اسمه: هو العلامة الحافظ
أبي حمزة عبد الرحيم بن أحمد بن محمود طحان النعيمي
، وقيل يرجع نسبه إلى آل البيت الطيبين من نسب علي ابن الحسين ابن علي ابن أبي طالب رضي الله عنهما،
كما أخذت هذا النقل من أكثر من شخص منهم من هو من أهل حلب الشام،
صفاته الخلقية والخلقية:
ليس بالطويل ولا بالقصير أبيض اللون مشرب بالحمرة عريض المنكبين وكثيف اللحية مفتول الساعدين والكتفين، ترى في عينيه الإخبات والخشية نحسبه والله حسيبه ويشهد على ذلك من رأه، يلبس العمامة ذات الذوابة
ومن صفاته الخلقية:
أنه هين لين نحسبه والله حسيبه، شديد التواضع مع طلبة العلم حتى يشهد على هذا القول أحد من قابلة عندما قال كأني أنا الشيخ وهو التلميذ لشدة إنصاته واحترامه لطلبة العلم،
وكذلك مما أعرفه عنه أنه كثير ما يلهج بذكر الله جل وعلا والصلاة على النبي (عليه الصلاة والسلام) ، حتى أنك تظن أنه نحسبه والله حسيبه أنه قوي الصلة بالذكر،
ومن صفاته أنه يشتد غضبه عندما يطعن أو يحرف في الدين أو يبهت أو ينقص عن قدر إمام من أئمة الدين لذلك تسمعه في أشرطة الردود يتوسع في بسط أدلة التي تثبت خطأ المخالف،
رحلة تلقيه للعلم:
فقد درس العلامة عبد الرحيم الطحان مرحلة الإبتدائي في المملكة العربية السعودية ومرحلة المتوسط في حلب الشام والجامعة في المدينة المنورة تحديداً في الجامعة الإسلامية وقد أخذ الأول على طلاب الجامعة وقد أكمل دراسات العليا الدكتوراه في الجامع الأزهر وأخذ فيها رسالة الدكتوراه وأظنه في تفسير القرآن وعلومه المرتبة الأول مع الشرف على الجامعة (أي الجامع الأزهر) في السبعينات،
شيوخه:
وقد تلقى العلم من علماء كثر نذكر منهم مما أعرفهم وأعتذر أنني لا أعرف أسماء كل من تلقى العلم عنهم:
1- العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله (صاحب أضواء البيان) .
2- العلامة محمد أبو الخير زين العابدين رحمه الله.
3- العلامة عبد الرحمن زين العابدين رحمه الله.
4- العلامة المختار الشنقيطي رحمه الله والد العلامة محمد المختار الشنقيطي المدرس في الحرم المدني.
5- عبد الله سراج الدين رحمه الله.
ممن درس عليه في جامعة الإمام محمد ابن سعود:
1- الشيخ عوض القرني.
2- الشيخ د. عائض بن عبد الله القرني.
3- الشيخ د. سعيد بن مسفر القحطاني.
وكذلك يقال ممن درس عليه الشيخ علي بن عبد الخالق القرني.
مما لبس على الناس حول العلامة الطحان:
ولا يخفى على طالب العلم الذي يسعى جاهدا إلى البحث عن الحقيقة أن العلامة الطحان حفظه الله ربي الرحمن قد ظلم وافتري عليه ولا حول ولا قوة إلا بالله،
نذكر منها ما أشيع عنه أنه طرد من السعودية!!!!
وهذا غير صحيح فمن يعلم عن العلامة الطحان أنه كان يدرس في منطقة أبها ثم نقل إلى فرع جامعة الإمام محمد ابن سعود بالدولة الإمارات ثم بعدها نقل إلى فرع الجامعة بإندونسيا ثم بعدها قدم العلامة الطحان استقالته واستقر بعدها في قطر، فأين قول من يجعجع بهذه التلفيقات!!!!
وغيره الكثير مما كذب عليه وما نقول إلا حسبنا الله ونعم الوكيل.
الشيخ والسلفيّة
الشيخ سنّي سلفي أثريّ، سليم العقيدة والمنهج. كيف لا وهو يرى الخروج عن الأئمة الأربعة حرام، وقد بسط في ذلك كلا مقنعا، مستشهدا بكلام من سبقه من أئمة الإسلام ومنهم الشيخ محمد بن عبد الوهاب. وما أثير حول عقيدته من اتّهامه بالصوفية كذب صراح، وتهمة باطلة، وليتّق الله من يقول هذا. لقد حذّر الشيخ في غير مرّة من الصوفية وأئمتها وبيّن عوارها وكشف منهجها. وهذه الحقيقة واضحة كوضوح الشمس، ولا يقول خلاف ذلك إلّا جاهل مقلّد، أو حاقد مفتري.
الشيخ والوهابية
نعم، ترد كلمة الوهابية على لسان الشيخ مرارا -ولا أتّفق معه في ذلك- ولكن يكذب من يقول بأنّ الشيخ لديه موقف معادي لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهّاب، ولا أدلّ على ذلك من استشهاده بكلام الشيخ محمد في مواعظه، وعقيدة الشيخ ودعوته مطابقة لما عند شيخ الإسلام ابن عبد الوهاب.
الشيخ والشيخ الألباني
ما أستطيع قوله هنا، أنّه قد ظلم وأجحف ولم ينصف من رمى باللوم والخطأ والذنب كلّه على الشيخ الطحّان وحده، ولست أريد اللمز أو التعريض بالشيخ الألباني، فالشيخان عيناي في رأسي، وما وقع بينهما قد وقع بين الصحابة قبلهما، وطبيعة البشر الاختلاف، وموقفي وموقفك أن نستزيد من علمهما ونغضّ الطرف عمّا جرى بينهما. بقي أن أقول: قد سمعت الشيخ مرّة يشكر جهد الشيخ الألباني تلميحا لا تصريحا. والله أعلم.
الشيخ والشيخ ابن باز
لم أسمعه مرة واحدة يذكره بذم، ومن خلال ما عرفته عنه، يستحيل لديّ أن يكون قد ذمّه بشيء. والله أعلم.
نقطة مهمّة
الشيخ لديه شدّة وقوّة وغلظة ليس مردّها إلى خلل في العقيدة، أو تطرّف في المنهج. كلّا والله، بل مردّها إلى طبعه وسجيّته، وهذا حال البشر، فعمر بن الخطّاب معروف بالقوة، وأبو بكر موصوف باللين. وكذلك الشيخ الطحّان، يصدع بالحق ولا يخاف في الله لومة لائم. وهذا الموضع مزلّة اقدام حيث رمي الشيخ بما ليس فيه بلا تثبّت. وهذا الأمر -والله أعلم- هو سبب ما حصل له من التضييق والفصل والترحيل. أسأل الله أن يوفّقه للصواب، وأن يفرّج كربته. وقد سمعته مرّة يتكلّم عن تناقض استخرجه من فتاوى ابن تيمية، وكان في حديثه فظّ العبارة. ومن سمعه لأوّل مرّة ظنّ أنّه من أعداء شيخ الإسلام، ولو تروّى قليلا لوجد أنّه دائما يردد "الإمام ابن تيمية عليه رحمات رب البريّة" ودائما ما يستشهد بكلامه، وقد وصفه مرّة بأنّه صاحب العدل والإنصاف، وكذلك يستشهد الشيخ بكلام ابن القيم ويقول فيه القول الحسن. ومرّة سمعته يروي حديثا في سنده معاوية. فوقف عند معاوية قليلا، وقال كلاما ربما يظنّ الجاهل منه أنّه شيعيّ، ولو تحرّى لبان أنّ الشيخ يترضّى عنه ويقول فيه خيرا، وهو على منهج السلف في عدالة الصحابة أجمعين، وقد قرّر ذك وكرّره في غير موضع.
الشيخ والحكّام
الشيخ موافق لمنهج السلف في التعامل مع السلاطين، فحضور مجالسهم، وأخذ عطيّاتهم، والتردد على أبوابهم ليست من شيم العلماء عنده، وهو يربّي طلابه على هذا ونعم ما فعل. ومع ذلك فلم أسمعه يدعوا إلى الخروج أو التكفير، بل هو يندّد بأهل التكفير والتفجير ويبيّن عظيم مصاب الأمّة منهم.
علم الشيخ ودينه
لقد ملئ الشيخ علما من رأسه إلى أخمص قدميه، ولا أبالغ أنّه يقف في مصاف كبار علماء هذا العصر. فإن أردت الفقه فلا تسل، وإن أردت التفسير فهو بحره، وإن أردت الحديث فهو طبيبه. وسبحان الذي وهبه الحفظ! وسبحان الذي وهبه الفصاحة في المنطق! وقلّما تجده يلحن أو يتردّد بل هو بليغ اللسان طليقه. وقد أوتي لطافة وظرافة وحسن اختيار للكلام. والشيخ من أهل الدين والورع والزهد حسب ما ظهر لي ولا أزّكي على الله أحدا. فهو بكّاء ذو قلب خاشع، تلمس من حديثه الصدق والإيمان. ويعلم الله أنّه مدرسة في التقوى والتوكّل على الله، أسأل الله أن يزيده من فضله، وأن يلحقنا به.(1/1)
محاضرات في التوحيد
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} آل عمران102، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} النساء1، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} الأحزاب 70-71.
أما بعد: فمن رحمة الله الكريم بعباده أن أرسل إليهم الرسل الكرام - عليهم أفضل الصلاة وأزكى السلام -، وأنزل عليهم الكتب ليخرجهم من الظلمات إلى النور، وليجنبهم الزيغ والفجور.
وقد ختم ربنا الرسل الكرام بخير خلقه نبينا محمد - عليهم جميعاً أتم صلاة وأكمل سلام - وأنزل عليه خاتمة الكتب وأحكمها، وأجمعها، وأبلغها ألا وهو القرآن العظيم المحفوظ في الصدور والسطور، وهو منبع الهدى والنور، لا يتطرق إليه زيادة ولا نقصان، فقد تكفل بحفظه الرحيم الرحمن.(1/1)
وقد قام رسولنا - صلى الله عليه وسلم - بمهمة البيان والبلاغ أحسن قيام، فدعا إلى الله على بصيرة، وبيّن للناس ما نزل إليهم من ربهم، ففتح الله القدير بنبينا البشير النذير - صلى الله عليه وسلم - أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، وهدى به من الضلالة، وأنقذ به من الجهالة، وشرح به الصدور، وأنار به العقول، ولم يقبضه إلى جواره الكريم حتى أعز به الدين، وترك الناس على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك (1) .
__________
(1) المحجة "بفتحتين" جادة الطريق. انظر ما يتعلق بذلك في صفحة: (2) من هذا المبحث المبارك. هذا وقد ورد في الكتب السابقة صفة نبينا - صلى الله عليه وسلم - فمن ذلك ما رواه عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهم أجمعين - فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في التوراة؟ فقال: أجل: والله إنه لموصوف في التوراة بصفته في القرآن: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} الأحزاب45، وحرزاً للأميين، وأنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، لست بفظ، ولا غليظ، ولا صخّابٍ في الأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن بعفو، ويغفر ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا: لا إله إلا الله، فيفتح به أعيناً عمياً وآذاناً سماً، وقلوباً غلفاً. أخرجه الأئمة: أحمد في المسند: 2/174 بإسناد صحيح كما قال الشيخ أحمد شاكر: (10/151) رقم و (6622) . والبخاري في البيوع - باب كراهية السخب في الأسواق-: (4/342) ، وفي التفسير - سورة "الفتح" باب - "3": (8/585) بشرح ابن حجر فيهما، ورواه البخاري في الأدب المفرد - باب الانبساط إلى الناس: (38-39) وابن سعد في الطبقات: (1/362) ..وانظر صفة نبينا - صلى الله عليه وسلم - في الكتب السابقة، في سنن الدارمي - المقدمة باب "2" (1/4-8) وأول كتاب فضائل القرآن: (2/434) وشرح الزرقاني للمواهب اللدنية: (6/188-204) .(1/2)
ومن رحمة الرب الكريم، أن هيأ رجالاً صالحين، في كل زمانٍ وحين، وبثهم في جميع أقطار الأرضين، ليخلفوا النبي الأمين - صلى الله عليه وسلم - في الدعوة إلى رب العالمين، فهم الذين يصعدون بكلمة الحق ويعلونها، ويتصدون للمحدثات فينكرونها وللشبهات فيزيلونها، ويستأصلونها، وهم الأكياس العُدُول، وليس للمهتدي (للمهتدي) المسترشد عن قولهم عدول، وفي الأثر: "يرث هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين (1)
__________
(1) الأثر رواه البيهقي في السنن الكبرى - كتاب الشهادات - باب الرجل من أهل الفقه يسأل عن الرجل من أهل الحديث، فيقول: كفوا عن حديثه، لأنه يغلط أو يحدث بما لم يسمع، أو أنه لا يبصر الُفتْيا: (10/209) عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعنه أيضاً عن الثقة من شيوخه - على حد تعبير العذري - مرفوعاً. ورواه الخطيب في شرف أصحاب الحديث: (28-29) - باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - يحمل هذا العلم من كل خلق عدوله - عن أبي هريرة، وأسامة بن زيد، وعن إبراهيم العذري أيضاً مرفوعاً في الجميع، ورواه في أول الكتاب "شرف أصحاب الحديث" أيضاً: (11) عن معاذ، وابن مسعود مرفوعاً.
هذا وقد روي الحديث مرفوعاً من رواية: أنس، وابن عمر، وأبي أمامة، وابن عمرو، وجابر وابن عباس، وعلي، وأبي بكر - رضي الله عنهم أجمعين - انظر تفصيل ذلك مع الكلام على درجة الحديث في جمع الجوامع: (1/995) ، وتهذيب الأسماء واللغات القسم الأول: (17) ، ومقدمة ابن الصلاح، ومحاسن الاصطلاح: (219-220) الثاني مطبوع في حاشية الأول، والتقييد والإيضاح (138-139) ، وفتح المغيث: (1/275-279) وتدريب الراوي: (199-201) وتوضيح الأفكار: (2/127-133) ، وكنز العمال: (5/210) ، وتذكرة السامع والمتكلم: (9) ، وقواعد التحديث: (48-49) ، والجرح والتعديل: (1/17) - باب في عدول حاملي العلم، وأنهم ينفون عنه التحريف والانتحال.
وحاصل: أقوال الأئمة في درجته: أنه حديث صحيح عند الإمام أحمد، وحسن عند الإمام العلائي وضعيف عند الإمامين البُلقيني، والعراقي. ولعل قول الإمام العلائي يجمع بين القولين المتباعدين فهو ضعيف، ولتعدد طرقه ارتفع إلى درجة الحسن. والحديث الحسن من أقسام الحديث المقبول ولذلك قال القاسمي في قواعد التحديث: وتعدد طرقه يقضي بحسنه كما جزم به العلائي والله تعالى أعلم.(1/3)
". نسأل الله العظيم أن يجعلنا منهم، ومن محبيهم، إنه كريم رحيم.
هذا، وقد أسندت إليّ محاضرات التوحيد في قسم الدراسات الإسلامية في كلية البنات في أبها لطالبات السنتين الثانية والثالثة، وليس لموضوعات المنهجين كتب مصنفة في ذلك حسب تلك الموضوعات، فاستخرت الله الكريم في كتابة صفحات تشتمل على تلك الموضوعات، فشرح الجليل صدري لذلك، فاستعنت به -، وهو الذي لا يخيب من رجاه واستعان به -، وشرعت في تنفيذ ما استخرت، وفي نيتي طباعة ما يتيسر جمعه من تلك الموضوعات، كلما بلغ عشر صفحات لتكون بين أيدي الطالبات، قبل إلقاء المحاضرات. والله الكريم أسألُ تحقيق ذلك فهو على كل شيءٍ قدير.
وهذا المسلك الذي سأقول به - إن شاء الله تعالى - أراني مضطراً إليه، رجاء النفع المترتب عليه ومن الطبيعي أن يحصل بسبب ذلك بعثرة في العبارات، وعدم صَقَل للكلمات. ولولا ما ذكرت من عذر الاضطرار، لما أقدمت على ذلك الفعل في ليلٍ أو نهار، وقد أسندت إليّ تلك المحاضرات بعد مضي أسبوعين من الدراسات: فلو كان عندي متسع من وقتي، لترويت في أمري، وعرضت ما أكتبه على غيري، طلباً للوصول إلى الكمال المستطاع، فقد حذر سلفنا الصالح من إخراج المصنفات قبل تحريرها وتهذيبها، وتكرار النظر في ترتيبها وتبويبها، فالمُصَنِف ينشر عقله وفكره بين الناس، ويستدل بتصنيفه على مقدار عقله، وشأن ذهنه، ودرجة ذوقه، ومن صنف فقد اسْتُهدِف، وهو في سلامةٍ من أفواه الناس ما لم يصنف.(1/4)
وقد أولى سلفنا الأبرار تهذيب الكتب، وتحرير المصنفات عناية عظيمة، فالإمام الشافعي - عليه رحمة الله تعالى - يقول: إذا رأيتم الكتاب فيه إلحاقٌ وإصلاحٌ فاشهدوا له بالصحة (1) . وعقد الإمام ابن عبد البر - عليه رحمة الله تعالى - في كتابه جامع بيان العلم وفضله، باباً بهذا الخصوص فقال - باب معارضة الكتاب - ونقل فيه بسنده عن هشام بن عروة قال: قال لي أبي: يا بني أكتبت؟ قلت: نعم، قال: عارضت؟ قلت: لا، قال: لم تكتب، ثم ساق ابن عبد البر بسنده إلى الأوزاعيّ ويحيى بن أبي كثير - عليهم جميعاً رحمة الله تعالى - أنهما قالا: مثل الذي يكتب ولا يعارض مثل الذي يدخل الخلاء ولا يستنجي (2) .
والذي دفع السلف الكرام إلى تلك العناية العظيمة بمعارضة المصنفات وتحريرها، هو تلافي القدر الأكبر من الأخطاء بحيث يعز بعد ذلك وجود مالا يحمد في الكتاب وتصل درجته إلى الندرة، إذ قلما يسلم كتاب من خطأٍ، والكريم من عدت سقطاته كما قال الأحنف بن قيس (3) - عليه رحمة الله تعالى - وقال الإمامان المزني، ومَعْمَر - عليهما رحمة الله تعالى - لو عورض كتاب سبعين مرة - وقال معمر: مائة مرة لوجد فيه خطأ (4) .
__________
(1) انظر آداب الشافعي ومناقبه للإمام ابن أبي حاتم الرازي: (34) .
(2) انظر جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله: (77-78) .
(3) انظر مُوضِّح أوهام الجمع والتفريق: (1/6) ويقرر هذا الإمام ابن القيم في مدارج السالكين (3/225) فيقول: من عدت غلطاته أقرب إلى الصواب ممن عدت إصاباته.
(4) انظر قول المزني في موضح أوهام الجمع والتفريق - (1/6) ، وقول معمر في جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله: (1/78) ، وفي رد المختار: (1/19) : وقال المزني: قرأت كتاب الرسالة على الشافعي ثمانين مرة، فما من مرة إلا وكان يقف على خطأٍ، فقال الشافعي: هيه أبى الله - جل وعلا - أن يكون كتاباً صحيحاً غيرُ كتابه.(1/5)
وإذا كان لابد من وجود قصور وتقصير في جهد البشر مع المعارضة، والتحرير، والتنقيح، والتهذيب، إذ كيف يعصم من الخطأ من كان وصفه "ظَلُوماً جَهُولاً".
فكيف سيكون جهد العبد الضعيف كاتب هذه الصفحات، مع ضيق الأوقات، أسألُ الله العظيم رب الأرض والسموات، أن تكون تلك الأخطاء في الشكليات والترتيبات لا في المقاصد والغايات، ولا في تقرير الحقائق البينات.
كما أسأله - جل وعلا - أن يجعل أعمالنا من الصالحات، خالصة لوجهه الكريم، وأستغفر الله العظيم.
وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه نبينا محمدٍ، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، وآلهم وصحبهم أجمعين.
والحمد لله رب العالمين
وكتب الفقير إلى رحمة الرحمن
عبد الرحيم بن أحمد الطحان
3/1/1404هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
علم التوحيد:
علم التوحيد مركب إضافي، جعل علماً على العلم المعهود، فينبغي تعريفه باعتبار كونه مركباً إضافياً، وباعتبار كونه علماً، للإحاطة بالمعنى من جميع الوجوه، وبجميع الاعتبارات.
معنى التوحيد:
التوحيد لغة: مصدر وَّحَدَ يُوَحِّدُ، وهو العلم بأن الشيء واحد، وفي الاصطلاح: إفراد الله - جل وعلا - بالعبادة، مع الجزم بانفراده في ذاته، وصفاته، وأفعاله، فلا نظير له ولا شبيه (1) .
معنى العلم:
__________
(1) انظر بيان ذلك وإيضاحه في فتح الباري: (13/344) نقلا ً عن كتاب الحجة للإمام أبي القاسم التيمي، وانظر لسان العرب أيضاً: (4/464) "وحد"، واسم كتاب "الحجة" "الحجة في بيان المحجة" كما في كشف الظنون: (1/631) ، وهدية العارفين: (1/211) ، ومؤلفه الإمام الحافظ الكبير شيخ الإسلام أبو القاسم إسماعيل بن محمد بن الفضل التيمي الملقب بِقِوام السنة، ما عاب عليه أحد قولاً ولا فعلا ً توفي سنة (535هـ) - عليه رحمة الله تعالى -، انظر ترجمته العطرة في المنتظم: (10/90) ، وتذكرة الحافظ (4/1277-1282) ، والبداية والنهاية: (12/217) ، والعلو: (192) ، وطبقات المفسرين للسيوطي: (37) وغير ذلك.(1/6)
يطلق العلم في اللغة بإزاء معنيين:
أ- الاعتقاد الجازم، قال الله - جل جلاله -: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} من سورة محمد - صلى الله عليه وسلم - 19، ومما ينبغي التنبيه له أن الاعتقاد الجازم تارة يكون حقاً، وذلك بمطابقته للواقع عن دليل، كاعتقاد المسلمين بأن الله - جل وعلا - واحدٌ لا شريك له.
وقد يكون الاعتقاد الجازم باطلا ً، وينحصر ذلك في عدم مطابقة الاعتقاد للواقع، كاعتقاد النصارى بأن الله ثالثُ ثلاثةٍ - تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً - (1) .
__________
(1) وقد أشار ربنا - جل وعلا - بألطف إشارة، وأوجز عبارة إلى بطلان دعوى ألوهية عيسى وأمه - على نبينا وعليهما الصلاة والسلام - فقال في سورة المائدة 75: {مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ} فهما محتاجان للطعام كما هما محتاجان أيضاً لإخراجه عن طريق استلزام أكل الطعام لدفع الفضلات فلو منع عنهما الطعام ماتا جوعاً، ولو احتبس في بطنهما ماتا حرجاً وضيقاً، ومن كان هذا شأنه فالألوهية منتفية عنه بداهة، فالقيام بالنفس، والغنى عن الغير مما تستلزمه الألوهية، انظر تقرير هذا وإيضاحه في تفسير ابن كثير: (2/81) وروح المعاني: (6/209) ، ومن اللطائف المتعلقة بهذا الموضوع ما في البداية والنهاية: (10/215) وتاريخ بغداد: (5/273) أن ابن السماك / محمد صَبِيح ت: (183) قال لهارون الرشيد لما أتى بقلة ٍ فيها ماء مبرد: بكم كنت مشترياً هذه الشربة لو منعتها؟ فقال بنصف ملكي، فلما شرب، قال: أرأيت لو منعت خروجها من بدنك بكم كنت تشتري ذلك؟ فقال: بنصف ملكي الآخر، قال: إن ملكاً قيمة نصفه شربة ماء، وقيمة نصفه الآخر بولة لخليق أن لا يتنافس فيه.(1/7)
ب- ويأتي العلم بمعنى غلبة الظن، ومنه قول الله - تبارك وتعالى - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} الممتحنة الآية 10.
فالمراد من قوله - جل وعلا -: "فإن علمتموهن" أي: غلب على ظنكم إيمانهن عن طريق الأمارات، وذلك بأن تستحلف المرأة المهاجرة أنها ما خرجت من بغض زوجها، ولا عشقها لرجل في غير بلدها، ولا رغبة من أرض إلى أرض، ولا التماساً لدنيا بل هاجرت حباً لله - جل جلاله، ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -.
وإنما كان العلم هنا بمعنى غلبة الظن؛ لأن الركن الأعظم لقبول الإيمان محله الجنان، وذلك مما لا يطلع عليه إنس ولا جان، إنما استأثر بعلمه الرحيم الرحمن، فلا يطلع على ما في القلوب إلا علام الغيوب - سبحانه وتعالى - (1) .
معنى "العلم" في الاصطلاح:
تنوعت عبارات العلماء في تحديد معنى العلم في الاصطلاح إلى أقوال كثيرة وأولاها عندي بالقبول أن يقال في تحديده: هو صفة ينكشف بها المطلوب (2) .
معنى "علم التوحيد" باعتباره علماً مركباً على العلم المعهود:
__________
(1) انظر تقرير ذلك وإيضاحه في كتب التفسير ففي مدارك التنزيل: (5/188) " فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ " العلم الذي تبلغه طاقتكم، وهو الظن الغالب بظهور الأمارات، وتسميه الظن علماً يؤذن بأن الظن، وما يقضي إليه القياس جارٍ مجرى العلم ... إلخ وقد تتابع المفسرون على هذا انظر: مفاتيح الغيب: (29/306) ، والبحر والمحيط: (8/256) وإرشاد العقل السليم: (8/239) والسراج المنير: (4/265) ، وروح البيان: (9/482) ، وفتح القدير: (5/215) ، وروح المعاني: (28/76) .
(2) انظر تنوع تلك العبارات وتفصيلها في إرشاد الفحول: (4) .(1/8)
علم يقتدر به على إثبات العقائد الدينية ـ من أدلتها الثابتة اليقينية (1) .
موضوع علم التوحيد:
يبحث علم التوحيد في ثلاثة أشياء، عليها مداره، وهي:
1- ذات الله - جل جلاله - من حيث ما يتصف به، وما يتنزه عنه، وما يجب له على عباده.
2- ذوات الرسل الكرام - عليهم أفضل الصلاة وأزكى السلام - من حيث ما يلزمهم، وما يجوز في حقهم، وما يستحيل عليهم، وبيان حقوقهم على أممهم.
3- السمعيات من حيث وجوب اعتقادها، والمراد بالسمعيات: الأخبار المتعلقة بيوم القيامة وما يكون فيه من إهانةٍ أو إكرامٍ، وما يسبقه من حوادث جسام، وما يرتبط بذلك من تفصيلات وأحكام (2) .
ثمرة علم التوحيد، وفائدته:
أعظم ثمرات "علم التوحيد" وأبرز فوائده ثلاث، وهي:
1- معرفة الله - تبارك وتعالى - معرفة حقيقية.
2- انشراح الصدر، وطمأنينة القلب عن طريق الوقوف على الأدلة القطعية.
3- الفوز بالسعادة الأبدية (3) .
فضل "علم التوحيد" ومنزلته:
علم التوحيد أشرف العلوم رتبة، وأرفعها منزلة، وأعلاها درجة.
وبيان هذا: أن منزلة كل علم تتبين بالنظر في خمسة أمور، فإن تمت فيه، فمقام ذلك العلم ليس شيء يضاهيه، وتلك الجوانب هي:
1- موضوعه: وعلم التوحيد أشرف العلوم موضوعاً، لتعلقه برب العالمين، وبصفوة خلقه من الأنبياء والمرسلين - عليهم أفضل الصلاة وأتم التسليم - وبما يتعلق بيوم الدين، ومن المعلوم أن المتعلِق - بكسر اللام - يشرف بشرف المتعلَق - بفتحها.
2- معلومه: وعلم التوحيد أشرف العلوم معلوماً، كيف لا، وهو مراد الله الشرعي الدال عليه وحيه، الجامع للعقائد الحقة.
__________
(1) انظر تحفة المريد: (1/12) .
(2) انظر ذلك مختصراً في تحفة المريد: (1/12) .
(3) انظر ذلك مختصراً في تحفة المريد: (1/12) .(1/9)
3- وثاقة (1) دليله: وعلم التوحيد أقوى العلوم دليلاً، حيث يدل عليه صرائح العقول والنقل الصحيح المتلقى بالقبول.
4- غايته وفائدته: وعلم التوحيد أعلا العلوم غاية، وأعظمها فائدة، وهي باختصار حصول السعادة في جميع الأحوال والأطوار.
5- شدة الاحتياج إليه: ولعلم التوحيد في ذلك نصيب لا يدانيه فيه علم من العلوم حيث طولب به جميع المكلفين، فحاجتهم إليه ضرورية ماسة، ولا يسقط عنهم في حين من الأحايين (2) .
وإنما اشتدت الحاجة إلى علم التوحيد، لعظم غايته، وعدم الاستغناء عن فائدته، فسعادة المرء في الدارين متوقفة عليه، فالجنة لا يدخلها إلا الموحدون الأبرار، ولن ينال المشرك رحمة العزيز الغفار، قال الله – عز وجل - {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} غافر10 وقال – جل وعلا - إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} المائدة72.
وفي الدنيا لن يستريح فكر الإنسان، ولن يهدأ باله إلا إذا أزيلت عنه العقدة الكبرى عن طريق تبصيره بمن أوجده، ولم أوجده، وإلى أي شيء سيصير وما صلته بهذا الكون الفسيح، وما الذي كان قبل هذا الكون، وماذا سيكون بعده؟.
فإذا بصر بذلك عن طريق الأدلة اليقينية المقنعة انشرح صدره واستنار فكره، واطمأن قلبه، فيحيى حياة طيبة.
__________
(1) بفتح الواو: وَثِقَ يَثِقُ – بالكسر فيهما – وثاقة: الشيء الوثيق المحكم – كما في اللسان: (12/250) "وثق".
(2) انظر تلك الأمور مفرقة في الذريعة إلى مكارم الشريعة: (121) ، وبصائر ذوي التمييز: (1/44-45) ، وشرح الطحاوية: (13) ، وروح المعاني: (1/5) ، وتحفة المريد: (1/12) وانظر تفضيل بعض أنواع العلم على غيرها، وبيان علة ذلك في الإحياء: (1/35-51) ، وجامع بيان العلم وفضله: (2/36-40) .(1/10)
وإذا لم يهتد لإزالة العقدة الكبرى عن طريق الأدلة المقنعة إما لعدم بلوغه ذلك ووقوفه عليه، أو لعناده وجحوده، فالعجماوات خير منه قال الله – تبارك وتعالى -: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا} الأنعام122، وقال – جل وعلا - {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} الأعراف179.
ولقد بين لنا نبينا – صلى الله عليه وسلم – حال المؤمن الموحد، وحال المشرك الجاحد في هذه الحياة الدنيا فقال: "عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله خيرٌ وليس ذاك لأحدٍ إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له" (1) .
وهذه الخيرية، وتلك السعادة هما جنة الله العاجلة قال الإمام ابن القيم – عليه رحمة الله تعالى – وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية – قدس الله روحه – يقول: إن في الدنيا جنة، من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة.
__________
(1) الحديث أخرجه الإمام مسلم في صحيحه – كتاب الزهد – باب المؤمن أمره كله خير – رقم: (2999) والإمام أحمد في مسنده: (4/332،333) 6/15-16 عن صهيب – رضي الله عنهم أجمعين – ورواه أحمد في المسند عن سعد بن أبي وقاص – رضي الله عنه: (1/173، 177، 182) قال الهيثمي في مجمع الزوائد: (7/209) رواه أحمد بأسانيد رجال الصحيح أ. هـ ورواه أيضاً الإمام أحمد عن أنس بن مالك - رضي الله عنهم أجمعين – في (2/117، 184) ، وأبو يعلى أيضاً كما في مجمع الزوائد: (7/210) وقال الهيثمي: رجال أحمد ثقات، وأحد أسانيد أبي يعلى رجاله رجال الصحيح غير أبي بحر ثعلبة وهو ثقة أهـ.(1/11)
وهذه الجنة هي محبة الله تعالى، ومعرفته ودوام ذكره، والسكون إليه، والطمأنينة إليه وإفراده بالحب، والخوف، والرجاء، والتوكل، والمعاملة، بحيث يكون هو وحده المستولي على هموم العبد وعزماته وإراداته، هو جنة الدنيا، والنعيم الذي لا يشبهه نعيم، وهو قرة عين المحبين، وحياة العارفين.
ولو لم يكن للموحد جزاء إلا ما يحصله في عاجلة من اللذة والانشراح والراحة والطمأنينة والأنس والبهجة، لكفى به جزاءً، وكفى بفوته حسرة وعقوبة، فوالله، ثم والله ما طابت الدنيا إلا بمعرفته ومحبته وطاعته، وما طابت الجنة إلا برؤيته ومشاهدته، وأهل الدنيا هم المساكين خرجوا منها وماذا ذاقوا أطيب فيها (1) وهم وإن هملجت بهم البراذين، وطقطقت بهم البغال، إن أثر ذل المعصية لفي قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه (2) .
__________
(1) انظر جميع ذلك في الوابل الصيب من الكلم الطيب: (63-62) ، وذكر بعضه في إغاثة اللهفان: (1/72) .
(2) هو من كلام الحسن البصري – عليه رحمة الله تعالى – كما في إغاثة اللهفان: (2/118) وروضة المحبين: (102) ، والبرذون: الدابة معروف، والأنثى برذونة، وجمعه: براذين – والبراذين من الخيل: ما كان من غير نتاج العراب، انظر لسان العرب – فصل الباء من حرف النون: (16/195) ، وقال السخاوي في فتح المغيث: (1/280) هو الجافي الخلقة الجَلْد على السير في الشعاب والوعر، من الخيل غير العربية، وأكثر ما يجلب من بلاد الروم، أهـ ويعرف عندنا ببلاد الشام بالكديش، وقال المطرزي في المغرب: البرذون: التركي من الخيل، وانظر تهذيب اللغة: (5/55) والمخصص لابن سيده: (6/205) ، والهملجة والهملاج: حسن سير الدابة في سرعة وبخترة كما في اللسان "همج" (3/217) ، والطقطقة: صوت قوائم الخيل على الأرض الصلبة كما في اللسان (طقق) : (12/95) .(1/12)
ولتلك الاعتبارات كان علم التوحيد أصل العلوم الدينية، وما سواه من علوم الشرع فرع ولله در الإمام أبي حنيفة – عليه رحمة الله تعالى – ما أفقهه، وأبعد نظره عند ما سمي ما جمعه في أصول الدين بـ "الفقه الأكبر" (1) وللإمام ابن القيم – نور الله مرقده – كلام محكم متين، في بيان منزلة علم التوحيد بين سائر علوم الدين، فقال ما نصه: إن كل آية في القرآن متضمنة للتوحيد شاهدة به، داعية إليه، فإن القرآن:
1- إما خبر عن الله، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، فهو التوحيد العلمي الخبري.
2- وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له، وخلع كل ما يعبد من دونه فهو التوحيد الإرادي الطلبي.
3- وإما أمر ونهي، وإلزام بطاعته في نهيه وأمره، فهي حقوق التوحيد ومكملاته.
4- وإما خبر عن كرامة الله لأهل توحيده وطاعته، وما فعل بهم في الدنيا، وما يكرمهم به في الآخرة، فهو جزاء توحيده.
5- وإما خبر عن أهل الشرك، وما فعل بهم في الدنيا من النكال وما يحل بهم في العقبى من العذاب، فهو خبر عمن خرج عن حكم التوحيد.
فالقرآن كله في التوحيد، وحقوقه، وجزائه، وفي شأن الشرك، وأهله، وجزائهم (2) .
أقسام التوحيد
__________
(1) والكتاب مطبوع، وهو صغير الحجم، كبير الشأن، يقع في أربع صفحات من الحجم الكبير وقد شرحه الشيخ الملا على القاري في سبعين ومائة صفحة من القطع الكبير والكتابان مطبوعان معاً في مصر سنة 1323هـ، وأعيد طبعهما بالأوفست في بيروت سنة 1399هـ.
(2) انظر مدارج السالكين: (3/449-450) ، ومنه أخذ العلامة ابن أبي العز الحنفي ذلك وقيده في شرح الطحاوية: (35) ، والشيخ ملا على القاري في شرح الفقه الأكبر: (8) دون عزو لمصدر ذلك في الكتابين، ومن بركة العلم إضافته لقائله، وقد أحسن الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ في فتح المجيد: (11) حيث عزا ذلك الكلام لقائله الهمام العلامة ابن القيم – عليه رحمة الرحيم الرحمن –.(1/13)
ينقسم التوحيد الذي نزلت به كتب الله – جل وعلا – ودعا إليه رسله الكرام – عليهم صلوات الله وسلامه – إلى قسمين:
الأول: توحيد في القصد والطلب، والإرادة والعمل، وهو المعروف بـ "توحيد الألوهية"، "توحيد العبادة" ويقوم هذا القسم من التوحيد على ركنين، وأساسين متينين:
أ) أن لا يعبد إلا الله – تبارك وتعالى –.
ب) أن تكون عبادته بما شرع، لا بالأهواء والبدع.
وهذان الأصلان هما تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وبهما يحصل ترجمانها، فالشق الأول من الشهادة يدل على إفراد الله بالعبادة، فالإله معناه: المعبود، ومعنى لا إله إلا الله: لا معبود بحقٍ سواه (1) .
والشطر الثاني من الشهادة يدل على وجوب متابعة النبي – صلى الله عليه وسلم – والالتزام بشرعه.
وقد جمع الله العظيم هذين الأصلين في كثير من آي القرآن الحكيم، فقال – جل وعلا {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} الكهف 110، وقال – جل وعلا – رداً على اليهود والنصارى حين زعم كل منهم أن الجنة خاصة بهم، ولن يدخلها غيرهم: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} البقرة112وقال – عز وجل - {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} النساء125.
__________
(1) ألف الإمام الزركشي كتاباً حافلاً في معنى "لا إله إلا الله" طبع في مصر 1982م بتحقيق على محي الدين القره داغي، بلغت صفحات الكتاب مع التحقيق والتعليق قرابة مائتي صفحة، وقرر في (80-81) أن الخبر مقدر، وتقديره بحق أحسن ما يقال في ذلك، لتكون الكلمة جامعة لثبوت ما لا يستحيل نفيه، ونفي ما يستحيل ثبوته.(1/14)
فالعمل الصالح هو الإحسان، وهو فعل الحسنات، والحسنات هي: ما أحبه الله – جل جلاله -، ورسوله – صلى الله عليه وسلم -، وهو ما أمر به أمر إيجاب أو استحباب، ويدخل في هذا المباح إذا قصد به الطاعة، وخرج بذلك أمران:
أالبدع المحدثة في دين الله – جل وعلا – فليست من المحسنات، ولا من العمل الصالح ولا يحبها الله، ولا رسوله – صلى الله عليه وسلم – وهي مردودة على صاحبها، ووبال عليه كما ثبت في الصحيحين عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌ" وفي رواية لمسلم – رحمه الله – "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"ٌ (1) .
ب وخرج ما نهي الله عنه مما لا يجوز فعله، كالفواحش والظلم، فليس ذلك من الحسنات، ولا من الأعمال الصالحات.
__________
(1) انظر صحيح البخاري – كتاب الصلح – باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود – (5/301) بشرح ابن حجر، وصحيح مسلم – كتاب الأقضية – باب نقض الأحكام الباطلة، ورد محدثات الأمور – رقم (1718،1719) ، وانظر في سنن أبي داود – كتاب السنة – باب في لزوم السنة: (5/12) وسنن ابن ماجه – المقدمة – باب في تعظيم حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – والتغليظ على من عارضه: (1/7) ، ومسند الإمام أحمد: (6/270) ، ورواية الإمام مسلم الثانية علقها الإمام البخاري بصيغة الجزم في كتاب البيوع – باب النجش: (85-4/355) ، وفي كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة – باب "وكذلك جعلناكم أمة وسطاً": (13/17) بشرح ابن حجر فيها، ورواها الإمام ابن أبي عاصم في السنة: (1/28) رقم (52) ورواها الإمام أحمد في المسند: (6/136) ، وورد الحديث بلفظ آخر عند أبي داود في المكان المتقدم ولفظه: "من صنع أمراً على غير أمرنا فهو ردٌ" وجميع الروايات المتقدمة عن أمنا عائشة – رضي الله عنها –.(1/15)
وقد بين لنا النبي – صلى الله عليه وسلم – الحلال من الحرام، وتركنا على المحجة الواضحة البيضاء، ليلها كنهارها، ولا يزيغ عنها إلا هالك (1)
__________
(1) المحجة بفتحتين: جادة الطريق كما في مختار الصحاح: (139) "حجج" وفي مسند الإمام أحمد: (4/126) ، ومستدرك الإمام الحاكم: (1/96) – كتاب العلم – وسنن الإمام ابن ماجه – المقدمة – باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين: (1/16) بسند صحيح، وفي كتاب السنة أيضاً للإمام ابن أبي عاصم: (1/27) رقم (48) بسند حسن كما في الترغيب والترهيب: (1/88) عن العرباض بن سارية – رضي الله تعالى عنه – قال قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: "لقد تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك"..(1/16)
ففي الصحيحين عن النعمان بن بشير – رضي الله تعالى عنهما – قال سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: "إن الحلال بين وإن الحرام بين، وبينهما متشبهات لا يعلمهن كثيرٌ من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صَلَحَتْ صَلَح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب" (1) .
هذا ما يتعلق بالركن الثاني: وهو: أن تكون – عبادة الله جل وعلا – بما شرع، لا بالأهواء والبدع، فالاعتصام بالسنة نجاة، قال الإمام مالك – رحمه الله تعالى -: السنة مثل سفينة نوح – على نبينا وعليه الصلاة والسلام – من ركبها نجا، ومن تخلف عنها هلك (2) .
__________
(1) انظر صحيح البخاري – كتاب الإيمان – باب فضل من استبرأ لدينه -: (1/126) وكتاب البيوع – باب الحلال بين، والحرام بين، وبينهما مشتبهات: (4/290) بشرح ابن حجر فيها، وصحيح مسلم – كتاب المساقاة – باب أخذ الحلال وترك الشبهات رقم: (1599) ورواه أبو داود في كتاب البيوع – باب في اجتناب الشبهات -: (3/623) رقم (3329،3330) والترمذي في أول كتاب البيوع – باب ما جاء في ترك الشبهات – (3/502) رقم (1205) ، والنسائي في كتاب البيوع – باب اجتناب الشبهات في الكسب: (7/213) وفي كتاب الأشربة – باب الحث على ترك الشبهات: (8/293) وابن ماجه في كتاب الفتن – باب الوقوف عند الشبهات: (2/1318) ، والدارمي في أول كتاب البيوع – باب في الحلال بين والحرام بين: (2/245) ، وأحمد في المسند: (4/267، 269، 270، 271، 275) .
(2) انظر ذلك مع التفصيل والتوضيح في مجموع فتاوى شيخ الإسلام: (4/137) .(1/17)
وأما الركن الأول فيدل عليه قوله – تبارك وتعالى - {وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} الكهف 110، وقوله {أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ} والمراد: إفراد الله - جل وعلا – بالعبادة، وإخلاص الدين لله وحده، كما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسم – يقول: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه" (1) .
__________
(1) الحديث أول حديث في صحيح البخاري – كتاب بدء الوحي -: (1/9) ، وكرره في ستة مواضع أخرى كتاب الإيمان – باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة ولكل امرئ ما نوى: (1/135) ، وكتاب العتق باب الخطأ والنسيان في العتاقة والطلاق: (5/160) ، وفي كتاب فضائل الصحابة – باب هجرة النبي – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه – رضي الله عنهم – إلى المدينة: (226) ، وفي كتاب النكاح – باب من هاجر أو عمل خيراً لتزويج امرأة فله ما نوى: (9/115) ، وفي كتاب الإيمان والنذور – باب النية في الإيمان: (11/572) ، وفي كتاب الحيل – باب في ترك الحيل، وأن لكل امرئ ما نوى: (12/327) بشرح ابن حجر في الجميع، وانظره في صحيح مسلم – كتاب الإمارة – باب إنما الأعمال بالنية رقم (1907) ورواه أبو داود – كتاب الطلاق – باب فيما عنى بالطلاق والنيات: (2/6519) ، والترمذي- كتاب الجهاد باب ما جاء فيمن يقاتل رياء وللدنيا: (4/180) ، والنسائي – كتاب الطهارة – باب النية في الوضوء: (1/51) ، وفي كتاب الطلاق – باب الكلام إذا قصد به فيما يحتمل معناه: (6/129) ، وفي كتاب الإيمان – باب النية في اليمين: (7/12) ، وابن ماجة في كتاب الزهد – باب النية: (2/1413) وأحمد في المسند: (1/25،47) .(1/18)
وهذه الأحاديث الثلاثة عليها تدور جميع الأحاديث، وهي أصول الإسلام كما روى ذلك الإمام أحمد – نضر الله وجهه ونور مرقده – (1) .
ووجه ذلك أن حديث النعمان بن بشير – رضي الله عنهما – يدل أن النبي – صلى الله عليه وسلم - بين لنا جميع ما يتعلق بحياتنا فعلاً وتركاً، فيجب علينا الأخذ بالحلال، والبعد عن الحرام، وما اشتبه علينا أمره، نتوقف فيه حتى يتبين لنا حكمه (2) .
وذلك المسلك منا ينبغي أن يكون على الكيفية الواردة عن نبينا – صلى الله عليه وسلم – دون زيادة أو نقصان، أو تغيير، وهذا هو مدلول حديث أمنا عائشة – رضي الله عنها –.
أما حديث عمر – رضي الله عنه – فيدل على أنه لا بد من حسن الباطن كما حسن العمل في الظاهر، فذلك مسلك عباد الله المخلصين، أما الاختلاف بينهما، ومغايرتهما لبعضهما فشأن المنافقين – نسأل الله الكريم طهارة القلوب من جميع الآفات والعيوب.
__________
(1) انظر جامع العلوم والحكم: (10) وانظر ما يتعلق بهذا الموضوع في شرح النووي لصحيح مسلم: (13/53) ، وفتح الباري: (1/11) ، والفتح المبين: (49) ، والفتوحات الربانية على الأذكار النواوية: (64-65) .
(2) وفي مستدرك الحاكم – كتاب الرقاق: (4/319) بإسناد صحيح أقره الذهبي، وسنن الترمذي – كتاب صفة القيامة – باب (من درجات المتقين) : (7/160) وقال الترمذي هذا حديث حسن غريب، وسنن ابن ماجه – كتاب الزهد – باب الورع والتقوى: (2/1409) ، وسنن البهيقي: (5/335) كتاب البيوع – باب كراهية مبايعة من أكثر ماله من الربا وثمن المحرم، ومعجم الطبراني الكبير كما في جمع الجوامع: (1/919) عن عطية السعدي قال قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: "إن الرجل لا يكون من المتقين حتى يدع مالا بأس به حذراً لما به بأس".(1/19)
هذا وقد أولى السلف الصالح ركني توحيد العبادة عناية عظيمة، فجعلوهما نُصْبَ أعينهم وسألوهما من ربهم فعمر بن الخطاب – رضي الله تعالى عنه – كان يقول: اللهم اجعل عملي كله صالحاً، واجعله لوجهك خالصاً، ولا تجعل لأحد فيه شيئاً.
والفضل بن عياض – عليه رحمة الله تعالى – يقول في تفسير قول الله تعالى شأنه -: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} الملك2: أخلصه، وأصوبه، قالوا يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل، حتى يكون خالصاً، والخالص أن يكون لله – جل وعلا -، والصواب أن يكون على السنة (1) .
__________
(1) انظر أثري عمر والفضيل – رضي الله عنهما – مع الكلام على ركني توحيد العبادة في مجموع فتاوى شيخ الإسلام: (10/172-174) ، (1/310-311) ، وانظر قول الفضيل أيضاً في جامع العلوم والحكم " (10-11) ، ومدارج السالكين: (1/83-84) ، ومجموع الفتاوى أيضاًً: (11/600) ، (1/333) والفضيل عياض هو سيد المسلمين في وقته كما قال الشيخ ابن تيمية: (11/600) "مجموع الفتاوى" وقد أخرج حديثه الستة إلا ابن ماجه، وهو ثقة إمام عابد كما في تقريب التهذيب: (2/113) وفي الميزان: (3/361) شيخ الحرم، وأحد الأثبات، مجمع على ثقته وجلالته أهـ ومن أقواله التي تدل على عظيم حاله: إني لأعصي الله، فأعرف ذلك في خلق حماري وخادمي كما في حلية الأولياء: (8/109) ، وصفة الصفوة: (2/238) ، وقوت القلوب: (1/377) ، والإحياء: (4/53) ، ومختصر منهاج القاصدين: (281) ، وفي الكتب الثلاثة الأخيرة أيضاً أنه كان يقول: الاحتلام عقوبة، ولا تفوت أحداً صلاة في جماعة إلا بذنب يحدثه انظر ترجمته العطرة في الحلية: (8/84-139) ، وصفة الصفوة: (2/237-247) ، وقال مؤلفه: اقتصرنا على هذا القدر من أخبار الفضيل، لأنا قد أفردنا لكلامه ومناقبه كتابً فمن أراد الزيادة فلينظر في ذلك الكتاب وانظر سبب توبته في تفسير القرطبي: (17/250) وكتاب التوابين: (207-208) والبداية والنهاية: (10/199) .(1/20)
فلابد من هذين الركنين في العبادة ليكون المكلف على الصراط المستقيم، ومن عباد الله الصادقين الفائزين، فعلى هذا المنهج سار جميع الأنبياء والمرسلين – عليهم جميعاً أفضل الصلاة وأزكى التسليم – قال الله - جل جلاله -: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} الأنعام 161-163، وقال – سبحانه وتعالى -: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} الأنبياء25 وقد أخبرنا – صلى الله عليه وسلم – عن هذه الحقيقة بقوله: "الأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتى، ودينهم واحد" (1) .
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – باب (48-7/478) بشرح ابن حجر، ومسلم في كتاب الفضائل – باب فضائل عيسى – على نبينا وعليه الصلاة والسلام – رقم (143-145) ، وأبو داود – كتاب السنة – باب في التخيير بين الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – (55) ، وأحمد في المسند: (2/319، 406، 437، 463، 482، 541) عن أبي هريرة - رضي الله عنه – ومعنى الحديث كما في شرح النووي: (15/120) ، وفتح الباري: (6/489) أن أصل دينهم واحد، وإن اختلفت فروع الشرائع، كحال الأخوة لأب نسبتهم واحدة، وأمهاتهم متعددة وقيل للإخوة من أب: أولاد علات لأن العلة هي الضرة وأبوهم كان ناهلا ً من الأولى ثم علَّ ممن بعدها والنهل هو الشرب الأول، والعلل هو الشرب الثاني، فهم قد اتفقوا ماءً لا إناءً، أما الإخوة الأشقاء فيقال لهم بنو الأعيان لأنهم اتفقوا ماءً وإناءً، وأما الأخوة من أم فيقال لهم بنو الأخياف وهم المختلفون الذين لا يستوفون حيث اختلفوا ماءً واتفقوا إناءً فنسبوا إلى آباء شتى. انظر لسان العرب خيف، علل، عين.(1/21)
وهذا القسم من التوحيد – توحيد العبادة – هو الذي جرى بسببه النزاع والقتال بين الرسل الكرام – عليهم أفضل الصلاة، وأتم التسليم – وبين أقوامهم، ولن يزال ذلك مستمراً بين المؤمنين والكافرين إلى يوم الدين. كما قال الله – جل وعلا -: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} الأنفال 39-39، والفتنة هي: الشرك كما ورد في تفسير الطبري عن ابن عباس وغيره – رضي الله عنهم أجمعين - (1)
__________
(1) انظر تفسير الطبري: (9/162) ، وعلى ذلك تتابع المفسرون، انظر مثلا ً: زاد المسير: (3/357) وتفسير ابن كثير: (2/308-309) ، وروح المعاني: (9/207) ، وقد ثبت هذا المعنى عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله" انظر صحيح البخاري – كتاب الإيمان – باب فإن تابوا وأقاموا الصلاة وأتوا الزكاة فخلوا سبيلهم: (1/75) بشرح ابن حجر وصحيح مسلم – كتاب الإيمان – باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، ويؤمنوا بجميع ما جاء به النبيّ – صلى الله عليه وسلم – رقم (36) ..(1/22)
وقال – جل وعلاج مخبراً عن عداوة المجرمين من كافرين ومنافقين للمؤمنين: {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ} البقرة217، وهذا في الكافرين وقال في بيان عداوة المنافقين للمؤمنين: {وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء} النساء89 (1) .
وهذا لقسم من التوحيد – توحيد العبادة – يتضمن القسم الثاني، وهو: توحيد الإثبات والمعرفة بنوعيه: توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، لأن من أفرد الله بالعبادة حسبما شرع فقد أقر بأن الله خالق كل شيء ومدبره، وله الأسماء الحسنى، والصفات العلى فما أفرد ربه بالعبادة إلا لاتصافه بذلك، فتوحيد الإثبات والمعرفة بنوعيه " توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات " داخل في توحيد العبادة فاعلم (2) .
?
موقف المكلف نحو هذا القسم من توحيد "توحيد الألوهية":
ينحصر موقف المكلف نحو هذا القسم من التوحيد في أحد أمرين:
__________
(1) من سورة النساء: (89) وتقريراً لمدلول الآية قال عثمان بن عفان – رضي الله تعالى عنه – كما في الحسبة: (86) لشيخ الإسلام: ودت الزانية لو زنى النساء كلهن.
(2) انظر إيضاح ذلك في مجموع الفتاوى: (1/302، 154 -155) ، وإغاثة اللهفان: (1/230/135) ومدارج السالكين: (1/32-33) .(1/23)
أ) إما أن يريده، ويعمل به، ويحبه، فيحصل له بذلك الاهتداء ويرضى عنه رب الأرض والسماء قال الله – عز وجل -: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} والظلم هو الشرك بذلك فسره رسولنا – صلى الله عليه وسلم – ففي الصحيحين عن ابن مسعود – رضي الله عنه – قال: لما نزلت:" الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ " شق ذلك على أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وقالوا: أينا لا يظلم نفسه؟ فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: "ليس هو كما تظنون، إنما هو كما قال لقمان لابنه: يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلمٌ عظيم" (1) .
__________
(1) الآية الأولى من سورة الأنعام: (82) ، والثانية من سورة لقمان: (13) ، والحديث في صحيح مسلم – كتاب الإيمان – باب صدق الإيمان وإخلاصه -: (2/134) بشرح النووي، وورد الحديث مكرراً في صحيح البخاري في خمسة أماكن في كتاب الأنبياء – باب قول الله: {وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} النساء125: (6/389) ، وفي باب قول الله، {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} لقمان12: (6/465) ، وفي كتاب التفسير سورة لقمان – باب لا تشرك بالله: (8/513) ، وفي كتاب استتابة المرتدين – باب إثم من أشرك بالله، وعقوبته في الدنيا والآخرة: (12/264) ، وفي باب ما جاء في المتأولين: (12/302) بشرح ابن حجر في الجميع، والحديث رواه الإمام أحمد في المسند: (1/378، 424، 444) .
هذا وقد ورد الحديث في صحيح البخاري في ثلاثة أماكن أيضاً بلفظ لما نزلت {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ} الأنعام82 قال أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: أينا لم يظلم نفسه؟ فأنزل الله: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} لقمان13، انظر كتاب الإيمان – باب ظلم دون ظلم -: (1/87) وكتاب أحاديث الأنبياء – باب قول الله {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} لقمان12: (6/465) ، وكتاب التفسير – سورة الأنعام – باب: يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ} الأنعام82 (8/94) ، بشرح بن حجر في الجميع أيضاً.
واعلم أن الرواية الأولى تفيد أن آية لقمان كانت معلومة للصحابة الكرام، ولذلك ذكرهم بها أما الرواية الثانية فيقول ظاهرها على أن سؤال الصحابة – رضي الله عنهم – كان سبباً لنزول آية لقمان، وللتوفيق بين الروايتين قال الإمام النووي: (2/143) : هاتان الروايتان إحداهما تبين الأخرى، فيكون لما شق عليهم أنزل الله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} لقمان13، واعلم النبي – صلى الله عليه وسلم – أن الظلم المطلق هناك المراد به المقيد، وهو الشرك، فقال لهم النبي – صلى الله عليه وسلم – بعد ذلك: ليس الظلم على إطلاقه وعمومه كما ظننتم، إنما هو الشرك، كما قال لقمان لابنه. أ.
وقال الإمام ابن حجر في الفتح: (1/88) : يحتمل أن يكون نزلها – أي آية لقمان – وقع في الحال، فتلاها عليهم، فتلتئم الروايتان. أهـ.(1/24)
وفي الصحيحين أيضاً وغيرهما عن معاذ بن جبل - رضي الله تعالى عنه – قال: بينما أنا رديف النبي – صلى الله عليه وسلم – ليس بيني وبينه إلا آخر الرحل فقال: "يا معاذ! قلت: لبيك رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وسعديك، ثم سار ساعة، ثم قال: يا معاذ! قلت: لبيك رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وسعديك ثم سار ساعة، ثم قال: يا معاذ! قلت: لبيك رسول الله وسعديك، قال: هل تدري ما حق الله على عباده؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال حق الله على عباده أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئاً، ثم سار ساعة، ثم قال: يا معاذ! قلت: لبيك رسول الله وسعديك، قال هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوه؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حق العباد على الله أن لا يعذبهم " (1) .
__________
(1) ورد الحديث في الصحيحين في أماكن متعددة، فرواه البخاري في سبعة أماكن، كما رواه أيضاً غير الشيخين، وسأقتصر في تخريجه على مكان واحد في الصحيحين خشية الإطالة انظر صحيح البخاري – كتاب اللباس – باب إرداف الرجل خلف الرجل: (10/397) بشرح ابن حجر، وانظر صحيح مسلم – كتاب الإيمان – باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعاً: (10/230) بشرح النووي، وقد ورد في بعض روايات الصحيحين أن معاذ بن جبل – رضي الله عنه – قال: أفلا أبشر به الناس؟ قال "لا تبشرهم فيتكلوا" وأخبر بها معاذ عند موته تأثماً، والتأثم أي: خشية الوقوع في الإثم والتوفيق بين إخبار معاذ – رضي الله عنه – مع نهي النبي – صلى الله عليه وسلم – له عن الإخبار، أجاب العلماء بأربعة أجوبة:
1- مال ابن حجر في الفتح: (1/227) إلى أن معاذاً حمل النهي عن التبشير على التنزيه لا على التحريم.
2- قال القاضي عياض كما في الفتح: (1/227) ، وشرح النووي: (1/241) : لعل معاذاً لم يفهم النهي، لكن كسر عزمه عما عرض له من تبشيرهم، قال ابن حجر والرواية صريحة في النهي فالأولى ما تقدم.
3- قال ابن الصلاح كما في شرح النووي: (1/241) : منعه من التبشير العام خوفاً من أن يسمع ذلك من لا خبرة له، ولا علم فيغتر ويتكل، وأخبر به النبي – صلى الله عليه وسلم – على الخصوص من أمن عليه الاغترار والاتكال من أهل المعرفة، فإنه أخبر به معاذاً، فسلك هذا المسلك، فأخبر به من الخاصة من رآه أهلا ً لذلك، قال النووي: وهذا الوجه ظاهر، لكن قال ابن حجر في الفتح: (1/227) والأول أوجه، لكونه أخر ذلك إلى وقت موته.
4- في شرح الأبِّيِّ: (1/126) ، وشرح النووي: (1/241) نقلا ً عن القاضي عياض أيضاً: احتمال كون معاذ اعتبر ذلك منسوخاً بالأحاديث الدالة على التبشير، لكن الذي يظهر للعبد الضعيف عبد الرحيم: ضعف هذا القول بسبب التأخير إلى وقت الموت، فالأولى اعتماد ما مال إليه ابن حجر.(1/25)
وهذا الحق الذي أوجبه رب العالمين، على المكلفين، نفعه عائد إليهم في الدنيا ويوم الدين القلوب لا تسكن إلا لباريها، ولا تطمئن إلا بهاديها، كما قرر ربنا هذا في كتابه – وهو أعلم بمن خلق: {أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} الرعد28، فالإيمان بالرحمن، محبته وعبادته وإجلاله وذكره والتوكل عليه، والإنابة إليه هو غذاء الإنسان وقوته، وصلاحه وقوامه، كما عليه أهل الإيمان، ودلت السنة والقرآن، وشهدت به الفطرة والجَنَان لا كما يقوله من قل نصيبه من التحقيق والعرفان، وبخس حظه من الإحسان: إن عبادته وذكره تكليف ومشقة:
أ) لمجرد الابتلاء والامتحان.
ب) أو لمجرد التعويض بالثواب المنفصل، كالمعاوضة بالأثمان.
جـ) أو لمجرد رباضة النفس وتهذيبها ليرتفع بذلك عن درجة البهيم من الحيوان.
كما هي مقالات من بخس حظه من معرفة الرحمن، وقل نصيبه من ذوق حقائق الإيمان، وفرح بما عنده من زبد الأفكار وزُبالة الأذهان.
إنما عبادته ومعرفته وتوحيده وشكره قرة عين الإنسان، وأفضل لذة للروح والجنان، وأطيب نعيم ناله من كان أهلا ً لهذا الشأن، فما طابت الدنيا إلا بمعرفته ومحبته، ولا الجنة إلا برؤيته ومشاهدته.
وليس المقصود بالعبادات والأوامر المشقة والكلفة بالقصد الأول، وإن وقع ذلك ضمناً وتبعاً في بعضها، ولأسباب اقتضته لابد منها، بل هي من لوازم هذه النشأة (1) .
__________
(1) انظر ذلك مع زيادات عليه لتوضيحه وتقريره في إغاثة اللهفان: (1/26-42، 71-72) ومجموع فتاوى شيخ الإسلام: (1/24-32) ، وانظر لزاماً الوابل الصيب من الكلم الطيب: (52-120) فقد قال الإمام ابن القيم – عليه رحمة الله تعالى – وفي ذكر الله أكثر من مائة فائدة، ثم وسع الكلام في ذلك، وأتى بما لن تظفر به في كتاب آخر فاغتنمه وكن من الشاكرين.(1/26)
وأما الحق الذي أوجبه ربنا – جل ثناؤه – للعباد على نفسه فهو ثابت بحكم وعده الصدق، وقوله الحق، الذي لا يجوز عليه الكذب في الخبر، ولا الخلف في الوعد محض تفضل منه وكرم وليس للمخلوق حق على خالقه.
ما لِلعِبَادِ عليهِ حَقٌ واجِبُ ... كَلا ولا سعىٌ لديْه ضَائعُ
إنْ عُذِبُوا فبعدْ لِه أوْ نُعمِوا ... فبفضله وهو الكريمُ الواسعُ (1)
وقد ثبت عن نبينا – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: "لو عذب الله أهل سمواته، وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم كانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم" (2) .
ب) وإما أن يرد ذلك المكلفُ، ولا يمتثله، ويكرهه ويبغضه، فيكون بذلك من أهل الشقاء ويلازمه العذاب والبلاء، قال الله – جل جلاله –: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} النحل36.
__________
(1) انظر بيتي الشعر في الوابل الصيب: (4) ، وتعليل أهل السنة للحق الذي أوجبه ربنا على نفسه في فتح الباري: (11/339) ، ومجموع الفتاوى: (18/150) .
(2) رواه أبو داود في كتاب السنة – باب في القدر -: (5/75) ، وابن ماجه في المقدمة – باب في القدر -: (1/30) ، وأحمد في المسند: (5/182،285،189) ، وابن أبي عاصم في كتاب السنة: (1/1099) وابن حبان كما ورد في موارد الظمآن – كتاب القدر – باب ما قضى الله على عباده فهو العدل: (450) عن زيد بن ثابت – رضي الله تعالى عنه – وقد حسن إسناد الحديث الشيخ عبد القادر الأرناؤوط في تعليقه على جامع الأصول: (10/106) وحكم الشيخ الألباني عليه بالصحة.
وورد الحديث من رواية عمران بن حصين، وابن مسعود، وأبي بن كعب – رضي الله عنهم – عند الطبراني بإسنادين رجال أحدهما ثقات كما في مجمع الزوائد: (7/198) .(1/27)
.. والطاغوت: فعلوت من الطغيان، وهو: تجاوز الحد في العصيان، وقد حده الإمام بن القيم – نور الله مرقده – حداً جامعاً فقال: الطاغوت: كل ما تجاوز به العبد حده: من معبودٍ، أو متبوع ٍ أو مطاع، فطاغوت كل قوم:
1- من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله – صلى الله عليه وسلم –.
2- أو يعبدونه من دون الله – جل وعلا –.
3- أو يتبعونه على غير بصيرة من الله – تبارك وتعالى –.
4- أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله – جل جلاله –.
فهذه طواغيت العالم، إذا تأملتها، وتأملت أحوال الناس معها رأيت أكثرهم أعرض عن عبادة الله – جل جلاله – إلى عبادة الطواغيت، وعن طاعة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى طاعة الطاغوت ومتابعته (1) . ...
روى ابن جرير في تفسيره، والترمذي في سننه وغيرهما عن عدي بن حاتم – رضي الله عنه – قال: أتيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وفي عنقي صليب من ذهب، فقال: يا عدي! اطرح هذا الوثن من عنقك، قال: فطرحته وانتهيت إليه وهو يقرأ في سورة براءة، فقرأ هذه الآية: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللهِ} لتوبة31 قال: قلت يا رسول الله! إنا لسنا نعبدهم، فقال: أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟ قال: قلت بلى، قال: فتلك عبادتهم".
__________
(1) انظر تعريف الطاغوت في المفردات: (304) حرف الطاء، وانظر كلام ابن القيم في فتح المجيد شرح كتاب التوحيد: (16) ، وفي كتابه العظيم، "أعلام الموقعين": (1/50) .(1/28)
ولفظ الترمذي: "أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئاً حرموه" (1) .
__________
(1) انظر تفسير ابن جرير: (10/81) ، وسنن الترمذي – كتاب التفسير – سورة التوبة -: (5/278) ، وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب، وغُطَيْف بن أعْين ليس بمعروف في الحديث (أهـ) وحكم الترمذي على الحديث بالغرابة ورد في طبعة مصر، وحمص من بلاد الشام وفي الطبعة المصرية أيضاً مع شرحه عارضة الأحوذي، لكن ورد في الطبعة الهندية مع شرحه تحفة الأحوذي: هذا حديث حسن غريب إلخ، بزيادة لفظ "حسن" قبل غريب، ونسب السيوطي في الدر المنثور: (3/230) تحسين الحديث إلى الترمذي، وزاد نسبة الحديث وعزوه إلى ابن سعد، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وأبي الشيخ، وابن مردويه، والبهيقي في سننه وتبعه على ذلك الشوكاني في فتح القدير: (2/355) وبين العبارتين فرق كبير، لأن قوله: حسن غريب، فيه الحكم بقبول الحديث مع انفراد الراوي به، وهذا لا يتمشى مع قول الترمذي في غطيف: ليس بمعروف، إلا بكلفة كأن يقال: حسن الترمذي الحديث باعتبار شواهده، أما قوله: هذا الحديث غريب، فالمراد منه بيان ضعف الحديث لتعليله ذلك بقوله: وغطيف ليس بمعروف، وأكثر نسخ سنن الترمذي على هذا الحكم وهذا هو المعول، وعليه الاعتماد، ولذلك حكم ابن حجر في التقريب: (2/106) على غطيف بأنه ضعيف، ونقل ابن حجر في تهذيب التهذيب: (8/250) ، تضعيفه عن الدارقطني، وتوثيقه عند ابن حبان، ومع المعلوم أن مذهب ابن حبان في التوثيق مهجور، مخالف للجمهور، لأنه يعتبر الثقة من روى عنه راو ٍ مشهور ولم يتبين جرحه، قال ابن حجر في لسان الميزان: (1/14) وهذا مذهب عجيب، هذا وقد ورد للحديث ما يشهد له، وربما يتقوى به، فيرتقي إلى درجة الحسن، فقد وردت آثار عن حذيفة، وابن عباس – رضي الله عنهم – وعن بعض التابعين أيضاً تشهد للحديث المتقدم فانظرها في تفسير الطبري: (10/81) ، والدر المنثور: (3/231) ولذلك قال الشيخ عبد القادر الأرناؤوط في تعليقه على جامع الأصول: (2/161) : لكن في الباب عن حذيفة – رضي الله عنه – موقوفاً أخرجه الطبري، وربما يتقوى به، (1هـ) وقد استشهد به ابن القيم في إغاثة اللهفان: (2/319) وحكم بصحته الشيخ عبد الرحمن آل الشيخ في فتح المجيد: (101) ، ونقل في: (106) تحسينه عن الترمذي وسكت على ذلك الشيخ محمد حامد الفقي محقق الكتاب، والشيخ إسماعيل الأنصاري مصححه والمشرف على طباعته، والحديث قد استشهد به شيخنا في الأضواء: (4/83) وابن تيمية كما في مجموع الفتاوى: (1/98، 7/97) ونص على حسنه، ولعل ذلك لشواهده فاعلم.(1/29)
القسم الثاني من أقسام التوحيد:
توحيد في الإثبات والمعرفة – ويشتمل على نوعين:
? توحيد الربوبية، ومبناه على الإقرار بأن الله – جل وعلا – موجود، وخالف كل شيء، موجده ومدبره، وهذا النوع من التوحيد مما فطر الله الجليل قلوب العباد على معرفته، والإقرار به، وللاستدلال عليه طريقان، دل على كل منهما كلام الرحيم الرحمن، وهما:
أ) الاستدلال بصنعة الله وأفعاله عليه، فالمخلوقات تدل على خالقها، والعوالم علامة على موجدها، وقد لفت ربنا الكريم أنظار العالمين إلى هذه الحقيقة في كثير من آي الذكر الحكيم، وإليك بعض حديثه عن خلق الإنسان، فذلك من أشد الأشياء لصوقاً بنا؛ لأنه قد مر علينا، ومن المعلوم: أن علم الإنسان بأحوال نفسه أظهر من علمه بأحوال غيره.
قال ربنا – جل جلاله -: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} الطور35 ثبت في صحيح البخاري وغيره عن جبير بن مطعم – رضي الله عنه – قال: سمعت النبي – صلى الله عليه وسلم – يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} الطور 35، 36 كاد قلبي يطير وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي، وفي رواية المسند: فكأنما صدع قلبي حين سمعت القرآن (1) .
__________
(1) انظر صحيح البخاري – كتاب التفسير – سورة الطور: (8/603) ، وكتاب المغازي – باب "12": (7/323) بشرح ابن حجر فيهما، وسنن ابن ماجه – كتاب إقامة الصلاة – باب القراءة في صلاة المغرب: (1/272) وانظر رواية المسند: (4/83، 85) وقوله: صدع من الصدع، وهو: الشَّق في الشيء الصُّلْب، كما في اللسان: (10/61) "صدع" والمعنى: كأنما انشق قلبي، وتمزق لشدة تأثره بسماع القرآن، ولذلك عبر عن هذا أيضاً بقوله: كاد قلبي أن يطير، كما في بلوغ الأماني: (3/225) .
وكان قدوم جبير لأجل فداء أسرى بدر كما في صحيح البخاري – كتاب الجهاد – باب فداء المشركين -: (6/168) بشرح ابن حجر، وكان جبير بن مطعم إذ ذاك مشركاً، كما في المسند في المكانين المتقدمين، وأسلم جبير بعد ذلك بين الحديبية، وفتح مكة أي بين سنة ست وثمان للهجرة المباركة، وقيل: أسلم يوم فتح مكة كما في أسد الغابة: (1/234) والإصابة: (1/226) القسم الأول–.(1/30)
.. والسبب الذي من أجله جرى لجبير ما جرى، أن وجود المخلوقات من غير خالق مستحيل، فإذا أنكروه وجحدوه، فهل خلقوا أنفسهم؟ إن ذلك أشد استحالة وأعظم بطلاناً، إذ كيف يتصور أن يخلق من لا وجود له؟ وكيف يتأتى من المعدوم التكوين والإيجاد؟ وإذا بطل الأمران، قامت عليهم الحجة بأن خالقهم الملك الرحمن، رب ما سيكون وما قد كان، لا إله إلا هو، ذو الجلال والإكرام.
... وحاصل معنى الآية الكريمة، أوجدوا من غير مبدع خلقهم؟ أم هم أوجدوا أنفسهم؟ والجواب الذي لا جواب غيره: لا هذا ولا ذاك، فهم يعلمون أنهم لم يكونوا من غير مكون كونهم ويعلمون – أيضاً – أنهم لم يكونوا أنفسهم، وعلمهم بذلك فطري لا يختلف فيه اثنان، وإذا انتفى الأمران تعين أن خالقهم هو الرحيم الرحمن، كما قال ربنا جل جلاله –: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} الواقعة 58-59 وقال – جل شأنه –: {إِنَّ اللهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} (1) .
... فآية الطور أشارت إلى دليل عظيم، تكرر ورده في كلام رب العالمين، وهو دليل السبر والتقسيم حسب المقرر عند الأصوليين، والمعروف بالتقسيم والترديد عند الجدليين.
وضابط هذا الدليل العظيم أنه متركب من أصلين:
أحصر أوصاف المحل، ويعبر عنه "بالتقسيم" عند الجدليين والأصوليين.
__________
(1) الآية (6،5) من سورة آل عمران، وانظر إيضاح معنى آية الطور في مجموع الفتاوى: (2/11) وتفسير ابن كثير: (4/244) ، وفتح الباري: (8/603) ، وروح المعاني: (27/37) ، وتفسير القرطبي: (17/74) ، ومفاتيح الغيب: (28/259) ،والسراج المنير: (4/118) ، ومدارج التنزيل: (5/102) ، ومعالم التنزيل، ولباب التأويل: (6/252) الأول مطبوع على هامش الثاني.(1/31)
ب اختبار تلك الأوصاف المحصورة، وإبطال ما هو باطل منها، وإبقاء ما هو صحيح، ويعبر عن هذا "بالسَّبْر"عند الأصوليين، "وبالترديد" عند الجدليين.
قال شيخنا الكريم محمد الأمين الشنقيطي – نور الله مرقده وفي غرف الجنان أرقده –: ومن أمثلة السَّبْر والتقسيم، في القرآن العظيم، قول رب العالمين: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} فكأنه – تعالى – يقول: لا يخلو الأمر من واحدة من ثلاث حالات بالتقسيم الصحيح:
الأول: أن يكونوا خلقوا من غير شيء: أي بدون خالق أصلاً.
الثانية: أن يكونوا خلقوا أنفسهم.
الثالثة: أن يكون خلقهم خالق غير أنفسهم.
ولا شك أن القسمين الأوليين باطلان، وبطلانهما ضروري كما ترى، فلا حاجة إلى إقامة الدليل عليه لوضوحه (1) .
والثالث الحق الذي لا شك فيه، وهو – جل وعلا – خالقهم المستحق منهم أن يعبدوه جل وعلا – (2) .
__________
(1) قال الإمام القرطبي في تفسيره: (2/201-202) : فإن قيل: فما أنكرت أنها أحدثت أنفسها؟ قيل: هذا محال، لأنها لو أحدثت نفسها لم تخل من أن تكون أحدثتها وهي موجودة أو هي معدومة فإن أحدثتها وهي معدومة كان محالاً، لأن الإحداث لا يتأتى إلا من حي عالم قادر مريد، وما ليس بموجود لا يصح وصفه بذلك، وإن كانت موجودة فوجودها يغني عن إحداث نفسها، وأيضاً فلو جاز ذلك لجاز أن يحدث البناء نفسه، وكذلك التجارة والنسج، وذلك محال، وما أدى إلى المحال محال.
(2) انظر أضواء البيان: (4/368-369) ، وانظر كلام الأصوليين على دليل السَّبْر والتقسيم في روضة الناظر: (2/293-309) ، وفواتح الرحموت: (2/295-302) والتحرير: (464-469) ، وأصول الفقه للخضري: (357-360) .
ولهذا الدليل العظيم، نفع عميم، فقد ألهمه ربنا الكريم، لبعض الأجلة من أئمة المسلمين، فقضى بسببه على فتنة عظيمة في الدين ففي تاريخ بغداد: (4/151-152) ومناقب الإمام أحمد: (350-356) والبداية والنهاية: (10/320) ، وتاريخ الخلفاء: (342) عن محمد المهدي بن الخليفة الواثق قال: كان أبي إذا أراد أن يقتل رجلاً أحضرني فجيء برجل [وهو أبو عبد الرحمن عبد الله بن محمد الأذرمي شيخ أبي داود، والنسائي كما في التقريب: (1/446) ، وتهذيب التهذيب: (6/5) ، والأذرمي نسبة إلى أذرمة من أعمال نصيين كما في اللباب: (1/38) ، ومراصد الاطلاع: (1/47) ] مكبل بالحديد، فدخل على والدي فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فقال له: عليك السلام، فقال الرجل: بئسما أدبك به مؤدبك يا أمير المؤمنين، قال الله – تعالى – {وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} النساء86 والله ما حييتني بأحسن منها ولا رددتها عليّ، فقال الخليفة الواثق لابن أبي دؤاد [وهو أحمد بن أبي دؤاد جهميّ بغيض قلَّ ما روي كما في الميزان: (1/97) ، وفي اللسان: (1/171) ، ويقال: إن الإمام أحمد كان يطلق عليه الكفر (1هـ) ، وفي البداية والنهاية: (10/319) ولى القضاة للمعتصم، ثم للواثق، وحمل السلطان على امتحان الناس بخلق القرآن، وأن الله لا يُرى في الآخرة.... وقد ابتلاه الله قبل موته بأربع سنوات بالفالج، وحرمه لذة الطعام والشراب والنكاح، فدخل عليه أحد أهل السنة فقال له: ما جئتك عائداً، وإنما جئتك لأعزينك في نفسك، وأحمد الله الذي سجنك في جسدك الذي هو أشد عليك من كل سجن، ثم خرج داعياً عليه، فازداد مرضه، ثم صودر ماله، ثم هلك سنة 241هـ ومن مخازيه ما في تاريخ الخلفاء: (341) أنه في سنة 231هـ استفك الواثق من الروم ألفاً وستمائة أسير مسلم، فقال ابن أبي دؤاد: من قال من الأسارى: (القرآن مخلوق) خلصوه وأعطوه دينارين ومن امتنع دعوه في الأسر] إن الرجل متكلم فناظره، فقال ابن أبي دؤاد: أحبرني عن القرآن هو مخلوق أم لا؟ فقال له الشيخ: والله ما أنصفتني، السؤال لي، وليس لك، هل علم هذه المسألة رسول الله – صلى الله عليه وسلم –، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي – رضي الله عنهم – أم لم يعلموها؟ فقال ابن أبي دؤاد: لم يعلموها، فقال الشيخ: شيء لم يعلمه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي – رضي الله عنهم – علمته أنت؟ فقال ابن أبي دؤاد: أقلني جوابي، والمسألة بحالها، أقول: قد علموها، فقال الشيخ: أفوسعهم أن لا يتكلموا به ويسكتوا عنه، ولا يدعوا الناس إليه، أم لم يسعهم؟ فقال ابن أبي دؤاد: بلى وسعهم، فقال الشيخ: فشيءٌ وسع رسولَ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -، وأبا بكر، وعمر، وعثمان، وعلي – رضي الله عنهم – لا يسعك أنت؟ فانقطع ابن أبي دؤاد، قال محمد المهدي الواثق: فقام والدي إلى حجرة أخرى، واستلقى على ظهره، وأعاد كلام الشيخ، فقال شيء لم يعلمه رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم -، لا أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعلي – رضي الله عنهم – يعلمه ابن أبي دؤاد؟ شيء وسع رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم -، وأصحابه السكوتُ عنه؟ ألا يسع ابن أبي دؤاد السكوت عنه؟ ثم قام: فدخل المجلس، وقال: فكوا وثاق الشيخ، واعتذر له، وأكرمه، وأعطاه أربعمائة دينار، وقال لابن أبي دؤاد: قم وسقط من عينه، ثم أمر أن لا يمتحن أحد بخلق القرآن.
قال ابن كثير في البداية بعد سرد هذه القصة: كما ذكرها الخطيب بإسناد فيه بعض من لا يعرف، وفي تهذيب التهذيب: (6/5) قلت: القصة مشهورة، حكاها المسعودي وغيره، ورواها السياري في الألقاب بإسناد له، قال فيه: إن المناظر هو الشيخ الأذرمي، ورواها محمد بن النجار في ترجمة محمد بن الجهم السامي، قال شيخنا في الأضواء: (4/379) : ويستأنس لهذه القصة بما ذكر الخطيب: (14/18) : وكان ابن ابي دؤاد قد استولى على الواثق، وحمله على التشدد في المحنة، ودعاء الناس إلى القول بخلق القرآن، ويقال: إن الواثق رجع عن ذلك 1هـ.
وفي مناقب الإمام أحمد: (350) يقول ابن الجوزي: وقد روي أن الواثق ترك امتحان الناس بسبب مناظرة جرت بين يديه، رأى أن الأولى ترك الامتحان، وقال في: (356) : قلت: وقد روي أن الواثق رجع عن القول بخلق القرآن قبل موته 1هـ، قال شيخنا في الأضواء: (4/380) وعلى كل حال فهذه القصة لم تزل مشهورة عن العلماء، صحيحة الاحتجاج، فيها إلقاء الخصم الحجر، وحاصل هذه القصة التي ألقم بها هذا الشيخ – الذي كان مكبلاً بالقيود، ويراد قتله – أحمد بن أبي دؤاد حجراً، وهو هذا الدليل العظيم، والذي هو السَّبْر والتقسيم، فكان الشيخ المذكور يقول لابن أبي دؤاد: مقالتك هذه التي تدعو الناس إليها لا تخلو بالتقسيم الصحيح من أحد أمرين:
إما أن يكون النبي – صلى الله عليه وسلم –، وخلفاؤه الراشدون – رضي الله تعالى عنهم 0 عالمين بها، أو غير عالمين بها – ولا واسطة بين العلم وغيره، فلا قسم ثالث ألبتة، ثم إنه رجع بالسَّبْر الصحيح إلى القسمين المذكورين، فبين أن السَّبْر الصحيح يظهر أن أحمد بن أبي دؤاد ليس على كل تقدير من التقديرين، ما على أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان عالماً بها، هو وأصحابه – رضي الله تعالى عنهم – وتركوا الناس، ولم يدعوهم إليها، فدعوة ابن أبي دؤاد إليها مخالفة لما كان عليه النبي – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه – رضي الله تعالى عنهم – من عدم الدعوة إليها، وكان يسعه ما وسعهم.
وإما على كون النبي – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه – رضي الله تعالى عنهم – غير عالمين بها، فلا يمكن ابن أبي دؤاد أن يدعي أنه عالم بها، مع عدم علمهم بها، فظهر ضلاله على كل تقدير، ولذلك سقط من عين الواثق، وترك الواثق لذلك امتحان أهل العلم، فكان هذا الدليل العظيم أول مصدر تاريخي لضعف هذه المحنة الكبرى، حتى أزالها الله بالكلية على يد المتوكل، وفي هذا منقبة تاريخية عظيمة لهذا الدليل المذكور.(1/32)
وقد أمرنا ربنا – تعالى شأنه – بالنظر إلى بداية الإنسان والتأمل في أصل تكوينه، فقال – جل جلاله –: {فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} (1) .
إنها آية عظيمة، جليلة فخيمة، حيث أن تلك النطفة المختلطة من ماء الرجل والمرأة (2) عندما تستقر في رحم الأنثى، ويأذن ربنا اللطيف الخبير بتكوينها، وخلق بشر منها، تتعلق بالرحم، وتكون لاصقة به، وكلما مضى عليها زمن ازداد لصوقها، وقوي تماسكها، فتحول بعد أربعين إلى علقة، ثم إلى مضغة، ثم إلى عظام تكسى بلحم، ولا يزال الجنين في ازدياد في الحجم، وشدة تعلق بالرحم، حتى يصل إلى غاية يمكنه الاستغناء فيها عن رحم أمه لو خرج منه فيقل تماسكه بالرحم، ويصاحب ذلك كبر حجمه، وثقل وزنه، ونشاط جسمه، ليسهل عليه الخروج، عندما يأذن له بذلك الملك المعبود.
__________
(1) الآية: (5-7) من سورة الطارق، والترائب جمع تريبة، قال ابن الجوزي في تفسير زاد المسير: (9/83) قال الزجاج: قال أهل اللغة أجمعون: الترائب: موضع القلادة من الصدر.
(2) كما قال ربنا – جل جلاله –: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} الإنسان2، والنطفة والنطافة: القليل من الماء، والجمع نطف ونطاف، قال أبو منصور اللغوي العرب تقول للمويهة القليلة: نطفة، وللماء الكثير نطفة، وهو بالقليل أخص وبه سمي المني نطفة لقلته، قال ابن منظور: وتقول العرب: نطف ينطف إذا قطر قليلاً قليلاً، انظر جميع ذلك في اللسان: (11/49) "نطف" وعلى هذا فالمني سمي نطفة لقلته، ولكونه يقطر قليلاً قليلاً، والنطفة تقال لمني الرجل والمرأة كما هو دليل آية الإنسان " مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ " أي أخلاط من ماء الرجل والمرأة، حسبما أحبر ربنا في سورة الطارق " يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ ".(1/33)
فحال الأجنة في بطون أمهاتها، كحال الثمار على أشجارها، عندما تبلغ غايتها، ويتم نضجها، لا يبقى إلا انفصالها، لثقلها، وكمالها، وضعف العروق الممسكة بها، وهكذا الجنين تنتهك عنه تلك الأغشية وتنفصل العروق التي تمسكه بين المشيمة والرحم، وتنصب تلك الرطوبات المزلقة، فتعينه بإزلاقها وثقله وانتهاك الحجب وانفصال العروق على الخروج، فينفتح الرحم انفتاحاً عظيماً جداً، ولابد مع ذلك من انفصال بعض المفاصل العظيمة، ثم تلتئم في أسرع زمان وقد اعترف بذلك حذاق الأطباء والمشرحين، فقالوا: لا يتم ذلك إلا بعناية إلهية، وتدبير تعجز عقول الناس عن إدراك كيفيته، فسبحان الله رب العالمين، وتبارك الله أحسن الخالقين (1) .
إي وربي لا يتم خروج المولود إلا بعناية إلهية، ورعاية ربانية، وأكثر الخلق في غفلة عن هذه القضية، كما قال رب البرية – جل وعلا –: {قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} عبس 17-20.
__________
(1) انظر هذا مع زيادة عليه في تحفة المورود بأحكام المولود: (224-227) .(1/34)
تأمل ذلك يا عبد الله حق التأمل، واعلم أن جميع الخلائق لو اجتمعوا على إعادة المولود إلى المكان الذي خرج منه لعجزوا، كما أنهم لو اجتمعوا على تكوينك ورعايتك في بطن أمك وقد أحاطت بك الظلمات لعجزوا وفشلوا وخسروا، فلا متصرف في ذلك، ولا متعهد لما هنالك إلا الرب المالك، قال الله – جل شأنه –: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} النجم32، قال – جل جلاله –: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} (1) .
وفي تلك الظلمات ركب رب الأرض والسموات العظام ببعضها، وكساها لحماً، وجعل فيها العروق والعصب، وفتح مجاري البول والغائط، وفتح العيون والآذان، وفرق الأصابع وشد رؤوسها بالأظافر إلى غير ذلك من غرائب صنعه، وعجائبه، وكل هذا في تلك الظلمات.
لا إله إلا الله، وسبحان الله كيف كانت تلك النطفة وإلام صارت، يقول ربي – جل ثناؤه –: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} المؤمنون 12-14.
__________
(1) من سورة الزمر: (6) والظلمات الثلاث في قول أكثر المفسرين كما في تحفة المودود: (194) فهو قول الجمهور كما في زاد المسير: (7/164) ولم يذكر سواه ابن كثير في تفسيره: (4/46) وشيخنا في الأضواء: (5/27) هي: ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة التي هي كالغشاوة والوقاية على الولد.(1/35)
إن تلك الصورة المهينة التي كانت في غاية الحقارة بُدِلت إلى صورة فخيمة كريمة في منتهى الجلالة، كما قال الله – تبارك وتعالى –: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} (1) .
حقاً إن صورة الإنسان أجمل صور المخلوقات وأبهاها، وأظرفها وأحلاها، وفي تلك الصور من الآيات العظام ما يسوق المؤمن لعبادة الله ذي الجلال والإكرام، كما أشار إلى ذلك الكلام الرحمن: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} الذاريات21.
__________
(1) من سورة التين: 4 ومن طريف ما يُروى ما في تفسير الرازي: (32/11) ، والسراج المنير: (4/558) أن عيسى بن يوسف الهاشمي كان يحب زوجته حباً شديداً، فقال لها يوماً: أنت طالقٌ ثلاثاً إن لم تكوني أحسن من القمر، فنهضت، واحتجبت عنه، وقالت طلقتني، فبات بليلةٍ عظيمة، فلما أصبح غدا على دار المنصور، فأخبره الخبر، فاستحضر الفقهاء، واستشارهم، فأفتى الكل بالحِنْث إلا يحيى بن أكثم فإنه قال لا يحنث، فقيل له: خالفت شيوخك، فقال: الفتوى بالعلم، ولقد أفتى من هو أعلم منا، وهو الله - جل وعلا – فقال: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} التين4 فالإنسان أحسن الأشياء ولا شيء أحسن منه، نسأل الله الكريم الغفار – كما أعطانا أحسن الأشكال – أن يوفقنا لأحسن الأفعال، وأن يعاملنا بأحسن الفِعَال، فيتجاوز عن ذنوبنا، ويستر عيوبنا، ويكرمنا بالأنس به في الدنيا، والنظر إلى وجهه الكريم في الآخرة، إنه سميعٌ مجيبٌ.(1/36)
ثم تَفَّكرْ – يا عبد الله – في رعاية الله لك، وعنايته بك بعد خروجك من الدنيا، حيث والى ربنا عليك إنعامه وبره، وواصل إحسانه ولطفه، فساق لك غذاءً خالصاً سائغاً، موافقاً لتغذيتك وصحتك، وفي تكوين تلك الغذاء من الأعاجيب العجيبة، والأسرار البديعة، والحكم العالية الجليلة، التي تضطر صرائح العقول وتلجئها إلى الإقرار بأن فاعل ذلك هو الله الحكيم الرحيم الغفور، وبيان ذلك كما قرر الإمام الرازي – عليه رحمة الله – في تفسيره، وإليك كلامه مع طوله، ففيه ما يقوي الإيمان، ويربط القلوب بالرحيم الرحمن.
الأول: خلق الله – سبحانه وتعالى – في أسفل المعدة منفذاً يخرج منه ثُفْلُ الغذاء فإذا تناول الإنسان غذاءً، أو شَرْبة ً رقيقة ً انطبق ذلك المنفذ انطباقاً كلياً لا يخرج منه شيء من ذلك المأكول والمشروب إلى أن يكمل انهضامه في المعدة، وينجذب ما صفا منه إلى الكبد ويبقى الثقل هنالك فحينئذ ينفتح ذلك المنفذ، وينزل منه ذلك الثُّفْل.
... وهذا من العجائب التي لا يمكن حصولها إلا بتدبير الفاعل الحكيم، لأنه متى كانت الحاجة إلى بقاء الغذاء في المعدة حاصلة انطبق ذلك المنفذ، وإذا حصلت الحاجة إلى خروج ذلك الجسم عن المعدة انفتح، فحصول الانطباق تارة والانفتاح أخرى بحسب الحاجة وتقدير المنفعة مما لا يتأتى إلا بتقدير الفاعل الحكيم.
الثانية: أود الله – جل جلاله – في الكبد قوة تجذب الأجزاء اللطيفة الحاصلة في ذلك المأكول، أو المشروب، ولا تجذب الأجزاء الكثيفة، وخلق في الأمعاء قوة تجذب تلك الأجزاء الكثيفة التي هي الثُّفْل، ولا تجذب الأجزاء اللطيفة ألبتة، ولو كان بالعكس لاختلفت مصلحة البدن، ولفسد نظام هذا التركيب.(1/37)
الثالث: أودع الله – سبحانه وتعالى – في الكبد قوة ً هاضمة ً طابخة ً، حتى أن تلك الأجزاء اللطيفة تنطبخ في الكبد وتنقلب دماً، ثم إنه – تعالى – أودع المرارة قوة ً جاذبةً للصفراء وفي الطِّحال قوة ً جاذبة ً للسوداء، وفي الكِلْية قوة ً جاذبة ً لزيادة المائية، حتى يبقى الدم الصافي الموافق لتغذية البدن، وتخصيص كل واحد من هذه الأعضاء بتلك القوة والخاصية لا يمكن إلا بتقدير الحكيم العليم.
الرابع: وفي الوقت الذي يكون الجنين في رحم الأم يَنْصَبُّ من ذلك الدم نَصِيبٌ وافر إليه حتى يصير مادة لنمو أعضاء ذلك الولد، وازدياده، فإذا انفصل ذلك الجنين عن الرحم ينصب ذلك النصيب إلى جانب الثدي، ليتولد منه اللبن الذي يكون غذاءً له، فإذا كبر الولد لم ينصب ذلك لا إلى الرحم، ولا إلى الثدي، بل ينصب على مجموع بدن المتغذي، فانصباب ذلك الدم في كل وقت إلى عضو آخر انصباباً موافقاً للمصلحة والحكمة لا يتأتى إلا بتدبير العزيز الحكيم.
الخامس: عند تولد اللبن في الضِّرْع يحدث الله - جل جلاله – في حُلْمة الثدي ثقوباً صغيرة ومساماً ضيقة، وجعلها بحيث إذا اتصل المص، أو الحلب بتلك الحلمة انفصل اللبن عنها في تلك المسام الضيقة، ولما كانت المسام ضيقة جداً فحينئذ لا يخرج منها إلا ما كان في غاية الصفاء واللطافة، وأما الأجزاء الكثيفة فإنه لا يمكنها الخروج من تلك المنافذ الضيقة فتبقى في الداخل والحكمة في إحداث تلك الثقوب الصغيرة، والمنافذ الضيقة في رأس حُلْمة الثدي أن يكون ذلك كالمصفاة، فكل ما كان لطيفاً خرج، وكل ما كان كثيفاً احتبس في الداخل، ولم يخرج، فبهذا الطريق يصير اللبن خالصاً موافقاً لبدن الصبي سائغاً للشاربين.(1/38)
السادس: ألهم الله الكريم ذلك الصبيّ إلى المص، فإن الأم كلما ألقمت حُلْمة الثدي في فم الصبيّ فذلك الصبيّ في الحال يأخذ في المص، فولا أن الإله الرحيم ألهم ذلك الطفل الصغير ذلك العمل المخصوص لم يحصل الانتفاع بتخليق ذلك اللبن في الثدي.
السابع: اللبن مخلوقٌ من فضلة الدم، والدم خلق من الغذاء الذي تم تناوله، وقد حصل في اللبن أجزاء ثلاثة في طبائع متضادة، فما فيه من الدهن يكون حاراً رطباً، وما فيه من المائية يكون بارداً رطباً، وما فيه من الجُبْنِيَّة يكون بارداً يابساً، وهذه الطبائع ما كانت حاصلة في الغذاء الذي تم تناوله، فظهر بهذا أن هذه الأجسام لا تزال تنقلب من صفة إلى صفة، ومن حالةٍ إلى حالة، مع أنه لا يناسب بعضها بعضاً، ولا يشاكل بعضها بعضاً، وذلك دليلٌ على حدوث تلك الأحوال بتدبير حكيم رحيم يدبر أحوال هذا العالم على وفق مصالح العباد، فسبحان من تشهد جميع ذرات العالم الأعلى والأسفل بكمال قدرته، ونهاية حكمته ورحمته، وله الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين (1) .
__________
(1) انظر تفسير الرازي: (20/66-67) ، ونقله باختصار الشربيني في السراج المنير: (2/242-243) .(1/39)
والمتبصر في حال المولود حين ولادته يرى أن النفوس الإنسانية في أول خلقتها أقل فهماً وذكاءً من فطنة سائر الحيوانات، ألا ترى ولد الدجاجة لما يخرج من قشر البيضة يميز بين العدوِّ والصديق، فيهرب من الهرة، ويلتجئ إلى الأم، ويميز بين الغذاء الذي يوافقه، والغذاء الذي لا يوافقه، وأما ولد الإنسان فإنه حال انفصاله عن بطن الأم لا يميز ألبتة بين العدوَّ والصديق ولا بين الضار والنافع، فظهر أن الإنسان في أول الحدوث أنقص حالاً، وأقل فطنة من سائر الحيوانات، ثم إنه بعد يقوى عقله، ويعظم فهمه، ولا يدانيه في ذلك حيوان ما، فانتقال الإنسان من تلك البلادة المفرطة إلى هذه الكياسة المفرطة لابد وأن يكون بتدبير إلهٍ مختار حكيم ينقل الأنفس الإنسانية من نقصانها إلى كمالاتها، ومن جهالاتها إلا معارفها بحسن الحكمة والاختيار، كما قال العزيز الغفار: {خَلَقَ الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ} وقال – جل وعلا –: {وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (1) .
__________
(1) الآيتان من سورة النحل: (4، 78) وانظر مفاتيح الغيب: (19/225-226) فمنه أخذ تقرير ذلك الكلام، وفيه في: (4/201) عن عليّ – رضي الله تعالى عنه –: "سبحان من بصَّر بشحم وأسمع بعظم وأنطق بلحم"، وهو في روح البيان: (1/13) دون نسبة إلى أحد.(1/40)
ومما ينبغي التنبه له غاية الانتباه، ومراعاته أتم المراعاة، أن الله الكريم الذي تعهد الإنسان بالتربية الرفيقة عند ما كان في ظلمات ثلاث، ثم والى عليه إحسانه وبره بعد خروجه من بطن أمه أتم عليه نعمه، وأسبغ عليه حاجته في جميع مراحل حياته، ليربط قلبه به، ويخلصه من العبودية لغيره، فجعل ربنا – جل جلاله – اليسر والسهولة في تحصيل الحاجات بمقدار الاحتياج إليها، فكلما كانت الحاجة إلى الشيء أشد كان وجدانه أسهل وأيسر، ولذلك لما كان احتياج الإنسان إلى الهواء أعظم الحاجات حتى لو انقطع عنه لحظة لمات كان وجدانه أسهل من وجدان كل شيء، وبعد الهواء الماء، فإن الحاجة إلى الماء – أيضاً – شديدة لكن دون الحاجة إلى الهواء، ولذلك سهل وجدان الماء لكن دون سهولة وجدان الهواء –، فوجدان الهواء أسهل وأيسر، لأن الماء لابد فيه من تكلف الاغتراف، بخلاف الهواء، فإن الآلات المهيأة لجذبه حاضرة أبداً، ثم يلي الحاجة إلى الماء الحاجة إلى الطعام، وهي مع شدتها وضرورتها دون الحاجة إلى الماء فلذلك كان تحصيل الطعام، أصعب من تحصيل الماء.
ويلي الحاجة إلى الطعام الحاجة إلى الملابس، وهي مع عدم الاستغناء عنها فإن الاحتياج إليها دون الاحتياج إلى الطعام، لذلك كان تحصيلها أصعب من تحصيل الطعام.
وهكذا فكلما خفت الحاجة إلى الشيء، كلما صعب الحصول عليه، ففي تحصيل الكماليات من أنواع الزينة والجواهر ما فيه من الصعوبة، والأمر كما قال الشاعر:
سبحانَ مَنْ خَصَّ القليلَ بِعِزَّهِ ... والناسُ مُسْتَغْنُونَ عن أجْنَاسِهْ
وأذلَّ أنْفاسَ الهواء ِ وكُلُّ ذِي ... نَفَس ٍ لمُحْتاج ٌ إلى أنْفَاسِهْ (1)
__________
(1) انظر هذا التحليل والتقرير في مفاتيح الغيب: (4/201) .(1/41)
.. وبالختام فما في الإنسان من آيات عظام، تدل على أن خالقه العزيز الحكيم الرحمن، يستحيل حصرها، والوقوف على عشر معشارها ن وما ظهر لنا من تلك الآيات، يحتاج شرحه إلى مجلدات ويكفيك في ذلك قول رب البريات، وخالق الأرض والسموات: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} الذاريات21، قال الإمام القرطبي – عليه رحمة الله تعالى –: أولم ينظروا في ذلك نظر تفكر وتدبر، حتى يستدلوا بكونها محلا ً للحوادث والتغييرات على أنها محدثات، وأن المحدث لا يستغني عن صانع يصنعه، وأن ذلك الصانع حكيمٌ عالمٌ مدبرٌ سميعٌ بصيرٌ متكلمٌ، لأنه لو لم يكن بهذه الصفات لكان الإنسان أكمل منه، وذلك محال، فالإنسان إذا تفكر بهذا التنبيه بما جعل له من العقل في نفسه رآها مدبرة، وعلى أحوال شتى مصرفة، كان نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم لحماً وعظماً، فيعلم أنه لم ينقل نفسه من حال النقص إلى حال الكمال، لأنه لا يقدر على أن يحدث لنفسه في الحال الأفضل التي هي كمال عقله، وبلوغ أشده عضواً من الأعضاء، ولا يمكنه أن يزيد في جوارحه جارحة، فيدله ذلك على أنه في حال نقصه، وأوان ضعفه عن فعل ذلك أعجز، وقد يرى نفسه شاباً ثم كهلا ً وهو لم ينقل نفسه من حال الشباب والقوة إلى حال الشيخوخة والهرم، ولا اختاره لنفسه، ولا في وسعه أن يزايل حال المشيب، ويراجع قوة الشباب.
... فيعلم بذلك أنه ليس هو الذي فعل تلك الأفعال بنفسه، وأن له صانعاًٌ صنعه، وناقلا ً نقله من حال إلى حال، ولولا ذلك لم تتبدل أحواله بلا ناقل ولا مدبر.
وقال بعض الحكماء:(1/42)
.. إن كل شيء في العالم الكبير له نظير في العالم الصغير الذي هو بدن الإنسان، فحواس الإنسان أشرف من الكواكب المضيئة، والسمع والبصر منها بمنزلة الشمس والقمر في إدراك المدركات بها، وأعضاؤه تصير عند البلى تراباً من جنس الأرض وفيه من جنس الماء العروق وسائر رطوبات البدن، ومن جنس الهواء فيه الروح والنَّفس، ومن جنس النار فيه المِرَّة والصفراء، وعروقه بمنزلة الأنهار في الأرض، وكبده بمنزلة العيون التي تستمد منها الأنهار لأن العروق تستمد من الكبد، ومثانته بمنزلة البحر لانصباب ما في أوعية البدن إليها كما تنصب الأنهار إلى البحر، وعظامه بمنزلة الجبال التي هي أوتاد الأرض، وأعضاؤه كالأشجار، فكما أن لكل شجر ورقاً أو ثمراً فكذلك لكل عضو فعل، أو أثر، والشعر على البدن بمنزلة النبات والحشيش على الأرض، ثم إن الإنسان يحكي بلسانه كل صوت حيوان، ويحاكي بأعضائه صنيع كل حيوان، فهو العالم الصغير مع العالم الكبير، مخلوقٌ محدث لصانع واحد لا إله إلا هو، ولا رب سواه (1) .
ب- الطريق الثاني للاستدلال على توحيد الربوبية:
... الاستدلال به – جل وعلا – عليه، وعلى أفعاله، وصنعه، وهذه الطريقة أعظم من الأولى ولها شأنٌ خطيرٌ، وقدرٌ جليلٌ، وهي طريقة أرباب البصائر، الذين وقفوا على حقائق الأمور وأعطوا كل ذي حق ٍ حقه.
__________
(1) انظر مدارج السالكين بين منازل "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ": (1/60) ، وفي الحكم العطائية: (27-28) : شتان بين من يستدل به، أو يستدل عليه، به عرف الحق لأهله فأثبت الأمر من وجود أصله، والاستدلال عليه من عدم الوصول إليه، وإلا فمتى غاب حتى يستدل عليه؟، ومتى بعد حتى تكون الآثار هي التي توصل إليه؟، زاد ابن عباد النَّفَري شارح الحكم: ومتى فقد حتى تكون الآثار الموجودة هي التي تدل عليه؟، وأنشد:
عَجِبْتُ لَمِنْ يَبْغي عليكَ شَهادةً ... وَأنْتَ الذي أشْهَدْتَهُ كُلَّ مَشْهَدِ(1/43)
.. والفرق بين هذه الطريقة والتي قبلها كالفرق بين من يستدل بنفس وجود النهار على وجوده، وبين من يستدل على النهار بآثاره وعلاماته ولوازمه، وشتان شتان ما بين الاستدلالين، قال الإمام ابن القيم: سمعت شيخ الإسلام تقيّ الدين بن تيمية – قدس الله روحهما – ورفع درجتهما – يقول: كيف يطلب الدليل على من هو دليل على كل شيء؟ وكان كثيراً ما يتمثل بهذا البيت:
وليسَ يَصِحُّ في الأذهَان ِ شيءٌ ... إذا احتاج النَّهارُ إلى دَلِيل
... قال العلامة ابن القيم – عليه رحمة الله تعالى –: ومعلوم أن وجود الرب – تبارك وتعالى – أظهر للعقول والفطر من وجود النهار، ومن لم ير ذلك في عقله وفطرته فليتهمهما (1) .
وقد قرر الإمام ابن تيمية – روح الله روحه – الاستدلال بهذه الطريقة، وأشاد بها، وهاك خلاصة ما ذكره في ذلك: إذا كان ما سوى الله – جل وعلا – من الموجودات: الأعيان، والصفات يستدل بها سواء كانت حية أو لم تكن، بل ويستدل بالمعدوم، فلأن يستدل بالحي القيوم أولى وأحرى.
قالوا ائتِنَا بِبَرَاهِينَ، فَقُلتُ لَهُمْ ... أنّى يقومُ على البُرْهَان ِ بُرْهَانُ
ومن أسمائه – جل وعلا – الهادي، ولهذا يذكر عن بعضهم أنه قال: عرفت الأشياء بربي ولم أعرف ربي بالأشياء، وقال بعضهم: هو الدليل لي على كل شيء، وإن كان كل شيء عليه دليلا ً، وقيل لابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – بماذا عرفت ربك؟ فقال: من طلب دينه بالقياس لم يزل دهره في التباس، خارجاً عن المنهاج، ظاعناً في الاعوجاج، عرفته بما عرَّف به نفسه، ووصفته بما وصف به نفسه. فأخبر أن معرفة القلب حصلت بتعريف الله – جل وعلا – وهو نور الإيمان، وأن وصف اللسان حصل بكلام الله، وهو نور القرآن، وهذا كما قال القائل:
__________
(1) انظر تفسير القرطبي: (2/202-203) ، ونحوه في تفسير روح البيان: (9/158) .(1/44)
ولذلك قال المشايخ: اليقين واردات ضرورية ترد على النفوس وتعجز عن ردها، قال الشيخ إسماعيل الكوراني (1) لمتكلم أنتم تقولون: إن الله يعرف بالدليل، ونحن نقول: إنه تعرف إلينا فعرفناه يعني: أنه تعرف بنفسه، وبفضله.
والحق، الحي، القيوم – جل جلاله – هو رب كل شيء ومليكه، ومؤصل كل أصل ومسبب كل سبب وعلة، فهو الدليل والبرهان، والأول والأصل الذي يستدل به العبد ويفزع إليه ويرد جميع الأواخر إليه في العلم، وذلك هو سبيل الهدى وطريقه.
والاستدلال بهذه الطريقة أكمل من الاستدلال بالطريقة الأولى وأظهر، قال الإمام ابن القيم – عليه رحمة الله تعالى – وأما الاستدلال بالصانع فله شأنٌ، وهو الذي أشارت إليه الرسل الكرام – عليهم الصلاة والسلام – بقولهم لأممهم: "أَفِي اللهِ شَكٌّ" من سورة إبراهيم: (10) أي أيُشَكُ في الله حتى يطلب إقامة الدليل على وجوده؟ وأي دليل أوضح وأظهر من هذا المدلول؟ فكيف يستدل على الأظهر بالأخفى؟ ثم نبهوا على الدليل بقولهم: "فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ " (2) .
قال مقيد هذه الصفحات – غفر الله له جميع السيئات –: الذي يدل على مكانة هذا الدليل ومتانته أمران:
__________
(1) انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام: (2/18-19) ، والشيخ إسماعيل الكوراني الذي نقل عنه الشيخ ابن تيمية، هو: إسماعيل على الكوراني الزاهد، كان عابداً قانتاً صادقاً أماراً بالمعروف نهاءً عن المنكر، ذا غلظة على الملوك، ونصيحةٍ لهم، توفي سنة (644) بدمشق – عليه رحمة الله تعالى – انظر شذرات الذهب: (5/230) والذيل على الروضتين: (179) .
(2) انظر مدارج السالكين: (1/60) ، وآية (10) من سورة إبراهيم {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} .(1/45)
أولهما: أن من أسماء الله الجليل "الهادي" وهذا الاسم المبارك شامل لجميع أنواع الهدايات، وأعلا تلك الهدايات وأكملها، وأعظمها وأكرمها هدايته من اصطفاه وشرح صدره لمعرفته حتى استدل بتلك المعرفة عليه، وعلى صفاته، وأفعاله – جل جلاله – ولا إله غيره.
... فهو الذي هدى قلوب الصادقين إلى معرفته به، وشرح نفوسهم إلى طاعته، وجعل قرة أعينهم بحلاوة مناجاته.
... قال الإمام الغزالي – عليه رحمة الرب الباري – الهادي، هو: الذي هدى خواص عباده أولا ً إلى معرفة ذاته، حتى استشهدوا بها على معرفة ذاته، وهدى كل مخلوق إلى ما لا بد منه في قضاء حاجاته، فهدى الطفل إلى التقام الثدي عند انفصاله، والفرخ إلى التقاط الحب وقت خروجه، والنحل إلى بناء بيته على شكل التسديس لكونه أوفق الأشكال لبدنه وأحوالها , أبعدها عن أن يتخللها فُرج ضائعة، وشرح ذلك مما يطول، وعنه عبر قول الله – تبارك وتعالى –: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} طه50، وقوله – جل جلاله –: {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} (1) .
__________
(1) وانظر المقصد الأسنى شرح أسماء الله الحسنى: (140-141) ، وانظر أيضاً تفسير أسماء الله الحسنى للزجاج: (64) ولوامع البينات في شرح أسماء الله – تعالى - الحسنى والصفات: (348-349) ففيهما نحو ما ذكر الغزالي.(1/46)
الأمر الثاني: غنى الرب – جل جلاله – الذاتي، يدل على كماله وجلاله، وعلى كون المخلوقات بأسرها في قبضته، وتحت تصرفه، فالفقر ذاتي لها، لا ينفك عنها، قال الله – تبارك وتعالى - {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} فاطر15 قال الإمام ابن القيم – عليه رحمة الله تعالى – بين سبحانه وتعالى في هذه الآية أن فقر العباد إليه أمر ذاتي لهم لا ينفك عنهم، كما أن كونه غنياً حميداً ذاتي له، فغناه وحمده ثابت له لذاته لا لأمر أوجبه، وفقر من سواه إليه ثابت له لذاته لا لأمر أوجبه، فلا يعلل هذا الفقر بحدوث ولا إمكان، بل هو ذاتي للفقير، فحاجة العبد إلى ربه لذاته لا لعلة أوجبت تلك الحاجة، كما أن غنى الرب – سبحانه وتعالى – لذاته، لا لأمر أوجبه غناه، فالفقير بذاته محتاج إلى الغنيّ بذاته، فما يذكر من إمكان وحدوث واحتياج فهي أدلة على الفقر لا أسباب له، ولهذا كان الصواب في مسألة علة احتياج العالم إلى الرب – سبحانه وتعالى – غير القولين اللذين تذكرهما الفلاسفة والمتكلمون، فإن الفلاسفة قالوا: علة الحاجة: الإمكان، والمتكلمون قالوا: علة الحاجة الحدوث، والصواب أن الإمكان، والحدوث متلازمان، وكلاهما دليل الحاجة والافتقار، وفقر العالم إلى الله – جل وعلا – أمر ذاتي لا يعلل، فهو فقير بذاته إلى ربه الغني بذاته (1) .
__________
(1) انظر طريق الهجرتين وباب السعادتين: (6) وقرر في صفحة: (59) أن حاجات العباد إلى الله – جل جلاله – بعدد أنفاسهم بل أكثر، فالعبد له في كل نفس ولحظة وطرفة عين عدة حوائج إلى الله – جل وعلا – لا يشعر بكثير منها، فأفقر الناس إلى الله – تبارك وتعالى – من شعر بهذه الحاجات وطلبها من معدنها بطريقها 1هـ وقد قرر شيخ الإسلام في كتاب الحسنة والسيئة صفحة: (223) ضمن شذرات البلاتين أن أنفع الدعاء، وأعظمه وأحكمه، دعاء الفاتحة: "اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ" فالعبد محتاج إلى الهدى في كل لحظة، وهو إلى الهدى أحوج منه إلى الأكل والشرب، ولا يحصل الاهتداء إلا بالعلم النافع، وإرادة العمل به، ووجود القدرة على ذلك، قال ابن أبي العز الحنفي في شرح الطحاوية: (320) والمجهول لنا من الحق أضعاف المعلوم، ومالا نريد فعله تهاوناً وكسلا ً مثل ما نريده، أو أكثر منه، أو دونه، وما لا نقدر عليه مما نريده كذلك، فنحن محتاجون إلى الهداية التامة.(1/47)
فمن عرف ربه بالغنى المطلق، عرف نفسه بالفقر المطلق، وقد حكى الإمام ابن القيم عن شيخه الإمام ابن تيمية – عليهما رحمة الله تعالى – مما يدل على رسوخه في هذا المقام، وإليك عبارته: ولقد شاهدت من شيخ الإسلام ابن تيمية – قدر الله روحه – من ذلك أمراً لم أشاهده من أحدٍ غيره، وكان يقول كثيراً: مالي شيءٌ ولا مني شيء ولا في شيء، وكان كثيراً ما يتمثل بهذا البيت:
أنا المُكَدّى وابنُ المُكَدّى ... وهكذا كانَ أبي وجَدّي
... وكان إذا أثني عليه في وجهه يقول: والله إني إلى الآن أجدد إسلامي كل وقت، وما أسلمت بعد إسلاماً جيداً، وبعث إليّ في آخر عمره قاعدة في التفسير بخطه، وعلى ظهرها أبيات بخطه من نظمه:
أنا الفقيرُ إلى ربّ البَريّات ِ ... أنا المسكينُ في مجموع حَالاتي
أنا الظلومُ لنفسي، وهي ظالمتي ... والخيرُ إنْ يأتِنا مِنْ عِنْدِهِ ياتي
لا أستطيعُ لنفسي جَلْبَ مَنْفَعَةٍ ... ولا عَنِ النفس ِ لي دفعُ المَضَرّاتِ
وليسَ لي دونَهُ مَوْلىً يُدَبِرُنِي ... ولا شَفيعٌ إذا حَاطَتْ خَطِيئاتي
إلا بإذن ٍ من الرحمن ِ خالقِنا ... إلى الشَّفِيع ِ كما قَدْ جا في الاياتِ
وَلسْتُ أمْلِكُ شيئاً دونَه أبَدَاً ... ولا شَريكٌ أنا في بَعْض ِ ذرَّاتِ
ولا ظَهيرٌ له كيْ يَسْتَعينَ بهِ ... كما يكونُ لأرْبَابِ الوِلايَاتِ
والفَقْرُ لي وَصْفُ ذاتٍ لازِمٌ أبَداً ... كما الغِنى أبَداً وَصْفٌ له ذاتِي
وهذه الحالُ حالُ الخَلق ِ أجْمَعِهِمْ ... وَكُلُّهُمْ عِنْْدهُ عَبْدٌ لََهُ آتي
فَمَنْ بَغَى مَطْلباً مِنْ غَيْر خَالِقِهِ ... فهْو الجَهُولُ الظلومُ المُشْرِكُ العَاتي
والحمدُ للهِ ملءَ الكَوْن ِ أجْمَعِهِ ... ما كانَ مِنْهُ مِنْ بعدُ قَدْ ياتي (1)
__________
(1) انظر مدارج السالكين: (1/524-525) وفي الحكم العطائية: (77) : فاقتك لك ذاتيه، وخير أوقاتك وقت تشهد فيه وجود فاقتك، وترد فيه إلى وجود ذلتك. ... إنْ كُنْتَ مُرْتَاداً بُلوغ َ كَمَال ِ
وفي شرح الشَّرنُوبي للحكم العطائية: (65) أبيات لطيفة تدور حول نظم شيخ الإسلام، فدونكها:
0@اللهَ قلْ وَذرِ الوجودَ وما حَوى
فالكُلُّ دونَ اللهِ إنْ حَققتَهُ ... عدمٌ على التفصيل ِ والإجْمَال ِ
واعْلمْ بأنّك والعوالمُ كُلُّهَا ... لولاهُ في مَحْو ٍ وفي اضْمِحْلال ِ
مَنْ لا وُجودَ لِذاتِهِ مِنْ ذاتِهِ ... فوجودُهُ لولاهُ عَيْنُ مُحال ِ
والعَارفونَ بربهم لمْ يَشْهدُوا ... شيئاً سوى المُتَكَبّر ِ المُتَعَال ِ
ورأواْ سِواهُ على الحقيقةِ هَالِكاًج ... في الحال والمَاضي والاسْتِقْبَال ِ
وانظر مجموع الفتاوى: (1/42،46) حيث قرر الإمام ابن تيمية – عليه رحمة رب البرية – أن الأشياء مفتقرة إلى الخالق لذواتها لا لأمر آخر جعلها مفتقرة إليه، بل فقرها لازمٌ لها لا يمكن أن تكون غير فقيرة إليه كما أن غنى الرب – جل جلاله – وصف لازم له، ولا يمكن أن يكون غير غني، وهو غني بنفسه لا بوصف جعله غنياً.(1/48)
.. وبالختام، فالطريقان سديدان، للاستدلال على الكريم المنان، والطريق الثاني منهج أهل العرفان، أما الطريق الأول فهو أظهر عند العوام، ولذلك عرجوا عليه في البيان، ونبههم عليه آيات القرآن، كما لفت أنظارهم إليه أئمة الإسلام، وقد مر تقرير هذا الدليل ببيان أحوال خلق الإنسان، وإليك ثلاثة أدلة أخرى حسان:
1- قيل لأعرابي: ما الدليل على وجود الرب – جل جلاله –؟ فقال: يا سبحان الله إن البَعْرَ ليدل على البَعير، وإن آثار الأقدام لتدل على المسير، فسماءٌ ذات أبراج، وأرض ذات فجاج وبحار ذات أمواج، ألا يدل ذلك على وجود اللطيف الخبير؟
2- سئل الإمام الشافعي - رحمه الله تعالى – عن الدليل على وجود الخالق، فقال: هذا ورق التوت، طعمه ولونه، وريحه، وطبعه واحد، تأكله دودة القز فيخرج منها الأبْرَيْسم، وتأكله النحل فيخرج منها العسل، وتأكله الأنعام فتلقيه بعراً وروثاً، وتأكله الظباء فيخرج منها المسك، فمن الذي جعل هذه الأشياء كذلك مع أن الطبع واحدة.
3- قيل لأحد الصالحين: بم عرفت ربك؟ فقال: بنحلة، بأحد طرفيها تعسل، وبالآخر تلسع والعسل مقلوب اللسع (1) .
... وإذا كان هذا الدليل مقبولاً، والمشاركة فيه محمودة، فأقول لو سئلت عن دليل معرفتي بربي: عرفته – جل وعلا – بنقض العزائم، وفتور الهمم، قال الله – تبارك وتعالى –: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} الأنفال24
*موقف المكلف نحو هذا النوع من التوحيد:
... تقدم أن موقف المكلف نحو توحيد العبادة "توحيد الألوهية" ينحصر في أمرين: الالتزام العملي بمضمون ذلك التوحيد مع المحبة، أو الإعراض الفعلي عنه مع الكراهة، فتعلقه بأعمال المكلفين وعزماتهم.
__________
(1) انظر تفسير الرازي: (2/99-100) ، وتفسير ابن كثير: (1/58-59) ، والحكاية الثالثة في تفسير الرازي فقط فاعلم.(1/49)
.. أما هذا النوع من التوحيد "توحيد الربوبية" فموقف المكلف نحوه منحصر – أيضاً – في أمرين، لكنه يختلف عن ذينك الأمرين، وذلك لأن المكلف نحو هذا النوع من التوحيد:
? إما أن يقر به بلسانه، ويعتقده بجنانه.
? وإما أن ينكره باللسان، ويجحده بالجنان
وباختصار يمكن أن يقال: إن هذا النوع من التوحيد: توحيد علمي قولي نظري، فلا تعلق لفعل المكلف به.
وإذا اختلف موقف المكلف نحو هذا النوع من التوحيد عن موقفه نحو توحيد "العبادة" و"الألوهية"، فإن موقف الرسل الكرام – عليهم أفضل الصلاة وأزكى السلام – نحو هذا النوع من التوحيد يختلف عن موقفهم نحو توحيد القصد والطلب، حيث لم يجعلوا توحيد الربوبية محور دعوتهم، وليس ذلك النوع من التوحيد غاية بعثتهم وإرسالهم – عليهم صلوات الله وسلامه –.
وسبب ذلك:
... أن توحيد الربوبية أقر بمضمونه الخلق أجمعين، مع أنهم غير الله يعبدون ويطيعون، وإلى الطاغوت يتحاكمون، فعنها يصدرون، وإليها يَرِدُون، فتوحيد الربوبية لا يكفي لخروج الإنسان من الشرك إلى التوحيد الخالص، وإفراد الله بالعبادة، كما بين لنا ربنا – جل وعلا – هذا في آيات كثيرة منها: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} لقمان25 وقوله – جل وعلا –: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} الزخرف9.
... فإن قيل: إن الله – جل وعلا – حكى عن بعض العتاة المفسدين إنكارهم لهذا النوع من التوحيد، فكيف التوفيق بين هذا وبين ما أخبر به ربنا – تعالى شأنه – من تسليم الكافة بهذا النوع من التوحيد؟(1/50)
.. والجواب – أيدك الله – أن إنكار من أنكر هذا النوع من التوحيد فمن باب الجحود والعناد، وطلب العلو في الأرض بالفساد، مع يقين المنكر في قلبه بحقيقة الأمر قال الله – تبارك وتعالى - {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُوراً} الإسراء 101-102.
... والآية الكريمة – كما ترى – تدل بوضوح على أن فرعون الطاغية يعلم في قرارة نفسه ويوقن بقلبه صدق نبي الله موسى – على نبينا وعليه الصلاة والسلام – بما وقف عليه من المعجزات العظام ولذلك لم يرد دعواه إلا بالقيلات الفارغة، والمدافعة الباطلة، فقال له كليم الله موسى – على نبينا وعليه الصلاة والسلام –: " لَقَدْ عَلِمْتَ " وهذه الآية المباركة التي تقرر علم فرعون بالحقيقة مع إنكاره لها، ومجادلته بالباطل ليدحضها، نظير الآية التي في سورة النمل: (13-14) والتي فيها الإخبار بجحود فرعون العاتي للآيات الكبار، مع استيقانه بأنها من العزيز الجبار، قال الله – جل وعلا –: {فَلَمَّا جَاءتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} .(1/51)
.. ولفظ الجحود معناه كما في المفردات: نفي ما في القلب إثباته، وإثبات ما في القلب نفيه، أ. هـ ولذلك قال الإمام ابن كثير – رحمه الله تعالى – " وَجَحَدُوا بِهَا " أي في ظاهر أمرهم " وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ " أي علموا في أنفسهم أنها حق من عند الله – تبارك وتعالى – ولكن جحدوها، وعاندوها وكابروها – " ظُلْماً وَعُلُوّاً ": أي ظلماً من أنفسهم سجية ملعونة " وَعُلُوّاً " أي استكباراً عن اتباع الحق أ. هـ وقال الإمام القرطبي – عليه رحمة الله تعالى –: وهذا يدل على أنهم كانوا معاندين أ. هـ وفي تفسير الرازي – عليه رحمة الله تعالى –: فائدة ذكر "الأنفس" أنهم جحدوها بألسنتهم، واستيقنوها في قلوبهم وضمائرهم، والاستيقان أبلغ من الإيقان أ. هـ ونحوه في روح المعاني (1) .
__________
(1) انظر المراجع المتقدمة على الترتيب: المفردات: 88 حرف الجيم، وتفسير ابن كثير: (3/357) وتفسير القرطبي: (13/163) ، ومفاتيح الغيب: (24/184) ، وروح المعاني: (19/168) وفي مجموع فتاوى شيخ الإسلام: (7/631) وكان فرعون في الباطن عارفاً بوجود الصانع وإنما استكبر كإبليس وأنكر وجوده.(1/52)
وهذا الحال الذي حكاه ربنا – جل جلاله – عن فرعون المارد هو حال أمثاله من العتاة المنكرين لهذا النوع من التوحيد، إنكارهم قاصر على اللسان مع استيقان الحق بالجنان: "ولا يعرف عن أحد من الطوائف أنه قال: إن للعالم صانعان، وهما في الصفات والأفعال متماثلان، فالنصارى – عليهم لعنة الله – القائلون بالتثليث لا يثبتون للعالم ثلاثة أرباب ينفصل بعضهم عن بعض، بل متفقون على أن صانع العالم واحد، ولذلك يقولون: باسم الأب، والابن، والروح القدس، إله واحد، وقولهم في التثليث متناقض في نفسه، وقولهم في الحلول أفسد منه، ولهذا كانوا مضطربين في فهمه، وفي التعبير عنه، لا يكاد أحد منهم يعبر عنه بمعنىً معقول، ولا يكاد اثنان يتفقان على معنىً واحد فإنهم يقولون: هو واحد بالذات، ثلاثة بالأقنوم، والأقانيم يفسرونها تارة بالخواص وتارة بالصفات وتارة بالأشخاص، وقد فطر الله الجليل العباد على فساد هذه الأقوال بعد التصور التام" (1) .
... وإذا كان هذا النوع من التوحيد سلم به عامة الناس، واستيقنه كافتهم، ولم يجعله الرسل الكرام – عليهم صلوات الله وسلامه – محور دعوتهم، وليس هو الغاية من رسالتهم وبعثتهم، فلِمَ تكرر ذكره في آي القرآن، وعرض بمختلف الأشكال والألوان؟
... وإليك الجواب يا طالب العرفان – شرح الله الكريم صدري وصدرك بنور الإيمان، وطاعة الرحمن –: إن توحيد الربوبية سلمت به البرية، وذلك يستلزم (2)
__________
(1) ما بين القوسين مأخوذ من شرح الطحاوية بتصرف يسير: (24-25) ، وفي مجموع الفتاوى: (2/37-38) يقرر شيخ الإسلام – عليه رحمة الرحيم الرحمن – أن توحيد الربوبية لم ينازع في أصله أحد من بني آدم، وإنما نازعوا في بعض تفاصيله، ونحوه في مدارج السالكين: (1/62) .
(2) تقدم أن توحيد العبادة يتضمن توحيد الربوبية وقررت هنا أن توحيد الربوبية يستلزم توحيد العبادة ولبيان معنى التضمن والالتزام أقول: دلالة الألفاظ الوظيفية ثلاثة أقسام:
الأولى: دلالة المطابقة وهي: دلالة اللفظ على تمام ما وضع له.
الثانية: دلالة التضمن وهي: دلالة اللفظ على جزء المعنى في ضمنه.
الثالثة: دلالة الالتزام وهي: دلالة اللفظ على أمر خارج عن المعنى لازم له.
انظر روضة الناظر: (2/14) ، وشرح السُلم: (6) ، وإليك أبيات السلم:
دلالة اللفظ على ما وافَقَهْ ... يَدْعُونَها دِلالة المُطابَقهْ
وجُزْئه تَضَمُناً وما لَزِمْ ... فهو التزامٌ إنْ بِعَقل التزِمْ(1/53)
توحيد الألوهية، فكما أنه لا خالق ولا مدبر إلا الله – جل وعلا –، فلا ينبغي أن يعبد إلا هو، وإذا كان من سواه لا يملك لنفسه – فضلا ً عن غيره – نفعاً ولا ضراً، وليس له من الأمر شيءٌ، فكيف يسوى مع رب العالمين، أو يعبد من دون الله العظيم؟
... والمتأمل آيات القرآن الكريم، يرى أن الله يدعو إلى توحيد الألوهية، والالتزام به، عقب سرد الأدلة الدالة على ربوبيته، قال الله – تبارك وتعالى –: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} (1) .
__________
(1) الأعراف: (54-56) ، وفي تفسير المنار: (8/456) : بعد أن بين الله – جل وعلا – لأمة الدعوة توحيد الربوبية، وذكرهم بالآيات والدلائل أمرهم بما يجب أن يكون لزاماً لها من توحيد الإلهية، وهو إفراده – تبارك وتعالى – بالعبادة، وروحها ومخها الدعاء فقال: " ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً ".(1/54)
.. وقد قرر الإمام ابن القيم – عليه رحمة الله تعالى – العلاقة بين توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية وبين السبب في الإكثار من ذكر الأول فقال: الباب الذي يدخل منه إلى توحيد الألوهية هو توحيد الربوبية، أي: باب توحيد الألوهية هو توحيد الربوبية، فإن أول ما يتعلق القلب بتوحيد الربوبية ثم يرتقي إلى توحيد الألوهية، كما يدعو الله – سبحانه وتعالى – في كتابه بهذا النوع من التوحيد على النوع الآخر، ويحتج عليهم به، ويقررهم به، ثم يخبر أنهم ينقضونه بشركهم به في الألوهية، قال الله – جل وعلا –: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} الزخرف87، أي: فأين يصرفون عن شهادة أن لا إله إلا الله، وعن عبادته وحده، وهم يشهدون: أنه لا رب غيره، ولا خالق سواه وكذلك قوله – تبارك وتعالى –: {قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} المؤمنون 84-85، فتعلمون أنه إذا كان هو وحده مالك الأرض ومن فيها، وخالقهم وربهم ومليكهم فهو وحده إلههم ومعبودهم، فكما لا رب لهم غيره، فهكذا لا إله لهم سواه، {قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} المؤمنون: 86-89، وهكذا قوله – جل وعلا – في سورة النمل: 59-65: {ُقلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ(1/55)
قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} .
... ولهذا كان الصحيح من القولين في تقدير الآية: أإلهٌ مع الله فعل هذا؟ حتى يتم الدليل فلابد من الجواب بلا، فإذا لم يكن معه إله فعل كفعله، فكيف تعبدون آلهة أخرى سواه؟ فعُلِمَ أن إلهية ما سواه باطلة، كما أن ربوبية ما سواه باطلة بإقراركم وشهادتهم.
... ومن قال: المعنى: هل مع الله إله آخر؟ من غير أن يكون المعنى: فعل هذا، فقوله ضعيف لوجهين:
أحداهما: أنهم كانوا يقولون: مع الله آلهة أخرى، ولا ينكرون ذلك.(1/56)
الثاني: أنه لا يتم الدليل ولا يحصل إفحامهم وإقامة الحجة عليهم إلا بهذا التقدير، أي فإذا كنتم تقولون: إنه ليس معه إله آخر فعل مثل فعله، فكيف تجعلون معه إلهاً آخر لا يخلق شيئاً، وهو عاجز؟ وهذا كقوله – جل جلاله –: {أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} الرعد16، وقوله – جل وعلا –: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} لقمان11، وقوله – تبارك وتعالى –: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} النحل17، وقوله – سبحانه وتعالى –: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} (1)
__________
(1) النحل: 20، وقوله: "يدعون" بالغيب قراءة يعقوب وعاصم، وقرأ الباقون بالخطاب "تدعون" كما في تقريب النشر: (132) ، والقراءتان بمعنىً واحد كما في حجة القراءات: (387) ، وصلة الآية بما قبلها: أن الله – جل وعلا – عدد نعمه على عباده حيث سخر لهم ما في السموات والأرض وبين أن ما عداه ليس له مشاركة في شيء من ذلك، وفي هذه الآية شرع ربنا – جل جلاله – في تحقيق كون آلهتهم بمعزل عن استحقاق العبادة، ووضح ذلك غاية الإيضاح بحيث لا تبقى شائبة ريب وذلك عن طريق تعداد أحوالها المنافية لذلك منافاة ظاهرة، وشرحت مع ظهورها للتنبيه على حماقة المشركين حيث لا يفهمون إلا بالتصريح، يضاف إلى هذا أن في بيان حال المعبودات من دون الله بعد نفي المشابهة والمشاركة بينها وبين الله – جل وعلا – إشارة إلى الدليل على ذلك النفي كما في روح المعاني: (14/119) ..(1/57)
النحل20 وقوله – تبارك وتعالى –: {وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} الفرقان3، وهو كثير في القرآن، وبه تتم الحجة (1) .
__________
(1) انظر مدارج السالكين: (1/411-412) ، ونحوه في مجموع الفتاوى: (1/155-156) ، وإغاثة اللهفان: (1/30) ، وإغاثة اللهفان: (2/210) ، ومجموع الفتاوى: (1/156) أن قبيلة نزار كانت تقول في إهلالها بالحج:
لبيك اللهم لبيك ... لبيك لا شريك لك
إلا شريكاً هو لك ... تملكه وما ملك
فكانوا يوحدونه بالتلبية، ويدخلون معه آلهتهم، ويجعلون ملكها بيده، ولذلك قال الله – جل وعلا - {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} يوسف106، أي: ما يوحدونني بمعرفة حقي، غلا جعلوا معي شريكاً من خلقي.(1/58)
.. وقد استعمل النبي – صلى الله عليه وسلم – هذا الأسلوب في دعوة الناس إلى إفراد ربهم بالعبادة، واحتج عليهم بتوحيد الربوبية على توحيد الألوهية، ففي سنن الترمذي وغيره عن عمران بن حصين – رضي الله تعالى عنهما – قال: قال النبي – صلى الله عليه وسلم – لأبي: "يا حصين كم تعد اليوم إلهاً؟ قال أبي: سبعة، ستة في الأرض، وواحداً في السماء، قال: فأيهم تعبد لرغبتك ورهبتك؟ قال: الذي في السماء، قال: يا حصين أما لو أسلمت علمتك كلمتين تنفعانك، قال: فلما أسلم حصين، قال: يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: علمني الكلمتين اللتين وعدتني، فقال: قل: اللهم ألهمني رشدي، وأعذني من شر نفسي" وفي رواية ابن خزيمة: "يا حصين كم إلهاً تعبد اليوم؟ قال سبعة في الأرض، وإله في السماء، قال: فإذا أصابك الضر من تدعو؟، قال: الذي في السماء، قال: فإذا هلك المال من تدعو؟ قال: الذي في السماء، قال: فيستجيب لك وحده، وتشركهم معه" وفي الاستيعاب لابن عبد البر: وروينا عن الحسن البصري – عليهم جميعاً رحمة الله تعالى – أنه قال: بلغنا أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال لحصين: يا حصين ما تعبد؟ قال: أعبد عشرة آلهة، قال: وما هم، وأيهم؟ قال: تسعة في الأرض، وواحد في السماء، قال: فمن لحاجتك؟ قال: الذي في السماء، قال: فمن لطلبتك؟ قال: الذي في السماء، قال: فمن لكذا؟ كل ذلك يقول: الذي في السماء، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: فالغ ِ التسعة (1) .
__________
(1) الحديث في سنن الترمذي – كتاب الدعوات – باب 370: (9/159) ، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، ونقل الشيخ عبد القادر الأرناؤوط في تعليقه على جامع الأصول: (4/342) تحسين الترمذي للحديث وأقره، وكتاب التوحيد لابن خزيمة: (121) ، والاستيعاب: (1/333) على هامش الإصابة، ورواه البيهقي في الأسماء والصفات كرواية الترمذي: (424) وكذلك الذهبي في كتاب العلو: (24) ورواه ابن الأثير في أسْدِ الغابة: (2/26) بسنده من طريق الترمذي بروايته، ورواه الذهبي أيضاً من طريق ابن خزيمة برواية ابن خزيمة والحديث رواه مختصراً الإمام أحمد في المسند: (2/444) ، ورواه النسائي في السنن الكبرى بسند صحيح كما في الإصابة: (1/337) ، والحديث قد استشهد به أئمة الإسلام منهم ابن قدامة في لمعة الاعتقاد: (10/11) ، وابن تيمية كما في مجموع الفتاوى: (1/91) ، وابن القيم في مدارج السالكين: (1/44) مختصراً واستشهد به كاملا ً في إغاثة اللهفان: (1/74) مع عزوه للمسند والترمذي.(1/59)
فتوحيد الربوبية باب توحيد الألوهية، وقد ولج من ذلك الباب إلى عبادة الملك الوهاب، عدد من الأكياس أولي الألباب، بعد أن كانوا من العتاة الأرجاس في تباب، روى الإمام الحاكم في مستدركه وغيره عن عروة – رحمهم الله جميعاً – قال: فر عكرمة بن أبي جهل يوم الفتح عامداً إلى اليمن فركب في سفينة، فلما جلس فيها نادى باللات والعزى، فقال أصحاب السفينة: لا يجوز ههنا أحد يدعو شيئاً إلا الله وحده مخلصاً، فقال عكرمة: والله لئن كان في البحر وحده، إنه في البر وحده أقسم بالله لأرجعن إلى محمد – صلى الله عليه وسلم – فرجع إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فبايعه فقبل منه، وفي رواية أبي يعلى والبزار بسند رجاله ثقات أن عكرمة لما فر يوم الفتح ركب البحر، فأصابتهم عاصفٌ، فقال أصحاب السفينة لأهل السفينة: أخلصوا، فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئاً ههنا، فقال عكرمة: لئن لم ينجني في البحر إلا الإخلاص، ما ينجيني في البر غيره، اللهم إن لك عليّ عهداً إن أنت عافيتني مما أنا فيه أن آتي محمداً، فأضع يدي في يده، فلأجدنه عفواً كريماً، فجاء فأسلم (1) .
__________
(1) انظر المستدرك – كتاب معرفة الصحابة – ذكر مناقب عكرمة: (3/241) ، ورواية أبي يعلى والبزار في مجمع الزوائد: (6/169) كتاب المغازي والسير – باب غزوة الفتح – ورجال أبي يعلى والبزار ثقات كما قال الهيثمي، ورواية أبي يعلى ساقها ابن الأثير في أسْدِ الغابة: (4/70) بسنده، وعزا ابن حجر في الإصابة: (2/496) تخريج الرواية إلى الدارقطني، وابن مردويه أيضاً، وانظر خبر عكرمة وإسلامه في سيرة ابن هشام: (4/92) مع الروض الأنف، والبداية والنهاية: (4/298) ، وكان عكرمة – رضي الله تعالى عنه – يتحدث بعظيم فضل الله عليه حيث شرح صدره للإسلام ونجاه من الشرك والآثام، روى الطبري مرسلا ً عن ابن أبي مُليكة بسند صحيح كما في مجمع الزوائد: (9/385) أن عكرمة كان إذا اجتهد في اليمين، قال والذي نجاني يوم بدر، وكان يأخذ المصحف فيضعه على وجهه ويبكي، ويقول: كلام ربي، كتاب ربي، وقصة وضعه المصحف على وجهه في المستدرك: (3/243) وسنن الدارمي: (2/440) وسند ذلك صحيح إلى ابن أبي مُليكة كما في التبيان في آداب حملة القرآن: (99) .(1/60)
النوع الثاني من توحيد الإثبات والمعرفة: "توحيد الأسماء والصفات":
... ويقوم هذا النوع من التوحيد على الإيمان – عن طريق اللسان، والجنان – بما وصف الله الكريم نفسه، وبما وصفته به رسله الصادقون – عليهم صلوات الله وسلامه – إثباتاً ونفياً وسيأتي تفصيل ما يتعلق بهذا النوع من أنواع التوحيد، مع التحذير من الفرق الزائغة التي ضلت في هذا النوع من التوحيد، وانحرفت عن المسلك السديد، وزاغت عن المنهج الرشيد فذلك من الموضوعات المقررة في منهج مادة التوحيد.
صفوة البحث المتقدم وخلاصته:
ينقسم توحيد ذي الجلال والإكرام، إلى ثلاثة أقسام:
أولا ً: توحيد الألوهية:
ويقال له: "توحيد العبادة" والكلام فيه من باب الإنشاء، إي هو توحيد في القصد والطلب، ولذلك ينحصر موقف المكلف نحوه في: امتثاله مع حبه، أو الإعراض عنه مع بغضه، وهذا النوع من التوحيد، هو الغاية من إيجاد المخلوقات، ولأجله بعث الرسل الكرام بالرسالات – عليهم صلوات الله وسلامه – ويقوم هذا النوع من التوحيد على دعامتين، تتلخصان فيما قاله الإمام ابن القيم – عليه رحمة الله تعالى – إياك أريد، بما تريد (1) .
__________
(1) انظر مدارج السالكين: (3/398) ، وفيه في: (3/174) وصف جليل لمن هذا شأنه، فدونكه: إن سئل عن شيخه؟ قال: الرسول – صلى الله عليه وسلم – وعن طريقه؟ قال: الاتباع، وعن خرقته؟ قال: لباس التقوى، وعن مذهبه؟ قال: تحكيم السنة، وعن مقصوده ومطلبه؟ قال: "يُرِيدُونَ وَجْهَهُ " الأنعام52 وعن رباطه، وعن خانكاه؟ قال: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ} النور وعن نسبه؟ قال:
أبي الإسلامُ لا أبَ لي سواه ... إذا افْتخروا بقيس ٍ أو تميم
وعن مأكله ومشربه؟ قال: "مالك ومالها، معها حذاؤها وسقاؤها ترد الماء، وترعى الشجر، حتى تلقى ربها" أ. هـ وقوله "مالك ولها" إلخ يشير إلى الحديث الوارد في ضالة الإبل وهو مروي في الصحيحين وغيرهما وسأقتصر في تخريجه على موضع واحد من صحيح البخاري وهو – كتاب العلم – باب الغضب في الموعظة والتعليم إذا رأى ما يكره: (1/186) بشرح ابن حجر، ولفظ الحديث عن زيد بن خالد الجهنيّ – رضي الله تعالى عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – سأله رجل عن اللقطة، فقال: اعرف وكاءها – أو قال: وعاءها – وعفاصها، ثم عرفها سنة، ثم استمتع بها، فإن جاء ربها فأدها إليه قال: فضالة الإبل؟ فغضب حتى احمرت وجنتاه – أو قال: احمر وجهه – فقال: "ومالك ولها؟ معها معها حذاؤها وسقاؤها ترد الماء، وترعى الشجر، حتى تلقى ربها " قال: فضالة الغنم؟ قال: لك، أو لأخيك، أو للذئب".(1/61)
وقد أعرض أكثر الناس عن هذا النوع من التوحيد، وعكفوا على عبادة الطواغيت.
ثانياً: توحيد الربوبية:
والكلام فيه من باب الخبر، إذ هو توحيد في الإثبات والمعرفة، وينحصر موقف المكلف نحوه في التصديق، أو التكذيب، ويقوم هذا النوع من التوحيد على الإقرار بأن الله موجود ورب كل شيء ومليكه، وليس في العالم من ينازع في أصل هذا المبدأ، خلا ما وجد من بعضهم من جحود ونكران باللسان، مع كون قلوبهم موقنة به غاية الإيقان.
ثالثاً توحيد الأسماء والصفات:
والكلام فيه كسابقه، فهو من باب الخبر، وموقف المكلف نحوه منحصر في التصديق، أو التكذيب، وقد نازع في هذا النوع من التوحيد أهل الزيغ والضلالات، معولين في تلك المنازعات والمشاقات، على ما ورثوه عن الروم، واليونان، والفرس من فلسفات، تاركين وراءهم ظهرياً كلام فاطر الأرض والسموات، وهدي خير البريات – صلى الله عليه وسلم – ومسلك المؤمنين والمؤمنات في القرون المفضلات.
... حفظنا الله الكريم من سائر الرديات والبليات، ومَنّ علينا بفضله وكرمه، وواسع جوده ورحمته بأطيب الصفات الزاكيات، إنه سميع قريب مجيب الدعوات.
تنبيهات
... تقدم أن توحيد الربوبية مركوز في فطر الناس، كما أقر به الكافة، لكن تنوعت طرق استدلالهم عليه إلى طريقتين: الاستدلال بالصنعة على صانعها، وبالمخلوقات على خالقها، أو الاستدلال بالله – جل وعلا – على الله – تبارك وتعالى – وعلى صفاته وأفعاله، وكل من الطريقتين سديد رشيد وإن كان الثاني أجل وأحكم، وأقوى وأقوم.
... ومع وضوح الأمر في توحيد الربوبية وظهوره فقد أثار عتاة الشياطين من عفاريت الجن ومردة الإنس حوله شبهتين، تكدرت بهما قلوب بعض المؤمنين، وما أسرع زوالهما عندما يعتصم الإنسان بالرحمن، ويعي حقيقة الكلام، ويستعيذ بالله من شياطين الإنس والجان، وإليك تفصيل ذلك يا طالب الهدى والعرفان.
الشبهة الأولى:(1/62)
إذا كان الله – جل وعلا – خالق كل شيءٍ، فمن خلق الله؟ - تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً – وإليك الجواب – ألهمنا الله الرشد والصواب –: إن السنة المطهرة أشارت إلى تلك الشبهة الفظيعة المنكرة، وأرشدت إلى دفعها بطرق مقررة ثابتة معتبرة، ففي الصحيحين وغيرهما عن أنس بن مالك – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "لن يبرح الناس يتساءلون، حتى يقولوا: هذا الله خالق كل شيء، فمن خلق الله؟ (1) ".
... وقد أرشدنا نبينا – صلى الله عليه وسلم – إلى ما يلزمنا نحو تلك الشبهة التي يحبك أطرافها شياطين الإنس والجن جهارة وخفية، وتدور تلك الإشارات على واحد من أمرين، وفي الجمع بينهما فوز بالحسنيين:
__________
(1) انظر صحيح البخاري – كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة – باب ما يكره من كثرة السؤال ـ ومن تكلف مالا يعنيه: (13/265) ، بشرح ابن حجر، وصحيح مسلم – كتاب الإيمان – باب بيان الوسوسة، وما يقوله من وجدها: (1/121-122) ، ورواه الإمام مسلم عن أبي هريرة أيضاً – نفس المصدر، ورواه أحمد في المسند من رواية أبي هريرة في: (2/282،317) ، ومن رواية أنس في: (3/102) ، ومن روايتهما رواه ابن أبي عاصم في كتاب السنة – باب 152: (1/292-293) ، وأبو عوانة في مسنده: (1/81-82) بألفاظ متقاربة في الجميع ورواه البزار – كما في كشف الأستار عنهم جميعاً – قال قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: "لا يزال الناس يقولون: كان الله قبل كل شيء، فما كان قبله؟ ".(1/63)
الأول: الاستعاذة بالرحمن من وساوس الشيطان، وذلك لأن تلك الشبهة ليس لها ظل من الحقيقة إنما هي هذيان، زخرفة الشيطان، وأوحى به إلى من هو على شاكلته من بني الإنسان، فتولى الإرجاف بها الفريقان، من شياطين الإنس والجان، كما قال ربنا الرحمن: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} الأنعام112،وإذا استعاذ بالله العظيم من الشيطان، صرف عنه ما يزينه له من البهتان، كما دل على ذلك ثلاث آيات من القرآن (1)
__________
(1) الأولي في سورة "الأعراف": 199-200 {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} ، والثانية في سورة "المؤمنين" 96-98 {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ} ، والثالثة في سورة "فصلت" 34-36 {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} ، قال الإمام ابن كثير – رحمه الله – في تفسيره: (1/15) أمر الله – جل وعلا – بمصانعة شيطان الإنس ومداراته بإسداء الجميل إليه، ليرده طبعه عما هو في من الأذى بالاستعاذة به من شيطان الجن لأنه لا يقبل رشوة ولا يؤثر فيه جميل، لأنه شرير بالطبع، ولا يكفه عنك إلا الذي خلقه، وهذا المعنى في ثلاث آيات من القرآن، لا أعلم لهن رابعة 10هـ وقد أشار الإمام ابن الجزري – رحمه الله تعالى – إلى مضمون الآيات الثلاثة كما ذكر ابن كثير فقال في النشر: (1/256) : وقد قلت في ذلك وفيه أحسن الاكتفاء وأملح الاقتفاء:
شيطانُنَا المُغْوِيُّ عدوٌّ فاعْتَصِمْ ... باللهِ مِنْهُ والتَج ِ وتَعَوّذِ
وَعَدُوّكَ الإنسيّ دَارِ وِدَادَهُ ... تمْلِكْهُ وادْفَعْ بالتي فإذا الذي(1/64)
وفي الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "يأتي الشيطان أحدكم، فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول من خلق ربك؟ فإذا بلغ ذلك، فليستعذ بالله، ولينته (1) ".
__________
(1) انظر صحيح البخاري – كتاب بدء الخلق – باب صفة إبليس وجنوده: (6/336) بشرح ابن حجر، وصحيح مسلم – كتاب الإيمان – باب بيان الوسوسة في الإيمان وما يقوله من وجدها: (1/120) ، ورواه ابن أبي عاصم في كتاب السنة: (1/294) ، والبغوي في شرح السنة – كتاب الإيمان – باب رد الوسوسة: (1/113) ، وأبو عَوانة في مسنده: (1/82) .(1/65)
الثاني: استحضار صفات الله – جل وعلا – التي دل العقل على وجوب اتصاف الخالق بها، ولزومها له فبالوقف على ذلك واستحضاره تتلاشى تلك الشبهة الفاسدة، ثبت في صحيح مسلم وغيره عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: هذا، خلق الله الخلق، فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئاً فليقل آمنت بالله" زاد الإمام مسلم وغيره في وراية أخرى: "ورسله"، وروه الإمام أحمد وأبو يعلى والبزار من حديث عائشة – رضي الله عنهم أجمعين – بسند رجاله ثقات بزيادة أخرى، ولفظ الحديث: "إن أحدكم يأتيه الشيطان فيقول: من خلقك؟ فيقول: الله، فيقول: من خلق الله؟ فإذا وجد ذلك أحدكم فليقرأ: آمنت بالله ورسله، فإن ذلك يذهب عنه (1) ".
__________
(1) انظر صحيح مسلم – كتاب الإيمان – باب بيان الوسوسة في الإيمان، وما يقوله من وجدها: (1/119-120) وانظره بالرواية الأولي في سنن أبي داود – كتاب السنة – باب في الجهمية –: (5/92) ومسند أبي عَوانة: (1/82) ، ومسند الحُمَيْدي: (1/33) ، ورواية البزار في كشف الأستار: (1/34) ، وانظر زيادة "ورسله" في شرح السنة – كتاب الإيمان – رد الوسوسة –: (1/113) ، وفي المسند: (2/131) ، ورواه في: (5/214) عن خزيمة بن ثابت، وكذلك الطبراني في الكبير كما في مجمع الزوائد: (1/32) ورواه ابن أبي عاصم أيضاً من حديث عائشة في كتاب السنة: (1/293) ، والطبراني في الأوسط، والكبير كما في مجمع الزائد: (1/34) ورجاله رجال الصحيح خلا أحمد بن محمد بن نافع الطحان شيخ الطبراني.(1/66)
.. وإنما كان ذلك القول مُذهِباً لتلك الشبهة، وداحضاً لها، لأن من استحضر صفات الله اللازمة له اندفع عنه ذلك الوهم، بأسرع من اندفاع السهم، فالله الجليل خالق كل شيءٍ، وهو الأول الذي ليس قبله شيءٌ، وهو الآخر الذي ليس بعده شيء وقد بلَّغ الرسل الكرام – عليهم الصلاة والسلام – ذلك لأقوامهم ودلت عليه عقول الناس، وهو مركوز في فطرهم، ولذلك ينبغي من اعترته تلك الشبهة أن يقول: آمنت بالله وبالرسول – صلى الله عليه وسلم – زيادة في التسليم، والإيقان، والقبول.
... وقد أمرنا نبينا – صلى الله عليه وسلم – باستحضار صفات الله اللازمة، عند حدوث تلك الشبهة الغاشمة – روى الإمام أحمد في المسند، وغيره عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "ليَسْألنكم الناس عن كل شيء، حتى يقولوا: الله خلق كل شيء، فمن خلقه؟ قال يزيد بن الأصم (الراوي عن أبي هريرة) فحدثني نَجْمة بن صبيغ السلمي أنه رأى ركباً أتوا أبا هريرة – رضي الله تعالى عنه – فسألوه عن ذلك، فقال: الله أكبر، ما حدثني خليلي – صلى الله عليه وسلم – بشيء إلا وقد رأيته، وأنا أنتظره، قال جعفر (الراوي عن يزيد) بلغني أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: "إذا سألكم الناس عن هذا فقولوا: الله كان قبل كل شيء، والله خلق كل شيء والله كائن بعد كل شيء (1) ".
__________
(1) انظر المسند: (3/539) ، وهو في كتاب السنة لابن أبي عاصم: (1/292) بسند مفصل لأن جعفر بُرْقان قال بلغني إلخ وجعفر من أتباع التابعين مات سنة خمسين ومائة، وقيل بعدها كما في التقريب: (1/129) ، ورواه البهيقي في الأسماء والصفات: (10-11) ، وفيه قال سفيان قال جعفر بن بُرْقان: فحدثني رجل آخر عن أبي هريرة، قال جعفر كان يرفعه ... الحديث ثم رواه أيضاً عن طريق آخر وفيه: قال عبد الرزاق: قال مَعْمَر وزاد فيه رجل آخر فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقولوا: "الله كان قبل كل شيء ... الحديث".(1/67)
.. وورد عن نبينا – صلى الله عليه وسلم – الأمر بقراءة سورة الإخلاص عند وسوسة الشيطان بتلك الشبهة المنكرة، روى ذلك أبو داود وغيره عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول فذكر نحو الحديث المتقدم: "لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: هذا خَلَقَ اللهُ الخَلْقَ، فمن خلق اللهَ؟ فإذا قالوا ذلك، فقولوا: "اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ" ثم ليتفل عن يساره ثلاثاً، وليستعذ من الشيطان (1) .
... فإذا وقف المكلف على صفات الله المذكورة في سورة الإخلاص زال عنه سريعاً ذلك الوسواس لأن كل لفظة في تلك السورة تدحض تلك الشبهة المبتورة.
... فلفظ "الأحد" وإن كان هو والواحد يرجعان إلى أصل واحد إذ أصل "أحد" "وحد" قلبت الواو همزة للتخفيف، فإنهما يفترقان استعمالاً وعرفاً من ثلاث جهات:
1- الواحد يدخل في الأحد، دون العكس.
2- الواحد أصل العدد، والأحد راجع إلى نفي التعدد والكثرة.
__________
(1) انظر سنن أبي داود – كتاب السنة – باب في الجهمية –: (5/92) ، قال المنذري في تهذيب السنن: (7/91) وأخرجه النسائي، وفي إسناده محمد بن إسحاق بن يسار وفي إسنادة أيضاً: سلمة بن الفضل قاضي الري ولا يُحتج به أ. هـ، والحديث قد ورد في المسند: (2/387) من طريق آخر عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "لا يزالون يسألون حتى يقال: هذا، الله خالقنا، فمن خلق الله؟ قال أبو هريرة: فوالله إني لجالس يوماً إذ قال لي رجل من أهل العراق: هذا، الله خلقنا، فمن خلق الله؟ قال أبو هريرة: فجعلت أصبعي في أذني، ثم صُحْتُ، فقلت: صدق الله ورسوله الله الواحد الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواًً أحد".(1/68)
3- الواحد يثبت مدلوله ولا يتعرض لنفي ما سواه، ولذلك يستعمل في الإثبات، تقول: رأيت رجلا ً واحداً، أما الأحد فيثبت مدلوله، ويتعرض لنفي ما سواه، ولذلك يستعمل في النفي، تقول: ما رأيت أحداً، ولذلك لما قال ربنا – جل وعلا –: "وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ " أتبعه بقوله: "لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ" (1)
وعلى هذا، فلفظ "الأحد" في أسماء الله – جل وعلا – مشعر بوجوده الخاص به، الذي لا يشاركه فيه غيره، فهو واحد في ربوبيته وألوهيته.
... ولفظ "الصمد" يدل على بطلان تلك الوسوسة وفسادها، لأم هذا الاسم الكريم، يدور على معنيين، إليهما ترجع جميع أقوال المفسرين:
المعنى الأول: السيد الكامل سُؤدُدِهِ، المصمود إليه في الحوائج، المقصود في الرغائب، المستغاث به عند الكروب والمصائب.
__________
(1) من سورة البقرة: (163) وذلك لأنه قد يخطر ببال أحد خاطر شيطاني فيقول: هب أن إلهنا واحد فلغيرنا إله غيره، فقال "لا إله إلا هو" كما في شرح الطحاوية: (55) وانظر إيضاح ما تقدم وتقريره في مفاتيح الغيب: (32/178-179) ، وفتح الباري: (13/357) ، وفيه: (ب، ج) فقط، وفي روح المعاني: (30/271-272) ، ولوامع البينات شرح أسماء الله تعالى والصفات: (308-314) تفصيل وإسهاب في الفرق بين الأحد والواحد، وما يتعلق بذلك فانظره إن شئت، وفي شرح أسماء الله الحسنى للزجاج: (58) : قال أهل العربية: "الأحد" أصله "وحد" ثم قلبت الواو همزة، وهذا في الكلام عزيز جداً أن تقلب الواو المفتوحة همزة ولم نعرف له نظيراً إلا أحرفاً يسيرة منها: أناة، وانظر لسان العرب "وحد": (4/461) .(1/69)
المعنى الثاني: الذي لا جَوْفَ له ولا عَيْبَ فيه، فهو الذي يُطعِم ولا يُطعَم، ويَغلب ولا يُغلب، وهو الغنيّ عن العالمين (1) .
... والمعنيان – كما ترى – يستأصلان تلك الوسوسة، ويذهبانها، لأن فرض كونه مخلوقاً لغيره يتنافى مع السيادة الكاملة، والغنى التام.
... ولفظ "لم يلد" ينفي تلك الشبهة الشنيعة أيضاً، لأنه إذا كانت ولادته لغيره مستحيلة في حقه – جل وعلا – لاستلزام ذلك ثلاثة محاذير لا يمكن أن يتصف بواحد منها ربنا العليّ الكبير، وهي:
1- استدعاء الولادة انفصال مادة منه، وذلك يتنافى مع ما تقدم من كونه "أحداً"، "صمداً".
2- اقتضاء كون المولود من جنس والده، والله – جل وعلا – ليس كمثله شيء، فهو "أحد" ليس يجانسه أحد.
3- الغرض من الولد: الإعانة، وامتداد الأثر، عن طريق مساعدة الولد، وقيامه بعد والده، وهذا يتنافى مع كونه "صمداً فهو الغني عن العالمين، حي، دائم، باق ٍ، لا يشوب ذلك نقص في حين من الأحايين، وهو ملجأ الخلائق أجمعين (2) . فاستحالة ولادته من غيره أعظم، وأظهر. وقوله: "ولم يولد": صريح في بطلان كونه حادثاً لمحدث، ومفعولاً لفاعل، فالمولودية تقتضي ثلاثة أشياء يستحيل قيام واحد منها برب الأرض والسماء وهي:
أ) سبق العدم، وذلك يتنافى مع أحدية الله وصمديته.
ب) الانفصال من الغير، ولا يمكن اجتماع هذا مع الموصوف بالأحدية والصمدية.
__________
(1) انظر تفصيل القولين في مفاتيح الغيب: (32/181) ، وزاد المسير: (9/267) والمقصد الأسنى: (126) ولوامع البينات: (315-318) ،وفي أول تفسير سورة الإخلاص لشيخ الإسلام – عليه رحمه الله تعالى – ضمن مجموع الفتاوى: (17/214-504) : "الصمد" للسلف فيه أقوال متعددة قد يُظن أنها مختلفة، وليست كذلك بل كلها صواب، والمشهور منها قولان أ. هـ وهما المذكوران.
(2) انظر تقرير ذلك في روح المعاني: (30/275) ، وروح البيان: (10/539) ، وانظر تتمة أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن: (9/616-621) .(1/70)
جـ) مجانسته لمن ولد منه، ويستحيل اتصاف الأحد الصمد بذلك. (1)
__________
(1) انظر بيان ذلك في روح المعاني: (30/275) ، وروح البيان أيضاً: (10/359) ، ومحاسن التأويل: (17/294) ، والسراج المنير: (4/610) .
واعلم أن ربنا – جل وعلا – قدم نفي ولادته لغيره على نفي ولادته من غيره، مع أن المولودية تسبق الوالدية في الشاهد فكل والد مولود دون العكس لأنه وُجد مَنْ نَسَبَ الوالدية إلى الله – جل وعلا – مِنْ مشركي العرب، واليهود، والنصارى، ولم يدع أحد أن له والداً فلهذا بدأ بالأهم.
