء كلهم جمعوا لنبينا عليه الصلاة والسلام في بيت المقدس، أما في السموات السبع فما اجتمع إلا بثمانية من الأنبياء (1) .
__________
(1) هل ترتيب الأنبياء في السموات السبع باق ٍ أم أنهم رُتِّبُوا كذلك لحادثة الإسراء والمعراج للنبي صلى الله عليه وسلم؟ وإذا كانوا باقين حسب هذا الترتيب فأين الأنبياء والرسل الباقون عليهم السلام؟
الجواب: هؤلاء الأنبياء ليست مساكنهم في السماء إنما [الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام، رواه أبو يعلى والبزار ورجال أبي يعلى ثقات، انظر المجمع (8/211) وقد نصَّ المُناوي في فيض القدير (3/184) على أن الحديث في درجة الحسن وهو من حديث أنس ٍ رضي الله عنه، والحديث رواه أيضاً البهيقي في حياة الأنبياء وتمام في فوائده وابن عساكر في تاريخ دمشق، انظر الجامع الكبير (1/359) ، لكن جمعوا في بيت المقدس وليست مساكنهم – إنما كما قلنا – إما أن أرواحكم تشكلت أو خرجوا من قبورهم واجتمعوا في بيت المقدس لعلة يعلمها الله ولا نعلمها وهو من أمور الغيب وخوارق العادات.
وجُمِعَ بعضهم في السموات، وليست مساكنهم ولا هم يجلسون فيها، لكن ينبغي أن يحصل لنبينا عليه الصلاة والسلام لقاء لمن حالُه يشابه حالَه، ولذلك رتب هؤلاء، وهناك بعض من لم له ولم يلقه في السموات وهو أفضل ممن رتب له كنبي الله نوح – وهو من أولي العزم ولم يذكر ويرتب ولم يكن في هذه السموات في لقاء خير البريات عليه صلوات الله وسلامه، لأنه ليس بينه وبين نبينا عليه الصلاة والسلام – في حاله مع أمته – أي مشابهة، فقومه لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً وما استجاب له إلا قليل، ولو رتب لنبينا عليه الصلاة والسلام لربما فهم نبينا عليه الصلاة والسلام - سيصبر ويصبر ويصبر وأن حال هذه الأمة كمن يريد أن يخض الماء ليخرج منه زبداً!! ولربما قال: أنا حالي يشبه نبي الله نوح عليه السلام.
ولذلك قلنا عُرِض له من يشبه حاله مع أمته كحال أولئك، لترتيبات معينة فإذن ليست منازلهم في السماء على هذا الترتيب إنما رتبوا في حادث الإسراء والمعراج هذا الترتيب.
ولماذا كان هذا الترتيب؟ هذا هو الذي استعملنا عقولنا في إدراك حكمته، وأما بعد ذلك فأعيدوا قبورهم وهم أحياء يصلون باستثناء نبي الله عيسى عليه السلام الذي رفعه الله إليه.
وسأضرب لكم مثلاً ولله المثل الأعلى، لما يأت أمير إلى مسؤول فإنه يرتب له شخصيات معينة للقائه على حسب وزنه ومنزلته، وليس هؤلاء مكانهم هذا، إنما جيء بهم في هذا الوقت لأجل لقاء طارئ وهنا كذلك.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(6/130)
إن قيل: ما الحكمة في الاقتصار على هؤلاء الأنبياء فقط دون غيرهم، وكونهم بهذا الترتيب من السماء الأولى إلى السابعة؟
فنقول:
أما آدم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه فجعل في السماء الأولى ليحصل مباشرة أُنس النبوة بالأبوة، الابن محمد عليه الصلاة والسلام والأب الأول للبشرية كلها آدم عليه الصلاة والسلام، ولم يجعل في السماء الأولى من باب دنو منزلته إنما من باب أن هذا أب أول لجميع البشر، ولذلك فينبغي للابن أن يلتقي بأبيه قبل غيره.
ولذلك لو دخلت بيتك الذي فارقته سنوات ورأيت أخاك ولم تر أباك لن تفرح وتسعد حتى ترى أباك، وهذا مشاهد ومجرب.
ليكون في ذلك إشارة أيضاً – كما قال الحافظ ابن حجر نقلا ً عن السهيلي وابن أبي جمرة – إلى أنك يا محمد بعد هذه الحادثة سيحصل لك ما حصل لأبيك فلا تحزن.
وماذا حصل لآدم؟
خروج من الجنة وهي وطنه، وأنت سيحصل لك خروج من مكة، وبالفعل حصل هذا بعد سنة ونصف، ولذلك قلنا الإسراء وقع قبل الهجرة بسنة ونصف.
وآدم بعد خروجه من الجنة ازداد رفعة، وكان آدم بعد خروجه خيراً منه قبل خروجه (ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى) ، فاجتباه ربه بعدما خرج، وأما ما حصل منه ف [كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون] وإذا أقلع الإنسان عن معصية وأناب يكون حاله بعد المعصية خيرا من حاله قبل التوبة.
إذن فسيحصل لك ما حصل لآدم وليس في هذا مضرة عليك فكما أن آدم بعد خروجه ارتفع قدره وعلا ذكره ولو بقي في الجنة لما وجدت هذه البشرية التي توحد الله وتعبده فقدر الله له الخروج (ليقضي الله أمراً كان مفعولاً) ، وأنت بعد خروجك سيرتفع ذكرك ويعلو أمرك ويظهر دينك وهذا الذي حصل.(6/131)
لاسيما وقد ذكرنا في الآيات التي رآها في رحلته من مكة إلى بين المقدس أنه أمره جبريل بالصلاة في مكان ثم أخبره أنه صلى بطيبة، ثم قال له وإليها المهاجرة بفتح الجيم، أي ستكون دار لهجرتك، فإذن أخبر في الأرض أنه سيهاجر، فحتى لا يصبح في قلبه شيء ويخاف – هذا من الطبائع البشرية – وحتى لا ينكسر قلبه ويغتم ارتفع به إلى الكمالات وقابل هناك الأب الصالح أول من قابل فكأنه قيل له: الهجرة فيها خير كما حصل في الانتقال لهذا الأب الذي تقابله خير عندما هاجر من الجنة إلى الدنيا.
ولِمَ كان عيسى ويحيى عليهما السلام في السماء الثانية؟
هناك عدة أجوبة والجواب المعتمد وهو الحق إن شاء الله وهو من باب الحكم التي تُشم كشم الوردة: لأنه ليس بين نبينا عليه الصلاة والسلام وبين نبي الله عيسى نبي آخر فهو أولى الناس به، وأما يحيى فهو ابن خالة عيسى فبما أنهما ابنا الخالة فقُرِنا في سماء واحدة، وقد ثبت في الصحيحين عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: [أنا أولى الناس بعيسى بن مريم في الدنيا والآخرة، والأنبياء إخوة لعلات أمهاتهم شتى دينهم واحد] وفي رواية أخرى مختصر البخاري (7341) [أنا أولى الناس بابن مريم والأنبياء أولاد علات ليس بيني وبين نبي] .
فإذن بعد أن حصل أُنس النبوة بالأبوة سيلتقي بعد ذلك بإخوانه الذين هم أقرب الناس إليه من غيرهم وأولهم عيسى عليه السلام.
أما يوسف، فالحكمة من كونه في السماء الثالثة بعد الثانية بعد أن حصل أُنس النبوة بالأبوة وأنس الأخ بأخيه الأقرب، فإنه سيحصل لنبينا عليه الصلاة والسلام أُنس خاص بنبي فيه شبه بنبينا عليه الصلاة والسلام من وجهين:(6/132)
حسن الصورة وبهاء المنظر وجمال الطلعة، فنبي الله يوسف أعطاه الله شطر الحسن، ونبينا عليه الصلاة والسلام له الحسن بكامله. فأجمل الناس بعد نبينا عليه الصلاة والسلام هو يوسف فعندما يرى هذا النور يتلألأ منه يحصل حينئذ شيء من الشبه الظاهري، يضاف إليه شبه آخر يتعلق بالدعوة وهو:
أنه لاقى مكراً وكيداً من أخوته لأبيه، وقرابته حيث مكروا به وألقوه في الجب وبعد ذلك مكن الله له في الأرض وجاءه إخوته فقال لهم (هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون قالوا إنك لأنت يوسف، قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين، قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين، قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين) سورة يوسف 89-92، وما حصل ليوسف هو عين ما حصل لنبينا عليه الصلاة والسلام فآذاه قرابته وعشيرته وطردوه من مكة وسيؤذونه وسيعيده الله بعد ذلك وسيقول لهم ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم فيقول، لا تثريب عليكم اليوم، اذهبوا فأنتم الطلقاء الأحرار وقد وقع كل هذا، فهذا أيضاً شبه، فليحصل إذن استحضار لتلك المعاني، الصورة واحدة وما حصل لهذا النبي من المكر فسيحصل لك، وما حصل له من الظفر والنصر سيحصل لك.
4- وأما السماء الرابعة ففيها إدريس عليه الصلاة والسلام، كما قال الله تعالى (ورفعناه مكاناً علياً) وإنما قال مكاناً علياً وهو في السماء الرابعة وليس في السابعة لأنه في الوسط، والوسط مكان مرتفع ومعتدل.
وفي ذلك إشارة إلى أن هذا العلو الذي حصل لهذا النبي بعد الثالثة – وهي الرابعة – سيحصل لنبينا عليه الصلاة والسلام في هذه الحياة الدنيا وقد حصل له، وأن رسالتك وديانتك وسط (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً) خياراً عدولاً تعتدلون في أحكامكم التي أنزلها ربكم عليكم.(6/133)
5- وأما السماء الخامسة ففيها هارون عليه الصلاة والسلام، وفي ذلك إشارة إلى قربه من نبي الله موسى وهارون تابع لموسى عليهما الصلاة والسلام فليكون إذن بمثابة تمهيد للقاء موسى عليه السلام.
وفي ذلك إشارة لنبينا عليه الصلاة والسلام ليوطن نفسه على تحمل ما تحمله هارون من موسى عليهما السلام.
وفي ذلك أيضاً إشارة عظيمة أيضاً وهي أن هارون رجع قومه إلى محبته بعد أن نفرتهم منه وعداوتهم له، وهذا سيحصل لنبينا عليه الصلاة والسلام فقومك سيحبونك بعد معاداتهم لك، فحالك كحال هارون فقد كان محبباً في قومه أكثر من نبي الله موسى عليه السلام وكانوا ينفرون من موسى ويأنسون بهارون عليهما صلوات الله وسلامه للين عريكته وعدم شدته وله فيهم منزلة عظيمة، الحاصل أن في لقائه بهارون تذكير له بطبيعة موسى ولذلك كأنه يقال: إذا لقيت موسى فاصبر وتحمل فإن له مقامات عند ربه وهو مدلل عنده.
6- وأما موسى عليه الصلاة والسلام، فاجتمع بهذا النبي في السماء السادسة ليعلم أنه رفيع القدر أعلى من هارون، فنبينا أعلى من هارون كما أن موسى أعلى من هارون إذن فأنت أعلى ممن تقدمك والحكمة الثانية: ليحصل لك ما حصل لهذا النبي من، فعاداه فرعون قومه فصبر فمكنه الله منه ونصره عليه، فأنت سيعاديك فرعون هذه الأمة – أبو جهل – فاصبر وستمكن منه وستقطع رقبته في يوم بدر وهذا الذي حصل، فيوم بدر بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم كغرق فرعون بالنسبة لموسى عليه الصلاة والسلام.
7- أما السماء السابعة، فكأنه يقال له: بدأنا الأمر بالأب الأبعد فلنختمه بالأب الأدنى وهو خليل الرحمن إبراهيم، أبو العرب، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم (ابن الذبيحين) فعبد الله ذبيح لأن عبد المطلب نذر أن يذبح أحد أولاده إذا عثر على زمزم فوقعت القرعة على عبد الله ثم فكه بعشر ديات، وإسماعيل ذبيح بنص القرآن، وقد نجى الله الذبيحين.(6/134)
فكما أنك استأنست بأبيك الذي هو أبعد الآباء فلتستأنس بأبيك الذي هو أقرب الآباء إليك ممن هو نبي وهو خليل الرحمن، وليس في آبائه نبي آخر بعد ذلك ليستأنس به جاء من عبد المطلب أو غيره.
وحكمة ثانية: فأنت خليل وهو خليل فلابد أن يجتمع الخليل مع الخليل ثم إن خلتك أعلى من خلته لأنك سترفع إلى مكان فوقه بعد ذلك فرغم أنه في أعلى الرتب وهي السماء السابعة لكن نبينا صلى الله عليه وسلم سيرفع إلى مكان فوقه.
وفي ذلك إشارة – أيضاً – كما قال علماؤنا: إلى ما سيحصل لنبينا عليه الصلاة والسلام في المستقبل، فالسماء السابعة فيها خليل الرحمن إبراهيم، وأنت ستخرج من مكة وستدخلها في العام السابع في عمرة القضاء بعد صلح الحديبية لأن هذا كان في العام السادس وقد تم الاتفاق على أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في السنة التالية ورُدَّ هذا العام، فجاء في العام السابع ودخل مكة واعتمر، ثم في العام الثامن فتحت مكة إذن فهذه المناسك التي في مكة وأقام إبراهيم هذا البيت على الدعائم الأولى التي أسس عليها البيت فأنت ستعود لمكة في العام السابع وستفرض عليك مناسك الحج كما فرضت على خليل الله إبراهيم (وأذن في الناس بالحج) ، وأنت ستؤذن وتدعو الناس إلى لك.
فهذا هو مجمل الحكم عن الالتقاء بهؤلاء الأنبياء الثمانية صلوات الله وسلامه عليهم.
تعارض وجمع:
ورد في بعض روايات البخاري أن نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام [لقيه نبينا عليه الصلاة والسلام في السماء السابعة] ، قال الحافظ ابن حجر: ورد هذا في رواية
وشريك هذا هو الذي يروي حديث الإسراء والمعراج عن أنس رضي الله عنه، وله أوهام لكن هنا – كما يقول الحافظ- ضبطه وليس هذا من أوهامه.
[وموسى في السماء السابعة بفضل كلام الله له](6/135)
قال الحافظ ابن حجر: لا إشكال بين هذه الرواية والروايات المتقدمة ولا تعارض فنبي الله موسى مكانه الحقيقي في السادسة لكن بعد أن عرج بنبينا عليه الصلاة والسلام السابعة صحبه موسى إلى غير داره الحقيقية كمرافق بفضل كلام الله له.
أي بما أن الله كلم موسى تكليماً واتخذ إبراهيم خليلاً فجمع الله الخليلين مع الكليم في السماء السابعة، هذا هو الجمع المعتبر.
وبقي موسى في السماء السابعة حتى عاد نبينا عليه الصلاة والسلام، وظهر أثر هذا: مَرَّ عليه وسأله ماذا فرض عليك؟ قال: خمسين صلاة، قال ارجع فسله التخفيف إلى أن خفضت إلى خمس، فنبينا عليه الصلاة والسلام لم يكن ينزل إلى السادسة إلى موسى ويسأله عما فرض عليه، ويمر مروراً على إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام.
فإذن موسى عليه الصلاة والسلام لازال منتظراً له في السماء السابعة ثم هو معه إلى السماء السادسة ثم بقي فيها وأعيد نبينا عليه الصلاة والسلام إلى مكانه.
ورد في رواية الإمام مسلم – وهذه الرواية ليست في البخاري عن أنس رضي الله عنه – وحديثنا في الآية الثانية وعما فيها من عجائب – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [فإذا بإبراهيم مسنداً ظهره إلى البيت المعمور، فإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه] والبيت المعمور الذي هو في السماء كالكعبة في الأرض.
وهذه آية عظيمة رآها نبينا عليه الصلاة والسلام.
قال الحافظ ابن حجر "وفي هذا دلالة على أن أكثر المخلوقات هم الملائكة فلابد لجنس من الأجناس تزايد وتكاثر بهذه النسبة، فمنذ أن أوجد الله الكون إلى هذه الساعة يدخل إلى البيت المعمور سبعون ألفاً لا يعودون إليه، فالملائكة هم أكثر خلق الله (وما يعلم جنود ربك إلا هو)
والإنسان وكل الله به 160 ملكاً، وفي حديث عند الطبراني: [وكل الله بالمؤمن 160 ملكاً يحفظونه للبصر من ذلك سبعة أملاك] وهو في المعجم الكبير وسنده ضعيف.(6/136)
والله يشير إلى هذا في كتابه (له معقباتٌ من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله) فهناك ملائكة تتعاقب على حراسته وحفظه ويعقب بعضها بعضاً في تقييد عمله وتسطير ما يحصل منه.
وقد جرى في السماء السادسة عند رؤية نبينا عليه الصلاة والسلام لنبي الله موسى كليم الله موقفٌ ينبغي أن نقف عنده.
المحاضرة الثانية عشرة:6/4/1412هـ
هذا الموقف لما تجاوز نبينا عليه الصلاة والسلام موسى بكى – أي موسى- فقل له ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلاماً بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي] هذه رواية وورد أيضاً في رواية ابن مسعود رضي الله عنه [أن نبينا عليه الصلاة والسلام لما مر بموسى هو يرفع صوته فيقول: أكرمْتَهُ، وفضلْتَهُ، فقال نبينا عليه الصلاة والسلام من هذا؟ فقال جبريل: هذا موسى، قال: ومن يعاتب؟ فقال: يعاتب ربه فيك، قال: كيف علو صوته على ربه؟ فقال: إن الله قد عرف له حدته] أي انفعاله وغضبه.
وفي رواية في مسند أبي يعلى والبزار بسند حسن [أن نبينا عليه الصلاة والسلام قال: سمعت صوتا وتذمرا فسألت جبريل، فقال هذا موسى، قلت ـ على من تذمر؟ قال: على ربه، قلت: على ربه؟ ! قال: إنه قد عرف ذلك منه.]