ونفى في هذه السورة الولد عنه – سبحانه وتعالى – بقوله "لم يلد" مع أنه نفاه في سورة أخرى بقوله: "لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً" آخر الإسراء، وأول الفرقان، لأن الولد يكون من جهتين: 1- أن يتولد منه مثله وهذا هو الولد الحقيقي، وهو الولد الصلبي. 2- أن يتخذه ولداً عن طريق التبني دون كونه متولداً منه - فنُفِيّ الأمران عن الرحمن في سور القرآن، وجاء النفي في سورة الإخلاص بصيغة النفي الأخص "لم يلد" لأن هذه السورة مختصة بصفة الله ونسبه، ونفي اتخاذ الولد لا يلزم نفي الولادة، انظر إيضاح ذلك في مفاتيح الغيب: (32/183) ، وروح المعاني: (30/275) ، والسراج المنير: (4/610) ، وتتمة أضواء البيان: (9/616-621) .(1/71)
.. وقوله "ولم يكن له كفواً أحد": تحقيق لمعنى "الأحد"، "الصمد" فخُتمت السورة الكريمة بما بُدئت به، وقرر في ختامها النفي الوارد في وسطها، لأن نفي الكفء يستلزم نفي الوالدية، والمولودية، كما يستلزم ذلك اللفظ نفي المصاهرة عن الله – جل جلاله – وكل ذلك تأكيد وتقرير وإثبات لمعنى الأحدية، والصمدية، فالله هو الغني المقصود، وهو الإله المعبود، لا مثيل له، ولا عديل، ولا شبيه، ولا نظير في ذاته، وصفاته، وأفعاله، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (1) .
__________
(1) من سورة الشورى: 11، وفي جواب أهل العلم والإيمان بتحقيق ما أخبر به رسول الرحمن – صلى الله عليه وسلم – من أن "قل هو الله أحد" تعدل ثلث القرآن: (107-108) ، والمقصود هنا أن صفات التنزيه يجمعها هذان المعنيات المذكوران في هذه السورة: أحدهما: نفي النقائص عنه وذلك من لوازم إثبات صفات الكمال، فمن ثبت له الكمال التام انتفى عنه النقصان المضاد له، والكمال من مدلول اسم "الصمد". والثاني: أنه ليس كمثله شيء في صفات الكمال الثابتة وهذا مدلول اسم "الأحد"، فهذان الاسمان العظيمان "الأحد"، "الصمد" يتضمنان تنزيهه عن كل نقص وعيب، وتنزيهه في صفات الكمال أن لا يكون له مماثل في شيء منها، واسمه "الصمد" يتضمن إثبات جميع صفات الكمال فتضمن ذلك إثبات جميع صفات الكمال، ونفي جميع صفات النقص، فالسورة تضمنت كل ما يجب نفيه عن الله – جل وعلا – وتضمنت أيضاً كل ما يجب إثباته من وجهين: من اسمه "الصمد" ومن جهة أن ما نُفي عنه من الأصول والفروع والنظراء مستلزم ثبوت صفات الكمال أيضاً، فإن كل ما يُمْدح به الرب – تبارك وتعالى – من النفي فلابد أن يتضمن ثبوتاً، بل وكذلك كل ما يمدح به من شيء، من الموجودات من النفي فلابد أن يتضمن ثبوتاً وإلا فالنفي المحض معناه عدم محض، والعدم المحض ليس بشيء فضلا ً عن أن يكون صفة الكمال.(1/72)
.. فهذه السورة صفة الرحمن، ونسب الكريم المنان، كما ثبت ذلك عن خير الأنام، نبينا محمد – عليه الصلاة والسلام – ومن قرأها عند نزعات الشيطان، ذهب عنه الوساوس والأوهام.
... وقد ورد في الصحيحين وغيرهما التصريح بكونها صفة الرحمن فعن أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنها – قالت: بعث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – رجلا ً على سرية، وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم بـ "قل هو الله أحد" فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: "سلوه لأي شيء يصنع ذلك؟، فسألوه، فقال: لأنها صفة الرحمن – عز وجل – فأنا أحب أن أقرأ بها، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: أخبروه أن الله يحبه" (1)
__________
(1) انظر صحيح البخاري – أول كتاب التوحيد –: (13/347) بشرح ابن حجر، وصحيح مسلم – كتاب صلاة المسافرين – باب فضل قراءة "قل هو الله أحد": (1/557) ، وسسن النسائي – كتاب افتتاح الصلاة – باب الفضل في قراءة "قل هو الله أحد": (2/132) ، والأسماء والصفات للبيهقي: (280) وانظر فتح الباري: (2/258) لتعلم اسم الرجل المبهم أمير السرية فقد قيل: إنه كلثوم بن الهدم.(1/73)
.. وورد في المسند، وسنن الترمذي، وغيرهما التصريح بكون سورة الإخلاص نسب الرحمن، وبَوّبَ الإمام ابن أبي عاصم على ذلك كتاباً بهذا الخصوص في كتاب السنة، فقال: باب نسبة الرب – تبارك وتعالى – ورووا بأسانيدهم عن أبي بن كعب – رضي الله عنه – أن المشركين قالوا لرسول الله – صلى الله عليه وسلم –: انْسُبْ لنا ربك، فأنزل الله تعالى: "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ"، و"الصمد": الذي لم يلد ولم يولد، لأنه ليس شيء يولد إلا سيموت وليس شيء يموت إلا سيورث، وإن الله لا يموت، ولا يورث، "ولم يكن له كفواً أحد"، قال: لم يكن له شبيه، ولا عِدْلٌ، وليس كمثله شيء (1)
__________
(1) انظر المسند: (5/134) ، وسنن الترمذي – كتاب التفسير – سورة الإخلاص –: (9/86) ، وكتاب السنة لابن أبي عاصم: (1/297-298) ورواه ابن خزيمة في كتاب التوحيد: (41) ، والبيهقي في الأسماء والصفات: (9، 32،207) ، والطبري في تفسيره: (30/221) ، والحاكم في المستدرك – كتاب التفسير – سورة الإخلاص: (2/540) ، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، وأقره الذهبي، وأخرجه البخاري في تاريخه، والبغوي في معجمه، وابن المنذر، وأبو الشيخ في العظمة كما في الدر المنثور: (6/410) وفتح القدير: (5/513) ، والحديث من جميع طرقه يدور على أبي جعفر الرازي واسمه عيسى بن أبي عيسى عبد الله بن ماهان وهو صدوق سيء الحفظ فهو ضعيف كما في التقريب: (2/406) ، ومع هذا فقد صححه الحاكم، وأقره الذهبي، ولعل ذلك لشواهده، ولذلك قال الشيخ البنا في بلوغ الأماني: (18/344) والحديث له طرق كثيرة تَعْضُدُهُ أ..هـ، فرواه ابن جرير: (30/221) عن عكرمة مرسلا ً ورواه هو أيضاً وابن الضريس كما في الدر: (6/410) والترمذي – المكان المتقدم – عن أبي العالية مرسلا ً، قال الترمذي: هذا أصح، أي من الحديث المتصل عن أبي العالية عن أبيّ بن كعب المتقدم، ورواه ابن جرير أيضاً والطبراني في الأوسط، وأبو يعلى كما في مجمع الزوائد: (7/146) ، وأبو نعيم في الحلية: (4/335) ، والبيهقي في الأسماء والصفات: (279) وابن المنذر كما في الدر: (6/410) وحَسّنَ السيوطي إسناده عن جابر – رضي الله عنه – بلفظ: جاء أعرابي إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: انْسُبْ لنا ربك ... الحديث، ورواه الطبراني وأبو الشيخ في العظمة عن ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه – بلفظ: قالت قريش ... الحديث.(1/74)
وأخرجه ابن جرير وغيره عن قتادة – رحمه الله تعالى – قال: جاء ناسٌ من اليهود إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – فقالوا: انْسُبْ لنا ربك، فنزلت: "قل هو الله أحد" حتى ختم السورة (1) .
__________
(1) انظر تفسير بن جرير: (30/222) ، ورواه عن قتادة ابن المنذر، وعبد الرازق كما في الدر: (6/410) ورواه ابن جرير أيضاً: (30/221) وابن المنذر كما في الدر: (6/410) عن سعيد بن جبير رحمه الله تعالى – ورواه البيهقي في الأسماء والصفات وابن أبي حاتم وابن عديّ كما في الدر: (6/410) عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – بلفظ: إن اليهود جاءت إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – منهم كعب بن الأشرف، وحييّ بن أخطب فقالوا: يا محمد! صف لنا ربك الذي بعثك، فأنزل الله.... الحديث، ورواه الطبراني بسند رجاله ثقات غير أنه منقطع كما في مجمع الزوائد: (7/146، 9/326) وابن أبي حاتم، وأبو نعيم في الحلية كما في الدر: (6/410) عن حمزة بن يوسف بن عبد الله بن سلام أن عبد الله بن سلام – رضي الله عنهم – قال لأحبار اليهود: إني أردت أن أحْدِثَ بمسجد أبينا إبراهيم وإسماعيل – على نبينا وعليهما الصلاة والسلام – عهداً، فانطلق إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو بمكة، فوافاهم وقد انصرفوا من الحج، فوجد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بمنىً، والناس حوله، فقام مع الناس، فلما نظر إليه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: أنت عبد الله بن سلام؟ قال: قلت نعم، قال: ادْنُ، فدنوت منه، قال: أنشدك بالله يا عبد الله بن سلام أما تجدني في التوراة رسول الله – صلى الله عليه وسلم؟، فقلت له: انعت ربنا، قال: فجاء جبريل حتى وقف بين يديْ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: "قل هو الله أحد...." إلى آخر السورة، ورواه أبو الشيخ في العظمة، وأبو بكر السمرقندي في فضائل "قل هو الله أحد" عن أنس – رضي الله تعالى عنه –، ورواه الطبراني في السنة عن الضحاك أيضاً مرسلا ً كما في الدر: (6/410) بنحو ما تقدم.
وللتوفيق بين الروايات المتقدمة الدالة على نزول هذه السورة في مكة جواباً للمشركين، وبين هذه الروايات الدالة على نزول السورة في المدينة جواباً لليهود باستثناء رواية حمزة بن يوسف بن عبد الله بن سلام الدالة على نزول السورة في مكة بسبب سؤال جَدِّهِ عبد الله بن سلام – رضي الله عنه –.
للتوفيق بين ذلك أقول: إن السورة قد تكرر نزولها تعظيماً لشأنها وتفخيماً لقدرها، فنزلت بمكة عندما سأل المشركون، وعبد الله بن سلام أيضاً النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – عن نسب الرحمن – جل جلاله – وعن صفته، ثم نزلت بعد ذلك في المدينة المنورة عندما سأل اليهود رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – عن ذلك مرة أخرى.
والمصير إلى هذا الوجه من التقرير هو عول عليه الأئمة المشاهير؛ لأن إعمال الأدلة كلها خير من إهمال بعضها، ولا يصار إلى النسخ أو الترجيح، إلا عند تعذر الجمع الصحيح قال الإمام ابن تيمية – عليه رحمة رب البرية –: وسورة "قل هو الله أحد" أكثرهم على أنها مكية، وقد ذكر في أسباب نزولها سؤال المشركين بمكة، وسؤال الكفار من أهل الكتاب اليهود بالمدينة، ولا منافاة، فإن الله – جل وعلا – أنزلها بمكة أولاً، ثم لما سُئل نحو ذلك أنزلها مرة أخرى، وهذا مما ذكره طائفة من العلماء، وقالوا: إن الآية أو السورة قد تنزل مرتين أو أكثر أ. هـ: (190) من جواب أهل العلم والإيمان، وإلى هذا جنح الإمام الزركشيّ – رحمة الله تعالى عليه – في البرهان: (1/29-30) حيث قال: وقد ينزل الشيء مرتين تعظيماً لشأنه، وتذكيراً به عند حدوث سببه، وخوف نسيانه ... ومن ذلك ما ورد في "قل هو الله أحد" أنها جواب للمشركين بمكة، وأنها جواب لأهل الكتاب بالمدينة أ. هـ.
وقد اضطرب موقف السيوطيّ نحو الروايات المتقدمة فقال في الإتقان: (1/55) : "سورة الإخلاص" فيها قولان لحديثين في سبب نزولها متعارضين، وجمع بعضهم بينهما بتكرر نزولها، ثم ظهر لي بعد ترجيح أنها مدنية، كما بينته في أسباب النزول أ. هـ ولم يبين ذلك في أسباب النزول – رحمه الله تعالى – إنما قال في لباب المنقول: (245) عقيب الروايات الثانية: استدل بهذا على أنها مدنية ولم يزد على ذلك حرفاً.
أما الإمام ابن جرير – رحمه الله تعالى – فلم يفعل شيئاً نحو الروايات، إنما قال: (30/221) ذكر أن المشركين سألوا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن نسب رب العزة – حل وعلا – فأنزل الله هذه السورة جواباً لهم، وقال بعضهم: بل نزلت من أجل أن اليهود سألوه، فقالوا: هذا الله خلق الخلق، فمن خلق الله؟ فَأنْزِلَتْ جواباً لهم 10هـ وهذا المسلك سلكه أكثر المفسرين فسردوا الروايات في ذلك دون جمع أو ترجيح، والمسلك الذي قدمته هو المتعيَّن الذي لا ينبغي سواه، فعضّ عليه بالنواخذ وكن من الشاكرين، والحمد لله رب العالمين.......(1/75)
ومما ينبغي معرفته والإحاطة به ودرايته، أن السبب الذي من أجله أرشدنا النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى الأمرين المتقدمين: الاستعاذة بالله من الشيطان، وقراءة صفة الرحمن – جل جلاله – عند حصول ذلك الزور والبهتان، كونُ تلك الوساوسَ من الهذيان، ومنكر الأوهام، فلا يحتاج ردها إلى قوة بيان، وعظيم حجة وبرهان، وذلك لمنافاتها لما هو مركوز في فطرة الإنسان ويدل على ذلك أمران مُسلّمان، عند أولي النهى والأحْلام، وإليك البيان:(1/76)
الأول: التسلسل في المؤثرات كالتسلسل في العلل والمعلولات، وهو التسلسل في الفاعلين والمفعولات ممتنع باتفاق العقلاء، لأنه يؤدي إلى ترتيب أمور غير متناهية فيستحيل تسلسل الفاعلين والخالقين، والمحدثين، مثل أن يقول: هذا المُحدَث له مُحدِث، وللمُحدِث مُحدِث آخر إلى مالا يتناهى، فهذا مما اتفقت عليه العقلاء على امتناعه؛ لأن كل مُحدِث لا يوجد بنفسه فهو معدوم باعتبار نفسه، وهو ممكن باعتبار نفسه، فإذا قُدِّرَ من ذلك مالا يتناهى لم تصر الجملة موجودة واجبة بنفسها فإن انضمام المُحدَث إلى المُحدِث، والمَعْدُوم إلى المَعْدُوم، والممكن إلى الممكن لا يخرجه عن كونه مفتقراً إلى الفاعل له، بل كثرة ذلك تزيد حاجتها وافتقارها إلى الفاعل، وافتقار المحدَثَين الممكِنين أعظم من افتقار أحدهما، كما أن عدم الإثنين أعظم من عدم أحدهما، فالتسلسل في هذا والكثرة لا تخرجه من الافتقار والحاجة، بل تزيده حاجة وافتقاراً، فلو قُدِرَ من الحوادث والمعدومات والممكِنات مالا نهاية له، وقُدِرَ أن بعض ذلك معلول لبعض، أولم يُقدَّر ذلك فلا يوجد شيء من ذلك إلا بفعل صانع لها، خارج عن هذه الطبيعة المشتركة المستلزِمة للافتقار والاحتياج، فلا يكون فاعِلها معدوماً ولا مُحدَثاً، ولا ممكِناً يقبل الوجود والعدم، بل لا يكون إلا موجوداً بنفسه واجب الوجود لا يقبل العدم، قديماً ليس بِمُحدَث، فإن كل ما ليس كذلك فإنه مفتقر إلى مَنْ يخلقه وإلا لم يوجد (1) .
__________
(1) هذا نص كلام الشيخ ابن تيمية – عليه رحمة الله تعالى – في منهاج السنة النبوية: (1/162) مع تصرف يسير، وانظر بطلان التسلسل وامتناعه وتعريفه في مجموع الفتاوى: (8/152) والتعريفات: (49) والمواقف: (90) ، وحاشية الأمير: (57-60) ، وفتح الباري: (13/273-274) وفيه أيضاً: (6/341) : قال الخطابي قوله: "من خلق ربك" كلام متهافت ينقض آخره أوله، لأن الخالق يستحيل أن يكون مخلوقاً، ثم لو كان السؤال متجهاً لاستلزم التسلسل، وهو محال، وقد أثبت العقل أن المُحدَثات مفتقرة إلى مُحدِث فلو كان هو مفتقراً إلى محدِث لكان من المُحدَثات أ. هـ.(1/77)
وخلاصة هذا الدليل:
أنه لو فُرِض أن الله – جل وعلا – خالقاً، فسيعاد السؤال: من خلق ذلك الخالق أيضاً؟ وهكذا كلما يقدر وجود خالق خلق من قبله، يقال أيضاً: من خلقه؟ وذلك مالا نهاية له، وهو مستحيل، لأن الممكنات بأسرها لابد لها من موجود واجب الوجود، غني بذاته، رجح أحد الاحتمالين في حقها: الوجود أو العدم على الآخر، وذلك هو الله رب العالمين، لم يكن قبله شيء، وخلق كل شيء.
الثاني: الدور القُبْلي السَّبْقي ممتنع أيضاً باتفاق العقلاء، وهو: توقف الشيء على ما توقف عليه، مثل أن يقال: لا يكون هذا إلا بعد هذا، ولا هذا إلا بعد هذا، أي: لو فرضنا أن زيداً أوجد عمراً، وأن عمراً أوجد زيداً، لزم أن زيداً مُتقدِم على نفسه متأخر عنها، وأن عمراً كذلك، وكون الشيء سابقاً على نفسه مسبوقاً بها مستحيل، فلو فُرِض أن الله – جل وعلا – خلقه خالق، وذلك الخالق إن عاد أمرُ خلقه إلى الله فهذا هو الدور حيث رجع إلى مبدئه وهو مستحيل، وإن عاد أمر خلقِه إلى غير الله واستمر هكذا إلى مالا نهاية فهذا هو التسلسل، وهو مستحيل أيضاً كما عرفت (1) .
... وبالختام: فتلك الشبهة باطلة من أساسها عند الأنام، ولا يختلف في ذلك عاقلان؛ لاستلزامها للدور والتسلسل وهما باطلان، فالعلم بانتهاء الموجودات إلى موجود واجب الوجود لذاته مركوز في فطرة الإنسان، وقامت على ذلك الحجة والبرهان، وأوجبته عقول الإنس والجان.
__________
(1) انظر إيضاح هذا، وتقريره في منهاج السنة النبوية: (1/163) ، ومجموع الفتاوى: (8/153) ، والتعريفات: (93) ، وتحفة المريد: (1/48) ، وحاشية الأمير: (57-58) .(1/78)
.. ولذلك كان الاسترسال في مناقشة تلك الشبهة وتفنيدها كالاسترسال في مناظرة مكابر ينكر طلوع الشمس مع ظهورها ووضوحها، ولا شك أن الإعراض عن هذا وذاك مما يكرم العقول ولا يهينها، ويحفظ المروءة ويصونها، ويكرم الأديان ولا يشينها، قال الإمام الطِيْبيّ – طيب الله نراه –: إنما أمر بالاستعاذة والاشتغال بأمر آخر، ولم يأمر بالتأمل والاحتجاج، لأن العلم باستغناء الله – جل وعلا – عن الموجود أمر ضروري لا يقبل المناظرة، ولأن الاسترسال في الفكر في ذلك لا يزيد المرء إلا حيرة، ومن هذا حاله فلا علاج له إلا الملجأ إلى الله – عز وجل – والاعتصام به (1) .
الشبهة الثانية:
تتلخص في أنه إذا كان الله – تبارك وتعالى – خالق كل شيء ومدبره، وهو على كل شيء قدير، فهل يقدِر أن يخلق مثله، أو لا يقدر؟.
__________
(1) انظر قول الطِيْبيّ في فتح الباري: (6/341) والطيبي بكسر الطاء المشددة نسبة إلى الطِيْب: بُليدة بين واسط وخوزستان كما في مراصد الاطلاع: (2/899) واللباب: (2/394) ، وهو الحسن ابن محمد بن عبد الله الطيبي كان آية في استخراج الدقائق من القرآن والسنة، مقبلا ً على نشر العلم متواضعاً حسن المعتقد، شديد الرد على الفلاسفة والمبتدعة، مظهراً فضائحهم، كان يشتغل بالتفسير من شروق الشمس إلى زوالها، ومن ثم على العصر في شرح صحيح البخاري توفي سنة 743هـ بعد أن فرغ من درس التفسير، وتوجه إلى مجلس الحديث، فصلى النافلة وجلس ينتظر الصلاة فقضى نحبه – عليه رحمة الله تعالى – انظر ذلك وغيره من ترجمته العطرة في الدرر الكامنة: (1/156-257) وطبقات المفسرين للداودي: (1/146-147) ، والبدر الطالع: (1/229) وشذرات الذهب: (6/137-138) ، وبغية الوعاة: (1/522-523) وكشف الظنون: (1/720) ، ومفتاح السعادة: (2/101-102) .(1/79)
وهذه الشبهة يقال: إنها وقعت زمن أمير المؤمنين هارون الرشيد – عليه رحمة الله تعالى – حيث كتب إليه ملك الهند: هل يقدِر الخالق – جل جلاله – أن يخلُق مثله؟ فسأل هارون الرشيد أهل العلم عن ذلك، فبدر شابٌ فقال: هذا السؤال محال؛ لأن المخلوق مُحدَث، والمُحدَث لا يكون مثل القديم، فاستحال أن يقال: يقدَر أن يَخْلُق مثله، أو لا يقدر، كما يستحيل أن يقال في القادر العالم: يقدِر أو يصير عاجزاً
جاهلا ً (1) .
وحاصل تلك الشبهة أنها باطلة متهافتة ينقضُ بعضها بعضاً؛ وذلك لأن الرب – جل وعلا – هو الأول الذي ليس قبله شيء، فكيف سيكون المخلوق بعده مثله؟ هذا تناقض واضح، وهذيان مكشوف، فالمخلوق المدلول عليه في تلك الشبهة المنكرة بـ "يَخْلُقُ" حادث والله – جل جلاله – قديم فأنى يكونان متماثلين؟
ولذلك كان ذلك السؤال من قبيل الهذيان، وساقط الكلام، ولا يقال في الجواب عليه: نعم أو لا، لأن السؤال متناقض فاسد، إنما يصحح للمشتبه السؤال، ليزال عنه الغباء والضلال، ويبين له أن مُتعلِّق قدرة الله – تبارك وتعالى – الممكنات وهي التي يتصور وجودها وعدمها فتنفذ قدرة الله – جل وعلا – ما شاء الله – جل جلاله – من ذلك، أما الواجبات، وهي: ما لا يتصور في العقل عدمها فلا تعلق للقدرة بها لأنه لا يصح إعدامها لأنها لا تقبل العدم ولا يصح أيضاً إيجادها لأنها موجودة، فإيجادها تحصيل حاصل، وكما لا تعلق للقدرة بالواجبات فلا تعلق لها أيضاً بالمستحيلات وهي: ما لا يتصور في العقل، فلو تعلقت القدرة بالمستحيل لما صح إيجاده، لأنه لا يقبل الوجود، ولا يصح أيضاً إعدامه، لأنه معدوم، وذلك تحصيل حاصل.
__________
(1) الكلام على هذه الشبهة مأخوذ من فتح الباري: (13/274.)(1/80)
وبذلك تعلم أن هذه الشبهة وما شابهها قد يكون لها في الظاهر شيء من البريق والوجاهة لكن عند التأمل في محتواها يتبين للعاقل أنها في أحط دركات السفاهة والتفاهة، وهذا هو سبيل أهل الزيغ والضلال، تزيين زندقيتهم بمعول من الأقوال، ليخدعوا بذلك بعض قاصري النظر من نساء ورجال، روى الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد، وابن الجوزيّ في كتاب الأذكياء – عليهما رحمة الله تعالى – أن أبا الهُذيل قال: أول ما ناظرت ولي أقل من خمس عشرة سنة، بلغني أن رجلا ً يهودياً قدم البصرة، وقد قطع عامة متكلميهم، فقلت لعمي: يا عم، امض بي إلى هذا اليهودي أكلمه، فقال لي: يابني هذا اليهودي قد غلب جماعة متكلمي أهل البصرة، فمن أخذك أن تُكلم ما لا طاقة لك بكلامه؟ فقلت له: لابد من أن تمضي بي إليه، وما عليك مني غلبني أو غلبته، فأخذ بيدي ودخلنا على اليهودي، فوجدته يقرر الناس بنبوة موسى – علي نبينا وعليه الصلاة والسلام – ثم يجحدهم نبوة نبينا – صلى الله عليه وسلم – ويقول: نحن على ما اتفقنا عليه من صحة نبوة موسى – على نبينا وعليه الصلاة والسلام – إلى أن نتفق على غيره، فنقر به، قال أبو الهذيل: قد خَلْتُ عليه، فقلت له: أسألك أو تسألني؟ فقال لي: يا بنيّ أوَ ما ترى ما أفعله بمن هو أكبر منك؟ فقلت له: دَعْ عنك هذا واخْتَرْ، إما أن تسألني، أو أسألك؟ قال: بل أسألك، خبرني أليس موسى – على نبينا وعليه الصلاة والسلام – نبياً من أنبياء الله قد صحت نبوته، وثبت دليله؟ [وثبت دليله] تُقِرُ بهذا، أو تجحده فتخالف صاحبك؟ فقلت له: إن الذي سألتني عنه عن أمر موسى – علي نبينا وعليه الصلاة والسلام – عندي على أمرين، أحدهما: أني أقِرُ بنبوة موسى الذي أخبر بصحة نبينا، وأمَرَ باتباعه، وبشر به وبنبوته، فإن كان عن هذا تسألني فأنا مُقِر بنبوته، وإن كان موسى الذي تسألني عنه لا يُقِرُ بنبوة نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم – ولم يأمر باتباعه ولا بشر به، فلست(1/81)
أعرفه، ولا أقر بنبوته بل هو عندي شيطان مَخْزيّ، فتحيّر لمَّا ورد عليه ما قلته له، وقال لي: فما تقول في التوراة؟ قلت: أمر التوراة أيضاً على وجهين، إن كانت التوراة التي أنزلت على موسى الذي أقرَّ بنبوة محمد – صلى الله عليه وسلم – فهي التوراة الحق، وإن كانت أنزلت على الذي تدعيه فهي باطل غير حق، وأنا غير مصدق بها، فقال لي: أحتاج إلى أن أقول لك شيئاً بيني وبينك فظننت أنه سيقول من الخير، فتقدمت إليه فسارّني فقال: أمُّك كذا وكذا، وأمّ من علمك لا يُكني، وقدر أني أثب به، فيقول: وثبوا بي، وشغبوا عليّ فأقبلت على من كان بالمجلس، فقلت: أعزكم الله، أليس قد وقفتم على مسألته إياي وعلى جوابي إياه؟ قالوا لي: نعم، فقلت: أليس عليه واجب أن يرد على جوابي؟ قالوا: نعم، قلت لهم: إنه لما سارني شتمني بالشتم الذي يوجب الحد، وشتم من علمني، وإنما قدر أن أثب به، فيدعي أنا واثبناه وشغبنا عليه، وقد عرفتكم شأنه بعد انقطاعه، فأخذته الأيدي بالنعال، فخرج هارباً من البصرة وقد كان له بها دين كثير فتركه، وخرج هارباً لما لحقه من الانقطاع (1) .
__________
(1) انظر تاريخ بغداد: (3/366-367) ، وكتاب الأذكياء: (133-134) ، وأشار ابن حجر إلى القصة في لسان الميزان: (5/414) ، فقال: قال أبو الهذيل: أول ما ناظرت لي خمس عشرة سنة فذكر مناظرته مع اليهودي بالبصرة وأبو الهذيل هو: محمد بن الهذيل العلاف ركن المعتزلة، ودعامة المبتدعة، توفي سنة 235 وقيل 227 ومن الإنصاف الاعتراف بفضله ورجاحة عقله في مناظرته لليهودي الخبيث، وانظر حال أبي الهذيل في الكتب المتقدمة وفي شذرات الذهب: (2/85) ، ومقالات الإسلاميين: (1/217) .(1/82)
وبالختام: إن قلوب الناس على ثلاثة أقسام، قلب محشو بالإيمان، وقلب مملوء بالكفر والطغيان، وقلب فيه طاعة وعصيان، فالأول: خالٍ من الوساوس، والثاني: مملوء بالخبائث، قد استراح منه الشيطان، لأنه ساواه أو زاد عليه في الفجور والطغيان، والثالث: يغير الشيطان عليه عند غفلته ويهرب منه عند يقظته، وللإمام ابن القيم – عليه رحمة الله تعالى – في هذا كلام محكم متين، فدونكه لتأخذ بأحسن ما فيه، وتكون من المفلحين المهتدين.
القلوب الثلاثة: قلب خالٍ من الإيمان، وجميع الخير، فذلك قلب مظلم، قد استراح الشيطان من إلقاء الوساوس إليه؛ لأنه قد اتخذه وطناً، وتحكم فيه بما يريد، وتمكن منه غاية التمكن.
القلب الثاني: قلب استنار بنور الإيمان، وأوقد فيه مصباحه لكن عليه ظلمة الشهوات، وعواصف الأهوية، فللشيطان إقبال وإدبار ومجالات ومطالع، فالحرب دول وسجال وتختلف أحوال هذا الصنف بالقلة والكثرة، فمنهم من أوقات غلبته لعدوه وأكثر ومنهم من هو تارة وتارة.
القلب الثالث: قلب محشو بالإيمان، قد استنار بنور الإيمان، وانقشعت عنه حجب الشهوات وأقلعت عنه تلك الظلمات، فلنوره في صدره إشراق ولذلك إيقاد لو دنا منه الوسواس احترق به، فهو كالسماء التي حرست بالنجوم، فلو دنا منها الشيطان يتخطاها رُجِم فاحترق وليست السماء بأعظم حرمة من المؤمن، وحراسة الله – جل وعلا – له أتم من حراسة السماء فالسماء متعبد الملائكة، ومستقر الوحي، وفيها أنوار الطاعات، وقلب المؤمن مستقر التوحيد والمحبة والمعرفة والإيمان، وفيه أنوارها، فهو حقيق أن يُحرس ويُحفظ من كيد العدو، فلا ينال منه شيئاً إلا خطفة ً، وقد مُثِل ذلك بمثال حسن وهو: ثلاث بيوت: بيت المَلِك فيه كنوزه وذخائره وجواهره وبيت العبد فيه كنوز العبد وذخائره وجواهره، وليست كجواهر الملك وذخائره، وبيتٌ خالٍ صفر لا شيء فيه، فجاء اللص يسرق من أحد البيوت، فمن يسرق؟.(1/83)
فإن قلت: من البيت الخالي كان محالاً، لأن البيت العالي ليس فيه شيء يسرق، ولهذا قيل لابن عباس – رضي الله عنهما –: عن اليهود تزعم أنها لا توسوس في صلاتها، فقال: وما يصنع الشيطان بالقلب الخرب؟.
وإن قلت: يسرق من بين الملك كان ذلك كالمستحيل الممتنع، فإن عليه من الحرس ما لا يستطيع اللصوص الدنو منه، كيف وحارسه الملك نفسه؟؟ وكيف يستطيع اللصوص الدنو منه؟ وحوله من الحرس والجند ما حوله؟ فلم يبق للص إلا البيت الثالث فهو الذي يشُن عليه الغارات.
فليتأمل اللبيب هذا المثال حق التأمل، ولينزله على القلوب فإنها على منواله (1) .
__________
(1) انظر الوابل الصيب: (32-33) ، والقلب الخالي من الإيمان مثله كما قال القائل كما في مفاتيح الغيب: (18/117) ، وروح المعاني: (12/215) :
وكنتُ امرءاً مِنْ جُندِ إبليس فانتهى ... بي الحالُ حتى صارَ إبليسُ مِنْ جُنْدِي
فلو ماتَ قبلي كنتُ أحسِنُ بَعْدَهُ ... طرَائِقَ فِسْق ٍ ليس يُحسِنُها بَعْدي(1/84)
واعلم أن الشعور بالوسوسة من قبل من لم تصل قلوبهم للمرتبة الكاملة المقدسة، دليل على صحة إيمانهم، حيث كرهوا ما يحط من منزلتهم، ويضع من قدرهم عند ربهم، ولا يكون هذا إلا عند حياة القلوب، وإلا، فما لِجُرْج ٍ بميت إيلام، روى الإمام مسلم وغيره – عليهم رحمة الله تعالى – عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – قال: جاء ناس من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال: "وقد وجدتموه" قالوا: نعم، قال: "ذاك صريح الإيمان" وفي رواية لمسلم وغيره أيضاً عن ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه – قال: سئل النبي – صلى الله عليه وسلم – عن الوسوسة، فقال: "تلك محض الإيمان"، وفي لفظ لأبي داود عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهم – قال: جاء رجل إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إن أحدنا يجد في نفسه يعرض بالشيء، لأن يكون حُمَمَة ً أحب إليه من أن يتكلم به، فقال: "الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة" وفي رواية للطبراني عن أم سلمة – رضي الله عنها – قالت: سمعت النبي – صلى الله عليه وسلم – وسأله رجل فقال: إني أحدث نفسي بالشيء لو تكلمت به لأحبطت آخرتي، فقال: "لا يلقى ذلك الكلام إلا مؤمن (1) ،
__________
(1) الحديث بالرواية الأولى أخرجه الأئمة الكرام: مسلم في صحيحه – كتاب الإيمان – باب بيان الوسوسة في الإيمان، وما يقوله من وجدها: (1/119) ، وأبو داود في سننه – كتاب الأدب – في رد الوسوسة: (5/336) ، وأحمد في المسند: (2/397-441) ، وأبو عوانة في مسنده: (1/78) ، والبزار ورجاله أئمة ثقات كما في مجمع الزوائد: (1/35) لكن من رواية عُمارة بن أبي الحسن، أو ابن حسن عن عمه – رضي الله تعالى عنه – ورواه ابن أبي عاصم في السنة – باب في الوسوسة في أمر الرب تبارك وتعالى –: (1/295-297) من رواية أبي هريرة، وأبي سعيد الخدري، وعُمارة بن أبي حسن الأنصاري المازني مرسلا ً – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – ورواه الطبراني في الصغير من رواية (ابن) ابن عباس – رضي الله عنهما – بسند رجاله رجال الصحيح خلا شيخ الطبراني منتصر كما في مجمع الزوائد: (1/34) .
وانظر الرواية الثانية عن ابن مسعود – رضي الله عنه – في صحيح مسلم – المكان المتقدم – ورواها الطبراني في الكبير، ورجاله رجال الصحيح، وشيخ الطبراني ثقة كما في مجمع الزوائد: (1/34) وأبو داود الطيالسي: (1/29) منحة المعبود، وأبو عوانة في مسنده: (1/79) والبغوي في شرح السنة – كتاب الإيمان – باب العفو عن حديث النفس – بلفظ "ذلك محض الإيمان" أو "صريح الإيمان" والحديث رواه عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – أحمد في المسند: (2/456) وابن أبي عاصم في السنة – المكان المتقدم، وعن أنس - رضي الله تعالى عنه – أبو يعلى بسند رجاله رجال الصحيح إلا يزيد بن أبان الرقاش في مجمع الزوائد: (1/33-34) ،وعن أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنها – أحمد في المسند: (6/106) ، وأبو يعلى بنحوه كما في مجمع الزوائد: (1/34) وفي إسنادهما شَهْرُ بن حَوْشَب.
وانظر الرواية الثالثة عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – في سنن أبي داود – المكان المتقدم – وكتاب السنة لابن أبي عاصم – المكان المتقدم أيضاً – ومسند أحمد: (1/340) ، وشرح السنة للبغوي – المكان المتقدم أيضاً – ورواه الطبراني في الكبير كما في مجمع الزوائد: (1/34) عن معاذ بن جبل – رضي الله تعالى عنه – وهو في وراية ذر بن عبد الله عن معاذ ولم يدركه.
وانظر الرواية الرابعة في مجمع الزوائد: (1/34) ، وفيه: رواه الطبراني في الصغير، والأوسط وفي إسناده سيف بن عُميرة الكوفي، قال الأزديّ: يتكلمون فيه 1هـ وسيف بن عُميرة: صدوق له أوهام كما في التقريب: (1/344) ، وانظر كلام الأزدي في الميزان: (2/256) ، وتهذيب التهذيب: (4/296) وفيه قال ابن حجر: قلت: ذكره ابن حبان في الثقات، وقال: يُغرِبُ أ. هـ.(1/85)
قال الإمام النووي – عليه رحمة الله تعالى – قوله: "ذلك صريح الإيمان" "تلك محض الإيمان" معناه: استعظام الكلام به هو صريح الإيمان، فإن استعظام هذا وشدة الخوف منه، ومن النطق به فضلا ً عن اعتقاده إنما يكون لمن استكمل الإيمان استكمالا ً محققاً، وانتفت عنه الريبة والشكوك.
وقيل: معناه: أن الشيطان إنما يوسوس لمن آيَسَ من إغوائه، فيُنكِدُ عليه بالوسوسة لعجزه عن إغوائه، وأما الكافر فإنه يأتيه من حيث شاء، ولا يقصر في حقه على الوسوسة، بل يتلاعب به كيف أراد، فعلى هذا معنى الحديث: سبب الوسوسة محض الإيمان، أو: الوسوسة علامة محض الإيمان، وهذا القول اختيار القاضي عياض – عليه رحمة الله تعالى – (1) .
شرح الله الكريم صدورنا، ويسر أمورنا، وغفر ذنوبنا، وستر عيوبنا، ونوّر قلوبنا، إنه سميع مجيب ...
شروط التكليف بالتوحيد
يشترط للتكليف بالتوحيد أربعة شروط وهي:
الأول: العقل:
__________
(1) انظر شرح النووي لصحيح مسلم: (2/154) ، وقد أطال الشيخ محمد عبد الله دراز في شرح الحديث في كتابه المختار فانظره ففيه فوائد: (491-522) ، وانظر علامات مرض القلب وصحته في إغاثة اللهفان: (1/68) فما بعدها.(1/86)
وهو الوصف الذي يفارق به الإنسان سائر البهائم، ويتمكن بسببه من تحصيل العلوم النظرية، وتدبير الصناعات الخفيَّة الفكرية، فهو غريزة يتهيأ بها الإنسان لإدراك العلوم، ونور يقذف في القلب يستعد به الإنسان لإدراك حقائق الأشياء، كما في الإحياء، وفي القاموس المحيط: والحق أنه نور روحاني به تدرك النفس العلوم الضرورية والنظرية، وابتداء وجوده عند اجتنان الولد، ثم لا يزال ينمو إلى أن يكمل عند البلوغ أ. هـ وسمي العقل عقلا ً لكونه يعقل صاحبه عن فعل القبيح الذي يميل إليه بطبعه كما في الزواجر لابن حجر (1) فالدابة عقالها الحبل والإنسان عقاله العقل.
__________
(1) انظر ما تقدم على الترتيب: إحياء علوم الدين: (1/90) ، القاموس المحيط: (4/19) ، "عقل" الزواجر عن اقتراف الكبائر: (2/150) ، وانظر اللسان: (3/486) ، "عقل" وفيه: وسمي العقل عقلا ً لأنه يعقل صاحبه عن التورط في المهالك، أي يحبسه، وانظر هذا البحث الشريف في الذريعة إلى مكارم الشريعة: (80/108) ، والمفردات: (342) ، وذم الهوى: (5-11) ، وروضة العقلاء ونزهة الفضلاء: (16-26) .(1/87)
والعقل بهذا الاعتبار، مجرد منحة من الله الواحد القهار، لا دخل فيه للكسب والاختيار وهو الذي يقال له: العقل المطبوع، ولا يوجد تكليف بدونه، وإذا أخذ الله ما وهب أسقط ما أوجب، ولذلك لما ذكر النبي – صلى الله عليه وسلم – فتان القبور، قال عمر – رضي الله تعالى عنه – أتُردُّ علينا عقولنا يا رسول الله؟ فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: نعم، كهيئتكم اليوم، فقال عمر – رضي الله تعالى عنه –: بِفِيهِ الحَجَر (1) قال الإمام الغزالي – عليه رحمة الملك الباري –: العقل منبع العلم، ومطلعه وأساسه، والعلم يجري منه مجرى الثمرة من الشجرة، والنور من الشمس، والرؤية من العين، فكيف لا يشرف ما هو وسيلة السعادة في الدنيا والآخرة، أو كيف يُسْتَرابُ فيه.
__________
(1) الحديث رواه ابن حبان في صحيحه: (197) كتاب الجنائز – باب في الميت يَسمعُ ويُسألُ – من موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان، ورواه أحمد في المسند: (2/172) ، ونقله الذهبي في الميزان: (1/624) من كتاب ابن عدي وبسنده في ترجمة حُيي بن عبد الله المعافري المصري، ورواه الطبراني في الكبير كما في مجمع الزوائد: (3/47) – كتاب الجنائز – باب السؤال في القبر كلهم من رواية عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما – قال الهيثمي: ورجال أحمد رجال الصحيح 10هـ وحُيي بن عبد الله المعافري المصري ليس من رجاله أحد الصحيحين فلا يُطلق عليه أنه من رجال الصحيح فاعلم، إنما هو من رجال السنن الأربعة وهو صدوق يَهِمُ كما في التقريب: (1/209) وقد حكم الشيخ أحمد شاكر – رحمه الله تعالى - على إسناد الحديث بأنه صحيح، انظر المسند (10/140) رقم: (6603) ، وفي الحديث الشريف دلالة على قوة إيمان الفاروق، وثبات يقينه.
نسأل الله الكريم أن يتكرم علينا بالاتصاف بمسلك سلفنا الصالحين، إنه جواد رحيم.(1/88)
والبهيمة مع قصور تمييزها تحتشم العقل، حتى إن أعظم البهائم بدناً وأشدها ضراوة، وأقواها سطوة، إذا رأى صورة الإنسان احتشمه وهابه لشعوره باستيلائه عليه، لما خُصّ به من إدراك الحيل (1) .
هذا، ويطلق العقل أيضاً على العلم الذي يحصله الإنسان بذلك الوصف، ويكتسبه بتلك الغريزة فيحصل له بذلك إدراك عواقب الأمور، وقمع الشهوة الداعية إلى اللذة العاجلة، وهو بهذا الاعتبار من الأمور المكتسبات، ولابد للإنسان في تحصيله من جهد ومشقات، ويقال له: العقل المسموع وهو الثمرة، والغاية القصوى من العقل المطبوع، كما أن العقل المطبوع هو الأساس للعقل المسموع، قال عليّ – رضي الله تعالى عنه –:
رأيتُ العقلَ عَقْلَين ِ ... فمطبوع ٌ ومَسْموع ُ
ولا يَنْفَع ُ مَسْموع ٌ ... إذا لم يكُ مَطبوعُ
كما لا تنفعُ الشمسُ ... وضوءُ العين ِ ممنوع ُ (2)
... ويقابل العقل المطبوع الجنون، وعنده يرتفع التكليف عن العباد، ويقابل العقل المسموع الجهل والفساد، والكفر والفسوق والعناد، وبه يحصل التباب، ويصلى الإنسان أليمَ العذاب.
__________
(1) انظر إحياء علوم الدين: (1/88) الباب السابع في بيان شرف العقل من كتاب العلم.
(2) ورد نسبة ذلك إلى عليّ – رضي الله تعالى عنه – في الإحياء: (1/91) ، والمفردات: (342) ، والذريعة إلى مكارم الشريعة: (81) ولم يُنسَبْ لقائل في روضة العقلاء: (18) .(1/89)
.. وبذلك التفصيل تعلم أيها المسترشد – علمني الله وإياك – أن كل موطن ورد فيه مدح الإنسان والثناء عليه لاتصافه بالعقل، أو جاء فيه ذمه، والحط عليه لعدم اتصافه بالعقل فالمراد منه في الحالتين العقل بالاعتبار الثاني، وهو العقل المسموع، فاسمع ولا تكن من الغافلين، قال الله – جل وعلا –: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} العنكبوت43، وقال – تبارك وتعالى –: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ} آل عمران190، وقال – جل جلاله –: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} ص29، وقال – جل ثناؤه –: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ} الرعد19 والزمر 9، وقال تعالى شأنه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى} طه54 وقال – عز سلطانه –: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ} الفجر5، وقال – سبحانه وتعالى –: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} ق37 ففي جميع هذه الآيات الكريمات وقع الثناء على الإنسان باعتبار اتصافه بالعقل بالمعنى الثاني، وهو العقل المسموع، وجاء التعبير عنه باللب لكونه خالص ما في الإنسان من معانيه كاللباب واللب من الشيء، وأطلق عليه النُهْية لكونه ينهي عن القبائح، وسمي بالحِجْر لأن الإنسان في منع منه مما تدعو إليه نفسه (1) .
__________
(1) انظر إيضاح ذلك في المفردات: حرف اللام: (446) ، وحرف النون: (507) ، وحرف الحاء: (109)(1/90)
.. وأما ما ورد من ذم الإنسان لتفريطه بالعقل بالوصف الثاني وهو العقل المسموع فقول الله – جل جلاله –: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} البقرة171، وقوله – بتارك وتعالى –: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} الأعراف179، وقوله – عز وجل –: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} الفرقان 43-44، وقوله – جل وعلا –: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} الحج46، وقوله – جل جلاله – فيما حكاه عن أصحاب النار: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} الملك10.(1/91)
.. وقد ورد في سنة نبينا – صلى الله عليه وسلم – ما يشير إلى اختلال العقول بالوصف الثاني آخر الزمان ففي المسند وسنن ابن ماجه عن أبي موسى الأشعري – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "إن بين يدي الساعة لهَرْجاً، قال، قلت: يا رسول الله ما الهرجُ؟ قال: القتلُ، فقال بعض المسلمين: يا رسول الله إنا نقتل الآن في العام الواحد من المشركين كذا وكذا، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ليس بقتل المشركين، ولكن يقتل بعضكم بعضاً، حتى يقتل الرجل جاره وابن عمه وذا قرابته، فقال بعض القوم: يا رسول الله، ومعنا عقولنا ذلك اليوم؟ فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: لا تُنْزَعُ عقول أكثر ذلك الزمان، ويخلف له هباء من الناس لا عقول لهم (1)
__________
(1) انظر سنن ابن ماجه – كتاب الفتن – باب التثبت في الفتنة: (2/1309) والمسند: (4/414،392) ..(1/92)
" وفي المسند أيضاً ومعجم الطبراني الأوسط عن النعمان بن بشير – رضي الله تعالى عنهما – قال: صَحِبنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وسمعناه يقول: "إن بين يدي الساعة فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمناً ثم يمسي كافراً، ويمسي مؤمناً يبيع أقوام خلاقهم بعرض من الدنيا يسير" قال الحسن – رحمه الله تعالى –: والله لقد رأيناهم صوراً ولا عقول، أجساماً ولا أحلام، فراشي نار، وذُبّانُ طمع يغدون بدرهمين، ويروحون بدرهمين،، يبيع أحدهم دينه بثمن العَنْزِ (1) " وقد أكثر العلماء من الأشعار الحكيمة المحكمة في ذلك، منها ما في المدخل:
ذهبَ الرجالُ المُقْتدى بِفعَالِهمْ ... والمُنْكرون لكل أمْر ٍ مُنْكر ِ
وبَقيتُ في خَلَفِ يُزَكي بَعضُهم ... بعضاً ليَدْفَعُ معْورٌ عن معْوَر ِ
أبُنَيَّ إنَّ مِن الرجال ِ بَهيمَة ً ... في صورة ِ الرجل ِ السميع ِ المُبْصر ِ
فَطِن ٌ بكل مُصيبة ٍ في ماله ... فإذا أصيب بدينه لم يَشْعُر ِ
__________
(1) انظر المسند: (4/273) ، ومجمع الزوائد: (7/309) وقال الهيثمي: فيه مبارك بن فضاله وثقة جماعة وفيه لين، وبقية رجاله رجال الصحيح 10هـ وللحديث شواهد كثيرة ثابتة صحيحة منها ما في صحيح مسلم – كتاب الإيمان – باب الحث على المبادرة بالأعمال قبل تظاهر الفتن: (1/110) ، وسنن الترمذي – كتاب الفتن – باب ما جاء ستكون فتن كقطع الليل المظلم: (6/355) عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: "بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً يبيع دينه بعرض من الدنيا" ورواه الترمذي عن أنس أيضاً وأشار إلى رواية جندب، والنعمان بن بشير، وأبي موسى – رضي الله عنهم أجمعين –.(1/93)
فَسََل ِ الفقيهَ تَكُنْ فقيهاً مِثْلَه ... مَنْ يَسْع في عِلْم ٍ بِلُبّ ٍ يَظْفَر ِ (1)
... نسأل رب الأرض والسماء، أن يحفظنا من مرض الشبهات والشهوات، لتكون عقولنا من الزاكيات الطاهرات، ولنسلم مما خافه علينا رسول الله خير البريات – عليه أفضل السلام وأزكى الصلوات – حيث قال فيما رواه عنه الأئمة الثقات: "إنما أخشى عليكم شهوات الغيّ في بطونكم وفروجهم، ومضلات الهوى (2) " فمن وقي من هذين المرضين فاز بسعادة الدارين.
الشرط الثاني البلوغ:
وبه يستدل على تمام العقل عند الإنسان، واكتمال قواه التفكيرية، ومعرفته القضايا المصيرية، والصغير بمعزل عن جميع ذلك، فلا تكليف عليه.
__________
(1) انظر المدخل لابن الحاج: (2/12) ، ونقل الشيخ إسماعيل بن إبراهيم الخطيب الحسني السلفي هذه الأبيات في كتابه تحذير أهل الإيمان عن الحكم بغير ما أنزل الرحمن وزاد عليها أبياتاً أخرى لطيفة في صفحة: (138) ضمن مجموعة الرسائل المنيرية، ومن ذلك: ... بَهائمٌ في صُورة ِ الرجال ِ
قول بعضهم:
0@واعلمْ بأنَّ عُصْبَة َ الجُهَّال ِ
وقول آخر:
لا تَخْدَعَنَّكَ اللحى ولا الصُّوَرْ< ... تسعة أعْشار ِ مَنْ ترى بَقَرْ
تَراهُمُ كالسَّحاب ِ مُنْتَشِرا ... وليسَ فيه لطالبٍ مَطَرْ
في شَجَر ِ السَّرْو ِ منهم شبَهٌ ... له رُواء وماله ثَمَرْ
وقول آخر:
لا بَأسَ بالقوم من طُول ٍ ومِنْ غِلظٍ ... جِسمُ البِغال ِوأحْلامُ العَصافير ِ
وفي فتح الخلاق في مكارم الأخلاق للدجوي أبيات لطيفة رقيقة منها: (8) ، وهي أيضاً في روضة المحبين: (10)
ما وهبَ الله لامرئٍ هِبَة ً ... أشْرفَ من عقله ومن أدَبِهْ
هما جَمالُ الفَتى فإنْ عُدِما ... فإنَّ فَقْدَ الحياة ِ أجملُ بهْ
(2) الحديث رواه الإمام أحمد في المسند: (4/420-423) ، قال الهيثمي في المجمع: (7/306) ورجاله رجال الصحيح وقال في: (1/188) ورواه البزار، والطبراني في الثلاثة، ورجاله رجال الصحيح، وانظر رواية البزار في كشف الأستار: (1/82) .(1/94)
وهذان الشرطان دل عليهما كلام خير الأنام – عليه الصلاة والسلام – أخرج أئمة الإسلام عن عدة من الصحابة الكرام – عليهم من الله الرحمة والرضوان – أن النبي – عليه الصلاة والسلام – قال: "رفع القلم عن ثلاثة، عن الصبي حتى يحتلم، وعن المعتوه حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ"، وفي رواية: "رفع القلم عن ثلاثة، عن المجنون المغلوب على عقله حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم (1)
__________
(1) الحديث رواه الحاكم في المستدرك – كتاب البيوع –: (2/59) عن أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنها – واللفظ له، وعنها رواه أبو داود في الحدود – باب في المجنون يسرق أو يصيب حداً –: (4/558) ، والنسائي في كتاب الطلاق – باب متى يقع طلاق الصبي –: (6/127) ، وابن ماجه في كتاب الطلاق – باب طلاق المعتوه والصغير والنائم: (1/658) ، والدارمي في كتاب الحدود – باب رفع القلم عن ثلاثة: (2/171) ، وابن حبان – موارد الظمآن – كتاب الحدود – باب فيمن لا حد عليه: (359) ، وابن الجاورد في المنتقى: (77) ، وأحمد في المسند: (6/100،101) وأشار إليه الترمذي في أول كتاب الحدود: (5/111) ، والحديث صحيح قال عنه الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وأقره الذهبي، وقد أخرجه الأئمة من رواية علي – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – انظر سنن أبي داود، وسنن ابن ماجه، وصحيح ابن حبان، ومستدرك الحاكم في الأمكنة المتقدمة، ورواه الحاكم أيضاً في: (4/389) كتاب الحدود، الطيالس – منحة المعبود – كتاب الحدود – باب لا يجب الحد إلا على مكلف: (1/297) ، وابن خزيمة في صحيحه – جماع أبواب الفريضة عند العلة تحدث – باب ذكر الخبر الدال أن أمر الصبيان بالصلاة قبل البلوغ على غير الإيجاب –: (2/102) ، والدارقطني: (3/139) - كتاب الحدود والترمذي في كتاب الحدود – باب فيمن لا يجب عليه الحد: (5/110-111) ، وقال: العمل على هذا الحديث عند أهل العلم وأحمد في المسند: (1/158،140،118،116) ، والبيهقي في السنن الكبرى: (6/57) كتاب الحجر – باب البلوغ بالاحتلام: (7/359) – كتاب الطلاق – باب لا يجوز طلاق الصبي حتى يبلغ ولا طلاق المعتوه حتى يفيق، وعلقه البخاري في صحيحه عن عليّّ موقوفاً في كتاب النكاح – باب الطلاق في الإغلاق والكره والسكران والمجنون: (9/388) ، وفي كتاب الحدود – باب لا يرجم المجنون والمجنونة: (12/120) بشرح ابن حجر وانظر الشرح لترى من وصل ذلك، قال ابن حجر وقد أخذ الفقهاء بمقتضى هذه الأحاديث وحديث علي صحيح كحديث عائشة – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين وأقره الذهبي.
والحديث روي عن غير عائشة وعليّ فرواه الحاكم: (4/389) – كتاب الحدود – عن أبي قتادة، ورواه الطبراني في الكبير والأوسط عن ابن عباس، ورواه البزار عن أبي هريرة، ورواه الطبراني أيضاً عن ابن شداد بن أوس وثوبان – رضي الله عنهم أجمعين – كما في مجمع الزوائد: (6/521) – كتاب الحدود – باب رفع القلم عن ثلاثة – فانظر حال تلك الروايات في ذينك الكتابين، وفي نصب الراية: (4/164-165) .(1/95)
".
وحده البلوغ الذي يحصل به، ويتحقق بوجوده، واحدٌ من خمسة أشياء، اثنان منها خاصان بالنساء وهما:
1- الحيض: وهو الدم الخارج من رحم امرأة تمت تسع سنين، لا عن ولادة ولا عن داء.
2- الحبل: وهو ثبوت كونها حاملاً
وأما الأشياء الثلاثة المشتركة بين الذكور والإناث فهي:
1- خروج المني من القبل: وهو الماء الدافق الذي يخلق منه الولد، ويحصل به البلوغ كيفما خرج في يقظة أو منام، بجماع أو احتلام، أو بغير ذلك من أحوال خروجه عند الأنام.(1/96)
2- نبات العانة: وهي الشعر الخشن الذي يكون حول القبل، ويلزم أخذه (1)
__________
(1) وليس لذلك مدة محددة، بل تؤخذ كلما طالت شريطة أن لا تزيد المدة عن أربعين ليلة كما ثبت في صحيح مسلم – كتاب الطهارة – باب خصال الفطرة: (3/146) بشرح النووي، وسنن أبي داود – كتاب الترجل – باب الشارب: (4/414) ، وسنن النسائي – كتاب الطهارة – باب التوقيت في ذلك (تقليم الأظافر، ونتف الإبط، وحلق العانة، وقص الشارب) : (1/19) ، وسنن ابن ماجه – كتاب الطهارة – باب الفطرة: (1/108) ، وسنن البيهقي – كتاب الطهارة – باب الأخذ من الأظفار: (1/150) ، ومسند الإمام أحمد: (3/255،203،122) ، وسنن الترمذي – كتاب الأدب – باب ما جاس في التوقيت في تقليم الأظافر وقص الشارب: (8/9) عن أنس – رضي الله تعالى عنه – قال: "وُقِّتَ لنا في قص الشارب، وتقليم الأظافر ونتف الإبط، وحلق العانة أن لا نترك أكثر من أربعين ليلة" والمعتمد أن السنة في إزالة شعر العانة الحلق بالموسى في حق الرجل والمرأة معاً، ويجزئ القص، والنتف، والنورة كما في شرح صحيح مسلم للإمام النووي: (3/148) ، والمجموع: (1/389) ، والمغنى: (1/71) ، ومن العجيب عَدُ الإمام ابن العربي في أحكام القرآن: (1/501) نتف العانة من النمص حيث قال: وأهل مصر ينتفون شعر العانة، وهو منه أي: من النمص – فإن السنة حلق العانة، ونتف الإبط، فأما نتف الفرج فإنه يرخيه ويؤذيه، ويبطل كثيراً من المنفعة فيه 1هـ ونقل الإمام القرطبي في تفسيره: (5/392) هذا وسكت عليه، وقد كرر الإمام ابن العربي نحو ذلك الكلام في العارضة: (10/216) ، فقال: ونساء مصر ينتفن شعر ذلك الموضع حتى يربو ويجثم ولكنه مع الانتهاء إلى الكهولة يسترخي ويسترسل، فيعاف ويسترذل أ. هـ.
والذي يفهم من كلام الإمام ابن حجر في الفتح: (10/344) ميله إلى التفريق بين الذكر والأنثى في هذه المسألة، حيث قال: ولو قيل: الأولي في حقها التَّنُور مطلقاً لما كان بعيداً أ. هـ فتأمل ذلك.(1/97)
ولا اعتبار للزغب، وهو الشعر الضعيف الناعم، ولا للخضرة، وهي تغير يصحب بشرة القبل عند اقتراب خروج الشعر.
3- اكتمال السن خمس عشرة سنة (1)
__________
(1) انظر تفصيل القول في تلك الأمور في المغني: (1/513-515) ومنار السبيل: (1/386) وعند الشافعية كما في الوجيز: (1/76) ، اعتبار نبات العانة في حق أولادً الكفار لعسر الوقوف على سنهم، ولهم في أولاد المسلمين وجهان، أصحهما عدم اعتبار ذلك علامة على البلوغ لسهولة مراجعة آبائه لمعرفة سنه كما في المنهاج وشرحه السراج الوهاج: (230) ، وقد انفرد الحنفية فلم يعتبروا الإنبات علامة على البلوغ كما في رد المحتار: (6/153) ، ولا ينبغي أن يعول على قولهم لمخالفته النص الثابت في السنن بإسناد صحيح حسن عن كعب القرظي – رضي الله تعالى عنه – قال: كنت من سبي قريظة، فكانوا ينظرون، فمن أنبت الشعر قتل ومن لم ينبت لم يقتل، فكنت فيمن لم ينبت، وفي رواية: فكشفوا عن عانتي فوجدوها لم تنبت فجعلوني في السبي، انظر سنن أبي داود – كتاب الحدود – باب في الغلام يصيب الحد: (4/561) ، وسنن الترمذي – كتاب السير – باب ما جاء في النزول على الحكم: (5/319) ، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح والعمل على هذا عند بعض أهل العلم يرون الإنبات بلوغاً إن لم يعرف احتلامه ولا سنه، وهو قول أحمد وإسحاق أ..هـ وانظر الحديث في سنن النسائي – كتاب الطلاق – باب متى يقع طلاق الصبي: (6/126-127) وسنن ابن ماجه – كتاب الحدود – باب من لا يجب عليه الحد: (2/849) ، ومسند أحمد: (4/383،341،310، 5/372،312) ، وصحيح ابن حبان – كتاب الحدود – باب حد البلوغ: (360) موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان، وسنن الدارمي – كتاب السير – باب حد الصبي متى يقتل –: (2/223) ، وشرح معاني الآثار: (3/216-217) ، وسنن البيهقي – كتاب الحجر – باب البلوغ بالإنبات –: (6/57-58) ، وفيه أيضاً عن ابن عمر – رضي الله تعالى عنهما – قال: إذا أصاب الغلام، فارتبت فيه: احتلم أم لا، فانظر إلى عانته، وكما انفرد الحنفية في عدم اعتبار الإنبات دليلا ً على البلوغ فقد انفرد المالكية أيضاً في تحديد البلوغ بالسن فقالوا المدة المقدرة للبلوغ هي ثماني عشرة سنة، كما في الشرح الكبير: (3/46) معه حاشية الدسوقي، ونقل عن مالك أيضاً تحديد المدة بسبع عشرة سنة، كما في تفسير القرطبي: (5/35) ، ونقل عن أبي حنيفة تحديد المدة بثماني عشرة سنة للذكر، وسبع عشرة سنة للأنثى، لكن المعتمد عند الحنفية خمس عشرة سنة لكل منهما كما ورد في رد المحتار: (6/153) ، وكما أنه لا تعويل على قول الحنفية في عدم اعتبار الإنبات، فلا تعويل أيضاً على قول المالكية في تحديد المدة بما زاد على خمس عشرة سنة، لأنه يصادم النص أيضاً ففي الصحيحين وغيرهما عن ابن عمر – رضي الله عنهم أجمعين – قال: عرضني رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يوم أحد في القتال، وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني، وعرضني يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني، قال نافع: فقدمت على عمر بن عبد العزيز – وهو يومئذ خليفة رحمهم الله تعالى جميعاً – فحدثته هذا الحديث فقال: إن هذا لحد بين الصغير والكبير، فكتب إلى عماله أن يفوضوا لمن كان ابن خمس عشرة سنة، ومن كان دون ذلك، فاجعلوه في العيال أ. هـ هذا لفظ الحديث في صحيح مسلم – كتاب الإمارة – باب بيان سن البلوغ: (3/1490) ، وانظره في صحيح البخاري – كتاب الشهادات – باب بلوغ الصبيان وشهادتهم: (5/276) ، وكتاب المغازي – باب غزة الخندق –: (7/492) بشرح ابن حجر فيهما، وانظره في سنن أبي داود – كتاب الحدود – باب في الغلام يصيب الحد: (4/561) ، وكتاب الخراج والإمارة – باب متى يُفْرضُ للرجل في المقاتلة؟: (3/362) ، وسنن الترمذي – كتاب الجهاد – باب ما جاء في حد بلوغ الرجل، ومتى يفرض له: (6/32) ، وسنن النسائي – كتاب الطلاق – باب متى يقع طلاق الصبي؟: (6/127) ، وسنن ابن ماجه – كتاب الحدود – باب من لا يجب عليه الحد: (2/850) ، ومنحة المعبود في ترتيب مسند الطيالسي أبي داود: (1/297) ، ومسند أحمد: (2/17) ، وشرح معاني الآثار – كتاب الحدود – باب بلوغ الصبي بدون احتلام فيكون في معنى البالغين: (3/218) ، وقد قوَّى الإمام الطحاوي في شرح معاني الآثار: (3/220) هذا القول من حيث النظر أيضاً، وخلاصة ما قاله: أن الغالب على الذكور والإناث الاحتلام في سن خمس عشرة سنة والحكم للأمر الغالب، لا للخاص أ. هـ.
وقرر الإمام أبو بكر بن العربي في أحكام القرآن: (2/320) القول باعتماد الإنبات، وخمس عشرة سنة في بلوغ من اتصف بأحدهما، ورد على الحنفية والمالكية معاً، وختم الكلام بقوله: والسن التي اعتبرها النبي – صلى الله عليه وسلم – أولى من سن لم يعتبرها، ولا قام في الشرع دليل عليها، وكذلك اعتبر النبي – صلى الله عليه وسلم – الإنبات في بني قريظة، فمن عذيري ممن يترك أمرين اعتبرهما النبي – صلى الله عليه وسلم – فيتأوله، ويعتبر ما لم يعتبره رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لفظاً، ولا جعل له في الشريعة نظراً(1/98)
الشرط الثالث: بلوغ الدعوة
... ودل على اشتراط هذا الأمر لتكليف العباد بتوحيد رب الأرض والسماء آيات كثيرة، وأحاديث وفيرة، سأقتصر منها على عشر آيات كريمات، وعلى أحاديث خير البريات – عليه أفضل السلام وأتم الصلوات –.
... أما الآيات الكريمات، ففي بعضها يخبر – جل وعلا – أنه لن يعذب المكلفين، حتى يرسل إليهم الرسل الصادقين – عليهم أفضل الصلاة وأتم التسليم – قال الله – تبارك وتعالى –: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} الإسراء15 وفي بعضها يخبر – جل وعلا – أنه ما عاقب أمة إلا من بعد إرسال الرسل الكرام – عليهم صلوات الله وسلامه – إليهم، قال الله – جل وعز –: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنذِرُونَ ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ} الشعراء208-209، وقال – جل وعلا –: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} القصص59، وفي بعضها يخبر – جل وعلا – أنه لو عذب الناس قبل إرسال الرسل الكرام – عليهم صلوات الله وسلامه – إليهم، لاحتجوا على ربهم بأنه لم يرسل إليهم ما يهديهم به، قال الله – جل ثناؤه –: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى} طه 134، وقال – جل وعلا –: {وَلَوْلَا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} القصص 47وقد أخبرنا ربنا – جل وعلا – أنه أرسل الرسل الكرام – عليهم صلوات الله وسلامه – ليقطع ذلك الكلام فقال – عز شأنه –: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ(1/99)
وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً} النساء 163-165، وقال – تبارك وتعالى - {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ} الأنعام 155-157، وفي بعض الآيات يخبر – جل وعلا – أن إرسال الرسل الكرام – عليهم صلوات الله وسلامه – قد وقع على أحسن ما يرام وبلغوا دعوة الله وبينوها أحسن بيان، لذلك بن ينفع الكفار أمنياتهم، ولن تقبل منهم اعتذاراتهم وتعليلاتهم قال – جل جلاله –: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ بَلَى قَدْ جَاءتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ}(1/100)
الزمر 54-59، وفي بعض ... الآيات يخبر – جل وعلا – أن الكفار عندما يساقون إلى النار تقول لهم خزنة جهنم: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} الملك 8 وهكذا تكرر عليهم الخزنة هذا القول بعد أن يلقون فيها، فيعترفون ويقرون بأن الرسل الكرام – عليهم الصلاة والسلام – جاءتهم، ولكنهم كذبوهم وكفروا بما أنزل عليهم، قال الله – جل وعز –: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} الزمر 70-71، وقال – تبارك وتعالى –: {وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقاً لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ} الملك 6-11.(1/101)
.. هذه عشر آيات من القرآن الكريم، تقرر أن الله العظيم، لا يؤاخذ المكلفين، إلا بعد أن يرسل إليهم رسله الصادقين – عليهم أفضل الصلاة وأتم التسليم – وقد ثبت هذا المعنى عن نبينا الأمين – عليه صلاة الله وسلامه – في أحاديث كثيرة رواها عنه أئمة الدين، منها ما في صحيح البخاري وغيره عن أبي سعيد الخدري – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: "يجيء نوح وأمته فيقول الله تعالى: هل بلغت؟ فيقول: نعم أي رب، فيقول لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: لا، ما جاءنا من نبي، فيقول لنوح: من يشهد لك؟ فيقول: محمد – صلى الله عليه وسلم – وأمته، فنشهد أنه قد بلغ: وهو قوله – جل ذكره –: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} البقرة143، والوسط العدل.(1/102)
والحديث رواه الإمام أحمد وابن ماجه – رحمهم الله جميعاً – بلفظ أتم من هذا وأشمل، وهذا لفظ ابن ماجه، عن أبي سعيد الخدري – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – " يجيء النبي ومعه الرجلان، ويجيء النبي ومعه الثلاثة، وأكثر من ذلك وأقل، فيقال له: هل بلغت قومك؟ فيقول: نعم، فيدعى قومه، فيقال لهم: هل بلغكم؟ فيقولون: لا، فيقال: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فتدعى أمة محمد، فيقال: هل بلغ هذا؟ فيقولون: نعم، فيقول: وما علمكم بذلك؟ فيقولون: أخبرنا نبينا بذلك أن الرسل قد بلغوا، فصدقناه، قال: فذلكم قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} البقرة143 (1) .
__________
(1) انظر رواية الحديث الأولى في صحيح البخاري – كتاب أحاديث الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – باب 3: (6/371) ، وكتاب التفسير – تفسير سورة البقرة – باب 13: (8/171) ، وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة – باب 19 –: (13/316) بشرح ابن حجر في الأماكن الثلاثة، وانظر الحديث في سنن الترمذي – كتاب التفسير – تفسير سورة البقرة: (8/158) ، ومسند أحمد: (3/32) ، وانظر الرواية الثانية في سنن ابن ماجه – كتاب الزهد – باب صفة أمة محمد – صلى الله عليه وسلم –: (2/1432) رقم 4284 ومسند أحمد: (3/58) ، قال ابن حجر في الفتح: (8/172) ، ورواه النسائي – أي في السنن الكبرى، والاسماعيلي، أي في مستخرجه على البخاري.(1/103)
والحديث صريح في أن الحجة لا تقوم على المكلفين إلا بعد بلوغهم شرع رب العالمين، ولذلك سيسأل ربنا كل واحد عن هذا الأمر، لئلا يكون له عذر، كما في صحيح البخاري عن عدي بن حاتم – رضي الله تعالى عنه – عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: "وليَلْقيَّن اللهَ أحدُكم يوم يلقاه وليس بينه وبيه تَرْجمان يترجم له، فيقولن: ألم أبعث إليك رسولاً فيبلغك؟ فيقول: بلى (1) "
إشكال ورده:
... إن قيل: إن الإقرار بوجود الواحد القهار، ووجوب تعظيمه ثابت في العقول، فلم توقف إيجاب ذلك على مجيء الرسول – صلى الله عليه وسلم –؟.
والجواب:
... إن سبب ذلك يدور على أمرين اثنين:
__________
(1) انظر صحيح البخاري – كتاب المناقب – باب علامات النبوة في الإسلام –: (6/610) بشرح ابن حجر ورواه ابن خزيمة في التوحيد: (152) .(1/104)
أولهما: إن العقل وإن دل على الإقرار بوجود الخالق، ووجوب تعظيمه، وشناعة الشرك، وقبح المصير إليه، فلا عقاب على ترك ذلك الواجب والتلبس بضده إلا بعد الشرع المطهر، كما دل على ذلك الآيات المتقدمات، وللإمام ابن القيم – عليه رحمة الله تعالى – في تحقيق هذا الموضوع كلام حسن قيم، هذه خلاصته: والحق أن وجوب التوحيد ثابت بالعقل والسمع، والقرآن على هذا يدل، فإنه يذكر الأدلة والبراهين العقلية على التوحيد، ويبين حسنه، وقبح الشرك عقلا ً وفطرة، ويأمر بالتوحيد، وينهى عن الشرك، ولهذا ضرب الله – سبحانه وتعالى – الأمثال وهي الأدلة العقلية، وخاطب العباد بذلك خطاب من استقر في عقولهم وفطرهم حسن التوحيد ووجوبه وقبح الشرك وذمه، والقرآن مملوء بالبراهين العقلية الدالة على ذلك، كقوله – جل وعلا –: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} الحج 73-74، ولكن ههنا أمر آخر، وهو أن العقاب على ترك هذا الواجب يتأخر على حين ورود الشرع، كما دلت على ذلك الآيات الكريمات، فقوله – جل وغلا –: {ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} الأنعام131 يدل على أنهم ظالمون قبل إرسال الرسل الكرام – عليهم الصلاة والسلام – وأنه لا يهلكهم بهذا الظلم قبل إقامة الحجة عليهم.(1/105)
.. ولهذا كان الصواب وجوب التوحيد بالسمع والعقل، وإن اختلفت جهة الإيجاب، فالعقل يوجب بمعنى اقتضائه لفعله، وذمه على تركه وتقبيحه لضده، وإذا لم يكن حُسْنُ التوحيد، وقُبْحُ الشرك معلوماًَ بالعقل مستقراً في الفطر، فلا وثوق بشيء من قضايا العقل، فهذه القضية من أجلِّ القضايا البديهيات، وأوضح ما ركب الله – جل وعلا – في العقول والفطر، والسمع يوجبه بهذا المعنى، ويزيد إثبات العقاب على تركه، والإخبار عن مقت الرب – جل وعلا – لتاركه، وبغضه له، وهذا قد يُعْلم بالعقل أيضاً فإنه إذا تقرر قبح الشيء وفحشه بالعقل، وعلم ثبوت كمال الرب – جل جلاله – بالعقل أيضاً، اقتضى ثبوت هذين الأمرين علم العقل بمقت الرب – تبارك وتعالى – لمرتكبه، وأما تفاصيل العقاب، وما يوجبه مقت الرب – جل وعلا – فإنما يعلم بالسمع (1) .
ثانيهما: أن العقول وإن دلت على ذلك، فتلك الدلالة على وجه الإجمال، ولابد من تفصيل ما يجب لله – جل وعلا – على عباده من حقوق وواجبات، وما يتصف به من صفات الكمال، وبيان ما يضاد ذلك الحال، فالعقول لا تهدى لتفاصيل ذلك، فيلزم التفصيل والبيان، لرفع اللبس والإبهام، وذلك عن طريق الرسل الكرام – عليهم الصلاة والسلام – ورحمة الله على الإمام ابن القيم حيث يقول في بيان مكانة الرسل الكرام – عليهم الصلاة والسلام – ووظيفتهم:
وكان الناس في لَبْس ٍ عظيم ٍ ... فجاؤا بالبيان ِ فأظهروهُ
وكان الناس في جَهْل عظيم ٍ ... فجاؤا باليقين فأذهبوه ُ
وكان الناس في كُفْر عظيم ٍ ... فجاؤا بالرَّشَادِ فأبْطلوه ُ (2)
الشرط الرابع للتكليف بالتوحيد:
__________
(1) انظر مدارج السالكين: (1/488-492) مع تصرف يسير، واختصار كثير.
(2) انظر مدارج السالكين: (1/406) ، وصفحة: (112/113) من هذا المبحث المبارك.(1/106)
.. سلامة إحدى حاستي السمع والبصر، لأنه بسلامة إحدى هاتين الحاستين يتم حصول إعلامه بالمطلوب منه عن طريق السماع أو الرؤية، أما إذا فقدا معاً فلا يتأتى إخباره، ولا يحصل إبلاغه، فحكمه حكم فاقد العقل، ومن كان هذا حاله فالقلم مرفوع عنه، كما تقدم تقرير هذا، مع بيان ما يدل عليه (1) .
مسألة مهمة:
... تقدم أن شروط التكليف بالتوحيد أربعة، وإذا انخرم واحد منها فلا عقاب في تلك الحال على من فرط في توحيد الله ذي الجلال، ويترتب على هذا مسألة تدور في البال، وهي: ما مصير الذين لم تكتمل فيهم شروط التكليف بالتوحيد في الآخرة؟ وللجواب على هذا السؤال تُحتَّمُ الأدلة تقسيمَ هذه المسألة إلى قسمين، إليك بيان الحكم في كل قسم:
القسم الأول:
أن يكون من لم تكتمل فيه شروط التكليف بالتوحيد من أولاد المسلمين الذين ماتوا صغاراً، فلأهل السنة الكرام فيهم قولان:
__________
(1) انظر صفحة: (49-53) من هذا المبحث المبارك، وانظر حاشية الأمير: (30)(1/107)
1- الوقف في أمرهم، وتفويض حالهم إلى ربهم – جل وعلا – قال بهذا جماعة من أهل الفقه والحديث منهم الحمادان – ابن سلمة بن دينار، وابن زيد بن درهم (1) ، وعبد الله بن المبارك، وإسحاق بن راهُوْيَهْ (2) – رحمهم الله جميعاً –.
__________
(1) وكل منهما ثقة إمام، والفرق بينهما في العبادة والورع كالفرق بين مقدار اسميْ والديْهما في الصرف كما في ميزان الاعتدال: (1/592) نقلا ً عن الإمام أحمد، ونص كلامه: الفضل بينهما كفضل الدينار على الدرهم، وانظر توجيه القول في تهذيب التهذيب: (3/11) .
(2) هو شيخ الشيخين وغيرهما وقرين الإمام أحمد – رحمهم الله جميعاً – وهو الذي حرك عزيمة البخاري لتصنيف كتابه الجامع الصحيح كما في تهذيب التهذيب: (1/216) ، وهدي الساري: (7) واعلم أن كلمة " راهُوْيَهْ " ونظائرها كسَيْبُوَيهْ، وخالُوْيَهْ، ومَرْدُوْيَهْ، تضبط عند المحدثين بضم ما قبل الواو، وسكون الواو، وفتح الياء مع إسكان الهاء، وهذا هو ضبطها بالفارسية، وإنما ذهب المحدثون إلى هذا لأنهم لا يحبون وَيْهْ كما في تدريب الراوي: (226) نقلا ً عن الحافظ أبي العلاء العطار، وفي المقاصد الحسنة: (454) : ويه اسم شيطان، ورواه أبو عمر التوقاني في معاشرة الأهلين له عن ابن عمر – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – من قوله، وكذا عن إبراهيم النخعي أيضاً، وأما أهل اللغة فيضبطون ما تقدم بفتح الواو وما قبلها، وسكون الياء، ثم هاء ساكنة، انظر تفصيل ذلك في تدريب الراوي: (226) ، وتهذيب الأسماء واللغات: (2/258) – القسم الأول – وطبقات المفسرين للداودي: (1/19) ، وبغية الوعاة: (1/428) ، ووفيات الأعيان: (3/465، 4/281) ، ومعجم الأدباء: (1/255) ، وكشف الخفاء: (2/340) ، وتمييز الطيب من الخبيث: (188) .(1/108)
.. وعمدة هذا القول ما ثبت في صحيح مسلم وغيره عن أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنها – قالت: دُعي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى جنازة صبي من الأنصار، فقلت: يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – طوبى لهذا عصفورٌ من عصافير الجنة، لم يعمل السوء، ولم يدركه، قال: "أوغير ذلك يا عائشة، إن الله خلق للجنة أهلا ً خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلا ً خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم (1) ".
__________
(1) انظر – صحيح مسلم – كتاب القدر – باب معنى مولود يولد على الفطرة، وحكم موتى أطفال الكفار وأطفال المسلمين: (16/212) بشرح النووي، ورواه النسائي في كتاب الجنائز – باب الصلاة على الصبيان: (4/46) ،وابن ماجه في المقدمة – باب في القدر –: (1/32) ، وأحمد في المسند: (6/208،41) ، والآجري في الشريعة: (196) والبهقي في الاعتقاد: (165) ، وأبو داود الطيالسي كما في منحة المعبود في ترتيب مسند الطيالسي أبو داود – أول كتاب القدر –: (1/30) ، وقد أبعد النجعة الإمام القرطبي في التذكرة: (609) فاقتصر في عزو الحديث إلى أبي داود الطيالسي فقط.(1/109)
.. وليس في الحديث الشريف دلالة على ذلك القول عند التحقيق، لأن الحديث يدل على أنه لا يُشهد لكل طفل من أطفال المؤمنين بالجنة، وإن أطلق على أطفال المؤمنين في الجملة أنهم في الجنة، لكن الشهادة للمعين ممتنعة، وهذا كما يشهد للمؤمنين مطلقاً أنهم في الجنة، ولا يشهد لمعين بذلك، إلا من شهد له النبي – صلى الله عليه وسلم – فهذا وجه الحديث الشريف الذي يشكل على كثير من الناس، ورده الإمام أحمد – رحمه الله تعالى – وقال: لا يصح، ومن يشك أن أولاد المسلمين في الجنة، وتأوله قوم تأويلات بعيدة، أفاد ذلك الإمام ابن القيم – عليه رحمة الله تعالى – قال الإمام النووي – عليه رحمة الله تعالى –: توقف فيه – أي في الحكم بالجنة لمن مات من أطفال المسلمين – بعض من لا يعتد به لحديث عائشة – رضي الله تعالى عنها – وأجاب العلماء بأنه لعله نهاها عن المسارعة على القطع من غير أن يكون عندها دليل قاطع، ويحتمل أنه – صلى الله عليه وسلم – قال هذا قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة (1)
__________
(1) انظر القولين في طريق الهجرتين: (520) ، وتهذيب السنن لابن القيم: (7/83) ،وشرح صحيح مسلم: (16/207) ، وفي قول النووي: توقف بعض من لا يعتد به، شيء من المجازفة، فقد قال بذلك القول أئمة أعلام صالحون كرام، وليت النووي قال: توقف فيه بعضهم لكان أقوى وأقوم، وبذلك عبر الحافظ في الفتح: (3/245) عندما نقل كلام النووي. وقال الأبَّي في شرح صحيح مسلم: (7/93) نقلا ًعن القاضي عياض بعد أن حكى الإجماع على أن أولاد الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – في الجنة إذا ماتوا صغاراً: وكذلك أولاد المسلمين عند الجمهور، وتوقف في ذلك بعض العلماء ... إلخ وهي عبارة سديدة محكمة رشيدة، وهكذا حكى الحليمي في المنهاج في شعب الإيمان: (1/159) ، توقف بعض العلماء في أولاد المسلمين، ثم زاد الحليمي تعليلا ً آخر لإنكار النبي – صلى الله عليه وسلم – على أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنها – فقال: يحتمل أن يكون إنكار النبي – صلى الله عليه وسلم – عليها لأن القطع بأن الصبي في الجنة قطع بإيمان أبويه، ويحتمل أن يكونا منافقين فيكون الصبي ابن كافرين 1هـ ملخصاً، وقد نقل ذلك عنه القرطبي في التذكرة: ((608)) ، وهو قول غريب وتعليل عجيب وسيأتيكم بيان حكم أولاد المشركين عما قريب إن شاء السميع المجيب.(1/110)
ذهب جمهور العلماء إلى نجاتهم والحكم لهم بدخول الجنة وبعضهم حكى الاتفاق على هذا وتقى الخلاف في هذه المسألة، وقال الإمام ابن كثير في تفسيره – عليه رحمة الله تعالى –: أما ولدان المؤمنين فلا خلاف بين العلماء – أي: في نجاتهم وكونهم من أهل الجنة – كما حكاه القاضي أبو يعلى بن الفراء عن الإمام أحمد رحمهم الله جميعاً – أنه قال: لا يختلف فيهم أنهم من أهل الجنة، وهذا هو المشهور بين الناس وهو الذي نقطع به إن شاء الله – عز وجل – ثم حكم على القول الأول القائل بالوقف فيهم بأنه غريب جداً أ. هـ وقول الإمام أحمد نقله الإمام ابن القيم في طريق الهجرتين وقال بمضمونه الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم، وعبارته: أجمع من يعتد به من علماء المسلمين على أن من مات من أطفال المسلمين فهو من أهل الجنة (1) ، قال كاتب هذه الصفحات – غفر الله الكريم له الزلات – لا إجماع في هذه المسألة على الصحيح والقول بنجاة أولاد المسلمين ودخولهم الجنة هو القول الصحيح الذي يدل عليه النقل الثابت الصحيح من آيات القرآن وأحاديث نبينا خير الأنام عليه الصلاة والسلام.
__________
(1) انظر تفسير ابن كثير: (3/32) ، وطريق الهجرتين وباب السعادتين: (506) وشرح النووي لصحيح مسلم: (16/207) ، وانظر حكاية هذا القول عن الجمهور مع الميل إلى قبوله وتصحيحه في المنهاج في شعب الإيمان: (1/160) ، والتذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة: (608) ، وإلى هذا القول مال البخاري كما يشعر بذلك صنيعه في صحيحه كما في الفتح: (3/245)(1/111)
أما القرآن الكريم فقد وردت بالإشارة إلى ذلك في آيتين من آي الذكر الحكيم الآية الأولى: قول ربنا – تبارك وتعالى –: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} المدثر38-43، وأصحاب اليمين يشمل أولاد المسلمين الذين ماتوا صغاراً كما يشمل اللفظ أيضاً المؤمنين والملائكة وتفسيره بالأول ثابت عن صحابيين جليلين – رضي الله عنهم أجمعين – الأول على بن أبي طالب – رضي الله تعالى عنه – روى الحاكم وغيره بإسناد صحيح عن علي – رضي الله تعالى عنه – في قوله عز وجل –: " كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ " قال: هم أطفال المسلمين (1) .
والثاني ابن عمر –رضي الله تعالى عنهما – أخرج ذلك عنه ابن المنذر وغيره – رحمهم الله جميعاً– (2) .
__________
(1) انظر المستدرك – كتاب التفسير – سورة المدثر: (2/507) ، وقال هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وأقره الذهبي ورواه عنه الطبراني أيضاً: (29/104) وعبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور: (6/285) وساقه الفراء في معاني القرآن: (3/5) بالسند إلى عليّ – رضي الله تعالى عنه –.
(2) روى ذلك عن ابن عمر سعيدُ بنُ منصور، وابنُ أبي شبية، وابنُ المنذر – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – كما في الدر: (6/285) .
وقد ورد عن السلف الصادقين تفسير أصحاب اليمين بالملائكة وبالمؤمنين المخلصين والآية شاملة لجميع ذلك على الصحيح وقد رجح الفراء في معاني القرآن: (3/205) ، والخازن في لباب التأويل: (7/179) تفسيرهم بأولاد المسلمين لأمرين: أ- لم يكتسبوا إثماً يرتهنون به. ب- ذكر ربنا جل وعلا – في وصفهم: {فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} المدثر، وهذا إنما يليق بالولدان لأنهم لم يعرفوا الذنوب، فسألوا: " مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ "، وقد نقل الرازي في تفسيره: (30/210) وابن الجوزي في زاد المسير: (8/411) ترجيح الفراء وأقراه وفي تفسير الطبري: (29/104) تعليل لذلك القول كما علل به القراء وانظر تفسير الآية الكريمة في روح المعاني: (29/131-132) ،وتفسير القرطبي: (19/86-87) ، ومعالم التنزيل: (7/179) ، ومدارك التنزيل: (5/291) .(1/112)
الآية الثانية: قول الله – جل وعلا –: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} الطور21.
... وهذه الآية الكريمة تحتمل أمرين، كل منهما منقول مأثور، والجمع بينهما هو الذي تقتضيه صرائح العقول، والقول الثاني منهما، يدل على مسألتنا، وإليك تفصيلهما:(1/113)
1- تحتمل الآية الكريمة أن المؤمنين إذا تبعتهم ذريتهم في الإيمان، فآمنت الذرية كما آمنوا يلحق الله العظيم الذرية بآبائهم في المنزلة، والدرجة يوم الدين، وإن لم يبلغوا عملهم ولم يستحقوا منزلتهم تفضيلا ً من الله وكرماً، وامتناناً ولطفاً لتقر أعين الآباء، وليكتمل الأنس والصفاء، ثبت في المستدرك وغيره بإسناد صحيح عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – قال: إن الله – جل وعلا – يرفع ذرية المؤمن معه في درجته في الجنة وإن كانوا دونه في العمل، ثم قرأ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ} الطور21، يقول: وما نقصناهم، وقد روى البزار ذلك عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – مرفوعاً إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – ولفظه: قال قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "إن الله ليرفع ذرية المؤمن إليه في درجته، وإن كانوا دونه في العمل لتقرَّبهم عينه" ثم قرأ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ} الطور21 ثم قال: وما نقصنا الآباء بما أعطينا البنين (1) .
__________
(1) انظر أثر ابن عباس الموقوف في المستدرك – كتاب التفسير – سورة الطور –: (2/468) ، وسكت عنه الحاكم والذهبي، وانظره في تفسير الطبري: (27/15-16) ، ورواه عنه سعيد بن منصور، وهناد بن السري وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في السنن كما في الدر المنثور: (6/119) وفي لفظ لأبي حاتم عنه قال: هم ذرية المؤمن يموتون على الإسلام فإن كانت منازل آبائهم أرفع من منازلهم لحقوا بآبائهم، ولم ينقصوا من أعمالهم التي عملوا شيئاً، وحديثه المرفوع رواه البزار كما في مجمع الزوائد – كتاب التفسير – سورة الطور: (7/114) وقال الهيثمي: فيه قيس بن الربيع وثقه شعبة والثوري، وفيه ضعف 1هـ رواه ابن مَرْدُوْيَهْ أيضاً كما في الدر المنثور: (6/119) ورواه النحاس في الناسخ والمنسوخ كما في تفسير القرطبي: (17/66) وقال: فصال الحديث مرفوعاً إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – وكذا يجب أن يكون، لأن ابن عباس لا يقول هذا إلا عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لأنه إخبار عن الله – عز وجل – بما يفعله، وروي ابن مَرْدُوْيَهْ أيضاً كما في الدر: (6/119) والطبراني في الصغير والكبير عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: "إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه وزوجته وولده، فيقال: إنهم لم يبلغوا درجتك وعملك، فيقول: يا رب قد عملت لي ولهم، فيؤمر بإلحاقهم به" وقرأ ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما –: "وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ" الآية، قال الهيثمي: فيه محمد بن عبد الرحمن بن غزوان، وهو ضعيف.(1/114)
وعلى هذا القول فالمراد من الذرية الأولاد الكبار، وقوله:"بإيمان" في محل نصب الحال من الفاعلين وهم الذرية الكبار الذين تبعوا آبائهم في الإيمان، ولذلك قال النسفي: نُلحِقُ الأولاد بإيمانهم وأعمالهم درجات الآباء، وإن قصرت أعمال الذرية عن أعمال الآباء 10هـ ويصح الجار والمجرور "بإيمان" متعلقاً بالإتباع - أي اتبعتهم ذريتهم بإيمان في الجملة قاصر عن رتبة إيمان الآباء، وإليه مال الألوسي (1) .
__________
(1) انظر قول النسفي في مدارك التنزيل: (5/99) ، وانظر ذلك التقدير في تفسير القرطبي: (17/67) وانظر قول الألوسي في روح المعاني: (27/32) ، وهو في البحر المحيط أيضاً: (8/148) ، وإرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم: (8/148) .(1/115)
2- تحتمل الآية المباركة أيضاً: أن الله – جل ثناؤه – يلحق الأبناء الصغار وإن لم يبلغوا زمن الإيمان بآبائهم المؤمنين في درجتهم ومنزلتهم في جنات النعيم، ليتم للآباء السرور العظيم، تفضيلا ً وإحسانا ً من أرحم الراحمين، وهذا القول كسابقه نقل موقوفاًَ على ابن عباس – رضي الله تعالى عنه – مرفوعاً إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – ولفظه: "إن المسلمين وأولادهم في الجنة، وإن المشركين وأولادهم في النار"، قال الحافظ في الفتح: وهذا أصح ما ورد في تفسير هذه الآية، وبه جزم ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما (1) .
__________
(1) انظر فتح الباري: (3/245) ، وانظر أثر ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – الموقوف في تفسير الطبري: (27/15) ونقله الطبري أيضاً عن الضحاك، وجابر بن زيد – رحمهم الله جميعاً – ورواية على – رضي الله تعالى عنه – المرفوعة رواها عبد الله بن أحمد في زوائده على المسند: (1/134-135) وهي في مجمع الزوائد – كتاب القدر – باب ما جاء في الأطفال –: (7/217) وقال الهيثمي: وفيه محمد بن عثمان لم أعرفه 10هـ والحديث استشهد به الحافظ في الفتح: (3/245) وقال: هذا أصح ما ورد في تفسير الآية، ولم يتكلم على الرواية بشيء، وصنيعه ذلك أن تلك الرواية في درجة الحسن على أقل تقدير حسبما أفصح. عن مسلكه في هدي الساري: (4) وقد أورد الحديث ابن كثير في تفسيره: (4/242) ، والسيوطي في الدر المنثور: (6/119) ، والذهبي في الميزان: (3/642) ، وقال: إن الخبر منكر، ومحمد بن عثمان لا يدري من هو فتشت عنه في أماكن، ونقل ذلك ابن حجر في لسان الميزان: (5/279) وقال: قلت: والذي يظهر لي أنه هو الواسطي المتقدم، أي في: (5/278) وقد ذكر في ترجمته أن الأزدي ضعفه، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال الحافظ في تعجيل المنفعة: (372) قال شيخنا الذهبي ذكره ابن حبان في الثقات أ..هـ وبهذا تعلم أن قول الهيثمي المتقدم في محمد بن عثمان صدر منه قبل رؤيته لترجمة محمد بن عثمان في ثقات ابن حبان، أو ذهل عنه حال الكلام عليه في المجمع، والحديث قد أعله ابن القيم في طريق الهجرتين: (510) من وجهين: أحدهما أن محمد بن عثمان مجهول والثاني أن زادان لم يدرك علياً – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – أ. هـ وكلا الوجهين غير مسلمين، أما زادان فقد أدرك علياً وروى عنه، وهو من رجال مسلم والسنن الأربعة كما في تهذيب التهذيب: (3/302) ، وميزان الاعتدال: (3/63) ،وأما محمد بن عثمان فقد علمت ما جرى حوله من كلام، وقد عقب الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على المسند: (2/259) على كلام الأزدي فيه، بقوله: يغلو في التضعيف بغير حجة، وعقب على كلام الذهبي بقوله: دعوى الذهبي أن الخبر منكر لا دليل عليها، وليس في معناه نكارة، ولذلك قال الشيخ أحمد شاكر: إسناد الحديث حسن على الأقل إن شاء الله تعالى أ. هـ وقد قدمت أن صنيع الحافظ في الفتح يشير إلى ذلك والله أعلم وما ورد في الحديث لشريف من أن أولاد المشركين مع آبائهم فسيأتيك عما قريب تفصيل القول في ذلك – إن شاء الله تعالى – مع الجمع بين أطراف الأدلة.
... انظر روح المعاني: (27/33) ، وتفسير القرطبي: (17/67) ، والحكم للولد بالإيمان تبعاً لأحد أبويه مقرر في الشريعة فالمولود يتبع خير أبوية ديناً، ويتبع أمه في الحرية والرق، ويتبع أباه في النسب كما في حاشية العنقري على الروض المربع: (3/205) .(1/116)
.. وعلى هذا القول فالمراد من الذرية الأولاد الصغار، ويكون قوله – جل وعلا –: "بإيمان" متعلقاً بأحد أمور ثلاثة:
أ- بألحقنا أي: ألحقنا بسبب إيمان الآباء بهم ذريتهم الصغار الذين ماتوا، ولم يبلغوا التكليف فهم في الجنة مع آبائهم.
ب- يجوز أن يتعلق "بإيمان" بقوله: "واتبعتهم" على معنى اتبعتهم بهذا الوصف، بأن حكم لهم به تبعاً لآبائهم ـ فكانوا مؤمنين حكماً لصغرهم وإيمان آبائهم، والصغير يحكم بإيمانه تبعاً لأحد أبويه المؤمن، ذكر هذا والذي قبله الإمام الألوسي – عليه رحمة الله تعالى –.
جـ- قال القرطبي في تفسيره – عليه رحمة الله تعالى –: إن جُعلت الذرية ههنا للصغار كان قوله – جل وعلا – "بإيمان" في موضع الحال من المفعولين، وكان التقدير: بإيمان من الآباء.(1/117)
.. والآية المباركة – كما قدمت تحتمل القولين، والقول بهما هو المتعين فالله – جل وعلا – يتكرم على المؤمنين يوم القيامة فيلحق الذرية الكبار بدرجة الآباء – وإن لم تؤهلهم أعمالهم لدرجات آبائهم – فضلا ً منه ومنة، ويلحق أيضاً الذرية الصغار بدرجة آبائهم، وأن لم يصدر منهم عمل ما لانعدام تكليفهم لصغرهم، وقد رجح الطبري القول الأول ولم يرد القول الثاني، بل ذكر أن له ما يقرره، وإذا كان الطبري رجح القول الأول فإن القول الثاني قد رجحه القاضي منذر بن سعيد البَلُّوطي، وقال به الإمام الشافعي – رحمهم الله جميعاً – وعبارته في كتاب الأم: إن الله – عز وجل – بفضل نعمته أثاب الناس على الأعمال أضعافهما، ومن ّ على المؤمنين بأن ألحق بهم ذرياتهم، ووفر عليهم أعمالهم، فقال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ} الطور21 فلما منّ على الذراري بإدخالهم جنته بلا عمل كان أن منّ عليهم بأن يكتب لهم عمل البر في الحج وإن لم يجب عليهم، ثم قال وقد جاءت الأحاديث في أطفال المسلمين أنهم يدخلون الجنة (1) .
__________
(1) انظر نسبة ما تقدم وتفصيله في تفسير الطبري: (27/16) ، ونسب الألوسي في تفسيره: (27/32) ترجيحَ القول الأول إلى معظم العلماء , وأكثرهم، وإليه يظهر ميل ابن كثير في تفسيره: (4/242) وانظر قول القاضي منذر بن سعيد في البحر المحيط: (8/149) وروح المعاني: (27/32) ومنذر بن سعيد البَلُّوطي هو القاضي العادل الذي لا تأخذه في الله لومة لائم، وبقي في القضاء في الأندلس ستة عشر عاماً لم يحفظ عليه جور في قضية ولا قسم بغير سوية، جمع صنوف الخير، والتقوى والزهد، ومواقفه مع الأمراء لا تقل عن مواقف الحسن البصري – رحمهم الله جميعاً – توفي سنة 366هـ انظر سيرته العطرة وترجمته المباركة الفاخرة في البداية والنهاية: (11/288) ، وشجرة النور: (1/90) وشذرات الذهب: (3/17) وانظر قول الشافعي في الأم: (2/11) ونقله عنه البيهقي في الاعتقاد: (168) .
... وبوقوفك على ما تقدم لن تتوقف في رد كلام القاسمي في محاسن التأويل: (16/212) حيث قال: وأما من قال في معنى الآية: إن المؤمن ترفع له ذريته فيلحقون به، وإن كانوا دونه في العمل فلا تقتضيه الآية تصريحاً ولا تلويحاً أ. هـ.(1/118)
.. والقول الثاني في الآية الكريمة يقرر القول الصحيح القويم في دخول أطفال المسلمين جنة رب العالمين والله – تعالى – أعلم.
... وأما دلالة السنة المشرفة على دخول أطفال المسلمين الجنة المباركة فمتعددة متنوعة سأقتصر على اثنين منها:
1- الدلالة الأولى ثبوت شفاعة الأولاد لآبائهم وأمهاتهم إذا ماتوا صغاراً:
... روى البخاري في كتاب الجنائز – باب ما قيل في أولاد المسلمين – عن أنس بن مالك – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "ما من الناس مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحِنثَ إلا ادخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم".
... وورد في الصحيحين وغيرهما اعتبار ذلك الفضل لمن مات له اثنان من أولاده، ولفظ الحديث عند البخاري عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنهم أجمعين – أن النساء قلن للنبي – صلى الله عليه وسلم –: اجعل لنا يوماً فوعظهن، وقال: "أيما امرأة مات لها ثلاثة من الولد كانوا لها حجاباً من النار، فقالت امرأة: واثنان؟ قال: واثنان".
... وتلك الفضيلة يحصلها الرجال أيضاً كما تحصلها النساء، وقد وردت بذلك روايات متعددة وأحاديث كثيرة صحيحة، ومنها ما في المسند ومعجم الطبراني الكبير بسند رجاله ثقات عن أبي ثعلبة الأشجعي – رضي الله تعالى عنه – قال قلت مات لي يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولدان في الإسلام، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم –: "من مات له ولدان في الإسلام أدخل الله – عز وجل – الجنة بفضل رحمته إياهما" قال: فلما كان بعد ذلك لقيني أبو هريرة – رضي الله تعالى عنهما – فقال لي: أنت الذي قال له رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في الولدين ما قال؟ قلت: نعم، فقال: لئن قاله لي أحب إليه من مُلْكي حِمْص وفلسطين" أي: لو حصل لي ما حصل لك لكان أحب إلي من ملكي لحصن وفلسطين، وما يحويانه من متاع ثمين.(1/119)
.. وقد وردت الأحاديث الشريفة بزف تلك البشارة العظيمة لمن قدم ولداً واحداً أيضاً ففي سنن الترمذي عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – أنه سمع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: "من كان له فرطان من أمتي أدخله الله بهما الجنة، فقالت عائشة – رضي الله تعالى عنها –: فمن كان له فرط من أمتك؟ قال: فأنا فرط أمتي، لن يصابوا بمثلي (1)
__________
(1) انظر الرواية الأولى عن أنس – رضي الله تعالى عنه – في صحيح البخاري بشرح ابن حجر: (3/244) ورواها البخاري أيضاً في كتاب الجنائز – باب فضل من مات له ولد فاحتسب: (3/118) بشرح ابن حجر والأدب المفرد: (25) وانظرها في سنن النسائي – كتاب الجنائز – باب من يتوفى له ثلاثة –: (4/21) وسنن ابن ماجه – كتاب الجنائز – باب ما جاء في ثواب من أصيب بولده –: (1/512) والمسند: (3/152) وشرح السنة للبغوي – كتاب الجنائز – باب ثواب من مات له ولد فاحتسب: (5/453) ، والحديث رواه ابن حبان بنحوه ولفظه: "من احتسب ثلاثة من صلبه دخل الجنة" انظر موارد الظمآن – كتاب الجنائز – باب موت الأولاد: (185) ، وقد روي معنى ذلك الحديث عن غير أنس – رضي الله تعالى عنه – فرواه البخاري في كتاب الجنائز – باب فضل من مات له ولد فاحتسب: (3/118) ، وفي كتاب الإيمان – باب 9: (11/541) بشرح ابن حجر ورواه في الأدب المفرد: ومسلم في كتاب البر – باب فضل من يموت له ولد فيحتسبه: (4/2028) والبغوي في شرح السنة – العنوان السابق: (5/450-451) ، والترمذي في كتاب الجنائز – باب ما جاء في ثواب من قدم ولداً: (3/365) والنسائي في كتاب الجنائز – باب من يتوفى له ثلاثة: (4/21) وابن ماجه في كتاب الجنائز – باب ما جاء في ثواب من أصيب بولده: (1/512) ، وأحمد في المسند: (2/479،473،276،240) ومالك في الموطأ – كتاب الجنائز – باب الحسبة في المصيبة: (1/235) والحميدي في مسنده: (2/444) ، والطيالسي: (2/46) منحة المعبود، كلهم عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنهم أجمعين بلفظ "لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فتمسه النار، إلا تحلة القسم" ورواه النسائي في المكان المتقدم أيضاً، وأحمد في المسند: (2/510) وسنده جيد كما في تخريج الإحياء: (2/27) عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: "ما من مسلمين يموت لهما ثلاثة أولاد لم يبلغوا الحنث إلا أدخلهما الله وإياهم بفضل رحمته الجنة، وقال: يقال لهم ادخلوا الجنة، قال: فيقولون: حتى يجيء أبوانا، قال ثلاث مرات، فيقولون مثل ذلك، فيقال لهم: ادخلوا الجنة أنتم وأبواكم"، وقد روى هذه الرواية الطبراني في الكبير عن حبيبة – رضي الله تعالى عنها – كما في مجمع الزوائد: (3/7) ، قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح خلا يزيد بن أبي بكرة ولم أجد من ترجمه، وأعاده بإسناد آخر، ورجاله ثقات وليس فيه يزيد بن أبي بكرة، والله أعلم 10هـ وقال المنذري في الترغيب والترهيب: (3/77) ، إسناده حسن جيد ورواه مسلم في المكان المتقدم، وأحمد في المسند: (2/536،419) والبخاري في الأدب المفرد: (24) عن أبي هريرة أيضاً – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – قال: أتت امرأة إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – بصبي لها، فقالت: يا نبي الله ادع الله لي، فلقد دفنتُ ثلاثة، قال: "دفنتِ ثلاثة؟ قالت: نعم، قال: لقد احتظرت بحظار شديد من النار" وفي المسند: (5/83) ، ومعجم الطبراني الكبير كما في مجمع الزوائد: (3/6) عن امرأة يقال لها رجاء – رضي الله تعالى عنها – قالت: كنت عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذ جاءته امرأة بابن لها، فقالت: يا رسول الله، ادع لي فيه بالبركة، فإنه قد توفي لي ثلاثة، فقال لها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – "أمنذ أسلمت؟ قالت: نعم، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – جُنّة حصينة فقال لي رجل: اسمعي يا رجاء ما يقول النبي – صلى الله عليه وسلم – قال الهيثمي رجاله رجال الصحيح، إلا أن الطبراني سماها رحما أ. هـ ورواه أحمد في نفس المكان عن ابن سيرين عن ماوية عن رجل من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – قال الهيثمي في نفس المكان أيضاً: رجاله رجال الصحيح خلا ماوية شيخة ابن سيرين أ. هـ ورواه أبو يعلى والبزار والطبراني في الكبير عن عثمان بن أبي العاص – رضي الله عنهم أجمعين – ولفظه "لقد استجن جُنّة حصينة من سلف له ثلاثة أولاد في الإسلام" ولفظ البزار "بِجُنة كنيفة" وفيه عبد الرحمن بن إسحاق أبو شيبة وهو ضعيف كما في مجمع الزوائد: (3/6) وما قبله يشهد له، وروى أحمد في المسند: (5/164،159،153،151) وابن حبان كما ورد في الظمآن: (185) ، والنسائي في كتاب الجنائز – باب من يتوفى له ثلاثة: (3/21) والبخاري في الأدب المفرد: (25) عن أبي ذر – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "ما من مسلمين يموت بينهما ثلاثة أولاد لم يبلغوا الحنث إلا غفر الله لهما بفضل رحمته إياهم" ورواية ابن حبان وإحدى روايات المسند: "إلا أدخلهما الله الجنة بفضل رحمته إياهم"، وروي أحمد في المسند: (4/184،183) ، وابن ماجه في كتاب الجنائز – باب ما جاء في ثواب من أصيب بولده: (1/512) عن عتبة السلمي – رضي الله تعالى عنه – قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: "ما من مسلم يموت له ثلاثة من الولد، لم يبلغوا الحنث إلا تلقوه من أبواب الجنة الثمانية من أيها شاء دخل" والحديث في درجة الحسن نص على ذلك المنذري في الترغيب والترهيب: (3/75) وابن حجر في الفتح: (3/121) فرجاله كلهم على شرط البخاري إلا شرحبيل بن شفعة الشامي فقد انفرد ابن ماجه عنه من الستة وهو صدوق كما في التقريب: (1/349) ، وانظر بلوغ الأماني: (19/140) فقد حكم البنا عليه بقوله: وسنده جيد وفي المسند: (3/14) عن أبي سعيد الخدري – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "من قدم ثلاثة من ولده حجبوه من النار" وهو حديث صحيح كما في بلوغ الأماني: (19/143) ورواه مُسدَّد كما في المطالب العالية: (1/195) عن أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنها – موقوفاً عليها من قولها وهو في معجم الطبراني الأوسط عنها مرفوعاً بلفظ "من قدم شيئاً" إلخ فيه أبو يحيى التيمي وهو ضعيف، وقال ابن عدي له أحاديث حسنة وبقية رجاله ثقات كما في مجمع الزوائد: (3/9) وروى أحمد في المسند: (4/386) والطبراني في الثلاثة كما في المجمع: (10/279) ورجال أحمد ثقات وقال المنذري في الترغيب والترهيب: وإسناده حسن عن عمرو بن عبسة – رضي الله تعالى عنه – فقال سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: "أيما رجل مسلم قدم لله – عز وجل – من صلبه ثلاثة لم يبلغوا الحنث، أو امرأة فهم له سترة من النار" وفي رواية أخرى في المسند أيضاً: "من ولد له ثلاثة أولاد في الإسلام فماتوا قبل أن يبلغوا الحنث أدخله الله الجنة برحمته إياهم"، وفي المسند: (4/144) ومعجم الطبراني الكبير كما في المجمع: (3/5) ورجال الطبراني ثقات كما في المجمع والترغيب والترهيب: (3/77) عن عقبة بن عامر – رضي الله تعالى عنه – قال سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: "من أثكل ثلاثة من صلبه فاحتسبهم على الله وجبت له الجنة" وفي المسند: (6/431،376) ، ومعجم الطبراني الكبير كما في المجمع: (3/6) ، عن أم سليم وهي أم أنس بن مالك – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – قالت سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: "ما من امرأين مسلمين يموت لهما ثلاثة أولاد لم يبلغوا الحنث إلا أدخلهم الله الجنة بفضل الله ورحمته إياهم" وفي لفظ آخر في المسند: "ما من مسلمين يموت لهما ثلاثة أولاد لم يبلغوا الحنث إلا أدخلهما الله الجنة بفضل رحمته، قالها ثلاثاً" قال الهيثمي: فيه عمرو بن عاصم الأنصاري لم أجد من وثقه ولا من ضعفه، وبقية رجاله الصحيح أ. هـ وعمرو بن الأنصاري روى له البخاري في الأدب المفرد كما في تهذيب التهذيب: (8/59) وحكم عليه ابن حجر في التقريب: (2/73) بأنه مقبول وروى الطبراني كما في المجمع: (3/7) والترغيب والترهيب: (3/77) عن عبد الرحمن بن بشير الأنصاري – رضي الله تعالى عنه – قال قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "من مات له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث لم يرد النار إلا عابر سبيل" يعني الجواز على الصراط المستقيم قال الهيثمي: رجاله موثقون خلا شيخ الطبراني أحمد بن مسعود المقدس لم أجد من ترجمه، وقال المنذري: إسناده لا بأس به، وله شواهد كثيرة، وروى ابن شيبة في المصنف: (2/145) عن أبي أمامة – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "ما من مؤمنين يموت لهما ثلاثة أولاد لم يبلغوا الحنث إلا أدخلهما الله الجنة بفضل رحمته إياهما"، وروي أيضاً في نفس المكان عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: "من احتسب ثلاثة من ولده لم يبلغوا الحنث أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم" وروى البزار بسند رجاله ثقات كما في مجمع الزوائد: (3/8) والطبراني في الكبير بسند صحيح كما في الترغيب والترهيب: (3/78) عن زهير بن علقمة قال: جاءت امرأة من الأنصار – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – بابن لها قد مات، فقالت: يا رسول الله، إنه قد مات لي ابنان سوى هذا، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – "لقد احتظرت من النار بحظار شديد".
... وأما الرواية الثانية التي فيهما اعتبار ذلك الفضل لمن قدم ولديه فقط فرواها البخاري في كتاب العلم – باب هل يجعل للنساء يوم على حدة في العلم؟: (1/195) ، وفي كتاب الجنائز – باب فضل من مات له ولد فاحتسب: (3/118) ، وفي كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة – باب 9: (13/292) ، بشرح ابن حجر في الجميع، ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب – باب فضل من يموت له ولد فيحتسبه: (4/2028) ، وأحمد في المسند: (3/72،34) ، والبغوي في شرح السنة – كتاب الجنائز – باب ثواب من مات له ولد فاحتسبه: (5/454) ، والحديث رواه مسلم أيضاً في المكان المتقدم، وأحمد في المسند: (2/278،246) والحميدي في مسنده: (2/444) عن أبي هريرة وعلقه البخاري في كتاب الجنائز – باب 6: عن شريك عن أبي سعيد وأبي هريرة – رضي الله تعالى عنهم أجمعين –: (3/118) بشرح ابن حجر، ووصله ابن أبي شيبة كما في الفتح: (3/122) ورواه أيضاً في الأدب المفرد: (25) ، ولفظ الحديث أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: "ما من امرأة تقدم ثلاثة من الولد تحتسبهن إلا دخلت الجنة، فقالت امرأة: أو اثنان؟ قال: أو اثنان" ورواه النسائي في كتاب الجنائز – باب ثواب من احتسب ثلاثة من صلبه: (4/20) عن أنس – رضي الله تعالى عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: "من احتسب ثلاثة من صلبه دخل الجنة، فقامت امرأة فقالت: أو اثنان؟ قال: أو اثنان، قالت المرأة: يا ليتني قلت واحداً" ورواه مالك في الموطأ – كتاب الجنائز – باب الحسبة في المصيبة: (1/135) عن أبي النضر السلمي أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: "لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فيحتسبهم إلا كانوا له جنة من النار، فقالت امرأة عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: يا رسول الله أو اثنان؟ قال: أو اثنان" وروى أحمد في المسند: (3/306) بسند رجاله ثقات كما في المجمع: (3/7) ، وابن حبان كما في موارد الظمآن: (185) , والبخاري في الأدب المفرد: (25) عن جابر بن عبد الله – رضي الله تعالى عنهم أجمعين- قال سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: "من مات له ثلاثة من الولد فاحتسبهم دخل الجنة" قال: قلنا يا رسول الله واثنان؟ قال: واثنان" قال محمود بن لبيد فقلت لجابر: أراكم لو قلتم وواحداً لقال: وواحداً، قال: وأنا والله أظن ذلك، وروى عبد الله بن أحمد في زوائده على المسند: (5/312) ، والطبراني في الكبير وأبو يعلى بسند رجاله ثقات كما في مجمع الزوائد: (3/8) ، وقال المنذري في الترغيب والترهيب: (3/78) سنده صحيح ورواه الحاكم في المستدرك: (4/593) ، وقال: صحيح الإسناد على شرط مسلم عن الحارث بن أقيش – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "ما من مسلمين يموت لهما أربعة أولاد إلا أدخلهما الله الجنة بفضل رحمته، قالوا: يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وثلاثة؟ قال: وثلاثة، قالوا: واثنان؟، قال: واثنان، وإن من أمتي لمن يعظم للنار حتى يكون أحد زواياها، وإن من أمتي لمن يدخل بشفاعته الجنة أكثر من مضر" ورواه الإمام أحمد في المسند: (4/212) عن الحارث بن أقيش عن أبي برزة – رضي الله تعالى عنهم – ورجاله ثقات كما في مجمع الزوائد: (3/8) ، وروى أبو داود الطيالسي كما في منحة المعبود: (2/46) وأحمد: (5/237،230) ، عن معاذ بن جبل – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "أوجب ذو الثلاثة، قال معاذ: فقلت يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: وذو الاثنين؟ قال: وذو الاثنين" قال الهيثمي في المجمع: (3/8) : أبو رملة لم أجد من وثقه ولا من ضعفه، وروى أحمد في المسند: (6/396) ، والطبراني في الكبير كما في مجمع الزوائد: (3/8،7) قال الهيثمي: رجاله ثقات، وقال المنذري في الترغيب والترهيب: (3/8) رواة أحمد ثقات عن أبي ثعلبة الأشجعي – رضي الله تعالى عنه – قال: قلت يا رسول الله، مات لي ولدان في الإسلام، فقال: من مات له ولدان في الإسلام أدخله الله – عز وجل – الجنة بفضل رحمته إياهما فلما كان بعد ذلك لقيني أبو هريرة – رضي الله تعالى عنهما – فقال: أنت الذي قال له رسول الله – صلى الله عليه وسلم في الولدين ما قال؟ قلت: نعم، فقال: لئن قاله لي أحب إليّ مما غلقت عليه حمص وفلسطين"، وروى الحاكم في المستدرك: (3/245) – كتاب معرفة الصحابة – رضي الله تعالى عنهم – ذكر مناقب أبي ذر – رضي الله تعالى عنه – قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: "لا يموت بين امرأين مسلمين ولدان أو ثلاثة فيحتسبان، فيريان النار أبدا"، وروى أحمد في المسند: (6/431) ، والطبراني الكبير كما في مجمع الزوائد: (3/8) قال الهيثمي: وفيه عمرو بن عاصم الأنصاري ولم أجد من وثقه ولا من خرجه، وبقية رجاله رجال الصحيح 1هـ وتقدم الكلام على عمرو عند سرد أدلة إثبات هذه الفضيلة العظيمة لمن قدم ثلاثة من ولده عن أم سليم – رضي الله تعالى عنها – قالت: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "ما من مسلمين يموت لهما ثلاثة أولاد لم يبلغوا الحنث إلا أدخلهما الله الجنة بفضل رحمته، قالها ثلاثاً قلت: يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – واثنان؟ قال: واثنان" وروى البزار ورجاله رجال الصحيح كما في مجمع الزوائد (3/8) وأبو يعلى كما في المطالب العالية: (1/197) ، والحاكم في المستدرك: (1/384) وقال صحيح الإسناد وأقره الذهبي عن بريده – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – قال: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يتعهد الأنصار، ويعودهم ويسأل عنهم فبلغه عن امرأة من الأنصار مات ابنها، وليس لها غيره، وأنها جزعت عليه جزعاً شديداً، فأتاها النبي – صلى الله عليه وسلم – فأمرها بتقوى الله، وبالصبر فقالت: يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إني امرأة رَقُوٌب لا ألد، ولم يكن لي غيره، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم –: "الرقوب التي يبقى ولدها، ثم قال ما من امرئ مسلم أو امرأة مسلمة يموت لها ثلاثة أولاد إلا أدخلهم الله بهم الجنة، فقال عمر: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، واثنان؟ قال: واثنان" وروى الطبراني في الكبير بسند فيه المثنى بن الصباح وهو ضعيف كما في مجمع الزوائد: (3/9) وابن أبي شيبة عن أم مبشر – رضي الله تعالى عنها – (في المجمع: أم ميسر والصواب الأول وليس في الصحابيات من اسمها أم ميسر) أن رسول – الله صلى الله عليه وسلم – قال لها: يا أم مبشر من كان له ثلاثة أفراط من ولده أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم، وكانت أم مبشر تطبخ طبيخاً فقالت: وفرطان؟ فقال: أو فرطان".
... وأما حديث اشتراك الرجال والنساء في تلك الفضيلة فقد تقدم تخريجه عند تخريج الأحاديث الدالة على عظيم الثواب لمن قدم ولدين من أولاده، وورد في التخريج أحاديث أخرى أيضاً.
... وأما الرواية الدالة على حصول ذلك الفضل الجزيل لمن قدم ولداً فرواها الترمذي في كتاب الجنائز – باب ما جاء في ثواب من قدم ولداً –: (3/367) ، وقال حديث حسن غريب، ونقل المنذري تحسين الترمذي للحديث في الترغيب والترهيب: (3/80) وسكت عليه بل أقره حسبما يفهم من صنيعه من تصديره الحديث بعن كما أفصح عن هذا في مقدمة كتابه: (1/37) ، ورواه البغوي في شرح السنة – كتاب الجنائز – باب ثواب من مات له ولد فاحتسب: (5/457) ، وأحمد في المسند: (1/334) – وحكم الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على المسند: (5/39 (3098) على إسناد الحديث بالصحة فقال: إسناده صحيح، وقد وردت تلك الفضيلة لمن قدم ولداً في أحاديث أخرى منها ما رواه أحمد في المسند: (5/242) ، والطبراني في الكبير كما في مجمع الزوائد: (3/9) قال الهيثمي: فيه يحيى بن عبد الله التيمي ولم أجد من وثقه ولا من جرحه 1هـ، وقال المنذري في الترغيب والترهيب: (3/80) إسناد أحمد حسن، أو قريب من الحسن عن معاذ بن جبل – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم –: "ما من مسلمين يتوفى لهما ثلاثة إلا أدخلهما الله الجنة بفضل رحمته إياهما، فقالوا: يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أو اثنان؟ قال: أو اثنان، قالوا: أو واحد؟، قال: أو واحد، ثم قال: والذي نفسي بيده إن السّقْط ليجر أمه بسرره إلى الجنة إذا احتسبته" وورد ذلك الفضل في حديث جابر بن سمرة – رضي الله تعالى عنه – عند الطبراني في الأوسط والكبير لكن فيه متروك كما في مجمع الزوائد: (3/10) ، وفي حديث ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه – عند أحمد في المسند: (1/451،429،375) ، والترمذي في كتاب الجنائز – باب ما جاء في ثواب من قدم ولداً: (3/366) ، وقال: هذا حديث غريب، وابن ماجه في كتاب الجنائز – باب ما جاء في ثواب من أصيب بولده: (1/512) لكنه حديث ضعيف ولذلك قال الترمذي غريب، ورمز الترمذي لضعفه في الترغيب والترهيب: (3/81) ، وما تقدم يشهد لهما، وفيه غنية عنهما أيضاً والله – جل وعلا – أعلم.(1/120)
في جنة النعيم يوم الدين، أن من كان سببا ً في حجب أبويه عن النار، ودخولهما الجنة مع الأبرار فهو أولا في حصول ذينك الأمرين له، لأنه أصل الرحمة وسببها، ولهذا كان الصحيح في عود الضمير في قوله: "بفضل رحمته إياهما" إلى الله – عز وجل – والمعنى: بفضل رحمة الله – جل وعلا – للأولاد كما دل على هذا رواية ابن ماجه، ولفظها عن أنس – رضي الله تعالى عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: "ما من مسلمين يتوفى لهما ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا أدخلهم الله الجنة بفضل رحمته إياهم" ورواها أحمد في المسند بلفظ "ما من رجل مسلم يموت له ثلاثة من ولده لم يبلغوا الحنث إلا أدخل الله – عز وجل – أبويه الجنة بفضل رحمته إياهم" وروى النسائي وأحمد وابن حبان عن أبي ذر – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: "ما من مسلمين يموت بينهما ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا أدخلهما الله الجنة بفضل رحمته إياهم"، وفي المسند وسنن النسائي عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: "ما من مسلمين يموت بينهما ثلاثة أولاد لم يبلغوا الحنث إلا أدخلهما الله بفضل رحمته إياهم الجنة، قال: يقال لهم: ادخلوا الجنة، فيقولون: حتى يدخل آباؤنا، فيقال: ادخلوا الجنة أنتم وآباؤكم" هذا لفظ النسائي ولفظ المسند: "إلا أدخلهما الله وإياهم بفضل رحمته الجنة" وباقي الحديث بنحو رواية النسائي، وروى أحمد عن أم سُليم – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – أنها سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: "ما من امرأين مسلمين يموت لهما ثلاثة أولاد لم يبلغوا الحنث إلا أدخلهم الله الجنة بفضل رحمته إياهم" وفي رواية عنها في المسند أيضاً "ما من مسلمين يموت لهما ثلاثة أولاد لم يبلغوا الحنث إلا أدخلهما الله الجنة بفضل رحمته.(1/121)
قالها ثلاثاً (1) ".
الدلالة الثانية الإخبار عنهم بأنهم في الجنة:
__________
(1) تقدم تخريج تلك الروايات تخريجاً مطولاً، وما ذكر من الاستدلال بتلك الروايات على كون الأولاد في الجنة أفاده الحافظ في الفتح: (3/244) ، وقد عد العلماء أن من مقاصد النكاح وفوائده تحصيل الولد وبه يتوصل إلى فضائل كثيرة وأبرزها: إبقاء جنس الإنسان لعبادة الرحمن – جل جلاله – وإقرار عين النبي – صلى الله عليه وسلم – بكثرة أمته، والانتفاع بدعاء الولد إن عاش، وطلب الشفاعة بموته إن مات. انظر تفصيل ذلك مع الكلام على مقاصد النكاح وفوائده السبعة وهي: حصول الولد، والتحصن من الحرام، والتخلص من الفضلات، والأنس بالجنس وترويح النفس بذلك، وكثرة العشيرة ومجاهدة النفس، وتذكرة لذة الآخرة، وفي كتاب الإحياء: (2/22-34) ، وفي شرحه أيضاً زيادة تقرير: (5/285-324) .(1/122)
.. ثبت في صحيح مسلم وغيره عن أبي حسان قال: قلت لأبي هريرة – رضي الله عنهم أجمعين –: إنه قد مات لي ابنان، فما أنت محدثي عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بحديث تطيب به أنفسنا عن موتانا؟ قال: قال نعم، صغارهم دعاميص الجنة، يتلقى أحدهم أباه، أو قال: أبويه، فيأخذ بثوبه، أو قال بيده، كما آخذ أنا بِصَنِفَةِ ثوبك هذا، فلا يتناهى، أو قال: فلا ينتهي حتى يدخله الله وإياه الجنة (1) .
__________
(1) انظر صحيح مسلم – كتاب البر والصلة والآداب – باب فضل من يموت له ولد فيحتسبه –: (16/182) بشرح النووي، ومسند الإمام أحمد: (2/510) ، وشرح السنة للبغوي – كتاب الجنائز – باب ثواب من مات له ولد فاحتسبه: (5/152) ،والأدب المفرد – باب فضل من مات له الولد: (24) وصنفة الثوب بفتح الصاد وكسر النون طرفه، والدعاميص جمع دُعموص بضم الدال وأصل الدعموص دويبة تكون في الماء لا تفارقه أي: أن هذا الصغير في الجنة لا يفارقها، كما في شرح النووي وذكر المنذري في الترغيب والترهيب: (3/76) معنىً ثانياً للدعموص فقال: وقيل: هو اسم للرجل الزوار للملوك الكثير الدخول عليهم والخروج لا يتوقف على إذن منهم، ولا يخاف أين ذهب من ديارهم، شبه به الطفل لكثرة ذهابه في الجنة حيث شاء لا يمتنع من بيت فيها، ولا موضع أ. هـ.(1/123)
وفي مسند الإمام أحمد بسند رجاله ثقات عن بعض أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه سمع النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول: "يقال للولدان يوم القيامة: ادخلوا الجنة، قال: فيقولون: يا رب حتى يدخل آباؤنا وأمهاتنا، قال: فيأتون، قال: فيقول الله – عز وجل –: مالي أراهم مُحْبَنْطِئينَ، ادخلوا الجنة، قال: فيقولون: يا رب آباؤنا وأمهاتنا، قال: فيقول: ادخلوا الجنة أنتم وآباؤكم (1) ".
__________
(1) انظر المسند: (4/105) قال الهيثمي في مجمع الزوائد: (3/11) ورجاله ثقات 1هـ وقد رواه ابن حبان في الضعفاء من طريق آخر لا يصح كما في تخريج أحاديث الإحياء: (2/22) ، ومعنى: محبنطئين: متغضبين مستبطئين ممتنعين، جمع محبنطئ كما في اللسان: (1/51) "حبطأ". وقد تقدمت أحاديث عن أبي هريرة وحبيبة – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – تدل على امتناع دخول الأولاد الجنة حتى يدخلها آباؤهم وأمهاتهم فانظرها في التخريج الموسع للحديث العظيم الدال على الفضل الكريم لمن مات له ثلاثة من أولاده القاصرين.(1/124)
وفي مسند الإمام أحمد، وصحيح ابن حبان، ومستدرك الحاكم، وسنن النسائي، وغيرها واللفظ للأخير عن معاوية بن قرة عن أبيه – رضي الله تعالى عنهما – قال: كان نبي الله – صلى الله عليه وسلم – إذا جلس يجلس إليه نفر من أصحابه، وفيهم رجل له ابن صغير يأتيه من خلف ظهره، فيقعده بين يديه، فهلك، فامتنع الرجل أن يحضر الحلقة لذكر ابنه، فحزن عليه، ففقده النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: "مالي لا أرى فلاناً؟ قالوا: يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بُنَيّه الذي رأيته هلك، فلقيه النبي – صلى الله عليه وسلم – فسأله عن بُنِّيه، فأخبره أنه هلك، فعزاه عليه، ثم قال: أيما كان أحب إليك: أن تمتع به عمرك، أو لا يأتي غداً إلى باب من أبواب الجنة إلا وجدته قد سبقك إليه يفتحه لك؟ قال: يا نبي الله – صلى الله عليه وسلم – بل يسبقني إلى باب الجنة فيفتحها لي، لهو أحب إليّ، قال: فذاك لك" وفي رواية الحاكم وغيره: "فقال رجل: أله خاصة أو لكلنا؟ قال: بل لكلكم (1)
__________
(1) انظر مسند أحمد: (3/436،5/35) ، وموارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان – كتاب الجنائز – باب موت الأولاد: (185) ، ومستدرك الحاكم – كتاب الجنائز –: (1/384) ، وسنن النسائي – كتاب الجنائز – باب الأمر بالاحتساب والصبر عند نزول المصيبة: (4/20) ،وباب في التعزية: (4/95) ، وسنن البيهقي: (4/60،59) ، ومنحة المعبود في ترتيب مسند الطيالسي أبي داود: (2/46) قال الهيثمي في مجمع الزوائد: (3/10) والمنذري في الترغيب والترهيب: (3/79) رجال أحمد رجال الصحيح - وسند النسائي صحيح كما في تعليق الشيخ عبد القادر الأرناؤوط على جامع الأصول: (9/594) ، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد وأقره الذهبي، وقد روي الحديث في المسند: (3/467) عن حوشب – رضي الله تعالى عنه – بنحو رواية أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – ولفظ الرواية: عن حسان بن كريب أن غلاماً منهم توفي فوجد عليه أبواه أشد الوجد، فقال حوشب صاحب النبي – صلى الله عليه وسلم –: ألا أخبركم بما سمعت من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول في مثل ابنك؟ إن رجلا ً من أصحابه كان له ابن قد أدِّبَ أو دَبَّ وكان يأتي مع أبيه إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – ثم إن ابنه توفي، فوجد عليه أبوه قريباً من ستة أيام لا يأتي النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال النبي – صلى الله عليه وسلم –: "لا أرى فلاناً" قالوا: يا رسول الله إن ابنه توفي فوجد عليه، فقال له رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "يا فلان، أتحب لو أن ابنك عندك الآن كأنشط الصبيان نشاطاً؟ أتحب أن ابنك عندك أجرأ الغلمان جرأة؟ أتحب أن ابنك عندك كهلا ً كأفضل الكهول؟ أو يقال لك: ادخل الجنة ثواب ما أخذ منك؟ ". قال الهيثمي في مجمع الزوائد: (3/9) فيه ابن لهيعة، وفيه كلام. وروى نحوه الطبراني في الكبير من حديث ابن عمر – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – وفيه إبراهيم بن عبيد من التابعين وهو ضعيف وبقية رجاله موثقون كما في مجمع الزوائد: (3/10) ، ولفظ الحديث: أن رجلا ً من الأنصار كان له ابن يروح إذا راح إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – فسأله رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عنه، فقال: أتحبه؟ فقال: يا نبي الله – صلى الله عليه وسلم – نعم فأحبك الله كما أحبه، فقال إن الله تعالى أشد لي حباً منك له، فلم يلبث أن مات ابنه ذاك، فراح إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – وقد أقبل عليه تيه (أي: حيرة) فقال له رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أجزعت؟ قال: نعم: فقال له رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: أما ترضى أن يكون ابنك مع ابني إبراهيم يلاعبه تحت ظل العرش؟ قال: بلى يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ".(1/125)
".
وفي مسند الإمام أحمد، ومستدرك الحاكم وغيرهما بإسناد صحيح عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – قال قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "أولاد المؤمنين في جيل في الجنة يكلفهم إبراهيم وسارَّة، حتى يردَّهم إلى آبائهم يوم القيامة (1) ".
وثبت في مسند البزار بسند رجاله رجال الصحيح غير محمد بن معاوية بن مالج وهو ثقة عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – سئل من في الجنة؟ فقال: "النبي في الجنة، والشهيد في الجنة، والمولود في الجنة، والموؤدة في الجنة (2) ".
__________
(1) انظر مسند الإمام أحمد: (2/326) ، ومستدرك الحاكم: (1/384) – كتاب الجنائز – وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وأقره الذهبي، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: (7/219) عن طريق الإمام أحمد فيه عبد الرحمن بن ثابت وثقه المديني وجماعة وضعفه ابن معين وغيره، وبقية رجاله ثقات أ. هـ وقد حكم عليه ابن حجر في التقريب: (1/474) بأنه صدوق يخطئ، وهو من رجال السنن الأربعة والبخاري في الأدب المفرد 1هـ ورواية الحاكم تقوي سند المسند، وتشد من أزره.
(2) انظر مجمع الزوائد: (7/219) ، ورواه الطبراني بحذف الموؤدة عن الأسود بن سريع – رضي الله تعالى عنه – وفيه جماعة وثقهم ابن حبان وضعفهم غيره وبقية رجاله رجال الصحيح، ورواه البزار عن أنس – رضي الله تعالى عنه – بلفظ "المولود في الجنة، والموؤدة في الجنة، وذكر ثالثاً فذهب عني" وفيه مختار بن مختار تكلم فيه الأزدي. وابن إسحاق مدلس وبقية رجاله ثقات كما في مجمع الزوائد: (7/219) .(1/126)
وفي هذا الوجه من الدلالة والذي قبله بيان شافٍ كافٍ للحكم بدخول أولاد المسلمين جنة النعيم فضلا ً وكرماً من رب العالمين ولذلك عول على هذا القول جمهور المسلمين، ولم يذهب إلى الوقف في أمرهم إلا عدد قليل من المؤمنين، وهم بهذه الأدلة القوية من المحجوجين، والعلم عند رب العالمين مالك يوم الدين.
وقبل الانتقال إلى بيان الشق الثاني من السؤال، وهو تفصيل المقال، في حكم أطفال أهل الشرك والضلال، ومن يشابههم في ذلك الحال، أحب أن أنبه إلى قول صار إليه بعض أهل الاعتزال في بيان مصير أولاد المسلمين في المآل، قال الأشرس النجس ثُمامة بن أشرس النَّحِس: إن إبراهيم ابن رسول الله الأمين – عليهما أفضل الصلاة وأتم التسليم –، وجميع أولاد المسلمين، الذين يموتون قبل كونهم بالغين، لا يدخلون الجنة في حين من الأحايين، بل يصيرون إلى تراب الأرضين (1) .
__________
(1) انظر نسبة ذلك له، مع شيء من ترجمته المظلمة، وتعداد ضلالاته في الفصل في الملل والأهواء والنحل: (4/148-150) ، والملل والنحل للشهرستاني: (1/77) وفيه: إن ثُمامة كان جامعاً بين سخافة الدين وخلاعة النفس، وتاريخ بغداد: (7/145-148) ، وميزان الاعتدال: (1/371-372) ، ولسان الميزان: (2/83-84) ، والفرق بين الفرق: (172-175) .(1/127)
وهذا الكلام باطل بشقيه، أما في أولاد المسلمين فلما علمت من الأدلة والبراهين، الدالة على كونهم في جنات النعيم، وأما بطلان ذلك في ولد نبينا الهادي الأمين – عليهما أفضل الصلاة وأتم التسليم – فالأمر أظهر، وقد تقدم حكاية الإجماع على كون أولاد الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام جميعاً – في الجنة، إذا ماتوا قبل البلوغ، وهذا الإجماع مبني على أدلة صحيحة غراء منها ما ثبت في صحيح البخاري وغيره عن البراء بن عازب – رضي الله تعالى عنه – قال: لما توفي إبراهيم، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "إن له مرضعاً في الجنة (1) " وفي صحيح مسلم وغيره عن أنس ابن مالك – رضي الله تعالى عنه – قال: إنه لما توفي إبراهيم، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "إن إبراهيم ابني مات وإنه في الثَّدْى، وإن له لَظِئْرين تكملان رضاعه في الجنة (2) ".
__________
(1) انظر صحيح البخاري – كتاب الجنائز – باب ما قيل في أولاد المسلمين: (3/244) ، وفي كتاب بدء الخلق – باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة: (6/320) ، وفي كتاب الأدب – باب من سمى بأسماء الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام -: (10/577) بشرح ابن حجر في الجميع وانظره في مسند الإمام أحمد: (4/304،302،300،297،289،284،283) وفي المكان الأول من المسند زيادة في آخر الحديث وهي: "وهو صدّيق" وانظره في سنن ابن ماجه – كتاب الجنائز – باب ما جاء في الصلاة على ابن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وذكر وفاته: (1/484) من وراية ابن عباس، والحسين بن علي – رضي الله تعالى عنهم –.
(2) انظر صحيح مسلم – كتاب الفضائل – باب رحمته – صلى الله عليه وسلم – الصبيان والعيال، وتواضعه وفضل ذلك: (4/1808) ، ومسند الإمام أحمد: (3/112) .(1/128)
وفي ثبوت هذا لإبراهيم، ولد نبينا سيد المرسلين – عليهم جميعاً أفضل الصلاة والتسليم – رجاء عظيم في حصول ذلك لأولاد المسلمين، وقد تقدم عند بيان ثبوت الفضل العظيم لمن قدم ولداً من المسلمين أن النبي – صلى الله عليه وسلم – عزّى أحد أصحابه بموت ولده، فقال له: "أما ترضى أن يكون ابنك مع ابني إبراهيم يلاعبه تحت ظل العرش؟ قال: بلى يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم –".
القسم الثاني: من انخرمت فيه بعض شروط التكليف بتوحيد رب العالمين من غير أولاد المسلمين.
تشتمل هذه المسألة على أطفال المشركين ومن لم تبلغهم دعوة رب العالمين، والهالكين الفترة والمجانين ومن في حكمهم، وللناس في مصيرهم في الآخرة أقوال متعددة، هاك تفصيلها، وبيان قيمة كل قول منها:
الأول: الوقف فيهم وتفويض أمرهم إلى ربهم، فلا يجزم لهم بجنة ولا نار، بل يوكل حالهم إلى العزيز الغفار، وحجة هذا القول أربعة أمور:
أ) جواب النبي – صلى الله عليه وسلم – بذلك ففي الصحيحين عن أبي هريرة وابن عباس – رضي الله تعالى عنهم – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – سئل عن أطفال المشركين، من يموت منهم صغيراً، فقال: "الله أعلم بما كانوا عاملين (1) ".
ب) لا يرتبط بذلك حكم دنيوي، فلا فائدة من البحث في ذلك.
__________
(1) انظر صحيح البخاري – كتاب الجنائز – باب ما قيل في أولاد المشركين –: (3/245) ، وفي كتاب القدر – باب الله أعلم بما كانوا عاملين: (11/493) بشرح ابن حجر فيهما، وصحيح مسلم – كتاب القدر – باب معنى كل مولود يولد على الفطرة، وحكم موت أطفال الكفار وأطفال المسلمين: (4/2049) ، وانظره في سنن النسائي – كتاب الجنائز – باب أولاد المشركين: (4/47-48) ، وهو في سنن أبي داود في كتاب السنة – باب في ذراري المشركين: (5/84-85) من رواية ابن عباس فقط، وكذلك هو في المسند: (1/215) ورواه أحمد أيضاً عن أبي هريرة في: (2/518،393،259) .(1/129)
جـ) تعارض الأدلة في هذه المسألة كما سترى عند تعداد الأقوال فيها والسلامة في السكوت، وتفويض الحكم فيها إلى ذي العزة والجبروت.
د) ثبوت نهى النبي – صلى الله عليه وسلم – عن الكلام في ذلك، ففي المستدرك وصحيح ابن حبان عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "لا يزال أمر هذه الأمة مواتياً أو مقارباً ما لم يتكلموا في الولدان والقدر (1) "
... وهذا القول منقول عن الحماديَنْ ابن سلمة بن دينار، وابن زيد بن درهم، وعبد الله بن المبارك، وإسحاق بن راهويه كما في فتح الباري ونقل عن ابن عباس، ومحمد ابن الحنفية، والقاسم بن محمد كما في طريق الهجرتين، وإليه مال البغوي في شرح السنة (2) .
__________
(1) انظر المستدرك – كتاب الإيمان –: (1/33) قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولا نعلم له علة، وأقره الذهبي، وانظره في موارد الظمآن – كتاب القدر – باب النهي عن الكلام في القدر والولدان: (451) ورواه البزار ورجاله رجال الصحيح، والطبراني في الكبير والأوسط كما في المجمع: (7/202) ، ونقله ابن تيمية في درء تعارض العقل والنقل: (8/402) ، عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – موقوفاً عليه من قوله، ونسب تخريجه إلى إسحاق بن راهويه، ومحمد بن نصر المروزي بواسطة ابن عبد البر، وما ذكره ابن القيم في طريق الهجرتين: (509) من أن في القلب من رفعه شيء غير سديد.
(2) انظر فتح الباري: (3/246) ، وطريق الهجرتين: (528-529) ، وشرح السنة: (1/155) ، وهذا القول: شامل لقول من قال بالوقف فيهم، أو هم تحت المشيئة، أو أمسك عن الكلام، أو كره الخوض في هذه المسألة، فاعلم وفي درء تعارض العقل والنقل: (8/397) كان أحمد يقف فيه، تارة يقف عن الجواب وتارة يردهم إلى العلم بقوله: "الله أعلم بما كانوا عاملين" وهذا أحسن جوابيه.(1/130)
.. وهذا القول منقوض، ولذلك فهو مردود، فالحديث الشريف لا يدل على الوقف في هذه المسألة وإنما وكل علم ما كانوا يعلمون لو عاشوا إلى الله – سبحانه وتعالى – والمعنى: الله أعلم بما كانوا يعملون لو عاشوا، فهو – سبحانه وتعالى – يعلم القابل للهدى العامل به لو عاش، والقابل منهم للكفر المؤثر له لو عاش، لكن لا يدل هذا على أنه يجزيهم بمجرد علمه فيهم بلا عمل يعملونه، وإنما يدل على أنه يعلم منهم ما هم عاملون بتقدير حياتهم.
... وعلى هذا فليس في الحديث دلالة على نفي امتحانهم في الآخرة، وهو القول الحق في هذه المسألة كما سيأتينا عما قريب.
... وأما عدم تعلق حكم دنيوي بهذه المسألة، فلا يدل ذلك على وجوب الوقف فيهم، بل ولا على استحبابه، لأن معرفة أحكام الشارع الثابتة من جملة المطلوبات ويثيب على معرفته رب الأرض والسموات ولا مبرر للوقف في هذه المسألة لتعارض الأدلة، لأن الجمع بينها ممكن وهو في غاية اليسر والسهولة فما الداعي لتجاوزه إلى الأمر الرابع (1)
__________
(1) وهو الوقف، لأن الأخبار إن تعارضت يجمع بينها أولاً، ولا يعدل عن ذلك إذا أمكن، فإعمال الدليلين خير من إهمال أحدهما، وإلا يصار إلى النسخ وإلا إلى الترجيح، فإذا لم يكن نتوقف عن العمل بها كلها، كما في فتح المغيث: (3/78) ، ونزهة النظر: (39-40) ، وتدريب الراوي: (388) ، وتيسير مصطلح الحديث: (56-57) ،وللترجيح طرق كثيرة ذكر منها الحازمي في الاعتبار: (9/23) خمسين وجهاً، وقال: وثم وجوه أخر أضربنا عن ذكرها كيلا يطول بها هذا المختصر أ. هـ وسرد العراقي في نكته على ابن الصلاح: (245-250) مائة وجه، وعشرة وجوه، وقال: وثم وجوه أخر للترجيح إلخ.(1/131)
.. وأما نهي النبي – صلى الله عليه وسلم – عن الكلام في الولدان فالمراد منه ذم من تكلم فيهم بغير علم، أو ضرب النصوص بعضها بعض فيهم، وأما من تكلم فيهم بعلم وحق فلا لوم، ولا ذم (1) .
الثاني: الحكم لهم بالجنة، والحجة في ذلك ثلاثة أمور:
أ- آيات القرآن العظيم المصرحة بعدم تعذيب الله للعباد قبل إرسال الرسل الكرام – عليهم صلوات الله وسلامه – إليهم، وإنزال الكتب عليهم، ولذلك يعترف الكفار عندما يدخلون النار، بأن النذر جاءتهم، ودعوة الله بلغتهم، لكنهم كذبوا واستكبروا، وقد تقدمت الآيات الدالة على ذلك عند بيان شروط التكليف بالتوحيد، وقد أخبر ربنا – جل وعلا – أن النار لا يصلاها إلا الكفار، فقال – عز وجل –: {فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} الليل 14-16 وقال – تبارك وتعالى: {وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} آل عمران131.
... وإذا لم يكن هؤلاء من أهل النار، فهم من أهل الجنة، فهي دار الفضل والله ذو الفضل العظيم.
ب- ثبوت الدلالة الشريعة في السنة الصحيحة:
__________
(1) أفاد الجواب الأولَ والأخيرَ الإمامُ ابنُ القيم ِ في طريق الهجرتين: (509،507) .(1/132)
.. ورد في صحيح البخاري في حديث سمرة بن جندب – رضي الله تعالى عنه – الطويل في قص النبي – صلى الله عليه وسلم – رؤياه على أصحابه، وفيه: "إنه أتاني الليلة آتيان، وإنهما ابتعثاني، وإنهما قالا: انطلق، وإني انطلقت معهما فأتينا على روضة معتمة فيها من كل لون الربيع، وإذا بين ظهري الروضة رجل لا أكاد أرى رأسه طولاً في السماء، وإذا حول الرجل من أكثر ولدان رأيتهم قط قال، قلت لهما: ما هذا؟ ما هؤلاء؟ فقالا له: إنا سنخبرك: أما الرجل الطويل الذي في الروضة فإنه إبراهيم – صلى الله على نبينا وعليه وسلم تسليماً كثيراً – وأما الولدان الذين حوله فكل مولود مات على الفطرة، فقال بعض المسلمين: يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأولاد المشركين؟ فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأولاد المشركين" قال الإمام ابن القيم – عليه رحمة الله تعالى –: فهذا الحديث صريح في أنهم في الجنة، وؤيا الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – وحيٌ (1) .
__________
(1) انظر صحيح البخاري – كتاب التعبير – باب تعبير الرؤيا بعد صلاة الصبح: (12/438-439) ، وفي كتاب الجنائز – باب 93: (3/252) بشرح ابن حجر فيهما، وانظره في المسند: (5/9، 14-15) وانظر قول ابن القيم في طريق الهجرتين: (513) ، ونحوه في فتح الباري: (12/445) ، وقوله " فأتينا على روضة معتمة بضم الميم وسكون المهملة، وكسر المثناة، وتخفيف الميم، وبعدها هاء تأنيث، ولبعضهم بفتح المثناة، وتشديد الميم، والذي يظهر أن ذلك من العتمة، وهو شدة الظلام، فوصفها بشدة الخضرة كقوله – جل وعلا –: "مدهامتان" الرحمن 64 أي سوداوان من شدة خضرتهما، كما في الفتح: (12/443) .(1/133)
.. وروى أبو يعلى بسند رجاله ثقات عن أنس بن مالك – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "سألت ربي اللاهين من ذرية البشر أن لا يعذبهم، فأعطانيهم (1) ".
... وقد تقدم عند البحث في أولاد المسلمين، قول النبي – صلى الله عليه وسلم –: "النبي في الجنة والشهيد في الجنة، والمولود في الجنة، والموؤدة في الجنة"، والمولود شامل للصغير من أولاد المسلمين والمشركين، ويؤكد هذا المعنى لفظ "المؤودة " التي وئدت من قبل أبويها المشركين.
جـ- دلالة المعقول، المستمدة مما جاء به نبينا الرسول – صلى الله عليه وسلم – وبيان ذلك بعدة أمور:
__________
(1) انظر مجمع الزوائد – كتاب القدر – باب في أولاد المشركين: (7/219) قال الهيثمي: رواه أبو يعلى من طرق، ورجال أحدهما رجال الصحيح غير عبد الرحمن بن المتوكل، وهو ثقة 10هـ وقال الحافظ في فتح الباري: (3/246) : إسناده حسن والمراد من اللاهين: الأطفال كما دل على هذا رواية البزار والطبراني في الكبير والأوسط عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – قال: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في بعض مغازيه فسأله رجل – فقال: يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ما تقول في اللاهين، قال: فسكت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فلم يرد عليه كلمة، فلما فرغ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من غزوه وطاف، فإذا هو بغلام قد وقع وهو يعبث بالأرض، فنادى مناديه: أين السائل عن اللاهين؟ فأقبل الرجل إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فنهى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن قتل الأطفال، ثم قال: الله أعلم بما كانوا عاملين، هذا من اللاهين " قال الهيثمي في المجمع: (7/18) فيه هلال بن خباب وهو ثقة وفيه خلاف، وبقية رجاله رجال الصحيح 1هـ واستشهد به الحافظ في الفتح: (3/46) ، ونسبه إلى البزار وصنيعه يقضي بحسن الحديث.(1/134)
1- الجنة دار فضل الله – جل وعلا – والنار عدله، ولا يستقيم في عدل الملك الرحمن تعذيب من لم توجد فيه شروط التكليف من إنس وجان كما أخبر بذلك الرحيم الرحمن وإذا انتفى دخول هؤلاء دار الجحيم، ثبت كونهم من أهل جنة النعيم، فليس في الآخرة إلا دار الإحسان، ودار العقوبة لأهل العصيان.
2- يستحيل تعذيب هؤلاء، لأن تعذيبهم إما مع تكليفهم بالإيمان، أو بدون تكليف، والقسمان ممتنعان: فيمتنع بالأدلة المتقدمة في شروط التكليف بالتوحيد، ومن أن الله المجيد، لا يعذب أحداً من العبيد، إلا بعد قيام الحجة، ووضوح المحجة.
3- لا يصح تعذيب هؤلاء لانتفاء الإيمان عنهم، لأنهم يشتركون في ذلك مع أطفال المسلمين، فالإيمان الفعلي لم يوجد منهم أجمعين، ولا يصح القول بأن منع العذاب عن أطفال المسلمين بسبب تبعيتهم لآبائهم بخلاف أطفال المشركين، لأن الله لا يعذب أحداً بذنب غيره كما قال الله – جل وعلا –: {فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} يس54، وقال – جل جلاله –: {إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} الزمر7.(1/135)
4- أولاد المشركين مولودون على الفطرة، ولم يطرأ عليهم ما يغيرها، فينبغي الحكم لهم بالجنة، وقد ثبت عن نبينا – صلى الله عليه وسلم – الإخبار بولادة المولودين على فطرة رب العالمين، ففي الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟ " ثم يقول أبو هريرة – رضي الله تعالى عنه –: اقرؤوا إن شئتم: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} الروم30 (1) .
__________
(1) انظر صحيح البخاري – كتاب الجنائز – باب 79: (3/219) ، وباب ما قيل في أولاد المشركين: (3/245-246) ، وكتاب التفسير – سورة الروم – باب "لا تبديل لخلق الله": (8/512) ، وفي كتاب القدر – باب الله أعلم بما كانوا عاملين: (11/493) بشرح ابن حجر في الجميع، وصحيح مسلم – كتاب القدر – باب معنى كل مولود يولد على الفطرة: (4/2047-2049) ، وسنن الترمذي في كتاب القدر – باب ما جاء كل مولود يولد على الفطرة: (6/312) ، وسنن أبي داود – كتاب السنة – باب في ذراري المشركين: (5/86) ، وموطأ مالك – كتاب الجنائز باب جامع الجنائز: (1/241) ، وشرح السنة للبغوي – كتاب الإيمان – باب أطفال المشركين: (154-161) ، ومسند أحمد: (2/481،410،393،346،315،275،253) ، وكتاب الاعتقاد للبيهقي:: (164) وكتاب الشريعة للآجري: (194-195) ، وقال الآجري: ولحديث أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – طرق كثيرة 10هـ وقد رواه أحمد في المسند من حديث الأسود بن سريع – رضي الله تعالى عنه –: (3/435-4/24) ، وأشار الترمذي إلى رواية الحديث عن الأسود بن سريع فقال: وفي الباب عن الأسود بن سريع – رضي الله تعالى عنه – ورواه أحمد: (3/353) أيضاً عن جابر بن عبد الله – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – قال الهيثمي في المجمع: (7/218) فيه أبو جعفر الرازي وهو ثقة، وفيه خلاف، وبقية رجاله ثقات، انظر الحديث من رواية سمرة بن جندب وابن عباس رضي الله تعالى عنهم أجمعين – عند البزار في مجمع الزوائد: (7/218) .(1/136)
والفطرة التي ولد عليها المولودون هي الإسلام ليس إلا، ولا يصح تفسيرها بغير ذلك أبداً، يدل على هذا أمور كثيرة أبرزها حديث عياض بن حمار المجاشي – رضي الله تعالى عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال ذات يوم في خطبته: "ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني في يومي هذا كل مال نحلته عبداً حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرِّمَتْ عليهم ما أحللت لهم، وأمَرَتْهُم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً (1) ".
__________
(1) رواه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب الجنة وصفة نعيمها – باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار –: (4/2197) رقم 2865 والإمام أحمد في المسند: (4/266،162) .(1/137)
وهذا المعنى ينسجم تمام الانسجام مع حديث أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – فكل عبد مولود على الفطرة، وهي الحنيفية السمحة، وذلك يستلزم الإقرار بالخالق، ومحبته، وإخلاص الدين له، عند بلوغه، وجريان الأحكام عليه إذا سلمت الفطرة من المعارض، فالتغيير طارئ ولهذا مثل النبي – صلى الله عليه وسلم – حال العباد الذين ولدوا على الفطرة ثم نقلوا عنها بتغيير، مغير بحال البهيمة التي ولدت سليمة جمعاء، ثم غيرت صورتها بالجدع والخصاء، وكل منهما تغيير، الأول تغيير لما خلقت عليه النفس، وهيئت له، والثاني تغيير لما خلق عليه البدن، وكُوِّن له (1)
__________
(1) روى ابن أبي عاصم في كتاب السنة: (1/85) بسند ضعيف عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – قال قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "مغير الخُلُق ِ كمغير الخَلْق ِ"..(1/138)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – عليه رحمة رب البرية –: الدلائل الدالة على أنه أراد: فطرة الإسلام كثيرة، ألفاظ الحديث التي في الصحيح، مثل قوله "على الملة" وعلى هذه الملة، ومثل قوله في حديث عياض بن حمار – رضي الله تعالى عنه –: "خلقت عبادي حنفاء كلهم " وفي لفظ: "حنفاء" مسلمين ومثل تفسير أبي هريرة وغيره من رواة الحديث – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – ذلك، وهم أعلم بما سمعوا، وأيضاً، فإنه لو لم يكن المراد بالفطرة الإسلام لما سألوا عقب ذلك: "أرأيت من يموت من أطفال المشركين وهو صغير؟ " لأنه لو لم يكن هناك ما يغير الفطرة لما سألوه، والعلم القديم وما يجرى مجراه لا يتغير، وكذلك قوله: "فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه" بين فيه أنهم يغيرون الفطرة التي فطر الناس عليها، وأيضاً فإنه شبه ذلك بالبهيمة التي تولد مجتمعة الخلق لا نقص فيها، ثم تجدع بعد ذلك، فعلم أن التغيير وارد على الفطرة السليمة التي ولد العبد عليها، وأيضاً، فإن الحديث مطابق للقرآن، لقوله تعالى: "فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا" وهذا يعم جميع الناس، فعلم أن الله فطر الناس كلهم على فطرته المذكورة، وفطرة الله أضافها إليه إضافة مدح لا إضافة ذم، فعلم أنها فطرة محمودة، لا مذمومة.(1/139)
يبين ذلك أنه قال: "فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا " وهذا نصب على المصدر الذي دل عليه الفعل الأول عند سيبوية وأصحابه فدل على أن إقامة الوجه للدين حنيفاً هو فطرة الله التي فطر الناس عليها وأطال شيخ الإسلام في تقرير ذلك الكلام فكتب قرابة مائتي صفحة أتى فيها بما يشرح صدور الأنام، وخلص إلى القول بأن الآثار المنقولة عن السلف الكرام لا تدل إلا على ولادة الناس على الإسلام (1) .
__________
(1) انظر درء تعارض العقل والنقل: (8/371-372) ، وانظر المسألة كاملة فيه: من (8/359) فما بعدها، وهذا القول هو الذي قرره الحافظ – عليه رحمة الله تعالى – في فتح الباري: (3/248) فقال أشهر الأقوال أن المراد بالفطرة الإسلام، قال ابن عبد البر – عليه رحمة الله تعالى – وهو المعروف عند عامة السلف وأجمع أهل العلم بالتأويل على أن المراد بقوله تعالى: "فطرة الله التي فطر الناس عليها" الإسلام، واحتجوا بقول أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – في آخر الحديث: واقرؤوا إن شئتم: "فطرة الله التي فطر الناس عليها" وبحديث عياض بن حمار – رضي الله تعالى عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – فيما يرويه عن ربه – جل وعلا –: "إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، فاجتالتهم الشياطين عن دينهم" الحديث، وقد رواه غيره فزاد فيه "حنفاء مسلمين" ورجحه بعض المتأخرين بقوله تعالى: "فطرة الله" لأنها إضافة مدح، وقد أمر نبيه – صلى الله عليه وسلم – بلزومها، فعلم أنها الإسلام 1هـ وقد قرر الإمام ابن القيم – عليه رحمة الله تعالى – تفسير الفطرة بالإسلام، وبين غلط المخالفين في هذه المسألة العظيمة الشأن، ونقل خلاصة كلام شيخه شيخ الإِسلام – عليهما الرحمة والرضوان –، وجعل تلك المسألة خاتمة كتابه الجليل: شفاء العليل: (283-307) وبهذا التفسير جزم البخاري في صحيحه في تفسير سورة الروم فقال والفطرة: الإسلام: (8/512) بشرح ابن حجر..(1/140)
والقول بمصير هؤلاء إلى الجنة هو الذي جزم به البخاري كما في فتح الباري، واختاره ابن الجوزي كما في ردء العقل والنقل، قال النووي: وهو الصحيح الذي ذهب إليه المحققون (1) .
وهذا القول مع وجاهته وقوة دليله ومتانته، فينبغي الجمع بينه وبين القول بامتحان هؤلاء في الدار الآخرة يوم الدين، حسبما دل على ذلك أحاديث خاتم الأنبياء والمرسلين – على نبينا وعليهم أفضل الصلاة وأتم التسليم – وسيأتيك بيان وجه الجمع عند ذكر ذلك القول، وهو آخر الأقوال، وما أبدع قول الإمام ابن القيم – عليه رحمة الله تعالى – في هذا المجال، إذ قال: وهذه حجج – كما ترى – قوة وكثرة، ولا سبيل إلى دفعها، وسيأتي – إن شاء الله تعالى – فصل النزاع في هذه المسألة، والقول بموجب هذه الحجج الصحيحة كلها، على أن عاداتنا في مسائل الدين كلها دقها وجلها أن نقول بموجبها، ولا نضرب بعضها ببعض، ولا نتعصب لطائفة على طائفة، بل نوافق كل طائفة على ما معها من الحق، ومخالفها فيما معها من خلاف الحق، لا نستثني من ذلك طائفة ولا مقالة، ونرجو من الله – جل وعلا – أن نحيا على ذلك، ونموت عليه، ونلقى الله به، ولا قوة إلا بالله (2) .
القول الثالث: الحكم عليهم بالنار وبئس القرار، ويدل على هذا أمران:
1- لم يصدر من هؤلاء الإيمان برب العالمين، وهو السبب الذي يتوصل به إلى جنة النعيم، وينجو العبد بواسطته من نار الحميم – ولا يعترض على هذا بأطفال المؤمنين، فتبعيتهم لآبائهم دلت عليها أدلة الشرع المبين، والله يختص برحمته من يشاء، وهو ذو الفضل العظيم.
__________
(1) انظر فتح الباري: (3/246) ، وردء تعارض العقل والنقل: (8/435) ، وشرح صحيح مسلم: (16/208) .
(2) انظر كلام ابن القيم في طريق الهجرتين وباب السعادتين: (516) .(1/141)
2- ورود الأحاديث بذلك عن الصادق الأمين – عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم – ففي سنن أبي داود بإسناد صحيح قويم عن أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنها – قالت: قلت يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ذراري المؤمنين؟ فقال: "من آبائهم" فقلت: يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بلا عمل؟ قال: "الله أعلم بما كانوا عاملين"، قلت: يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فذراري المشركين؟ قال: "من آبائهم" قلت: بلا عمل؟ قال: "الله أعلم بما كانوا عاملين" (1) .
وروى أبو داود في سننه عن ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: "الوائدة والمؤودة في النار" ورواه الإمام أحمد في المسند وفيه زيادة عن سمرة بن يزيد الجعفي قال انطلقت أنا وأخي – رضي الله تعالى عنهما – إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قلنا يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إن أمنا مُليكة كانت تصل الرحم، وتقري الضعيف، وتفعل وتفعل هلكت في الجاهلية فهل ذلك نافعها شيئاً؟ قال: "لا" قلنا: فإنها كانت وأدت أختأً لنا في الجاهلية، فهل ذلك نافعها شيئاٍ؟ قال: الوائدة والمؤودة في النار، إلا أن تدرك الوائدة الإسلام فيعفو الله عنها (2) ".
__________
(1) انظر سنن أبي داود – كتاب السنة - باب في ذراري المشركين: (5/85) ، قال الشيخ عبد القادر الأرناؤوط في تعليقه على جامع الأصول: (10/122) وهو حديث صحيح وانظر الحديث في المسند: (6/84) .
(2) انظر سنن أبي داود – كتاب السنة – باب في ذراري المشركين: (5/90) ، ومسند أحمد: (3/478) قال الهيثمي في مجمع الزوايد: (1/118-119) رجال أحمد رجال الصحيح ورواه الطبراني في الكبير بنحوه 10هـ وقال ابن القيم في طريق الهجرتين: وهذا إسناد لا بأس به وقد ساقه ابن حزم في الفصل: (4/62-63) بنحوه وانظر الكلام على معنى الحديث في بذل المجهود من حل ألفاظ أبي داود: (18/251) ، بلوغ الأماني: (1/95) .(1/142)
وروي في حديث ضعيف في المسند وغيره عن أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنه – قالت: ذكرت لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – أطفال المشركين، فقال: "إن شئت أسمعتك تضاغيهم في النار (1) ".
وروي أيضاً في حديث آخر ضعيف عند الطبراني وأبي يعلى عن أمنا خديجة – رضي الله تعالى عنها – قالت: قلت يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أين أطفالي منك؟ قال: "في الجنة" قلت: بلا عمل؟ قال: "الله أعلم بما كانوا عاملين" قلت: فأين أطفالي من قَبْلكَ؟ قال: "في النار" قلت: بلا عمل؟ قال: "لقد علم الله ما كانوا عاملين (2) "
__________
(1) انظر المسند: (6/208) ، ونحوه في مسند الطيالسي كما في منحة المعبود في ترتيب مسند الطيالسي أبي داود: (2/234) ولفظه قالت: "سألت النبي – صلى الله عليه وسلم – عن أطفال المشركين، فقال: "هم في النار"، قلت: فما تقول في أطفال المسلمين؟ قال: "هم في الجنة" قلت: وكيف ولم يدركوا الأعمال، ولم تجر عليهم الأقلام؟ قال: "ربك أعلم بما كانوا عاملين" وفي سندي أحمد والطيالسي أبو عقيل مولى بُهيَّة وهو يحي بن المتوكل، قال الهيثمي في المجمع: (7/217) : ضعفه جمهور الأئمة أحمد وغيره، ويحيى بن معين، ونقل عنه توثيقه في رواية من ثلاثة أ. هـ وقال ابن القيم في طريق الهجرتين: (209) يحيى بن المتوكل لا يحتج بحديثه، فإنه في غاية الضعف وقال الحافظ في الفتح: (3/246) هو حديث ضعيف جداً، لأن في إسناده، أبا عقيل مولى بُهيَّة، وهو متروك، أ. هـ وقد حكم عليه ابن حجر في التقريب: (2/256) بأنه ضعيف وهو أسد من حكمه عليه بالترك، والحكم عليه بالضعف ثابت عند الجميع كما نقل ابن حجر ذلك عن ابن عبد البر في تهذيب التهذيب: (11/271) والحديث المتقدم أورد الذهبي في الميزان: (4/404) في ترجمته.
(2) قال الهيثمي في مجمع الزوائد: (7/218) ورجال الطبراني وأبي يعلى ثقات، إلا أن عبد الله بن الحارث بن نوفل، وابن بريدة لم يدركا خديجة – رضي الله تعالى عنها.(1/143)
وقد تقدم عند الاستدلال على كون أولاد المسلمين في الجنة، قول نبينا – صلى الله عليه وسلم –: "إن المسلمين وأولادهم في الجنة، وإن المشركين وأولادهم في النار".
وهذا القول لا يسلم له الدليل الأول، بل هو مردود، لأنه إذا كان لا يدخل الجنة إلا المؤمنون فالنار لا يدخلها إلا الكافرون المعاندون الجاحدون، وهؤلاء ليسوا كذلك، فقد قامت الأدلة القطعية على أنه لا تكليف على العبيد، إذا لم تكتمل فيهم شروط التوحيد.(1/144)
وأما الدليل الثاني فلو لم يكن فيه إلا الروايات الضعيفة لكان مردوداً كسابقه، لكن بعض تلك الروايات صحيحة ثابتة، والروايات الضعيفة في معناها، فلم تخرج عن محتواها، وسيأتيك توجيه تلك الروايات عند بيان القول الحق في هذه المسألة، كما تقدمت الإشارة إلى ذلك عند القول الثاني السابق قال الإمام ابن القيم – عليه رحمة الله تعالى –: في حديث عائشة – رضي الله تعالى عنها – ما يدل على أن الذين يلحقون بآبائهم منهم هم الذين علم الله أنهم لو عاشوا لاختاروا الكفر، وعملوا به، فهؤلاء مع آبائهم، ولا يقتضي أن كل واحد من الذرية مع أبيه في النار، فإن الكلام في هذا الجنس سؤالاً وجواباً، والجواب يدل على التفصيل، فإن قوله – صلى الله عليه وسلم –: "الله أعلم بما كانوا عاملين" يدل على أنهم متباينون في التبعية بحسب نياتهم في معلوم الله – جل وعلا – فيهم، بقي أن يقال: إن الحديث يدل على أنهم يلحقون بآبائهم من غير عمل، ولهذا فهمت عائشة – رضي الله تعالى عنها – ذلك منه، فقالت: بلا عمل؟ فأقرها عليه، فقال: "الله أعلم بما كانوا عاملين"، ويجاب عن هذا بأن الحديث إنما دل على أنهم يلحقون بهم بلا عمل عملوه في الدنيا، وهو الذي فهمته عائشة – رضي الله تعالى عنها –، ولا ينفي هذا أن يلحقوا بهم بأسباب آخر، يمتحنهم بها في عرصات القيامة، كما سيأتي بيانه إن شاء الله – تعالى – فيحنئذ يلحقون بآبائهم، ويكونون منهم بلا عمل عملوه في الدنيا، وعائشة – رضي الله تعالى عنها – إنما استشكلت لحاقهم بهم بلا عمل عملوه مع الآباء، وأجابها النبي – صلى الله عليه وسلم – بأن الله – سبحانه وتعالى – يعلم منهم ما هم عاملوه، ولم يقل لها: إنه يعذبهم بمجرد علمه فيهم، وهذا ظاهر بحمد الله، لا إشكال فيه (1) .
__________
(1) انظر طريق الهجرتين، وباب السعادتين: (508-509) .(1/145)
وهذا القول الثالث القائل بدخول أولاد المشركين ومن في حكمهم النار، قال به القاضي أبو يعلى من الحنابلة كما قال الشيخ ابن تيمية، ونسبه الإمام ابن القيم – عليهم جميعاً رحمة الله تعالى – إلى جماعة المتكلمين، وأهل التفسير دون تسمية أحد منهم، ونسبه ابن حزم في الفصل في الملل والأهواء والنحل إلى الأزارقة من الخوارج، وحكاية هذا القول عن الإمام أحمد – رحمة الله تعالى عليه – غلط عليه كما قال الشيخ ابن تيمية – عليه رحمة الله تعالى – (1) .
القول الرابع: في خصوص أولاد المشركين الذين ماتوا قبل كونهم بالغين:
... خلاصة هذا القول: أن حكمهم حكم آبائهم في الدنيا والآخرة، فلا يفردون عنهم بحكم في الدارين، فكما هم منهم في الدنيا فهم منهم في الآخرة.
__________
(1) انظر درء تعارض العقل والنقل: (8/435،398) ، وطريق الهجرتين: (509) والفصل: (4/60) ونقل الحافظ في الفتح: (3/246) عن الشيخ ابن تيمية تغليط من نسب هذا القول إلى الإمام أحمد – رحمهم الله جميعاً – ومن العجيب نسبة الإمام النووي في شرح صحيح مسلم: (/208) هذا القول إلى الأكثرين.(1/146)
.. والفرق بين هذا القول، وبين القول السابق القائل أنهم في النار: أن صاحب هذا القول يجعلهم معهم تبعا لهم، حتى لو أسلم الأبوان بعد موت أطفالهما لم يحكم لأفراطهما بالنار، أما صاحب القول الآخر فيقول، هم في النار في كل حال، لكونهم لسيوا بمسلمين، فلم يدخلوها، هذا ما حكاه ابن القيم – رحمه الله تعالى – ولم ينسب هذا القول لقائل، وفي مقالات الإسلاميين لأبي الحسن الأشعري – رحمه الله تعالى – نسبة هذا القول لبعض الخوارج حيث قال: صنف منهم – من الخوارج – يزعمون أن أطفال المشركين حكمهم حكم آبائهم يعذبون في النار، واختلف هذا الصنف في الآباء إذا انتقلوا بعد موت أطفالهم عن أديانهم، فقال قائلون: ينتقلون إلى حكم آبائهم – وقال قائلون: هم على الحال التي كان عليها آباؤهم في حال موتهم، لا ينتقلون بانتقالهم (1) .
__________
(1) انظر طريق الهجرتين: (517) ، ومقالات الإسلاميين: (1/190) ، وقد حكى ابن حزم في الفصل: (1/60-61) هذا المذهب عن الأزارقة من الخوارج ونقل ذلك عنه الحافظ في الفتح: (3/246) وليس فيه التعرض لبيان حكم الأطفال إذا انتقل آباؤهم إلى الإيمان بعد موتهم.(1/147)
.. وأبرز ما يمكن أن يستدل به لهذا القول أدلة القول السابق، ويضاف إليها ما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن الصَّعْب بن جَثَّامَة – رضي الله تعالى عنه – قال: سئل النبي – صلى الله عليه وسلم – عن الذراري من المشركين؟ يبيتون فيصيبون من نسائهم وذراريهم، فقال: "هم منهم". وفي لفظ عن الصَّعْب بن جَثَّامَة – رضي الله تعالى عنه – قال: قلت يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إنا نصيب في البيات من ذراري المشركين، قال: "هم منهم"، وفي لفظ عن الصعب بن جثامة – رضي الله تعالى عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قبل له: لو أن خيلا ً أغارت من الليل فأصابت من أبناء المشركين؟ قال: "هم منهم" (1) .
__________
(1) هذه روايات صحيح مسلم – كتاب الجهاد والسير – باب جواز قتل النساء والصبيان في البيات من غير تعمد: (3/1364-1365) وانظر روايات الحديث في صحيح البخاري – كتاب الجهاد – باب أهل الدار يبيتون فيهم الولدان والذراري: (6/146) بشرح ابن حجر، وسنن الترمذي – كتاب السير – باب ما جاء في النهي عن قتل النساء والصبيان: (5/297-298) ، وسنن أبي داود – كتاب الجهاد – باب في قتل النساء: (3/123-124) ، وسنن ابن ماجه – كتاب الجهاد – باب الغارة والبيان وقتل النساء والصبيان: (2/947) والمسند: (4-73،72،71،38) .(1/148)
.. ولا حجة لهذا القول في تلك الأدلة، أما الأدلة السابقة في القول الثالث فقد تقدم الكلام عليها وخلاصته، أن إلحاق الأبناء بالآباء بلا عمل عملوه في الدنيا لا ينفي إلحاقهم بهم بأسباب أخر، وهو ما سيكون في امتحانهم في عرصات القيامة كما سيأتي تحقيق ذلك، ولذلك قال الإمام ابن القيم – عليه رحمة الله تعالى -: حديث ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه –: "الوائد والموؤدة في النار" ليس فيه أن هذا حكم كل واحد من أطفال الشركين، وإنما يدل على أن بعض أطفالهم في النار، وأن من هذا الجنس – وهن الموؤدات – من يدخل النار، وكونها موؤدة لا يمنع من دخولها النار بسبب آخر، وليس لمجرد أن كونها موؤدة هو السبب الموجب لدخول النار، حتى يكون اللفظ عاماً في كل موؤدة، وهذا ظاهر ولكن كونها موؤدة لا يرد عنها النار إذا استحقتها بسبب ففرق بين أن يكون جهة كونها موؤدة وهي التي استحقت بها دخول النار، وبين كونها غير مانعة من دخول النار بسبب آخر (1) .
__________
(1) انظر طريق الهجرتين، وباب السعادتين: (519) .(1/149)
.. وأما حديث الصَّعْب بن جَثَّامَة – رضي الله تعالى عنه – فليس فيه تعرض للعذاب بنفي أو إثبات، وإنما فيه: أنهم تبع لآبائهم في الحكم، وأنهم إذا أصيبوا في الجهاد والبيات لم يُضْمَنُوا بدية ولا كفارة وهذا مُصَرَّحٌ به في حديث الصَّعْب – رضي الله تعالى عنه – أنه في الجهاد، والنبي – صلى الله عليه وسلم – لم يقل: هم معهم، وإنما قال: "هم منهم" "هم من آبائهم" وفرق بين الحرفين، فكونهم منهم لا يقتضي أن يكونوا معهم في أحكام الآخرة، بخلاف كونهم معهم فإنه يقتضي أن يثبت لهم أحكام الآباء في الدنيا من التوارث والحضانة والنسب، وغير ذلك من أحكام الإيلاد، والله – جل وعلا – يخرج الطيب من الخبيث، والمؤمن من الكافر، أفاد ذلك الإمام ابن القيم، وقال شيخ الإسلام – عليهما الرحمة والرضوان – منشأ الاشتباه في هذه المسألة اشتباه أحكام الكفر في الدنيا بأحكام الكفر في الآخرة، فإن أولاد الكفار لما كانوا يجري عليهم أحكام الكفر في أمور الدنيا، مثل ثبوت الولاية عليهم لآبائهم، وحضانة آبائهم لهم وتمكين آبائهم من تعليمهم وتأديبهم، والموارثة بينهم وبين آبائهم واسترقاقهم إذا كان آبائهم محاربين وغير ذلك، صار يظن من يظن أنهم كفار في نفس الأمر كالذي تكلم بالكفر وعمل به، ثم قرر الشيخ – رحمه الله تعالى – أن حكم الدار الآخرة غير حكم الدار الدنيا، فقد يكون في بلاد الكفر من هو مؤمن في الباطن يكتم إيمانه، ولا يعلم المسلمون حاله، فإذا قاتلوا الكفار قتلوه، وهو في الآخرة من المؤمنين أهل الجنة كما أن المنافقين تجري عليهم في الدنيا أحكام المسلمين، وهم في الآخرة في الدرك الأسفل من نار الجحيم (1) .
القول الخامس: هم خدم أهل الجنة ومماليكهم، وهم معهم بمنزلة أرقائهم ومماليكهم في الدنيا:
وهذا القول خاص بأطفال المشركين كسابقه.
__________
(1) انظر درء تعارض العقل والنقل: (8/432-433) ، وطريق الهجرتين: (518-519) .(1/150)
وحجة هذا القول: ما ورد عن نبينا – صلى الله عليه وسلم – من الخبر بذلك، والحديث بذلك عنه – صلى الله عليه وسلم – في درجة الحسن روى الطبراني في الكبير والأوسط، والبزار عن سمرة بن جندب – رضي الله تعالى عنه – قال: سألنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن أولاد المشركين، فقال "هم خدم أهل الجنة (1) ".
وروى البزار، والطبراني في الأوسط عن أنس بن مالك – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "أطفال المشركين خدم أهل الجنة" ورواه أبو يعلى بلفظ "الأطفال خدم أهل الجنة (2) " وروى أبو داود الطيالسي في مسنده عن يزيد الرقاشي قال: قلنا لأنس بن مالك – رضي الله تعالى عنه –: يا أبا حمزة ما تقول في أطفال المشركين؟ فقال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "لم تكن لهم سيئات فيعاقبوا بها، فيكونوا من أهل النار، ولم تكن لهم حسنات فيجازوا بها فيكونوا من ملوك أهل الجنة هم خدم أهل الجنة (3) ".
وقد ذكر ابن القيم في كتابه حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح اختلافاً في ولدان الجنة هل هم من ولدان الدنيا، أم أنشأهم الله – جل وعلا – في الجنة إنشاءً. وحاصل ما قاله:
__________
(1) انظر مجمع الزوائد: (7/219) قال الهيثمي: وفيه عباد بن منصور وثقه يحيى القطان وفيه ضعف وبقية رجاله ثقات وقد ضعف سنده الحافظ في الفتح: (3/246) .
(2) انظر مجمع الزوائد: (7/219) قال الهيثمي: وفي إسناد أبي يعلى: يزيد الرقاشي وهو ضعيف وقال فيه ابن معين: رجل صدق، وثقه ابن عدي، وبقية رجالهما رجال الصحيح.
(3) انظر منحة المعبود في ترتيب مسند الطيالسي أبي داود: (2/235) رقم 2822 وسنده ضعيف لوجود يزيد بن أبان الرقاشي، وبذلك حكم عليه الحافظ في الفتح: (3/246) والحديث لتلك الطرق لا يزال عن درجة الحسن وقد حكم بصحته الشيخ الألباني في صحيح الجامع وزياداته: (32583) .(1/151)
1- قال علي بن أبي طالب، والحسن البصري – رضي الله تعالى عنهما –: هم أولاد المسلمين الذين يموتون، ولا حسنة لهم، فيكونون خدم أهل الجنة وولدانهم، ومن أصحاب هذا القول من قال هم أطفال المشركين فجعلهم الله خدماً لأهل الجنة، وروى حديث أنس بن مالك – رضي الله تعالى عنه – المتقدم، وحكم على طرقه بالضعف.
2- الأشبه أن الولدان مخلوقون من الجنة كالحور العين خدماً لهم وغلاماناً (1) .
والقول بأن أطفال المشركين خدم لأهل جنات النعيم ينبغي فهمه على ضوء النصوص المثبتة لامتحانهم في عرصات الموقف يوم الدين، فمن أطاع منهم فقد يكون من أهل الجنة من الغلمان، فترة أو في جميع الأزمان، ويا فوز من يحظى بتلك الرتبة في ذلك الأوان، والعلم بحقيقة ذلك عند الرحيم الرحمن.
__________
(1) انظر حادي الأرواح: (147-148) ، وكرر ما ذكره هنا فيما يتعلق بحديث أنس بن مالك – رضي الله تعالى عنه – في كتابه طريق الهجرتين، وباب السعادتين: (517) .(1/152)
القول السادس: يكونون في منزلة بين المنزلتين بين الجنة والنار (1) .
... وحجة هذا القول أنه لم يصدر من هؤلاء إيمان يؤهلهم لدخول جنة ربهم، وليس لآبائهم فوز يلحقون بهم تكميلا ً لثوابهم، زيادة في نعيمهم، ولا يستحق هؤلاء دخول النار لانعدام التكليف في حقهم.
... وقد فسرت تلك المنزلة بالأعراف وهو السور بين الجنة والنار، قال الإمام ابن القيم: قال عبد العزيز الكناني – عليهم رحمة الله جميعاً – أهل الأعراف هم الذين ماتوا في الفترة.
__________
(1) وتكون في الآخرة، وهي بهذا تختلف عن المنزلة بين المنزلتين عند المعتزلة والتي هي إحدى أصولهم الخمسة الباطلة التي هدموا بها دين الله الحق، ويعنون بالمنزلة بين المنزلتين أي الفاسق الملي ليس بمؤمن ولا كافر، إنما ننزله منزلة بينهما فهي في أحكام الدنيا، أما في الآخرة فالمتصف بالمنزلة بين المنزلتين مخلد في نار جهنم، فالمعتزلة والخوارج متفقون على الحكم بالخلود في نار جهنم على مرتكب الكبيرة، ومختلفون في الحكم عليه في الدنيا فالخوارج يكفرونه، والمعتزلة يقولون: إنه في منزلة بين المنزلتين، وهذه البدعة التي أتوا بها هي التي تسبب عنها تسميتهم بالمعتزلة لأنهم عندما قالوا ذلك طردهم الحسن البصري من مجلسه، فاعتزلوا حلقته فسموا معتزلة، انظر إيضاح هذا في مجموع الفتاوى: (3/182-183) وانظر أصولهم الخمسة وتفنيدها في مجموع الفتاوى: (13/357-358) ، وشرح الطحاوية: (474-475) .(1/153)
.. وهذا القول عقب عليه الإمام ابن القيم – رحمه الله تعالى – بقوله: والقائلون بهذا: إن أرادوا أن هذا المنزل مستقرهم أبداً، فإنه لا دار للقرار إلا الجنة أو النار، وإن أرادوا أنهم يكونون فيه مدة ثم يصيرون إلى دار القرار فهذا ليس بممتنع (1) .
القول السابع: يصيرون تراباً، ولا يحصلون ثواباً ولا يلاقون عذاباً:
... قال بهذا المبتدع الضال ثُمامة بن أشرس كما في فتح الباري، وقال الذهبي في الميزان: ثُمامة بن أشرس من كبار المعتزلة، ومن رؤوس الضلالة، وقال ابن حزم: كان ثمامة يقول: إن المقلدين من اليهود والنصارى والمجوس، وعباد الأوثان لا يدخلون النار يوم القيامة، لكن يصيرون تراباً وكذلك جميع أولاد المسلمين الذين يموتون قبل الحلم وجميع مجانين الإسلام لا يدخلون الجنة أبداً لكن يصيرون تراباً (2) .
... وقد تقدم بيان فساد ما يتعلق بقوله في أولاد المؤمنين، وهذا القول يقربه في الفساد والنكران فلا دليل له إلا التخرصات والأوهام.
__________
(1) انظر طريق الهجرتين: (516) وعبد العزيز الكناني توفي بعد الأربعين ومائتين كان ناصراً للسنة ناظر بشراً المريسي المعتزلي فأفحمه، ودخل على ركن الاعتزال أحمد بن أبي دؤاد عندما أصيب بالفالج فقال له: لم آتك عائداً ولكن جئت لأحمد الله أن سجنك في جلدك، ونقل السبكي في طبقات الشافعية: (2/144) أنه دخل على المأمون فضحك المعتصم من دمامته فقال الكناني: يا أمير المؤمنين لِمَ يضحك هذا لم يصطف الله يوسف – على نبينا – وعليه الصلاة والسلام – لجماله، وإنما اصطفاه لدينه وبيانه.
(2) انظر فتح الباري: (3/246) ،وميزان الاعتدال: (1/371-372) ، والفصل في الملل والأهواء والنحل: (4/148-149) .(1/154)
القول الثامن: يمتحنون في عرصات القيامة، ويرسل إليهم هناك رسول، فمن أطاع الرسول دخل الجنة ومن عصاه أدخله الله النار، وعلى هذا فيكون بعضهم في الجنة وبعضهم في النار قال الإمام ابن القيم – عليه رحمة الله تعالى –: وبهذا يتآلف شمل الأدلة كلها، وتتوافق الأحاديث الشريفة، ويكون معلوم الله – حل وعلا – الذي أحال عليه النبي – صلى الله عليه وسلم – حيث يقول: "الله أعلم بما كانوا عاملين" يظهر حينئذ، ويقع الثواب والعقاب عليه حال كونه معلوماً خارجياً لا علماً مجرداً ويكون النبي – صلى الله عليه وسلم – قد رد جوابهم إلى علم الله فيهم – والله يرد ثوابهم وعقابهم إلى معلومه منهم، فالخبر عنهم مردود إلى علمه، ومصيرهم مردود إلى معلومه، وقد جاءت بذلك آثار كثيرة يؤيد بعضها بعضاً (1) .
... قال عبد الرحيم – غفر الله له ولوالدين والمسلمين – الأدلة على صحة هذا القول كثيرة وقوية أبرزها خمسة أمور ثابتة مرضية:
__________
(1) انظر طريق الهجرتين: (521) وتقدم تخريج حديث "الله أعلم بما كانوا عاملين" تخريجاً كاملاً.(1/155)
1- الأحاديث الصحيحة النبوية روى الأئمة: ابن حبان وأحمد والبزار – رحمهم الله تعالى – وغيرهم بسند رجاله رجال الصحيح عن الأسود بن سريع – رضي الله تعالى عنه – أن نبي الله – صلى الله عليه وسلم – قال: "أربعة يمتحنون يوم القيامة: رجل أصم لا يسمع شيئاً، ورجل أحمق، ورجل هَرِم، ورجل مات في فترة فأما الأصم فيقول: رب لقد جاء الإسلام، وما أسمع شيئاً، وأما الأحمق فيقول: رب لقد جاء الإسلام، والصبيان يحذفونني بالبعر، وأما الهَرِم فيقول: رب لقد جاء الإسلام، وما أعقل شيئاً، وأما الذي مات في الفترة فيقول: رب ما أتانا لك رسول، فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه فيرسل إليهم: أن ادخلوا النار، قال: فواالذي نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم برداً وسلاماً (1) .
__________
(1) انظر المسند: (4/24) ، وموارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان – كتاب القدر – باب فيمن لم تبلغهم الدعوة: (452) ، وانظر رواية البزار في مجمع الزوائد: (7/216) قال الهيثمي: رجال أحمد والبزار رجال الصحيح ورواه الطبراني بنحوه. والحديث رواه البيهقي في كتاب الاعتقاد: (169) ، وقال: هذا إسناد صحيح. ورواه إسحاق بن راهويه في مسنده كما في مسالك الحنفا ضمن الحاوي: (2/204) ، ورواه أيضاً أبو نعيم في المعرفة، وابن مردويه كما في الدر المنثور: (4/168) قال ابن القيم في طريق الهجرتين: (225) قال الحافظ عبد الحق: قد جاء هذا الحديث وهو صحيح فيما أعلم.(1/156)
ورواه الإمام أحمد وغيره بإسناد صحيح عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – مرفوعاً مثل حديث الأسود بن سريع – رضي الله تعالى عنه – غير أنه قال في آخره: "فمن دخلها كانت عليه برداً وسلاماً ومن لم يدخلها يسحب إليها (1) .
ورواية أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – المرفوعة، رواها ابن جرير الطبري، وغيره موقوفة عليه من قوله بإسناد صحيح على شرط الشيخين، وأنت خبير أن مثل ذلك لا يقال من قبل الرأي، فله حكم الرفع.
__________
(1) انظر المسند: (4/24) ، ورواه البيهقي في الاعتقاد: (169) وقال: هذا إسناد صحيح ورواه إسحاق بن راهويه في مسنده وابن مردويه في تفسيره كما في مسالك الحنفا ضمن الحاوي: (2/204) والدر المنثور (4/168) ، قال الهيثمي في مجمع الزوائد: (7/216) رجال أحمد رجال الصحيح، وانظر الحديث في كتاب السنة لابن أبي عاصم: (1/176) ، وصححه الشيخ الألباني في تعليقه عليه.(1/157)
ولفظ الرواية: إذا كان يوم القيامة جمع الله – تبارك وتعالى – نَسَمَ الذين ماتوا في الفترة، والمعتوه والأصم، والأبكم، والشيوخ الذين جاء الإسلام وقد خرفوا، ثم أرسل رسولاً: أن ادخلوا النار، فيقولون كيف ولم يأتنا رسول؟ وايم الله لو دخلوها لكانت عليهم برداً وسلاماً، ثم يرسل إليهم فيطيعه من كان يريد أن يطيعه قبل، قال أبو هريرة – رضي الله تعالى عنه –: اقرؤوا إن شئتم: "وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (1) ".
__________
(1) الآية 15 من سورة الإسراء، وانظر تفسير الطبري: (15/41) ، ورواه عبد الرازق، وابن المنذر، وابن أبي حاتم كما في مسالك الحنفا ضمن الحاوي: (2/205) ، والدر المنثور: (4/168) وحكم عليه السيوطي في الأول بأن إسناده صحيح على شرط الشيخين، وقال: ومثله لا يقال من قبل الرأي فله حكم الرفع أ. هـ وقال ابن القيم في طريق الهجرتين: (524) في الجمع بين روايتي أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – المرفوعة والموقوفة: وهذا لا يضر الحديث أي رواية الحديث موقوفاً – فإنه إن سلك طريق ترجيح الزائد لزيادته فواضح، وإن سلك طريق المعارضة فغايتها، تحقق الوقف، ومثل هذا لا يقدم عليه بالرأي إذ لا مجال له فيقبل بجزم بأن هذا توقيف لا عن رأي أ. هـ.(1/158)
وروى الحاكم وغيره بإسناد صحيح على شرط الشيخين عن ثوبان – رضي الله تعالى عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: "إذا كان يوم القيامة جاء أهل الجاهلية يحملون أوثانهم على ظهورهم فيسألهم ربهم – عز وجل –: ما كنتم تعبدون؟ فيقولون ربنا لم ترسل إلينا رسولا ً، ولم يأتنا أمر، ولو أرسلت إلينا رسولاً لكنا أطوع عبادك لك، فيقول لهم ربهم: أرأيتم إن أمرتكم بأمر تطيعوني؟ فيقولون نعم، قال: فيأخذ مواثيقهم على ذلك، فيأمرهم أن يعمدوا لجهنم فيدخلونها، قال: فينطلقون حتى إذا جاؤوها رأوا لها تغيظاً وزفيراً، فيرجعوا إلى ربهم، فقالوا: ربنا فرقنا منها، فيقول: ألم تعطوني مواثيقكم لتطيعوني؟ اعمدوا لها فادخلوها، فينطلقون حتى إذا رأوها فرقوا، فرجعوا فقالوا: ربنا لا نستطيع أن ندخلها، قال: فيقول: ادخلوها داخرين، قال: فقال: نبي الله – صلى الله عليه وسلم – لو دخلوها أول مرة كانت عليهم برداً وسلاماً (1) ".
__________
(1) انظر المستدرك كتاب الفتن والملاحم: (4/450) قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذه السياقة، وأقره الذهبي، ورواه البزار أيضاً كما في مجمع الزوائد: (10/347) لكن بإسنادين ضعيفين.(1/159)
وروى أبو يعلى والبزار عن أنس بن مالك – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "يؤتى بأربعة يوم القيامة: بالمولود، والمعتوه، وبمن مات في الفترة، وبالشيخ الفاني، كلهم يتكلم بحجته، فيقول الرب – تبارك وتعالى – لعنق من النار: ابرز، فيقول لهم: إني كنت أبعث إلى عبادي رسلا ً من أنفسهم، وإني رسول نفسي إليهم، ادخلوا هذه، فيقول من كتب عليه الشقاء: يا رب أنى ندخلها، ومنها كنا نفر؟ قال: ومن كتب له السعادة يمضي فيقتحم فيها مسرعاً، قال فيقول الله – تبارك وتعالى –: أنتم لرسلي أشد تكذيباً ومعصية، فيدخل هؤلاء الجنة، وهؤلاء النار (1) ".
__________
(1) انظر مجمع الزوائد: (7/216) قال الهيثمي: وفيه ليث بن أبي سليم، وهو مدلس، وبقية رجال أبي يعلى رجال الصحيح، ورواه البيهقي في الاعتقاد: (170) ، وقاسم بن أصبغ وابن عبد البر في التمهيد كما في الدر المنثور: (4/168) وأشار الحافظ في الفتح: (3/246) إلى رواية البزار لهذا الحديث.(1/160)
وأخرج البزار عن أبي سعد الخدري – رضي الله تعالى عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: يؤتى بالهالك في الفترة والمعتوه والمولود، فيقول الهالك في الفترة: لم يأتني كتاب ولا رسول ويقول المعتوه: أي رب لم تجعل لي عقلا ً أعقل به خيراً ولا شراً، ويقول المولود: لم أدرك العمل، قال فيرفع لهم النار، فيقال لهم: رِدُوها، أو قال: ادخلوها، فيدخلها من كان في علم الله سعيداً إن لو أدرك العمل، قال: ويمسك عنها من كان في علم الله شقياً إن لو أدرك العمل، فيقول – تبارك وتعالى –: "إياي عصيتم، فكيف برسلي بالغيب (1) " ... وروى الطبراني في الأوسط والكبير عن معاذ بن جبل مرفوعاً نحو حديث أبي سعيد الخدري – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – (2) .
__________
(1) انظر مجمع الزوائد: (7/216) ، وقال الهيثمي: فيه عطية العوفي وهو ضعيف قال ابن القيم في طريق الهجرتين: (525) هذا وإن كان فيه عطية فهو ممن يعتبر بحديثه ويستشهد به، وإن لم يكن حجة 1هـ وقال السيوطي في مسالك الحنفا ضمن الحاوي: (2/204) في إسناده عطية العوفي فيه ضعف والترمذي يحسن حديثه، وهذا الحديث له شواهد تقتضي الحكم بحسنه وثبوته أ. هـ وقد أشار الحافظ في الفتح: (3/246) إلى رواية البزار هذه.
(2) انظر مجمع الزوائد: (7/217) قال الهيثمي فيه: عمرو بن واقد وهو متروك عند البخاري وغيره، ورمي بالكذب، وقال محمد بن المبارك الصوري: كان يتبع السلطان وكان صدوقاً، وبقية رجال الكبير رجال الصحيح، قال ابن القيم في طريق الهجرتين: هذا وإن كان عمرو بن واقد لا يحتج به، فله أصل وشاهد والأصول تشهد له، وفي الباب أحاديث غير هذا أ..هـ وقد أشار الحافظ في الفتح: (3/246) إلى رواية الطبراني هذه والحديث رواه أبو نعيم في الحلية: (5/127،9/305-306) من طريق عمرو بن واقد وذكر الذهبي الحديث في ترجمة عمرو بن واقد في الميزان: (3/292) مع عدة أحاديث وعقب عليها بقوله: وهذه الأحاديث لا تعرف إلا من رواية عمرو بن واقد وهو هالك. ورواه أيضاً الحكيم الترمذي في نوادر الأصول كما في الدر المنثور: (4/169) ، وفيه أيضاً أن الحكيم الترمذي روى عن عبد الله بن شداد – رضي الله تعالى عنه – مرفوعاً ما يدل على امتحان ذراري المشركين فانظر الرواية إن شئت.(1/161)
وهذه أحاديث متعددة يشد بعضها بعضاً، ويشهد لها أصول الشرع وقواعده، والقول بمضمونها هو مذهب السلف والسنة كما في طريق الهجرتين للإمام ابن القيم، وقال الحافظ في الفتح: قد صحت مسألة الامتحان في حق المجنون , ومن مات في الفترة من طرق صحيحة، وحكى البيهقي في كتاب الاعتقاد – أنه المذهب الصحيح، وقال في الإصابة: والحديث ورد من عدة طرق في حق الشيخ الهرم، ومن مات في الفترة، ومن ولد أكمه أعمى أصم، ومن ولد مجنوناً، أو طرأ عليه الجنون قبل أن يبلغ ونحو ذلك، وأن كلا منهم يدلي بحجة، ويقول: لو عقلت، أو ذكرت لآمنت، فترفع لهم نار ويقال ادخلوها، فمن دخلها كانت عليه برداً وسلاماً، ومن امتنع أدخلها كرهاً. هذا معنى ما ورد من ذلك، وقد جمعت طرقه في جزء منفرد (1) .
__________
(1) انظر طريق الهجرتين: (525) ، وفتح الباري: (3/246) ، والإصابة: (4/118) ، ومن العجيب ادعاء الحليمي في المنهاج في شعب الإيمان: (1/159) أن الحديث ليس بثابت، وهو مخالف لأصول المسلمين أ. هـ ونقل ذلك عنه القرطبي في التذكرة: (611) وأقره، وكرر نحو ذلك الأبِّيُّ في شرح صحيح مسلم: (1/670) فحكم بالضعف على الأحاديث الواردة في ذلك، ونقل ابن القيم في طريق الهجرتين: (525) نحو هذا عن ابن عبد البر، وعقب عليه بقوله: إسناده حديث الأسود بن سريع – رضي الله تعالى عنه – أجود من كثير من الأحاديث التي يحتج بها في الأحكام، وقال ابن تيمية في درء تعارض العقل والنقل: (8/437) وهذا القول منقول عن غير واحد من السلف من الصحابة والتابعين وغيرهم – رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
... وقد روي به آثار متعددة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – حسان يصدق بعضها بعضاً، وهو الذي حكاه الأشعري في "المقالات" عن أهل السنة والحديث، وذكر أنه يذهب إليه، وعلى هذا القول تدل الأصول المعلومة بالكتاب والسنة.(1/162)
2- تجتمع شمل الأدلة بهذا القول، ويزال ما بينها من تعارض ظاهري، فبعض من يمتحن يدخل الجنة، وبعضهم يدخل النار، ويظهر معلوم الله الواحد القهار، الذي أحال عليه النبي – صلى الله عليه وسلم – بقوله: "الله أعلم بما كانوا عاملين".
3- ليس في تكليف الممتحنين بإلقاء أنفسهم في نار الجحيم، تكليف بما ليس في وسع المخلوقين، إنما هو تكليف بما فيه مشقة شديدة، وهو كتكليف بني إسرائيل قتل أولادهم وأزواجهم وآبائهم حين عبدوا العجل كما قال الله – جل وعلا –: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} البقرة54.
يضاف إلى هذا أنهم لو امتثلوا ما أمروا به، وأطاعوه فدخلوا النار وألقوا أنفسهم فيها لما ضرهم ذلك، وكانت عليهم برداً وسلاماً، فليس التكليف بذلك بممتنع ولا بما لا يستطاع.
4- لا ينقطع التكليف إلا بعد دخول دار القرار، الجنة أو النار، أما في عرصات القيامة فلا ينقطع كما لا ينقطع في البرزخ، ومن أجاب في الدنيا طوعاً واختياراً أجاب الملكين عما يسألانه في البرزخ، ومن امتنع من الإجابة في الدنيا مُنِع منها في البرزخ وليس تكليفه في البرزخ وهو غير قادر قبيحاً، بل هو مقتضى الحكمة الإلهية، لأنه مكلف وقت القدرة وأبى، فإذا كلف وقت العجز، وقد حيل بينه وبين العقل كان عقوبة له وحسرة، وقد دلت الأحاديث المتقدمة على أن التكليف لا ينقطع إلا بعد دخول الجنة أو النار.(1/163)
5- هذا هو مذهب أهل السنة والحديث، وقد دلت عليه صحاح الأحاديث، فالأخذ به متعين جِدٌ نفيس (1) نسأل الله أن يصرف عنا لهو الحديث، وأن يحفظنا من كل وصف خبيث، إنه سميع مجيب.
حكم تعلم علم التوحيد
لعلم التوحيد حالتان: لا تخرج عنهما مباحثه العظام، وهما:
أولا ً: حالة إجمالية:
والعلم بها فريضة حتمية على كل مكلف من البرية، وتقوم تلك الحالة على الإيمان بوجود الله – جل وعلا – وأنه رب كل شيء ومليكه، وله على عباده حق العبادة فيجب صرف أنواع العبادات إليه، ويحرم صرف شيء من ذلك إلى غيره، وتقوم أيضاً على الإيمان بأن محمداً رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وقد بلغ دعوة الله – جل وعز – فيجب تصديقه فيما أخبر، وامتثال ما أمر به، وترك ما عنه نهى وحذر – عليه صلوات الله وسلامه – ويحرم صرف شيء من ذلك لغيره.
ثانياً: حالة تفصيلية:
والعلم بها واجب كفائي، والناس يتفاوتون في معرفة ذلك، وبذلك يتفاضلون فكل من أحاط علماً بمسائل التوحيد، وقام بموجبها فهو أفضل العبيد، وله الدرجات العلى عند الرب المجيد.
قال شيخ الإسلام – عليه رحمة ربنا الرحمن –: من شروط الإيمان: وجود العلم التام، ولهذا كان الصواب أن الجهل ببعض أسماء الله وصفاته لا يكون صاحبه كافراً، إذا كان مقراً بما جاء به الرسول – صلى الله عليه وسلم –، ولم يبلغه ما يوجب العلم بما يجهله على وجه يقتضي كفره إذا لم يعلمه (2) .
__________
(1) انظر تفصيل تلك الأقوال في طريق الهجرتين: (521-528) ، وفتح الباري: (3/246) ، وكتاب الاعتقاد للبيهقي: (169-170) ، ودرء تعارض العقل والنقل: (8/436-437) .
(2) انظر مجموع الفتاوى: (7/538) ، وتقرير ذلك في تحفة المريد: (1/21) وحاشية الأمير: (24) .(1/164)
والمقرر عند أهل السنة الطيبين أن أول واجب على المكلفين، توحيد رب العالمين، قال الإمام ابن تيمية شيخ المسلمين – عليه رحمة أرحم الراحمين –: إن السلف والأئمة متفقون على أن أول ما يؤمر به العباد الشهادتين، ومتفقون على أن من فعل ذلك قبل البلوغ لم يؤمر بتجديد ذلك عقيب البلوغ، والشهادة تتضمن الإقرار بالصانع – تبارك وتعالى – وبرسوله – صلى الله عليه وسلم – لكن مجرد المعرفة بالصانع لا يصير به الرجل مؤمناً، بل ولا يصير مؤمناً بأن يعلم أنه رب كل شيء حتى يشهد أن لا إله إلا الله و، لا يصير مؤمناً بذلك حتى يشهد أن محمداً رسول الله – صلى الله عليه وسلم – (1) .
__________
(1) انظر ذلك في درء تعارض العقل والنقل: (8/11) ، ونقل في: (8/7) عن أبي بكر بن المنذر أنه قال: أجمع كل من أحفظ عنه العلم على أن الكافر إذا قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله – صلى الله عليه وسلم – وأن كل ما جاء به محمد حق، وأبرأ إلى الله من كل دين يخالف دين الإسلام، وهو بالغ صحيح يعقل: أنه مسلم، فإن رجع بعد ذلك فأظهر الكفر كان مرتداً، يجب عليه ما يجب على المرتد، ونحوه في المغنى: (10/100) حيث قرر الإمام ابن قدامة أن من تلفظ بالشهادتين، ونطق بهما ثبت إسلامه، وزال عنه كفره وآثامه.(1/165)
وقال الإمام ابن قيم الجوزية – عليه رحمة رب البرية –: التوحيد أول دعوة الرسل – عليهم صلوات الله وسلامه – وأول منازل الطريق، وأول مقام يقوم فيه السالك إلى الله – تبارك وتعالى – قال الله – جل وعلا –: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} الأعراف59، وقال هود – على نبينا وعليه الصلاة والسلام – لقومه: {اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} الأعراف65، وقال شعيب – على نبينا وعليه الصلاة والسلام – لقومه: {اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} الأعراف85، وقال تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} النحل36.(1/166)
فالتوحيد مفتاح دعوة الرسل – عليهم صلوات الله وسلامه – ولهذا قال النبي – صلى الله عليه وسلم – لرسوله معاذِ بن ِ جبلٍ – رضي الله تعالى عنه – وقد بعثه إلى اليمن: إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن أطاعوا لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب (1)
__________
(1) انظر الحديث في صحيح مسلم – كتاب الإيمان – باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام: (1/50-51) ، وصحيح البخاري – كتاب الزكاة – باب وجوب الزكاة –: (3/261) ، وباب لا تؤخذ كرائم أموال الناس في الصدقة –: (3/223) ، وباب أخذ الصدقة من الأغنياء وترد في الفقراء حيث كانوا: (3/357) ، والجملة الأخيرة منه في كتاب المظالم – باب الاتقاء والحذر من دعوة المظلوم –: (5/100-101) وكتاب المغازي – باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن قبل حجة الوداع –: (8/64) ، وكتاب التوحيد – باب ما جاء في دعاء النبي – صلى الله عليه وسلم – أمته إلى توحيد الله – تبارك وتعالى –: (13/347) بشرح ابن حجر في الجميع، وسنن الترمذي – كتاب الزكاة – باب ما جاء في كراهية أخذ خيار المال في الصدقة –: (2/390-243) ، وسنن أبي داود – كتاب الزكاة – باب في زكاة السائمة –: (2/242) ، وسنن النسائي – كتاب الزكاة – باب وجوب الزكاة –: (5/3) وباب إخراج الزكاة من بلد إلى بلد –: (5/41) ، وسنن ابن ماجه – كتاب الزكاة – باب فرض الزكاة: (1/568) ، وسنن الدارمي – كتاب الزكاة – باب فضل الزكاة –: (1/379) ، والمسند: (1/233) ، وشرح السنة – كتاب الزكاة – باب وجوب الزكاة –: (5/472-473) ، وانظر الجملة الأخيرة منه في سنن الترمذي – كتاب البر والصلة – باب ما جاء في دعوة المظلوم –: (6/220) ، والجملة التي قبلها في سنن الدارمي – كتاب الزكاة – باب النهي عن أخذ الصدقة من كرائم الأموال: (1/384) .(1/167)
وقال – صلى الله عليه وسلم –: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله (1)
__________
(1) الحديث ورد من رواية أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – في صحيح مسلم – كتاب الإيمان – باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله: (1/52) ، وسنن الترمذي – كتاب الإيمان – باب ما جاء أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله –: (7/267) ،وسنن النسائي – كتاب الجهاد – باب وجوب الجهاد –: (6-5-7) ، وأول كتاب تحريم الدم –: (7/72-74) ، وسنن أبي داود – كتاب الجهاد – باب على ما يقاتل المشركون؟: (3/101) ،وسنن ابن ماجه – المقدمة – باب في الإيمان –: (1/27) ، وكتاب الفتن – باب الكف عمن قال لا إله إلا الله –: (2/1295) ، والمسند: (2/528،527،502،482،475،439،423،377،345،314) ، وشرح السنة – كتاب الإيمان – باب البيعة على الإسلام وشرائعه والقتال مع من أبى –: (1/65-66) .
وورد من رواية أبي هريرة عن عمر لما قال أبي بكر – رضي الله تعالى عنهم أجمعين –: كيف تقاتل الناس، وقد قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الحديث، في صحيح البخاري – كتاب الزكاة – باب وجوب الزكاة –: (3/62) ، وكتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم – باب قتل من أبى قبول الفرائض وما نُسبوا إلى الردة –: (12/275) ، وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة – باب الاقتداء بسنن رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: (13/250) وعَلَّقَهُ على عُمَرَ في باب 28: (13/339) بشرح ابن حجر فيهما، وصحيح مسلم – المكان المتقدم – وسنن أبي داود – وأول كتاب الزكاة: (2/198) ، وسنن الترمذي – المكان المتقدم – وسنن النسائي – المكانين المتقدمين، وكتاب الزكاة باب مانع الزكاة – (5/10-11) ، والمسند: (1/19،11، 2/423) ، وشرح السنة – كتاب الزكاة باب القتال مع مانعي الزكاة –: (5/488) ، وورد من رواية أنس بن مالك – رضي الله تعالى عنهما – في صحيح البخاري كتاب الصلاة – باب فضل استقبال القبلة –: (1/497) بشرح ابن حجر، وسنن الترمذي – كتاب الإيمان – باب ما جاء في قول النبي – صلى الله عليه وسلم –: أمرت بقتالهم حتى يقولوا لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة –: (7/269) ، سنن النسائي – المكان الثاني مما تقدم – وكتاب الإيمان وشرائعه – باب على ما يقاتل الناس؟: (8/96) ، وسنن أبي داود – كتاب الجهاد – باب على ما يقاتل المشركون؟: (3/101) ، والمسند: (3/224،199) وشرح السنة – المكان الأول –.
وورد من رواية أنس بن مالك أن أبا بكر قال لعمر – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – وعندما كلمه في شأن المرتدين: إنما قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الحديث، في سنن النسائي – المكانين المتقدمين أولا ً.
وورد الحديث من رواية ابن عمر – رضي الله تعالى عنهما – في صحيح البخاري – كتاب الإيمان باب فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم: (1/75) بشرح ابن حجر –، وصحيح مسلم – المكان المتقدم، وشرح السنة – المكان الأول.
وورد من رواية جابر بن عبد الله – رضي الله تعالى عنهما – في صحيح مسلم – المكان المتقدم – وفي سنن الترمذي – كتاب التفسير – سورة الغاشية –: (9/74) ، وسنن ابن ماجه – كتاب الفتن – باب الكف عمن قال: لا إله إلا الله: (2/1295) ، والمسند: (3/394،339،332،300) .
وورد من رواية أوس بن حذيفة – رضي الله تعالى عنه – في سنن النسائي – أول كتاب تحريم الدم: (7/74-75) وإسناده صحيح كما في تعليق الشيخ الأرناؤوط على جامع الأصول: (1/249) وسنن ابن ماجه – المكان المتقدم – آنفاً، وسنن الدارمي – كتاب السير – باب في القتال على قول النبي – صلى الله عليه وسلم –: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله: (2/218) ، والمسند: (4/8-9) .
وورد من رواية معاذ بن جبل في سنن ابن ماجه – المقدمة – باب في الإيمان –: (1/28) والمسند: (5/246) .
وورد من رواية النعمان بن بشير – رضي الله تعالى عنه – في سنن النسائي – في المكان المتقدم آنفاً – وسنده حسن كما في تعليق الشيخ الأرناؤوط على جامع الأصول: (1/248) .
وورد من رواية رجل صحابي لم يسم في سنن النسائي أيضاً في المكان المتقدم آنفاً.(1/168)
" ولهذا كان الصحيح أن أول ما يجب على المكلف: شهادة أن لا إله إلا الله، لا النظر ولا القصد إلى النظر، ولا الشك، كما هي أقوال لأرباب الكلام المذموم، فالتوحيد أول ما يدخل به في الإسلام، وآخر ما يخرج به من الدنيا، كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم –: ومن كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة (1)
__________
(1) الحديث رواه أبو داود في كتاب الجنائز – باب في التلقين –: (3/483) عن معاذ بن جبل – رضي الله تعالى عنه – وعنه رواه الحاكم في المستدرك – كتاب الجنائز –: (1/351) ، قال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، وقد كنت أمليت حكاية أبي زُرعة، وآخر كلامه كان سياقة هذا الحديث، وأقره الذهبي، وقد جعل البخاري ذلك ترجمة باب لأول كتاب الجنائز – فقال: باب في الجنائز، ومن كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة: (3/109) بشرح ابن حجر، وما أشار إليه الحاكم من وقوع حكاية لأبي زُرعة الرازي تدل على حسن خاتمته، وأنه من أولياء الله وصفوته، فإليك حاصلها، مَنّ الله الكريم علينا بمثلها، وروى ابن حاتم في الجرح والتعديل: (1/345-346) ، قال سمعت أبي يقول: مات أو زُرعة مطعوناً مبطوناً يعرق جبينه في النزع، فقلت لمحمد بن مسلم: ما تحفظ في تلقين الميت: لا إله إلا الله؟ فقال محمد بن مسلم: يروي عن معاذ بن جبل – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – فمن قبل أن يستتم رفع أبو زُرعة رأسه وهو في النزع، فقال: روى عبد الحميد بن جعفر عن صالح بن أبي عريب عن كثير بن مرة عن معاذ بن جبل عن النبي – صلى الله عليه وسلم –: من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة فصال في البيت ضجة ببكاء من حضر، وكان يقول في مرضه الذي مات فيه، اللهم إني أشتاق إلى رؤيتك، فإن قال لي بأي عمل اشتقت إليه؟ قلت: برحمتك يا رب أ. هـ.
توفي أبو زرعة عبيد الله بن عبد الكريم سنة مائتي وأربع وستين – عليه رحمة رب العالمين – لم يخلف مثله علما وفقهاً، وصيانة وصدقاً، قال إسحاق بن راهُوْيَهْ: كل حديث لا يحفظه أبو زرعة ليس له أصل، ولما نزل أبو زرعة ضيفاً على الإمام أحمد – عليهما رحمة الله تعالى – لم يُصَّل ِ الإمام أحمد إلا الفرائض، وقال: اعتضت بنوافلي مذاكرة الشيخ، انظر هذا وغيره من ترجمته المباركة العطرة في الجرح والتعديل: (1/328-349) ،وتاريخ بغداد: (10/326-337) ، وتهذيب التهذيب: (7/30-34) ، وشذرات الذهب: (2/147-149) ، والبداية والنهاية: (11/37) ، وتذكرة الحفاظ: (2/557،558) ، وطبقات الحنابلة: (1/199-203) .(1/169)
فهو أول واجب، وآخر واجب، فالتوحيد: أول الأمر وآخره (1) .
قال عبد الرحيم – غفر الله ذنوبه أجمعين –: وإنما الإقرار بتوحيد رب العالمين أول واجب على الكافرين، لأن دين الله الإسلام هو ما فطر الله عليه الإنس والجان، كما ثبت ذلك من خير الأنام نبينا – عليه الصلاة والسلام –: كل مولود يولد على الفطرة.
وإذا كان الأمر كذلك فلا داعي لتوقف صحة توحيد المكلف على النظر، ولا على الشك الموصل إلى سقر، ولا على بقية الأقوال التي أوصلها أهل الزيغ إلى اثني عشر، ولذلك قرر الإمام ابن حجر – عليه رحمة الله تعالى – أن قول الله – جل وعلا – {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} الروم30، وقوله – صلى الله عليه وسلم – "كل مولود يولد على الفطرة" ظاهران في دفع تلك الأقوال، ودحضها من أساسها، ونقل عن أبي جمرة عن أبي الوليد الباجي عن أبي جعفر السِّمْناني – عليهم جميعاً رحمة الله تعالى – وهو من رؤوس الأشاعرة وكبارهم – أن تلك الأقوال من مسائل أهل الاعتزال، وبقيت في مذهب الأشعرية، والله المستعان.
__________
(1) انظر مدارج السالكين: (3/443-444) ، ومثله في: (1/134-135) ، وفي مجموع الفتاوى: (10/51) وجميع الرسل – عليهم الصلاة والسلام – افتتحوا دعوتهم بهذا الأصل ثم قرر ذلك بالآيات المتقدمة، وفي: (1/76) قرر أن الشهادتين أصل الدين، وأن النطق بهما أول واجب على المكلفين.(1/170)
فاعلم هذا يا أخا الإسلام، وحذار حذار من تلوث الأذهان بقاذورات علم الكلام، وشرح الله صدورنا للإيمان، ومَنّ علينا باتباع خير الأنام – عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام – (1) .
بعد تلك الجولة المباركة في بيان أقسام التوحيد، نرجع لمدارسة الموقف السديد، نحو صفات الرب المجيد، وسأتكلم على هذا الموضوع المفيد، ضمن أربعة مباحث على التحديد، وفي ذلك ذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
1- مصادر توحيد الأسماء والصفات:
... إن طريق الإيمان بأسماء الرب وصفات الرحمن منحصر فيما جاء به نبينا – عليه الصلاة والسلام – من آيات القرآن، والأحاديث الصحيحة الحسان، وسار عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، إذ يستحيل قطعاً عدم بيان النبي – صلى الله عليه وسلم – ما يتصف به ربنا – جل وعلا – من أسماء حسنى، وصفات كريمة عظمى، بياناً واضحاً محكماً، يدفع كل الشك، ويزيل كل شبهة، ويرفع كل وهم، ويدحض كل باطل، يدل على ذلك أمور كثيرة أبرزها:
__________
(1) تقدم في هذه الكتاب المبارك في صفحة:...... تخريج حديث كل مولود يولد على الفطرة، وانظر كلام الإمام ابن حجر في الفتح: (1/70-71، 13/349-355) وانظر تشتت أقوال علماء الكلام في بيان أول واجب على الأنام، ووصولها إلى اثني عشر قولا ً في تحفة المريد: (1/34) ، وحاشية الأمير: (38) ولو لم يكن في علم الكلام إلا ما قرره المعتزلة اللئام، من أن أول ما يجب على الإنسان الشك في توحيد الرحمن، لكفى العاقل إعراضاً عن ذلك الهذيان والبهتان، وقد أطال شيخ الإسلام – عليه رحمة ربنا الرحمن – في تفنيد تلك الأوهام فانظر درء تعارض العقل والنقل: (8/3-15، 349-359) .(1/171)
أ- رسالة النبي – صلى الله عليه وسلم – فيها الهدى والنور، وإرشاد العباد لأقوم الأمور، كما قرر ذلك العزيز الغفور، فقال: {الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} إبراهيم1، وقال – جل وعلا – في آخر سورة الشورى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ} الشورى53.
وقد أمَرَ اللهُ نبيَّنا – صلى الله عليه وسلم – أن يقول: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} يوسف108، وشهد له ربنا – جل جلاله – بأنه بعثه داعياً إليه، وسراجاً منيراً – فداه أبي وأمي – فقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً} الأحزاب 45-46.(1/172)
وإذا كان هذا حال رسالة نبينا – صلى الله عليه وسلم – فمن المحال في العقل والدين أن يترك النبي – صلى الله عليه وسلم – باب الإيمان بالله – جل وعلا – والعلم به ملتبساً مشتبهاً، لا يميز في ذلك بين ما يجب لله من الأسماء الحسنى، والصفات العليا، وما يجوز له، وما يمتنع عليه، لأن معرفة هذا أصل الدين، وأساس الهداية، أفضل وأوجب ما اكتسبته القلوب، وحصلته النفوس، أدركته العقول، قال الإمام ابن القيم – عليه رحمة الله تعالى – أصل الدين وأصل أعماله وإرادته محبة الله – جل وعلا – والأنس به، والشوق إلى لقائه، والرضا به وعنه، كما أن معرفته والعلم بأسمائه وصفاته وأفعاله أجَلّ علوم الدين كلها، فمعرفته أجل المعارف، وإرادة وجهه أجل المقاصد، وعبادته أشرف الأعمال، والثناء عليه بأسمائه وصفاته ومدحه بذلك وتمجيده أشرف الأقوال، وذلك أساس الحنيفية ملة إبراهيم – على نبينا وعليه الصلاة والسلام – فمن كان بالله – سبحانه وتعالى – وأسمائه وصفاته أعْرف، وفيه أرغب، وله أحب، وإليه أقرب وجد من هذه الحلاوة في قلبه ما لا يمكن التعبير عنه، ولا يعرف إلا بالذوق والوجد، ومتى ذاق القلب ذلك لم يمكنه أن يقدم عليه حباً لغيره، وأنساً به، وكلما ازداد له حباً ازداد له عبودية وذلاً، وخضوعاً ورقاً، وحرية عن رق غيره (1) .
__________
(1) انظر إغاثة اللهفان: (2/197،195) ، وانظر ما لمشهد الصفات من آثار طيبات في نفوس المؤمنين والمؤمنات في مدارج السالكين: (1/417) ، وفي: (3/345-361) حرر الكلام وأطال، وأتى بما يشرح الصدر، وينير العقل، ويطرب البال، فانظره لزاماً، فما إخالك تعثر عليه في مكان آخر تماماً وصفوة ذلك الكلام: أنه لا يستقر للعبد قدم من الإيمان، حتى يؤمن بصفات الرحيم الرحمن، فذلك أساس الإسلام وقاعدة الإيمان، وثمرة شجرة الإحسان، فهو مبدأ الطريق، ووسطه، وغايته وهو روح السالكين، وهاديهم إلى الوصول إلى رب العالمين، ومحرك عزماتهم إذا فتروا، ومثير هممهم إذا قصروا فَسَيْرُهُم على الشواهد، ومن لا شاهد له فلا سير له، ولا طلب ولا سلوك وأعظم الشواهد صفات محبوبهم، ونهاية مطلوبهم، وذلك هو العلم الذي رفع لهم في السير فشمروا إليه.
... وقال مقيد هذه الأسطر – ستره الله تعالى – لقد صدق الإمام ابن القيم ونصح، فيما قرر ووضح فالذي يحرك العزمات إلى رب الأرض والسموات ويجعل الحياة الدنيا جنة من الجنات، معرفة صفات الله المباركات، وإن شئت التحقق من ذلك وأنت له غير سالك – من الله الكريم عليها جميعاً بمعرفته حقاً، وبمعاملته إخلاصاً وصدقاً – فاستمع لأثر صفتين من صفات رب العالمين، في نفوس المكلفين من متقدمين ومتأخرين.
أثر صفة الضحك:
روى الإمام أحمد في المسند: (4/13،12،11) وابن ماجه في المقدمة – باب فيما أنكرت الجهمية: (1/64) والدارمي في رده على المريسي: (533) ضمن كتاب عقائد السلف ورواه الطيالسي: (2/77) منحة المعبود والبيهقي في الأسماء والصفات: (473) وابن أبي عاصم في كتاب السنة – باب ما ذكر من ضحك ربنا – عز وجل –: (1/244) ، والدارقطني في الصفات، والطبراني أيضاً كما في جمع الجوامع: (1/565) عن أبي رَزِين ٍ – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "ضحك ربنا من قنوط عباده وقرب غِيرِهِ – أي قرب تغير الحال من ضيق إلى فرج – قال، قلت يا رسول الله! أيضحك الرب – عز وجل؟ قال: نعم قلت: لن نعدم من رب يضحك خيراً" والحديث رواه الخطيب في تاريخ بغداد: (13/44) وابن خزيمة في كتاب التوحيد – باب ذكر إثبات ضحك ربنا – عز وجل –: 235 عن أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنها – قالت، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "إن الله – عز وجل – ليضحك من إياسة العباد وقنوطهم، وقربه منهم" قلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي أيضحك ربنا؟ قال: "إي والذي نفسي بيده إنه ليضحك" فقلت: إذاً لا يعدمنا منه خيراً إذا ضحك، وأشار إلى هذه الرواية البيهقي في الأسماء والصفات: (473) .
والحديث بالطريق الأول رجاله ثقات احتج بهم مسلم، إلا وكيع بن عُدُس، ويقال: حُدُس فهو من رجال الأربعة ومقبول كما في التقريب: (2/331) وذكره ابن حبان في الثقات كما في تهذيب التهذيب: (11/131) . وفي الطريق الثاني سَلْم بن سالم البَلَخي، ضعفه الأئمة بل اتُفِقَ على ضعفه كما في الميزان: (2/185) ، واللسان: (3/63) ، وفيه خارجة بن مصعب متروك كما في التقريب: (1/200) .
والحديث لطرقه وشواهده حسن، وقد نص على تحسينه شيخ الإسلام – عليه رحمة الله تعالى – في الواسطية: (97) ، وهي ضمن مجموع الفتاوى: (3/139) ، ولفظه "عجب ربنا من قنوط عباده وقرب غَيْرِهِ، ينظر إليكم أزلين قنطين فيظل يضحك يعلم أن فرجكم قريب" وهو قريب من لفظ رواية الإمام أحمد الثالثة وأشار إليه محتجاً به الإمام ابن القيم في مدارج السالكين: (3/348) .
وصفة الضحك تواترت بها الأحاديث عن نبينا – صلى الله عليه وسلم – في وصف ربنا – جل جلاله – أقطع بذلك، وأسأل عنه يوم القيامة، قال الإمام ابن خزيمة في كتاب التوحيد: (230) باب ذكر إثبات ضحك ربنا – عز وجل – بلا صفة تصف ضحكه – جل ثناؤه – لا، ولا يُشَّبهُ ضحكُه بضحك المخلوقين وضحكهم كذلك بل نؤمن بأنه يضحك كما أعلم النبي – صلى الله عليه وسلم – ونسكت عن صفة ضحكه – جل وعلا – إذ الله – عز وجل – استأثر بصفة ضحكه لم يطلعنا على ذلك، فنحن قائلون بما قال النبي – صلى الله عليه وسلم –، مصدقين بذلك بقلوبنا منصتون عما لم يبين لنا مما استأثر الله – تبارك وتعالى – بعلمه أ. هـ. وانظر مدارج السالكين: (1/216) وفيه ليس في إثبات هذه الصفة محذور ألبتة فإنه ضحك ليس كمثله شيء. وانظر لزاماً رد الدارمي على المريسي: (530-537) ضمن كتاب عقائد السلف.
فانظر – رعاك الله – إلى استبشار الصحابة الأطهار بتلك الصفة للكريم الغفار، وفي أسْدِ الغابة: (4/311) ، والإصابة: (3/42) وسيرة ابن هشام: (3/39) ، والسيرة الحلبية: (2/411) ، والبداية والنهاية: (3/271) عن ابن إسحاق قال: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن عوف بن الحارث وهو ابن عَفْراء – رضي الله تعالى عنه – قال يوم بدر: يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ما يُضْحِكُ الربَّ من عبده؟ قال: غَمْسُهُ يَدَهُ في العَدُوّ حَاسِراً – أي: لا درع له، ولا مغفر – فنزع درعاً كانت عليه فقذفها، ثم أخذ سيفه فاتل حتى قتل. – رضي الله تعالى عنه –.
ثانيا: أثر صفة اتصاف ربنا بمغفرة الذنوب، وبتوبته على أهل الخطايا والعيوب:
ثبت في صحيح البخاري – كتاب أحاديث الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام –: (6/512) بشرح ابن حجر، وصحيح مسلم – كتاب التوبة – باب قبول توبة القاتل وإن كثر قتله –: (4/2118) ، ورقم 2766، وسنن ابن ماجه – كتاب الديات – باب هل لقاتل مؤمن توبة؟: (2/875) ، ومسند أحمد: (3/72،20) عن أبي سعيد الخدري – رضي الله تعالى عنه – قال قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفساً، فسأل عن أعلم أهل الأرض فدُل على راهب فأتاه فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفساً، فهل له من توبة؟ فقال: لا، فقتله فكمل به مائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدُل على رجل عالم، فقال: إنه قتل مائة نفس، فهل له من توبة؟ فقال: نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناساً يعبدون الله، فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء، فانطلق حتى إذا نَصَفَ الطريقَ – أي: بلغ نصفها – أتاه الموت فاختصمت فيه ملائمة الرحمة، وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائباً مقبلاً بقلبه إلى الله، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيراً قط، فأتاهم ملك في صورة آدمي، فجعلوه بينهم فقال: قيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيتهما كان أدنى فهو له، فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة" وفي رواية في الصحيحين: "فأوحى الله إلى هذه أن تقرَّبي، وأوحى الله إلى هذه أن تباعدي" زاد البخاري وقال: قيسوا ما بينهما، فوجد إلى هذه أقرب بشبر فغفر له" والحديث رواه الطبراني بسند رجاله رجال الصحيح عن عبد الله بن عمرو – رضي الله تعالى عنهما – ورواه أيضاً عن معاوية بن أبي سفيان – رضي الله تعالى عنهما – بإسنادين رجال أحدهما رجال الصحيح غير أبي عبد رب وهو ثقة، ورواه أبو يعلى بنحوه كذلك، ورواه الطبراني أيضاً عن أبي بُلْوَة َ البَلَوِيِّ وكان من أصحاب الشجرة – رضي الله تعالى عنه – ورواه أيضاً عن ابن مسعود موقوفاً عليه بسند رجاله رجال الصحيح وله حكم الرفع لأنه لا يُدْرَكًُ بالرأي، وفي تلك الروايات شيء من الاختلاف في السياقة فانظره في مجمع الزوائد: (10/211-213) كتاب التوبة – باب في مغفرة الله – تعالى – للذنوب العظام وسعة رحمته –.
فانظر – وفقك الله تعالى – إلى أي شيء أدى إليه جهل الراهب بصفات الرب الواهب، ثم تأمل جواب العالم السديد لمعرفته بصفات الرب المجيد، كيف هدى الله – تبارك وتعالى – بجوابه المجرمين من العبيد.
والحقيقة أنه لولا اتصاف ربنا الكريم بمغفرة الذنوب، وقبوله توبة من يتوب لضاقت الأرض بما رحبت على الصديقين، بل تضيق عليهم أنفسهم في كل مكان وحين، إذ لا يخلو أحد من تقصير، وتقصير كل ٍ بحسبه، وإذا كان هذا حال الطيبين، فما بالك بحال العتاة المفسدين، فحمداً لله حمداً على ما وصف به نفسه، وأكرمنا بمعرفة ذلك ليهدأ رَوْعُنا، وتطمئن قلوبنا، وتنشرح صدورنا، فَعِلْمُ الأسماء الحسنى، والصفات العلى، مع القيام بما يقتضيه ذلك الِعْلمُ من عبدوية لله – جل وعلا – عن طريق تعلق القلب بتلك الأسماء والصفات، ودعاء الله بها حسبما يتلاءم معها من الأحوال والأوقات، شأنٌ عظيم؛ لأن كل مطلوب يُسألُ بالمناسب من أسماء الملك الكريم كما في مدارج السالكين،: (1/448) ، وفيه في: (1/431) نقلا ً عن الإمام ابن تيمية – عليه رحمة الله تعالى –: من أراد السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية.
قال عبد الرحيم – غفر الله له وللمسلمين، ومن تدبر الأدلة الشرعية أيقن بذلك غاية الإيقان، وإليك حديثان من أحاديث النبي – صلى الله عليه وسلم – هما خاتمة الكلام في هذه المسألة التي هي أوسع مسائل الإسلام.
ثَبَتَ في صحيح مسلم – كتاب البر – باب تحريم الظلم –: (4/1994) رقم 2577 عن أبي ذر – رضي الله تعالى عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – فيما روى عن الله – تبارك وتعالى – أنه قال: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عار ٍ إلا من كسوته فاستكسوني أكْسِكُمْ، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار , وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي إنكن لن تبلغوا ضَرِّي فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما يَنْقُصُ المِخْيَط ُ إذا أدخل البخر، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم أياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه".
والحديث رواه أحمد في المسند: (5/177،160،154) ، والترمذي في سننه في كتاب صفة القيامة – باب 49: (7/188) ، وابن ماجه في سننه – كتاب الزهد – باب ذكر التوبة: (2/1422) وأخرجه الطبراني من رواية أبي موسى الأشعري – رضي الله تعالى عنه – كما في جامع العلوم والحكم: (210) بألفاظ متقاربة، وقد ساق الإمام النووي الحديث بسنده إلى أبي ذر – رضي الله تعالى عنه – في آخر كتاب الأذكار – وهو آخر حديث فيه وقال: رجال إسناده مني إلى أبي ذر – رضي الله تعالى عنه – كلهم دمشقيون، وروينا عن الإمام أحمد بن حنبل – رحمهم الله جميعاً – أنه قال: ليس لأهل الشام حديث أشرف من هذا الحديث، وفي صحيح مسلم كان أبو إدريس الخولاني راوي الحديث عن أبي ذر – رضي الله عنهم أجمعين – إذا حدث بهذا الحديث جثا على ركبتيه، وانظر الكلام على فوائد الحديث ودلالاته في الفتح المبين: (190-201) ، وجامع العلوم والحكم: (210-220) ، والفتوحات الربانية شرح الأذكار النواوية: (7/338-402) .
فتدبر هذا الحديث الشريف العظيم – نور الله قلبي وقلبك – لتتحقق أن الإنسان لا يخلو من تقصير في حق الكريم الرحمن، ومن جود ربنا وكرمه أنه يحب التائبين، فمن لجأ من المخطئين إلى رب العالمين لعلمه بأن الله كريم متصف بمغفرة الذنوب، وستر العيوب تاب الله عليه و، غفر له وأحسن إليه – كيف لا وهو أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين، حكى الإمام ابن القيم في مدارج السالكين: (1/213) ، والإمام ابن رجب في جامع العلوم: (215) عن بعض الصالحين أنه حديث له شرود من رب العالمين فرأى في طريقه باباً قد فتح، وخرج منه صبي يستغيث ويبكي، وأمه خلفه تطرده، حتى خرج فأغلقت الباب في وجهه، ودخلت فذهب الصبي غير بعيد، ثم وقف متفكراً، فلم يجد له مأوى غير البيت الذي أخرج منه، ولا من يؤيه غير والدته، فرجع مكسور القلب حزيناً، فوجد الباب مغلقاً، فجعل يبكي ويقول: يا أماه: من يفتح لي الباب إذا أغلقت عني بابك؟ ومن يدنيني إذا طردتني؟ ثم توسد الباب، ووضع خده على عتبة الباب ونام، فخرجت أمه وأخذته حتى وضعته في حجرها، وجعلت تقبله وتقول: يا ولدي: أين تذهب عني؟ ومن يؤويك سواي؟ ألم أقل لك لا تخالفني، ولا تحملني بمعصيتك لي على خلاف ما جُبِلْتُ عليه من الرحمة بك، والشفقة عليك، وإرادة الخير لك، ثم دخلت به البيت، فتنبه ذلك الصالح من غفلته وعاد إلى ربه – جل جلاله – وقد ذكر ابن القيم نحو هذه القصة أيضاً في مدارج السالكين: (1/429-430) على التمثيل بها لرحمة أرحم الراحمين، وقبوله توبة التائبين.
وهذا الأمر الذي دل عليه هذه الحديث الشريف يوضحه غاية الإيضاح الحديث الثاني وهو ما رواه الإمام البخاري في كتاب التوحيد – باب 35: (13/466) بشرح ابن حجر، والإمام مسلم – كتاب التوبة – باب قبول التوبة من الذنوب وإن تكررت الذنوب والتوبة: (17/75-76) بشرح النووي، والإمام أحمد في المسند: (2/492،405،296) عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – قال سمعت النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول: "إن عبداً أصاب ذنباً – وربما قال: أذنب ذنباً – فقال: رب أذنبت – وربما قال أصبت – فاغفر. فقال ربه: أعَلِمَ عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به؟ غفرت لعبدي، ثم مكث ما شاء الله، ثم أصاب ذنباً – أو أذنب ذنباً – فقال: رب أذنبت – أو أصبت – آخر، فاغفره. فقال: أعَلِمَ عبدي أن له رباً يغفر الذنب، ويأخذ به؟ غفرت لعبدي، ثم مكث ما شاء الله، ثم أذنب ذنباً – وربما قال أصاب ذنباً فقال: رب أصبت – أو أذنبت – آخر فاغفره لي، فقال: أعَلِمَ عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به؟ غفرت لعبدي ثلاثاً فليعمل ما شاء"، قال الإمام النووي – رحمه الله تعالى –: معناه ما دمت تذنب ثم تتوب غفرت لك، فهنيئاً لمن علم باتصاف ربه – جل وعلا – بتلك الصفة المباركة ليكون الله – جل جلاله – مَأمََنهُ، وليفر منه إليه، رزقنا الله توبة نصوحاً وعوداً إليه صحيحاً فهو ملاذنا، وإليه مآبنا، وهو حسبنا، لا إله غيره، ولا رب سواه.(1/173)
ب- ترك النبي – صلى الله عليه وسلم – الأمة على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وتحقيقاً لذلك فقد علمهم كل شيء حتى الخِراءة َ كما ثبت في المسند وصحيح مسلم والسنن الأربعة عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال: قيل لسلمان الفارسي – رضي الله تعالى عنه – قد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخِراءة َ، فقال سليمان: أجل، قلد نهانا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن نستقبل القبلة لغائط أو بول، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار أو أن نستنجي برجيع أو بعظم" (1) .
__________
(1) انظر صحيح مسلم – كتاب الطهارة – باب الاستطابة: (1/323) ، وسنن الترمذي – كتاب الطهارة – باب الاستنجاء بالحجارة: (1/27) ، وسنن أبي داود – كتاب الطهارة – باب كراهية استقبال القبلة عند قضاء الحاجة: (1/17) ، وسنن النسائي – كتاب الطهارة – باب النهي عن الاكتفاء في الاستطابة بأقل من ثلاثة أحجار: (1/36) وباب النهي عن الاستنجاء باليمين: (1/40) وسنن ابن ماجه – كتاب الطهارة – باب الاستنجاء بالحجارة، (1/115) ، والمسند: (5/439،438،437) ، وانظره في منحة المعبود في ترتيب مسند الطيالسي أبي داود: (1/47) ، ومنتقى ابن الجارود: (20) ، وسنن البيهقي الكبرى – كتاب الطهارة – جماع أبواب الاستطابة: (1/112،102،91) .
والقائل ذلك الكلام، للصحابي سلمان – رضي الله تعالى عنه – من المشركين اللئام كما ورد في رواية الأئمة الكرام أحمد، ومسلم، والنسائي، وابن ماجه والبيهقي. وورد في رواية الطيالسي تعيين كونه من أهل الكتاب أي من اليهود وهم المشركون، وفي جهنم خالدون.
واعلم أن أفضل أحوال الاستطابة وأكملها أن يزيل المتطهر النجاسة بحجراً أو ورق ثم يستعمل الماء، وذلك لتخف النجاسة، وتقل مباشرتها باليد، ولتحصل النظافة على أبلغ وجه، فإن اقتصر على إحداهما فالماء أفضل لأنه يزيل عين النجاسة وأثرها أما الحجر وما في حكمه فزيل العين دون الأثر، ولذلك كان الاستنجاء بالماء مروءة آدمية ووظيفة شرعية كما في أحكام القرآن لابن العربي: (2/1015) ، ونقله عنه القرطبي في تفسيره: (8/261) وثبت في سنن الترمذي – كتاب الطهارة – باب ما جاء في الاستنجاء بالماء: (1/31) ، وسنن النسائي – كتاب الطهارة – باب الاستنجاء بالماء: (1/39) ، ومسند أحمد: (6/236،171،130،130،114،113،95) عن أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنها – قالت للنساء: مرن أزواجكن أن يتطيبوا بالماء فإني أستحييهم منه، وإن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان يفعله" قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.(1/174)
وإذا كان هذا حال النبي – صلى الله عليه وسلم – في بيان أمور الدين وإن دقت، فيستحيل في حقه قطعاً أن يترك تعليم الناس ما يقولونه بألسنتهم، ويعتقدونه في قلوبهم في ربهم ومعبودهم رب العالمين، الذي معرفته غاية المعارف، وعبادته أشرف المقاصد، والوصول إليه غاية المطالب، بل هذا خلاصة الدعوة النبوية، وزُبْدة الرسالة الإلهية، فكيف يتوهم من في قلبه أدنى مُسْكة من إيمان وحكمة أن لا يكون بيان هذا الباب قد وقع من الرسول – صلى الله عليه وسلم – على غاية التمام.
جـ- إذا ثبت أن بيان ذلك ضروري، فحال النبي – صلى الله عليه وسلم – يحتم ذلك البيان على أتم وجه وأبلغه، وأحسنه وأحكمه، وذلك لاتصاف النبي – صلى الله عليه وسلم – بثلاثة أمرو تستدعي وتوجب ذلك الحصول، فهو – فداه أبي وأمي – أعلم الخلق بربه – جل جلاله – وهو أنصح الخلق للخلق، وهو أبلغ البرية بياناً، وأفصحهم لساناً، وإذا وُجد المقتضِي، وانتفى المانع وجب الحصول كما تحتمه صرائح العقول.
د- إذا كان بيان أسماء الله – جل وعلا – وصفاته قد وقع من الرسول – صلى الله عليه وسلم – لأمته على أتم ما يرام، فمن المحال أن يكون خير وأفضل قرونها قصروا في هذه الباب، زائدين فيه، أو ناقصين عنه.
... ومن المحال أيضاً أن تكون القرون الفاضلة غير عالمين، أو ليسوا قائلين في هذا الباب بالحق المبين، لأن ضد ذلك إما عدم العلم والقول – وذلك هو الجهل – أو اعتقاد نقيض الحق، وقول خلاف الصدق – وذلك هو الضلال والزيغ – وكل من الأمرين ممتنع.(1/175)
.. أما وجه امتناع الأول – وهو جهلهم بأسماء الله تعالى وصفاته – فلأن من في قلبه أدنى حياة وطلب للعلم، أو نهمة في العبادة يكون البحث عن هذا الباب، والسؤال عنه، ومعرفة الحق فيه أكبر مقاصده، وأعظم مطالبه، وليس النفوس الصحيحة إلى شيء أشوق منها إلى معرفة هذا الأمر، وهذا أمر معلوم بالفطرة الوجدانية، فكيف يتصور – مع قيام هذا المقتضِي الذي هو من أقوى المقتضيات أن يتخلف عنه مقتضاه في أولئك السادة في مجموع عصورهم؟ هذا لا يكاد يقع في أبلد الخلق وأشدهم إعراضاً عن الله – جل وعلا – وأعظمهم انكباباً على طلب الدنيا، والغفلة عن ذكر الله – تبارك وتعالى – فكيف يقع في أولئك؟!.
... ثم لو فرضنا جهلهم بالحق في هذا الباب فإن جهل من بعدهم بأسماء الله وصفاته أولى وأحرى، لأن معرفة ذلك متوقف عن طريق بيان النبي – صلى الله عليه وسلم – وتابعوهم بإحسان – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – هم الواسطة بين الرسول – صلى الله عليه وسلم – وبين الأمة، فإذا انتفى عنهم العلم بأسماء الله وصفاته يلزم أن لا يكون عند أحد علم في هذا الباب، وذلك ممتنع بلا ارتياب.
... وإذا انتفى جهل السلف الصالح بأسماء الله وصفاته، وثبت علمهم بذلك عن طريق التفصيل فلا يصح أن يقال: إنهم كتموا الحق، ولم يبينوه، فمن عرف حالهم في تبليغ الدين، وحرصهم على نشر هدي سيد المرسلين – عليه صلوات الله وسلامه – عَلِمَ عِلْمَ اليقين استحالة ذلك على سلفنا الكرام الصادقين – رضي الله عنهم أجمعين –.
... على أنه يقال: لو فرضنا كتمان السلف الصالح لذلك مع علمهم به، لفلا يمكن لمن بعدهم معرفة أسماء الله وصفاته، لأن السلف الكرام هو الواسطة والبيان، كما تقدم على ذلك البرهان، وبذلك تعلم انتفاء الجهل عنهم الكتمان، في صفات الرحيم الرحمن، وما نقل عنهم من إيضاح لذلك وبيان هو في غاية الإحكام والإتقان، ويدفع عنهم كل تخرص ووهم وهذيان.(1/176)
.. وأما وجه امتناع اعتقاد السلف الصالح نقيض الحق وقولهم خلاف الصدق في أسماء الله وصفاته أن ذلك يستلزم أحد أمرين لا ثالث لهما، وهما: إما جهلهم أو سوء قصدهم وإرادة إضلال من بعدهم، وقد تقدم بيان فساد كل منهما في حقهم، ويزاد هنا أن سوء القصد لو صدر منهم وأمكن فيهم، وصح عليهم لانعدمت الثقة في سائر أبواب الدين، وهذا ضلال مبين، يلزم منه القدح في شريعة رب العالمين، ونبذ هداه المحكم المتين: وقد فطن العلماء من الأئمة الطيبين، لهذا المكر اللعين، فقال شيخ المحدثين، الإمام أبو زُرْعة الثقة الأمين – عليه رحمة رب العالمين –: إذا رأيت الرجل بنتقص أحداً من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فاعلم أنه زنديق، لأن الرسول – صلى الله عليه وسلم – عندنا حق، والقرآن حق، وإنما أدَّى إلينا هذا القرآنَ، وأحاديث النبي – عليه الصلاة والسلام – الصحابة ُ الكرامُ – عليهم من الله الرحمة والرضوان – ويريد الزنادقة جرح شُهودِنا ليبطلوا كتاب ربنا، وسنة نبينا – صلى الله عليه وسلم – والجرح بهم أولى، وهم زنادقة (1) .
__________
(1) انظر قول أبي زُرْعة في كتاب الكفاية في علم الرواية: (49) وانظر تفصيل الأمور الأربعة الدالة على بيان النبي – صلى الله عليه وسلم – لأسماء الله الكريمة، وصفاته العظيمة في أول الرسالة الحموية، وهي ضمن مجموع الفتاوى: (5/6-12) ، ومختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة: (1/4-8) ، وفتح رب البرية بتلخيص الحموية: (5-7) ، ومدارج السالكين: (3/348-361) ودرء تعارض العقل والنقل: (1/72-78) .(1/177)
وإذ قد تبين لك – أيها المسترشد – أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – بين للناس أسماء الله وصفاته – جل وعلا – بياناً سديداً، مفصلا ً كافياً، واسعاً دقيقاً شافياً، تعلم علم اليقين أن الأخذ بذلك هو الصراط المستقيم، والتسليم له هو المنهج المحكم المتين، وعن ذلك الطريق يحصل النور المبين، وتفهم صفات رب العالمين، ومن انحرف عن ذلك المسلك القويم، فهو من الضالين الزائغين، إذ لا تعويل على العقول والآراء، في صفات رب الأرض والسماء ـ ولا دخل لقواعد المتكلمين وهَوَسات المتنطعين في صفات رب العالمين، فالعقل مع النقل كالعين مع الشمس، فكما أن الرؤية لا تحصل بدون عين سليمة، وشمس طالعة، فكذلك الاهتداء لا يحصل إلا بوجود عقل يستنير بوحي رب الأرض والسماء، فالعقل كالعين، ونور الوحي كنور الشمس، وكما أن العين لا ترى بدون نور مهما اشتدت قوة نظرها، فالعقل لا يهتدي بدون وحي مهما قويت ألمعيته وذكاؤه وكم من ذكي غير زكي (1) .
... ومن رحمة الله – تبارك وتعالى – على العباد، أن رفع عنهم التكليف إذا لم يتوفر فيهم سبب الاهتداء والسداد، فلا تكليف على فاقد العقل، كما أنه لا تكليف عند عدم وجود النقل، ولولا العقل لم يكن الدين باقياً، ولولا الدين لأصبح العقل تائهاً حائراً، وباجتماعهما يحصل الفلاح والرشاد ويتم الهدى والسداد، وفي ذلك أنشد الإمام أحمد – نضر الله وجهه –:
دينُ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - محمدٍ أخْبَارُ ... نِعمَ المَطيّة ُ للفَتى الآثارُ
لا ترْغَبَنّ عن ِ الحَديثِ وأهلهِ ... فالرأيُ ليْلٌ والحديثُ نَهَارُ
__________
(1) انظر مثال العقل مع النقل في تلبيس إبليس: (2) ، والذريعة إلى مكارم الشريعة: (106) ، وإحياء علوم الدين: (1/91) ، ودرء تعارض العقل والنقل: (1/138) ، وشرح الطحاوية: (149-150) ، ومجموع الفتاوى: (4/247) .(1/178)
ولرُبّمَا جَهِلَ الفتى أثرَ الهُدى ... والشّمْسُ بَازغة لها أنْوارُ (1)
... وهذه المسألة هي الأساس الفارق بين أهل السنة، وأهل البدعة، وبين أهل الحق، وأهل الزندقة، فأعطها حقها من الدراية والرعاية لتكون من المعتدين، ومن حزب الله المفلحين، قال الإمام الرباني أبو المُظَفَّر ِ السَّمْعانيُّ – عليه رحمة الله تعالى –: اعلم أن فصل ما بيننا وبين المبتدعة هو مسألة العقل، فإنهم أسسوا دينهم على المعقول، وجعلوا الاتباع والمأثور تبعاً للمعقول.
__________
(1) انظر جامع بيان العلم وفضله: (2/35) ، والأبيات في شرف أصحاب الحديث: (76) منسوبة لعَبْدَة بَن ِ زيادٍ الأصبهانيِّ.(1/179)
وأما أهل السنة فقالوا: الأصل في الدين الاتباع، والعقول تبع، ولو كان أساس الدين على المعقول لاستغنى الخلق عن الوحي، وعن الأنبياء – عليهم صلوات الله تعالى وسلامه – ولبطل معنى الأمر والنهي، ولقال من شاء ما شاء، ولو كان الدين بني على المعقول، وجب أن لا يجوز للمؤمنين قبول أشياء أمروا بها حتى يعقلوها، ونحن إذا تدبرنا عامة ما جاء في أمر الدين من ذكر صفات الله – عز وجل – وما تعبد الناس من اعتقاده، وكذلك ما ظهر بين المسلمين، وتداولوه بينهم، ونقلوه عن سلفهم، إلى أن أسندوه إلى الرسول – صلى الله عليه وسلم – من ذكر عذاب القبر، وسؤال الملكين والحوض، والميزان، والصراط، وصفات الجنة، وصفات النار، وتخليد الفريقين فيهما، أمور لا تدرك حقائقها بعقولنا، وإنما ورد الأمر بقبولها، والإيمان بها، فإذا سمعنا شيئاً من أمور الدين، وعقلناه، وفهمناه فلله الحمد في ذلك والشكر، ومنه التوفيق، وما لم يمكنا إدراكه وفهمه، ولم تبلغه عقولنا آمنا به، وصدقناه، واعتقدنا أن هذا من قَبِلَ ربوبيته وقدرته، واكتفينا في ذلك بعلمه ومشيئته قال – تبارك وتعالى – في مثل هذا: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} الإسراء85، وقال – جل وعلا –: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء} البقرة255.
ثم نقول لهذا القائل الذي يقول: بني ديننا على العقل، وأمرنا باتباعه: أخبرنا إذا أتاك أمر من الله – جل جلاله – يخالف عقلك، فبأيهما تأخذ؟ بالذي تعقل، أو بالذي تؤمر؟ فإن قال: بالذي أعقل فقد أخطأ، وترك سبيل الإسلام، وإن قال: إنما آخذ بالذي جاء من عند الله فقد ترك قوله.
فالواجب علينا أن نقبل ما عقلناه إيماناً وتصديقاً، وما لم نعقله تسليماً واستسلاماً، وهذا معنى قول من قال من أهل السنة: إن الإسلام قنطرة لا تُعبر إلا بالتسليم.(1/180)
وقال السمعاني – أيضاً – رحمه الله تعالى –: إن الله – تبارك وتعالى – أسس دينه وبناه على الاتباع، وقبوله بالعقل، فمن الدين معقول وغير معقول، والاتباع في جميعه واجب، ومن أهل السنة من قال بلفظ آخر فقال: إن الله – جل وعلا – لا يعرف بالعقل، ولا يعرف مع عدم العقل، ومعنى هذا: أن الله – تبارك وتعالى – هو الذي يُعَّرف العَبْدَ ذاتَهُ، فيعرف الله بالله لا بغيره، لقوله – عز وجل –: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} القصص56، ولم يقل: ولكن العقل والآيات في هذا المعنى كثيرة، فالله – جل ثناؤه – هو المُعَّرفُ إلا أنه إنما يُعِّرفُ العَبْدَ نَفْسَهُ مع وجود العقل، لأنه سبب الإدراك والتميز، لا مع عدمه، ونظير هذا أن الولد لا يكون مع فقد الوطء، ولا يكون بالوطء، بل يكون بإنشاء الله – تبارك وتعالى – وخلقه.
وقال بعض أهل المعرفة: إنما أعطينا العقل لإقامة العبودية، لا لإدراك الربوبية، فمن شغل ما أعطي لإقامة العبودية بإدراك الربوبية فاتته العبودية، ولم يدرك الربوبية، ومعنى قولنا: أعطينا العقل لإقامة العبودية: أنه آلة التمييز بين القبيح والحسن، والسنة والبدعة، والرياء والإخلاص ولولاه لم يكن تكليف، ولا توجه أمر ولا نهى، فإذا استعمله الإنسان على قدره ولم يجاوز به حده أداه ذلك إلى العبادة الخالصة، والثبات على السنة، واستعمال المستحسنات وترك المستقبحات.(1/181)
وقال بعضهم: العقل حجة الله – عز وجل – على جميع الخلق؛ لأنه سبب التكليف، إلا أن صاحبه لا يستغني عن التوفيق في كل وقت، ونفس العقل بالتوفيق كان، والعقل محتاج في كل وقت إلى توفيق جديد من الله – جل وعلا – ولو لم يكن كذلك لكان العقلاء مستغنيين عن الله – جل وعلا – بالعقل، فيرتفع عنهم الخوف والرجاء، ويصيرون آمنين من الخذلان، وهذا تجاوز عن درجة العبودية، وتعد عنها، ومحال من الأمر، إذ ليس من الحكمة أن يُنزِّلَ اللهُ – جل وجلاله – أحداً غير منزلته، فإذا أغنى عبيده عن نفسه، فقد أنزلهم غير منزلتهم، وجاوز بهم حدودهم، ولو كان هذا هكذا لاستوى الخلق والخالق في معنى من معاني الربوبية، والله – جل وعلا – ليس كمثله شيء في جميع المعاني (1) .
__________
(1) انظر كلام الإمام السمعاني في رسالته المباركة: الانتصار لأهل الحديث والتي قد اختصرها الإمام السيوطي في كتابه النافع صون المنطق عن فن المنطق والكلام في خمس وثلاثين صفحة وذلك الكلام في: (179-182) .(1/182)
وللإمام ابن تيمية – أسكنه الكريم الغرف العلية – كلام متين، وتحقيق محكم ثمين، حول هذا الموضوع العظيم، في كتابه النفيس القويم، والمسمى بدرء تعارض العقل والنقل، وبموافقة صريح المعقول لصحيح المنقول، إليك شذرة من ذلك،، وشيئاً من النور هنالك، قال – رحمه الله تعالى –: إذا تعارض الشرع والعقل وجب تقديم الشرع؛ لأن العقل مصدق للشرع في كل ما أخبر به، والشرع لم يصدق العقل في كل ما أخبر به، ولا العلم بصدقه موقوف على كل ما يخبر به العقل قال بعضهم: يكفيك من العقل أن يعلمك صدق الرسولَ – صلى الله عليه وسلم – ومعاني كلامه، وقال آخر: العقل مُتَوَل ٍِ، ولى الرسول – صلى الله ليه وسلم – ثم عزل نفسه؛ لن العقل دل على أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – يجب تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، والعقل يدل على صدق الرسول – صلى الله عليه وسلم – دلالة عامة مطلقة، وهذا كما أن العامَّي إذا علم عين المفتي، ودل غيره عليه، وبين له أنه مفتٍ، ثم اختلف العامي الدال والمفتي، وجب على المستفتي أن يقدم قول المفتي فإذا قال له العامي: أنا الأصل في علمك بأنه مفتٍ، فإذا قدمت قوله على قولي عند التعارض قدحت في الأصل الذي به علمت أنه مفتٍ، قال له المستفتي: أنت لما شهدت أنه مفتٍ، ودللت على ذلك شهدت بموجب تقليده دون تقليدك، كما شهد به دليلك، وموافقتي لك في هذا العلم المعين لا يستلزم أني أوافقك في أعيان المسائل، وخطؤك فيما خالفت فيه المفتي الذي هو أعلم منك لا يستلزم خطأك في علمك بأنه مفتٍ، وأنت إذا علمت أنه مفتٍ باجتهاد واستدلال، ثم خالفته باجتهاد واستدلال كنت مخطئاً في الاجتهاد والاستلال الذي خالفت به من يجب عليك تقليده، واتباع قوله، وإن لم تكن مخطئاً في الاجتهاد والاستدلال الذي به علمت أنه عالم مفتٍ يجب عليك تقليده، هذا مع علمه بأن المفتي يجوز عليه الخطأ، والعقل يعلم أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – معصوم في خبره عن الله –(1/183)
تبارك وتعالى – لا يجوز عليه الخطأ، فتقديمه قول المعصوم على ما يخالفه من استدلاله العقلي أولى من تقديم العامي قوله المفتي على قوله الذي يخالفه.
وكذلك – أيضاً – إذا علم الناس وشهدوا أن فلاناً خبير بالطب أو بالقيافة – وهي معرفة الآثار – أو الخرص – وهو الحرز –: ويقال: على حرز ما على النخل من الرطب تمراً – أو تقويم السلع ونحو ذلك وثبت عند الحاكم أنه عالم بذلك دونهم، أو أنه أعلم منهم بذلك، ثم نازع الشهود الشاهدون لأهل العلم بالطب والقيافة والخرص والتقويم أهل العلم بذلك، وجب تقديم قول أهل العلم بالطب والقيافة والخرص والتقويم، على قول الشهود الذين شهدوا لهم – وإن قالوا: نحن ركينا هؤلاء، وبأقوالنا ثبتت أهليتهم فالرجوع في محل النزاع إليهم دوننا يقدح في الأصل الذي ثبت به قولهم، كما قال بعض الناس: إن العقل مُزكّ الشرع ومعدله، فإذا قدم الشرع عليه كان قدحاً فيمن زكاه وعدله، فيكون قدحاً فيه.
قيل لهم: أنتم شهدتم بما علمتم من أنه من أهل العلم بالطب أو التقويم أو الخرص أو القيافة، ونحو ذلك، وأن قوله في ذلك مقبول دون قولكم، فلو قدمنا قولكم عليه في هذه المسائل لكان ذلك قدحاً في شهادتكم وعلمكم بأنه أعلم منكم بهذه الأمور، وإخباركم بذلك لا ينافي قبول قوله دون أقوالكم في ذلك، إذ يمكن إصابتكم في قولكم: نحن أعلم ممن هو أعلم منا فيما ينازعنا فيه من المسائل التي هو أعلم بها منا، بل خطؤكم في هذا أظهر.(1/184)
ومن المعلوم أن مباينة الرسول – صلى الله عليه وسلم – لذوي العقول أظهر من مباينة أهل العلم بالصناعات العلمية والعملية والعلوم العقلية الاجتهادية كالطب والقيافة والخرص والتقويم، لسائر الناس فإن من الناس من يمكنه أن يصير عالماً بتلك الصناعات العلمية والعملية كعلم أربابها بها، ولا يمكن من لم يجعله الله رسولاً إلى الناس أن يصير بمنزلة من جعله الله – تبارك وتعالى – رسولاً إلى الناس فإن النبوة لا تنال بالاجتهاد كما هو مذهب أهل الملل (1) .
وإذا كان الأمر كذلك فإذا علم الإنسان بالعقل أن هذا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وعلم أنه أخبر بشيء، ووجد في عقله ما ينازعه في خبره، كان عقله يوجب عليه أن يسلم موارد النزاع إلى من هو أعلم به منه، وأن لا يقدم رأيه على قوله، ويعلم أن عقله قاصر بالنسبة إليه، وأنه أعلم، بالله – تعالى – وأسمائه وصفاته واليوم الآخر منه، وأن التفاوت الذي بينهما في العلم بذلك أعظم من التفاوت الذي بين العامة، وأهل العلم بالطب.
__________
(1) أي جميع أهل الديانات لا خلفا بينهم في كون النبوة محض فضل من الله – جل وعلا – يعطيه من يشاء من عباده، وهو أعلم حيث يجعل رسالته ولم يخالف في هذا إلا حثالة البشر من الفلاسفة فقالوا: إن النبوة مكتسبة للعبد بمباشرة أسباب خاصة، ويفسرون النبوة بأنها صفاء وتَجَل ٍ للنفس يحدث لها من الرياضات بالتخلي عن الأمور الذميمة، والتخلق بالأخلاق الحميدة، وهذه الضلالة إحدى ضلالاتهم المكفرة – عليهم لعنة الله رب العالمين – انظر تحفة المريد: (2/30) وحاشية الأمير: (113) ، وفي الجوهرة: (14)
ولمْ تكُنْ نبوة ٌ مُكْتسَبَة ْ ... وَلَوْ رَقى في الخير ِ أعْلا عَقَبَة ْ
بلْ ذاكَ فَضْلُ اللهِ يُؤتِيه لِمَنْ ... يَشاءُ جلّ الله واهبَ المِنَنْ(1/185)
فإذا كان عقله يوجب أن ينقاد لطبيب يهودي فيما أخبره من مقدرات من الأغذية والأشربة والأضمدة والمسهلات، واستعمالها على وجه مخصوص، مع ما في ذلك من الكلفة والألم، لظنه أن هذا أعلم بهذا منى، وأني إذا صدقته كان ذلك أقرب إلى حصول الشفاء لي مع علمه بأن الطبيب يخطئ كثيراً وأن كثيراً من الناس لا يشفى بما يصفه الطبيب بل قد يكون استعماله لما يصفه سببا في هلاكه. ومع هذا فهو يقبل قوله، ويقلده، وإن كان ظنه واجتهاده يخالف وصفه، فكيف حال الخلق مع الرسل الكرام – عليهم الصلاة والسلام –؟(1/186)
والرسل الكرام – عليهم الصلاة والسلام – صادقون مصدَّقون، لا يجوز أن كون خبرهم على خلاف ما أخبروا به قط، والذين يعارضون أقوالهم بعقولهم عندهم من الجهل والضلال ما لا يحصيه إلا ذو الجلال – سبحانه وتعالى – فكيف يجوز أن يعارض ما لم يخطئ قط بما لم يصب في معارضته له قط (1) .
__________
(1) انظر درء تعارض العقل والنقل: (1/138-142) وهذا الكتاب فيه ما يشرح الصدور وينير الألباب فعليك به فلن تعثر على مثله، قال الإمام ابن القيم في طريق الهجرتين وباب السعادتين: (195) : تظافر على إيمان المؤمنين الشريفة المنزلة، والفطرة المكملة، والعقل الصريح، فكانوا هم العقلاء حقاً وعقولهم هي المعيار فمن خالفها فقد خالف صريح المعقول والقواطع العقلية، ومن أراد معرفة هذا فليقرأ كتاب شيخنا وهو بيان موافقة العقل الصريح للنقل الصحيح، فإنه كتاب لم يَطْرُقِ العالَمَ له نظير في بابه، فإنه هدم فيه قواعد أهل الباطل فخرت عليهم سقوفه من فوقهم، وشيد فيه قواعد أهل السنة والحديث، أحكمها ورفع أعلامها، وقررها بمجامع الطرق التي تقرر بها الحق من العقل والنقل والفطرة والاعتبار، فجاء كتاباً لا يستغني من نصح نفسه من أهل العلم عنه، فجزاه الله عن أهل العلم والإيمان أفضل جزاء، وجزى العلم والإيمان عنه كذلك، وكرر نحو هذا في: (301) وأشاد بالكتاب بما يتناسب مع مكانته عند أولي الألباب فقال في الكافية الشافية: (164) :
فاقرأ تصانيفَ الإمام حقيقة ً ... شيخ ِ الوجودِ العَالم ِ الربّاني
ج
أعني أبا العباس أحمد ذلك البَحْرُ ... ما في الوجودِ له نظيرٌ ثان ِ
ج
واقرأ كتاب العقل والنقل الذي ... ما في الوجود له نظير ثان ِ(1/187)
قال عبد الرحيم – أكرمه الله بجنات النعيم –: ليت شعري أي عقل سنحتكم إليه، ونعول عليه إذا جعلناه أصلاً للدين، ومصدراً للتشريع القويم؟ أعقل بيجن أم لينين؟ أو عقل كارتر أم عباد الشياطين؟ أو عقل عباد البقر، أم عباد الفروج؟ أو عقل عباد الأصنام أم زنادقة الأنام؟ وبعض هؤلاء ذكاؤه مشهود، لكنه لا يرتفع عن مستوى الثعالب والقرود، إذ لا خير في ذكاء لم يصحبه زكاء، ولن يحصل ذلك إلا بوحي رب الأرض والسماء، ففتح باب التعويل على العقل بدون الاهتداء بالنقل فتح لباب الفوضى على مصراعيه، ليقول من شاء ما شاء، وليس بعد هذا البلاء بلاء.
ومن أجل ذلك ذم سلفنا الكرام علم الكلام، وحذروا منه أهل الإيمان، وحكموا على أتباعه بالزيغ والعصيان، قال الإمام الشافعي – عليه رحمة الله تعالى –: لأن يلقى العبد ربه بكل ذنب خلا الشرك خير له من أن يلقاه بشيء من علم الكلام، ولقد اطلعت من أهل الكلام على شيء ما ظننت مسلماً يقوله وحكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في العشائر والقبائل، ويقال: هذا جزاء من تلك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام، وقال في ذلك شعراً:
كلُ العلوم سوى القرآن مشغَلة ٌ ... إلا الحديثَ وإلا الفِقْهَ في الدين ِ
العِلمُ ما كانَ فيه قالَ حَدّثَنَا ... وما سوى ذاكَ وسْواسُ الشّياطِينِ(1/188)
وكما يقول: لو علم الناس ما في الكلام لفروا منه كما يفرون من الأسد، وقال: الكلام يلعن أهل الكلام، ومن ارتدى بالكلام لا يفلح، وأفتى هو وغيره – عليهم جميعاً رحمة الله تعالى – بأن من أوصى لعلماء بلده لا يدخل فيهم المتكلمون، ولو أوصى إنسان بوقف كتبه العلمية لا يدخل فيها كتب الكلام الردية (1) .
__________
(1) انظر نسبة تلك الأقوال إلى الإمام الشافعي في آداب الشافعي ومناقبه: (148،182- 188) ومناقب الشافعي للبيهقي: (2/452-462) – باب ما جاء عن الشافعي في مجانبة أهل الأهواء وبغضه إياهم وذمه كلامهم، وإزرائه بهم، وصون المنطق: (62،31-73،66،136) وشرف أصحاب الحديث: (78-79) باب من جمع بين مدح أصحاب الحديث وذم أهل الكلام الخبيث، والحلية: (9/116،111) وتبين كذب المفترى: (335-338) ، وشرح السنة: (1/217-218) ، والبداية والنهاية: (10/254) وشذرات الذهب: (2/9) ، وجامع بيان العلم وفضله: (2/95) والانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء: (80) والعلو: (121) وقال مؤلفه الإمام الذهبي: قلت: تواتر عن الشافعي ذم الكلام وأهله، وانظره في درء تعارض العقل والنقل: (1/232) ، وشرح الطحاوية: (21) ، وشرح الفقه الأكبر: (2-3) ، والسنن الكبرى للبيهقي: (10/206) كتاب الشهادات – باب ما ترد به شهادة أهل الأهواء، والاعتصام للشاطبي: (2/332) .(1/189)
وقال الإمام أحمد – نضر الله وجهه، وفي غرف الجنان أرقده –: من تعاطى الكلام لا يفلح، ومن تعاطى الكلام لم يَخْلُ من أن يتجهَّم، وقال: لست أتكلم إلا ما كان من كتاب، أو سنة، أو عن الصحابة والتابعين – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – وأما غير ذلك فالكلام فيه غير محمود، وقال: عليكم بالسنة والحديث وإياكم والخوض والجدال والمراء، فإنه لا يفلح من أحب الكلام، وقال لولده حنبل: لا تجالسهم، ولا تكلم أحداً منهم، فقد أدركنا الناس وما يعرفون هذا، ويجانبون أهل الكلام، وقال: الكلام رديء لا يدعو إلى خير، تجنبوا أهل الجدال والكلام، وعليكم بالسنن وما كان عليه أهل العلم قبلكم فإنهم كانوا يكرهون الكلام والخوض مع أهل البدع، وإنما السلامة في ترك هذا، لم نؤمر بالجدال والخصومات وإذا رأيتم من يحب الكلام فاحذروه، وكان يقول: لا تجالسوا أهل الكلام وإن ذبوا عن السنة، وما زال الكلام عند أهل الخير مذموماً.(1/190)
قال الإمام الذهبي: قلت: ذم الكلام وتعلمه جاء من طرق كثيرة عن الإمام أحمد وغيره – رحمهم الله جميعاً (1) – وقال الإمام أبو يوسف – عليه رحمة الله تعالى –: من طلب العلم بالكلام تزندق، ومن طلب المال بالكيمياء أفلس، ومن طلب غريب الحديث كُذِبَ، وقال لبِشْر المِرِّيسي: العلم بالكلام هو الجهل، والجهل بالكلام هو العلم، وإذا صار الرجل رأساً في الكلام قيل: زنديق، أو رمي بالزندقة أراد – رحمه الله تعالى – بالجهل به اعتقاد عدم صحته، فإن ذلك علم نافع، أو أراد به الإعراض عنه وترك الالتفات إلى اعتباره، فإن ذلك يصون علم الرجل، وعقله فيكون علماً بهذا الاعتبار (2) .
__________
(1) وردت جميع تلك النقول عن الإمام أحمد في تاريخ الإسلام للذهبي وقد فُصِلَتْ ترجمة الإمام أحمد في جزء مستقل فانظر تلك الأقوال فيه في: (28/30) ، وانظرها مفرقة في طبقات الحنابلة: (1/62) وجامع بيان العلم وفضله: (2/95) ، ودرء عارض العقل والنقل: (1/232) ، وصون المنطق: (136) وشرف أصحاب الحديث: (6) وقول الإمام أحمد: من تعاطى الكلام لم يَخْلُ من أن يتجهَّم، أي: يصبح جهمياً والجهمية ضالون مضلون ينسبون للزيغ الخبيث جهم بن صفوان، وسيأتيك عما قريب بين ضلالاتهم.
(2) كما في شرح الطحاوية: (19/20) ، وشرح الفقه الأكبر: (2) ، وانظر قول أبي يوسف في مناقب الإمام أبي حنيفة وصاحبيه للذهبي: (44) وفي: (43) كان يقول: لا يفلح من استحلى شيئاً من الكلام وانظر قوله أيضاً في شرف أصحاب الحديث: (5) ، ومناقب أبي حنيفة للموفق المكي: (492) ، مناقب أبي حنيفة للكردي: (409) ، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام: (29/374) وقال الشيخ ابن تيمية: ويُروى هذا الكلام عن مالك والشافعي – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – وانظره في جامع بيان العلم وفضله: (2/132) ، ودرء تعارض العقل والنقل: (1/232) وصون المنطق: (60) وفي صون المنطق: (75) قال ابن أبي حاتم: كان أبي وأبو زرعة يقولان: من طلب الدين بالكلام ضل..(1/191)
وقال رجل لأبي عبيد القاسم بن سلام: ما تقول في علم الكلام؟ فقال له: لقد دلك ربك على سبيل الرشد وطريق الحق، وقال: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} النساء59، أما دلك فيما دلك عليه ربك من كلامه، وسنة نبيه – صلى الله عليه وسلم – ما يغنيك عن الرجوع إلى رأيك وعقلك، وقد نهاك عن الكلام في ذاته وصفاته إلا حسب ما أطلقه لك، قال الله – تبارك وتعالى –: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} الأنعام68 (1) .
__________
(1) انظر صون المنطق: (67-68) ولذلك حكم أئمة الإسلام على علماء الكلام بالزيغ والعصيان قال الإمام ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله: (2/95) : أجمع أهل الفقه والآثار من جميع الأمصار أن أهل الكلام أهل بدع وزيغ، ولا يعدون عند الجميع في جميع الأمصار في طبقات العلماء، وإنما العلماء أهل الأثر والتفقه فيه، ويتفاضلون فيه بالإتقان والمَيْزِ والَفهْم ِ، وقال الإمام البغوي في شرح السنة: (1/216) واتفق علماء السلف من أهل السنة على النهي عن الجدال والخصومات في الصفات وعلى الزجر عن الخوض في علم الكلام وتعلمه.(1/192)
واعلم – علمنا الله جميعاً – أن السلف الصالح لم يكرهوا علم الكلام وذموه لمجرد كونه اصطلاحات جديدة على معان ٍ صحيحة، ولا كرهوا أيضاً الدلالة على الحق والمحاجة لأهل الباطل، إنما كرهوه وذموه وحذروا منه لاشتماله على أمور كاذبة مخالفة للحق الثابت في الكتاب والسنة، وأفظع ذلك وأشنعه ما اخترعوه من المقايسة بين الخالق الجليل، والمخلوق الحقير، فأخضعوا صفات الرب المجيد لما هو معرفٌ في صفات العبيد، ثم رتبوا على ذلك نفيها، وتعطيل الرب – جل وعلا – عنها (1) ولأصحاب الكلام غير ذلك من الضلالات والآثام التي تَقْشَعِرّ منها جلود المؤمنين الكرام، وستقف على شيء من ذلك في آخر هذا المبحث إن شاء الرحمن.
__________
(1) ولذلك قال الإمام ابن الجوزي – عليه رحمة الله تعالى – في صيد الخاطر: (267) أصل كل محنة في العقائد قياس أمر الخالق على أحوال الخلق، وكل من قاس صفة الخالق على صفات المخلوقين خرج إلى الكفر، ثم مثل على ذلك بما يلزم الرجوع إليه.(1/193)
.. قال الإمام الغزالي – عليه رحمة الله تعالى –: وأما منفعته – علم الكلام – فقد يُظَنُّ أن فائدته كشف الحقائق على ما هي عليه، وهيهات فليس في علم الكلام وفاء بهذا المطلب الشريف، ولعل التخبيط والتضليل فيه أكثر من الكشف والتعريف، وهذا إذا سمعته من محدث أو حشوي (1)
__________
(1) الحَشْوِيّ: الرذيل التافه قال ابن منظور في اللسان: (18/196) "حشا" والحشو من الكلام: الفضل الذي لا يعتمد عليه، وكذلك هو من الناس، وحَشْوة الناس: رُذالتهم، وحكى اللحباني (أبو الحسن عليّ بن حازم:215) ما أكثر حِشْوة أرضكم، وحشوتها أي حشوها، وما فيها من الدَّغَل، وفلان من حِشْوة بني فلان بالكسر أي: من رُذالتهم أ. هـ وذلك اللفظ من خبيث الكلام، وبه ينبذ أهلُ البدع اللئام، أهلَ السنة الكرام، ويعنون به – سود الله وجوههم – أن أهل الحديث المعرضين عن لهو الحديث رُذالة الناس وسَقَطُهُم، وأول من ابتدع ذلك اللفظ المعتزلة، وأول من تكلم به منهم زعيمهم الضال عمرو بن عُبَيْدٍ، فقال: كان عبد الله بن عمر – رضي الله تعالى عنهما – حَشْوياً، ولذلك قال الإمام أبو حاتم علامة الزنادقة تسميتها لأهل الحديث حَشْوية، وقد بين الإمام ابن تيمية أن ذلك اللفظ المستحدث ليس له مسمىً معروف لا في الشرع ولا في اللغة، ولا في العرف العام، لأن الطائفة إما أن تضاف إلى زعيم مذهبها ورأس مقالتها وإما إلى قولها وعملها، ولفظ الحشوية لا ينبني عليها كما في مجموع الفتاوى: (4/23، 86-88، 146-148) ..(1/194)
ربما خطر ببالك أن الناس أعداء ما جهلوا، فاسمع هذا ممن خبر الكلام، ثم قلاه بعد حقيقة الخبرة، وبعد التغلغل فيه إلى منتهى درجة المتكلمين، وجاوز ذلك إلى التعمق في علوم أخر تناسب نوع علم الكلام وتحقق أن الطريق إلى المعرفة من هذا الوجه مسدود (1) .
__________
(1) انظر إحياء علوم الدين: (1/103) لكن مع هذا لم يستطع الغزالي التخلص من تلك البليات كما قال أبو بكر بن العربي: شيخنا أبو حامد الغزالي دخل في بطون الفلاسفة ثم أراد أن يخرج منهم فما قدر انظر درء تعارض العقل والنقل: (1/5) وقد ألف الغزالي كتابه الإحياء بعد مفارقته الفلسفة ورده على الفلاسفة، ومع ذلك فلا زال في الإحياء شوائب قال الشيخ ابن تيمية – رحمه الله تعالى – كما في مجموع الفتاوى: (10/551) : والإحياء فيه فوائد كثيرة لكن فيه مواد مذمومة، فإن فيه مواد فاسدة من كلام الفلاسفة تتعلق بالتوحيد والنبوة والمعاد فإذا ذكر معارف الصوفية كان بمنزلة من أخذ عدواً للمسلمين فألبسه ثياب المسلمين، وقد أنكر أئمة الدين على أبي حامد هذا في كتبه، وقالوا: مرَّضه الشِّفاءُ يعني: شفاء ابن سينا وفيه: أحاديث وآثار ضعيفة، بل موضوعة كثيرة، وفيه أشياء من أغاليط الصوفية وترهاتهم وقد أطال الإمام ابن الجوزي في تلبيس إبليس في نقد كتاب الإحياء فانظره لزاماً. وقد حكم في: (166) على كلام الغزالي بأنه من جنس كلام الباطنية، وقال في: (288) معقباً على تفنيد كلامه: نعوذ بالله من هذه الوساوس، والخيالات الفاسدة وانظر ذم علماء المسلمين والفلاسفة له، لكونه مزج بينهما في النبوات: (81)(1/195)
.. وكلام الإمام الغزالي في هذا حجة بالغة إذ هو إمام عصره في علم الكلام، ثم رجع عنه بعد طول زمان، وخلفه الإمام الرازي – عليهما رحمة الله تعالى – فسار على طريقتي الغزالي الأولى ثم الأخيرة فقال في كتابه أقسام اللذات بعد أن أمضى أكثر عمره في تقرير البليات والطامات: لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تُشفي عليلا ً، ولا تَرْوي غليلا ً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن أقرأ في الإثبات {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} طه 5، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} فاطر10 واقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} الشورى11، {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} طه110، ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي (1) .
__________
(1) انظر نقل ذلك عن الرازي في شرح حديث النزول: (176) ، ومجموع الفتاوى: (4/72، 17/346، 19/169) ، ودرء تعارض العقل والنقل: (160) ، والرد على المنطقيين: (321) ، والبداية والنهاية: (13/56) ، وطبقات المفسرين للداودي: (2/216) ، وشذرات الذهب: (5/22) وفيهما أيضاً وقال ابن الصلاح أخبرني القطب الطوغاني مرتين أنه سمع فخر الدين الرازي يقول: يا ليتني لم أشتغل بعلم الكلام وبكى 1هـ وفي لسان الميزان: (4/427) وكان يقول: من التزم دين العجائز فهو الفائز. وانظر إغاثة اللهفان: (1/45) واجتماع الخيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية: (121-122) ، وشرح الفقه الأكبر: (5) ، وشرح العقيدة الطحاوية: (157) ، وكتاب النبوات: (52-53) ومختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة: (9-10) .(1/196)
وقد تحسر وتأسف كل من دخل في علم الكلام ممن في قلبه نور وإيمان فالإمام أبو المعالي إمام الحرمين – عليه رحمة الله تعالى – يقول: يا أصحابنا لا تشتغلوا بعلم الكلام، فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي إلى ما بلغ ما اشتغلت به، وقال عند موته: لقد خضت البحر الخضم، وخليت أهل الإسلام وعلومهم ودخلت في الذي نهوني عنه، والآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالوابل لي، وها أنذا أموت على عقيدة أميّ (1) .
__________
(1) انظر ذلك في مجموع الفتاوى: (4/73) ، وشرح الطحاوية: (158) ، وشرح الفقه الأكبر: (6) وانظر في الكتب الثلاثة من تحسر أيضاً لدخوله في علم الكلام، وإليك عبارة إمام الحرمين في كتابه العقيدة النظامية: (32-33) وهي من آخر ما ألفه ليتضح لك الحق جلياً قال – رحمه الله تعالى – والذي نرتضيه رأياً وندين الله به عقلا ً اتباع سلف الأمة، فالأولى الاتباع وترك الابتداع والدليل السمعي القاطع في ذلك: أن إجماع الأمة حجة متبعة، وهو مستند معظم الشريعة، وقد درج صحب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ورضي الله تعالى عنهم – على ترك التعرض لمعانيها، ودَرْكِ ما فيها، وهم صفوة الإسلام، والمستقلون بأعباء الشريعة، وكانوا لا يألون جهداً في ضبط قواعد الملة، والتواصي بحفظها، وتعليم الناس ما يحتاجون إليه منها، فلو كان تأويل هذه الآي والظواهر مَسُوغاً ومَحْتُوماً لأوشك أن يكون اهتمامهم بها فوق اهتمامهم بفروع الشريعة، وإذا انصرم عصرهم وعصر التابعين على الإضراب عن التأويل كان ذلك قاطعاً بأنه الوجه المتبع، فحق على ذي دين: أن يعتقد تنزه الباري عن صفات المحدثين، ولا يخوض في تأويل المشكلات، ويكل معناها إلى الرب – تبارك وتعالى – أ. هـ.
وهذا الكلام حق، وجِدٌ نفيس، وليته قال به من أول الأمر، فاستراح وأراح – رحمنا الله جميعاً ومَنّ علينا بحسن الخاتمة.(1/197)
.. وبالختام فالنبي – صلى الله عليه وسلم – بين للأنام، شرع الملك العلام، بغاية التفصيل والإحكام فلسنا بحاجة إلى قواعد الفلسفة وعلم الكلام، وغير ذلك من الهذيان والأوهام، قال الإمام ابن تيمية شيخ الإسلام – أسكنه الله غرف الجنان – في رسالته الفذة النادرة، والدرة الفاخرة: معارج الوصول إلى أن أصول الدين وفروعه قد بينها الرسول – صلى الله عليه وسلم –: إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بين جميع الدين أصوله، وفروعه، باطنه وظاهره، علمه وعمله، فإن هذا الأصل هو أصل أصول العلم والإيمان، وكل من كان أعظم اعتصاماً بهذا الأصل كان أولى بالحق علماً وعملا ً.
... وأهل العلم والإيمان متفقون على أن الرسل الكرام – عليهم الصلاة والسلام – لم يقولوا إلا الحق وهم أعلم الخلق بالحق، فهم الصادقون المصدقون علموا الحق وبينوه.(1/198)
.. وقد بين لنا نبينا – صلى الله عليه وسلم – الأدلة والبراهين الدالة على أصول الدين، أحسن تبيين، ودل الناس إلى الأدلة العقلية، وهداهم إلى البراهين اليقينية التي بها يعلمون المطالب الإلهية وبها يعلمون إثبات ربوبية الله – جل وعلا – ووحدانيته، وصفاته وصدق رسوله – صلى الله عليه وسلم – والمعاد، وغير ذلك مما يحتاج إلى معرفته بالأدلة العقلية، فجمع في بيانه – صلى الله عليه وسلم – بين الطريقين السمعي، والعقلي، وليست دلالة الكتاب والسنة على أصول الدين بمجرد الخبر كما تظنه طائفة من الغالطين من أهل الكلام والحديث والفقهاء والصوفية وغيرهم، بل الكتاب والسنة دلا الخلق وهدياهم إلى الآيات والبراهين والأدلة المبيِّنة لأصول الدين (1) .
__________
(1) الرسالة ضمن مجموع فتاوى شيخ الإسلام فانظر ذلك الكلام في: (19/155-160) وقد تقدم عند الكلام على توحيد الربوبية: من هذا البحث المبارك دلالة آيات القرآن الكريم على بعض الأدلة العقلية والبراهين المبينة لأصول الدين، فتذكرها ولا تكن من الغافلين، فالأدلة بأنواعها فيما جاء به الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – ثبت في صحيح مسلم – كتاب الإمارة – باب 10: (4/1473) ، وسنن النسائي كتاب البيعة – باب 25: (7/127) ، وسسن ابن ماجه كتاب الفتن – باب 9، ومسند أحمد: (2/191،161) ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله تعالى عنهما – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: "إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم" وفي المسند: (5/153، 162) والطبراني كما في مجمع الزوائد: (8/263) عن أبي ذر – رضي الله تعالى عنه – قال: لقد تركنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وما يحرك طائر جناحيه في السماء إلا ذكِّرنا منه علماً..زاد الطبراني: وقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: "ما بقي شيء يُقرب من الجنة ويُباعد من النار إلا وقد بُيّن لكم" قال الهيثمي: رجال الطبراني رجال الصحيح غير عبد الله بن يزيد المقري وهو ثقة 1هـ وروى الطبراني بسند رجاله رجال الصحيح عن أبي الدرداء كرواية أحمد عن أبي ذر – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – كما في مجمع الزوائد: (8/264) .(1/199)
وقال – رحمه الله تعالى – في القاعدة الجامعة، التامة النافعة في وجوب الاعتصام برسالة خير الأنام – عليه الصلاة والسلام –: إن السعادة والهُدى في متابعة الرسول – صلى الله عليه وسلم – وإن الضلال والشقاء في مخالفته، وكل خير في الوجود إما عام وأما خاص فمنشأه من جهة الرسول – صلى الله عليه وسلم – وكل شر في العالم مختص بالعبد فسببه مخالفة الرسول – صلى الله عليه وسلم –، أو الجهل بما جاء به.(1/200)
.. فسعادة العباد في معاشهم ومعادهم باتباع الرسالة، وهي ضرورية لهم، لابد لهم منها، وحاجتهم إليها فوق حاجتهم إلى كل شيء، والرسالة روح العالم ونوره وحياته، فأي صلاح للعالم إذا عُدم الروح والحياة والنور؟ والدنيا مظلمة ملعونة إلا ما طلعت عليه شمس الرسالة (1) .
__________
(1) ثبت في سنن الترمذي – كتاب الزهد – باب 14: (7/80) بسند حسن غريب، وسنن ابن ماجه – كتاب الزهد – باب مثل الدنيا –: (2/1377) وأقر العراقي في تخريج أحاديث الإحياء: (1/17) تحسين الترمذي، عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – قال سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: "الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكْرَ الله وما والاه، أو عالماً أو متعلماً" والحديث رواه البزار عن ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه – مرفوعاً بلفظ "الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا أمراً بمعروف أو نهياً عن منكر أو ذكْرَ الله"، ورواه الطبراني عن أبي الدرداء – رضي الله تعالى عنه – مرفوعاً بلفظ "الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما ابْتُغِى به وَجْهُ الله – عز وجل"، ورواه أبو نعيم في الحلية: (3/157، 7/90) والضياء المقدسيّ في المختارة عن جابر- رضي الله تعالى عنه – بلفظ "الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما كان منها لله – عز وجل "–: انظر تلك الروايات في الفتح الكبير: (2/16) ، ومجمع الزوائد: (1/122) وروى الدارمي في المقدمة – باب في فضل العلم: (1/94) عن كعب أنه قال: الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا متعلمٌ خيراً ومُعَلِمُهُ.(1/201)
وكذلك العبد ما لم تشرق في قلبه شمس الرسالة، ويناله من حياتها وروحها فهو في ظلمة، وهو من الأموات، قال الله – تبارك وتعالى –: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا} الأنعام122 فهذا وصف المؤمن كان ميتاً في ظلمة الجهل، فأحياه الله – جل وعلا – بروح الرسالة ونور الإيمان، وجعل له نوراً يمشي به في الناس، وأما الكافر فميت القلب في الظلمات.
... وقد سمى الله رسالته روحاً، والروح إذا عُدِم فقد فُقِدَت الحياة قال الله – عز وجل –: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} الشورى52، فذكر هنا الأصلين، وهما: الروح والنور، فالروح الحياة، والنور النور.(1/202)
.. وحاجة العبد إلى الرسالة أعظم بكثير من حاجة المريض إلى الطب فإن آخر ما يقدر بعدم الطبيب موت الأبدان، وأما إذا لم يحصل لعبد نور الرسالة وحياتها مات قلبه موتاً لا ترجى معه الحياة أبداً أو شقى شقاوة لا سعادة معها أبداً فلا فلاح إلا باتباع الرسول – صلى الله عليه وسلم – فإن الله – جل وعلا – خص بالفلاح أتباعه المؤمنين وأنصاره، فقال: {فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الأعراف157 أي: لا مفلح إلا هم، كما قال – جل وعلا –: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} آل عمران104 فخص هؤلاء بالفلاح كما خص المتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة وينفقون مما رزقهم، ويؤمنون بما أنزل على رسوله – صلى الله عليه وسلم – وما أنزل من قبله، ويوقنون بالآخرة بالهدى والفلاح فعلم بذلك أن الهدى والفلاح دائران حول رَبْع ِ الرسالة وجوداً وعدماً، ولولا الرسالة لم يهتد العقل إلى تفاصيل النافع والضار في المعاش والمعاد، فمن أعظم نعم الله – جل وعلا – على عباده، وأشرف مِنّة عليهم أن أرسل إليهم رسله الكرام – عليهم الصلاة والسلام – وأنزل عليهم كتبه، وبين لهم الصراط المستقيم فمن قبل رسالة الله – تبارك وتعالى – واستقام عليها فهو من خير البرية ومن ردها وخرج عنها فهو من شر البرية، وأسوأ حالاً من الكلب والخنزير، والحيوان البهيم.(1/203)
.. وليست حاجة أهل الأرض إلى الرسول – صلى الله عليه وسلم – كحاجتهم إلى الشمس والقمر، والرياح والمطر، ولا كحاجة الإنسان إلى حياته، ولا كحاجة العين إلى ضوئها، والجسم إلى الطعام والشراب، بل أعظم من ذلك، وأشد حاجة من كل ما يُقَدَّرُ، ويخطر بالبال، فالرسل الكرام – عليهم الصلاة والسلام – وسائط بين الله وبين خلقه في أمره ونهيه، وهم السفراء بينه وبين عباده (1) .
وهذا الأمر الواضح الحق، عارضه ثلاثة أصناف من الخلق: كما أشار إلى ذلك الإمام عبد الله بن المبارك – عليه رحمة الله تعالى – بقوله:
رَأيْتُ الذنُوبَ تُميتُ القُلوب ... ويُورثُكَ الذلّ إدْمانُها
وتَركُ الذنوبِ حياةُ القُلوب ... وخَيْرٌ لِنفْسِكَ عِصْيانُها
ج
وهلْ بَدّلَ الدّينَ إلا المُلوك ... وأحْبارُ سَوْء ورهْبَانُها
جج
فبَاعُوا النّفُوسَ ولمْ يَرْبَحُوا ... ولمْ تَغلُ في البيْعُ أثمَانُها
ج
لقدْ رَتَعَ القَوْمُ في جِيفَةٍ ... يَبينُ لذي العقل أنْتَانُها (2)
__________
(1) القاعدة موجودة ضمن مجموع الفتاوى، انظر: (19/93-101) ، ونقل الإمام ابن القيم خلاصة هذا المبحث عن شيخه – عليهما رحمة الله تعالى – معه زيادة تقرير وتوضيح في كتابه اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية: (5-27) والذي حط عليه كلامه: أن كمال الروح بصفتي الحياة والنور، ولا سبيل إليهما إلا على أيدي الرسل الكرام – عليهم الصلاة والسلام – والاهتداء بما بعثوا به، وتلقي العلم النافع، والعمل الصالح من مشكاتهم، فانظر كلامه لزاماً فعبارته تطرب الآذان، وتربط القلوب الرحيم الرحمن.
(2) انظر نسبة ذلك لابن مبارك في جامع بيان العلم وفضله: (1/165-166) ، وحلية الأولياء: (8/279) والجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي: (81) ، وإغاثة اللهفان: (2/346) ، وشرح الطحاوية: (152) ، والطبقات الكبرى للشعراني: (1/51) وإعلام الموقعين: (1/10) ، والتذكرة: (740) .
وهؤلاء الأصناف الثلاثة مجتمعين وردت الإشارة إليهم في حديث سقيم ففي جمع الجوامع: (1/2) والفتح الكبير: (1/11) ، وكشف الخفاء: (1/18) أخرج الديلمي عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهم – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: "آفة الدين ثلاثة: فقيه فاجر، وإمام جائز، ومجتهد جاهل" قال المُناوي في فيض القدير: (1/52) : فيه: نَهْشَلٌ بن سعيد بن الوَرْدانيّ، قال الذهبي في الضعفاء: (2/702) قال إسحاق بن راهويه: كان كذاباً، والضحاك لم يلق ابن عباس، ومن ثم قال السيوطي: سنده واهٍ أ. هـ ونَهْشَلٌ من رجال ابن ماجه كما في التقريب: (2/307) وحكم عليه ابن حجر بالترك، وانظر توهينه في الميزان: (4/275) ، والضعفاء الصغير للبخاري: (115) ، والتاريخ الكبير: (8/115) ، والضعفاء والمتروكين للنسائي: (103) ، والجرح والتعديل: (8/496) وحكم الألباني في ضعيف الجامع الصغير وزياداته: (1/95) على الحديث بالوضع.(1/204)
.. فالملوك الجائرون، يعترضون على شريعة رب العالمين بالسياسات الجائرة، ويعارضونها بها، ويقدمونها على حكم الله – جل جلاله – ويقولون إذا تعارضت السياسة مع الشرع قدمنا السياسة.
... وعلماء السوء يخرجون عن شريعة الله – تبارك وتعالى – بآرائهم الكاسدة، وأقيستهم الفاسدة المتضمنة مخالفة أمر الله – عز وجل – فيما أحل وحرم، ويقولون: إذا تعارض العقل والنقل قدمنا العقل.
... والعُبَاد الجهلة يعارضون حقائق الإيمان، وأحكام الرحيم الرحمن، بما يقوم في نفوسهم من خيالات وأوهام، وأذواق باطلة يزينها لهم الشيطان، ويقولون: إذا تعارض الذوق والكشف مع ظاهر الشرع نقدم الكشف والذوق – ضل سعيهم، وخاب ظنهم –.
... وقبل أن أختم هذا المبحث الجليل سأنبه على ثلاثة أمور لها شأن خطير:
أولها: إذا كان طريق العلم بصفات الرحمن – جل وعلا – متوقفاً على ما جاء به النبي – صلى الله عليه وسلم – من سنة وقرآن، فإن ذلك يشمل أدلة العقول، لأنها مندرجة فيما جاء به الرسول – صلى الله عليه وسلم – فالمنقول يشمل ما أخبر به الرسول – عليه الصلاة والسلام – كما يشمل ما دل عليه مما يدرك بالبراهين والعقول، قال الإمام ابن تيمية – عليه رحمة رب البرية –: ما علم بالشرع لا يخلو: إما أن يراد به إخبار الشارع، أو دلالة الشارع، فإذا عُني به ما دل عليه الشارع مثل دلالته على آيات الربوبية، ودلالة الرسالة، ونحو ذلك، فإنه يجتمع في هذا أن يكون شرعياً عقلياً، فإن الشارع لما نبه العقول على الآيات والبراهين والعبر اهتدت العقول فعلمت ما هداها إليه الشارع.(1/205)
.. واعلم أن عامة مسائل أصول الدين الكبار مثل الإقرار بموجود الخالق وبوحدانيته، وعلمه وقدرته ومشيئته وعظمته، والإقرار بالثواب، وبرسالة محمد – صلى الله عليه وسلم – وغير ذلك مما يعلم بالعقل قد دل الشارع على أدلته العقلية، وهذه الأصول التي يسميها أهل الكلام العقليات، وهي ما تعلم بالعقل، فإنها تعلم بالشرع، لا أعني بمجرد إخباره، فإن ذلك لا يفيد العلم إلا بعد العلم بصدق المُخبِر، فالعلم بها من هذا الوجه موقوف على ما يُعلم بالعقل من الإقرار بالربوبية وبالرسالة، وإنما أعني بدلالته وهدايته، كما أن ما يتعلمه المتعلمون ببيان المعلمين، وتصنيف المصنفين إنما هو لما بينوه للعقول من الأدلة.
... فهذا موضع يجب التفطن له، فإن كثيراً من الغالطين من متكلم ومحدِث ومتفقه وعاميّ وغيرهم يظن أن العلم المستفاد من الشرع إنما هو مجرد إخباره تصديقاً له فقط، وليس كذلك، بل يستفاد منه بالدلالة، والتنبيه والإرشاد جميع ما يمكن ذلك منه من علم الدين.
... وقال أيضاً: إن أصول الدين الحق الذي أنزل الله به كتابه، وأرسل به رسوله – صلى الله عليه وسلم – وهي الأدلة والبراهين، والآيات الدالة على ذلك، قد بينها الرسول – صلى الله عليه وسلم – أحسن بيان، ودل الناس عليها، وهداهم إلى الأدلة والبراهين اليقينية التي بها يعلمون المطالب الإلهية، وبها يعلمون إثبات ربوبية الله ووحدانيته وصفاته وصدق رسوله – صلى الله عليه وسلم – والمعاد، وغير ذلك مما يحتاج إلى معرفته بالأدلة العقلية، بل ويما يمكن بيانه بالأدلة العقلية وإن كان لا يحتاج إليها، فإن كثيراً من الأمور تعرف بالخبر الصادق، ومع هذا فالرسول – صلى الله عليه وسلم – بين الأدلة العقلية الدالة عليها، فجمع بين الطريقين: السمعي والعقلي.(1/206)
.. وليست دلالة الكتاب والسنة على أصول الدين بمجرد الخبر كما تظنه طائفة من الغالطين من أهل الكلام والحديث والفقهاء والصوفية وغيرهم، بل الكتاب والسنة دلا وهدياهم إلى الآيات والبراهين، والأدلة المبينة لأصول الدين، وهؤلاء الغالطون الذين أعرضوا عما في القرآن من الدلائل العقلية والبراهين اليقينية صاروا إذا صنفوا في أصول الدين أحزاباً.
حزب من يقدمون في كتبهم الكلام في النظر والدليل والعلم، وأن النظر يوجب العلم، وأنه واجب ويتكلمون في جنس النظر، وجنس الدليل، وجنس العلم بكلام قد اختلط فيه الحق بالباطل، ثم إذا صاروا إلى ما هو الأصل والدليل للدين استدلوا بحدوث الأعراض على حدوث الأجسام، وهو دليل مبتدع في الشرع، وباطل في العقل.(1/207)
والحزب الثاني عرفوا أن هذا الكلام مبتدع، وهو مستلزم مخالفة الكتاب والسنة، وعنه ينشأ القول بأن القرآن مخلوق، وأن الله لا يُرى في الآخرة وليس فوق العرش، ونحو ذلك من بدع الجهمية فصنفوا كتباً قدموا فيها ما يدل على وجوب الاعتصام بالكتاب والسنة من القرآن والحديث وكلام السلف، وذكروا أشياء صحيحة لكنهم قد يخلطون الآثار صحيحها بضعيفها، وقد يستدلون بما لا يدل على المطلوب، وأيضاً فهم إنما يستدلون بالقرآن من جهة إخباره لا من جهة دلالته، فلا يذكرون ما فيه من الأدلة على إثبات الربوبية والوحدانية والنبوة والمعاد، وأنه قد بين الأدلة العقلية على ذلك، ولهذا سموا كتبهم أصول السنة والشريعة، ونحو ذلك وجعلوا الإيمان بالرسول – صلى الله عليه وسلم –قد استقر فلا يحتاج إلى أن يُبَين بالأدلة الدالة عليه، فذمهم أولئك ونسبوهم إلى الجهل، إذ لم يذكروا الأصول الدالة على صدق الرسول – صلى الله عليه وسلم – وهؤلاء ينسبون أولئك إلى البدعة، بل إلى الكفر لكونهم أصلوا أصولاً تخالف ما قاله الرسول – صلى الله عليه وسلم – والطائفتان يلحقهما الملام لكونهما أعرضتا عن الأصول التي بينها الله بكتابه، فإنها أصول الدين، وأدلته وآياته، فلما أعرض عنها الطائفتان وقع بينهما العداوة كما قال الله – تبارك وتعالى –: {فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} المائدة14.(1/208)
وقال أيضاً: قد غلط طوائف المتكلمين غلطاً عظيماً، بل ضلوا ضلالاً مبيناً فيظنهم أن الشرع دل على المسائل الأصولية بطريق الخبر الصادق المجرد فقط، والأمر في ذلك ما عليه سلف الأمة أهل العلم والإيمان من أن الله – سبحانه وتعالى – بين من الأدلة العقلية التي يحتاج إليها في العلم بذلك ما لا يَقْدِرُ أحد من هؤلاء قَدْرَهُ، ونهاية ما يذكرونه جاء القرآن بخلاصته على أحسن وجه. ثم قرر شيخ الإسلام – عليه من الله الرحمة والرضوان – ذلك الكلام، بأمثلة كثيرة من آي القرآن، إليك واحداً منها فقط: قال الله – جل وعلا –: {ضَرَبَ لَكُم مَّثَلاً مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} الروم28 فالله – سبحانه وتعالى – بين في هذه الآية أن المخلوق لا يكون مملوكه شريكه في ماله حتى يخاف منه كما يخاف من نظيره، بل تمتنعون أن يكون المملوك لكم نظيراً، فكيف ترضون أن تجعلوا ما هو مخلوقي ومملوكي شريكاً لي يُدْعَى ويُعْبَدُ كما أدعى وأعبد؟ كما كانوا يقولون في تلبيتهم لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إلا شريكاًً هو لك، تملكه وما ملك، وهذا باب واسع عظيم جداً ليس هذا موضوعه وإنما الغرض التنبيه على أن في القرآن والحكمة النبوية عامة أصول الدين من المسائل والدلائل التي تستحق أن تكون أصول الدين (1) .
__________
(1) انظر الأقوال الثلاثة في مجموع الفتاوى: (19/229-230، 159-161) ودرء تعارض العقل والنقل: (1/28-32) مع تصرف يسير وتقدم في: من هذا المبحث المبارك نقل جزء من القول الثاني، وذكر هناك في الحاشية ما يلزم الرجوع إليه.(1/209)
ومما ينبغي أن يعلم أن إدراك تلك الأدلة الدالة على أصول الملة يحصل بالنظر العادي، لأن ذلك مما فطر الله العباد على معرفته، والقول بموجبه، والرسل الكرام – عليهم الصلاة والسلام – بعثوا لتقرير الفطرة وتكميلها، لا لتغييرها وتحويلها، ولهذا كان مأخذ العقيدة الحقة عند أهل السنة الكرام نصوص الشريعة الربانية والهداية الفطرية، ولا دخل في ذلك للتعمق في النظر العقلي، ولا للتنطع في الكشف الصوفي (1) ومن سلك من ذنيك الأمرين، ضل في الدارين، وإيضاح هذا بالأمر الثاني، فدونكه:
__________
(1) انظر إيضاح ذلك في مجموع الفتاوى: (4/247، 9/313، 10-135) وانظر في التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل: (2/203) فقد تكلم على مآخذ العقيدة الأربعة، وهي: سلفيان: الفطرة والشرع، وخَلَفيان: وهما: النظر العقلي والمتعمق فيه، والكشف الصوفي، وأطال في بيان قيمة كل دليل وأتى بما يشرح الصدر، ويريح البال.(1/210)
ثانيهما: الذين عولوا على نظر العقول، وأخذوا بما توهموه من أمور دون الالتزام بما جاء به الرسول – صلى الله عليه وسلم – ضلوا وأضلوا وقد تقدم قريباً اعتراف ثلاثة من أئمة العقول الكبار (إمام الحرمين، والغزالي، والرازي) بأن ما صاروا إليه بعقولهم لم يوصلهم إلا إلى الحيرة والخسارة ومن رحمة الله بهم أن وفقهم للرجوع إلى الحق وتصحيح المسار، فلا يمكن أن يتعارض نقل صحيح مع عقل صريح، وإذا وقع التعارض بينهما فالآفة في أحدهما، فإما لم يصح النقل، أو هناك تخليط في العقل، قال الشيخ ابن تيمية، عليه رحمة الله تعالى –: والرازي متناقض في عامة ما يقوله، يقرر هنا شيئاً ثم ينقضه في موضع آخر، لأن المواد العقلية التي كان ينظر فيها من كلام أهل الكلام المتبدع المذموم عند السلف، ومن كلام الفلاسفة الخارجين عن الملة تشتمل على كلام باطل كلام هؤلاء وكلام هؤلاء، فيقرر كلام طائفة ثم ينقضه في موضوع آخر، وليس هذا تعمداً منه لنصر باطل، بل يقول بحسب ما توافقه الأدلة العقلية في نظره وبحثه، فإذا وجد في المعقول بحسب نظره ما يقدح به في كلام الفلاسفة قدم به، فإن من شأنه البحث الحر بحسب ما يظهر له فهو يقدح في كلام هؤلاء بما يظهر له أنه قادح فيه من كلام هؤلاء، وكذلك يصنع بالآخرين، ولو جمع ما تبرهن في العقل الصريح من كلام هؤلاء وهؤلاء لوجد جميعه موافقاً لما جاء به الرسول – صلى الله عليه وسلم – مطابقاً لصحيح المنقول، لكن لم يعرف هؤلاء حقيقة ما جاء به الرسول – صلى الله عليه وسلم – وحصل اضطراب في المعقول به، فحصل نقص في معرفة السمع والعقل (1) .
__________
(1) انظر شرح حديث النزول: (175-177) مع تصرف يسير فيه تقديم وتأخير وقد صدق الشيخ ابن تيمية في قوله: لم يعرف هؤلاء حقيقة ما جاء به الرسول – صلى الله عليه وسلم – فالإمام الذهبي يقول في الميزان: (3/340) : الفخر بن الخطيب الرازي صاحب التصانيف رأس في الذكاء والعقليات لكنه عريّ من الآثار وقد اعترف السبكي في طبقات الشافعية: (8/88) بأن الرازي ليس من أهل الرواية في الحديث، وقد أقر الغزالي في آخر كتابه قانون التأويل وهو مطبوع مع معارج القدس: (246) بأنه مُزْجى البضاعة في الحديث فقال: وبضاعتي في علم الحديث مزجاة، ولذلك حكم شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى: (4/71) بأن أبا المعالي، وأبا حامد الغزالي، وابن الخطيب الرازي، ليس عندهم من المعرفة بالحديث ما يعدون به من عوام أهل الصناعة فضلا ً عن خواصها، ولم يكن الواحد من هؤلاء يعرف البخاري ومسلماً وأحاديثهم إلا بالسماع كما يذكر ذلك العامة، ولا يميزون بين الصحيح المتواتر عند أهل العلم بالحديث وبين الحديث المفترى المكذوب، وكتبهم أصدق شاهد بذلك، ففيها عجائب أ. هـ.
قال عبد الرحيم الطحان – ختم الله له بالإحسان –: حقاً إن كتبهم فيها عجائب تدهش الأنام فكم فيها من أحاديث لا خطام لها ولا زمام، وهذا من العيوب الجسام، فمن العبث حقاً عند أولي الأحلام أن يشتغل الإنسان بالفلسفة ومنطق اليونان، ويقضي حياته في هذيان من القول وعلم الكلام وليس عنده خبر عن أصح كتب الإسلام، ولا عن أحاديث خير الأنام – عليه الصلاة والسلام – وقد بلغت السفاهة ببعض علماء الكلام، حداً لا يتصوره إنسان قال الإمام ابن تيمية شيخ الإسلام، في كتابه العظيم نقض منطق اليونان: (82) وحدثني ثقة أنه تولى مدرسة المشهد الحُسيني بمصر بعض أئمة المتكلمين يسمى شمس الدين الأصبهاني فأعطوه جزءاً من الرَّبْعَة فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم ألَمْصْ حتى قيل له ألف لام ميم صاد. فاعتبر بغيرك أيها المسترشد الهمام لتنجو من الخرافات والأوهام، وتحظى برضوان الله في دار السلام.(1/211)
.. وسأقرر بمثالين – زيادة عما تقدم – أن الاعتماد على العلوم النظرية العقلية العوجاء، والترهات الكشفية الهوجاء، لن تجلب لصاحبها إلا الشقاء والعناء والبلاء، فتدبر المثالين، وسل الهداية من رب الثقلين – سبحانه وتعالى –:
المثال الأول: رجل عول على عقله، وأعرض عن هَدي ربه، فهذى بكلامه هذيان المجانين، وهو الزنديق أبو المعري اللعين، كان ذكياً ولم يكن زكياً (1) ، بقي خمساً وأربعين سنة لا يأكل اللحم، ولا البيض، ولا اللبن، ويحرم ذبح الحيوان على طريقة البراهمة من زنادقة الفلاسفة، وكان يتقوت بالنبات وغيره، وأكثر ما كان يأكل العدس (2) ،
__________
(1) لا خير في الذكاء إذا لم يصحبه زكاء، فقوة الذكاء بمنزلة قوة البدن والإرادة، وأهل الرأي والعلم بمنزلة أهل الملك والإمارة وكل من هؤلاء وهؤلاء لا ينفعه ذلك شيئاً إلا أن يعبد الله وحده لا شريك له ويؤمن برسله، وباليوم الآخر كما في مجموع الفتاوى: (18/58) .
(2) وأرفع شيء في العدس أنه شهوة اليهود، كما قال الإمام ابن القيم في المنار المنيف (52) مجموع الفتاوى: (27/22) ، وزاد المعاد: وما روي من أن العدس قدس على لسان سبعين نبياً، وأنه يرق القلب ويكثر الدمعة ويسرعها، فحديث باطل رواه ابن الجوزي في الموضوعات: (2/294-295) ، والطبراني كما في المجمع: (5/44) ، والبيهقي في شعب الإيمان وابن السنيّ في الطب كما في اللآليء المصنوعة: (2/212) ..وفي تاريخ بغداد: (9/143) سئل ابن المبارك عن الحديث في أكل العدس: أنه قُدِس على لسان سبعين نبياً، فقال: ولا على نبي واحد إنه لمؤذ منفخ، من يحدثكم به؟ قالوا: سَلْم بن سالم البَلَخي، قال: عمن؟ قالوا: عنك، قال: وعني أيضاً، قال ابن القيم في المنار المنيف: (52) ولو قدس فيه نبي واحد لكان شفاء من الأدواء، فكيف بسبعين نبياً؟ وقد سماه الله "أدنى" البقرة 61، ونعى على من اختاره على المنّ والسلوى، وجعله قريناً للثوم والبصل، أفترى أن أنبياء بني إسرائيل – على نبينا وعليهم الصلاة والسلام – قدسوهُ لهذه العلة والمضار التي فيه: تهييج السوداء، والنفخ والرياح الغليظة، وضيق النفس، والدم الفاسد وغير ذلك من المضار المحسوسة، ويشبه أن يكون هذا الحديث من وضع الذين اختاروهُ على المن والسلوى وأشباههم أ. هـ وانظر الكلام على ذلك الحديث والحكم عليه بالرد والبطلان في تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الموضوعة الشنيعة: (2/243-244) الفصل الثاني، والمقاصد الحسنة: (303) ، وميزان الاعتدال: (2/185، 3/313) ، ولسان الميزان: (3/63) ، وتهذيب التهذيب: (8/213) ، وكشف الخفاء: (2/92) ، وتذكرة الموضوعات: (147) ، والمصنوع في معرفة الحديث الموضوع: (129) ، وموضوعات الصغاني: (57) ، والدرر المنتثرة: (121) ، وأسنى المطالب: (149) .(1/212)
فقال له رجل لما لا تأكل اللحم؟ فقال: أرحم الحيوان، قال: فما تقول في السباع التي لا طعام لها إلا لحوم الحيوان؟ فإن كان الخالق الذي دبر ذلك فما أنت بأرأف منه، وإن كانت الطبائع المحدثة لذلك فما أنت بأحذق منها، ولا أتقن عملا ً. قال أبو يوسف القَزْوينيُّ: اجتمعت به مرة، فقال لي: لم أهْجُ أحداً قط، قال، قلت: صدقت، إلا الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام –.
... وله أشعار كثيرة تطاول بها على الشرع الحكيم، كل واحد منها يدل على كفره وضلاله، وزندقيته وانحلاله وعمى بصيرته وخباله، فمن ذلك قوله عليه لعنة الله:
فلا تَحْسَبْ مَقالَ الرُسْل ِ حَقاً ... ولكنْ قَوْلُ زُور ٍ سَطّروهُ
ج
وكانَ الناسُ في عيْش ٍ رَغيد ٍ ... فَجاؤا بالمُحال فَكدّروهُ
وقد رد عليه الإمام ابن كثير – عليه رحمة الله تعالى – بقوله: وقلت أنا معارضة عليه:
فلا تَحْسَبْ مَقالَ الرُسْل ِ ُزوراً ... ولكنْ قَوْلُ حقاً بَلَّغُوهُ
وكانَ الناسُ في جَهْل ٍ عظيم ٍ ... فَجاؤا بالبَيَان َ فأوضَحُوهُ
ج
وفي مدارج السالكين للإمام ابن القيم – عليه رحمة الله تعالى – أبيات فيها رد على المعري اللعين وهي:
وكانَ الناسُ في لبْس ٍٍ عظيم ٍ ... فَجاؤا بالبَيَان َ فأظْهَروهُ
وكانَ الناسُ في جَهْل ٍ عظيم ٍ ... فَجاؤا باليقين ِ فأذهَبُوهُ(1/213)
وكانَ الناسُ في كفْر ٍ عظيم ٍ ... فَجاؤا بالرَشاد ِ فأبْطلوهُ (1)
ومن سفاهة المعري وتفاهته، وسوء رأيه وانطماس بصيرته، أنه لما دخل بغداد وأقام بها سنة وسبعة أشهر قال بها:
يدٌ بخمس مئين عَسْجَدٍ وديَتْ ... ما بَالها قُطِعَتْ في رُبْع دِينَار ِ
تَنَاقُضٌ مالنا إلا السُكوتُ لهُ ... وأنْ نَعُوذ بموْلانَا مِنَ النّار
فعزم الفقهاء على أخذه بهذا وأمثاله منْ ضلالاته، فهرب منها طريداً، فلزم بيته قعيداً، وسمى نفسه رهين الحبسين لذلك، ولعمى بصره، ولو درى أن عمى بصيرته أشنع حبس قيد به لانكف عن ضلاله واتبع ما يسعده في حاله ومآله.
__________
(1) انظر البداية والنهاية: (12/74) ، ومدارج السالكين: (3/406) قال كاتب هذه الصفحات – غفر الله له السيئات –: انظر – يا أخي – إلى سفاهة تلك العقول الغوية، كيف قلبت العطية بلية، واعتبرت الهدية رزية، أو ما درى أصحاب تلك الآراء الشيطانية أن أعظم نعم الله على البرية، إرسال الرسل ذوي المراتب العلية – عليهم صلوات الله وسلامه بكرة وعشياً – وقد قرر ربنا الكريم تلك الحقيقة في آياته القرآنية، فقال – جل وعلا – {لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} آل عمران164 ونحوها في سورة الجمعة 2 {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} فلولا منة الله علينا ببعثة الرسل لكانت العجماوات خيراً منا.(1/214)
وقد فند العلماء تلك الفرية الشنعاء، قال الإمام ابن كثير – عليه رحمة الرب القدير: وهذا من إفكه، يقول: اليد ديتها خمس مائة دينار، فما لكم تقطعونها إذا سرقت ربع دينار، وهذا من قلة عقله وعلمه، وعمى بصيرته، وذلك أنه إذا جُنِيَ عليها يناسب أن يكون ديتها كثيرة لينزجر الناس عن العدوان، وأما إذا جنت هي بالسرقة فيناسب أن تقل قيمتها لينزجر الناس عن أموال الناس، وتصان أموالهم.
وأجاب القاضي عبد الوهاب المالكي – عليه رحمة الله تعالى – كما في فتح الباري:
صَيانةُ العُضْو ِ أغْلاها، وأرْخَصَهَا ... صَيانة ُ المَال ِ فافْهمْ حَكمَة َ البَارِي
وأجابه علم الدين السخاوي – عليه رحمة الله تعالى – كما في رُوْح المعاني:
عِزّ الأمَانَة أغْلاها، وأرْخصَهَا ... ذلّ الخِيَانة فافْهمْ حَكمَة َ البَارِي
... وفي مغني المحتاج الشِّرْبيني – عليه رحمة الله تعالى – سئل الإمام ابن الجوزي – عليه رحمة الله تعالى – عن هذا، فقال: لما كانت أمينة كانت ثمينة، فلما خانت هانت (1) .
ومن حماقته أنه كان يستعجل الموت ظناً منه أنه يستريح، وكان يوصي بترك النكاح، ولا يرى في الإيجاد حكمة إلا العناء والتعب ومصير الأبدان إلى البلى، وأوصى أن يكتب على قبره:
هذا جَنَاهُ أبي عليّ ... وما جَنَيْتُ على أحد
__________
(1) انظر فتح الباري: (12/89،83) ، ورُوْح المعاني: (6/134) ، ومغنى المحتاج: (4/158) .(1/215)
قال الإمام ابن الجوزي – عليه رحمة الله تعالى –: تأملت على قوم يدَّعون العقول، ويعترضون على حكمة الخالق، فينبغي أن يقال لهم: هذا الفهم الذي دلكم على رد حكمته أليس هو من مِنْحِهِ؟ أفأعطاكم الكمال ورضي لنفسه بالنقص؟ هذا هو الكفر الذي يزيد في القبح على الجحد، ثم بعد أن ذكر الإمام ابن الجوزي أن أول المعترضين إبليس أتبعه بذكر خليفته المعري، ونقل عنه ما تقدم ثم أتبعه بقوله: هذا لو كان كما يظن كان الإيجاد عبثاً، والحق – جل وعلا – منزه عن العبث، قال – جل جلاله –: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً} ص27 فإذا كان ما خُلِق لنا لم يُخْلقْ عبثاً، أفنكون نحن، ونحن مواطن معرفته، ومحال تكليفه قد وجُدِنْا عبثاً، واعجباه أو ما تقتضي العقول بوجوب طاعة الحكيم الذي تَعْجِزُ عن معرفة حِكْمَة مخلوقاته؟ فكيف تعارضه في أفعاله؟ نعوذ بالله – تبارك وتعالى – من الخذلان (1) .
__________
(1) انظر صيد الخاطر: (401-402) ، ونحوه في: (268) ، وانظر ترجمة المعري المظلمة في: المنتظم: (8/184-188) ، والبداية والنهاية: (12/72-76) ، وميزان الاعتدال: (1/112) ، ولسان الميزان: (1/203-208) ، والمختصر في أخبار البشر: (2/176-177) ، وشذرات الذهب: (3/280-282) ، ومعجم الأدباء: (3/107-218) ، وقد عده الشيخ ابن تيمية – عليه رحمة الله تعالى – من القدرية الإبليسية كما في مجموع الفتاوى: (8/260) ، وكان هلاكه سنة تسع وأربعين وأربع مائة، وقد أفضى إلى ما قدم، ونسأل الله الكريم حسن الخاتمة والإمام ابن الجوزي بعد أن حكى في كتابه تلبيس إبليس: (68) غيظ المعري لانتشار كلمة الحق، وثبوت الشرائع بين الخلق، وقرر زندقته وإلحاده في: (78-79) بما نقله من أشعاره المرذولة في إنكار البعث، حكم عليه في: (111) بأنه خسر العاجل والآجل، وفاتته الدنيا والآخرة، وبالختام فللإمام ابن القيم كلام قيم في المعري وأمثاله من السفهاء، ويحذر به مما أحدثوه من البلاء: قال – رحمه الله تعالى – في مدارج السالكين: (3/501) ما أفسد أديان الرسل الكرام – عليهم الصلاة والسلام – إلا أرباب منازعات العقول ثم قال: وقد هلك بهؤلاء طوائف لا يحصيهم إلا الله – عز وجل – وانحلوا بسببهم من أديان جميع الرسل الكرام – عليهم الصلاة والسلام – أ. هـ.(1/216)
المثال الثاني:
رجل كان يدعي المكاشفات، ويتكلم بالخرافات، وهو ابن عربي صاحب الفصوص والفتوحات، قال الإمام ابن كثير – عليه رحمة الله تعالى – في ترجمته: أقام بمكة مدة، وصنف فيها كتابه المسمى بالفتوحات المكية، في نحو عشرين مجلداً، فيها ما يعقل وما لا يعقل وما ينكر وما لا ينكر، وما يعرف وما لا يعرف، وله كتابه المسمى بفصوص الحكم فيه أشياء كثيرة ظاهرها كفر صريح أ. هـ.
وقال الإمام الذهبي – عليه رحمة الله تعالى – في ميزان الاعتدال: وصنف التصانيف في تصوف الفلاسفة وأهل الوحدة، فقال أشياء منكرة.(1/217)
عدها طائفة من العلماء مروقاً وزندقة، وعدها طائفة من العلماء إشارات العارفين، ورموزا السالكين وعدها طائفة من متشابه القول، وأن ظاهرها كفر وضلال، وباطنها حق وعرفان، وأنه صحيح في نفسه كبير القدر، وآخرون يقولون: قد قال هذا الباطل والضلال فمن الذي قال إنه مات عليه، فالظاهر عندهم من حاله أنه رجع وأناب إلى الله – جل وعلا – فإنه كان عالماً بالآثار والسنن، قوي المشاركة في العلوم، وقولي أنا فيه: إنه يجوز أن يكون من أولياء الله – جل وعلا – الذين اجتذبهم الحق إلى جنابه عند الموت، وختم له بالحسنى، فأما كلامه فمن فهمه وعرفه على قواعد الاتحادية، وعلم محط القوم، وجمع بين أطراف عباراتهم تبين له الحق في خلاف قولهم، كذلك من أمعن النظر في فصوص الحكم، أو أنعم التأمل لاح له العجب، فإن الذكي إذا تأمل من ذلك الأقوال والنظائر فهو أحد رجلين: إما من الاتحادية في الباطن، وإما من المؤمنين بالله الذي يعدون أن هذه النحلة من أكفر الكفر، نسأل الله العفو، وأن يكتب الإيمان في قلوبنا، فوالله لأن يعيش المسلم جاهلاً خلف البقر، لا يعرف من العلم شيئاً سوى سور من القرآن يصلى بها الصلوات، ويؤمن بالله، وباليوم الآخر خيرٌ له بكثير من هذا العرفان، وهذه الحقائق، ولو قرأ مائة كتاب، أو عمل مائة خلوة (1) .
__________
(1) انظر البداية والنهاية: (13/156) ، وميزان الاعتدال: (3/659-660) ، وانظر الجزء الثاني من مجموع فتاوى شيخ الإسلام – عليه رحمة الله تعالى – فقد كاد أن يكون وقفاً على بيان حال ضلال ابن عربي وزندقيته ففي: (122و364) يحكم على كتاب فصوص الحكم بأنه كفر باطناً وظاهراً، وباطنه أقبح من ظاهره وفي: (240) ينقل عن إبراهيم الجعبري والعز بن عبد السلام – عليهم جميعاً رحمة الله تعالى – أن ابن عربي شيخ سوء بخس مقبوح مكذوب يقول بقدم العالم، ويكذب بكل كتاب أنزله الله وبكل رسول أرسله الله، ويعقب على قولهما بأن ما ذكراه عنه هو بعض أنواع كفره، فإن حاله لم يكن قد تبين لهما وإلا فليس عند ابن عربي رب وعالم، بل عنده وجود العالم هو وجود الله، وجماع أمر ابن عربي وذويه: هدم أصول الإيمان الثلاثة: الإيمان بالله ـ وبالرسل – عليهم صلوات الله وسلامه – وباليوم الآخر، وفي: (357) يعلل سبب تفصيله لأحوال ابن عربي وأمثاله، وتحذيره من مسلكهم بما خلاصته: إن قولهم كثر وظهر وانتشر وتبعهم كثير من الناس وفضلهم على سائر الصالحين، وسبحان من فرق بين نوع الإنسان فجعل منه من هو أفضل العالمين , وجعل منه من هو شر من الشياطين، وقرر في: (35/144) أن من يستحسن طريقهم فهو مجرم مثلهم، وانظر أيضاً تفصيل حال ابن عربي في كتاب الإمام العلامة برهان الدين البقاعي واسم كتابه: تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي والكتاب في سبعين ومائتي صفحة، وانظر تفسير أبي حبان البحر المحيط: (3/449) فقد عد ابن عربي وجماعة معه وقال: إنما سردت أسماء هؤلاء نصحاً لدين الله، يعلم الله ذلك، وشفقة على ضعفاء المسلمين، وليحذروا فهم شر من الفلاسفة الذين يكذبون على الله ورسله – عليهم الصلاة والسلام – ويقولون بقدم العالم، وينكرون البعث وقد أولع جهلة ممن ينتمي إلى التصوف بتعظيم هؤلاء وادعائهم أنهم صفوة الله وأولياؤه، والرد على النصارى والحلولية والقائلين بالوحدة هو من علم أصول الدين أ. هـ وانظر لسان الميزان (4/318) فقد نقل ابن حجر عن شيخه البلقيني تكفير ابن عربي، فسأل الله الكريم أن يثبت الإيمان في قلوبنا، وأن يحسن خاتمتنا، وأن يجعل خير ساعاتنا ساعة ما نلقاه وهو راض ٍ عنا إنه سميع الدعاء.(1/218)
وقد عول هذا الرجل على الكشف كثيراً، فرد وأثبت وصحح وضعف بناءً على ذلك حسب زعمه فمن ذلك قوله في الفتوحات المكية: ورد في الحديث الصحيح كشفاً، الغير لثابت نقلاً عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن ربه – جل وعز – أنه قال: "كنت كنزاً لا أعرف، فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق فعرفتهم بي، فبي عرفوني" أ. هـ.