والتذمر شبه الاعتراض والتأثر.
وهذا الموقف الذي جرى من نبي الله موسى ينبغي أن نقف عنده لنحلله وننظر إليه:
ما جرى من نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام لا يعتبر حسداً، فالحسد من الكبائر والأنبياء معصومون عن ذلك، وحاشا لنبي أن يكون حسوداً وحاسداً لأحد على ما فضله الله وأنعم به عليه.
فإن قيل: فما تعليل هذا الكلام إذن؟(6/137)
نقول: إن موسى عليه الصلاة والسلام قال ما قال من باب الحزن على ما فاته من الذي سبقه به محمد عليه الصلاة والسلام، وكان ذلك الحزن منه بسبب أمته – نبي إسرائيل فعندما لم يتبعوه على الوجه الكامل المرضي لم يكن لهم من الحسنات كما لهذه الأمة ولو اتبعوه ابتاعاً كاملاً لحصل هم حسنات ثم كتبت حسناتهم في صحيفة نبي الله موسى من دل على خير فله أجر فاعله، ولذلك نبينا عليه الصلاة والسلام له أجر هذه الأمة إلى أن تقوم الساعة.
ولعل الله أعلم موسى بذلك وأن هذه الأمة حالها ليس كحال أمتك ومن أجل هذا ارتفع هذا النبي عليك لزيادة قدره عندي لأن حسناته لم يأت بها أحد من خلقي، فعدا عن حسناته الخاصة وجهده الذاتي فإن له حسنات تأتي بسببه بعد ذلك فيكتب له أجره إلى يوم القيامة.
فموسى عليه الصلاة والسلام عندما جاوزه نبينا عليه الصلاة والسلام بدأ يحصل منه هذه التذمر لا من باب حسد نبينا عليه الصلاة والسلام إنما من باب الحزن على ما فرطت به بنو إسرائيل مما أدى به إلى أن تكون منزلته نازلة.
وأضرب لكم مثلاً: لو أن عندك ولداً عنيداً بليداً وأنت تبذل ما في وسعك لتوجيهه فلا يتوجه. ثم مدَّ بك بعد ذلك بعض أولاد أصحابك وكان عليه ذكاء ونجابة وألمعية فأنت قد يحصل منك الآن تذمر وانفعال وغضب على ولدك وقد يسوء كلامك وخلقك.
وهذا الذي حصل من نبي الله موسى، فإنه ليس من باب الحسد إنما من باب الحزن والتأنيب لقومه وأمته على ما تسببوا به من إنزال مرتبته.
ونسأل الله أن لا يجعلنا ممن يسودون وجه نبينا عليه الصلاة والسلام وأن يجعل نبينا عليه الصلاة والسلام يباهي بنا الأمم يوم القيامة، إنه على كل شيء قدير.
2- قوله عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه غلام، وليس في هذا تحقير فاشبه لهذا فإن الإنسان يمر بأربعة مراحل رئيسة في عمره:
أ- المرحلة الأولى: غلام، ما دون التكليف من 15 سنة فما دونها.(6/138)
ب- المرحلة الثانية: شباب، وهي من 15 سنة إلى 30نسة ومدها الإمام ابن القيم إلى 40 سنة، وقال هذا حد الشباب وفيها – أي في الأربعين – تكتمل قوى الإنسان ويبلغ أشده (حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة) ، وما بعث الله نبياً إلا على أربعين هذا على الأعم الأغلب، انظروا روح البيان للألوسي (26/18، 19) ، لأن قواه العقلية تكون قد اكتملت وتكون عنده التؤدة والتأني والثبات والرزانة ووضع الأمور في مواضعها.
جـ- المرحلة الثالثة: كهولة، وهي من 40 سنة – إلى 60 سنة.
د- المرحلة الرابعة: شيخوخة، وهي من 60 سنة إلى الوفاة نسأل الله حسن الخاتمة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يجوز ذلك] والحديث في المسند والسنن بسند صحيح.
فإذن قوله غلام أي لازال صبياً ناهز الاحتلام، فلم يصفه بأنه شاب وكيف هذا؟
ذكر أئمتنا جوابين عن هذا:
1- الجواب الأول: ونقل عن المتقدمين كابن أبي جمرة وغيره، أن هذا من باب دالة موسى على نبينا عليه الصلاة والسلام.
فموسى أكبر منه، ونبينا مع موسى كالغلام مع الشيخ من ناحية العمر، فهو وإن كان يزيد على الخمسين سنة (51 سنة ونصف) ودخل في الكهولة فعبر عنه بأنه غلام – في أول مراحل العمر بالنسبة إلى عمر نبي الله موسى، فالفارق بينهما يجعل هذا العمر الذي يزيد على خمسين سنة كأنه سنة مع عمر نبي الله موسى عليه صلوات الله وسلامه، لاسيما وأن لموسى دالة عليه ومنزلة لكبر سنه ولسبقه له في النبوة والرسالة، ولأنه سيشير عليه – كما سيأتي – بأمر ينفعه وينفع أمته فجزاه الله عنا خيراً.
2- الجواب الثاني: ذكره الحافظ ابن حجر – وهو في تقديري أقوى الجوابين – فقال إن هذا ليس من باب أن نبينا مع موسى كالغلام مع الشيخ، إنما عبر بغلام هنا ليخبره عن قوة نبينا عليه الصلاة والسلام وعزمه ونشاطه.(6/139)
فهو كبير في العمر لكن همته همة الشباب، وهمته همة من لم يعرف تعباً في الحياة بل لازال؟؟ له كل شيء وهو جاهل لذلك قوته مجتمعة لم تبذل هنا وهناك، ولم يتعب في حياته وهذا هو حال الناس.
فإذن ليدلل على عزيمته وقوته رغم كونه في سن الكهولة، وهذا حاله صلى الله عليه وسلم، يقول على رضي الله عنه [كنا إذا اشتد الوطيس وحمت المعركة أشجعنا يلوذ برسول الله صلى الله عليه وسلم] .
وفي غزوة حنين عندما نصب المشركون كميناً للنبي صلى الله عليه وسلم والصحابة؟؟؟ بنبال كالمطر فتفرق الصحابة، وثبت النبي صلى الله عليه وسلم وكان يردد: أنا النبي لا كذب *** أنا ابن عبد المطلب
ثم قال يا عباس، نادِ في الصحابة، يا أهل بيعة العقبة، يا أهل بيعة الشجرة، يا أهل بدر أي نادهم يا عباس ليجتمعوا إليَّ وهو ينادي ويقول:
أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب
فإذن ما فيه من عزم ونشاط هو عزم الشباب لا عزم الكهولة ولذلك سماه غلاماً هو في آخر مراحل الغلام وأول مراحل الشباب.
قال الحافظ ابن حجر: وقد تأيد هذا بالحديث الصحيح الثابت في صحيح البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه [أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطوف على نسائه التسع في الساعة الواحدة من ليل أو نهار بغسل واحد فقيل لأنس: أو كان رسول الله عليه الصلاة والسلام يطيق ذلك؟ فقال: كنا نتحدث أن الله أعطاه قوة ثلاثين] .
وفي كتاب صفة الجنة لأبي نُعيم بسند صحيح – [أن الله أعطاه قوة أربعين رجلا ً من أهل الجنة] وقوة الرجل في أهل الجنة تعدل قوة مائة رجل من أهل الدنيا أكلا ً وشرباً ومباشرة.(6/140)
فنضرب 40×100 فيكون الناتج 4000، إذن قوة نبينا عليه الصلاة والسلام إذا قورنت برجال أهل الأرض فإنها تعدل قوة (4000) رجلا ً، فهل يكون من هذا شأنه كهلا؟!! ولذا قيل له غلام، لأن مَنْ هذا حاله وشأنه لا يقال فيه [هذا الشيخ أو الكهل الذي بعث بعدي فقد يفهم منه أنه ضعيف ليس عنده قوة] ، فرسولنا صلى الله عليه وسلم فيه نشاط الغلمان لا عمرهم، وعمره عمر الكهول.
وهذا خير ما يكون في الإنسان رزانة ووقار أي كبير في السن، لكن عزمه قوي يغلب عزم الشباب.
إخوتي الكرام ... يكرم الله جل وعلا عباده بما شاء سبحانه وتعالى، وقد ذكر أئمتنا في ترجمة سُليم بن عِتْر قاضي مصر في عهد معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وسليم هو من أئمة التابعين توفي سنة 75هـ ذكر أئمتنا أنه كان يختم كل ليلة ثلاث مرات – وهو - ويتصل بأهله ثلاث مرات.
وهذه قوة عجيبة يكرم الله بها بعده، فأولاً يختم القرآن في كل ليلة وهذا ورد ثلاث مرات وهو القاضي الذي فرغ نفسه لشؤون الناس في النهار فإذا جن الليل.
وقد ذكر هذا في سير أعلام النبلاء للذهبي 4/132،وفي غيره.
يقول الإمام الذهبي في ترجمته: "سُليم بن عِتْر الإمام الفقيه قاضي مصر ووعظها وقاصها وعابدها – "ثم قال: "وروي عنه أنه كان يختم كل ليلة ثلاث ختمات ويأتي امرأته ويغتسل ثلاث مرات، وأنها قالت بعد موته: رحمك الله، لقد كنت ترضي ربك وترضي أهلك" إلخ ترجمته.
ويقول الشيخ شعيب الأرناؤوط – وهو المعلق على سير أعلام النبلاء -: ولا يعقل ذلك، ربما لا يصح عنه"
لماذا لا يعقل هذا؟ وقد قلنا إن خارق العادة ليس بمستحيل ولا بمخالف للعقل.
فلو أن الله أكرم أحد عباده بأن يختم القرآن كل ليلة مائة مرة يعقل هذا أم لا يعقل؟ بل يعقل وأن يتصل بأهله مائة مرة، يعقل هذا أم لا يعقل؟ بل يعقل.
فلماذا لا يعقل وليس هو بمستحيل، لذلك فانتبهوا إخوتي الكرام إذا أردتم أن تتكلموا وزنوا كلامكم بميزان الشرع.(6/141)
ولو قال هذا المعلق: "هذا غريب والله على كل شيء قدير" فلا بأس، ولكن انظر كيف يقول لا يعقل وربما لا يصح، فما دام ليس معقولاً عندك قل لا يصح ولا تقل ربما، فإذن كيف صار كلا منا لا احتراز فيه ولا احتراس ثم قال: لأنه مخالف لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: (لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث) رواه أبو داود والترمذي بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص.
ولكن نحن نقول هذه كرامة وليست من المستحيلات حتى نردها.
والإمام النووي في كتابه التبيان في آداب حملة القرآن – وهذا الكتاب – لابد أن يكون عند كل طالب علم، وهذا كتاب (الأذكار) وهكذا (رياض الصالحين) فهذه الكتب الثلاثة للإمام النووي لا يكون في البيت خير أو نور إذا لم تكن هذه الكتب فيه، وينبغي أن تجهز هذه الكتب في جهاز المرأة عندما تزف لزوجها.
فالإمام النووي في هذا الكتاب – التبيان – في ص 47 يقول: "كان السلف رضي الله عنهم لهم عادات مختلفة في قدر ما يختمون فيه، فروى ابن أبي داود عن بعض السلف رضي الله عنهم أنهم كانوا يختمون في كل شهرين ختمة واحدة، وعن بعضهم في كل شهر ختمة وعن بعضهم في كل عشر ليال ختمة، وعن بعضهم في كل ثمان ليال، وعن الأكثر في كل سبع ليال وعن بعضهم في كل ست ليال وعن بعضهم في كل خمس ليال، وعن بعضهم في كل أربع ليال وعن كثيرين في كل ثلاث ليال، وعن بعضهم في كل ليلتين، وختم بعضهم في كل يوم وليلة ختمة، ومنهم من كان يختم في كل يوم ليلة ختمتين ومنهم من كان يزيد عن ثلاثة، وختم بعضهم ثماني ختمات أربعاً بالليل وأربعاً بالنهار".
فمن الذين كانوا يختمون ختمة في اليوم والليلة عثمان بن عفان وتميم الداري وسعيد بن جبير ومجاهد والشعبي وآخرون.
ومن الذين كانوا يختمون ثلاث ختمات سُليم بن عِتْر – وهذا هو الذي ذكرنا قصته – وكان(6/142)
ثلاث ختمات، وروى أبو عمر الكندي في كتابه في قضاة مصر أنه كان يختم في الليل أربع ختمات، قال الشيخ الصالح أبو عبد الرحمن السلمي: سمعت الشيخ أبا عثمان المغربي؟ كان ابن الكاتب رحمه الله يختم في النهار أربع ختمات وفي الليل أربع ختمات، وهذا ما بلغنا في اليوم والليلة.
ثم يقول في آخر المبحث: "والاختيار أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص فمن كان يظهر بدقيق الفكر لطائف ومعارف فليقتصر على قدر ما يحصل له كمال فهم ما يقرأه، وكذا من كان مشغولا ً بنشر العلم أو غيره من مهمات الدين ومصالح المسلمين العامة فليقتصر على قدر يحصل بسببه إخلال بما هو مُرصد له، وإن لم يكن من هؤلاء المذكورين فليتكثر ما أمكنه من غير خروج إلى حد الملل والهذرهة ".
هذا كله – كما قلت – يخرج منه ما ذكر – أن هذا من باب الكرامة
فسعيد بن جبر رحمه الله ثابت بالإسناد الصحيح إليه أنه كان يختم القرآن بين المغرب والعشاء.
كيف هذا والوقت بين المغرب والعشاء قصير لا يزيد على ساعتين على أكبر تقدير، ولو أخر العشاء ساعة فهل يختم القرآن في ثلاث ساعات؟ على أقل تقدير الحافظ المجد الذي يقرأ القرآن عن ظهر قلب قراءة حدراً يحتاج إلى خمس ساعات، فكيف إذن قرأه سعيد ابن جبير بين المغرب والعشاء؟
نقول هذه كرامة، إذ كيف أسري بنبينا عليه الصلاة والسلام وعرج به وحصل له ما حصل في هذه الرحلة المباركة في جزء من الليل.
ولذلك يقول أئمتنا عن هذه الكرامة التي تقع في وقت قصير هي من باب (نشر الزمان أي توسعته، فهذا الزمن يوسع في حقك لكنه يبقى بالنسبة لغيرك كما هو.
إخوتي الكرام ... الذي ينظر في أحوال سلفنا فسيجد حقيقة أن الله كان يبارك لهم في كل شيء في طعامهم وشرابهم وأولادهم وأهليهم، وبيوتهم وعلمهم.
بعض مؤلفات بعض العلماء لو أردنا أن نقرأها فستنتهي أعمارنا قبل أن من قراءتها فقط فكيف بمن ألفها كيف ألفها في هذا الزمن؟(6/143)
مؤلفات ابن الجوزي زادت على (500) مصنف ولا أقول مجلداً، فـ (زاد المسير) هو أحد كتب ثلاثة له في التفسير يقع في (9 مجلدات) ، و (المغني) له في (20مجلداً) ، و (المنتظم) له في (10 مجلدات) ، وصفة الصفوة له أيضاً في (4 مجلدات) وحدث بعد ذلك وما شئت ومع ذلك يروي هذه الكتب بالسند، وهي كتب موجودة بين أيدينا الآن!!
وأما السيوطي فمؤلفاته زادت على (900) مصنف، يكتبونها كتابة ولو جاء أحد ينسخها نسخا فقط لما استطاع أن يكتبها طول حياته، فهي كرامة من الله لهم.
فلا يقال بعد ذلك: لا يعقل، بل هي موجودة ووجودها دليل على أنها ليست مخالفة للعقل وليست بمستحيل بل نقول إن هذا خرق للعادة وإكرام من الله لهذا الإنسان والله على كل شيء قدير.
فهو أمي لا يقرأ ولا يكتب – وهو شيخ الإسلام – فإنه إذا سمع حفظ أقوى من جهاز التسجيل ولا يخطئ ولا يلحن بحرف، حدثه بمائة حديث بأسانيدها بمجلس واحد، يعيده لك على الترتيب، وأوليس قد جرى نحو هذا للبخاري؟
فعندما أراد الذهاب لبغداد أرادوا أن يمتحنوه فعمدوا إلى مائة حديث، فقسموها على عشرة طلاب فكل طالب عنده عشرة أحاديث، فأخذوا متون أحاديث زيد وأعطوه لعمرو ومتون أحاديث عمرو لزيد، ومتون أحاديث خالد أعطوها لمحمد ومتون أحاديث محمد لخالد وهكذا فعلوا بالعشرات الباقية.(6/144)
فلما جاء إلى بغداد وكما قلنا أرادوا أن يمتحنوه وهل هو أمير المؤمنين في الحديث أم لا؟ ، في الأول قال: حديث كذا بإسناد كذا، فقال: لا أعرفه، ثم قال الثاني كذلك أحاديثه والثالث والرابع حتى انتهى العشرة وهو يقول في الأحاديث كلها لا أعرفه، فالذين يعرفون هذا المقلب يقولون: هو إمام هدى ثابت راسخ والجهال يقولون: سبحان الله عشرة أحاديث لم يعرف ولا واحد منها، أهذا هو أمير المؤمنين في الحديث!! فلما انتهى العشرة من عشراتهم قال للأول: قم أنت عشرة أحاديثك هي كذا على الترتيب الحديث الأول، الثاني، الثالث، الرابع، وأسانيدها، أسانيد الرابع فاسمعها فذكرها له (أي ذكر البخاري) وهكذا فرد مائة متن لمائة إسناد، فما بقي أحد في المجلس إلا قام وقبل رأسه وجبهته.
فهذا هو العلم
فهل يقال عن هذا لا يعقل؟ أم يقال هذه كرامات أكرمهم الله بها وفضلهم على كثير ممن خلق تفضيلاً، والله لو أراد الإنسان أن يصل إلى هذا المسلك بجده واجتهاده فإنه عاجز عاجز عاجز، إلا إذا من الله عليه بذلك.
فحقا ً إنه أمر عظيم ما حصل من الإمام البخاري ولذلك يقول الإمام العراقي في ألفيته:
.................................. ... نحو امتحانهم إمام الفن
في مائة لما أتى بغداد ... فردها وجود الإسناد(6/145)
وهنا في قصته (سُليم) نقول لا يعقل!!!! دعنا من هذا فإن الله يكرم عباده بما شاء، فبعض يكرمه أحياناً بقوة الجسم وأحيانا بقوة الفكر، وأحياناً بهما، وأحياناً وأحياناً فيطوف صلى الله عليه وسلم على نسائه التسع بغسل واحد في ساعة، إن هذا ليس بمقدور البشر والنبي صلى الله عليه وسلم بين لنا أنه إذا اتصل الإنسان بأهله ووجد نشاطاً من نفسه معاودة الوطء فأراد أن يتصل مرة ثانية فليغتسل أو ليتوضأ على أقل تقدير ليكون أنشط حتى لا يعتريه فتور، فكيف به صلى الله عليه وسلم يطوف على نسائه التسع بغسل واحد؟! ثبت في معجم الطبراني بسند رجاله ثقات عن أنس بن مالك رضي الله عنه [أنه كان عنده أكّار – أي مزارع – فاستعدت عليه زوجته – أي اشتكته لأنس – وقالت لا يدعني في ليل ولا في نهار، وجسمي لا يتحمل، فقضى بينهما أنس على أن لا يزيد في كل يوم وليلة على ست مرات] وهذا ثابت في مجمع الزوائد (4/295) في كتاب النكاح، وبوب عليه الإمام الهيثمي باب فيمن يكثر الجماع.
ألزمه بها أنس، لكن كم يريد هو؟ الله أعلم.
فهذا حقيقة خارق للعادة وليس هذا في مقدور البشر.
ولذلك إخوتي الكرام ... من حكمة مشروعية ربنا لتعداد الزواج هذا، فلو أن هناك رجلا ًعنده هذه القوة والشهوة وليس عنده إلا امرأة واحدة فماذا تفعل له؟
هل تعطله وتحجزه عن امرأته؟ ، أو تتركه يذهب يتلمس طريق الحرام هنا وهناك؟ إن أفضل علاج وأنجحه وأنجعه لمثل هذا هو التعدد، وما ألزم الله أحداً بالتعدد وإن كان رغب فيه وهذا شرع الله الحكيم (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) .
الحاصل أن نبينا عليه الصلاة والسلام كان كهلا ً عندما أسري به لكنه – كما قلنا – شابٌ وفوق الشباب، عليه الصلاة والسلام فإذن هذا ليس من باب التنقيص.
3- كيف يرفع نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام صوته، ويتذمر، والله يتحمل ذلك منه ويعرف له ذلك؟(6/146)
نقول: هذا مدلل، والمدلل له حساب خاص، فإياك أن تقيس نفسك عليه.
سفيان الثوري عليه رحمة الله عندما طلبه الشُّرَطة في عهد أبي جعفر المنصور، وطلب في عهد هارون الرشيد أيضاً، فلما كان في عهد أبي جعفر المنصور أرسل في طلب سفيان وأرسل الخشابين قبله إلى مكة وقال لهم انصبوا الأخشاب لأصلب عليها سفيان الثوري، أي يشنقه ويصلبه فذهبت الشرطة إلى المسجد الحرام، وسفيان الثوري بين الفضيل بن عياض وسفيان بن عيينة، ورأسه في حجر الفضيل ورجلاه في حجر سفيان بن عيينة ويغطيانه من أجل ألا تراه الشُّرطة ويقبضوا عليه، ثم قالا له: يا سفيان اخرج من المسجد ولا تشمت بنا الأعداء أي اخرج وتوارى فليس حلا ً أن نغطيك هكذا لأنهم سيرونك، فقام رحمه الله ورضي عنه وتعلق بأستار الكعبة وقال: برئت من الله إن دخل أبو جعفر المنصور مكة وأنا مع أن أبا جعفر على الطريق أرسل الخشابين وهو في أثرهم ووراءهم، فلما وصل أبو جعفر على حدود مكة قبض الله روحه فمات، وما دخل مكة، والقصة انظروها في تذكرة الحفاظ وسير أعلام النبلاء في ترجمة سفيان أم الثوري وفي غيرهما كذلك.
إن قال قائل كيف يصدر هذا من سفيان الثوري؟
نقول: هذا مدلل، فلا تجعل نفسك مثله.
وهذا نبي الله موسى اتخذه نجياً وكليماً (وكلم الله موسى تكليماً) وفضله بذلك، فإذن هو من المدللين، وإذا كان ذلك كذلك فإنه يصبح بين المدلل وبين من يتدلل عليه أحيانا من؟؟ مالا يصلح أن تصدر من غيره، وهذا هو الذي جرى من نبي الله موسى، فتحمل الله منه لأنه مدلل.
قال أئمتنا:
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد ... جاءت محاسنه بألف شفيع
(وإذا الحبيب أتى بذنب واحد) ، أخطأ وتذمر ورفع صوته وصاح.(6/147)
(جاءت محاسنه بألف شفيع) : فهذا يقاوم أعتى أهل الأرض في زمنه ويصبر، فإذا جرى منه وقد كنت قلت لكم أن موسى عليه الصلاة والسلام مظهر للجلال والقهر الإلهي، كما أن عيسى عليه الصلاة والسلام مظهر للجمال، ونبينا عليه الصلاة والسلام مظهر للكمال (جلال وجمال) .
فهذا مدلل وإذا كان كذلك فلا تقس على نفسك، وما جرى منه: حبيب وحبيب يتناجيان بما بينهما، فهل يجرؤ أحد منا أن يذهب إلى الكعبة ويقول يارب إني أبرأ منك إذا لم تقتل فلاناً وأمته؟
والله إني لأخشى أن تنزل عليك صاعقة من السماء تحرقك، لأن كل واحد منا ينبغي أن يعلم مكانته ومنزلته،وعليه فينبغي أن نقف عند حدنا.
إذن المدلل له مكانة، أبو بكر رضي الله عنه من المدللين أم لا؟
هو من المدللين على نبينا عليه صلوات الله وسلامه، وسأذكر لكم قصتين باختصار:
القصة الأولى: رواها الإمام البخاري في صحيحه في كتاب فضائل أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام في فضائل أبي بكر ومناقبه:
انظر (مختصر صحيح البخاري للزبيدي 1522)(6/148)
اختصم أبو بكر وعمر وكان المخطئ أبا بكر رضي الله عنه، فذهب أبو بكر إلى عمر فقال أثمّ هو؟ قالوا: نعم، فاعتذر أبو بكر إلى عمر، فما قبل عمر، فخرج أبو بكر مغاضباً إلى النبي عليه الصلاة والسلام فلما وصل عرف النبي صلى الله عليه وسلم ما في وجهه، فقال: أمّا صاحبكم فقد غامر،؟؟ وقال: يا رسول الله، إنه كان بيني وبين ابن الخطاب شيء، فأسرعت إليه ثم ندمت فسألته أن يغفر لي فأبى عليّ، فأقبلت إليك، فقال: يغفر الله لك يا أبا بكر – ثلاثاً -، ثم إن عمر ندم وأتى منزل أبي بكر فسأل أثمَّ أبو بكر؟ فقالوا: لا، فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسلم عليه فجعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتمعَّر (أي تذهب نضارته من الغضب) حتى أشفق أبو بكر، فجثا على ركبتيه، فقال – أي أبو بكر – يا رسول الله أنا كنت أظلم – مرتين – فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذبت وقال أبو بكر: صدق، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركوا لي صاحبي؟ فهل أنتم تاركوا لي صاحبي فما أوذي بعدها] فهو إذن من المدللين.
فإذا غضب أبو بكر على أحد وتكلم عليه فيجب أن يتحمل عمر ومن دونه وليس من حققه أن يعترض على أبي بكر أو يعتب عليه ولو وطيء رقبته، فهذا أبو بكر له مكانته فاعترف أنه ذو شيبة المسلمين ووالدهم.
ولو أن الزوج أخطأ على زوجته وضربها فهل يجوز لها أن تضربه؟
لا يجوز لها أن تلوح بيدها له فضلا ً على أن تضربه.
فإن قيل: فهو لم ضربها مخطأ؟
نقول: هذا زوج، روى أحمد والنسائي بإسناد جيد رواته موثوقون مشهورون [ولو كان من قدمه إلى مَفْرَقِ رأسه قَرْحة تنْبَجِسُ بالقبيح والصديد ثم استقبلته فلحسته ما أدت حقه] كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام، فهو إذن زوج فإن؟؟ عليها فعليها أن تتودد له ليصفو قلبه وليعود إلى صوابه، وأما أن تقول: ضربتني مخطئاً فخذ؟؟ فنعوذ بالله من هذا، ألم تعلم مثل هذه المرأة أنه زوج؟!(6/149)
فإذا كانت الزوجة ليس من حقها أن تضرب زوجها – لأنه مدلل عليها – فليس من حق أحد من الأمة أن ينظر إلى أبي بكر نظراً فيه شيء من الشر والغضب فضلا ً على أن يأخذهم؟؟؟
القصة الثانية: رواها الإمام الحاكم في مستدركه والطبراني في معجمه، وغيره بسند صحيح عن ربيعة بن كعب الأسلمي قال كنت أخدم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي: يا ربيعة ألا تتزوج قلت: لا والله يا رسول الله ما أريد أن أتزوج وما عندي ما يقيم المرأة، وما أحب أن يشغلني عنك شيء.(6/150)
ثم عرض عليه الزواج مرة ثانية فرفض، ثم وافق في الثالثة فأرسل صلى الله عليه وسلم إلى (؟) من الأنصار ليزوجوه فزوجوه، ثم جمع له الصحابة الصداق وزن نواة من ذهب ثم عاونوه على الوليمة، إلى أن أخذ قرابة صفحتين في المجمع) ، ثم قال – أبي ربيعة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاني بعد ذلك أرضاً وأعطى أبا بكر أرضا، وجاءت الدنيا فاختلفنا في عِذق نخلة [لأنها متدلية على الأرض] فقلت أنا: هي في حَدّي، وقال أبو بكر هي في حَدّي وكان بيني وبين أبي بكر كلام، فقال لي أبو بكر كلمة كرهتها، وندم – أي أبو بكر – فقال: يا ربيعة رد علي مثلها حتى يكون قصاصاً، قلت: لا أفعل، قال أبو بكر: لتقولن أو لأستعدي عليك برسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: ما أنا بفاعل، قال وضرب الأرض [وضرب الأرض برجله مغضباً] وانطلق أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وانطلقت أتلوه، فجاء أناس من أسلم فقالوا: رحم الله أبا بكر، في أي شيء يستعدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي قال لك ما قال؟ فقلت: أتدرون من هذا، هذا أبو بكر الصديق، هذا ثاني اثنين، هذا ذو شيبة المسلمين،؟؟ لا يلتفت إليكم يسمعكم فيلتفت إليكم – فيراكم تنصروني عليه فيغضب فيأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيغضب لغضبه، فيغضب الله عز وجل لغضبهما فتهلك ربيعة، قالوا: ما تأمرنا، قال ارجعوا فانطلق أبو بكر رحمة الله عليه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتبعته وحدي حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فحدثه الحديث كما كان، فرفع رأسه إلي فقال يا ربيعة مالك وللصديق، قلت: يا رسول الله، كان كذا، كان كذا، قال لي كلمة كرهتها فقال لي قل كما قلت حتى يكون قصاصاً فأبيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ترد عليه، ولكن قل: غفر الله لك يا أبا بكر، قال الحسن: فولى أبو بكر رحمه الله يبكي.(6/151)
والقصة أوردها الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد 4/256، 257 في كتاب النكاح.
فهذا مدلل وموسى مدلل، فإذا ارتفع صوته فما الذي يحصل؟ فيجري بينه وبين حبيبه ما يجري فلا تدخل نفسك بينهما فأنت واجبك أن تحافظ على الحدود الشرعية التي قيدت بها.
الآية الثالثة: من الآيات الثلاث التي رآها في السموات عندما عرج به إلى السموات العلا رؤية سدرة المنتهى وما يوجد حولها من عجائب:
ثبت في حديث الإسراء والمعراج الذي تقدم معنا من رواية مالك بن صعصعة رضي الله عنه وفيه: يقول النبي صلى الله عليه وسلم [ثم رُفِعْتُ إلى سدرة المنتهى [[وضبط: ثم رُفِعَتْ لي سدرة المنتهى أي أظهرت وبينت فإذا نَبِقْهَا (بفتح النون وإسكان الباء، ويقال بكسر الباء وهو ثمر السدر مثل قلال هجر (جمع قلة وهى وعاء كبير يوضع فيه الماء من الفخار، وهجر بلده في البحرين وإذا ورقها مثل آذان الفيلة، قلت: ما هذه يا جبريل: قال: هذه سدرة المنتهى، وإذا أراد أنها تخرج من أصلها: نهران باطنان (أي يسيران إلى داخل الجنة) ونهران ظاهران (إلى خارجها) قلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: أما الباطنان فنهران في الجنة، وأما الظاهران فالنِّيْل والفرات] .
وسنبحث هنا عدة أمور:
المبحث الأول: (سدرة المنتهى) سميت بهذا الاسم لثلاثة أمور:
[لما أسري بي انتُهي بي إلى سدرة المنتهى، وإليها ينتهي ما يهبط فيُقبض منها، ينتهي ما يعرج من الأرض فيُقبض منها، وهي في السماء السادسة] .
إذن سدرة المنتهى في السماء السادسة فما يعرج من الأرض ويصعد ينتهي إليها فلا؟ وما يهبط من السماء فما فوقها وينزل يكون محل هبوطه عندها، ثم تأخذه الملائكة الموكلة بتبليغه إلى ما شاءت، من أهل سدرة المنتهى، فما يصعد يقف عند سدرة المنتهى وما يهبط يقف عند سدرة المنتهى ثم تتولى الملائكة؟؟ وتوزيعه حسب ما يأمرها الله عز وجل.(6/152)
الثاني: قال الإمام النووي عليه رحمة الله: سميت سدرة المنهتى لأن علم الملائكة ينتهي إليها فلا يتجاوزها.
فالملائكة لا تعلم ماذا يوجد بعد سدرة المنتهى، وسدرة المنتهى أصلها في السماء السادسة – كما ذكرنا – وأغصانها وفروعها في السماء السابعة والملائكة لا تتجاوز هذا، ولذلك تقدم في حديث المعراج – وسيأتي هذا معنا في الآيات الرابعة أن نبينا عليه الصلاة والسلام عُرج به وتوقف جبريل لما وصلا إلى سدرة المنتهى (وما منا إلا له مقام معلوم وقال: لو تقدمت طرفة عين لاحترقت) .
الثالث: نقله الإمام الطبري في تفسيره (27/31) عند تفسير سورة النجم فروى بسنده إلى أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: [سميت بسدرة المنتهى لأنه ينتهي إليها أرواح؟؟ من المؤمنين] فإذن أرواح المؤمنين تكون في أصل سدرة المنتهى في ذلك المكان.
المبحث الثاني:
وصف الله هذه السدرة في كتابه بقوله (إذ يغشى السدرة ما يغشى)
والذي غشي السدرة عدة أمور منها:
أ- ما ثبت في حديث ابن مسعود المتقدم في صحيح مسلم وفيه [أنه غشيها فراش من ذهب] أي مملوءة بفراش من ذهب.
قد يقول قائل: فراش من ذهب له روح كيف هذا؟
نقول: يا عبد الله، لماذا هذا التفكير؟ فهل إذا كان الفراش من عصب أو لحم يمكن أن يكون فيه روح ويتحرك وإذا كان من ذهب لا يمكن؟ لماذا هذا التفكير؟
ألم ينزل على نبي الله أيوب عليه الصلاة والسلام عندما اغتسل بعد أن برأ من مرضه عندما قال الله له: (هذا مغتسل بارد وشراب) فسقط عليه جراد من ذهب فبدأ نبي الله أيوب يغترف من هذا الجراد فقال الله له: ما هذا يا أيوب أوليس قد أغنيتك؟ فقال يا رب لا غنى لي عن بركتك. أي هذه البركة نزلت من عندك فأنا سآخذها وأجمعها.(6/153)
والحديث في صحيح البخاري، وهذا حصل في حياتنا الدنيوية هنا، أفلا يعقل في مثل هذه الرحلة المباركة التي حصلت لخير البرية عليه الصلاة والسلام أن يكون هناك فراش من ذهب يطير حولها ويعيش فيها وكل هذه الرحلة خوارق وعجائب.
ب- ورد عن أبي سعد الخدري وابن عباس رضي الله عنهم قالا: [إنه يغشاها ملائكة الله] وثبت في سنن البيهقي عن أبي سعد الخدري رضي الله عنه أنه قال: [على كل ورقة منها ملك الله] .
جـ- ورد أنه تغشاها أنوار عظيمة، ففي صحيح مسلم من حديث أنس رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: [فلما غشيها من أمر الله ما غشيها (أي من أنواره) تغيرت فما أحد من خلالها يستطيع أن ينعتها من حسنها]
المبحث الثالث:
قال نبينا عليه الصلاة والسلام عن هذه السدرة:
[فإذا نَبْقِها مثل قلال هجر، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة] .
هذه الشجرة التي هي سدرة المنتهى، وهذا النبق الذي هو الثمر والذي هو كقلال هجر لِمَ خصت بالذكر ووضعت في ذلك المكان ورآها نبينا عليه الصلاة والسلام؟
خصت لثلاثة أمور:
أولها: ثمرها طيب.
ثانيها: رائحتها ذكية.
ثالثها: ظلها واسع.