قال الألوسي في روح المعاني: والتصحيح الكشفي شِنشِنَة لهم أ. هـ (1) .
__________
(1) انظر الفتوحات المكية: (2/399) ، وروح المعاني: (27/21-22) ، والشنشنة: الخلق والطبيعة كما في صحاح الجوهري: (5/146) فصل الجيم من حرف النون، وفي المثل، شنشنة أعرفها من أخزم. انظر مجمع الأمثال: (1/361) ، وذلك الحديث الذي صححه ابن عربي صاحب الفصوص لا أصل له قال شيخ الإسلام ابن تيمية – عليه رحمة الله تعالى –: هذا ليس من كلام النبي – صلى الله عليه وسلم – ولا أعرف له إسناداً صحيحاً ولا ضعيفاً، انظر مجموع الفتاوى: (18/336،122) ، وكتاب النبوات: (83) موافقة العلماء له في حكمه في المقاصد الحسنة: (327) ، مختصره تمييز الطيب من الخبيث: (126) ، وتذكرة الموضوعات: (11) ، وتنزيه الشريعة – الفصل الثالث: (1/148) ، وتدريب الراوي: (370) ، والدرر المنتثرة: (193) وأحاديث القصاص: (69) والفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة: (78) ، والمصنوع في معرفة الحديث الموضوع: (141) ، والأسرار المرفوعة في الأحاديث الموضوعة: (273) وفيه نقل القاري كلام السخاوي صاحب المقاصد الحسنة ثم قال: لكن معناه صحيح مستفاد من قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} الذاريات56 أي ليعرفوني كما فسره ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – 10هـ، ونقل العَجْلُوني في كشف الخفاء: (2/132) حاصل كلام السخاوي والقاري ثم قال: وهو واقع كلام الصوفية، واعتمدوا عليه، وبَنَوْا عليه أصولاً لهم أ. هـ.
قال مقيد هذه الصفات – غفر الله له الزلات – قول القاري: ومعناه صحيح، لا داعي لذكره، ولا معنى له، إذ المطلوب بيان مدى صحة نسبة هذا الكلام لخير الأنام – عليه الصلاة والسلام – وإذا ثبت أنه موضوع فلا داعي للتعليق عليه. يضاف إلى هذا أن ما ذكره غير مسلم فإطلاق لفظ الكنز على الرب – حل وعلا – مما تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم بالغيب، والله أعلم، ومن العجيب حقاً تكرار الألوسي في روح المعاني: (1/46، 3/142، 14/216، 27/21) الاستشهاد به وقوله: الثابت عند أهل الله، والمشهور على الألسنة المصحح من طرق الصوفية، وهكذا استشهد به الرازي في تفسيره: (28/234) ، وابن الجوزي في صيد الخاطر: (367) ، وأعجب من ذلك وأغرب أن بعض الصوفية وهو بالي خليفة المتوفي: 960هـ شرح ذلك الحديث في كتاب مستقل كما في كشف الظنون: (2/1040) ، وتوجد منه نسخة في مكتب الأوقاف الإسلامية بحلب رقم 135، وانظر رد تصحيح الأحاديث عن طريق الكشف في فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك: (1/53-54) ، وسلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة: (1/79) وفيه: وتصحيح الأحاديث عن كريق الكشف بدعة صوفية مقيتة، وانظر تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي: (190-195) أسطورة الكشف، وتقدم: (111) مآخذ العقيدة.(1/219)
أي: للصوفية، وهذا الحديث موضوع كما هو مبين في التخريج، ولا يخفى على عاقل منصف أن الحكم على الأحاديث بالصحة أو بالضعف حسبما يظهر شنشنة معوجة، وطريقة منحرفة عن الصراط المستقيم، وللشيخ العلامة المعلمي كلام سديد حول هذا الموضوع، هذه خلاصته: يقول المتصوفة: إن الكشف قد يكون حقاً، وقد يكون من الشيطان، وقد يكون تخيلاً موافقاً لحديث النفس، وصرحوا بأنه كثير ما يكشف للرجل بما يوافق رأيه حقاً كان أو باطلا ً، فالكشف إذن تبع للهوى، فغايته أن يؤيد الهوى ويرسخه في النفس ويحول بين صاحبه وبين الاعتبار والاستبصار، فكان الساعي في أن يحصل له الكشف إنما يسعى في أن يضله الله – عز وجل – ولا ريب أن من التمس الهدى من غير الصراط المستقيم مستحق أن يضله الله – عز وجل – وما يزعمه بعض غلاتهم من أن لهم علامات يميزون بها بين ما هو حق من الكشف، وما هو باطل دعوى فارغة، إلا ما تقدم عن أبي سليمان الداراني – عليه رحمة الله تعالى – وهو قوله: ربما تقع في قلبي النكتة من نكت القوم أياماً فلا أقبل منه إلا بشاهدين عدلين: الكتاب والسنة (1) ،
__________
(1) انظر نسبة ذلك إليه في صفة الصفوة: (4/229) ، والبداية والنهاية: (10/257) ، والاعتصام: (1/94) وأبو سليمان الداراني إمام رباني، اسمه عبد الرحمن بن أحمد بن عطية العنسي، ودارياً قرية من قرى دمشق في جهة الغرب، ومن درره المنثورة، وحكمه المأثورة: من صفّى صُفِيَ له، ومن كَدّرَ كُدِرَ عليه، وإنما عصى الله من عصاه لهوائهم عليهم، ولو عزوا عليه وكرموا لحجزهم عن معاصيه، وحال بينهم وبينها، وكان يقول: لولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا، ولأهل الطاعة في ليلهم ألذ من أهل اللهو بلهوهم، وما يسرني أن لي الدنيا من أولها إلى آخرها أنفقها في وجوه البر وأني أغفل عن الله – عز وجل – طرفة عين وإنه لتمر بالقلب أوقات يرقص فيها طرباً، فأقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب..انظر هذا وغيره من ترجمته العطرة المباركة في حلية الأولياء: (9/254-280) ، وصفة الصفوة: (4/234،223) والرسالة القشيرية: (1/108-110) ، وتاريخ بغداد: (10/248-250) ، والأنساب: (5/271) واللباب: (1/482) ، ووفيات الأعيان: (3/131) ، معجم البلدان: (3/536) ، والبداية والنهاية: (10/259-255) ، وطبقات الصوفية: (75-82) ، والطبقات الكبرى للشعراني: (1/79/80) ، وشذرات الذهب: (2/13) .(1/220)
والمقصود الشهادة الصريحة التي يفهمها أهل العلم من الكتاب والسنة بالطريق التي كان يفهمها السلف الصالح، فأما ما عرف عن المتصوفة من تحريف النصوص بما هو أشنع وأفظع من تحريف الباطنية، فهذا لا يشهد لكشفهم، بل يشهد عليه أوضح شهادة بأنه من أبطال الباطل (1) .
__________
(1) انظر التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل: (2/242-243) ، وانظر الاعتصام لزاماً: (1/89-99) فقد نقل الشاطبي – عليه رحمة الله تعالى – عن أكثر من أربعين من أئمة الصوفية الصادقين وجوب التمسك بشريعة الله المطهرة، واتباع السنة المشرفة، وعدم التعويل على الكشف والآراء، والمواجيد والأذواق وبيض الله الكريم وجه الإمام ابن القيم حيث يقول في كتابه القيم مدارج السالكين: (-/324) هل كان في الصحابة – رضي الله تعالى عنهم – من إذا سمع نص رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عارضه بقياسه، أو ذوقه، أو وَجْدهِ، أو عقله، أو سياسته؟ وهل كان قط أحد منهم يقدم على نص رسول الله – صلى اله عليه وسلم – عقلا ً أو قياساً أو ذوقاً أو سياسية أو تقليد مقلد؟ فلقد أكرم الله أعينهم وصانها، أن تنظر إلى وجه مَنْ هذا حالُهُ، أو يكون في زمانهم أ. هـ نسأل الله الكريم أن يَمُنّ علينا بذلك كما مَنّ عليهم به؛ إنه سميع مجيب.(1/221)
قال الإمام ابن القيم – عليه رحمة الله تعالى – ومن كيد الشيطان ما ألقاه إلى جهال المتصوفة من الشطح والطامات، وأبرزه لهم في قالب الكشف من الخيالات، فأوقعهم في أنواع الأباطيل والترهات، وفتح لهم أبواب الدعاوى الهائلات، وأوحى إليهم: أن وراء العلم طريقاً إن سلكوه أفضى بهم إلى كشف العيان، وأغناهم عن التقيد بالسنة والقرآن، فحسن لهم رياضة النفوس وتهذيبها، وتصفية الأخلاق والتجافي عما عليه أهل الدنيا، وأهل الرياسة والفقهاء وأرباب العلوم، والعقل على تفريغ القلب وخلوه من كل شيء حتى ينقش فيه الحق بلا واسطة تعلم، فلما خلا من صورة العلم الذي جاء به الرسول – صلى الله عليه وسلم – نقش فيه الشيطان بحسب ما هو مستعد له من أنواع الباطل، وخيله للنفس حتى جعله كالمشاهدة كشفاً وعياناً، فإذا أنكره عليهم ورثة الرسل – عليهم الصلاة والسلام – قالوا: لكم العلم الظاهر، ولنا الكشف الباطن، ولكن ظاهر الشريعة وعندنا باطن الحقيقة، ولكن القشور، ولنا اللباب، فلما تمكن هذا من قلوبهم سلخها من الكتاب والسنة والآثار كما ينسلخ الليل من النهار، ثم أحالهم في سلوكهم على تلك الخيالات، وأوهمهم أنها من الآيات البينات، وأنها من قِبَل الله – سبحانه وتعالى – إلهامات وتعريفات، فلا تعرض على السنة والقرآن، ولا تعامل إلا بالقبول والإذعان فليغفر الله لا له – سبحانه وتعالى – ما يفتحه عليهم الشيطان من الخيالات والشطحات، وأنواع الهذيان، وكلما ازداد بعداً وإعراضاً عن القرآن، وما جاء به الرسول – صلى الله عليه وسلم – كان هذا الفتح على قلوبهم أعظم (1) .
__________
(1) انظر إغاثة اللهفان: (1/119-120) ، ولله در الإمام ابن الجوزي – عليه رحمة الله تعالى – إذ يقول في تلبيس إبليس: (288) ما نصه: قال أبو حامد الغزالي – رحمه الله تعالى – في كتاب الإحياء: (3/47) مقصود الرياضة تفريغ القلب، وليس ذلك إلا بخلوة في مكان مظلم، فإن لم يكن مكان مظلم فليلف رأسه في جيبه، أو يتدثر بكساء أو إزار ففي مثل هذه الحالة يسمع نداء الحق، ويشاهد جلال حضرة الربوبية. قلت – القائل ابن الجوزي –: انظر إلى هذه الترتيبات، والعجب كيف تصدر من فقيه عالم ومن أين له أن الذي يسمعه نداء الحق، وأن الذي يشاهده جلال حضرة الربوبية؟ وما يؤمنه أن يكون كا يجده من الوساوس والخيالات الفاسدة، وقد يسلم الإنسان في مثل هذه الحالة من الوساوس، إلا أنه إذا تغشّى بثوبه، وغضّ عينيه تخايل هذه الأشياء، لأن في الدماغ ثلاث قوى، قوة يكون بها التخيل، وقوة يكون بها الفكر، وقوة يكون بها الذكر، وموضوع التخيل البطنان المقدمان من بطون الدماغ، وموضوع التفكر البطن الأوسط من بطون الدماغ، وموضع الحفظ الموضع المؤخر فإن أطرق الإنسان، وغض عينيه جال الفكر والتخيل فيرى خيالات فيظنها ما ذكر من حضرة جلال الربوبية إلى غير ذلك، نعوذ بالله من هذه الوساوس، والخيالات الفاسدة.
وحكى ابن الجوزي في: (323) كلام الغزالي في الإحياء (3/18) وهو يشبه القول المتقدم، وعقب ابن الجوزي عليه بعبارات قاسية عادلة فقال: عزيز عليّ أن يصدر مثل هذا الكلام من فقيه، فإنه لا يخفى قبحه، فإنه على الحقيقة طيّ لبساط الشريعة التي حثت على تلاوة القرآن، وطلب العلم، وعلى هذا المذهب رأيت الفضلاء من علماء الأمصار، فإنهم ما سلكوا هذا الطريق، وإنما تشاغلوا بالعلم أولا ً، وعلى ما رتب أبو حامد الغزالي تخلو النفس بوساوسها وخيالاتها ولا يكون عندها من العلم ما يطرد ذلك فليلعب بها إبليس أي ملعب، فيريها الوسوسة محادثة ومناجاة، ولا ننكر أنه إذا طهر القلب انصبت عليه أنوار الهدى فينظر بنور الله – جل وعلا – إلا أنه ينبغي أن يكون تطهيره بمقتضى العلم لا بما ينافيه – ولا تنافي بين العلم والرياضة، بل العلم يعلم كيفية الرياضة ويعين على تصحيحها، وإنما يتلاعب الشيطان بأقوام أبعدوا العلم، وأقبلوا على الرياضة بما ينهى عنه العلم، والعلم بعيد عنهم، فتارة يفعلون الفعل المنهي عنه، وتارة يؤثرون ما غيره أولى منه، وإنما يفتي في هذه الحوادث العلم، وقد عزلوه فنعوذ بالله من الخذلان أ. هـ.
واعلم أن الكشف من خوارق العادات، وخوارق العادات منحصرة في ثلاثة أمور وهي العلم، والقدرة والغنى، ولا تحصل تلك الأمور على وجه الكمال إلا لله – عز وجل – وحده، فهو الذي أحاط بكل شيء علماً وهو على كل شيء قدير، وهو غني عن العالمين، وقد يحصل للعباد جزء من واحد من تلك الأشياء، ومن ذلك سماع العبد ما لا يسمعه غيره، ورؤيته ما لا يراه غيره يقظة أو مناماً، وعلمه ما لا يعلمه غيره إلهاماً أو فراسة فالسماع مخاطبات، والرؤية مشاهدات، والعلم مكاشفات، ويسمى ذلك كله كشفاً، ومكاشفات أي كشف له عنه.
وذلك الخارق كشفاً كان أو غيره إن حصل به فائدة مطلوبة في الدين كان من الأعمال الصالحة، وإن حصل به مباح كان من نعم الله الدنيوية، وإن كان على وجه يتضمن ما هو منهي عنه كان سبباً للعذاب والبغض.
وخوارق العادات على اختلاف أنواعها إن اقترن بها الدين نفعت صاحبها، وإلا أهلكته في الدنيا والآخرة، فحال الكرامات كحال الملك والسلطان إن تبعا الدين نفعا، وإلا كانا سبباً في تلف صاحبهما وهلاكه، انظر إيضاح هذا في قاعدة في المعجزات والكرامات لشيخ الإسلام ابن تيمية وهي ضمن مجموع الفتاوى: (10/311-362) ، ومدارج السالكين: (2/170، 3/227-228) وشرح الطحاوية: (448-452) .(1/222)
قال مقيد هذه الصفات – ستره رب الأرض والسماوات –: نعوذ بالله الجليل مما أدركناه في هذه الأوقات، فقد ظهر أناس بطونهم منتفخة من أكل الحرام، ويتوهمون – مع هذا أنهم متصلون بالملك العلام، وأنه يفتح لهم ما لا يخطر بالحسبان، وقد اجتمعت ببعض أولئك الضلال فقال لي: أنتم أهل القال، ونحن أهل الحال، وأنتم تأخذون من أوراق، ونحن نأخذ من الخلاق، وجرى لي معهم ما يطول، وأسأل الله العظيم أن يقطع دابرهم إنه خير مسئول.(1/223)
فاستمسك أيها المسترشد بما تركه نبينا – صلى الله عليه وسلم – من قرآن وسنة ورد إليهما جميع أمورك لتكون من المهتدين، ولئلا يلبس عليك الشيطان الرجيم، فهذا عمر بن الخطاب أمير المؤمنين – رضي الله تعالى عنه – وإمام المُحَدِّثين كما أخبر بذلك الصادق الأمين – عليه صلوات الله وسلامه – بقوله: "لقد كان فيمن كان قبلكم من الأمم ناس مُحَدَّثُون من غير أن يكونوا أنبياء فإن يكن في أمتي أحد فإنه عمر (1)
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب فضائل الصحابة – باب مناقب عمر – رضي الله تعالى عنهم أجمعين: (7/42) ، وفي كتاب أحاديث الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – باب ما ذكر عن بني إسرائيل: (6/512) بشرح ابن حجر فيهما، ورواه مسلم في كتاب الصحابة – باب فضائل عمر: (15/166) بشرح النووي، ورواه الترمذي في كتاب المناقب – باب مناقب أبي حفص: (10/182) بشرح تحفة الأحوذي، وروايتا البخاري عن أبي هريرة، وروايتا مسلم والترمذي عن عائشة، ورواه أحمد في المسند: (2/339) عن أبي هريرة وفي: (6/55) عن أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – واعلم أن قول النبي – صلى الله عليه وسلم –: "فإن يكن في أمتي أحد فإنه عمر" لم يورده نبينا – صلى الله عليه وسلم – مورد الترديد على الراجح، لأن أمته أفضل الأمم وإذا ثبت أن ذلك وجد في غيرهم، فإمكان وجوده فيهم أولى، وعلى هذا فتلك الجملة واردة مورد التوكيد، وهذا كما يقول الرجل: إن يكن لي صديق فإنه فلان، يريد اختصاصه بكمال الصداقة لا نفي الأصدقاء عنه، ونحوه قول الأجير: إن كنت عملت لك فوفني حقي، وكلاهما عالم بالعمل، لكن مراد القائل إن تأخير حقي عمل عنده شك في كوني عملت، أفاد ذلك الحافظ في الفتح: (7/- 50-51) وأورد احتمالاً آخر، فقال: وقيل: الحكمة فيه أن وجودهم في بني إسرائيل كان قد تحقق وقوعه، وسبب ذلك احتياجهم حيث لا يكون فيهم نبي، واحتمل عنده – صلى الله عليه وسلم – أن لا تحتاج هذه الأمة إلى ذلك لاستغتائها بالقرآن عن حدوث نبي أ. هـ والأول أولى وهو الذي عول عليه الإمام ابن تيمية في الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان: (77) حيث ذكر أن الكرامات كثرت في التابعين أكثر منها في الصحابة، وأما ما نعرفه نحن عياناً، ونعرفه في هذا الزمان فكثير أ. هـ وفي الفتح: (7/50) نحوه أيضاً، والله تعالى أعلم.(1/224)
" وكان مرجعه في جميع أموره الشرع لا ما يلقى في رُوْعِهِ عن طريق إلهام أو يحصل في صدره في يقظة أو منام، حفظنا الله بالإسلام، وحفظ لنا الإيمان، ومن علينا بحسن الختام، إنه كريم رحمن.
ثالث الأمور وخاتمتها: وهي خاتمة المبحث الأول الشريف:
إذا كان التعويل على العقول والآراء سبب كل فتنة وبلاء، وأصل كل زيغ وشقاء، وقد هلك بسبب ذلك خلق كثير لا يعلمهم إلا رب الأرض والسماء، وهم عند أهل الأرض في عداد الأذكياء، ولكنهم من الزكاء عَرَاء، فالواجب عليك أيها المسترشد أن تلجأ إلى رب الأرض والسماء، وأن تستغيث به أعظم من استغاثة الغريق في لجج الماء، وليحفظك ربنا – جل وعلا – من الفتن والأهواء، ولتكون من الأكياس أهل الاهتداء، وأنفع ما تقوله من الدعاء، ليحصل لك البرء والشفاء ما كان يردده إمام الأنبياء – على نبينا وعليهم جميعاً الصلاة والسلام – عندما يقوم لعبادة مولاه في الليالي الظلماء ثبت في صحيح مسلم والسنن الأربعة عن أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنها – أنها قالت: كان النبي – صلى الله عليه وسلم – إذا قام الليل افتتح صلاته: "اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون. اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم" (1) .
__________
(1) انظر صحيح مسلم – كتاب صلاة المسافرين – باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه: (1/534) رقم 770 وسنن النسائي – كتاب قيام الليل- باب بأي شيء تستفتح صلاة الليل: (3/173) ، وسنن أبي داود – كتاب الصلاة – باب ما تستفتح به الصلاة من الدعاء: (1/487) ، وسنن الترمذي – كتاب الدعوات – باب ما جاء في الدعاء عند افتتاح الصلاة بالليل: (9/120) ، وسنن ابن ماجه – كتاب الصلاة والسنة فيها – باب (ما جاء) في الدعاء إذا قام الرجل من الليل: (1/431) ، وانظر الحديث في المسند أيضاً: (6/156) .(1/225)
ففي هذا الحديث الشريف الجليل يتوجه نبينا – صلى الله عليه وسلم – إلى العلي القدير، بربوبيته لجبرائيل وميكائيل وإسرافيل أن يهديه لما اختلف فيه من الحق بإذنه، إذ حياة القلب بالهداية، وقد وكل الله – جل وعلا – الثلاثة بالحياة، فجبرائيل موكل بالوحي الذي هو سبب حياة القلوب، وميكائيل موكل بالمطر الذي هو سبب حياة الأبدان وسائر الحيوان، وإسرافيل موكل بالنفخ في الصور الذي هو سبب حياة العالم، وعود الأرواح إلى أجسادها، فالتوسل إلى الله – جل وعلا – بربوبيته لهذه الأرواح العظيمة الموكله بالحياة له تأثير عظيم في حصول المطلوب، والله المستعان وعليه التكلان. (1)
__________
(1) انظر هذا في شرح الطحاوية: (159) ، والفتوحات الربانية شرح الأذكار النواوية: (2/140) ، وفي شرح الأبِّي، والسنوسي: (2/397) الثاني مطبوع في حاشية الأول، وشرح النووي لصحيح مسلم: (6/57) نحو ذلك وقد كان نبينا – صلى الله عليه وسلم – يتوسل إلى الله بربوبيته لهؤلاء الملائكة الكرام – على نبينا وعليهم الصلاة والسلام – بعد ركعتي سنة الفجر ففي المستدرك: (3/622) كتاب معرفة الصحابة – عن أسامة بن عُمَيْر – رضي الله تعالى عنه – أنه صلى مع النبي – صلى الله عليه وسلم – ركعتي الفجر فصلى قريباً منه فصلى النبي – صلى الله عليه وسلم – ركعتين خفيفتين، فسمعه يقول: "اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل ومحمدٍ أعوذ بك من النار" ثلاث مرات..والحديث رواه ابن السني في عمل اليوم والليلة: (48-49) والطبراني في الكبير كما في مجمع الزوائد: (2/219) ، والبزار – كما في مجمع الزوائد أيضاً: (10/110) ورواه الدارقطني في الأفراد كما في الفتوحات الربانية: (2/139) ورواه عن أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنها – أبو يعلى، والطبراني في الأوسط كما في مجمع الزوائد: (10/104، 110) والحديث صححه الحاكم، وسكت عنه الذهبي، ونص ابن حجر على حسنه كما في الفتوحات الربانية: (2/139) وانظر تحفة الذاكرين: (130) ونزل الأبرار: (77) ومن العجيب اقتصار النووي في الأذكار: (32) على نسبة الحديث إلى ابن السني فقط، وقد كان نبينا – صلى الله عليه وسلم – يتوسل إلى الله – جل وعلا – بربوبيته لأولئك الملائكة الأطهار – على نبينا وعليهم الصلاة والسلام – في غير ذينك الموضعين ففي سنن النسائي – كتاب الاستعاذة – باب الاستعاذة من حر النار: (8/246) عن أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنها – قالت: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: "اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، أعوذ بك من حر النار ومن عذاب القبر وقد أشار إلى ذلك الهيثمي في مجمع الزوائد: (10/104) فقال عقب رواية أبي يعلى المتقدمة: رواه النسائي بنحوه، من غير تقييد بركعتي الفجر.(1/226)
واعلم أيها المهتدي الذكي، أنه لا خلاص لك من عدوك الغوي، إلا بالالتجاء إلى ربك القاهر القوي، فللشيطان سبعة طرق ينصبها للناس، لا يسلم من غوائها إلا الأكياس، وبيانها ضروري ليحترس منها المسترشد الزكي، فدونكها كما قرر الإمام ابن القيم التقي – نضر الله وجهه البهي – فما إخالك تحظى ببيانها في غير تحقيقه القيم النقي.
قال – رحمه الله تعالى –: إن الشيطان يريد أن يظفر بالإنسان في عقبةٍ من سبع عقبات، بعضها أصعب من بعض، لا ينزل من العقبة الشاقة إلى ما دونها إلا إذا عجزعن الظفر به فيها.
العقبة الأولى: عقبة الكفر بالله – جل وعلا – وبدينه، ولقائه، وبصفات كماله، وبما أخبرت به رسله – عليهم الصلاة والسلام – عنه، فإنه إن ظفر به في هذه العقبة بردت نار عداوته واستراح فإن اقتحم هذه العقبة ونجا منها ببصيرة الهداية، وسلم معه نور الإيمان، طلبه على:
العقبة الثانية: وهي عقبة البدعة، إما باعتقاد خلاف الحق الذي أرسل الله – جل وعلا – به رسوله – صلى الله عليه وسلم – وأنزل به كتابه، وإما بالتعبد بما لم يأذن به الله – تبارك وتعالى – من الأوضاع والرسوم المحدثة في الدين التي لا يقبل الله منها شيئاً، والبدعتان في الغالب متلازمتان، قل أن تنفك إحداهما عن الأخرى، كما قال بعضهم: تزوجت بدعة الأقوال ببدعة الأعمال، فاشتغل الزوجان بالعرس، فلم يفجأهم إلا أولاد الزنا يعيثون في بلاد الإسلام، تضج منهم العباد والبلاد إلى الله – جل وعلا – وقال شيخنا – هو الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى –: تزوجت الحقيقة الكافرة بالبدعة الفاجرة، فتولد بينهما خسران الدنيا والآخرة، فإن قطع هذه العقبة، وخلص منها بنور السنة واعتصم منها بحقيقة المتابعة، وما مضى عليه السلف الأخيار من الصحابة والتابعين لهم بإحسان – رضي الله تعالى عنهم أجمعين –.(1/227)
وهيهات أن تسمح الأعصار المتأخرة بواحد من هذا الضرب، فإن سمحت به نصب له أهل البدع الحبائل، وبغوه الغوائل، وقالوا: مبتدع محدث (1) فإذا وفقه الله – جل وعلا – لقطع
المبحث الثاني: طريقة أهل السنة الكرام في صفات الرحيم الرحمن – جل وعلا –:
تقدم في المبحث السابق أن مصدر الكلام في صفات الملك العلام منحصر فيما بينه خير الأنام – عليه الصلاة والسلام –، وقد تقدم سرد الأدلة الدالة على كون النبي – صلى الله عليه وسلم – بين أسماء الله وصفاته بياناً محكماً سديداً، وفصل الكلام في هذا تفصيلا ً رشيداً فلسنا بعد بيانه وتفصيله بحاجة إلى بيان أحدٍ أو تأويله، ولذلك عول أهل السنة الكرام في إيمانهم بصفات الرحمن على ما ورد في القرآن، وثبت عن النبي – صلى الله عليه وسلم –، وعليه درج الصحابة الكرام، وتابعوهم بإحسان.
__________
(1) وبذلك تعلم حرص الشيطان على إيقاع الناس في البدع، وتفضيلهم ذلك على إيقاعهم في الكبائر الفظيعة، وذلك لأن أهل الكبائر يشعرون بالتقصير، ورجوعهم إلى الحق سهل، بخلاف أهل البدع الزائغين، فهم يزدرون المتمسك بالحق المبين، وهيهات هيهات أن يوفقوا للعودة إلى الصراط المستقيم، ولذلك قال سفيان الثوري إمام المسلمين – عليه رحمة رب العالمين – كما في شرح السنة: (1/216) ، وتلبيس إبليس: (13) البدعة أحب إلى إبليس من المعصية لأن المعصية يتاب منها، والبدعة لا يتاب منها أ. هـ وكل من أعرض عن السنة فهو مبتدع قال الإمام ابن القيم – رحمه الله تعالى – في إغاثة اللهفان: (1/214) : المعرض عن التوحيد مشرك شاء أم أبى، والمعرض عن السنة مبتدع ضال شاء أم أبى أ. هـ ولذلك قال العلماء في تعريف البدعة: ما أحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه كما في جامع العلوم والحكم: (252) والباعث على إنكار البدع والحوادث: (20) ، وإقامة الحجة على أن الإكثار في التعبد ليس ببدعة: (19) ، والاعتصام: (1/37) .(1/228)
وطريقة إيمان أهل السنة بصفات ربهم منحصرة أيضاً في الطريقة الثابتة عن نبينهم – صلى الله عليه وسلم –، وعليها سار الصالحون من أسلافهم، وتتلخص بكلمتين اثنتين: الإقرار والإمرار، أي: يجرون الصفة كما وردت فيقرون بمضمونها، ويجزمون بأنها على ظاهرها حسبما يليق بكمال الموصوف بها – سبحانه وتعالى – دون محاولة البحث عن حقيقتها وكيفيتها إذ لا يعلم ذلك إلا المتصف بها – جل وعلا –، وليس كمثله شيء، كما أخبر ربنا – جل وعلا – بذلك عن نفسه بقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} الشورى11 وهذا شامل لنفي المثيل له في الذات والصفات والأفعال.(1/229)
قال الإمام ابن القيم – عليه رحمة الله تعالى – في أوائل كتاب القيم "الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة: تنازع الناس في كثير من الأحكام، ولم يتنازعوا في آيات الصفات وأخبارها في موضع واحد، بل اتفق الصحابة الكرام والتابعون لهم بإحسان – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – على إقرارها وإمرارها مع فهم معانيها، وإثبات حقائقها، وهذا يدل على أنها أعظم النوعين بياناً، وأن العناية ببيانها أهم، لأنها من تمام الشهادتين، وإثباتهما من لوازم التوحيد، فبينها الله – سبحانه وتعالى – ورسوله – صلى الله عليه وسلم – بياناً شافياً لا يقع فيه لبس للراسخين في العلم، وآيات الأحكام لا يكاد يفهم معانيها إلا الخاصة من الناس، وأما آيات الصفات فيشترك في فهم معناها الخاص والعام، وأعني فهم أصل المعنى، لا فهم الكنه والكيفية أ. هـ (1) .
__________
(1) انظر مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة: (1/21) ، وانظر تلك الجملة السديدة "أمّروها كما جاءت بلا كيف" عن سلفنا الصالح، ونقلها الإمام الذهبي في كتاب العلو: (103) عن سفيان الثوري، وعقب الذهبي عليها بقوله: وقد بث هذا الإمام الذي لا نظير له في عصره شيئاً كثيراً من أحاديث الصفات، ومذهبه فيها: الإقرار والإمرار، والكف عن تأويلها. وفي: (104) عن الأوزاعي، ومالك بن أنس، وسفيان الثوري، والليث بن سعد. وفي: (106) كرر ذلك عن الأربعة، وأنهم قالوا: امضها بلا كيف. وفي: (109) عن إسماعيل بن أبي خالد، والثوري، ومسعر. وفي: (113) عن محمد بن الحسن. وفي: (116) عن سفيان ابن عيينه: هي كما جاءت، نقر بها، ونحدث بها، بلا كيف. وفي: (117) عن وكيع: نسلم هذه الأحاديث كما جاءت، ولا نقول كيف كذا، وقال: أدركنا الأعمش والثوري يحدثون بهذه الأحاديث ولا ينكرونها. وفي: (123) عن الحميدي. وفي: (127) عن أبي عبيد القاسم بن سلام..أبو عبيد أعلم مني، ومن الشافعي، وأحمد وقد ألف كتاب غريب الحديث، وما تعرض لأخيار الصفات بتفسير، بل عنده لا تفسير لذلك غير موضع الخطاب العربي. وفي: (146) عن ابن أبي عاصم. وفي: (147) عن أبي عيسى الترمذي وهو في سننه – كتاب الزكاة – باب ما جاء في فضل الصدقة: (3/24) قال غير واحد من أهل العلم: ثبتت الروايات في هذا، ونؤمن بها، ولا نتوهم، ولا نقول كيف، هكذا روي عن مالك بن أنس، وسفيان بن عيينة، وعبد الله بن المبارك، أنهم قالوا في هذه الأحاديث: أمّروها بلا كيف. هذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة، وأما الجهمية فأنكرت هذه الروايات، وقالوا هذا تشبيه، وفسروها على غير ما فسره أهل العلم، وفي: (125) عن ابن سريج. وفي: (158) عن الطحاوي. وفي: (159) عن أبي الحسن الأشعري. وفي: (164) عن أبي محمد البربهاري شيخ الحنابلة ببغداد. وفي: (167) عن أبي بكر الإسماعيلي. وفي: (171) عن الدارقطني. وفي: (174) عن ابن الباقلاني قال: وقد بينا دين الأئمة وأهل السنة أن هذه الصفات تمر كما جاءت بغير تكييف. وفي: (192) عن أبي القاسم التيمي. وانظر تلك الجملة الرشيدة في تذكرة الحافظ: (1/304) قال الوليد بن مسلم: سألت مالكاً والأوزاعي والثوري، والليث بن سعد عن هذه الأحاديث التي فيها الصفات، فقالوا: أمِرّوها كما جاءت بلا كيف. وفي: (2/414) عن الحميدي. وفي: (3/939) عن الحافظ أبي أحمد القصاب قال: مذهب السلف: إمرارها بلا تأويل. وانظر السنن الكبرى للإمام البهقي: (3/3) حيث نقل ذلك عن سفيان الثوري، وشعبه، وحماد بن سلمة، وشريك، وأبي عوانة – رضي الله تعالى عنهم – وعمن تقدم ذكره أجمعين، وعنا معهم آمين، وفي لمعة الاعتقاد: (6) وعلى هذا درج السلف وأئمة الخلف كلهم متفقون على الإقرار والإمرار، والإثبات لما ورد من الصفات في كتاب الله وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم – من غير تعرض لتأويله. ونحوه في روضة الناظر: (67) وانظر مجموع الفتاوى: (16/401) .(1/230)
فإثبات أهل السنة الكرام لصفات الكريم الرحمن إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف (1) وبعبارة أخرى: تقوم طريقتهم على إثبات الأسماء والصفات مع نفي مماثلتها للمخلوقات. إثباتاً بلا تمثيل، وتنزيهاً بلا تعطيل، كما قال العلي الكبير: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} الشورى11 ففي قوله – جل وعلى –: "لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ" رد للتشبيه والتمثيل، وفي قوله: " وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ " رد للإلحاد والتعطيل (2) .
__________
(1) وهذا هو قول الإمام الخطيب البغدادي، ونقله عن السلف الكرام. ففي تذكرة الحافظ: (3/1142) نقلا ً عنه: أما الكلام في الصفات، فإن ما روي منها في السنن الصحاح مذهب السلف إثباتها وإجراؤها على ظاهرها، ونفي الكيفية والتشبيه عنها، وقد نفاها قوم فأبطلوا ما أثبته الله وحققها قوم من المثبتين فخرجوا في ذلك إلى ضرب من التشبيه والتكييف، والفصل إنما هو سلوك الطريقة المتوسطة بين الأمرين، ودين الله بين الغالي فيه، والمقصر عنه، والأصل في هذا أن الكلام في الصفات فرع الكلام في الذات، ويحتذى فيه حذوه ومثاله، وإذا كان معلوم أن إثبات رب العالمين إنما هو إثبات وجود لا إثبات كيفية، وفكذلك إثبات صفاته، إنما هو إثبات وجود، لا إثبات تحديد وتكييف 10هـ ونقل الإمام الذهبي في تذكرة الحفاظ أيضاً: (3/949) نحوه عن شيخ الإسلام الإمام أبي بكر الإسماعيلي. وفي كتاب العلو: (106) عن مفتي المدينة المنورة ابن الماجشون، وفيه في: (171) عن الحافظ بن منده وفي: (177) عن الإمام معمر بن أحمد الأصبهاني، وفي مجموع الفتاوى: (5/59) بعد نق الكلام المتقدم عن الخطيب والخطابي أيضاً: وهذا الكلام قد نقل نحواً منه من العلماء من لا يحصى عددهم مثل الإسماعيلي.....إلخ.
(2) وهذا هو كلام شيخ الإسلام في الرسالة التدمرية: (8) في بيان طريق السلف المرضية، وفي صفات رب البرية – جل وعلا – وهو في مجموع الفتاوى: (3/4، 6/515) ..(1/231)
ويمكن أن يقال بناء على ما سبق: إن أهل السنة الكرام يؤمنون بصفات الله – جل وعز – من غير تحريف ولا تمثيل، ولا تشبيه ولا تعطيل، ولا إلحاد في صفات الله الجليل، وهذه المحترزات تتكرر في كتب التوحيد، فإليك بيان ما يراد بها على وجه التحديد.
1- التحريف: معناه في اللغة التغيير والتبديل، وأصله من الانحراف عن الشيء والتحريف عنه قال الله – جل وعلا –: {أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} البقرة75، وذلك التحريف من اليهود – عليهم لعنة الله – شامل لتحريف اللفظ أي تغييره وتبديله، كما هو شامل لتحريف المعنى وتغييره والأمران منهما فعليهم لعنة ربنا (1) .
والمراد من التحريف في الاصطلاح: تغيير النص لفظاً، أو معنى، وقد يصاحب التغيير اللفظي تغير في المعنى، وعليه تصبح أقسام التحريف ثلاثة:
أولها: تحريف معنوي:
ومنه تفسير المؤولة للاستواء في قول رب الأرض والسماء: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} طه 5 باستولى. وقال الإمام ابن القيم – عليه رحمة الله تعالى – في القصيدة النونية:
نُونُ اليهود ولامُ جهيميٍّ هما ... في وحي ربّ العَرْشِ زائدتان
__________
(1) أنظر إيضاح هذا في لسان العرب: (10/388) "حرف"، ومختار الصحاح: (148) "حرف" وروح المعاني: (1/298) ، ومفاتيح الغيب: (3/134) ، وتفسير ابن كثير: (1/115) .(1/232)
ويشير الإمام ابن القيم بقوله: "نون اليهود" إلى قول الله – جل وعز –: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} البقرة ومعنى "حطة": حُط عنا خطايانا، واغفر لنا ذنوبنا، فبدلوا ذلك القول، وقالوا: حنطة في شعرة، كما بدلوا الفعل فدخلوا يزحفون على أستاهم بدلا ً من السجود لربهم.(1/233)
ولذلك قال ربنا – جل وعلا – عقيب الآيتين المتقدمين: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} البقرة59، {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ} الأعراف162 (1) ،
__________
(1) انظر إيضاح هذا في زاد المسير: (1/85-86) ، وتفسير ابن كثير: (1/99) والسراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير: (1/62) ..(1/234)
وفي المسند عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – في قوله – عز وجل –: " وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً " قال: فدخلوا زحفاً، " وَقُولُواْ حِطَّةٌ " قال: بدلوا، فقالوا: حنطة في شعرة، وفي الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: قيل لبني إسرائيل: " وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ " فبدلوا فدخلوا يزحفون على أستاهم، وقالوا: حبة في شعرة (1) . وقد أشار الإمام ابن القيم إلى ذلك في القصيدة النونية بقوله:
__________
(1) انظر الحديث في المسند: (2/312 مصححاً ما ورد في طباعته من تحريف حسبما ذكر الشيخ البنا في الأماني: (18/73)) والشيخ أحمد شاكر في طبعه للمسند: (15/243) 8095 وانظر صحيح البخاري – كتاب أحاديث الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام –: (6/436) ، وكتاب التفسير – سورة البقرة – باب 5: (8/164) ، وسورة الأعراف – باب "قولوا حطة": (8/304) بشرح ابن حجر في الجميع، وانظر صحيح مسلم – أول حديث في كتاب التفسير –: (4/2312) ، وسنن الترمذي – كتاب التفسير – سورة البقرة –: (8/155) ، وفيه: "دخلوا متزحفين على أوراكهم" ورواه أبو داود مختصراً في كتاب الحروف والقراءات: (4/296) عن أبي سعيد الخدري – رضي الله تعالى عنه – وانفرد أبو داود بذلك كما في تفسير ابن كثير: (1/99) ، ورواه الحاكم في المستدرك في كتاب التفسير: (2/262) عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهم – موقوفاً وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وأقره الذهبي، ورواه أيضاً: (2/321) عن ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه – موقوفاً عليه بلفظ: إن أهل العجل قالوا: هطا سقمانا إزبه مزبه، وهي بالعربية: حنطة حمراء قوية فيها شعرة سوداء، وقال: صحيح على شرط مسلم، وأقره الذهبي، ونقله عنه الحافظ في الفتح: (8/304) .(1/235)
أمِرَ اليهودُ بأنْ يقولوا حِطَّة ٌ ... فأبواْ وقالوا حِنطَة ٌ لِهَوَان ِ
وكذلك الجهميُّ قيل له استوى ... فأبى وزادَ الحرفَ للنُقْصان
قال استوى استولى وذا مِنْ جهله ... لغة ً وعقلا ً ما هما سيان
عشرون وجهاً تُبْطِلُ التأويلَ باستولى ... فلا تَخْرُجْ عن القرآن
قد أفْردَتْ بمصنَّفٍ هو عندنا ... تصنيف حَبْر ٍ عالم ٍ ربّاني
ولقد ذكرْنا أربعين طريقة ً ... قد أبطلتْ هذا بحُسْن بيان
هي في الصواعق إن تُردْ تحقيقها ... لا تخفى إلى على العُميان
نُونُ اليهود ولامُ جهيمي ٍّ هما ... في وحي ربّ العَرْش ِ زائدتان (1)
ثانيها: تحريف لفظي مقصود متعمد لينتج عنه تحريف في المعنى المطلوب المعتمد:
__________
(1) انظر الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية: (91) وانظر مجموع الفتاوى: (5/144-149) فقد أبطل شيخ الإسلام تفسير الاستواء بالاستيلاء من اثني عشر وجهاً، وأبطله الإمام ابن القيم من اثنين وأربعين وجهاً. انظر مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة: (2/126-152) وسيأتي بيان معنى الاستواء، وتفنيد تفسيره بالاستيلاء عند سرد نماذج من صفات رب الأرض والسماء.(1/236)
ويروى أن رجلا ً من الجهمية الشياطين، جاء إلى شيخ المسلمين، أبي عمرو بن العلاء الثقة الأمين مقرئ كتاب رب العالمين، وطلب منه قراءة قول الله الكريم: {وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيماً} النساء164 بنصب لفظ الجلالة، ومراده بذلك نفي صفة الكلام عن الرحمن – جل وعلا – ليكون المتكلم موسى – على نبينا وعليه الصلاة والسلام – وكلامه مع رب العالمين، بمنزلة أدعية المؤمنين، فهم يسألون مالك يوم الدين، ولا يكلمهم أحكم الحاكمين، فقال الإمام أبو عمرو بن العلاء لذلك العاتي قائد السفهاء: هب أني فعلت ما تريد، فما تقول في قول الرب المجيد: {وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} الأعراف143 فبهت الجهمي، وانقلب وهو خاسر شقي (1) .
وروى الخطيب في تاريخ بغداد أن رجلا ً قال لركن الاعتزال، المائل عن الاعتدال عمرو بن عبيد الضال، أخبرني عن قول الله – جل وعلا –: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} المسد1 أكانت في اللوح المحفوظ؟ فقال عمرو الزائغ: ليس هكذا كانت، فقال الرجل: وكيف كانت؟ فقال عمرو الخبيث: كانت تبت يدا من عمل بمثل ما عمل أبو لهب، فقال الرجل: هكذا ينبغي أن تقرأ إذا قمنا إلى الصلاة فغضب عمرو، وقال: لو كان الأمر كما تقول ما كان على أبي لهب من لوم، وليس لله على ابن آدم حجة (2) .
__________
(1) انظر القصة في الإتحافات السنية شرح العقيدة الواسطية: (145) .
(2) انظر تاريخ بغداد: (12/170-172، 183) ، ونحو تلك القصة في ميزان الاعتدال: (3/278) وتهذيب التهذيب: (8/71) ، والبداية والنهاية: (10/79) وعلق ابن كثير على ذلك بقوله: وهذا من أقبح الكفر، لعنه الله إن كان قال هذا، وإذا كان مكذوباً عليه فعلى من كذبه عليه ما يستحقه.(1/237)
وهذا القول من الضال الغوي، المنحرف عن الصراط السوي من ذهاب لبه، وفساد عقله، وانطماس قلبه، وإلا فلو درى ما يقول، لعلم صحة ما أتى به الرسول – صلى الله عليه وسلم – فالله – جل وعلا – قدر الأمور، وكتبها في اللوح المسطور، حسبما علم من حال عباده، فربهم بصير غفور، قال الله – جل وعلا –: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} الحديد22-23، قال الحافظ ابن كثير – رحمه الله تعالى –: وهذه الآية الكريمة العظيمة من أدل دليل على القدرية نفاة العلم السابق – قبحهم الله تعالى –.
وقد ثبت عن نبينا – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: "قدر الله المقادير قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة" (1) .
تمت التصحيح إلى هنا *** على الفلاش
__________
(1) انظر تفسير ابن كثير: (4/314) ، وانظر الحديث في صحيح مسلم – كتاب القدر – باب 2: (4/2044) وسنن الترمذي – كتاب القدر – باب 18: (6/326) ، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب، وانظره في المسند: (2/169) وإسناده صحيح كما في تعليق الشيخ شاكر: (10/114) 6579، وفي كتاب الشريعة للآجري: (176) ، والاعتقاد للبيهقي: (56) كلهم من رواية عبد الله ابن عمرو – رضي الله تعالى عنهم أجمعين –.(1/238)
ثالثها: تحريف لفظي غير مقصود، وقد يلازمه تغير في المعنى أيضاً دون قصد له من الفاعل كما أنه لم يقصد ما تسبب إليه من التحريف اللفظي، ويقع في هذا الأمر عوام المسلمين الذين لم يتلقوا القرآن من الأئمة المتقنين، وقد سمعت بأذني فظائع مريرة من تلاواتهم لكلام الله، عندما يكونون في بيوت الله، فمن ذلك مثلا ً قراءة بعض الجهلة المغفلين: {خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} (1) الأنبياء 37 بالعين المكسورة، والجيم الساكنة، وغير ذلك كثير وكثير.
... وهذا القسم الثالث لا غرض لنا ببحثه في علم التوحيد، وإنما ذكرته استكمالا ً للقسمة، واستيفاء للبيان، والقسمان الأولان هما المقصودان بقول أهل السنة الكرام، يجب الإيمان بصفات الرحمن من غير تحريف من قبل الإنسان، وكل من القسمين شر من الآخر من وجه، فأصحاب تحريف الألفاظ عدلوا باللفظ والمعنى جميعاً عما هما عليه، فأفسدوا اللفظ والمعنى، فهم شر من أصحاب تحريف المعنى فقط من هذا الوجه، وأصحاب تحريف المعنى شر من هؤلاء من حيث أنهم أفسدوا المعنى وتركوا اللفظ على حاله، فحصل بينهما التنافر، وكل منهما على ضلال وفي ضلال (2) .
__________
(1) من سورة الأنبياء: (37) ، وانظر تصحيفات شنيعة، مرذولة فظيعة في كتاب أخبار الحمقى والمغفلين لشيخ المسلمين ابن الجوزي – عليه رحمة رب العالمين –: (71-77) .
(2) كما قرر ذلك الإمام ابن القيم – عليه رحمة الله تعالى – انظر: (147) من مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة.(1/239)
.. 2-3 التمثيل والتشبيه، يقصد بهذين اللفظين إثبات مثيل وشبيه لرب الكونين – جل وعلا – وقياس رب الأرض والسموات، وماله من صفات كريمات ـ على الحالة المعروفة في المخلوقات، وما يقوم بهم من صفات ناقصات قاصرات. وليس بعد شناعة التمثيل والتشبيه شناعة ولا سفاهة، فقبحاً ثم قبحاً لعقول أهل الزيغ والتباب، إذ سوت تلك العقول السقيات القاصرات بين الخالق الملك الوهاب، وبين المخلوق من تراب، وأفٍ وتُفٍ لهاتيك العقول العفنة المرذولة حيث ساء ظنها بفاطرها، ففهمت من صفاته ما تفهمه في حق نفسها، وبذلك حق عليها قول رب كل شيء وربها في مطلع سورة الأنعام: {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ} الأنعام1 أي يعدلون عن العبادة الخالصة لله رب العالمين، ويسوون به بعض مخلوقاته العاجزين لأن قوله – جل وعلا –: " يَعْدِلُونَ " من العدل، وهو إما بمعنى العدول أو بمعنى التسوية وأتى بـ " ثُمَّ " لدلالة على قبح فعل الكافرين، فخلق الله للسموات والأرض قد تقرر وظهر، وآياته قد سطعت ووضحت، وإنعامه بذلك قد تبين وتحقق، ثم بعد ذلك كله عدل الزائغون عن عبادة ربهم، وسووا به من هو من جنسهم – تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً – (1) .
ومما ينبغي التنبيه عليه أن كلا من لفظي التشبيه والتمثيل يشمل الآخر، ويدل على ما يدل عليه، وقد يفرق بينهما في الاستعمال فيطلق التمثيل على من سوى الله بمخلوقاته من كل وجه وأما التشبيه فيطلق على من شبه الرب المعبود بالعبد الكنود في أكثر الصفات أو بعضها.
__________
(1) انظر إيضاح ذلك في الجامع لأحكام القرآن: (6/387) ، وزاد المسير: (3/2) ، ومفاتيح الغيب: (12/152) ، وروح المعاني: (7/84) ، وجامع البيان: (7/93) .(1/240)
.. وقد وردت النصوص الشرعية في نفي التمثيل والتشبيه عن رب البرية، والإنكار على من فعل ذلك من ذوي العقول الردية، قال الله – جل وعلا –: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} الإخلاص، والكفء هو المثيل المكافيء، والنظير المساوي والتسبيه المعادل (1)
__________
(1) كما في تفسير غريب القرآن لان قتيبه: (542) ، وتحفة الأريب: (229) ، ولسان العرب: (1/134) "كفأ" وزاد المسير: (9/269) ، وجامع البيان: (30/224) ، وقد تقدم في صفحة: (39) أن نفي الكفء يستلزم نفي الوالدية، والمولدية، والمصاهرة عن رب البرية – جل جلاله –..(1/241)
فالله – جل وعلا – لا يماثله شيء من المخلوقات، ولا نظير له في البريات ولا يشبهه شيء من الموجودات وقال – تبارك وتعالى –: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} البقرة 21-22، والأنداد جمع ند، وملخص كلام أهل اللغة والمفسرين فيه أنه: المثل المناوئ، والنظير المخالف، والشبيه المضاهي المقاوم، فالكفء أعم، والند أخص، فالأول يقال في حصول المماثلة بين الشيئين، ولا يقال الثاني إلا إذا كان بين المثلين خلاف ومادة، وخصومة ومشادة، ومنازعة ومضادة، فاللفظ مأخوذ من ند البعير إذا شرد ونفر كما في لسان العرب، وقال الرازي – رحمه الله تعالى –: الند هو المثل المنازع، وناددت الرجل: نافرته، من ند ندوداً إذا نفر، كأن كل واحد من الندين يناد صاحبه، أي ينافره ويعانده، فإن قيل: إنهم لم يقولوا: إن الأصنام – وهكذا سائر المعبودات من دون الرحمن – تنازع الله – جل وعلا –؟ قلنا: لما عبدوها، وسموها آلهة أشبهت حالهم حال من يعتقد أنها آلهة قادرة على منازعته، قيل لهم ذلك على سبيل التهكم، وكما تهكم بلفظ الند شنع عليهم بأنهم جعلوا أنداداً كثيرة لمن لا يصلح أن يكون ند فقط (1) .
__________
(1) انظر ما تقدم في لسان العرب: (4/430) "ندد" ومفاتيح الغيب: (2/111-112) ، والمفردات في غريب القرآن: (486) ، والجامع لأحكام القرآن: (1/231) ، والبحر المحيط: (1/93) وتفسير ابن غريب القرآن: (43) ، وقد فسر حبر الأمة وبحرها – رضي الله تعالى عنه – الأنداد بالأشباه والأمثال، كما في الإتقان في علوم القرآن: (2/76) واستدل على ذلك بقول لبيد بن ربيعة – ديوانه: (174)
أحْمدُ الله فلا نِدَّ له ... بيديْه الخيرُ ما شاء فعل
ج
والمراد من قوله – جل وعلا –: " وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ " أي: تعلمون أنه لا يصلح أن يكون له ند، ولا يمكن حصول ذلك، فما خلقه – جل وعلا – مما تقدم ذكره لا يقدر الذين اتخذتموهم أنداداً على إيجاد شيء من ذلك كما قال ربنا – عز وجل –: {وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلَا نَفْعاً وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُوراً} الفرقان3، وقال – جل جلاله –: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} النحل17.(1/242)
وهذا كما قال الله – جل وعلا –: {وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} مريم 81-82، وقال – جل جلاله –: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} البقرة165، وقال – جل وعلا –: {وَجَعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} إبراهيم30.
وكما نفى الله الجليل عن نفسه الكريمة الكفء، والند، وذم من نسب إليه شيئاً منهما، فقد نفى عنه أيضاً ذينك الأمرين عن طريق السمي عنه كما قال – جل وعلا –: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} مريم65 والسمي هو النظير المسامي والشبيه المضاهي وقد فسره ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – بالمثل والشبيه فقال: "هل تعلم له سميا" هل تعلم للرب مثلا ً أو شبيهاً؟ والاستفهام إنكاري بمعنى النفي والمراد من إنكار العلم ونفيه إنكار المعلوم ونفيه على أبلغ وجه وآكده (1) .
__________
(1) انظر أثر ابن عباس في تفسير الطبري: (16/80) ورواه عنه ابن المنذر وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور: (4/279) ، وروى الطبري نحوه عن مجاهد، وقتادة، وابن جريج – رحمهم الله جميعاً – وانظر إيضاح ما تقدم في لسان العرب: (19/127) "سما" وزاد المسير: (5/251) والجامع لأحكام القرآن: (11/130) ، والمفردات: (244) ، وروح المعاني: (16/116) ، وتفسير ابن كثير: (3/131) .(1/243)
وقد نفى الله – جل جلاله – مشابهته لغيره في أي معنى من المعاني عن طريق نفي المثل عنه فقال – عز وجل –: {فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} الشورى11 فنفى المثل عنه – جل وعز – يقتضي نفي المشابهة لغيره في أي معنى من المعاني، لأن لفظ "المثل" أعم الألفاظ الموضوعة للمشابهة وذلك لأن الند يقال: في حال تماثلهما مع حصول النفرة بينهما، والشبه يقال فيما يشارك في الكيفية فقط، والمساوي يقال فيها يشارك في الكمية فقط، والشكل يقال فيما يشاركه في القدر والمساحة فقط، والمثل عام في جميع ذلك، قال الراغب في مفرداته: ولهذا لما أراد الله – جل جلاله – نفي التشبيه من كل وجه خصه بالذكر فقال – عز من قائل –: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} الشورى11.
قال مقيد هذه الكلمات – غفر الله الكريم له الزلات – يتحدد وجه صلة هذه الآية الكريمة بما قبلها بأمرين:
1) لما تقدم التنصيص على خلق أزواجنا من جنسنا، وخلق أزواج الأنعام من جنسها أيضاً، في قوله تعالى – جل وعلا –: " جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً " أي: وخلق للأنعام من جنسها أزواجاً كما خلق لنا من أنفسنا أزواجاً، فلكل جنس ما يلائمه، ولكل صنف ما يشاكله، أتبع ربنا ذلك ببيان مباينته لغيره، وعدم موافقته لهم في معنى من المعاني ومن جملة ذلك وجود مثيل له يزاوجه، ويرتبط به ويلازمه، فقال – جل وعلا –: " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ " فالمعنى في هذه الآية الكريمة كالمعنى في نفي الكفء في سورة الإخلاص الحكيمة.(1/244)
2) لما قدم ربنا العزيز، تقرير انفراده بتدبير أمور مخلوقاته على الوجه المحكم البديع، أتبع – جل وعلا – ذلك ببيان نفي حصول شيء من ذلك عن طريق غيره، لأنه – جل جلاله – لا مثيل له في أمر من الأمور، كما قال العزيز الغفور: {أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي الأَرْضِ أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ وَصُدُّواْ عَنِ السَّبِيلِ وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} الرعد33.
... هذا فيما يتعلق بصلة الآية الكريمة بما قبلها، وأما فيما يتعلق ببيان معنى "كمثله" ففي ذلك ستة أقوال يحتملها كلام الكبير المتعال.
أ) الكاف صلة زائدة للتوكيد، والمعنى: ليس مثله شيءٌ.
ب) لفظ "مثل" زايد للتوكيد، وأدخل ذلك اللفظ في الكلام لأن معناه كمعنى الكاف فيحصل باجتماعها مزيد توكيد وتقرير، والمعنى: ليس كهو شيءٌُ.
جـ) كل منهما باق على أصله، ولا يلزم من الكلام محذور ألبته، لأن نفي مثل المثل يستلزم نفي المثل أيضاً، فلو قدر وجود مثل لله – جل جلاله – لكان لذلك المثل مثل قطعنا وهو الله الإله الحق نفسه،، لأن كل متماثلين يعد كلاهما مثلا ً لصاحبه فلا يتم انتفاء مثل المثل إلا بانتفاء المثل، فثبت أنه لا مثل لله رب العالمين – جل جلاله – ونفى بـ "ليس" الكاف والمثل، وفرق بينهما لتأكيد النفي، وتنبيهاً إلى أنه لا يصح استعمال أحدهما في حق مولانا وربنا – جل وعز –.
د) المثل بمعنى الصفة، والمعنى: ليس كصفته صفة تنبيهاً على أنه وإن وصف بكثير مما وصف البشر، فليس تلك الصفات له على حسب ما يستعمل في البشر.(1/245)
هـ) الجمع بين الكاف والمثل أفاد نفي المماثلة، وما يقرب منها على أتم وجه، وأحكم صورة، فلو قيل: "ليس مثله شيء" لربما فهم من لفظ المثل: المثل التام في المماثلة، وعليه فيكون النفي للمثل المكافئ فقط، وقد يرتب على ذلك قاصروا النظر، بأنه إذا لم يكن هناك رتبة تضارع الألوهية، فقد يوجد ما يليها، عن طريق حصول شبه ما بين رب العالمين، وبعض عباده المقربين، وذلك المعنى المنظر نُحِيَّ وزال باقتران الكاف مع لفظ المثال، فكأنه قال: ليس هناك شيء يشبه أن يكون مثلا ً لله – جل وعلا – فضلا ً عن أن يكون مثيلا ً له على الحقيقة، وهذا من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى على حد قول الله – جل وعز –: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً} الإسراء23 حيث نص على النهي عن يسير الأذى صريحاً، وعما فوقه بطريق الأحرى.(1/246)
و) المراد من لفظ "مثله" ذاته، وعدل عن ذلك، وعن ليس كالله شيء للدلالة على أن من كانت له تلك الصفات الحسنى، وذلك المثل الأعلى، لا يمكن أن يكون له شبيه ولا يتسع الوجود لاثنين من جنسه، فلذلك جيء باللفظين ليؤدي كل منهما معنى المماثلة، وليقوم أحدهما ركناً في الدعوى، والآخر دعامة لها برهاناً. فالتشبيه المدلول عليه "بالكاف لما تصوب إليه النفي تأدى به أصل التوحيد المطلوب، ولفظ "المثل" المصرح به في مقام لفظ الجلالة، أو ضميره نبه على برهان ذلك المطلوب، وهذا مثال من أراد نفي نقيصة من امرئ في خلقه فقال: مثل فلان لا يكذب ولا يبخل، ولا يقصد المشير بتلك الإشارة إلى شخص آخر يماثله وهو منزه عن تلك النقائص، بل مراده من تلك الجملة تبرئة الممدوح والثناء عليه ببرهان كلي، وهو أن من يكون على مثل صفاته، وشيمه الكريمة لا يكون كذلك، لوجود التنافي بين طبيعة هذه الصفات، وبين ذلك النقص الموهوم.(1/247)
.. وصفوة المقال: إن ذات الله – جل جلاله – ليست كذوات المخلوقات التي تقبل التعدد والاشتراك والتماثل في مفهومها، كلا، فإن الذي يقبل ذلك إنما هو الكمال الإضافي الناقص أما الكما التام المطلق الذي هو قوام في الإلهية في الحي القيوم، وحقيقة ذلك تأبى على العقل أن يقبل فيها المشابهة، والإثنينية، لأنك مهما حققت معرفة الإله معرفة حقيقية، وجدت إنشاءً لكل شيء، وسلطاناً على كل شيء، وعلواً فوق كل شيء، فلو ذهبت تفترض اثنين يشتركان في هذه الصفات لتناقضت، إذ جعل كل واحد منهما سابقاً مسبوقاً، ومنشئاً منشأ ً، مستعلياً مستعلىً عليه، أو لأحلت الكمال المطلق إلى كمال مقيد فيهما، إذ تجعل كل واحد منهما بالإضافة إلى صاحبه ليس سابقاً ولا مستعلياً، فأنى يكون كل منهما إلاهاً، وللإله المثل الأعلى (1) .
__________
(1) انظر إيضاح ما تقدم، وتفصيل الكلام فيه، في زاد المسير: (7/276) ، والسراج المنير: (3/530) ومعالم التنزيل، ولباب التأويل: (6/118) الأول على هامش الثاني، وانظر محاسن التأويل: (14/293) وتفسير ابن كثير: (4/108) ، والمفردات: (462) ، وروح المعاني: (25/18) ، والنبأ العظيم: (132-136) والبيان في إعراب غريب القرآن: (2/345) .(1/248)
.. وبالختام أقول: إن النصوص الشرعية نفت عن ذات ربنا العلية، الكفء والند والسمي والمثل ودخل في ذلك نفي الشبيه عن الرحمن، كما تقدم على ذلك البرهان، حسب لغة العرب وفهم السلف الكرام، وقد آثر شيخ الإسلام في العقيدة الواسطية الاقتصار على نفي ما ورد به النص صراحة، فقال: ومن الإيمان بالله بما وصف به نفسه في كتابه وبما وصفه رسوله – صلى الله عليه وسلم – من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، وذلك سبب ذكره للتمثيل دون التشبيه، فقال: ذكرت في النفي التمثيل، ولم أذكر التشبيه لأن التمثيل نفاه الله بنص كتابه فكان أحب إليّ من لفظ ليس في كتاب الله، ولا في سنة رسوله – صلى الله عليه وسلم – (1) .
__________
(1) انظر العقيدة في الواسطية: (17/18) ، وهو في مجموع الفتاوى: (3/130) ، وانظر تعليله في الاقتصار على التمثيل في النفي دون التشبيه في مجموع الفتاوى: (3/166) وكان ينبغي عليه حسب تعليله حذف جملة "ومن غير تكييف" لأن نفي الكيفية عن صفات رب البرية دلت النصوص الشرعية على نفيها، ولم يرد نفيها صراحة، فحالها كحال لفظ التشبيه، وقد اعترف بذلك الشيخ ابن تيمية – عليه رحمة الله تعالى – فذكر في المكان السابق أن التكييف مأثور عن السلف، وقد اتفقوا على أن التكييف غير معلوم لنا، فنفيت ذلك إتباعاً لسلف الأمة، وقوله بعد ذلك: وهو أيضاً منفي بالنص أي بدلالة النص والأمران موجودان في لفظ التشبيه كما علمت. ولذلك قرن بينهما الإمام ابن قدامة – عليه رحمة الله تعالى – في لمعة الاعتقاد: (4) والله تعالى أعلم.(1/249)
وقد تقدم أن النصوص الشرعية دلت على نفي الشبيه عن رب العالمين، وجرى استعمال ذلك اللفظ على ألسنة السلف الروعين، وقد قرر الشيخ ابن تيمية في عدة مواطن فمن ذلك قوله: ما رأيت أحداً منهم – أي من السلف الكرام – نفى الصفات، وإنما ينفون التشبيه، وينكرون على المشبهة الذين يشبهون الله بخلقه، مع إنكارهم على من ينفي الصفات أيضاً، كقول نُعَيْم بن حماد شيخ البخاري – عليهم رحمة الملك الباري –: من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله – جل وعلا – به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله – جل وعلا – به نفسه، ولا بما وصفه به رسوله – صلى الله عليه وسلم تشبيهاً، وكانوا إذا رأوا الرجل قد أغرق في نفي التشبيه من غير إثبات الصفات قالوا: هذا جهمي معطل، وهذا كثير في كلامهم جداً (1) .
فائدة: زيغ أهل التضليل والتجهيل في التشبيه والتمثيل، منحصر في نوعين:
1) تشبيه الخالق بالمخلوقات، وتمثيله بهم في الذوات أو الصفات، وذلك بأن يفهم من ذات الله الجليلة، وصفاته الحسنى الجميلة، ما يفهمه من ذوات المخلوقات الحقيرات، وصفاتهم الناقصات القاصرات، وقد تقدم دلالة النصوص المحكمات على نفي الكفء والند والمثل والتشبيه عن رب الأرض والسموات، فمن شبه رب العالمين بالبرية، فهو أضل من الحمر الأهلية.
2) تمثيل المخلوق الحقير بالخالق الكبير وتشبيه العبد الذليل بالرب الجليل، فيما يختص به من الأفعال، والحقوق، والصفات.
__________
(1) انظر مجموع الفتاوى: (5/110) ، وانظر في الرسالة الحموية: (297) ، وقد كرر الشيخ ابن تيمية نحو ذلك، انظر مجموع الفتاوى: (2/126، 5/89،61، 4/153،146) حيث قرر أن لفظ التشبيه وارد ذمه في كلام بعض السلف، وأرادوا بالتشبيه تمثيل الله بخلقه، وانظر قول نعيم بن حماد في كتاب العلو: (126) ، وكرره في (140) .(1/250)
مثال الأول: ما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن زيد بن خالد الجهمي – رضي الله تعالى عنه – قال صلى بنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماءٍ كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس، فقال: "هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: اله ورسوله أعلم، قال: قال الله أصبح من عبادي مؤمن بي، وكافر فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي ومؤمن بالكوكب (1) ".
__________
(1) انظر الحديث في صحيح البخاري – كتاب الأذان – باب يستقبل الإمام الناس إذا سلم –: (2/333) وكتاب الاستسقاء – باب 28: (2/522) ، وكتاب المغازي – باب غزوة الحديبية: (7/539) ، وكتاب التوحيد – باب 35: (13/466) بشرح ابن حجر في الجميع، وصحيح مسلم – كتاب الإيمان – باب بيان كفر من قال مطرنا بالنوء: (1/83) وسنن أبي داود – كتاب الطب – باب في النجوم –: (4/227) ، وسنن النسائي – كتاب الاستسقاء – باب كراهية الاستمطار بالكواكب: (3/133) والموطأ – كتاب الاستسقاء – باب الاستمطار بالنجوم –: (1/192) ، والمسند: (4/117) ، والنوء من أناء إذا سقط، أو طلع وظهر ونهض والمعنيان حاصلان لأن النجم إذا طلع في المشرق سقط حال وقوعه نجم آخر في المغرب كما في فتح الباري: (2/94) .(1/251)
.. فمن نسب إنزال المطر إلى النجوم، فقد أعطاها الفعل المختص بالحي القيوم، وذلك شرك يوجب لصاحبه الحميم والسموم (1) .
__________
(1) كما قال ربنا – جل وعلا – في سورة الواقعة: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ} الواقعة 41-43 والسموم ريح حارة من النار تنفذ في السموم، والحميم: ماء شديد الحرارة، والظل من يحموم: دخان شديد السواد، ولذلك وصفه ربنا – جل وعلا – بقوله " لَّا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ " أي ذلك الظل ليس ببارد كغيره من الظلال، ولا حسن المنظر. كما في تفسير الجلالين: (428) .(1/252)
ومثال الثاني: صرف ما يستحقه رب العالمين إلى المخلوقين العاجزين، كالحلف بهم، والتوبة من الذنوب إليهم، ودعائهم، والاستعانة بهم، وما يشبه ذلك ثبت في الصحيحين وغيرهما عن ابن عمر – رضي الله تعالى عنهما – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: "إن الله – عز وجل – ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت" وفي لفظ لهما أيضاً: "من كان حالفاً لفلا يحلف إلا بالله" قال ابن عمر – رضي الله تعالى عنهما –: وكانت قريش تحلف بآبائها، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "لا تحلفوا بآبائكم (1)
__________
(1) انظر صحيح البخاري – كتاب مناقب الأنصار – باب أيام الجاهلية –: (7/148) ، وكتاب الأدب – باب من لم ير إكفار من قال ذلك متأولاً أو جاهلا ً –: (10/516) ، وكتاب الإيمان والنذور – باب لا تحلفوا بآبائكم –: (11/530) ، وكتاب التوحيد – باب السؤال بأسماء الله تعالى والاستعاذ بها: (13/379) بشرح ابن حجر في الجميع، ورواه الإمام مسلم في كتاب الإيمان – باب النهي عن الحلف بغير الله تعالى –: (11/105-106) بشرح النووي. وانظره في سنن الترمذي – كتاب الإيمان والنذور – باب كراهية الحلف بغير الله تعالى –: (5/252-254) ، وسنن النسائي – كتاب الإيمان والنذور – باب التشديد في الحلف بغير الله تعالى –: (7/4) ، وباب الحلف بالآباء: (7/5) ، وباب الحلف بالأمهات –: (7/6) ، وباب الحلف بالطواغيت: (7/7) ، وسنن ابن ماجه – كتاب الكفارات – باب النهي أن يحلف بغير الله تعالى –: (1/677) ، والموطأ – كتاب الإيمان والنذور – باب جامع الإيمان: (2/480) والمسند: (5/262، 2/142،125،86،69،48،20،17،11،8،7) ، والحميدي في مسنده: (2/301،280) ومنصف عبد الرازق –: (8/66) ، والطيالسي – منحة المعبود –: (1/246) ..كلهم من رواية ابن عمر – رضي الله تعالى عنهما – إلا رواية النسائي الثالثة، فعن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – والرابعة عن عبد الرحمن بن سمرة – رضي الله تعالى عنه – وكذلك الأولى وعنه رواه الطبراني في الكبير والبزار كما في مجمع الزائد: (4/77) ، قال الإمام الهيثمي – رحمه الله تعالى – وفي إسناد الطبراني مساتير، وإسناد البزار ضعيف، وانظر سند البزار للحديث في كشف الأستار –: (2/120) – كتاب الإيمان والنذور – باب الحلف بالله تعالى –.(1/253)
".
وفي المستدرك والمسند عن الأسود بن سريع – رضي الله تعالى عنه – قال: أتى النبي – صلى الله عليه وسلم – بأعرابي أسير، فقال: أتوب إلى الله – عز وجل – ولا أتوب إلى محمد – صلى الله عليه وسلم – فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "عرف الحق لأهله (1) ".
فصرف التعظيم الذي يستحقه رب العالمين إلى المخلوقين شرك بالله الكريم قال الله – جل جلاله –: {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِّنَ الظَّالِمِينَ} يونس106 أي من المشركين، فلا ظلم أشنع من الشرك، كما قال ربنا – جل جلاله – {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} لقمان13 (2) وقد تقدم حديث عمران بن حصين – رضي الله تعالى عنهما – فتذكره وحذار حذار من الغفلة عنه (3) .
__________
(1) انظر المسند: (3/435) ، والمستدرك: (4/255) ، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه 1هـ وتعقبه الذهبي في تلخيص المستدرك فقال: قلت: ابن مصعب ضعيف، وفي مجمع الزوائد: (10/199) ورواه الطبراني وفيه محمد بن مصعب، وثقة أحمد وضعفه غيره، وبقية رجاله رجال الصحيح، ورواه البيهقي في شعب الإيمان كما في الجامع الكبير: (1/572) ، والذي حط عليه كلام ابن حجر في التقريب: (2/208) أنه صدوق كثير الغلط، وانظر حاله في الميزان: (4/42) وقد عزا الإمام العراقي في تخريج أحاديث الإحياء: (1/226) الحديث إلى المسند، ومعجم الطبراني، وحكم على سنده بالضعف.
(2) الآية 13 من سورة لقمان، وفي روح المعاني: (21/85) الظاهر أن هذا من كلام لقمان حكاه عنه ربنا الرحمن، وقيل: هو خبر عن الله تعالى شأنه – منقطع عن كلام لقمان متصل به في تأكيد المعنى.
(3) تقدم تخريج الحديث في صفحة: (.....) من هذا الكتاب المبارك.(1/254)
ومثال الثالث: وهو وصف المخلوق بما يختص بوصفه للخالق – جل جلاله – ما ذكره الإمام ابن كثير – عليه رحمة الرب الجليل – في البداية والنهاية، في ترجمة الضال المضل ابن أبي دؤاد، ركن الاعتزال، وإمام الضلال، فقال: ومن مديح أبي تمام لأحمد بن أبي دؤاد:
أأحمد إن الحاسدين كثيرٌ ... ومالك إن عُدَّ الكرامُ نظيرُ
ج ... ج
حللتَ مَحَلا ً فاضلا ً مُتقادِماً ... من المجد والفخر ِ القديم فهورُ
فكلا ُّ عنيّ ٍ أو فقير فإنه ... إليك وإن نالَ السماءَ فقيرُ
ج
فما مِنْ يدٍ إلا إليك مُمَدَّة ... وما رَفْعَة ٌ إلا إليك تُشيرُ
... وعقب الإمام الجليل ابن كثير – عليه رحمة الملك الكبير – على تلك الأبيات بقوله: قد أخطأ الشاعر في هذه الأبيات خطأ ً كبيراً، وأفحش في المبالغة فحشاً كثيراً، ولعله إن اعتقد هذا في مخلوق ضعيف مسكين ضال مضل أن يكون له جهنم، وساءت مصيراً (1) .
ومثل ذلك الهذيان، مخاطبة أبي فراس لأمير ذلك الزمان، بأبيات تحرم المخاطبة بها لغير الرحيم الرحمن، صاحب الفصل والجود والبر والإحسان، قال ذلك الإنسان:
فليت تَحْلو والحياة ُ مَريرة ٌ ... وليت ترضى والأنامُ غِضَابُ
ج
وليت الذي بيني وبينك عامرٌ ... وبيني وبين العالمين خرابُ
إذا صح منك الوُدُّ فالكلُّ هينٌ ... ولك الذي فوقَ الترابِ ترابُ
__________
(1) انظر البداية والنهاية: (10/320) ، وتقدم في هذا الكتاب المبارك: 17 ترجمة شيخ الجدل والعناد ابن أبي دؤاد.(1/255)
.. قال الإمام ابن قيم الجوزية – عليه رحمة رب البرية – معقباً على تلك الأبيات الردية، لصرفها لمناجاة غير ذات ربنا العلية: ومعلوم: أنه لا صلاح للنفس إلا بإيثار رضى ربنا ومولاها على غيره ولقد أحسن أبو فراس في هذا المعنى إلا أنه أساء كل الإساءة في قوله إذ يقول لمخلوق لا يملك له ولا لنفسه نفعاً ولا ضراً (1) .
وقال هؤلاء الشعراء جار على عادتهم، في المبالغات الباطلات ـ والشيء من معدنه لا يستبعد وقد بلغ السخف والإسفاف، بالمتنبي الشاعر صاحب الآراء العجاف، أن قال في مدح عبد الله بت يحيى البحتري:
فكنْ كما شئتَ يا مَنْ لا شبيهَ له ... وكيف شئت فما خَلْقٌ يدانيكا (2)
__________
(1) انظر مدارج السالكين: (2/301) ، وكررها في: (3/178) دون نسبة إلى قائلها، مستشهداً بها على مخاطبة المؤمنين لربهم عندما يرون أعمالهم، فلا يعلم بها غير مولاهم.
(2) انظر فتح رب البرية يتلخيص الحموية: (11) ومن جملة مجازفات المتنبي – أحمد بن الحسين المتوفى سنة 354هـ - أيضاً، قوله في مدح شجاع بن محمد الطائي: ... وأبوك والثقان أنت محمدُ
0@أنى يكون أبا البرية آدنٌ
فالبيت عدا ما فيه من التعقيد اللفظي حيث فصل بين المبتدأ والخبر، وهما "أبوك محمد" وقدم الخبر على المبتدأ تقديماً يدعو إلى اللبس في قوله "والثقلان أنت" عدا ذلك التعسف، لم يسلم كلامه من سخف وهذر كما في البلاغة الواضحة: (7) .(1/256)
.. وقد حذرنا نبينا الرحيم – صلى الله عليه وسلم – من ذلك المسلك الوخيم فقال: "لا تطروني كما أطرت النصاري ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله (1) ".
... فهذه الأنواع الثلاثة ينبغي الحدر منها، والابتعاد عنها في معاملة المخلوق، لأن الأول شرك في الربوبية، والثاني شرك في الألوهية، والثالث شرك في أسماء الله وصفاته العلية، حفظنا الله الكريم بمنه وفضله عن سائر الرديات، ومن علينا بحسن الخاتمة إنه مجيب الدعوات.
4- التكييف: ويقصد بالتكييف: حكاية كيفية لصفات ربنا اللطيف، وتصورها في ذهن العبد الضعيف، والنصوص المتقدمة في نفي التمثيل والتشبيه، تدل على نفي التكييف ضرورة، لأن خطور كيفيةٍ ما في البال، لا يكون إلا فيما له مثال، وإلا لما أمكن تصوره بحال، وليس في الوجود ما يشبه الكبير المتعال.
__________
(1) رواه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – باب 48: (6/478) بشرح ابن حجر، والدارمي في كتاب الرقاق – باب قول النبي – صلى الله عليه وسلم –: "لا تطروني": (2/320) وأحمد في المسند: (1/55،47،24،23) ، والحميدي في مسنده: (1/16) ، والطيالسي في مسنده – منحة المعبود –: (2/119) ، والترمذي في الشمائل: (172) ، ورواه ابن حبان، وأبو يعلى والعدني – رحمهم الله جميعاً – كما في الجامع الكبير: (1/896) كلهم عن عمر بن الخطاب – رضي الله تعالى عنه – ومن هذه الرواية الصحيحة يتبين لك أن ما قاله البوصيري في البردة: (90) ضمن مجموع مهمات المتون – فيه إطراء، وخروج عن هدي خير الأنبياء – عليه وعليهم صلوات الله وسلامه – وهذا هو قوله:
يا أكرم الخلق مالي من ألوذ ُ به ... سواك عند حلول الحادِث العَمم ِ
ج
ولن يضيقَ رسول الله جاهُك بي ... إذا الكريمُ تحلى باسم من مُنْتَقِم ِ
فإنَّ مِنْ جُودِك الدنيا وضَرَّتَها ... ومن علومِك علمَ اللوح ِ والقلم ِ
ج(1/257)
.. وقد ورد عن سلفنا الصالح نفي التكييف، عن ربنا الخبير اللطيف، وقدمت في أول هذا المبحث الشريف، نقل ذلك عن طائفة من ذوي القدر المنيف، وسيأتينا في بحث علو ربنا النقل عن خيار سلفنا، بأن الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، ولذلك قال الشيخ ابن تيمية – عليه رحمة رب البرية –: اتفق السلف على أن التكييف غير معلوم لنا، فنفيت ذلك إتباعاً لسلف الأمة، وهو أيضاً – أي التكييف – منفي بالنص، فإن تأويل آيات الصفات يدخل فيها حقيقة الموصوف، وحقيقة صفاته، وهذا من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله الجليل، كما قررت ذلك في قاعدة مفردة، ذكرتها في التأويل والمعنى، والفرق بين علمنا بمعنى الكلام، وبين علمنا بتأويله، وهو أيضاً – أي: التكييف – منفي بدلالة العقل، إذ كنه الباري – جل جلاله – غير معلوم للبشر (1) .
ثلاثة تنبيهات مهمات:
الأول: ما ذكره شيخ الإسلام – عليه رحمة رب الأنام من الفرق بين العلم بمعنى الكلام، وبين العلم بتأويله، والإشارة إلى أن من التأويل ما لا يعلمه إلا الله الجليل، فقد ورد إيضاح ذلك الكلام، وتفصيله من قبل ذلك الإمام، في رسالته الحموية والتدمرية في أحسن بيان، وإليك ملخص ذلك يا طالب الهدى والعرفان:
لفظ "التأويل" يراب به ثلاثة معان ٍ:
أ) صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح، إلى الاحتمال المرجوح، لدليل يقترن بذلك، وهذا اصطلاح كثير من المتأخرين، وعليه فلا يكون معنى اللفظ الموافق لدلالة ظاهره تأويلا ً على اصطلاح هؤلاء، لأن التأويل صرف اللفظ من الراجح إلى المرجوح، ومن المعنى الظاهر إلى المعنى الخفي.
__________
(1) انظر صفحة (....) من هذا الكتاب المبارك، وانظر مجموع الفتاوى: (3/167) .(1/258)
.. وهذا التأويل إن قال عليه دليل فهو صحيح مقبول، وإلا فهو عليل مرذول وخلاصة ذلك الدليل: موافقة التأويل لسياق الكلام، ومراد المتكلم (1)
__________
(1) والأدلة على التفصيل أربعة كما حققها الشيخ ابن تيمية في الرسالة المدنية: (14-15) وهي ضمن مجموع الفتاوى: (6/360-361) ، وهي:
1- كون اللفظ مستعملا ً في ذكل المعنى حسب لغة العرب.
2- وجود دليل صارف عن المعنى المتبادر الظاهر إلى ذلك المعنى الخفي.
3- عدم وجود معارض لذلك الصارف لأن الدليل إذا قام على إرادة الحقيقة امتنع تركها.
4- إقامة الدليل على كون المراد ذلك المعنى الذي حدده في ذلك السياق.
وانظر هذا المبحث، وتفصيل الكلام عليه في رسالة الحقيقة والمجاز تقع في مائة صفحة ضمن مجموع الفتاوى: 020/400-4979، ورسالة شيخنا الجليل محمد الأمين الشنقيطي – عليه رحمة الله تعالى – منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز، وانظر فتح رب البرية بتلحيص الحموية: (27) ، وإرشاد الفحول: (175-177) – الباب السابع في التأويل وشروطه – والذي حط عليه كلام الشوكاني: أن شرط قبول هذا النوع من التأويل: موافقته لوضع اللغة، أو عرف الاستعمال، وعادة صاحب الشارع، وكل ما خرج عن هذا فليس بصحيح، وانظر مختصر الصواعق المرسلة: (2/2-106) فصل في كسر الطاغوت الثالث الذي وضعته الجهمية لتعطيل حقائق الأسماء والصفات، ثم تابع الإمام ابن القيم تفصيل الكلام على ما أولوه وحرفوه من صفات الرحمن حتى نهاية صفحة: (332) .(1/259)
فمن قال: رأيت أسداً يحمل سيفاً، حمل لفظ الأسد "في قوله على الرجل الشجاع، لدلالة سياق الكلام، وموافقة ذلك لمراد المتكلم، وهو تأويل صحيح على هذا القول. وأما من تأويل قول الله – جل وعلا –: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} طه5باستولى، فهو تأويل باطل لا حقيقة له، وهو من باب التحريف لكلام الله – جل وعلا – عن مواضعه، والإلحاد في أسماء الله وآياته كما في درء تعارض العقل والنقل، وقال الشيخ ابن تيمية – عليه رحمة الله تعالى – وقد طالعت التفاسير المنقولة عن الصحابة – رضي الله تعالى عنهم – وما رووه من الحديث، ووقفت من ذلك على ما شاء الله – تبارك وتعالى – من الكتب الكبار والصغار أكثر من مائة تفسير، فلم أجد – إلى ساعتي هذه – عن أحد من الصحابة الكرام – رضي الله تعالى عنهم – أنه تأول شيئاً من آيات الصفات، أو أحاديث الصفات بخلاف مقتضاها المفهوم المعروف، بل عنهم من تقرير ذلك وتثبيته، وبيان أن ذلك من صفات الله – جل وعلا – وما يخالف كلام المتأولين مالا يحصيه إلا الله – عز وجل – وكذلك فيما يذكرونه آثرين وذاكرين عنهم شيء كثير، والذي أقوله الآن وأكتبه – وإن كنت لك أكتبه فيما تقدم من أجوبتي، وإنما أقوله في كثير من المجالس –: إن جميع ما في القرآن من آيات الصفات، فليس عن الصحابة الكرام – رضي الله تعالى عنهم – اختلاف في تأويلها (1) .
__________
(1) انظر درء تعارض العقل والنقل: (5/382-383) ، ومجموع الفتاوى: (6/394) ، ونحوه في اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية: (49-50) حيث قرر أن ذلك التأويل باطل والسلف الكرام على خلافه، وأفاض الكلام في بطلان ذلك الهذيان من اثنين وأربعين وجهاً في الصواعق المرسلة، كما في مختصر الصواعق: (126-152) .(1/260)
ب) المعنى الثاني للتأويل، وهو تفسير الكلام وهذا هو الغالب على اصطلاح المفسرين للقرآن، كما يقول الإمام ابن جرير وأمثاله من المصنفين في التفسير: واختلف أهل التأويل، أي: أهل التفسير، وعلى هذا القول يتنزل ما نقل عن ابن عباس، ومجاهد، ومحمد بن جعفر بن الزبير ومحمد بن إسحاق، وابن قتيبة وغيرهم من أن الراسخين في العلم يعلمون تأويله المتشابه، أي: تفسيره، ويرون عطف قوله: "والراسخون في العلم" على لفظ الجلالة، في قوله – جل جلاله –: {هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ} آل عمران7 (1) وهذا حق بهذا الاعتبار.
__________
(1) الآية 7 من سورة آل عمران، وفي تأويل مشكل القرآن: (98-102) ، ولسنا ممن يزعم: أن المتشابه في القرآن لا يعلمه الراسخون في العلم، ولم ينزل الله – جل وعلا – شيئاً من القرآن إلا لينفع به عباده، ويدل به على معنى أراده، ولو لم يكن للراسخون في العلم حظ في المتشابه إلا أن يقولوا: " آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا " ثم ذكر أن جملة "يقولون" في معنى الحال، كأنه قال: الراسخون في العلم قائلين: أمنا به 10هـ باختصار.(1/261)
جـ) المعنى الثالث للتأويل، هو: الحقيقة التي يؤول إليها الكلام فتأويل الأمر: فعله. وتأويل النهي: تركه، وتأويل الخبر: وقوعه وحصوله، فتأويل ما أخبر الله جل وعلا – به في الجنة من الأكل والشرب واللباس والنكاح، هو: الحقائق الموجودة أنفها، لا ما يتصور من معانيها في الأذهان، ويعبر عنه باللسان، وهذا المعنى للتأويل هو المراد في لغة الشرع، قال الله – جل جلاله –: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} الأعراف53 فتأويل ما في القرآن من أخبار المعاد هو ما أخبر الله به مما يكون فيه من القيامة والحساب والجزاء، والجنة والنار، ونحو ذلك.(1/262)
كما قال الله – عز وجل – في قصة يوسف لما سجد أبواه وإخوته – على نبينا وعليه الصلاة والسلام –: {وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً} يوسف100 فجعل عين ما وجد في الخارج هو تأويل الرؤيا، وقال – تبارك وتعالى –: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} النساء59 أي: مآلا وعاقبة، ومنه ما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنها – قالت: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي" يتأول القرآن (1) . أي: يوقع فعله حسبما أمره به ربنا في القرآن الكريم في سورة "النصر" ولذلك قال سفيان بن عيينة – عليه رحمة الله تعالى –: السنة هي تأويل الأمر والنهي، أي: فعل المأمور، وترك المحظور، لأن تأويل الأمر فعله، وتأويل النهي تركه.
__________
(1) انظر صحيح البخاري – كتاب الأذان – باب التسبيح والدعاء في السجود –: (2/299) وفي كتاب التفسير – سورة النصر – باب 2: (8/733) بشرح ابن حجر فيهما، وصحيح مسلم كتاب الصلاة – باب ما يقال في الركوع والسجود –: (1/350) ، وسنن أبي داود – كتاب الصلاة – باب الدعاء في الركوع والسجود –: (1/546) ، وسنن النسائي – كتاب التطبيق – باب نوع آخر من الدعاء في السجود –: (2/174،173) ، وسنن ابن ماجه – كتاب إقامة الصلاة – باب التسبيح في الركوع والسجود –: (287) ، والمسند: (6/190،49،43) وشرح السنة – كتاب الصلاة – باب ما يقول في الركوع والسجود –: (3/100) والحديث رواه البخاري أيضاً في كتاب الأذان – باب الدعاء في الركوع –: (2/281) ، وفي كتاب المغازي – باب 50: (8/19) ، وفي أول تفسير سورة "النصر" من كتاب التفسير: (8/733) دون قول: "يتأول القرآن".(1/263)
.. ونظراً لكون المراد من التأويل في لغة الشرع ما يؤول إليه اللفظ ويثير، كان الفقهاء أعلم بالتأويل من أهل اللغة كما قال الإمام أبو عبيد – عليه رحمة الله تعالى – ومثل على ذلك بحديث اشتمال الصماء، ولفظه عن أبي سعيد الخدري – رضي الله تعالى عنه – قال: "نهى رسول الله – صلى الله عليه وسلم عن اشتمال الصماء، وأن يحتبي الرحل في ثوب واحد ليس على فرجه منه شيء (1)
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الصلاة – باب ما يسير من العورة –: (1/476) ، وفي كتاب الصوم – باب صوم يوم الفطر –: (4/239) ، وفي كتاب اللباس – باب اشتمال الصماء –: (10/278) ، وباب الاختباء في ثوب واحد –: (10/279) ، وفي كتاب الاستئذان – باب الجلوس كيفما تيسر –: (11/79) بشرح ابن حجر في جميع ما تقدم وأبو داود – في كتاب الصوم – باب في صوم العيدين –: (2/803) وفي كتاب البيوع – باب في بيع الغرر –: (3/673) ، والنسائي – في كتاب الزينة – باب النهي عن اشتمال الصماء: (8/185) ، وابن ماجه – في كتاب اللباس – باب ما نهي عنه في اللباس: (2/1179) وأحمد في المسند: (3/96،95،66،46،13،6) والحديث رواه عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – أحمد في المسند: (2/529،210،503،496،478،475،464،432) والبخاري في كتاب مواقيت الصلاة – باب الصلاة بعد الفجر حتى ترتفع الشمس: (2/589) ، وفي كتاب اللباس – باب اشتمال الصماء –: (10/278) بشرح ابن حجر فيهما، وأبو داود في كتاب اللباس – باب في لبسة الصماء –: (4/341) ، والترمذي في كتاب اللباس – باب ما جاء في النهي عن استمال الصماء –: (6/72) ، وابن ماجه في المكان المتقدم، والدارمي في كتاب الصلاة – باب النهي عن اشتمال الصماء –: (1/319) ورواه عن جابر – رضي الله تعالى عنه – أحمد في المسند: (3/349،344،331،327،322،298،297،293) ومسلم في كتاب اللباس والزينة – باب النهي عن اشتمال الصماء، والاختباء في ثوب واحد، وباب في منع الاستلقاء على الظهر، ووضع إحدى الرجلين على الأخرى –: (3/1661) ، وأبو داود في المكان المتقدم، والترمذي في كتاب الأدب – باب ما جاء في كراهية وضع إحدى الرجلين على الأخرى مستلقياً –: (8/13) ، والنسائي في كتاب الزينة – باب النهي عن الاختباء في ثوب واحد –: (8/186) ، ومالك في كتابة صفة النبي – صلى الله عليه وسلم – باب النهي عن الأكل بالشمال –: (2/299) ، ورواه عن أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنها – ابن ماجه في المكان المتقدم وهو صحيح ورجاله ثقات كما في الزوائد، وقد أشار الترمذي إلى هذه الرواية وغيرها فقال في: (6/73) : وفي الباب عن علي وابن عمر وعائشة وأبي سعيد الخدري وأبي أمامة – رضي الله تعالى عنهم أجمعين.(1/264)
".
... قال أهل اللغة: المراد باشتمال الصماء هو: أن يجلل المكلف جسده بالثوب لا يرفعه منه جانباً، ولا يبقي ما يخرج منه يده، قال ابن قتيبة: سُميت صماء لأنه يسد المنافذ كلها، فتصير كالصخرة الصماء التي ليس فيها خرق، ولا صدع، فالكراهية في هذه الحالة، لئلا يعرض له حاجة من دفع بعض الهوام ونحوها، أو غير ذلك، فيعسر عليه إخراج يده، أو يتعذر عليه ذلك، فليحقه الضرر.
... وأما الفقهاء فقالوا: المراد من اشتمال الصماء هو: أن يلتحف المكلف بثوب ليس عليه غيره، ثم يرفعه من أحد جانبيه فيضعه على أحد منكبيه، فيتعرض فرجه للانكشاف، وعليه فكراهية ذلك لئلا يؤدي إلى انكشاف العورة، فيرتكب السيئات، وتبطل الصلوات (1) .
وهذا المعنى أوفق بسياق الحديث الشريف، وبمقصود الشارع من تفسير اللغويين، لأن ذلك اللباس الذي ذكروه في تفسير اشتمال الصماء لا يكاد يلبسه أحد، فهو مما فطر الله العباد على التنزه عنه والابتعاد، أما على تفسير الفقهاء اشتمال الصماء، فهو عدا عن مشاهدته من كثير من السفهاء والأغبياء، فمقصود الشارع يتعلق به بلا امتراء، فستر العورات من صميم مسائل الحياء، وكشفها يؤدي إلى حلول سخط رب الأرض والسماء، ورضي الله عن إمام الفقهاء، وشيخ المحدثين الأتقياء، الإمام البخاري عندما أورد هذا الحديث في كتاب الصلاة – وبوب عليه باباً يشير به إلى اختياره لتفسير الفقهاء لحديث اشتمال الصماء، فقال: باب ما يسير العورة، مشيراً بذلك إلى أن اشتمال الصماء لا يحقق ستر العورة، ويؤدي إلى بطلان الصلاة.
__________
(1) انظر فتح الباري: (1/477) ، وشرح الإمام النووي على صحيح مسلم –: (14/76) ، وغريب الحديث لأبي عبيد: (2/118) وفيه: الفقهاء أعلم بالتأويل في هذا، ولسان العرب: (15/239) "صمم" والفائق في غريب الحديث: (2/314-315) .(1/265)
.. وعلى كون المراد من التأويل حقيقة ما يؤول إليه الكلام، وهو عين موجود خارج الأذهان فلا يعلم تأويل صفات الرحمن – جل جلاله – إلا هو – لأن المراد من التأويل الحقيقة التي يتصف الرب بها، وهي مما انفرد الله – جل وعلا – بعلمها، فالصفات معلومة، وكيفياتها لنا مجهولة، وعليه فيكون الوقف على لفظ الجلالة في الآية السابقة "وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ " وهو قول جمهور سلف الأمة وخلفها، وممن أثر عنه ذلك أبي بن كعب وابن مسعود، وابن عباس في رواية عنه – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – وهذا بهذا الاعتبار حق صحيح، كما أن القول المتقدم حق صحيح على ذلك الاعتبار، فتنبه لهذا، وإياك والانحراف عن طريق الأخيار (1) .
__________
(1) انظر تفصيل الكلام على الوقف في أية آل عمران في منار الهدى في الوقف والابتداء: (70) والمقصد لتلخيص ما في المرشد في الوقف والابتداء، مطبوع في حاشية منار الهدى، وزاد المسير: (1/354) والدر المنثور: (2/6-7) ، والإتقان: (3/5-14) والجامع لأحكام القرآن: (4/16-19) ، وجامع البيان: (3/122) ، وروضة الناظر: (67-68.)(1/266)
قال الإمام عباس – رضي الله تعالى عنهما –: تفسير القرآن على أربعة أوجه، تفسير تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله – عز وجل – فمن ادعى علمه فهو كاذب (1) .
__________
(1) انظر اثر ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – في تفسير الطبري: (1/26) ، ورواه عنه عبد الرزاق في تفسيره كما في مجموع الفتاوى: (5/37) ، والبرهان في علوم القرآن: (2/164) ، والإتقان: (4/217) وق مال الطبري إلى تفسير الوجه الذي لا يعذر أحد بجهالته بمسائل الحلال والحرام، والمعنى من تأويله مالا يجوز الجهل به، وخالفه في هذا الفهم الزركشي وتبعه السيوطي فقالا: مالا يعذر أحد بجهله هو ما تتبادر الأفهام إلى معرفة معناه من النصوص المتضمنة شرائع الأحكام ودلائل التوحيد، وكل لفظ أفاد معنى واحداً جلياً يعلم أنه مراد الله – جل وعلا – فهذا القسم لا يلتبس تأويله 10هـ وما ذكراه مع كونه محتملا ً، فقول الطبري أقوى وأوجه، لاسيما وقد ورد في رواية عن الرزاق التي نقلها الزركسي: وقسم لا يعذر أحد بجهالته، يقول: من الحلال والحرام، ومعلوم أنه ليس كل أحد يظهر له معرفة الحلال والحرام اللذين دلت عليهما نصوص القرآن، بمجرد قراءته كلام الرحمن. والله تعالى أعلم.(1/267)
هذا كما قال الله – جل وعلا – في حق المتهجدين القانتين: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} السجدة17، وكذلك علم وقت الساعة، ونحو ذلك، فهذا من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله – عز وجل – وإن كنا نفهم معاني ما خوطبنا به، ونفهم من الكلام ما قصد إفهامنا إياه (1) .
... قال عبد الرحيم – غفر الله له ذنوبه أجمعين – وصفوة كلام أهل السنة الكرام في الوقف على آية آل عمران أن من فهم من التأويل حقيقة ما يؤول إليه الكلام، وعين ما هو موجود خارج اللفظ والأذهان، حتم الوقف على لفظ الجلالة، لأن التأويل لا يعلمه أحد من الخلق في هذه الحالة.
... وأما من فهم منه تفسير اللفظ، وفهم معناه، قال بعطف الراسخين في العلم على لفظ الجلالة، لأن التأويل معلوم للمكلفين في هذه الحالة.
... فكل من القولين يكمل أحدهما الآخر، ولا تعارض بينهما ولا تنافر، كما قرر ذلك حبر الأمة – رضي الله تعالى عنه – فيما أخبر به عن أقسام تفسير كلام الله – جل وعلا –.
... ونظير هذه المسألة تماماً ما نقل عن أهل السنة الكرام في تفسير القرآن بالرأي، إذ أجاز بعضهم ذلك واستحسنه، ذمه بعضهم وحرمه، ولا خلاف في الحقيقة بين القولين على الإطلاق إنما اختلفت العبارات لاختلاف الاعتبارات، فمن المسلمات أن التفسير بالرأي قسمان:
محمود جائز: وهو ما وافق قواعد اللغة، ونصوص الشرع المطهر.
ومذموم محرم: وهو ما خرج عنهما، وانخرم فيه أحدهما.
__________
(1) انظر أقسام التأويل المتقدمة مع تصرف في نقلها في الرسالة التدمرية: (59-61) وهي ضمن مجموع الفتاوى: (/55-58) ، والرسالة الحموية: (245-246) ، وهي ضمن مجموع الفتاوى: (5/35-37) ، ودرء تعارض العقل والنقل: (1/14-20، 201-280، 5/233-237، 380-384) وانظر ذلك التقسيم في شرح الطحاوية: (162-164) ومجموع الفتاوى: (17/400-401) ، ومختصر الصواعق المرسلة: (1/10-14) .(1/268)
.. فمن منع التفسير بالرأي أراد الثاني، ومن أجاز أراد الأول وليس هذا باختلاف، فافهم هذا وكن من أهل العدل والإنصاف (1) .
ومما ينبغي فهمه فهماً جيداً أن آية آل عمران يتقابل فيها التشابه والإحكام، حيث قسم ربنا الرحمن آيات القرآن إلى قسمين، محكم، ومتشابه، وقد وردت آيات كريمات وصف بها ربنا كتابه بأنه محكم كله، وبأنه متشابه كله، وهذا هو الإحكام العام، والتشابه العام، وهذان الوصفات يجتمعان ولا يفترقان، وإليك تفصيل الكلام في ذلك يا طالب الهدى والعرفان:
__________
(1) انظر تفصيل ذلك في مقدمة تفسير ابن عطية مطبوع ضمن "مقدمتان في علوم القرآ" 262 باب ما قيل في الكلام في تفسير القرآن، والجرأة عليه، ومراتب المفسرين، وانظر الجامع في أحكام القرآن: (1/32) ، ومجموع الفتاوى: (13/171) ، وتفسير ابن كثير: (1/5) ودقائق التفسير: (1/67-83) وروح المعاني: (1/7) ، والمقدمة الأولى من "مقدمتان في علوم القرآن": (183-206) – الفصل الثامن – والبرهان في علوم القرآن: () 2/161-164، وبستان العارفين: (360-361) ، والموافقات: (3/421-424) وفيه: أعمال الرأي في القرآن جاء ذمه، وجاء أيضاً ما يقتضي أعماله.. والقول فيه: أن الرأي ضربان، أحدهما جاء على موافقة كلام العرب، وموافقة الكتاب والسنة، فهذا لا يمكن إهمال مثله لعالم بهما لأمور ... إلخ ونقله عنه القاسمي في محاسن التأويل: (1/164-167) فصل فيما جاء من إعمال الرأي في القرآن الكريم،،ووافقه، وانظر الجواهر الحسان: (1/11-14) وغرائب القرآن: (1/57-59) ، ومفاتيح السعادة: (2/285-288) ومناهل العرفان: (2/54-59) والمغني في التفسير لعبد الجبار: (16/362-378) ، والحاكم الجشمي ومنهجه في تفسير القرآن: (243-245) ، ومفاتيح الغيب: (7/179) في آداب حملة القرآن: (87-88) ، والإكسير في علم التفسير: (3/16) وإحياء علوم الدين: (1/297-298) ، وجامع الأصول: (2/4-6) .(1/269)
أولا ً: التشابه الخاص، والإحكام الخاص كما دلت على ذلك آية آل عمران حيث قسم فيها ربنا آيات القرآن إلى قسمين متقابلين محكم ومتشابه، وأبرز ما قيل في تحديد كل منهما:
أ) المحكم ما عرف المراد منه، وأمكن العلم به سواء كان ذلك بدليل جلي أو بدليل خفي ويقابله المتشابه، وهو ما لا سبيل للعباد على معرفته، لأن الله – جل وعلا – استأثر بعلمه وذلك كالعلم بوقت الساعة مثلا ً، قالوا في قوله "والراسخون" استئنافية، والوقف لازم على لفظ الجلالة، والراسخون في العلم لا يعلمون المتشابه.(1/270)
ب) المحكم ما احتمل وجهاً واحداً فقط، والمتشابه ما احتمل أوجهاً، فقول الله – جل وعلا –: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} محمد19 محكم، وقوله – تبارك وتعالى –: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} الحجر9 متشابه لأن لفظ "إنا" و "نحن" يتكلم بهما الواحد الذي له شركاء في الفعل، ويتكلم بهما الواحد العظيم الذي له صفات تقوم كل صفة مقام واحد، وله أعوان تابعون لأمره، لا شركاء له، فإذا تمسك النصراني بذنيك اللفظين على تعدد الآلهة، كان المحكم الآية المتقدمة: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} محمد19ونحوها كقوله – جل وعلا –: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} البقرة163 فهو لا يحتمل إلا معنى واحداً يزيل ما في لفظي "إنا" و "نحن" من الاشتباه، ويبين أن ذكر صيغة الجمع فيهما للدلالة على ما يستحقه من العظمة والكبرياء، وما له من الصفات والأسماء، وطاعة الملائكة، وانقياد المخلوقات، قال الإمام ابن تيمية – عليه رحمة رب البرية –: التشابه الخاص هو مشابهة الشيء لغيره من وجه، مع مخالفته له من وجه آخر، بحيث يشتبه على بعض الناس أنه هو، أو هو مثله، وليس كذلك، والإحكام هو الفصل بينهما، بحيث لا يشتبه أحدهما بالآخر، وهذا التشابه إنما يكون بقدر مشترك بين الشيئين مع وجود الفاصل بينهما، ثم من الناس لا يهتدي للفصل بينهما فيكون مشتبهاً عليه، ومنهم من يهتدي إلى ذلك، فالتشابه الذي لا يتميز معه قد يكون من الأمور النسبية الإضافية، بحيث يشتبه على بعض الناس دون البعض، ومثل هذا يعرف منه أهل العلم ما يزيل عنهم هذا الاشتباه، كما إذا اشتبه على بعض الناس ما وعدوا به في الآخرة بما يشهدونه في الدنيا فظن أنه مثله، فعلم العلماء أنه ليس مثله، وإن كان مشبهاً له من بعض الوجوه.(1/271)
ومن هذا الشبه التي يضل بها بعض الناس، وهي ما يشتبه فيها الحق بالباطل، حتى تشتبه على بعض الناس، ومن أوتي العلم بالفصل بين هذا وهذا لم يشتبه عليه الحق بالباطل والقياس الفاسد إنما هو من باب الشبهات، لأنه تشبيه للشيء في بعض الأمور بما لا يشبه فيه فمن عرف الفصل بين الشيئين اهتدى للفرق الذي يزول به الاشتباه، والقياس الفاسد، وما من شيئين إلا ويجتمعان في شيءٍ ويفترقان في شيءٍ، فبينهما اشتباه من وجه، وافتراق من وجه، ولهذا كان ضلال بني آدم من قبل التشابه، والقياس الفاسد لا ينضبط، كما قال الإمام أحمد – رحمه الله تعالى –: أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل والقياس، فالتأويل في الأدلة السمعية والقياس في الأدلة العقلية، وهو كما قال: والتأويل الخطأ إنما يكون في الألفاظ المتشابهة، والقياس الخطأ إنما يكون في المعاني المتشابهة 10هـ وعلى هذا القول فالتشابه يخفي علمه على غير الراسخين في العلم، والواو في قوله "والراسخون في العلم" عاطفة.(1/272)
ثانيا ً: الإحكام العام، والتشابه العام: كما في قوله – جل وعلا – في مطلع سورة هود: {الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} هود1 فأخبر أنه أحكمت آياته كلها، وقال – جل وعلا –: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} الزمر23 فأخبر أنه كله متشابه، قال الإمام ابن تيمية – عليه رحمة رب البرية – إحكام الكلام وإتقانه، بتميز الصدق من الكذب في أخباره، وتمييز الرشد من الغي في أوامره، والقرآن كله محكم بمعنى الإتقان، فقد سماه اله حكيماً بقوله: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} يونس1 فالحكيم بمعنى الحاكم، كما جعله يقص بقوله – جل وعلا –: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} النمل76 وجعله هادياً مبشراً في قوله – جل جلاله –: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} الإسراء9.(1/273)
.. وأما التشابه الذي يعمه فهو ضد الاختلاف المنفي عنه في قوله – جل وعلا –: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً} النساء82 فالتشابه هنا هو تماثل الكلام وتناسبه بحيث يصدق من بعضه بعضاً، فإذا أمر بأمر لم يأمر بنقيضه في موضع آخر، بل يأمر به، أو بنظيره، أو بملزوماته، وإذا نهى عن شيءٍ لم يأمر به في موضع آخر بل ينهي عنه، أو عن نظيره (1) ، بثبوت شيءٍ أو ينفي لوازمه، بخلاف القول المختلف الذي ينقض بعضه بعضاً، فيثبت الشيء تارة، وينفيه أخرى، أو يأمر به وينهي عنه في وقت واحد، ويفرق بين المتماثلين، فيمدح أحدهما ويذم الآخر، فالأقوال المختلفة هنا: هي المتضادة والمتشابهة هي المتوافقة، وهذا التشابه يكون في المعاني، وإن اختلفت الألفاظ، فإذا كانت المعاني يوافق بعضها بعضاً، ويعضد بعضها بعضهاً، ويناسب بعضها بعضاً، ويشهد بعضها لبعض، ويقتضي بعضها بعضاً كان الكلام متشابهاً، بخلاف الكلام الذي يضاد بعضه بعضاً.
... فهذا التشابه العام لا ينفي الإحكام العام، بل هو مصدق له، فإن الكلام المحكم المتقن يصدق بعضه بعضاً، ولا يناقض بعضه بعضاً 10هـ (2) .
__________
(1) في الكلام سقط، هاكه: أو عن ملزوماته إذا لم يكن هناك نسخ، وكذلك إذا أخبر....
(2) انظر كلام شيخ الإسلام في الرسالة التدمرية: (64-68) ، وهي ضمن مجموع الفتاوى: (3/60-64) وانظر تفصيل الكلام على حكم التشابه والإحكام بنوعيهما الخاص والعام في الإتقان: (3/4) والبرهان: (../68-70) ، وروضة الناظر: (66-68) ، ومباحث في علوم القرآن للشيخ القطان: (214-216) ، ومباحث في علوم القرآن للأستاذ صبحي الصالح: (281-285) ومناهل العرفان: (2/272-275) ، ودفع إيهام الاضطراب: (47-48) وانظر دفع جواز المجاز: (47-48) ، ومفاتيح الغيب: (7/170-171، وتاريخ التشريع: (148-150.(1/274)
.. وصفوة الكلام أن التشابه العام، والإحكام العالم، يجتمعان ولا يتقابلان في القرآن الكريم محكم في تشابهه، ومتشابه في محكمه، والمراد من الإحكام والتشابه معناه اللغوي، وأما التشابه الخاص، والإحكام الخاص فهما يتقابلان، ولا يجتمعان، فبعض القرآن محكم، وبعضه متشابه والمراد من الإحكام والتشابه معناه الاصطلاحي الشرعي، فاعلم هذا فعلم المرء ينفعه.
التنبيه الثاني: المراد من نفي الكيفية عن صفات رب البرية نفي كيفية معلومة لنا، فنحن لا نعلمها، ولها كيفية يتصف بها ربنا – جل وعلا – ويعلمها قطعاً، فقول السلف الكرام ك الكيف غير معقول، وقولهم: أمروها كما جاءت بلا كيف، يراد بمنه نفي علمنا بالكيفية، لا نفي حقيقة الصفة، كما يليق بالله – جل جلاله – ولا نفي علمنا بمعناها، كما تقدم.
... وقد نبتت فرقة من الزائغة ادعت الانتساب إلى السلف الكرام، وحملت لفظ التأويل في آية آل عمران على المعنى الاصطلاحي الأول وهو: صرف اللفظ من الاحتمال الراجح إلى المرجوح، واعتقدوا وجوب الوقف على لفظ الجلالة في آية آل عمران، ورتبوا على ذلك القول بأن لنصوص صفات رب الأرض والسموات معاني تخالف مدلولها المفهوم منها، ولا يعلم تلك المعاني إلا الله – جل جلاله – وهؤلاء هم أهل التضليل، والأوهام والتجهيل، لأن حقيقة قولهم: إن الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – وأتباعهم الأتقياء، جاهلون ضالون، لا يعرفون ما أراد الله بما وصف به نفسه من نصوص الصفات.
وقد انقسم أهل هذه المقالة الباطلة إلى قسمين:
1- منهم من قال: تُجرى على ظاهرها، وعليه تحمل، ولها تأويل يخالف ظاهرها، لا يعلمه إلا الله – تبارك وتعالى – هذا تناقض واضح، حيث أثبتوا لها تأويلا ً يخالف ظاهرها ومع هذا قالوا: إنها تحمل على ظاهرها.
2- وقال بعضهم: المراد من نصوص الصفات خلاف مدلولها الظاهر وخلاف المفهوم منها ولا يعلم أحد ذلك المراد إلا رب العباد – جل جلاله – وهذا القول مردود لوجوه أبرزها:(1/275)
أ) أن الله – جل وعلا – أمرنا بتدبر كتابه الكريم، فقال: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} ص29، وقال – جل وعلا –: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءهُمُ الْأَوَّلِينَ} المؤمنون68، وقال – عز وجل –: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً} النساء82، وقال – جل وعز –: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} محمد24 فأمر الله الكريم بتدبر كلامه العظيم، دون استثناء شيء منه، معلوم أن التدبر لا يتم إلا بعد فهم معنى الكلام ومعرفة المراد منه، وذلك شامل لنصوص الصفات، ولذلك قال سلفنا الكرام: الاستواء معلوم، ومعرفة معنى اللفظ غير معرفة حقيقة ذلك المعنى وكيفيته، فذلك مما استأثر الله بعلمه، ولذلك قال سلفنا الأبرار: والكيف مجهول، فافهم هذا تحظ بالسلامة والكرامة.
ب) إن ذلك القول مع بطلانه متناقض أيضاً، لأنا إذا لم نفهم من نصوص الصفات شيئاً لم يجز لنا، ولا يصح منا، أن نقول: لها تأويل يخالف ظاهرها، ولا يوافقه، لإمكان أن يكون لها معنى صحيح، وذلك المعنى الصحيح لا يخالف الظاهر المعلوم لنا، فإنه لا ظاهر له على قولهم، فلا تكون دلالته على ذلك المعنى دلالة على خلاف الظاهر فلا يكون تأويلا ً.(1/276)
ولا يجوز نفي دلالته على معان لا نعرفها على هذا التقدير، لأن المعاني التي دلت عليها نصوص الصفات لا نعرفها على حسب قولهم، وإذا لم نفهم اللفظ ومدلوله فلأن لا نعرف المعاني التي لم يدل عليها اللفظ أولى، لأن إشعار اللفظ بما يراد به أقوى من إشعاره بما لا يراد به، فإذا كان اللفظ لا إشعار له بمعنى من المعاني ولا يفهم منه معنى أصلاً لم يكن مشعراً بما أريد به، فلأن لا يكون مشعراً بما لم يرد به أولى. وإذا كان الأمر كذلك فلا يجوز أن يقال: إن هذا اللفظ متأول بمعنى أنه مصروف عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح، فضلا ً عن أن يقال: إن تأويل هذا لا يعلمه إلا الله – جل وعلا –.
وخلاصه القول: من ادعى أن المراد من ظاهر نصوص الصفات إجراؤها على مجرد ما ظهر من ألفاظها من غير فهم لمعناها، كان إبطاله للتأويل، أو إثباته تناقضاً، لأن من أثبت تأويلا ً، أو نفاه فقط فهم معنى من المعاني (1) . والله – جل وعلا – أعلم.
التنبيه الثالث: إن قال قائل: إذا نفيتم علمكم بكيفية صفات ربكم، وقلتم: لا يعلم حقيقة تلك الصفات إلا رب الأرض والسموات، وفندتم قول الذين أجروا نصوص الصفات على ظواهرها، وادعوا وجود تأويل يخالفها، لا يعلمه إلا المتصف بها، كما فندتم قول الذين قالوا: إن ظواهر نصوص الصفات غير مراد، ولا يعلمه إلا رب العباد – جل وعلا – فخبرونا ماذا تقولون أنتم في نصوص صفات ربكم، هل ظاهرها مراد أم لا؟
__________
(1) انظر إيضاح ما تقدم في الرسالة التدمرية: (71/72) وهي ضمن مجموع الفتاوى: (3/67-38) والرسالة الحموية: (245-249) ، وهي ضمن مجموع الفتاوى: (5/41،35) وانظر درء تعارض العقل والنقل: (1/14-14، 201-206) ، والتحفة المهدية: (1/206-209) ، وشرح حديث النزول: (113) وهو ضمن مجموع الفتاوى: (5/476-477) .(1/277)
والجواب: - حفظنا الله جميعاً من الزيغ والارتياب –: أن لفظ الظاهر صار فيه إجمال واشتراك، وحصل تنازع في تحديد المراد منه، بعد زهور البدع، وانتشار الأهواء، فلابد من تفصيل الكلام في ذلك، ليتبين المحق من الهالك، وينحصر بيان هذه المسألة في أمرين لا ثالث لهما، هاك بيانهما:
1- المراد من لفظ الظاهر في صفات الرب القادر عند السلف الكرام: المعنى اللائق بكمال الرحمن – جل وعلا وذلك مراد قطعاً.
2- زعم علماء الكلام، الذين ساء ظنهم بذي الجلال والإكرام، أن ظواهر نصوص صفات الرحمن يفهم منها ما هو معروف في الإنسان، وبناء على تفسير الظاهر بذلك البهتان، يقول أهل السنة المرام: إن ذلك الظاهر غير مراد قطعاً، ومع ذلك فلا يقرون أهل الكلام، على تسمية ذلك البهتان، بأنه هو الظاهر من صفات ذي الجلال والإكرام، بل يحكمون على تفسيرهم بأنه من قبيل الهذيان، وهو بلا مرية من وساوس الشيطان، فتعالى ثم تعالى ربنا الرحمن أن يفهم من ظاهر كلامه: الضلال والكفران وكيف يعقل لو كان ذلك الكفر هو الظاهر من صفات رب العباد، أن لا يبين الله – جل وعلا – المراد، ليأمن، المكلفون من الانحراف عن سبيل الرشاد.(1/278)
قال شيخنا الكريم محمد الأمين – عليه رحمة رب العالمين –: أليس الظاهر المتبادر مخالفة الخالق للمخلوق في الذات، والصفات، والأفعال؟ والجواب الذي لا جواب غيره: بلى وهل تشابهت صفات الله – جل وعلا – مع صفات خلقه حتى يقال: إن اللفظ الدال على صفته – تبارك وتعالى – ظاهره المتبادر منه تشبيهه بصفة الخلق؟ والجواب الذي لا جواب غيره: لا فبأي وجه يتصور عاقل أن لفظاً أنزله الله – جل وعلا – في كتابه، دالا ً على صفة من صفات الله – عز وجل – أثنى بها على نفسه يكون ظاهره المتبادر منه مشابهته لصفة الخلق؟ سبحانك هذا بهتان عظيم، فالخالق والمخلوق متخالفان كل التخالف، وصفاتهما متخالفة كل التخالف، فبأي وجه يعقل دخول صفة المخلوق في اللفظ الدال على صفة الخالق؟ أو دخول صفة الخالق في اللفظ الدال على صفة المخلوق، مع كمال المنافاة بين الخالق والمخلوق؟ فكل لفظ دل على صفة الخالق ظاهره المتبادر منه أن يكون لائقاً بالخالق منزهاً عن مشابهة المخلوق، وكذلك اللفظ الدال على صفة المخلوق لا يعقل أن يدخل فيه صفة الخالق.
... فإن قيل: إن هذا القرآن نزل بلسان عربي مبين، والعرب لا تعرف في لغتها كيفية لصفات الله – عز وجل – إلا المعاني المعروفة عندها، فبينوا لنا كيفية ملائمة الصفات لما ذكرتم.
... الجواب: أن العرب لا تدرك كيفيات صفات الله – تبارك وتعالى – من لغتها، لشدة منافاة صفة الله الجليل، لصفة الخلق، فلا تعرف العرب لصفات الله – جل وعز – كيفية، ولا حداً لمخالفة صفاته لصفات الخلق، إلا أنهم يعرفون من لغتهم أصل المعنى، كما قال الإمام مالك وغيره من السلف الكرام – عليهم رحمة الرحيم الرحمن –: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.(1/279)
وقال الإمام الألوسي – عليه رحمة الله تعالى –: كون الرحمة في اللغة: رقة القلب، إنما هو فينا، وهذا لا يستلزم التجوز عند إثباتها لله – جل وعلا – لأنها حينئذ صفة لائقة بكمال ذاته، كسائر صفاته، ومعاذ الله – تبارك وتعالى – أن تقاس صفاته بصفات المخلوقين، وأين التراب من رب الأرباب (1) .
__________
(1) انظر ما تقدم في الرسالة: (47) وهي ضمن مجموع الفتاوى: (3/43) ، والتحفة المهدية: (1/120-121) ودرء تعارض العقل والنقل: (5/233-235) ، وأضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن: (7/444-451) ، وروح المعاني: (1/60) ، وانظر المباينة بين صفات الخالق والمخلوق في مجموع الفتاوى: (12/264-265) .(1/280)
5- التعطيل في اللغة: الإخلاء والتفريغ، تقول العرب: إبل معطلة: إذا خُلِيَتْ فلا راعي لها وعطل الدار: إذا أخلاها، وعُطِلتْ الفلات والمزارع: إذا تركت فلم تعصر، ولم تحرث، وتَعَطَّلَ الرجل: إذا صار فارغاً لا عمل له، والاسم: العُطْلَة، وتعطيل الحدود: تركها وعدم إقامتها على من وجبت عليه، وكل ما ترك ضياعاً فهو مَعْطَلٌ ومُعَطَّلٌ، قال الله – جل وعلا –: {فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ} الحج45 أي: بئر متروكة لا يسقى منها، ولا ينتفع بمائها، مخلاة لا يردها أحد، لبيود أهلها وموتهم، وفي حديث ابن عمر – رضي الله تعالى عنهما – قال: قيل لنبي – صلى الله عليه وسلم –: إن ميسرة المسجد تعطلت، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم –: "من عَمّرّ ميسرة المسجد كتب له كفلان من الأجر (1) " أي: خليت ميسرة المسجد، وتركت الصلاة فيها رغبة في الصلاة في ميمنة المسجد.
... والمراد من التعطيل في علم التوحيد: إنكار ما يجب لله – جل وعلا – من الأسماء والصفات كلا ً أو بعضاً، فالمُعطِل يفرغ الرب – تبارك وتعالى – من صفاته التي يتصف بها، ويخليه منها ويجرده عنها.
__________
(1) انظر لسان العرب: (13/481) "عطل"، والحديث أخرجه ابن ماجه في سننه – كتاب إقامة الصلاة – باب فضل ميمنة الصف –: (1/321) قال في الزوائد: في إسناده ليث بن أبي سليم: ضعيف، وفي التقريب: (2/138) صدوق اختلط أخيراً، ولم يتميز حديثه فترك 1هـ وللحديث شاهد عند الطبراني في الكبير كما في جمع الجوامع: (1/802) ، ومجمع الزوائد: (2/94) قال الهيثمي: وفيه بقية، وهو مدلس وقد عنعنه، ولكنه ثقة.(1/281)
.. وهذه المقالة الخبيثة تقابل مقالة التشبيه والتمثيل، لكنها أخطر منها وأشنع، وانتشارها في الناس أعظم وأفظع، فمتكلموا هذه المقالة لم يثبتوا إلهاً محموداً بل ولا رباً موجوداً، فهم يعبدون عدماً، كما أن الممثل يعبد صنماً، ولذلك كانت عناية الكتب الإلهية بالرد على هذه المقالة الردية أكثر من عنايتها بالرد على مقالة التمثيل الغبية كما قرر هذا الشيخ ابن تيمية – عليه رحمة رب البرية (1) .
... ونقل الإمام الذهبي عن الإمام ابن عبد البر – عليهم رحمة الله تعالى – كلاماً في منتهى الإحكام والمتانة، هاك بيانه: أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة في الكتاب والسنة، وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لم يكيفوا شيئاً من ذلك، وأما الجهمية والمعتزلة والخوارج فكلهم ينكروها، ولا يحمل شيئاً منها على الحقيقة، ويزعمون أن من أقر بها مشبه، وهم عند من أقر بها نافون للمعبود 10هـ وعقب الإمام الذهبي على كلام الإمام ابن عبد البر بقوله: قلت: صدق الله، إن من تأول سائر الصفات، وحمل ما ورد منها على مجاز الكلام، أداه ذلك السلف إلى تعطيل الرب، وأنه يشابه المعدوم، كما نقل عن حماد بن زيد أنه قال: مثل الجهمية كقوم قالوا: في دارنا نخلة، قيل: لها سعف؟ قالوا: لا، قيل: لها كرب؟ قالوا: لا، قيل: لها رطب وقنو؟ قالوا: لا، قيل: فلها ساق؟ قالوا: لا، قيل فما في داركم نخلة.
__________
(1) انظر درء تعارض العقل والنقل: (6/348،305) ، ومجموع الفتاوى: (6/515، 5/236،172) ، وفيه: كان السلف والأئمة يسمون نفاة الصفة معطلة، لأن حقيقة قولهم تعطيل ذات الله – تبارك وتعالى – وأن كانوا يعلمون أن قولهم مستلزم للتعطيل، بل يصفونه بالوصفين المتناقضين، فيقولون: هو موجود قديم، ثم ينفون لوازم وجوده، فيكون حقيقة قولهم: موجود ليس بموجود، حق ليس بحق، خالق ليس بخالق.(1/282)
.. قال الإمام الذهبي: قلت كذلك هؤلاء النفاة، قالوا: إلهنا الله – تبارك وتعالى – وهو لا في زمان، ولا في مكان، ولا يرى، ولا يسمع، ولا يبصر، ولا يتكلم، ولا يرضى، ولا يغضب، ولا يريد، ولا، ولا، وقالوا: سبحان المنزه عن الصفات، بل نقول: سبحان الله العظيم السميع البصير المريد، الذي كلم موسى تكليماً، واتخذ إبراهيم خليلا ً، ويُرى في الآخرة.
... المتصف بما وصف به نفسه، ووصفه به رسله – عليهم الصلاة والسلام – والمنزه عن سمات المخلوقين وعن جحد الجاحدين، ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير (1) .
__________
(1) انظر كتاب العلو للعي الغفار: (182) ، والسعف بفتحتين: غصن النخلة، وكرب النخل: أصول السعف الغلاظ العراض التي تيبس فتصير مثل الكتف واحدتها كربة، والقِنو: العذق وهو من النخل كالعنقود من العنب، انظر لسان العرب، ومختار الصحاح، وانظر نحو ما نقله الذهبي وعقب عليه بما عقب في العلو أيضاً: (107) حيث نقل عن حماد بن زيد أيضاً أنه قال: هذه السلوب نعوت المعدوم، تعالى الله – جل جلاله – عن العدم، بل هو موجود متميز عن خلقه، موصوف بما وصف به نفسه، من أنه فوق العرش بلا كيف، وانظر مجموع الفتاوى: (5/112،110) ففيه تسمية الجهمية لمن أثبت شيئاً من الصفات متشبهاً.(1/283)
6- الإلحاد، معناه في اللغة: الميل والعدول عن القصد، ومنه قول النبي – صلى الله عليه وسلم – "اللحد لنا، والشق لغيرنا" واللحد هو الشق الذي يكون في جانب القبر موضع الميت لأنه قد أميل عن وسط إلى جانبه (1) ،
__________
(1) الحديث أخرجه النسائي في كتاب الجنائز – باب اللحد والشق –: (4/66) ، وأبو داود في كتاب الجنائز – باب في اللحد –: (3/544) ، وابن ماجه في الجنائز – باب ما جاء في استحباب اللحد: (1/496) والترمذي في الجنائز – باب ما جاء في قول النبي – صلى الله عليه وسلم –: "اللحد لنا والشق لغيرنا": (3/421) ، والبغوي في شرح السنة – كتاب الجنائز – باب اللحد –: (5/389-390) ، والبيهقي في السنن الكبرى – كتاب الجنائز – باب السنة في اللحد –: (3/408) والطحاوي في شرح مشكل الآثار: (4/48،44) كلهم من رواية ابن عباس – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – وزاد ابن ماجه، والبغوي، والبهقي، والطحاوي رواية الحديث أيضاً عن جرير، وأشار الترمذي إلى رواية الحديث عن جرير وغير فقال: وفي الباب عن جرير بن عبد الله، وعائشة، وابن عمر، وجابر بن عبد الله – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – ورواية جرير رواها أحمد في المسند: (4/363،359،357) والحميدي في مسنده: (2/353) رقم 808، والطيالسي في مسنده – منحة المعبود –: (1/168) وابن سعد في الطبقات: (2/294) ، وعبد الرزاق في المصنف: (3/477) .
والحديث نص الترمذي على تحسينه، فقال: حديث ابن عباس حسن غريب من هذا الوجه، وكذلك الشيخ شعيب الأرناؤوط في تعليقه على شرح السنة: (5/390) والشيخ عبد القادر الأرناؤوط في تعليقه على جامع الأصول: (11/144) ، وذكر الشيخ الألباني في أحكام الجنائز: (145) أن طرق حديث جرير يقوي بعضها بعضاً، وإذا ضمت إلى حديث ابن عباس شدت من عضده، وارتقى إلى درجة الحسن، بل الصحيح 1هـ.
واعلم أن اللحد في القبور أفضل من الشق، والشق جائز لجريان العمل عليهما في عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – كما في شرح مشكل الآثار –: (4/48) ، ونيل الأوطار: (4/91) ، وفتح الباري: (3/218) والنظر تفصيل الكلام على معنى اللحد في تهذيب اللغة: (4/421-422) ، ولسان العرب: (4/393) "لحد" والمفردات: (448) – كتاب اللام –، وإصلاح المنطق: (9) ، ومجاز القرآن: (1/233) ، وشرح السنة للبغوي: (5/388) ، وصحيح البخاري: (3/212) بشرح ابن حجر – كتاب الجنائز – باب من يقدم في اللحد – وسمي لحداَ لأنه في ناحية وكل جائز ملحد.(1/284)
وفي سورة النحل يقول ربنا – جل جلاله –: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} النحل103 أي لغة الذي يميلون إليه، ويدعون أنه يعلمه أعجمي، فكيف يعقل صدور هذا الكلام العربي المعجز منه، روى الحاكم بسند صحيح عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – أنه قال في قوله – عز وجل –: " إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ " قالوا: إنما يعلم محمداً عبد بن الحضرمي وهو صاحب الكتب، فقال الله – جل وعلا –: " لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللهِ (1)
__________
(1) انظر المستدرك: (2/357) كتاب التفسير، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه وأقره الذهبي، ورواه البيهقي في شعب الإيمان كما في الدر المنثور: (4/131) والأثر رواه ابن جرير في تفسيره: (14/120) عن مجاهد مرسلا ً، وعنه رواه أيضاً آدم بن أبي إياس، وابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في شعب الإيمان كما في الدر: (4/131) ، وورد في تفسير ابن جرير: (14/119) تسمية العبد بخبر، وأنه غلام نصراني رومي عن ابن إسحاق أنه بلغه وعن ابن جريح عن عبد الله بن كثير، وورد فيه أيضاً تسميته بيعيش عن قتادة، وعكرمة، ولعل اسمه جبر، ولقبه يعيش وعلى ذلك تتنزل رواية ابن أبي حاتم أيضاً وهي في الدر: (4/131) أنه كان مقيس وفي الإصابة: (1/222) مخنس فلعله لقب آخر له، وهو لقب لعبد آخر كان معه وهو يسار ففي تفسير ابن جرير: (14/120) وتفسير ابن أبي حاتم كما في لباب النقول: (135) ، والإصابة: (1/222) ، وأسماء الصحابة للبغوي كما في الإصابة: (2/447) بسند صحيح عن عبد الله بن مسلم الحضرمي قال: كان لنا عبدان يقال لأحدهما يسار، والآخر يقال له جبر، وكانا صقليين، فكانا يقرآن كتابهما، ويعملان عملهما، وكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يمر بهما فيسمع قراءتهما، فقالوا: إنما يتعلم منهما، فنزلت: " وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ " الآية، وورد في رواية الواحدي أنهما كانا نصرانيين من أهل عين التمر، وقد ورد في تفسير ابن أبي حاتم أيضاً كما في الدر: (4/131) عن السدى تكنية أحدهما بأبي اليسر، والذي يظهر للعبد الضعيف: أن اسم أحدهما جبر، والآخر يسار، وبقية الأوصاف ألقاب وكنىً لهما، وقد اتهم المشركون الأغبياء خاتم الأنبياء – عليه وعليهم الصلاة والسلام منا ومن رب الأرض والسماء – بتلقي القرآن الكريم من كل منهما. " كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً " هذا، وقد اتهم الكفار نبينا المختار – صلى الله عليه وسلم – بتلقي كلام العزيز الغفار من غير جبر ويسار ففي تفسير الطبري: (14/119) ، وتفسير ابن أبي حاتم، وابن مردويه كما في الدر المنثور: (4/131) بسند ضعيف عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – قال: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بعلم قيناً – حداداً – بمكة، وكان أعجمي اللسان، وكان اسمه بلعام، فكان المشركون يرون رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حين يدخل عليه، وحين يخرج من عنده، فقالوا: إنما يعلمه بلعام، فأنزل الله – جل وعلا – " وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ " الآية.
قال عبد الرحيم – غفر الله له ذنوبه أجمعين – لا مانع من اعتبار جميع ما مضى سبباً لنزول الآية الكريمة، فلما صدرت عنهم تلك الأقوال الأثيمة، أنزل الله العظيم الآية الكريمة، ومن المقرر في كتب علوم القرآن، أن الأسباب قد تتعدد والنازل واحد كما في الإتقان: (1/121-123) وفتح الباري: (8/450) ، وما ورد في تفسير الطبري: (14/120) ، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، كما في الدر: (4/131) عن الضحاك في قوله – جل وعلا –: "لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ " قال: كانوا يقولون: إنما يعلمه سليمان الفارسي – رضي الله تعالى عنه – فلابد من تأويله بأن المشركين استمروا على اتهام النبي الأمين – صلى الله عليه وسلم – بتلقي القرآن من الأعجميين، حتى بعد نزل الآية، فقولهم بعد نزول الآية مما يدخل في تفسيرها، وتتضمنه، وتشتمل عليه وليس ذلك سبباً لنزول الآية، لأن إسلام سلمان – رضي الله تعالى عنه – كان بعد الهجرة والآية مكية، والله أعلم..(1/285)
".
... وفي سورة الحج يقول ربنا – جل وعز –: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} الحج25 والمراد بالإلحاد في الآية الكريمة: أن يميل ويحيد عن دين الله الذي شرعه ويعم ذلك كل ميل وحيدة عن الدين، ويدخل في ذلك دخولاً أولياً: الكفر بالله، والشرك به في الحرم، وفعل شيءٍ مما حرمه، وترك شيءٍ مما أوجبه، فكل مخالفة بترك واجب، أو فعل محرم تدخل في الظلم المذكور (1) .
... والمراد من الإلحاد المذموم في الشرع: الانحراف عما يجب اعتقاده، أو عمله وله قسمان:
__________
(1) كما قرر ذلك شيخنا – عليه رحمة الله تعالى – في أضواء البيان: (5/58-59) ، وقرر زيادة الباء في "بإلحاد" وغيرها في: (4/252-253) ، وكذلك في تفسير الجلالين: (276) ، وكذلك قال النسفي في مدارك التنزيل: (3/269) : "ومن يرد فيه" مراداً عادلاً عن القصد ظالماً، فالإلحاد العدول عن القصد 10هـ وقد ورد التشديد والوعيد على الملحد في حرم الله المجيد ففي صحيح البخاري – كتاب الديات – باب من طلب دم امرئ بغير حق: (12/210) بشرح ابن حجر ورواه البيهقي أيضاً كما في الجامع الكبير: (1/6) عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: "أبغض الناس إلى الله ثلاثة: ملحد في الحرم، ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية ومطلب دم امرئ بغير حق ليريق دمه" وقد قرر شيخنا في الأضواء: (5/64) أن من انتهاك حرمة بيت الله الحرام دخول المصورين لتطوير الطائفين والقائمين، والراكعين والساجدين – حفظنا الله بمنه من الفتن، ووقانا جميع البلايا والمحن، وختم لنا بالحسنى إنه سميع الدعاء.(1/286)
القسم الأول: إلحاد في أسماء الله الكريمة، وصفاته العظيمة، ولذلك خمسة أنواع، دل على شناعتها، وتهديد المتلبس ببعضها، قول رب الأرض والسماء: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} الأعراف180، وإليك بيان تلك الأنواع:
أ) تعطيل أسماء الرب – جل وعلا – عن معانيها، وجحد حقائقها، كقول الجهمية الردية ذوي العقول الآسنة الغبية: إن أسماء الله لا تتضمن صفات، ولا معاني حسنى مباركات، فيطلقون على رب المخلوقات، اسم: السميع، والبصير، والحي، والمتكلم، والمريد، ويقولون: لا سمع له، ولا بصر، ولا حياة، ولا كلام، ولا إرادة تقوم به، وهذا من أعظم الإلحاد وأشنعه في أسماء الله – جل وعلا – شرعاً وعقلا ً، ولغة وفطرة.
ب) تشبيه صفات رب الأرض والسموات بصفات المخلوقات – تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً – وإلحاد هؤلاء الضلال، في صفات الكبير المتعال يقابل إلحاد المعطلة أهل الخبال، فأولئك نفوا صفات كماله وجحدوها، وهؤلاء بصفات خلقه مثلوها وشبهوها، وقد حفظ الله الكريم أهل السنة الصادقين، من زيغ الفرقتين، فأثبتوا صفات رب العالمين، ونزهوا الرب عن مشابهة صفاته بصفات المخلوقين، دون تعطيل لها، عن الكمال اللائق بها، فهم وسط في النِحَل، كما أن أهل الإسلام وسط في المِلل، وتوقد مصابيح معارفهم من شجرة مباركة زيتونية، لا شرقية ولا غربية، يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار، نور على نور، يهدي الله لنوره من يشاء.
جـ) اشتقاق أسماء الطواغيت والأنداد من أسماء الله رب العباد – سبحانه وتعالى – كتسمية المشركين اللات من الله، والعزّى من العزيز، ومناة من المنان، وهذا عدول بأسماء ربهم إلى أوثانهم وطواغيتهم.(1/287)
د) تسمية رب العالمين بما لم يرد في نصوص شرعه الحكيم، كتسمية النصارى الملعونين لله الكريم بالأب، وتسمية الفلاسفة له بأ، هـ عِلّة فاعلة بالطبع، وتسمية الدهريين له بالطبيعة.
هـ) وصف الله – تبارك وتعالى – بما يتقدس عنه ويتعالى، كقول أخبث الناس، اليهود الأنجاس إن الله فقير، ويده مغلولة، قال الله – جل وعلا –: {لَّقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ} آل عمران181، وقال الله – جل جلاله –: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً} المائدة64.
القسم الثاني: إلحاد في آيات الله العظام، ولذلك نوعان وقع فيهما أهل الآثام والأوهام:
النوع الأول: إلحاد بعض البرية من ذوي العقول الردية في آيات الله الشرعية وهي: ما أتى به الرسل الكرام – عليهم الصلوات والسلام – من الأخبار والأحكام، عن طريق تحريفها، أو تكذيب أخبارها، أو عصيان أحكامها.
النوع الثاني: إلحاد بعض المخلوقات من ذوي العقول المنكوسات في آيات الله الكونيات، وهي: ما خلقه الله، ويخلقه في الأرض والسموات، في جميع الأوقات، عن طريق نسبتها إلى غير فاطرها أو اعتقاد شريك أو معين له فيها (1) . سبحانه وتعالى لا إله غيره، ولا رب سواه –.
__________
(1) انظر تفصيل تلك الأقسام في بدائع الفوائد: (1/169-167) ، ومختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة: (2/110-112) ، وفتح رب البرية: (12) ، والإتحافات السنة شرح العقيدة الواسطية: (29-30) .(1/288)
{إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فصلت40.
الأدلة المحكمة الحِسان على صحة طريقة أهل السنة الكرام، في إيمانهم بصفات ربهم الرحمن:
... إن الأدلة الدالة على صحة تلك الفرقة الجليلة، في إيمانهم بصفات ربهم الكريمة الجميلة، كثيرة غزيرة، وهي محكمة البيان، ثابتة الأركان، سأقتصر منها على أصلين أصيلين وعلى مثلين مضروبين، ليزول عن القلوب الران والفَيْن، ويتضح الحق لذي عينين، فدونك التفصيل والبيان، وما توفيقي إلا بالرحيم الرحمن:
الأصل الأول: الإيمان بالصفات، كالإيمان بالذات:
... وتقرير ذلك الأصل عند أهل العقول الزاكيات، أن الصفات تتبع الموصوفات، فالكلام فيها فرع الكلام في الذات، فهذا هو الذي تقتضيه العقول الصريحات، وتقدم تقرير هذا عن الأئمة الثقات، في أول مبحث طريقة إيمان أهل السنة بالصفات.
... وقد أجمع أهل الإيمان، أن إيماننا بذات الرحمن، يقوم على ثلاثة أركان، إذا انخرم واحد منها خرج الإنسان من دوحة الإيمان، والتحق بزمرة الشيطان، وعبدة الأوثان، وتلك الأركان هي:
1) الثبوت، فلربنا الجليل ذات علية، موجودة خارج الأذهان وجوداً حقيقياً، وليست ذاته – جل وعلا – فكرة وهمية، ولا شطحية خيالة.
2) عدم مشابهة ذات خالق الأرض والسموات، لذوات المخلوقات، فأين التراب من رب الأرباب، وأين المخلوق الحقير من الله العلي الجليل.
3) انتفاء علم المخلوقات بمعرفة كيفية ذات رب البريات، فهو – سبحانه وتعالى – أحد صمد لا والد ولا ولد، ولا يكافئه أحد، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
... وبما أن الصفات تقوم تلك الذات، فينبغي أن تعطي تلك الاعتبارات، لأن الصفات تتبع الموصوفات، فيجب القول لزاماً بما يلي:(1/289)
أ) الصفات ثابتة كثبوت الذات، ولا يعقل وجود ذات متجردة عن الصفات، فالقول بنفي الصفات يلزم منه نفي الذات، ولذلك كان مآل قول المعطلة نفاة الصفات إلى مقالة الفلاسفة نفاة الخالق عن المخلوقات، وإمامهم في ذلك التعطيل فرعون العاتي الحقير وقد صرح بهذه الحقيقة من اطلع على حقيقة المذهبين، مذهب أهل السنة الكرام، ومذهب المعطلة اللئام، قال شيخ الإسلام: كان ابن النفيس المتطبب الفاضل – عليهم جميعاً رحمة الله تعالى – يقول: ليس إلا مذهبان، مذهب أهل الحديث، أو مذهب الفلاسفة (1) .
ب) تلك الصفات الثابتة لرب الأرض والسموات، لا تماثل صفاتنها ولا تشبهها، كما ذاته كذلك لا تماثل ذواتنا ولا تشبهها.
لا ذاتُه تُشْبهها الذواتُ ... ولا حكتْ صفاتهِ الصفاتُ
جـ) لا نعلم كيفية تلك الصفات التي يتصف بها رب البريات، كما أننا عاجزون عن معرفة الذات.
__________
(1) انظر درء تعارض العقل والنقل: (1/203) ، وابن النفيس هو: علي بن أبي الحزم، شيخ صالح، وإمام فاضل، انتهت إليه معرفة الطب مع الذكاء المفرط، والذهن الخارق، توفي سنة سبع وثمانين وستمائة – عليه رحمة الله تعالى –.انظر ترجمته في طبقات الشافعية الكبرى: (8/305-306) ، والبداية والنهاية: (13/313) ، وشذرات الذهب: (5/401-402) ، عيون الأنبياء في طبقات الأطباء: (2/249) ، والنجوم الزاهرة: (7/377) .
وانظر الحكم على المعطلة بما حكم به ابن النفيس في مجموع الفتاوى: (6/51) ، وفيه: إنه متلقى من الفلاسفة، والمشركين البراهمة، واليهود السحرة، وفي: (5/172-173) : فرعون هو إمام النفاة، وانظر تذكرة الحافظ: (1/229) ففيه النقل عن حماد بن زيد – عليه رحمة الله تعالى – قال: إنما يريدون – أي المعطلة – أن يقولوا: ليس في السماء إله، وسند الرواية صحيح ثابت عنه كما في مجموع الفتاوى: (5/52) ، وفيه نقل مثل ذلك عن الإمام عبد الرحمن بن مهدي – عليه رحمة الله تعالى–.(1/290)
والخلاصة: يجب إثبات الصفات على النحو الذي أثبتت به الذات، وهذا الأمر في منتهى الوضوح والسداد، ولذلك عول عليه أهلُ الرشاد، في إثبات صفات رب العباد – جل وعلا – ودحض مذهب المخالفين من أهل الغباء والعناد، قال الإمام الذهبي – عليه رحمة الله تعالى –: إن نصوص الصفات واضحة، ولو كانت الصفات ترد إلى المجاز، لبطل أن تكون صفات الله – جل وعلا – وإنما الصفة تابعة للموصوف، فهو موجود حقيقة لا مجازاً وصفاته ليست مجازاً، فإذا كان لا مثل له، ولا نظير، لزم أن تكون صفاته لا مثل لها، ولا نظير ونقل عن أبي عمر الطلمنكي – عليه رحمة الله تعالى – أنه قال: لو كانت الأسماء – أي اتفاق الخالق والمخلوقات في مسمى الصفات – توجب اشتباهاً لاشتبهت الأشياء كلها لشمول اسم الشيء لها وعموم تسمية الأشياء به، ثم إننا نسألهم – أي: المعطلة – أتقولون إن الله موجود؟ فإن قالوا نعم، قيل لهم: يلزمكم على دعواكم أن يكون مشبهاً للموجودين، وإن قالوا: موجود، ولا، ولا يوجب وجوده الاشتباه بينه وبين الموجودات، قلنا: كذلك هو حي عالم قادر مريد سميع بصير متكلم يعني ولا يلزم اشتباهه بمن اتصف بهذه الصفات 10هـ. وهكذا قال الشيخ ابن تيمية – عليه رحمة رب البرية – في الرسالة التدمرية، ونص كلامه: إن الله – جل وعلا – ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله. فإذا كان له – جل وعز – ذات حقيقية لا تماثل الذوات، فالذوات متصفة بصفات حقيقية لا تماثل سائر الصفات. فإذا قال – أي المعطل –: كيف ينزل ربنا إلى السماء الدنيا؟ قيل له: كيف هو؟ فإذا قال: لا أعلم كيفيته.(1/291)
قيل له: ونحن لا نعلم كيفية نزوله، إذ العلم بكيفية الصفة يستلزم العلم بكيفية الموصوف، وهو فرع له، وتابع له، فكيف تطالبني بالعلم بكيفية سمعه وبصره، وتكليمه، واستوائه ونزوله، وأنت لا تعلم كيفية ذاته؟ وإذا كنت تقر بأن له حقيقة ثابتة في نفس الأمر، مستوجبة لصفات الكمال لا يماثلها شيء، فسمعه وبصره وكلامه، ونزوله واستواؤه ثابت في نفس الأمر، وهو متصف بصفات الكمال، لا يشابهه فيها سمع المخلوقين، وبصرهم، وكلامهم، ونزولهم، واستوائهم 10هـ وبمثل هذا قرر شيخنا محمد الأمين – عليه رحمة رب العالمين – طريقة أهل السنة المكرمين، وفند أوهام أهل البدع الزائفين، فقال: نقول لمن سأل عن بيان كيفية الصفات: هل عرفت كيفية الذات المقدسة المتصفة بهذه الصفات؟ فلابد أن يقول: لا. فعند ذلك نقول: معرفة كيفية الصفات تتوقف على معرفة كيفية الذات. فالذات والصفات من باب واحد، فكما أن ذاته تخالف جميع الذوات، فإن صفاته تخالف جميع الصفات، ومعلوم أن الصفات تختلف باختلاف موصوفاتها، ألا ترى مثلا ً إلى لفظة "رأس" كلمة واحدة؟ إن أضفتها إلى الإنسان فقلت: رأس الإنسان، وإلى الوادي، قلبت: رأس الوادي، وإلى المال فقلبت: رأس المال، وإلى الجبل قلبت: رأس الجبل، فإن كلمة "الرأس" اختلفت معانيها، وتباينت تبايناً شديداً بحسب اختلاف إضافتها، مع أنها مخلوقة حقيرة، فما بالك بما أضيف من الصفات إلى رب البريات، وما أضيف منها إلى المخلوقات، فإنما تتباين كتباين الخالق والمخلوق، كما لا يخفى (1) .
__________
(1) انظر الأقوال المتقدمة على الترتيب في كتاب العلو للعلي الغفار: (179،175) ، والرسالة التدمرية: (29-30) ، وهي ضمن مجموع الفتاوى: (3/25-26) ، وانظر أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن: (7/450-451) ، والتحفة المهدية: (1/66-70) .(1/292)
ولإمام الأئمة – أثابه الله الجنة – كلام طويل، محكم جميل، في تأييد مذهب البررة المتقين وتفنيد مذهب المعطلة الزائغين، هاك نبذة يسيرة، من تقريراته الوفيرة، قال – رحمه الله تعالى –: استمعوا أيها العقلاء ما يذكر من جنس اللغة السائرة بين العرب هل يقع اسم المشبهة على أهل الآثار، ومتبعي السنن؟ نحن نقول وعلماؤنا جميعاً في الأقطار: إن لمعبودنا – عز وجل – وجهاً كما أعلمنا الله في محكم تنزيله: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} الرحمن 26-27، فذواه بالجلال والإكرام، وحكم له بالبقاء، ونفى عنه الهلاك ونقول: إن لوجه ربنا – عز وجل – من النور والضياء والبهاء، ما لو كشف حجابه لأحرقت سبحات وجهه كل شيء ٍ أدركه بصره (1)
__________
(1) وفي صحيح مسلم – كتاب الإيمان – باب قوله – عليه السلام –: "إن الله لا ينام" (1/162) عن أبي موسى الأشعري – رضي الله تعالى عنه – قال: قام فينا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بخمس كلمات، فقال: "إن الله عز وجل – لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور" – وفي رواية: النار – لو كشفه لأحرقت سُبُحاتُ وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه" والحديث رواه ابن ماجه أيضاً في المقدمة – باب فيما أنكرت الجهمية: (1/71) ، وأحمد في المسند: (4/405،401) ، والآجري في الشريعة: (304) ، وابن خزيمة في كتاب التوحيد: (19-20) ، والبيهقي في الأسماء والصفات: (309) والدارمي في رده على بشر المريسي: (160) والوجه صفة ثابتة لربنا – جل وعلا – كما يليق بكماله وجماله – سبحانه وتعالى – قال إمام الأئمة في كتاب التوحيد: (10) نحن وجميع علمائنا من أهل الحجاز وتهامة واليمن والعراق، والشام ومصر مذهبنا أنا نثبت لله – تبارك وتعالى – ما أثبته لنفسه ونقر بألسنتنا، ونصدق بذلك بقلوبنا، من غير أن نشبه وجه خالقنا – جل وعلا – بوجه أحدٍ من المخلوقين، وعز ربنا عن أن نشبهه بالمخلوقين وجل ربنا عن مقالة المعطلين، وعز عن أن يكون عدماً كما قال المبطلون، لأنه ما لا صفة له تعالى الله عما يقول الجهميون الذين ينكرون صفات خالقنا التي وصف الله بها نفسه في محكم تنزيله، وعلى لسان نبيه وخليله محمد – صلى الله عليه وسلم –.(1/293)
محجوب عن أبصار أهل الدنيا، لا يراه بشر ما دام في الدنيا الفانية ونقول: إن وجه ربنا القديم لم يزل بالباقي الذي لا يزل، فنفى عنه الهلاك والفناء.
ونقول: إن لبني آدم وجوهاً كتب الله – جل وعلا – عليها الهلاك، ونفى عنها الجلال والإكرام غير موصوفة بالنور والضياء والبهاء، التي وصف بها وجهه – تبارك وتعالى – يدرك وجوه بني آدم أبصار أهل الدنيا، لا تحرق لأحد شعرة فما فوقها، لنفي السُبُحات عنها، التي بينها نبينا المصطفى – صلى الله عليه وسلم – لوجه خالقنا.
ونقول: إن وجوه بني آدم محدثة مخلوقة لم تكن فكونها الله – جل وعلا – بعد أن لم تكن مخلوقة، أوجدها بعد ما كانت عدماً، وإن جميع وجوه بني آدم فانية غير باقية، تصير جميعاً ميتاً ثم تصير رميماً، ثم ينشئها الله – جل وعلا – بعد ما قد صارت رميماً، فتلقى من النشور والحشر والوقوف بين يدي خالقنا في القيامة، ومن المحاسبة بما قدمت يداه، ونسيه في الدنيا ما لا يعلم صفته غير الخالق الباري، ثم إما تصير إلى الجنة منعمة فيها، أو إلى نار معذبة.(1/294)
فهل يخطر يا ذوي الحِجَا ببال عاقل مركب فيه العقل، يفهم لغة العرب، ويفهم خطابها ويعلم التشبيه أن هذا الوجه شبيه بذاك الوجه؟ وهل ههنا أيها العقلاء تشبيه وجه ربنا – جل ثناؤه – الذي هو كما وصفنا وبينا صفته من الكتاب والسنة بتشبيه وجوه بني آدم التي ذكرناها، ووصفناها غير اتفاق اسم الوجه، وإيقاع اسم الوجه على وجه بني آدم، كما سمّى الله وجهه وجهاً، ولو كان تشبيهاً من علمائنا لكان كل قائل: إن لبني آدم وجهاً، وللخنازير والقردة، والكلاب، والسباع، والحمير والبغال، والحيات والعقارب وجوهاً قد شبه وجوه بني آدم بوجوه الخنازير والقردة، والكلاب، وغيرها مما ذكرت، ولست أحسب أن أعقل الجهمية المعطلة عند نفسه لو قال أكرم الناس عليه: وجهك يشبه وجه الخنزير والقرد، والدب والكلب والحمار والبغل، ونحو هذا، إلا غضب، وإلا خرج من سوء الأدب في الفحش من المنطق من الشتم للمشبه وجهه بوجه ما ذكرنا، ولعله يقذفه، ويقذف أبويه – ولست أحسب أن عاقلا ً يسمع هذا القائل المشبه وجه ابن آدم بوجه ما ذكرنا إلا ويرميه بالكذب والزور والبهت، أو بالعته والخبل، أو يحكم عليه بزوال العقل، ورفع القلم عنه، لتشبيه وجه ابن آدم بوجه ما ذكرنا، فتفكروا يا ذوي الألباب، أوجوه ما ذكرنا أقرب شبهاً بوجه بني آدم، أو وجه خالقنا بوجوه بني آدم فإذا لم تطلق العرب تشبيه وجوه بني آدم بوجوه ما ذكرنا من السباع والبهائم، واسم الوجه قد يقع على جميع وجوهها كما يقع اسم الوجه على وجوه بني آدم، فكيف يلزمنا أن يقال لنا: أنتم مشبهة ووجوه بني آدم ووجوه من ذكرنا من السباع والبهائم كلها محدثة مخلوقة، قد قضى الله – جل وعلا فناءها وهلاكها، وقد كانت عدماً فكونها الله – عز وجل – وخلقها وأحدثها، وجميع ما ذكرنا من السباع والبهائم لوجوهها أبصار، وخدود، وجباه وأنوف، وألسنة وأفواه، وأسنان وشفاة ولا يقول مركب فيه العقل لأحد من بني آدم: وجهك شبيه بوجه خنزير، ولا عينيك(1/295)
شبيهة بعين قرد، ولا فمك فم دب، ولا شفتاك كشفتي كلب، ولا خدك خد ذئب، على المشاتمة كما يرمي الإنسان بما ليس فيه، فإذا كان ما ذكرنا على ما وصفنا ثبت عند العقلاء وأهل التمييز، أن من رمى أهل الآثار القائلين بكتاب ربهم، وسنة نبيهم – صلى الله عليه وسلم – بالتشبيه فقد قال الباطل والكذب والزور والبهتان، وخالف الكتاب والسنة، وخرج عن لسان العرب (1) .
__________
(1) انظر كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب – جل وعز -: (22-24) ، وكرر نحو هذا في أمكنة متعددة من كتابه، وانظر: (35، 51-52) ،وفيه ختم القول بقوله: إن القوم – أي: الجهمية المعطلة لا يفهمون العلم، ولا يحسنون لغة العرب، فيضلون ويضلون، والله نسأل العصمة والتوفيق والرشاد في كل ما نقول وندعو إليه.
قال عبد الرحيم – غفر الله ذنوبه أجمعين –: والكلام كما ترى في منتهى السداد والجود والرشاد ومع ذلك فقد دندن الكوثري حول الكلام، بمنكر من القول والهذيان، فقال في تعليقه على الأسماء والصفات للبيهقي: (301) قول ابن خزيمة في الوجه مما لا يسطره من يعي ما يقول. وقال في: (315-325) : ولابن خزيمة كلام في الوجه والمماثلة لا يدع له وجهاً يواجه به أهل العلم، ومثله لا يلتف إليه في باب الاعتقاد، وقد سبقه إلى تلك الدندنة الرازي في تفسير: (27/150) فقال عن كتاب اين خزيمة: وهو في الحقيقة كتاب الشرك، وفرح الكوثري بذلك، فسود الصحف بتكرار تلك الكلمة المنكرة، انظر تعليقه على كتاب دفع شبه التشبيه: (59) ، ونقل الأستاذ إبراهيم خليفة تلك التعليقة الخبيثة في مذكرة مناهج المفسرين الأزهرية: (35) كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً. إن كتاب التوحيد الذي صنفه إمام الأئمة ليس فيه إلا جمع آيات الصفات، وأحاديثها مع القول بأن تلك الصفات تليق برب الأرض والسموات، ولا يعلم كيفيتها إلا هو – سبحانه وتعالى – وقد ترجم السبكي لإمام الأئمة في طبقات الشافعية الكبرى: (3/109-118) ترجمة عطرة، ورد تهمة الزائغين له بالتشبيه، فقال: إنه برئ مما ينسبه إليه المشبهة، وتفتريه عليه الملحدة، وبراءة الرجل منهم ظاهرة في كتبه وكلامه، ولكن القوم يخبطون عشواء سفهاً، وانظر ترجمته المباركة لتقف على مكانته العالية في المجموع: (1/19، 105) ، والبداية والنهاية: (11/148) وشذرات الذهب: (2/262) ، والجرح والتعديل: (7/196) ، والوافي بالوفيات: (2/196) ومجموع الفتاوى: (3/192) وتذكرة الحفاظ: (2/720-731) ، وفي: (2/753) كرامة له فانظرها لزاماً.(1/296)
الأصل الثاني: القول في بعض الصفات كالقول في بعضها الآخر:
... المقصود بهذا الأصل الرد على متأخري الأشعرية أصالة، ويمكن سحب هذا الأصل لتفنيد قول المعتزلة أيضاً، وإليك البيان:
... يتلخص قول متأخري الأشعرية في صفات رب البرية: أنهم يقسمون صفات الرحمن – جل وعلا – إلى أربعة أقسام:
1) نفسية: وهي الوجود فقط، ونسبت هذه الصفة للنفس أي الذات لأن الذات لا تتعقل إلا بها، فلا تتعقل نفسي إلا بوجودها، فالوجود صفة نفسية ثبوتية يدل الوصف بها على نفس الذات دون معنى زائد عليها.
2) سلبية: وهي سلوب تسلب عن الله – جل وعلا – ما لا يليق به من أضدادها.
3) صفات المعاني: وهي سبع: العلم، والحياة، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام، وهي معان ٍ وجودية قائمة بذات الله – جل وعلا –.
4) صفات معنوية: وهي نفس صفات المعاني فهما متلازمان وأفردت بالذكر لبيان وجوب قيام الصفة بالموصوف، فيقال في الصفات المعنوية: إذا كان متصفاً بالحياة والعلم والقدر والإرادة، والسمع والبصر والكلام، فهو: حي، عليم، قادر، مريد، سميع، بصير، متكلم.
... وقالوا: إن تلك الأقسام الأربعة بصفاتها العشرين، تجب لرب العالمين – تبارك وتعالى – وما عدا تلك الصفات فتدور بين أمرين، ولا تخرج عن قسمين:
القسم الأول: إما أن تكون من صفات الأفعال: كالخلق والرزق، والإماتة، والإحياء، وبسط الرزق وقدره ورحمته وغضبه وغير ذلك من أفعاله التي يصف بها ربنا – جل وعلا – نفسه المقدسة.
القسم الثاني: وإما أن تكون من الصفات الخبرية: كصفة الوجه، واليدين، وغير ذلك مما ورد به السمع في وصف ربنا – جل جلاله – ولا يوجبه العقل.
وللمتأخرين من الأشعرية نحو هذين القسمين موقفان:(1/297)
أ) رد تلك الصفات إلى صفتي القدرة والإرادة، فقالوا: إن تلك الصفات آثر من آثار القدرة والإرادة، وهذا شامل لسائر صفات الأفعال فيقولون في رد صفة الرحمة مثلاً إلى صفة الإرادة: إرادة الإحسان ويقولون في ردها إلى صفة القدرة: الإحسان نفسه لأن الإحسان فعل يتم بصفة القدرة، ويقولون في رد صفة الغضب إلى صفة الإرادة، إرادة العقوبة، ويقولون فر ردها إلى صفة القدرة، العقوبة نفسها، لأن العقوبة فعل يتم بصفة القدرة.
ب) التخيير بين التأويل والتغويض في بعض صفات الأفعال، وجميع الصفات الخبرية، ففي حال تأويل صفتي الرحمة والغضب يقولون ما تقدم، أو يقولون: هما صفتان ثابتتان للرحمن لا يعلم كيفيتهما إلا هو، وهكذا يقولون في صفة الوجه أيضاً، فإذا أولوا قالوا: إنه بمعنى الذات، وإذا فوضوا، قالوا: هو صفة لله – جل وعلا – لا يعلم كيفيتها إلى هو (1) .