فإذن لها طعم ولها ريح ولها ظل، فخصت لهذه الاعتبارات الثلاثة، وهذه الاعتبارات الثلاثة تشبه الإيمان فالمؤمن ينبغي أن يكون:
رائحته: قوله حسناً ...
ظله ... : وفعله حسناً ...
طعامهِ ... : ونيته حسنة
بمثابة شجرة السدر طعم ورائحة وظل.
وهكذا المؤمن فالقول الذي يصدر منه هو بمثابة الرائحة الذكية التي تعبق وتفوح، فلا يتكلم إلا بطيب، كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام [من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت] ، فهو قول حسن يعبق به المجلس ويفوح فلا نتكلم بما يخدش الآذان أو في عرض مسلم.
والعمل الذي يصدر منه هو بمثابة ظل شجر السدر، فهو عمل صالح؟؟ النية التي تصدر منه هي بمثابة الطعم وهي أطيب وأطيب مما ذكر.(6/154)
فإذن ذكرت هذه الشجرة وخصت في ذلك المكان ورآها نبينا عليه الصلاة والسلام؟؟ الإيمان الذي كلف به عليه الصلاة والسلام وبتبليغه يشبه هذه الشجرة التي غشاها ما غشاها، ونبقها في تلك الصورة الحسنة البهية وراحتها ذكية.
وقد شبه نبينا عليه الصلاة والسلام المؤمن بالأترجة إذا قرأ القرآن،؟؟؟؟؟ يقرأ القرآن، ثبت في الصحيحين وسنن النسائي وغيرها من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب] والأترجة هي المانجو الآن، ويمكن أن يقال شجر التفاح يعد لها هي في الأصل المانجو،وهي موجودة في بلاد مصر بكثرة، وهكذا التفاح ريحه طيب وطعمه حلو، ولو اشتريت ثمر المانجو ووضعته في البيت، فإنك إذا دخلت إلى البيت تشم ريحه إذا كان ناضجاً وكأن البيت مطيب، وهكذا الطعم. ثم قال: [ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة طعمها طيب، ولا ريح لها] فتوجد نية طيبة لكن لا توجد رائحة حسنة من هذا المؤمن.
ثم قال: [ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة] ، والريحانة ريحها طيب لكن طعمها مر وكذا حال هذا المنافق فالقول الذي يصدر منه هو بمثابة الرائحة الطيبة، أما النية فهي سيئة الله أعلم بحال صاحبها، فتجده يتجمل بقراءة القرآن فتحصل منه رائحة طيبة. ثم قال [ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظل لا ريح لها وطعمها خبيث] .(6/155)
فإذن شبه المؤمن الذي يقرأ القرآن بالأترجة، وشبه في حديث الإسراء والمعراج بشجرة السدر، وضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثلا ً لاستمرار الخيرية في المؤمن وعند انقطاع المؤمن عن الخير بشجرة النخيل، ففي الصحيحين وغيرهما من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال [إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مِثْل المسلم يفي مثل المسلم – أي هي تشبهه) فحدثوني ما هي؟ قال عبد الله بن عمر: فوقع الناس في شجر البوادي ووقع في نفسي أنها النخلة فاستحييت لأنه كان عاشر عشرة فيهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وقد كان صغيراً – ثم قالوا حدثنا ما هي يا رسول الله، قال: هي النخلة] فلما قال لوالده عمر: أنا علمت أنها النخلة ولكنني استحيت أن أقولها؟ فقال: لأن تكون قلتها لكان أحب إلي من كذا وكذا من الأرض ذهباً، ليكون له قدر عند النبي صلى الله عليه وسلم عندما يوفق إلى الحكمة وليسدد للصواب.
(ألم تر كيف ضرب الله مثلا ً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفروعها في السماء) فالكلمة الطيبة هي التوحيد: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
والشجرة الطيبة كشجرة السدر وشجرة التفاح وشجر النخيل وشجر الأترجة.
(تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون) وهكذا المؤمن هو في الأرض لكن أعماله تصعد إلى الله جل وعلا (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) .
المبحث الرابع:
الأنهار التي رآها نبينا عليه الصلاة والسلام تخرج من أصل سدرة المنتهى:
قلنا رأى النبي صلى الله عليه وسلم نهرين باطنين ونهرين ظاهرين، أما الباطنان فهما الكوثر والرحمة ويخرجان من عين هي أمّ لهما أسمها السلسبيل وأما الظاهران فهما النيل والفرات كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام.(6/156)
وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال [سيحان وجيحان والنيل والفرات كلها من أنهار الجنة] وسيحان وجيحان نهران في بلاد سمرقند التي هي الآن تحت حكم الاتحاد السوفيتي فك الله أسر بلاد المسلمين، والنيل في بلاد مصر، والفرات في بلاد الشام، وهذه الأنهار كلها من الجنة.
فإن قيل: كيف نجمع بين هذا الحديث وبين حديث الإسراء والمعراج الذي ذكر فيه نهرين فقط؟
نقول: وهو الجواب المعتمد الذي قرره الإمام النووي رحمه الله والحافظ ابن حجر:
لا إشكال في ذلك، فسيحان وجيحان من أنهار الجنة، لكن لا ينبعان من أصل سدرة المنتهى، وأما النيل والفرات فمن أنهار الجنة ولكن ينبعان من أصل سدرة المنتهى ثم يتفجران للناس في الأرض فالنيل والفرات لهما مزيد بركة وفضل ومزية على سيحان وجيحان.
وانظروا شرح الإمام النووي على صحيح مسلم (17/177) وفتح الباري (7/203) .
ما المراد هنا من كون هذه الأنهار الظاهرة (النيل والفرات وسيحان وجيحان) من الجنة؟)
ذكر علماؤنا قولين:
القول الأول: ذكره القاضي عياض – وهو في نظري مردود مع جلالة قائله وهو أن في كون سيحان وجيحان والنيل والفرات من أنهار الجنة إشارة إلى معجزة عظيمة من معجزات نبينا عليه الصلاة والسلام وهي: أن البلاد التي فيها تلك الأنهار عما قريب ستفتح ويسلم أهل تلك البلاد ويؤولون إلى الجنة بعد ذلك، فهذه الأنهار ليس ماؤها من الجنة فعبر بالمحل وأراد من سيحل فيها في المستقبل من أهل الجنة.
وهذا في منتهى التكلف فيما يظهر لي ولا داعي دائماً لإخراج اللفظ من ظاهره.(6/157)
القول الثاني: وهو المعتمد وهو الذي قرره شيخ الإسلام الإمام النووي وابن حجر وغيرهما أن هذه الأنهار من أنهار الجنة حقيقة، فماؤها ينزل من الجنة بكيفية يعلمها الله ولا نعلمها ونحن نحن معشر أهل السنة نؤمن بأن الجنة مخلوقة، وأن النار مخلوقة، وإذا كان الأمر كذلك فالأنهار موجودة في الجنة الآن، وهذان النهران الظاهران (النيل والفرات) يصبان في النيل والفرات في الأرض بكيفية يعلمها الله جل وعلا.
وحقيقة لو أكرمك الله بشرب ماء النيل قبل أن يلوثه أهل الضلال والأباطيل بما سار عليه من مياه المجاري، وكذا الفرات، فأنت لو ذهبت إلى منبع النيل الأصلي لوجدت الماء أحلى وأطيب من العسل، لأنه من أنهار الجنة.
ولا يوجد ماء على وجه الأرض يعدل ماء النيل أو الفرات اللهم إلا ماء زمزم – كما تقدم معنا فإنه أفضل المياه.
وكذا لو ذهبت إلى النهر الثاني (الفرات) وشربت من ذلك الماء الصافي قبل أن يعكر المعكرون لانتعشت انتعاشاً ليس بعده انتعاش.
وهكذا سيحان وجيحان:
هذا ما يتعلق بالمبحث الرابع.
وختام الكلام على الآيات الثلاث التي رآها نبينا عليه الصلاة والسلام معراجه في السموات العلا: رأى الملائكة الكرام – كما تقدم معنا – كما رأى خليل الرحمن إبراهيم وكيف أن البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه إلى قيام الساعة.
وقد أخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام عن أحوال بعض الملائكة الذين رآهم،؟؟ وأميرهم ورئيسهم هو جبريل عليه الصلاة والسلام – كما أن سيد البشر وأميرهم وأولهم نبيناعليه الصلاة والسلام.
ثبت في مسند البزار ومعجم الطبراني الأوسط بسند رجاله ثقات عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: [مررت ليلة أسري بي بالملأ الأعلى (وهم الملائكة) فإذا جبريل كالحِلْس البالي من خشية الله] .(6/158)
والحِلْس: المتاع والثياب، أي كالمتاع والثياب الممزق الذي مضى عليه وقت كثير من الدهر فبلى.
وهذا هو حال الملائكة الكرام على نبينا وعليهم الصلاة والسلام.
القسم الرابع: آخر الآيات وآخر مباحث الإسراء والمعراج:
آيات عظيمة حصلت له بعد رقي السموات
أكرمه الله بعدة أمور منها:
1- فرض الصلوات الخمس.
2- مغفرة الكبائر لأمته الذين لا يشركون بالله شيئاً.
3- خواتيم سورة البقرة.
4- رؤية الله.
5- كلام الله.
فهذه آيات حصلت لخير البريات عليه صلوات الله وسلامه فوق السموات (؟؟؟) بعد أن انتهى من السماء السابعة وعُرج به إلى مستوىً سمع فيه صريف الأقلام.
وهذه أعظم الجوائز، وعندما اجتمع الحبيب بحبيبه فيعطيه أحسن التحف وهي الخمسة السابقة.
أولاً: أما الصلوات الخمس:
فقد فرضت في تلك الليلة من رحلته المباركة.
ثبت في صحيح مسلم من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وهو يروي لأصحابه حديث الإسراء والمعراج: [ففرض الله علي خمسين صلاة في كل يوم وليلة فمررت فنزلت إلى موسى – وتقدم معنا أن موسى صار في السماء السابعة بعد أن كان في السادسة – فقال: ما فرض ربك على أمتك؟ قلت خمسين صلاة، فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فإن أمتك؟؟ ذلك فإني قد بلوت بني إسرائيل قبلك وخبرتهم] أي أنا أعلم الناس بأحوال الناس؟؟؟؟ لن تطيق خمسين صلاة، إذ قد فرض الله على بني إسرائيل صلاتين في الغداء والعشي فما أطاقوها ولا فعلوها، فكيف ستؤدي أمتك خمسين صلاة؟ إنها لن تطيق ذلك.(6/159)
[قال نبينا عليه الصلاة والسلام: فرجعت إلى ربي فقلت: يا رب خفف عن أمتي، فحط عني خمساً، فرجعت إلى موسى فقلت: حط عني خمساً، قال: فإن أمتك لا يطيقون ذلك فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، يقول نبينا عليه الصلاة والسلام: فلم أزل أرجع بين ربي وبين موسى، حتى قال، يا محمد، إنهن خمس صلواتٌ كل يوم وليلة بكل صلاة عشر فذلك خمس صلاة (إذن نزل وصعر بسبع مرات) ، ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت عشراً، ومن هم بسيئة ولم يعملها لم تكتب شيئاً فإن عملها كتبت سيئة واحدة، قال: فنزلت إلى موسى، فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف (أي ليخفف من الخمس أيضاً شيئاً) فقلت: رجعت إلى ربي استحييت منه] وفي رواية البخاري (فقلت: لكن أرضى وأسلم) أي لا أريد أن أرجع إلى ربي مرة عاشرة لأنه راجعه تسع مرات حتى خفف الصلوات إلى خمس.
[فلما جاوزت نادى منادٍ: أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي، فهي خمس وفي الأجر خمسون] .
هذا هو الحديث الذي يقرر أن الصلوات فرضت في ليلة المعراج فوق السموات العلا بينه وبين ربه جل وعلا، ثم نزل ومر على نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام وهو في السماء السابعة وهذا الحديث عندنا حوله عدة تنبيهات:
أ - ورد في رواية الصحيحين من حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [فوضع عني شطرها] وتقدم معنا هنا: أنه وضع عنه خمس صلوات، خمس صلوات حتى خففت إلى خمس ورواية أبي ذر شطرها، والشطر النصف أي خمس وعشرين.
وفي رواية البخاري من حديث مالك بن صعصعة: [فوضع عني عشراً] و؟؟ خمساً فكيف نجمع بين هذه الألفاظ؟(6/160)
نقول لا إشكال على الإطلاق: فالمراد من الشطر إما البعض وهو الخمس وليس النصف الذي هو خمس وعشرين، أو أن المراد منه النصف لكن ليس بمرة واحدة إنما بمرات متعددة فأخبر عن وضع الشطر في خمس مرات كل مرة يضع خمساً وخمساً وخمساً وخمساً فالمجموع خمسة وعشرون وهذا شطر الخمسين. وأما العشر: فالمراد أنه وضعها في مرتين.
لكن الذي وقع حقيقة وضع خمس صلوات في كل مرة، هذا هو الجمع بين هذه الروايات.
ب- تنبيه حول رجوع نبينا عليه الصلاة والسلام إلى ربه:
كيف رجع نبينا عليه الصلاة والسلام إلى ربه يسأله التخفيف في المرات التسع؟؟ ولم يرجع في المرة العاشرة؟
نقول: لعله علم أن الله لما فرض عليه الخمسين لم يفرضها فرض إلزام، فبقي هنالك مجال للمراجعة، فلما وصلت إلى خمس وقد أخبره في المرة الأخيرة أنها خمس في كل يوم وليلة وهي في الأجر خمسون علم أن الأمر صار أمر إلزام وحتم فلا يمكن أن أطلب التخفيف فقال [أرضى وأسلم] .
يضاف إلى هذا أنه إذا طلب التخفيف في المرة العاشرة (الأخيرة) وقد حط عنه خمساً خمساً فإذا حط عنه الخمس المتبقية فستبقى هذه الأمة بلا فريضة؟؟ تقوم بها، ولذلك لو سأل في المرة العاشرة التخفيف فإن حاله يدل على أنه يريد إسقاط هذه الفريضة عن هذه الأمة، وهذا لا يليق ولذلك قال [أرضى وأسلم] ، وأما المرات السابقة فلعله علم بقرينة من القرائن أن ما فرض ليس من باب الجزم ويدل على هذا أن الله قد أجاب سؤاله وخفف عنه حتى وصلت إلى خمس صلوات.
جـ- ما الحكمة من فرضية الصلاة في تلك الليلة المباركة، وفي ذلك المكان الذي هو أشرف الأمكنة فوق السموات العلا.
ذكر العلماء حكمة معتبرة، وتبدو لي حكمة معتبرة لعلها أوجه من ما هو موجود في الكتب والعلم عند الله.(6/161)
1- الحكمة التي ذكروها هي: أن النبي عليه الصلاة والسلام في ليلة الإسراء والمعراج رأى حال الملائكة وعبادتهم لربهم جل وعلا، فمنهم الراكع الذي لا يرفع رأسه من الركوع، ومنهم الساجد الذي لا يرفع رأسه من السجود، ومنهم القائم لله عز وجل، هكذا عبادتهم، فتطلع نبينا عليه الصلاة والسلام لهذه العبادات العظيمة التي يقوم بها الملائكة العظام، فأجاب تطلعه وحقق أمنيته فأعطاه هذه العبادات بأسرها التي يقوم الملائكة في ركعة واحدة من ركعات الصلاة ففيها قيام وفيها ركوع وفيها سجود.
أي: ليجمع الله لهذه الأمة عبادات الملائكة بأسرها في ركعة من ركعات الصلاة.
2- والحكمة التي تبدو لي هي: أن الصلاة إنما فرضت في ذلك المكان المعتبر لما فيها من عظيم الأثر فالصلاة لها أثر في الإنسان لا يوجد هذا الأثر في غيرها من عبادات الرحمن، فالجهاد الذي هو ذروة سنام الإسلام، والزكاة والحج والصوم وهكذا ما شئت من العبادات لا يوجد في هذه العبادات أثر كأثر الصلاة من تزكية للنفس ومن داوم مراقبة الرب جل وعلا، ومن؟؟ بين المؤمنين في هذه الصلوات.
فإذن الآثار التي توجد في الصلاة لا توجد في غيرها، فكل يوم ينبغي أن تصلي خمس مرات ولعل الإنسان لا يمر عليه يوم ويصلي أقل من أربعين ركعة وأحياناً يزيد، فالفرائض سبعة عشر ركعة والسنة الراتبة اثنا عشرة صار المجموع 29، ثم ضم إليها قيام الليل الذي هو ثماني ركعات صار العدد 37، مع ثلاث ركعات الوتر صار العدد40 ركعة، هذا لم يؤدى سنة الضحى، ونافلة قبل العصر، ونافلة قبل المغرب، إذا لم يتطوع تطوعا؟؟ ويحيي ما بين العشاءين بالصلاة كما هو حال الصالحين.(6/162)
فأنت تصلي هذا العدد في اليوم وهذا له أثر جليل، أما الصوم فيجيء شهر متواصل تصوم وينقضي، وفيه آثار عظيمة لكن ليس كأثر الصلاة، ولذلك كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه – كما في موطأ مالك – يكتب إلى عماله: [إن أهم أمركم عندي الصلاة فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع] ، وأول ما يحاسب عليه العبد من أعمال يوم القيامة هو الصلاة، فإن صلحت نظر في سائر عمله وحوسب عليه وإلا فالويل له.
فإذن الصلاة لها أثر معتبر ومنزلة عظيمة وإذا كان الأمر كذلك فتعظيماً لشأنها فرضت في مكان وأحسنه وأغلاه وهو فوق السموات العلا من قبل الله إلى عبده محمد عليه صلوات الله وسلامه عليه مباشرة ودون أن يتخلل ذلك واسطة من جبريل أو غيره.
ثانياً: مغفرة الكبائر لأمته الذين لا يشركون به شيئاً:
... ثبت في صحيح مسلم وسنن النسائي والترمذي من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: [فأُعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً – أي مما أعطي – (لما رفع فوق السماء السابعة) : الصلوات الخمس، وخواتيم سورة البقرة، وغُفِرَ لمن لم يشرك بالله من أمته شيئا المقحماتُ] أي غفرت المقحمات لمن لم يشرك بالله من أمته والمقحمات هي الذنوب العظيمة الكبيرة التي يقحم صاحبها وتزجه في نار جهنم.
... وقد ثبت في سنن الترمذي بسند صحيح عن نبينا عليه الصلاة والسلام قال: [يقول الله: يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك....] وآخر الحديث هو محل الشاهد: [يا ابن آدم لو أتيتني بقُراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة] أي لو أتيت بما يقارب ملء الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة، وهذا من فضل الله على هذه الأمة، فنسأل الله أن يتوفانا على الإيمان بفضله ورحمته إنه ذو الجلال والإكرام.(6/163)
.. وقد أخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام في أحاديث صحيحة متواترة أن شفاعته لأهل الكبائر من أمته، والحديث في مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي وقال: حسن صحيح، ورواه أبو داوود والحاكم وابن حبان وغيرهم عن أنس رضي الله عنه – وهو مروى عن غيره عند غيرهما أيضاً – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي] ، فالله سبحانه وتعالى يشفّع نبيه في أهل الكبائر ويقبل شفاعته ويغفر لهم ويرحمهم فهو أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين،وهذه أعظم تُحفة حصلت لهذه الأمة في حادث الإسراء والمعراج.
المحاضرة الحادية عشرة: 8/4/1412هـ
... وعقيدتنا معشر أهل السنة أن أصحاب الكبائر يفوض أمرهم إلى ربنا القاهر فلا نحكم عليهم بنار، ولا ننزلهم جنة، لكن نرجو لهم المغفرة.
... هذا إذ لم يتوبوا، فإذا تابوا تاب الله عليهم، ومن يمت ولم يتب من ذنبه، فأمره مفوض لربه، فإن عذبه الله على ذنوبه فهذا عدل، وإن غفر له فهذا فضل، وأفعال الله تدور بين هذين الحكمين عدل، أو فضل، ولا دخل للظلم أو الجور في أفعاله سبحانه وتعالى؛ لأن أفعال الله إما أن تكون عدلاً أو فضلاً أو جوراً، والجور يتنزه الله عنه، يقول تعالى كما في الحديث القدسي [إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا] ، ويقول (ولا يظلم ربك أحداً) ويقول (ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلماً ولا هضماً) ، فبقي العدل والفضل فمن عذبه فبعدله، ومن غفر له وأدخله الجنة فبفضله سبحان الله.(6/164)
وهذا فيه رد على الفرق الضالة من الخوارج والمعتزلة الذين يخلدون فاعل الكبيرة في النار وكذلك فيه رد على فرقة الإباضية بزعامة مفتي عمان في هذه الأيام أحمد الخليلي، فإن هذا يرد على الخوارج الذين يكفرون فاعل الكبيرة – مع أن الإباضية فرقة من الخوارج، لكن يقول: هم مخلدون في النار وليسوا بكفار، فمن فعل كبيرة من زناً أو سرقة أو شرب خمر فهو مخلد في النار لكن – كما يقول – ليس بكافر ثم يقول وقد أخطأت الخوارج بتكفيره.
نقول له: ما الفارق بين قولك وقول الخوارج في النهاية والآخرة، هل يوجد هناك فرق؟
لا يوجد فارق أبداً، فالخوارج قالوا: يخلد فاعل الكبيرة في النار، وأنت تقول إنه يخلد في النار فما الفرق إذن؟!!
لكن الخوارج أجرأ منك على الباطل فقالوا: هو في الدنيا كافر، أما أنت فتذبذبت وقلت إنه مؤمن.
فنقول لك: إذا كان مؤمناً فكيف ستخلده في نار جهنم مع فرعون وأبي لهب وأبي جهل؟!! إن هذا لهو الضلال بعينه.
وقد نشر في هذا الوقت كتاباً سماه (الحق الدامغ) ، وكله باطل ليس فيه حق، أراد أن يقرر فيه ثلاث مسائل فحشاها ضلالاً وباطلاً:
1- نفي رؤية الله في الآخرة، ومن قال بالرؤية فهو ضال!!
2- كلام الله مخلوق.
3- أهل الكبائر مخلدون في نار جهنم.
وقد ضلَّ في هذه المسائل الثلاثة وحرف الكلام عن مواضعه، وافترى على الشريعة المطهرة، وهذا الكتاب الذي ألفه، سبقه إلى تأليف مثله زنديق ضال خبيث حيث ألف كتاباً سماه (الدامغ) ومؤلفه هو أحمد بن يحيى الرواندي المتوفى سنة 298هـ، يقول الحافظ ابن حجر في لسان الميزان في ترجمته ألف كتاب الدامغ ليرد به على القرآن ويبين – على زعمه – تناقضه – ثم قال: أجاد الذهبي في حذفه فلم يذكره في ميزانه، وإنما ذكرته لألعنه.
فهذا ألف الحق الدامغ في هذا العصر، ونحن نقول له: إنك تتحلى - أو تتقبح – بقبائح مستعارة فهذا العنوان سبقك إليه زنديق ضال. فذاك ألف الدامغ ليدمغ به القرآن على زعمه.(6/165)
وهذا – الخليلي – ألف الدامغ ليدمغ به عقيدة أهل السنة والجماعة، فانتبهوا لهذا!!.
وهذا بمنصب مفتي عمان وقد قلقل أذهان أهل السنة في ذلك المكان، وقبل أن آتي إلى رأس الخيمة من أبها اتصل بي بعض الأخوة من عمان وأرسل لي رسالة صغيرة بحدود ثلاثين صفحة، نشرها ذلك المفتي هناك حول جواب على سؤال وجه إليه،وهو أن رؤية الله في الآخرة مستحيلة، ومن قد آمن بهذا فهو ضال يشبه الخالق بالمخلوق , ذكر كلاماً باطلاً، وقد قال لي هذا الأخ: هذه الرسالة زعزع بها أهل السنة، إذ أنه منطيق في الكلام، وصاحب كلام معسول ويأتي بأمور متشابهة وكما قال يصطاد في الماء العكر.
فأعظم منه من الله بها على نبينا عليه الصلاة والسلام وعلى هذه الأمة أن بُشِّر نبيه عليه الصلاة والسلام بأنه سيغفر لهذه الأمة المقحمات وهى الذنوب الكبائر وهذا فضل عظيم،وهذه تحفة عظيمة، وحتى هذه التحفة على قدر المتحِف والمهدِي، وعلى قدر المُتحَف والمُهْدى، فهذه هدية بين الله ونبيه حبيبه وخير خلقه، فماذا ستكون؟!
حقيقة لابد أن تكون أنفس الهدايا والتحف، فأمتك لن نسوءك فيهم، فمن جاءنا؟؟؟ وعليه من الذنوب أمثال الجبال – إذا لم يشرك بالله شيئاً – نغفر له برحمتنا الواسعة نسأل الله أن يدخل عظيم جرمنا في عظيم عفوه إنه واسع المغفرة.
ثالثا: خواتيم سورة البقرة:
... وهذه هي التحفة الثالثة، وقد نزلت على نبينا عليه الصلاة والسلام في الإسراء والمعراج؟؟ بالآيتين في ذلك المكان وامتن الله على نبيه عليه الصلاة والسلام بهما، وبما لهما من الفضائل العظام.
وقد وردت بذلك الأحاديث الكثيرة ففي مسند الإمام أحمد بسند حسن عن عقبة بن عامر الجهني قال: [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له اقرأ الآيتين من آخر سورة البقرة، فإنهما من كنز من تحت العرش] أي هذه من الكنوز الثمينة وتلقيتها من تحت عرش الرحمن، فهذا إذن مال عظيم؟؟ ثمين نتقرب به إلى رب العالمين.(6/166)
وقد أخبرنا النبي عليه الصلاة والسلام عن منزلة هاتين الآيتين، ففي الصحيحين، وسنن النسائي والترمذي من حديث إلى أبي مسعود رضي الله عنه (وقد ورد في بعض الكتب ابن مسعود، كتفسير ابن كثير وغيره وهذا خطأ مطبعي صوابه: أبو مسعود وهو الأنصاري البدري وليس عبد الله بن مسعود فهذا من المهاجرين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [الآيتان من آخر سورة البقرة من قرأهما في ليلة كفتاه] .
قال الإمام النووي: (كفتاه) تحتمل أمرين لعل الله يجمعهما للقارئ بفضل رحمته:
1- كفتاه عن قيام الليل إذا لم يتيسر له أن يقوم في تلك الليلة لغلبة نوم أو تعب، فيكون له أجر قيام الليل بفضله ورحمته، ولا يقل قائل: أقرهما ولا أقوم للقيام وسأحصل الأجر.
2- كفتاه تلك الليلة كل مكروه وأذىً وبلية تقع في تلك الليلة.
وقد ثبت في سنن الترمذي وصحيح ابن حيان ومستدرك الحاكم بسند صحيح عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: [الآيتان من آخر سورة البقرة لا تُقرآن في دار ثلاث مرات فيقربها الشيطان] أي فمن قرأها ثلاث مرات في بيته فلا يقرب الشيطان هذا البيت في ذلك اليوم.
وروى ابن مَرْدُويَهْ عن علي رضي الله عنه أنه قال [لا أرى أحداً يعقل؟؟ ينام قبل أن يقرأ آية الكرسي والآيتين من آخر سورة البقرة] ومعنى كلامه أنه لا يمكن أن يكون ببالي أن أرى مسلماً يعقل – أي ليس بكافر، وليس بصغير حتى نقول إنه لا يدرك منزلة هذه الآيات – بل هو مسلم عاقل ينام دون أن يقرأ آية الكرسي والآيتين من آخر سورة البقرة، فحافظوا على ذلك.
أما آية الكرسي كما في صحيح البخاري: [من قرأها إذا أخذ مضجعه لا يقربه شيطان حتى يصبح] وهي أفضل آي القرآن على الإطلاق، فأفضل آياته آية الكرسي وأفضل سوره سورة الإخلاص.(6/167)
وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي بن كعب رضي الله عنه [أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: أي آيات في كتاب الله أعظم؟ فقلت: آية الكرسي، فضرب النبي عليه الصلاة والسلام في صدري وقال: ليهنك العلم أبا المنذر] ومعنى ليهنك هنيئاً لك وأحسن على هذه الإصابة.
وفي آية الكرسي اسمان؟؟؟؟؟؟؟ إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب.
وكان النبي عليه الصلاة والسلام – كما في سنن الترمذي وغيره – [إذا اجتهد في الدعاء يقول: يا حي يا قيوم] أي إذا دعا دعاءً يلح به وهو مهم فإنه يناجي ربه بهذين الاسمين: يا حي، يا قيوم.
وقد أوصى نبينا عليه الصلاة والسلام – كما في مستدرك الحاكم وعمل اليوم والليلة لابن السني بسند صحيح عن أنس رضي الله عنه [أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لابنته فاطمة ما يمنعك أن تقولي ما أوصيتك به، تقولين إذا أصبحت وإذا أمسيت يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث فأصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين] فهذا توسل إلى الله بحياته وقيوميته.
فحافظوا عليه صباحاً ومساءً، فإنه هدية من نبينا عليه الصلاة والسلام لبِضْعَتِه فلتأخذ به أنت وهذان الاسمان هما أصل لسائر صفاته، فكل صفة لله أصلها الحي أو القيوم.
فالصفات الذاتية بأسرها لا يثبت شيء منها لله إلا بعد ثبوت الحياة له جل وعلا، والصفات الفعلية بأسرها من الخلق والرزق والإحياء والإماتة والإعزاز والإذلال وما شاكلها لا تثبت لله إلا إذا ثبتت القيومية له.
فهو حي حياة كاملة فلا تأخذه سنة ولا نوم، ومن باب أولى لا يطرأ عليه فناء ولا يموت سبحانه وتعالى، وهو قيوم قائم بنفسه مقيم لشؤون غيره يدبر أمور عباده (أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت) .(6/168)
وقد ورد في سنن ابن ماجه بسند حسن – وهو في غيره أيضاً – عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: [الاسم الأعظم في ثلاث سور] قال القاسم بن عبد الرحمن، راوي الحديث، وهو من أئمة التابعين – فطلبته هذا فوجدته في سورة البقرة وآل عمران وطه.
فهي في سورة البقرة في آية الكرسي آية (255)
في سورة آل عمران الآية الثانية: (الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم)
وفي سورة طه الآية (111) : (وعنت الوجوه للحي القيوم)
وما ذكر الله اسمي الحي القيوم مقترنين إلا في هذه السور الثلاث، فقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث [اسم الله الأعظم في ثلاث سور] قرينة – كما قال أئمتنا – على أن هذين الاسمين هما اسم الله الأعظم لكن مع هذا نقول اختلف أئمتنا لقرائن هل هو هذا، أم يا ذا الجلال والإكرام؟ أم لفظ الله؟ وقيل غير ذلك، وكل فريق أورد أدلة له، لكن هذا – الحي القيوم – فيما يظهر أظهرها؛ لأن له ميزة على سائر أسماء الله سبحانه وتعالى، فإنهما كما قلنا أصلان لسائر أسماء وصفات الله سبحانه وتعالى فلا يستبعد أن يكونا هما اسم الله الأعظم، سبحانه وتعالى لاسيما مع قرينة [في ثلاث سور] .
ومبالغة النبي صلى الله عليه وسلم في الالتجاء إلى الله عندما يهمه أمر بـ (يا حي يا قيوم) فهذا مما يدل على أن لهذا منزلة، وكذلك تعليمه لابنته فاطمة أن تلجأ إلى الله في الصباح والمساء بـ (يا حي يا قيوم) والعلم عند الله.
يقول الإمام ابن تيمية – كما نقل عنه هذا تلميذه ابن القيم في مدارج السالكين: "لهذين الاسمين المباركين الأثر في حياة القلب ما ليس لغيرهما" ويقول "ومن تجريبات السالكين أن من واظب عليه قبل صلاة الفجر أحيا الله قلبه".
أي أن من تجريبات السالكين أنهم كانوا يلهجون بهذين الاسمين قبل صلاة الفجر فيحيي الله جل وعلا قلوبهم ويجعلها منشرحة منورة مطمئنة.(6/169)
س: هل ثبت أن الاسم الأعظم من الغيب الذي لا يعلمه إلا الولي الصالح أو أنه استنتاج حيث أنه لم يصرح به الرسول صلى الله عليه وسلم؟
جـ- لم يثبت هذا عن نبينا عليه الصلاة والسلام، ونقول: هو استنتاج من أحاديثه ويتوصل إلى معرفته أصحاب العقول السليمة الواعية بالنظر في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم – أحياناً – يشير إلى شيء ممكن أن يصل الإنسان إليه عن طريق النظر والتفكير فيما أشار إليه، كما في تعيين ليلة القدر فإنه صلى الله عليه وسلم لم يحددها ولكن أشار في أحاديثه إلى أشياء يمكن التوصل عن طريقها إلى معرفة الليلة.
إذن فالتحفة الثالثة خواتيم سورة البقرة، وقد ثبت في صحيح مسلم وسنن النسائي عن ابن عباس الله رضي الله عنهما: [أن جبريل على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه كان جالساً مع النبي ففتح باباً من السماء فسطع نورٌ ونزل ملك منه فقال جبريل: هذا ملك لم ينزل إلى الأرض قط ثم جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وقال: يا محمد، أبشر بنورين قد أوتيتهما فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لن تقرأ بحرف منهما إلا أوتيته] .
وقد يقول قائل: هل نزل هذا الملك بفاتحة الكتاب وبالآيتين من آخر سورة البقرة؟
نقول: لا، الملك لم ينزل يهما إنما نزل مخبراً بفضلهما، إذ أن هذه الآيات – كما قلنا – نزلت على النبيِّ عليه الصلاة والسلام وبُلِّغها فوق السموات العلا.
وقد ثبت في الصحيحين عن نبينا عليه الصلاة والسلام أن المؤمنين عندما يقرؤون آخر سورة البقرة؟؟؟ جملة فيها دعاء يقول الله قد فعلت.(6/170)
.. (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير) فيقول الله: قد فعلت؟؟؟ (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت، ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) يقول الله: قد فعلت، (ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا) قد فعلت، (ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به) قد فعلت، (واعف عنا) قد فعلت، (واغفر لنا) قد فعلت، (وارحمنا) قد فعلت (أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين) قد فعلت. فلا يقرؤون بجملة إلا يقول الله قد فعلت.
... وأما سورة الفاتحة فقد ثبت في الصحيح عن نبينا عليه الصلاة والسلام أن الله جل وعلا قال: [قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد (الحمد لله رب العالمين) قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال (الرحمن الرحيم) قال الله: أثنى عليّ عبدي، وإذا قال (مالك يوم الدين) مجدني عبدي، وفي رواية: قال [فوض إليّ عبدي] وإذا قال (إياك نعبد وإياك نستعين) قال: هذا بيني وبين عبدي] وتكملة الحديث: [ولعبدي ما سأل] أي: بعد أن أثنى علي العبد فليسأل ما يريد فأنا سأجيبه.
س: هل الأجر المذكور فيما سبق يترتب على مجرد التلفظ أم على إدراك المعنى؟
جـ: الأصل أن الأجر يترتب على القراءة التامة الكاملة بحضور القلب وخشوعه، وفهم المعنى ومعرفته، وحسن التلاوة وسلامتها، فإن نقص شيء من ذلك نقص الأجر بحسابه.(6/171)
.. فإذا أخل بالقراءة السليمة نقص الأجر، وإذا أخل بالخشوع والمراقبة والاستحضار والتفكر نقص الأجر، وإذا أخل في فهم المعنى نقص الأجر، وهذا كالصلاة فإنها؟؟؟؟؟. كاملة، وكل ما نقص من كمالها ينقص من أجرها ولذلك ثبت في السنن عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنَّ العبد يصلي الصلاة وما يكتب له نصفها، وما يكتب له ثلثها، وما يكتب له ربعها، وما يكتب له خمسها، حتى وصل وما يكتب له عشرها، وإذ لم يكتب عشرها مع أنه صلى، والقراءة كذلك.