بداية ملف توحيد 4
ونحن معشر أهل السنة المتبعون للحق المبين – لا ننازعهم فيما أثبتوه، إنما ننازعهم في تفريقهم بين ما أثبتوه من الصفات، وقالوا: إن الله – جل وعلا – متصف بها، ولا يعلم كيفيتها إلا هو، وبين باقي الصفات التي ردوها إلى بعض ما أثبتوه، أو أجازوا فيها التأويل أو التفويض وإنما نازعناهم فيما نازعناهم فيه، لأن الصفات كلها تتبع موصوفاً واحداً، والكلام فيها ينبغي أن يكون على وتيرة واحدة، فما يقال في صفة السمع والبصر والكلام يقال في صفة الرحمة والوجه واليدين، والتفريق بينهما في الكلام تفريق بين المتماثلين في الأحكام، وهذا مما ينبغي أن يتنزه عنه أولو النهى والأحلام.
__________
(1) انظر تفصيل مذهب متأخري الأشعرية في صفات رب البرية – جل جلاله – في تحفة المريد على جوهرة التوحيد: (1/47-70) ، وأم البراهين. ضمن مجموع أمهات المتون: (3-4) وحاشية الأمير على شرح عبد السلام: (56-88) ، ومذكرة مناهج المفسرين الأزهرية للأستاذ إبراهيم خليفة: (12-32) .(1/298)
فإن قالوا: إن ما عدا ما أثبتناه من الصفات الواجبات، لرب الأرض والسموات، يوهم مماثلة الخالق للمخلوقات، لذلك سلكنا فيه غير ما سلكناه في تلك الصفات الواجبات، فنقول: لا فرق بين الأمرين على الإطلاق، بل القول في أحدهما كالقول في الآخر بلا شقاق لأنك لو قلت: إن إرادته مثل إرادة المخلوقين، فكذلك محبته ورحمته، ومقته وغضبه، وهذا هو التمثيل، وأنت لا تقول به، وإن قلت: إن له إرادة تليق به، كما أن للمخلوق إرادة تليق به، قيل لك: وكذلك لله – جل وعلا – محبة تليق به، وللمخلوق محبة تليق به، ولله – جل وعز – غضب يليق به، وللمخلوق غضب يليق به.
... فإذا قلت: إن الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام، قيل لك: والإرادة ميل النفس إلى جلب منفعة، أو دفع مضرة، فإن قلت: هذه إرادة المخلوق، قيل لك: وهذا غضب المخلوق.
... وهكذا يقال أيضاً في الرد عليهم في ردهم الصفات الزائدة على ما أثبتوه إلى صفة القدرة ووجه ذلك أن يقال إن من فسر الرحمة بالإحسان والمثوبة والغضب بالإهانة والعقوبة فكل منهما فعل، ولابد من قيام ذلك بالفاعل أولا ً ثم إيقاعه على المفعول، فهم إن أثبتوا ذلك على مثل ما هو معقول في الشاهد للعباد مثلوا وهم لا يقولون بذلك، وإن أثبتوه على خلاف المعقول في الشاهد للعباد، فنقول لهم كذلك الأمر في الصفات.
... وصفوة الكلام أنه يلزمهم فيما صاروا إليه نظير ما يلزمهم فيما فروا منه، فإن فوضوا العلم بكيفية ما صاروا إليه في النهاية، نقول لهم: فوضوا العلم بذلك إلى الله من البداية، واسلكوا مسلك أهل التقى والهداية.
... فإذا قال الأشعرية المتأخرون: تلك الصفات أثبتناها بالعقل لأن الفعل الحادث يدل على القدرة، والتخصيص يدل على الإرادة والإحكام يدل على العلم، وتلك الصفات مستلزمة للحياة، والحي لا يخلو عن السمع والبصر والكلام، أو ضد ذلك، وضده مستحيل لأنه نقص، والله منزه عنه – سبحانه وتعالى – فثبت لله – جل وعز – صفة السمع والبصر والكلام.(1/299)
.. فالجواب عن ذلك الكلام عند أهل السنة الكرام من وجهين:
الوجه الأول: عدم الدليل المعين لا يستلزم عدم المدلول المعين، فهب أن ما سلكت من الدليل العقلي لا يثبت ذلك، فإنه لا ينفيه، وليس لك أن تنفيه بغير دليل، لأن النافي عليه الدليل كما على المثبت. وقد دل عليه السمع، ولم يعارضه عقلي ولا سمعي،، فيجب إثبات ما أثبته الدليل السالم عن المعارضة.(1/300)
الوجه الثاني: يمكن إثبات ما عدا ما أثبته متأخروا الأشعرية من الصفات بنظير ما أثبتوا به تلك الصفات من العقليات، فيقال مثلا ً، نفع العباد بالإحسان إليهم يدل على الرحمة كدلالة التخصيص على الإرادة، كما قال الله – جل وعلا –: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} النحل5-7، وهكذا إكرام الله – جل وعلا – الطائعين يدل على محبته لهم، وعقابه – جل شأنه – للكافرين يدل على بغضه لهم وغضبه عليهم، كما ثبت ذلك بالشهادة، والخبر من إكرامه أوليائه، وعقاب أعدائه وهكذا أيضاً الغايات المحمودة، في مفعولاته ومأموراته – وهي ما تنتهي إليه مفعولاته ومأموراته من العواقب الحميدة – تدل على حكمته البالغة كما يدل التخصيص على الإرادة والمشيئة، بل وأولى، لقوة العلة الغائية، ولهذا كان ما في القرآن من بيان ما في مخلوقاته من النعم والحكم أعظم مما في القرآن من بيان ما فيها من الدلالة على محض المشيئة، قال الله – جل وعلا –: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} لقمان 8-11 فمجيء " خَلَقَ السَّمَاوَاتِ " إلى آخر الآية بعد قوله – جل وعلا –: " وَهُوَ الْعَزِيزُ(1/301)
الْحَكِيمُ " لقيام الأدلة، والاستشهاد بما ذكر على كمال عزته، وتمام حكمته، لأن خلق الأشياء المذكورة، على تلك الشاكلة والصورة، يدل دلالة واضحة على كامل غزته وبالغ حكمته – سبحانه وتعالى– (1) .
... قال كاتب هذه الأسطر – ستره الله في الدنيا والآخرة –: أبرز ما يظهر لي من التحقيقات المرضية في بطلان مذهب متأخري الأشعرية أمران، فتدبرهما يا طالب العلم والعرفان:
الأول منهما: يلزم المؤول فيما صار إليه نظير ما يلزمه فيما فر منه تماماً، فإن فوضي العلم إلى الله – جل وعلا – بكيفية ما صار إليه في النهاية، نقول له: فوض العلم بكيفية ذلك إلى المتصف به من البداية، فتفويض العلم بكيفية الصفات إلى رب الأرض والسموات لابد منه، ولا مناص من القول به، والمؤول إذا لم يفوض فيما صار إليه وقع فيما فر منه، فالسعيد السعيد من فوض من البداية ولم يسلك طريق العماية (2) .
والثاني: لو سئل المؤول: هل تجزم بأن ما صرت إليه هو المراد – جل وعلا – من كلامه؟ لقال: لا، إنما رجت احتمالا ً على احتمال خشية الوقوع في تشبيه صفات ذي الجلال بغيره من المخلوقات.
__________
(1) كما في مفاتيح الغيب: (25/142) ، وروح المعاني: (21/81) ، والسراج المنير: (3/182) ، وانظر مناقشة متأخري الأشعرية، وتفنيد قولهم في صفات رب البرية التدمرية: (21-23، 30-31) وهي ضمن مجموع الفتاوى: (3/17-19، 26-27) ، وانظر التحفة المهدية: (1/46، 52، 72-74) ، ومختصر الصواعق المرسلة: (22-29) .
(2) انظر مختصر الصواعق المرسلة: (27/29) فصل في إلزامهم في المعنى الذي جعلوه تأويلا ً نظير ما فروا منه.(1/302)
.. ولا يخفى فساد هذه الطريقة وشناعتها، فأمر لا يجزم المؤول به، كيف يصير إليه في صفات ربه – جل جلاله – (1) .
... يضاف إلى تلك المفسدة الردية، أن في المصير إلى التأويل فتح لباب تأويلات أهل الإلحاد الباطنية، قال الإمام ابن تيمية – عليه رحمة رب البرية – وبهذا احتج الملاحدة كابن سينا وغيره على مثبتي المعاد، وقالوا: القول في نصوص المعاد كالقول في نصوص التشبيه والتجسيم وزعموا أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – لم يبين ما الأمر عليه في نفسه، لا في العلم بالله – تبارك وتعالى – ولا باليوم الآخر، فكان الذي استطالوا به على هؤلاء هو موافقتهم لهم على نفي الصفات، وإلا فلو آمنوا بالكتاب كله حق الإيمان لبطلت معارضتهم، ودحضت حجتهم، ولهذا كان ابن النفيس المتطبب الفاضل يقول: ليس إلا مذهبان: مذهب أهل الحديث، أو مذهب الفلاسفة (2) .
__________
(1) وقد اعترف بهذا الرازي في مفاتيح الغيب: (7/176-177) فقال: والقول بالظن في ذات الله – تبارك وتعالى – وصفاته، غير جائز بإجماع المسلمين وهذه حجة قاطعة في المسألة، والقلب الخالي عن التعصب يميل إليه، والفطرة الأصيلة تشهد بصحته، وقرر نحوه في: (25/168-170) .
(2) انظر درء تعارض العقل والنقل: (1/202-203) ، ونحوه في: (6/211، 9/207) وتقدمت ترجمة ابن النفيس في صفحة: (157) ، وقد اعترف الرازي في مفاتيح الغيب: (27/16-17) بأن سلوك مثل تلك الطريقة في التأويل تفضي إلى الطعن في القرآن، وتخرجه عن أن يكون حجة في شيءٍ.
وابن سينا المشار إليه في كلام شيخ الإسلام، فيلسوف خبيث ففي مجموع الفتاوى: (13/177) لما ظهرت الملاحدة الباطنية وملكوا الشام وغيرها ظهر فيها النفاق والزندقة الذي هو باطن أمرهم وهو حقيقة قول فرعون إنكار الصانع وعبادته، وخيار ما كانوا يتظاهرون به الرفض، فكان خيارهم وأقربهم إلى الإسلام الرافضة، وظهر بسببهم الرفض والإلحاد، وكان ابن سينا وأهل بينه من أهل دعوتهم قال: وبسبب ذلك اشتغلت بالفلسفة، ونحوه في: (35/135) ، وذكر في: (11/570) أن ابن سينا ذكر في إشارته الترغيب في الغناء، وفي عشق الصور ما يناسب طريقة أسلافه الفلاسفة والصابئين والمشركين، وأحدث ابن سينا فلسفة ركبها من كلام سلفه اليونان، ومما أخذه من أهل الكلام المبتدعين الجهمية ونحوهم، وسلك طريقة الملاحدة الإسماعيلية في كثير من أمورهم العلمية والعملية ومزجه بشيء من كلام الصوفية، وحقيقته توعد إلى كلام إخوته الإسماعيلية القرامطة الباطنية، فإن أهل بيته كانوا من الإسماعيلية أتباع الحاكم الذي كان بمصر وكانوا في زمنه، ودينهم دين أصحاب رسائل إخوان الصفا وأمثالهم من أئمة منافقي الأمم الذين ليس مسلمين ولا يهود ولا نصارى.(1/303)
.. واعلم أن هذا الأصل – وهو: إثبات الصفات إثبات لبعضها الآخر والقول في بعض الصفات كالقول في بعضها الآخر- كما يصلح للرد به على قول متأخري الأشعرين، يصلح الرد به أيضاً على قول المعتزلة الردية، ويتلخص قول المعتزلة في أسماء الله وصفاته – جل وعلا – أنهم يثبتون الأسماء دون ما تتضمنه من الصفات، وقالوا: إنه عليم بلا علم، قدير بلا قدرة، سميع بصير بلا سمع، ولا بصر وجعلوا تلك الأسماء بمثابة الأعلام المحضة المترادفة، لأنها هي الذات.
... وهذا القول الفاسد في حقيقته، ثم هو متناقض في نفسه.
أما فساده فمن ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: إثبات ونفي معناه مكابرة، وجحد للضروريات، فالاسم يدل على معنى، ولذلك كان كل اسم لربنا – جل وعلا – صفة (1) .
الوجه الثاني: جعل تلك الأسماء المتعددة الدلالات، المختلفة في الحقائق بمنزلة الأعلام المحضة المترادفة كما هو الحال في لفظ السيف والمهند والصارم والبتار إنكار أيضاً للحقائق، وجحد لما هو ثابت نعم تلك الصفات من قبيل الأسماء المترادفة من حيث دلالتها على ذات واحدة، لكنها متباينة لتعدد الصفات واختلافها فيما بينها، وهكذا الحال في دلالات السيف والمهند والصارم والبتار والحسام من قبيل المترادفة من حيث دلالتها على ذات واحدة، ومن قبيل المتباين من حيث تعدد الصفات وتنوعها حيث لوحظ في المهند النسبة إلى المهند، وقصد بالصارم، والبتار والحسام معنى الصرم والبتر والحسم (2) .
__________
(1) انظر مدارج السالكين: (1/159) وفيه: كل اسم له صفة، وللصفة حكم، فهو – سبحانه وتعالى – واحد الذات كثير الأسماء والصفات، فهذه كثيرة في وحدة.
(2) انظر الرسالة التدمرية: (63) ، وهي ضمن مجموع الفتاوى: (3/59) ، وانظر التحفة المهدية: (1/182) واعلم أن نسبة الألفاظ إلى المعاني منحصرة في خمسة أقسام:
أ) إن اتحد اللفظ والمعنى في الأفراد سمي كلياً متواطئاً، كالإنسان، والرجل – فكل منهما يطلق علي أشياء متغايرة بالعدد متفقة في المعنى.
ب) إن اتحد اللفظ واختلف المعنى في الشدة والضعف سمي كلياً مشككاً، كالبياض، فإن معناه في الورق أقوى من معناه في القميص مثلا ً.
جـ) إن اتحد اللفظ وتعدد مسمى مشتركاً، كالعين، تطلق على الباصرة، والجارية، والذهب، والقرء يطلق على الحيض والطهر.
د) إن تعدد اللفظ واتحد المعنى سمي مترادفاً، فالأسماء مختلفة والمسمى واحد مثل: الليث والأسد، والعُقار والخمر، وإنسان وبشر.
هـ) إن تعدد اللفظ والمعنى أيضاً سميا متباينان مختلفان، فالأسماء مختلفة لمعان ٍ مختلفة أيضاً كالسماء والأرض، والإنسان والفرس، انظر إيضاح هذا في روضة الناظر: (2/15-16) وإيضاح المبهم من معاني السلم: (8) .(1/304)
الوجه الثالث: إدعاء كون الأسماء الحسنى، وما تدل عليه من صفات علا هي الذات، ادعاء باطل مرفوض، لأن الأسماء وما تدل عليه من صفات تطلق على الذات وتقوم بها وليست هي الذات.
... وأما تناقض ذلك القول: ففي منتهى الظهور والوضوح، لأن الذي دعاهم إلى نفي الصفات خشية التشبيه حيث قالوا: إثبات الحياة والعلم والقدرة وغيرها من الصفات يقتضي تشبيه الخالق بالمخلوقات، لأنا لا نعلم في الشاهد متصفاً بالصفات إلا ما هو جسم، وهذا الوهم الذي تخيلوه من إثبات الصفات يلزمهم أيضاً في إثبات الأسماء لأنا لا نجد في الشاهد ما هو مسمى حي عليم قدير إلا ما هو جسم، فإن ما نفيت لكونك لم تجده في الشاهد إلا للجسم فأنف الأسماء بل وكل شيء، لأنك لا تجده في الشاهد إلا للجسم (1) .
__________
(1) انظر الرسالة التدميرة: (24) ، وهي ضمن مجموع الفتاوى: (3/20) ، والتحفة المهدية: (1/53) وانظر درء تعارض العقل والنقل: (1/128، 6/130) .(1/305)
.. قال عبد الرحيم – غفر الله له ذنوبه أجمعين – لو درى المعتزلة، ومتأخروا الأشعرية، وسائر فرق المعطلة الردية أن اتفاق الخالق الجليل والمخلوق في الصفات وتماثل مسماهما واتحاده لا يلزم منه محظور البتة، ولا يستلزم التشبيه، ولا رائحته، لأن ذلك الاتفاق والاتحاد في المسمى محصور في حالة الإطلاق، وليس للمطلق مسمى موجود خارج الأذهان، والعقل يفهم من المطلق قدراً مشتركاً بين المسميين، وعند الاختصاص يقيد ذلك بما يتميز به الخالق عن المخلوق، والمخلوق عن الخالق، وكل من لم يرسخ في ذهنه فسيأتي بالطامات ـ ويقول المتناقضات، ويسفسط في العقليات، ويقرمط في السمعيات (1)
__________
(1) كما قرر ذلك شيخ الإسلام في الرسالة التدمرية: (13) ، وفي درء تعارض العقل والنقل: (2/15، 5/138-139) ، والسوفسطائية شرذمة من الفلاسفة ينكرون حقائق الأشياء، ونسبت تلك الفرقة الخبيثة إلى مؤسسها الضال سوفسطا..انظر حال تلك الفرقة في تلبيس إبليس: (39-41) ، ودرء تعارض العقل والنقل: (5/130، 6/106، 7/37، 8/90) والتعريفات: (104-105) فكل من نفى حقائق الأشياء، وجادل بالباطل يقال له سوفسطائي، وأما القرامطة فهم حثالة من الباطنية ينسبون إلى حمدان بن قرمط، يحرفون الكلام عن مواضعه، ويخترعون له تأويلات لا يفهمها إلا أهل الزيغ والضلالات، كتأويلهم الصلوات الخمس بمعرفة أسرارهم، والصيام بكتمان أسرارهم، والحج بزيارة شيوخهم ونحو ذلك مما هو من أعظم أنواع الكفر وأشنعه، كما في درء تعارض العقل والنقل: (5/383) وقرر شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى: (35/139-149) أن القرامطة أعظم كفراً وردة من أتباع مسيلمة الكذاب ونحوه من الكذابين، ولهذا يميز بين قبورهم وقبور المسلمين كما يميز بين قبور المسلمين والكفار، وحكم في: (35/149) على النصيرية وسائر أصناف القرامطة الباطنية بأنهم أكفر من اليهود والنصارى، وضررهم على المسلمين أعظم من ضرر الكفار المحاربين، وهم لا يؤمنون بملة من الملل السالفة بل يأخذون كلام الله ورسوله – صلى الله عليه وسلم – المعروف عند علماء المسلمين فيتأولونه على أمور يفتروتها يدعون أنها علم الباطن وقد أطال الكلام في بيان حالهم فحكم عليهم وعلى النصيرية والدروز في: (35/161) بأنهم كفار باتفاق المسلمين، وإن أظهروا الشهادتين، وكرر هذا في كتبه. انظر درء تعارض العقل والنقل: (5/64، 184، 307، 322، 7/37، 76، 82، 123) وانظر تلبيس إبليس: (104-106) ، وكل من حرف النصوص عن معناها فقد سلك القرامطة والنصيرية الباطنية – عليهم لعنات رب البرية –.(1/306)
– حفظنا الله من البدع المهلكات ومن سائر الرديات، إنه سميع مجيب الدعوات.
تنبيه مهم:
... اعلم – علمني الله وإياك – أنني عندما حكيت مذهب الأشعرية في صفات رب البرية أضفته إلى المتأخرين منهم، لأن الإمام أبا الحسن الأشعري استقر على عقيدة أهل السنة والجماعة، وعلى ذلك كان المتقدمين من أتباعه، وأول من مزج بين ما كان عليه الإمام أبو الحسن الأشعري في أول الأمر وبين ما صار إليه: إمام الحرمين، ثم رجع عن ذلك، ثم تبنى المزج بين قولي أبي الحسن المتقدم والمتأخر الغزالي ثم رجع عن ذلك أيضاً، لكن تلك الأقوال دونت في الكتب ونقلت في البلاد فعكف عليها العباد، وهي أقوال باطلة قد ثبت رجوع أصحابها عنها والله المستعان لا إله غيره ولا رب سواه.(1/307)
.. أما الإمام أبو الحسن فهو على بن إسماعيل الأشعري – عليه رحمة الله تعالى – أقام على مذهب الاعتزال أربعين حولا ً من الأحوال، حتى صار لهم إماماً، في ذلك الضلال ثم رأى النبي – صلى الله عليه وسلم – ثلاث مرات في شهر رمضان يأمره بترك ذلك الهذيان ونصرة سنة النبي – صلى الله عليه وسلم – فلزم الكتاب والسنة، عول على اعتقاد أهل الجنة، ونبذ أوهام ذي الجِنة، ورد على المعتزلة، وجحرهم في أقماع السمسم، قال في كتابه "مقالات الإسلاميين" تحت عنوان: هذه حكاية جملة قول أصحاب الحديث وأهل السنة، جملة ما عليه أهل الحديث والسنة: الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله، وما جاء من عند الله وما رواه الثقات عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لا يردون من ذلك شيئاً، وأن الله – سبحانه وتعالى – إله واحد فرد صمد، لا إله غيره، ولم يتخذ صاحبة ولا ولداً، وأن محمداً عبده ورسوله – صلى الله عليه وسلم – وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأن الله – سبحانه وتعالى – على عرشه كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} طه5، وأن له يدين بلا كيف كما قال: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} ص75، {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} المائدة64، وأن له عينين بلا كيف كما قال: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} القمر14، وأن له وجهاً كما قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} الرحمن27، ثم قال ويصدقون بالأحاديث التي جاءت عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن الله – سبحانه وتعالى – ينزل إلى السماء الدنيا، فيقول: "هل من مستغفر" كما جاء في الحديث عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى أن قال: ويُقِرّون أن الله – سبحانه وتعالى – يجيء يوم القيامة، كما قال: {وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} الفجر22 ثم بعد أن عدد بقية ما عليه أهل السنة والجماعة من أمور الاعتقاد، قال فهذه جملة ما(1/308)
يأمرون به ويستعملونه، ويرونه وبكل ما ذكرنا من قولهم، نقول، وإليه نذهب، وما توفيقنا إلا بالله، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وبه نستعين، وعليه نتوكل، وإليه المصير 10هـ وكذر نحو هذا في كتابه الإبانة عن أصول الديانة (1) .
__________
(1) انظر مقالات الإسلاميين: (1/320-325) ، والإبانة عن أصول الديانة: (8-12) ، ونقل ذلك عن الإمام أبي الحسن ابن عساكر في تبيين كذب المفترى فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري: (152-165) ، وابن العماد الحنبلي في الشذرات: (2/304) ، وانظر ترجمة الإمام أبي الحسن الأشعري – عليه رحمة الله تعالى – في تاريخ بغداد: (11/346-347) ، وفيه قال أبو بكر الصيرفي: كانت المعتزلة قد رفعوا رؤوسهم حتى أظهر الله – جل وعلا – أبا الحسن الأشعري، فجحرهم في أقماع السمسم، وانظر البداية والنهاية: (187، 204) ورجح في المكانين أن وفاته كانت سنة أربع وعشرين وثلاثمائة، لا ثلاثين وثلاثمائة. وانظر طبقات الشافعية الكبرى: (3/347-444) ، والديباج المذهب: (193-195) ، وتذكرة الحافظ: (3/821) ، وشذرات الذهب: (2/303-305) ، وطبقات المفسرين للداودي: (1/396-398) ، ومفاتيح السعادة ومصباح السيادة: (2/152) والنجوم الزاهرة: (3/209) ، ووفيات الأعيان: (3/284-286) ، والفهرست: (181) ، والمنتظم: (6/332-333) ، والأشعري نسبة إلى أشعر وهي قبيلة مشهورة من اليمن، والأشعر هو نبت بن أدد قيل له ذلك لأن أمه ولدته والشعر على بدنه، ومن تلك القبيلة الصحابي الجليل أبو موسى الأشعري – رضي الله تعالى عنه – ومن أولاده الإمام أبو الحسن الأشعري- عليه رحمة الله تعالى – كما في اللباب في تهذيب الأنساب: (1/64) .(1/309)
.. قال الإمام ابن تيمية: وأما الأشعري نفسه وأئمة أصحابه فلم يختلف قولهم في إثبات الصفات الخبرية، وفي الرد على من يتأولها، كمن يقول: "استوى" بمعنى استولى وهذا مذكور في كتبه كلها، كالموجز الكبير، والمقالات الصغيرة والكبيرة، والإبانة وغير ذلك، وهكذا نقل سائر الناس عنه، حتى المتأخرون، كالرازي الآمدي ينقلون عنه إثبات الصفات الخبرية، ولا يحكون عنه في ذلك قولين، فمن قال: إن الأشعري كان ينفيها، وإن له في تأويلها قولين فقد افترى عليه ولكن هذا فعل طائفة من متأخري أصحابه كأبي المعالي ونحوه، فإن هؤلاء أدخلوا في مذهبه أشياء من أصول المعتزلة (1) .
__________
(1) انظر مجموع الفتاوى: (12/203) ، ويصدق هذا النقل المتقدم عن كتابي الإمام أبي الحسن كتاب مقالات الإسلاميين، وكتاب الإبانة فتذكر ولا تغفل.(1/310)
.. وقال الإمام السبكي في طبقات الشافعية: وعقيدة الإمام أبي الحسن الأشعري وعقيدة الإمام أحمد واحدة، لا شك في ذلك ولا ارتياب، وبه صرح الأشعري في تصانيفه، وكرر غير ما مرة: أن عقيدتي هي عقيدة الإمام المبجل أحمد بن حنبل، وهذه عبارة الشيخ أبي الحسن في غير موضع من كلامه (1) .
__________
(1) انظر طبقات الشافعية الكبرى: (4/236) ، وانظر تصريح الإمام أبي الحسن بذلك في كتاب الإبانة: (8) – باب في إبانة قول أهل الحق والسنة – فإن قال لنا قائل: قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة فعرفونا قولكم الذي به تقولون، وديانتكم التي بها تدينون، قيل له: قولنا الذي نقول به، وديانتنا التي ندين بها: المتمسك بكتاب ربنا – عز وجل – وبسنة نبينا – صلى الله عليه وسلم – وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – ونحن معتصمون، وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل – نضر الله وجهه، ورفع درجته، وأجزل مثوبته – قائلون، ولمن خالف قوله مجانبون، لأن الإمام الفاضل، والرئيس الكامل، الذي أبان الله به الحق، ورفع به الضلال، وأوضح به المنهاج، وقمع به بدع المبتدعين، وزيغ الزائغين، وشك الشاكين، فرحمة الله عليه من إمام مقدم، وخليل معظم مفخم، وعلى جميع أئمة المسلمين 10هـ وكتابه الإبانة هو آخر كتاب صنفه، وعليه يعتقد أصحابه في الذب عنه، عند من يطعن عليه، كما في شذرات الذهب: (2/303) .(1/311)
.. وقد تقدم في هذا الكتاب المبارك عند الكلام على ذم علم الكلام نقل أقوال إمام الحرمين، والغزالي، والرازي – عليهم رحمة الله تعالى – في رجوعهم عما ابتدعوه من التأويل، وتحسرهم على ما فلت منهم، وفات من أعمارهم في تقرير تلك الأباطيل، وتعويلهم بعد ذلك على طريقة السلف الأبرار، قال الإمام ابن تيمية – عليه رحمة رب البرية –: أول قولي أبي المعالي تأويل الصفات كما ذكر ذلك في الإرشاد إلى قاطع الأدلة، وآخر قوليه تحريم التأويل ذكر ذلك في الرسالة النظامية، واستدل بإجماع السلف على أن التأويل ليس بسائغ، ولا واجب 1هـ.(1/312)
.. وقد تقدم نقل كلام إمام الحرمين، وهاكه مرة أخرى لأهميته، قال في الرسالة النظامية: وقد اختلف مسالك العلماء في الظواهر التي وردت في الكتاب والسنة، وامتنع على أهل الحق اعتقاد فحواها، وإجراؤها على موجب ما تبدره أفهام أرباب اللسان منها، فرأى بعضهم تأويلها والتزام هذا المنهج في آي الكتاب، وما يصح من سنن الرسول – صلى الله عليه وسلم – وذهب أئمة السلف إلى الانفكاك عن التأويل، وإجراء الظواهر على موارها، وتفويض معانيها إلى الرب – تبارك وتعالى – والذي نرتضيه رأياً، وندين الله به عقلا ً: إتباع سلف الأمة فالأولى الإتباع، وترك الابتداع، والدليل السمعي القاطع في ذلك: أن إجماع الأمة حُجة متبعة وهو مستند معظم الشريعة، وقد درج صحب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ورضي الله تعالى عنهم – على ترك التعرض لمعانيها، ودرك ما فيها، وهم صفوة الإسلام، والمستقلون بأعباء الشريعة، وكانوا لا يألون في ضبط قواعد الملة والتواصي بحفظها، وتعليم الناس ما يحتاجون إليه منها، فلو كان تأويل هذه الآي والظواهر مسوغاً ومحتوماً، لأوشك أن يكون اهتمامهم بها فوق اهتمامهم بفروع الشريعة، وإذا انصرم عصرهم، وعصر التابعين على الإضراب عن التأويل كان ذلك قاطعاً بأنه الوجه المتبع، فحقٌ على ذي دين: أن يعتقد تنزه الباري عن صفات المحدثين، ولا يخوض في تأويل المشكلات، ويكل معناها إلى الرب – تبارك وتعالى – وعد إمام القراء وسيدهم: الوقوف على قوله – تبارك وتعالى –: "وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ " من العزائم، ثم الابتداء بقوله – جل وعلا –: "وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ" أل عمران 7، ومما استحسن من كلام إمام دار الهجرة – رضي الله تعالى عنه – وهو: مالك بن أنس أنه سئل عن قوله – تبارك وتعالى - {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} طه5، فقال: الاستواء معلوم، والكيفية مجهولة، والسؤال عنه بدعة، فلتجر آية الاستواء والمجيء، وقوله:(1/313)
"لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ" ص 75، "وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ" الرحمن 27، وقوله: "تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا" القمر 14، وما صح من أخبار الرسول – صلى الله عليه وسلم – كخبر النزول وغيره على ما ذكرنا (1) .
... وبعد هذه الجولة المباركة في تقرير الأصلين الدالين على صحة طريقة أهل السنة الكرام في إيمانهم بصفات الرحيم الرحمن، فإليك ما يقرر طريقتهم الرشيدة في إيمانهم بصفات ربهم المجيدة، بمثلين مضروبين، ليتضح الحق لذي عينين، وليزول عن القلوب الران والفين.
المثال الأول: ما يكون في الآخرة من نعيم للمؤمنين، وعذاب لعتاة الأرض المفسدين يدل على صحة مذهب أهل السنة الصادقين، في إيمانهم بصفات رب العالمين، ووجه ذلك:
... أن الله – جل وعلا – أخبرنا عما أعد للمؤمنين في جنات النعيم، من أصناف المطاعم والملابس، والمناكح، والمساكن، فأخبرنا أن فيها لبناً وعسلا ً، وخمراً وماءً، ولحكماً وحريراً وفضة وذهباً، وفاكهة حوراً، وأنهاراً وقصوراً.
... وحقائق تلك الأشياء مخالفة لما هو موجود في الدنيا، وليس بينهما مماثلة، مع موافقتها لها في الأسماء، قال ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما –: ليس في الجنة شيء مما في الدنيا إلا الأسماء (2) .
__________
(1) انظر مجموع الفتاوى: (12/203) ، والرسالة النظامية: (32-34) ، وصفحة: (.......-.......) من هذا الكتاب المبارك وانظر أضواء البيان: (7/472-475) ففيه إثبات رجوع الإمام أبي الحسن الأشعري إلى مذهب السلف الصالح، وعقب شيخنا على رجوعه بقوله: وقد رجع أيضاً إلى ما استقر عليه أبو الحسن من مذهب السلف كلٌ من أبي المعالي، وأبي حامد الغزالي، والرازي.
(2) رواه البيهقي موقوفاً بسند جيد كما قال المنذري في الترغيب والترهيب: (4/560) .(1/314)
.. ومن المعلوم لذي العقول والفهوم أن ما في الجنة مخلوق، وما في الدنيا مخلوق، فإذا توافق مخلوقان في الاسم واتحدا في المسمى، ولم يلزم من ذلك التوافق والاتحاد المماثلة في الحقائق والكيفيات، بل بينهما من التباين ما لا يعلمه إلا الله – جل وعلا – فالخالق إن وافق المخلوقات في الأسماء، واتحد معها في المسمى لا يلزم من ذلك مماثلته لمخلوقاته، ولا مشابهته لهم بوجه من الوجوه، بل إن مباينته للمخلوقات أعظم من مباينة المخلوق في الآخرة للمخلوق الموجود في الدنيا، فافهم هذا تسلم وتغنم.
... وإليك بعض النصوص الدالة على المباينة التامة، والبون الشاسع بين النعيم الموجود في الآخرة والنعيم الموجود في الدنيا، ليتضح لك الحق جلياً.(1/315)
.. ثبت في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: "قال الله – تبارك وتعالى –: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر " قال أبو هريرة – رضي الله تعالى عنه – اقرؤوا إن شئتم: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} السجدة17 (1) ،
__________
(1) انظر صحيح البخاري – كتاب بدء الخلق – باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة –: (6/318) وفي كتاب التفسير – سورة السجدة – باب {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} السجدة17: (8/515) وفي كتاب التوحيد: باب 35: (13/465) بشرح ابن حجر في الجميع، وصحيح مسلم – أول كتاب صفة الجنة –: (4/2174) ، وانظره في سنن الترمذي – كتاب التفسير – سورة السجدة –: (8/339) وكتاب التفسير – سورة الواقعة –: (9/34) وسنن ابن ماجه – كتاب الزهد – باب صفة الجنة –: (2/1447) ، وسنن الدارمي – كتاب الرقاق – باب ما أعد الله لعباده الصالحين: (2/335) ، والمسند: (2/313، 438، 466، 495) وفي: (2/506) بلفظ "في الجنة ما لا عين رأت.....إلخ"، وانظره في الدر المنثور: (5/476) لترى من خرجه أيضاً، والحديث رواه مسلم في المكان المتقدم من رواية سهل بن سعد الساعدي – رضي الله تعالى عنه –، وهو في المسند: (5/334) ، والمستدرك: (2/413) كتاب التفسير وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، وأقراه الذهبي، وقد تقدم معك إخراج مسلم له فتنبه، ولفظ هذه الرواية: قال سهل: شهدت من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مجلساً وصف فيه الجنة، حتى انتهى، ثم قال – صلى الله عليه وسلم – في آخر حديثه: "فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر" ثم اقترأ هذه الآية: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} السجدة 16-17، وفي المستدرك بسند صحيح أقره الذهبي في المكان المتقدم ورواه الفريابي وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني كما في الدر: (5/176) عن أبي عبيدة قال: قال عبد الله: إنه مكتوب في التوراة، لقد أعد الله للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع ما لم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر، ولا يعلمه نبي مرسل، ولا ملك مقرب، قال: ونحن نقرأها: " فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ".(1/316)
ومن الطريف الجليل ترجمة المنذري في الترغيب والترهيب لهذا الحديث وما يشبهه بقوله: فصل في أن أعلى ما يخطر على البال أو يجوزه العقل من حسن الصفات المتقدمة فالجنة وأهلها فوق ذلك ومن جملة ذلك النعيم المُعد للمؤمنين أنه لا تبلى ثيابهم، ولا يفنى شبابهم، ونعيمهم دائم في جميع الأوقات، فلا تعتريهم شدة، ولا آفة من الآفات، كما ثبت في صحيح مسلم وغيره عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "من يدخل الجنة ينعم لا يبأس لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه" زاد أحمد والدرامي: "وله في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر (1) ".
... وفي صحيح مسلم وغيره عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة – رضي الله تعالى عنهما – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: "ينادي منادٍ: إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبداً"، فذلك قوله – عز وجل –: {وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (2) } الأعراف43.
__________
(1) انظر صحيح مسلم – كتاب صفة الجنة – باب دوام نعيم أهل الجنة –: (4/2181) ، وسنن الترمذي – كتاب صفة الجنة – باب ما جاء في صفة الجنة ونعيمها –: (7/211) ، وفي باب صفة ثياب أهل الجنة –: (7/220) بنحوه، وانظره في سنن الدارمي – كتاب الرقاق – باب من يدخل الجنة ينعم ولا يبأس –: (2/332) ، وباب في بناء الجنة –: (2/333) ، والمسند: (2/305، 370، 407، 445، 462) .
(2) انظر صحيح مسلم – كتاب الجنة – باب في دوام نعيم أهل الجنة –: (4/2182) ، وسنن الترمذي كتاب التفسير – سورة الزمر –: (8/371) ، وسنن الدارمي – كتاب الرقاق – باب ما يقال لأهل الجنة إذا دخلوها –: (2/334) .(1/317)
.. ويقع تنعم المؤمنين بما في جنة النعيم على أتم وجه، فلا يترتب عليه ما يترتب على نعيم الدنيا من آثار ففي صحيح مسلم وغيره عن جابر بن عبد الله – رضي الله تعالى عنه – قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: "إن أهل الجنة يأكلون فيها، ويشربون، ولا يتفلون ولا يبولون، ولا يتغوطون، ولا يتمخضون قالوا: فما بال الطعام؟ قال: جشاء ورشح كرشح المسك، يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس (1)
__________
(1) انظر صحيح مسلم – كتاب الجنة – باب في صفات الجنة وأهلها –: (4/2180) ، وروى أبو داود في كتاب السنة – باب في الشفاعة –: (5/107) صدر الحديث فقط إلى قوله "يشربون" وانظر الحديث كاملا ً في المسند: (3/316، 349، 354، 364) .
والحديث رواه الإمام أحمد في المسند: (3/367، 371) ، والطبراني في الكبير والأوسط والبزار ورجال أحمد والبزار رجال الصحيح غير ثمامة بن عقبة، وهو ثقة كما في مجمع الزوائد: (10/416) ورواه النسائي أيضاً في السننالكبرى سيند صحيح أيضاً، والحاكم في المستدرك كما في حادي الأرواح: (128) ، والدارمي في سننه – كتاب الرقاق – باب في أهل الجنة ونعيمها –: (2/334) ، وسنده صحيح كما في تعليق الشيخ الأرناؤوط على جامع الأصول: (10/530) ، وابن مبارك في كتاب الزهد: (12هـ) وابن حبان كما في الموارد: (655) عن زيد بن أرقم – رضي الله تعالى عنه – قال: أتى النبي – صلى الله عليه وسلم – رجل من اليهود، فقال: يا أبا القاسم، ألست تزعم أن أهل الجنة يأكلون فيها، ويشربون، وقال لأصحابه: إن أقر لي بهذا خصمته، قال: فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "بلى، والذي نفسي بيده، إن أحدهم ليعطى قوة مائة رجل في المطعم والمشرب، والشهوة والجماع " قال: فقال له اليهودي: فإن الذي يأكل ويشرب تكون له الحاجة، قال: فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "حاجة أحدهم عرق يفيض من جلودهم مثل ريح المسك فإذا البطن قد ضمر" والحديث رواه مسلم في المكان المتقدم، والبخاري في كتاب بدء الخلق – باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة –: (6/318-320) ، وفي كتاب أحاديث الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – باب 1 خلق آدم وذريته: (6/362) بشرح ابن حجر فيهما، ورواه الترمذي في كتاب صفة الجنة – باب ما جاء في صفة أهل الجنة –: (8/218) ، وابن ماجه في كتاب الزهد – باب في صفة الجنة –: (2/1449) ، وأحمد في المسند: (2/232، 253، 316) عن أبي هريرة – رضي الله تعلى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "أول زمرة تلج الجنة صورتهم على صورة القمر ليلة البدر، لا يبصقون فيها، ولا يتمخضون، ولا يتغوطون آنيتهم فيها الذهب، وأمشاطهم من الذهب والفضة، ومجامرهم الألوة – وهي العود – ورشحهم المسك ولكل واحد منهم زوجتان يرى من سوقهما من وراه الحسن من الحسن، لا اختلاف بينهم، ولا تباغض، قلبهم قلب واحد، يسبحون الله بكرة وعشياً"، ورواه الإمام أحمد في المسند: (2/357) عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – بلفظ "أهل الجنة رشحهم المسك، ووقودهم الألوة".(1/318)
".
... وقد ثبت أنهم لا ينامون، فهم في النعيم مستغرقون، وبنعمة الله عليهم فرحون، روى الطبراني في معجمه الأوسط، والبزار ورجال البزار رجال الصحيح عن جابر بن عبد الله – رضي الله تعالى عنه – قال: سئل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقيل: يا رسول الله أينام أهل الجنة؟ فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "النوم أخو الموت، وأهل الجنة لا ينامون (1) "
... وأما نساء أهل الجنة الطاهرات، من المؤمنات الصالحات القانتات، ومن الحور الحسان الخيرات، فقد ورد في وصفهن ما يبهر العقول، ويدعو العقلاء لفعل كل عمل مبرور، وترك كل عمل مرذول ليحظوا بالأنس بهن في جوار العزيز الغفور.
... وتقدم في تخريج الحديث السابق رواية الصحيحين المصرحة بأن لكل من دخل الجنة من المؤمنين ـ زوجتين كريمتين، يرى من مخ سوقهما من الحسن، من وراء اللحم، وفي رواية الطبراني والبزار عن ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه – عن النبي المختار – صلى الله عليه وسلم – قال: "أول زمرة يدخلون الجنة يوم القيامة وجوههم على صورة القمر ليلة البدر، والذين يلونهم كأحسن كوكب دري في السماء، ولكل واحد منهم زوجتان على كل زوجة سبعون حلة يرى مخ ساقها من وراء اللحم، كما يرى الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء (2) ".
__________
(1) انظر مجمع الزوائد – كتاب أهل الجنة – باب أهل الجنة لا ينامون –: (10/415) ورواه نعيم ابن حماد في زيادات الزهد: (79) .
(2) وإسناده صحيح كما في مجمع الزوائد: (10/411) ، والترغيب والترهيب: (4/529) ، وقال: ورواه البيهقي بإسناد حسن وقال الهيثمي: ورواه الطبراني أيضاً من رواية أبي سعيد الخدري، وقي سنده عطية العوفي، والأكثرون على تضعيفه 10هـ ورواية ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه – تشهد له فاعلم.(1/319)
.. وذلك المقدار الذي يكرم به الأبرار لا ينافي حصول ما هو أكثر من تلك الدار، لدخول القليل في العدد الكثير، ولا منافاة بين العددين عند العالم النحرير (1)
__________
(1) وهذا أولى مما قرره ابن حجر في الفتح: (6/352) من أن الزوجتين من نساء الدنيا، وإنما قلت ذلك لورود التصريح بكون الزوجتين من الحور في المسند: (2/345، 507) عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: "للرجل من أهل الجنة زوجتان من الحور العين، على كل واحدة سبعون حلة، يرى مخ ساقها من وراء الثياب".
وما قلته أولى مما ذكره ابن القيم أيضاً في حادي الأرواح: (160) حيث قال: والأحاديث الصحيحة إنما فيها أن لكل منهم زوجتين، وليس في الصحيح زيادة على ذلك، فإن كانت هذه الأحاديث محفوظة – أي المصرحة بالزيادة – فإما أن يراد بها ما لكل واحد من السراري زيادة على الزوجتين ويكونون في ذلك على حسب منازلهم في القلة والكثرة، كالخدم والولدان، وإما أن يراد أنه يعطى قوة من يجامع هذا العدد، ويكون هذا هو المحفوظ، فرواه بعض هؤلاء بالمعنى، فقال: له كذا وكذا زوجة، أو يكون تفاوتهم في عدد النساء بحسب تفاوتهم في الدرجات، ولا ريب أن للمؤمن في الجنة أكثر من اثنتين واستدل على ذلك بخبر أبي موسى – رضي الله تعالى عنه – في الصحيحين وهو مخرج في التعليقة التي تلي هذه التعليقة مباشرة، والتوجيه الأول مردود فقد صحت بذلك الأحاديث ولا يشترك ذكرها في أحد الصحيحين، وكذلك التوجيه الثاني لا يوجد ما يدل عليه وفتح باب التصرف في الرواية من قبل الرواة من غير اضطرار إليه، لا يعول عليه، والتوجيه الثالث مع اعتباره ينقضه قوله: ولا ريب أن للمؤمن في الجنة أكثر من اثنتين، والتحقيق ما قلته: ذِكر القليل لا ينافي الكثير، ثم هم في تلك الكثرة متفاوتون، نسأل الله الكريم أن يجعل لنا من ذلك النصيب الأوفى إنه سميع مجيب.(1/320)
ففي الصحيحين وغيرهما عن أبي موسى الأشعري – رضي الله تعالى عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: "إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة مجوفة، طولها ستون ميلا ً، للمؤمن فيها أهلون، يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضاً (1) ".
... وفي المسند عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "إن أدنى أهل الجنة منزلة، إن له لسبع درجات ـ وهو على السادسة، وفوقه السابعة، وإن له لثلاثمائة خادم، ويغدي عليه ويراح كل يوم بثلاثمائة صفحة – ولا أعلمه إلا قال من ذهب – في كل صفحة لون ليس في الأخرى، وإنه ليلذ أوله كما يلذ آخره، وإنه ليقول: يا رب لو أذنت لي لأطعمت أهل الجنة، وسقيتهم، لم ينقص مما عندي شيئاً، وإن له من الحور العين لاثنتين وسبعين زوجة سوى أزواجه من الدنيا، وإن الواحدة منهن ليأخذ مقعدها قدر ميل من الأرض (2) ".
__________
(1) انظر صحيح مسلم – كتاب الجنة – باب صفة خيام الجنة، وما للمؤمنين فيها من الأهلين: (4/2182) وصحيح البخاري – كتاب بدء الخلق – باب ما جاء في صفة الجنة وأنها ومخلوقة: (6/318) ، وفي كتاب التفسير – سورة الرحمن – باب "حور مقصورات في الخيام": (8/624) بشرح ابن حجر فيهما، وسنن الترمذري – كتاب الجنة – باب ما جاء في صفة غرف الجنة –: (7/213) ، وسنن الدارمي – كتاب الرقاق – باب في خيام الجنة –: (2/336) ، والمسند: (4/400، 411، 419.)
(2) انظر المسند: (2/537) قال الهيثمي في مجمع الزوائد: (10/400) رجاله ثقات على ضعف في بعضهم وفي فتح الباري: (6/325) في سنده شهر بن حوشب، وفيه مقال 1هـ وشهر صدوق وكثير الإرسال والأوهام كما في التقريب: (1/355) ، وللحديث شواهد كثيرة.(1/321)
.. وورد في سنن ابن ماجه عن أبي أمامة – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "ما من أحد يدخله الله الجنة، إلا زوجه الله – عز وجل – ثنتين وسبعين زوجة، ثنتين من الحور العين، وسبعين من ميراثه من أهل النار، ما منهن واحدة إلا ولها قبل شهي، وله ذكر لا ينثني" قال هشام بن خالد شيخ ابن ماجه: من ميراثه من أهل النار يعني رجالا ً دخلوا النار، فورث أهل الجنة نساءهم، كما ورثت امرأة فرعون (1) .
__________
(1) انظر سنن ابن ماجه – كتاب الزهد – باب صفة الجنة –: (2/1452) ، وفي مسند الحديث خالد بن يزيد بن مالك الدمشقي وثقه العجلي، وأبو زرعة الدمشقي، واحمد بن صالح المصري، والجمهور على تضعيفه، وبالغ ابن معين فاتهمه، وقال: بالعراق كتاب ينبغي أن يدفن، وبالشام كتاب ينبغي أن يدفن، فأما الذي بالعراق فكتاب التفسير عن ابن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما –، وأما الذي بالشام فكتاب الديات لخالد بن يزيد لم يرضى أن يكذب على أبيه حتى كذب على أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً – كما في تهذيب التهذيب: (3/126-127) ، وميزان الاعتدال: (1/645) وأورد الحديث في ترجمته وفيه بدل من "سبعين من ميراثه من أهل النار" "سبعين من ميراثه من أهل الجنة" وفي الفتح: (6/325) ""من أهل الدنيا وقال الألفاظ إلى شيء واحد فالنساء من أهل الدنيا، وهن في الجنة، وأزواجهن في النار، لأنهم كفار، والذي حط عليه كلام ابن حجر في التقريب: (1/220) الحكم عليه بالضعف مع كونه فقيهاً، وحكم على الحديث في الفتح: (6/325) بأن سنده ضعيف جداً.
قال عبد الرحيم: ومع ذلك فالرواية تخالف الروايات المحفوظة الثابتة من كون السبعين من الحور العين، وما زاد فمن نساء الدنيا، ففي حديث أبي يعلى كما في الفتح: (6/325) وسكت عنه وذلك يشعر بحسنه كما يعلم من صنيعه عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – مرفوعاً "يدخل الرجل على ثنتين وسبعين زوجة مما ينشيء الله، وزوجتين من ولد آدم" وفي المسند: (4/131) وسنن الترمذي – كتاب الجهاد – باب "من ثواب الشهيد": (5/374) عن المقدام بن معد يكرب – رضي الله تعالى عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: "للشهيد عند الله ست خصال يغفر له في أول دفعة، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر ويوضع على رأسه تاج الوقار، والياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقاربه" قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب وحسنه الشيخ الأرناؤوط في تعليقه على جامع الأصول: (9/504) ، ورواه البزار والطبراني عن عبادة بن الصامت – رضي الله تعالى عنه – ورجال الطبراني ثقات كما في مجمع الزوائد: (5/293) وفي الفتح: (6/16) إسناده حسن، وقد تقدم في التعليقة السابقة رواية المسند المصرحة بأن للرجل اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، سوى أزواجه من الدنيا.
وما ذكره شيخ ابن ماجه هشام بن خالد من أمر امرأة فرعون فقد رواه الطبراني كما في تفسير ابن كثير: (4/390) وابن مردويه كما في الدر المنثور: (6/244) عن بريدة – رضي الله تعالى عنه – قال: في تفسير قول الله – جل وعلا –: {عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً} التحريم5، وعد الله نبيه – صلى الله عليه وسلم – في هذه الآية أن يزوجه بالثيب آسية امرأة فرعون، وبالبكر مريم بنت آل عمران، قال ابن كثير وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة مريم عن ابن عمر – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – قال: جاء جبريل إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فمرت خديجة – رضي الله تعالى عنها – فقال جبريل – عليه السلام –: "إن الله يقرئها السلام، ويبشرها ببيت في الجنة من قصيب، بعيد عن اللهب، لا نصب فيه ولا صخب، من لؤلؤة جوفاء بين بيت مريم بنت عمران، وبيت أسية بنت مزاهم" وروي عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – دخل على خديجة – وهي في الموت – فقال: "يا خديجة إذا لقيت ضرائرك فأقرئهن مني السلام، فقالت يا رسول الله، وهل تزوجت قبلي؟ قلا: لا، ولكن الله زوجني مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وكلثم أخت موسى" على نبينا وعليهم جميعاً الصلاة والسلام، وروي عن أبي أمامة – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "أعلمت أن الله زوجني في الجنة مريم بنت عمران، وكلثم أخت موسى، وآسية امرأة فرعون فقلت: هنيئاً لك يا رسول الله" وروي مرسلا ً عن ابن أبي داود، وقد حكم ابن كثير على جميع تلك الروايات بالضعف.(1/322)
وورد في مسند أبي يعلى عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – وفي معجم الطبراني ومسند البزار عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – قال: قيل يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنفضي إلى نساءنا في الجنة؟ فقال: "إي والذي نفسي بيده، إن الرجل ليفضي في اليوم الواحد إلى مائة عذراء (1) " وفي زوائد نعيم بن حماد على رواية المروزي لكتاب الزهد لابن المبارك: عن كثير بن مرة – رحمه الله تعالى – قال: إن من المزيد في الجنة أن تمر السحابة بأهل الجنة، فتقول: ما تدعون أن أمْطِرَكمْ؟ قال: فلا يدعون بشيء إلا أمطرتهم، قال كثير بن مرة: لئن أشهدني الله ذلك لأقولن أمطرينا جواري مزيناتٍ (2) .
__________
(1) انظر مجمع الزوائد: (10/416، 417) وقال عن رواية أبي يعلى في إسناده زيد بن أبي الحواري وقد وثقه على ضعف، وبقية رجاله ثقات. وقال عن رواية البزار والطبراني في الأوسط والصغير رجالها رجال الصحيح غير محمد بن ثواب وهو ثقة، ونقل عن البزار رواية أخرى عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه –: قال: سئل النبي – صلى الله عليه وسلم – هل يمس أهل الجنة أزواجهم؟ فقال: نعم بذكر لا يمل، وفرج لا يحفي، وشهوة لا تنقطه" وفي الإسناد عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي، وهو ضعيف بغير كذب، وبقية رجاله ثقات 1هـ والرواية السابقة تشهد لهذه وقد حكم بصحتها الضياء المقدس كما في فتح الباري: (6/325) .
(2) انظر زوائد رواية نعيم لكتاب الزهد لابن المبارك: (70) وكثير بن مرة الحمصي ثقة من أئمة التابعين، أدرك سبعين بدرياً كما تهذيب التهذيب: (8/429) .(1/323)
وتلك النساء قد ورد وصفهن عن خاتم الأنبياء – صلى الله عليه وسلم – بما يحرك عزائم الأتقياء للمسارعة في طاعة رب الأرض والسماء ففي صحيح البخاري وغيره عن أنس بن مالك – رضي الله تعالى عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: "لورحة ٌ في سبيل الله، أو غدوة خير من الدنيا وما فيها، ولقاب قوس أحدكم من الجنة أو موضع قيدٍ – يعني سوطه – خيرٌ من الدنيا وما فيها، ولو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت على أهل الأرض لأضاءت ما بينهما، ولملأته ريحاً، ولنصيفها على رأسها – يعني: الخمار – خير من الدنيا وما فيها (1)
__________
(1) انظر صحيح البخاري كتاب الجهاد – باب الحور العين، وصفتهن –: (6/15) ، وكتاب الرقاب – باب صفة الجنة والنار –: (11/418) بشرح ابن حجر فيهما وسنن الترمذي – كتاب فضائل الجهاد – باب ما جاء في فضل الغدو الرواح في سبيل الله –: (5/367) ، والمسند: (3/141، 157، 264) ورواه ابن حبان في صحيحه – موارد الظمآن – كتاب صفة الجنة – باب في نساء أهل الجنة –: (654) ، وقد وهم الهيثمي فأورده في الموارد وهو في صحيح البخاري، ورواه أحمد في المسند: (2/483) عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – وفي معجم الطبراني الأوسط بسند جيد كما في مجمع الزوائد: (10/418) عن أنس بن مالك – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "لو اطلعت امرأة من أهل الجنة إلى الأرض لملأت ما بينهما ريحاً، ولأضاءت ما بينهما، ولتاجها على رأسها خير من الدنيا وما فيها" وفي صحيح ابن حبان – موارد الظمآن – كتاب صفة الجنة – باب في نساء الجنة: (654) ، والمسند: (3/75) ، ومسند أبي يعلى كما في مجمع الزوائد: (10/419) ، وإسنادها حسن عن أبي سعيد الخدري – رضي الله تعالى عنه – عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: "إن الرجل ليتكئ في الجنة سبعين سنة قبل أن يتحول، ثم تأنيه امرأته فتضرب على منكبيه، فينظر وجهه في خدها أصفى من المرآة، وإن أدنى لؤلؤة عليها تضيء ما بين المشرف والمغرب، فتسلم عليه، قال: فيرد السلام، ويسألها من أنت؟ فتقول: أنا من المزيد، وإنه ليكون عليها سبعون ثوباً أدناها مثل النعمان من طوبى، فينفذها ببصره، حتى يرى مخ ساقها من وراء ذلك، وإن عليها من التيجان إن أدنى لؤلؤة منها لتضيء ما بين المشرق والمعرب".(1/324)
" وورد في معجم الطبراني الكبير والأوسط عن أم سلمة – رضي الله تعالى عنها – قالت: قلت: يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أخبرني عن قول الله – عز وجل –: "حور عين"، قال: حور: بيض، عين: ضخام العيون، شفر الحوراء بمنزلة جناح النسور، قلت: يا رسول الله، فأخبرني عن قول الله – عز وجل –: "كأنهن الياقوت والمرجان"، قال: صفاؤهن كصفاء الدر الذي في الأصداف لا تمسه الأيدي، قلت يا رسول الله، فأخبرني عن قول الله – عز وجل – "فيهن خيرات حسان" قال: خيرات الأخلاق حسان الوجوه، قالت: قلت يا رسول الله، فأخبرني عن قوله – عز وجل –: "كأنهن بيض مكنون" قال: رقتهن كرقة الجلد الذي في داخل البيضة مما يلي القشرة، قلت: يا رسول الله، فأخبرني عن قوله – عز وجل –: "عرباُ أتراباً" قال: هن اللاتي قبضن في دار الدنيا عجائز رمصاً شمطاً، وخلقهن الله بعد الكبر فجعلهن عذارى، قال: عرباً: متعشقات متحببات، أترابا: على ميلاد واحد، قالت: قلت يا رسول الله، أنساء الدنيا أفضل أم الحور العين؟ قال: بل نساء الدنيا أفضل من الحور العين كفضل الظهارة على البطانة، قلت: يا رسول الله، وبم ذلك؟ قال: بصلاتهن، وصيامهن، وعبادتهن لله – عز وجل –، أليس الله – عز وجل – وجوههن النور، وأجسادهن الحرير، بيض الألوان، خضر الثياب، صفر الحلي، مجامرهن الدر، وأمشاطهن الذهب، يقلن:
ألا ونحن الخالدات فلا نَموتُ أبدا ... ألا ونحن الناعمات فلا نبأس أبدا
جج ... ج
ألا ونحن المقيمات فلا نَظعنْ أبدا ... ألا ونحن الراضيات فلا نسخط أبدا
طوبى لمن كنا له وكان لنا(1/325)
قلت: يا رسول الله، المرأة تتزوج الزوجين والثلاثة والأربعة في الدنيا، ثم تموت، فتدخل الجنة، ويدخلون معها، من يكون زوجها منهم؟ قال: يا أم سلمة، إنها تخير، فتختار أحسنهم خلقاً، فتقول: أيْ رب إن هذا كان أحسنهم خلقاً في دار الدنيا فزوجنيه، يا أم سلمة، ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والآخرة (1) .
__________
(1) انظر مجمع الزوائد: (7/119، 10/417-418) ، وفي سند الزوايتين سليمان بن أبي كريمة وهو ضعيف، ضعفه أبو حاتم وابن عدي 10هـ وقال الذهبي في الميزان: (2/221-222) ضعفه أبو حاتم، وقال ابن عدي: عامة أحادثه مناكير، ولم أر للمتقدمين فيه كلاماً، ثم أورد هذا الحديث في ترجمته، وقال: لا يعرف إلا بهذا السند، وفي لسان الميزان: (3/102) قال العقيلي بعد أن أورد له هذا الحديث: لا يتابع عليه، ولا يعرف إلا به 10هـ وذكره المنذري في الترغيب والترهيب: (4/537 مضعفاً له، قال عبد الرحيم: وإنما ذكرت هذا الحديث لأن معناه صحيح تشهد لغة العرب لما فيه من تفسير، وتدل نصوص الشرع على ما فيه من تبشير، ومثل هذا الحديث يتسامح بروايته في مثل هذه المواطن، وغناء الحوريات، والنساء التقيات ثابت عن خير البريات – صلى الله عليه وسلم – ففي معجمي الطبراني والصغير والأوسط بسند رجاله الصحيح كما في مجمع الزوائد: 10/419 والترغيب والترهيب: (4/538) عن ابن عمر – رضي الله تعالى عنهما – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "إن أزواج أهل الجنة ليغنين أزواجهن بأحسن أصوات سمعها أحد قط، وإن مما يغنين به:
نحنُ الخيراتُ الحِسان ... أزواجُ قوم ٍ إكِرام
ينظرون بقرّة أعيان
وإن مما يغنين به:
نحن الخالدات فلا نمتنه ... نحن الآمنات فلا نخفنه
نحن المقيمات فلا نظعنه(1/326)
وبالجملة فحال الجنة فوق ما يخطر ببالنا، أو يدور في خيالنا، كما في سنن ابن ماجه، وصحيح ابن حبان وغيرهما عن أسامة بن زيد – رضي الله تعالى عنهما – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ذات يوم لأصحابه: "ألا مُشَمِرٌ للجنة؟ فإن الجنة لا خطر لها، هي ورب الكعبة نور يتلألأ، وريحانة تهتز، وقصر مشيد، ونهر مطرد، وفاكهة كثيرة نضيجة، وزوجة حسناء جميلة، وحلل كثيرة، في مقام أبداً، في حبرة ونضرة، وفي دور عالية بهية، قالوا: نحن المشمرون لها يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: قولوا: إن شاء الله، ثم ذكر الجهاد وحض عليه (1) .
ومن أراد مزيد بيان لما يكون في دار الجنان، فعليه بمطالعة كتاب شيخ الإسلام ابن القيم الجوزية – عليه رحمة رب البرية –: "حادي الأرواح في بلاد الأفراح".
__________
(1) انظر سنن ابن ماجه – كتاب الزهد – باب صفة الجنة –: (2/1448) ، وصحيح ابن حبان – موارد الظمآن – كتاب صفة الجنة – باب فيما في الجنة من الخيرات: (651) وعزاه إليهما الحافظ العراقي في المغني عن حمل الأسفار في الأسفار: (4/526) ، وقال الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب: (4/514، 515) ورواه ابن أبي الدنيا، والبزار، والبيهقي 1هـ والحديث في سنده الضحاك المَعافِري بفتح الميم المهملة، وكسر الفاء مقبلو كما في التقريب: (37491) ، وفي الميزان: (1/327) لا يعرف ما روي عنه سوى محمد بن مهاجر الأنصاري وذكره حبان في ثقاته 10هـ وقال المنذري في الترغيب والترهيب: (4/515) لم أفق فيه على جرح ولا تعديل لغير ابن حبان، بل هو في عداد المجهولين.(1/327)
وكل ما ورد من أخبار عما ينعم به الأبرار في دار القرار في جوار العزيز الغفار، مخالف لما هو موجود في هذه الدار، كيفية وماهية، مع اتفاقهما في الاسم، واتحادهما في المسمى وكل منهما مخلوق، وذلك لأن الاتحاد والاتفاق في حالة الإطلاق ولكل منهما عن التقييد معنى يخصه فأنى ثم أنى تكون صفات رب العالمين كصفات المخلوق من طين إذا حصل بينهما اشتراك في الاسم، واتفاق في المسمى في حالة الإطلاق، والتجريد عن التقييد؟ نعوذ بالله من سوء الفهم، وانطماس البصيرة، ونسأله – جل وعلا – ذكاء العقل وزكاء السريرة، فهو حسبنا وهادينا ونعمه علينا كثيرة وفيرة.(1/328)
وإذا كان ما في الجنة الباقية يباين ما في الدنيا الفانية مباينة تامة كاملة، مع اتفاقهما في الاسم، واتحادهما في المسمى، فإن ما في النار يباين أيضاً ما في هذه الدار، مع اشتراك ما فيهما في الاسم، واتحادهما في المسمى، ولن أفيض في بيان ذلك، إنما سأقتصر على مقال فقط مما هنالك، ورد عن عبد الله بن مسعود – رضي الله تعالى عنه – بإسناد صحيح في تفسير قول الله – جل وعلا –: {الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ} النحل88، أنه قال: زيدوا عقارب أنيابها كالنخل الطِوال (1) .
__________
(1) انظره في المستدرك – كتاب التفسير، وكتاب الأهوال: (2/356، 4/594) ، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وأقره الذهبي، ورواه الطبراني بسند رجاله رجال الصحيح كما في مجمع الزوائد: (7/48، 10/390) ، ورواه أيضاً أبو يعلى كما في المطالب العالية: (3/348) ، والترغيب والترهيب: (4/476) ، وانظره في تفسير ابن جرير: (14/107) وزاد السيوطي في الدر: (4/127) نسبة تخريجه إلى عبد الرزاق، والفرياني، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة وهناد بن السري، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في البعث والنشور.(1/329)
وفي المسند وغيره بسند حسن عن عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "إن في النار حيات كأمثال أعناق البُخت تلسع إحداهن اللسعة فيجد حموتها أربعين خريفاً، وإن في النار عقارب كأمثال البغال الموكفة تلسع إحداهن اللسعة فيجد حموتها أربعين خريفاً (1)
__________
(1) انظر المسند: (4/191) قال الهيثمي في مجمع الزوائد: (10/390) ورواه الطبراني، وفيه جماعة وثقوا، شطر الحديث الأول رواه الحاكم في المستدرك – كتاب الأهوال –: (4/593) ، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأقره الذهبي، ورواه ابن حبان في صحيحه – موارد الظمآن البعث – باب في صفة جهنم –: (649) عزاه المنذري في الترغيب والترهيب: (4/476) لهؤلاء الأربعة ومعنى "البخت" الإبل كما في مختار الصحاح: (54) "بخت"، ومعنى "الموكفة" التي عليها إكاف، وهو ما يوضع على ظهر الحمار والبغل، كما يوضع السرج على الفرس، انظر مختار الصحاح: (760) "وكف"، وتلك العقوبة العظيمة ليست خاصة بالكفار، إنما تشمل جميع الأشرار كما دلت على ذلك صحاح الآثار، ففي المسند: (5/300) ، ومعجم الطبراني الكبير والأوسط، كما في المجمع: (6/258) ، والترغيب والترهيب: (3/279) بسند حسن عن أبي قتادة – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "من قعد على فراش مُغيبة قيض الله له يوم القيامة ثعباناً"، والمغيبة بضم الميم، وكسر الغين، وبسكونها أيضاً مع كسر الياء: هي التي غاب عنها زوجها، كما في الترغيب والترهيب، وروى الطبراني بسند رجاله ثقات كما في مجمع الزوائد: (6/258) والترغيب والترهيب: (3/279) ، والخرائطي في مساوئ الأخلاق كما في الجامع الكبير: (1/738) عن عبد الله بن عمرو – رضي الله تعالى عنهما – رفع الحديث، قال: "مثل الذي يجلس على فراش المغيبة مثل الذي ينهشه أسود من أساود يوم القيامة" والأساود: الحيات، واحدة: أسود كما في الترغيب والترهيب.(1/330)
".
ومن المعلوم لكل ذي حِجا أن تلك الحيات والعقارب تشارك حيات الدنيا وعقاربها في الاسم، وتماثلها في المسمى وهي مع ذلك تختلف عنها في الكيفية والماهية، فحجم حيات الآخرة وعقاربها يختلف عن حجم حيات الدنيا وعقاربها، وهكذا تختلف عنها أيضاً في مقدار سمها وشدة ضررها، كما تختلف عنها في ماهيتها وحقيقتها، فهي تؤذي أهل النار بسمها، ولا تتأذى هي بحرها، فلا وجود لذلك التماثل والاتفاق إلا في حالة الإطلاق، وعند التقييد والتخصيص ينفرد كل منهما عن الآخر بما يناسبه من معنى، ويتميز عنه بذلك وإذا كان هذا ثابتاً بين المخلوقات فثبوته أشد وأعظم فيما بين الخالق والمخلوقات، وله المثل الأعلى في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم، كما قال ربنا في سورة الروم 27 وفي سورة النحل 60: {وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .(1/331)
ولما لم يدرك المشركون ذلك الفرق الفارق بين الصفات والمسميات لركة عقولهم، وانطماس بصيرتهم، وشططتهم وعتوهم، أثاروا لغطأً وضجيجاً، حول ما أنزله الله ليكون لهم هداية وتسديداً قال الله – جل وعلا –: {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً} الإسراء60 ثبت في صحيح البخاري وغيره عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – قال: " وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ" هي رؤيا عين أريها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ليلة أسرى به " وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ" هي شجرة الزقوم (1) .
__________
(1) انظر صحيح البخاري – كتاب التفسير – سورة الإسراء – باب وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس: (8/398) ، وفي كتاب مناقب الأنصار – باب المعراج –: (7/203) بشرح ابن حجر فيهما وسنن الترمذي – كتاب التفسير – سورة بني إسرائيل: (8/288-289) ، ونحوه في المسند: (1/374) وانظر الأثر في المستدرك – كتاب التفسير –: (2/362-363) ، وقال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري، وأقره الذهبي، وقد تقدمت رواية البخاري له فتنبه، وانظره في تفسير ابن جرير: (15/76) ورواه أيضاً عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، والنسائي في الكبرى، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه، والبيهقي في دلائل النبوة كما في الدر المنثور: (4/191) .(1/332)
ووجه ذلك الاختبار أن المشركين ضجوا، وبالسفاهة عجوا، ونكصوا على أعقابهم وارتدوا فقالوا: كيف يذهب محمد – صلى الله عليه وسلم – إلى بيت المقدس، ويرجع ببعض ليلة؟ وكيف تكون الشجرة في النار، ولا تحترق؟ والنار تحرق الأشجار، فكيف تنبتها؟ قال ربنا – جل وعلا – في سورة الصافات بعد بيان نعيم المؤمنين في الجنات: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ} الصافات 62-66 روى ابن جرير وغيره عن قتادة – رحمهم الله تعالى – قال: لما ذكر الله – جل وعلا – شجرة الزقوم، افتتن الظلمة – أبو جهل وأصحابه – فقالوا: ينبئكم صاحبكم هذا أن في النار شجرة، والنار تأكل الشجر، فأنزل الله – جل وعلا – ما تسمعون: " إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ" غُُذيت بالنار، ومنها خلقت (1) ،
__________
(1) انظر تفسير ابن جرير: (23/41) ، ورواه عنه عبد بن حميد، وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور: (5/277) قال الإمام ابن كثير في تفسيره: (4/10) ، ومعنى الآية: إنما أخبرناك يا محمد – صلى الله عليه وسلم – بشجرة الزقوم اختباراً نختبر به الناس منهم ممن يكذب، ونحوه فيزاد المسير: (7/62-63، 5/55) ، والسراج المنير: (3/379) ، ومفاتيح الغيب: (26/141-142) ، وفي تفسير ابن جرير: (23/41) وعبد بن حميد كما في الدر: (5/277) عن مجاهد: قال أبو جهل الزقوم: التمرد الزيد أتزقمه، فأنزل الله – جل وعلا – في سورة الدخان: (43-46) : {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} قال الألوسي في روح المعاني: (23/95) قال أبو جهل ما قال استخفافاً بأمرها لا إنكاراً للمدلول اللغوي، وقول أبي جهل العاتي منقول أيضاً عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – قال: لما ذكر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – شجرة الزقوم تخويفاً لهم، قال أبو جهل....إلخ روى ذلك ابن إسحاق وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في البعث كما في الدر المنثور: (4/191) .(1/333)
فهل يريد المعطلة الأرزال، أن يضارعوا المشركين الأسافل لأن توهم مماثلة صفات رب العالمين، لما هو معروف في المخلوقين الناقصين، مسلك المشركين الضالين، في الزمن القديم، وفيما بعده من الأحايين، قال الإمام القرطبي – عليه رحمة الله تعالى –: وكان هذا القول منهم جهلا ً، إذ لا يستحيل في العقل أني خلق الله في النار شجراً من جنسها لا تأكله النار، كما يخلق الله فيها الأغلال، والقيود والحيات والعقارب، وخزنة النار، وقيل: هذا الاستبعاد الذي وقع للكفار هو الذي وقع الآن للملحدة، حتى جملوا الجنة والنار على نعيم أو عقاب تتخلله الأرواح، وحملوا وزن الأعمال والصراط، واللوح والقلم على معان زوروها في أنفسهم، دون ما فهمه المسلمون من موارد الشرع (1) .
قال عبد الرحيم – غفر الله له ذنوبه أجمعين –: شجرة الزقوم لأهل الجحيم، كشجرة طوبى لأهل النعيم، والفرق بين الشجرتين، كالفرق بين الدارين، وإليك بعض ما ورد في وصفها مَنّ الله الكريم علينا، بالتمتع بها والأكل من ثمرها، إنه سميع الدعاء.
__________
(1) انظر تفسير القرطبي: (15/86) ، وتقدم في هذا الكتاب المبارك النقل عن الفاضل ابن النفيس في صفحة (.....) أنه لا يوجد إلا مذهبان مذهب أهل الحديث، ومذهب الفلاسفة التعيس.(1/334)
ثبت في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة، وأبي سعيد الخدري، وسهل بن سعد الساعدي – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – أن نبينا الأمين – صلى الله عليه وسلم – قال: "إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها، واقرؤوا إن شئتم" {وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ} الواقعة30 (1) .
__________
(1) انظر رواية أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – في كتاب بدء الخلق – باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة: (7/319) ، وكتاب التفسير – سورة الواقعة – باب "وظل ممدود": (8/627) ، بشرح ابن حجر فيهما، وصحيح مسلم – كتاب الجنة وصفة نعيمها – باب إن في الجنة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها –: (4/2175) ، وسنن الترمذي – كتاب التفسير – سورة الوقعة –: (9/34) وأول كتاب صفة الجنة: (7/209) ، وسنن ابن ماجه – كتاب الزهد – باب صفة الجنة: (2/1450) ، وسنن الدارمي – كتاب الرقاق – باب في أشجار الجنة –: (2/338) ، والمسند: (2/257، 404، 418، 438، 452) ، وفي: (455) بلفظ "سبعين أو مائة"، وفي: (462، 30469/164،ن 185) ورواه الطبراني في تفسيره: (27/105) ، وعبد الرزاق وابن أبي شيبة، وهناد بن حميد، وابن المنذر وابن مردويه في الدر: (6/175) ،وأما رواية أبي سعيد الخدري – رضي الله تعالى عنه – فرواها البخاري في كتاب الرقاق – باب صفة الجنة والنار –: (11/416) ، وكتاب الرقاق – باب صفة الجنة والنار: (11/416) بشرح ابن حجر ورواها مسلم في المكان المتقدم، والترمذي في كتاب صفة الجنة – باب ما جاء في صفة شجر الجنة –: (7/209) ، وابن مردويه كما في الدر: (6/157) وأما رواية سهل بن سعد – رضي الله تعالى عنه – فرواها البخاري – في كتاب الرقاق – باب صفة الجنة والنار –: (11/415) بشرح ابن حجر، ورواها مسلم في صحيحه في المكان المتقدم، والحديث رواه الترمذي عن رواية أنس – رضي الله تعالى عنه – في كتاب التفسير – سورة الواقعة –: (9/34-35) ،وقال: هذا حديث حسن صحيح، قال الشيخ الأرناؤوط في تعليقه على جامع الأصول: (10/501) ، وهو كما قال وانظره في المسند: (3/110، 135، 164، 185، 207، 234) ، وتفسير الطبري: (27/105، 106) وروى نحوه الترمذي في كتاب صفة الجنة – باب ما جاء في صفة ثمار أهل الجنة –: (7/220) عن أسماء بنت أبي بكر – رضي الله تعالى عنهما – وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب وفي بعض النسخ: هذا حديث حسن غريب، قال الشيخ الأرناؤوط في تعليقه على جامع الأصول: (10/503) وهو حديث حسن.(1/335)
وتلك الشجرة هي شجرة طوبى كما نقل ذلك الإمام ابن حجر عن الإمام ابن الجوزي – عليهم رحمة الله تعالى – وارتضى ذلك، واستشهد عليه وقواه، وفي القرآن الكريم: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} الرعد29، قال ابن عباس وأبو هريرة – رضي الله تعالى عنهم – طوبى اسم شجرة في الجنة. زاد أبو هريرة – رضي الله تعالى عنه –: يقول الله لها: تفتقي لعبدي عما شاء فتتفتق له عن الخيل بسروجها ولُجُمِها، وعن الإبل برحالها وأزمتها، وعما شاء من الكسوة (1) .
__________
(1) انظر فتح الباري: (7/326) ، وانظر أثري ابن عباس وأبي هريرة – رضي الله تعالى عنهم – في تفسير الطبري: (13/99) ، وروى الأثر عن ابن عباس أيضاً ابن المنذر، وأبو الشيخ، ورواه عن أبي هريرة عبد الرزاق، وابن أبي الدنيا في صفة الجنة، وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور: (4/59.)(1/336)
وفي المسند، ومعجم الطبراني الكبير والأوسط عن عتبة بن عبد السلمي – رضي الله تعالى عنه – قال: جاء أعرابي إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – فسأله عن الحوض، وذكر الجنة ثم قال الأعرابي فيها فاكهة؟ قال: "نعم، وفيها شجرة تدعى طوبى، قال: أي شجر أرضنا تشبه؟ قال: ليست تشبيه شيئاً من شجر أرضك، ولكن أتيت الشام؟ قال: لا يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: فإنها تُشبه شجرة بالشام، تدعى "الجَوْزة" تنبت على ساق واحد، وينفرش أعلاها، قال: فما عِظم أصلها؟ قال: لو ارتحلت جذعة من إبل أهلك ما أحاطت بأصلها حتى تنكسر ترقوتها هرماً، قال: فيها عنب؟ قال: نعم، قال: فما عظم العنقود فيها؟ قال: مسيرة شهر للغراب الأبقع لا ينثني ولا يفتر، قال: فما عظم الحبة منه؟ قال: هل ذبح أبوك تيساً من غنمه عظيماً؟ قال: نعم، قال: فسلخ إهابه فأعطاه أمك، فقال: ادبغي هذا، ثم افري لنا منه ذنوباً يروي ما شيتنا؟ قال: نعم، قال: فإن تلك الحبة لتشبعني وأهل بيتي، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم –: وعامة عشيرتك (1) .
__________
(1) انظر المسند: (4/183) ، ورواية الطبراني في الأوسط والكبير في مجمع الزوائد: (10/413-414) وقال: فيه عامر بن زيد البكالي، وقد ذكره ابن أبي حاتم، ولم يخرجاه، ولم يوثقه، وبقية رجاله ثقات وانظره في تفسير الطبري: (13/100-101) ، وصحيح ابن حبان – موارد الظمآن – كتاب صفة الجنة – باب شجر الجنة: (652-653) ، وعزاه المنذري في الترغيب والترهيب: (4/521) للبيهقي أيضاً وصنيعه يقضي بحسن الحديث عنده، والحديث رواه ابن أبي حاتم، وابن مردويه أيضاً كما في الدر المنثور: (4/59) ، ورواه الثعلبي أيضاً في تفسير كما في تفسير القرطبي: (9/317) ،وقال القرطبي وهي حديث صحيح على ما ذكره السهيلي، ذكره أبو عمر في التمهيد، ومنه نقلناه 10هـ واستشهد به الحافظ في الفتح: (7/326) ,صنيعه يقضي بحسنه، كما أفصح عن ذلك في مقدمته: (4) ومعنى قوله: "افري لنا ذنوبا" أي شقي، واصنعي، والذنوب بفتح الذال المعجمة: الدلو، وقيل: لا تسمى ذنوباً إلا إذا كانت ملأى، أو دون الملأى كما في الترغيب والترهيب: (4/522) .(1/337)
وفي مسند الإمامين أحمد وأبي يعلى عن أبي سعيد الخدري – رضي الله تعالى عنه – أن رجلا ً قال للنبي – صلى الله عليه وسلم –: يا رسول الله، طوبى لمن رآك، وآمن بك، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم –: "طوبى لمن رآني وآمن بي، ثم طوبى، ثم طوبى، ثم طوبى لمن آمن بي ولم يرني" فقال له الرجل: وما طوبى؟ قال: "شجرة في الجنة مسيرة مائة عام، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها (1)
__________
(1) انظر المسند: (3/71) ، ورواية أبي يعلى في مجمع الزوائد: (10/67) ، وانظره في صحيح ابن حبان موارد الظمآن – كتاب المناقب – باب فيمن آمن بالنبي – صلى الله عليه وسلم – ورآه، من آمن به ولم يره: (573) ، وتفسير ابن جرير: (13/101) ، وتاريخ بغداد: (4/91) ورواه ابن أبي حاتم، وابن مردويه أيضاً كما في الدر المنثور: (4/59) ، والجامع الكبير: (1/567) .
والحديث رواه الطبري في تفسيره: (13/101) عن معاوية بن قرة عن أبيه – رضي الله تعالى عنهما – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "طوبى هلم وحسن مآب" شجرة غرسها الله بيده ونفخ فيها من روحه بالحُلى والحُلل، وإن أغصانها لترى من رواء سور الجنة" وانظر آثار كثيرة تشبه هذا في الدر المنثور: () 4/58-62، وتفسير ابن جرير: (13/99-101) .
وقد ورد التصريح بكون ثياب أهل الجنة تنشق عنها ثمار الجنة، وتخرج من أكمامها في أحاديث كثيرة، منها ما في مسند البزار بسند رجاله ثقات كما في مجمع الزوائد: عن عبد الله بن عمر – رضي الله تعالى عنهما – قام رجل فقال: يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أخبرنا عن ثياب أهل الجنة، أخلق يخلق، أن نسيج ينسج؟ فضحك بعض القوم، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – "مم تضحكون، من جاهل يسأل عالماً؟ أين السائل؟ قال: أنا ذا يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: تنشق عنها ثمار الجنة"، وروى نحوه أبو يعلى، والبزار، والطبراني في الصغير والأوسط، وعن جابر – رضي الله تعالى عنهما – وإسناد أبي يعلى والطبراني رجاله رجال الصحيح غير مجالد بن سعيد وقد وثق كما في مجمع الزوائد: (10/415) وفيه: أن السائل أعرابي، وقال: ثيابنا في الجنة ننسجها بأيدينا......إلخ.(1/338)
".
قال كاتب هذه الأسطر – ستره الله في الدنيا والآخرة –: تفسير النبي – صلى الله عليه وسلم – لطوبى بأنها شجرة في الجنة من باب تفسير اللفظ بأشهر أفراده، وأجود أنواعه، وذلك لا يمنع من حصول خيرات لهم يسرون بها غير ما ينالون من تلك الشجرة المباركة، لأن لفظ "طوبى" مصدر من طاب كبشرى وزلفى، وذلك شامل لما يناله من عيش طيب، وتحصيل كرامة، وإصابة خير، وقرة عين، فدخل في ذلك تنعيمهم بتلك الشجرة الطيبة بسائر ما يحصلونه من الطيبات، هذا أولى من قول الإمام القرطبي – عليه رحمة الله تعالى –: "حيث قال: والصحيح أنها شجرة، للحديث المرفوع الذي ذكرناه 10هـ لأنه لا منافاة بين القولين، بل تفسير "طوبى" بمعناها في اللسان العربي يشمل ما ثبت عن هادينا النبي – صلى الله عليه وسلم –، وذلك التفسير أشمل وأجمع، وأوسع وأنفع (1) .
__________
(1) انظر تفسير القرطبي: (9/317) ، وإلى نحوه ما ذكرت مال الرازي في تفسيره: (19/50) ، وهذه المسألة نظير ما ثبت في صحيح البخاري – كتاب التفسير – سورة "إنا أعطيناك الكوثر": (8/731) بشرح ابن حجر، وتفسير الطبري: (30/208) ، والمستدرك – كتاب التفسير –: (2/537) ،وقال هذا: حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، وتقدم إخراج البخاري له فتذكر..عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنه – أنه قال في "الكوثر": هو الخير الكثير، الذي أعطاه الله إياه، قال أبو بشر، فقلت لسعيد بن جبير: فإن ناساً يزعمون أنه نهر في الجنة، فقال سعيد: النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه – صلى الله عليه وسلم – قال الإمام ابن كثير في تفسيره: (4/558) ،وهذا التفسير يعني النهر وغيره، لأن الكوثر من الكثرة، وهو الخير الكثير، ومن ذلك النهر 1هـ وما ذكره الإمام ابن كثير أولى من قول الحافظ في الفتح: (8/732) ، ولعل سعيداً أومأ إلى أن تأويل ابن عباس أولى لعمومه، لكن ثبت تخصيصه بالنهر من لفظ النبي – صلى الله عليه وسلم – فلا معدل عنه 10هـ نعم لا معدل لما ثبت عن النبي – صلى الله عليه وسلم – ولا يجوز إخراج ذلك المعنى من لفظ "الكوثر" بحال، وليس في شمول لفظ "الكوثر" للنهر وغيره عدول عن تفسير النبي – صلى الله عليه وسلم – وكلما أمكن تكثير المعاني، وحمل الألفاظ عليها فهو أولى، ولا ينبغي العدول عنه، والله أعلم.(1/339)
وصفوة المقال: إن شجرة الزقوم التي تخرج في أصل الجحيم، اتفقت في مسمى الشجرة مع شجرة طوبى المعدة للأبرار، والتباين بينهما كالتباين الحاصل بين دار الأبرار، ودار الفجار والأشرار والتباين أيضاً بين ما في الآخرة من نعيم للمؤمنين، وجحيم للكافرين، وبين ما هو موجود في الحياة الدنيا كالتباين بين الدارين، ولا يعلم حقيقته إلا رب الكونين، وليس بين تلك المسميات اتفاق إلى في الأسماء، فالمباينة بين صفات المخلوقين الضعفاء، وبين صفات رب الأرض والسماء، أعظم بلا امتراء، فقبحاً ثم قبحاً لعقول المعطلة، وتباً ثم تباً لتلك العقول السافلة، حيث لم تفهم من صفات الله الجليل، إلا التمثيل بالمخلوق الحقير، تعالى عن ذلك ربنا العلي الكبير: {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} الحج74، {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} الزمر67.
وقد كان الناس صنفان، نحو صفات الرحمن، ونحو ما يكون في الآخرة من عذاب وإكرام أهل السنة الكرام: يثبتون الأمرين على حقيقتهما كما أخبر الرحمن، ولا يتوهمون كيفية في الأذهان، ويثبتون المباينة بينهما وبين ما هو معروف للإنسان.
فلا سفة زنادقة، وباطنية من دين الله مارقة، ينفون الأمرين كليهما، ويحملون النصوص الواردة فيهما، على التلبيس والتخييل، والتمويه والتضليل، والرمز والتزوير – فعليهم لعنة الله الجليل.(1/340)
ثم نبت صنف ثالث، وهم أهل الكلام، فركبوا مذهباً جديداً جمعوا به بين الكفر والإيمان حيث أثبتوا ما يكون في الآخرة من عذاب وإحسان، وقالوا: إن ذلك حقيقة على غير ما يتوهمه الإنسان، وهذا خلاف ما قرره الفلاسفة أتباع الشيطان، وهو قول أهل السنة الكرام، لكنهم أركسوا بعد ذلك في الهذيان، فحرفوا الكلام عن مواضعه في صفات ربنا الرحمن، فحملوها على الكنايات والرمز ومنكر الأوهام، وهذا خلاف قول أهل الإيمان، وهو قول الفلاسفة اللئام.
وبذنيك المسلكين كانوا متناقضين، وبين حزب الإيمان وحزب الشيطان مذبذبين ـ وترتب على قولهم نصرة مذهب الفلاسفة الملعونين، لأنه إذا جاز صرف الكلام عن ظاهره في صفات رب العالمين، حسبما يتخرص بعض المتوهمين، فيجوز أيضاً صرف الكلام عن ظاهره في إخبار رب العالمين، عما يكون في الآخرة من نعيم للمؤمنين، وجحيم للعتاة الطاغين (1) . نسأل الله الكريم إيمان الراسخين، والتمتع بالنظر إلى وجهه الكريم، مع عباده المتقين في عليين، آمين أمين والحمد لله رب العالمين.
المثال الثاني: "الروح":
... وجود الروح في الإنسان، يدل على صحة طريقة أهل السنة، في إيمانهم بصفات ربهم ذي الجلال والإكرام، ووجه ذلك: أن الروح موصوفة بصفات، توافق الأجسام المشاهدات، ومع ذلك فلا تماثل بين صفات الأرواح، وصفات الأشباح (2) ، وبينهما من البون، ما لا يعلمه إلا رب الكونين، وعقول العباد عاجزة عن تكييف الروح، وقاصرة عن تحديدها، لأنهم لم يشاهدوها ولم يشاهدوا لها نظيراً، وحقيقة الشيء لا تدرك إلا بمشاهدته، أو بمشاهدة نظيره.
__________
(1) انظر إيضاح هذا في رسالة التدمرية: (32-34) وصفحة: (......) من هذا الكتاب المبارك.
(2) الشبح بفتحتين: الشخص، وقد تسكن باؤه، كما في مختار الصحاح: (349) "شبح".(1/341)
.. ومن المعلوم لذي العقول والفهوم أن الروح ليست من جنس هذا البدن، ولا من جنس عناصر المخلوقات من التراب والماء، والنار والهواء، ولا من المولدات من تلك العناصر، بل هي من جنس آخر مخالف لهذه الأجناس، فهي مما استأثر بعلمه رب الناس، كما قال ربنا – جل وعلا – {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} الإسراء85، ثبت في الصحيحين وغيرهما عن عبد الله بن مسعود – رضي الله تعالى عنه – قال: بينما أنا أمشي مع النبي – صلى الله عليه وسلم – في خِرَبِ المدينة – وهو يتوكأ على عسيب معه – فمر بنفر من اليهود فقال بعضهم: سلوه عن الروح، وقال بعضهم: لا تسألوه، لا يجيء فيه بشيء تكرهونه، فقال بعضهم: لنسألنه، فقام رجل منهم، فقال: يا أبا القاسم – صلى الله عليه وسلم – ما الروح؟ فسكت بعلمت أنه يوحى إليه، فقمت من مقامي، فلما نزل الوحي، فقال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} الإسراء85 (1) .
__________
(1) انظر صحيح البخاري – كتاب العلم – باب قول الله تعالى: " وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ": (1/223) ، وكتاب التفسير – سورة الإسراء: " وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ" (8/401) ، وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة – باب ما يكره من كثرة السؤال، ومن تكلف ما لا يعنيه: (13/265) ، وخرجه معلقاً عن ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه – في باب ما كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يسأل مما لم ينزل عليه الوحي فيقول لا أدري أو لم يجب حتى ينزل عليه الوحي، ولم يقل برأي أو قياس: (13/290) وخرجه في كتاب التوحيد – باب قوله تعالى – " وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ ": (13/440) وباب قول الله تعالى –: " إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ ": (13/442) بشرح ابن حجر في جميع ما تقدم، وانظره في صحيح مسلم – كتاب صفة المنافقين – باب سؤال اليهود للنبي – صلى الله عليه وسلم – عن الروح –: (17/136-137) بشرح النووي، وسنن الترمذي – كتاب التفسير – سورة الإسراء: (8/293) وقال: هذا حديث صحيح حسن، والمسند: (1/389، 410، 444) ، وتفسير ابن جرير: (15/104) ، وأسباب النزول للواحدي: (187) ، ومعالم التنزيل للبغوي: (4/181) ، ومعجم الطبراني الصغير: (2/86) ، وانظر من خرجه غير ما تقدم في الدر المنثور: (4/199) .(1/342)
.. وثبت في المسند والمستدرك وسنن الترمذي وغيرهما عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – قال: قالت قريش لليهود أعطونا شيئاً نسأل عنه هذا الرجل، فقالوا: سلوه عن الروح، فسألوه عن الروح، فأنزل الله – تبارك وتعالى –: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} الإسراء85، قالوا: أوتينا علماً كبيراً، أتينا التوراة فيها حكم الله، ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيراً كثيراً، فنزلت: {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} الكهف 109 (1) .
__________
(1) انظر سنن الترمذي – كتاب التفسير- سورة الإسراء –: (8/292) ، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه 10هـ وحسنه أيضاً الشيخ الأرناؤوط في تعليقه على جامع الأصول: (2/218) ، والمسند: (1/255) ، والمستدرك: (2/531) – كتاب التفسير – سورة "إنا أنزلناه"، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، وأقره الذهبي، وعلقه عن عكرمة عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهم – الواحدي في أسباب النزول: (197) ، وعلقه عن ابن عباس البغوي في معالم التنزيل: (4/181) ، وانظر بقية من خرج هذه الرواية في الدر المنثور: (4/199-200) .
والسببان في نزول الآية الكريمة – كما ترى – متعارضان، فحديث ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه – المروي في الصحيحين وغيرهما يقيد مدنية الآية الكريمة، وحديث ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – المروي في سنن الترمذي وغيره يفيد مكيتها، ويتقوى هذا الخبر أيضاً بمكية سورة الإسراء ولدفع هذا التعارض، وإزالة الإشكال انقسم المفسرون ثلاثة أقسام:
ا) قسم جنح إلى تعدد نزول الآية وتكرره، فنزلت بمكة جواباً لسؤال المشركين من قريش ويتفق هذا مع مكية سورة الإسراء، ثم بعد الهجرة المباركة تكرر السؤال عن الروح من قبل المشركين أهل الكتاب اليهود، فانتظر النبي – صلى الله عليه وسلم – نزول الوحي بالجواب، فنزل بما نزل به في مكة، ولعل انتظار النبي – صلى الله عليه وسلم – جواب الوحي، وعدم إجابته بما هو معروف عنده، أنه توقع نزول الوحي بزيادة بيان وإيضاح، ولكن الوحي نزل بما نزل به سابقاً وممن ذهب إلى هذا الأئمة الكرام ابن كثير في تفسيره: (3/60) ، والزركشي في البرهان: (1/30) وابن حجر في الفيتح: (8/401) وحكاه الألوسي في روح المعاني: (15/153) ولم يعترض عليه.
وعبارة ابن حجر: ويمكن الجمع بأن يتعدد سبب النزول، بحمل سكوته في المرة الثانية على توقع مزيد بيان في ذلك، وإن ساغ هذا، وغلا فما في الصحيحين أصح 10هـ وهذا القول هو أسد الأقوال، وأظهرها وبالقبول أولاها، لأن إعمال الدليلين خير من إهمال أحدهما.
ب) فريق رجح خير ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه – لمزيد قوته، وبلوغه أعلا مراتب الصحة، لإخراج الشيخين له، وأهمل هذا الفريق خبر ابن عباس – رضي الله تعالى عنه – مع صحته، لرجحان الأول عليه، ومن ثم قالوا: إن آية الروح مدنية، ولم يسبق لها نزول في مكة وممن ذهب إلى هذا القول من الأجلة: السيوطي في الإتقان: (1/120) ، وفي لباب النقول: (141) ، وابن القيم في كتاب الروح: (151-153) وحكاه عنه القاسمي في محاسن التأويل: (10/3992) وأقره، ومال إليه الشيخ مناع القطان في مباحث في علوم القرآن: (89) ، وهذا القول فيما يبدو لي حسن الأدلة المقررة ضعيف، لأنه إذا أمكن الجمع بين الدليلين، وإعمالهما معا، فلا يصار إلى النسخ والترجيح بالاتفاق، كما قال الشيخ العراقي في ألفيته: (356) :
والمتن إن نافاه متن آخر ... وأمكن الجمع فلا تنافر
ج
أولا، فإن نسخٌ بدا فاعملْ به ... أولا فرجح واعملنْ بالأشبه
قال ابن حجر في نخبة الفكر: (39-40) ، وإن عورض – أي: متن الحديث – بمثله، فإن أمكن الجمع فمختلف الحديث، أولاً، وثبت المتأخر فهو الناسخ، والآخر المنسوخ، وإلا فالترجيح، ثم التوقف 10هـ والقول بتعدد نزول الآية الكريمة عند تعدد أسباب نزولها المتباعدة في الزمن بحيث لا يمكن القول بنزول الآية عقيب تلك الأسباب لطول المسافة الزمنية: قول معتبر، وهو من أوجه الجمع السديدة، ولا حجة معتبرة لمن منع تعدد نزول الآي كما تزعم ذلك القول العماد الكندي قاضي الإسكندرية المتوفى 720هـ صاحب كتاب الكفيل بمعاني التنزيل، وهو كتاب تفسير ضخم كبير يقع في ثلاث وعشرين مجلدة كبيرة كما في كشف الظنون: (2/1502) وقد حكى ذلك القول عنه السيوطي في الإتقان: (1/131) ورده، وتبعه على ذلك القول الشيخ مناع القطان من المحدثين في كتاب مباحث في علوم القرآن: (89) ولم يعتبرا تعدد النزول من وجوه الجمع المعتبرة بل صارا إلى الترجيح فيما بين الروايات، وهذا خلاف الصواب الذي عليه المحققون من أولي الألباب قال الزركشي في البرهان: (1/29-32) : وقد ينزل الشيء مرتين تعظيماً لشأنه، وتذكيراً به عند حدوث سببه، خوف نسيانه، وانظر تفصيل الموقف نحو النصوص المتعارضة في مقدمة ابن الصلاح معها محاسن الإصلاح: (414-416) ، وفتح المغيث: (3/75-78) ، والتقريب وشرحه تدريب الراوي: (386-392) ، وقد عد الحازمي في مطلع كتابه الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار خمسين وجهاً للترجيح: (11/23) ، وقال: فهذا القدر كاف في ذكر الترجيحات، وثم وجوه كثيرة أضربنا عن ذكرها، كيلا يطول بها هذا المختصر 10هـ وقد ذكر هذه الخمسين العراقي في التقييد والإيضاح، وزاد عليها حتى بلغت عشرة ومائة وجه، وقال: وثم وجوه أخر للترجيح في بعضها نظر، وفي بعض ما ذكر أيضاً نظر 10هـ انظر: (286-289) .
جـ) رووا السببين ولم يجمعوا بينهما، ولم يسلكوا مسلك الترجيح بينهما، ويشمل هذا القسم غالبية المفسرين، ولا يخفى على طالب العلم النبيه ضعف هذا المسلك وعدم تمشيه مع قواعد العلم المقرر، انظر ذلك المسلك على سبيل المثال في معالم التنزيل: وفي لباب التأويل ك (4/181-182) الأول على هامش الثاني، والتسهيل لعلوم التنزيل: (2/178) ، والبحر المحيط: (6/75) ، والدر المنثور: (4/199، 200) ، وقد اقتصر على أثر ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – الزمخشري في الكشاف: (2/464) ، وأبو السعود في إرشاد العقل السليم: (5/192) ، والصابوني في صفوة التفاسير: (2/170) واقتصر على أثر ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه – كل من الطبري في جامع البيان: (15/104-105) ، والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن: (10/323) والخطيب الشربيني في السراج المنير: (2/332) ، وكل ذلك غير سديد فاعلم، والله تعالى أعلم.(1/343)
.. وإذا كان هذا حال الروح وهي موجودة حية، عالمة قادرة، سميعة بصيرة، تصعد وتنزل وتذهب وتجيء، وتدخل وتخرج، ولها نحو ذلك من الصفات، وتلك الصفات لا تماثل المساهد من المخلوقات، وفالخالق العظيم أولى بمباينته لمخلوقاته المساكين، وإن حصل الاتفاق في الأسماء والصفات، وأهل العقول هم أعجز عن أن يحدوه أو يكيفوه منهم عن أن يحدوا الروح أو يكيفوها، وإذا كان من نفى صفات الروح جاحداً معطلا ً لها، ومن مثلها بما يشاهده من المخلوقات جاهلا ً ممثلا ً لها بغير شكلها، وهي مع ذلك ثابتة بحقيقة الإثبات، مستحقة لما لها من الصفات، فالخالق – سبحانه وتعالى – أولى أن يكون من نفى صفاته جاحداً معطلا ً، من قاسه بخلقه جاهلا ً به ممثلا ً، وهو سبحانه وتعالى – ثبت بحقيقة الإثبات، مستحق لما له من الأسماء الحسنى والصفات (1) .
وإليك بعض مباحث متعلقة بالروح، لينكشف لك الحق بوضوح:
أولا ً: الروح المسئول عنها في آية الإسراء المتقدمة هي التي بها يحيا البدن، هذا هو الحق ولا يعتد بخلاف هذا القول، وقد أورد الإمام ابن الجوزي – عليه رحمة الله تعالى – ستة أقوال في بيان الروح التي وقع عنها السؤال، وهي:
1- الروح الذي يحيا به البدن.
2- ملك على خلقه هائلة.
3- خلق على صور بني آدم.
4- جبريل – علي نبينا وعليه الصلاة والسلام.
5- القرآن الكريم.
6- عيسى – علي نبينا وعليه الصلاة والسلام.
__________
(1) انظر إيضاح هذا في الرسالة التدمرية: (36-38) وهي ضمن مجموع الفتاوى: (3/32-34) .(1/344)
ثم قال الإمام الجوزي قال أبو سليمان الدمشقي – عليهم جميعاً رحمة الله تعالى –: قد ذكر الله تبارك وتعالى – الروح في مواضع من القرآن، فغالب ظني أن الناقلين نقلوا تفسيره من موضعه إلى موضع لا يليق به وظنوه مثله، وإنما هو – أي المسئول عنه في سورة الإسراء – الروح الذي يحيا به ابن آدم (1) .
__________
(1) انظر زاد المسير: (5/82) ، ودليل القول الأول آية الإسراء على المعتمد، ودليل القول الثاني ما رواه الطبري في تفسيره: (15/104) ، وابن المنذر، وابن حاتم، وابن الأنباري في الأضداد وأبو الشيخ في العظمة، والبيهقي في الأسماء والصفات كما في الدر: (4/200) عن علي – رضي الله تعالى عنه – وعليه يحمل قول الله – جل وعلا –: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفّاً لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً} النبأ38، ودليل الثالث ما رواه عبد بن حميد، وأبو الشيخ كما في الدر المنثور: (4/200) ودليل الرابع قول الله – جل وعلا –: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ} الشعراء 193-194، ودليل الخامس قول الله – تبارك وتعالى –: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} الشورى52، ودليل السادس قول الله – جل وعلا –: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ} النساء171، وانظر التوسع في كتاب الروح: (153-154) .(1/345)
.. وهذا الذي رجحه الدمشقي ومال إليه هو قول معظم المفسرين وجمهورهم، وقد خالف ابن القيم في ذلك فقال في كتابه العظيم "الروح" وأكثر السلف بل كلهم على أن الروح المسئول عنها في الآية ليست أرواح بني آدم، بل هو الروح الذي أخبر الله تعالى عنه في كتابه أنه يقوم يوم القيامة مع الملائكة، وهو ملك عظيم 1هـ وتبعه على الخلاف القاسمي في محاسن التأويل قال: الذي أراه متعيناً في الآية لسابقها ولا حقها، أن المراد بالروح الوحي بالقرآن ... إلخ , إليك بعض من مذهب إلى القول الأول، وعليه عند التحقيق المعول، فابن العربي في أحكام القرآن اقتصر عليه ولم يذكر سواه، فقال: والروح خلق من خلق الله تعالى جعله الله في الأجسام، فأحياها به.. فإذا أراد العبد إنكارها لم يقدر، لظهور آثارها وإذا أراد معرفتها – وهي بين جنبيه – لم يستطع، لأنه قصر عنها، وقصر به دونها، قال أكثر العلماء: إنه سبحانه ركب ذلك فيه عبرة، ليرى أن الباري – تعالى – لا يقدر على جحده لظهور آياته في أفعاله.... إلخ وقال البغوي: وقال قوم: هو الروح المركب في الخلق الذي يحيا به الإنسان، وهو الأصح 1هـ وتبعه على هذا الخازن، وقال الراغب في المفردات: هو المذكور في الآية 1هـ وقال الرازي: أظهرها أن المراد من الروح الذي هو سبب الحياة 1هـ ونقل القرطبي عن أكثر أهل التأويل: أن السؤال وقع عن الروح الذي يكون به حياة الجسد وأقر ذلك.(1/346)
وفي الكشاف: والأكثر على أنه الروح الذي في الحيوان 1هـ وفي التسهيل: والروح هنا عند الجمهور هو الذي في الجسم 1هـ وفي البحر: والروح على قول الجمهور هنا: الروح التي في الحيوان، وهو اسم جنس، وهو الظاهر، ثم بعد أن حكى الأقوال الأخرى قال: والصحيح من هذه الأقوال القول الأول، والظاهر أنهم سألوا عن ماهيتها وحقيقتها، وقيل: عن كيفية مداخلها الجسد الحيواني، وابنعاثها فيه، وصورة ملابستها له، وكلاهما مشكل لا يعلمه إلا الله تعالى 10هـ وفي الجواهر الحسان: قال الجمهور: وقع السؤال عن الأرواح التي في الأشخاص الحيوانية ما هي، فالروح اسم جنس على هذا، وهذا هو الصواب، وهو المشكل الذي لا تفسير له 1هـ وفي إنشاد العقل السليم: الظاهر أن السؤال كان عن حقيقة الروح الذي هو مدبر البدن الإنساني، ومبدأ حياته 1هـ ونقل الخطيب الشربيني كلام البغوي السابق، وأقره، وقال الألوسي: والظاهر عند المنصف أن السؤال كان عن حقيقة الروح الذي هو مدار البدن الإنساني ومبدأ حياته لأن ذلك من أدق الأمور التي لا يسع أحداً إنكارها، ويشرئب كل إلى معرفتها وتتوفر دواعي العقلاء إليها، وتلك الأذهان عنها، ولا تكاد تعلم إلا بوحي، وزعم ابن القيم ثم بعد أن حكى قوله المتقدم قال: والحق ما ذكرنا، وهو الذي عليه الجمهور كما نص عليه في البحر وغيره نعم ما زعمه ابن القيم مروي عن بعض السلف إلخ.(1/347)
وقد نقل ابن حجر في الفتح قول الرازي وغيره في أن الروح المسئول عنه هو الروح الذي به حياة الأبدان، ثم قال: وجنح ابن القيم في كتاب "الروح" ثم بعد أن ذكر قوله قال: ولا دلالة في ذلك لما رجحته، بل الراجح الأول (1) 1هـ والله تعالى أعلم.
ثانياً: لأهل السنة الكرام في الروح تعريفان، لا يخرجان عن الوصف الوارد للروح في السنة والقرآن:
التعريف الأول:
__________
(1) انظر ما تقدم على الترتيب في كتاب الروح: (151) ، ومحاسن التأويل: (10/3994) وأحكام القرآن لابن العربي: (3/1224) ، وانظر معالم التنزيل، ولباب التأويل الأول على هامش الثاني: (4/182) والمفردات: (205) – كتاب الراء – ومفاتيح الغيب: (21/36) ، وتفسير القرطبي: (10/324) والكشاف: (2/464) ، وكتاب التسهيل: (2/178) ، والبحر المحيط: (/75-76) ، والجواهر الحسان: (2/357) وإرشاد العقل السليم: (5/192) ، والسراج المنير: (2/333) ، وروح المعاني: (15/151-152) وفتح الباري: (8/403) ، وانظر غير ما تقدم من كتب التفسير، ففي فتح القدير: (3/254) وبهذا قال أكثر المفسرين 1هـ وانظر غير ما تقدم: غرائب القرآن ورغائب الفرقان: (15/80-81) ، وفي بلوغ الأماني: (18/196) : الأكثر على أنهم سألوه عن حقيقة الروح الذي في الحيوان، ثم بعد أن سرد الأقوال الأخرى قال: والراجح الأول، يعني: روح الإنسان ... إلخ وانظر درء تعارض العقل والنقل: (10/293) ففيه حكاية القولين عن السلف دون ترجيح لواحد منهما.(1/348)
قال الإمام الجنيد – عليه رحمة الله تعالى –: الروح شيء موجود استأثر الله – جل وعلا – بعلمه، فلم يطلع عليه أحداً من خلقه، فلا يجوز للعباد البحث عن الروح بأكثر من أنها موجودة (1) .
وهذا التعريف – كما ترى – مستمد من آية الإسراء، ولم يخرج عنه قيد شعرة.
التعريف الثاني:
__________
(1) انظر ذلك في تحفة المريد: (2/64-65) ، وحاشية الأمير: (134) ، والإمام الجنيد هو سيد طائفة الصوفية المستقيمين، ومن أحسنهم تعليقاً وتأديباً وتقويماً كما في مجموع الفتاوى: (10/686) وهو الجنيد بن محمد بن الجنيد أبو القاسم الخزاز القواريري، كان أبوه يبيع الزجاج، وكان هو خزازاً، أصله من نهاوند إلا أن مولده ومنشأه في بغداد توفي سنة سبع وتسعين ومائتين – عليه رحمة الله تعالى – آتاه الله الجليل الحكمة صبياً، فقال له خاله السري السقطي – وكان عمر الجنيد سبع سنين – يا غلام، ما الشكر؟ فقال: أن لا يعصى الله – عز وجل – بنعمه، فقال له خاله: أخشى أن يكون حظك من الله لسانك، قال الجنيد: فلا أزال أبكي على هذه الكلمة التي قالها لي، وكل من ترجمه أورد من أقواله السديدة قوله: طريقنا مضبوط بالكتاب والسنة فمن لم يحفظ القرآن، ولم يكتب الحديث، ولم يتفقه لا يقتدي به، انظر ترجمته العطرة في تاريخ بغداد: (7/241-249) ، وحلية الأولياء: (10/255-287) ، وطبقات الحنابلة: (1/127-129) ومختصره لابن القيم: (89-90) ، والمنتظم: (6/105-106) وصفة الصفوة ك (2/416-424) وطبقات الصوفية: (155-163) ، وطبقات الشافعية الكبرى: (2/260-275) ، والبداية والنهاية: (11/113-115) ، والطبقات الكبرى: (1/84-86) ، والرسالة القشيرية: (1/132-136) ووفيات الأعيان: (1/373-375) ، واللباب في تهذيب الإنسان: (3/62) ، وشذرات الذهب: (2/228-230) ، وطبقات الأولياء: (127-136) ، ومجموع الفتاوى: (10/517) ، وأضواء البيان: (4/502) ، ومدارج السالكين: (3/16) .(1/349)
اختاره الإمام ابن القيم – عليه رحمة الله تعالى – لدلالة النصوص الشرعية عليه، فقال: إنه جسم مخالف بالماهية لهذا الجسم المحسوس وهو جسم نوراني علوي، خفيف حي، متحرك، ينفذ في جوهر الأعضاء، ويسري فيها سريان الماء في الورد، وسريان الدهن في الزيتون، والنار في الفحم، فما دامت هذه الأعضاء صالحة لقبول الآثار الفائضة عليها من هذا الجسم اللطيف بقي الجسم اللطيف مشابكاً لهذه الأعضاء وأفادها هذه الآثار من الحس والحركة والإرادة، وإذا فسدت هذه الأعضاء بسبب استيلاء الأخلاط الغليظة عليها، وخرجت عن قبول الآثار، فارق الروح البدن، وانفصل إلى عالم الأرواح، وهذا القول، هو الصواب في المسألة، وهو الذي لا يصح غيره، وكل الأقوال سواء باطلة، وعليه دل الكتاب والسنة، وإجماع الصحابة – رضي الله تعالى عنهم – وأدلة العقل، ثم سرد ستة عشر دليلا ً ومائة دليل على ذلك القول الجليل (1) .
وذلك التعريف مستقى من واقع الروح، ومما ورد في وصفها من النصوص، فهي موجودة، قائمة بنفسها، يشار إليها، فيصح إطلاق لفظ الجسم عليها، وهي مخالفة بالماهية لهذا الجسم الكثيف، ولذلك هي نورانية علوية خفيفة، ولكونها حية حصل منها الدخول والخروج، والتعارف والتناكر، فهذه الصفات لا تقوم بغير الخير، وواقع اتصالها بالبدن يماثل ما شبهت به من سريان الماء في الورد، والدهن في الزيتون، والنار في الفحم، وإليك سرد بعض النصوص المتعلقة بالروح، ليظهر الأمر في غاية الوضوح.
__________
(1) انظر كتاب الروح: (178-196) ، وانظر ذلك التعريف في شرح الطحاوية: (347-348) ونقل قريباً منه الإمام النووي عن إمام الحرمين كما في تحفة المريد: (2/65) ، وحاشية الأمير: (134) وذكر الشيخ ابن تيمية في درء تعارض العقل والتقل: (8/52) أن كلام الصحابة والتابعين وغيرهم من الأئمة – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – يدل على ذلك.(1/350)
ثالثاً نماذج من النصوص الثابتة القوية في وصف الروح الإنسانية، ثبت في صحيح مسلم والمسند وسنن أبي داود عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: "الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف"، والحديث رواه البخاري في صحيحه تعليقاً عن أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنها – ووصله في الأدب المفرد ورواه عنها الطبراني وأبو يعلى وفي روايتهما أن عمرة بنت عبد الرحمن قالت: كانت امرأة بمكة مزّاحة، فنزلت على امرأة مثلها في المدينة، فبلغ ذلك عائشة – رضي الله تعالى عنها – فقالت: صدق حِبِّي، سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: "الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف" ورواه الطبراني عن عبد الله بن مسعود بسند رجاله رجال الصحيح، ورواه أيضاً عن سلمان الفارسي – رضي الله تعالى عنه – بعد سرد قصة طريفة، وهي عن الحارث بن عميرة قال: انطلقت إلى المدائن فإذا أنا برجل عليه ثياب خلقان، ومعه أديم أحمر يغزله، فالتفت فنظر إليّ فأومأ بيده مكانك يا عبد الله، فقمت فقلت لمن كان عندي: من هذا الرجل؟ قالوا: هذا سلمان، فدخل بيته فلبس ثياباً بيضاً، ثم أقبل، واخذ بيدي، وصافحني، وساءلني، فقلت له: يا أبا عبد الله ما أريتني فيما مضى، ولا رأيتك، ولا عرفتني، ولا عرفتك، قال: بلى والذي نفسي بيده، لقد عرف روحي روحك حين رأيتك، ألست الحارث بن عميرة؟ قلت: بلى، قال سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: "الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف (1)
__________
(1) انظر صحيح مسلم – كتاب البرد والصلة والآداب – باب الأرواح جنود مجندة –: (/2031) والمسند: (2/295-527) ، وسنن أبي داود – كتاب الآداب – باب من يؤمر أن يجالس: (5/169) وصحيح البخاري كتاب أحاديث الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – باب الأرواح جنود مجندة: (6/369) بشرح ابن حجر، والأدب المفرد – باب الأرواح جنود مجندة –: (131) ، وفيه أيضاً الرواية الأولى، وانظر رواية الطبراني في مجمع الزوائد: (10/373) ، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح، وانظر رواية أبي يعلى في فتح الباري: (6/3709،وقال الحافظ: ورويناه في فوائد أبي بكر بن زنبور بهذه القصة وقد عزا الحديث مع القصة المذكورة العراقي في تخريج أحاديث الإحياء: (2/160) إلى مسند الحسن بن سفيان وقال: إن مسند الرواية حسن، وانظر رواية ابن مسعود وسلمان – رضي الله تعالى عنهما – في مجمع الزوائد – المكان السابق –، وقال الهيثمي عن رواية سلمان – رضي الله تعالى عنهما –: رواه الطبراني بأسانيد ضعيفة، والحديث رواه مسدد موقوفاً على ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه – بسند صحيح كما في المطالب العالية: (3/267) ، وسيأتيك عما قريب رواية عبد الله بن عمرو، وعلي – رضي الله تعالى عنهم أجمعين: (194) بمعنى هذه الرواية، فانظرها إن شئت.(1/351)
".
قال عبد الرحيم – غفر الله له ذنوبه أجمعين – تأمل أيها الأخ الكريم، هذا الأمر العظيم الذي تعجز عن الإحاطة بكنهه عقول الخلق أجمعين، وهو مشاهد لهم في كل آن وحين، فالطيب سائر إلى مثله الصالح النفيس، والخبيث منجذب إلى شكله الخسيس التعيس، كانجذاب الحديد إلى المغناطيس، فطوبى ثم طوبى لمن سكن في قلبه حب الرحمن، وتعلق فؤاده بخير الأنام – نبينا محمد عليه الصلاة والسلام – ومال إلى أهل الإيمان، وإن فلت منه شيء من العصيان في بعض الأزمان، حسب القصور الموجود في بني الإنسان، والويل والثبور، لمن ركن إلى الشيطان الغرور، وأحب أهل الزيغ والفجور، وإن كانت الجوارح الظاهرة مشتغلة بالعمل المبرر، ولذلك كان من أعظم البشائر والسرور، عند أهل النهى والعقول، حديث نبينا – صلى الله عليه وسلم –: "المرء مع من أحب" ففي الصحيحين وغيرهما عن أنس بن مالك – رضي الله تعالى عنه – أن رجلا ً سأل النبي – صلى الله عليه وسلم – عن الساعة، فقال متى الساعة؟ فقال النبي – صلى الله عليه وسلم –: "وما أعددت لها؟ قال: لا شيء إلا أني أحب الله ورسوله، فقال: وأنت مع من أحببت"، قال أنس – رضي الله تعالى عنه – فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النبي – صلى الله عليه وسلم –: "أنت مع من أحببت" قال أنس – رضي الله تعالى عنه –: "فأنا أحب النبي – صلى الله عليه وسلم – وأبا بكر وعمر – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم، وإن لم أعمل أعمالهم، وفي رواية في البخاري بعد قول النبي – صلى الله عليه وسلم – للأعرابي: "إنك مع من أحببت" فقلنا: ونحن كذلك؟ قال: نعم ففرحنا فرحاً شديداً (1) .
__________
(1) انظر صحيح البخاري – كتاب فضائل الصحابة – رضي الله تعالى عنهم – باب مناقب عمر بن الخطاب: (7/42) ، وكتاب الأدب – باب ما جاء في قول الرجل "ويلك": (10/553) ، وباب علامة الحب في الله – جل وعلا –: (10557) ، وكتاب الأحكام – باب القضاء والفتيا في الطريق: (13/131) بشرح ابن حجر في الجميع، وصحيح مسلم – كتاب البر والصلة والآداب – باب المرء مع من أحب: (4/2032) ، وسنن أبي داود – كتاب الأدب – باب إخبار الرجل بمحبته إياه –: (5/345) ، وسنن الترمذي – كتاب الزهد – باب ما جاء أن المرء مع من أحب –: (7/116-117) ، والمسند: (3/104، 110، 159، 165، 167، 168، 172، 173، 178، 192، 198، 200، 102، 107، 208، 213، 222، 226، 227، 228، 255، 268، 276، 283، 288) .
والحديث قد روي عن جماعة من الصحابة الكرام منهم عبد الله بن مسعود، وأبو موسى الأشعري وصفوان بن عسال، وأبو ذر الغفاري، وأبو هريرة، وعلى بن أبي طالب، وجابر بن عبد الله وغيرهم – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – انظر ذلك في سنن الترمذي – المكان المتقدم – وجامع الأصول: (6/5580-559) قال الحافظ في الفتح: (10/560) : وقد جمع أبو نعيم طرق هذا الحديث في جزء سماه: "كتاب المحبين مع المحبوبين"، وبلغ الصحابة فيه نحو العشرين 10هـ وعده الشيخ الكثائي في نظم المتناثر من الحديث المتواتر: (129) بأنه متواتر.
وانظر شرف المحبة، وعلو رتبتها، وعظم منزلتها في شرح الزرقاني على المواهب اللدنية: (6/280-326) ، ومدارج السالكين: (3/42) .(1/352)
وإليك بعض كلام أئمة الإسلام، في بيان الترابط بين الأنام، حسب ما في أرواحهم من معان وأحكام، قال الإمام الخطابي – عليه رحمة الله تعالى – في شرح حديث: "الأرواح جنود مجنده": إن الأجساد التي فيها الأرواح تلتقي في الدنيا، فتأتلف وتختلف، على حسب ما جعلت عليه من التشاكل أو التنافر في بدء الخليقة، ولذلك ترى البر الخبر يحب شكله، ويحن إلى تِرْبِه، وينفر من ضده (1) ،
__________
(1) وفي مسند أبي يعلى بسند حسن كما في مجمع الزوائد: (10/274) عن أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنها – قالت: ما أحب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلا ذا تقى..(1/353)
وكذلك الرّهِق الفاجر، يألف شكله، ويستحسن فعله، وينحرف عن ضده – وفي هذا دليل على أن الأرواح ليست بأعراض، وأنها كانت موجودة قبل الأجساد، وأنها تبقى بعد فناء الأجساد 10هـ وفي فتح الباري: قال الإمام ابن الجوزي – عليه رحمة الله تعالى –: ويستفاد من هذا الحديث أن الإنسان إذا وجد من نفسه نفرة ممن له فضيلة أو صلاح فينبغي أن يبحث عن المقتضى لذلك، ليسعى في إزالته حتى يتخلص من الوصف المذموم، وكذلك القول في عكسه، وقال القرطبي: الأرواح وإن اتفقت في كونها أرواحاً لكنها تتمايز بأمور مختلفة تتنوع بها، فتتشاكل أشخاص النوع الواحد، وتتناسب بسبب ما اجتمعت فيه من المعنى الخاص لذلك النوع للمناسبة ولذلك نشاهد أشخاص كل نوع تألف نوعها وتنفر من مخالفها، ثم إنا نجد بعض أشخاص النوع الواحد يتآلف وبعضها يتنافر، وذلك بحسب الأمور التي يحصل الاتفاق والانفراد بسببها 1هـ وللإمام الغزالي – عليه رحمة الملك الباري – كلام سديد في ذلك هاك خلاصته، قال – رحمه الله تعالى –: ائتلاف القلوب أمر غامض، فالمودة تستحكم بين شخصين من غير ملاحة في صورة ولا حسن في خَلق، ولاخُلق، ولكن باطنة توجب الألفة والموافقة، فإن شبه الشيء ينجذب إليه بالطبع، والأشياء الباطنية خفية، ولها أسباب دقيقة ليس في قوة البشر الاطلاع عليها وقد عبر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن ذلك بقوله: "الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف" فالتناكر نتيجة التباين، والائتلاف نتيجة التناسب الذي عبر عنه بالتعارف، والمشاهدة والتجربة للئتلاف عند التناسب في الطباع والأخلاق باطناً وظاهراً أمر مفهوم، وأما الأسباب التي أوجبت تلك المناسبة فليس في قوة البشر الاطلاع عليها، ولا معنى للخوض فيما لم يكشف سره للبشر، فما أوتينا من العلم إلا قليلا ً قال مالك بن دينا – عليه رحمة الله تعالى –: لا يتفق اثنان في عشرة إلا وفي أحدهما وصف من الآخر، وإن أجناس(1/354)
الناس كأجناس الطير، ولا يتفق نوعان من الطير إلا وبينهما مناسبة، ورأى يوماً غراباً مع حمامة فعجب من ذلك، وقال: اتفقا وليسا من شكل واحد، ثم طارا فإذا هما أعرجان، فقال: من ههنا اتفقا، ولذلك قال بعض الحكماء: كل إنسان يأنس إلى شكله، كما أن كل طير يطير مع جنسه، وإذا اصطحب اثنان برهة من زمان ولم يتشاكلا في الحال، فلابد أن يفترقاً، وهذا معنى خفي حتى تفطن له بعض الشعراء فقال:
وقائل كيف تفارقتما ... فقلت قولا ً فيه إنصاف
ج
لم يك من شَكْلي ففارقته ... والناس أشْكالوألاف10هـ
... وقد أطال الإمام ابن القيم – عليه رحمة الله تعالى – في تقرير ذلك المعنى، ورد ما يثار حوله من شبه، في الباب الخامس في دواعي المحبة ومتعلقها من كتاب القيم "روضة المحبين" وخلاصته على سبيل الإيجاز: التناسب بين الأرواح من أقوى أسباب المودة: وكل امرئ يصبو إلى من يناسبه، وهذه المناسبة نوعان: أصلية من أصل الخلقة، وعارضة بسبب المجاوزة، أو الاشتراك في أمر من الأمور، فإن من ناسب قصدك قصده حصل التوافق بينك وبينه، فإذا اختلف القصد زال التوافق، وأما التناسب الأصلي فهو اتفاق أخلاق، وتشاكل أرواح، وشوق كل نفس إلى مشاكلها فإن شبه الشيء ينجذب غليه بالطبع، فتكون الروحان متشاكلتين في أصل الخلقة، فتنجذب كل منهما إلى الأخرى بالطبع، وقد يقع الانجذاب والميل بالخاصية، وهذا لا يعلل، ولا يعرف سببه، كانجذاب الحديد إلى الحجر المغناطيسي، ولا ريب أن وقوع هذا القدر بين الأرواح أعظم من وقوعه بين الجمادات، وإذا كانت المحبة بالمشاكلة والمناسبة ثبتت وتمكنت، وإذا لم تكن بالمشاكلة فإنما هي محبة لغرض من الأغراض تزول عند انقضائه وتضمحل، فمن أحبك لأمر ولى عند انقضائه.
... والمقصود أن المحبة تستدعي مشاكلة ومناسبة، وذكر لبقراط رجل من أهل النقص يحبه فاغتنم لذلك، وقال: أحبني غلا وقد وافقته في بعض أخلاقه، واخذ المتنبي هذا المعنى فقلبه وأجاد فقال:(1/355)
وإذا أتَتْك مَذمّتي مِنْ ناقصٍ ... فهي الشهادةُ لي بأني فاضلُ
... وأنت إذا تأملت الوجود لا تكاد تجد اثنين يتحابان غلا وبينهما مشاكلة أو اتفاق في فعل أو حال أو مقصد، فإذا تباينت المقاصد والأوصاف والأفعال والطرائق، لم يكن هناك إلا النفرة والبعد بين القلوب.
وصفوة الكلام: المحبة قسمان ك محبة عرضية غرضية، فهذه لا يجب الاشتراك فيها في المحبة بين المحب والمحبوب، بل يقارنها مقت المحبوب وبغضه للمحب كثيراً، إلا إذا كان له معه غرض نظير غرضه، فإنه يحبه لغرضه منه، كما يكون بين الرجل والمرأة اللذين لكل منهما غرض مع صاحبه.(1/356)
والقسم الثاني: محبة روحانية سببها المشاكلة والاتفاق بين الروحين، فهذه لا تكون إلا من الجانبين، فلو فتش المحب المحبة الصادقة قلب المحبوب لوجد عنده من محبته نظير ما عنده أو دونه أو فوقه (1)
__________
(1) انظر ما تقدم على الترتيب: معالم السنن مع سنن أبي داود: (5/169) ، وفتح الباري: (6/3709 وإحياء علوم الدين: (2/159-160) ، وروضة المحبين: (67-91) ، وقد كرر خلاصة ذلك الكلام بأربع صفحات جياد، في كتابه العظيم، "زاد المعاد": (268-271) ، وقرر نحو ذلك الإمام ابن الجوزي في كتابه ذم الهدى: (297-205) وذكر بيتي الشعر الذين وردا في إحياء علوم الدين وانظر طوق الحمامة: (6/11) ومما قاله: قد علمنا أن سر التمازج والتباين في المخلوقات إنما هو الاتصال والانفصال، والشكل دأباً يستدعي شكله، والمِثل إلى مثله ساكن، وللمجانسة عمل محسوس وتأثير مشاهد، والتنافر في الأضداد، والموافقة في الأنداد، ولو كان علة الحب حسن الصورة الجسدية لوجب ألا يستحسن الأنقص من الصورة، ونحن نجد كثيراً ممن يؤثر الأدنى، ويعلم فضل غيره، ولا يجد محيداً لقلبه عنه، ولو كان للموافقة في الأخلاق لما أحب المرء من لا يساعده ولا يوافقه، فعلمنا أنه شيء في ذات النفس، وربما كانت المحبة لسبب من الأسباب، وتلك تفنى بفناء سببها، فمن ودك لأمر ولى مع انقضائه، ثم ختم الكلام بقوله: وهذا يعينه موجود في البغضة ترى الشخصين يتباغضان لا لمعنى ولا علة، ويستثقل بعضهما بعضاً بلا سبب 10هـ أي بلا سبب ظاهر، ولا علة واضحة مكشوفة، وإنما التنافر لما بين الأرواح من تناكر، حسب حال كل منهما كما في المسند: (2/175، 220) والأدب المفرد – باب الألفة – عن عبد الله بن عمرو – رضي الله تعالى عنهما – عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: "إن أرواح المؤمنين تلتقي على مسيرة يوم، ما رأى أحدهم صاحبه فقط" وفي رواية: "أن أرواح المؤمنين لتلتقيان على مسيرة يوم وليلة وما رأى واحد منهما صاحبه"، قال الهيثمي في المجمع: (10/274) رجال أحمد وثقوا على ضعف في بعضهم، ورواه الطبراني، وقال الشيخ شاكر في تعليقه على المسند: (10/163، 12/12) إسناده صحيح، وفي معجم الطبراني الأوسط بسند ضعيف كما في تخريج أحاديث الأحياء: (2/159) من حديث على – رضي الله تعالى عنه – مرفوعاً: "إن الأرواح في الهواء جند مجندة، تلتقي فتتشام".(1/357)
10هـ.
... وقد ورد في النصوص الشرعية، وصف الروح البشرية بالدخول والخروج، والإشارة إليها إشارة حسية، ففي صحيح مسلم، وغيره من كتب الحديث المرضية عن أمنا أم سلمة الطيبة التقية زوج خير البرية – صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً – قالت: دخل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على أبي سلمة وقد شق بصره، فأغمضه، ثم قال: "إن الروح إذا قبض تبعه البصر" فضج ناس من أهله، فقال: "لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير، فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون، ثم قال: اللهم اغفر لأبي سلمة، وارفع درجته في المهديين، وأدخله في عقبه الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، وافسح له في قبره، ونور له فيه".
... ولذلك أمرنا بإغماض بصر الميت بعد موته، لأن بصره تبع روحه، وقد فعل ذلك نبينا – صلى الله عليه وسلم – مع أبي سلمة، – رضي الله تعالى عنه – وفي سنن ابن ماجه بسند حسن عن شداد بن أوس – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "إذا حضرتم موتاكم فأغمضوا البصر، فإن البصر يتبع الروح، وقولوا خيراً، فإن الملائكة تؤمن على ما قال أهل الميت" وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – قال: رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "ألم تروا الإنسان إذا مات ما شخص بصره؟ قالوا: بلى، قال: فذلك حين يتبع بصره نفسه (1) ".
__________
(1) انظر صحيح مسلم – كتاب الجنائز – باب إغماض الميت والدعاء له إذا حضر –: (2/634) والمسند: (6/297) ، وسنن أبي داود – كتاب الجنائز – باب تغميض الميت: (3/487) وسنن ابن ماجه – كتاب الجنائز – باب ما جاء في تغميض الميت: (1/467) وشرح السنة – كتاب الجنائز – باب إغماض الميت –: (5/299) ، وانظره في سنن البيهقي – كتاب الجنائز – باب ما يستحب من إغماض الميت إذا مات –: (3/384-385) .(1/358)
وسأختم الكلام على ما ورد من نصوص عن نبينا – عليه الصلاة والسلام – في وصف أرواح الأنام ببيان ما ورد في علم الأرواح وتصرفها، بعد خروجها من الأشباح ومفارقتها ليعلم الإنسان مدى عجزه وقصوره عن الإحاطة، بمخلوق مثله، فكيف سيطلع على حقيقة صفات ربه؟ (1) .
__________
(1) انظر الحديث الأول في سنن ابن ماجه – كتاب الجنائز – باب ما جاء في تغميض الميت: (1/468) ، والمسند: (4/125) ، وانظر الحديث الثاني في صحيح مسلم – كتاب الجنائز – باب في شخوص بصر الميت يتبع نفسه –: (2/635) .(1/359)
.. ثبت في الصحيحين وغيرهما عن أنس بن مالك – رضي الله تعالى عنه – قال: ترك رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قتلى بدر ثلاثاً، ثم أتاهم فقام عليهم فنادهم فقال: "يا أبا جهل بن هشام ما أمية بن خلف بن ربيعة، يا شيبة بن ربيعة، أليس قد وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقاً" فسمع عمر – رضي الله تعالى عنه – قول النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال يا رسول الله، كيف يسمعوا، وانى يجيبوا، وقد جَيَّفوا؟ فقال النبي – صلى الله عليه وسلم – "والذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا" ثم أمر بهم فسُجِوا، فألقوا في قليب بدر (1) .
__________
(1) انظر صحيح مسلم – كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها – باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار – عليه وإثبات عذاب القبر – والتعوذ منه –: (4/2203) ، وسنن النسائي – كتاب الجنائز – باب أرواح المؤمنين –: (4/90) ، والمسند: (3/104، 145، 263) وانظر رواية البخاري لكن عن أنس عن أبي طلحة – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – في كتاب المغازي – باب قتل أبي جهل: (7/300-301) بشرح ابن حجر، وكذلك رواه مسلم في المكان المتقدم، ورواه البخاري أيضاً من رواية ابن عمر – رضي الله تعالى عنهما – في كتاب الجنائز – باب ما جاء في عذاب القبر –: (3/232) بشرح ابن حجر، والنسائي في المكان المتقدم، ورواه مسلم في المكان المتقدم من رواية أنس عن عمر – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – وكذلك النسائي في المكان المتقدم، وهو في المسند: (1/27) – وانظره في المسند من رواية أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنها: (6/170، 276) ورجال السند ثقات كما في مجمع الزوائد: (6/91) .(1/360)
.. وقد شرع لنا النبي – صلى الله عليه وسلم – زيارة القبور، والسلام على الموتى بلفظ السلام عليكم وهذا خطاب لمن يسمع ويعقل، ولولا ذلك لكان ذلك الخطاب منزلة خطاب المعدوم والجماد كما قال الإمام ابن القيم – عليه رحمة الله تعالى – روى الإمام مسلم – عليه رحمة الله تعالى – في صحيحه عن أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنها – قالت: قلت كيف أقول لهم يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – تعنى في زيارة القبور –: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون (1) .
... وفي صحيح مسلم أيضاً عن بريدة – رضي الله تعالى عنه – قال: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر، فكان قائلهم يقول: "السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون، أسأل الله لنا ولكن العافية (2) ".
__________
(1) انظر صحيح مسلم – كتاب الجنائز – باب ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها –: (2/671) وسنن النسائي – كتاب الجنائز – باب الأمر بالاستغفار للمؤمنين: (4/75-76) والمسند: (6/221) ورواه ابن ماجه في كتاب الجنائز – باب ما جاء فيما يقال إذا دخل المقابر –: (1/493) وأحمد في المسند: (6/76، 111) ولفظ ابن ماجه "السلام عليكم دار قوم مؤمنين لنا فرط، وإنا بكم لاحقون – اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم" – منحة المعبود – على إبدال "لا تفتنا" بـ "لا تضلنا" ومثله في مسند الطيالسي: (1/171) .
(2) انظر صحيح مسلم – كتاب الجنائز – باب ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها: (2/671) وسنن ابن ماجه – كتاب الجنائز – باب ما جاء فيما يقال إذا دخل المقابر –: (1/494) ، وشرح السنة – باب الجنائز – باب ما جاء فيما يقال إذا دخل المقابر: (5/468) ، وهو في المسند: (5/353، 360) بزيادة "أنتم فرطنا، ونحن لكم تبع" بعد قول: "وإنا إن شاء الله بكم لاحقون".(1/361)
.. وثبت في سنن الترمذي يسند حسن عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – قال: مرَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بقبور المدينة، فأقبل عليهم بوجهه فقال: "السلام عليكم يا أهل القبور يغفر الله لنا ولكم، وأنتم سلفنا ونحن بالأثر (1) ".
وورد في صحيح مسلم وغيره عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أتى المقبرة، فقال: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون (2)
__________
(1) انظر سنن الترمذي – كتاب الجنائز – باب ما يقول الرجل إذا دخل المقابر –: (4/8) وقال هذا حديث حسن غريب، ووافقه الشيخ الأرناؤوط في تعليقه على جامع الأصول: (11/157) .
(2) انظر صحيح مسلم – كتاب الطهارة – باب استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء –: (1/218) وسنن أبي داود – كتاب الجنائز – باب ما يقول إذا زار القبور أو مر بها –: (3/558) ،وسنن ابن ماجه – كتاب الزهد – باب ذكر الحوض –: (2/1439) ، وسنن النسائي – كتاب الطهارة – باب حلية الوضوء –: (1/79) ، ونحوه في المسند: (2/300، 3750، 408) ومن العجيب اقتصار – الإمام النووي في الأذكار: (142) على عزو الحديث إلى سنن أبي داود والنسائي وابن ماجه فقط، مع أنه في صحيح مسلم.
قال عبد الرحيم – غفر الله له وللمسلمين –: المعتمد عندي من حيث الدليل ثبوت مشروعية زيارة القبور للإناث والذكور، وما ثبت عن النهي عن ذلك في حديث النبي – صلى الله عليه وسلم –: "لعن الله زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج" منسوخ بحديث الإذن في زيارة القبور، وتقدم تعليم النبي – صلى الله عليه وسلم – لأمنا عائشة – رضي الله تعالى عنها – ما تقوله إذا زارت القبور، ويمكن أيضاً حمل النهي على المكثرات للزيارة كما ثبت في بعض روايات الحديث: "لعن الله زوارات القبور" وهذا وجه ثان في الجمع، وهو حسن، وبه قال القرطبي – عليه رحمة الله تعالى – قال الشوكاني في نيل الأوطار –: (4/166) وهذا الكلام هو الذي ينبغي اعتماده في الجمع بين أحاديث الباب المتعارضة في الظاهر 10هـ وانظر تفصيل هذه المسألة في رد المختار: (2/242) : والأصح أن الرخصة ثابتة لهن، وحاشية الطحاوي: (340) والمختار عن الشافعية عدم دخول النساء في إباحة الزيارة كما في المجموع: (5/311) وحملوا النهي على كراهية التنزيه، وعند المالكية ثلاثة أقوال: المنع، والجواز، والتفرقة بين العجوز والشابة، فيباح للقواعد، ويحرم على الشواب كما في حاشية الدسوقي: (1/422) ، والكافي: (1/283) ، وعند الحنابلة قولان: الكراهية، وعدمها كما في المغني: (2/424) ، والذي مال إليه الإمام ابن تيمية عدم دخول النساء في الإذن بزيارة القبور، كما في المسألة الثالثة عشرة من كتاب الزيارة له ضمن الجامع الفريد: (462-468) – وانظر فتح الباري: (3/148-151) وعمدة القاري: (8/67-70) وختم العيني الكلام في هذه المسألة بقوله: وحاصل الكلام من هذا كله، أن زيارة القبور مكروهة للنساء، بل حرام في هذا الزمان، ولا سيما نساء مصر، لأن خروجهن على وجه فيه الفساد والفتنة، وإنما خصت الزيارة لتكر أمر الآخرة، وللاعتبار بمن مضى، وللتزهد في الدنيا 10هـ، والعيني متوفى سنة خمس وخمسين وثمانمائة، وهو محمود بن أحمد بن بدر الدين أبو الثناء العيني – عليه رحمة الله تعالى – انظر ترجمته العطرة في شذرات الذهب: (7/286-288) , كلام العيني خاص فيمن خرج على تلك الصورة المؤدية للفساد والفتنة، ومن خرج لزيارة المقابر لتذكر الآخرة، وللاعتبار بمن مضى، وليزهد في الدنيا، فلا حرج عليه، بل ذلك مطلوب منه ذكراً أو أنثى، والله تعالى أعلم.
وانظر حديث النهي عن الزيارة "لعن الله زوارات القبور" في سنن النسائي – كتاب الجنائز – باب الجنائز – وباب التغليظ في اتخاذ السرج على القبور: (4/77) وسنن أبي داود – كتاب الجنائز – باب في زيارة النساء القبور –: (3/558) ، وسنن الترمذي – كتاب الجنائز – باب ما جاء في كراهية أن يتخذ على القبر مسجدا –: (2/6) ، والمسند: (1/299، 287، 324، 227) ، والسنن الكبرى للبيهقي – كتاب الجنائز – باب ما ورد في نهيهن عن زيارة القبور –: (4/78) وصحيح ابن حبان – موارد الظمآن – كتاب الجنائز – باب زيارة القبور –: (200) كلهم من رواية ابن عباس – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – وقال الترمذي: حديث ابن عباس حسن، وفي الباب عن أبي هريرة وعائشة – رضي الله تعالى عنهم – قال الشيخ الأرناؤوط في تعليقه على جامع الأصول: (11/150) وهو كما قال، فإن له شواهد، لكن دون إيقاد لفظ السرج، وإيقاد السرج على القبور منكر 1هـ.
قال كاتب هذه الأسطر – ستره الله في الدارين –: وقد عم في هذه الأزمنة، وأزمنة كثيرة قبلها تقديس القبور، والعكوف عندها، والواجب علينا نحن طلبة العلم فطن النفس عن هذه البدع، ثم تحذير الناس منها، فنحن قدوتهم، وبصلاحنا يحصل صلاحهم، ومن أعظم البلايا وأشنع الرزايا في طالب العلم، أن يترك الحق الذي يعرفه للباطل الذي يسير عليه الناس موافقة لهم فيما هم عليه، وهذا مسلك وخيم، وحذرنا منه نبينا الرؤوف الرحيم – صلى الله عليه وسلم – فقال: "لا تكونوا إمة إمعة، تقولون: إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم، إن أحسن الناس أحسنوا، وإن أساؤوا فلا تظلموا".
الحديث أخرجه الترمذي في كتاب البر والصلة – باب ما جاء في الإحسان والعفو –: (6/215) عن حذيفة – رضي الله تعالى عنه – مرفوعاً وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، ورواه الطبراني في الكبير عن ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه – موقوفاً كما في مجمع الزوائد: (1/181) ، وفي إسناده: المسعودي، وقد اختلط، وباقي رجاله ثقات، وانظر روايات متعددة له في جامع العلم وفضله: (1/29، 2/112) .
والإمعة هو الرجل الذي لا رأي له، ولا عزم، فهو يتابع كل أحد على رأيه، ولا يثبت على شيء وكذلك الإمرة هو الذي يوافق كل إنسان على ما يريد من أمره كله، كما في غريب الحديث: (4/49) ونحوه في تهذيب اللغة: (3/249) ولسان العرب: (1/349) فصل الألف من حرف العين وفي الفائق في غريب الحديث: (1/7) حرف الهمزة مع الميم: الإمعة الذي يتبع كل ناعق، ويقول لكل أحد أنا معك، لأنه لا رأي له يرجع إليه.(1/362)
".
وهذه الأحاديث الصحيحة تدل على سماع الميت، وشعوره بمن يزوره كما قرر ذلك الإمام ابن القيم – عليه رحمة الله تعالى – من وجهين:
أولهما:
مشروعية السلام على الموتى دليل على سماعهم، لأن ذلك السلام خطاب لمن يسمع ويعقل، ولولا ذلك لكان خطابهم بالسلام بمنزلة خطاب الجماد والمعدون، والسلام على من لا يشعر، ولا يعلم بالمسلم محال.
بداية ملف توحيد 5
ثانيهما:
تسمية المسلم عليهم زائداً، ولولا شعورهم به لما صح تسميته بذلك، فإن المزور إن لم علم بزيارة من زاره لم يصح أن يقال زاره، هذا هو المعقول من الزيارة عند جميع الأمم (1) .
__________
(1) انظر كلام الإمام ابن القيم في كتابه القيم "الروح": (5، 8) .(1/363)
.. ومن أتاه الله معرفة بكلام النبي – صلى الله عليه وسلم – واطلاعاً على هديه لا يتردد في صواب ما قرره الإمام ابن القيم وحقيقته، ففي الصحيحين وغيرهما عن أنس – رضي الله تعالى عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم – قال: "إن الميت إذا وضع في قبره، وتولى عنه أصحابه، إنه ليسمع قرع نعالهم، يأتيه ملكان، فيقعدانه، فيقولا له: ما كنت تقول في هذا الرجل محمد – صلى الله عليه وسلم -؟ فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار، قد أبدلك الله به مقعداً من الجنة، قال النبي صلى الله عليه وسلم – فيراهما جميعاً، وأما الكافر – أو المنافق – فيقول: لا أدري، كنت أقول ما يقول الناس، فيقال: لا دريت ولا تليت، ثم يضرب بمطرقة من حديد ضربة بين أذنيه، فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الثقلين (1) .
__________
(1) انظر صحيح البخاري – كتاب الجنائز – باب الميت يسمع خفق النعال: (3/205) ، وباب ما جاء في عذاب القبر –: (3/232) بشرح ابن حجر فيهما، وصحيح مسلم – كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها – باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه، وإثبات عذاب القبر، والتعوذ منه، (4/2200) وسنن أبي داود – كتاب الجنائز – باب المشي في النعل بين القبور –: (3/556) ، وفي كتاب السنة – باب في المسألة في القبر وعذاب القبر –: (5/113-114) ، وسنن النسائي – كتاب الجنائز – باب المسألة في القبر – وباب مسالة الكافر –: (4/79-80) ، والمسند: (3/126) ورواه أبو داود في كتاب السنة – باب في المسألة في القبر وعذاب القبر –: (5/114-116) ، وأحمد في المسند: (4/287، 195) عن البراء بن عازب – رضي الله تعالى عنه – وفي روايته "خفق" بدل "قرع"، وهي واردة في بعض طرق الحديث المتقدم في صحيح مسلم، وجعل ذلك اللفظ ترجمة باب البخاري كما تقدم قال الحافظ في الفتح: (3/106) ترجم البخاري بالخفق، ولفظ المتن بالقرع، إشارة إلى ما ورد في بعض طرقه بلفظ الخفق 10هـ وقد وردت تلك الرواية في روايات عدة من الصحابة – رضي الله تعالى عنهم – فرويت أيضاً عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – في المسند: (2/347، 445) ، والطبراني في الأوسط والبزار وسندهما حسن كما في مجمع الزوائد: (3/51-54) ، وابن حبان في صحيحه – موارد الظمآن – كتاب الجنائز – باب في الميت يسمع ويسأل –: (196، 197) ، ورواه الطبراني في الكبير بسند رجاله ثقات، وفي الأوسط بإسناد حسن عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – كما في مجمع الزوائد: (3/54) .(1/364)
.. وقال الإمام ابن القيم – عليه رحمة الله تعالى –: والسلف مجمعون على هذا، وقد تواترت عنهم الآثار بأن الميت يعرف زيارة الحي له، ويستبشر به، وسرد في تقرير ما قاله عنهم، وقائع كثير صدرت منهم، فمن ذلك قوله: وصح عن حماد بن سلمة من ثابت عن شهر بن حوشب أن الصعب بن جثامة وعوف بن مالك كانا متآخين، قال صعب لعوف: أي أخي أينا مات قبل صاحبه فليتراء له، قال: أو يكون ذلك؟ قال: نعم، فمات صعب فرآه عوف فيما يرى النائم كأنه قد أتاه. قال قلت أي أخي، قال: نعم، قلت: ما فعل بكم. قال: غفر لنا بعد المصائب، قال: ورأيت لمعة سوداء في عنقه، قلت: أي أخي ما هذا؟ قال: عشرة دنانير استسلفتها من فلان اليهودي، فمن في قرني فأعطوه إياها، واعلم أخي أنه لم يحدث في أهلي حدث بعد موتي إلا قد لحق بي خبره، حتى هرة لنا ماتت منذ أيام، واعلم أن ابنتي تموت إلى ستة أيام، فاستوصوا بها معروفاً، فلما أصحبت، قلت: إن في هذا لمعلماً، فأتيت أهله، فقالوا: مرحباً بعوف، أهكذا تصنعون بتركة إخوانكم، لم تقربنا منذ مات صعب، قال: فاعتللت، بما يعتل به الناس، فنظرت إلى القرن فأنزلته، فانتشلت ما فيه، فوجدت الصرة التي فيها الدنانير، بعثت بها إلى اليهودي، فقلت: هل كان لك على صعب شيء؟ قال: رحم الله صعباً كان من خيار أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – هي له، قلت: لتخبرني، قال: نعم، أسلفته عشرة دنانير فنبذتها إليه، قال: هي – والله بأعيانها، قال: قلت هذه واحدة.
... قال: فقلت هل حدث فيكم حدث بعد موت صعب؟ قالوا: نعم، حدث فينا كذا، قال: قلت اذكروا، قالوا، نعم، هرة ماتت منذ أيام، فقلت: هاتان اثنتان.(1/365)
.. قلت: أين ابنة أخي؟ قالوا: تلعب، فأتيت بها فمسستها فإذا هي محمومة، فقلت استوصوا بها معروفاً، فماتت في ستة أيام (1) .
__________
(1) انظر كتاب الروح: (5، 14) وقد أشار الحافظ في الإصابة: (2/185) إلى القصة في ترجمة الصعب بن جثامة – رضي الله تعالى عنه – فقال: وأخرج أبو بكر بن بلال في كتاب المتحابين من طريق جعفر بن سليمان عن ثابت قال: آخى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بين عوف بن مالك والصعب بن جثامة، فقال كل منهما للآخر: إن مت قبلي فتراء لي: فمات الصعب قبل عوف، فتراءى له، فذكر القصة، وقال الإمام ابن القيم – رحمه الله تعالى –: وهذا من فقه عوف – رضي الله تعالى عنه – وكان من الصحابة – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – حيث نفذ وصية الصعب بن جثامة بعد موته – رضي الله تعالى عنه – وعلم صحة قوله بالقرائن التي أخبره بها من أن الدنانير عشرة، وهي في القرن، ثم سأل اليهودي فطابق قوله لما في الرؤيا، فحزم عوف – رضي الله تعالى عنه – بصحة الأمر، فأعطى اليهودي الدنانير، وهذا فقه إنما يليق بأفقه الناس وأعلمهم، وهم أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وانظر كتاب الإمام ابن القيم الطرق الحكيمة في السياسة الشرعية، يقع في قرابة أربعمائة صفحة ففيه تفصيل القول في الحكم بالقرائن بما لا تظفر به كتاب غيره.(1/366)
.. ونقل الإمام ابن القيم عن الإمام ابن عبد البرد – عليهم رحمة الله تعالى – أنه روى في كتابه "الاستيعاب" عن ابنة ثابت بن قيس بن شماس – رضي الله تعالى عن أبيها وعنها – قالت: لما كان يوم اليمامة خرج ثابت مع خالد بن الوليد – رضي الله تعالى عنهما – إلى مسيلمة الكذاب، فلما التقوا به وانكشفوا، قال ثابت وسالم مولى أبي حذيفة – رضي الله تعالى عنهما – ما هكذا كنا نقاتل مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ثم حفر كل واحد له حفرة فثبتا وقاتلا حتى قتلا وعلى ثابت – رضي الله تعالى عنه – يومئذ درع نفيسة، فمر به رجل من المسلمين فأخذها، فبينما رجل من المسلمين نائم إذ أتاه ثابت – رضي الله تعالى عنه – في منامه، فقال له: إني أوصيك بوصية فإياك أن تقول هذا حلم فتضيعه، إني لما قتلت أمس، مر بي رجل من المسلمين فأخذ درعي، ومنزله في أقصى الناء، وعند خبائه فرس يستن في طوله، وقد كفأ على الدرع برمة، وفوق البرمة رجل، فأت خالداً فمره أن يبعث إلى درعي فيأخذها، وإذا قدمت المدينة على خليفة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يعني أبا بكر الصديق – رضي الله تعالى عنه – فقل له: أن علي من الدين كذا وكذا، وفلان من رقيقي عتق وفلان، فأتى الرجل خالداً فأخبره فبعث إلى الدرع فأتى بها، وحدث أبا بكر – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – برؤياه، فأجاز وصيته، قال: ولا نعلم أحداً أجيزت وصيته بعد موته غير ثابت بن قيس – رضي الله تعالى عنه ورحمه وإيانا جميعاً –.(1/367)
.. قال الإمام ابن القيم – عليه رحمة الله تعالى –: وإذا عرف الميت مثل هذه الجزئيات وتفاصيلها فمعرفته بزيارة الحي له، وسلامه عليه، ودعائه له أولى وأحرى، والله تعالى (1) أعلم.
__________
(1) انظر كتاب الروح: (15-16) ، وانظر القصة في كتاب الاستيعاب: (1/194) على هامش الإصابة ورواها الطبراني بسند رجاله رجال الصحيح كما في مجمع الزوائد: (9/322) ، قال الحافظ والهيثمي: وبنت ثابت بن قيس – رضي الله تعالى عنهما – لم أعرفها، والظاهر أنها صحابية، فإنها قالت: سمعت أبي والله أعلم، والقصة رواها الطبراني أيضاً عن أنس – رضي الله تعالى عنه – بسند رجاله رجال الصحيح كما في مجمع الزوائد: (9/322-323) ، وذكرها الحافظ في الإصابة في ترجمة ثابت بن قيس – رضي الله تعالى عنه –: (1/195) وهي في أسد الغابة: (1/275) ، والبداية والنهاية: (6/335) ، قال الإمام ابن القيم: اتفق خالد وأبو بكر الصديق والصحابة – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – على العمل بهذه الرؤيا، وتنفيذ الوصية بها، وانتزاع الدرع ممن هي في يده، وهذا محض الفقه ... وموقعة اليمامة كانت سنة اثنتي عشرة في بلاد نجد بين المسلمين والمرتدين بقيادة مسيلمة الكذاب اللعين – انظر ما دار في تلك الموقعة في البداية والنهاية: (6/323-327) ، وشذرات الذهب: (1/23) .(1/368)
.. قال عبد الرحيم – غفر الله ذنوبه أجمعين – أخبرني بعض الإخوة الصالحين من أهالي المدينة المنورة في شهر ربيع الثاني من هذه السنة أن رجلا ً صالحاً من أهالي الرياض توفي بعض جيرانه ممن كان معهم الجماعة في المسجد، فرآه في نفس الليلة التي دفن فيها ووجهه مسود كئيب، فسأله عن سبب ذلك، وعما فعل معه في قبره، فقال له: إن العذاب متواصل علي منذ دفنت إلى الآن بسبب ما أحضرته إلى بيتي من مزامير الشيطان، جهاز المفسدون "التلفاز" فأسألك بالله أن تراعي ما بيننا من صحبة، وأن تخبر أهلي بحالي، ليكسروا ذلك الجهاز، فعسى الله أن يفرج عني ويرحمني، فتهيب الرجل من عرض ما رآه على أهله، فرآه في الليلة الثانية على حالته في الليلة الماضية، وكرر عليه الطلب والمناشدة فإخبار الأهل بذلك، فتباطأ في الإخبار وطن ذلك من قبيل أضغاث الأحلام، فرآه في الليلة الثالثة على تلك الحالة، وهو يعاتبه معاتبة شديدة، ويطلب منه إبلاغ أهله بذلك، فأخبرهم في الصباح بما رآه في الليالي الثلاثة فوقعت تلك الواقعة في قلوبهم موقع القبول، وتركوا ذلك العمل المرذول، فرآه في الليلة الرابعة، وعليه البهجة والحسن، وهو يقول له: فرج الله عنك الكروب كما فرجت عني (1) .
__________
(1) ولا يستبعد هذا – يا عبد الله – فالأمر جد، وليس بالهزل، والمسخ واقع في هذه الأمة وهو في طائفتين، في علماء السوء الكاذبين على الله – جل وعلا – وعلى رسوله – صلى الله عليه وسلم – الذين قلبوا: دين الله وشرعه، فقلت الله صورهم كما قلبوا دينه، والجزاء من جنس العمل.
والطائفة الثانية: المجاهرون المتهتكون بالفسق والمحارم، فلما نسخوا عن معاني الإنسانية بتلك المجاهرة الردية قلب الله صورهم إلى صور منكرة دنية، ومن لم يمسخ من هذين الصنفين في الدنيا مخ في قبره، أو يوم القيامة، كما في إغاثة اللهفان: (1/345) ، وفي: (1/284) يقول الإمام ابن القيم: وقد تظاهرت الأخبار بوقوع المسخ في هذه الأمة، وهو مقيد في أكثر الأحاديث بأصحاب الغناء، وشاربي الخمور، وفي بعضها مطلق 10هـ.
فليتق الله الجليل الذين وصفوا في بيوتهم آلات اللهو، مزامير الشيطان، من تلفزيون وفيديو وما شاكلها، وليخرجوا ذلك من بيوتهم قبل أن تخرج أرواحهم، ويغير الله صورتهم، وليعلموا أن اقتناء ذلك، والعكوف عليه من باب الدياثة، والجنة حرام على الديوث، كما ثبت عن نبينا – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: "ثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والديوث ورجلة النساء" انظر المستدرك: (1/72) كتاب الإيمان عن ابن عمر – رضي الله تعالى عنهما – مرفوعاً، قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وأقره الذهبي، ورواه البيهقي في السنن الكبرى: (10/226) كتاب الشهادات – باب الرجل يتخذ الغلام والجارية المغنيين ويغنيان – وانظره في المسند: (2/134) ، ورواه البزار بإسنادين رجالهما ثقات كما في مجمع الزوائد: (8/148) – كتاب الأدب – باب ما جاء في العقوق –، ورواه أيضاً أحمد في المسند: (2/69-128) لكن في إسناده مبهم، ورواه النسائي في كتاب الزكاة – باب المنان بما أعطى –: (5/60) بلفظ "ثلاثة لا نظر الله – عز وجل – إليهم" الحديث، أخرجه عبد الرزاق في المصنف: (11/243) في كتاب الجامع – باب في المخنثين والمذكرات – عن معمر عن رجل من قريش رفعه.
ولصنفين من أهل الأرض في هذا الوقت النصيب الأكبر من السفاهة والدياثة حيث سهلوا على الناس طرق الخنا، وكانوا قدوة لهم في ذلك الشقاء والبلاء، أولهما: الحكام الماجنون، والثاني العلماء الزائفون، وفي إغاثة اللهفان: (1/345) قال مالك بن دينار – عليه رحمة الله تعالى – بلغني أن ريحاً تكون في آخر الزمان وظلم، فيفزع الناس إلى علمائهم فيجدونهم قد مسخهم الله 10هـ وفي كتابه الإذاعة لما كان ويكون بين يدي الساعة: (100) قال مكحول: يأتي على الناس زمان عالمهم أنتن من جيفة حمار، – نسأل الله السلامة بمنه وكرمه، والفرج العاجل بجوده وبره ولطفه –، وانظر قول مكحول في كتاب أخلاق العلماء للآجري، (63) والتذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة: (741) ، وهو في الحلية: (5/181) بلفظ: لا يأتي على الناس ما يوعدون حتى يكون عالمهم فيهم أنتن من جيفة حمار.(1/369)
فحال الروح عجيب، وأمرها غريب، ونحن ندرك آثارها، ولا نحيط بكيفيتها وأحوالها فكيف سنحيط بصفات رب العالمين، وأنى تتماثل صفاته بصفات المخلوقين، روى أبو نعيم في الحليلة وغيره أيضاً عن سلمان الفارسي – رضي الله تعالى عنه – أنه قال لعبد الله بن سلام – رضي الله تعالى عنه –: أينا مات قبل صاحبه فليتراء له، قال عبد الله بن سلام – رضي الله تعالى عنه – أويكون ذلك؟ قال سلمان – رضي الله تعالى عنه –: نعم، إن نسمة المؤمن مخلاة تذهب في الأرض حيث شاءت، ونسمة الكافر في سجين، قال عبد الله بن سلام: فمات سلمان – رضي الله تعالى عنهما – فبينما أنا ذات يوم قائل بنصف النهار على سرير لي فأغفيت إغفاءة إذ جاء سلمان – رضي الله تعالى عنه – فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فقلت: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته يا أبا عبد الله، كيف وجدت منزلك؟ قال: خيراً، وعليم بالتوكل فنعم الشيء التوكل، ردده ثلاث (1) مرات – عليه رضوان الله ورحمته –.
رابعاً: أحوال تعلق الروح بالأبدان في الدور التي يسكنها الإنسان:
للروح بالبدن خمسة أنواع من التعلقات، مغايرة الأحكام والاعتبارات، ولا نحيط علماً بتحقيق حالة من تلك الحالات، فسبحان ربنا الذي أحاط علمه بالظواهر والخفيات، وسبحانه فهو رب الأرض والسموات، وعالم بجميع أحوال المخلوقات، لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السموات , وإليك تلك التعليقات، جعلنا الله الكريم من أهل البصائر النيرات وختم لنا بالحسنى إنه سميع مجيب الدعوات.
التعلق الأول:
__________
(1) انظر القصة في حلية الأولياء: (1/205، وصفة الصفوة: (1/555-556، والروح: (22 وفيه أيضاً خبراً يشبه هذا عن صالح البراد قال: رأيت زرارة بن أوفي بعد موته، فقلت: رحمك الله، ماذا قيل لك، وماذا فلت؟ فأعرض عني، قلت: فما صنع الله بك؟ قال: تفضل عليّ بجوده وكرمه، قلت: فأيّ الأعمال أبلغ فيما عندكم؟ قال: التوكل وقصر الأمل.(1/370)
تعلق الروح بالإنسان عندما يكون جنيناً في ظلمات ثلاث: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} الزمر6 فتم خلقه في ظلمة البطن، والرحم، والمشيمة، من طريق تكوينه نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، وبعد ذلك نفخت فيه الروح، كما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن عبد الله بن مسعود – رضي الله تعالى عنه – قال: حدثنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو الصادق الصدوق فقال: "إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك، فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: يكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقيّ أو سعيد، فوالله الذي لا إله غيره، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها (1)
__________
(1) انظر صحيح البخاري – كتاب بدء الخلق – باب ذكر الملائكة – على نبينا وعليهم الصلاة والسلام: (6/302) ، وكتاب أحاديث الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – باب خلق آدم وذريته –: (6/363) وأول كتاب القدر –: (11/477) ، وكتاب التوحيد – باب 28: (13/440) بشرح ابن حجر في الجميع، وصحيح مسلم – كتاب القدر – باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه –: (16/190-193) بشرح النووي، وسنن الترمذي – كتاب القدر – باب ما جاء أن الأعمال بالخواتيم: (6/310-311) ، وسنن أبي داود – كتاب السنة – باب في القدر –: (5/82-83) ، وسنن ابن ماجه – المقدمة – باب في القدر –: (1/29) ، وكتاب الشريعة للآجري -: (182) ، وكتاب السنة لابن أبي عاصم –: (1/77-28) والمسند: (1/382، 414، 430) .