... فإذن الثواب الذي نيط بالقراءة وعلق بها هو للقراءة الكاملة التي فيها – كما ذكرنا – خشوع التلاوة وفهم المعنى، وسلامة النطق، فإذا أخل بشيء من ذلك نقص من أجره، وقد يصل إلى حالة: [ربَّ قارئ للقراءة والقرآن يلعنه] ، نسأل الله العافية، وقد يصل المصلي إلى حالة [لا تزيده صلاته من الله إلا بعداً] وقد يصل الصائم إلى حالة [ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش] ، وقد يصل القائم إلى حالة [ليس له من قيامه إلا التعب والسهر] .
... ولذلك كان بعض الصالحين من أجل هذه المخاوف يقول: "من لم ير أن طاعاته ستدخله الجنة فقد عقله وضاعت بصيرته، أي عليه أن يقول: إن طاعاتي قد تستوجب لي النار، فكيف بمخالفاتي، وواقع الأمر كذلك، فطاعاتنا فيها من نقص وشوائب، ولو قدمت لبشر لما رضي بها لما فيها من نقص وتفريط، فكيف لو قدمت إلى أرحم الراحمين، لكن ليس لنا تعويل إلا على فضل الله الجليل، كما قال الأعرابي عندما تعلق بأستار الكعبة: "اللهم إن استغفاري مع إصراري لؤم؟؟؟ وإن تركي للاستغفار مع علمي بواسع فضلك عجز مني، يا من تتحبب إلينا بالنعم، ونتبغَّض إليك بالمعاصي، يا من إذا وَعَد وفَّى، وإذا توعّد تجاوز وعفى أدخل عظيم جرمي في عظيم عفوك" الأمر كذلك فهذا حال البشر إذا رجعوا إلى عقولهم.(6/172)
.. ولذلك كان الصالحون يقولون: "اللهم إن أطعناك فبفضلك والمنة لك، وإن عصيناك ف؟؟؟ وعدلك والحجة لك، اللهم بحق قيام حجتك علينا وانقطاع حجتنا اغفر لنا". أي نحن؟؟؟ عاجزون مستسلمون، وحقيقة.. لعل هذا يرضي ربنا علينا.
... الحجاج وهو الظالم المشهور سفاك الدماء عندما يخاطب بمثل هذا الأسلوب يلين ويرق قلبه، فقد أساء أناس مرة في حقه فأحضرهم وأعمل السيوف في رقابهم حتى وصل إلى واحد منهم فقال له: قف أيها الأمير، قال: وماذا تريد أن تقول؟ قال: إن أخطأنا عليك وجنينا فلا تخطئ أنت؟؟؟ العفو عنا، فطرح الحجاج سيفه وقال: أما في هؤلاء من يحسن يعتذر؟! أي هؤلاء الذين قطعت رؤوسهم لا يوجد فيهم شخص واحد يحسن الكلام والاعتذار ويقول كقول هذا.
... ونقول نحن حالنا يستوجب قعر جهنم، لكن لا تعويل لنا إلا على فضل الله، فإن عذبنا فهذا ما نستحق وإن رحمنا فهذا جود منه وإحسان، أما أنه نريد أن يكون لنا عند الله يد وعليه منة ونقول فعلنا وفعلنا ونخص الحسنات، فبئس هذا العمل وهذا القول، وهذه الحسنات لا يعلم حالها عندما فعلت إلا الله سبحانه وتعالى، فلنحسن التوبة والاعتذار فكما قلنا حسن الأسلوب يرق قلوب الجبابرة فكيف بأرحم الراحمين وأكرم الأكرمين سبحانه وتعالى ذي الفضل العظيم، فخواتيم سورة البقرة إذن هي التحفة الثالثة.
رابعا: رؤية الله سبحانه وتعالي:
؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ السموات العلا.
... ومبحث الرؤية مرّ في منهج السنة الأولى، وقد مرّ معكم مختصراً، وتكلم عن رؤية المؤمنين ربهم جل وعلا يوم القيامة، لكن هناك مباحث أخرى تتعلق بموضوع الرؤية منها:
1- النساء وهل يرين ربهن في الآخرة أم لا؟
وهذه المسألة شهيرة ولم يتعرض لها في شرح الطحاوية، وقد ألف أئمتنا كتباً فيها من جملة ذلك: تحفة الجلساء برؤية النساء لرب الأرض والسماء للإمام السيوطي، وهو مطبوع ضمن الحاوي للفتاوى له (2/397) .(6/173)
والأقوال في هذه المسألة ثلاثة، والمعتمد أنهن يرين الله سبحانه وتعالى وهن مكلفات كما أن الذكور مكلفون، وسبب الخلاف ورود بعض الروايات التي استدل منها بعض الناس على خلاف ذلك وأورد بحثاً فقال النساء لا يرين الله جل وعلا، وهذا باطل، وكان لابد من التعرض لهذا؟؟؟.
2- موضوع الرؤيا المنامية لربنا جل وعلا، هل تحصل أم لا؟
... نعم تحصل، والله جل وعلا يُرى في المنام، وقد رآه نبينا عليه الصلاة والسلام – وهذا ليس بخصوصية له. وقرر هذا الإمام ابن تيمية وغيره عليهم جميعاً رحمة الله.
... يقول الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء (2/167) : "ولم يأتنا نص جلي بأن النبي عليه الصلاة والسلام رأى الله تعالى بعينيه فأما رؤية المنام فجاءت من وجوه متعددة مستفيضة".
... وأما رؤية الله عياناً في الآخرة فأمر متيقن تواترت به النصوص، جمع أحاديثها؟؟؟ والبهيقي وغيرهما".
... ففي رؤية الله في المنام ثابتة باتفاق أهل السنة، وقد حكى ابن حجر في فتح الباري في الجزء الثالث عشر الإجماع على أن الله يُرى في المنام.
... وقد رآه أبو حنيفة والإمام أحمد والإمام الأوزاعي وأبو سليمان الرَبْعي (محدث دمشق) ، ورآه عدد غيرهم، وأنا أعرف بعض من رآه ممن قصّ عليّ رؤيته، والله تعالى على كل شيء قدير.
... ولو كان البحث معنا في الرؤيا لذكرت الأدلة على ذلك بتوسع، لكن نذكر نزراً منها:
ثبت عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: "خير ما يرى النائم في منامه أن يرى ربه، أو نبينه عليه الصلاة والسلام، أو أبويه أو أحدهما ماتا على الإسلام".
... وثبت في سنن الدرامي في كتاب الرؤى باب رؤية الرب في المنام، ثم نقل عن؟؟؟ بسند صحيح: "من رأى ربه دخل الجنة". أي هذا هو تأويل الرؤيا إذا رآها.
... ثم بعد ذلك حديث معاذ، الذي ألف الإمام ابن رجب حوله كتاباً سماه (اختيار؟؟؟ في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى) .(6/174)
3- رؤية نبينا عليه الصلاة والسلام لربنا جل وعلا، فهذه المباحث حولها شيء من الخلاف ولابد من؟؟؟؟؟؟؟؟؟ الآخرين فليس لنا به الآن شغل أو علاقة لضيق الوقت، ولعله يأتي في حينه إن شاء الله في مبحث الرؤيا، فنقول وبالله التوفيق:
... اتفق أهل الحق على أن رؤية الله لم تحصل لأحد من الأنبياء في هذه الحياة الدنيا من آدم إلى عيسى عليه السلام أو لأحد من البشر.
... وأن من ادعاها لنفسه أو لأحد غير نبينا عليه الصلاة والسلام فهو ضال، وهذا محل وفاق وإجماع، لكن حصل خلاف في نبينا عليه الصلاة والسلام فقط.
... ودليل هذا الإجماع ما ثبت في صحيح مسلم وسنن الترمذي وابن ماجه عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال [واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا] هذا لفظ ابن ماجه.
... ولفظ الإمام مسلم في صحيحه (18/56 – بشرح النووي) : [تعلموا (أي اعلموا) أنه لن يرى أحد منكم ربه عز وجل حتى يموت] .
... وهذا الحديث ذكره نبينا عليه الصلاة والسلام عند معرض ذكره للدجال عليه لعنة ذي العزة والجلال لأن الدجال يدعي أنه الرب، فيقول لنا النبي صلى الله عليه وسلم يكفي في بطلان دعواه أن الله لا يرى في هذه الحياة الدنيا ولا يراه أحد من المخلوقات فيها فـ[اعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا] ، والدجال أعور وربكم ليس بأعور.
فإن قيل: لماذا لم يدخل النبي صلى الله عليه وسلم ضمن هذا الكلام لأنه عام يشمل كل أحد؟
فالجواب: أن المتكلم لا يدخل في عموم كلامه فيوجهه لغيره ويستثنى هو من الكلام فلا يشمله فذلك لم يدخل النبي صلى الله عليه وسلم ضمن هذا الكلام.(6/175)
ذكر الحافظ ابن حجر في فتح الباري (13/96) حيث قال بعد ذكر الحديث من رواية الإمام مسلم المتقدم "وفيه تنبيه على أن دعواه الربوبية كذب، لأن رؤية الله مقيدة بالموت والدجال يدعي أنه الله، ويراه الناس مع ذلك، وفي هذا الحديث رد على من يزعم أنه يرى الله في اليقظة تعالى الله عن ذلك،ولا يرد على ذلك رؤية النبي صلى الله عليه وسلم له ليلة الإسراء لأن ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم فأعطاه الله في الدنيا القوة التي يُنعم الله بها على المؤمنين في الآخرة".
فذكر هنا أن الله خص نبينا عليه الصلاة والسلام بهذا، وفي (8/608) منه – أي من فتح الباري عند كتاب التفسير في تفسير سورة النجم تعرض لهذا المبحث، فقال: "فإن جازت الرؤية في الدنيا عقلاً فقد امتنعت سمعاً، لكن من أثبتها للنبي صلى الله عليه وسلم له إن يقول: أن المتكلم لا يدخل في عموم كلامه".
فإذن النبي صلى الله عليه وسلم لا يشمله العموم السابق فهو مستثنىً، وهذا كما أنه صلى الله عليه وسلم أخبر هذه الأمة بأنه لا يحل لهم أن يجمعوا بين أكثر من أربع نسوة وقال لمن أسلم وعنده تسع نسوة [اختر أربعاً وفارق سائرهن] ، فهو لم يدخل في هذا الكلام بل له حكم خاص خصه الله به.
وهنا في هذا الحديث لا يدخل النبي صلى الله عليه وسلم في عموم هذا الكلام ولا يقال إنه لن تحصل الرؤية حتى يموت صلوات الله عليه وسلامه.
وعليه فقد اختلف أهل السنة في مسألة رؤية نبينا عليه الصلاة والسلام لربه ليلة الإسراء والمعراج على أربعة أقوال أذكرها على سبيل الإجمال ثم أفصل الكلام فيها عازياً كل قول لأهله من أهل السنة والسلف مبيناً دليله، مرجحاً – بعد ذلك – ما يظهر لي أنه راجح والعلم عند الله.
القول الأول: حصلت الرؤية بعيني رأسه صلى الله عليه وسلم.
القول الثاني: حصلت الرؤية بقلبه.
القول الثالث: لم تحصل الرؤية.
القول الرابع: التوقف، فلا نقول حصلت له، ولا نقول: لم تحصل.(6/176)
وسنفصل الكلام فيها الآن:
المحاضرة الخامسة عشر 9/4/1412هـ
القول الأول:
أن رؤية نبينا عليه الصلاة والسلام لربه جل وعلا حصلت بعيني رأسه:
... قال بهذا جمّ غفير من أئمة الإسلام، منهم: الإمام الحسن البصري، وكان يحلف على ذلك وقد أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء (7/381) في ترجمة العبد الصالح إبراهيم بن طهمان وهو من رجال الكتب الستة ثقة وفوق الثقة، توفي سنة 163هـ، أورد في ترجمته أنه كان يقول: "والله الذي لا إله إلا هو لقد رأى محمد عليه الصلاة والسلام ربه".
... قال الإمام ألألوي في روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع مثاني (27/54) : "وأنا أقول برؤية نبينا عليه الصلاة والسلام لربنا".
... وهذا القول قال به الإمام السخاوي وهو تلميذ الحافظ ابن حجر وصاحب كتاب المقاصد الحسنة – التحفة اللطيفة في أخبار المدينة الشريفة (1/30) .
... والتحفة اللطيفة تتكلم عن المدينة المنورة كما أنه ألفت كتب في أخبار مكة مثل أخبار مكة لأزرقي، وشفاء الغرام بأخبار البلد الحرام، والعِقد الثمين في أخبار البلد الأمين للإمام الفاسي،وهذا أحسن ما كتب في أخبار مكة ومن دخلها يقع في (8 مجلدات) ، وكذلك ألفت كتب في أخبار المدينة من ذلك الكتاب السابق الذكر الذي ألفه الإمام السخاوي وهو كتاب جليل، وكتاب المغانم المطابة في أخبار طابة للفيروز آبادي.
... الشاهد أنه قال في التحفة اللطيفة: "وأنا أقول برؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه" وقد انتصر لهذا القول الإمام ابن خزيمة في كتاب التوحيد وقرره في صفحات كثيرة تزيد على الثلاثين (من 197 - 230)
دليل هذا القول وعمدته خمسة أمور:
أولها: آثار ثابتة عن الصحابة لها حكم الرفع إلى نبينا عليه الصلاة والسلام:
1- روى ابن خزيمة في كتاب التوحيد ص 199 بإسناد قوي قاله الحافظ في الفتح 8/108 عن أنس رضي الله عنه قال [رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه] .(6/177)
2- روي الإمام الطبري في تفسيره، وابن خزيمة في كتاب التوحيد، والحاكم في المستدرك 2/469 بسند صحيح على شرط الشيخين أقره عليه الذهبي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: [اصطفى الله إبراهيم بالخلة، واصطفى موسى بالتكليم، واصطفى محمداً صلى الله عليه وسلم بالرؤية؟؟؟؟؟؟؟؟ له الرؤية، وأي هذه التحف والعطايا أغلى؟
حتما إنها الرؤية فهي أغلى العطايا.
... فموسى اصطفاه الله بالكلام، وإبراهيم اصطفاه الله بالخلة، ونبينا عليه الصلاة والسلام حصل له التكليم – كما سيأتيننا – وحصلت له الخلة، وخلته أكمل خلة لربه ولذلك يقول خليل الله إبراهيم – كما في حديث الشفاعة وهو حديث متواتر – عندما يذهب الخلق ويقولون اشفع لنا فقد اتخذك الله خليلاً فيقول [إنما كنت خليلاً من وراء وراء، اذهبوا إلى محمد عليه الصلاة والسلام فإن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر] .
... فإذن هو خليلٌ وكليمٌ، وله فضل لم يحصل لغيره من النبيين وهو الرؤية.
3- روي الطبراني في معجمه الأوسط بسند لا بأس به – والأثر في مجمع الزوائد (1/79) – عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: [رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه مرتين، مرة ببصره ومرة بفؤاده] . إذن فهذه آثار مصرحة بأن نبينا عليه الصلاة والسلام حصلت له الرؤية للعزيز الغفار.
ثانيها: احتمال الآيات لهذا القول:
... انتبه!! هناك فارق كبير بين قولنا نص الآيات وبين احتمالها، وإذا احتملت الآية هذا فاللائق بكرم الله ومنزلة رسول الله عليه الصلاة والسلام حصول هذا الأمر له.
ونقول: إذا احتملت وكان الاحتمال صحيحاً وجيهاً فهذا كافٍ في الدلالة.
... فإذن الآيات تحتمل ولا تنص، لأنها لو نصت لما كان هناك مجال للخلاف في هذه القضية والذي دفعنا لقول هذا الاحتمال – كما قلنا – تفضيل الله لنبيه عليه الصلاة والسلام على غيره من؟؟؟ ولا مانع من أن تفضيله الله تعالى بهذا الأمر.(6/178)
.. أي أن منزلة نبينا عليه الصلاة والسلام يليق بها حصول هذا التفضيل، فإذا احتملت الآيات ما يليق بكرم الله ومنزلة رسول الله عليه الصلاة والسلام ثبت هذا له كما سيثبت للمؤمنين في جنات النعيم، والله على كل شيء قدير.
أما الآيات التي تحتمل هذا، فهي أربع آيات:
1- قول الله تعالى (إنه هو السميع البصير)
وقد تقدم الكلام عليها عند آية الإسراء وقلنا في تفسير الضمير ومرجعه قولان:
الأول: أن يعود على الله، وهذا هو المعتمد أي أن الله سميع بصير.
الثاني: وحكى هذا أبو البقاء العُكْبري يمكن أن يعود على النبي صلى الله عليه وسلم أنه، أي هذا النبي الذي أسري به وعرج سميع لأوامري بصير بي حصلت له الرؤية وليس حاله كحال نبي الله موسى وهذا القول ليس هو المعتمد في تفسير الآية لكن الآية تحتمل هذا وليس في هذا الاحتمال؟؟؟ حتى نقول إنه مطروح وهذا هو المطلوب وهو كافٍ في الدلالة.
2- قوله تعالى (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس)
وقد تقدم ذكر هذه الآية، وقلنا إنه ثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: [هي رؤيا عين لربنا رسول الله صلى الله عليه وسلم] .
وهذه الرؤيا شاملة للآيات العظيمة التي رآها في الأرض وفي السماء وفي؟؟؟.