قال الإمام ابن رجب – عليه رحمة الله تعالى – في جامعه العلوم والحكم: (44) هذا الحديث متفق على صحته، وتلقته الأمة بالقبول 10هـ وشرحه في اثنتي عشرة صفحة فانظرها.(1/371)
".
التعلق الثاني:
... تعلق الروح بالبدن بعد خروجه من بطن أمه إلى الأرض، وعندما يكون حياً يقظاً، وهذا التعلق يختلف عما قبله فيه يتصرف هنا وهناك، ويقوم بمختلف الأعمال والحركات، وهذا من الأمور والمشاهدات، ولا ينفك عنها حيّ من الحيوانات.
التعلق الثالث:
... تعلق الروح بالإنسان عندما يكون حياً في حال نومه، فتعلق الروح به في حال يقظته فارقه، ولذلك لا يحس بما حوله، ولا يعي ما يقال له، وصاحبه تعلق آخر للوح به، لا يعلمه إلا خالق الأرواح، ربنا الكريم الفتاح، وذلك يتنفس ويقوم بعملية الزفير والشهيق كما يقوم بها الحي اليقظ، ويحفظ جسمه من الآفات مهما امتد به السبات، وقد لبث أصحاب الكهف في نومهم أكثر من ثلاثمائة من السنوات، ولم تتغير أبدانهم ولم تفسد أجسامهم، قال ربنا – جل وعلا –: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً} الكهف25.
التعلق الرابع:(1/372)
.. تعلق الروح بالإنسان، بعد مفارقته دار الامتحان، ومصيره دار البرزخ التي سيلقى فيها بداية الإهانة أو الإكرام، على ما قدمه من طاعات أو عصيان، فالبدن وإن فارقه تعلق الروح به في الحياة الدنيوية، في دار البرزخ العلية، فلا يتنفس ولا يقوم بالتصرفات الاختيارية، إنما هو جثة هامدة مرمية، فللروح تعلق به في تلك الحالة العلية لا يعمله إلا رب البرية، وقد تقدم قريباً دلالة النصوص الشرعية على سماع الميت قرع نعال أصحابه الذين دفنوه، عند انصرافهم عن قبره الذي فيه وضعوه، وتقدم أيضاً في هذا الكتاب المبارك أن عمر بن الخطاب – رضي الله تعالى عنه – قال للنبي – صلى الله عليه وسلم – عندما ذكر فتّان القبر: أتُرَدُ علينا عقلونا يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال النبي – صلى الله عليه وسلم –: "نعم، بهيئتكم اليوم" فقال عمر – رضي الله تعالى عنه –: بغية الحجر، وكل ذلك لا يتم إلا إذا كان الإنسان ذا شعور وإحساس تام، وللوح تعلق متين ببدن الإنسان لا يعلمه إلا الرحمن الرحيم، وفي المسند بسند حسن عن أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنها – قالت: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "يرسل على الكافر حيّتان، واحدة من قبل رأسه، وأخرى من قبل رجليه، تقرضانه قرضاً، لكما فرغتا عادتا إلى يوم القيامة"، وفي المسند أيضاً وسنن الدارمي، ومسند أبي يعلى عن أبي سعيد الخدري – رضي الله تعالى عنه – قال – قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "يسلط على الكافر في قبره تسعة وتسعون تنيناً تنهشه وتلدغه حتى تقوم الساعة، ولو أن تنيناً منها نفخ في الأرض ما نبتت خطراً (1)
__________
(1) انظر صفحة (....،....) .من هذا الكتاب المبارك، وانظر الرواية الأولى في المسند: (6/152) ، وإسناد الحديث حسن كما في مجمع الزوائد: (3/55) ، وانظر الرواية الثانية في المسند: (3/38) ، وسنن الدارمي – كتاب الرقاق – باب في شدة عذاب النار –: (2/331) ، وانظر رواية أبي يعلى في مجمع الزوائد: (3/55) ، والترغيب والترهيب: (4/362) ، والحديث رواه ابن حبان في صحيحه – موارد الظمآن – كتاب الجنائز – باب الراحة في القبر وعذابه –: (199) كلهم من رواية درّاج عن أبي الهيثم. ودرّاج أبو السمح صدوق في حديثه عن أبي الهيثم كما في التقريب: (1/235) ، وانظر كتاب الروح: (52) وفيه: مذهب سلف الأمة وأئمتها أن الميت إذا مات يكون في نعيم أو عذاب، وإن ذلك يحصل لروحه وبدنه، وأحاديث عذاب القبر ومسألة منكر ونكير، فكثيرة متواترة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – وفي صفحة: (57) وكما أن هذا هو مقتضى السنة الصحيحة، فهو متفق عليه بين أهل السنة الكرام 10هـ وفي الجوهرة: (2/70) تحفة المريد:
سؤالنا ثم عذابُ القبر ِ ... نعيُمه واجبْ كبَعْث ِ الحَشْر ِ(1/373)
". ...
... وقد دلت النصوص الشرعية على أن القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار، ولا يتحقق كل من النعيم والجحيم، إلا إذا كان ذا شعور تام سليم، يتناسب مع تلك الدار ولا يقاس بما عندنا من موازين، ورد في سنن الترمذي عن أبي سعيد الخدري – رضي الله تعالى عنه – قال: دخل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مصلاه، فرأى ناساً يكشرون – أي تظهر أسنانهم من الضحك – فقال: "أما إنكم لو أكثرتم من ذكر هادم اللذات لشغلكم عما رأى الموت، فأكثروا من ذكر هادم اللذات: الموت، فإنه لم يأت على القبر يوم إلا تكلم فيه فيقول: أنا بيت الغربة، وأنا بيت الوحدة، وأنا بيت التراب، وأنا بيت الدود، فإن دفن العبد المؤمن قال له القبر: مرحباً وأهلا ً، أما إن كنت لأحب من يمشي على ظهري إليّ، فإذا وليتك اليوم، وصرت إليّ فسترى صنيعي بك، قال: فيتسع له مد بصره، ويفتح له باب إلى الجنة، وإذا دفن العبد الفاجر أو الكافر، قال له القبر: لا مرحباً، ولا أهلا ً، أما إن كنت لأبغض من يمشي على ظهري إلىّ، فإذا وليتك اليوم، وصرت إليّ فسترى صنيعي بك قال: فيلتئم عليه حتى تلتقي وتختلف أضلاعه، قال: وقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بأصابعه، فأدخل بعضها في جوف بعض، قال: ويقيض الله له سبعين تنيناً، لو أن واحداً منها نفخ في الأرض ما أنبتت شيئاً ما بقيت الدنيا، فينهشه، ويخدشه، حتى يفضي به الحساب، قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "إنما القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار (1)
__________
(1) انظر سنن الترمذي – كتاب صفة القيامة – باب 27 –: (7/166-168) قال الترمذي هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، والحديث له شواهد متعددة منها ما في صحيح ابن حبان – موارد الظمآن –: (198-199) ، ومسند أبي يعلى بسند فيه درّاج أبو السمح المتقدم كما في مجمع الزوائد: (3/55) والترغيب والترهيب: (4/362) قال الهيثمي: وحديثه حسن، واختلف فيه، عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: "إن المؤمن في قبره لفي روضة خضراء، فيرحب له في قبره سبعون ذراعاً، وينور له كالقمر ليلة البدر، أتدرون فيما أنزلت هذه الآية: {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} طه124 قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: عذاب الكافر في قبره، والذي نفسي بيده إنه ليسلط عليه تسعة وتسعون تنيناً، أتردون ما التنين؟ سبعون حية لكل حية سبعة رؤوس يلسعونه ويخدشونه إلى يوم القيامة".
قال عبد الرحيم – غفر الله له ذنوبه أجمعين –: ما ورد في بعض الروايات من تسليط حيتين على المسرف في قبره، وفي بعضها تسليط سبعين، وفي بعضها تسليك تسع وتسعين، ليس فيه تعارض أبداً لأن أقل ما يسلط عليه حيتان عظيمتان، وتتضاعف الأعداد حسب عراقة المجرم في الفساد، وفي تحفة المريد: (2/70) قيل: والحكمة في هذا العدد – تسع وتسعين - - أنه كفر بأسماء الله الحسنى، وهي تسع وتسعون، فتأمل قوله.(1/374)
".
... وقد كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يتعوذ بالله من عذاب القبر في الصلاة، وأمرنا بذلك ثبت هذا في الصحيحين وغيرهما، ولفظ رواية مسلم – رحمه الله تعالى – عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع، يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنة المسيح الدجال" وفيه أيضاً عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن، يقول: "قولوا اللهم إنا نعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات (1) ".
التعلق الخامس:
... تعلق الأرواح بأجسادها، حالة بعثها من موتها، وانتقالها من عالم البرزخ إلى عالم الآخرة، وهذا التعلق أتم أنواع التعلقات، فلا يعتريه موت ولا سُبات، وعنده يستقر المؤمن في الدرجات العاليات، والعاتي المشرك في الدركات السافلات حفظنا الله بمنه وكرمه من سائر الآفات المهلكات، ومنّ علينا بالتمتع برؤيته في دار الجنات إنه واسع المغفرة كثير الهبات.
... وأما الدور التي يسكنها الإنسان، ولا يخرج عنها في زمن من الأزمان، فثلاثة دور نسبة كل دار لما بعدها كنسبة التي قبلها لها، وتلك الدور هي:
__________
(1) انظر روايات الحديث في صحيح مسلم –كتاب المساجد – باب ما يستعاذ منه في الصلاة –: (1/412-413، وصحيح البخاري – كتاب الأذان – باب الدعاء قبل السلام –: (2/317) ، وسنن أبي داود – كتاب الصلاة – باب ما يقول بعد التشهد: (1/601) ، وسنن الترمذي – كتاب الدعوات باب 77: (9/164) ، وسنن النسائي – كتاب السهو – باب نوع آخر من التعوذ في الصلاة –: (3/48) ، وسنن ابن ماجه – كتاب الدعاء – باب ما تعوذ منه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – (2/1262) ، والمسند: (6/89) .(1/375)
الدار الأولي: دار الغرور، التي ستنقضي وتزول، وهي دار الدنيا الفانية، وتبتدئ حياة الإنسان في تلك الدار من وجوده في بطن أمه حتى موته.
الدار الثانية: دار البرزخ، وهي ما بين الدنيا والآخرة، والبرزخ هو الحاجز، ودار البرزخ حاجر بين الدنيا والآخرة، وفاصل بينهما، قال الله – جل جلاله – ِ: {حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} المؤمنون 98-103.(1/376)
الدار الثالثة: دار الآخرة، وهي التي لا آخر بعدها، وتبتدئ من بعث الأموات إلى ما لا نهاية له من الأوقات، فالإقامة فيها أبدية سرمدية، في غرف الجنان العلية أو في دركات النار السفلية (1) .
__________
(1) وقد أجمع أهل السنة والجماعة على أبدية الجنة والنار، وعلى خلود أهلها فيهما، قال الإمام أحمد – عليه رحمة الله تعالى – في كتاب السنة – ضمن شذرات البلاتين: (47) وقد خلقت النار وما فيها، والجنة وما فيها، خلقهما الله، ثم خلق الخلق لهما، لا يفنيان ولا يغني ما فيهما أبدأً 10هـ وفي كتاب أصول الدين: (238) أجمع أهل السنة، وكل من سلف من أخيار الأمة على دوام بقاء الجنة والنار، وعلى دوام نعيم أهل الجنة، ودوام عذاب الكفرة في النار 1هـ وهكذا حكى إجماع أهل السنة الكرام والسلف الصالح عن أبدية النار وخلود أهلهما فيهما الإمام أبو الحسن الأشعري – عليه رحمة الله تعالى – في مقالات الإسلاميين: (2/148) ، وابن حزم – رحمه الله تعالى – من مراتب الإجماع: (173) ، وأقره الشيخ ابن تيمية – عليه رحمة الله تعالى – في تعليقه على كتابه، وقرر هذا أيضاً كما في مجموع الفتاوى: (18/307) ، فقال: اتفق سلف الأمة وأئمتها، وسائر أهل السنة والجماعة على أن من المخلوقات ما لا يعدم ولا يفنى بالكلية، كالجنة والنار، والعرش وغير ذلك 10هـ وبوب الإمام الهيثمي – عليه رحمة الله تعالى – في مجمع الزوائد: (10/385) بابا في هذا المقال: باب الخلود لأهل النار في النار ولأهل الجنة في الجنة، وفي الجوهرة: (2/83-84) مع شرحها تحفة المريد:
والنار حق ٌ أوجدتْ كالجَنّة ْ ... فلا تَمِلْ لجَاحِدٍ ذي جِنّة ْ
دارا خُلودٍ للسعيد والشّقي ... مُعَذبٌ مُنَعّمٌ مهما بقي
والأشياء التي لا تفنى ولا تهلك ثمانية نظمها الإمام السيوطي – عليه رحمة الله تعالى – بقوله كما في تحفة المريد: (2/64) :
ثمانية حُكمُ البقاء يَعُمّها ... من الخلق والباقون في حَيّز ِ العَدَمْ
هي العرشُ والكرسيّ نارٌ وجَنّة ٌ ... وعجْبٌ وأرواحٌ كذا اللوحُ والقَلَمْ
ج
ويكن قول الله – جل وعلا – {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} القصص88 من قبيل العالم المراد به الخصوص، أي: كل شيء حكم الله عليه بالهلاك، أو هو من قبيل العالم المخصوص فاللفظ يشمل عموم المخلوقات، ووردت النصوص بتلك الأشياء، والمراد من عجب الذئب: عظم لطيف في أسفل الصلب، وهو رأس العصعص، وهو أول ما يخلق من الآدمي، ويبقى على حالته بعد موته ليعاد تركيب الخلق عليه، ثبت عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – أنه قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "كل ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذنب، منه خلق ومنه يركب" انظر صحيح مسلم – كتاب الفتن – باب ما بين النفختين –: (4/2271) ، وصحيح البخاري – كتاب التفسير – سورة الزمر – باب 4: (8/551) ، وسورة "عم يتساءلون": (8/690) بشرح ابن حجر فيهما، وسنن أبي داود – كتاب السنة – باب ما ذكر البعث والصور –: (5/108) ، وسنن النسائي – كتاب الجنائز – باب أرواح المؤمنين –: (4/91) ، وسنن ابن ماجه – كتاب الزهد – باب ذكر القبر والبلى: (2/1425) ، والموطأ – كتاب الجنائز – باب جامع الجنائز –: (1/239) ، والمسند: (2/322، 428، 499، ورواه الإمام أحمد في: (3/28) عن أبي سعيد الخدري – رضي الله تعالى عنهم أجمعين –.(1/377)
.. واعلم أخي – علمني الله وإياك – أن مما ينبغي التنبه له غاية الانتباه، ومعرفته تام المعرفة لئلا يقع الإنسان في اللبس والاشتباه، والانحراف عن طريق الرشد والسداد، أن كل دار من تلك الدور الثلاثة لها موازينها الخاصة بها، ولا يصح بحال وزن دار بميزان دار أخرى، بل إن دار الدنيا تختلف باختلاف وجود الإنسان فيها، فلوجوده في بطن أمه موازين واعتبارات تختلف عن وجوده حياً يقظاً على ظهر الأرض، بعد انفصاله من بطن أمه، وكل منهما أيضاً تختلف موازينه عن موازين وجوده على ظهر الأرض حياً نائماً، فافهم هذا حق الفهم، لتحفظ نفسك من العار، ولتصونها عن مسلك الأشرار، ولذلك قرر أهل السنة الأبرار أن نسبة الحياة الدنيوية إلى الحياة البرزخية كنسبة بطن الأم إلى سعة دار الدنيا، ونسبة الحياة في البرزخ إلى الحياة في الدار الآخرة كنسبة الحياة والدنيوية إلى الحياة البرزخية، والإنسان في جميع مراحل حياته في تلك الدار يشعر بالعذاب والنعيم بروحه وجسده، لكن نسبة تلك الشعور متفاوتة مختلفة.
... ففي الحياة الدنيوية ينصب العذاب والنعيم على الأبدان أصالة، فيسري ذلك إلى الأرواح تبعاً، ولهذا رتبت الشريعة المطهرة الأحكام في هذه الدار على ما يظهر من حركات الأبدان وإن كان خلاف ذلك في الأنفس والجنان.(1/378)
.. وفي الحياة البرزخية ترد الأحكام على الأرواح أصالة فيسري ذلك إلى الأبدان تبعاً عكس ما يكون في الحياة الدنيوية تماماً فكما تبعت الأرواح الأبدان في أحكام الدار الدنيوية، فالتذت براحتها، وتألمت بألمها، ففي دار البرزخ هي التي تباشر العذاب والنعيم، فيتألم البدن ويلتذ حسبما يرد على روحه، وإذا كانت الأبدان ظاهرة في دار الدنيا، والأرواح خفية مستترة في أبدانها، والأبدان للأرواح بمنزلة القبور في هذه الحياة، ففي البرزخ يكون الأمر بالعكس تماماً فالأرواح هي الظاهرة، والأبدان خفية في قبورها، وتجري أحكام البرزخ على الأرواح فتسري إلى الأبدان نعيماً كان ذلك أو عذاباً، كما تجري أحكام الدنيا على الأبدان، فتسري إلى أرواحها نعيماً أو عذاباً.
... وفي دار الآخرة تجري الأحكام على الأرواح والأبدان، أصالة في كل منهما، فهي أكمل الدور وهي غاية ما سبقها من الدور، نسأل الله أن يجعل لنا فيها دار كرامته، وأن يمنّ علينا بواسع فظه ورؤية نور وجهه، إنه سميع الدعاء.
... فافهم ما سبق – يا عبد الله – حق الفهم، لتزول عنك الإشكالات، وتتضح لديك المتشابهات وترفع عنك الشبهات، وتقف على الحقائق البينات، التي تعثر في فهمها كثير من العقول الذكيات وهي من الزكاء عاريات ـ وذلك لأن ما سبق من أحوال الروح تحار العقول في فهمها، والوقوف على حقيقة أمرها، ولكن لا تحليها، والشرائع تأتي بما تحار فيه العقول، لا بما تحيله، وتلك الحيرة مقصودة للشرع الحنيف، ليسلم الإنسان بعجزه عن الإحاطة بشيء من أمر هذا المخلوق الضعيف، فكيف سيحيط بالخبير اللطيف، سبحانه سبحانه: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} الأنعام103 ورحمة الله على الإمام الغزالي حيث يقول:
قُل لمن يَفْهمُ عني ما أقول ... قَصِّر القولَ فذا شرح يطول
ثَمَّ سِرٌ غامِضٌ من دونه ... ضُربتْ والله أعناق الفُحول(1/379)
أنت لا تعرفُ إيّاك ولا ... تدر من أنت ولا كيف الوصول
ج
لا ولا تدري صفاتٍ رُكِبّتْ ... فيك حارتْ في خفاياها العقول
أين منك الروح في جوهرها ... هل تراها فترى كيف تجول
هذه الأنفاسُ تحصرها ... لا ولا تدري متى عنك تزول
أين منك العقل والفهم إذا ... غَلَبَ النومُ فقل لي يا جهول
أنتَ آكل الخبز لا تعرفه ... كيف يجري فيك أم كيف تبول
فإذا كانت طواياك التي ... بين جنبيك كذا فيها ضَلول
كيف تدري من على العرش استوى ... لا تقل كيف استوى كيف النزول (1)
ج
__________
(1) انظر الأبيات في حاشية الأمير: (41) ، وتحفة المريد: (1/83) .(1/380)
.. قال الإمام ابن القيم – رحمه الله تعالى – في تقرير للروح بما سبق في الدليل المائة، وهو ما قد اشترك في العلم به عامة أهل الأرض من لقاء الموتى، وسؤالهم لهم، وإخبارهم إياهم بأمور قد خفيت عليهم فرأوها عياناً، وهذا أكثر من أن يتكلف إيراده، وأعجب من هذا: (الوجه الحادي والمائة) وهو أن روح النائم يحصل لها في المنام آثار فتصبح يراها على البدن عياناً، وهي من تأثير للروح في الروح، كما ذكر القيرواني في كتاب "البستان" عن بعض السلف قال: كان لي جار يشتم أبا بكر وعمر – رضي الله تعالى عنهما – فلما كان ذات يوم أكثر من شتمهما فتناولته وتناولني فانصرفت إلى منزلي وأنا مغموم حزين، فنمت وتركت العشاء، فرأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في المنام، فقلت يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فلان يسب أصحابك، قال: مَنْ أصحابي؟ قلت: أبا بكر وعمر، قال: خذ هذه المُدْية فاذبحه بها فأخذتها فأضجعته وذبحته، ورأيت كأن يدي أصابها من دمه، فألقيت المدية، وأهويت بيدي إلى الأرض لأمسحها، فانتبهت، وأنا أسمع الصراخ من نحو داره، فقلت ما هذا الصراخ؟ قالوا: فلان مات فجأة، فلما أصبحنا جئت فنظرت إليه، فإذا خط موضع الذبح (1) .
__________
(1) انظر كتاب الروح: (188-189) ، وانظر كلامه على متعلقات الروح الخمسة في: (43-44) وتقسيمه الدور التي يعيش فيها الإنسان إلى ثلاثة دور، وأحكام كل دار في: (63-64) ، وانظر الكلام على تعلقات الروح، وأعداد الدور في شرح الطحاوية: (354-357) ، وانظر كتاب الروح: (61-74) ، فقد قرر الإمام ابن القيم عذاب البرزخ ونعيمه، بأدلة وشواهد واقعية، فعليه رحمة رب البرية، وانظر بعض تلك الأدلة في فتح الباري: (3/235) ، ودرء تعارض العقل والنقل: (6/108) وهذه شذرة ملخصة من بعض كلام الإمام ابن القيم: عذاب القبر ونعيمه، اسم لعذاب البرزخ ونعيمه، وهو ما بين الدنيا والآخرة، ويشرف أهله فيه على الدنيا والآخرة، سمي عذاب القبر ونعيمه، وأنه روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار، باعتبار غالب الخلق، فالمصلوب والحرق والغرق، وأكيل السباع والطيور له من عذاب البرزخ ونعيمه قسطه الذي تقتضيه أعماله، وإن تنوعت أسباب النعيم والعذاب، وكيفياتهما – فلو علي الميت على رؤوس الأشجار في مهاب الرياح أو أحرق حتى صار رماداً ونسف في الهواء لوصل إلى روحه وبدنه من العذاب ما يصل إلى المقبور إن كان مستحقاً له، ولو دفن الرجل الصالح في أتون من النار لأصاب جسده من نعيم البرزخ وروحه وحظه، فيجعل الله النار على هذا برداً وسلاماً، ويجعل الهواء على من علق على رؤوس الأشجار – إن كان مستحقاً للعذاب، فعناصر العالم وموارده منقادة لربها فاطرها وخالقها يصرفها كيف يشاء، ولا يستعصي عليه منها شيء أراده بل هي طوع مشيئته مذلله منقادة لقدرته، ومن أنكر فقد جحد رب العالمين، وكفر به، وأنظر ربوبيته.
وقد أرانا الله – سبحانه وتعالى – بلطفه ورحمته وهدايته نموذجاً في الدنيا من حال النائم فإن ما ينعم به أو يعذب في نومه يجري على روحه أصلاً، والبدن تبع له وقد يقوى حتى يؤثر في البدن تأثيراً مشاهداً فيرى أنه ضرب فيصيح، وأثر الضرب في جسده، وأعجب من ذلك أنك ترى النائم يقوم في نومه، ويضرب ويبطش ويدافع كأنه يقظان، وهو نائم لا شعور له بذلك وذلك أن الحكم لما جرى على الروح استعانت بالبدن من خارجه، ولو دخلت فيه لاستيقظ وأحسن، فإذا كانت الروح تتألم وتنعم ويصل ذلك إلى بدنها بطريق الاستتباع فهكذا في البرزخ بل أعظم فإن تجرد الروح هنالك وأكمل وأقوى، وهي متعلقة ببدنها لم تنقطع عنه كل الانقطاع، ومتى أعطيت هذا الموقع حقه تبين كل أن ما أخبر به الرسول – صلى الله عليه وسلم – من عذاب القبر ونعيمه، وضيقه وسعته، وضمه وكونه حفرة من حفر النار، أو روضة من رياض الجنة، مطابق للعقل وأنه حق لا مرية فيه، وأن من أشكل عليه ذلك فمن سوء فهمه، وقلة علمه أتى، كما قيل:
وكم من غائب قولا ً صحيحاً ... وآفته من الفهم السقيم
وأعجب من ذلك أنك تجد النائمين في فراش واحد، وهذا روحه في النعيم، ويستيقظ وأثر النعيم على بدنه وهذا روحه في العذاب ويستيقظ وأثر العذاب على بدنه، وليس عند أحدهما خبر بما عند الآخر فأمر البرزخ أعجب من ذلك، وذكر نحو ذلك الإمام ابن حجر – عليه رحمة الله تعالى – وملخص كلامه: لنعيم البرزخ وعذابه نظير في العادة، وهو النائم فإنه يجد لذة وألماً لا يدركه جليسه، بل اليقظان قد يدرك ألماً ولذة لما يسمعه أو يفكر فيه، ولا يدرك ذلك جليسه، وإنما أتى الغلط من قياس الغائب على الشاهد، وأحوال ما بعد الموت على ما قبله، وليست للجوارح الدنيوية قدرة على إدراك أمور الملكوت إلا من شاء الله – تبارك وتعالى –.(1/381)
.. فهذا وغيره مما يتعلق بالروح تحار العقول في فهمه، والوقوف على حقيقته وكنهه، ولكن لا تحيله أبداً، فافهم هذا جيداً، وتذكر قول من أحصى كل شيء عدداً ولا تخفى عليه خافية أبداً: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} الإسراء85، نسأل الله الكريم أن يعرفنا بحقارة نفوسنا وجهلها، وبعظمة ذات ربنا وفضلها إنه سميع مجيب.
خامساً المسائل المتعلقة بالروح وآخرها:
... إذا كانت الروح البشرية مجهولة لنا، ولا نحيط بشيء من متعلقاتها في بدننا، فإن ذلك يثبت لنا سفاهة المنحرفين في هذا العصر، الذين يروجون لعلم النفس الذي هو منبع الضلال والكفر ويطلقون عليه علم النفس البشرية، أو دراسات سيكولوجية، وإنما كانت تلك الدراسات السيكولوجية، بتلك الدركة السفلية، والشناعة الردية، لأن مجرد فروض نظرية، من قبل الأبالسة الغوية، فرويد وإدكر وغيرهما من قرود البشرية – عليهم جميعاً لعنات رب البرية – فالنفس البشرية لا يعلم حقيقتها، ولا يحيط بكيفيتها إلا خالقها وفاطرها، والذين بحثوا فيها وربتوا أحكامها على بحثهم، ليست مأخوذة من شرع ربهم، لا يتبعون في ذلك إلا الظن، الذي أضل من قبلهم من الكافرين، وهو لا يغني من الحق شيئاَ كما قال رب العالمين – جل وعلا –: {وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} النجم28.
ويقرر هذا ثلاثة أمور، فاغتنم معرفتها لتعرف حقائق الأمور:(1/382)
1- لا يصلح اعتبار العقل أساساً لبحث مسائل النفس، ومعرفة قضاياها، لأن العقل وما يستند إليه من تجارب وإحصاءات لا يمكن أن يكون حكماً في مسائل علم النفس، لأنها تدخل في عالم الغيب الذي لا يخضع لحساه من الحواس، وتقرير الخطأ والصواب، والفضيلة والرذيلة يحتاج إلى معرفة العلة الأولى والهدف الأخير، ونحن لا نعرفها في هذه الحياة الدنيا أو فيما وراءها، فلا ندري من أين جئنا وإلى أين نصير.
2- ثبت عجز الحواس عن إدراك أشياء كثيرة من المحسوسات، فالعين البشرية مثلا ً ينحصر مدى إدراكها فيما بين الموجات الضوئية التي طولها: 0.00007، والموجات الضوئية التي طولها: 0.00004 من السنتيمتر، وهي الموجات المحصورة بين اللون الأحمر واللون البنفسجي، ولا ندرك شيئاً مما تحت الأحمر، وقل مثل ذلك في حاسة السمع، وسائر الحواس فقد ثبت قصور التفكير البشري المبني على مشاهدات هذه الحواس.(1/383)
3- نتج عن الأمرين السابقين تشتت أراء أرباب الدراسات السيكولوجية، وكثرت افتراضاتهم الردية، وتباينت مذاهبهم الشيطانية، ففرقوا الناس، ومزقوا وحدتهم، وشككوهم في قيمهم بعد أن جمع الدين الناس على قيم الخير ومثله، ولم يستطع واحد من علماء علم النفس الملاعين، جمع الناس على مذهبه بعد أن فرقهم في الدين، فصار ذلك العلم اللعين سبباً في تفريق الناس أجمعين، وطلي الباطل بعبارات معسولة، وصارت وظيفة علم النفس تسفيه الفضائل وتبرير الجرائم فالدكتور عبد العزيز القوصي المستشار الفني لوزارة التربية بمصر يقرر في كتابه سلسلة دراسات سيكولوجية ضرورة الخلط بين الذكور والإناث في دور التعليم، وفي سائر أمور الحياة، فيدعو إلى إخراج المرأة للكدح في الأسواق، وامتهانها بين الرجال، وتصل به الخلاعة والمجون ليقرر أن القبلة، والغزل الرقيق، والتلميحات الجنسية ليست أمور شائنة، فليهدأ الشباب بالا ً، فليس كل ما يدور حول الجنس يدخل في باب المحرمات، ولعل كثيراً مما نكتبه كان ضحية سوء التوجيه.
ويسير على تلك الخطا نظيره الرقيع المبعوث الأزهري إلى باريس الشيطان رفاعة الطهطاوي فيقرر في كتبه المرشد الأمين للبنات والبنين وكتاب تلخيص الإبريز في تلخيص باريز، وكتاب الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية، يقرر في تلك الكتب ما قاله القوصي، ويزيد عليه حيث اعتبر الرقص بين الذكور والإناث نوعاً من الرشاقة ودماثة الأخلاق (1) .
__________
(1) قارن هذه الترهات والأوهام، والمنكرات والآثام مع قول خير الأنام – عليه الصلاة والسلام –: "لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له" روه الطبراني ورجاله رجال الصحيح كما في مجمع الزوائد: (4/326) ورواه البيهقي أيضاً في الجامع الكبير: (1/636) ، والترغيب والترهيب: (3/39) كلاهما عن معقل بن يسار – رضي الله تعالى عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم –.(1/384)
.. ويجيء بعد ذينك الرجلين الخبيثين خبيث ثالث، وهو الدكتور مصطفى محمود فيصدر فتواه الأثيمة بأنه لا مانع من إرسال النظر إلى الصدر العريان، والشعر المرسل، والأفخاذ المكشوفة إذا كان القلب نظيفاً، ليرى الناظر الجمال، فيرى فيه الخالق، فيقول: الله فيكتسب حسنات، كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً.
... قال عبد الرحيم – غفر الله له ذنوبه أجمعين –: يعلم الله الكريم، أن الأمة ما رزئت إلا بأولئك الشياطين، فنسأل الله أن يحفظنا من وساوسهم، وأن يطهر الأرض من رجسهم، ورجس شيعتهم، عاجلا ً غير آجل، فربنا على كل شيء قدير، وهو حسبنا ونعم الوكيل (1) .
ختام الكلام على طريقة أهل السنة الكرام في إيمانهم بصفات الرحيم الرحمن:
... ما تقدم من الكلام يدور حول طريقة أهل السنة الكرام في الصفات الثابتة لذي الجلال والإكرام، وقد ورد في النصوص الشرعيات، نفي بعض الصفات، عن رب الأرض والسموات، كما أنه يوجد ألفاظ مسكوت عنها، دار المتكلمون حولها، ولم يرد نفيها عن الله ولا وصفه بها، فما طريقة أهل السنة فيها وفيما قبلها؟
... وإليك البيان في ذلك يا طالب الهدى، حفظني الله وإياك من الزيغ والردى، وجعلنا من عباده السعداء.
... وردت نصوص الشرع المبين، بوصف رب العالمين، بصفات يتصف بها، كما وردت بنفي صفات يتنزه عنها، والأولى يقال لها: صفات ثبوتية، أي: ثابتة لذات ربنا العلية، ويتصف بها رب البرية، والثانية يقال لها: صفات سلبية، أي: منتفية عن ربنا، ولا يوصف بها خالقنا.
__________
(1)) ) انظر مدارج السالكين: (3/501) ففيه: ما أفسد أديان الرسل – عليهم الصلاة والسلام – إلا أرباب منازعات العقول، وانظر ما تقدم في كتاب الإسلام والحضارة الغربية: (35-37) وحصوننا مهددة من داخلها: (37-53) ، وانظر فتوى الضال مصطفى محمود في كتابه: القرآن محاولة لفهم عصري: (111) وأقلت تاء فتواه سيناً ليتناسب اللفظ مع حقيقة تلك النحلة الخبيثة.(1/385)
وطريقة أهل العقول الزاكيات، في إيمانهم بصفات النفي والإثبات، تتلخص فيما يأتي من التحقيقات البينات:
1- صفات الإثبات لها ثلاثة خصائص عند أهل السنة الكرام، دل عليها كلام الرحيم الرحمن:
أ) التفصيل: إذ بها يقع المدح للرب الجليل، والممدوح يمدح بما يقوم فيه من صفات ثبوتية، وأوصاف حسنى مرضية، ولذلك فصل أهل السنة الأبرار، في الصفات الثبوتية للعزيز الغفار، كما دل على ذلك كلام الواحد القهار: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} آخر الحشر.
ب) إنها مقصودة لذاتها، لأنه يقع بها التمدح للموصوف بها، فالمراد من وصف الله – جل وعلا – بالعلم، والرحمة والغضب، وغير ذلك من الصفات الثبوتية: الدلالة على وصف الله – تبارك وتعالى – بتلك الأوصاف.(1/386)
جـ) تدل على نفي أضدادها، فاتصاف ربنا بصفات الكمال، يستلزم نفي النقائص عنه في جميع الأحوال، فكل ما ضاد أسماء الله الحسنى، وصفاته المباركة، فهو منتفٍ عنه، لأن إثبات الشيء نفي ضده، ولما يستلزم ضده (1) .
__________
(1) وقد وضح ذلك شيخ الإسلام في الرسالة التدمرية: (86-92) غاية الإيضاح، وهي في مجموع الفتاوى: (3/82-88) ، وقرر أن كل ما نافا صفات الكمال الثابتة لله – جل وعلا – وضاده فهو منزه عنه، لأنه نقص وهو ضد الكمال، وإثبات أحد الضدين نفيٌ للآخر، ولما يستلزمه، فقد علم أنه – جل وعلا – حي، والموت ضد، فهو منزه عنه، وكذلك النوم والسنة ضد كمال الحياة ن فإن النوم أخو الموت، وكذلك اللغوب نقص في القدرة والقوة ... إلخ، وفي مجموع الفتاوى أيضاً: (17/108) نفي النقائص عنه من لوازم إثبات صفات الكمال، فمن ثبت له الكمال التام انتفى عنه النقصان المضاد له، وفي مجموع الفتاوى أيضاً: (16/97-98) ، وهو سبحانه وتعالى – وصف نفسه بالعلو، وهو من صفات المدح له بذلك والتعظيم، لأنه من صفات الكمال، كما مدح نفسه بأنه العظيم، والعليم، والقدير، والعزيز، والحليم، ونحو ذلك وأنه الحي القيوم ونحو ذلك من معاني أسمائه الحسنى، فلا يجوز أن يتصف بضد هذه الصفات، فلا يجوز أن يتصف بضد الحياة والقيومية والعلم والقدرة، مثل الموت والنوم والجهل والعجز واللغوب، ولا بضد العزة وهو الذل، ولا بضد الحكمة وهو السفه، فكذلك لا يوصف بضد العلو وهو السفول، ولا بضد العظيم وهو الحقير، بل هو – سبحانه وتعالى – منزه عن هذه النقائص المنافية لصفات الكمال الثابتة له، فثبوت صفات الكمال له ينفي اتصافه بأضدادها، وهي النقائص، وهو – سبحانه وتعالى – ليس كمثله شيء فيما يوصف به من صفات الكمال..فهو منزه عن النقص المضاد لكماله، وهو منزه عن أن يكون له مثل في شيء من صفاته، ومعاني التنزيه ترجع إلى هذين الأصلين، وقال في الرسالة التدمرية: (39-41) وهي في مجموع الفتاوى: (3/35-37) ، وينبغي أن يعلم أن النفي ليس فيه مدح ولا كمال إلا إذا تضمن إثباتاً وإلا فمجرد النفي ليس فيه مدح ولا كما، وكل نفي لا يستلزم ثبوتاً هو مما يصف الله به نفسه.(1/387)
2- وأما الصفات السلبية، فلها ثلاثة خصائص أيضاً، عند الفرقة الناجية المرضية:
أ) الإجمال: لعدم وقوع المدح بها لذي العزة والجلال، فالممدوح يمدح بها يقوم فيه من صفات ثبوتية ـ لا بما يتنزه عنه من أمور عدمية، كما دل على ذلك قول رب البرية: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} الشورى11، ففي جانب النفي أجمل " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ" وفي جانب الإثبات فصل " وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ"، فذكر صفتين من صفات رب الكونين.
ب) تدل على نفي ما دلت عليه، فما نفاه ربنا عن نفسه من الظلم والسنة والنوم، وغير ذلك، يدل على نفي تلك الصفات الناقصة الذميمة، عن ربنا ذي الصفات الكاملة الكريمة.(1/388)
جـ) المقصود إثبات ما يضادها من صفات الإثبات مع ما دلت عليه من نفي النقائص الرديات فليس في النفي المجرد مدح، وكل نفي لا يدل على إثبات ما يضاده من الصفات فلا يتصف به رب البريات، ولم يترد في الآيات المحكمات، وقد دل على هذا كلام رب الأرض والسموات: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً} فاطر44، فالعجز منتفٍ عن الله – جل وعز – لثبوت ما يضاده من صفات الكمال، ولهذا علل ربنا – جل وعلا – نفي العجز عنه بأمرين بثبوت علمه وقدرته، وذلك لأن العجز سببه أمران لا ثالث لهما: جهل أو ضعف، وهما منتفيان عن ربنا، فهو العالم بكل شيء والقدير على كل شيء، ولهذا قال – جل جلاله –: " إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً" (1) .
__________
(1) انظر مجموع الفتاوى: (16/99، 17/144، 66/67) ، ونحوه في تفسير ابن كثير: (4/25) وعبارته – رحمه الله تعالى –: ولما كان التسبيح يتضمن التنزيه والتبرئة من النقص بدلالة المطابقة ويستلزم إثبات الكمال كما أن الحمد يدل على إثبات صفات الكمال مطابقة ويستلزم التنزيه عن النقص قرن بينهما في هذا الموضع، وهو آخر سورة الصافات: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .(1/389)
.. قال الشيخ ابن تيمية – عليه رحمة الله تعالى –: ما وصف الله – جل وعلا – به نفسه من الصفات السلبية فلابد أن يتضمن معنى ثبوتياً، فالكمال هو في الوجود والثبوت، والنفي مقصوده نفي ما يناقض ذلك، فإذا نفى النقيض الذي هو العدم والسلب لزم ثبوت النقيض الآخر الذي هو الوجود والثبوت، وقال أيضاً: الصفات السلبية إنما تكون كمالا ً إذا تضمنت أموراً وجودية، ولهذا كان تسبيح الرب – جل جلاله – يتضمن تنزيهه وتعظيمه جميعاً، فقول العبد: سبحان الله، يتضمن تنزيه الله وبراءته من السوء، وهذا المعنى يتضمن عظمته في نفسه، وليس هو عدماً محضاً لا يتضمن وجوداً، فإن هذا لا مدح فيه ولا تعظيم، وكذلك سائر ما تنزه الرب عنه من الشركاء والأولاد، وغير ذلك، فنفي العيوب والنقائص يستلزم ثبوت الكمال، ونفي الشركاء يقتضي الوحدانية وهو من تمام الكمال.
... قال عبد الرحيم الطحان – ختم الله الكريم له بالإحسان التام –: وإنما كان النفي المجرد لا مدح فيه، وإذا لم يدل على ثبوت ما يضاده فلا خير فيه، لأربعة أمور محكمة، فاسمعها واشكر لله نعمه:
الأول: النفي المحض عدم محض، والعدم يكفي في تحقيره وتوهين أمره أنه عدم، فهو ليس بشيء وما ليس بشيء فهو كما قيل: ليس بشيء فضلا ً عن أن يكون مدحاً أو كمالا ً.
الثاني: العدم المحض يوصف به المعدوم والممتنع، والمعدوم والممتنع لا يوصف بمدح ولا كمال.
الثالث: قد يكون سبب النفي عدم القابلية، وليس في ذلك مدح كقولك: الجرار لا يظلم، ولا يغدر.
الرابع: قد يكون سبب النفي العجز، ولذلك ذم الشاعر قبيلة لكونهم لا يغدرون ولا يظلمون، وإنما ذمهم بنفي ذينك الوصفين عنهم، لأن سبب امتناعهم عنهما خستهم وضعفهم، وحقارتهم ومسكنتهم، لا عد لهم وأمانتهم، فهم قوم لئام تتحرق قلوبهم على فعل الآثام ولكن لا يستطيعون الغدر والعدوان، لما فيهم من ضعف وامتهان، فإذا ظلموا الناس صاعاً ظلموهم صاعين، قال الشاعر:(1/390)
قُبيّلة ٌ لا يَغْدرون بِذِمّةٍ ... ولا يظلمون الناس حَبّة َ خَرْدَل ِ
ومثل هذا قول آخر:
لكنّ قومي وإن كانوا ذوي عَدَدٍ ... ليسوا من الشر في شيءٍ وإنْ هانا
... قال عبد الرحيم – غفر الله ذنوبه أجمعين –: ولكون التروك قد يكون سبب تركها عجز الناس عن فعلها، أن التروك لا يثيب الله عليها المكلفين، إلا إذا تركوها ابتغاء وجهه الكريم، وإذا تركها العباد سبهللاً، لأنها لم تخطر ببالهم أصلا ً، فلا ثواب ولا عقاب، وأما إذا تركوها لعجزهم عنها، وفي نيتهم عزم أكيدٌ على فعلها، فعليهم العقاب بلا ارتياب، ولهم الويل والتباب، فاتق يا عبد الله ربك في نفسك، وصحح النية قبل دخولك رمسك (1) .
__________
(1) أي قبرك، رَمَسَه ُ يَرْمُسُه ُ رَمْساً فهو مَرْموسٌ ورَمِيسٌ: دفنه وسوى عليه الأرض وكل ما أهيل عليه التراب فقد رمس، وكل شيء نثر عليه التراب فهو مرموس، كما في اللسان: (7/406) "رمس" ومن طريف ما يروى في تعجيل العقوبة لمن يظهرون ترك القائح، ويوهمون الناس بترك الفضائح، وهم بفعلها متلبسون، وعن الصراط ناكبون، ما ورد في أخبار النساء: (121-122) من أن بعض السفهاء قام في ليلة ظلماء، ليعتدي على جارية من النساء، فلما عاد إلى سريره لسعته عقرباء فتجلد وصبر حتى استقر على السرير، خشية انكشاف حاله الحقير، ثم توجع وصاح، فقالت له صاحبة البيت مالك؟ فقال لها: لدغتني عقرب، فقالت: وعلى السرير عقرب؟ فقال لها: نزلت لأبول فأصابتني، ففطنت لنيته الخبيثة، ولما أصبحت جمعت جواريها واستحلفتهن أن لا يقتلن عقرباً في دارها إلى سنة، ثم قالت:
إذا عُصِيَ الله في دارنا ... فإنّ عقاربَنا تَغْضَبُ
ودارٌ إذا نام حُرّاسُها ... أقامَ الحُدودَ بها العقرب(1/391)
.. ثبت في المسند وسنن الترمذي وسنن ابن ماجه بإسناد صحيح عن أبي كبشة الأنصاري – رضي الله تعالى عنه – أنه سمع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: "ثلاثة أقسم عليهن، واحد ثكم حديثاً فاحفظوه، ما نقص مال عبدٍ من صدقة، ولا ظلم عبد مظلمة فصبر عليها إلا زاده الله عزاً، ولا فتح عبدٌ باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر. فأحدثكم حديثاً: إنما الدنيا لأربعة نفر ٍ: عبد رزقه الله مالا ًوعلماً فهو يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقاً. فهذا بأفضل المنازل، وعبد رزقه الله علماً ولم يرزقه مالا ً، فهو صادق النية، يقول: لو أن لي مالا ً لعملت بعمل فلان، فهو بنيته، فأجرهما سواء، وعبد رزقه الله مالا ً ولم يرزقه علماً فهو يخبط في ماله بغير علم، ولا يتقى فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم فيه حقاً، فهذا بأخبث المنازل وعبد لم يرزقه الله مالا ً ولا علماً فهو يقول: لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته، فوزرهما سواء" (1) .
__________
(1) انظر سنن الترمذي كتاب الزهد – باب ما جاء: "مثل الدنيا مثل أربعة نفر": (7/81) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وانظره في سنن ابن ماجه – كتاب الزهد – باب النية: (2/1413) ، وسند ابن ماجه جيد كما في تخريج أحاديث الإحياء: (4/352) والمسند: (4/230، 231) ، والحديث قد استشهد به الحافظ في الفتح: (11/326) ، وانظر شرحه في تحفة الأحوذي: (3/262-263) .(1/392)
وثبت في الصحيحين وغيرهما عن أبي بكرة – رضي الله تعالى عنه – قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: "إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار، فقلت يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه (1) ".
قال الإمام النووي قال القاضي عياض – عليهما رحمة الله تعالى –: عامة السلف وأهل العلم من الفقهاء والمحدثين أن من عزم على المعصية بقلبه، ووطن نفسه عليها، أثِمَ في اعتقاده وعزمه، للأحاديث الدالة على المؤاخذة بأعمال القلوب، لكنهم قالوا: إن هذا العزم يكتب سيئة، وليست السيئة التي هم بها، لكونه لم يعملها، وقطعه عنها قاطع غير خوف الله – تبارك وتعالى – والإنابة إليه، لكن نفس الإصرار والعزم معصية، فتكتب معصية، فإذا عملها كتبت معصية ثانية.
__________
(1) انظر صحيح البخاري – كتاب الإيمان – باب 2: (1/85) وفي كتاب الديات – باب 2: (12/192) ، وكتاب الفتن – باب إذا التقى المسلمان بسيفيهما –: (13/31) بشرح ابن حجر في الجميع، وصحيح مسلم – كتاب الفتن – باب إذا تواجه المسلمان بسيفيهما: (4/2213) وسنن أبي داود – كتاب الفتن والملاحم – باب في النهي عن القتال في الفتنة: (4/462) ، وسنن النسائي – كتاب تحريم الدم – باب تحريم القتل –: (7/114) ، وسنن ابن ماجه – كتاب الفتن – باب إذا التقى المسلمان بسيفيهما: (2/1311) ، والمسند: (5/51) ، ورواه النسائي، وابن ماجه في المكانين المتقدمين عن أبي موسى – رضي الله تعالى عنهم – وهو في المسند أيضاً: (4/401، 403،)(1/393)
قال الإمام النووي – عليه رحمة ربنا القوي –: وهو ظاهر حسن لا مزيد عليه، وقد تظاهرت نصوص الشرع بالمؤاخذة بعزم القلب المستقر، من ذلك قوله – تبارك وتعالى –: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} النور19، والآيات في ذلك كثيرة (1) .
وفي فتح الباري نقلا ًعن الإمام ابن الجوزي – رحمه الله تعالى – قال: إذا حدث نفسه بالمعصية لم يؤاخذ، فإن عزم وصمم زاد على حديث النفس، وهو من عمل القلب 1هـ وفيه نقلا ً عن الخطابي – عليه رحمة الله تعالى – من حال بينه وبين حرصه على الفعل مانع كأن يمشي إلى امرأة ليزني بها مثلا ً فيجد الباب مغلقاً، ويتعسر فتحه، ومثله من تمكن من الزنا فلم ينتشر، أو طرقه ما يخاف من أذاه عاجلا ً 10هـ وفيه أيضاً أن الإمام ابن المبارك سأل الإمام الثوري – عليهم جميعاً رحمة الله تعالى – فقال: أيؤاخذ العبد بما يهتم به؟ قال: إذا جزم بذلك يؤاخذ (2) .
__________
(1) انظر شرح صحيح الإمام مسلم: (2/151) مع بعض الاختصار، ونقله الحافظ في الفتح: (11/327) وانظر إكمال المعلم، ومكمل الإكمال: (2/236) الثاني في حاشية الأول.
(2) انظر فتح الباري: (11/326-328) ،وفيه أيضاً نقلا ً عن الإمام السبكي الكبير – عليه رحمة الله تعالى – تحقيق جليل، لحكم ما يدور في الضمير، حيث قسم ما يدور في نفوس الخلق إلى خمسة أحوال في الميزان الحق، فدونهما يا طالب الصدق، مع تقريرها بأدلة الحق:
الأول: الهاجس، وهو الشعور بأمر من الأمور، في جانب الخير أو الشرور، وهو مرفوع عن المخلوقات فلا يكتب لهم في الطاعات، ولا عليهم في الخطيئات.
الثاني: الخاطر، وهو جريان ذلك الشعور في النفس البشرية، ودون استمراره في أوقات مستقبلة زمنية، وهذا لا يكتب لفاعله – أيضاً – في الأحوال المرضية كما لا يكتب عليه في الأحوال الردية.
الثالث: حديث النفس ويقال له: الوسوسة وهو استمرار ذلك الجريان في مدة من مستقبل الزمان دون قصد لفعل ذلك من قبل الإنسان، ويكتب هذا للإنسان في جانب الإحسان ولا يؤاخذ عليه في جانب العصيان.
الرابع: الهم، وهو قصد فعل ما دار في النفس، وترجيح الفعل على الترك، ويكتب هذا للعباد في الخيرات ولا يحاسبون عليه في المنكرات.
الخامس: العزم وهو القصد الجازم لفعل العبد ما هم عليه، ورفع التردد منه لديه، بحيث لو لم يحل بينه وبين عزمه مانع، لحصل منه الفعل بلا منازع ولا مدافع، ويكتب هذا للمكلفين في الخيرات، كما يكتب عليهم في السيئات.
وهذه الأحكام جمعها بعض أئمة الإسلام في السيئات:
مَراتبُ القَصْدِ خمسٌ هاجِسٌ ذكروا ... فَخَاطِرٌ فحديثُ النفس فاسْتمعا
يليه همٌ فَعَزْمٌ كلها رفعت ... سوى الأخير ففيه الأخْذ ُ قَدْوَقَعَا
وخلاصة الكلام: إن الهاجس والخاطر لا يكتبان، في الطاعات ولا العصيان لأنهما يهجمان على الإنسان، ويزولان ولا يلبثان، ولا يبذل المكلف نحوهما أي شيء كان.
وأما حديث النفس والهم فيكتبان للمكلفين، إذا صدرا في طاعة رب العالمين، لوجود شيء من الركون إليهما، ولا يكتبان في السيئات لعدم التصميم عليهما، رحمة من الله ولطفاً بنا.
وأما العزم فيكتب في الطاعات والسيئات، لوجود التصميم عليه من قبل المكلفين والمكلفات. وقد تقدم قريباً حديث أبي كبشة، وأبي بكرة – رضي الله تعالى عنهما – في كتابة ما يعزم عليه الإنسان، في الخير أو العصيان، وتقدم سابقاً في هذا الكتاب المبارك: (......-.....) عدة أحاديث جياد، تشير إلى رفع المؤاخذة عن العباد، إذا دار في نفوسهم شيء من الزيغ والفساد وإليك هذا الحديث الجامع، الذي فيه دليل صريح لما تقدم من تفصيل رائع، ثبت في صحيح البخاري – كتاب الرقاق – باب من هم بحسنة أو سيئة –: (11/323) بشرح ابن حجر وصحيح مسلم – كتاب الإيمان – باب إذا هم العبد بحسنة كتبت، وإذا هم بسيئة لم تكتب: (1/117-118) وسنن الترمذي – كتاب التفسير – سورة الأنعام –: (8/232) ، وسنن الدارمي – كتاب الرقاق – باب من هم بحسنة –: (2/321) ، والمسند: (2/234، 411، 498، 3/149) كلهم من رواية أبي هريرة – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – إلا رواية البخاري والدارمي فعن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – ورواه الإمام مسلم في المكان المتقدم عنهما، ورواه الإمام أحمد في المسند عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – أيضاً: (1/227، 279، 310، 361) وهذا لفظ رواية الشيخين عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فيما يروي عن ربه – عز وجل – قال: "إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو هم بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنان إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة؟ كاملة، فإن هو هم بها فعملها كتبها الله له سيئة واحدة".
فهذا فيما يتعلق بجانب الهم في الحسنات والسيئات، وفي لفظ لمسلم من رواية أبي هريرة – رضي الله تعالى عنهما – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: "قال الله – عز وجل –: إذا تحدث عبدي بأن يعمل حسنة فأنا أكتبها له حسنة ما لم يعمل، فإذا عملها فأنا أكتبها بعشر أمثالها، وإذا تحدث بأن يعمل سيئة فأنا أغفر له ما لم يعملها، فإذا عملها فأنا أكتبها بمثلها" فهذا فيما يتعلق بحديث النفس، وحكمه كما تقدم كالهم، وإن كان الهم آكد وأقوى وقد ورد التصريح بأنه لا يكتب في السيئات ففي صحيح البخاري – كتاب الإيمان والنذر – باب إذا حنث ناسياً –: (11/549) وفي كتاب الطلاق – باب 11: (9/388) ، وكتاب العتق – باب 6: (5/160) بشرح ابن حجر في الجميع، وصحيح مسلم – كتاب الإيمان – باب تجاوز الله عن حديث النفس والخواطر بالقلب إذا لم تستقر –: (1/116-117) ، وسنن أبي داود – كتاب الطلاق – باب في الوسوسة بالطلاق –: (2/657) ، وسنن الترمذي – كتاب الطلاق – باب فيمن يحدث نفسه بطلاق امرأته –: (4/169) ، وسنن ابن ماجه – كتاب الطلاق – باب من طلق في نفسه ولم يتكلم به – وباب طلاق المكره والناسي: (1/658-659) ، وسنن النسائي – كتاب الطلاق – باب فيمن طلق في نفسه –: (6/127) ، والمسند: (2/255، 393، 435، 474، 481، 491) وشرح السنة للبغوي – كتاب الإيمان – باب العفو عن حديث النفس –: (1/108) كلهم من رواية أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه –، ورواه الطبراني من رواية عمران بن حصين، وثوبان – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – كما في مجمع الزوائد: (6/250) وهذا لفظ رواية الصحيحين: "إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم".(1/394)
قال كاتب هذه الصفات – غفر الله الكريم له جميع السيئات –: كم من إنسان يترك المنكرات ونفسه تتقطع عليها حسرات ـ فليس في ذلك الترك مفخرة من المفخرات، وكم من مكلف يترك السيئات، لاتصافه بالخصال الحميدات، فذلك يدل على بلوغه أعلى الدرجات، واتصافه بالصفات الكريمات – نسأل الله الكريم أن يجعل عِلة تركنا لكل فعل أثيم، خشيته في كل مكان وحين، فهو خير المسئولين، وهو ولي الصالحين.
وصفوة البيان في طريقة أهل السنة الكرام في صفات ربهم الرحمن: أنهم يجملون في صفات النفي ويفصلون في صفات الإثبات، كما دل على ذلك الآيات المحكمات، فالله – جل وعلا – بعث خير البريات – صلى الله عليه وسلم – بإثبات مفصل، ونفي مجمل.(1/395)
وقد خالف تلك الطريقة القويمة، أهل البدع الذميمة، ففصلوا في النفي، وأجملوا في الإثبات، ومما قالوه من العبارات: إنه ليس بجوهر ولا عرض، ولا فوق ولا تحت، ولا يمين ولا شمال ولا أمام ولا وراء، وهكذا يبالغون في النفي ويفصلون، وإذا تكلموا في صفات الإثبات فكأنهم يختنقون، ثم يؤولون ويحرفون، ضل سعيهم، وخاب صنعهم، فلا لصفات الكمال أثبتوا، ولا مع الله تأدبوا، لأن النفي المحض المجرد، إذا لم يدل على إثبات ما يضاده، مع كونه لا مدح فيه ففيه إساءة أدب، فلو قال قائل للسلطان، أنت لست بزبال ولا كساح، ولا حجام ولا حائك، ولا جبان، ولا خائن، ولا جاهل، ولا ظالم، ولا خبيث ولا زان، لأدبه على ذلك الوصف، وإن كان صادقاً لأن المدح يكون بالصفات الثبوتية ولذلك تفصل، لا بالصفات المنفية، ولذلك تجمل فيقال: أنت عالم عادل، صالح فاضل، كريم رحيم، لا يوجد مثلك في الرعية، ولربنا – جل وعلا المثل الأعلى (1) .
* طريقة أهل السنة البررة في الألفاظ التي لم يرد بها وصف ربنا في النصوص المطهرة:
الكلام في هذه المسألة العظيمة، يدور على ثلاثة أركان مستقيمة:
__________
(1) انظر تفصيل الكلام على ما يتعلق بطريقة أهل السنة المتقين، وبطريقة أهل البدع الزائغين، في صفات النفي والإثبات لله رب العالمين، في الرسالة التدمرية: (39-44) ، وهي ضمن مجموع الفتاوى: (3/35-40) ، وانظر مجموع الفتاوى أيضاً: (11/480) وفيه: اعتداء الرسل – عليهم الصلاة والسلام – الجهمية الفلاسفة، ونحوهم وصفوا الله بنفي منفصل، وإثبات مجمل وانظر أيضاً: (6/66-67، 17/305-306) ، وفتح رب البرية: (9) ، والتحفة المهدية: (1/96-109) ، وشرح الطحاوية: (52-54) .(1/396)
الركن الأول: ما أخبر به الرسول – صلى الله عليه وسلم – عن ربه – جل وعلا – مما يتصف به من صفات يجب الإيمان به في جميع الأوقات، سواء عرفنا معناه من جميع الوجوه، أو من بعضها لأنه – صلى الله عليه وسلم – هو الصادق المصدوق، الذي لا ينطق عن الهوى ولذلك يجب الإيمان بما ورد في السنة والقرآن، في جميع أحوال الناس.
الركن الثاني: ما ورد نفيه ننفيه، ولا نتوقف فيه.
الركن الثالث: ما لم يرد إثباته ولا نفيه في حق ربنا الرحمن، فلنا نحوه موقفان:
أ) الأول: لا يصح وصف الله – جل وعلا – ولا تسميته بما لم يرد، لأن أسماء الرب وصفاته توقيفية، لا دخل فيها للعقول البشرية، ولا للقياسات اللغوية، قال الإمام ابن قدامة – عليه رحمة الله تعالى – في كتابه: "لمعة الاعتقاد" ولا نصف الله بأكثر مما وصف به نفسه بلا حدٍ ولا غاية، ولا نزيل عنه صفة من صفاته لشناعة شنعت، ولا نتعدى القرآن والحديث، 1هـ وقال الشيخ إبراهيم اللقاني – عليه رحمة الله تعالى – في الجوهرة:
واخْتِيرَ أنْ أسْماهُ توقيفّية ... كذا الصفاتِ فاحْفظ السّمْعية
... ونقل الإمام الجوزي عن الزجاج – عليهما رحمة الله تعالى – أنه لا ينبغي لأحد أن يدعوه بما لم يسم به نفسه، ونقل عن الخطابي – عليهما رحمة الله تعالى – أن الغلط في أسماء الله والزيغ عنها إلحاد (1) .
__________
(1) انظر لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد: (5) ، وشرح الباجوري على الجوهرة: (1/80-81) ، وزاد المسير: (3/92) ، وانظر أيضاً كتاب النصيحة في صفات الرب – جل وعلا -: (7) ، والرسالة الحموية: (238) مطبوعة مع العمدة في الأحكام، وتفسير المنار: (9/443) ، وفيه: اتفق أهل الحق على أن أسماءه وصفاته توقيفية 1هـ وانظر روح المعاني: (14/194) ، ففيه: إذا لم يجز ضرب المثل لله، والاستعارات يكفي فيها شبه ما، والإطلاق لتلك العلاقة كافٍ، فعدم جواز إطلاق الأسماء من غير سبق تعليم منه تعالى، وإثبات الصفات أولى وأولى 10هـ.(1/397)
ب) الثاني: نستفسر عن المراد من تلك الألفاظ التي لم يرد إثباتها ولا نفيها فإن وافق مدلولها ما جاءت به نصوص الشرع المطهر، صح إطلاقها على الله – جل وعلا – من باب الخبر، لأن باب الإخبار عن رب البريات، أوسع في الكلام عما له من أسماء والصفات، وضابط ذلك ما قدمته: أن كل لفظ مدلوله ما ورد في النصوص الشرعية صح أن يخبر به عن رب البرية، كما أفاد ذلك الإمام ابن القيم الجوزية – أسكنه الله غرف الجنان العلية (1) .
وإليك تفصيل الكلام، في لفظين فقط، حسبما قرر شيخ الإسلام – عليه الرضوان:
اللفظ الأول: لفظ الجهة:
لم يرد في النصوص الشرعية، إثبات للفظ الجهة لرب البرية ولا نفيه عن ذاته العلية، فيستفسر أهل السنة عن المواد من تلك اللفظة ثم يحكمون عليها حسبما تقتضيه شريعة الله الغراء السمحة.
فلفظ الجهة إن أريد به شيء موجود غير الله، فتكون الجهة مخلوقة، كما إذا أريد بها نفس العرش، أو نفس السموات، فلا يصح إطلاق ذلك اللفظ على الله – جل وعلا –، ولا الإخبار به عنه، فهو باطل لأن الله – عز وجل – ليس في شيء من مخلوقاته.
وإن أريد بلفظ الجهة ما ليس بموجود غير الله – جل وعلا – كما إذا أريد به ما فوق العالم فلا مانع من إطلاق ذلك اللفظ على الله – جل وعلا –، والإخبار به عنه، لأنه ليس فوق العالم شيء مخلوق، فليس فوق المخلوقات إلا رب الأرض والسموات، والله – جل وعلا – فوق عرشه على سمواته، مباين لمخلوقاته.
__________
(1) انظر بدائع الفوائد: (1/161) ، وعبارته: أن ما يدخل في باب الإخبار عنه – جل جلاله – أوسع مما يدخل في أسمائه وصفاته، كالشيء والموجود، والقائم بنفسه، فإنه يخبر به عنه، ولا يدخل في أسمائه الحسنى، وصفاته العليا، ونحوه في مدارج السالكين: (3/415) ، وعبارته: باب الإخبار عنه بالاسم أوسع من تسميته به، فإنه يخبر عنه بأنه: شيءٌ وموجود ومذكور، ومعلوم ومراد، ولا يسمى بذلك، وانظر ذلك في مجموع الفتاوى: (6/142-143) .(1/398)
اللفظ الثاني: لفظ التحيز:
... كلفظ الجهة لم يرد في النصوص الشرعية إثباته ولا نفيه، فيستفصل أهل السنة عن المراد منه، ثم يصدرون الحكم عليه، كما تقدم في لفظ الجهة سواء بسواء.
... فإذا أريد بلفظ التحيز أن الله – جل وعلا – تحوزه المخلوقات، وتضمه الموجودات وتحويه البريات، وتحيط به الكائنات، وهو في حوزتها وداخلها، فلا يصح إطلاق هذا اللفظ على الله – جل وعلا –، ولا الإخبار عنه بأنه متحيز، فهو أعظم من ذلك وأكبر، وقد وسع كرسيه السموات والأرض كما قرر ربنا ذلك وأخبر، فقال: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} البقرة255، وقال جل جلاله –: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} الزمر67.(1/399)
.. ثبت في صحيح مسلم وغيره عن ابن عمر – رضي الله تعالى عنهما – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "يطوي الله – عز وجل – السموات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ (1)
__________
(1) وانظر صحيح مسلم أول كتاب صفة القيامة والجنة والنار –: (17/131) بشرح النووي، والأسماء والصفات: (324) ، ومعالم التنزيل: (6/84) ، قال البيهقي في الأسماء والصفات: ذكر الشمال مما تفرد به عمر بن حمزة عن سالم، وقد روى هذا الحديث نافع وعبيد الله بن مقسم عن ابن عمر – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – لم يذكروا فيه الشمال، ورواه أبو هريرة – رضي الله تعالى عنه – وغيره عن النبي – صلى الله عليه وسلم – فلم يذكر فيه احد منهم ذكر الشمال، وقد ذكر الشمال في حديث آخر غير هذه القصة إلا أنه ضعيف بمرة، تفرد بأحدهما جعفر بن الزبير، وبالآخر يزيد الرقاشي، وهما متروكان، وكيف يصح ذلك، وصح عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه سمى كلتى يديه يميناً؟ وكأن من قال ذلك أرسله من لفظه على ما وقع له، أو على عادة العرب في ذكر الشمال في مقابلة اليمين 10هـ ونحو ذلك ذكر ابن الجوزي في دفع شبه التشبيه: (69) فقال: وأما رواية الشمال فضعيفة بالمرة، وقد صح عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: "وكلتا يديه يمين"، وهذا يوهن ذكر الشمال 1هـ وإلى عدم إضافة الشمال إلى الله – جل وعلا – ذهب ابن خزيمة في كتاب التوحيد: (66) .
قال عبد الرحيم – غفر الله ذنوبه أجمعين –: لا يخفى على طالب علم نصف أن الرواية بإضافة الشمال إلى الكبير المتعال قد ثبتت في صحيح مسلم، وكل ما قيل فلا يعكر عليها، وذلك لأن الحكم على تضعيف رواية الصحيح لا يقبل بحال، واتهام الراوي بأنه قال ذلك من لفظه باجتهاده، أو حسب عرف العرب مرفوض قطعاً، فلا يمكن للراوي أن يدخل في مثل هذا الباب المتوقف على محض السماع، وتوهم المعارضة بينه وبين حديث: "وكلتا يديه يمين" يزول عند التأمل، فلله – جل وعلا – يدان، شمال ويمين، وهما مباركتان، لا نقص في واحدة منهما فالمراد من اليمين في قوله: "وكلتا يديه يمين" اليمن، وهو البركة والكمال، لأن المعروف فينا أن الشمال أضعف من اليمين، وليس الأمر كذلك في حق رب العالمين، هذا وقد أخرج الحديث دون ذكر الشمال الإمام ابن منده في الرد على الجهمية: (75) والبيهقي في الأسماء والصفات: (329) وأبو داود – كتاب السنة – باب في الرد على الجهمية: (5/100) ، وابن ماجه – المقدمة – باب فيما أنكرت الجهمية: (1/71-72) ، وابن أبي عاصم في السنة: (1/241) ، وإمام الأئمة في كتاب التوحيد: (73) ، وانظره من رواية أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – دون ذكر الشمال أيضاً، في صحيح مسلم في المكان المتقدم، وفي صحيح البخاري – كتاب التفسير – سورة الزمر – باب "وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ": (8/515) ، وفي كتاب الرقاق: - باب يقبض الله الأرض ... يوم القيامة: (11/372) ، وفي كتاب التوحيد – باب قول الله تعالى: "مَلِكِ النَّاسِ": (13/367) ، وباب قول الله تعالى: "لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ": (13/393) بشرح ابن حجر في الجميع، وسنن الدارمي – كتاب الرقاق – باب في شأن الساعة ونزول الرب – جل جلاله –: (2/233) ، والمسند: (3/324) ، وكتاب التوحيد لإمام الأئمة: (71) ، والأسماء والصفات: (323، 338) ، وابن منده في الرد على الجهمية: (75) ، والآجري في الشريعة: (320) ، وابن أبي عاصم في كتاب السنة: (1/241، 242) ، وانظر بقية من خرجه في الدر المنثور: (5/335) ، وأما حديث "وكلتا يديه يمين" فرواه الإمام مسلم – كتاب الإمارة – باب فضيلة الأمير العادل وعقوبة الجائر –: (12/211) بشرح الإمام النووي عن عبد الله بن عمرو – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: "إن المقسطين عند الله منابر من نور عن يمين الرحمن – عز وجل – وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا"، وانظره في سنن النسائي – كتاب آداب القضاة – باب فضل الحاكم العادل في حكمه –: (8/195) ، والسنن الكبرى للبيهقي – كتاب آداب القاضي – باب فضل من ابتلى بشيء من الأعمال فقام بالقسط وقضى بالحق: (10/87) ، والأسماء: (324) ، وشرح السنة – كتاب الإمارة والقضاء – باب ثواب من عدل من الرعاة: (10/64) ، والمسند: (2/160) والشريعة للآجري: (322) .(1/400)
".
وفي الصحيحين وغيرهما عن عبد الله بن مسعود – رضي الله تعالى عنه – قال: جاء حبر إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: يا أبا القاسم، إن الله تعالى يمسك السموات يوم القيامة على إصبع، والأرضين على إصبع، والجبال على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، ثم يهزهن، فيقول: أنا الملك، أنا الملك، فضحك رسول الله – صلى الله عليه وسلم – تعجباً مما قال الحبر: تصديقاً له، ثم قرأ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} الزمر67 (1) .
__________
(1) انظر صحيح البخاري – كتاب التفسير – سورة الزمر – باب: " وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ": (8/50) وكتاب التوحيد – باب قول الله تعالى: " لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ": (13/393) ، وباب كلام الرب – عز وجل – يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم –: (13/474) ، وباب قول الله تعالى: " إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا": (13/438) ، بشرح ابن حجر في جميع ما تقدم، وصحيح مسلم – أول كتاب صفة القيامة والجنة والنار –: (13/129-131) بشرح النووي، وأسباب النزول للواحدي: (249-250) ، ومعالم التنزيل: (6/84) ، والمسند: (1/457) ، والأسماء والصفات: (333-334) ، والشريعة للآجري: (318، 319) والرد على المريسي للدارمي: (60) ، ورواه الترمذي في كتاب التفسير – سورة الزمر –: (8/368-369) عن ابن مسعود وعن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهم – وقال عن الرواية الأولى: هذا حديث حسن صحيح، وعن الثانية: هذا حديث حسن غريب صحيح لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وكذلك رواه الطبراني في التفسير –: (24/18) وإمام الأئمة في التوحيد: (76-78) ، وابن أبي عاصم في السنة: (1/238-240) وابن منده في الرد على الجهمية: (83-86) وانظر رواية ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – في المسند: (1/251، 324) ، وانظر بقية من خرج الحديث في الدر المنثور: (5/334) .
واعلم أن ضحك النبي – صلى الله عليه وسلم – إنما كان تعجباً من قول الحبر، وتصديقاً له كما هو ظاهر الرواية الصحيحة الثابتة، وقد سأل ابن أبي عاصم شيخه أبا الربيع الزهراني عن ذلك فقال: قلت لأبي الربيع: فضحك تصديقاً؟ قال: نعم، وإلى ذلك ذهب إمام الأئمة، وقرره في كتاب التوحيد، وقال الإمام النووي: ظاهر الحديث أن النبي – صلى الله عليه وسلم – صدق الحبر في قوله، ثم قرأ الآية التي فيها الإشارة إلى نحو ما يقول، ثم نقل عن القاضي عياض أن بعض المتكلمين ادعى أن ضحك النبي – صلى الله عليه وسلم – وتعجبه وتلاوته للآية ليس تصديقاً للحبر، بل هو رد لقوله وإنكاره، وتعجب من سوء اعتقاده، فإن مذهب اليهود التجسيم ففهم منه ذلك، وقوله: "تصديقا له" إنما هو كلام الرواي على ما فهم، قال الإمام النووي: والأول أظهر والتأويل الثاني مع بعده ونكارته مال إليه الخطابي كما في الأسماء والصفات: (338) قال ابن التين: ومسلكه متكلف كما في فتح الباري: (8/551) .
قال عبد الرحيم – غفر الله له ذنوبه أجمعين – القول الثاني هو قول المتكلمين الزائغين، ومذهب المعتزلة الضالين، قال الإمام الدارمي – عليه رحمة الله تعالى – في الرد على المريسي: (61) بعد أن نقل ذلك التأويل عن بشر المريسي المعتزلي صاحب الأباطيل: عمن رويت أيها المريسي أنه قال في حديث ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه – أنه قال: تكذيباً له؟ فأنبئنا به وإلا فإنك فيها من الكاذبين، وأما تشنيعك على هؤلاء المقرين بصفات الله، المؤمنين بما قال الله إنهم يتوهمون فيها جوارح وأعضاء، فقد ادعيت عليهم في ذلك زوراً وباطلا ً، وأنت من أعلم الناس بما يريدون بها، إنما يثبتون منها ما أنت معطل، وبه مكذب ولا يتوهمون فيها إلا ما عنى الله – جل جلاله – ورسوله – صلى الله عليه وسلم –، ولا يدعون جوارح وأعضاء كما تقولت عليهم، غير أنك لا تألو في التشنيع عليهم بالكذب، ليكون أروج لضلالاتك عند الجهال 10هـ.
وإذا علمت هذا، واتضح لك الحق، فاحذر تعليق الكوثري على الأسماء والصفات: (338) فقد تطاول على إمام الأئمة، وجاوز طوره، وفقد عقله، وليته أخلى الكتاب من تعليقاته المنكرة ليته.(1/401)
وأما إن أريد بلفظ التحيز أنه منحاز عن المخلوقات، ومنفصل عنها، ومباين لها، فلا هو – جل وعلا – في شيء منها، ولا هي فيه – جل وعلا – فلا مانع من إطلاق هذا اللفظ على الرب – جل جلاله – والإخبار به، لأن الله – جل وعلا – فوق عرشه، على سمواته بائن من خلقه، ليس حالا ً فيهم، ولا المخلوقات حالة فيه – سبحانه وتعالى – نسأل الله الكريم أن يجعل أعمالنا على صراط المستقيم، وأن يَمُنّ علينا برد كل شيء إلى شرعه المبين، وأن يجعل هوانا تابعاً لهدي خاتم الأنبياء والمرسلين – عليه وعليهم أفضل الصلاة وأتم التسليم – لنكون من الراسخين الفائزين، المؤمنين الصادقين، كما بشر بذلك نبينا الأمين – عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم – فقال: "لا يؤمن أحدكم حتى يكن هواه تبعاً لما جئت به (1)
__________
(1) انظر إيضاح الكلام على تلك المسألة العظيمة الشأن في الرسالة التدمرية: (45-46) وهي ضمن مجموع الفتاوى: (3/41-42) ، وعبارته: ما تنازع فيه المتأخرون نفياً وإثباتاً فليس على أحد بل ولا له، أن يوافق أحداً على إثبات لفظه أو نفيه حتى يعرف مراده، فإن أراد حقاً قبل، وإن أراد باطلا ً، وإن اشتمل على حق وباطل لك يقبل مطلقاً، ولم يرد جميع معناه، بل يوقف اللفظ ويفسر المعنى، كما تنازع الناس في الجهة والتحيز وغير ذلك ... إلخ وانظر أيضاً مجموع الفتاوى فقد كرر نحو ذلك في: (3/308، 1/110) حيث قال: المعاني الثابتة بالكتاب والسنة يجب إثباتها، والمعاني المنفية بالكتاب والسنة يجب نفيها، والعبارة الدالة على المعاني نفياً وإثباتاً إن وجدت في كلام الله – جل وعلا – وكلام رسوله – صلى الله عليه وسلم – وجب إقرارها، وإن وجدت في كلام أحد وظهر مراده من ذلك رتب عليه حكمه، وإلا رجع فيه إليه.....إلخ وانظر: (13/145-146) ، وانظر تخريج حديث: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به " فيما يأتي: أخرجه البغوي في شرح السنة كتاب الإيمان – باب رد البدع والأهواء –: (1/213) عن عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله تعالى عنهما –، ونسبه النووي في الأربعين لكتاب الحجة فقال: حديث حسن صحيح، رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح، وهو الحديث الحادي والأربعون في الأربعون النووية صفحة: (28) ونسبه ابن رجب في جامع العلوم والحكم: (364) وابن حجر في الفتح المبين: (279) إلى أبي نعيم في أربعينه وشرطه فيها أن تكون من صحاح الأخبار وجياد الآثار مما أجمع الناقلون على عدالة ناقليه، وخرجته الأئمة في مسانيده، ونسبه ابن جرب أيضاً إلى الطبراني، وأبي بكر بن أبي عاصم: (1/12) كتاب السنة، والحديث حكم بصحته النووي كما تقدم، وأورده البغوي في مصابيح السنة ضمن الأحاديث الحسان في باب الاعتصام بالكتاب والسنة من كتاب الإيمان في كتابه مصابيح السنة: (1/14) وهذا على اصطلاحه الذي أشار إليه في مقدمة كتابه: (1/2) إذ قسمه إلى صحاح وحسان، ويريد بالحسان ما روي في غير الصحيحين، وشرط أن ما كان فيها من ضعف أو غريب أشار إليه، وأعرض عن ذكر المنكر والموضوع في كتابه، وقد اعترض على اصطلاحه النووي في التقريب: (95) مع التدريب وحكم على فعل البغوي بأنه خلاف الصواب، لأن في السنن الصحيح، والحسن، والضعيف، والمنكر، وقد سبقه إلى هذا ابن الصلاح في مقدمته: (111) معها محاسن الاصطلاح فقال ما صار إليه صاحب المصابيح ... اصطلاح لا يعرف وكرر هذا البلقيني في المحاسن فقال: لا يقال الاصطلاحات لا مساحة فيها ... لأن نقول: يقع الاعتراض من حيث أن في السنن أحاديث صحيحة ليست في الصحيحين، وباصطلاحه ذلك يجعلها في مترتبة الحسن، ولم يقل بذلك أحد غيره 1هـ بتصرف يسير، وكل هذا لا يرد على البغوي ولا يعترض به عليه، والأمر كما قال السخاوي في فتح المغيث: (1/82) : والبغوي قد صرح في ابتداء كتابه بقوله: أعني بالصحاح كذا، وبالحسان كذا، وما قال: أراد المحدثون بهما كذا، فلا يرد عليه شيءٌ مما ذكروه إلخ وانظر تفصيل المسألة في تدريب الراوي: (95) وقد أقر تصحيح النووي للحديث الشيخ على القاري في مرقاة المفاتيح: (1/203) ، والشيخ المعلمي في التنكيل: (2/198) ، ولكن الشيخ ابن رجب قال في جامع العلوم: (364) قال: قلت: تصحيح هذا الحديث بعيد جداً من وجوه، ثم حاصل ما ذكره يرجع إلى:
أ) ... إنفراد نعيم بن حماد المروزي به.
ب) ... إلى اضطراب عقبة بن أوس في إسناده.
وهكذا قال الشيخ الألباني في تعليقه على التنكيل: (2/198) : قلت: أنى له الصحة وفي سنده نعيم بن حماد ... إلخ وهكذا قال الشيخ شعيب في تعليقه على شرح السنة: (1/213) وعبارته: إسناده ضعيف لضعف نعيم بن حماد، وقد أحال كل من الألباني والشيخ شعيب على مراجعة تفصيل الكلام وبسطه حول الحديث إلى جامع العلوم والحكم، والذي يفهم من كلام ابن حجر في الفتح المبين: (279) تمشية حال الحديث وقبوله حيث قال: لكن اعترض بعضهم تصحيحه بقوادح أبداها في سنده حاصلها: أنه تعارض في اثنتين من رجاله توثيق وتخريج وتعيين وإبهام، ولا شك أن التعيين مقدم، وكذا التوثيق من الأعلم الأدرى، ولا يبعد أنه هنا كذلك، كيف والبخاري خرج له ووثقه آخرون غيره، فلذا آثر المصنف – أي النووي – هؤلاء على المخرجين له، وإن كثروا وجلوا أيضاً 1هـ، ومما ينبغي التنبيه عليه أن صاحب كتاب الحجة هو الإمام أبو الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي الشافعي الفقيه الزاهد نزيل دمشق المتوفى سنة 490 عليه رحمة الله تعالى واسم الكتاب كاملا ً: الحجة على تارك المحجة بذلك صرح النووي في تهذيب الأسماء واللغات، والسبكي في طبقات الشافعية، وسماه ابن رجب الحجة على تاركي سلوك طريق المحجة، وهو يعود لما سبق، وقد نسب أئمة الإسلام هذا الكتاب لأبي الفتح نص بن إبراهيم وأثنوا على مؤلفه بليغ الثناء ويكفيه قولهم فيه: لو كان في السلف الصالح لم تقصر درجته عن واحد منهم، لكنهم فاتوه بالسبق، انظر هذا وغيره في تهذيب الأسماء واللغات: (2/125-126) القسم الأول، وطبقات الشافعية الكبرى: (5/3581-353) ، وتبين كذب المفترى: (286-287) ، والعلو العلي الغفار: (187) ، وشذرات الذهب: (3/395) ، والنجوم الزاهرة: (5/160) وهدية العارفين: (2/490-491) .
وقد وهم محمد الشحات الشرقاوي في شرحه للأربعين النووية: (66) فنسب كتاب الحجة لأبي القاسم إسماعيل بن محمد بن الفضل الأصفهاني، وكذلك فعل الشيخ على القاري في مرقاة المفاتيح: (1/203) وقاربهما في مسلكهما الهيثمي في الفتح المبين: (279) فقال: ومؤلفه هو العلامة أبو القاسم إسماعيل بن محمد بن الفضل الحافظ كذا قال بعضهم، وخالفه غيره فقال: إنه أبو الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي الشافعي الفقيه الزاهد نزيل دمشق، وختم الكلام بهذا ولم يبين الصواب في ذلك 1هـ وجاء في الفتوحات الوهبية نسبته إلى الأول انظر صفحة: (288) وهو خطأ كسابقه ولم يتعرض لبيان مؤلف الحجة الشيخ أحمد حجازي الفشني عند شرحه للحديث انظر: (122) ، ونقل حاجي خليفة في كشف الظنون: (1/631) عن اللاري شارح الأربعين أنه قال في شرحه: كتاب الحجة على تارك المحجة يتضمن ذكر أصول الدين على قواعد أهل الحديث والسنة وهو للشيخ أبي الفتح نصر ابن إبراهيم الشافعي الفقيه الزاهد نزيل دمشق المتوفى سنة 490 وأفصح بعض الشارحين أنه للحافظ أبي القاسم إسماعيل بن محمد بن الأصبهاني، وهو خطأ 1هـ نعم إن الشيخ أبا القاسم إسماعيل بن محمد له كتب الحجة في بيان المحجة كما في هدية العارفين: (1/211) لكنه ليس هو الكتاب المتقدم فاعلم، والشيخ إسماعيل بن محمد من الصالحين وكان يلقب بقوام السنة، وكان من الصالحين ما عاب عليه أحد قولا ً ولا فعلا ً، نزه النفس عن المطامع لا يدخل على السلاطين، لم يرحل إلى بغداد بعد الإمام أحمد أحفظ وأفضل منه، صاحب كرامات حياً وميتاً، كذر ابن الجوزي في المنتظم، وابن كثير في البداية والنهاية، والذهبي في تذكرة الحافظ أن الذي تولى غسله أراد أن ينحي عن سوءته الخرقة لأجل الغسل، فجذبها إسماعيل بيده، وغطى فرجه، فقال الغاسل: أحياه بعد موت؟ وكانت وفاته سنة 535 عليه رحمة الله تعالى. انظر ما تقدم وغيره من ترجمته العطرة في تذكرة الحفاظ: (4/1277-1282) ، والمنتظم: (10/90) ، والبداية والنهاية: (12/217) ، وتقدم ذكره في صفحة: (......) من هذا الكتاب المبارك.(1/402)
".
المبحث الثالث
إيجاز البيان في طريق أهل البدع والطغيان في صفات ذي الجلال والإكرام، بعد أن جليت بالتحقيقات الجياد، طريق أهل الرشد والسداد، في صفات رب العباد، سأوجز الكلام في طريق أهل الزيغ والهذيان، في صفات الرحيم الرحمن، ليحذر المهتدي تلك الترهات والأوهام التي هي من وساوس الشيطان، ولن أطيل في ذلك البيان، شحاً على الأزمان، والله المستعان وهو حسبنا وعليه التكلان.
تنقسم طرق الزائغين، في صفات رب العالمين إلى قسمين اثنين لا ثالث لهما، مع كثيرة الفرق الضالة وتعدد أقسامها، وإليك تفصيل ذلك، جنبنا الله الردى والمهالك:
الطريقة الأولي: طريقة التمثيل السافلة المرذولة:
... تتلخص هذه الطريقة الحقيرة، في فهم صفات الله الجليلة، حسبما هو معروف في مخلوقاته الحقيرة الذليلة، ثم رتبوا على ذلك الفهم أوصافاً اختلقوها وعلى الباري أطلقوها، ولهم في ذلك كلام تتفطر من هوله الجبال الجسام، فمن ذلك الزور والبهتان، قول إمامهم هشان بن الحكم الرافضي الشيطان: إن معبوده جسم، ذو لون وطعم ورائحة، فقيل له: فأيهما أعظم إلهك أو هذا الجبل؟ فقال: هذا الجبل يوفي عليه، أي هو أعظم منه، وقد قال في عام واحد خمسة أقاويل في الرب الجليل، فزعم أنه كالبلورة، ثم زعم أنه كالسبيكة، وادعى بعد ذلك أنه غير صورة ثم قال: إنه بِشِبْر نفسه سبعة أشبار، ثم استقر على الضلال، فقال: إنه جسم لا كالأجسام (1) .
* أبرز أصحاب تلك المقالة الضالة:
__________
(1) انظر تلك الضلالات، غيرها من الكفريات، التي قام بها هشام ومن انخرط في مسلكه من الحثالات، في مقالات الإسلاميين: (1/102-105، 257) والتنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع: (24) ، والفرق بين الفرق: (65-69) ، والفصل في الملل والأهواء والنحل: (2/89) والملل والنحل: (1/111-115) على هامش الفصل ولسان الميزان: (6/194) ، ومجموع الفتاوى: (4/188) ، وتأويل مختلف الحديث: (35) واعتقادات فرق المسلمين والمشركين: (97-989) .(1/403)
.. ينحصر تشبيه الخالق بالمخلوقات، وتمثيله بهم في الذوات والصفات، في فرقتين ضالتين فليس هناك فرقة غيرهما تتبنى تلك المقالة، وقد يوجد أفراد من بعض الفرق يتلبسون بتلك الضلالة، وتلكما الفرقان هما:
الفرقة الأولي: الشيعة الرافضة، وقد قال الضلالة، وتقلد وزر تلك الغواية، طواغيتهم المتقدمون، أما المتأخرون منهم فصاروا إلى مذهب التعطيل الملعون، وكان ذلك التحويل في أواخر المائة الثالثة كما ذكر ذلك الإمام ابن تيمية الثقة المأمون (1) .
__________
(1) انظر منهاج السنة النبوية: (1/19-20) وفيه من ضمن كلامه في ذلك: ولهذا نجد المصنفين في المقالات كالأشعري لا يذكرون عن أحد من الشيعة أنه وافق المعتزلة في توحيدهم وعدلهم إلا عن بعض متأخريهم، وإنما يذكرون عن قدمائهم التجسيم، وإثبات القدر وغيره، وأول من عرف في الإسلام أنه قال: إن الله جسم، هو هشام بن الحكم 10هـ وانظر مقالات الإسلاميين: (1/105) ففيه ما أشار إليه الإمام ابن تيمية، حيث ذكر الإمام أبو الحسن أن الرافضة في التجسيم ست فرق، خمسة منهم يقولون به، والفرقة السادسة يقولون بقول المعتزلة والخوارج، وعقب على حكاية قول الفرق الستة المعطلة بقوله: وهؤلاء قوم من متأخريهم، فأما أوائلهم فإنهم كانوا يقولون ما حكينا عنهم من التشبيه، وسبب تسمية تلك الفرقة الشنيعة بالشيعة: إدعائهم مشايعة علي بن أبي طالب – رضي الله تعالى عنه – ونصرته على من ناوأه، وسموا رافضة لرفضهم إمامة الشيخين أبي بكر وعمر – رضي الله تعالى عنهما – كما في مقالات الإسلاميين: (/87) ولرفضهم إمامة عثمان بن عفان – رضي الله تعالى عنه – والطعن عليه، كما في التنبيه والرد: (164) ولقول زيد بن على لهم: رفضتموني، كما قال الإمام أبو الحسن الأشعري في مقالات الإسلاميين أيضاً: (1/129-130) وعبارته: كان زيد بن علي – بن الحسين بن علي بن أبي طالب – رضي الله تعالى عنهم – بويع له بالكوفة في أيام هشام بن عبد الملك، وكان أمير الكوفة بن عمر الثقفي، وكان زيد يفضل علي بن أبي طالب على سائر أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ويتولى أبا بكر وعمر – رضي الله تعالى عنهما – ويرى الخروج على أئمة الجور، فلما ظهر بالكوفة في أصحابه الذين بايعوه، وسمع من بعضهم الطعن على أبي بكر وعمر – رضي الله تعالى عنهما – فأنكر ذلك على من سمعه منه، فتفرق عنه الذين بايعوه فقال لهم رفضتموني، فيقال: إنهم سموا رافضة، لقول زيد لهم: رفضتموني، ونجوه في مجموع الفتاوى: (13/35-36) وعبارته: وأما لفظ "الرافضة" فهذا اللفظ أول ما ظهر في الإسلام لما خرج زبد بن علي بن الحسن – رضي الله تعالى عنهم – في أوائل الماء الثانية في خلافة هشام بن عبد الملك واتبعه الشيعة، فسئل عن أبي بكر وعمر – رضي الله تعالى عنهما – فتولاهما، وترحم عليهما، فرفضه قوم، فقال: رفضتموني رفضتموني، فسموا بالرافضة، وفي منهاج السنة النبوية: (1/9) أن ذلك كان سنة إحدى وعشرين أو اثنتين وعشرين ومائة في آخر خلافة هشام، وأضاف الشيخ محيي الدين عبد الحميد معنىً رابعاً في سبب تسميته الشيعة بالرافضة، فقال: في تعليقه على مقالات الإسلاميين: (1/87) : ويقال سموا رافضة لكونهم، رفضوا الدين 1هـ.
قال بعد الرحيم – غفر الله له ذنوبه أجمعين –: والأمور الأربعة موجودة فيهم وظاهرة الشيعة الرفض وحقيقتهم الكفر المحض، ومبدأ الكفر وبابه عن التشيع والرفض ولذلك قال الإمام الشعبي – عليه رحمة الله تعالى – كما في بستان العارفين: (443) الرفض سلم الزندقة، فما رأيت رافضياً إلا رأيته زنديقاً 1هـ وفي مجموع الفتاوى: (4/102) ذكر العلماء أن الرفض أساس الزندقة، ونحوه في: (35/136) وسيأتيك بيان حالة الشيعة الأشرار الذين هم أخس من روث الحمار، عند الكلام على الفرق الزائغة في هذه الأمة في دراسة الملل والنحل إن شاء الله ويسر.(1/404)
وبذلك جمع الشيعة بين مفسدتي التمثيل والتعطيل، ولا غرة في ذلك فهم شر جيل، وفيهم ما تفرق في غيرهم من عمل رذيل، وأول من عرف في هذه الأمة بالتمثيل: هشام بن الحكم الضليل وهم من أركان الشيعة ذوي المذهب السافل الهزيل، وسار على منواله البالي سميه العاتي، هشام بن سالم الجولقي، ولكل منهما فرقة تنسب إليهما، قال الإمام أبو منصور البغدادي فيهما: وكلتا الفرقتين قد ضمت إلى جيرتها في الإمام ضلالتها في التجسيم، وبدعتها في التشبيه (1) .
الفرقة الثانية: الكرامية، وهم الذين ينتسبون إلى إمام مذهبهم محمد بن كرام، صاحب البلايا والأوهام، قال الإمام ابن حبان – عليه رحمة الله تعالى – خُذِلَ ابن كرام، حتى التقط من المذاهب أرداها، ومن الأحاديث أوهاها 1هـ وقد وصف ابن كرام معبوده بأنه جسم مماس للعرش، والعرش مكان له، وزعم أن معبوده جوهر، وله ولأتباعه أوهام وهذيان وهي مع شناعتها ليست أقوال الشيعة قادة الشيطان، ومع هذا فيجب أن يصان عن ذكرها الزمان، لئلا يكون الإنسان مغبوناً من ذوي الخسران – عرفنا الله بمقدار اللحظات، ووفقنا لاغتنامها في الطاعات، إنه سميع مجيب الدعوات (2) .
__________
(1) تقدم قبل التعليقة السابقة الإحالة على الكتب التي نقلت عن هشام بن الحكم الرافضي شيئاً من كفره وضلاله، وأما سميه الخبيث هشام بن سالم الجولقي فقد زاد عليه في الكفر والضلال فزعم أن الله على صورة الإنسان، وذكر أنواعاً من الكفر والهذيان، لا تخطر ببال عتاة الجان، فعليه وعلى كل مشبه ممثل لعنة الملك الرحمن، انظر بعض إلحاده، زندقيته وضلاله في مقالات الإسلاميين: (1/105، 259) ، والفرق بين الفرق: (68-69) واعتقادات فرق المسلمين والمشركين: (98) .
(2) تقدم في هذا الكتاب المبارك ذكر الحديث الصحيح "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ" مع التنبيه على شرف الوقت وقيمته في صفحة: (....) فارجع إليه.
والكرامية بفتح أوله، والراء المشددة، النسبة إلى أبي عبد الله بن كرام الهالك سنة خمس وخمسين ومائتين كان أبوه يحفظ الكرم، فقيل له: كرام، وأحدث مذهباً تبعه عليه عالم لا يحصون بنيسابور وهراة ونواحيها، فيقال لكل واحد منهم: كرامي، ولهم مذهب مشهور في التشبيه، قاله ابن الأثير في اللباب: (3/89) ، وانظر قول ابن حبان المتقدم في الميزان: (4/21-22) وفيه: كرام مثقل، فيده ابن ماكولا، وابن السمعاني وغير واحد وهو الجاري على الألسنة.
وقد أنكر ذلك متكلمهم محمد بن الهيصم، وغيره من الكرامية، فحكى فيه ابن الهيصم وجهين:
أحدهما: كرام بالتخفيف والفتح، وذكر أنه المعروف في السنة مشايخهم، وزعم أنه بمعنى كرامة أو بمعنى كرم، والثاني: أنه كرام بالكسر، على لفظ جمع كريم، وحكى هذا عن أهل سجستان، وأطال في ذلك، وقال أبو عمرو بن الصلاح: لا يعدل عن الأول، وهو الذي أورده ابن السمعاني في الأنساب، وقال: كان والده يحفظ الكروم، قلت: – القائل الذهبي – هذا الذي قاله ابن السمعاني بلا إسناد، وفيه نظر، فإن كلمة "كرام" علم على والد محمد سواء عمل في الكرم، أو لم يعمل، والله تعالى أعلم. وفي لسان الميزان: (5/355) قال بان عساكر: كان للكرامية رباط ببيت المقدس، وكان هنالك رجل يقال له: هجام، حسن الظن به، فنهاه الفقيه نصر، فقال: إنما لي الظاهر، فرأى هجام بعد ذلك أن في رباطهم حائطاً فيه نبات النرجس فاستحسنه، فمد يده فأخذ منه شيئاً، فوجد أصوله في العذرة، فقال له الفقيه نصر: الذي قلت لك تعبير رؤياك ظاهرهم حسن، وباطنهم خبيث.
قال عبد الرحيم الطحان – أحسن الله له الختام – ضلالات محمد بن كرام، كثيرة جسام، أبرزها ثلاثة آثام: أولها: تشبيه الرحمن بالإنسان. وثانيها: جواز وضع الأحاديث على خير الأنام – عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام – إذا كانت متعلقة في الترغيب في طاعة الرحمن، والترهيب من الفجور والعصيان. وثالثها: القول بأن الإيمان هو مجرد النطق باللسان، وإن لم يعتقد ذلك بالجنان، انظر تلك الضلالات التي اختلقوها، وإلى الشيعة المظهرة نسبوها في لسان الميزان: (5/353-356) ، والفرق بين الفرق: (215-225) ، وفيه: وضلالات أتباعه اليوم متنوعة أنواعاً، لا نعدها أرباعاً ولا أسباعاً، لكنا نزيد على الآلاف آلافاً، ونذكر منها المشهور، الذي هو بالقبيح مذكور، وختم الكلام على مخازيهم بقوله: وفضائح الكرامية على الأعداد، كثيرة الأمداد وانظر مقالات الإسلاميين: (1/205) ، والرسالة التدمرية: (122) ، والبداية والنهاية: (11/20) وشذرات الذهب: (2/131) ، ومقدمة ابن الصلاح: (213) معها المحاسن، وشرح النووي على صحيح مسلم: (1/70) ، وفتح المغيث: (1/213) ، وتدريب الراوي: (185) ، ومجموع الفتاوى: (3/185) ، وتلبيس إبليس: () 84، والفصل في الملل والأهواء والنحل: (4/154-155) ، والملل والنحل: (1/115-122) ، واعتقادات فرق المسلمين والمشركين: (101-102) ، وسيأتيك تفصيل القول في حالة الكرامية ونقض أصولهم الردية، عند الكلام على الفرق الغوية التي أنشأت في هذه الأمة المرضية، في مادة الملل والنحل، إن شاء الله ويسر.(1/405)
بعض من قال بالتمثيل من غير الفرقتين الضالتين:
... قدمت أنه لا يوجد فرقة صدرت منها ضلالة التمثيل الردية، إلا فرقة الشيعة والكرامية، وقلت إن تلك البلية، صدرت من بعض العقول الغبية، ممن لم ينتسب إلى الشيعة أو الكرامية، ومنهم صاحب الهذيان مقاتل بن سليمان، قال الإمام أبو حنيفة النعمان – عليه رحمة ذي الجلال والإكرام – قدم علينا من خراسان رأيان خبيثان، جهم معطل، ومقاتل مشبه، وقال أبو يوسف – رحمه الله تعالى – ما على الأرض أبغض إليّ منهم: المقاتلية، والجهمية، وقال الإمام التقي: إسحاق بن إبراهيم الحنظلي شيخ الإمام البخاري، وقرين الإمام أحمد – عليهم جميعاً رحمة الله تعالى –: أخرجت خراسان ثلاثة لم يكن لهم نظير في البدعة والكذب: جهم، ومقاتل، عمر بن صبيح، وقال الإمام أحمد بن سيار المروزي – رحمه الله تعالى –: كان مقاتل متهم، متروك الحديث، مهجور القول، وكان يتكلم في الصفات بما لا يحل ذكره، وقال الإمام ابن حبان – عليه رحمة الملك الرحمن –: كان مقاتل يأخذ عن اليهود والنصارى علم القرآن الذي يوافق كتبهم، وكان مشبهاً يشبه الرب – سبحانه وتعالى – بالمخلوقين، وكان يكذب مع ذلك في الحديث.(1/406)
قال عبد الرحيم – غفر الله له ذنوبه أجمعين – وقد شهد مقاتل على نفسه بالكذب، فالحمد لله رب العالمين، قال الإمام ابن عيينة الثقة الأمين: سمعت مقاتلا ً يقول: إن لم يخرج الدجال الأكبر سنة خمسين ومائة فاعلموا أني كذاب (1) .
__________
(1) انظر ما تقدم من الأقوال في بيان حال مقاتل الضال، وغيرها أيضاً في كتب الأئمة الرجال: تهذيب التهذيب: (10/279-285) ، وميزان الاعتدال: (4/173-175) ، والتاريخ الكبير: (8/14) ، وفيه الحكم عليه بأنه لا شيء البتة، وكتاب المجروحين من المحدثين: (2/318-320) ، والكاشف: (3/172) ، وتاريخ بغداد: (13/160-169) ، والجرح والتعديل: (8/354-355) ، والموضوعات: (1/48) ، وتنزيه الشريعة: (1/119) ، وفتح الباري: (13/345-346) ، ومجموع الفتاوى: (16/473، 5/435، 3/175) وفي مفاتيح الغيب: (26/281) : واعلم أن مقاتلا ً كان شيخ المرجئة، وهم الذين يقولون: لا يضر شيء من المعاصي مع الإيمان، كما لا ينفع شيء من الطاعات مع الكفر 1هـ ونحوه في مجموع الفتاوى: (16/196) ، وعبارته: وحكى عن مقاتل: لا يدخل النار أحد من أهل التوحيد: 1هـ وسيأتيك بيان حال المرجئة وفساد أقوالهم عند دراسة الملل والنحل إن شاء الله ويسر.(1/407)
وقال عبد الرحيم – غفر الله ذنوبه أجمعين –: هذه الفرقة أخس فرق الضالين، وفساد قولها مركوز في قلوب المؤمنين، فلا أخبث ولا أشنع من تشبيه رب العالمين، بعباده المخلوقين سبحانه، سبحانه هو رب العرش العظيم، وسع كل شيء علماً، وأخصى كل شيء عدداً، هو الأول والآخر والظاهر والباطن، الحي القيوم، الذي لا يغفل ولا ينام، وهو على كل شيء قدير، فكيف تستوي صفاته مع صفات العباد، وكيف يليق بعاقل تشبيه خالقه بالمخلوقات؟ سبحانه هو كما أخبر عن نفسه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} الشورى11، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} الإخلاص، نسأل الله أن يحفظ عقولنا من الزيغ والزلل، وأن يمن علينا باليقين، وحسن العمل، وأن يجعل خير ساعاتنا عند مجيء الأجل، وأن يكرمنا برؤية وجهه عز وجل، فهو الكريم المجيب لمن سأل.
الطريقة الثانية: طريقة التعطيل الجانية:(1/408)
.. تقوم طريقة أهل التعطيل على نفي صفات الرب الجليل، خشية الوقوع في بلية التمثيل، فالممثلة بالغو في الإثبات، وشبهوا الخالق بالمخلوقات، ورتبوا على ذلك ما اختلقوه من صفات، أطلقوها على رب السموات والأرض، كما تقدم حكاية أقوالهم الرديات، وهذه الفرقة نفت الصفات، عن رب الكائنات، وعطلت مدلول النصوص الشرعيات، فالفرقتان متقابلتان، وفي استحواذ الشيطان عليهما متساويتان، لأنهما في بلية الإفراط والتفريط واقعتان، الأولى أفرطت، والثانية فرطت، وللشيطان في كل أمر نزعتان، لا يبالي في أيهما وقع الإنسان، نزعة للزيادة ونزعة للنقصان، فالإفراط زيادة، والتفريط نقصان، ووقع في النزعة الأولى الممثلة، وفي الثانية المعطلة، وهما بلا شك من أتباع الشيطان، وقد صان الرحيم الرحمن، أهل السنة الكرام، عن تلك الأرجاس والأوهام، فاستقاموا على صراط النبي – صلى الله عليه وسلم –، واتبعوا النور الذي أنزل معه ولم يسلكوا ما خالفه، فهم للسنة متابعون، وللبدعة مجانبون، وهم وسط في الفرق الضالة المخرفة كما أن أهل الإسلام وسط في أهل الملل المشركة المنحرفة، جعلنا الله الكريم من أهل السنة وأرانا نور وجهه الكريم في دار الجنة، إنه واسع الفضل والمنة (1) .
__________
(1) انظر العقيدة الواسطية: (106) ، وهي ضمن مجموع الفتاوى: (4/141) ، وفيها: أن أهل السنة والجماعة وسط في فرق الأمة، كما أن هذه الأمة وسط في الأمم، ثم قرر ذلك ودلل عليه فارجع إليه، وفي تلبيس إبليس: (9) عن الإمام الأوزاعي – رحمه الله تعالى – قال: رأيت رب العزة في المنام فقال لي: يا عبد الرحمن، أنت الذي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فقلت: بفضلك يا رب، وقلت: يا رب أمتني على الإسلام، فقال: وعلى السنة، وقد وصف صاحب الرشد الرشيد الخليفة هارون الرشيد – عليه رحمة الرب المجيد – الفرق الإسلامية بكلام نفيس سديد، فقال: طلبت أربعة فوجدتها في أربعة، طلبت الكفر فوجدته في الجهمية، وطلبت الكلام والشغب فوجدته في المعتزلة وطلبت الكذب فوجدته عند الرافضة، وطلبت الحق فوجدته مع أصحاب الحديث، وقال: المروءة في أصحاب الحديث، والكلام في المعتزلة، والكذب في الروافض، انظر شرف أصحاب الحديث: (55-78) جعلنا الله من أهل الحديث، وصرف عنا لهو الحديث.(1/409)
* أبرز أصحاب تلك المقالة الضالة:
إذا أطلق لفظ المعطلة فينصرف أصالة إلى الجهمية، فهم أصل تلك البلية، ومنبع تلك الضلالة الردية، وأول من قال بالتعطيل في هذه الأمة الضال الجعد بن درهم، قال الإمام الذهبي – عليه رحمة الله تعالى – في ميزان الاعتدال: الجعد بن درهم مبتدع ضال، زعم أن الله – جل وعلا – لم يتخذ إبراهيم خليلا ً، ولم يكلم موسى تكليماً، فقتل على ذلك بالعراق يوم النحر، والقصة مشهورة 10هـ.
وقصة ذبحه رواها الأئمة الحفاظ، وحاصلها أن خالداً القسري أمير واسط خطب سنة أربع وعشرين ومائة خطبة عيد الأضحى المبارك فقال: أيها الناس ضحوا، تقبل الله ضحاياكم فإني مضح بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ً، ولم يكلم موسى تكليماً تعالى الله عما يقول الجعد علواً كبيراً، ثم نزل فذبحه في أصل المنبر، وأشار إلى تلك الحادثة الإمام ابن القيم – رحمه الله تعالى – في قصيدته الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية، فقال:
ولأجل ذا ضحى بجعدٍ خالد القسري ... يوم ذبائح القُرْبان ِ
إذ قال إبراهيمُ ليس خليله ... كلا ولا موسى الكليمُ الداني
شكرَ الضحية كلُّ صاحب سنة ... لله دَرّك مِنْ أخي قُرْبَان ِ
... قال الإمام ابن كثير – رحمه الله تعالى – أقام الجعد بدمشق، حتى أظهر القول بخلق القرآن، وهو أول من قال بخلق القرآن، فتطلبه بنو أمية فهرب منهم فسكن الكوفة ثم سرد قصة قتله، ونقل عن الحافظ ابن عساكر – رحمه الله تعالى – أن الجعد كان يذهب إلى وهب بن منبه ويتردد عليه، وكان يسأل وهباً عن صفات الله – عز وجل – فقال له وهب يوماً: ويلك يا جعد، اقصر المسألة عن ذلك، إني لأظنك من الهالكين، لو لم يخبرنا الله في كتابه أن له يداً ما قلنا ذلك، وأن له عيناً ما قلنا ذلك، وأن له نفساً ما قلنا ذلك، وأن له سمعاً، ما قلنا ذلك، وذكر الصفات من العلم والكلام وغير ذلك، ثم لم يلبث الجعد أن قتل ثم صلب.(1/410)
.. وقد قرر الإمام ابن تيمية – عليه رحمة رب البرية – أن أول من أظهر نفي الصفات هو الجعد بن درهم، وحقيقة تعطيله يتضمن قول فرعون، وإليه ينسب مروان بن محمد الجعدي آخر خلفاء بني أمية إذ كان شيخه، فعاد عليه شؤمه، حتى زالت الدولة، لأنه إذا ظهرت البدع التي تخالف دين الرسل الكرام – عليهم الصلاة والسلام – وانتقم الله ممن خالف الرسل الأطهار – عليهم الصلاة والسلام – وانتصر لهم.
وقد استحسن العلماء الأبرار قتل الجعد إمام الأشرار، وشكروا قاتله على ما فعله كالحسن البصري وغيره – رحمهم الله جميعاً – كما في مجموع الفتاوى، وفي كتاب الرد على الجهمية للدارمي – عليه رحمة الله تعالى –: وأما الجعد بن درهم، فأخذه خالد بن عبد الله القسري فذبحه، ولا يطعن عليه طاعن، بل استحسنوا ذلك من فعله، وصوبوه من رأيه.(1/411)
وقد أخبر الجعد بن درهم بدعته الخبيثة عن بيان بن سمعان، وأخذها بيان عن طالوت بن أخت لبيد بن الأعصم زوج ابنته، وأخذها طالوت عن لبيد بن الأعصم الساحر اليهودي الذي سحر النبي – صلى الله عليه وسلم – وأخذها لبيد عن يهودي باليمن (1) .
__________
(1) انظر تفصيل ما تقدم، مع زيادة عليه في ميزان الاعتدال: (1/399) ، ولسان الميزان: (2/105) والكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية: (12-13) ، ومدارج السالكين: (1/92، 3/27) وطريق الهجرتين وباب السعادتين: (176) ، وكتاب الرد على الجهمية للدارمي: (4) ، وأعاد قصة ذبحه في: (97، 100) ، ومجموع الفتاوى: (13/177، 182، 8/228، 12/502-503، 76-27، 119، 163-164، 350-351، 10/99-67، 5/20-21) والبداية والنهاية: (9/350) ، وفيه: وقد ذكر هذا – قصة ذبحه يوم عيد الأضحى – غير واحد من الحفاظ منهم البخاري، وابن أبي حاتم، والبيهقي، وعبد الله بن أحمد، وابن عساكر في التاريخ، ودرء تعارض العقل والنقل: (6/266، 7/175، 5/244) ، وفيه: لما حدثت الجهمية في أواخر عصر التابعين، كانوا هم المعارضين للنصوص برأيهم، ومع هذا فكانوا مقموعين في الأمة وأولهم الجعد بن درهم، ضحى به خالد بن عبد الله القسري يوم الأضحى ... إلخ، وانظر شرح العقيدة الطحاوية: (475-476) ، وشرح السنة للبغوي: (1/186) ، والأسماء والصفات: (254) .
واعلم أن ما قاله الشيخ جمال الدين القاسمي في كتاب تاريخ الجهمية والمعتزلة: (18-20، 38-42، 103-106) من أن قتل المجرم الجعد بن درهم، وتلميذه الضال الجهم بن صفوان كان لأسباب سياسية محضة، وأن المذهب الذي صار إليه الجهمية نتج عن طريق الاجتهاد، ولهم في ذلك شبه، ولا يصح الحكم عليهم بالضلال باطل يصادم الحقائق الثابتة وانظر تفصيل الأمر في كتاب الرد على الجهمية للدارمي: (93-99) باب الاحتجاج في إكفار الجهمية، و (97-104) باب قتل الزنادقة والجهمية واستتابتهم –، وانظر كتاب الرد على الجهمية والزنادقة للإمام أحمد مطبوع ضمن شذرات البلاتين: (1/40) ، وكتاب السنة لعبد الله بن الإمام أحمد ففي: (4) الإخبار عما قالته العلماء في الجهمية الضلال، وإكفارهم؟ وهل تصح الصلاة خلفهم؟ وفي: (30) ذكر مقالة جهم بن صفوان المبتدع، وفصل حالهم غاية التفصيل بما لا يدع مقالا ً للتوقف في أن الجهمية من الحمير وانظر كتاب خلق أفعال العباد: (.......) ضمن عقائد السلف ففيه تفصيل موسع لحال الجهمية الضلال، وبيان ذبح شيخهم الجعد الضال.(1/412)
وقد تلقى عن الجعد بن درهم ضلالة التعطيل تلميذه الشيطان، الجهم بن صفوان، ونسب مذهب التعطيل إليه، لقيامه بنشره وحد به عليه، قال الإمام الذهبي – عليه رحمة الله تعالى – في الميزان: جهم بن صفوان أبو محرز السمرقندي الضال المبتدع، رأس الجهمية، هلك في زمن صغار التابعين، وما علمته روي شيئاً، لكنه زرع شراً عظيماً 10هـ.
وكان هلك الجهم سنة ثمان وعشرين ومائة، إذ خرج مع الحارث بن سريج على أمراء بني أمية وكان أمير خراسان نصر بن سيار، وقائد شرطته سلم بن أحوز، فأسر الجهم، وأوقف بين يدي سلم بن أحوز، فأمر بقتله، فقال له الجهم بن صفوان: استبقني، فإن لي أماناً من ابنك، فقال له سلم: ما كان له أن يؤمنك، ولو فعل ما أمنتك، والله لو ملأت هذه العباءة كواكب، وأنزلت عيسى بن مريم – على نبينا وعليه الصلاة والسلام – ما نجوت، والله لو كنت في بطني لشققت بطني حتى أقتلك، قال الحافظ في الفتح: وأخرج ابن أبي حاتم عن طريق محمد بن صالح مولى بني هاشم، قال: قال سلم بن أحوز حين أخذ الجهم: يا جهم إني لست أقتلك لأنك قاتلتني أنت عندي أحقر من ذلك، ولكني سمعتك تتكلم بكلام أعطيت الله عهداً أن لا أملكك إلا قتلتك فقتله، وروى ابن أبي حاتم من طريق بكير بن معروف، قال: رأيت سلم بن أحوز حين ضرب عنق الجهم، فاسود وجه جهم، سود الله وجهه في الآخرة كما سود وجهه في الدنيا.
وقد أجمع السلف الأبرار على ذك الجهمية الأشرار، قال إمام الأخيار الإمام عبد الله بن مبارك – عليه رحمة العزيز الغفار –: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ونستعظم أن تحكي قول الجهم.
وكان يقول:
ولا أقول بقول الجهم إن له ... قولا ً يضارع قول الشرك أحياناً
وينشد:
عجبت لشيطان دعا الناس جهرة ... إلى النار واشتق اسمه من جهنم(1/413)
.. قال الحافظ في الفتح: أخرج ابن أبي حاتم في كتاب الرد على الجهمية من طريق خلق بن سليمان البلخي قال: كان جهم من أهل الكوفة، وكان فصيحاً، ولم يكن له نفاذ في العلم، فلقيه قوم من الزنادقة، فقالوا له: صف لنا ربك الذي تعبده، فدخل البيت ولا يخرج مدة، ثم خرج، فقال: هو هذا الهواء، مع كل شيء، وأخرج ابن خزيمة في كتاب التوحيد، ومن طريقه البيهقي في الأسماء والصفات، قال: سمعت أبا قدامة يقول: سمعت أبا معاذ البلخي يقول: كان جهم على معبر ترقد، وكان كوفي الأصل، فصيحاً، ولم يكن له علم، ولا مجالسة أهل العلم فقيل له: صف لنا ربك، فدخل البيت لا يخرج كذا، ثم خرج بعد أيام فقال: هو هذا الهواء مع كل شيء، وفي كل شيء، ولا يخلو منه شيء، وأخرج البخاري في كتاب خلق أفعال العباد من طريق عبد العزيز بن أبي سلمة قال: كلام جهم صفة بلا معنى، وبناء بلا أساس، ولم يعد قط في أهل العلم.(1/414)
.. قال عبد الرحيم – غفر الله ذنوبه أجمعين –: أقوال السلف الكرام في ذم الجهم بن صفوان وشيعته اللئام، كثيرة وفيرة، فلنقتصر منها على هذا المقدار، وإن أردت المزيد فارجع للكتب الذي تعرضت للجهم العنيد، كما هو مبين في الحاشية (1) .
__________
(1) انظر ما تقدم وغيره في ميزان الاعتدال: (1/426) ، ولسان الميزان: (2/142) والبداية والنهاية: (10/26-27) ، وتاريخ ابن جرير: (330-335) ، وفتح الباري: (13/344-346) واجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية: (88) وفيه: وأول من عرف عنه في هذه الأمة أنه نفى أن يكون الله في سمواته على عرشه هو الجهم بن صفوان، وقبله الجعد بن درهم لكن الجهم هو الذي دعا إلى هذه المقالة وقررها، وعنه أخذت....إلخ، ومقالات الإسلاميين: (1/224، 312) والفرق بين الفرق: (211-212) ، والملل والنحل: (1/90-92) ، والتنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع: (96-145) وانظر قول الإمام ابن المبارك – رحمه الله تعالى – في كتاب الرد على الجهمية للدارمي: (102) وكتاب السنة لعبد الله بن الإمام أحمد: (7) ، والشريعة للآجري: (305) ، ومجموع الفتاوى: (13/148) ، وشرح العقيدة الطحاوية: (477) ، ومجموع الفتاوى: (3/102، 353، 4/54، 218-219، 5/20، 6/33-35، 8/228-229، 460، 12/27، 119، 164، 350-352، 524) وفيه: اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن الجهمية من شر طوائف أهل البدع.....إلخ: (13/182-185) ، ودرء تعارض العقل والنقل: (6/226) ، وشرح السنة: (1/186) وقد رد أئمة السنة الكرام على الجهمية الطغام في كتب مستقلة كما في فعل الدارمي، وابن منده، وابن أبي حاتم حيث سمى كل منهم كتابه "الرد على الجهمية" وعقد أئمة الحديث الشريف لذلك أبواباً في كتبهم ففي سنن أبي داود – كتاب السنة – باب في الجهمية –: (5/91-97) وختم الباب بقوله: قال أبو داود: وهذا رد على الجهمية وفي سنن ابن ماجه – المقدمة – باب فيما أنكرت الجهمية –: (1/63-73) ، وفي شرح السنة – كتاب الإيمان –باب الرد على الجهمية –: (1/172-182) ، وفي صحيح البخاري – كتاب التوحيد – زاد المستحلي فيه: والرد على الجهمية وغيرهم كما في الفتح: (13/344) وفي شرح الكرماني: (25/95) كتاب التوحيد وارد على الجهمية وانظر كتاب خلق أفعال العابد –: ضمن عقائد السنة.
قال عبد الرحيم – غفر الله ذنوبه أجمعين – وللجهم وشيعته ضلالات كثيرة، غير إنكار الصفات ونفيها عن رب الأرض والسموات، منها: القول بالجبر ونفي الاختيار عن العبد فلا قدرة للعبد أصلا ً، ولا مؤثرة ولا كاسبة، بل هو بمنزلة الجمادات كما في المعارضة: (9/260) ، ومنها: الغلو في الإرجاء، والزعم بأن الإيمان هو المعرفة دون الاعتقاد وقد أشار الإمام ابن تيمية إلى هذين مع قول الجهمية بنفي الصفات عن رب الكونين ففي مجموع الفتاوى: (8/227-229) وجهم اشتهر عنه نوعان من البدع، نوع من الأسماء والصفات، فغلا في النفي، ووافقه على ذلك الباطنية والفلاسفة ونحوهم، والمعتزلة في الصفات دون الأسماء فهم مخانيث الجهمية، والبدعة الثانية: الغلو في القدر والإرجاء، فجعل الإيمان مجرد معرفة القلب، وجعل العباد لا فعل لهم ولا قدرة.
ومنها: القول بفناء الجنة والنار – كما في مجموع الفتاوى: (8/227) ، وشرح العقيدة الطحاوية: (378) ، ومقالات الإسلاميين: (1/224-312) .
ومنها: الخروج بالسيف على أئمة الجور، كما الفرق بين الفرق: (212) وسيأتي بسط الكلام على ضلالاتهم وتفنيد شبهاتهم عند دراسة فرق الأمة في الملل والنحل إن شاء الله ويسر.(1/415)
ومما ينبغي التنبيه له أن فرقة الجهمية الغوية، لم تنشا عن طريق اجتهاد خاطئ في فهم الأدلة الشرعية، إنما أنشئت عن طريق خبث الطوية، بقصد تحريف شرع رب البرية، فحالها كحال الشيعة الشياطين، وغرض كل منهما مقت المسلمين، والكيد لشرع رب العالمين، فعلى الفرقتين لعنة مالك يوم الدين، قال الإمام ابن تيمية – عليه رحمة الله تعالى –: في أهل البدع المنافق الزنديق، فهذا كافر، ويكثر مثل هذا في الرافضة والجهمية، فإن رؤساءهم كانوا منافقين زنادقة، وأول من ابتدع الرفض كان منافقاً، وكذلك التجهم فإن أصله زندقة ونفاق، ولهذا كان الزنادقة المنافقون من القرامطة الباطنية المتفلسفة وأمثالهم يميلون إلى الرافضة والجهمية لقربهم منهم (1) .
__________
(1) انظر مجموع الفتاوى: (3/353) ،وفي: (10/66-67) بعد أن قرر الإمام ابن تيمية أن أول من ابتدع مقالة التعطيل في الإسلام هو الجعد بن درهم، وأخذ المذهب عنه الجهم بن صفوان، قال وأصل قولهم هذا مأخوذ عن المشركين، والصائبة من البراهة والمتفلسفة، ومبتدعة أهل الكتاب المقدس الذين يزعمون أن الرب ليس له صفة ثبوتية أصلا ً ... إلخ وفي: (5/20-22، 12/350) ذكر أن الجعد كان في حران، وفيهم أئمة الفلاسفة، فأخذ عنهم وقال الدارمي – رحمه الله تعالى – في كتاب الرد على الجهمية: (100) : والجهمية عندنا زنادقة من أخبث الزنادقة، نرى أن يستتابوا من كفرهم ... إلخ وفي كتاب خلق أفعال العباد: (71) كما في شرح السنة: (1/228) يقول الإمام البخاري – عليه رحمة الله تعالى –: نظرت في كلام اليهود والنصارى والمجوس، فما رأيت قوماً أضل في كفرهم من الجهمية، وإني لأستجهل من لا يكفرهم، إلا من لا يعرف كفرهم.
وقال: ما أبالي صليت خلف الجهمي والرافضي أم خلف اليهود والنصارى 1هـ وانظر وصف الإمام الشعبي – عليه رحمة الله تعالى – للشيعة في منهاج السنة النبوية: (1/7-8) حيث يقول أحذركم أهل هذه الأهواء المضلة، وشرها الرافضة، لم يدخلوا في الإسلام رغبة ولا رهبة، ولكن مقتاً لأهل الإسلام وبغياً عليهم، يريدون أن يغمصوا دين الإسلام، كما غمص بولس دين النصرانية 1هـ وبولس هو الذي قام بتحويل دين النصرانية من توحيد إلى تثليث وكان يهودياً، ومن ألد أعداء النصرانية، ثم بدا له أن يكيد للنصرانية عن طريق الخداع، فرفع المسيح عيسى بن مريم – على نبينا وعليه الصلاة والسلام – إلى رتبة الألوهية ليضع هو نفسه مكانة وظل يدعو للتثليث من سنة ثمان وثلاثين على سنة سبع وستين أي قرابة ثلاثين سنة وهو في الواقع المؤسس الحقيقي للنصرانية الحالية، ثم جاءت المرحلة الثانية سنة 325هـ في مؤتمر نيقية حيث (2048) من الأساقفة بدعوة من الملك قسطنطين لإقرار أفكار بولس، فوافق منهم (318) فقط، ومال إليهم قسطنطين وأعطاهم سيفه وخاتمه وقضيبه، وقال لهم: قد سلطتكم على مملكتي لتنشروا هذا الدين الذي قلتم به، واضطهد كل من عارض، انظر دراسات في الملل والنحل للأستاذ محمود مزروعة، وانظر تفصيل ما جرى في عشرة مجامع من مجاميع النصارنية في إغاثة اللهفان: (2/266-277) ، وقال: اشتملت على أكثر من أربعة عشر ألفاً من البتاركة والأساقفة والرهبان كلهم ما بين لاعن ٍ وملعون.(1/416)
.. ومما ينبغي معرفته تماماً، وعلمه جيداً لزاماً، أن لفظ الجهمية وإن كان ينصرف أصالة إلى الجهم وشيعته الردية، الذين لم يثبتوا اسماً ولا صفة لرب البرية – جل جلاله – وقالوا: هو مع كل شيءٍ، وفي كل شيء ولا يخلو منه شيء، فإن ذلك اللفظ – أعني التجهم يشمل كل من شاركهم في بعض أوصافهم، وينسحب عليهم، وأخض أوصاف الجهمية: نفي الصفات عن ذات ربنا العلية، وبهذا الاعتبار يطلق لفظ الجهمية على المعتزلة الأشرار، كما يشمل متأخري الأشعرية، الذين خلطوا بين طريقة السلف المرضية، وطريقة المعتزلة الردية، قال شيخ الإسلام ابن تيمية – عليه رحمة رب البرية –: وكان أحمد بن أبي دؤاد – إمام المعتزلة، وركن الاعتزال – قد جمع له – أي لمناظرة إمام أهل السنة الإمام أحمد بن حنبل أسكنه الله غرف الجنة – نفاة الصفات من جميع الطوائف، وعلماء السنة كابن المبارك، وأحمد، وإسحاق، والبخاري – رحمهم الله جميعاً – يسمون هؤلاء جميعهم جهمية، وصار كثير من المتأخرين من أصحاب أحمد وغيرهم يظنون أن خصومه كانوا هم المعتزلة، وليس كذلك، بل المعتزلة نوع منهم 1هـ ونحوه في فتح الباري، قال الإمام ابن حجر – عليه رحمة الملك الباري –: إنما الذي أطبق السلف على ذم الجهمية بسببه إنكار الصفات، وقال: وقد سمى المعتزلة أنفسهم "أهل العدل والتوحيد" وعنوا بالتوحيد ما اعتقدوه من نفي الصفات الإلهية، لاعتقادهم أن إثباتها يستلزم التشبيه، ومن شبه الله بخلقه أشرك، وهم في النفي موافقون للجهمية، وقال وأما الجهمية فلم يختلف أحد ممن صنف في المقالات أنهم ينفون الصفات حتى نسبوا إلى التعطيل، وثبت عن أبي حنيفة – رحمه الله تعالى – أنه قال: بالغ جهم في نفي التشبيه حتى قال: إن الله ليس بشيء (1) .
__________
(1) انظر مجموع الفتاوى: (8/229) ، وفتح الباري: (13/344-345) ، وانظر مجموع الفتاوى: (5/22-23) ففيه أن مقالة الجهمية انتشرت بسبب المعتزلة الردية والتأويلات الموجودة بأيدي الناس كتأويلات الرازي والغزالي وابن فورك هي تأويلات المعتزلة المأخوذة من الجهمية المعطلة.
وقد تقدم الكلام على بيان طريقة المعتزلة والأشعرية في صفات رب البرية، مع وزن تلك الطريقة بالموازين الشرعية. انظر صفحة...... من هذا الكتاب المبارك.(1/417)
فاعلم هذا فهو من المهمات، واحذر الوقوع في الرديات، وسل الله الاستقامة والثبات فهو كريم واسع الفضل كثير الهبات.
كلمة الختام في بيان فساد طريقة أهل البدع اللئام في صفات ربنا الرحمن:
... إذا كانت طريقة المخالفين لأهل السنة الأبرار، في صفات العزيز الغفار، منحصرة في فرقتين من الأشرار، فإن كل فرقة من الفرقتين جمعت إلى باطنها، الباطل الموجود في مقابلها، فالممثلة جمعوا إلى تمثيلهم التعطيل، والمعطلة ضموا إلى تعطيلهم التمثيل، فكل من الفرقتين ممثل معطل، ولكمال ربنا جاحد منكر، وبيان ذلك:
أ) جمع الممثلة للتعطيل، لما فسدت عقول أهل التمثيل، ولم يفهموا من صفات ربهم الجليل إلا ما فهموه من صفات المخلوق الحقير، فقد مثلوا وعطلوا، أما التمثيل فظاهر، حيث فهموا من صفات الرب اللطيف، ما فهموه من صفات العبد الضعيف، وكذلك التعطيل ظاهر من قولهم المنكر الهزيل، لأنهم بذلك الفهم الحقير، عطلوا نصوص صفات ربنا العلي الكبير، عن معانيها اللائقة بالعزيز القدير، فجمعوا بذلك بين التمثيل والتعطيل.
ب) جمع المعطلة للتمثيل لما زاغت عقول أهل التعطيل، فنفوا صفات الله الجليل، خشية الوقوع في بلية التمثيل، فقد جمعوا بذلك – أيضاً – بين التعطيل والتمثيل، أما وقوعهم في التعطيل فظاهر جلي، حيث نفوا الصفات عن ربنا القاهر العلي، وكذلك وقوعهم في التمثيل ظاهر وهو من الواضحات، لأن الذي دعاهم إلى تعطيل الرب عن الصفات توهمهم مماثلتها لما هو معروف في المخلوقات، فهم مثلوا أولاً، ثم عطلوا ثانياً، فجمعوا بين المفسدتين، وأحرزوا شناعة الضلالتين.
بداية ملف توحيد 6(1/418)
وبذلك تعلم أن كل من الفرقتين ممثل معطل، لكن أخص أوصاف الممثلة التمثيل، كما أن أخص أوصاف المعطلة التعطيل، فكل من الفرقتين فهمت من صفات الرب- جل جلاله – ما فهمته من صفات العبد، لكن الممثلة قالوا بذلك المفهوم، والمعطلة لم يقولوا به، وكل من الفرقتين أيضاً عطلت صفات الله – جل وعلا – عن معانيها اللائقة بجماله وجلاله، غير أن المعطلة نفت تلك الصفات، أما الممثلة فأثبتتها على ما هو معروف في المخلوقات، والطريقتان منكرتان فالممثل يعبد صنماً، والمعطل عدماً (1) .
__________
(1) انظر إيضاح ما تقدم وتفصيله في مجموع الفتاوى: (5/27) ، وفيه: كل واحد من فريقي التعطيل والتمثيل فهو جامع بين التعطيل والتمثيل.... إلخ ونحوه في: (10/55) ، وفي: (6/515) الممثل يعبد صنماً، والممثل يعبد عدماً، وكرر ذلك في: (12/73) .
واعلم أن حال الممثلة والمعطلة يشبه حال اليهود والنصارى من حيث جمع كل من الفرقتين لما هو موجود في الأخرى، وتميز كل مهما بوصف هو فيها أخص، فإذا كان كل من المعطلة والممثلة معطلا ً وممثلا ً. وأخص أوصاف الممثلة التمثيل، كما أن أخص أوصاف المعطلة التعطيل فإن اليهود والنصارى كل منهما مغضوب عليه وضال، وأخذ أوصاف اليهود الغضب، كما أن أخض أوصاف النصارى الضلال، كما ورد ذلك عن نبينا – صلى الله عليه وسلم – فقال: "اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضلال" أخرج ذلك الترمذي في كتاب التفسير – سورة الفاتحة – عن عديّ بن حاتم – رضي الله تعالى عنه –: (4/271-272) ، وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث سماك بن حرب، وهو في المسند: (4/378) ، ورواه الإمام أحمد أيضاً في: (5/77) عن صحابي لا يعرف اسمه، وعنون عليه: حديث رجل – رضي الله تعالى عنه – عن عبد الله بن شقيق أنه أخبره من سمع النبي – صلى الله عليه وسلم – وهو بوادي القُرى، وهو على فرسه، وسأله رجل من بني القين، فقال: يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من هؤلاء؟ قال: هؤلاء المغضوب عليهم، فأشار إلى اليهود،..الحديث. قال الإمام ابن كثير في تفسيره: (1/29) : وقد روي حديث عديّ – رضي الله تعالى عنه – من طرق يطول ذكرها 10هـ فتفسير النبي – صلى الله عليه وسلم – للمغضوب عليهم باليهود، وللضالين بالنصارى من باب تفسير اللفظ بأخص أنواعه، وبما هو مقصود منه قصداً أولياً، ولذلك لا مانع من شمول كل من اللفظين لمن تحقق معناهما فيه، فطريقة أهل الإيمان مشتملة على العلم والحق، والعمل به. واليهود فقدوا العمل، والنصارى فقدوا العلم، ولهذا كان الغضب لليهود، والضلال للنصارى لأن من علم ولم يعمل بعلمه، استوجب غضب ربه، كما قال الله – جل وعلا –: {كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} الصف3 والمقت: أشد الغضب، وهذا يختلف عن حال من لم يعلم كما هو حال النصارى الذين قصدوا شيئاً ولم يهتدوا إلى طريقه، لأنهم لم يأتوا الأمر من بابه، وهو إتباع الحق، فلذلك ضلوا، وكل من اليهود والنصارى ضال مغضوب عليه لكن أخص أوصاف اليهود الغضب، وأخص أوصاف النصارى الضلال، كما في تفسير ابن كثير: (1/29) ، وعلى هذا فكل من قصر وفرط في أحد شطري طريقة أهل الإيمان: العلم بالحق، والعمل به، ففيه شبه باليهود أو النصارى، ولذلك كان من انحرف من علماء هذه الأمة ففيه شبه باليهود، ومن انحرف من عبادها ففيه شبه بالنصارى، وبفساد هذين يفسد الدين، كما قال إمام المسلمين عبد الله بن المبارك – عليه رحمة رب العالمين -:
وهل أفسد الدين إلا الملوك ... وأحبارُ سَوْءٍ وَرُهْبانُها
وقد تقدمت الأبيات في صفحة (......) من هذا الكتاب المبارك وقد حذر سلفنا الصالح كما في مجموع الفتاوى: (14/459، 494) ، وصاحب هوى متبع لهواه.(1/419)
قال عبد الرحيم الطحان – عامله الله باللطف والإحسان –: تقدم البيان التام، أن طريقة أهل السنة الكرام، في إيمانهم بصفات ربهم الرحمن، تقوم على الإقرار والإمرار، وعلى إثبات الصفات مع نفي مماثلتها للمخلوقات، كما دل على ذلك قول رب الأرض والسموات: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} الشورى11، فقوله: "لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ" رد للتمثيل، وقوله: "وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ" رد للتعطيل فالحمد لله الذي وفقنا لإثبات صفات ربنا، مع نفي مماثلتها لما هو معروف لنا، ونسأله على ذلك أن يميتنا، وأن يجعل خير ساعاتنا ساعة نلقاه وهو راض ٍ عنا، وأن يمُنّ علينا برؤية وجهه الكريم، في جنات النعيم، آمين أمين.
وسأختم الكلام على هذه المسألة العظيمة الشأن بما قاله الإمام السفاريني – عليه الرحمة والرضوان – في بيان صحة طريقة أهل السنة الكرام، في إيمانهم بصفات الرحيم الرحمن، وفساد طريقة أهل الزيغ والهذيان:
فأثْبَتُوا النُّصوص بالتنزيه ... من غير ِ تعطيل ولا تشبيه
فكلُّ ما جاء من الآيات ... أو صحَّ في الأخبار َ عن ثقات
من الأحاديث نُمِرُّهُ كما ... قد جاء فاسْمعْ من نَظامي واعْلمَا
فطلُّ من أوّلَ في الصفات ... كذاتِه من غير ما إثبات
فقد تعدَّى واستطالَ واجْترى ... وخاضَ في بَحْر الهَلاك وافْترى
ألم تَرَ اخْتلاف أصحاب النَّظر ... فيه وحُسْنَ ما نَحَاهُ ذو الأثَرْ
فإنهم قد اقتدوا بالمصطفى - صلى الله عليه وسلم - ... وصَحْبَه فاقْنَعْ بهذا وكَفَى (1)
المبحث الرابع
نماذج مباركات من أسماء الله الحسنى والصفات:
__________
(1) انظر الدرة المضيّة في عقيدة الفرقة المرضية، معها شرحها: لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية: (1/93-111) .(1/420)
.. تقدم الكلام المستفيض في بيان مصدر الكلام في أسماء الرحمن، وصفاته الحسان، وأتبعت ذلك ببيان صحة طريقة أهل السنة الكرام، في صفات ذي الجلال والإكرام، ثم بيان فساد طريقة أهل الزيغ والهذيان، في ذلك الموضوع العظيم الشأن، وسأتكلم الآن، على نماذج من صفات الكريم المنان، مقتصراً على سيدة آي القرآن، وحديث نزول ربنا الرحمن، وإليك التفصيل والبيان، مَنّ الله علينا بالهداية للعرفان، وانشراح الصدر بكامل الإيمان.
قال الله – جل وعلا –: {اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} البقرة255.
قال عبد الرحيم الطحان – غفر الله له الذنوب والآثام – ضبطاً لسير البحث بانتظام سأتكلم على تفسير سيدة آي القرآن، ضمن مراحل محكمة البنيان، ليحصل إيضاح البيان مع حسن الإتقان، وأسأل الله القبول وحسن الختام.
1- فضل آية الكرسي:(1/421)
.. ثبت في صحيح مسلم وغيره عن أبيّ بن كعب – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "يا أبا المنذر، أتدري أيُّ آية من كتاب الله معك أعظك؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: يا أبا المنذر، أتدري أي أية من كتاب الله معك أعظم؟ قال قلت:" اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ " قال: فضرب في صدري، وقال: والله ليَهْنِكَ العلم أبا المنذر" وفي رواية الإمام أحمد زيادة في آخر الحديث، وهي: "والذي نفسي بيده إن لما لساناً وشفتين تقدس الملك عند ساق العرش (1) ".
__________
(1) انظر صحيح مسلم كتاب صلاة المسافرين وقصرها – باب فضل سورة الكهف وآية الكرسي: (1/56) وسنن أبي داود – كتاب الصلاة – باب ما جاء في آية الكرسي: (2/151) ، والمسند: (5/58، 142) ولم يصرح في المكان الأول باسم الراوي، ولا باسم من وجه السؤال غليه، وهو أبي بن كعب – رضي الله تعالى عنه – وأبهم نفسه تواضعاً كما في بلوغ الأماني: (18/92) ، ورجال السند رجال الصحيح كما في مجمع الزوائد: (6/321) ، وورد في المستدرك: (3/304) كتاب معرفة الصحابة – رضي الله تعالى عنهم – تسمية الراوي، والمسئول بأبي بن كعب، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأقره الذهبي، وقد تقدم معك إخراج مسلم له فتنبه، والحديث رواه ابن الضريس، والهروي في فضائله كما في الدر المنثور: (1/322) ، ورواه أبو عبيد عن عبد الله بن رباح أن رسول – صلى الله عليه وسلم – قال لأبي بن كعب ... الحديث.(1/422)
وقد تكرر الإخبار عن آية الكرسي بكونها أعظكم آية في القرآن، عن طريق سؤال الصحابة للنبي – عليه الصلاة والسلام – فكما سأل النبي – صلى الله عليه وسلم – بعضهم عن أعظم آية في القرآن، وجه إليه ذلك السؤال بعض الصحابة الكرام – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – ففي مستدرك الحاكم بسند صحيح عن أبي ذر – رضي الله تعالى عنه – قال: انتهيت إلي النبي – صلى الله عليه وسلم – وهو في المسجد، فجلست إليه، فذكر فضل الصلاة، والصيام، والصدقة قال، قلت: يا رسول الله، فأيما آية أنزل الله عليه أعظم؟ قال: " اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ " وذكر الآية حتى ختمها (1) .
__________
(1) انظر المستدرك – كتاب التفسير – سورة البقرة: (2/282) قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، وأقره الذهبي، وانظره في المسند: (5/179) ومسند البزار ومعجم الطبراني الأوسط كما في مجمع الزوائد: (1/160) ، قال الحافظ الهيثمي: وفيه المسعودي وهو ثقة، ولكنه قد اختلط، ورواه ابن الضريس في فضائل القرآن، والبيهقي في شعب الإيمان كما في الدر المنثور: (1/325) ، ورواه ابن حبان في صحيحه – موارد الظمآن –: (52-54، 508) ضمن حديث طويل يتضمن عدد الأنبياء –عليهم الصلاة والسلام – من طريق إبراهيم بن هشام بن يحيى الغساني، والحديث حوله كلام كثير من أجل إبراهيم الغساني، فالذهبي في الميزان: (1/72-73) يقول في ترجمته: هو صاحب حديث أبي ذر الطويل – رضي الله تعالى عنه – ثم ينقل عن أبي حاتم، وأبي زرعة أنهما قالا: إنه كذاب، ويذكره الذهبي في الميزان: (4/378) في ترجمة يحيى بن سعيد السعدي، ويحكم عليه بالترك، فيقول: والصواب إبراهيم بن هشام أحد المتروكين الذين مساهم ابن حبان قم يصب 1هـ ونقل الذهبي في المكان الأول أن الطبراني قال: لم يرو هذا الحديث عن يحيى بن سعيد إلا ولده، وهم ثقات، وأن ابن حبان ذكره في الثقات، وأخرج حديثه في الأنواع والتقاسيم، وانظر تفصيل الكلام في لسان الميزان: (1/122-123) ، والحديث ذكره ابن كثير في تفسيره: (1/585-586) وعزاه أيضاً لابن مردويه في تفسيره، وحكى اختلاف العلماء في إبراهيم بن هشام الغساني، وذكره ابن حجر في الفتح: (6/361) وعزاه إلى صحيح ابن حبان، ولم يعلق على ذلك بكلمة، وذلك يقتضي أنه حسن عنده حسي شرطه، وذكره السيوطي في الحاوي: (2/138) وحكى تصحيح ابن حبان والحاكم له، ولم يعترض عليهما، ورواية الحاكم في المستدرك: (2/597) – كتاب التاريخ – من طريق يحيى بن سعيد السعدي، قال الذهبي في تلخيص المستدرك، قلت: السعدي ليس بثقة، والحديث رواه الإمام أحمد في المسند: (5/265) عن أبي أمامة – رضي الله تعالى عنه – ثم ذكر مجيء أبي ذر – رضي الله تعالى عنه – وسؤاله النبي – صلى الله عليه وسلم – كالرواية السابقة، قال الهيثمي في مجمع الزوائد: (1/159) ورواه الطبراني في الكبير ومداره على بن يزيد الألهاني وهو ضعيف 1هـ ورواه إسحاق بن راهوية في مسنده عن عوف بن مالك – رضي الله تعالى عنه – أن أبا ذر – رضي الله تعالى عنه – جلس إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: أيما أنزل الله عليك أعظم ... الحديث كما في الدر: (1/324) وورد في عدة روايات ما يدل على كون آية الكرسي أعظم آية في القرآن، ففي سنن أبي داود – كتاب الحروف والقراءات –: (4/295) ورواه البخاري في التاريخ، وأبو نعيم في المعرفة بسند رجاله ثقات كما في الدر المنثور: (1/322) ، ورواه الطبراني أيضاً كما في مجمع الزوائد: (6/321) قال الهيثمي: وفيه راو لم يسمع، وقد وثقه وبقية رجاله ثقات عن ابن الأسقع البكري صحابي من أهل الصفة – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – قال: إن النبي – صلى الله عليه وسلم – جاءهم في صفة المهاجرين، فسأل إنسان: أي آية في القرآن أعظم؟ فقال النبي – صلى الله عليه وسلم –: "اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ" حتى انقضت الآية، والحديث فيه مولى ابن الأسقع ورد وصفه في المسند بأنه رجل صادق وقال السيخ الأرناؤوط في تعليقه على جامع الأصول: (8/475) فيه جهاله ويشهد له حديث مسلم المتقدم عن أبي بن كعب – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – وورد الحديث من رواية أيفع بن عبيد الله الكلاعي – رضي الله تعالى عنه – عند الدارمي كتاب فضائل القرآن – باب فضل أول سورة البقرة أية الكرسي: (2/447) ، وهو في الدر المنثور: (1/323) ، وورد الحديث موقوفاً على ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه – عن الطبراني بسند رجاله رجال الصحيح كما في مجمع الزوائد: (6/323) وكرره في: (7/126) وقال رواه الطبراني بأسانيد، ورجال الأول رجال الصحيح غير عاصم بن بهدلة وهو ثقة، وفيه ضعف 10هـ ورواه عنه سعيد بن منصور، وابن الضريس والهروي في فضائله، والبيهقي في شعب الإيمان وان مردويه، والشيرازي في الألقاب كما في الدر المنثور: (1/323) ، وأخرج أبو عبيد في فضائل القرآن كما في الدر: (1/327) عن سلمة بن قيس – وكان أول أمير على بيت المقدس – رضي الله تعالى عنه – قال: ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل، ولا في زبور أعظم من "اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ" وأخرج ابن الضريس عن الحسن البصري – رحمه الله تعالى – أن رجلا ً ملت أخوه، فرآه في المنام، فقال: أي أخي أي الأعمال تجدون أفضل؟ قال: القرآن، قال: فأي القرآن أفضل؟ قال: آية الكرسي "اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ" ثم قال: ترجون لنا شيئاً؟ قال: نعم، إنكم تعلمون ولا تعملون، وإنا نعلم ولا نعمل.(1/423)
وقد أخبر النبي – صلى الله عليه وسلم – بثبوت تلك الفضيلة الكبيرة لآية الكرسي الجليلة، دون سبق سؤال منه أو وروده عليه ففي سنن الترمذي والمستدرك وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "لكل شيء سنام، وإن سنام القرآن سورة البقرة، فيها آية سيدة آية القرآن، وهي آية الكرسي (1)
__________
(1) انظر سنن الترمذي – كتاب ثواب القرآن – باب ما جاء في فضل سورة البقرة وآية الكرسي: (8/94) ، قال الترمذي: هذا الحديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حكيم بن جبير، وقد تكلم شعبة في حكيم بن جبير وضعفه، والمستدرك – كتاب التفسير –: (2/260) وفي كتاب فضائل القرآن: (1/560-561) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وسكت عنه الذهبي في موطن وأقره في موطن آخر وهو من رواية حكيم بن جبير، وهو ضعيف كما في التقريب: (1/193) ولكن له شواهد بمعناه يتقوى بهما كما قال السيخ الأرناؤوط في تعليقه على جامع الأصول: (8/474) ، رواه سعيد بن منصور، ومحمد بن نصر، وابن المنذر، والبيهقي في شعب الإيمان كما في الدر المنثور: (1/20، 326) ، وفي مسند الإمام أحمد: (5/26) ، ومعجم الطبراني كما في مجمع الزوائد: (6/311) ، ورواه محمد بن نصر كما في الدر المنثور عن معقل بن يسار – رضي الله تعالى عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: "البقرة سنام القرآن وذروته، نزل مع كل آية منها ثمانون ملكاً واستخرجت " اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ "من تحت العرش، فوصلت بسورة البقرة، قال الهيثمي: في سند أحمد راو لم يسم، وبقية رجاله رجال الصحيح، ورواه الطبراني، وأسقط المبهم 1هـ وقال السيوطي: سنده صحيح، وأخرج البغوي في معجم الصحابة، وابن عساكر في تاريخه كما في الدر: (1/20) عن ربيعة الحرشي – رضي الله تعالى عنه – سئل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أي القرآن أفضل؟ فقال: السورة التي يذكر فيها البقرة، قيل: فأي البقرة أفضل؟ قال آية الكرسي، وخواتيم سورة البقرة، نزلن من تحت العرش. وأخرج وكيع وأبو ذر الهروي في فضائله كما في الدر: (1/21) عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – وقد سئل أي سورة في القرآن أفضل؟ قال: البقرة، فقال له السائل: فأي آية أفضل؟ فقال: آية الكرسي. وأخرج محمد بن نصر في كتاب الصلاة عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – قال: أشرف سورة في القرآن سورة البقرة، وأشرف آية آية الكرسي، وفي تاريخ بغداد: (1/346) ونقله عنه السيوطي في الدر: (1/323) عن أنس بن مالك – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "أتدرون أي آي القرآن أعظم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ" الآية، وأخرج ابن الضريس ومحمد بن نصر، والهروي في فضائله عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – قال: ما خلق الله من سماء ولا أرض، ولا سهل ولا جبل، أعظم من سورة البقرة وأعظم آية فيها آية الكرسي، وأخرج ابن الأنباري في المصاحف، والبيهقي في شعب الإيمان كما في الدر: (1/324) عن علي – رضي الله تعالي عنه – قال: سيد آي القرآن: "اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ".(1/424)
وسنام الشيء أعلاه تشبيهاً بسنام البعير، وبما أن آية الكرسي أعظم آية في القرآن، وهي أفضل كلام الرحمن، وسيدة الآي الكريمات الحسان، فقد ورد لها من الفضائل العظام، ما لم يرد لغيرها من القرآن.
روى البخاري وغيره من الأئمة الكرام – عليهم الرحمة والرضوان – عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – قال: "وكلني رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام، فأخذته وقلت له: والله لأرفعنك إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: إني محتاج، وعلى عيال، ولي حاجة شديدة، قال: فخليت عنه، فأصبحت، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم – يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟ قال: قلت يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالا ً، فرحمته فخليت سبيله، فقال: أما إنه قد كذبك، وسيعود، فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إنه سيعود، فجعل يحثو من الطعام، فأخذته، فقلت له: لأرفعنك إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: دعني فإني محتاج، وعلى عيال، لا أعود فحرقته فخليت سبيله، فأصبحت، فقال لي رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: ما فعل أسيرك؟ قلت: يا رسول الله، شكا حاجة شديدة، وعيالا ً، فرحمته فخليت سبيله، قال، أما إنه قد كذبك، وسيعود، فرصدته الثالثة، فجعل يحثو من الطعام، فأخذته، فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهذا آخر ثلاث مرات، إنك تزعم لا تعود، ثم تعود، قال دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها، قلت: ما هن؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فقرأ آية الكرسي: "اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ" حتى تختم الآية، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فخليت سبيله، فأصبحت، فال لي رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: ما فعل أسيرك البارحة؟ قلت: يا رسول الله، زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله، قال: ما هي؟ قال لي إذا أويت إلى فراشك(1/425)
فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية "اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ " وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح، وكانوا أحرص شيء على الخير، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم أما إنه قد صدقك، وهو كذوب، تدري من تخاطب مذ ثلاث ليلا؟ يا أبا هريرة؟ قلت لا، قال: ذاك شيطان (1)
__________
(1) انظر صحيح البخاري – كتاب الوكالة – باب إذا وكل رجلا ً فترك الوكيل شيئاً فأجازه الموكل فهو جائز –: (4/487) ، وفي كتاب بدء الخلق – باب صفة إبليس وجنوده –: (6/335) وفي كتاب التفسير – سورة البقرة – باب فضل سورة البقرة –: (9/55) بشرح ابن حجر في الجميع، وانظر كلام الحافظ على ما يتعلق بالحديث سنداً ومتناً في المكان الأول وفيه أن النسائي في السنن الكبرى وأبا نعيم في دلائل النبوة أخرجاه أيضاً 10هـ وزاد السيوطي في الدر: (1/326) نسبته إلى ابن الضريس، وابن مردويه، وقد تكررت القصة مع معاذ بن جبل – رضي الله تعالى عنه – عندما عهد إليه النبي – صلى الله عليه وسلم – حفظ تمر الصدقة أيضاً فجعله في غرفة في بيته....إلخ روى ذلك الحاكم في المستدرك في كتاب فضائل القرآن –: (1/563) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأقره الذهبي، ورواه الطبراني كما في مجمع الزوائد: (6/322) وقال الهيثمي: شيخ الطبراني يحيى بن عثمان بن صالح، وهو صدوق إن شاء الله كما قال الذهبي الميزان: (4/396) وقال ابن أبي حاتم: وقد تكلموا فيه (الجرح والتعديل) : (9/175) وبقية رجاله وثقوا 10هـ ورواه ابن أبي الدنيا في مكايد الشيطان، ومحمد بن نصر، وأبو نعيم، والبيهقي كلاهما في دلائل النبوة كما في الدر: (1/324) ، وتكررت مع أبي بن كعب – رضي الله تعالى عنه – أيضاً، لكن في جرنيه، وتمره أخرج ذلك الحاكم في المستدرك – كتاب فضائل القرآن –: (1/562) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأقره الذهبي، وأخرجه النسائي في السنن الكبرى، وأبو يعلى، وابن حبان، وأبو الشيخ في العظمة، والطبراني، وأبو نعيم، والبيهقي معاً في دلائل النبوة كما في الدر المنثور: (1/322) ، والترغيب والترهيب: (2/275) ، وأشار إلى هذه الرواية الترمذي في سننه – كتاب ثواب القرآن – باب 3: (8/97) ، وانظر رواية ابن حبان في موارد الظمآن – كتاب التفسير – سورة البقرة: (426-427) ، وتكرر ذلك مع أبي أسيد الساعدي – رضي الله تعالى عنه – عندما قطع تمر حائطه وجطه في غرفة من بيته. روى ذلك الطبراني ورجاله السند وثقوا كلهم، وفي بعضهم ضعف كما في مجمع الزوائد: (6/323) ، ورواه ابن أبي الدنيا في مكايد الشيطان، ومحمد بن نصر، وأبو نعيم في دلائل النبوة كما في الدر المنثور: (1/325) وتكرر ذلك مع أبي أيوب الأنصاري – رضي الله تعالى عنه – عندما سرقت الفول التمر من سهوة في بيته، وهي الخزانة. روى ذلك الترمذي في سننه في كتاب ثواب القرآن – باب 3: (8/96-97) وقال: هذا حديث حسن غريب، قال الشيخ الأرناؤوط في تعليقه على جامع الأصول: (8/478) وهو كما قال 1هـ ورواه أحمد في المسند: (5/423) ، والحاكم في المستدرك – في كتاب معرفة الصحابة – رضي الله تعالى عنهم –: (3/458-459) من ثلاثة طرق وقال: هذه الأسانيد إذا جمع بينها صارت حديثاً مشهوراً، وقال الذهبي عن الطريق الثالثة، قلت: هذا أجود طرق الحديث 10هـ ورواه ابن أبي شيبة، وابن أبي الدنيا في مكايد الشيطان، وأبو الشيخ في العظمة والطبراني، أبو نعيم في دلائل النبوة كنا في الدر: (1/325، 326) وتكررت مع زيد بن ثابت – رضي الله تعالى عنه – لكن دون عرض ذلك على النبي – صلى الله عليه وسلم – روى ذلك ابن أبي الدنيا في مكايد الشيطان، وأبو الشيخ في العظمة كما في الدر المنثور: (1/327) وروى الدارمي في كتاب فضائل القرآن – باب فضل أول سورة البقرة وآية الكرسي –: (2/448) ، وأبو عبيد في فضائل القرآن والطبراني، وأبو نعيم في دلائل النبوة، والبيهقي كما في الدر المنثور: (1/323) عن ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه – قال: خرج رجل من الإنس من أصحاب محمد – صلى الله عليه وسلم – فلقيه رجل من الجن، فقال: هل لك أن تصارعني، فإن صرعتني علمتك آية إذا قرأتها حين تدخل بيتك لم يدخله شيطان، فصارعه الإنسي، فقال: تقرأ آية الكرسي، فإنه لا يقرؤها أحد إذا دخل بيته إلا خرج الشيطان له خبج كخبج الحمار، فقيل لابن مسعود: أهو عمر بن الخطاب؟ - رضي الله تعالى عنهم أجمعين – قال: من عسى أن يكون إلا عمر – رضي الله تعالى عنه – والخبج الضراط. وانظر تفصيل ما يتعلق بالجن من أحكام في كتاب آكام المرجان في غرائب الأخبار وأحكام الجان للشيخ الإمام بدر الدين محمد بن عبد الله الشيلي المتوفى سنة تسع وستين وسبعمائة – عليه رحمة الله تعالى –. والكتاب يقع في قرابة أربع ومائتي صفحة، وفيه خير كثير وانظر فيه الباب الرابع والثلاثون بعد المائة في فرار الشيطان من عمر بن الخطاب – رضي الله تعالى عنه – وصرعه إياه: (216-217) .(1/426)
".
وقد ورد الأمر بقراءتها في الصباح، وفي المساء، ففي سنن الترمذي وغيره عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "من قرأ حم المؤمن إلى "إِلَيْهِ الْمَصِيرُ"، وآية الكرسي، حين يصبح حفظ بهما حتى يمسي، ومن قرأهما حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح (1) " وآيات حم المؤمن المشار إليها، هي: "بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ".
__________
(1) انظر سنن الترمذي – كتاب ثواب القرآن – باب ما جاء في فضل سورة البقرة وآية الكرسي –: (8/95) وقال الترمذي: هذا حديث غريب، وقد تكلم بعض أهل العلم في عبد الرحمن بن أبي بكر بن أبي مليكه من قيل حفظه، وانظره في سنن الدارمي – كتاب فضائل القرآن – باب فضل أول سورة البقرة، وآية الكرسي –: (2/449) ، وعزاه إليهما السيوطي في الدر: (1/326) ، والحديث رواه ابن السني في عمل اليوم والليلة: (154) . قال النووي في الأذكار: (70) إسناده ضعيف 1هـ وذلك لضعف عبد الرحمن بن أبي بكر بن أبي مليكة كما في تقريب التهذيب: (1/474) ، والميزان: (2/550) قال الشيخ الأرناؤوط في تعليقه على جامع الأصول: (8/494) أقول: ولبعضه شاهد في فضل آية الكرسي 1هـ وكان علي – رضي الله تعالى عنه – يقول: ما أرى رجلا ً ولد في الإسلام، أو أدرك عقله الإسلام يبيت أبداً حتى يقرأ آية الكرسي. أخرج ذلك عنه أبو عبيد وابن أبي شيبة والدارمي ومحمد بن نصر وابن الضريس كما في الدر: (324) وروى ابن الضريس عن قتادة قال: من قرأ أية الكرسي إذا أوى إلى فراشه وكل الله به ملكين يحفظانه حتى يصبح، كما في الدر: (1/327) .(1/427)
وورد الأمر بقراءتها دبر كل صلاة، تب نبينا – صلى الله عليه وسلم – على ذلك أجراً عظيماً ففي صحيح ابن حبان، ومعجم الطبراني الكبير والأوسط بسند جيد عن أبي أمامة – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة، لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت" وفي رواية للطبراني بسند حسن عن الحسن بن علي – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة كان في ذمة الله تعالى، إلى الصلاة الأخرى (1)
__________
(1) انظر رواية أبي أمامة – رضي الله تعالى عنه – في مجمع الزوائد: (10/102) قال الهيثمي: رواه الطبراني في الكبير والأوسط بأسانيد وأحدها جيد 10هـ وقال المنذري في الترغيب والترهيب: (2/453) رواه النسائي والطبراني بأسانيد أحدها صحيح، وقال شيخنا أبو الحسن: هو على شرط البخاري ومسلم، ورواه ابن حبان في كتاب الصلاة وصححه 10هـ وزاد السيوطي في الدر: (1/325) نسبته إلى الروياني في مسند، والدارقطني، وابن مردويه. وانظر في عمل اليوم والليلة لابن السني: (55) ورواه الضياء المقدسي في المختارة، والحاكم كما في اللاليء المصنوعة: (1/230) وتنزيه الشريعة: (1/288) ورواه أبو نعيم في الحلية: (3/221) عن المغيرة بن شعبة – رضي الله تعالى عنه – مرفوعاً..والبيهقي عن علي – رضي الله تعالى عنه – مرفوعاً كما في الدر المنثور: (1/34) وعن محمد بن الضوء بن الصلصال عن أبيه عن جده كما في الدر أيضاً: (1/323) والحديث ذكره ابن الجوزي في الموضوعات: (1/244) ، ورد عليه العلماء، فلم سلموا له الحكم بالوضع ففي تنزيه الشريعة: (1/230-231) ، وتنزيه الشريعة: (1/288-289) – الفصل الثاني – قال ابن حجر في تخريجه أحاديث المشكاة: غفل ابن الجوزي فأورد هذا الحديث في الموضوعات، وهو من أسمح ما وقع له 10هـ ومال الإمام ابن القيم في زاد المعاد: (1/303-304) إلى قبول الحديث قال: وبلغني عن شيخنا أبي العباس بن تميمة – قدس الله روحهما – أنه قال: ما تركتها عقيب كل صلاة.(1/428)
".
وقد كان سلفنا الصالحون – رحمهم الله تعالى جميعاً – يحافظون على قراءة آية الكرسي في جميع أحوالهم، ويتواصون بذلك، أخرج ابن عساكر وغيره عن عبد الرحمن بن عوف – رضي الله تعالى عنه – أنه كان إذا دخل منزله قرأ في زواياه آية الكرسي، وروى المحاملي في فوائد أن رجلا ً قال لابن مسعود – رضي الله تعالى عنه –: علمني شيئاً ينفعني الله به، قال: اقرأ آية الكرسي، فإنه يحفظك وذريتك، ويحفظ دارك، حتى الدويرات حول دارك (1) .
قال بعد الرحيم – غفر الله له ولوالديه وللمسلمين –: وإنما كان لآية الكرسي تلك المنزلة العالية في شريعة الله الفاضلة، لاشتمالها على أمهات مسائل التوحيد، الذي من أجله خلق الله العبيد، وفيها على التحقيق اسم الله الأعظم، وإليه ترجع جميع صفات الله الأعز الأكرم، كما سيأتيك إيضاح هذه القضية، عند بيان معاني كلمات الآية المحكمة العلية، وإليك التفصيل يا طلاب العلم النبيل:
__________
(1) انظر الأثر الأول في الدر المنثور: (1/324) ، وفيه رواه أيضاً ابن أبي شيبة، وأبو يعلى، وابن المنذر – رحمهم الله جميعاً –. وانظر الأثر الثاني في الدر أيضاً: (1/323) ، وانظر قراءة آية الكرسي لحصول البركة في الطعام في الدر أيضاً: (1/323) وفيه: (1/325) وفي عمل اليوم والليلة لابن السني: (232) قراءتها عند طلق المرأة وولادتها، وفيه أيضاً: (134) وفي الدر: (1/325) قراءتها عند الكرب، ليزول بإذن الرب – جل جلاله –.(1/429)
2- لفظ الجلالة: (الله) علم الأعلام، ومعرفة المعارف، دال على الإله الحق، دلالة جامعة لمعاني الأسماء الحسنى كلها، كما في التعريفات، وفي الفتح المبين، وتحفة المريد وغيرهما: إنه علم على الذات الواجب الموجود لذاته، المستحق لجميع الكمالات والمحامد المعبود بحق – سبحانه وتعالى، لا إله إلا هو، ولا رب سواه – (1) .
وللعلماء الكرام في كون ذلك الاسم الكريم مشتق أو مرتجل قولان:
القول الأول:
__________
(1) انظر التعريفات: (28) ، والفتح المبين: (5) ، وتحفة المريد: (1/5) ونحو ما في هذه الكتب موجود في: المقصد الأسني: (48) ، وتفسير ابن كثير: (1/19) وحاشية الأمير: (6) ، وروح المعاني: (1/58، 63) وفي كتاب أحكام البسملة: (10) : تكرر لفظ (الله) في القرآن: (2679) مرة ومن اللطائف الطرائف ما في حاشية المدابغي: (5) : ورؤى الخليل بن أحمد بعد موته – رحمه الله تعالى – فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي، بقولي في اسمه (الله) إنه غير مشتق وفي كتاب أحكام البسملة: (10) ويحكى أن كرامة حصلت لابن جني، حيث رؤى في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي، وأكرمني بسبب قولي: (الله) أعرف المعارف.(1/430)
إنه غير مشتق من شيء أصلا ً، إنما هو اسم انفرد به الحق – جل جلاله – كأسماء الأعلام وبهذا قال الأئمة الكرام، أبو حنيفة، والشافعي، والحسين بن الفضل البجلي، والقفال الشاشي، وأبو سليمان الخطابي، أبو يزيد البلخي، والغزالي، وهو أحد قولي الخليل بن أحمد، وسيبويه، والمبرد، ونسبه الرازي في تفسيره إلى أكثر الأصوليين، والفقهاء، وقال قي لوامع البيانات في شرح أسماء الله الحسنى والصفات، إنه قول أكثر المحققين، وهو المختار عندنا 1هـ وقال الغزالي في المقصد الأسني: كل ما ذكر في اشتقاقه وتصريفه تعسف وتكلف 1هـ ومال إلى هذا الخازن في تفسيره: "لباب التأويل" وحكم عليه: بأنه الصحيح المختار 1هـ وقال الزجاج في شرح أسماء الله الحسنى: وعلى هذا القول المعمول 10هـ وعليه حط كلام الألوسي في روح المعاني، وبه قال السهيلي، وشيخه ابن العربي كما في بدائع الفوائد (1) .
القول الثاني:
إنه مشتق قال بذلك كثير من الأدباء كما في لوامع البينات، وفي تفسير القرطبي إنه قول كثير من أهل العلم 1هـ وذهب إليه الطبري، ومال إليه ابن الأنباري في البيان في إعراب غريب القرآن، وقرره الزمخشري في الكشاف، ورجحه ابن القيم في بدائع الفوائد (2) .
سبب الخلاف:
__________
(1) انظر ما تقدم في تفسير الرازي: (1/156) ولوامع البينات شرح أسماء الله الحسنى والصفات: (108) والمقصد الأسني شرح أسماء الله الحسنى: (48) ، ولباب التأويل: (1/17) ، وشرح أسماء الله الحسنى للزجاج: (35) ، وروح المعاني: (1/58) ، وبدائع الفوائد: (1/22) ، وانظر زاد المسير: (1/8-9) ، والجامع لأحكام القرآن: (1/102-103) ، وتفسير ابن كثير: (1/19) ولسان العرب: "أله": (17/358-363) .
(2) انظر لوامع البينات شرح الأسماء الحسنى والصفات ك (108) ، وتفسير القرطبي: (1/102) وتفسير ابن جرير: (1/41-42) ، والبيان في إعراب غريب القرآن: (1/32-33) ، والكشاف: (1/35-40) ، وبدائع الفوائد: (1/22) .(1/431)
.. قال الإمام ابن القيم في بدائع الفوائد، زعم السهيلي وشيخه ابن العربي أن اسم الله غير مشتق، لأن الاشتقاق يستلزم مادة يشتق منها، واسمه – تبارك وتعالى – قديم لا مادة له، فيستحيل الاشتقاق، ولا ريب أنه إن أريد بالاشتقاق هذا المعنى، وأنه مستمد من أصل آخر فهو باطل، ولكن الذين قالوا بالاشتقاق لم يريدوا هذا المعنى، ولا ألم بقلوبهم وإنما أرادوا أنه دال على صفة له تعالى وهي الإلهية، كسائر أسمائه الحسنى كالعليم والقدير والغفور والسميع والبصير، فإن هذه الأسماء مشتقة من مصادرها بلا ريب، وهي قديمة والقديم لا مادة له، فما كان جوابكم عن هذه الأشياء فهو جواب القائلين باشتقاق اسمه (الله) . ثم الجواب عن الجميع أننا لا نعني بالاشتقاق إلا أنها ملاقية لمصادرها في اللفظ والمعنى لا أنها متولدة منها تولد الفرع من أصله، وتسمية النحاة للمصدر والمشتق منه أصلا ً وفرعاً ليس معناه أن أحدهما تولد من الآخر، وإنما هو اعتبار أن أحدهما يتضمن الآخر وزيادة، فالاشتقاق هنا ليس هو اشتقاق مادي، وإنما اشتقاق تلازم، سمي المُتضَمِن بالكسر مشتقاً، والمُتضمَن بالفتح مشتقاً منه، ولا محذور في اشتقاق أسماء الله – جل وعلا – بهذا المعنى 10هـ وقرر نحو هذا الزمخشري وعبارته: فإن قلت: هل لهذا الاسم اشتقاق؟ قلت: معنى الاشتقاق أن ينتظم الصيغتين فصاعداً معنى واحد، وصفية هذا الاسم وصيغة قولهم: ألِه إذا تحير ينتظمهما معنى التحير والدهشة، وذلك أن الأوهام تتحير في معرفة المعبود، وتدهش الفطن 1هـ (1) .
وجوه اشتقاق ذلك الاسم الكريم، عند القائلين به:
__________
(1) انظر بدائع الفوائد: (1/22-23) ، والكشاف: (1/39) وفي حاشية المدابغي: (5) قال بعضهم وحيث ذكر الاشتقاق في أسماء الله الحسنى، فالمراد به أن المعنى في ذلك الاسم، ونحوه في محاضرات في التفسير للأستاذ القيعي: (44) .(1/432)
أ) أصله: إلاه من ألِهَ إذا عُبِد، وهو مصدر بمعنى مألوه، أي: معبود: كقولهم: خلق الله بمعنى مخلوق، حذفت الهمزة استثقالا ً لوجودها في كلمة يكثر استعمالهم لها، وللهمزة في وسط الكلام ضغطة شديدة، ثم حذفت الألف من (الله) بعد إرادتهم تفخيمه بالتعريف لأنه اسم لعظيم – لكثرة الاستعمال كما حذفت من (الرحمن) .
... ويصح القول بأن الهمزة حذفت بعد نقل حركتها إلى ما قبلها، وحذفها لاجتماع الساكنين هي واللام قبلها، لأنه عندما ألغيت حركة الهمزة على اللام قبلها التقى حرفان متحركان من جنس واحد، فأسكنت اللام الأولى، وأدغمت في الثانية، وألزم التفخيم (1) .
__________
(1) انظر البيان في إعراب غريب القرآن: (1/32-33) ، والبحر المحيط: (1/15) ، واللسان: "أله"، وتفسير القرطبي: (1/102) ففي الأول عن أبي على النحوي، وفي الثاني عن الخليل أن الألف واللام بدل من الهمزة، وعوض عنها، وفي لوامع البينات: (119) التأله: التعبد، قال رؤيه:
لله دَرُّ الفانِياتِ المُدَّهِ ... سَبَّحْن واسْتَرْجَعْنَ من تَلُهي
ولما كان الباري – جل وعلا – هو المعبود في الحقيقة لا جرم سمى إليها، وكيف لا يكون مستحقاً للعبادة، وقد بين أنه تعالى هو المنعم على جميع خلقه بوجوه الإنعامات، والعبادة غاية التذلل والعقل يشهد بأن غاية التعظيم لا يليق إلا بمن صدر عنه غاية الإنعام والإحسان، وإليه الإشارة بقوله – جل وعلا –: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ} البقرة28 1هـ، وانظر بيت روية في اللسان: "أله" وفيه: مدهة يمدهه مدهاً، والجمع المُده، أي: المستحقات المدح لحسنهن وجمالهن، والتأله: التنسك والتعبد، واسترجعن قلن: إنا لله وإنا إليه راجعون وفي اللسان أيضاً: "أله" وروى المنذري عن أبي الهيثم أنه سأله عن اشتقاق اسم (الله) في اللغة، فقال: كان حقه: إلاه أدخلت الألف واللام للتعرف، فقيل، ألإ لاه، ثم حذفت العرب الهمزة استثقالا ً لها، فلما تركوا الهمزة حولوا كسرتها في اللام التي هي لام التعريف وذهبت الهمزة أصلا ً فقالوا: ألِلاه، فحركوا لام التعريف التي لا تكون إلا ساكنة، ثم التقى لامان متحركان، فأدغموا الأولى في الثانية، فقالوا الله، وانظر تفسير ابن جرير: (9/17) حيث نقل في تفسير قوله الله – جل وعلا –: {وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} الأعراف127، عن ابن عباس ومجاهد – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – أنهما كانا يقرآنها "إلاهتك" بكسر الألف، بمعنى: ويذرك وعبودتك، والقراءة التي لا نرى القراءة بغيرها هي القراءة التي عليها قرّاء الأمصار، لإجماع الحجة من القراء عليها، ثم قال في: (9/18) : ذكر من قال معنى ذلك: ويذرك وعبادتك على قراءة من قرأ: "وإلاهتك" ثم نقل عن ابن عباس ومجاهد – رضي الله تعالى عنهم – أن فرعون كان يُعبَد ولا يَعبُد 10هـ وانظر نسبة التفسير بذلك إليهما وإلى غيرهما في الدر المنثور: (3/107) وفي اللسان "أله": (7/360) وقرأ ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما –: "وإلاهتك" بكسر الهمزة، أي: وعبادتك، وهذه الأخيرة عن ثعلب كأنها هي المختارة، قال: لأن فرعون كان يُعبد ولا يَعبُد فهو على هذا ذو إلاهة ٍ لا ذو آلهة، والقراءة الأولى أكثر القراء عليها، قال بان بري يقوي ما ذهب إليه ابن عباس – رضي الله تعالى عنه – في قراءته: "ويذرك وألاهتك" قول فرعون: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} النازعات24 وقوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} القصص38 ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى} النازعات25.
قال عبد الرحيم – غفر الله ذنوبه أجمعين –: القراءة المنسوبة إلى ابن العباس – رضي الله تعالى عنهما – شاذة، ولا يجوز القراءة بها، لفقدان شرط التواتر، ويصح الاستشهاد بها في الأحكام، لأنها تنزل منزلة خبر الآحاد، وتوجيهها لفظاً ومعنى حسن، ولذلك ذكرتها هنا لأبين أن معنى الإله مأخوذ من إلالاهة وهي العبادة، فكان فرعون على هذه القراءة يُعبَد ولا يَعبُد هو شيئاً، وعلى القراءة الأولى المتواترة يكون المعنى: يذرك آلهتك التي تعبدها فيفيد أن فرعون كان يعبد الأصنام، ودعا إليها قومه الضالين الطغام، كما في تفسير ابن كثير: (2/239) وانظر توجيه القراءات الشاذة والعمل بها في البرهان: (1/336، 341) ، والإتقان: (1/280-281) ، والتحرير في أصول الفقه: (299) ، وفواتيح الرحموت: (1/16-178) ، والمستصفى: (1/102) .(1/433)
ب) أصله: الإله من ألِهت أي: تحيرت، فالباري – جل وعلا – مسمى بهذا الاسم، لأنه العقول متحيرة في كنه جماله وجلاله، ويقال فيه ما قيل في سابقه من حذف الهمزة، وإدخال الألف واللام عليها (1) .
جـ) أصله: إلاه من ألِه الرجل إلى الرجل يأله إليه، إذا فزع إليه من أمر نزل به، فآلهه أي: أجاره وأمنه، فيسمى: إلها كما يسمى: إماماً إذا أم الناس فأتموا به، فالله – جل وعلا – هو المجير لكل الخلائق من كل المضار، وهو المنعم، والمطعم، والموجد قال الله – جل وعلا –: {قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} المؤمنون88-89، وقال – جل وعلا –: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} النحل53، وقال – جل وعلا –: {قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ} الأنعام14 ويقال هنا ما قيل فيما سبق أيضاً من حذف الهمزة، وإدخال الألف واللام عليها (2) .
__________
(1) انظر لوامع البينات: (117) ، والبينات في إعراب الغريب القرآن: (1/33) ، والبحر المحيط: (1/15) ، ومفاتيح الغيب: (1/160) ، واللسان "أله".
(2) انظر لوامع البينات: (112) ، والبحر المحيط: (1/15) ، ومفاتيح الغيب: (1/61) ، واللسان "إله".(1/434)
د) أصله: إلاه من ألِهت إلى فلان إذا سكنت إليه وألِه الفصِيل: إذا أولع بأمه، والله – جل وعلا – لا تسكن العقول إلا إلى ذكره، ولا تطمئن القلوب إلا بالأنس به، ولا تنشرح الصدور إلا بمحبته والتحلي بطاعته، ولا تحيى الأرواح، ولا تعرج إلى بلاد الأرواح إلا بمعرفته، فالعباد مولهون بالتضرع إليه والأكياس معولون في جميع الأحوال عليه، قال الله – جل وعلا –: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} الرعد28، وقال – جل جلاله –: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} الأنعام13، ويقال في هذا ما قيل في سابقه من حيث حذف، وإدخال الألف واللام عليها، وعليه ففي الأوجه الأربعة تكون الألف زائدة، ومادته همزة ولام (1) .
__________
(1) انظر مفاتيح الغيب: (1/159) ، والبحر المحيط: (1/15) والجامع لأحكام القرآن: (1/103) وفي لسان العرب: "أله" يدل على أن أصل "الله" إلاه، قوله – جل وعلا –: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} المؤمنون91، وفي تفسير ابن كثير: (1/19) ونحوه في مفاتيح الغيب: (1/175) واستدل بعضهم على كونه مشتق بقوله – عز وجل –: {وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} الأنعام3، وقوله – جل جلاله –: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} الزخرف84.(1/435)
هـ) أصله: إلاه وأصل إلاه: وِلاه، من الوله وهو: التعلق مع الطرب والتحير، والله – جل وعلا – يوله إليه في الحاجات، وتتعلق به النفوس الزاكيات وترقص من حلاوة الأنس به قلوب الصالحين والصالحات وتتحير الألباب في حقائق ما له من جليل الصفات، فهو الذي لا يسأله من في السموات والأرض ولا يحيط به أحد في السموات والأرض.
... وعلى هذا فالهمزة مبدولة من الواو المكسورة، كما أبدلت في إشاح ووشاح، وإسادة ووسادة وبعد الإبدال دخلت الألف واللام حذفوا الهمزة وأدغموا وفخموا على ما تقدم بيانه في الأوجه الأربعة السابقة، ومادته على هذا الوجه، واو ولام وهاء (1) .
و) أصله: لاه يليه إذا ارتفع، ولذلك سميت الشمس: إلاهة ً – بكسر الهمزة وفتحها –. وفي تفسير القرطبي: كانت العرب تقول لكل شيء مرتفع لاها 1هـ والله – جل جلاله – على عرشه فوق سمواته، له العلو الفوقية – سبحانه وتعالى – في ذاته، وصفاته، وقدره، قال الألوسي – رحمه الله تعالى – وقرئ شاذاً: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء لاه} الزخرف84، وعلى هذا الوجه فمادته لام وباء وهاء، دخلت عليه لام التعريف، وحذفت الألف للتخفيف (2) .
__________
(1) انظر البيان في إعراب غريب القرآن: (1/33) ، والجامع لأحكام القرآن: (1/102) ولوامع البينات: (113) ، ومفاتيح الغيب: (1/159) ، وروح المعاني: (1/56) ، وفيه: ويرده الجمع على آلهة دون أولهة، وقلب الواو ألفاً إذا لم تحرك مخالف للقياس وتوهم أصالة الهمزة لعدم ولاه خلاف الظاهر، ولعلك لا تعبأ بذلك هنا، فالشأن عجيب، وفي البحر المحيط: (1/15) وهو ضعيف للزوم البدل، وقولهم في الجمع: آلهة.
(2) انظر البحر المحيط: (1/15) ، ومفاتيح الغيب: (1/160) ، ولوامع البينات: (116) ، وفي اللسان: "أله" وقد سمت العرب الشمس لما عبدوها إلاهة والألاهة: الشمس الحارة، والألالهة والإلالاهة والألالاهة كله الشمس اسم لها، والضم في أولها عن ابن الأعرابي.(1/436)
ز) أصله: لاه يلوه إذا احتجب فلم ير من لاهت العروس تلوه إذا احتجبت، والله – جل وعلا – حجابه النور، ولا يرى في دار الغرور، ولا يحاط به عند رؤيته في دار الحبور، كما أخبر العزيز الغفور: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} الأنعام103.
لاهَ ربيّ عن الخَلائق طُرّاً ... فهو الله لا يُرى ويَرى هو
... وعلى هذا الوجه، فمادته لام وواو وهاء، دخلت عليه اللام كسابقه للتعريف، وحذفت الألف للتخفيف (1) .
ح) أصله: لاه يلوه إذا استنار، والله – جل وعز – نور السموات والأرض، بنوره يهتدي المهتدون ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور، فطوبى لمن استدل به على الأغيار، وكان وجود الرب – جل وعلا – عنده أظهر من طلوع الشمس في رابعة النهار.
... وعلى هذا الوجه فمادته لام وواو وهاء، ويقال فيه ما قيل في سابقه بلا اعتراء (2) ، حفظ الله المكلفين من معرفتهم باسم "الله" رب العالمين.
__________
(1) انظر: البحر المحيط: (1/15) ، ومفاتيح الغيب: (1/160) ، والبيان في إعراب غريب القرآن: (1/33) ، ولوامع البينات: (116) ، وروح المعاني: (1/56) ،وقد تقدم في صفحة: (....) من هذا الكتاب المبارك الحديث الصحيح المصرح بكون حجاب الرب – جل وعلا – النور أو النار، ولو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه.
(2) انظر: البحر المحيط: (1/15) ، وفيه تلخيص ما تقدم من الأقوال على القول بالاشتقاق.(1/437)
.. اعلم أخي الكريم، أن حظ الأكياس الفطنين من معرفتهم باسم ربهم الكريم "الله" الذي هو أعظم أسماء رب العالمين: تعلق همتهم بربهم الجليل، وتعويلهم عليه في كل كبير وصغير وعظيم وحقير، فالذين يدعون من دون الله ما يملكون من قطمير، كما أخبر عن ذلك ربنا العزيز الكبير، فقال – جل شأنه – {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} فاطر13-15. فطوبى ثم طوبى لمن عبد الله ومال بقلبه إليه، وفزع إليه مما نزل به، وحل عليه، وسكن إليه، فالخير كله في يديه، فهو كريم ذو الإنعام، وهو العالي المحتجب عن الأنام وبنوره أشرق الظلام وحاشا أن يضل من لاذ بحماه أو يضام، نسأل الله الكريم أن يجعلنا من عبيده المخلصين وحزبه المفلحين، لنحظى بولاية رب العالمين، وما يترتب عليها من أثر عظيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} محمد 7-11.(1/438)
.. {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ} محمد12 – صلى الله عليه وسلم –. وقال ربنا – جل جلاله –: {اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} البقرة257، وقال – جل وعلا –: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} يونس62-64، قال وهب بن منبه – رحمه الله تعالى – قرأت في الكتاب الأول، أن الله – تبارك وتعالى – يقول: "بعزتي من اعتصم بي، فإن كادته السموات بمن فيهن والأرضون بمن فيهن، فإني أجعل له من بين ذلك مخرجاً، ومن لم يعتصم بي فإني أقطع يديه من أسباب السماء، وأخسف به من تحت قدميه الأرض، فأجعله في الهواء، فآكله إلى نفسي، ثم لا أبالي بأي وادٍ هلك (1)
__________
(1) انظر الأثر في تفسير ابن كثير: (3/370-371) ، وفيه إيضاح ذلك بكرامة من الله للعبد الصالح أبي بكر محمد بن داود الديني فانظرها لزاماً. وانظر أثر وهب في إغاثة اللهفان: (1/34) وعزاه للإمام أحمد – عليه رحمة الله تعالى –..وفي رسالة الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان: أخبار كثيرة قرابة الثلاثية تدل على ولاية رب العالمين لمن يتولاه من عباده من عباده المؤمنين فمن ذلك ما في: (11/279-280) ضمن مجموع الفتاوى: مر عامر بن عبد قيس – رحمه الله تعالى – بقافلة قد حبسهم الأسد فجاء حتى مس بثيابه الأسد، ثم وضع رجله على عنقه، وقال، إنما أنت كلب من كلاب الرحمن، وإني أستحي أن أخاف شيئاً غيره، ومرت القافلة، وصلة بن أشيم – رحمه الله تعالى – مات فرسه وهو في الغزو، فقال: اللهم لا تجعل لمخلوق عليّ منة ودعا الله – عز وجل – فأحيا له فرسه، فلما وصل إلى بيته، قال: يا بني خذ سرج الفرس فإنه عارية فأخذ فرسه فمات الفرس، وجاع مرة بالأهواز، فدعا الله – عز وجل – واستطعمه، فوقعت خلفه دوخلة – ما ينسج من الخوص ويجعل فيه الرطب – بتشديد اللام وتخفيفها، مختار: (220) "دخل" رطب في ثوب حرير، فأكل التمر، وبقي الثوب عند زوجته زماناً. وجاء الأسد وهي يصلي في غيضة ٍ بالليل، فلما سلم، قال له: اطلب الرزق في غير هذا الموضع، فولى الأسد وله زئير، وأما ما نعرفه عن أعيان، ونعرفه في هذا الزمان فكثير 1هـ، وانظر خبر عامر مع الأسد في حلية الأولياء: (2/92) وصفة الصفوة: (3/204) ، وانظر ترجمته فيهما، وفي كتاب الزهد للإمام أحمد: (218-228) وكتاب الزهد والرقائق للإمام ابن المارك: (294-300) وفيه خبره مع الأسد، وانظر ما وقع لصلة من كرامات في حلية الأولياء: (2/239-240) ،وصفة الصفوة ك (3/217-218) ، وكتاب الزهد والرقائق: (295-298) ، والبداية والنهاية: (9-15-16) .
تنبيه مهم:
كرر الرازي في تفسيره الإشادة بمنزلة الذكر بـ الله، والله، أو هو هو، وزعم أن لا إله إلا الله توحيد العوام، ولا إله إلا هو توحيد الخواص، وحكم على الذكر بـ هو هو بأنه أعظم الأذكار، وهو مقام المقربين، أما لفظ "الله" فهو مقام، أصحاب اليمين، وقرر ذلك الكلام في صفحات كثيرة جسام، وهو بهذا يسير على منوال من سبقه من المنحرفين كالحلاج الذي ألف كتاباً أسماه: "هو هو" ولعل الرازي أخذ ذلك منه، وكما أن الرازي سار بذلك المسلك على منوال من سبقه، فقد حاكى أيضاً منحرفاً عاصره وهو ابن عربي صاحب الفصوص، فقد ألف كتباً أيضاً أسماه: "الهو"، وانظر تفسير الرازي: (1/146-152، 4/175-177، 22/179-185) وقد تقدمت ترجمة ابن عربي في صفحة: (......) من هذا الكتاب المبارك وانظر نسبة كتاب "الهو" إليه في هدية العارفين: (6/116) وهو مطبوع وعندي نسخة منه، وأما الحلاج فهو الحسين بن منصور الحلاج المقتول على الزندقة، ما روى – ولله الحمد شيئاً من العلم، وكانت له بداية جيدة، وتأله، وتصوف، ثم انسلخ من الدين، وتعلم السحر، وأراهم المخاريق، أباح العلماء دمه فقتل سنة 311هـ كما في ميزان الاعتدال: (1/548) ، وقد وافق الإمام ابن حجر في لسان الميزان: (2/314) ما ذكره الإمام الذهبي في الميزان، وهكذا قال الإمام ابن كثير في البداية والنهاية: (11/133-134) وعبارته: أما الفقهاء فحكى غير واحد من العلماء والأئمة إجماعهم على قتله، وأنه قتل كافراً، وكان مُمَخْرقاً مموهاً مشعوذاً، وبهذا قال أكثر الصوفية، ثم رد الإمام ابن كثير على من أجمل القول فيه، وزعم حسن حاله، وقد كرر الإمام ابن تيمية الحكم بالدجل والكفر على الحلاج في أمكنة متعددة، ففي مجموع الفتاوى: (35/119، 2/481، 483، 35/108) : كان من الدجاجلة بلا ريب، وقال: كانت له مخاريق وأنواع من السحر، وقال: ما يحكى عن الحلاج من ظهور الكرامات عند قتله، ومثل كتابة دمه على الأرض، الله، الله، فكله كذب، وما نعلم أحداً من المسلمين ذكر الحلاج بخير، وقال: قتل على الزندقة التي ثبتت بإقراره، وبغير إقراره، ومن قال: إنه قتل بغير حق، فهو أما منافق ملحد، وإما جاهل ضال 1هـ. وكرر نحو ذلك في: (2/109، 35/110، 112، 114) وأطال الإمام ابن الجوزي في تلبيس إبليس في كشف حال الرجل، وبيان زندقيته. انظر: (386) ، وفي كتاب المنتظم: (6/164) ، وألف كتابً خاصاً في بيان حيل الحلاج ودجله كما نص على ذلك في تلبس إبليس: (53) وانظر أحواله الردية في تاريخ بغداد: (8/112-141) .
وقد عد الإمام أبو منصور البغدادي في الفرق بين الفرق: (260-264) الحلاجية من الفرق الخارجة عن الإسلام لقولهم بالحلول، وانظر حاله في طبقات الصوفية: (307-311) ، وذمه في البرهان المؤيد: (26) وبذلك تعلم أن ما مال إليه حسين بن محمد الديار بكري في تاريخ الخميس: (2/348) من ترجيح إمساك القول فيه، وعدم الطعن عليه لا يساوي شيئاً مع إهدار الشريعة المطهرة لدمه النجس، وأما تصحيح الشعراني لحاله في طبقاته: (1/107-109) ومبالغته في الانتصار له فهو أشد فساداً من سابقه، ولا يلتفت إليه، فتنبه، واحذر، والله يتولى هدانا جميعاً، وانظر نسبة كتاب: "هو هو" إليه في هدية العارفين: (5/305) ، والأعلام: (2/285) وقد عكف صوفية هذه الأوقات، وقبلها بمدد طويلات، على ذلك البلاء والتباب، فأعلنوا في بيوت رب الأرباب الذكر بهو هو، والله، الله، بل حرفوا ذلك إلى: آه، آه وبعضهم – وسمعته بأذني – يبدل الهاء حاء عند النطق لقرب المخرج، وتلبس الشيطان عليهم فيقولون: آح، آح ... نعوذ بالله من الخذلان، ومن الزيغ والطغيان.
وسأبين لك أيها المسترشد حكم الذكر بالاسم المفرد، لتكون على بينة من الأمور، وتحذر ما وقع فيه أهل الغرور والثبور، لم ترد شريعة الله المطهرة بالذكر بالاسم المفرد مظهراً أو مضمراً، ولم يرد في الكتاب أو السنة إرشاد الناس إلى الذكر بلفظ "الله" ولا بلفظ "هو" ولقد تركنا النبي – صلى الله عليه وسلم – على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وبين لنا كل شيء، فمن السفاهة بمكان أن يدعي أهل الهذيان، أن كلمة التوحيد "لا إله إلا الله" ذكر العوام، وحبيبنا خير الأنام – عليه الصلاة والسلام – يقول: "خير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له" أخرجه الإمام مالك في الموطأ – في كتاب القرآن –: (1/214-215) ، وفي كتاب الحج: (1/422-423) ، عن طلحة بن عبيد الله بن كريز – رضي الله تعالى عنه –. ورواه الترمذي في كتاب الدعوات – باب ما جاء في فضل دعاء يوم عرفة –: (5/231) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده – رضي الله تعالى عنهم – وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، وحكم عليه بالحسن الشيخ الأرناؤوط في تعليقه على جامع الأصول: (4/324) بأنه حسن بالروايتين وانظر الحديث في شرح السنة أيضاً – كتاب الحج – باب الدعاء يوم عرفة –: (7/157) وحكم عليه الشيخ الأرناؤوط في تعليقه عليه بالحسن لشواهده. وفي سنن ابن ماجه – كتاب الدعوات – باب فضل الحامدين –: (2/1249) وعزاه الشيخ ابن تيمية في مجموع الفتاوى: (10/553) لابن أبي الدنيا عن جابر – رضي الله تعالى عنه – قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: "أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله".
فهل بعد تصريح النبي – صلى الله عليه وسلم – بأن أفضل الذكر: لا إله إلا الله، وأفضل ما قاله نبينا والأنبياء قبله – عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه – لا إله إلا الله، يقبل كلام المهووسين بأن أفضل الأذكار: الله، الله، أو هو، هو، وأن لا إله إلا الله ذكر العوام والذكر بالاسم المفرد مظهراً ذكر الخواص، والذكر به مضمراً ذكر خواص الخواص.؟
دعوا كل ٍ عند قول محمد – صلى الله عليه وسلم
فما آمِنٌ في دينه كَمُخَاطِر ِ
وقد أطال شيخ الإسلام ابن تيمية – عليه رحمة الله تعالى – في رد تلك الضلالة الردية، فكتب ما يزيد على عشر صفحات في تفنيدها في مجموع الفتاوى: (10/55-67) ، وخلاصة كلامه: الذكر بالاسم المفرد مظهراً مثل: الله، الله، أو مضمراً مثل: هو، هو، ليس بمشروع في كتاب ولا سنة، ولا هو مأثور أيضاً عن سلف الأمة، ولا عن أعيان الأمة المقتدى بهم، وإنما لهج به قوم من ضلال المتأخرين، وربما غلا بعضهم في ذلك، حتى جعلوا الذكر بالسم المفرد للخاصة وذكر الكلمة التامة للعامة، حتىقال بعضهم، لا إله إلا الله للمؤمنين، و "الله" للعارفين و "هو" للمحققين المتقين، وربما اقتصروا في خلواتهم، أو في جماعة على: الله، الله، الله أو على: هو، هو، هو، يا هو، يا هو، أو على: لا هو إلا هو، وربما ذكر بعض المصنفين في الطريق تعظيم ذلك، واستدل عليه تارة بوجده، وتارة برأي، وتارة بنقل مكذوب كما يرى بعضهم أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لقن علي ابن أبي طالب – رضي الله تعالى عنه – أن يقول: الله، الله، الله، وهذا حديث موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث 10هـ.
وسيأتيك إن شاء الله ربنا الرحمن، عند دراسة فرق الزيغ والطغيان، بيان ما أحدثه الصوفية أتباع الشيطان، في مساجد الإسلام، من منكرات ضارعوا بها أهل التلمود والصلبان، وفقنا الله لإتباع هدي سلفنا الكرام، وحفظنا من الزيغ والإجرام، إنه واسع الفضل كثير الإحسان.(1/439)
".
3- الحي القيوم:
... الحياة صفة ثبوتية تقوم بذات ربنا العلية، لا يكتنه كنهها، ولا نعلم حقيقتها، ليست كصفاتنا، وإنما هي كسائر صفات ربنا، التي تتلخص فيها طريقتنا بإقرارها، وإمرارها وبإثباتها مع نفي علمنا بكيفيتها، ونفي المماثلة عنها.
... ولذلك تخالف صفة الحياة في خالقنا – جل وعلا – الحياة المعروفة فينا من جميع الجهات والاعتبارات، ولا اشتراك ولا اتفاق بين حياته – جل وعز – وبين حياتنا إلا في حال الإطلاق وليس للمطلق مسمى موجود خارج الأذهان، كما تقدم تقرير هذا بقواطع الأدلة والبرهان.
وأبرز وجوه المخالفة بين حياة الخالق والمخلوقات، أربعة هاك بيانها:
أولا ً حياة ربنا أزلية: فهو الأول الذي ليس قبله شيء من البرية، وحياتنا مسبوقة بالعدم فهي حادثة، ولا توصف بالقدم.
ثانياً حياة خالقنا أبدية: فهو الآخر الذي ليس بعده شيء من البرية، وحياتنا يعتريها الفوت، ويقطعها الموت.
ثالثاً حياة فاطرنا كاملة على وجه التمام: فلا يعتريها سنة ولا نوم ولا نقصان، وتلك النقائص ملازمة للأنام، فهم النيام، في النهار وفي الظلام.(1/440)
رابعاً حياة مولانا ذاتية: ليست مستمدة من أحد من البرية، وحياتنا عرضية، متوقفة على مشيئة ربنا المحكمة العلية، وهذا الأمر هو سبب الأمور الثلاثة السابقة، فلكون حياتنا ليست من ذاتنا، إنما هي متوقفة على إرادة خالقنا، كانت طارئة بعد عدم، وزائلة بعد وجود، ويصاحب وجودها الآفات والنقصان، لتتميز حياة ذي الجلال والإكرام عن حياة الإنس والجان، فكل موجود فغن، إلا الرحيم الرحمن، كما قرر ربنا ذلك في محكم القرآن: {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} القصص88، وقال – جل وعلا –: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} الرحمن 26-27، وثبت في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: "أصدق كلمة قالها الشاعر، كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل (1) ".
__________
(1) انظر صحيح البخاري كتاب مناقب الأنصار – باب أيام الجاهلية –: (7/149) ، وكتاب الأدب – باب ما يجوز من الشعر والرجز والحداء وما يكره منه –: (10/537) ، وكتاب الرقاق – باب الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك –: (11/321) بشرح ابن حجر في الجميع، وانظر شرح الحديث في المكان الأول، ومناسبة الحديث للترجمة في المكان الأخير، وانظر الحديث في صحيح مسلم – أول كتاب الشعر –: (4/1768) ، وسنن ابن ماجه – كتاب الأدب – باب الشعر: (2/1236) ، والمسند: (2/248، 393، 458، 470) ، وانظر شرح تلك الجملة في مجموع الفتاوى: (5/514-517) ، وانظر: (2/104) فما بعدها حيث قرر الإمام ابن تيمية – عليه رحمة الله تعالى – أنه لا يوجد قط في الكتاب والسنة وكلام العرب لفظ الكلمة إلا والمراد به الجملة التامة.(1/441)
.. وقد تقدم في هذا الكتاب المبارك طائفة من الأبيات المحكمة الحكيمة، في تقرير هذا الأمر فارجع إليها، واحرص عليها (1) .
... واعلم يا طالب العرفان، أن حياة ربنا الرحمن، إذا كانت كاملة على وجه التمام، ولا يعتريها عدم ولا نقصان، فإن ذلك يستلزم أمرين، يتصف بهما ذو الجلال والإكرام وهما:
أ) إفادة دوام الوجود: فالله – جل وعلا – لم يزل موجوداً، ولا يزال كذلك أبد الآباد، فهو الأول الآخر – سبحانه وتعالى –.
ب) اتصافه بجميع صفات الكمال، ونفي ما يضاد ذلك من جميع الوجوه، وفي جميع الأحوال، فمن لوازم الحياة: الفعل الاختياري، فكل حي فعال، وفي كتاب خلق العباد، نقلا ً عن الإمام نعيم بن حماد – عليه رحمة رب العباد – قال: إن العرب لا تعرف الحي من الميت إلا بالفعل، فمن كان له فعل فهو حي، ومن لم يكن له فعل فهو ميت 1هـ (2) .
__________
(1) انظر صفحة: (.......) من هذا الكتاب المبارك.
(2) انظر كتاب خلق العباد ضمن عقائد السلف: (177) ، ومثله في لوامع البينات: (205) وعبارته: لا معنى للحي إلا فاعل دارك 1هـ وفي كتاب رد الإمام الدارمي على بشر المريسي: (54) أمارة ما بين الميت والحي التحرك، وما لا يتحرك فهو ميت لا يوصف بحياة 1هـ وفي المقصد الأسني: (124) الحي هو الفاعل الدارك حتى أن ما لا فعل له أصلا ً ولا إدراك فهو ميت، والحي الكامل المطلق هو الذي يندرج جميع المدركات تحت إدراكه، وجميع الموجودات تحت فعله، حتى لا يشذ عن عمله مدرك، ولا عن فعله مفعول، وذلك هو الله – تبارك وتعالى – فهو الحي المطلق، وكل حي سواه فحياته بقدر إدراكه وفعله، وكل ذلك محصور في قلة 1هـ وانظر إيضاح هذا المعنى في مدارك السالكين: (1/31) والمنهاج في شعب الإيمان: (1/191) ، وروح المعاني: (3/7) ، ومفاتيح الغيب: (7/7) ، مجموع الفتاوى: (16/355، 7/535) ، وانظر المعنى الأول الذي يستلزمه لفظ الحي في شرح أسماء الله الحسنى: (56) ، وتفسير ابن كثير: (1/308) .(1/442)
.. وقد قرر نبينا – صلى الله عليه وسلم – هذا بقوله: "تسموا بأسماء الأنبياء، وأحب الأسماء إلى الله: عبد الله، وعبد الرحمن، وأصدقها حارث وهمام، وأقبحها حرب ومرة (1) ".
__________
(1) انظر في سنن أبي داود – كتاب الأدب – باب في تغيير الأسماء –: (5/237) ، والمسند: (4/345) عن أبي وهب الجشمي – وكانت له صحبة – رضي الله تعالى عنه – ومعنى: "حارث" مكتسب أي عامل، ومنه احتراث المال كسبه عن طريق العمل، ومعنى: هَمّام مريد، من هممت بالشيء إذا أردته وقصدته ونويته، وهذان الوصفات ينطبقان على كل حي، إلا لا يخلو الحي من نية وحرة، فتسميته بما يدل على حاله مما ينطبق عليه تمام الانطباق، وذلك هو الصدق، وقد كرر الإمام ابن تيمية – رحمة الله عليه – هذا المعنى. انظر مجموع الفتاوى: (4/32-33، 7/43، 10/63، 14/294-295، 20/122-123، 28/135، 29/381) .(1/443)
.. وصدور الفعل عن الحي يكون بحسب كمال حياته ونقصانها، فمن كانت حياته أكل كان فعله أقوى، وقدرته أتم، ولما كانت حياة ربنا – جل جلاله – هي الحياة الكاملة التامة، كان فعالا ً لما يريد، وعلى كل شيء قدير، ولا يتصف أحد من المخلوقات بأحد ذينك الوصفين، إنما إرادتهم وقدرتهم تتناسبان مع حياتهم، وكم من أمر يريده العباد، ولا يستطيعون فعله، والأمر كما قال الله – جل وعلا –: {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} الإنسان30، قال الإمام أبو بكر بن العربي – عليه رحمة الله تعالى –: هذه الجملة: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، من نفيس اعتقاد أهل السنة (1) .
... وأما صفة "القيومية" فيدور معناها على أمرين، كل منهما مراد في خالقنا رب الكونين وهما:
أ) القائم بنفسه: الدائم في وجوده وقيامه بلا زوال.
__________
(1) انظر أحكام القرآن: (3/1234) ، وفي الانتفاء في فضائل الأئمة الثلاثة الفقهاء: (80) ، والسنن الكبرى للبيهقي: (10/206) ، والاعتقاد له أيضاً: (72) ، والأسماء والصفات له أيضاً: (172-173) ومناقب الشافعي له أيضاً: (1/412) ، والبداية والنهاية: (10/254) ، وطبقات الشافعية: (1/295) شعر محكم عظيم لإمام المسلمين الإمام الشافعي – عليه رحمة رب العالمين – قال الإمام ابن عبد البر – رحمه الله تعالى – في الانتفاء: وهو من شعره الذي لا يختلف فيه، وهو أصح شيء عنه، وهو من أثبت شيء في الإيمان بالقدر، وهو:
ما شئتَ كان وإنْ لم أشأ ... وما شئتُ إنْ لم تَشأ لم يكن
ج
خَلقْتَ العِبادَ على ما علمت ... ففي العلم يجري الفتى والمُسِن
على ذا مَثَنْتَ وهذا خَذلْت ... وهذا أعنت، وذا لم تُعن
فمنهم شقي ومنهم سعيد ... ومنهم قبيح، ومنهم حسن(1/444)
ب) القائم بتدبير خلقه، في إيجادهم، وفي أرزاقهم، وفي حفظهم (1) .
__________
(1) انظر ذينك المعنيين، وتفصيل الكلام عليهما في زاد المسير: (1/302) ، ومفاتيح الغيب: (7/8) ، وروح المعاني: (3/8) ، وشرح أسماء الله الحسنى: (56) ، والمنهاج في شعب الإيمان: (1/200) والأسماء والصفات: (47-48) ، والدر المنثور: (1/327) .(1/445)
وحاصل المعنى لصفة القيومية لذات ربنا علية أنه قائم بنفسه مقيم لغيره، والأمر الثاني متوقف على الأول، لأنه لا يتأتى قيام كل موجود به إلا إذا كان قائماً بذاته – سبحانه وتعالى – وذانك المعنيان لا يتصف بها أي مخلوق كان، اجتماعاً أو افتراقاً، إنما هما خاصان بربنا الرحمن، قال الله – جل وعز –: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} فاطر41، وقال – جل جلاله –: {أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي الأَرْضِ أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ وَصُدُّواْ عَنِ السَّبِيلِ وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} الرعد33، والمعنى: هل يستوي شأن من هو حفيظ على كل نفس، عليم بها، رقيب عليها، مهيمن على جميع أحوالها بشأن من هو ليس كذلك من الآلهة المزيفة التي تعبد من دون الله – جل وعلا –؟ فهي لم تخلق عابديها، ولا تستطيع حفظهم، ولا مراقبة أعمالهم، وليس لها هيمنة عليهم في حال من أحوالهم، فـ (من مبتدأ، والخبر محذوف تقديره: كمن ليس كذلك، وسبب حذفه دلالة السياق عليه، فاكتفى بذلك عن ذكره، قال – جل وعلا –: " وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء" أي: أعلمونا بهم، واكشفوا عن حالهم، فهم لا حقيقة لهم، ولا يملكون لأنفسهم نفاً ولا ضراً، وقد جاء الخير مثبتاً في آيات كثيرة، مصرحاً بتلك الحقيقة، فمن ذلك قول الله – تبارك وتعالى –: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (1) }
__________
(1) من سورة النحل: (17) وجاءت الآية بعد أن عدد الله نعمه على عباده في عشر آيات سابقة وسورة النحل تسمى بسورة النعيم ورد ذلك عن قتادة – رحمه الله تعالى – في تفسير ابن أبي حاتم كما في الإتقان: (1/193) وفيه قال ابن الفرس: لما عدد الله فيها من النعم على عباده، وابن الفرس هو عبد المنعم بن محمد بن عبد الرحيم له كتاب أحكام القرآن، من غرناطة توفي سنة 597- عليه رحمة الله تعالى – كما في هدية العارفين: (5/629) ، وانظر معنى آية الرعد في تفسير ابن كثير: (2/516) ، وروح المعاني: (13/159-162) ، ومحاسن التأويل: (9/366-368) وفي قوله: " وَصُدُّواْ" قراءتان متواترتان بضم الصاد وفتحها، قرأ بالأولى خمسة من القراء العشرة وهم الكوفيون ويعقوب كما في تقريب النشر: (129) وقراءة الضم: صُدُّوا عن الحق بما زين لهم من الضلال والمكر. انظر كتب التفسير المتقدمة، وحجة القراءات: (373-374) .(1/446)
النحل17، وقال – جل وعلا –: {وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلَا نَفْعاً وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُوراً} الفرقان3.
قال عبد الرحيم – غفر الله له ذنوبه أجمعين –: تقدم أن الحياة التامة تقتضي القيام بالنفس وعدم الاحتياج إلى الغير، وقد أكدت تلك الدلالة في اسم ربنا الحي مرة ثانية في اسم ربنا القيوم، مع إفادة قيام جميع المخلوقات به أيضاً، فهو القائم نفسه المقيم لغيره، فبه قيام جميع الكائنات والأكوان، ولتضمن الحي القيوم ذينك الأمرين، صار ذلك الاسمان الكريمان، مشتملين على جميع صفات ربنا الرحمن، فكل صفة يتصف بها ربنا – جل جلاله – لا تكون إلا بعد كونه حياً وما يترتب علي صفاته من آثار، من مخلوقاته من إيجاد أو عدم، ومنع وإنعام، لا يتم إلا بعد كونه قيوماً فعادت جميع صفات ربنا إلى الحي القيوم، وآلت إليهما، فهما أساس الكمالات، وما سبب التنزه عن النقائص والآفات، فالحياة الكاملة، والقيومية التامة توجب ذينك الأمرين وتحتمهما، وعن صفات الرب المجيد تتفرع سائر مباحث التوحيد ن بل إن جميع ما يجري في الكون علويه وسفليه، من عرشه إلى فرشه من آثار صفات ربنا – عز وجل – ولذلك كان الإيمان بصفات الرحمن أساس الإسلام، وقاعدة الإيمان، وثمرة شجرة الإحسان، وهو مبدأ الطريق، ووسطه وغايته، فهو روح السالكين، وهاديهم، إلى رب العاملين، كما تقدم تقرير ذلك فتذكر ولا تكن من الغافلين.(1/447)
ولدلالة الحي القيوم على تلك الاعتبارات، كانت آية الكرسي سيدة الآيات – كما تقدم بيان هذا عن خير البريات – عليهم أزكى السلام وأفضل الصلوات – وقد نبه نبينا – عليه صلوات وسلام ربنا – على منزلة الاسمين حال اقترانهما، فاعتبرهما الاسم الأعظم لخالقنا ففي سنن ابن ماجه، ومستدرك الحاكم عن أبي أمامة – رضي الله تعالى عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: "إن اسم الله الأعظم في ثلاث سورة من القرآن، في سورة البقرة، وآل عمران، وطه"، قال القاسم بن عبد الرحمن الدمشقي الراوي عن أبي أمامة – رضي الله تعالى عنهم أجمعين –: فالتمستها: إنه الحي القيوم (1) .
__________
(1) انظر سنن ابن ماجه – كتاب الدعاء – باب اسم الله الأعظم –: (2/1267) ووفقه تارة على القاسم، وفعه في رواية أخرى عن القاسم عن أبي أمامة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – وقد أورد الحافظ في الفتح: (11/224) رواية ابن ماجه المرفوعة وسكت عنها، وهي على شرط الحافظ في درجة الحسن على أقل تقدير، وانظر الرواية في المستدرك أيضاً – كتاب الدعاء –: (1/505، 506) وأوردها الذهبي في تلخيص المستدرك وسكت عنها، وعزاه السيوطي في الدر المنثور: (1/325) إلى ابن أبي الدنيا في الدعاء، وإلى الطبراني، وابن مردويه، والهروي في فضائله، والبيهقي في الأسماء والصفات 10هـ وورد الحديث في المسند: (6/461) من رواية أسماء بنت مريد – رضي الله تعالى عنها – قالت: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول في هذين الآيتين: "اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ" و "الم اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ" إن فيهما اسم الله الأعظم"..والحديث رواه الترمذي في كتاب الدعوات – باب ما جاء في جامع الدعوات عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: (9/155) وقال: هذا حديث حسن صحيح وأبو داود في الصلاة – باب في الدعاء –: (2/168) والدارمي – فضائل القرآن – باب فضل أول سورة البقرة وآية الكرسي: (2/450) وابن ماجه في المكان المتقدم، لكن فيهما آية: " وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ " البقرة 163 بدل آية الكرسي، وانظر فتح الباري: (11/224) ،وقد تساهل الإمام ابن كثير – عليه رحمة الله تعالى – في تفسيره: (1/307) حيث نسب رواية السنن الثلاثة إلى رواية المسند وحكم عليهما بأنهما سواء، ونقل كلامه الشيخ البنا – رحمه الله تعالى – في بلوغ الأماني: (18/92) وأقره، هذا وقد أخرج الدارمي رواية المسند المتقدمة في كتاب فضائل القرآن – باب فضل سورة البقرة وآل عمران عن ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه – موقوفاً، وفيه: أن رجلا ً قرأ عنه عبد الله – رضي الله تعالى عنه – سورة البقرة وآل عمران، فقال: قرأت سورتين فيهما اسم الله الأعظم إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى، وانظر تفصيل الكلام على اسم الله الأعظم في الفتح: (11/224-225) ، وتحفة الذاكرين: (51-53) .(1/448)
وذلك لاقتران الحي القيوم في تلك السور فقط فالآية الأولى آية الكرسي وهي في سورة البقرة: (225) ، والثانية قول الله – جل جلاله – في فاتحة سورة آل عمران: آلم " اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ"، والثالثة في سورة طه: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} طه111، قال الإمام ابن القيم – عليه رحمة الله تعالى – في قصيدته الكافي الشافية:
وله الحياة ُ كما لُها فلأجل ِ ذا ... ما لِلمَمات عليه من سُلطان
وكذلك القيومُ من أوصافِه ... ما لِلمَنام عليه من غَشَيَان
وكذاك أوصاف الكمال جميعها ... ثَبتتْ له ومدارُها الوصْفان
فمصحح الأوصاف والأفعال والأسماء ... حقاً ذانك الوَصْفان
ج
ولأجل ذا جاء الحديث بأنه ... في آية الكرسي وذي عمران
اسمُ الإله الأعظم اشْتَملا ... على اسم الحي القيوم مقترنان
فالكل مرجعها إلى الاسمين يَدْ ... ري ذام ذو بَصَر ٍ بهذا الشان (1)
__________
(1) انظر العقيدة النونية المسماة بالكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية: (33) .(1/449)
.. ولهذا الاسمين المباركين، خواص عجيبة مجربة محققة، وأدلتها محكمة موثقة، فالإكثار من ذكرهما، والالتجاء إلى الله الكريم بهما، يكسب القلوب، صلة وثيقة بعلام الغيوب، فتزول عن العبد الهموم والكروب، ثبت في سنن الترمذي عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان إذا أهمه الأمر رفع رأسه إلى السماء، فقال: "سبحان الله العظيم" وإذا اجتهد في الدعاء، قال: "يا حي يا قيوم"، وفي سنن الترمذي أيضاً عن أنس بن مالك – رضي الله تعالى عنه – قال: كان النبي – صلى الله عليه وسلم– إذا كربه أمر، قال: "يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث (1)
__________
(1) انظر الرواية الأولي في سسن الترمذي – كتاب الدعوات – باب ما يقول عند الكرب –: (9/133) قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، هذا ما ورد في الطبعة الحمصية، وكذلك في الطبعة المصرية: (5/496) ، وفي طبعة عارضة الأحوذي: (13/50) الاقتصار على الحكم عليه بالغرابة، وكذلك في تحفة الأحوذي: (4/242) وذلك ذكر الشيخ الأرناؤوط في تعليقه على جامع الأصول: (4/293) لكنه قال: وللحديث شواهد بمعناه يقوى بها، وانظر الفتوحات الربانية: (4/6) وانظر الحديث الثاني في سنن الترمذي – كتاب الدعوات – باب "99": (9/185) قال الترمذي: وهذا حديث غريب 10هـ وما قبله يشهد له ن وفي الفتوحات الربانية: (4/5) نقلا ً عن الحافظ في تخريج أحاديث الأذكار، قال: وقد وقع لنا حديث أنس – رضي الله تعالى عنه – من وجه آخر أقوى من هذا ن لكنه مختصر ثم أخرجه من طريقين عن معتمر بن سليمان التيمي عن أبيه عن أنس – رضي الله تعالى عنه – قال: كان من دعاء النبي – صلى الله عليه وسلم –: "يا حي يا قيوم"، حديث صحيح أخرجه ابن خزيمة، وله شاهد حسن من حديث علي – رضي الله تعالى عنه – 1هـ وانظر تحفة الذاكرين: (195-196) ، وحديث أنس – رضي الله تعالى عنه – عند ابن خزيمة رواه البيهقي في الأسماء والصفات: (114) والحديث رواه البيهقي في الأسماء والصفات: (113) عن ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه – قال: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذا نزل به كرب، قال: "يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث"، ورواه الحاكم في المستدرك – كتاب الدعاء –: (1/509) ولفظه: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذا نزل به هم أو غم قال: "يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث" قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وتعقبه الذهبي بوجود انقطاع فيه ومن ليس بحجة أيضاً.(1/450)
". وثبت في المستدرك وغيره بإسناد صحيح أن النبي – صلى الله عليه وسلم – علم ابنته فاطمة – رضي الله تعالى عنها – أن تدعو ربها صباحاً ومساء بذينك الاسمين المباركين قال أنس بن مالك – رضي الله تعالى عنه – قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لفاطمة – رضي الله تعالى عنها –: "ما يمنعك أن تسمعي ما أوصيك به؟ تقولين إذا أصبحت، وإذا أمسيت: يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث فأصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين (1) ".
... وقد عول الصالحون على مداواة قلوبهم بالاستغاثة بالحي القيوم، قال الإمام بن القيم – رحمه الله تعالي –: ومن تجريبات السالكين، التي جربوها فألفوها صحيحة: أن من أدمن: يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت، أورثه ذلك حياة القلب والعقل، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية – قدس الله روحه – شديد اللهج بها جداً وقال لي يوماً: لهذين الاسمين، وهما "الحي القيوم" تأثير عظيم في حياة القلب، وكان يشير إلى أنهما الاسم الأعظم، وسمعته يقول: ومن واظب أربعين مرة كل يوم بين سنة الفجر، وصلاة الفجر، على: يا حي يا قيوم، لا إله إلا أنت برحمتك أستغيث، حصلت له حياة القلب، ولم يمت قلبه (2) .
__________
(1) انظر المستدرك – كتاب الدعاء –: (1/545) ، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وأقره الذهبي، وانظره في عمل اليوم والليلة لابن السني: (28) ونقله عنه النووي في الأذكار، وحكم عليه الشيخ الأرناؤوط في تعليقه على الأذكار بالحسن، وانظره في الأسماء والصفات: (112) .
(2) انظر مدارج السالكين: (1/448، 3/264) ، وفي لوامع البينات: روي عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – أنه كان يقول أسماء الله الحسي القيوم 10هـ.(1/451)
أثر ذينك الاسمين من أسماء رب العالمين في حياة المؤمنين الصادقين، إن علم العباد بأن ربهم – جل وعلا – حي لا يموت، قائم بنفسه، وقيام كل شيء به، يلزم منه تعليق قلوبهم بربهم، وإعراضهم عما سواه، وسكونهم إليه، ونفرتهم مما عداه، فبالحي القيوم يتعززون، وبغيره لا يبالون، وباطلاع القائم على أمورهم يكتفون، وبنظر غيره لا يأبهون، فمن عدا الحي القيوم، عاجز مثلهم، فالتعلق به كتعلق الفريق بالفريق، قال الله – جل وعلا –: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} الأعراف194، وقال – جل جلاله –: {قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} الرعد16.(1/452)
.. روى الحاكم في المستدرك، والطبراني في المعجم الأوسط عن سهل بن سعد – رضي الله تعالى عنهما – قال: جاء جبريل إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: يا محمد: عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، واعلم أن شرف المؤمن قيام الليل، وعزة استغناؤه عن الناس (1) .
... أي والله، إن عز المؤمن استغناؤه بربه، ففي القلب خلة وفاقة لا يسدها شيء ألبته، إلا الأنس بذكر الحي القيوم، والتوكل عليه في جميع الشئون، فهذا الذي يسد الخلة، ويغني الفاقة فيكون صاحبه غنياً بلا مال، عزيزاً بلا عشيرة، مهيباً بلا سلطان، وإذا انحرف الإنسان عن ذكر الحي القيوم، والتوكل عليه، فحاله بضد ذلك، فهو الفقير مع كثرة ماله، وهو الذليل مع قوة سلطانه، وهو الحقير مع كثرة عشيرته وأعوانه، ورحمة الله على رابعة العدوية عندما قررت هذا بقولها:
__________
(1) انظر المستدرك – كتاب الرقاق –: (4/325) ، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، وأقره الذهبي، وانظر رواية الطبراني في المجمع: (2/252-253) ، وقال الهيثمي فيه زافر بن سليمان، وثقه أحمد وابن معين وأبو داود، وتكلم فيه ابن عدي، وابن حبان بما لا يضر، وذكره الهيثمي أيضاً في: (10/219) ، وقال: إسناده حسن 1هـ وبذلك حكم عليه المنذري في الترغيب والترهيب: (1/431) ، وقد عزاه الإمام العراقي في تخريج أحاديث الإحياء: (3/237) إلى أبي الشيخ في كتاب الثواب، وأبي نعيم في حلقة الأولياء.(1/453)
أحببتُ حبيباً لا أعاب بحبه ... وأحببتم من في هواه عُيوب (1)
__________
(1) انظر صيد الخاطر: (106) ، وتقرير الكلام السابق في الوابل الصيب: (85) ، وانظر قصة طريفة جرت مع الفضيل بن عياض وابنته – عليهما جميعاً رحمة الله تعالى – عندما خشيت من كون والدها يحبها مع الله، فقالت له: أفرد اله بالمحبة، واجعل لي منك الرحمة، أي يكون حبك لي حب رحم جعلها الله في قلب الوالد لولده لا محبة مع الله – جل وعلا –. كما في روضة المحبين: (293) .(1/454)
.. قال الإمام ابن القيم – عليه رحمة الله تعالى –: إن حاجة العبد إلى أن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً في محبته، ولا في خوفه، ولا في رجائه، ولا في التوكل عليه، ولا في العمل له، ولا في الحلف به، ولا في النذر له، ولا في الخضوع له، ولا في التذلل والتعظيم، والسجود، والتقرب، أعظم من حاجة الجسد إلى روحه، والعين إلى نورها، بل ليس لهذه الحاجة نظير تقاس به، فإن حقيقة العبد روحه، ولا صلاح لها إلا بإلهها الذي لا إله إلا هو، فلا تطمئن في الدنيا إلا بذكره، وهي كادحة إليه كدحاً، فملاقيته، ولا بد لها من لقائه، ولا صلاح لها إلا بمحبتها، وعبوديتها له، ورضاه وإكرامه لها، ولو حصل للعبد من اللذات والسرور بغير الله ما حصل لك يدم له ذلك، بل يتنقل من نوع إلى نوع، ومن شخص إلى شخص، ويتنعم بهذا في وقت ثم يعذب ولابد في وقت آخر، وكثيراً ما يكون الذي يتنعم به ويتلذذ له غير منعم له، ولا ملذ له، بل قد يؤذيه اتصاله به، ووجوده عنده، ويضره ذلك، وإنما يحصل له بملابسته من جنس ما يحصل للجرب من لذة الأظافر التي تحكه، فهي تدمي جلده، وتخرقه، وتزيد في ضرره، وهو يؤثر ذلك لما له في حكها من اللذة، وهكذا ما يتعذب به القلب من محبة غير الله – جل وعلا – هو عذاب عليه ومضرة وألم في الحقيقة لا تزيد لذته على لذة حك الجرب، والعاقل يوازن بين الأمرين، ويؤثر أرحمهما وأنفعهما، والله الموفق المعين، وله الحجة البالغة، كما له النعمة السابقة (1) .
__________
(1) انظر طريق الهجرتين وباب السعادتين: (69-70) وذكر ما يقرره بمثال رائع في: (19) وانظر مدارج السالكين: (3/363) فما بعدها فذكر كلاماً جزلاً حلواً قرر فيه أن الرجل هو الذي يخاف موت قلبه، لا موت بدنه.... إلخ.(1/455)
وإذا أقبل العبد على الحي القيوم، وأعرض عمن هو فان معدوم، فإن الله – جل وعلا – سيكون له، ويتولى أمروره، فيجعل له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ويرزقه من حيث لا يحتسب. روى الإمام الذهبي – عليه رحمة الله تعالى – في تذكرة الحفاظ: أن الرحلة في طلب العلم جمعت بين المحمدين الأربعة: ابن جرير، وابن خزيمة، وابن هارون الروياني في مصر، فأرملوا، ولم يبق عندهم ما يقوتهم، وجاعوا، فاجتمعوا في بيت واقترعوا على أن من خرجت عليه القرعة يسأل، فخرجت على ابن خزيمة، فقال: أمهلوني حتى أصلي، وقام يصلي فإذا هم بشمعة وخِصِي من قبل أمير مصر، ففتحوا، فقال: أيكم محمد بن نصر؟ فقيل: هذا فأخرج صرة فيها خمسون ديناراً فدفعها إليه، ثم قال: أيكم محمد بن جرير؟ فأعطاه مثلها، ثم كذلك بابن خزيمة، وبالروياني، ثم حدثهم فقال: إن الأمير كان قائلا ً بالأمس، فرأى في النوم أن المحامد جياع قد طووا فأنفذ إليكم هذه الصرر، وأقسم عليكم إذا نفذت فعرفوني (1) .
__________
(1) انظر تذكرة الحافظ: (2/753) ، وفي الإحياء: (4/263-264) قصة تشبه هذه حاصلها أن حذيفة المرعشي صحب إبراهيم بن أدم، وخدمه في طريقه إلى مكة – رحمهما الله تعالى – قال: فبقينا في طريق مكة أياماً لم نجد طعاماً، ثم دخلنا الكوفة، فأوينا إلى مسجد، فنظر إليّ إبراهيم، وقال: يا حذيفة أرى بك جوعاً، فقلت: هو ما رأى الشيخ، فكتب في قرطاس:
أنا حامدٌ أنا شاكِرْ أنا ذاكرٌ ... أنا جائعٌ أنا شائعٌ أنا عاري
هي ستّة ٌ وأنا الضّمينُ لنصفها ... فكن الضمينَ لنِصْفها يا باري
مدحي لغيرك لَهَبُ نار ٍ خضتُها ... فأِرْ عُبيدَك من دُخول النار
الرقعة إلى أول من يلقاك ... فليتني رجل على بغلة فناولته الرقعة
ثم دفع إليّ الرقعة، وقال اخرج، ولا تعلق قلبك، بغير الله – جل وعلا – وادفع فلما وقف عليها بكى، وقال: ما فعل صاحب هذه الرقعة؟ فقلت: هو في المسجد الفلاني، فدفع إلى صرة فيها ستمائة دينار، ثم لقيت رجلا ً آخر، فسألته عنه، فقال: هذا نصراني، فرجعت إلي إبراهيم ثم جاء الرجل، وأكب على رأس إبراهيم يقبله، وأسلم 10هـ وقد جرت عادة كثير من العلماء الكرام مقابلة صفات النقص فيهم بصفات الكمال في ربهم، طلباً لرحمة الله، وامتثالا ً لما ورد في القرآن الكريم، من أمثال قول رب العالمين: "وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء" محمد 47، فالرازي يقول في مفاتيح الغيب: (27/24) : منك الرحمة والفضل والجود والإحسان، ومني: العجز والذلة والخيبة والخسران، والألوسي يقول كما في أعيان القرة الثالث عشر: (50) :
أنا مذنب أنا مجرم أنا خاطي ... هو غافرٌ هو راحم هو عافي
ج
قابلتهن ثلاثة بثلاثة ... وستغْلِبَنْ أوصافُه أوصافي
واعلم أن سؤال المخلوقين من غير ضرورة حرام، ويباح عند الضرورة، ولا يجب وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام – عليه رحمة الرحيم الرحمن – ونقله عنه تلميذه ابن القيم الهمام – أسكنه الله غرف الجنان – فقال: وكان شيخنا يشير إلى أنه لا يجب الطلب والسؤال، وسمعته يقول في السؤال هو ظلم في حق الربوبية، وظلم في حق الخلق، وظلم في حق النفس، أما في حق الربوبية: فلأنه يذل سؤاله وفقره، وذله واستعطاءه لغير الله _ جل وعلا – وذلك نوع من العبودية، فوضع المسألة في غير موضعها، وأنزلها بغير أهلها، فأراق ماء وجهه لغير خالقه، وظلم توحيده وإخلاصه وفقره إلى الله، وتوكله عليه، ورضاه بقسمه، واستغنى بسؤل الناس عن مسألة رب الناس، وذلك كله يهضم من حق التوحيد ويطفئ نوره، ويضعف قوته.
وأما ظلمه للخلق المسئولين: فلما في ذلك من منازعتهم ما في أيديهم بالسؤال، واستخراجه منهم، وأبغض ما إليهم، من يسألهم ما في أيديهم: من لا يسألهم، فإن أموالهم محبوباتهم، ومن سألك محبوبتك فقد تعرض لمقتك وبغضك، ولأنه يعرضك لمشقة البذل، أو لوم المنع، وأما ظلم السائل نفسه: فحيث امتهنها وأنزلها أدنى المنزلتين، ورضى لها بأبخس الحالتين، فأقامها في ذل السؤال ورضى لها بذل الطلب ممن هو مثله، أو لعل السائل خير منه، وأعلى قدراً، وترك سؤال من ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير، فقد أقام السائل نفسه مقام الذل، وأهانها بذلك، ورضي أن يكون شحاذ مثله، فإن من تشحذه فهو أيضاً شحاذ مثلك، والله وحده هو الغني الحميد، فسؤال المخلوق للمخلوق سؤال الفقير للفقير، والرب – تبارك وتعالى – كلما سألته كرمت عليه، ورضي عنك، وأحبك، والمخلوق كلما سألته هنت عليه، وأبغضك، وقلاك ومقتك، كما قيل:
لا تسألن بني آدم حاجة ً ... وسل الذي أبوابُه لا تحجبُ
الله يغضب إن تركت سُؤاله ... وبني آدم حين يُسأل يغضبُ
وقبيح بالعبد المريد، أن يتعرض لسؤال العبيد، وهو يجد عند مولاه المجيد، كل ما يريد نسأل الله أن يصون ماء وجوهنا، وأن يحفظنا مما فيه إذلالنا، إلا إليه ففي ذلك عزنا وسعادتنا إنه سميع مجيب، انظر ذلك مع شيء من التصرف فيه في مجموع الفتاوى: (1/190-191) ، ومدارك السالكين: (../131-132، 2/232-233) .(1/456)
4- "لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ":
... السنة: هي النعاس. وهي: فتور يتقدم النوم، وتسترخي به أعضاء الجسم، وليس بنوم، قال عدي بن الرقاع العاملي في قصيدة بمدح الوليد بن عبد الملك:
وَسْنَانُ أقْصَدَهُ النعاسُ فرَنّقّتْ ... في عينه (سِنة ٌ) وليس بنائم
... ففرق بين السنة والنوم، كما ترى، لأن السنة هي: النعاس، يقال: رجل وسنان، ونعسان بمعنى واحد، فالسنة نعاس يبدأ في الرأس، ويظهر أثره مباشرة على الوجه، وبخاصة في العين، فإذا امتد النعاس إلى القلب، واستولى عليه فهو النوم (1) .
__________
(1) انظر تقرير ذلك وتوضيحه في اللسان: (17/340) "وسن" وروح المعاني: (3/8) وعدي بن الرقاع شاعر إسلامي، انظر ترجمته في الأغاني: (8/172) ، وانظر نسبة البيت إليه في مجاز القرآن: (1/78) ، وتفسير غريب القرآن: (93) ، والقرطين: (1/84) ، وتفسير الطبري: (3/5) ، وغريب القرآن للسيجستاني: (103) ، والكشاف: (1/384) ، وشواهده: (4/517) وزاد المسير: (1/8303) ، والمجامع لأحكام القرآن: (3/272) وإرشاد العقل السليم: (248) والسراج المنير: (1/168) ، والأغاني: (8/181) ، والأمالي للمرتضى: (1/111) ، وسمط اللآلئ: (1/521) ، والكامل: (1/127) ، واللسان أيضاً: (11/419) "رنق".
ومعنى "أقصده": أصابه، ومنه: أقصد السهد، أي: أصاب فقتل، كما في اللسان: (4/357) "قصد"، ومعنى "رنق": خالط كما في اللسان أيضاً: (11/419) "رنق" والمعنى: أصابه النعاس، فخالط عينيه، ولم يصل إلى قلبه، فهو وسنان، وليس بنائم.(1/457)
.. وتفسير السنة بالنعاس هو المنقول عن السلف الأكياس، روى ابن جرير في تفسيره، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – أنه قال في تفسير قول الله – تبارك وتعالى –: "لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ" السنة: النعاس، والنوم: هو النوم، وأخرج عنه أيضاً ابن الأنباري في كتاب الوقف والابتداء والطستي في مسائله أن نافع بن الأزرق، قال له: أخبرني عن قوله – جل وعلا – "لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ"، قال: السنة: الوسنان، الذي هو نائم، وليس بنائم، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت زهير بن أبي سلمي، وهو يقول:
ولا سِنَة ٌ طولَ الدّهر تأخذهُ ... ولا ينامُ وما في أمره فَنَدُ "فساد"
... وهذا التفسير منقول عن الحسن البصري، وقتادة، ويحيى بن رافع، والضحاك، والربيع بن أنس – رحمهم الله جميعاً – (1) .
__________
(1) انظر أثر ابن عباس الأول في جامع البيان: (3/5) ، والأسماء والصفات: (48) ، ورواه عنه آدم بن أبي إياس، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ في العظمة كما في الدر: (327) ، وفيه نسبة الأثر الثاني إليه أيضاً عمن تقدم ذكره، وانظر أثر الحسن، وقتادة، والربيع بن أنس، ويحيى بن رافع في تفسير الطبري: (3/5-6) ، وفيه أيضاً أثر الضحاك، ورواه عنه عبد بن حميد، وأبو الشيخ كما في الدر: (1/327) ، واعلم أن ما نقله القرطبي: (3/272) عن المفضل الضبي من التفرقة بين السنة والنعاس مقيداً السنة بما كان في الرأس، والنعاس بما كان في العين، وحكى ذلك القول المقرئ في المصباح المنير: (2/631) بقيل، فلا يخرج عما تقدم، لأن العين في الرأس، وهي من جملة أعضائه، وبها يستدل على حصول ذلك الأمر.
وما رواه الطبري: (3/5) ، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم، وابن المنذر كما في الدر: (1/327) عن السدي من أن السنة هي ريح النوم الذي يأخذ في الوجه فينعس الإنسان، وروى ذلك البيهقي في الأسماء والصفات: (354) عن ابن عباس، وابن مسعود، وناس من الصحابة – رضي الله تعالى عنهم أجمعين –، وحكى لذلك المقري في المصباح المنير: (2/631) بقيل أيضاً، فلا يخرج أيضاً عما تقدم فاعلم ولذلك قال القرطبي في تفسيره: (3/272) : والسنة: النعاس.(1/458)
وأما النوم، فقد تقدم أن النعاس إذا امتد من الرأس إلى القلب، واستولى عليه حصل النوم وهو معروف، وتقدم عن ترجمان القرآن – عليه الرحمة والرضوان – أن النوم هو النوم، وفي التعريفات النوم: حالة طبيعية تتعطل معها القوى بسبب ترقي البخارات إلى الدماغ، وفي المفردات: النوم فُسِر على أوجه كلها صحيح بنظرات مختلفة، قيل: هو استرخاء أعصاب الدماغ برطوبات البخار الصاعد إليه، وقيل: هو أن يتوفى الله النفس من غير موت، وقيل: النوم موت خفيف، والموت نوم ثقيل (1) .
__________
(1) انظر التعريفات للشريف الجرجاني: (222) ، والتعريفات للراغب الأصفهاني: (510) – كتاب النون –، وانظر روح المعاني: (3/8) وفيه: النوم بديهي التصور يعرض للحيوان من استرخاء أعصاب الدماغ من رطوبات الأبخرة المتصاعدة بحيث تقف الحواس الظاهرة عن الإحساس رأساً.(1/459)
واعلم – علمني الله وإياك – أن هاتين الصفتين سلبيتان منتفيتان عن ربنا الرحمن وتقدم في هذا الكتاب المبارك أن من الخصائص اللازمة الضرورية للصفات المنفية: توكيد الصفات الثبوتية، وتقرير معانيها العلية، فكل نفي لا يراد منه إثبات ما يضاده فلا مدح فيه، وهو مما لم يصف الله – جل وعلا – به نفسه، وعليه فمجيء هاتين الصفتين المنفيتين، يراد منه توكيد ما سبقهما من الصفتين الثابتتين، وهما الحياة والقيومية لذات ربنا العلية، وبيان حقيقتهما بصورة واضحة جلية. فحياة ربنا الجليل كاملة تامة، وهذا ما أفاده تعريف الركنين في قوله – جل وعلا –: "اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (1)
__________
(1) ذكر الإمام الألوسي في روح المعاني: (3/6) سبعة أوجه في إعراب "الحي" واعتبر كونه خبراً ثانياً للفظ الجلالة في الوجه الأول من تلك الأوجه، وخيراً لمبتدأ محذوف تقديره: هو الحي في الوجه الثاني، واقتصر ابن الأنباري في البيان في إعراب غريب القرآن: (1/168) على ثلاثة أوجه فانظرها إن شئت، ووقع الاقتصار في روح البيان: (1/399) على الوجه الأول الوارد في روح المعاني..(1/460)
" ويلزم من ذلك الكمال والتمام: الاستمرار والدوام، فلا يشوب حياة ربنا – جل وعلا – فتور، ولا يعتريها ذهول، لأن ذلك نقصان مبين، تتنزه عنه حياة رب العالمين، وإذا انتفى عن ربنا – جل جلاله – السنة والموت الأصغر – وهو النوم – لأنها نقص، فانتفاء الموت الأكبر عنه من باب أولى، لأنه موت (1) .
__________
(1) والنوم موت بنص القرآن، ويقال له موت أصغر، ووفاة صغرى، كما يقال للموت الذي تحصل بسببه مفارقة الحياة الدنيا موت أكبر، ووفاة كبرى، وقد جمعها الله سورة الأنعام: (60-61) مقدماً الوفاة الصغرى على الكبرى فقال – جل وعلا –: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ} ، كما جمعهما أيضاً في سورة الزمر: (42) مقدماً الوفاة الكبرى على الصغرى، فقال - جل جلاله –: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} .
وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما عن نبينا – صلى الله عليه وسلم – أنه يقول إذا أخذ مضجعه لينام "باسمك اللهم أموت وأحيا"، فإذا استيقظ من منامه قال: "الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور" انظر الحديث من رواية حذيفة بن اليمان وأبي ذر – رضي الله تعالى عنهم – في صحيح البخاري – كتاب الدعوات – باب ما يقول إذا أصبح: (11/130) وفي كتاب التوحيد – باب السؤال بأسماء الله والاستعاذة بها –: (13/378-379) وانظره فيه من رواية حذيفة أيضاً في كتاب الدعوات – باب ما يقول إذا نام: (11/113) ، وباب وضع اليد تحت الخد الأيمن: (11/115) بشرح ابن حجر في الجميع، وانظر رواية أبي ذر في المسند: (5/154) ورواية حذيفة فيه أيضاً: (5/385، 387، 397، 399، 407) ، وسنن أبي داود – كتاب الأدب – باب ما يقول عند النوم: (5/300) ، وسنن الترمذي – كتاب الدعوات – باب ما يدعو به عند النوم: (9/117) ، وسنن ابن ماجه – كتاب الدعوات – باب ما يدعو به إذا انتبه من الليل: (2/1277) مقتصراً على الشطر الأخير منه، وانظر الحديث من رواية البراء بن عازب – في المسند: (4/293، 302) ، وصحيح مسلم – كتاب الذكر والدعاء: (59) .(1/461)
وهذه اللوازم قررتها جملة " تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ" ووضحتها، فقوله – جل وعلا –: " اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ" إثبات كمال الحياة لرب الأرض والسموات، وقوله – جل شأنه –: " تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ" تقرير لذلك الإثبات وإيضاح له بأدلة بينات.
وخلاصة الكلام: إن حياة ربنا الرحمن ثابتة على وجه التمام، فلا نقص فيها، ولا زوال يعتريها وقد دل على ذلك الجملة الثبوتية، وقرره ما ورد من نفي السنة والنوم عن ذات ربنا العلية، وهما من الصفات السلبية.(1/462)
وما قيل في علاقة نفي السنة والنوم عن رب الأرض والسموات مع ما يتصف به من صفة الحياة، يقال – أيضاً – في صفة القيومية فهو القائم بنفسه المقيم لغيره، فلا نقص يعتريه، ولا غفلة تحل فيه، ولا تصيبه الآفات، ولا تناله العاهات، دل على هذا صفة القيومية لرب البريات، وأكد ذلك المعنى نفي السنة والنوم، وهما من الصفات السلبيات، قال الخطيب الشربيني – رحمه الله تعالى –: جملة " تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ" نفيٌ للتشبيه بينه – جل وعلا – وبين خلقه، وتأكيد لكونه حياً قيوماً، فإن من أخذه نعاس أو نوم كان بآفة تخل بالحياة، قاصراً في الحفظ والتدبير، ولذلك ترك العاطف فيه وفي الجمل التي بعده، ومثله في روح المعاني: (3/28) ، وروح البيان: (1/400) وفي تفسير القرطبي: (3/272) قال البيهقي، ورأيت في "عيون التفسير" لإسماعيل الضرير في تفسير "القيوم" قال: يقال: هو الذي لا ينام، وكأنه أخذه من قوله – عز وجل – عقبه في آية الكرسي: " تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ" وفي مدارك التنزيل: (1/169) " تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ" تأكيد للقيوم، لأن من جاز عليه ذلك استحال أن يكون قيوماً، وقال الإمام ابن جرير – عليه الرحمات –: وإنما عنى – تعالى ذكره – بقوله: " تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ" لا تحله الآفات، ولا تناله العاهات، وذلك أن السنة والنوم معنيان يغيران فهم الفهم ويزيلان من أصاباه عن الحال التي كان عليها قبل أن يصيباه، فتأويل الكلام إذا كان الأمر على ما وصفنا: الله لا إله إلا هو الحي القيوم الذي لا يموت، القيوم على كل ما هو دونه بالرزق والكلاءة، والتدبير والتصريف من حال إلى حال، ولا تأخذه سنة ولا نوم، لا يغيره ما يغير غيره، ولا يزيله عما لم يزل عليه تنقل الأحوال، وتصريف الليالي والأيام، بل هو الدائم على حال، والقيوم على جميع الأنام، لو نام كان مغلوباً مقهوراً، لأن النوم غالب النائم قاهره، ولو وسن لكانت السموات(1/463)
والأرض وما فيهما دكاً لأن قيام جميع ذلك بتدبيره وقدرته، والنوم شاغل المدبر عن التدبير، والنعاس يمانع المقدر عن التقدير بوسنه (1) .
قال عبد الرحيم الطحان: يتعلق بنفي السنة والنوم عن رب الأنام، ثلاثة مباحث عظام، فدونكها يا طالب العلم بأدلتها المحكمة الحسان:
أ) ثبت عن نبينا المختار – صلى الله عليه وسلم – نفي النوم عن العزيز الغفار، كما ورد نفي ذلك في كلام الواحد القهار، وقد تقدم ما رواه الإمام مسلم وغيره من الأخيار – عليهم رحمة العزيز الغفار – عن أبي موسى الأشعري – رضي الله تعالى عنه – قال: قام فينا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بخمس كلمات، فقال: إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور – وفي رواية: النار – لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه (2) ".
__________
(1) انظر السراج المنير: (1/168) ، وروح المعاني: (3/8) وتفسير الطبري: (3/6) ونحوه في تفسير ابن كثير: (1/308) .
(2) سبق تخريجه تخريجاً مفصلا ً في صفحة: (.....) من هذا الكتاب المبارك.(1/464)
.. وقد سأل بنو إسرائيل نبي الله موسى – على نبينا وعليه الصلاة والسلام – عن نوم الرحمن – جل جلاله – فأوحى ربنا إليه بما يبين تفاهة السؤال، ويوضح استحالة ذلك عليه بمثال ففي الأسماء والصفات وغيره عن أبي بردة قال: إن موسى – على نبينا وعليه الصلاة والسلام – قال له قومه: أينام ربنا؟ قال: اتقوا الله إن كنتم مؤمنين فأوحى الله – عز وجل – إلى موسى – على نبينا وعليه الصلاة والسلام – أن خذ قارورتين، واملأهما ماء، ففعل، فنعس، فنام فسقطتا من يده فانكسرتا، فأوحى الله – عز وجل – إلى موسى – على نبينا وعليه الصلاة والسلام –: إني أمسك السموات والأرض أن تزولا، ولو نمت لزالتا (1) .
__________
(1) انظر الأسماء والصفات ك (48) وأبو بردة بن أبي موسى الأشعري – رضي الله تعالى عنهما – تابعي ثقة قيل: اسمه عامر، وقيل: الحارث كما في التقريب: (2/349) فالأثر له حكم الإرسال، لأنه لا يدرك بالرأي، وقد أخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ في العظمة، وابن مردويه، والضياء في المختارة الأثر عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – كما في الدر: (1/327) ، وفيه التصريح بأن السؤال وقع من بني إسرائيل لنبي الله موسي – على نبينا وعليه الصلاة والسلام –.
هذا وقد أخرج الأثر الآجري في الشريعة: (305) عن عبد الله بن سلام – رضي الله تعالى عنه – والطبري في تفسيره: (3/6) عن عكرمة مولى ابن عباس وأخرجه أيضاً عن أبي هريرة عن النبي – صلى الله عليه وسلم –، ورواه البيهقي في الأسماء والصفات: (48-49) عن ابن عباس وأبي هريرة – رضي الله تعالى عنهم – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – وفي بعض تلك الروايات التصريح بأن موسى – على نبينا وعليه الصلاة والسلام – هو الذي سأل الملائكة الكرام – على نبينا وعليهم الصلاة والسلام: "هل ينام ربنا؟ " وفي بعضها: أن ذلك السؤال وقع في نفسه، وذلك لا يليق بمقام النبوة كما لا يخفى، ولذلك قال البيهقي في الأسماء والصفات: (49) متن الإسناد الأول أشبه أن يكون هو المحفوظ، وقال القرطبي في تفسيره: (3/273) : ولا يصح هذا الحديث ضعفه غير واحد منهم البيهقي، وقال الرازي في مفاتيح الغيب: (7/9) : واعلم أن مثل هذا لا يمكن نسبته إلى موسى – على نبينا وعليه الصلاة والسلام – فإن من جوز النوم على الله – عز وجل – أو كان شاكاً في جوازه كان كافراً، فكيف يجوز نسبة هذا إلى موسى – على نبينا وعليه الصلاة والسلام – بل إن صحت الرواية فالواجب نسبة هذا السؤال إلى جهال قومه، ومثله في لباب التأويل: (1/269) ونقل أبو حيان في البحر: (2/278) عن بعض معاصريه الحكم على تلك الرواية بالوضع، وفي الميزان: (1/276) في ترجمة أمية بن شبل قال الذهبي: له حديث منكر، رواه عن الحكم بن أبان عن عكرمة عن أبي هريرة مرفوعاً قال: "وقع في نفس موسى: هل ينام الله؟ ... الحديث" رواه عنه هشام بن يوسف، وخالفه معمر بن الحكم عن عكرمة قوله، وهو أقرب، ولا يسوغ أن يكون هذا وقع في نفس موسى، وإنما روى أن بني إسرائيل موسى عن ذلك.(1/465)
ب) إن قيل: لم قدم نفي السنة، وأخر نفي النوم، وقياس المبالغة يقتضى العكس، لأن السنة إذا انتفت عنه، فانتفاء النوم من باب أولى، فيكون ذكره تكراراً؟ فالجواب من عدة أوجه يجمعها أمران رئيسيان:
الأول:
إن فسر قوله: "لاَ تَأْخُذُهُ" بمعنى القهر والغلبة أي: لا يغلبه ولا يقهره، فالترتيب على مقتضى الظاهر، وبه تحصل المبالغة، والمعنى: لا تغلبه السنة، ولا النوم الذي هو أكثر غلبة منها، وإلى ذلك ذهب الأئمة ابن كثير، والراغب الأصفهاني، والرازي والخازن وحكاه الألوسي (1) – رحمهم الله جميعاً –.
الثاني:
... إن فسر الأخذ في وقوله: "لاَ تَأْخُذُهُ" بمعنى العروض والاعتراء، والمعنى لا يعرض له، ولا يعتريه، فالترتيب في الظاهر فيه إشكال، ولدفعه ذكر العلماء عدة أقوال:
أ) قدم نفي السنة على نفي النوم مراعاة للترتيب الوجودي، فوجود السنة سابق على وجود النوم، فلذلك نفى السنة.
__________
(1) انظر تفسير ابن كثير ك (1/308) ، والمفردات – كتاب الألف – "أخذ": (12) ، ومفاتيح الغيب: (7/8) ، ولباب التأويل: (1/68) ، وروح المعاني: (3/8) وذكره الخطيب الشربيني في السراج المنير: (1/168) أيضاً فقال: لما عبر بالأخذ الذي هو معنى القهر والغلبة وجب تقديم السنة كما لو قيل، فلان لا يغلبه أمير ولا سلطان، وحكى هذا القول أيضاً أبو حبان في البحر: (2/278) وقرره بما ورد في المثل: النوم سلطان، لكن أبا السعود رد هذا القول: في تفسيره: (1/248) فقال: المراد بيان انتفاء اعتراء شيء منهما له – سبحانه وتعالى – لعدم كونهما من شأنه – جل وعلا – لا لأنهما قاصران بالنسبة إلى القوة الإلهية فإنه بمعزل من قيام التنزيه، فلا سبيل إلى حمل النظم الكريم على طريقة المبالغة والترقي بناء على أن القادر على دفع السنة قد لا يقدر على دفع النوم القوي.(1/466)
ب) الكلام وارد على طريق التتميم، وفي ذلك مزيد تأكيد، لأن نفي السنة يقتضي نفي النوم شمناً، فإذا نفى نصاً بعد نفيه ضمناً كان آكد، والكلام أبلغ.
جـ) ورد الكلام على أسلوب الإحاطة والإحصاء، وهو متعين فيه مراعاة الترتيب الوجودي، والابتداء من الأخف فالأخف، كما في قوله – جل جلاله – في سورة الكهف: (49) {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} ، ولهذا توسطت "لا" تنصيصاً على الإحاطة وشمول النفي لكل منهما: "لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ".
د) قيل: إن تقديم نفي السنة، وتأخير نفي النوم مراعاة لفواصل، وهذا جواب العاجز عن التماس نكتة لذلك الترتيب المعجز، ولا يخفى أن ذلك من ضيق العطن على حد تعبير الإمام الألوسي (1) – رحمه الله تعالى –.
ج) حظ العبد من معرفته بعدم سنة ربه ونومه:
... اعلم أن حظك أيها الإنسان، من معرفتك بكون الله لا يغفل ولا ينام، أمران عظيمان فراعهما، لتفوز بدرجة الإحسان:
__________
(1) انظر روح المعاني: (3/8) وفيه سرد لتلك الأجوبة الأربعة، وانظر بعض تلك الأجوبة في السراج المنير: (1/168) وروح البيان: (1/400) ، وإرشاد العقل السليم: (1/248) ، وفتح القدير: (1/1/271) .
وانظر معنى التتميم وتعريفه في الفوائد المشوق: (9) ، وفيه: وهو أن تردف الكلام بكلمة ترفع عنه اللبس، وتقربه إلى الفهم، وتزيل عنه الوهم.(1/467)
الأول: الابتعاد عن الآثام، إجلالا ً لنظر ذي الجلال والإكرام، فنظره إليك متواصل لا يعتريه انفصام فإياك إياك أن تستحي من نظر بني الإنسان، وتهمل نظر من لا يغفل ولا ينام، فتجعل ربك أوهن الناظرين، وهو العلي العظيم، قال رب العالمين: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْداً إِذَا صَلَّى أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (1) }
__________
(1) من سورة العلق 9-13 والآيات إلى آخر السورة نازلة في فرعون هذه الأمة اللعين أبو جهل ففي صحيح مسلم وغيره عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – قال: قال أبو جهل: هل يعفر محمد – صلى الله عليه وسلم – وجهه بين أظهركم؟ قال فقيل: نعم، فقال: واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن علي رقبته، أو لأعفرن وجهه في التراب، قال: فأتى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهي ويصلي، زعم ليطأ على رقبته، قال: فما فجئهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه، ويتقي بيديه، قال: فقيل له: مالك؟ فقال: إن بيني وبينه لخندقاً من نار، وهولا ً وأجنحة، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم: "لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضواً عضواً" قال: فأنزل الله – عز وجل: {كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى} العلق إلى آخر السورة.
انظر صحيح مسلم – كتاب صفات المنافقين وأحكامهم – باب قوله – " إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى": (4/2154) ، والمسند: (2/370) ، وانظر الكلام عليه في الفتح الرباني: (18/329-331) ، وانظره في تفسير ابن جرير: (30/165) ، ومعالم التنزيل: (7/270) ، والدلائل لأبي نعيم: (66) ، والدلائل للبيهقي: (1/438) ، ورواه ابن مردويه، وابن المنذر كما في الدر: (6/370) ، وقد اقتصر السيوطي في لباب النقول: (239) على نسبة تخريجه على ابن المنذر، وهو قصور ظاهر.
والحديث رواه الطبري أيضاً في تفسيره: (30/165) عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – وفيه التصريح بسبب النزول، ورواه عنه دون التصريح بالسببية كل من البخاري – كتاب التفسير – سورة اقرأ – باب " كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ ": (8/724) بشرح ابن حجر، والترمذي – كتاب التفسير – سورة اقرأ –: (9/78) ،وقال: هذا حديث حسن غريب صحيح، وفيه عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه –، ورواه ابن جرير في تفسيره: (30/165) ، وأبو نعيم في الدلائل: (65) ، وأحمد في المسند: (1/248، 368) ، والطبراني في الأوسط كما في مجمع الزوائد – كتاب التفسير سورة اقرأ – قال الهيثمي: وفيه موسى بن سهل الوشاء، وهو ضعيف، وانظر الأثر في سيرة ابن هشام: (1/299) ففيه ذكر الخبر دون التصريح بسبب النزول، ودون نسبته إلى أحد.(1/468)
العلق: 9-13 وفي الإحياء: قال رجل للإمام الجنيد – رحمه الله تعالى –: بم أستعين على غض البصر؟ قال: بعلمك أن نظر الله إليك أسبق من نظرك إلى المنظور إليه، وفيه أيضاً وفي ذم الهوى، وروضة المحبين أن أعرابياً خرج في بعض ليالي الظلمة، فإذا بجارية كأنها علم – جبل – فأرادها عن نفسها، فقالت: ويلك أمالك زاجراً من عقل إذا لم يكن لك ناهٍ من دين؟ فقال الأعرابي: إيهاً، والله ما يرانا إلا الكواكب، فقالت له: فأين مكوكبها؟ (1) .
ولله در القائل:
إذا ما خلوتَ الدّهْرَ يوماً فلا تَقُلْ ... خَلوتُ ولكن قُلْ عليّ رقيبُ
ولا تحسبنَّ اللهَ يغفلُ ساعة ً ... ولا أنَّ ما تُخفيه عنه يغيبُ
ألم ترَ أنَّ اليومَ أسْرعُ ذاهبٍ ... وأنَّ غداً للناظرين قريبُ
ورحمة الله على القائل:
يا كاتِمَ الذنْبِ أما تسْتحي ... واللهُ في الخلْوةِ رَائيكا
غَرَّكَ مِنْ ربك إمهالُهُ ... وَستْرُهُ طُولَ مَسَاويكا
__________
(1) انظر الإحياء: (4/385) ، وذم الهوى: (272) ، وروضة المحبين: (395) ، القصة ذكرها المناوي في فيض القدير: (1/551) .(1/469)
.. قال الإمام ابن الجوزي – رحمه الله تعالى –: وبلغنا أنَّ بعض المتعبدات البصريات وقعت في نفس رجل مهلبي، وكانت جميلة، وكانت تخطب فتأبى، فبلغ المهلبي أنا تريد الحج، فاشترى ثلاثمائة بعير، ونادى من أراد الحج فليكتر من فلان المهلبي، فأكترت منه، فلما كان في بعض الطريق جاءها ليلا ً: إما أن تزوجيني نفسك، وإما غير ذلك، فقالت: ويحك اتق الله، فقال: ما هو إلا ما تسمعين، والله ما أنا بجمَّال، ولا خرجت في هذا إلا من أجلك، فلما خافت على نفسها قالت: ويحك انظر أبقي في الرجال أحد لم ينم؟ قال: لا، قالت: عد فانظر، فمضى وجاء، فقال: ما بقي أحد إلا وقد نام، فقالت: ويحك أنام رب العالمين؟ ثم شهقت شهقة وخرت ميتة، وخر المهلبي مغشياً عليه، ثم قال: ويحى قتلت نفساً، ولم أبلغ شهوتي، فخرج هارباً (1) .
__________
(1) انظر ذم الهوى: (277) ، والقصة ذكرها ابن القيم في روضة المحبين: (467) .
قال عبد الرحيم – غفر الله ذنوبه أجمعين –: ليت تلك المرأة البصرية تزوجت لتكمل دينها، ولتنجو من مطامع الطامعين، فالنكاح حصن حصين، وهو خلق الخيار من المؤمنات والمؤمنين وفي المسند: (2/287، 289) بسند صحيح عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – قال: لعن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مخنثي الرجال، الذين يتشبهون بالنساء، والمترجلات من النساء المتشبهات بالرجال، والمتبتلين من الرجال الذين يقولون: لا نتزوج، والمتبتلات من النساء اللاتي يقلن ذلك، وراكب الفلاة وحده، فاشتد ذلك على أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حتى استبان ذلك في وجوههم، وقال: البائت وحده، قال الهيثمي في المجمع: (4/251) : رواه أحمد وفيه الطيب بن محمد وثقه ابن حبان وضعفه العقيلي، وبقية رجال الصحيح 1هـ. قال المنذري في الترغيب والترهيب: (3/105) رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح إلا طيب بن محمد وفيه مثال: والحديث حسن، وقال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على المسند: (14/243) "7842"، (15/10) "8778" إسناده صحيح، وانظر الحديث في التاريخ الكبير: (4/362) وتعليق الشيخ أحمد شاكر على كلامه في تعليقه على المسند.
وفي كتاب أخبار النساء: (122) أن رجلا ً رأى جارية من أهل البصرة في الطواف فأعجبته، فدنا منها، فكلمها فلم تلتفت إليه، فلما كان في الليلة الثانية، فقالت له: إليك عني أيها الرجل فإنك في موضع عظيم الحرمة، فلما ألحّ عليها أتت زوجها، فقالت له: تعال معي فأرني المناسك فلما أقبلت مع زوجها كان الرجل ينتظرها في الطريق، فولى منصرفاً، فقالت:
تَعْدُو الذئابُ على مَنْ لا كِلابَ لَهُ ... وتَتَّقي مَرْبِضَ المُسْتأسِدِ الحَامي
فحدث الخليفة المنصور بهذا الحديث فقال: وددت أنه لم تبق فتاة في خدرها إلا سمعت هذا الحديث.(1/470)
نسأل الله أن يجعلنا ممن يخشاه كأنه يراه، وممن يترك الحراك إجلالاً لنظر مولاه، إنه سميع الدعاء.
الأمر الثاني:
... شد العزم في طاعة رب الأنام، وصف الأقدام إذا جن الظلام، لمناجاة من لا يغفل ولا ينام، فالله الكريم، وإن تفضل على العباد بالمنام، فجعل لهم الليل لباساً، والنوم سباتاً، فقد أمرهم – جل وعلا – بالقيام في جنح الظلام، لمناجاة الحي القيوم الذي لا ينام، فكثرة النوم بطالة، والله لا يحب العبد البطال، ولن يصل العبد درجة المقربين الأخيار، إلا إذا جعل قسماً من الليل كالنهار، فشغله في طاعة العزيز الغفار، وسيأتيك – إن شاء ذو الجلال والإكرام – عند شرح حديث نزول ربنا الرحمن، بيان ما لقيام الليل من فوائد عظام، ينبغي أن يحرص عليها الأكياس من الأنام، وإليك بعض حوادث وقعت لسلفنا الكرام قوت عزائمهم في طاعة الرحمن، لتأثرهم بكون ربنا لا يغفل ولا ينام، ففي كتاب غذاء الألباب نقلا ً عن كتاب المورد العذب للإمام ابن الجوزي – روح الله روحه – أن عبد الواحد بن زيد قال: عصفت بنا الريح في جزيرة في البحر، فإذا برجل يعبد صنماً، فقلنا له: أيها الرجل من تعبد؟ فأومأ بيده إلى الصنم، فقلنا له: إن معنا في المركب من يعمل هذا، فقال: فأنتم من تعبدون؟ قلنا: نعبد الله الحي القيوم، قال: ومن هو؟ قلنا: الذي في السماء عرشه وفي الأرض سلطانه، وفي الأحياء والأموات قضاؤه، قال: كيف علمتم هذا؟ قلنا: وجه إلينا رسولا ً أعلمنا به، قال: فما فعل الرسول؟ - صلى الله عليه وسلم – قلنا قبضه الله – عز وجل – إليه، قال: فهل ترك عندكم علامة، قلنا: نعم، ترك عندنا كتاب الملك – جل وعلا –.(1/471)
قال: أرونيه، فأتياه بالمصحف، فقال: ما أعرف هذا، فقرأنا عليه سورة، وهو يبكي، ثم قال: ينبغي لصاحب هذا الكلام أن لا يعصى، فأسلم، وعلمناه شرائع الإسلام، وسوراً من القرآن، فلما جن الليل صلينا، وأخذنا مضاجعنا، فقال: يا قوم الإله الذي دللتموني عليه أينام إذا جن الليل؟ قلنا ك لا يا عبد الله، هو حي قيوم، لا ينام، فقال: بئس العبيد أنتم، تنامون ومولاكم لا ينام، فعجبنا من كلامه، فلما قدمنا عبادان جمعنا له دراهم، وأعطيناها له، وقلنا له: أنفقها، فقال: لا إله إلا الله، دللتموني على طريق لم تسلكوه، أنا كنت في جزيرة في البحر أعبد صنماً من دونه فلم يضيعني، فكيف الآن وقد عرفته؟ فلما كان بعد أيام أتاني آت فقال لي: إنه يعالج سكرات الموت فجئته، وقلت: ألك حاجة؟ فقال: قد قضى حوائجي من عرفتني به، فبينما أنا أكلمه إذ غلبتني عيناي فنمت، فرأيت في المنام روضة وفي الروضة قبة، وفيها سرير عليه جارية أجمل من الشمس تقول: سألتك بالله عجل عليّ به، فانتبهت فإذا به قد مات – رحمه الله تعالى – فجهزته لقبره، ثم رأيته في المنام في القبة، والجارية إلى جانبه، وهو يتلو: {سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} الرعد24 (1) .
... وفي تفسير روح البيان أن من الأبيات التي كان ينشدها بلال الحبشي – رضي الله تعالى عنه – وقت السحر:
يا ذا الذي استَغْرقَ في نومه ... ما نَوْمُ عبد رَبّهُ لا يَنَامْ
__________
(1) من سورة الرعد: (24) ، وانظر القصة في غذاء الألباب شرح منظومة الآداب: (2/496) ، وفي روح البيان: (1/1401) اشترى رجل مملوكة فلما دخل الليل، قال: افرشي الفراش، فقالت: يا مولاي ألك مولى؟ قال: نعم، قالت: ينام مولاك؟ قال: لا، فقالت: ألا تستحي أن تنام ومولاك لا ينام؟.(1/472)
أهَلْ تقول إنني مُذنِبٌ ... مُشْتَغِلُ الليل بطيبِ المَنام (1)
... وقد أشار رب العالمين، إلى أن استحضار علمنا بنظره إلى مخلوقاته أجمعين يقوي المكلفين على إقامة مقامات الدين، من التوكل على رب العالمين، والجهر بالحق المبين، فقال في كتابه الكريم: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} الشعراء217-220،ولما كلف الله – جل وعلا – نبييه الكريمين موسى وهارون – على نبينا وعليهما الصلاة والسلام – بالذهاب إلى فرعون اللعين، فقالا: "إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى" قال لهما ربنا – جل جلاله –: {قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} طه46.
... وقد صرح نبينا الكريم – صلى الله عليه وسلم – بأن درجة الإحسان لا تخرج عن حالتين:
أ) أن يعبد الإنسان ربه كأنه يراه.
ب) إن لم يصل لتك الرتبة فلا أقل من استشعار المكلف برؤية الله الجليل له، في كل عمل بعمله.
__________
(1) انظر تفسير روح البيان: (1/401) ، وفيه أيضاً: كان رجل له تلميذان اختلفا بينهما، فقال: أحدهما: النوم خير، لأن الإنسان لا يعصى في تلك الحالة، وقال الآخر: اليقظة خير، لأنه يعرف الله – جل وعلا – في تلك الحالة، فتحاكما إلى ذلك الشيخ، فقال: أما أنت الذي قلت بتفضيل اليقظة فالحياة خير لك.(1/473)
.. ففي حديث جبريل الطويل سال جبريل نبينا – عليهما الصلاة السلام – عن الإحسان، فقال له نبينا – صلى الله عليه سلم –: "الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك (1)
__________
(1) وهو حديث طويل جليل قال ابن حجر في الفتح: (1/152) قال القرطبي: هذا الحديث يصلح أن يقال له: أم السنة، لما تضمنه من جمل علم السنة، وقال الطيبي: لهذه النكتة استفتح به البغوي كتابه "المصابيح" و "شرح السنة" اقتداء بالقرآن الكريم في افتتاحه بالفاتحة لأنها تضمنت علوم القرآن إجمالاً وقال القاضي عياض: اشتمل هذا الحديث على جميع وظائف العبادات الظاهرة والباطنة من عقود الإيمان ابتداء وحالا ً ومآلاً، ومن أعمال الجوارح، ومن إخلاص السرائر، والتحفظ من الآفات، حتى إن علوم الشريعة كلها راجعة إليه، ومتشعبة منه.
والحديث رواه مسلم في أول كتاب الإيمان: (1/150-160) بشرح النووي، وأبو داود في السنة – باب في القدر –: (5/69-73) ، والترمذي في كتاب الإيمان – باب ما جاء في وصف جبريل للنبي – عليهما الصلاة والسلام – الإسلام والإيمان: (7/271-275) ، والآجري في الشريعة – باب الإيمان بأنه لا يصح لعبد إيمان حتى يؤمن بالقدر خيره وشره: (188-189، 305) وابن منده في الإيمان: (1/117-150) ، وابن أبي عاصم في السنة: (1/55-58) كلهم من رواية عمر بن الخطاب – رضي الله تعالى عنه –.
ورواه عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – البخاري في كتاب الإيمان – باب سؤال جبريل للنبي – عليهما الصلاة والسلام – عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة: (1/114) ، وفي كتاب التفسير – سورة لقمان –: (8/513) بشرح ابن حجر فيهما، وأحمد في المسند: (4/426) .
ورواه عنهما – عمر، وأبي هريرة – رضي الله تعالى عنهما – النسائي في كتاب الإيمان – باب نعت الإسلام – وباب صفة الإيمان والإسلام –: (8/88-91) ، ابن ماجه في المقدمة – باب في الإيمان: (1/24-25) .
ورواه عن ابن عمر – رضي الله تعالى عنهما – الطبراني في الكبير بسند رجاله موثقون كما في مجمع الزوائد: (1/40-41) ، وانظره من رواية جرير بن عبد الله في كتاب الشريعة: (189) ، ومن رواية ابن عباس في المسند والبزار، ومن رواية ابن عامر أو أبي عامر أو أبي مالك في المسند أيضاً، ومن رواية أنس عند البزار – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – كما في مجمع الزوائد: (1/38-40) .(1/474)
".
... وقد أمر نبينا – صلى الله عليه وسلم – بعباده الله – جل جلاله – على واحدة من تينك الحالتين ففي الحلية عن زيد بن أرقم – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، واحسب نفسك مع الموتى، واتق دعوة المظلوم فإنها مستجابة (1) ".
نسأل الله الكريم أن يجعل حالنا معه كأننا نراه، وأن يمن علينا بالإيمان الكامل التام بأنه يرانا في كل زمان ومكان، كما نسأله – جل وعلا – أن لا يرانا حيث نهانا، وأن لا يفقدنا حيث أمرنا فهو مولانا وحسبنا، وعليه في كل الأمور اعتمادنا.
5-" َلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وما في َالْأَرْضِ":
... تقديم الخبر (2) يفيد الحصر والاختصاص، والمعنى: لله ما في السموات والأرض، وليس لغيره شيء من ذلك استقلالا ً ولا مشاركة؛
وفي هذه الجملة الشريفة، مباحث جليلة نفيسة:
__________
(1) انظر الحديث في الحلية: (8/202) وسند الحديث حسن كما في الجامع الصغير وشرحه فيض القدير: (1/551) .
(2) في البحر: (2/278) يصح أن يكون خبراً بعد خبر، ويصح أن يكون استئناف خبر، وانظر الفوائد المشوق: (83) ، وفيه: تقديم الجار والمجرور كقوله: "لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ" يفيد اختصاص ذلك بالله – جل وعلا –.(1/475)
أولها: أخبر ربنا – جل جلاله – في هذه الآية المباركة بأنه مالك المظروف "َلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وما في َالْأَرْضِ"واعلم في آيات أخرى بأنه مالك الظرف أيضاً، فقال – جل وعلا –: في سورة الشورى "لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ"، والأمران ثابتان لربنا الرحمن فله ملك الظرف والمظروف، كما قال – تبارك وتعالى – في سورة المائدة: {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} المائدة17-18.
ثانيها: لم يخص ربنا – جل وعلا – في آية الكرسي ملكه بالمظروف دون الظرف؟ والجواب ما قاله أو حبان – عليه رحمة ربنا الرحمن –: لأن المقصود نفي الإلهية عن غير الله – تبارك وتعالى – وأنه لا ينبغي أن يعبد غيره، لأن من عبد من دون الله من الأجرام النيرة التي في السموات كالشمس والقمر، والأشخاص الأرضية كالأصنام وبعض بني آدم، كل منهم ملك لله – تبارك وتعالى – مربوب مخلوق، وكرر "ما" للتوكيد وتقدم أنه – تبارك وتعالى – خالق السموات والأرض، فلم يذكر هنا كونه مالكهما استغناء بما تقدم (1) .
__________
(1) انظر البحر المحيط: (2/278) وتقدمت عدة آيات قبل آيات الكرسي فيها التصريح بخلق الله – جل وعلا – للسموات والأرض، انظر الآيات: (22، 29، 117، 164) .(1/476)
ثالثها: لم عبر بما التي لغير العاقل دون من التي هي للعاقل؟ وأقوى ما قيل في جواب ذلك وأوجهه أمران:
أ) لما كان المراد إضافة ما سواه إليه بالمخلوقية، وكان الغالب عليه ما لا يعقل، أجرى الغالب مجرى الكل، فعبر عنه بلفظ "ما".
ب) الأشياء التي في السموات والأرض أسندت إليه – جل وعلا – من حيث إنها مخلوقة وهي من حيث إنها مخلوقة غير عاقلة، فعبر عنها بلفظ "ما" للتنبيه على أن المراد من هذه الإضافة إليه الإضافة من هذه الجهة (1) .
__________
(1) ذكر الجوابين الإمام الرازي في مفاتيح الغيب: (7/9) ، وذكر الإمام الألوسي أجوبة أخرى في تفسير سورة النحل: (49) {وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} فانظرها إن شئت في روح المعاني: (14/158) .(1/477)
رابعها: دلت الآية الكريمة على أن أفعال العباد مخلوقة لله – جل وعز – ووجه ذلك، أن قوله – عز وجل –: " َلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وما في َالْأَرْضِ" شامل لكل ما فيهما، ومتناول له، وأفعال العباد من جملة ذلك، فوجب أن تكون منسوبة إلى الله – تبارك وتعالى – انتساب الملك والخلق، وهذا ما قاله نبي الله إبراهيم – على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأتم التسليم – فيما حكاه عنه رب العالمين، في سورة الصافات: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} الصافات95-96، قال الإمام ابن كثير – عليه رحمة ربنا الجليل –: يحتمل أن تكون "ما" مصدرية، فيكون تقدير الكلام: خلقكم وعملكم، ويحتمل أن تكون بمعنى "الذي" والتقدير والله خلقكم والذي تعملونه، وكلا القولين متلازم، والأول أظهر، لما رواه البخاري في كتاب أفعال العباد عن علي بن المديني عن مروان ابن معاوية عن أبي مالك عن ربعى ابن خراش عن حذيفة – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – قال: قال النبي – صلى الله عليه وسلم –: "إن الله – تعالى – يضع كل صانع وصنعته" 1هـ قال الإمام البخاري – رحمه الله تعالى –: وتلا بعضهم عند ذلك: " وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ" فأخبر أن الصناعات وأهلها مخلوقة (1) .
__________
(1) انظر تقرير دلالة آية الكرسي على كون أفعال العباد مخلوقة لله في مفاتيح الغيب: (7/9) ، وانظر تفسير ابن كثير: (4/13) ، وبدائع الفوائد: (1/146-153) ، وفتح الباري: (13/528-535) وخلق أفعال العباد: (137) ضمن عقائد السلف، والحديث رواه ابن أبي عاصم في السنة: (1/158) والبيهقي في الأسماء والصفات: (388) ، والحاكم في المستدرك – كتاب الإيمان –: (1/31-32) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وأقره الذهبي، ولفظ الحديث عند الحاكم وابن أبي عاصم: "إن اله خالق كل صانع وصنعته"، والحديث رواه الخطيب في تاريخ بغداد: (2/31) والبيهقي في شعب الإيمان كما في فيض القدير: (2/239) ، رواه أيضاً البيهقي في كتاب الاعتقاد: (75) – باب القول في خلق الأفعال – باللفظ الأول، ورواه البزار ورجاله رجال الصحيح غير أحمد بن عبد الله أبو الحسين بن الكردي وهو ثقة كما في مجمع الزوائد: (7/197) – كتاب القدر – باب خلق الله كل صانع وصنعته – وهذه الترجمة هي لفظ حديث البزار وقد نص الحافظ في الفتح: (13/498) على صحة الحديث.(1/478)
خامسها: تقدم أن المقصود من الجملة السابقة المصرحة بنفي السنة والنوم عن ربنا – جل وعلا – وهو توكيد حياة ربنا وقيوميته، وكذلك الحال في هذه الجملة الكريمة، فالمقصود منها تقرير حياة ربنا أيضاً، وقد تقدم أن من لوازم الحياة الفعل الاختياري، وما في هذه الجملة المباركة يقرر ذلك فما في السموات والأرض خلق للرب – جل جلاله – وملك له يتصرف فيه كما يشاء وفي ذلك تقرير أيضاً لقيومية ربنا الجليل – جل وعلا – على عباده في إيجادهم وتدبير أمورهم (1) .
سادسها: تفصيل معنى تلك الجملة الكريمة: تدل تلك الجملة المباركة على انفراد ربنا – جل جلاله – بالخلق والملك والتدبير فلا خالق إلا هو، ولا مالك إلا هو، ولا مدبر إلا هو، وقد قررت هذه المفاهيم آي الذكر الحكيم، وأحاديث نبينا الأمين – صلى الله عليه وسلم –.
انفراد الله – جل وعلا – بالخلق:
__________
(1) انظر ما قرره العلماء في هذا الشأن في إرشاد العقل السليم: (1/248) ، وروح المعاني: (3/8) والسراج المنير: (1/168) .(1/479)
.. قال الله – جل وعز –: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} الزمر62 وقال – عز وجل – في سورة الواقعة: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} الواقعة58-59، وفي سورة البقرة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} البقرة21-22، والمعنى: وأنتم تعلمون أنه خلق السماء، وأنزل الماء، وفعل ما شرحه في هذه الآيات، وأنه لا يقدر على فعل ما ذكره أحد سواه (1) .
__________
(1) كما في زاد المسير: (1/49) نقلا ً عن شيخه عليّ بن عبيد الله – رحمهم الله جميعاً –.(1/480)
.. وقد بين ربنا – جل جلاله – تفاهة المشركين وحقارتهم، حيث عبدوا من لا يخلق شيئاً، بل هم يخلقون، ففي سورة الفرقان، يقول ربنا الرحمن: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلَا نَفْعاً وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُوراً} الفرقان 1-3، وفي سورة الحج يقول – جل شأنه –: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} الحج73-74، ويقول – تبارك وتعالى – في سورة الأحقاف: {مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} الأحقاف3-4، ونحوها في سورة فاطر: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّنْهُ بَلْ إِن يَعِدُ(1/481)
الظَّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} فاطر40.
... وقال – عز وجل – في سورة الأعراف: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} الأعراف191-184.(1/482)
وإذا كان ربنا – جل وعلا – منفرداً بالخلق، ومن عداه لا يخلق شيئاً، بل هو مخلوق، فشتان شتان، بين ربنا الرحمن، وبين ما يعبد من دونه من طواغيت وأوثان، والله يقول في سورة النحل وهي سورة النعيم (1) حيث عدد الله فيها نعمه على عباده، وبين أن ما عداه لا يملك شيئاً منها: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ خَلَقَ الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ
__________
(1) ورد ذلك عن قتادة – رحمه الله تعالى – في تفسير ابن أبي حاتم كما في الإتقان: (1/193) .(1/483)
وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونََ أمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} 3-21.
واعلم – أرشدني الله وإياك – أن أدلة البعث الثلاثة، التي كررها القرآن بأساليب متنوعة مرتبطة بانفراد ربنا – جل وعلا – بالخلق، ودائرة حوله، وقد ذكر الله، جل جلاله – تلك البراهين الثلاثة في أول سورة النحل، وعقب عليها بعجز من دونه عن شيء منها.
البرهان الأول: "خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ"(1/484)
.. ووده الاستدلال بذلك على إمكان البعث وسهولته أن السموات والأرض من أعظم المخلوقات، ومن قدر على خلق الأعظم فهو على خلق غيره قادر من باب أولى وأحرى، قال الله – جل وعلا – في سورة غافر: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} غافر57، أي: أكبر من خلقهم مرة ثانية، وإعادتهم بعد موتهم، كما قال – جل وعلا – في سورة الأحقاف: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} الأحقاف33، وقال – جل وعز – في سورة الإسراء: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إَلاَّ كُفُوراً} الإسراء99.
البرهان الثاني: "خَلَقَ الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ":(1/485)
.. ووجه الاستدلال بذلك أن من خلق الإنسان أولاً، واخترع إيجاده، قادر على إعادته، قال الله – تبارك وتعالى – في سورة الإسراء: {وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً قُل كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيباً يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً} الإسراء 49-52، وقال – جل شأنه – في سورة مريم: {وَيَقُولُ الْإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً} مريم 66-67 ليستدل بالابتداء على الإعادة، كما قال ربنا ج جل جلاله – في سورة الروم: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} الروم27، فمن قدر على البدء قادر على الإعادة بلا شك كما قال ربنا – جل وعلا – في سورة ق: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} ق15،وقال – عز وجل – في سورة الأعراف: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} الأعراف29، وقال – جل وعلا – في سورة الأنبياء: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} الأنبياء104، فليتأمل الإنسان حاله في بدايته ليعم أن الله قادر على إعادته قال الله – جل وعلا – في سورة الواقعة: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ(1/486)
أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذكَّرُونَ} الواقعة 57-62، وقال – جل وعلا – في سورة الطارق: {خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} الطارق 5-8، وقال – جل جلاله – في سورة عبس: {قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ} عبس 17-22، وقال – جل وعلا – في سورة القيامة: {أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى} القيامة 36-40، بلى إنه على كل شيء قدير (1) .
__________
(1) ورد الأمر بقول ذلك في عدة روايات لا تسلم رواية من الكلام، ومجموعها يفيد الأخذ بذلك الأدب الهام نحو كلام ربنا الرحمن – جل وعلا – وإليك بيان تلك الروايات، مع بيان حالها حسب الأصول المقررات:
روى الحاكم في المستدرك – كتاب التفسير – سورة القيامة: (2/510) عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان إذا قرأ: " أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى" قال "بلى" وإذا قرأ: " أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ " قال "بلى" قال الحاكم، هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأقره الذهبي، وحكى السيوطي في الدر المنثور: (6/299) والألوسي في روح المعاني: (29/15) تصحيح الحاكم للحديث ولم يتعقباه، وهذا عجيب منهم وغفلة – غفر الله لهم – لأن في سند الحديث يزيد بن عياض، قال عنه الإمام البخاري في الضعفاء الصغير: (122) منكر الحديث وقال عنه الإمام النسائي في الضعفاء والمتروكين: (111) متروك الحديث، وقال ابن حبان في المجروحين: (3/108) كان ممن ينفرد بالمناكير عن المشاهير والمقلوبات عن الثقات، فلما كثر ذلك في روايته صار ساقط الاحتجاج به، وفي الجرح والتعديل: (9/283) قال أحمد بن صالح: أظن يزيد بن عياض كان يضع، وقد اقتصر ابن حجر في تقريب التهذيب: (2/369) عن قوله فيه: كذبة مالك وغيره، ورمز إلى أنه من رجال الترمذي وابن ماجه وانظر حاله في التاريخ الكبير: (18/351) ، والمعنى في الضعفاء: (2/752) وميزان الاعتدال: (4/436، 438) ، وتنزيه الشريعة – الفصل الذي سرد فيه أسماء الوضاعين والمتهمين: (1/128) .
والحديث فيه علة أخرى وهي جهالة أبي اليسع الراوي عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – قال الذهبي في الميزان: (4/589) ، وتبعه ابن حجر في اللسان: (7/123) لا يدري من هو، والمسند بذلك مضطرب 1هـ وقد اقتصر الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على المسند: (13/122) في تعليل الحديث بذلك فقط.
والحديث رواه الأئمة أحمد في مسنده: (2/229) وأبو داود في سننه – كتاب الصلاة – باب مقدار الركوع والسجود: (1/550-551) ، والترمذي في سننه – كتاب التفسير – سورة التين – (9/78) والبيهقي في السنن الكبرى – كتاب الصلاة – باب الوقوف عند آية الرحمة وآية العذاب وآية التسبيح: (2/310) ، والبغوي في معالم التنزيل: (7/188) كلاهما من طريق أبي داود، عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – بنحو الذي تقدم، وزيادة: ومن قرأ المرسلات، فبلغ " فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ" فليقل: "آمنا بالله"،وفي سند الجميع راو مبهم مجهول لم يسم، ولذلك قال الترمذي: هذا حديث إنما يروي بهذا الإسناد عن هذا الأعرابي عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – ولا يسمى، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: (7/132) بعد أن عزا الحديث للمسند، قلت: القول في آخر التين والزيتون رواه أبو داود وغيره، وفيه رجلان لم أعرفهما 10هـ وفي كلامه – رحمه الله تعالى – نظر من وجهين:
الأول: رواية أبي داود كرواية المسند فيها ذكر آخر المرسلات، نعم ليس ذلك في رواية الترمذي بل ليس فيها إلا ذكر آخر التين والزيتون.
الثاني: قوله: فيه رجلان لم أعرفهما لا يتمشى مع حال الإسناد فرجاله كلهم ثقات غير التابعي فهو مجهول وهذا نص سند المسند: حدثنا سفيان عن إسماعيل بن أمية سمعه من شيخ فقال مرة: سمعه من رجل من أهل البادية أعرابي، سمعت أبا هريرة – رضي الله تعالى عنه – الحديث ولعل الإمام الهيثمي اعتبر ما ورد في المسند: سمعته من رجل مجهولاً آخر، مع أن المراد منه هو المراد من شيخ المبهم، فإسماعيل بن أمية قال: سمعته من شيخ، وقال مرة: سمعته من رجل من أهل البادية، كما دل على ذلك رواية أبي داود والترمذي والبيهقي والبغوي فتأمل، ولذلك قال الشيخ شاكر في تعليقه على المسند: (13/1209 إسناده ضعيف، لجهالة الراوي التابعي الذي لم يسم، وقال الشيخ الأرناؤوط في تعليقه على جامع الأصول: (2/468) ، والأعرابي لا يعرف، وقال الإمام النووي في التبيان: (61) رواه أبو داود والترمذي بإسناد ضعيف عن رجل عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه –.
وقد ورد أيضاً ما يقوي ما تقدم ويتقوى به ففي سنن أبي داود – كتاب الصلاة باب الدعاء في الصلاة: (1/549) ، ومن طريقه رواه البيهقي في السنن الكبرى – المكان المتقدم، وكذلك رواه البغوي في معالم التنزيل: (8/188) عن طريق أبي داود، ورواه ابن أبي حاتم كما في تفسير ابن كثير: (4/452) وعبد بن حميد كما في الدر: (6/296) عن موسى بن أبي عائشة قال: كان رجل يصلي فوق بيته، فكان إذا قرأ: " أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى " قال: سبحانك، فبلى، فسألوه عن ذلك، فقال: سمعته من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال الإمام ابن كثير: تفرد به أبو داود ولم يسم هذا الصحابي ولا يضر ذلك 1هـ وقال الشيخ الأرناؤوط في تعليقه على جامع الأصول: (2/469) : رجاله ثقات، لكن موسى ابن أبي عائشة لم يرو عن أحد من الصحابة، فهو منقطع.
وقد ورد عن السلف آثار كثيرة في ذلك ففي الطبري: (29/125) عن قتادة مرسلا ً قال: ذكر لنا أن نبي الله – صلى الله عليه وسلم – كان إذا قرأها " أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى " قال: "سبحانك، وبلى" وانظر روايات أخرى في الدر: (6/296) وتلك الروايات بمجموعها يجبر ما فيها من خلل، ولذلك استحب العلماء القول بما ورد في مضمونها كما في التبيان في آداب حملة القرآن: (61) .(1/487)
.. وثبت في المسند وسنن ابن ماجه بإسناد صحيح عن بشر بن جحاش القرشي – رضي الله تعالى عنه – قال: بزق النبي – صلى الله عليه وسلم – يوماً في كفه، ثم وضع أصبعه السبابة، وقال: "يقول الله – عز وجل –: أنى تعجزني، ابن آدم وقد خلقتك من مثل هذه، حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين بردين وللأرض منك وئيد، فجمعت ومنعت حتى إذا بلغت التراقي قلت: أتصدق، وأنى أوان الصدقة (1) ".
البرهان الثالث: "هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ":
__________
(1) انظر المسند: (4/210) ،وسنن ابن ماجه – كتاب الوصايا - باب النهي عن الإمساك في الحياة والتبذير عند الموت: (2/903) قال في الزوائد: إسناده صحيح.(1/488)
ووجه الدلالة من ذلك: أن من قدر على إحياء الأرض بعد موتها قادر على إحياء الموتى وبعثها، كما قال ربنا – جل جلاله – في سورة الأعراف: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} الأعراف57، وقال – عز وجل – في سورة مريم: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} الروم19، وقال – جل وعلا – في سورة ق: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ رِزْقاً لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} ق9-11، وقال – جل وعز – في سورة حم فصلت: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فصلت39، وفي المسند عن أبي رزين العقيلي – رضي الله تعالى عنه – قال: أتيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقلت: يا رسول الله، كيف يحيي الله الموتى؟ قال: "أما مررت بأرض من أرضك مجدبة، ثم مررت بها مخصبة؟ قال: نعم، قال: كذلك النشور (1)
__________
(1) انظر المسند: (4/11، 12) والحديث قال عنه الهيثمي في مجمع الزوائد: (1/53) في إسناده سليمان بن موسى وثقه ابن معين وأبو حاتم وضعفه آخرون 1هـ قال عبد الرحيم: وقد تابعه وكيع بن عدس – ويقال: حدس – في المسند أيضاً: (4/11، 12) وفي المستدرك: (4/560) – كتاب الأهوال وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، وقد تقدم في هذا الكتاب المبارك بيان حال وكيع، ورواه عبد الله في زائد المسند: (4/13) بنحوه من طريق دلهم بن الأسود بن عبد الله بن حاجب بن عامر بن المنتفق العقيلي عن أبيه عن عمه أبي رزين العقيلي لقيط بن عامر ابن المنتفق، ممن طريق دلهم عن أبيه الأسود عن عاصم بن لقيط أن لقيطاً بنحوه، قال الهيثمي في المجمع: (10/340) رواه عبد الله والطبراني بنحوه، وأحد طريقي عبد الله إسنادها متصل، ورجالها ثقات والإسناد الطبراني مرسل عن عاصم بن لقيط أن لقيطاً 1هـ وقال ابن حجر في التهذيب: (5/57) ، في ترجمة لقيط: ورواه الطبراني مطولا ً وهو حديث غريب جداً 10هـ رواه الحاكم في المستدرك: (4/560-564) من طريق يعقوب بن عيسى، وقال: هذا حديث جامع في الباب صحيح الإسناد، كلهم مدنيون ولم يخرجاه، وتعقبه الذهبي بقوله: قلت يعقوب بن مجمد بن عيسى الزهري ضعيف، ورواه أبو حفص بن شاهين كما في الإصابة: (3/330) في ترجمة لقيط، فالحديث حسن بتلك الطرق إن شاء الله تعالى.(1/489)
".
والبراهين الثلاثة المتقدمة كما تضمنتها أوائل سورة النحل، جمعها ربنا – جل وعلا – في آيات أخرى ففي سورة البقرة: (21-22) يقول ربنا – جل ثناؤه –: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} البقرة21-22 فقوله: " الَّذِي خَلَقَكُمْ " إشارة للبرهان الثاني، وهو: قياس الإعادة على البدء، وقوله: " جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء " إشارة إلى البرهان الأول، وهو قياس الإعادة على خلق السموات والأرض، وهما أعظم من إعادة الإنسان وأكبر، وقوله: " فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ " إشارة إلى البرهان الثالث، وهو قياس بعث الأموات على إحياء الأرض بالنبات.(1/490)
وجمع الله الكريم، تلك البراهين، في آخر سورة يس فقال – جل جلاله –: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (1) }
__________
(1) انظر الكلام على تلك البراهين في أضواء البيان: (1/45-46، 3/203-204) وشرح الطحاوية: (361-364) وانظر الفوائد: (5-9) ، وفي أضواء البيان: (3/204) وهناك برهان رابع يكثر الاستدلال به على البعث أيضاً، وهو: إحياء الله بعض الموتى في دار الدنيا، لأن من أحيا نفساً واحدة بعد موتها قادر على إحياء جميع النفوس، كما قال الله – جل جلاله – في سورة لقمان: (28) : "مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ" وقد ذكر الله – جل جلاله – هذا البرهان في سورة البقرة في خمس مواضع:
الأول: (54-55) {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} .
الثاني: (72-73) {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} .
الثالث: (243) {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ} .
الرابع: (259) {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هََذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
الخامس: (260) {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} .(1/491)
يس78-83.
اختصاص الله – عز وجل – بالملك (1) :
__________
(1) قال الإمام النووي – رحمه الله تعالى – في تهذيب الأسماء واللغات: (2، 2/142) "حرف الميم": المُلك بضم الميم مصدر الملك بكسر الميم ومنه قولهم: لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك، وأما ملك من مال وغيره فيقال فيه: هو ملك فلان، وملك يمينه، بكسر الميم وفتحها وضمها ثلاث لغات الكسر أفصح وأشهر، وفي المفردات: (472) "كتاب الميم" المُلك ضبط الشيء المتصرف فيه بالحكم، والملك كالجنس للملك، فكل مُلك مِلك، وليس كل مِلك مُلكاً، وفي روح المعاني: (3/113) المُلك بالضم على ما ذكره بعض أئمة التحقيق: نسبة بين من قام به ومن تعلق وإن شئت قلت: صفة قائمة بذاته متعلقة بالغير تعلق التصرف التام المقتضي استغناء المترف وافتقار المتصرف فيه، ولهذا لم يصح على الإطلاق إلا لله – تعالى جده – وهو أخص من المِلك – بالكسر – لأنه تعلق باستيلاء مع ضبط وتمكن من التصرف في الموضوع اللغوي وبزيادة كونه حقاً في الشرع من غير نظر إلى استغناء وافتقار، فمالك المُلك هو المَلِك الحقيقي المتصرف بما شاء كيف شاء إيجاداً وإعداماً، وإحياءاً وإماتة، وتعذيباً وإثابة، من غير مشارك ولا ممانع، ونحوه في التعريفات: (204) – باب الميم – وعبارته: والملك في اصطلاح الفقهاء: اتصال شرعي بين الإنسان وبين شيء يكون مطلقاً لتصرفه فيه، وحاجزاً عن تصرف غيره، فالشيء يكون مملوكاً ولا يكون مرقوقاً، ولكن لا يكون مرقوقاً إلا ويكون مملوكاً.(1/492)
.. إذا كان ربنا الجليل منفرداً بالخلق، فهو خالق كل شيء، وهو على كل شيء قدير، فإن ذلك يستلزم ملكه لمخلوقاته، فهو المالك الحقيقي، ومن عداه لا يملك شيئاً، إنما هو مخول فيما عنده، ومستخلف فيما لديه، وما نفس ابن آدم إلا أمانة، وما ملكه إلا عارية، والأمانة مؤداة والعارية مردودة، وهذا الأمر ظاهر للعيان، وبه صرحت آيات القرآن، قال ربنا الرحمن – جل وعلا – في آخر سورة يس: {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} والملكوت بمعنى الملك زيدت فيه الواو والتاء للمبالغة (1) ، فملك كل شيء بيده، ومفاتيح خزائن السموات والأرض في قبضته، قال – جل وعلا – في سورة الزمر: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} الزمر63، وقد تقدم كتابة بعض الآيات الدالة على ملك رب الأرض والسموات للظرف والمظروفات.
... وتقريراً لتلك الحقيقة الحقة أخبرت آيات القرآن أن ما يملكه الإنسان فهو مخول له من جانب الرحمن – جل وعلا – ففي سورة الزمر: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} الزمر8، وفي سورة الأنعام: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} الأنعام94.
__________
(1) كما في تفسير الجلالين: (355) ، وفي المفردات: (473) وهو مختص بملك الله تعالى.(1/493)
.. ولعل أمر الله – جل وعز – الأغنياء، أخبر أنه يطلب منهم الإنفاق مما رزقهم، وعليه استخلفهم فقال – جل وعلا – في سورة الحديد: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} الحديد7، وقال – جل جلاله – في سورة البقرة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} البقرة254.
... فكل ما بالعباد من نعم، فهو من ربهم واسع الجود والكرم، قال الله – تبارك وتعالى –: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} النحل53، والمخلوقات بأسرها محتاجة إلى ربها في جميع حركاتها وسكناتها، قال الله – جل جلاله–: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} فاطر15، وقد تقدمت أبيات لطيفة رقيقة تبين الصلة بين المخلوقات وفاطرها على وجه الحقيقة، لشيخ الإسلام ابن تميمة – عليه رحمة رب البرية –، فلا تغيبن عن ذهنك يا صاحب الهمة العلية. ومنها:
أنا الفقيرُ إلى ربِ البريّاتِ ... أنا المسكينُ في مجموع حالاتي
ولستُ أملِكُ شيئاً دونه أبدا ... ولا شريك أنا في بعض ذرّاتي
والفقرُ لي وصتفُ ذات ٍ لازم أبدا ... كما الغِنى أبداً وصف له ذاتي
وهذه الحالُ حالُ الخلق أجمعهم ... وكلهم عنده عبدٌ له يأتي
فمن بَغى مَطلَباً من غير خالقه ... فهو الجهولُ الظلومُ المشركُ العاتي(1/494)
.. وقد أخبر ربنا – جل وعز – عن حقيقة ما سواه بهذه الآية الموجزة المعجزة في سورة سبأ فقال – حل جلاله –: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ} سبأ22.
استقلال الله بالتدبير ن فلا ظهير له ولا وزير:
... وهذا الأمر نتيجة لما سبق، لأن المخلوقات لا يتصرف فيها إلا خالقها، ولا يدبر أمرها إلا مالكها، كما قال الله – جل وعلا – في سورة آل عمران: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} آل عمران26 فذكر ربنا – جل وعز – في هذه الآية المباركة معاقد تصرفه في ملكه وتدبيره له، وذلك في خمسة أنواع:
النوع الأول:
إبقاء الملك ونزعه، وإليه الإشارة بقوله – جل وعلا – " تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء "، وهذا كما قال – جل جلاله – في سورة فاطر: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فاطر2، وقال – عز وجل – في سورة الأنعام: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ} الأنعام17.
النوع الثاني:(1/495)
تأييده لمن يشاء، وخذلانه من شاء، وإليه الإشارة بقوله – جل وعلا –: "َتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء"، ونظير هذا قوله – عز وجل – في سورة آل عمران: {إِن يَنصُرْكُمُ اللهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ} آل عمران160.
النوع الثالث:
تقليبه الليل والنهار، وإليه الإشارة بقوله – جل وعلا –: "تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ" وقد جاء هذا المعنى في آيات كثيرة، منها قوله – جل جلاله – في سورة النور: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ} النور44، وأشار ربنا – جل ثناؤه – إلى انفراده بذلك، وما ينتج عنه من عظيم النعمة على عباده، فقال – سبحانه وتعالى – في سورة القصص: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاء أَفَلَا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} القصص71-73.
النوع الرابع:
تفرد بالإحياء والإماتة: وإلى ذلك الإشارة بقوله – تبارك وتعالى –: "يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ"، ونظير هذا قوله – جل وعلا – في سورة يونس: {هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} يونس56.
النوع الخامس:(1/496)
تصريفه الرزق حسبنا يشاء، وإليه الإشارة بقوله – جل وعلا – "وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ"، وهذا كقوله – تبارك وتعالى – في سورة آل عمران: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ إنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (1) } آل عمران37.
__________
(1) انظر تقرير تلك الأمور وتوضيحها في لوامع البينات: (180-182) ، ومفاتيح الغيب: (8/4-10) .(1/497)
.. وصفوة المقال: إن الله فعال لما يريد، ولا يملك ذلك أحد من العبيد، بل مشيئتهم تابعة لمشيئة الرب المجيد، وهذا شاهد للعيان، وقررته آيات الرحمن ففي سورة البقرة يقول ربنا – جل وعلا - {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} البقرة258، وقال – جل جلاله – في سورة آل عمران: {إِنَّ اللهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} آل عمران 5-6، وقد أتى أمر الله خليله وصفوة خلقه نبينا محمداً – صلى الله عليه وسلم – أن يخبر عن حقيقة شأنه في أنه ليس له من الأمر شيء، ولا يملك لنفسه – فضلا ً عن غيره، شراً ولا نفعاً، فقال – جل وعلا – في سورة الأعراف: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاء اللهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} الأعراف188، وقال – جل وعز – في سورة الجن: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلَا رَشَداً} الجن21 فمشيئة من عداه تابعة لمشيئته، وما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن (1) ، كما قال الله – جل وعلا – في سورة الإنسان: {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} الإنسان30.
__________
(1) وهذه الجملة من نفيس اعتقاد أهل السنة الكرام كما قال ابن العربي في أحكام القرآن: (3/1234) .(1/498)
قال الإمام الشافعي – ونعم ما قال فعليه رحمة ربنا الكبير المتعال –:
شِئتَ كلن وإنْ لم أشأ ... وما شِئتُ إنْ لم تشأ لم يكن
خَلَقْتَ العبادَ على ما عًلِمتَ ... في العلم يَجْري الفتى والمُسِنّ
على ذا مَننتَ وهذا خّذلْتَ ... وهذا أعنتَ وذا لم تُعِنْ
فمنهم شقيّ ومنهم سعيدٌ ... ومنهم قبيحٌ ومنهم حسن (1)
* أثر معرفة المكلفين بكون ما في السموات والأرض لله رب العالمين:
... ينبغي أن تترك معرفة ذلك في نفس المكلف أثرين عظيمين، ليحظى بسعادة الدارين هما:
__________
(1) قال الإمام ابن عبد البر في الإفتاء في فضائل الأئمة الثلاثة الفقهاء: (80) ومن شعره – الإمام الشافعي – الذي لا يختلف فيه، وهو أصح شيء عنه، وهو من أثبت شيء في الإيمان بالقدر ثم سرد تلك الأبيات الأربعة، وانظرها في السنن الكبرى: (10/206) ، والاعتقاد: (72) والأسماء والصفات: (172) ، ومناقيب الشافعي: (1/412) كلها للبيهقي - رحمه الله تعالى –، وانظرها في البداية والنهاية: (10/254) ، وطبقات الشافعية الكبرى: (1/295) .(1/499)
أ) ثقة المكلف بالله – جل وعلا – فيرضى بقضائه، ويقنع بقسمه، ولا يتهم الله في فعله، وتصرفه في ملكه، وقد كان لسلفنا الصالح في ذلك أوفر نصيب، فعاشوا حياة طيبة، وما لهم في الآخرة خير وأطيب، وثبت في الصحيحين والمسند عن أنس بن مالك – رضي الله تعالى عنه – قال: مات ابنٌ لأبي طلحة من أم سليم، فقالت لأهلها: لا تحدثوا أبا طلحة بابنه حتى أكون أنا أحدثه، قال: فجاء فقربت إليه عشاء، فأكل وشرب، فقال: ثم تصنعت له أحسن ما كان تصنع قبل ذلك، فوقع بها، فلما رأت أنه قد شبع، وأصاب منها، قالت: يا أبا طلحة أرأيت لو أن قوماً أعاروا عاريتهم أهل بيت، فطلبوا عاريتهم، ألهم أن يمنعوهم؟ قال: لا، قالت: فاحتسب ابنك، قال: فغضب أبو طلحة، وقال: تركتني حتى تلطخت، ثم أخبرتني بابني فانطلق حتى أتى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فأخبره بما كان، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: "بارك اله لكما في غاير ليلتكما" قال: فحملت، قال: فكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في سفر وهي معه، وكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذا أتى المدينة من سفر لا يطرقها طروقاً (1) ،
__________
(1) الطروق: إتيان المنزل ليلا ً كما في جامع الأصول: (1/370) ، وفي المختار: (415) "طرق": وطرق من باب دخل، فهو طارق إذا جاء ليلا ً، وفي الفتح: (9/340) : قال بعض أهل اللغة: أصل الطروق: الدفع والضرب، وبذلك سميت الطريق، لأن المارة تدقها بأرجلها ن وسمي الآتي بالليل طارقاً، لأنه يحتاج غالباً إلى دق الباب، وقيل: أصل الطروق: السكون، ومنه، أطرق رأسه، فلما كان الليل يسكن فيه سمي الآتي فيه طارقاً، وما حكاه الحافظ في الفتح موجود في لسان العرب "طرق": (12/87) دون نسبة إلى أحد، ففيه: وقيل: أصل الطروق من الطرق وهو الدق، وسمي الآتي بالليل طارقاً، لحاجته إلى دق الباب.
وقد ورد نهي نبينا الأمين – صلى الله عليه وسلم – للمكلفين، عن الطروق على أهلهم الغافلين لثلاثة أسباب، فدونها يا طالب الآداب:
السبب الأول:
خشية رؤية ما تكرهه نفسه من زوجه مما هو غير محرم، كأن تكون على حالة لا تصلح فيها لمعاشرة زوجها، لما فيها من شعث ونحو ذلك، ثبت في الصحيحين وغيرهما عن جابر بن عبد الله – رضي الله تعالى عنهما – قال: كنا مع النبي – صلى الله عليه وسلم – في غزاة، فلما أقبلنا – ورواية البخاري، قفلنا، أي: رجعنا إلى المدينة، وأقبلنا نحوها – تعجلت على بعير قطوف، أي: بطيء المشي، فلحقني راكب خلفي، فنخس بعيري بعنزة، أي: عصا صغيرة في أسفلها زج، كانت معه فانطلق بعيري كأجود ما أنت راء من الإبل، فالتفت فإذا برسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: "ما يعجلك يا جابر؟ " فقلت: يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إني حديث عهد بعرس، فقال: "أبكراً تزوجتها أم ثيباً؟ " قال، قلت: بل ثيباً، قال: "هلا جارية تلاعبها وتلاعبك؟ " قال: فلما قدمنا المدينة ذهبنا لندخل، فقال: "أمهلوا حتى ندخل ليلا ً" أي عشاءً كي تمتشط الشعثة، وتستحد المغيبة" قال: وقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "إذا قدمت فالكيس الكيس"، وفي الصحيحين أيضاً عن جابر بن عبد الله – رضي الله تعالى عنهما – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "إذا قدم أحدكم ليلا ً فلا يأتين أهله طروقاً حتى تستحد المغيبة، وتمتشط الشعثة" المغيبة: هي التي غاب عنها زوجها، فإن حضر زوجها فهي مشهد، بلا هاء، كما في اللسان: (2/147-148) "غيب"، والاستحداد: حلق شعر العانة بالحديد، قال ابن منظور في اللسان: (4/117) "حدد" ومنه الحديث: "كي تمتشط الشعثة، وتستحد المغيبة" وفي المنهاج: (10/54، 13/71) ، وفتح الباري: (9/123) ، والمراد: إزالة شعر العانة كيف كان، وعبر بالاستحداد، لأنه الغالب استعماله في إزالة الشعر، وليس في ذلك منع إزالته بغير الموسى، وانظر صفحة: (....) من هذا الكتاب المبارك، والشعثة: من تلبد شعرها، واغبر، وتفرق كما في اللسان: (2/466) "شعث" والمختار: (361) "شعث" قال الحافظ في الفتح: (123) أطلق عليها ذلك، لأن التي يغيب زوجها في فطنة عدم التزين، والكيس: الجماع، والعقل كما في اللسان: (8/85-86) "كيس" والمراد: الحث على الجماع طلباً للولد فذلك مقتضى العقل كما أشار إلى ذلك الإمام النووي في شرح صحيح مسلم: (10/55) قال الحافظ في الفتح: (9/342) : أصل الكيس: العقل كما ذكر الخطابي، ولكنه بمجرده ليس المراد هنا، قال القاضي عياض: فسر البخاري وغيره الكيس: بطلب الولد والنسل، وهو صحيح، قال الكسائي: كاس الرجل: ولد له ولد وكيس، قال الحافظ قلت: جزم ابن حبان في صحيحه بأن الكيس الجماع، وتوجيهه على ما ذكر، ويؤيده قوله في رواية محمد بن إسحاق: "فإذا قدمت فاعمل عملاً كيساً" وفيه: قال جابر: فدخلنا حين أمسينا، فقلت للمرأة: إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أمرني أن أعمل عملا ً كيساً، قالت سمعاً وطاعة، فدونك، قال: فبت معها حتى أصبحت، أخرجه ابن خزيمة في صحيحه 10هـ ملخصاً من الفتح وانظر المسند: (3/362) ففيه تفسير "واعمل عملا ً كيساً" بلا تطرقهن ليلا ً عن أبي بكر بن عياش.
وانظر الحديث الشريف برواياته في صحيح البخاري – كتاب النكاح – باب تزويج الثيبات: (19/121) وباب طلب الولد: (9/341) ، وباب تستحد المغيبة وتمتشط الشعثة: (9/243) بشرح ابن حجر في الجميع، وصحيح مسلم – كتاب الرضاع – باب استحباب نكاح البكر: (10/54) ، وكتاب الإمارة – باب كراهية الطروق وهو الدخول ليلا ً لمن ورد من سفر: (13/71) بشرح النووي، والمسند: (298، 303، 355) وسنن الدارمي – كتاب النكاح – باب في تزويج الأبكار: (2/146) وسنن أبي داود – كتاب الجهاد – باب في الطروق –: (3/219) ، قال الحافظ في الفتح: (9/340) يؤخذ من الحديث كراهة مباشرة المرأة في الحالة التي تكون فيها غير متنظفة لئلا يطلع منها على ما يكون سبباً لنفرته عنها.
السبب الثاني:
خشية رؤيته من زوجته ما يكرهه مما هو محرم، وقد أمر ربنا بالستر، وحض عليه، ولا مؤاخذة على الإنسان إذا وقع أهله في الفجور والآثام، ولم يعلم بذلك من الطرق التي أذن بها الرحمن، فكل نفس بما كسبت رهينة، وبأعمالها مدينة ثبت في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله – رضي الله تعالى عنهما – قال: "نهى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن يطرق الرجل أهله ليلا ً لئلا يتخونهم، أو يلتبس عثراتهم"، انظر كتاب الإمارة – باب كراهية الطروق وهو الدخول ليلا ً لمن ورد من سفر: (13/71-72) بشرح النووي وهي في المسند: (3/302) وقد جمل البخاري ذلك عنواناً لأحد أبوب النكاح فقال: باب لا يطرق أهله ليلا ً إذا أطال الغيبة مخافة أن يخونهم، أو يلتمس عثراتهم. ثم روى حديثين عن جابر – رضي الله تعالى عنهما – "كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يكره أن يأتي الرجل أهله طروقاً" و "إذا أطال أحدكم الغيبة فلا يطرق أهله ليلا ً": (9/340) بشرح ابن حجر، قال الحافظ: وهذه الترجمة – أي: ترجمة الباب وعنوانه – لفظ الحديث الذي أورده في الباب في بعض طرقه، لكن اختلف في إدراجه، فاقتصر البخاري على القدر المتفق علي رفعه، واستعمل بقيته في الترجمة. ثم ذكر رواية مسلم السابقة، وذكر أن مسلماً ساقها من رواية شعبة عن محارب كرواية البخاري، وساقها من رواية عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان بالرواية الأولى لكن سفيان قال في نهاية الرواية: لا أدري هذا في الحديث أم لا: "أن يتخونهم أو يلتبس عثراتهم"، وذلك موجود في صحيح مسلم والرواية الثالثة في سنن الدارمي – كتاب الاستئذان – باب في النهي أن يطرق الرجل أهله ليلا ً –: (2/275) .
وهذا السبب الثاني أشار إليه الحافظ في الفتح: (9/340) فقال: فيقع للذي يهجم بعد طول الغيبة غالباً ما يكره، ثم بعد أن ذكر السبب الأول قال: وإما أن يجدها على حال غير مرضية، والشرع محرض على الستر، وقد أشار إلى ذلك بقوله: "أن يخونهم، ويتطلب عثراتهم" ثم دلل على ذلك بما أخرجه ابن خزيمة عن ابن عمر – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – قال: "نهى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن تطرق النساء ليلا ً" فطرق رجلان كلاهما وجد مع امرأته ما يكره" وأخرجه من حديث ابن عباس – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – نحوه، وقال فيه: "كلاهما وجد مع امرأته رجلا ً" وحديث ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – مروي في سنن الدارمي: (1/118) المقدمة – باب تعجيل عقوبة من بلغه عن النبي – صلى الله عليه وسلم – حديث يعظمه ولم يوقره – ورواه أيضاً عن سعيد بن المسيب مرسلا ً، وعلق الترمذي حديث ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – في كتاب الاستئذان – باب ما جاء في كراهية طروق الرجل أهله ليلا ً: (7/345) فقال: وقد روى عن ابن عباس.....إلخ.
وهذا السبب الثاني دلت عليه الروايات الصحيحة، وقرره الأئمة الحافظ كما تقدم، ومع هذا رده ابن العربي في عارضة الأحوذي: (10/180) فقال: وقد سمعت عن بعض أهل الجهالة أن معنى نهي النبي – عليه الصلاة والسلام – لهم لئلا يفتضح النساء، كما جرى لمن خالف النبي – صلى الله عليه وسلم – وهذا الذي روى لم يصح بحال، ولو صح لما كان دليلا ً على أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قصده، فلا يصح لأحد له معرفة بمقاصد الشريعة، ومقدار النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يصححه ولا يجيزه 1هـ مصححاً ما في الطباعة من أخطاء، وقد علمت ثبوت الرواية بذلك، ومقاصد الشريعة توافق ذلك الثابت، فهي آمرة بستر المسلمين والمسلمات، ناهية عن التنقيب على الزلات فالحق فيما قاله الحافظ في شرح صحيح البخاري، لا ما قاله الإمام ابن العربي في شرح سنن الترمذي والله تعالى أعلم.
السبب الثالث:
خشية وقوعه في فعل ما يكرهه بسب بالتباس الأمر عليه لوجود الظلام، وعدم التحقق الكامل من رويا العيان وقد أشار الحافظ إلى هذا السبب في الفتح: (9/341) فقال: ووقع في حديث جابر أن عبد الله بن رواحة أتى امرأته ليلا ً – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – وعندها امرأة تمشطها، فظنها رجلا ً فأشار إليها بالسيف، فلما ذكر النبي – صلى الله عليه وسلم – نهي النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يطرق الرجل أهله ليلا ً. أخرجه أبو عوانة في صحيحه 10هـ والحديث في المسند: (3/451) وفيه: أنه قدم من سفر ليلا ً فتعجل إلى امرأته، فإذا في بيته مصباح، وإذا مع امرأته شيء، فأخذ السيف، فقالت امرأته: إليك عني، فلانة تمشطني، فأتى النبي – صلى الله عليه وسلم – فأخبره، فنهى أن يطرق الرجل أهله ليلا ً، ورواه الحاكم في المستدرك – كتاب الأدب –: (4/293) ، وقال: صحيح على شرط الشيخين لكنه مرسل كما بين ذلك الذهبي.
لتلك الأسباب: نهى النبي – صلى الله عليه وسلم – الرجال عن الطروق على أهلهم من النساء وكان – فداه أبي وأمي وعليه صلوات ربي وسلامه – يلتزم بذلك الخلق الكريم مع أزواجه أمهات المؤمنين – عليه وعليهن الصلاة والسلام – ففي صحيح البخاري – كتاب العمرة – باب الدخول بالعشي: (3/619 بشرح ابن حجر، والمسند: (3/125، 204، 240 عن أنس رضي الله تعالى عنه – قال: كان النبي – صلى الله عليه وسلم – "لا يطرق أهله كان لا يدخل إلى غدوة أو عشية" قال الحافظ: قال الجوهري: العشية: من صلاة المغرب إلى العتمة – العشاء –، وقيل: هي من حين الزوال، قال الحافظ: والمراد هنا الأول ثم بين أن الدخول بالغداة لا يتعين، والمنهي عنه الدخول ليلا ً.
قال عبد الرحيم – غفر الله ذنوبه أجمعين – إذا منعت شريعة رب العباد، دخول القادمين من سفر على أهليهم ليلا ً لما يترتب على ذلك من الفساد، فإن قوانين الشياطين، أباحت للعتاة المفسدين، الدخول على بيوت المسلمين، في ظلام الليل دون إذن من الساكنين، وما ذاك إلا لأنهم آمنوا بالله رب العالمين، ومن العجيب أن أصحاب تلك القوانين الغوية، يرفعون شعارات الحرية، وإليك حادثة من أفعالهم المنكرة الردية –:
كسرت رجالات الأمن في بعض بلاد الحرية المزيفة – وحقيقتهم رجال الخيانة والغدر – الباب قبيل الفجر، على مؤمنة من الصالحات كانت تستحم للتتهيأ لمناجاة رب الأرض والسموات فأخرجوها من مستحمها عارية، ومثل هذا من أفعالهم المنكرة كثير وكثير، نسأل الله الكبير أن يظهر منهم الأرض إنه على كل شيء قدير.(1/500)
فدنوا من المدينة، فضربها المخاض، فاحتبس عليها أو طلحة وانطلق إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: يقول أبو طلحة، إنك لتعلم يا رب إنه يعجبني أن أخرج مع رسول الله، وأدخل معه إذا دخل، وقد احتبست بما ترى، قال: تقول أم سليم: يا أبا طلحة ما أجد الذي كنت أجد، انطلق، فانطلقا، قال: وضربها المخاض حين قدما، فولدت غلاماً، فقالت لي أمي: يا أنس، لا يرضعه أحد حتى تغدو به على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فلما أصبح احتملته، فانطلقت به إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: فصادفته ومعه ميسم – وهو الحديدة التي تحمي بالنار، وتوسم بها الدواب – فلما رآني قال: "لعل أن سليم ولدت" قلت: نعم، فوضع الميسم، قال: وجئت به فوضعته في حجره، ودعا له رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بعجوة من عجوة المدينة، فلاكها في فيه حتى ذابت، ثم قذفها في فيّ الصبي، فجعل الصبي يتلمظها، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "انظروا إلى حب الأنصار التمر" قال فمسح وجهه وسماه: عبد الله.(2/1)
.. هذا لفظ رواية صحيح مسلم والمسند، وفي لفظ للإمام أحمد عن أنس بن مالك – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – قال: تزوج أبو طلحة أم سليم – وهي أن أنس والبراء – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – قال: فولدت له بنياً، قال: فكان يحبه حباً شديداً، قال: فمرض الغلام مرضاً شديداً فكان أبو طلحة يقوم صلاة الغداة يتوضأ، ويأتي النبي – صلى الله عليه وسلم – فيصلى معه، ويكون معه إلى قريب من نصف النهار، ويجيئ يقيل ويأكل، فإذا صلى الظهر تهيأ وذهب فلم يجيء إلى صلاة العتمة، قال: فزاح عشية، ومات الصبي، قال: وجاء أبو طلحة، قال: نسجت عليه ثوباً وتركته، قال: فقال لها أبو طلحة: يا أم سليم كيف بياض بني الليلة؟ قالت: يا أبو طلحة ما كان ابنك منذ اشتكى أسكن منه الليلة، قال: ثم جاءته بالطعام فأكل، وطابت نفسه، قال: فقام إلى فراشه، فوضع رأسه، قالت: وقمت أنا فمسست شيئاً من طيب، ثم جئت حتى دخلت معه الفراش فما هو إلا أوجد ريح الطيب كان منه ما يكون من الرجل إلى أهله، قال: ثم أصبح أبو طلحة يتهيأ كما كان يتهيأ كل يوم، قال: فقالت له: يا أبا طلحة، أرأيت لو أن رجلا ً استودعك وديعة فاستمتعت بها ثم ثم طلبها، فأخذها منك تجزع من ذلك؟ قال: لا، قالت: فإن ابنك قد مات، قال أنس: فجزع عليه جزعاً شديداً، وحدث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بما كان من أمرها في الطعام والطيب، وما كان منه إليها، قال: فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "فبتما عروسين وهو إلى جنبكما؟ " قال: نعم يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم –، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – "بارك الله لكما في ليلتكما" قال: فحملت أم سليم تلك الليلة، قال: فتلد غلاماً، قال: فحين أصبحنا قال لي أبو طلحة: احمله في خرقة حتى تأتي به رسول الله – صلى الله عليه وسلم –، واحمل معك تمر عجوة، قال: فحملته في خرقة، قال: ولم يحنك، ولم يذق طعاماً، ولا شيئاً قال: فقلت: يا رسول الله – صلى الله عليه(2/2)
وسلم – ولدت أم سليم، قال: "الله أكبر، ما ولدت؟ " قلت: غلاماً، قال: "الحمد لله" فقال: "هاته إليّ" فدفعته إليه، فحنكه رسول الله –صلى الله عليه وسلم – ثم قال له: "معك تمر عجوة؟ " قلت: نعم، فأخرجت تمرات، فأخذ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – تمرة وألقاها في فيه، فما زال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يلوكها حتى اختلطت بريقه، ثم دفع الصبي، فما هو إلا أن وجد الصبي حلاة التمر يمص بعض حلاة التمر، وريق رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فكان أولمن فتح أمعاء ذلك الصبي على ريق رسول الله – صلى الله عليه وسلم –، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "حبّ الأنصار التمر" فسمي عبد الله بن أبي طلحة، قال: فخرج منه رجل كثير، قال واستشهد بفارس، وفي المسند: فما كان في الأنصار شاب أفضل منه وقد ورد في البخاري عن رجل من الأنصار – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – أنه رأى تسعة أولاد من ولد عبد الله كلهم قد قرأ القرآن – رضي الله تعالى عنهم أجمعين –.(2/3)
.. واعلم أن تغيظ أبي طلحة، وغضبه – رضي الله تعالى عنه – كان بعد استرجاعه كما في رواية في المسند أن أم سليم قالت: يا أبا طلحة إن آل فلان استعاروا من آل فلان عارية، فبعثوا إليهم ابعثوا إلينا بعاريتنا، فأبو أن يردوها، فقال: أو طلحة: ليس لهم ذلك، إن العارية مؤداة إلى أهلها، قالت: فإن ابنك كان عارية من الله – عز وجل – وإن الله قد قبضه، فاسترجع (1) وما كان من أبي طلحة – رضي الله تعالى عنه – من تغيظ وغضب إنما كان بسبب تأخير أعلامها بموت ولده، حتى جرى منه ما جرى، ولم يكن ذلك التغيظ تسخطاً على المقدور، وتبرماً من فعل من بيده مقاليد الأمور، فاعلم هذا والله يتولى هدانا جميعاً، فهو الهادي لا إله غيره، ولا رب سواه.
فانظر – رعاك الله الكريم – إلى ذلك العقل الراجح العظيم، والنظر السديد القويم، من تلك المرأة من سلفنا الصالحين، عندما أيقنت أن لله ما في السموات وما في الأرض، فلله أعطى، وله ما أخذ، وكل شيء عنده بمقدار، كيف دعاها ذلك الإيمان للسكينة والاطمئنان، وانشراح الصدر بقضاء الرحمن، ولله در من قال:
وما المالُ والأهلون غلا وَدَائِعُ ... ولابدّ أنْ تُردّ الوَدَائعُ
__________
(1) انظر روايات الحديث الشريف في صحيح البخاري – كتاب الجنائز – باب من لم يظهر حزنه عند المصيبة: (3/169) ، وأول كتاب العقيقة: (9/587) بشرح ابن حجر فيهما، وصحيح مسلم – كتاب الآداب – باب استحباب تحنيك المولود عند ولادته، وحمله إلى صالح يحنكه: (3/1690) وكتاب فضائل الصحابة – رضي الله تعالى عنهم – باب من فضائل أبي طلحة الأنصاري – رضي الله تعالى عنه –: (4/1909) ، والمسند: (3/105، 106، 181، 196، 287-288) وعمل اليوم والليلة لابن السني: (231) .(2/4)
وقد تلقى سلفنا الأبرار، تلك المعاني العالية من هدي نبينا المختار – صلى الله عليه وسلم – فهو أسوتهم في تلك الفعال، ثبت في الصحيحين، وغيرهما عن أسامة بن زيد – رضي الله تعالى عنهما – قال: كنا عند النبي – صلى الله عليه وسلم – فأرسلت إحدى بناته تدعوه، وتخبره أن صبياً لها أو ابناً لها في الموت، فقال الرسول: "ارجع إليها، فأخبرها: أن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمرها فلتصبر ولتحتسب" فعاد الرسول، فقال: إنها قد أقسمت لتأتينها، قال: فقام النبي – صلى الله عليه وسلم – وقام معه سعد بن عبادة، ومعاذ بن جبل وانطلقت معهم، فرفع إليه الصبي، ونفسه تقعقع كأنها في شنة (1)
__________
(1) الشنة: القربة الخلق: أي البالية اليابسة كما في مختار الصحاح: (371) "شنن" والمعنى: لروحه اضطراب وتحرك في جسده يشبه صوت الماء إذا ألقي في القربة البالية كما في شرح النووي: (6/225) قال الحافظ في الفتح: (3/157) : شبه البدن بالجلد اليابس الخلق / وحركة الروح فيه بما يطرح في الجلد من حصاة ونحوها 10هـ وورد في رواية البخاري "كأنها شن" قال الحافظ: فكأنه شبه النفس بنفس الجلد وهو أبلغ في الإشارة إلى شدة الضعف، وذلك أظهر في التشبيه..(2/5)
ففاضت عيناه، فقال له سعد: ما هذا يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم –؟ قال: "هذه رحمة، جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء (1) " نسأل الله أن يمن علينا بكمال المتابعة لنبينا الميمون – صلى الله عليه وسلم – في كل حركة وسكون، إنه حي قيوم.
__________
(1) انظر الحديث في صحيح البخاري – كتاب الجنائز – باب 32: (3/151) ، وكتاب المرض – باب عيادة الصبيان: (10/118) ، وكتاب القدر – باب "وكان أمر الله قدراً مقدوراً": (11/494) وكتاب الإيمان والنذور – باب قول الله تعالى: "أَقْسَمُواْ بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ": (11/541) وفي كتاب التوحيد – باب قول الله تبارك وتعالى –: "قُلِ ادْعُواْ اللهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى": (13/358) ، وباب ما جاء في قول الله تعالى –: "إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ": (13/434) بشرح ابن حجر في الجميع، وانظره في صحيح مسلم – كتاب الجنائز – باب البكاء على الميت –: (2/635-636) ، وسنن النسائي – كتاب الجنائز – باب الأمر بالاحتساب والصب عند نزول المصيبة: (4/19) ، وسنن ابن ماجه – كتاب الجنائز – باب ما جاء في البكاء على الميت: (1/506) ، والمسند: (5/204، 207) .