إذن إطلاق الآية بأن الله أرى نبيه عليه الصلاة والسلام آيات عظيمة بعينيه، أفلا يدخل في هذا الإطلاق رؤيته لربه جل وعلا؟ يدخل.
وهذا احتمال في الآية وهو احتمال مقبول.
3- قوله تعالى في سورة النجم (ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى) .
في بيان المراد بالضمائر في قوله (دنا فتدلى) قولان لسلفنا الكرام:(6/179)
الأول وهو الظاهر: أنها تعود على جبريل عليه السلام، اقرأ الآيات وانظر إلى الترتيب (والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علَّمه شديد القوى) . الذي علمه هو شديد القوى جبريل، تابع الآيات (ذو مرة فاستوى وهو بالأفق الأعلى ثم دنا) أي جبريل (فتدلى فكان) من النبي عليه الصلاة والسلام (قاب قوسين أو أدنى) ؟؟؟ الله إلى نبيه محمد عليه الصلاة والسلام بواسطة هذا الذي دنا فتدلى في تلك الساعة ما أوحى.
... وهذا هو الظاهر من الآيات، وهو أن هذه الرؤية حصلت من نبينا لجبريل وما رآه إلا مرتين في صورته الحقيقية، مرة في حادثة الإسراء والمعراج، ومرة رآه بأجياد، وله ستمائة جناح قد سد الأفق، (ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى) هذه هي الرؤية الثانية (عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى ... ) الآيات.
الثاني: أنها تعود على الله سبحانه وتعالى فتقول (ثم دنا) أي الرب جل وعلا، وقد ثبت هذا في صحيح البخاري في حديث الإسراء: [ثم دنا الجبار رب العزة فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى] من نبينا عليه الصلاة والسلام وحصل بينهما ما حصل (فأوحى إليه ما أوحى) وحصلت له الرؤية.
إذن فالدنو والتدلي هنا للرب جل وعلا، ولا يقال كيف دنا وكيف تدلى؟ لأن صفات؟؟؟ إقرار وإمرار، نقر بالصفة ولا نبحث في كيفيتها فعندما يقول (الرحمن على العرش) استوى نقول الاستواء معلوم والكيف مجهول، وكل ما خاطر ببالك فالله بخلاف ذلك.
... وإذا بحثت في الكيفية فقد مثلت، وإذا نفيت النص فقد عطلت، فلا تمثيل ولا تعطيل (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) .
والعجز عن دَرَك الإدراك إدراك ... والبحث في كنه ذات الإله إشراك
فلو قيل لنا: ما معنى استوى؟ نقول: معناها استوى، وما معنى دنا فتدلى؟ نقول: دنا فتدلى، فتفسيرها قراءتها وقراءتها تفسيرها فقط دون أن نكيف معنىً من المعاني نتخيله بأذهاننا.(6/180)
وعليه نقول: ليس الدنو بأغرب من نزول الرب إلى السماء كل ليلة [وهو حديث متواتر نؤمن به ومنكره ضال] .
وهذا الحديث: مع أنه صحيح البخاري إلا أنه جرى حوله كلام، رواية شريك؟؟؟ لذلك قيل: إن شريك وهم في هذا اللفظ المذكور.
... السند في صحيح البخاري صحيح لكن يوجد في المتن وهم، وهذا كما يوجد حديث في صحيح مسلم انقلب على الراوي مع أن الإسناد صحيح [حتى لا تعلم ما أنفقت شماله] والأصل [حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه] ؟؟؟؟؟ وهنا كذلك قيل إن آفة هذا الحديث وهم الراوي لا ضعف السند.
لكن الحافظ ابن حجر في الفتح كأنه لم يرتض اتهام شريك بالوهم في هذا اللفظ المذكور فقال: روى الأموي في مغازيه بسند حسن عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: [ثم دنا منه ربه فتدلى] يقول: وهذه الرواية شاهد لرواية شريك وأنه ليس بواهم فيها.
... ويكفي أن يدخل هذا المعنى – الثاني – في الآية وأن لا يقال دخوله باطل وغير محتمل، لكن هل هو راجح أم مرجوح؟ فهذا موضوع آخر.
4- قوله تعالى (ألم نشرح لك صدرك)
وتقدمت معنا، وتقدم معنا أن الشرح يراد منه أمران:
الأول: شرح معنوي، أي عن طريق شق صدره عليه صلوات الله وسلامه أربع مرات ثابتة صحيحة.
الثاني: شرح معنوي أي أن الله ألقى في قلبه العلم النافع والسكينة والطمأنينة وشرح صدره بذلك ووفقه للعمل بما ألقى في قلبه ثم رفع ذكره وأعلى مقامه ورتبته فحصل له الشرح من جميع الجهات.
فنقول: أليس من أعظم أنواع شرح الصدر رؤية الله جل وعلا؟ بلى.
وحقيقة كل شرح دون حصول رؤية الله فليس بشرح كامل، فإن الله سبحانه يمن على نبيه عليه الصلاة والسلام بأنه شرح له صدره على وجه التمام والكمال بحيث لم يبق في هذا الصدر؟؟؟ للشرح مرة ثانية، فلو لو تحصل له الرؤية فهل حصل الشرح التام الكامل؟ أم أننا نقول إنه يحتاج إلى شرح آخر مرة ثانية؟.(6/181)
.. ولذلك يكتمل نعيم الجنة ويطيب برؤية الله جل وعلا، ولولا هذا لما تلذذ أهل الجنة في الجنة، فكما أن هذه الدنيا لا تطيب إلا بمعرفة الله والأنس بذكره سبحانه وتعالى ولولا هذا؟؟؟ الحياة علينا، فهناك كذلك الجنة بلا رؤية لله كالدنيا بلا معرفة لله، فماذا تكون الفائدة من هذه الحياة إنما تكون كحياة البهائم.
... يقول الإمام الحسن البصري – عليه رحمة الله – كما في كتاب الاعتقاد للإمام البهيقي -: "والله لو علم العابدون أنهم لن يروا ربهم في الآخرة لزهقت أنفسهم" أي لماتوا، فكيف نعبد إلهاً في هذه الحياة، لم نره في الحياة لحكمة وهي حتى لا يكون الإيمان إيمان مشاهدة، لكن أن تصبح الحياة كلها إلى ما لا نهاية لن نرى فيها نور وجه ربنا الكريم؟ فهذا مما لا يرضاه أحد.
... وإن أحدنا لا يرضاه مع الزوجة فضلا ً عن المعبود، ولله المثل الأعلى – فيتزوج زوجة لا يراها ولا تراه بل مجرد كتابة عقد هي في الهند وهو في رأس الخيمة، فهل هذا مما يرضاه أحد؟ لا هذا مما لا يرضاه أحد – وهي زوجة – فكيف بالمعبود الذي نعبده جل وعلا ثم لا نتمتع برؤية نور وجهه.
وألا يتمنى أحدنا أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!!!.
كما في معجم الطبراني عن أنس رضي الله عنه – مرفوعاً بسند حسن – [سيوشك أحدكم يتمنى أن ينظر إليَّ ولو بأهله وماله] وواقع الأمر كذلك، ولو قيل: يمكن لكم أن تروا نبينا صلى الله عليه وسلم، فكيف رؤية رب العالمين؟ وكيف نعبد إلهاً لا نراه؟!!.
ساء ظن الإباضية بربهم – وهم فرقة من الخوارج – حيث يقولون رؤية الله ضلال ومن؟؟؟؟ وهل يوجد عندنا حبيب أعظم من ربنا جل وعلا الذي خلقنا ونعبده؟!!.
فإذن آنسنا الله في هذه الحياة بذكره وفي الآخرة بعد الممات لا نأنس إلا برؤية وجهه سبحانه وتعالى، إذن دخول هذا المعنى في الآية لا مانع منه والآية تحتمله، وهذا غرضنا. هذا هو الدليل الثاني.(6/182)
ثالثها: من أثبت الرؤية فمعه زيادة علم، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ:
وعندنا قاعدة مقررة: المثبت مقدم على المنافي.
... وقد حصل عندنا الإثبات في أثر ابن عباس وليس رؤية مطلقة بل قيد فقال مرة ببصره ومرة بفؤاده، فالتصريح برؤية النبي صلى الله عليه وسلم بعيني رأسه ثابت ولنضرب مثالا ً: لو قلت للأخ إبراهيم: رأيت والدك هذا اليوم في رأس الخيمة، فقال: أنا أعلم أن والدي في مكة، فأنا أثبتُّ وهو ينفي فبكلام من نأخذ؟
نأخذ بكلام المثبت، ولا يعني هذا أن كلام النافي باطل أو أنه كذاب، لكن النافي يخبرنا ما كان، والأصل عدم ثبوت مجيء والدك إلا ببينة، فأنا أثبت – وأنت متعلق بالحال السابق، وهنا من نفى الرؤية فهو متعلق بالحال السابق، ومن أثبت فمعه دليل زائد فيقدم على النافي.
رابعاً: خصوصيات نبينا عليه الصلاة والسلام كثير وفيرة، فما المانع من أن يخصه بهذا؟!.
س: فهل هناك محظور أو مانع؟ وهل الرؤية في الدنيا مستحيلة أم ممكنة؟
جـ: ممكنة لكن ورد الشرع بأنها لا تحصل لغير نبينا عليه الصلاة والسلام فنحن ننفيها عن طريق منع الشرع لا عن طريق الاستحالة العقلية، ولو كانت مستحيلة عقلاً لما سألها موسى عليه الصلاة والسلام (قال رب أرني أنظر إليك) ، ومعنى المستحيل أنه كفر، فهل يسأل موسى عليه السلام كفراً من ربه؟!.
... فدل هذا على أنه كان يعلم أن الرؤية ممكنة، فإذا أراد الله أن يكرم بعض عباده بها أكرمه، فموسى تطّلع لهذا فقال الله له: إنك لا تتأهل لذلك في الدنيا، لكن انظر إلى الجبل إن استقر فسوف تراني، وتعليق الرؤية على ممكن يدل على أن الرؤية ممكنة، فلو ثبَت الله الجبل لرأى موسى ربه، لكن لما تجلى ربنا للجبل (جعله دكاً وخرّ موسى صَعِقاً) الشاهد؟؟؟ أنه علق الرؤية على ممكن فدل ذلك على أن الرؤية ممكنة.(6/183)
.. وإذا كان الأمر كذلك فموسى سأل الرؤية ولكنه أخبر أنه لا يتأهل لهذا في الدنيا لأنه دون نبينا عليه الصلاة والسلام لا لنقص فيه، ولكن – كما قلنا - الكمالات تتفاوت فنبينا أفضل من موسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه قطعاً وجزماً، بل قلنا – إن خليل الرحمن إبراهيم أفضل من موسى.
... فإذن الرؤية جائزة عقلاً ممتنعة سمعاً وشرعاً للحديث الذي ذكرنا [واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا] وقلنا المتكلم لا يدخل في عموم كلامه، فبقي النبي صلى الله عليه وسلم مستثنىً، فهي إذن خصوصية فما المانع منها؟ لا يوجد شيء يمنع من ذلك.
خامسها: في هذا القول تأكيد لحصول الرؤية للمؤمنين في جنات النعيم:
؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ فنحن إذا قلنا بهذا القول نقطع الطريق على المعتزلة والخوارج الذين ينفون رؤية المؤمنين لربهم؟؟؟ هل يمكن لمخلوق أن يرى ربه؟ فنقول لهم حصل لنبينا عليه الصلاة والسلام فإذن هي ليست مستحيلا ً فنحن سنراه في الآخرة.
لكن عندما نقول لم تحصل لنبينا عليه الصلاة والسلام فيبقى البحث في الرؤية في الآخرة هل حصلت له ولنا أن لن تحصل لأحد؟!!.
... أما إذا قلنا أن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه حصلت فإن هذا مما سيريحنا من مجادلتهم ونقاشهم.
القول الثاني:
يثبت رؤية نبينا علية الصلاة والسلام لربه، لكن بقلبه لا بعيني رأسه.
س: وما المراد بالرؤية القلبية هل هي العلم؟(6/184)
المراد من الرؤية القلبية أن يراه بقلبه كما يراه ببصره، وليس المراد منها العلم عند أصحاب هذا القول، لأن العلم مشترك بينه وبين سائر المؤمنين فكلهم يعلمون الله ولو كان المراد (رآه بقلبه) أي علمه ليلة المعراج، فهذا لا يستقيم فإنه كان يعلمه قبل ذلك وكلنا نعلم هذا فما الداعي إذن للقول بأن نبينا عليه الصلاة والسلام رأي ربه بقلبه أي علمه؟!!!! وقد قال أصحاب هذا القول: ولا يشترط عقلاً لحصول الرؤية أن يرى الإنسان بعينيه اللتين هما في رأسه، فقد يرى بأصبعه وقد يرى برجله وقد يرى ببطنه وقد يرى بظهره وقد يرى بقلبه.
فإنه لم ير ربنا بعيني رأسه، لكن جعل له في قلبه بصراً فرأى ربه، كما كان للنبي صلى الله عليه وسلم رؤية من وراء ظهره وله عينان يبصر بهما، ويرى من ورائه كما يرى من أمامه وهكذا جعل الله له في قلبه.
وقد قال بهذا القول أئمة أجلاء منهم:
الإمام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، والإمام ابن كثير وجمّ غفير وفي تقديري وعلمي أن هذا القول ضعيف لعدة أمور:
إطلاق الرؤية ينصرف إلى رؤية البصر لا إلى رؤية القلب، ونحن عندنا قد ثبتت الرؤية مطلقة ومقيدة، فالمقيدة أثر ابن عباس (ببصره) ، والمطلقة – كقول أنس [رأى محمد عليه الصلاة والسلام ربه] .
ولا أعلم من أين أتى أصحاب هذا القول بقولهم إنه رآه بقلبه؟!
نقول: وثبت عنده [ببصره] وبقية الروايات عن الصحابة مطلقة، فعندما يقول أنس: [رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه] فهذا اللفظ المطلق عندما يسمعه الإنسان يفهم منه أنها رؤية بصرية، لأن الرؤية إذا أطلقت فهي رؤية بصرية بعيني الرأس، فنقول: إطلاق الآثار المصرحة بحصول الرؤية لنبينا عليه الصلاة والسلام تدل على أن الرؤية بالبصر لا بالقلب.
؟؟؟ رضي الله عنهما بأنه رآه ببصره.
3- أن هذا خصوصية وذاك خصوصية فما الداعي لاعتبار هذا وإلغاء ذاك، وما الذي يرجح خصوصيتكم على خصوصيتنا.(6/185)
4- القول بالقول الأول يدخل فيه هذا القول دون العكس.
فلو قلنا إنه رآه بقلبه فقط لما دخلت رؤية البصر، ولو قلنا إنه رآه ببصره فلا مانع من أن يراه بقلبه أيضاً.
إذن فالرؤية البصرية لا تمنع الرؤية القلبية، بخلاف العكس، وإذا كان الأمر كذلك فالذي يتناسب مع فضل الله ومع منزلة رسول الله عليه الصلاة والسلام ودلالة الآثار أنه قد رآه بالأمرين، ببصره وبقلبه والله على كل شيء قدير.
والإباضية والخوارج والمعتزلة خالفوا في موضوع الرؤية ونفوا حصولها وقالوا هي مستحيلة فنقول نبي الله موسى سأل الرؤية، وهذا من أعظم أدلة أهل السنة على أن رؤية الله في الدنيا ممكنة فضلا ً عن الآخرة، لأنها أي الرؤية لو كانت كفراً وضلالاً فهل كان يسألها نبي من أولي العزم؟!!
وانظر إلى سفاهة الزمخشري عند هذه الآية (لن تراني) يقول لن تفيد التأبيد وهذا في الدنيا والآخرة، ونقول له: ألم يقل الله عن اليهود (ولن يتمنوه أبداً بما قدمت أيديهم) ؟ ثم أخبر عنهم وعن أهل النار عموماً بأنهم سيتمنون الموت (ونادوا يا مالك ليقضي علينا ربك) فإذن المراد بـ (لن تراني) أي في الدنيا، فما الذي جعلك تقول إنه في الآخرة أيضاً لن تراه.
ثم بعد ذلك هجا أهل السنة ببيتين من الشعر في (كشافه) فيقول:
لجماعة سَمَّوا هَواهم سنة ... لجماعة حُمْرٌ لعمري موكفه
قد شبهوه بخلقه فتخوفوا ... شنع الورى فتستروا بالبلكفه
(حمر موكفة) هي حمير عليها الأكاف فهي مستعدة للركوب، والأكاف هو الذي يوضع على ظهر الحمار كالسراج للخيل.
(البلكفة) هي قولنا نراه بلا كيف، ويقصد أننا لما قلنا بأننا نرى ربنا خفنا أن يقول النار عنا مشبهة وأن يشنعوا علينا ويقولون كيف شبهتموه بالورى فتسترنا بالبلكفة، فحذار حذار من البلكفة فإنه من منصوبات طواغيت شيوخهم، هذا كلامه،وهو اعتقادنا بأننا كلما ذكرنا صفة قلنا: نؤمن بها من غير كيف لأن الله يقول (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) .(6/186)
ونحن نقول إن كان هو شاعراً أفلا يوجد عندنا شعراء، فانظر بماذا أجابه أهل السنة:
هل نحن من أهل الهوى أم أنتم ... ومن الذي منا حمير موكفه
اعكس تصب فالوصف فيكم ظاهر ... كالشمس فارجع عن مقال الزخرفه
أترى الكليم أتى بجهل ما أتى ... وأتى شيوخك ما أتوا عن معرفه
إن الوجوه إليه ناظرة بذا ... جاء الكتاب فقلت هذا سفه
نطق الكتاب وأنت تنطق بالهوى ... فهوى الهوى بك في الهاوي المتلفه
فليلزم هو وكذلك الإباضية حدهم وليقفوا عنده، هل صار أعظم نعيم نتمناه ضلال؟ والذي يسأله يكون من الكافرين؟ نعوذ بالله من هذا.
القول الثالث:
ينفي الرؤية، أي لم تحصل هذه الرؤية للنبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء والمعراج.
تبنى هذا القول أمنا عائشة غفر الله لها ورضي عنها.(6/187)
ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث مسروق أنه قال لأمنا عائشة: [يا أمتاه هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه؟ فقالت: لقد قفّ شعري مما قلت] ومعنى هذا أن شعري؟؟؟ من هول هذه الكلمة العظيمة فكيف تقول هذا، والإنسان إذا اعتراه وجل يصاب بمثل هذا كما قال جل وعلا (الله أنزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين لا يخشون ربهم) فإذا اعتراك وجل وهم ينقبض جلدك وكأن هناك برداً شديداً وتشعر بشعر رأسك كأنه انتصب، فهذا هو القف، ثم قالت له: [أين أنت من ثلاث، من حدثك أن محمد صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد كذب، [وفي رواية فقد أعظم على الله الفرية] ورحمة الله على الإمام ابن خزيمة يقول في كتاب التوحيد ويلتمس عذراً لأمه: "قالت هذا في حال انفعال وغضب، ولا يجوز أن نقول إن من قال هذا إنه أخطأ فضلاً عن أن نقول إنه افترى فضلا ً عن أن نقول إنه أعظم الفرية" أي أن هذا الكلام صدر منها في حالة من الغضب ولا علم عندها في هذه المسألة فقالت على حسن ما عندها من العلم هذا اللفظ القاسي، فهي مخطئة في هذا وهي أمنا نستغفر لها ونترضى عنها ونسأل الله بفضله ورحمته أن يشفعها فينا إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.(6/188)
وهذه شفاعة شرعية، وليست شركية، فإنك إذا سألت الله أن يشفع فيك أحداً من خلقه فهذه شفاعة شرعية بالإجماع، أما لو قلت: يا عائشة اشفعي لنا، فهذا هو المحظور وهي شفاعة شركية، لكن لو قلت اللهم شفع في أبا بكر، عمر، عثمان، علي ... اللهم شفع فيّ نبيك عليه الصلاة والسلام، شفع فيّ أمنا عائشة فهذا خالص التوحيد، فتطلب من الله أن يشفع لا تطلب من المخلوق، لأنه لا يشفع أحد إلا بعد أن يأذن له الرحمن ويرضى للمشفوع بحصول الشفاعة له، ولذلك نحن نطلب من الله أن يشفع فينا هذه الصديقة رضي الله عنها، ثم قالت: [؟؟؟ والله يقول (لا تدركه الأبصار) ] ولو أردنا الوقوف معها لقلنا هل يصح هذا دليلاً على نفي الرؤية عن نبينا عليه الصلاة والسلام؟ ليس فيه دليل على الإطلاق، فالإدراك هو رؤية مع إحاطة والله جل وعلا يُرى ولا يُحاط به، فإذن الإدراك معنىً زائد على الرؤية هذا هو المعنى المعتمد.
وقيل لا تدركه: على التنزل لنجعل قول أمنا معتبراً، ويكون المعنى لا تدركه أي لا تراه في الدنيا بإحاطة أو غيرها ونستثني من هذا نبينا عليه الصلاة والسلام.
وقيل: وهو المعنى الثالث: لا تدركه في الآخرة إذا تجلى بنوره الذي هو نوره، فإذا تجلى بنوره الذي هو نوره فإنه لا يراه شيء في الدنيا ولا في الآخرة إلا مات واحترق والمؤمنون عندما يروه يكون بصورة تناسب قواهم في الآخرة، فإنه لو تجلى بنوره الذي هو نراه لم يره يابس إلا ند؟؟؟ ولا حي إلا مات، والأمر الثاني:
[ومن حدثك أن محمداً صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً مما أنزله الله عليه فقد كذب، والله يقول (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته) ومن حدثك أن محمداً صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب فقد كذب، والله يقول (قل لا يعلم من في السموات والأرض إلا الله) ] .(6/189)
ورد في صحيح مسلم عن عبد الله بن شقيق (من التابعين) [أنه التقى بأبي ذر رضي الله عنهم أجمعين فقال له: ليتني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسأله؟ ققال: وماذا تريد أن تسأله؟ فقال: كنت سأسأله: هل رأيت ربك؟ فقال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، هل رأيت ربك؟ فقال: [نورٌ أنّى أراه] فهذا الأخير من كلام نبينا عليه الصلاة والسلام ومعظم من أورد هذا الحديث يقول هذا دليل على نفي الرؤية.
أنا أقول: هل هذا دليل على نفي الرؤية أم على حصولها؟
الجواب: هذا الحديث دليل على حصول الرؤية، كيف هذا؟
يا إخوتي الكرام ... عندما أقول هذا رجل أنّى أراه، ما معنى هذا، معناه أنه كيفما أراه وفي أي حالة أراه فهو رجل.
وهذا هو جواب الإمام ابن خزيمة وتعليله فيقول أنّى ليست للاستبعاد وإنما لبيان أن هذا هو حال الله في جميع الأحوال.
فالمعنى هو أن الله جل وعلا كيفما أراه فهو نور، وهذا كقوله تعالى (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم) أي كيف شئتم، وليس المعنى أنّى لا رآه ومستبعد أن أراه.
فإذن هو يدل على حصول الرؤية، يدل على هذا الرواية الثانية في صحيح مسلم [رأيت نوراً]
وقال النافون للرؤية: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يره لكن رأى النور الذي هو حجابه، فإن الله لا يُرى في الحياة الدنيا، وحملوا أنّى على الاستبعاد لا على هذا العموم الأحوال.
المحاضرة السادسة عشرة
وقد حاول أصحاب القول الثاني [الذين قالوا الرؤية قلبية ليست بصرية] أن يجمعوا بين القول الأول والثالث وأن يردوهما إلى القول الثاني فقالوا:
من أثبت الرؤية فمراده الرؤية القلبية.
ومن نفى الرؤية فمراده الرؤية البصرية.
وعليه فالأقوال الثلاثة بمعنىً واحد ولا اختلاف بينها، وهذا هو رأي الإمام بن تيمية وتلميذه ابن القيم، والإمام ابن حجر في فتح الباري (8/608) مال إلى هذا وجمع بين الأقوال الثلاثة فردها إلى قول واحد.(6/190)
وهذا مع جلالة من رجحه وقال به – هو في نظري جمع ضعيف لأمرين معتبرين:
الأمر الأول: لا معارضة بين القول الأول والثاني عند أصحاب القول الأول فلا يجوز أن نرد قولهم إلى قول غيرهم.
ووجه عدم المعارضة وضحته لكم سابقاً: أن من أثبت الرؤية البصرية لا ينفي الرؤية القلبية بل يقول: إذا حصلت رؤية البصر فرؤية القلب حاصلة من باب أولى، وعليه فلا داعي للجمع بين القولين لأن أصحاب القول الأول لا يخالفونكم في قولكم.
الأمر الثاني: نقول: القول الثاني والثالث ينفيان الرؤية – أي الرؤية البصرية – وتقدمت معنا قاعدة ذهبية وهي أن المثبت مقدم على النافي.
فعندما تأتينا رواية الصحابي الجليل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: [رأى محمد عليه الصلاة والسلام ربه مرتين مرة ببصره ومرة بفؤاده] فهذا إثبات والإثبات لا يجوز أن نتركه لأجل نفي لأن المثبت مقدم على النافي، ومَنْ حفظ حجة على من لم يحفظ.
والعلم عند الله.
القول الرابع: التوقف، فلا نقول رآه ببصره ولا بقلبه ولا ننفي الرؤية، إنما نقول هذه مسألة لا يتعلق بها حكم دنيوي والنصوص متعارضة في الظاهر، فالسكوت أسلم ونفوض الأمر إلى الله جل وعلا.
إذن لما تعارضت الأدلة وكان لا يتعلق بها حكم ظاهري أو دنيوي لنجمع أو لنرجح، إذ لو كانت في حكم دنيوي لكان لابد من الترجيح أو الجمع لأجل أن نعمل ببعض النصوص، لكن بما أن الحالة ليست كذلك والمسألة من أمور الغيب فالسكوت عنها أولى.
وهذا ما ذهب إليه عدد من الأئمة منهم الإمام أبو العباس القرطبي، (ليس صاحب التفسير المشهور إنما هو صاحب كتاب المُفهِم في شرح صحيح مسلم) وقال: النصوص فيها متعارضة وأقاويل السلف مختلفة فمنهم من يثبت ببصره ومنهم من يثبت بقلبه ومنهم من ينفي، ولا يتعلق بهذه المسألة حكم دنيوي فالسكوت أسلم.(6/191)
وذهب إلى هذا سعيد بن جبير من أئمة التابعين كما حكي ذلك عن القاضي عياض في كتابه (الشفا في التعريف بحقوق المصطفى) وهو كتاب سيرة نبوي – في ص 97 حيث نقل القاضي عن سعيد بن جبير عليه رحمة الله أنه قال: لا أقول رآه ولا أقول لم يره.
ويفهم من كلام الإمام الذهبي عليه رحمة الله أنه يميل إلى هذا القول ففي سير أعلام النبلاء (10/114) يقول: "والذي دل عليه الدليل عدم الرؤية مع إمكانها فنقف عند هذه المسألة فإثبات ذلك أو نفيه صعب والوقوف سبيل السلامة والله أعلم، وإذا ثبت شيء قلنا به".
انظر لهذا الكلام الذي هو أصفي من الذهب وأحلى من العسل، وهذا الإنصاف وهذا هو حال أئمتنا في البحث العلمي فلا نعنف من أثبت الرؤية لنبينا عليه الصلاة والسلام في الدنيا ولا من نفاها بل نقول الله ورسوله أعلم، بلى نعنف ونبدع من أنكر الرؤية في الآخرة، إذ رؤية الله في الآخرة تثبت بنصوص متواتر.
وهذه المسألة أشار إليها الإمام الذهبي أيضاً في (2/167) وقد ذكرته سابقاً، فيقول: "ولم يأتنا نص جلي بأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى الله بعينيه، وهذه المسألة مما يسع المرء المسلم في دينه السكوت عنها، فأما رؤية المنام فجاءت من وجوه متعددة مستفيضة وأما رؤية الله سبحانه عياناً في الآخرة فأمر متيقن تواترت به النصوص وجمع أحاديث الرؤية الإمام البهيقي والإمام الدارقطني وغيرهما" فهذا فيما يظهر ميل الذهبي إلى هذا القول، أنه يتوقف ولا يعنف من قال بخصوص الرؤية ولا يعنف من نفاها.
وخلاصة الكلام ... في هذه المسألة أربعة أقوال ثابتة عن سلفنا الكرام وهي مما يسع الإنسان في هذه المسألة أن يقول بواحد منها، وإذ قال بواحد منها فلا يعنف ولا يبدع ولا يضلل لاختلاف السلف في هذه المسألة.
نعنف نعنف من أنكر الرؤية في الآخرة فذاك يخالف أمراً مجمعاً عليه، فنبدعه ونحكم عليه بالضلال فانتبه لهذا.(6/192)
أخوتي الكرام ... العمدة والضابط في التماس عذر للمخالف من أمور الشرع وعدم التماس عذر له أمر واحد وهو اتفاق السلف واختلافهم فهم في العقائد والأحكام العملية (عبادات، معاملات، عقوبات) فمن خالفهم فيما اتفقوا عليه فهو ضال مبتدع ومن خالفهم فيما لم يتفقوا عليه فالمخالف في سعة فلا يبدع ما دام لم يقصد الهوى ولم يخبرنا أنه يفعل هذا شططاً وسفهاً.
وهذا له نظائر كثيرة سواء كان في العقائد أو في الأحكام فالأمر مستوٍ فيهما، فإذن ننظر لحال واقع السلف في هذه المسألة فإن أجمعوا فالمخالف ضال وإن اختلفوا فالأمر فيه سعة، وهنا لا نعنف المثبت ولا نعنف النافي ولا نعنف المتوقف.
ولأضرب لكم مثلا في أمر فرعي:
آية الوضوء: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين ... )
فهناك أربعة أعضاء ثلاثة تغسل وواحد يُمسح لا خلاف فيها بين المسلمين، فمن خالف في هذا فهو ضال شيطانٌ رجيم، لكن بعد ذلك في كيفية الإتيان بهذه الأعضاء في الوضوء اختلف العلماء قالوا: هل يلزم الترتيب أم لا؟! ، فلو جاء إنسان وتوضأ ولم يرتب صح الوضوء أم لا؟
عند الحنفية صح الوضوء، والترتيب بين هذه الأعضاء الأربعة مستحب لأن الله يقول (فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين ... ) والواو بإجماع أهل اللغة تفيد التشريك مع عدم الترتيب لا بمهلة ولا بدون مهلة، هذا كما تقول جاء زيد وبكر ومحمد وقد يكون محمد أولهم مجيئاً بخلاف ما لو قلت جاء زيد فبكر فمحمد فهنا الفاء للترتيب مع التعقيب فالأول وبعده الثاني مباشرة، وبخلاف ما لو قلت جاء زيد ثم إبراهيم فهنا ثم للترتيب مع التراخي.
فإذن الترتيب عند الحنفية سنة، وهو عند الجمهور واجب، وعليه لو جاء رجل وتوضأ ولم يرتب فهل يجرؤ إنسان أن يقول له وضوؤك باطل؟!.(6/193)
لا، لأن المسألة وقع الخلاف فيها بين السلف. وأبو حنيفة تابعي أدرك ستة من الصحابة، فالمسألة فيها سعة.
مثال آخر:
مسح الخفين بدل غسل الرجلين هذا لا خلاف فيه بين علماء الأمة، فإذا لبس الخفين على طهارة وجاء ليتوضأ فلا يلزمه أن ينزع خفيه بل يكفيه أن يمسح عليها.
فلو خالف أحد وقال لا يجوز المسح على الخفين ولو مسح ما صحت صلاته، فماذا نقول له؟
مبتدع وضال لأنه لا خلاف في هذا بين أئمتنا، والمخالف في هذا هم الشيعة فقط يقولون لو مسح على خفيه لم يصح وضوؤه، ولو غسل رجليه لم يصح وضوؤه بل يمسح على رجليه مسحاً فقط.
فخالفوا أهل السنة في الأمرين، في غسل الرجلين وفي المسح على الخفين، لكن نقول هل سبقهما إلى هذا أحد من السلف؟! وإن سبقهم أحد من السلف فلا يحق لأحد أن يضلل المخالف.
وأحاديث المسح على الخفين رويت عن العشرة المبشرين بالجنة وعلى رأسهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه - الذي يزعمون زوراً وبهتاناً أنهم ينتمون إليه، وكان يمسح على الخفين، كما نقل عنه تحريم نكاح المتعة – وهذا ثابت في صحيح مسلم عنه وهم يخالفونه في الأمرين، ولا يمسحون على الخفين، وينكحون نكاح متعة ويدعون أنهم ينتسبون إلى آل البيت، والزنا في البلدان كلها يقع في دور العهر والفجور والفنادق إلا في إيران فإنه يقع في المساجد عن طريق نكاح المتعة، فتذهب إلى هناك ويأتي آية الله – بل هو آية الشيطان – فيعقد لك على من تريد وهناك نساء جالسات ينتظرن من يأتي ليعقد عليهن نكاح متعة يوماً أو يومين أو ليلة أو ليلتين كما تريد، وهذا عندهم لا حرج فيه بل هو من الأمور الفاضلة كما أنه لا يعتبر نكاحاً كالنكاح المعروف، فلو كان عندك أربع نسوة وأردت أن تعقد على غيرهن نكاح متعة فلا حرج في ذلك، وإذا تمتعت مرة فأنت في درجة الحسن – كما يقولون – ومرتين في درجة الحسين، وثلاثة في درجة علي ... نعوذ بالله من هذا الضلال والعار.(6/194)
فإذن ننظر إلى المسألة هل تحتملها الأدلة أم لا؟ وكيف ذلك؟
نقول: خير من فيهم دين الله هم سلف هذه الأمة، فإذا اختلفوا دل هذا على أن الدليل يحتمل ويحتمل، ولا يوجد نص يرجح، فالمسألة بقيت محتملة والأقوال كلها جائزة، والإنسان يأخذ بما هو أقرب للمراد حسب اجتهاده، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
وإذا لم يختلفوا – فهم خير من فهم دين الله – فاتفاقهم هذا يدل على أن النص ليس له معنىً إلا هذا ولذلك المخالف ضال ومبتدع.
ولذلك إخوتي الكرام ... كل من يدعو إلى الكتاب والسنة – كما يوجد في هذه الأيام – دون الرجوع إلى فهم السلف فهو ضال زنديق يريد أن يضلل الأمة وأن يقضي على الكتاب والسنة باسم الكتاب والسنة، ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخوارج المتقدمين الجدد والحديث في الصحيحين [يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرميّه، يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وقراءته مع قراءتهم لا تجاوز قراءتهم حناجرهم] هذا حال الخوارج، وقد تواترت الأحاديث في ذم الخوارج، فهؤلاء ماذا يقولون؟ يدعون إلى تحكيم الكتاب ويقولون لا حكم إلا لله، وعليّ عندما حَكَّم الرجال كفر.
ويوجد جماعة الآن يسمون بالقرآنيين يقولون ليس عندنا لا أبو بكر ولا عمر ولا أحمد ولا الشافعي، ليس عندنا إلا القرآن وعقولنا.
فانظر لألفاظ علمائنا لا نعنف من أثبت الرؤية، ولا نعنف من نفاها، فماذا تختار؟ يقول: السكوت أسلم وإذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب وهي ما لا يتعلق به حكم دنيوي وهي من أمور الغيب فلنكِلْ أمرها إلى الرب جل وعلا ولا نخوض فيها والعلم عند الله.(6/195)