قال الحافظ في الفتح: (3/156) الصواب في حديث الباب أن المرسلة زينب ابنة النبي – صلى الله عليه وسلم –، وأن الولد صبية كما ثبت في المسند: (2/207) "أتى النبي – صلى الله عليه وسلم – بأمامة بنت زينب" ثم قال الحافظ: والذي يظهر أن الله – تبارك وتعالى – أكرم نبيه – عليه الصلاة والسلام – لما سلم لأمر ربه وصبر ابنته، ولم يملك مع ذلك عينيه من الرحمة والشفقة بأن عافى الله ابنة ابنته في ذلك الوقت، فخلصت من تلك الشدة وعاشت تلك المدة – أي تزوجت – وهذا ينبغي أن يذكر في دلائل النبوة، والله المستعان.(2/6)
وكما حصل للمكلف الرضا بقضاء الله – جل وعلا – من أثر معرفته بأن ما في السموات والأرض لله – جل جلاله – فانشرح صدره، وقرت عينه، واطمأن قلبه، فسيحصل له القناعة أيضاً وهي الغنى الحقيقي، والعز اليقيني، لأن ما قدره مالك السموات والأرض سيأتيه، فلا حاجة للتعب والنصب فيه وفي المستدرك بإسناد صحيح عن جابر بن عبد الله – رضي الله تعالى عنهما – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "إن أحدكم لن يموت حتى يستكمل رزقه، فلا تستبطئوا الرزق، واتقوا الله أيها الناس، وأجملوا في الطلب، خذوا ما حل، ودعوا ما حرم"، وفي معجم الطبراني الكبير عن أبي أمامة – رضي الله تعالى عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: "نفث روح القدس في روعي أن نفساً لن تخرج من الدنيا حتى تستكمل أجلها، وتستوعب رزقها، فأجملوا في الطلب ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تحصلوه بمعصية الله، فإن الله لا ينال ما عنده إلا بطاعته"، وفي الحلية ومسند البزار ومعجم الطبراني الكبير عن أبي الدرداء – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "إن الرزق ليطلب العبد كما يطلبه أجله"ولفظ الطبراني: "أكثر مما يطلبه أجله (1)
__________
(1) انظر المستدرك – كتاب البيوع –: (2/4) وقال: صحيح على شرط مسلم وأقره الذهبي وذكره شاهداً لحديث جابر – رضي الله تعالى عنه – الذي رواه وهو بنحوه، وقال: صحيح على شرط الشيخين وأقره الذهبي أيضاً: (4/325) أيضاً. ثم ذكر شاهداً له آخر بزيادة ألفاظ عن ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه – وسكتا عليه، قال العراقي في تخريج أحاديث الإحياء: (2/64، 3/233) ، ورواه ابن أبي الدنيا في القناعة – أي رواية ابن مسعود – والبيهقي في شعب الإيمان، وقال: إنه منقطع، وانظر رواية جابر في صحيح ابن حبان – موارد الظمآن – كتاب البيوع – باب في طلب الرزق: (267) ، وفي كتاب السنة لابن أبي عاصم: (1/183) .
وانظر رواية الطبراني في مجمع الزوائد: (4/72) ، وفيه: عفير بن معدان وهو ضعيف وانظر الرواية الثالثة في حلية الأولياء: (6/86) ، ومجمع الزوائد: وفيه: رجاله ثقات، هذا وقد روي الحديث عن حذيفة – رضي الله تعالى عنه – عند البزار بسند قال فيه الهيثمي في المجمع: (4/71) فيه قدامة بن زائدة لم أجد من ترجمه، وبقية رجاله ثقات، وروى أبو يعلى نحوه عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – بسند فيه عبيد بن بسطاس مولى كثير بن الصلت ولم أجد من ترجمه، وبقية رجاله ثقات كما في مجمع الزوائد أيضاً: (4/70-71) ، وما في بعض تلك الروايات من ضعف ينجبر بالصحيح من الروايات الأخرى، والله أعلم. وانظر الكلام على شواهد كثيرة للحديث في المقاصد الحسنة: (113-114) ، وفيض القدير: (2/251) .(2/7)
".
ورسوخ تلك المعاني في قلب العبد الفاني سعادة ليس بعدها سعادة، كما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: "ليس الغني من كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس (1)
__________
(1) انظر صحيح البخاري – كتاب الرقاق – باب الغنى غنى النفس: (11/271) بشرح ابن حجر وفيه: ثم غنى النفس إنما ينشأ عن الرضا بقضاء الله والتسليم لأمره، علماً بأن الذي عبد اله خير وأبقى، وانظر الحديث في صحيح مسلم – كتاب الزكاة – باب ليس الغنى عن كثرة العرض: (2/726) ، وسنن الترمذي – كتاب الزهد – باب ما جاء أن الغنى غنى النفس: (7/108) ، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وسنن ابن ماجه – كتاب الزهد – باب القناعة –: (2/1386) وصحيح ابن حبان – موارد الظمآن – كتاب الزهد – باب الغنى غنى النفس: (624) وقد علمت وجوده في الصحيحين فتنبه، والمسند: (2/243، 261، 315، 390، 438، 443، 539، 540) ومسند الحميدي: (2/458) ، والحديث رواه الطبراني في الأوسط وأبو يعلى عن أنس بن مالك – رضي الله تعالى عنهم – ورجال الطبراني رجال الصحيح كما في مجمع الزوائد: (10/237) – كتاب الزهد – باب ليس الغنى عن كثرة العرض، وروى الحاكم في المستدرك – كتاب الرقاق –: (4/327) وابن حبان في صحيحه – المكان المتقدم – عن أبي ذر – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "يا أبا ذر أترى كثرة المال هو الغنى؟ قلت: نعم، قال: فترى قلة المال هو الفقر؟، قلت: نعم يا رسول الله، قال: ليس كذلك، إنما الغنى غنى القلب والفر فقر القلب" الحديث، قال الحاكم: صحيح على شرط البخاري، واقره الذهبي ورواه الطبراني كما في مجمع الزوائد: (10/237) ، وقال الهيثمي: وفيه من لم أعرفه..(2/8)
" وفي سنن الترمذي وغيره بإسناد صحيح عن فضالة بن عبيد – رضي الله تعالى عنه – أنه سمع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: "طوبى لمن هُدي إلى الإسلام وكان عيشه كفافاً وقنع (1)
__________
(1) انظر سنن الترمذي – كتاب الزهد – باب ما جاء في الكفاف: (7/95) ،وقال: هذا حديث حسن صحيح، وهو في المسند: (6/19) ، والمستدرك – كتاب الإيمان: (1/35) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، واقره الذهبي، وصحيح ابن حبان – موارد الظمآن – كتاب الزهد – باب في القناعة: (631) ، ورواه النسائي في الكبرى كما في تخريج أحاديث الإحياء: (3/232) .
وثبت في صحيح مسلم – كتاب الزكاة – باب في الكفاف والقناعة: (2/730) ، وسنن الترمذي – المكان المتقدم – وسنن ابن ماجه – كتاب الزهد – باب القناعة –: (2/1386) ، والمسند: (2/168، 173) ، والمستدرك – كتاب الأطعمة: (4/123) ، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وأقره الذهبي مع أنه في صحيح مسلم كما تقدم عن عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله تعالى عنهما – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: "قد أفلح من أسلم ورزق كفافاً، وقنعه الله بما آتاه" والكفاف: ما كف عن السؤال، كما في غذاء الألباب: (2/525) ، ولذلك قال الإمام المنذري في الترغيب والترهيب: (4/69) ، والكفاف الذي ليس فيه فضل عن الكفاية، وروى أبو الشيخ ابن حبان في كتاب الثواب عن سعيد بن عبد العزيز، أنه سئل: ما الكفاف من الرزق؟ قال: شبع يوم، وجوع يوم 1هـ وفي جامع الأصول: (10/138) : والكفاف: الذي لا يفضل عن الحاجة ولا ينقص 10هـ.
قال عبد الرحيم – غفر الله له ذنوبه أجمعين – وهذان الحديثان يشهدان لحديث أبي أمامة – رضي الله تعالى عنه – الذي جرى حوله كلام من قبل بعض الأئمة الأعلام، فيؤكد أن كونه من الأحاديث الحسان، حسبما قرره بعض الأئمة الكرام، ولفظ الحديث عن نبينا – عليه الصلاة والسلام –: "إن أغبط أوليائي عندي لمؤمن خفيف الحاذ، ذو حظ من الصلاة، أحسن عبادة ربه، وأطاعه في السر، وكان غامضاً في الناس لا يشار إليه بالأصابع، وكان رزقه كفافاً، فصبر على ذلك، ثم نفض بيده، فقال: عجلت منيته، وقلت بواكيه، قل تراثه" والحاذ: الحال، والظهر كما في اللسان: (5/20) "حوذ" والمراد في الحديث كما في الترغيب والترهيب: (4/154) : خفيف الحال، قليل المال وفي جامع الأصول: (10/138) : والخفيف الظهر من العيال، القليل المال القليل الحظ من الدنيا 1هـ، والحديث رواه الترمذي – المكان المتقدم – وقال: هذا حديث حسن وأقر الشيخ الأرناؤوط في تعليقه على جامع الأصول: (10/137) تحسين الترمذي، فقال: وإسناده حسن، قال الترمذي: هذا حديث حسن 10هـ وهو في سنن ابن ماجه – كتاب الزهد باب من لا يؤبه له: (2/1379) ، والمسند: (5/252) ، ومسند الحميدي: (2/404) ، والمستدرك – كتاب الأطعمة: (4/123) ،وقال: هذا إسناد للشاميين صحيح عندهم ولم يخرجاه، وتعقبه الذهبي بقوله: قلت: لا، بل إلى الضعف هو، وحكى المنذري في الترغيب والترهيب: (4/154) تصحيح الحاكم وقال: كذا قال، وقد حكم الإمام العراقي في تخريج أحاديث الإحياء: (3/271) على سندي الترمذي وابن ماجه بالضعف، فقال: رواه الترمذي وابن ماجه بإسنادين ضعيفين 10هـ وانظر زيادة تقرير في فيض القدير: (2/427) ، والله تعالى أعلم.
وفي كتاب العزلة: (87) قصة طريفة فيها تقرير ما ورد في هذا الحديث الشريف، فدونكها، وحذار حدذار من الغفلة عنها: قال الأمير زياد لجلسائه: من أغبط الناس عيشاً؟ قالوا: الأمير وجلساؤه، فقال: ما صنعتم شيئاً، إن لأعواد المنبر هيبة، وإن لقرع لجام البريد لفزعة، ولكن أغبط الناس عندي رجل له دار لا يجري عليه كراها، وزوجة صالحة قد رضيته ورضيها، فهما راضيان بعيشهما، لا يعرفنا ولا نعرفه، ولأنه إن عرفنا وعرفناه أتعبنا ليله ونهاره، وأهذهبنا دينه ودنياه 10هـ.(2/9)
".
قال الإمام السفاريني – عليه رحمة الله تعالى – ومن كلام شيخ الإسلام ابن تيمية – طيب الله ثراه، ورضي عنه –:
وَجَدْتُ القناعة َ ثوبَ الغِنى ... فَصِريُ بأذيالها أمْتَسِمكْ
فَلْبسني جاهُها حُلة ... يَمُرُّ الزمأأانُ ولم تُنْتَهِكْ
فَصِرْتُ غنياً بلا دَرْهم ٍ ... أمُرُّ عزيزاً كأني مَلِكْ
وسئل الإمام بشر الحافي – عليه رحمة الله تعالى – عن القناعة، فقال: لو لم يكن فيها إلا التمتع بعز الغنى لكان ذلك يجزي، ثم أنشد:
أفادَتنا القناعةُ أيَّ عزّ ... ولا عِزَّ أعزُّ من القناعة
فخذ ْ منها لنفسك رأسَ مال ٍ ... وصَيّرْ بعدها التقوى بضاعة
تَحُزْ حالتين: تُغْنَى عن بخيل ٍ ... وتَسْعَدُ في الجِنان بِصَبْر ساعة
ولبعضهم:
هي القناعة فالْزَمْها تَعِش مَلِكاٍ ... لو لم يكن فيها إلا راحة ُ البَدّن ِ
وانظرْ لمنْ مَلَك الدنيا بأجْمعها ... هل راح منها سوى بالقُطْن والكَفَنِ (1)
__________
(1) انظر تلك الأبيات في غذاء الألباب: (2/257) وفي منظومة الآداب المشروحة في غذاء الألباب: ... بما لَلَّبَ الرحمن واشكره تحمد
0@وكنْ صابراً بالفقر وادّرِع ِ الرضا
فما العزّ إلا في القناعة والرضا ... بأدني كَفَاف حاصل والتزهد
فمن لم يُقْنِعْه ُالكَفَاف فما إلى ... رضاه سبيل فاقتنع وتَقَصّد
فمن يَتغنى يُغْنِهُ الله ُ، والغنى ... غنى النفس لا عن كثرة المُتعَدّد
وانظر شرك تلك الأبيات بكلام لذيذ مستطاب في غذاء الألباب: (2/513-555) ، فمت ذلك قوله: (2/532) : وما أحسن قول الإمام الشافعي – رضي الله تعالى عنه –:
خَبَرتُ بني الزمان ِ فَلَمْ أرَ مِنْهُمُ ... سوى خَادع والخُبْثُ حَشْوً إهَابهْ
فجَرَّدْتُ مِنْ غَمْدِ القناعة صارِماً ... قطَعْتُ رجائي مِنْهمُ بِذبَابِهْ
فلا ذا يراني واقفاً بطريقهِ ... ولا ذا يراني قاعداً عند بابهْ
غنيّ بلا مال ٍ عن الناس كلّهم ... وليس الغِنى إلى عن الشيء لا بهْ
وقوله: وقال غير وأحسن:
إذا أعْطشَتْك أكفُّ اللئام ِ ... كَفَتْكَ القناعة ُ شِبَعاً وَرِيَّا
ج
فكنْ رَجُلا ً رِجْلُه في الثَّرى ... وهامَة ُ هِمَّتِه في الثُّريَّا
أبيّاً بنفسه عن بَاخِل ٍ ... تراه بما في يديه أبِبيّا
فإنَّ إراقة ماء الحَيَا ... ة ِ دونَ إراقة ِ ماء المُحَيّا
وانظر لزاماً الإحياء: (3/232-237) ففيه مدح القناعة والحث عليها، وبيان الأمور التي توصل إليها، ولله دره حيث يقول: في القناعة الحرية والعز، ولذلك قيل: استغن عمن شئت تكن نظيره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره، وأحسن إلى من شئت أميره، وقيل لبعض الحكماء: ما الغنى؟ قال: قلة تمنيك، ورضاك بما يكفيك، ثم سرد أبياتاً لطيفة رقيقة في ذلك منها:
العَيشُ ساعات تَمُرّ ... وَخطوبُ أيام تكِرّ
اقنعْ بعيْشك ترْضَهُ ... واترك هواك تعيش حرّ
فَلَربَّ حتْف ٍ ساقه ... ذهب وياقُوتٌ ودُرّ
ومنها:
أرْفه ببال ِ فتى أمسى على ثقة ٍ ... إنَّ الذي قسَمَ الأرزاق يرزقهُ
فالعِرضُ منه مصُون لا يدنِسُهُ ... والوجْهُ منه جَديد ليس يُخْلِقُهُ
إن القناعة َ منْ يحللْ بساحَتِها ... لم يلقَ في دهره شيئاً يؤرِقُهُ
ومنها:
حتى متى أنا في حَلّ ٍ وترْحال ِ ... وطول سعي وإدبار وإقبال
ونازح ِ الدار لا أنْفَكّ مُغْتَرِباً ... عن الأحبّة لا يدرون ما حَالي
بمشرق ِ الأرض طوْراً ثم مغربها ... لا يخطر الموتُ منْ حرْصي على بالي
ولو قنعت أتاني الرزق في دَعَة ٍ ... إن القُنوع َ الغِنَى لا كثرة المال ِ
ومنها:
أراكَ يزيدك الإثراءُ حِرْصاً ... على الدنيا كأنك لا تموتُ
فهل لك غاية ٌ إنْ صرْتَ يوماً ... إليها قلت: حسبي قد رضيت ُ؟
وانظر تحفة السادة المتقين: ففيه تقرير ما ذكره الغزالي بكلام محكم متين، وانظر أيضاً ذلك المبعث العظيم في روضة العقلاء: (121-165) وفي صيد الخاطر ك (300-301) وفيه:
تفضلْ على منْ شئتَ واعنْ بأمره ... فأنت ولو كان الأميرَ أميرُه
وكنْ ذا غِنىً عمن تشاء من الوَرى ... ولو كان سُلطاناً فأنت نظيرُه
ومنْ كنتَ مُحتاجاً إليه ووافقا ... على طمع منه فأنت أسيرُه
وفي مجموع الفتاوى: (1/99) : أسعد الخلق أعظمهم عبودية لله – عز وجل – وأما المخلوق فكما قيل: احتج إلى من شئت تكن أسيره..إلخ وفي شرح تائهة السلوك: (11-22) ومما نقله عن الإمام الشافعي – عليه رحمة الله تعالى –:
أمَتُّ مطامعي فأرَحتُ نفسي ... فإنَّ النفس ما طمعتْ تهونُ
وأحييتُ القُنوع وكان ميتاً ... ففي إحيائه عِرْضُ مصُونُ
إذا طمعٌ يحُلُّ بلقبِ عبد ٍ ... عَلتْهُ مهانة ٌ وعلاه هُونُ
وله أيضاً:
ورزْقك لا يفوتك بالتَّواني ... وليس يزيدُ في الرزق العناءُ
إذا ما كنت ذا قلب قنوع ٍ ... فأنت ومالك الدنيا سواءُ
ولبعضهم:
النفسُ تأبى أن تكونَ فقيرة ... والفقر خير من غنىً يطغيها
فغنى النفوس هو الكفاف فإن أبَت ... فجميع ما في الأرض لا يكفيها
ولبعضهم:
خذْ من العيش ما كفى ... فهو إنْ زاد أتلفها
كسراج ٍ منوّر ... إن طَفا دُهْنُه انطفا
ولبعضهم:
عزيزُ النفس من لزم القناعة ... ولم يكشِفْ لمخلوق قِنَاعَهْ
أفادتْنا لقناعة ُ كلَّ عزّ ... وهلْ عزُّ أعزّ من القَنَاعة ْ
ج
فصيرها لنفسك رأسَ مال ٍ ... وصيّرْ بعدها التقوى بضاعة ْ
لِتَغْنى في حياتك عن لئيم ٍ ... وتسْعَدُ في الجنان بصبر ساعة ْ
ولبعضهم:
دع ِ الحرص على الدنيا ... وفي العيش فلا تطْمعْ
فإنَّ الرزق مقسوم ... وسوء الظن لا ينفعْ
فقير كل ذي حرص ... غنيٌّ كل من يقنع
وقد تقدم في هذا الكتاب المبارك: (......) قول جبريل لنبينا – صلى الله عليه وسلم – "يا محمد: عس ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، واعلم أن شرف المؤمن قيام الليل، وعزه استغناؤه عن الناس"، وقد سأل نبينا – صلى الله عليه وسلم – ربه – جل وعلا – ما يسد حاجته ويكفيه، وعن غيره يغنيه، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "اللهم اجعل رزق آل محمد كفافاً" وفي الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: "اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً.
انظر الحديثين في صحيح مسلم – كتاب الزهد والرقاق –: (4/2281) والثاني فيه أيضاً في كتاب الزكاة – باب في الكفاف والقناعة –: (2/730) ، وصحيح البخاري – كتاب الرقاق – باب كيف عيش النبي – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه – رضي الله تعالى عنهم – وتخليهم عن الدنيا: (11/283) بشرح ابن حجر، وسنن الترمذي – كتاب الزهد – باب ما جاء في معيشة النبي – صلى الله عليه وسلم – وأهله: (7/100-101) وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وسنن ابن ماجه – كتاب الزهد – باب القناعة –: (2/1387) ، والمسند: (2/232، 446، 481) .
وقد أخبر نبينا – صلى الله عليه وسلم – أن من حصل له ما يكفيه من تمتع بالأمن والعافية فقد أحرز النعم، وتمت في حقه كل المنن، ففي سنن الترمذي وغيره من عبيد الله بن محصن – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: "من أصبح منكم آمناً في سربه معافىً في جسده، عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا"، انظر سنن الترمذي – كتاب الزهد – باب 34: (7/93-94) ، وقال: هذا حديث حسن غريب، ورواه ابن ماجه – في كتاب الزهد – باب القناعة – (2/1387) ، والبخاري في الأدب المفرد: (46) باب من أصبح آمناً في سربه –. ورواه ابن حبان – موارد الظمآن – كتاب الزهد – باب فيمن أصبح معافى: (620) لكن من رواية أبي الدرداء – رضي الله تعالى عنه – وقد أشار الترمذي إلى هذه الرواية فقال وفي الباب عن أبي الدرداء، وقد مال الذهبي في الميزان: (2/191) إلى تضعيف رواية الترمذي، وحكم على سند الرواية الثانية باللين أيضاً، والله أعلم.
قال ابن الأثير في جامع الأصول: (10/136) : "آمناً في سربه" أي في نفسه، يقال: فلان واسع السرب أي: رخىُّ البال، وروي بفتح السين ـ وهو: المسلك والمذهب 10هـ وفي فيض القدير: (6/68) عند شرح هذا الحديث، قال: وقال نفطية:
إذا القوتُ يأتي لك والصحة ُ والأمنُ ... وأصبحتَ أخا حُزْن ِ فلا فَارَقَكَ الحُزْنُ(2/10)
.. نسأل الله الكريم الرضا عنه وعنا، وأن يقنعنا بما قسم لنا، وغلى سواه أن لا يلكنا فهو ولينا وحسبنا.
ب) تعليق الأمل بالله، وقطع الرجاء من غيره: فالأمور كلها من الله – جل وعلا – وإليه، ومن عداه ليس بشيء ليده، فهو لا يملك نقيراً ولا قطميراً، قال الله – جل ثناؤه –: " {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (1) }
__________
(1) الآيات: (13-17) من سورة فاطر، والقطمير هو: لفافة النواة، وهي القشرة الرقيقة كما في تفسير الجلالين: (348) ، ومختار الصحاح: (570) "قمطر" وأما النقير فهو: النقرة التي في ظهر النواة كما في المختار: (700) "نقر" – جل وعلا – يقول في سورة النساء: (53) : {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً} وفي تفسير الجلالين: (68) : أي ليس لهم شيء منه، ولو كان " فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً " أي: شيئاً قدر النفرة في ظهر النواة لفرط بخلهم..(2/11)
فاطر13-17، وفي سورة يونس: يقول ربنا المعبود: {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِّنَ الظَّالِمِينَ وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} يونس106-107، وتقدم حديث حصين – رضي الله تعالى عنه – وفيه قول النبي – صلى الله عليه وسلم – له: "كم تعبد اليوم إلها؟ فقال حصين: سبعة، ستة في الأرض، وواحداً في السماء، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم –: فأيهم تعد لرغبتم ورهبتك؟ فقال حسين: الذي في السماء، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "فيستجيب لك وحده، وتشكرهم معه؟ " ثم أسلم حصين – رضي الله تعالى عنه – وتقدم – أيضاً – في هذا الكتاب المبارك – حديث الأسود بن سريع – رضي الله تعالى عنه – وفيه: أتى النبي – صلي الله عليه وسلم – بأعرابي أسير، فقال: أتوب إلى الله – عز وجل – ولا أتوب إلى محمد – صلى الله عليه وسلم –: فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "عرف الحق لأهله (1) ".
__________
(1) انظر تخريج الحديثين في صفحة: (....) من هذا الكتاب المبارك.(2/12)
وثبت في المسند وسند الترمذي بإسناد صحيح عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – قال: كنت خلف رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يوماً فقال: "يا غلام أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف (1)
__________
(1) انظر سنن الترمذي – كتاب صفة القيامة: باب 60: (7/203-204) وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وانظره في المسند: (1/293، 303، 307) ومسنده صحيح كما قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على المسند: (2669، 2763، 2804) ، وانظره في المستدرك – كتاب معرفة الصحابة – رضي الله تعالى عنهم: (3/541-542) لكن سند طريقته ضعف كما بين الذهبي في تلخيص المستدرك، والسيوطي في الجامع الكبير: (1/974) ، وانظر الحديث في حلية الأولياء: (1/314) والاعتقاد للبيهقي: (72) ، ورواه الخطيب في تاريخ بغداد: (14/125) عن أبي سعيد الخدري. قال ابن منده كما في جامع العلوم والحكم: (174) وقد روي عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه وصى به ابن عباس بهذه الوصية من حديث على بن أبي طالب، وأبي سعيد الخدري وسهل بن سعد، وعبد الله بن جعفر وفي اسانيدها كلها ضعف 1هـ وانظر من خرج الحديث غير ما تقدم في الجامع الكبير: (1/974) ، وجامع العلوم والحكم: (174) ، والفتح المبين: (175.
وهذا الحديث هو الحديث التاسع عشر في الأربعين النووية، قال الإمام ابن رجب في جامع العلوم والحكم: (174) : وهذا الحديث يتضمن وصايا عظيمة، وقواعد كلية من أهم أمور الدين، حتى قال بعض العلماء: تدبرت هذا الحديث فأدهشني وكدت أطيش، فواأسفاه من الجهل بهذا الحديث، وقلة التفهم لمعناه، قلت – القائل: ابن رجب – وقد أفردت لشرحه جزءا كبيراً، وقال شيخ الإسلام معلقاً على هذا الحديث في مجموع الفتاوى: (1/93) : فهذا يدل على أنه لا ينفع في الحقيقة إلا الله – عز وجل – ولا يضر غيره، فمن سلك هذا المسلك استراح من عبودية الخلق ونظره إليهم وأراح الناس من لومه وذمه إياهم، وتجرد التوحيد في قلبه، فقوي إيمانه، وانشرح صدره، وتنور قلبه ومن توكل على الله فهو حسبه، ولهذا قال الفضل بن عياض – رحمه الله تعالى –: من عرف الناس استراح، يريد – والله أعلم – أنهم لا ينفعون، ولا يضرون 10هـ.(2/13)
" وفي سنن الترمذي وغيره بسند صحيح عن عبد الله بن مسعود – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، ومن نزلت به فاقة فأنزلها بالله فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل (1)
__________
(1) انظر سنن الترمذي – كتاب الزهد – باب ما جاء في الهم في الدنيا وحبها –: (7/82-83) ، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب، والحديث ورد بهذا اللفظ في الطبعة الحمصية وهي المتقدمة ف، وفي الطبعة المصرية: (4/563) وفي عارضة الأحوذي: (9/200) وتحفة الأحوذي: (3/263) ، وفيه "برزق عاجل" بالعين المهملة "أو آجل" بهمزة ممدودة 10هـ وقد روى الحديث أبو داود في كتاب الزكاة – باب في الاستعفاف –: (2/296) بلفظ: "...... أوشك الله له بالغنى، إما بموت عاجل، أو غنى عاجل" ومثل رواية أبي داود رواية المسند: (1/407) "أوشك اله له بالغنى، إما أجلٌ عاجل، أو غنى عاجل" لكن ورد في المسند: (1/389) : "آتاه الله برزق عاجل أو بموت آجل" وفي: (1/442) : "آتاه الله برزق عاجل أو موت عاجل" هكذا وردت الرواية الأخيرة في طبعة الحلبي ووردت في النسخة الكتانية المغربية: "أو موت آجل" كما قال الشيخ أحمد شاكر: (6/117) ومال إلى إثباتها لموافقتها الرواية الماضية في الإسناد، وسند روايات المسند صحيح كما قرر الشيخ أحمد شاكر: (3696، 3869، 4219، 5/258، 333، 6/117) ، والحديث في المستدرك – كتاب الزكاة: (1/408) بلفظ: "..... إما بموت آجل أو غنى عاجل" وقال الحاكم: صحيح الإسناد وأقره الذهبي.
ومعنى الروايات: أن من أنزل حاجته بربه – جل وعلا – سيأتيه الله بالفرج عاجلاً أو آجلا ً حسب حكمته ومشيئته، وذلك الفرج بحالتيه العاجل والآجل قد يكون يساراً ورزقاً مدراراً، وقد يكون وفاة، واستراحة من عناء الدنيا، وهذا يجمع شمل تلك الروايات وهو أولى من حمل الموت على موت قريب ليحصل الإرث لصاحب الفاقة، كما في أولى من ادعاء، أرجحية رواية: "أو غنى آجل" بالمد على رواية: "أوغنى عاجل" ونقل ذينك المعنيين المباركفوي في تحفة الأحوذي: (3/263) عن الشيخ علي القاري فتأملهما.(2/14)
". وفي الحكم العطائية: لا تتعد نية همتك إلى غيره، فالكريم لا تتخطاه الآمال، لا ترفعن إلى غيره حاجة هو موردها عليك، فكيف يرفع غيره ما كان هو له واضعاً، ومن لا يستطيع أن يرفع حاجة عن نفسه فكيف يستطيع أن يكون لها رافعاً (1) .
__________
(1) انظر الحكم مع شرحها لابن عباد النضري، وللشيخ عبد الله الشرقاوي: (34) .(2/15)
وتقدم في هذا الكتاب المبارك أثر وهب بن منبه – عليه رحمة الله تعالى – أنه قرأ في الكتاب الأول أن الله – تبارك وتعالى – يقول: "بعزتي من اعتصم بي، فإن كادته السموات بمن فيهن والأرضون بمن فيهن، فإني أجعل له من بين ذلك مخرجاً، ومن لم يعتصم بي فإني أقطع يديه من أسباب السماء، وأخسف به من تحت قدميه الأرض، فأجعله في الهواء، فأكله على نفسه ثم لا أبالي بأي وادٍ هلك (1)
__________
(1) انظر صفحة: (......) .من هذا الكتاب المبارك، وانظر لزاماً ما أحلت عليه في ذلك المكان، مما فيه خلاص من الشدائد الجسام، وتأييد لمن يعتصم بالملك الرحمن، وشرح الحكم لابن عباد: (35) ، قال محمد بن الحسين بن حمدان: كنت في مجلس يزيد بن هارون، وكان إلى جانبي رجل، قلت له: ما اسمك؟ فقال: سعيد، فقلت: وما كنيتك؟ قال: أبو عثمان، فسألته عن قصته وخبره، فقال: نفدت نفقتي، فقلت: ومن تؤمل لما قد نزل به؟ فقال: يزيد، فقلت: إذن لا يسعفك بحاجتك، ولا ينجح طبلك، ولا يبلغك أملك، فقال: وما علمك بهذا – رحمك الله –؟ قلت: إني قرأت في بعض الكتب أن الله – عز وجل – يقول: وعزتي وجلالي وجودي وكرمي، وارتفاعي فوق عرشي في علو مكاني لأقطعن أمل كل مؤمل لغيري بالإياس، ولأكسوته ثوب المذلة عند الناس، ولأنحينه من قربي، ولأقطعنه من وصلي، أيؤمل غيري في النوائب والشدائد بيدي؟ وأنا أنحى، ويرجى غيري، وتطرق الفكر أبواب غيري، وبيدي الأبواب وهي مغلقة، وبابي مفتوح لمن دعاني؟ من ذا أملني لنائبة فقطعت به دونها؟ ومن ذا الذي رجاني لعظيم جرمه فقطعت رجاءه مني؟ أم من ذا الذي يقرع بابي فلم أفتحه له؟ جعلت آمال خلقي بيني وبينهم متصلة، فتعلقت بغيري، وجعلت رجاءهم مدخراً لهم عندي فلم يرضوا بحفظي، وملأت سمواتي ممن لا يملون تسبيحي من ملائكتي، وأمرتهم أن لا يغلقوا الأبواب بيني وبين عبادي، فلم يثقوا بقولي، ألم يعلم من طرقته نائبة من نوائبي أنه لا يملك كشفها أحد غيري؟ فما لي أراه بآماله معرضاً عني؟ ومالي أراه لاهياً بسواي؟ أعطيته بجودي مالم يسألني، ثم انتزعته منه، فلم يسألني رده، وسأل غيري، أفتراني أبدأ بالعطية قبل المسألة، ثم أسأل فلا أجيب سائلي؟ أبخيل أنا فيبخلني عبدي؟ أليس الدنيا والآخرة لي؟ أوليس الرحمة والفضل بيدي؟ أوليس الجود والكرم لي؟ لو قلت لأهل سمواتي وأرضي: أملوني، ثم أعطيت كل واحد منهم من الفكر ما أعطيت الجميع ما نقص ذلك من ملكي عضو ذرة، كيف ينقص ملك كامل أنا قيمه؟ فيا بؤس القانطين من رحمتي، ويا بؤس من عصاني، ولم يراقبني، وثبت على محارمي، ولم يستح مني 10هـ وهذا الأثر غاية ما يقال فيه أنه من أخبار ما سبقنا من الأمم، قبلنا، ولكل فقرة منه شواهد في شرعنا، ولذلك ترخصت في ذكره فحديث ابن عباس وابن مسعود المتقدمين قريباً يشهدان له، كما أن حديث أبي ذر – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – المتقدم في هذا الكتاب المبارك: (.......) يشهد له فاعلم، والله تعالى أعلم.(2/16)
". نسأل الله الكريم المجيد، أن يمن علينا بتحقيق التوحيد، وقطع الأمل من جميع العبيد، إنه فعال لما يريد.(2/17)
نماذج من توحيد العبادة
(توحيد الألوهية)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
بسم الله الرحمن الرحيم
نماذج من توحيد العبادة
"توحيد الألوهية"
تقدم الكلام عن بيان أقسام توحيد ذي الجلال والإكرام، أن توحيد العبادة يقوم على ركنين ركنين، ويشيد بناءه على دعامتين متينتين، وهما: إفراد الله - جل وعلا - بالعبادة، وإفراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمتابعة، لتكون عبادته - جل جلاله - بما شرع بالأهواء والبدع إياك أريد، بما تريد، وهذا هو مدلول كلمة التوحيد، لا إله إلا الله، محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن أجله أوجد الله العبيد.
وقد تقدم البيان - أيضاً - أن الكلام في هذا النوع من توحيد ربنا الرحمن هو من باب الإنشاء فهو توحيد في القصد والطلب، في الإرادة والعمل، ولذلك ينحصر موقف المكلف نحوه في أمرين لا ثالث لهما، وهما: الامتثال مع الحب، أو الإعراض مع البغض.
وكنت أشرت فيما سبق أن أكثر الناس في القديم والحديث، أعرضوا عن هذا النوع من التوحيد وعكفوا على عبادة الطواغيت، ولما كان الأمر كذلك، سأستعرض من توحيد العبادة بعض النماذج ليحذر المهتدي من المهالك، ويفوز برضوان الرب المالك.
أولا الخوف والرجاء:(3/1)
.. لابد لسالك طريق الآخرة من إفراده ربه بخوفه ورجائه، فبذلك تستقيم أفعاله، وتصلح أحواله وتحسين عاقبته ومآله، فيبتعد عن الأمن من مكر الله – جل وعلا – والقنوط من رحمته، إذ لا يقود إلى فعل الفضائل الموصلة إلى النعيم، وترك الرذائل المردية في العذاب الأليم، إلا خوف مالك يوم الدين، ورجاء رحمة الرحمن الرحيم، ومن أجل ذلك كان الخوف والرجاء للإنسان، بمنزلة جناحي طائر الحيوان، قال أبو علي الروذباري – عليه رحمة ربنا الباري –: الخوف والرجاء كجناحي الطائر، إذا استويا استوى الطائر، وتم طيرانه، وإذا نقص أحدهما وقع فيه النقص، وإذا ذهبا صار الطائر في حد الموت (1) .
__________
(1) انظر نسبة ذلك إليه في مدارج السالكين: (2/36) ، والروذباري بضم الراء وسكون الواو والذال المعجمة، وفتح الباء الموحدة وبعد الألف راء، ويقال هذا لمواضع عند الأنهار الكبار، فيقال لها: الروذبار، وهي موضع عند طوس ينسب إليها أو علي محمد بن أحمد بن القاسم الروذباري الصوفي سحب الجنيد، وكان فقيهاً محدثاً نحوياً، وله شعر رقيق، توفي سنة ثلاثة وعشرين وثلاثمائة كما في اللباب: (2/41) ، وانظر ترجمته المباركة في تاريخ بغداد: (1/329-333) ، وفيه أقام بمصر وصار شيخ الصوفية، ورئيسهم بها، وله تصانيف حسان في التصوف نقلت عنه، وكان من أهل الفضل والفهم، وقيل له: من الصوفي؟ فقال: ومن لبس الصوف على الصفا، وسلك طريق المصطفى – صلى الله عليه وسلم – وأطعم الهوى ذوق الجفا، وكانت الدنيا منه على القفا، وانظر ترجمته في الحلية: (10/356-357) ، والبداية والنهاية (11/180-181) ، والرسالة القشيرية: (1/185) وفيما تقدم من الكتب الثلاثة الأخيرة، وفي كف الرعاع عن المحرمات اللهو، والسماع مطبوع في نهاية الزواجر: (2/284) ، سئل عمن يستمع الملاهي لأنه وصل إلى درجة لا تؤثر فيه اختلاف الأحوال فقال: نعم قد وصل، ولكن وصوله إلى سقر، وكان يقول كما في الحلية: في اكتساب الدنيا مذلة النفوس، وفي اكتساب الآخرة عزها، فيا عجبا لمن يختار المذلة في طلب ما يفنى على العز في طلب ما يبقى، وانظر بيان حاله أيضاً في صفوة الصفوة: (2/454-455) ، وطبقات الصوفية: (497-500) والطبقات الكبرى للشعراني: (1/145) ، وشذرات الذهب: (2/296-297) .(3/2)
وقال الحسن البصري – رحمه الله تعالى – الخوف والرجاء مطيتا المؤمن (1) .
... وقد وصفت آيات القرآن الكريم عباد الله المخلصين، بالجمع بين الخوف من رب العالمين، وبين رجاء رحمة أرحم الراحمين، قال ربنا الكريم – وهو أصدق القائلين –: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} الأنبياء90، وضمائر الجمع تعود للأنبياء المتقدم ذكرهم في السورة – على نبينا وعليهم صلوات الله وسلامه –، والمعنى: إن من تقدم ذكرهم من الأنبياء – على نبينا وعليهم الصلاة والسالم – كانوا يبادرون إلى فعل الخيرات، ويجدون في عمل الحسنات، وهم مع ذلك راغبون في رحمتنا، راجون لها، وراهبون عن غضبنا خائفون منه (2) ،
__________
(1) انظر نسبة ذلك إليه في حلية الأولياء: (2/156) .
(2) وهذا هو الراجح في عود الضمائر كما في روح المعاني: (17/87) ، فقال: وعليه المعول وعليه وقع الاقتصار في تفسير الجلالين: (263) ، وقيل إن الضمائر تعود لأقرب مذكور، وهم زكريا وامرأته ويحيى – على نبينا وعليهم الصلاة والسلام – وقد حكى ابن الجوزي في زاد المسير: (5/385) القولين دون ترجيح، وذكر ابن كثير في تفسيره: (3/193-192) ما يفيد ترجيح القول الثاني حيث ساق رواية ابن أبي حاتم عن عبد الله بن حكيم، قال: خطبنا أبو بكر – رضي الله تعالى عنه – ثم قال: أما بعد فإني أوصيكم بتقوى الله، وتثنوا عليه بما هو له أهل، وتخلطوا الرغبة بالرهبة، وتجمعوا الإلحاف بالمسألة ويدعوننا رغبا ورهباً، وانظر الخطبة كاملة في الحلية: (1/35) ..(3/3)
وأخبر ربنا – جل وعلا - في سورة الإسراء أن من عبدوا من دون الله من الصالحين يتنافسون في طاعة رب العالمين، ويرجون رحمته، ويخافون عذابه الأليم، فقال – جل جلاله –: {قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} الإسراء56-57، وفي تفسير ابن كثير لقول الله الجليل: "وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ" لا تتم العبادة إلا بالخوف والرجاء، فبالخوف ينكف عن المناهي، وبالرجاء يكثر من الطاعات (1) ،
__________
(1) انظر تفسير ابن كثير: (3/47) ، وأوضح ما عني بالآية الكريمة ما رواه البخاري في صحيحه – كتاب التفسير – سورة الإسراء باب "6،7" في تفسير الآية المتقدمة: (8/397-398) بشرح ابن حجر ورواه الحاكم في المستدرك – كتاب التفسير – تفسير سورة الإسراء: (2/362) ، وقال هذا حديث صحيح ابن جرير في تفسير: (15/72) ، وأبو نعيم في الدلائل: (126) ، ورواه عبد الرزاق، والفريابي وسعيد بن منصور، وابن شيبة، والنسائي، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، كما في الدر المنثور: (4/189) عن ابن مسعود – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – قال: كان ناس من الإنس يعبدون ناساً من الجن، فأسلم الجن، وتمسك هؤلاء بدينهم، هذا لفظ البخاري وفي لفظ لابن جرير وأبي نعيم: فأسلم النفر من الجن، واستمسك هؤلاء – الإنس – بعبادتهم، فأنزل الله: "أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ" الآية، قال الحافظ في الفتح: (8/397) : وهذا هو المعتمد في تفسير هذه الآية.
هذا وقد روى ابن جرير في تفسيره: (15/73) عن ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه – قولاً ثانياً في بيان المراد بالآية الكريمة، وهو: كان قبائل من العرب يعبدون صنفاً من الملائكة، يقال لهم الجن، ويقولون: هم بنات الله، فأنزل الله – عز وجل –: "أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ" الآية، وبعد أن رجح الإمام الطبري القول الأول مال أيضاً إلى قبول الثاني، واحتمال الآية له، فقال: وأولى الأقوال بتأويل هذه الآية قول عبد الله بن مسعود ... ولا قول في ذلك إلا قول من قال ما اخترنا فيه من التأويل، أو قول من قال هم الملائكة، وهما قولان يحتملهما التنزيل، وقد حكى ابن كثير في تفسير: (3/47) ترجيح ابن جير للقول الأول، ولم يتعرض لبيان موقفه من القول الثاني، قال الحافظ في الفتح: (8/397) ، وإن ثبت ذلك فمجمول على أنها نزلت في الفريقين، وإلا فالسياق يدل على أنهم قبل الإسلام كانوا راضين بعبادتهم، وليست هذه من صفات الملائكة، وفي رواية سعيد بن منصور عن ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه – في حديث الباب: "فعيرهم الله بذلك" وقد وري قول ثالث في بيان المراد بالآية المباركة في تفسير ابن جرير: (15/73) ، وغيره فانظر الدر: (4/190) عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – هم: عيسى وأمه وعزير، والشمس والقمر، وقد رد ذلك ابن جرير تمسكاً بأن الآية في بيان ما كان حاصلاً في عهد النبي – صلى الله عليه وسلم –، ومعلوم أن عيسى وأمه وعزيراً لم يكونوا موجودين إذ ذاك، فكيف يبتغون إلى ربهم الوسيلة؟ فهم إذن لا سبيل لهم في ذلك الوقت إلى العمل كما هو حال الشمس والقمر، ويضاف إلى هذا ما قرره الحافظ في الفتح: (397) من ضعف طرق تلك الرواية، وفيه: تنبيه: استشكل ابن التين قوله: "ناساً من الجن من حيث أن الناس ضد الجن، وأجيب بأنه على قول من قال: إنه من ناس إذا تحرك، أو ذكر للتقابل حيث قال: ناس من الإنس، وناساً من الجن، وياليت شعري على من يعترض؟.(3/4)
وبذلك وصف الله الكريم المؤمنين في سورة السجدة وأخبرهم عما لهم من الأجر العظيم، فقال – عز سلطانه المتين: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} السجدة15-17.
... وقد أمرنا ربنا الكبير برجاء ثوابه الجليل، والخوف من عقابه الوبيل، فقال – جل جلاله – في سورة الأعراف: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} الأعراف55-56.(3/5)
.. وقد أخبرنا خاتم الأنبياء – صلى الله عليه وسلم – أن من تحقق بالخوف والرجاء، فقد حظي برضوان رب الأرض والسماء، ففي سنن الترمذي، وابن ماجه عن أنس – رضي الله تعالى عنه – قال: دخل النبي – صلى الله عليه وسلم – على شاب، وهو في الموت، فقال: "كيف تجدك؟ " قال: والله يا رسول الله إني أرجو الله، وإني أخاف ذنوبي، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن، إلا أعطاه الله ما يرجو، وآمنه مما يخاف (1) .
__________
(1) انظر سنن الترمذي – كتاب الجنائز – باب الجنائز – باب "11": (3/364) ، وقال الترمذي هذا حديث سحن غريب، وسنن ابن ماجه – كتاب الزهد – باب ذكر الموت والاستعداد له: (2/1423) ، ورواه النسائي في السنن الكبرى أيضاً كما في تخريج أحاديث الإحياء: (4/141) ، وفيه: قال النووي إسناده جيد، وهو في كتاب عمل اليوم والليلة لابن السني: (201-202) – باب ما يستحب من جواب المريض –، وعزاه السيوطي في الجامع الكبير (1/922) إلى أبو يعلى، وشعب الإيمان للبيهقي.(3/6)
.. والخوف والرجاء متلازمان، فكل منهما يستلزم الآخر، فكل خائف راج، وكل راج خائف، كما قال الإمام ابن القيم – عليه رحمة الله – وقال: ولأجل هذا حسن وقوع الرجاء في موضع يسحن فيه وقوع الخوف، قال الله – تبارك وتعالى –: {مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} نوح13، قال كثير من المفسرين المعنى: ما لكم لا تخافون الله عظمة؟ قال: والرجاء بمعنى الخوف، والتحقيق: أنه ملازم له، فكل راج خائف من فوات مرجوه، والخوف بلا رجاء يأس وقنوط، وقال – تبارك وتعالى –: {قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُون أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كَانُوا يَكْسِبُونَ} الجاثية14، قالوا في تفسيرها: لا يخافون وقائع الله بهم، كوقائعه بمن قبلهم من الأمم (1) .
__________
(1) انظر مدارج السالكين: (2/51) ، وانظر النص على تلازمهما في المفردات: (190) – كتاب الراء – والإحياء: (4/160) ، وقد قرر أئمة اللغة أن لفظ الرجاء من الأضداد يستعمل في الأمل، كما يستعمل في الخوف والوجل، انظر الأضداد للأصمعي: (23) ، وللسيجستاني: (81) ولابن السكيت: (179) وذيل الأضداد للصفاني: (230) ومن مجيئه بمعنى الأمل قول الله – عز وجل –: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} الإسراء57، وقوله – جل وعلا –: في نفس السورة: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً} الإسراء28، وقوله – عز وجل – في سورة القصص: {وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِّلْكَافِرِينَ} القصص86، ومنه قول كعب بن زهير – رضي الله تعالى عنه – في قصيدة "بانت سعاد": ضمن مجموع مهمات المتون: (78) :
أرجو وآمُلُ أنْ تدنو مودتها ... وما إخالُ لدينا منك تَنْويلُ
قال السيجستاني في الأضداد: (80) أراد الطمع 10هـ ومنه ما في تفسير القرطبي: (3/18) قال الشاعر:
أترجو أمة قَتَلَتْ حُسَيْنا ... شفاعة جدّه - صلى الله عليه وسلم - يومَ الحساب
ومن مجيئه بمعنى الخوف والوجل الآيتان المتقدمان في كلام الإمام ابن القيم – عليه رحمة الله تعالى، وقد نص على كون الرجاء في الآية الأولى بمعنى الخوف الأصمعي في الأضداد: (23) ، والسيجستاني في الأضداد: (81) ، وابن السكيت في الأضداد أيضاً: (79) ، وفي تلك الكتب الثلاثة ومعاني القرآن للفراء: (2/265) ، واللفظ له: وأنشدني بعضهم:
لا تَرْتجي حين تلاقي الذائدا ... أسبعة لاقتْ معاً أم واحدا
أي: لا تخاف ولا تبالي 10هـ والذائد هو المحامي المدافع، والبيت غير منسوب في الجميع، قال الفراء: وهي لغة تهامية يضعون الرجاء في موضع الخوف، إذا كان معه جحد، وفي الإتقان: (2/111) نقلاً عن السهيلي: إنها لغة هذيل: وفي الأضداد للسيجستاني: إنها لغة هذيل، وكنانة، ونصر، وخزاعة، وفي الأضداد للأصمعي: (24) ، وابن السكيت: (179) ، قال يونس:
إذا أهل الكرام يكرموني ... فلا أرجو الهَوَان من اللئام
وانظر شواهد أخرى فيما تقدم، وفي اللسان: (19/23-24) "رجا" ومجاز القرآن: (2/73) ، ومن احتمال لفظ لرجاء للوجل والأمل قول الله – جل وعلا – في سورة الفرقان: (21) {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوّاً كَبِيراً} الفرقان21، كما في تفسير القرطبي: (18/19) ، ونقل عنه ذلك شيخنا في الأضواء: (6/303-304) ، وأقره ومنه قول الله – جل وعلا – في سورة النساء: {وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً} النساء104 كما في روح المعاني: (5/138) .(3/7)
.. وتحقيقاً لاستلزام كل من الخوف والرجاء للآخر، كان المؤمن يخاف من رد طاعته، ويرجو قبولها، ويخاف من العقوبة على ذنوبه، ويرجو غفرانها، ويخاف من وقوعه في النار، ويرجو السلامة منها، ويخاف من طرده من الجنة، ويرجو نيلها ودخولها.
... وذانك الأمران مع أنهما متلازمان، فهما ركنا محبة الرحمن – جل وعلا – وعلى ذلك مدار الإيمان، قال الإمام ابن القيم – نور الله مرقده –: وعلى حسب المحبة وقوتها يكون الرجاء، فكل محب راج خائف بالضرورة، فهو أرجى ما يكون لحبيبه أحب ما يكون إليه، وكذلك خوفه، فإنه يخاف سقوطه من عينه، وطرد محبوبه له، وإبعاده، واحتجابه عنه، فخوفه أشد خوف، ورجاؤه ذاتي للمحبة، فإنه يرجوه قبل لقائه والوصول إليه، فإذا لقيه ووصل إليه اشتد الرجاء له، لما يحصل له به من حياة روحه، ونعيم قلبه من ألطاف محبوبه، وبرده وإقباله عليه، ونظره إليه بعين الرضى، وتأهيله في محبته وغير ذلك مما لا حياة للمحب، ولا نعيم ولا فوز إلا بوصوله إليه من محبوبه، فرجاؤه أعظم رجاء، واجل وأتمه، فتأمل هذا الموضع حق التأمل، فإنه يطلعك على أسرار عظيمة من أسرار العبودية والمحبة فكل محبة فهو مصحوبة بالخوف والرجاء، وعلى قدر تمكنها من قلب المحب يشتد خوفه ورجاؤه، لكن خوف المحب لا يصحبه وحشة، بخلاف خوف المسيء، ورجاء المحب لا يصحبه علة بخلاف رجاء الأجير وأين رجاء المحب من رجاء الأجير؟ وبينهما كما بين حاليهما 10هـ.(3/8)
.. وعلى المحبة وركنيها يقوم الدين، وإلى ذلك أشار رب العالمين، فقال في سورة الإسراء في وصف عباده المخلصين، الذين تحققوا بمقامات الدين: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} الإسراء57، قال الإمام ابن القيم – رحمه الله تعالى – ابتغاء الوسيلة إليه: طلب القرب منه بالعبودية والمحبة، فذكر مقامات الإيمان الثلاثة التي عليها بناؤه، الحب، والخوف، والرجاء (1) .
__________
(1) انظر مدارك السالكين: (2/42-43، 43، 35) ، ومثله في طريق الهجرتين: (363) ، وانظر تنصيص شيخ الإسلام ابن تيمية – عليه رحمة رب البرية – على كون محركات القلوب إلى الله – عز وجل – ثلاثة: المحبة والخوف والرجاء في مجموع الفتاوى: (1/95) ، وقرر أيضاً في التحفة العراقية في الأعمال القلبية ضمن مجموع الفتاوى: (10/61) أن المحبة أصل كل عمل ديني، والخوف والرجاء يستلزمان المحبة ويرجعان إليها، ونحوه في إحياء علوم الدين: (4/163) .(3/9)
.. وإذا فرط الإنسان في بعض تلك المقامات، وقع الهلاك والآفات، ولذلك قرر سلفنا أهل العقول الزاكيات أن من عبد الله بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد صديق، ومن عبده بالحب فقط فهو شقي زنديق، ومن عبده بالخوف فقط فهو حروري، ومن عبده بالرجاء فقط فهو مرجئي (1) .
__________
(1) هو قول مكحول الدمشقي كما في الإحياء: (4/163) ، وكرر الإمام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم – عليهم جميعاً رحمة الله تعالى – الاستشهاد بذلك الكلام، وترداده في كثير من كتبهما العظام انظر مجموع الفتاوى: (10/81، 207، 15/21) ، وبدائع الفوائد: (3/11) ، وانظره في شرح الطحاوية: (283) ، ومكحول الدمشقي تابعي من رجال مسلم والسنن الأربعة مات سنة بضع وعشرة ومائة – رحمه الله تعالى – كان إمام الشام في زمانه، وهو أفقه من الزهري، انظر هذا وغيره من ترجمته العطرة في تذكرة الحفاظ: (1/107-108) ، وطبقات ابن سعد: (7/453-454) ، والبداية والنهاية: (9/305) وميزان الاعتدال: (4/177) ، وتهذيب التهذيب: (10/289-293) ، وشذرات الذهب: (1/146) .
ومعنى قوله: من عبد الله بالحب فقط فهو زنديق، ما وضحه شيخ الإسلام، وتلميذه ابن القيم الهمام – عليهما رحمة رب الأنام – وخلاصة ما في مجموع الفتاوى وبدائع الفوائد في الأمكنة المتقدمة: أن المحبة إذا لم تقرن بالخوف فإنها تضر صاحبها، لأنها توجب الإدلال والانبساط، كما ينبسط الإنسان في محبة الإنسان مع جهله وحمقه، ويقول أنا محب، فلا أؤاخذ بما أفعله ويكون فيما يفعله عدوان وجهل وهذا عين الضلال، وهو شبيه بقول اليهود والنصارى: {نَحْنُ أَبْنَاء اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} المائدة18، والذين توسعوا في سماع القصائد المتضمنة للحب والشوق، واللوم والعذل والغرام كان هذا أصل مقصدهم، قال الشيخ وتلميذه – عليهما رحمة الله تعالى –: وحدثني رجل أنه أنكر على رجل من هؤلاء خلوة له ترك فيها حضور الجمعة، فقال له: أليس الفقهاء يقولون إذا خاف على شيء من ماله فإن الجمعة تسقط عنه؟ فقال له: بلى، فقال له: فقلب المريد أعز عليه من ضياع عشرة دراهم، وهو إذا خرج ضاع قلبه، فحفظه لقلبه مسقط للجمعة في حقه، فقال له: هذا غرور، بل الواجب عليه الخروج إلى أمر الله، وحفظ قلبه مع الله، فتأمل كيف آل الأمر بهؤلاء إلى الانسلاخ عن الإسلام جملة، فإن من سلك هذا المسلك انسلخ عن الإسلام العام كانسلاخ الحية من قشرها، وهو يظن أنه من خاصة الخاصة، وسبب هذا عدم اقتران الخوف من الله – جل وعلا – بحبه، وذلك كان المشايخ المصنفون في السنة يذكرون في عقائدهم مجانبة من يكثر دعوى المحبة والخوض فيها من غير خشية، وقد آل الأمر ببعضهم إلى استحلال المحرمات بدعوى أن المحب لا يضره ذنب.
قال مقيد هذه الكلمات – غفر الله له السيئات –: وقد عانيت في حداثة سنة من ظلال الصوفية ما عانيت، ولما لمت بعضهم في تقديس من هو متلبس بكل نقيصة وتارك لكل فريضة، أجابني بأن أصوله لهم عند الله مقام، والفرع منهم ولو مال، كما هو الحال في أغصان الأشجار، وخبرني جاهل ضال أن شيخهم المريد يقول لهم: لا تخافوا أولادي من النار، فإذا كان يوم القيامة وضعتكم في رقبتي كما توضع القلادة في عنق المرأة، وطرت فوق جهنم إلى الجنة، فقلت له، وإذا سقط الشيخ فماذا سيكون حالكم، وانظر لزاماً ما لبسه الشيطان على من ادعى محبة الرحمن، دون خشيته في السر والإعلان في كتاب تلبيس إبليس: (341-350) فقد وصل الشطط ببعضهم أن قال يخوفنا الله بالنار، ما النار؟ لو رأيتها لأطفأتها بطرف مرقعتي، ولو بصق المحب على النار لأطفأها، سبحانك سبحانك هذا بهتان عظيم، وقائله شيطان رجيم، ويقصد بقوله: ومن عبده بالرجاء فقط فهو مرجئي: ما آل إليه غالبية المرجئة وزنادقتهم من أن النار لا يدخلها أحد من أهل التوحيد، ولا يضر مع الإيمان ذنب، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وهذا قول مخترع في دين الله – جل وعلا – لم يقل به أحد من السلف الكرام كما في مجموع الفتاوى: (7/181، 501) ، قال شيخنا محمد الحامد – عليه رحمة الله تعالى – ردود على أباطيل: (118) وقال قائلهم – أي قائل غلاة المرجئة –:
متْ مُسلماً ومن الذنوب فلا تخف ... حاشا المهيمن أن يرى تنكيدا
لو رامَ أن يصليك نار جهنم ... ما كان ألهمَ قلبك التوحيدا
فمن تقلد تلك النحلة الخبيثة دعاه ذلك إلى التفريط في الواجبات، وإلى ارتكاب الموبقات تعويلاً على رجاء رب الأرض والسموات بسبب ما عنده من إيمان، حسبما يوسوس له الشيطان.
ويراد بقوله: ومن عبد الله بالخوف فقط فهو حروري: أن هذا مسلك الخوارج، فهم الحرورية، فالخوارج تلك الفرقة الضالة على أمير المؤمنين عليّ – رضي الله تعالى عنه – وكان خروجهم في قرية بظاهر الكوفة تسمى حوراء فنسبوا إليها، وفي صحيح مسلم – كتاب الحيض – باب وجوب قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة: (4/27) بشرح الإمام النووي عن معاذة أن امرأة سألت عائشة – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – فقالت: أتقضي إحدانا الصلاة أيام محيضها؟ فقالت عائشة – رضي الله تعالى عنها –: أحرورية أنت؟ قد كانت إحدانا تحيض على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ثم لا تؤمر بقضاء، قال الإمام النووي – عليه رحمة الله تعالى – قولها: أحرورية أنت؟ هو بفتح الحاء المهملة، وضم الراء الأولى، وهي نسبة إلى حوراء وهي قرية بقرب الكوفة، قال السمعاني: هو موضع على ميلين من الكوفة، كان أول اجتماع الخوارج به، قال الهروي: تعاقدوا في هذه القرية فنسبوا إليها، فمعنى قول عائشة – رضي الله تعالى عنها –: أن طائفة من الخوارج يوجبون على الحائض قضاء الصلاة الفائتة في زمن الحيض وهو خلاف إجماع المسلمين، وهذا الاستفهام الذي استفهمته عائشة – رضي الله تعالى عنها – هو استفهام إنكار، أي: هذه طريقة الحرورية، وبئست الطرقة 10هـ.
وطريقة الخوارج الحرورية قائمة على التصديق بنصوص الوعيد دون الوعد فهي عكس طريقة غلاة المرجئة كما في مجموع الفتاوى: (8/270) ، وعليه فليس عبادة الحرورية رجاء، إنما هي خوف وعناء، وأهل السنة الأتقياء قامت عبادتهم لرب الأرض والسماء على المحبة والخوف والرجاء.
فائدة:
لفظ المقام الوارد في كلام الإمام ابن القيم – عليه رحمة ربنا الرحمن – خلاصة الأئمة في بيان حقيقته: أن الواردات التي ترد على القلوب في طاعة علام الغيوب لها أسماء باعتبار أحوالها فتكون لوامع وبوارق ولوائح عند أول ظهورها وبدورها، فإذا أحلت في القلب وباشرته كانت أحوالا، فإذا تمكنت منه، وثبتت له من غير انتقال، فهي مقامات، قالوا ردات لوامع وبوارق ولوائح في أولها، وأحوال في وسطها، ومقامات في نهاياتها، فتنوعت العبارات لتنوع الاعتبارات، انظر تفصيل ذلك في مدارج السالكين: (1/135-139) ، والرسالة القشيرية: (1/204) والتعريفات: (203) ، وعوارف المعارف على هامش الإحياء: (4/281-298) وإحياء علوم الدين: (4/139) وأشار إلى المقامات والأحوال الشيخ ابن تيمية في أول التحفة العراقية ضمن مجموع الفتاوى: (10/5)(3/10)
.. قال عبد الرحيم الطحان – غفر الله له جميع الذنوب والآثام -: إذا كان الخوف والرجاء من مقامات الإيمان، وعليهما تتوقف سعادة الإنسان، فهما له كالجناحان لطائر الحيوان، فينبغي اعتدالهما في سائر الأزمان، والحكم الذي في حق متقي الرحمن، المتصف بكمال الإيمان، لكن لما كان أكثر الخلق ذوو تفريط وعصيان، قرر العلماء الكرام، تعليب الوجل على الأمل ما لم يحضر الأجل، بشرط أن لا يخرجه ذلك إلى اليأس المفضي إلى ترك العمل، ولا يؤدي به إلى القنوط الموصل إلى قطع الطمع من مغفرة الزلل، وأما عند نزول الموت، فالأصلح للإنسان تغليب الرجاء على الخوف، لثلاثة أسباب قررها أولو الألباب:
السبب الأول:
الخوف كالسوط الباعث على العمل، والحاجز المانع من الوقوع في الزلل، وليس ثمة عمل، ولا مجال لوقوع الجوارح في الخلل، فالخوف في هذه الحالة يقطع قلبه، ويعجل موته، ولا فائدة في ذلك، أما الرجاء فيقوي القلب، ويحبب إليه لقاء الرب – جل وعلا – وهي الفائدة الثانية فدونكها بدليلها.
السبب الثاني:(3/11)
.. غلبة الرجاء عند السياق تحبب إلى العبد لقاء الرب الخلاق – جل جلاله – فيحب الله لقاءه، ثبت في صحيح مسلم وغيره عن أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنها – قالت: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "من أحب لقاء الله أحب الله لقائه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه" فقلت: يا نبي الله، أكراهية الموت؟ فقال: " ليس كذلك، ولكن المؤمن إذا بشر برحمة الله ورضوانه وجنته، أحب لقاء الله، فأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا بشر بعذاب الله وسخطه كره لقاء الله، وكره الله لقاءه"، وفيه أيضاً عن شريح بن هانئ أنه سمع أبا هريرة – رضي الله تعالى عنه – يقول: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - "من أحب لقاء الله أحب الله لقائه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه"، قال: فأتيت عائشة – رضي الله تعالى عنها – فقلت: يا أم المؤمنين سمعت أبا هريرة يذكر عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حديثاً، إن كان كذلك فقد هلكنا، فقالت: إن الهالك من هلك بقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وما ذاك؟: قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "من أحب لقاء الله أحب الله لقائه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه" وليس منا أحد إلا ويكره الموت، فقالت: قد قاله رسول الله – صلى الله عليه وسلم –، وليس بالذي تذهب إليه، ولكن إذا شخص البصر، وحشرج الصدر، واقشعر الجلد، وتشنجت الأصابع، فعند ذلك "من أحب لقاء الله أحب الله لقائه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه (1)
__________
(1) انظر روايات الحديث الشريف المتعددة مع اتفاقها في الدلالة على أن من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه فيما يأتي مع بيان رواتها:
أولا: رواية أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنها – في صحيح البخاري – كتاب الرقاق – باب من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه –: (11/357) بشرح ابن حجر، وصحيح مسلم – كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار – باب من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه: (4/2065) ، وسنن الترمذي – كتاب الجنائز – باب ما جاء فيمن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه: (4/21) ، وأشار إلى روايتها أيضاً في كتاب الزهد – باب ما جاء من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه –: (7/72) ، وسنن النسائي – كتاب الجنائز – باب فيمن أحب الله لقاءه –: (4/8-9) ، وسنن ابن ماجه – كتاب الزهد – باب ذكر الموت والاستعداد له –: (2/1425) ، والمسند: (6/44، 55، 207، 218، 236، 218، 236) ، ومسند الحميدي: (1/111) .
ثانياًَ: رواية عبادة بن الصامت – رضي الله تعالى عنه – في صحيح البخاري، وصحيح مسلم، وسنن النسائي – في الأمكنة المتقدمة – وسنن الترمذي في المكانين المتقدمين، والمسند: (5/316، 321) ، وسنن الدارمي – كتاب الرقاق – باب في حب لقاء الله –: (2/312) ، ومسند الطيالسي – منحة المعبود – كتاب الجنائز – باب ما جاء في حسن الظن بالله والكشف لكل إنسان عن مصيره –: (1/153) ، وتاريخ بغداد: (6/272) .
ثالثاً: رواية أبي موسى الأشعري – رضي الله تعالى عنه – في الصحيحين، وأشار إليه الترمذي في المكانين المتقدمين.
رابعاً: رواية أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – في صحيح البخاري – كتاب التوحيد – باب "35": (13/466) ، بشرح ابن حجر والموطأ: كتاب الجنائز – باب جامع الجنائز –: (1/240) ، وصحيح مسلم، وسنن النسائي – في المكانين المتقدمين، وأشار إليه الترمذي في المكانين المتقدمين أيضاً، والمسند: (2/313، 346، 418، 420، 451) ، وتاريخ بغداد: (12/311) .
خامساً: رواية أنس – رضي الله تعالى عنه – في المسند: (3/107) ، وأشار إليها الترمذي في المكان الثني.
سادساً: رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى عن فلان بن فلان الذي سمع النبي – صلى الله عليه وسلم – في المسند: (4/459) .(3/12)
"
وفي المسند، ومعجم الطبراني بسند حسن عن معاذ بن جبل – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: إن شئتم أنبأتكم أول ما يقول الله – عز وجل يوم القيامة وما أول ما يقولون له، قلنا: نعم يا رسول الله، قال: إن الله – عز وجل – يقول للمؤمنين: هل أحببتم لقائي؟ فيقولون: نعم يا ربنا، فيقول: لم؟ فيقولون: رجونا عفوك ومغفرتك، فيقولون: قد وجبت لكم مغفرتي"، وفي رواية الطبراني: "فيقولون: رجونا رحمتك وعفوك، فيقول: وقد وجبت لكم رحمتي (1) ".
السبب الثالث:
__________
(1) انظر المسند: (5/238) ، ومجمع الزوائد – كتاب البعث – باب ما يقول الله تعالى للمؤمنين: (10/358) ، وفيه: رواه الطبراني بسندين، أحدهما حسن، وابن أبي الدنيا في كتاب الموت كما في بلوغ الأماني: (7/38) .(3/13)
.. إذا غلب على عبد الرجاء، عند مفارقة دار الابتلاء، فإن ذلك سيدفعه لحسن ظنه برب الأرض والسماء، ونحن مأمورون بذلك في وقت الرجاء، فكيف في حال السياق؟ ثبت في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "يقول الله – عز وجل –: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، إن ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملأٍ خير منه، وإن تقرب إليّ شبراً، تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إليّ ذراعاً، تقربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي، أتيته هرولة" وفي المسند دخل واثلة ابن الأسقع – رضي الله تعالى عنه – على أبي الأسود في مرضه الذي مات فيه، فسلم عليه، وجلس، فأخذ أبو الأسود يمين واثلة فمسح بها على عينيه ووجهه لبيعته بها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال له واثلة: واحدة أسألك عنها، قال: وما هي؟، قال: كيف ظنك بربك؟، فقال أبو الأسود، وأشار برأسه، أي: حسن، فقال واثلة: أبشر فإني سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: "قال الله – عز وجل –: أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء (1)
__________
(1) الحديث رواه البخاري – كتاب التوحيد بسندين – باب "15"، وباب "35": (13/384، 466) ، بشرح ابن حجر، ومسلم – كتاب الذكر والدعاء – باب الحث على ذكر الله تعالى – وباب فضل الذكر والدعاء، والتقرب إلى الله تعالى: (4/2061، 2067) ، وكتاب التوبة – باب الحض على التوبة والفرح بها: (4/2102) – باب حسن الظن بالله تعالى –: (9/299) ، وابن ماجه – كتاب الأدب – باب فضل العمل: (2/1256) ، والمسند: (2/215، 315، 391، 413، 445، 480، 482، 516، 517، 524، 534، 539) ، وابن حبان – موارد الظمآن – كتاب الأدعية – باب حسن الظن بالله تعالى: (595) ، كلهم عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – وانظر رواية واثلة – رضي الله تعالى عنه – في المسند: (3/491، 4/106) ، والدارمي – كتاب الرقاق – باب حسن الظن بالله تعالى –: (2/305) ، ورواه الطبراني في الأوسط كما في مجمع الزوائد – كتاب الجنائز – باب حسن الظن بالله تعالى –: (2/318) ، وفيه: ورجال أحمد ثقات، ورواه ابن حبان – موارد الظمآن – كتاب الأدعية – باب حسن الظن بالله تعالى –: (595) ، والحديث روي عن أنس بن مالك – رضي الله تعالى عنهما – في المسند: (3/210، 277) ، قال الهيثمي في المجمع – المكان المتقدم – وفيه ابن لهيعة، وفيه كلام، وعزاه إلى يعلى في كتاب الأدعية – باب "ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة" وباب حسن الظن بالله تعالى –: (10/148) ، وقال: هو حديث حسن ورجاله رجال الصحيح، وقد روى الحديث الطبراني عن معاوية بن حيدة – رضي الله تعالى عنه – كما في المجمع – المكان المتقدم – وفيه: يحيى بن إبراهيم، ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات.(3/14)
".
... وفي صحيح مسلم وغيره عن جابر بن عبد الله – رضي الله تعالى عنهما – قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قبل موته بثلاثة أيام يقول: "لا يموتن أحدكم وهو يحسن الظن بالله – عز وجل – (1) . وقد كان ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه يقول: والله الذي لا إله إلا هو لا يحسن عبد بالله الظن إلا أعطاه ظنه، وذاك بأن الخير في يده (2) ، ولما حضرت سليمان التيميّ الوفاة قال لابنه: يا بني حدثني بالرخص، واذكر لي الرجاء حتى ألقى الله تعالى على حسن الظن به، وكذلك لما حضرت سفيان الثوري الوفاة، واشتد جزعه، جمع العلماء حوله يرجونه، وقال أحمد بن حنبل لابنه عند الموت: اذكر لي الأخبار التي فيها الرجاء، وحسن الظن بالله تعالى – رحمهم الله أجمعين – (3) .
__________
(1) انظر صحيح مسلم – كتاب الجنة – باب الأمر بحسن الظن بالله تعالى عند الموت –: (4/2205، وسنن أبي داود – كتاب الجنائز – باب ما يستحب من حسن الظن بالله تعالى عند الموت –: (3/484) ، وسنن ابن ماجه – كتاب الزهد - باب التوكل واليقين –: (2/1395) ، والمسند: (3/293، 315، 325، 330، 334، 390) ، ومسند الطيالسي – منحة المعبود – كتاب الجنائز – باب ما جاء في حسن الظن بالله تعالى –: (1/153) ، والحلية: (5/87،8/121) ، ورواه في: (5/246) عن واثلة – رضي الله تعالى عنه – ورواه الخطيب في تاريخ بغداد: (140/348) عن جابر، وفي: (1/396) عن أنس – رضي الله تعالى عنهم أجمعين –.
(2) قال الهيثمي في المجمع – كتاب الأدعية – باب حسن الظن بالله تعالى –: (10/148) ، رواه الطبراني موقوفاً ورجاله رجال الصحيح إلا أن الأعمش لم يدرك ابن مسعود – رضي الله تعالى عنهم -.
(3) انظر تلك الأخبار في الإحياء: (4/164) ، والأول في مختصر منهاج القاصرين: (327) .(3/15)
.. وجرياً على ما سبق من البيان، سأبدأ الكلام في الخوف من ربنا الرحمن، لمناسبته حال أكثر الأنام، وأسأله – جل وعلا – حسن الختام، والفوز بدار السلام، ونيل الرضوان، إنه كريم رحمن.
* خوف المكلفين من رب العالمين:
... ضبطاً لسير البحث بانتظام، سأتكلم عليه ضمن مراحل جسام، فدونكها يا أخا الإسلام.
تعريف الخوف: هو عبارة عن تألم القلب واحتراقه، وبسبب توقع مكروه في المستقبل عن أمارة مظنونة أو معلومة.
... وقد قرر العلماء الكرام أن كل ما يلاقي الإنسان من مكروه ومحبوب ينقسم إلى موجود في الحال، وإلى موجود فيما مضى في الاستقبال: فإذا خطر ببالك موجود فيما مضى سمي: ذكراً وتذكراً، وإن كان ما خطر ببالك موجوداً في الحال سمي: وجداً وذوقاً وإدراكاً، وذلك لأنه حالة تجدها في نفسك، وتحس بها وتدركها، وإن كان قد خطر ببالك وجود شيء في الاستقبال، وغلب على قلبك، سمي: انتظاراً وتوقعاً، فإن كان المنتظر مكروهاً حصل منه ألم في القلب سمي: خوفاً وإشفاقاً ووجلاً، وإن كان محبوباً حصل من انتظاره، وتعلق القلب به، وإخطار وجوده بالبال لذة في القلب وارتياح، سمي ذلك الارتياح: رجاءً أو أملاً (1) .
* الخوف من الرحمن كما تحدث عنه القرآن:
__________
(1) انظر تقرير ذلك في إحياء علوم الدين: (4/139، 152) ، ومختصر منهاج القاصرين: (316، 322) ، والمفردات: (161) – كتاب الخاء –، والتعريفات: (91) .(3/16)
.. وصف ربنا الكريم، عباده المقربين، السابقين منهم واللاحقين، بخشيته في كل حين، فقال في سورة الإسراء وهو أصدق القائلين: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} الإسراء57، وإذا كان هذا وصف الجن المؤمنين لما بلغتهم دعوة رب العالمين، فإن ذلك الوصف هو وصف أهل الكتاب الصادقين، وفي آخر السورة يقول ربنا العظيم: {وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} الإسراء105-109، روى الأئمة الكرام ابن المبارك في الزهد، والدارمي في سننه، والطبري في تفسيره، وأبو نعيم في الحلية عن عبد الأعلى التيمي – رحمهم الله جميعاً – قال: من أوتي من العلم مال ايبكيه لخليق أن لا يكون أوتي علماً ينفعه، لأن الله – تبارك وتعالى – نعت العلماء فقال: "إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً" الآية (1)
__________
(1) انظر كتاب الزهد: (41) ، وسنن الدارمي – المقدمة – باب من قال العلم الخشية وتقوى الله: (1/88) ، وجامع البيان: (15/121) ، وحلية الأولياء: (5/88) ، وانظره في زاد المسير: (5/98) ، ونسب السيوطي في الدر: (4/206) تخريجه إلى ابن أبي سيئيه، وابن المنذر، وابن أبي حاتم..(3/17)
وهذا المعنى قرره رب الأرض والسماء، فذكر أن الخشية منه هي خاصة العلماء، فقال – جل وعلا – في سورة فاطر: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} فاطر27-28، وقال – عز وجل – في سورة الزمر: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} الزمر9، فتلك صفات العلماء، ومن يتصف بها فهو من الأغبياء السفهاء، وفي سنن الدارمي باب بهذا الخصوص في المقدمة، وهو: باب من قال: العلم الخشية وتقوى الله – وفيه: قال مجاهد – رحمه الله تعالى – الفقيه: من يخاف الله عز وجل –.(3/18)
وسئل سعد بن إبراهيم من أفقه أهل المدينة؟ فقال: أتقاهم لربه – عز وجل – وعن عمران المنفزي قال: قلت للحسن يوماً في شيء قاله: يا أبا سعيد، ليس هكذا يقول الفقهاء، فقال: ويحك، ورأيت فقيهاً قط؟ إنما الفقيه الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، البصير بأمر دينه، المداوم على عبادة ربه، ثم بوب الدارمي باباً آخر فقال: باب التوبيخ لمن يطلب العلم لغير الله – جل وعلا – نقل فيه عن مسروق – رحمه الله تعالى – أنه قال: كفى بالمرء علماً أن يخاف الله – عز وجل – وكفى بالمرء جهلاً أن يعجب بعمله، وروي عن ابن عطاء – رحمه رب الأرض والسماء – أن نبي الله موسى – على نبينا وعليه الصلاة والسلام – قال: يا رب أي عبادك أغنى؟ قال: أرضاهم بما قسمت له، قال: يا رب أي عبادك أخشى لك؟ قال: أعلمهم بي، وعن الحسن البصري – رحمه الله تعالى – قال: كان الرجل إذا طلب العلم لم يلبث أن يرى ذلك في بصره وتخشعه، ولسانه ويده، وصلاته، وزهده 10هـ ولذلك قال الغزالي في الإحياء: وكل ما دل على فضيلة العلم دل على فضيلة الخوف، لأن الخوف ثمرة العلم (1) .
__________
(1) انظر تلك الآثار في سنن الدارمي – المقدمة – باب من قال: العلم الخشية وتقوى الله – عز وجل –: (1/88-89) ،وباب التوبيخ لمن يطلب العلم لغير الله – عز وجل – (1/102، 106 -107) ، وانظر كلام الغزالي في إحياء علوم الدين: (4/157) ، وانظر أثر نبي الله موسى – على نبينا وعليه الصلاة والسلام – في الزهد لابن المبارك: (75) ، وانظر بعض تلك الآثار وما في معناها في كتاب أخلاق العلماء: (57/1047) .(3/19)
.. وقد أخبرنا ربنا العلام أن من شروط الإيمان، الخوف من الرحمن، فقال في سورة آل عمران: {الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} آل عمران172-175، قال الغزالي – رحمه الرب الباري –: فأمر بالخوف، وأوجبه، وشرطه في الإيمان، فلذلك لا يتصور أن ينفك مؤمن عن خوف، وإن ضعف، ويكون ضعف خوفه بحسن ضعف معرفته وإيمانه (1) .
__________
(1) انظر إحياء علوم الدين: (4/158) ، وفي سبب نزول تلك الآيات الكريمات روايتان:
الرواية الأولى:
مال قاله ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما –: لما انصرف المشركون عن أحد، قالوا: لا محمداً، ولا الكواعب أردفتم، بئسما صنعتم، ارجعوا، فسمع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بذلك فندب المسلمين، فانتدبوا حتى بلغوا حمراء الأسد، فبلغ المشركين، فقالوا: نرجع من قابل، فرجع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فكانت تعد غزوة، فأنزل الله – جل وعلا –: " الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ " الآية.
الرواية الثانية:
قاله ابن عباس أيضاً – رضي الله تعالى عنهما – وهو منقول عنه في نهاية السبب الأول المتقدم، وفيه: وقد كان أبو سفيان قال للنبي – صلى الله عليه وسلم – موعدكم موسم بدر حيث قتلتم أصحابنا، فأما الجبان فرجع، وأما الشجاع فأخذ أهبة القتال والتجارة، فأتوه، فلم يجدوا به أحد، وتسوقوا، فأنزل الله – عز وجل –: " فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ " الآية.
انظر ذلك الأثر بشقيه في مجمع الزوائد – كتاب المغازي – باب منه في وقعة أحد –: (6/121) ، وقال رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير محمد بن منصور الجواز وهو ثقة، وقال السيوطي في الدر: (2/101) ، رواه النسائي والطبراني وابن أبي حاتم بسند صحيح، وقال الحافظ في الفتح: (8/228-229) أخرجه النسائي وابن مردويه ورجاله رجال الصحيح، إلا أن المحفوظ إرساله عن عكرمة ليس فيه ابن عباس – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – ومن الطريق المرسلة أخرجه ابن أبي حاتم وغيره.
وقد رجح ابن جرير في تفسيره: (4/121) السبب الأول، ومال إليه، لأن ذلك يوافق خروجهم وبهم الجراح والكلوم، وأما خروجهم لبدر بعد عام فلا يتأتى فيه ذلك لاندمال الجرح، وبرء الكلوم، وانظر تفصيل الروايات فيما ورد في سبب نزول هذه الآية فيه: (4/116-123) ، وزاد المسير: (1/503-507) ، وتفسير ابن كثير: (1/428-431) ، ولباب النقول: (54-55) ، وأسباب النزول: (87-88) ، وحمراء الأسد موضع على ثمانية أميال من المدينة المنورة كما في جامع البيان: (4/117) ، ومراصد الاطلاع: (1/424) .(3/20)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – عليه رحمة رب البرية –: دلت الآية على أن المؤمن لا يجوز له أن يخاف أولياء الشيطان، ولا يخاف الناس، كما قال – جل وعلا –: " فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ " المائدة: 44، فخوف الله: أمر به، وخوف أولياء الشيطان: نهي عنه، قال الله تعالى: " لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي " البقرة 150 فنهى عن خشية الظالم، وأمر بخشيته، وقال – جل وعلا –: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} الأحزاب39، وقال – جل وعلا –: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} البقرة40.(3/21)
.. وبعض الناس يقول: يا رب إني أخافك، وأخاف من لا يخافك، وهذا كلام ساقط لا يجوز، بل على العبد أن يخاف الله وحده، ولا يخاف أحداً، فإن من لا يخاف الله أذل من أن يخاف، فإنه ظالم وهو من أولياء الشيطان، فالخوف منه قد نهى الله عنه، وإذا قيل: قد يؤذيني، قيل: إنما يؤذيك بتسليط الله له، وإذا أراد الله دفع شره عنك دفعه، فالأمر لله، وإنما يتسلط على العبد بذنوبه، وأنت إذا خفت الله فاتقيته، وتوكلت عليه كفاك شر كل شر، ولم يسلطه عليك، فإنه قال: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} الطلاق3، وتسليطه يكون بسبب ذنوبه، وخوفك منه، فإذا خفت الله وتبت من ذنوبك، واستغفرته لم يسلط عليك، كما قال – جل وعلا –: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} الأنفال33، وفي الآثار: يقول الله تعالى – أنا الله لا إله إلا أنا، ملك الملوك، قلوب الملوك ونواصيهم بيدي، فمن أطاعني جعلت قلوب الملوك عليه رحمة، ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة، فلا تشغلوا أنفسكم بسب الملوك، ولكن توبوا إليّ وأطيعوني أعطفهم عليكم، ولما سلط الله العدو على الصحابة يوم أحد، قال: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} آل عمران165 (1) .
__________
(1) من سورة آل عمران، وانظر كلام شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى: (1/57-58، 14/203-206، ويتعلق بكلامه ثلاثة أمور، ينبغي بيانها ليحصل السرور:
الأمر الأول: الأثر القدسي الذي ذكره رواه الطبراني في الأوسط، وفيه إبراهيم بن راشد وهو متروك كما قال الهيثمي في مجمع الزوائد ك (5/249) ، ولفظه: عن أبي الدرداء – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "إن الله يقول: أنا الله لا إله إلا أنا مالك الملك، وملك الملوك، قلوب الملوك بيدي، وإن العباد إذا أطاعوني حولت قلوب ملوكهم عليهم بالرأفة والرحمة، وإن العباد إذا عصوني حولت قلوبهم عليهم بالسخط والنقمة، فساموهم سوء العذاب، فلا تشغلوا أنفسكم بالدعاء على الملوك، ولكن اشتغلوا بالذكر والتضرع ألفكم ملوككم"، وفي طبقات ابن سعد: (7/172) كان الحسن البصري – عليه رحمة الله تعالى – إذا قيل له: ألا تخرج فتغير؟ قال: إن الله إنما يغير بالتوبة، ولا يغير بالسيف. وفي: (7/164-165) قال الحسن: يا أيها الناس إنه والله ما سلط الله الحجاج عليكم إلا عقوبة، فلا تعارضوا عقوبة الله بالسيف ولكن عليكم السكينة والتضرع، وقال: لو أن الناس إذا ابتلوا من قبل سلطانهم صبروا ما لبثوا أن يفرج عنهم، ولكنهم يجزعون إلى السيف فيوكلون إليه، والله ما جاؤوا بيوم خير قط.
الأمر الثاني: آية آل عمران المصرحة بأن ما أصاب الصحابة الكرام يوم أحد فمن عند أنفسهم محمولة على ثلاثة أمور:
أحدهما: إن ذلك بسبب أخذكم الفداء يوم بدر ففي المسند: (1/31، 32) ، ومعجم الطبراني الكبير كما في مجمع الزوائد: (6/115) ، وتفسير ابن أبي حاتم كما في تفسير ابن كثير: (1/424) وسند المسند صحيح كما في تعليق الشيخ شاكر: (1/207، 219) رقم: (208، 221) عن عمر بن الخطاب – رضي الله تعالى عنه – قال: فلما كان يوم أحد من العام المقبل عوقبوا بما صنعوا يوم بدر من أخذهم الفداء، فقتل منهم سبعون، وفر أصحاب النبي عن النبي – صلى الله عليه وسلم – وكسرت رباعيته، وهشمت البيضة على رأسه، وسال الدم على وجهه، وأنزل الله – تبارك وتعالى –: "َوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا" الآية. بأخذكم الفداء.
وثبت في سنن الترمذي – كتاب السير – باب ما جاء في قتل الأسارى والفداء: (5/292-293) عن علي – رضي الله تعالى عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: "إن جبريل هبط عليه، فقال له: خير – يعني أصحابك، في أسارى بدر القتل أو الفداء على أن يقتل منهم قابل مثلهم" قالوا: الفداء، ويقتل منا، قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من حديث الثوري لا نعرفه إلا من حديث ابن أبي زائدة، وروى أبو أسامة هم هشام عن ابن سيرين عن علي عن النبي – صلى الله عليه وسلم – وروى ابن عون عن ابن سيرين عن عبيدة عن ا/لنبي – صلى الله عليه وسلم – مرسلاً هـ وقد صحح الشيخ الأرناؤوط في تعليقه على جامع الأصول: (8/206) إسناد الترمذي، فقال: إسناده صحيح 10هـ والحديث أخرجه الطبري في تفسيره: (4/110) عن عقيدة مرسلاً، وعن علي – رضي الله تعلى عنه – مرفوعاً، ورواه ابن حبان عن علي مرفوعاً – موارد الظمآن – كتاب المغازي والسير – باب في أسرى بدر –: (411) ونسبه السيوطي في الدر: (2/93) إلى ابن أبي شيبة وابن مردويه، ونسبه ابن كثير في تفسيره: (1/425) إلى النسائي – أي: في السنن الكبرى.
وعلى هذا القول فالصحابة الكرام – رضي الله تعالى عنهم – طلبوا الخيرتين، أخذ الفدية، وأن يقتل منهم سبعون فيما بعد طلباً لفضل الشهادة وشرفها، كما في تفسير الطبري: (4/110) عن عبيدة – رحمه الله تعالى –.
ثانيهما:
وقع ذلك بسبب معصية الرماة يوم أحد، ومفارقتهم مكانهم، وتركهم أمر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – نسب ابن الجوزي في تفسيره زاد المسير: (1/496) ذلك إلى ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – ومقاتل وكذلك فعل أبو حبان في البحر المحيط: (3/107) ، ولم أقف على نسبة ذلك إلى ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – من طريق ثابت صحيح، وقد نسبه إليه الفيروز آبادي في تنوير المقابس مطبوع على هامش الدر (1/218) لكن أنت خبير أن الكتاب بجملته مروي بسلسلة الكذب، لأنه من رواية السدي الصغير عن الكلبي عن أبي صالح، وأوهى الطرق عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – طريق الكلبي عن أبي صالح، وإذا انضم إلى ذلك رواية محمد بن مروان السدي الصغير فهي سلسلة الكذب، كما في الإتقان: (4/239) .
ثالثهما:
جرى ذلك بسبب مخالفتهم الرسول – صلى الله عليه وسلم – في الخروج من المدينة يوم أحد فإنه – صلى الله عليه وسلم – أمرهم بالتحصن فيها، فقالوا: بل نخرج، روى ذلك الطبري في تفسيره: (4/109) عن قتادة والربيع بن أنس، وعكرمة، والحسن، وابن جريج، ونسبه ابن الجوزي في زاد المسير: (1/496) إلى قتادة والربيع، ونسب السيوطي في الدر: (2/93) تخريج أثر الحسن وابن جريج إلى تفسير ابن أبي حاتم، ونسب تخريج ذلك القول إلى تفسير ابن المنذر عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما –.
واعلم أن ما قاله ابن كثير في تفسير: (1/425) : وقال محمد بن إسحاق، وابن جرير والربيع بن أنس، والسدي:"قل هو من عند أنفسكم" أي: بسبب عصيانكم لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – حين أمركم أن لا تبرحوا مكانكم فعصيتم ذلك، يعني: الرماة 10هـ فيه نظر، وغير مسلم، لأن ابن جرير لم يذكر في تفسيره إلى القول الأول والثالث، ولم يتعرض لمخالفة الرماة وهو القول الثاني، وذكر قول الربيع ضمن قول من قال بالقول الثالث فتأمل.
هذا وقد اقتصر البغوي في معالم التنزيل، والخازن في لباب التأويل: (444) الأول على هامش الثاني، على القول الأول وذكر القرطبي في تفسيره: (4/265) الأقوال الثلاثة وكذلك فعل الزمخشري في الكشاف: (1/477) فقال: أنتم السبب فيما أصابكم لاختياركم الخروج من المدينة، أو تخليكم المركز، وعن علي – رضي الله تعالى عنه – لأخذكم الفداء من أسارى بدر قبل أن يؤذن لكم 1هـ، قال أبو حبان في البحر: (3/107) بعد أن ذكر الأقوال الثلاثة: وقد لخص الزمخشري هذه الأقوال الثلاثة أحسن تلخيص.
الأمر الثالث:
ما قرره شيخ الإسلام – عليه رحمة ربنا الرحمن – من أن تسليط الجبابرة الطغاة، على المكلفين من الأنام، وقع بسبب ما جرى منهم من الفسوق والعصيان، حق وصواب يا أخا الإيمان، وسأسوق لك كلام تلميذه الهمام، ثم أختم الكلام، بحديث شريف من أحاديث خير الأنام – عليه الصلاة والسلام – لتعر داءنا ودواءنا في هذا الزمان، عاملنا الله بلطفه وإحسانه، إنه كريم منان.
قال الإمام ابن قيم الجوزية – عليه رحمة رب البرية – في كتابه الجليل مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة: (1/253-254) وتأمل حكمته – تبارك وتعالى – في أن جعل ملوك العباد وأمراءهم وولاتهم من جنس أعمالهم، وبل كأن أعمالهم ظهرت في صور ولاتهم وملوكهم، فإن ظهر فيهم المكر والخديعة كذلك، وإن منعوا حقوق الله – جل وعلا – لديهم وبخلوا بها، منعت ملوكهم وولاتهم مالهم عندهم من الحق، وبخلوا به عليهم، وإن أخذوا ممن يستضعفونه مالا يستحقونه في معاملتهم أخذت منهم الملوك مالا يستحقونه وضربت عليهم المكوس والوظائف، وكل ما يستخرجونه من الضعيف يستخرجه الملوك منهم بالقوة، فعمالهم ظهرت في صور أعمالهم، وليس في الحكمة الإلهية أن يولي على الأشرار الفجار إلا من يكون من جنسهم، ولما كان الصدر الأول خيرا القرون وأبرها كانت ولاتهم كذلك، شابت لهم الولاة، فحكمة الله – جل وعلا – تأبى أن يولى علينا في مثل هذه الأزمان – أي في القرن الثامن ذلك، ثم تأمل حالنا في هذا الزمان في القرن الخامس عشر – مثل معاوية وعمر بن عبد العزيز – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – فضلاً عن مثل أبي بكر وعمر – رضي الله تعالى عنهما – بل ولاتنا على قدرنا، وولاة من قبلنا على قدرهم، وكل من الأمرين موجب الحكمة ومقتضاها، ومن له فطنة إذا سافر بفكره في هذا الباب رأى الحكمة الإلهية سائرة في القضاء والقدر، ظاهرة وباطنة فيه، كما في الخلق والأمر سواء، فإياك أن تظن بظنك الفاسد أن شيئاً من أقضية أقداره عار عن الحكمة البالغة، بل جميع أقضيته – جل وعلا – وأقداره واقعة على أتم وجوه الحكمة والصواب، ولكن العقول الضعيفة محجوبة بضعفها عن إدراكها، كما أن الأبصار الخفاشية محجوبة بضعفها عن ضوء الشمس، وهذه العقول الضعاف إذا صادفها الباطل جالت فيه وصالت، ونطقت وقالت، كما أن الخفاش إذا صادفه ظلام الليل طار وسار.
خفافيشُ أعْشاها النهارُ بضوئه ... ولازمها قَطعٌ من الليل مظلم
وإليك حديث خير الأنام – عليه الصلاة والسلام – الذي يقرر ذلك تقريراً في غاية القوة والإحكام: ثبت في المستدرك – كتاب الفتن والملاحم –: (4/540-541) ، وقال الحاكم صحيح الإسناد وأقره الذهبي، وسنن ابن ماجه – كتاب الفتن – باب العقوبات –: (2/1332-1333) ، ونسبه المنذري في الترغيب والترهيب: (1/543، 3/169) إلى البزار والبيهقي، ونسبه السيوطي في الجامع الكبير: (2/979) إلى تاريخ ابن عساكر، وهذا لفظ رواية المستدرك عن عطاء بن أبي رباح قال: كنت مع عبد الله بن عمر – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – فأتاه فتى يسأله عن إسدال العمامة، فقال ابن عمر: سأخبرك عن ذلك بعلم إن شاء الله – تبارك وتعالى – قال: كنت عاشر عشرة في مسجد رسول الله –صلى الله عليه وسلم – وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وحذيفة، وابن عوف، وأبو سعيد الخدري – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – فجاء فتى من الأنصار، فسلم على رسول الله –صلى الله عليه وسلم – ثم جلس، فقال: يا رسول الله، أي المؤمنين أفضل؟ قال: أحسنهم خلفاً، قال: فأي المؤمنين أكيس؟ قال: أكثرهم للموت ذكراً، وأحسنهم له استعداداً قبل أن ينزل بهم، أولئك من الأكياس ثم سكت الفتى، وأقبل عليه النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: يا معشر المهاجرين خمس إن ابتليتم بهن، ونزل فيكم، أعوذ بالله أن تدركوهن، لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا ظهر فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المئونة وجور السلطان، ولم يمنعوا الزكاة إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله، وعهد رسوله – صلى الله عليه وسلم – إلا سلط عليهم عدو من غيرهم، فأخذوا بعض ما كان في أيديهم، ولم لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا ألقى الله بأسهم بينهم" ثم أمر عبد الرحمن بن عوف – رضي الله تعالى عنه – يتجهز لسرية بعثه عليها، وأصبح عبد الرحمن قد اعتم بعمامة من كرابيس سوداء، فأدناه النبي – صلى الله عليه وسلم – ثم نقضه وعممه بيضاء، وأرسل من خلفه أربع أصابع، ونحو ذلك، وقال: "هكذا يا ابن عوف اعتم، فإنه أعرب وأحسن"، ثم أمر النبي – صلى الله عليه وسلم – بلالاً – رضي الله تعالى عنه – أن يدفع إليه اللواء فحمد الله تعالى، وصلى على النبي – صلى الله عليه وسلم – ثم قال: خذ ابن عوف، فاغزوا جميعاً في سبيل الله، وقاتلوا من كفر بالله، لا تغلوا ولا تغدوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً، فهذا عهد الله، ومسيرة نبيه – صلى الله عليه وسلم-.
والحديث رواه الطبراني في الكبير كما في الترغيب والترهيب: (1/544) ، والجامع الكبير: (1/513) ورمز السيوطي لصحته في الجامع الصغير: (3/452) فيض القدير، ووهم المناوي في فيض القدير، فقال: خرجه ابن ماجه باللفظ المزبور عن ابن عباس كما بينه الدليمي وغيره 10هـ وابن ماجه لم يخرجه عن ابن عباس، إنما رواه عن ابن عمر – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – ورواية الطبري هذه قال عنها المنذري في الترغيب والترهيب: سنده قريب من الحسن، وله شواهد 1هـ والحديث السابق يشهد لهذه الرواية ولفظها عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "خمس بخمس، قيل: يا رسول الله، ما خمس بخمس؟ قال: ما نقض قوم العهد إلا سلط عليهم عدوهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله فشا فيهم الموت، ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر، ولا طففوا المكيال إلا حبس عنهم النبات، وأخذوا بالسنين"، وروى البزار بسند رجاله رجال الصحيح غير رجاء بن محمد وهو ثقة كما في مجمع الزوائد: (7/269) عن بريدة – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "ما نقض قوم العهد إلا كان القتل بينهم، ولا ظهرت فاحشة في قوم إلا سلك الله عليهم الموت، ولا منع قوم قط الزكاة إلا حبس الله عنهم القطر".(3/22)
وإذا كانت تلك صفات المؤمنين، فإن من عداهم على نقيض ذلك الوصف الكريم، فهم لاهون ضاحكون، لا يخشون من الله ولا يبكون، قال – جل وعلا – في آخر سورة النجم: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ وَأَنتُمْ سَامِدُونَ فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} 59-62 (1) ،
__________
(1) قال الإمام القرطبي في تفسيره: (17/122) " وَلَا تَبْكُونَ " انزجاراً وخوفاً من الوعيد 10هـ وفي تفسير ابن جرير: (27/48) ومسند البزار ورجاله رجال الصحيح كما في مجمع الزوائد: (7/116) ورواه عبد الرزاق، والفريابي في فضائله، وعبد بن حميد، وابن أبي الدنيا في ذم الملاهي، وابن المنذر وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه، عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – في قوله – تبارك وتعالى –: " وَأَنتُمْ سَامِدُونَ " قال: الغناء كانوا إذا سمعوا القرآن، تغنوا ولعبوا، وهي لغة أهل اليمن، يقال: أسمدي لنا، أي: غني لنا، وروى الطبراني بسند رجاله ثقات كما في مجمع الزوائد: (7/116) ، والطبراني في تفسيره: (17/48) ، وعبد الرزاق، والفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عنه أيضاً – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – قال: معرضون لاهون، وقد قرر الإمام ابن القيم في إغاثة اللهفان: (1/258) أنه لا تنافي بينهما ولا تناقض، لأن الغناء يجمع هذا ويوجبه..(3/23)
وقال – جل جلاله – في سورة المدثر: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً كَلَّا بَل لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ} المدثر49-53 (1) .
__________
(1) في قوله – جل وعلا –: " مُّسْتَنفِرَةٌ " قراءتان متواترتان، بفتح الراء وبها قرأ ابن عامر والمدنيان، وقرأ الباقون بكسرها كما في تقريب النشر: (184) ، والمعنى: إنها مذعورة على قراءة الفتح، ونافرة على قراءة الكسر كما في حجة القراءات: (724) ، وزاد المسير: (8/412) وفي قوله: " قَسْوَرَةٍ " سبعة أقوال: الأسد، والرماة، حبال الصيادين، عصب الرجال، ركز الناس أي: حسهم وأصواتهم، ظلمة الليل، النبل، انظر في زاد المسير: (8/412-413) ، والدر المنثور: (6/386) وغير ذلك من كتب التفسير – والذي أحب أن أنبه عليه هو القول الأول ففي الدر: أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – في قوله – جل وعلا –: " قَسْوَرَةٍ " قال: هو بلسان العرب: الأسد، وبلسان الحبشة: قسورة، وهو في تفسير الطبري: (29/107) أيضاً، ولعلماء الإسلام في هذا ونظائره كلام، هاك خلاصته يا أخا الإيمان، اتفق العلماء على وجود أعلام عجمية في كلام رب الأرض والسماء كما في الإتقان: (2/126) ، وفي قطر الندى: (123) جميع أسماء الأنبياء أعجمية إلا أربعة: محمد، وصالح، وشعيب، وهود، عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه –..واختلفوا في وجود ألفاظ أعجمية في كلام رب البرية بغير اللغة العربية فمنع ذلك الإمام الشافعي في الرسالة: (41/53) في بحث شيق مسهب زاد على عشر صفحات، وتبعه على ذلك كثير من الأئمة منهم الطبري في تفسيره: (1/6-9) ، وأبو عبيدة، معمر بن المثنى في مجاز القرآن: (10/17) ، وابن فارس في الصاحبي: (23) ، وأبو القاسم بن سلام في كتابه: ما ورد في القرآن من لغات القبائل مطبوع على هامش تفسير الجلالين: (1/125) ، وحمل هؤلاء ما ادعى تعريبه أنه من باب التوافق بين اللغتين وتواردهما، وجوز وجود لغات في القرآن الكريم غير عربية الأصل، ووجود ذلك فيه فعلاً، وذلك بعد أن استعملها العرب، ودرجت على ألسنتهم، وسيروها على أوزان كلمهم، إذ أصحبت بذلك من لغتهم، وإن كان أصلها لغيرهم، وقد صدق من قال بهذا القول – القول المتقدم – نظراً إلى الاستعمال، كما صدقوا أنفسهم وصوبوا رأيهم نظراً إلى الأصل، فهي غربية في الحال، لما طرأ عليها من الاستعمال، عجمية الأصل والمآل، وقد قال بهذا الإمام الجواليقي في المعرب: (52-53) ، وتبعه على ذلك كثير من الأئمة منهم ابن الجوزي كما في الإتقان: (2/129) ، وابن عطية في مقدمة تفسيره: مطبوعة ضمن: مقدمتان في علوم القرآن: (276-277) ، ونقله عنه الزركشي في البرهان: (2/289) ، ومال إلى هذا القول الرازي في تفسيره: (17/226) ، وابن منظور في لسان العرب: (5/163) – فصل التاء من حرف الراء –، والسيوطي في الإتقان: (2/126) ، والمزهر: (1/269) ، وسبق الجميع إلى القول بهذا الأزهري في تهذيب اللغة: (14/270) – رحمهم الله جميعاً – وانظر تفصيل البحث في فتح الباري: (8/252-253) ، وفيه نظم ما ادعى أنه معرب.(3/24)
.. وقد دلت آيات القرآن على أن من لم يخف إلا من الرحمن، فله العز والتمكين في دار الامتحان وله الفوز والإكرام في دار الجنان، أما ما يحصل له في العاجل، فقد أخبر عنه ربنا القوي القادر بقوله – عز وجل – في سورة إبراهيم: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} إبراهيم13-14 (1) ،
__________
(1) قوله – جل وعلا –: " ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي " كقوله – عز وجل – في سورة الرحمن: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} الرحمن46، وكقوله – جل وعز – في سورة النازعات: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} النازعات40-41 وللمفسرين في معنى ذلك قولان بارزان أحدهما: أن ذلك من إضافة المصدر إلى الفاعل، والمعنى: خاف قيام ربه وكونه مهيمناً عليه، مراقباً له، حافظاً لأحواله، فالمقام للرب على عبده بالاطلاع والقدرة والربوبية، كما قال – جل وعلا – في سورة الرعد: {أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي الأَرْضِ أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ وَصُدُّواْ عَنِ السَّبِيلِ وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} الرعد33، والثاني: كون ذلك من باب إضافة المصدر إلى المخوف، والمعنى: خاف قيامه بين يدي ربه – عز وجل – عند لقائه لمجازاته على عمله، والأمران مقبولان، وقررهما المفسرون الكرام، انظر زاد المسير: (8/119) ، والجامع لأحكام القرآن: (17/176) ، وروح المعاني (13/200، 27/115) ومال الإمام ابن القيم في مدارج السالكين: (1/523) إلى الثاني، وقال: إنه أليق بالآية.(3/25)
وقال في سورة الأنعام بعد إعلان براءة خليل الرحمن – على نبينا وعليه الصلاة والسلام – من الأوثان، وانقياده لرب الأنام: {وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} الأنعام80-82، وقد تقدم في هذا الكتاب المبارك: تفسير النبي – صلى الله عليه وسلم – في قوله – جل وعلا –: " وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ " بالشرك، ومن الشرك خوف غير الله – عز وجل – فاعلم (1) .
__________
(1) انظر صفحة: (....) من هذا الكتاب المبارك، وفي مجموع الفتاوى: (1/74) العبادة والاستعانة وما يدخل في ذلك من الدعاء، والاستغاثة، والخشية، والرجاء، والتوكل، والتوبة، والاستغفار كل هذا لله وحده لا شريك له، وفي: (1/94) قرر شيخ الإسلام – عليه رحمة الرحمن – أنه أذا كمل خوف العبد من ربه لم يخف شيئاً سواه، وإذا نقص خوفه من المخلوق، فهذا هو الشرك الخفي الذي لا يكاد يسلم أحد منه إلا من عصمه الله – تبارك وتعالى – ونحوه في كتاب الروح: (354-355) .(3/26)
وانظر إلى حال نبي الله هود – على نبينا وعليه الصلاة والسلام – لما تحقق بكمال خشية الرحمن – جل وعلا – لم يبال بمن كاده من إنس وجان، قال ذو الجلال والإكرام: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاَ تَعْقِلُونَ وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ قَالُواْ يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} هود50-58.(3/27)
.. قال الإمام ابن القيم – عليه رحمة الله تعالى –: إن من أخفى آيات الرسل – عليهم صلوات الله وسلامه – آيات هود – على نبينا وعليه الصلاة والسلام – حتى قال له قومه: "يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ" ومع هذا فبينته من أظهر البينات، وقد أشار الله – جل وعز – إليها بقوله: {إِنِّي أُشْهِدُ اللهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ} هود54-55 فهذا من أعظم الآيات: أن رجلاً واحداً أمة عظيمة بهذا الخطاب، غير جزع ولا فزع، ولا خوار، بل واثق مما قاله، جازم أنه وليه وناصره، وأنه غير مسلطهم عليه – إشهاد مجاهر لهم بالمخالفة –: أنه بريء من دينهم وآلهتهم التي يوالون عليها ويعادون، ويبذلون دماءهم وأموالهم في نصرتها، ثم أكد عليهم ذلك بالاستهانة بهم، واحتقارهم وازدرائهم، وأنهم لو يجتمعون كلهم على كيده وشفاء غيظهم منه ثم يعالجونه ولا يمهلونه، وفي ضمن ذلك: أنهم أضعف وأعجز وأقل من ذلك، وأنكم لو رمتموه لانقلبتم بغيظكم مكبوتين مخذولين، ثم قرر دعوته أحسن تقرير، وبين أن ربه – تبارك وتعالى – وربهم، الذي نواصيهم بيده، هو وليه ووكيله، القائم بنصره وتأييده، وأنه على صراط مستقيم، فلا يخذل من توكل عليه، وآمن به، ولا يشمت أعداءه، ولا يكون معهم عليه، فإن صراطه المستقيم الذي هو عليه – في قوله وفعله – يمنع ذلك ويأباه، وتحت هذا الخطاب: أن من صراطه المستقيم: أن ينتقم ممن خرج عنه وعمل بخلافه، وينزل به بأسه، فإن الصراط المستقيم هو العدل الذي عليه الرب – جل وعلا –، ومنه انتقامه من أهل الشرك والإجرام، ونصره أولياءه ورسله على أعدائهم، وأنه يذهب بهم ويتخلف قوماً غيرهم، ولا يضره ذلك شيئاً، وأنه القائم – سبحانه وتعالى – على كل شيء حفظاً ورعاية، وتدبيراً وإحصاء (1) .
__________
(1) الآيات: 50-58 من سورة هود، وانظر كلام الإمام ابن القيم في مدارج السالكين: (3/464-465.(3/28)
.. وأما جزاء الآخرة لمن خشي ذي العزة والمغفرة، فهو حلوله في جنة النعيم، ومجاورته لرب العالمين، قال ربنا الرحيم في آخر سورة البينة: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} البينة7-8، وفي سورة الملك يقول ربنا الملك: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} الملك12، قال – جل وعلا – في سورة ق: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} ق31-35، وقال – جل جلاله – في سورة الرحمن: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} الرحمن46، قال الحافظ ابن كثير – عليه رحمة ربنا الجليل –: وقد ذكر ابن عساكر في ترجمة عمرو بن جامع من تاريخه أن شاباً كان يتعبد في المسجد فهوته امرأة، فدعته إلى نفسها، فما زالت به حتى كاد يدخل معها المنزل، فذكر هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} الأعراف201، فخر مغشياً عليه، ثم أفاق فأعادها فمات، فجاء عمر بن الخطاب – رضي الله تعالى عنه – فعزى فيه أباه، وكان قد دفن ليلاً فذهب فصلى على قبره بمن معه، ثم ناداه عمر – رضي الله تعالى عنه – فقال: يا فتى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} الرحمن46 فأجابه الفتى من داخل القبر: يا عمر، قد أعطانيهما ربي – عز وجل – في الجنة مرتين (1) .
__________
(1) انظر تفسير ابن كثير: (2/279) ، وعزا السيوطي في الدر: (6/147) ، والألوسي في روح المعاني: (27/116) القصة إلى شعب الإيمان للبيهقي، واعلم أن ما أورده الفراء في معاني القرآن: (3/118) من احتمال كون المراد بالجنتين جنة واحدة، لأن العرب تثني الجنة في أشعارها، فهو باطل منكر، قال ابن قتيبة في تفسير غريب القرآن: (439-440) : وهذا من أعجب ما حمل عليه كتاب الله، ونحن نعوذ بالله أن نتعسف هذا التعسف، ونجيز على كتاب الله – جل ثناؤه – الزيادة والنقص في الكلام لرأس الآية..... وكيف يجوز هذا وهو – تبارك وتعالى – يصفها بصفات الاثنين، وحكم الرازي في مفاتيح الغيب: (29/123) على ذلك القول بالبطلان، ونقل القرطبي في تفسيره: (17/177) عن النحاس أن ذلك القول من أعظم الغلط على كتاب الله – عز وجل –.
قال عبد الرحيم: ويرد ذلك القول السقيم، ما ثبت عن نبينا الأمين – عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم – "جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن" صحيح البخاري – كتاب التفسير – سورة الرحمن – باب: " وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ "، وباب: " حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ ": (8/624) ، وكتاب التوحيد – باب قول الله – عز وجل –: " وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ ": (13/423) بشرح ابن حجر في الجميع، وصحيح مسلم كتاب الإيمان - باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم – سبحانه وتعالى –: (1/163) ، وسنن الترمذي – كتاب صفة الجنة – باب ما جاء في صفة غرف الجنة –: (7/212) ، وسنن ابن ماجه – المقدمة – باب فيما أنكرت الجهمية –: (1/66) ، وسنن الدارمي – كتاب الرقاق – باب في جنات الفردوس –: (2/333) ، والمسند: (4/411، 416) ، ومسند الطيالسي – منحة المعبود – كتاب صفة الجنة – باب ما جاء في جنات الفردوس ورؤية الله – عز وجل – في الجنة: (2/243) ، والأسماء والصفات: (302) ، والاعتقاد: (65-66) ، وكتاب الرد على الجهمية لابن منده: (94) ، وروى ذلك الحديث ابن أبي شيبة، والنسائي في الكبرى، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه والبيهقي في البعث كما في الدر: (6/146) ، وكلهم عن أبي موسى الأشعري – رضي الله تعالى عنهم أجمعين –، هذا وقد روى الحاكم في المستدرك – كتاب التفسير – سورة الرحمن –: (2/475) ، وقال الذهبي: إنه على شرط مسلم، ورواه ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن مردويه، والبيهقي في البعث عن أبي موسى الأشعري – رضي الله تعالى عنه – قال في قوله تعالى –: " وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ": جنتان من ذهب للسابقين، وجنتان من فضة للتابعين، ورواه ابن جرير في تفسيره: (27/85) عنه مرفوعاً، وكذلك ابن أبي حاتم، وابن مردويه بلفظ: "جنتان من ذهب للمقربين، وجنتان من ورق لأصحاب اليمين".
واعلم – أيضاً – أن هذه الآية الكريمة عامة في الإنس والجن، فهي أدل دليل على أن الجن يدخلون الجنة إذا آمنوا واتقوا، كما قال الإمام ابن كثير في تفسيره: (4/276) ، وهذا هو قول الجمهور، وهو أحد أقوال أربعة في هذه المسألة، فانظرها إن شئت في آكام المرجان في غرائب الأخبار وأحكام الجان: (57/60) .(3/29)
.. وقد أخبرنا ربنا العظيم، أن أهل جنة النعيم، يتحدثون بمنة الله الكريم بنجاتهم من العذاب الأليم، ويخبرون عن أنفسهم أنهم كانوا في أهلهم مشفقين، ففي سورة الطور يقول رب العالمين: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} الطور25-28، جعلنا الله من أهل ذلك الوصف العظيم، بمنه وكرمه، إنه أرحم الراحمين.
* حال نبينا – عليه الصلاة والسلام – في خوفه من ذي الجلال والإكرام:(3/30)
.. إذا كان رسولنا الكريم – عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم – أعلم المخلوقات برب العالمين، فإن ذلك يستلزم كونه أكثرهم خوفاً من مالك يوم الدين، وأشدهم له خشية في جميع الأحايين، وهذا هو واقع نبينا الأمين – صلى الله عليه وسلم – ففي الصحيحين وغيرهما عن أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنها – قالت: صنع النبي – صلى الله عليه وسلم – شيئاً ترخص فيه ن فتنزه عنه قوم، فبلغ ذلك النبي – صلى الله عليه وسلم – فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه؟ فوالله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية (1) ".
__________
(1) انظر صحيح البخاري – كتاب الأدب – باب من لم يواجه الناس بالعنف –: (10/513) ، وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة – باب ما يكره من التعمق والتنازع والغلو في الدين والبدع: (13/276) بشرح ابن حجر فيهما، وصحيح مسلم = كتاب الفضائل – باب علمه – صلى الله عليه وسلم.– بالله تعالى وشدة خشيته –: (4/1829) ، والمسند: (6/45، 181) .(3/31)
وذلك الذي ترخص رسولنا –صلى الله عليه وسلم – في فعله، وتنزه عنه من تنزه تعللاً بالبون الشاسع بينهم وبين رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ورد في التصريح به في روايات صحيحة ففي صحيح مسلم وغيره عن عمر بن أبي سلمة – رضي الله تعالى عنهما – أنه سأل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أيقبل الصائم؟ فقال له رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: سل هذه لأم سلمة – رضي الله تعالى عنها –، فأخبرته أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يصنع ذلك، فقال: يا رسول الله – قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال له رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "أما والله إني لأتقاكم لله، وأخشاكم له (1)
__________
(1) انظر صحيح مسلم – كتاب الصيام – باب بيان أن القبلة في الصوم ليست محرمة على من لم تحرك شهوته –: (2/779) ، ومن طريقه رواه ابن حزم في المحلى: (6/207) ، ورواه مالك في الموطأ – كتاب الصيام – باب ما جاء في الرخصة في القبلة للصائم –: (1/291-292) عن عطاء بن يسار أن رجلاً قبل امرأته وهو صائم في رمضان، فوجد من ذلك وجداً شديداً، فأرسل امرأته تسأله له عن ذلك، فدخلت على أم سلمة زوج النبي – صلى الله عليه وسلم – فذكرت ذلك لها، فأخبرتها أم سلمة – رضي الله تعالى عنها – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقبل وهو صائم، فرجعت فأخبرت زوجها بذلك، فزاده ذلك شراً، وقال: لسنا مثل رسول الله – صلى الله عليه وسلم –، الله يحل لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – ما شاء، ثم رجعت امرأته إلى أم سلمة، فوجدت عندها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "ما لهذه المرأة؟ " فأخبرته أم سلمة – رضي الله تعالى عنها – فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "ألا أخبرتها أني أفعل ذلك؟ " فقالت: قد أخبرتها، فذهبت إلى زوجها فزاده ذلك شراً، وقال: لسنا مثل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الله يحل لرسوله – صلى الله عليه وسلم – ما شاء، فغضب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وقال: "والله إني لأتقاكم، وأعلمكم بحدوده" ورواه الطحاوي في شرح معاني الآثار – كتاب الصيام – باب القبلة للصائم –: (2/94) ، ورواه الشافعي في الرسالة: (404-405) عن شيخه مالك – رحمهما الله تعالى – وقال: وقد سمعت من يصل هذا الحديث، ولا يحضرني ذكر من وصله 10هـ، وقد وصله أحمد في المسند: (5/434) عن رجل من الأنصار – رضي الله تعالى عنه –، قال الهيثمي في المجمع: (3/166 رجاله رجال الصحيح 1هـ، ووصله عبد الرزاق بإسناد صحيح كما في شرح الزرقاني: (2/163، وفتح الباري: (4/151 1هـ وكذلك وصله ابن حزم في المحلى: (6/207، وعبد الرزاق في المصنف: (4/184) ، وبلوغ الأماني: (10/51-) .
واعلم أنه لهذين الحديثين وغيرهما استحب ابن حزم القبلة للصائم وكرر ذلك في عدة صفحات من المحلى، ففي: (6/205) قرر أن القبلة والمباشرة للرجل مع امرأته سنة حسنة، مستحبة للصائم وفي: (6/208) نص على أنها حسنة مستحبة، وسنة من السنن، وقربة من القرب إلى الله – تبارك وتعالى – وكرر في: (6/213) القول باستحبابها، وقول ابن حزم هذا فيه مبالغة قطعاً، ولذلك قال الحافظ في الفتح: (4/150) بالغ بعض أهل الظاهر فاستحبها 10هـ نعم من أراد التنزه عن ذلك الفعل رغبة عما أحل الله، فالتقبيل في حقه متعين مطلوب لئلا يقع في التنطع الممقوت المردود، وأما من ترك ذلك لعدم تطلعه إليه، أو لخشيته من الوقوع فيما لا يضبط نفسه عليه، فلا حرج عليه، بل تركه لذلك في الحالة الثانية زين لئلا يقع في الشين، وهذا هو الحق في هذه المسألة، وأعدل ما قيل فيها، قال الطحاوي في شرح معاني الآثار: (2/93) ، وقد تواترت الآثار عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه كان يقبل وهو صائم، فدل ذلك أن القبلة غير مفطرة للصائم، وفي شرح الزرقاني: (2/163) قال ابن عبد البر: اجمعوا على أن القبلة لا تكره لنفسها، وإنما كرهها من كرهها خشية ما تؤول إليه، وأجمعوا على أن من قبل وسلم فلا شيء عليه 10هـ ومن العجيب المدهش فتيا عبد الله بن شبرمة يفطر من هو صائم كما نقل ذلك عنه الحافظ في الفتح: (4/150) ، وقد ثبت عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – بأصح طريق عنه كما في المحلى: (6/212) أن رجلاً قال لابن عباس: إني تزوجت ابنة عم لي جميلة، وبنيت بها في رمضان، فهل لي إلى قبلتها من سبيل؟ فقال له ابن عباس: هل تملك نفسك؟ قال: نعم، قال: قبل، فقال: فبأبي أنت وأمي هل إلى مباشرتها من سبيل؟ قال: هل تملك نفسك؟، قال: نعم، قال: فباشرها، قال: فهل لي أن أضرب بيدي على فرجها من سبيل؟ قال: وهل تملك نفسك " قال: نعم، قال: اضرب، وفي مصنف عبد الرزاق: (4/186-191) ، وفيه: ومن طرق صحاح عن سعد بن أبي وقاس – رضي الله تعالى عنه – أنه سئل: أتقبل وأنت صائم؟ قال: نعم، واقبض على متاعها 10هـ وفي البخاري تعليقاً عن أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنها – في كتاب الصوم – باب المباشرة للصائم –: (4/149) بشرح ابن حجر ووصله الطحاوي في شرح معاني الآثار: (2/95) عن حكم بن عقال، قال: سألت عائشة – رضي الله تعالى عنها –: ما يحرم علي من امرأتي وأنا صائم؟ قالت: فرجها، قال الحافظ: إسناده صحيح إلى حكيم بن عقال، وفي المحلى: (6/211) ومصنف عبد الرزاق: (4/190) ، وإسناده صحيح كما في الفتح: (4/149) عن مسروق قال: سألت عائشة – رضي الله تعالى عنها – ما يحل للرجل من امرأته صائماً؟ قالت: كل شيء غلا الجماع، وفي مصنف عبد الرزاق: (4/191) ، والمحلى: (6/212) بأصح طريق عن ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه – أنه كان يباشر امرأته نصف النهار وهو صائم –.
انظر تفصيل هذه المسألة في الفتح: (4/149-153) ، وشرح معاني الآثار: (02/88-969) ومصنف عبد الرزاق: (4/182-191) ، والمغني: (3/47-48) ، وسنن الترمذي - كتاب الصوم – باب ما جاء في القبلة للصائم –: (3/78-79) ، ومجمع الزوائد – كتاب الصيام – باب القبلة والمباشرة للصائم –: (3/165-197) .(3/32)
".
... وثبت في صحيح مسلم وغيره أيضاً عن أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنها – أن رجلاً جاء إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – يستفتيه، وهي تسمع من وراء الباب، فقال: يا رسول الله –صلى الله عليه وسلم – تدركني الصلاة وأنا جنب، أفأصوم؟ فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم" فقال الرجل: لسنا مثلك يا رسول الله، صلى الله عليه وسلم –، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعملكم بما أتقي (1) ".
__________
(1) انظر صحيح مسلم – كتاب الصيام – باب صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب –: (2/781) والمسند: (6/76، 156، 245) ، وسنن أبي داود – كتاب الصوم – باب فيمن أصبح جنباً في شهر رمضان –: (2/783) ، وفيه: فغضب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وقال: "والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله، وأعلمكم بما أتبع" ونسبه المنذري في مختصر السنن: (3/268) إلى النسائي – السنن الكبرى –.(3/33)
.. وثبت في صحيح البخاري عن أنس بن مالك – رضي الله تعالى عنهما – قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي – صلى الله عليه وسلم – يسألون عن عبادة النبي – صلى الله عليه وسلم – فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي – صلى الله عليه وسلم – قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبداً، وقال الآخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا – فجاء رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني (1) ".
__________
(1) انظر صحيح البخاري – كتاب النكاح – باب الترغيب في النكاح –: (9/104) بشرح ابن حجر، وقد ورد الحديث دون قوله: "أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له" في صحيح مسلم – كتاب النكاح – باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنة -: (2/1020) ، وسنن النسائي – كتاب النكاح – باب النهي عن التبتل –: (5/49-50) ، والمسند: (3/241-259، 285) ، وقد وردت جملة: "إني أخشاكم لله، وأحفظكم لحدوده" في المسند: (6/226) موجهة لعثمان بن مظعون – رضي الله تعالى عنه – عندما شدد على نفسه، فدخلت امرأته على أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنهما – وهي باذة الهيئة، فسألها: ما شأنك؟ فقالت: زوجي يقوم الليل، ويصوم النهار، فدخل النبي – صلى الله عليه وسلم – فذكرت عائشة ذلك لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – فلقي عثمان، فقال – صلى الله عليه وسلم –: "يا عثمان إن الرهبانية لم تكتب علينا، أفمالك فيّ أسوة، فوالله إني أخشاكم لله وأحفظكم لحدوده" وورد الحديث دون ذكر تلك الجملة أيضاً في سنن أبي داود – كتاب قيام الليل – باب ما يؤمر به من القصد في الصلاة –: (2/101-102) ، وسنن الدارمي – كتاب النكاح – باب النهي عن التبتل –: (2/133) .(3/34)
.. فهذه الروايات الصحيحة فيها بيان ما ترخص نبينا – صلى الله عليه وسلم – في فعله، وتنزه عنه من تنزه تعلقاً بالتباين البين بينهم وبين خلق الله – صلى الله عليه وسلم (1)
__________
(1) قال الحافظ في الفتح: (10/514) لم أعرف أعيان القوم المشار غليهم في هذا الحديث ولا الشيء الذي ترخص فيه، ثم وجدت ما يمكن أن يعرف به ذلك، وذكر حديث أمنا عائشة وأنس – رضي الله تعالى عنهما –. ولم يذكر حديث عمر بن أبي سلمة – رضي الله تعالى عنهما –، وأشار إليه في: (13/279) فقال: وأومأ ابن بطال إلى أن الذي تنزهوا عنه: القبلة للصائم، وقال غيره: لعله الفطر في السفر 10هـ وهو سبب رابع فاعلم..(3/35)
– وقد رد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عليهم زعميهم وأعلمهم أن من كان أعلم بما يقرب إلى الله – عز وجل – فهو أولى بالعمل بها، ورتبة الكمال الإنساني منحصرة في الجمع بين القوة العلمية، والقوة العملية، ولا وجود لهما على وجه التمام إلا في خير البرية – صلى الله عليه وسلم – ثبت في صحيح البخاري عن أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنها – قالت: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذا أمرهم أمرهم من الأعمال بما يطيقون، قالوا: إنا لسنا كهيئتك يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إن الله قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فيغضب حتى يعر الغضب في وجهه، ثم يقول: "إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا"، وفي المسند عن أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنها – قالت: إن ناساً كانوا يتعبدون عبادة شديدة، فنهاهم النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: "والله إني لأعلمكم بالله – عز وجل – وأخشاكم له (1) ".
__________
(1) انظر صحيح البخاري – كتاب الإيمان – باب قول النبي –صلى الله عليه وسلم –: "أنا أعلمكم بالله": (1/70) بشرح ابن حجر، والمسند: (6/122) ، وانظر التنصيص على دلالة الحديث على الجمع بين القوة العلمية والقوة العملية لنبينا خير البرية – صلى الله عليه وسلم – في الفتح: (1/71، 10/513، 13/279) فقوله – صلى الله عليه وسلم –: "أعلمكم" إشارة إلى القوة العلمية، وقوله: "أشدكم له خشية" إشارة إلى القوة العملية، فهو – فداه أبي وأمي – أعلم بالفضل، وأولى بالعمل به – عليه صلوات الله وسلامه – فمن أراد القرب إلى الله فعليه بالإتباع وحذار من مخيلات النفوس والأهواء، انظر شرح الإمام النووي على صحيح مسلم: (15/107) .(3/36)
.. وإذا كانت تلك الخشية لرب العالمين، ملازمة لحبيبنا خير خلق الله أجمعين في جميع الأحايين – عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم – فكان إذا صلى يسمع لصدره الشريف أزيز كأزيز المرجل من البكاء من خشية رب الأرض والسماء، ففي المسند، وسنن النسائي، وأبي داود، وشمائل الترمذي عن عبد الله بن الشخير – رضي الله تعالى عنه – قال: أتيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو يصلي، ولصدر أزيز كأزيز المرجل من البكاء، وفي رواية أبي داود: رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يصلي وفي صدره أزيز كأزيز الرحى من البكاء.
وقد كان نبي الله إبراهيم الخليل – على نبينا وعليه الصلاة والسلام – متصفاً بذلك الخلق الجميل فكان إذا قام إلى مناجاة ربنا الجليل، يسمع أزيز صدره من مسافة ميل، كما قال أبو الدرداء – رضي الله تعالى عنه – (1) .
__________
(1) انظر المسند: (4/25-26) ، وسنن النسائي – كتاب السهو – باب البكاء في الصلاة –: (3/12) ، وسنن أبي داود – كتاب الصلاة – باب البكاء في الصلاة –: (1/557) ، والشمائل المحمدية – باب ما جاء في بكاء الرسول – صلى الله عليه وسلم –: (165) ، قال الشيخ الأرناؤوط في تعليقه على جامع الأصول: (5/435) ، وهو حديث صحيح، وانظر قول أبي الدرداء – رضي الله تعالى عنه – في كتاب الإحياء: (4/178) ، والمرجل هو القدر من الحجارة والنحاس، وقيل: هو قدر النحاس خاصة، وقيل: هي كل ما طبخ فيها من قدر وغيرها كما في اللسان: (13/291) "رجل"، وأزيز القدر هو اشتداد غليانه، ومعنى الحديث: أن جوفه يجيش ويغلي بالبكاء كما في اللسان: (7/170) : "أزيز" بسبب ما كان يعرض له في الصلاة من الخوف الذي يوجب ذلك الصوت، كما في جامع الأصول: (5/436) ، والرحى معروفة وهي التي يطحن فيها كما في اللسان: (19/26) "رحا" وأزيز الرحا هو صوتها وجر جرتها كما في معالم السنن: (1/557) .(3/37)
وكان فداه أبي وأمي – إذا تلي عليه القرآن، تفيض عيناه بالبكاء خشية للرحمن ففي الصحيحين وغيرهما عن عبد الله بن مسعود – رضي الله تعالى عنه – قال: قال لي النبي – صلى الله عليه وسلم –: "اقرأ علي القرآن" فقلت: يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أقرأ عليك وعليك أنزل؟، قال: " فإني أحب أن أسمعه من غيري" فقرأت عليه سورة النساء، حتى بلغت: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً} النساء41، قال: "أمسك" فإذا عيناه تذرفان (1) .
__________
(1) انظر صحيح البخاري – كتاب التفسير – سورة النساء – باب " فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً ": (8/250) ، وكتاب فضائل القرآن – باب من أحب أن يستمع إلى القرآن من غيره –: (9/93) ، وباب قول المقرئ للقارئ: حسبك: (9/94) ، وباب البكاء عند قراءة القرآن: (9/98) بشرح ابن حجر في الجميع، وصحيح مسلم – كتاب صلاة المسافرين – باب فضل استماع القرآن وطلب القراءة من حافظ للاستماع، والبكاء عند القراءة والتدبر –: (1/551) ، وسنن الترمذي – كتاب التفسير – سورة النساء –: (8/195-196) ، وأورده في كتاب الشمائل أيضاً – باب ما جاء في بكاء رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: (165-166) ، وسنن أبي داود – كتاب العلم – باب في القصص –: (4/74) ، وسنن ابن ماجه – كتاب الزهد – باب الحزن والبكاء –: (12/1403) ، والمسند: (1/374، 380، 433) ، وشرح السنة للبغوي – كتاب فضائل القرآن – باب سماع القرآن –: (490-491) ، ومسند الحميدي: (1/55) ، وتفسير الطبري: (5/60) ، ورواه الحاكم في المستدرك: (3/319) – كتاب معرفة الصحابة – عن عمر بن حريث – رضي الله تعالى عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال لعبد الله بن مسعود – رضي الله تعالى عنه –: "اقرأ علي القرآن" الحديث، وقال صحيح الإسناد وأقره الذهبي، وروى الطبراني بسند رجاله ثقات كما في مجمع الزوائد: (7/4) وقال السيوطي في الدر: (2/163) بسند حسن وزاده نسبته إلى ابن أبي حاتم، والبغوي في معجمه عن محمد بن فضالة الظفري وفيه أن النبي – صلى الله عليه وسلم – أمر قارئاً فقرأ حتى أتى على هذه الآية: " فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً " فبكى حتى اضطرت لحياه، تثنية لحىً وهو منبت اللحية كما في مختار الصحاح: (619) : "لحى"، وروى الطبراني عن لبيبة الأنصاري – رضي الله تعالى عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان إذا قرأ تلك الآية بكى قال الهيثمي في المجمع: (7/5) : عبد الرحمن بن لبيبة لم أعرفه وبقية رجاله ثقات، وفي تجريد أسماء الصحابة: (2/37) لبيبة الأنصاري: روى عنه ابنه عبد الرحمن، وفي تفسير الطبري: (5/59) ، وابن المنذر كما في الدر: (2/163) عن ابن جريح في قوله – جل وعلا: " وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً "، قال: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذا أتى عليها فاضت عيناه.(3/38)
وقد أخبرتنا أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنها – عن عظيم خوف النبي – صلى الله عليه وسلم – من ربه – جل وعلا – وخشيته له، وهي المطلعة على ما لم يطلع عليه أحد من أحواله – صلى الله عليه وسلم – ففي الصحيحين وغيرهما أنها قالت – رضي الله تعالى عنها –: ما رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مستجمعاً ضاحكاً حتى أرى منه لهواته، إنما كان يتبسم، قالت: وكان إذا رأى غيثاً أو ريحاً عرف ذلك في وجهه، فقالت: يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أرى الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرفت في وجهك الكراهية؟ قالت: فقال: " يا عائشة ما يؤمنني أن يكون في عذاب؟ قد عذب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب فقالوا: هذا عارض ممصرنا" وفي رواية لمسلم: أنها قالت – رضي الله تعالى عنها – كان النبي – صلى الله عليه وسلم – إذا عصفت الريح قال:" اللهم إني أسألك خيرها، وخير ما فيها، وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به" قالت: وإذا تخيلت السماء تغير لونه، وخرج ودخل، وأقبل وأدبر، فإذا مطرت سرى عنه، فعرفت ذلك في وجهه، قالت فسألته: فقال: "لعله يا عائشة كما قال قوم عاد: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا} الأحقاف24 (1) .
__________
(1) انظر صحيح البخاري – كتاب التفسير – سورة الأحقاف – باب "فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ": (8/578) ، وكتاب الأدب – باب التبسم والضحك –: (10/504) بشرح ابن حجر فيهما، وصحيح مسلم – كتاب الاستسقاء – باب التعوذ عند رؤية الريح والغيم –: (2/616-617) ، وسنن أبي داود – كتاب الأدب – باب ما يقول إذا هاجت الريح –: (5/329) ، والمسند: (6/66) ،ورواية مسلم رواها البخاري – في كتاب بدء الخلق – باب ما جاء في قوله – عز وجل –: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} الأعراف57: (6/300) بشرح ابن حجر من قولها: كان إذا رأى مخيلة في المساء أقبل وأدبر، ودخل وخرج، وتغير لونه، الحديث، وكذلك رواه الترمذي – كتاب التفسير – سورة الأحقاف: (9/11) ، وابن ماجه – كتاب الدعاء – باب ما يدعو به الرجل إذا رأى السحاب والمطر: (2/1280) ، وابن المبارك في الزهد والرقاق: (48) – باب العمل والذكر الخفي.
ومعنى "مستجمعاً" قاصداً له، مجداً فيه، واللهوات جمع لهاة، وهي اللحمة الحمراء المتعلقة في أعلى الحنك، ومعنى "تخيلت" من المخيلة وهي سحابة فيها رعد وبرق، يخيل إلى الناظر أنها ماطرة كما في شرح النووي: (6/197) .
تنبيه أول:
لا مناة بين إخبار أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنها – بأنها ما رأت النبي – صلى الله عليه وسلم – مستجمعاً ضاحكاً حتى تظهر لهواته، وبين ما ثبت من ضحك نبينا –صلى الله عليه وسلم – حتى بدت نواجذه، في مناسبات متعددة، ومنها ضحكه من مقال الحبر وقد تقدم الحديث في صفحة: (......) من هذا الكتاب المبارك ففي بعض روايات الصحيحين وغيرهما أنه ضحك حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر، وسبب عدم المنافاة أن النواجذ وإن كان المراد بها الأضراس على الأشهر في إطلاق اللغة، فالمراد منها في الحديث الأنياب كما قال أبو العباس ثعلب وجماهير أهل اللغة، وإذا بدت الأنياب لا تظهر اللهاة وكان نبينا – صلى الله عليه وسلم – يفعل ذلك في بعض الأوقات ـ ومعظم ضحكه تبسم، هذا هو قول المحققين، فيما نقله عنهم الإمام النووي – عليهم جميعاً رحمة رب العالمين – انظر تهذيب الأسماء واللغات: (2/160) القسم الثاني وقرر الإمام ابن حجر هذا في الفتح: (8/578) ، فقال: قولها: إنما كان يتبسم، لا ينافي ما جاء في الحديث الآخر: أنه ضحك حتى بدت نواجذه، لأن ظهور النواجذ، وهي الأسنان التي في مقدم الفم أو الأنياب، لا يستلزم ظهور اللهاة، واعتبر في: (10/505) هذا الجواب أقوى الأجوبة في دفع ذلك التعارض، وقال: إن المثبت غير المنفي، ثم ختم الكلام بقوله: والذي يظهر من مجموع الأحاديث أنه – صلى الله عليه وسلم – كان في معظم أحواله لا يزيد على التبسم، وربما زاد على ذلك فضحك، والمكروه من ذلك إنما هو الإكثار منه، أو الإفراط فيه لأنه يذهب الوقار، قال ابن بطال، والذي ينبغي أن يقتدى به من فعله ما واظب عليه من ذلك، فقد روى البخاري في الأدب المفرد، وابن ماجه من وجهين عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – رفعه: "لا تكثروا الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب". وانظر الحديث في الأدب المفرد: (39-40) باب الضحك –، وسنن ابن ماجه – كتاب الزهد – باب الحزن والبكاء –: (2/140) ، قال في الزوائد: إسناده صحيح: (7/69) من طريق الحسن البصري عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنهم أجمعين –.
ولبيان حقيقة النواجذ والأنياب إليك عدد الأسنان في فم الإنسان، يبلغ عدد الأسنان في فم الإنسان عند اكتمال نموه اثنان وثلاثون، مقسمة كما يلي كما في قواعد التجويد: (37) :
أ- ... الثنايا ... :... وعددها أربع في كل فك اثنتان
ب- ... الرباعيات ... :... عددها أربع في كل فك اثنتان
جـ- ... الأنياب ... :... عددها أربع في كل فك اثنتان
د- ... الضواحك ... :... عددها أربع في كل فك ضاحكان، وهي تلي الأنياب وهي أول الأضراس
هـ- ... الطواحين ... :... عددها اثنا عشر طاحناً في كل فك ست، وهي تلي الضواحك
و ... النواجذ ... :... عددها أربع في كل فك ناجذان، وهي آخر الأضراس
التنبيه الثاني:
يستحب للإنسان أن يقول الدعاء المتقدم في رواية مسلم عند هبوب الرياح، وقد كان نبينا – صلى الله عيه وسلم – يقول غيره أيضاً، فانظر كتاب الأم: (1/253) ، والأذكار: (151-153) لتقف على ما ينبغي أن يقال عند اشتداد الرياح، لتكون من أهل الخير والفلاح.(3/39)
وكان – عليه الصلاة والسلام – يسأل ربه الثبات، ويكثر من ذلك في جميع الأوقات ففي سنن الترمذي بسند حسن عن أنس بن مالك – رضي الله تعالى عنهما – قال: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يكثر أن يقول: "يا مقلب القلوب ثبت قلب على دينك" فقلت: يا رسول الله –صلى الله عليه وسلم – أمنا بك وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ قال: "نعم، إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء" وفي رواية للترمذي بسند حسن أيضاً عن شهر بن حوشب، قال: قلت لأم سلمة – رضي الله تعالى عنها –: يا أم المؤمنين ما كان أكثر دعاء رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذا كان عندك؟ قالت: كان أكثر دعائه: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك" قالت: فقلت: يا رسول الله ما أكثر دعائك: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك؟ قال: "يا أم سلمة، إنه ليس آدمي إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله، فمن شاء أقام، ومن شاء أزاغ" فتلا معاذ – أحد الرواة –: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} آل عمران8، وفي سنن ابن ماجه بسند صحيح عن النواس بن سمعان – رضي الله تعالى عنه – قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: "ما من قلب إلا بين أصبعين من أصابع الرحمن، إن شاء أقامه، وإن شاء أزاغه"، وكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: "يا مثبت القلوب ثبت قلوبنا على دينك" قال "الميزان بيد الرحمن، يرفع أقواماً، ويخفض آخرين إلى يوم القيامة" وفي المسند وصحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله تعالى عنهما – أنه سمع رسول الله –صلى الله عليه وسلم – يقول: إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن عز وجل كقلب واحد يصرفه كيف يشاء" ثم قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "اللهم مصرف القلوب اصرف قلوبنا إلى طاعتك (1)
__________
(1) انظر رواية أنس – رضي الله تعالى عنه – في سنن الترمذي – كتاب القدر – باب ما جاء أن القلوب بين أصبعي الرحمن – عز وجل –: (6/314) ، وسنن ابن ماجه – كتاب الدعاء – باب دعاء رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: (2/1260) ، والمسند: (3/112، 257) ، والمستدرك – كتاب الدعاء: (1/256) ، وقال: صحيح، وأقره الذهبي، وكتاب السنة لابن أبي عاصم: (1/101) ، والشريعة للآجري: (137) ، والصفات للدارقطني: (54) ، وفي معجم الطبراني الأوسط بسند رجاله ثقات كما في مجمع الزوائد: (10/176) عن أنس – رضي الله تعالى عنه – أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم – كان يقول: "يا وليّ الإسلام وأهله ثبتني به حتى ألقاك"، وانظر رواية أم سلمة – رضي الله تعالى عنها – في سنن الترمذي – كتاب الدعوات – باب "95": (3517، 9/182) ، والمسند: (6/294، 302، 315) ، ومسند الطيالسي – منحة المعبود – كتاب الأذكار والدعوات – باب ما جاء في دعوات النبي – صلى الله عليه وسلم –: (1/256) ، وكتاب السنة لابن أبي عاصم: (1/100-104) والشريعة للآجري: (316) ، والتوحيد لابن خزيمة: (81) ، وانظر رواية النواس بن سمعان – رضي الله تعالى عنه – في سنن ابن ماجه – المقدمة – باب فيما أنكرت الجهمية –: (1/72) ، والمسند: (4/182) ، وصحيح ابن حبان – موارد الظمآن – كتاب الأدعية – باب أدعية رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: (600) ، والمستدرك – كتاب الدعاء: (1/525) ،وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، وأقره الذهبي، وكتاب التفسير –: (2/289) ، وقال: هذا حديث صحيح على شرطهما، وأقره الذهبي، وكتاب الرقاق –: (4/321) ، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، وكتاب السنة لابن أبي عاصم: (1/98، 103) ، والشريعة للآجري: (317-318) ، والاعتقاد للبيهقي: (79-80) ، والأسماء والصفات له: (341) ، والصفات للدارقطني: (55) ، والتوحيد لابن خزيمة: (80) والرد على الجهمية لابن منده: (87) ، وقال رواه الأئمة المشاهير ممن لا يمكن الطعن على واحد منهم، وانظر رواية عبد الله بن عمرو – رضي الله تعالى عنهما – في صحيح مسلم – كتاب القدر – باب تصريف الله القلوب كيف يشاء –: (4/2045) ، والمسند: (2/168، 173) ، والسنة لابن أبي عاصم: (1/100، 104) ، والشريعة للآجري: (316) ، والأسماء والصفات للبيهقي: (340) ، والصفات للدارقطني: (45، 72) .
والحديث مروي عن أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنها – في المسند: (6/291، 251) قالت: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يكثر أن يقول: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك وطاعتك" فقالت له: إنك تكثر أن تقول: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك وطاعتك"، فقال: - صلى الله عليه وسلم –: "وما يؤمنني، وإنما قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الله – عز وجل – إنه إذا أراد أن يقلب قلب عبد قلبه"، ورواه الإمام أحمد عنها أيضاً في مسند أبي هريرة – رضي الله تعالى عنهم أجمعين –: (2/418) بلفظ: "ما رفع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – رأسه إلى السماء إلا قال: "يا مصرف القلوب ثبت قلبي على طاعتك"، وقد اقتصر الهيثمي في المجمع: (7/210) على عزو الرواية الأخيرة إليها، وقال: فيه مسلم بن محمد بن محمد بن زائدة، قال بعضهم: وصوابه صالح بن محمد بن زائدة، وقد وثقه أحمد وضعفه أكثر الناس، وبقية رجاله رجال الصحيح، وعزا الهيثمي على معجم الطبراني الأوسط عن أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنها – نحو الروايتين المتقدمتين في المسند: (6/91-251) ، وقال: فيه العلاء بن الفضل، قال ابن عدي: في بعض ما يرويه نكارة، وبقية رجاله وثقوا وفيهم خلاف وانظر رواية الحديث عنها في السنة لابن أبي عاصم: (1/100-101، 104) ، والشريعة للآجري: (317) .
والحديث مروي أيضاً عن جابر بن عبد الله – رضي الله تعالى عنهما – في المستدرك – كتاب التفسير –: (2/288-289) ، وقال: على شرط مسلم، وأقره الذهبي، وكتاب الصفات للدارقطني: (54) ، ومسند أبي يعلى بسند رجاله رجال الصحيح كما قال الهيثمي في مجمع الزوائد: (10/6-17) ، والرد على الجهمية لابن منده: (88) ، وقال الحافظ ابن منده: هذا حديث ثابت باتفاق، وأشار الترمذي عند رواية أنس المتقدمة إلى هذه الرواية: فقال: وروى بعضهم عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر عن النبي – صلى الله عليه وسلم –، وحديث أبي سفيان عن أنس أصح.
والحديث مروي أيضاً عن شهاب بن المجنون الجرمي – رضي الله تعالى عنه – في سنن الترمذي – كتاب الدعوات – باب "135" 3581: (9/220-221) عن طريق عاصم بن كليب الجرمي عن أبيه عن جده، وجده هو الصحابي شهاب الجرمي – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – قال الترمذي: هذا غريب من هذا الوجه، ومراده بذلك أن متن الحديث قد روي عن جماعة من الصحابة، وانفرد كليب بروايته عن والده الصحابي شهاب، ويقال لهذا: إنه غريب إسناده لا متناً كما في تدريب الراوي: (376) ، وقد حكم ابن حجر في التقريب: (1/385، 2/236) على عاصم بأنه صدوق رمي بالإرجاء، وعلى كليب بأنه صدوق، وحكى في تهذيب التهذيب: (5/55-56، 8/445-446) خلافاً واسعاً في أمرهما، وذكر الحديث في الإصابة: (2/159) ، في ترجمة شهاب الجرمي الصحابي – رضي الله تعالى عنه – وعزاه إلى أبي يعلى، ومطين، والبارودي، والطبري، وآخرين وقال: قلت: رجاله موثقون إلا أن أبا داود قال: عاصم بن كليب عن أبيه عن جده ليس بشيء.
هذا وقد روى الحديث الطبراني بسند رجاله ثقات عن نعيم بن همار كما في مجمع الزوائد: (7/211) وابن أبي عاصم أيضاً في كتاب السنة: (1/99) ، وروياه أيضاً بسند رجاله ثقات عن سبرة ابن فاتك – ويقال سمرة بن الفاتك – رضي الله تعالى عنه – انظر المكانين المتقدمين، وروياه عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – من طريق عبد الله بن صالح قال الهيثمي: وثقه عبد الملك بن شعيب، وضعفه غيره، انظر المجمع: (7/211) ، وكتاب السنة: (1/103) ، وليس في الروايات الثلاثة ذكر الدعاء بل فيها الإخبار بأن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الله – عز وجل – ومن شاء أن يقيمه أقامه، ومن شاء أن يزيغه أزاغه، نسأل الله الكريم أن يثبت الإيمان في قلوبنا، وأن لا يزيغنا إذا هدانا، فهو ربنا ومولانا.(3/40)
".
وتحقيقاً لما تقدم من بيان حاله – صلى الله عليه وسلم – في الخوف من ربه – جل وعلا – والخشية له فقد كان يختم كل مجلس من مجالسه – صلى الله عليه وسلم – بسؤال الخشية من ربه، ففي سنن الترمذي ومستدرك الحاكم بسند صحيح عن ابن عمر – رضي الله تعالى عنهما – قال: قلما كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول من مجلس حتى يدعو بهؤلاء الكلمات لأصحابه: "اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصيبات الدنيا، ومتعنا بأسماعنا، وأبصارنا، وقوتنا ما حييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحكما" هذا لفظ الترمذي، وقال: حديث حسن غريب، ولفظ رواية الحاكم عن ابن عمر – رضي الله تعالى عنهم أجمعين –: أ، هـ لم يكن يجلس مجلساً كان عنده أحد أو لم يكن إلا قال: "اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به منى، اللهم ارزقني من طاعتك ما تحول بيني وبين معصيتك، وارزقني من خشيتك ما تبلغني به رحمتك، وارزقني من اليقين ما تهون به عليّ مصائب الدنيا، وبارك لي في سمعي، وبصري، واجعلهما الوارث مني، اللهم وخذ بثأري ممن ظلمني، وانصرني على من عاداني، ولا تجعل الدنيا أكبر همي، ولا مبلغ علمي، اللهم ولا تسلط عليّ من لا يرحمني"، فسئل عنهن ابن عمر، فقال: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يختم بهن مجلسه (1) .
* حال الملائكة المقربين، والأنبياء المطهرين – عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين في الخوف من رب العالمين:
__________
(1) انظر سنن الترمذي – كتاب الدعوات – باب "83" 3497، والمستدرك – كتاب الدعاء –: (1/528) ، وقال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري، واقره الذهبي، وانظره في الزهد والرقاق: (144-145) .(3/41)
.. إذا كان ما تقدم هو حال نبينا الأمين – عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم –، في الخوف من مالك يوم الدين، فإن ذلك الخلق الكريم، هو خلق الصفوة الطيبين، من الملائكة والنبيين – على نبينا وعليهم جميعاً أفضل الصلوات وأزكى التسليم –، ففي سورة الأنبياء: (26-28) ، يخبرنا ربنا عن حال ملائكة السماء، فيقول – جل ثناؤه –: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} الأنبياء26-28، وقال – جل وعلا – في سورة النحل: {وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} النحل49-50، وقد بلغ الحال بعظماء الملائكة الكبار – على نبينا وعليهم صلوات الله وسلامه – أن واحداً منهم لم يضحك منذ أن خلق الله النار ففي المسند عن أنس بن مالك – رضي الله تعالى عنهما – عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه قال لجبريل – عليه السلام –: "مالي لم أر ميكائيل ضاحكاً قط؟ فقال: ما ضحك ميكائيل منذ خلقت النار".(3/42)
.. قال الإمام العراقي – رحمه الله تعالى –: وورد ذلك في حق إسرافيل – عليه السلام – رواه البيهقي في الشعب، وفي حق جبريل – عليه السلام، رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الخائفين (1) .
__________
(1) انظر المسند: (3/224) ، قال الهيثمي في المجمع: (10/395) ، رواه أحمد من رواية إسماعيل بن عياش عن المدنيين، وهي ضعيفة، وبقية رجاله ثقات، وقال العراقي في المغني عن حمل الأسفار: (4/178) رواه أحمد وابن أبي الدنيا في كتاب الخائفين من رواية ثابت عن أنس – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – بإسناد جيد، ورواه ابن شاهين في السنة من حديث ثابت مرسلاً، وورد ذلك في حق إسرافيل رواه البيهقي في الشعب، وفي حق جبريل رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الخائفين ونقل ذلك عنه الترمذي في إتخاف السادة المتقين: (9/245) .(3/43)
.. قال عبد الرحيم – غفر الله ذنوبه أجمعين –: وإنما اشتد خوف النبيين، والملائكة المقربين – عليهم جميعاً أفضل الصلاة وأتم التسليم – لاطلاعهم على مالم يطلع عليه سائر المكلفين، من صفات رب العالمين، ومما يكون في الآخرة من نعيم وجحيم، وما يسبق ذلك من أهوال تذهل الحليم، وتشيب الولدان أجمعين، ولذلك قال خاتم الأنبياء والمرسلين – صلى الله عليه وسلم –:" إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطرت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها أربع أصابع إلا وملك (وملك) واضح جبهته ساجداً لله – عز وجل – والله لو تعلون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، وما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم على الصعدات تجأرون إلى الله، والله لوددتم أني كنت شجرة تعض (1)
__________
(1) الحديث من رواية أبي ذر – رضي الله تعالى عنه – رواه الترمذي – كتاب الزهد – باب في قول النبي – صلى الله عليه وسلم –: "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً": (7/74-75) ، وقال هذا حديث حسن غريب، وابن ماجه – كتاب الزهد – باب الحزن والبكاء –: (2/1402) ، والحاكم في المستدرك – كتاب الأهوال –: (4/579) ،وقال: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وأقره الذهبي ورواه في كتاب التفسير – سورة الإنسان: (2/510) ، وأبو نعيم في الحلية: (2/236) ، وفي الروايات الأربعة وردت جملة: "لوددت أني كنت شجرة تعضد" مرفوعة من كلام النبي – صلى الله عليه وسلم – وقال الترمذي ويروى من غير هذا الوجه أن أبا ذر – رضي الله تعالى عنه – قال: لوددت أني كنت شجرة تعضد 1هـ ونحوه في الحلية وورد التصريح بذلك في رواية المسند: (5/173) ، فقال أبو ذر – رضي الله تعالى عنه –: والله لوددت أني شجرة تعضد، وقد مال المباركفوري في تحفة الأحوذي: (3/359) على كون تلك الجملة من كلام أبي ذر – رضي الله تعالى عنه – لكن ابن العربي في عارضة الأحوذي: (9/195) ذهب إلى خلاف ذلك، وقرر كون تلك الجملة من كلام النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: وفي قوله: "وددت أني كنت شجرة تعضد" خبر عن عظم همه بأمته لما يرى فيهم من المكروه، فأما هو في ذاته الشريفة، ومنزلته الكريمة، فهو أمر لا يوازيه شيء.
وقد وردت جملة: "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً" من رواية عدة من الصحابة – رضي الله تعالى عنهم – عن نبينا – صلى الله عليه وسلم – وإليك البيان:
الرواية الأولى:
رواية أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنها – في صحيح البخاري – كتاب الكسوف – باب الصدقة – في الكسوف –: (2/529) ، وكتاب النكاح – باب الغيرة –: (9/319) بشرح ابن حجر فيهما، وصحيح مسلم – كتاب الكسوف – باب صلاة الكسوف –: (2/618) ، وسنن النسائي – كتاب الكسوف – باب نوع آخر من صلاة الكسوف عن عائشة – رضي الله تعالى عنها –: (3/108) ،وباب كيف الخطبة في الكسوف؟: (3/123) ، والموطأ – كتاب صلاة الكسوف – باب العمل في صلاة الكسوف: (1/186) والمسند: (6/81، 164) ، ورواية أنس بن مالك – رضي الله تعالى عنهما – في صحيح البخاري – كتاب التفسير – سورة المائدة – باب: "لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم –: (8/280) ، وكتاب الرقاق – باب قول النبي – صلى الله عليه وسلم –: "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً": (11/319) بشرك ابن حجر، وصحيح مسلم – كتاب الصلاة – باب تحريم سبق الإمام بركوع أو سجود ونحوهما –: (1/320) ، وكتاب الفضائل – باب توقيره – صلى الله عليه وسلم –: (4/1832) وسنن النسائي – كتاب السهو – باب النهي عن مبادرة الإمام بالانصراف من الصلاة –: (3/69) ، وسنن ابن ماجه – كتاب الزهد – باب الحزن والبكاء –: (2/1402) ، وسنن الدارمي – كتاب الرقاق – باب: "لو تعلمون ما أعلم": (2/306) ، والمسند: (3/102، 126، 154،180، 193، 210، 217، 240، 245، 251، 168، 290) وفي الأماكن التي تحتها خط بلفظ: "لو رأيتم ما أريت" وأخرجه عنه ابن مردويه كرواية أبي ذر المتقدمة كما في الدر: (3/265) .
ومن رواية أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – في صحيح البخاري – كتاب الرقاق – المكان المتقدم – وكتاب الإيمان والنذر – باب كيف كانت يمين النبي – صلى الله عليه وسلم –: (11/524) بشرح ابن حجر، وسنن الترمذي – المكان المتقدم –، والمسند: (2/257، 312، 313، 418، 432، 467، 477، 502) ، وصحيح ابن حبان – موارد الظمآن – كتاب الزهد – باب المواعظ: (616) والمستدرك – كتاب الأهوال: (4/579) ، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه بهذه السياقة، وأقره الذهبي.
ومن رواية أبي الدرداء – رضي الله تعالى عنه – في المستدرك – كتاب الرقاق –: (4/320) ، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح ولم يخرجاه بهذه السياقة وأقره الذمبي، ورواه الطبراني البزار من طريق ابنة أبي الدرداء عن أبيها – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – قال الهيثمي: ولم أعرفها وبقية رجال الطبراني رجال الصحيح كما في مجمع الزوائد: (10/230) ، ورواه البيهقي في شعب الإيمان كما في جمع الجوامع: (1/666) ومن رواية عبد الله بن مسعود – رضي الله تعالى عنه – في معجم الطبراني الكبير والأوسط ومسند البزار كما في مجمع الزوائد: (10/29) ، وفيه: وفيه عبد الله بن سعيد قائد الأعمش وهو ضعيف، ووثقه ابن حبان، وقال يخطئ، وبقية رجاله ثقات، وفي بعضهم خلاف.
ومن رواية عبد الله بن مكتوم – رضي الله تعالى عنه – في معجم الطبراني الكبير والأوسط ورجالهما رجال الصحيح كما في مجمع الزوائد: (10/230) ، ومن رواية سمرة بن جندب – رضي الله تعالى عنه – في معجم الطبراني، ومسند البزار كما في المجمع: (10/230) ، وفيه إسناد الطبراني من لم أعرفهم وإسناد البزار ضعيف 10هـ ورواه ابن عساكر في تاريخه كما في الجامع الكبير: (1/665) .(3/44)
". أي تقطع.
وقد أخبرنا نبينا – صلى الله عليه وسلم – عن شدة حزن أبينا آدم – على نبينا وعليه الصلاة والسلام – لمفارقته ما رآه، وبعده عما كان فيه، فقال – صلى الله عليه وسلم –: "لو أن بكاء داود – على نبينا وعليه الصلاة والسلام – وبكاء جميع أهل الأرض يعدل ببكاء آدم – على نبينا وعليه الصلاة والسلام – ما عدله (1) ، وما ذاك إلا لأنه عاين ما عاين عند رب العالمين، فهو وجل من عذابه الأليم، وراج ٍ لفضله العميم، وكل من كان في علمه بالله من الراسخين، وبما عند الله من المستيقنين، سيسلك طريق أبيه الكريم، الذي سار عليه سائر الأنبياء والمرسلين – عليهم جميعاً أفضل الصلاة وأتم التسليم – وقد كان سلفنا الطيبين على ذلك الخلق العظيم، قال ابن أبي مليكه – وهو من أئمة التابعين – عليه رحمة رب العالمين –: جلسنا إلى عبد الله بن عمرو – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – في الحجر، فقال: ابكوا، فإن لم تجدوا بكاء فتباكوا، لو تعلمون العلم لصلى أحدكم حتى ينكسر ظهره، ولبكى حتى ينقطع صوته (2) .
__________
(1) رواه الطبراني في المعجم الأوسط بسند رجاله ثقات عن بريدة – رضي الله تعالى عنه – كما في مجمع الزوائد: (8/198) – كتاب ذكر الأنبياء – باب ذكر نبينا آدم – على نبينا وعليه وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه –.
(2) وروى ذلك الحاكم في المستدرك في كتاب الأهوال: (4/578-279) ، وقال – هذا حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وأقره الذهبي، وثبت في المسند: (4/185) وإسناده جيد كما في مجمع الزوائد: (10/225) عن عتبة بن عبد أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: "لو أن رجلاً يخر على وجهه من يوم ولد إلى يوم يموت هرماً في مرضاة الله لحقره يوم القيامة".
وورد الحديث في المسند أيضاً: (4/185، وكتاب الزهد والرقاق لابن المبارك: (12 موقوفاً عن محمد بن أبي عميرة – وكان من أصحاب النبي –صلى الله عليه وسلم – ولفظه: "لو أن رجلاً خر على وجهه من يوم ولد إلى يوم يموت هرماً في مرضاة الله – عز وجل – لحقره ذلك اليوم، ولود أنه رد إلى الدنيا كيما يزداد من الأجر والثواب" قال الهيثمي في مجمع الزوائد: (10/225 رجاله رجال الصحيح، وقال الحافظ في الإصابة: (3/381) سنده قوي وانظر كلام الحافظ لتقف على من عزا إليه تخريجه أيضاً، وانظر الروايتين المتقدمتين المرفوعة والموقوفة في أسد الغابة: (5/109) .(3/45)
* تحريض النبي الأمين – صلى الله عليه وسلم – لأمته على الخوف من رب العالمين:
... حثنا نبينا – صلى الله عليه وسلم – على الخوف من الله الجليل، ورتب على التحلي بذلك الخلق النبيل، واسع الفضل والثواب الجزيل، فأخبرنا – صلى الله عليه وسلم – أن من خاف ربه في هذه الحياة، يأمن عندما تفزع المخلوقات، وتقوم لرب الأرض والسموات، ففي صحيح ابن حبان، وغيره من دواوين الإسلام عن نبينا – صلى الله عليه وسلم – فيما يرويه عن ذي الجلال والإكرام أنه قال: "وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين وأمنين، إذا خافني في الدنيا أمنته في يوم القيامة، وإذا أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة (1) ".
__________
(1) انظر موارد الظمآن – كتاب الزهد – باب الخوف من الله تعالى –: (617) عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – به، وعنه رواه البيهقي في شعب الإيمان كما في تخريج أحاديث الإيحاء: (4/159) وفيه وفي الترغيب والترهيب: (4/261) حكاية تصحيح ابن حبان للحديث، وهو في كتاب الزهد والرقاق لابن المبارك: (51) عن الحسن مرسلاً، وكذلك رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الخائفين كما في تخريج أحاديث الإحياء، واخرج البزار الروايتين المتقدمين المتصلة والمرسلة كما في مجمع الزوائد: (10/308) كتاب الزهد – باب ما جاء في الخوف والرجاء – وقال الهيثمي: شيخ البزار مجمد بن يحيى بن ميمون لم أعرفه، وبقية رجال المسند والمرسل رجال الصحيح غير محمد بن عمرو ابن علقمة وهو حسن الحديث، وقد تعقب الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي في تعليقه على كتاب الزهد والرقاق كلام الحافظ الهيثمي، قلت: محمد بن يحيى بن ميمون روى عنه البزار ويحيى بن صاعد فليس بمجهول العين.(3/46)
.. ويترتب على الأمن يوم الدين، أن يظلل بظل عرش رب العالمين، ففي الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة ربه، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، وجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه (1) ".
__________
(1) انظر صحيح البخاري – كتاب الأذان – باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة، وفضل المساجد –: (2/143) ، وكتاب الزكاة – باب الصدقة باليمين –: (3/293) ، ومختصراً في كتاب الرقاق – باب البكاء من خشية الله – عز وجل –: (11/312) ، وكتاب الحدود، باب فضل من ترك الفواحش: (12/112) بشرح ابن حجر في جميع ما تقدم، وصحيح مسلم – كتاب الزكاة – باب فضل إخفاء الصدقة: (2/715) ، وسنن الترمذي – كتاب الزهد – باب ما جاء في الحب في الله – عز وجل –: (7/119) ، وسنن النسائي – كتاب آداب القضاة – باب الإمام العادل –: (8/196) ، والموطأ – كتاب الشعر – باب ما جاء في المتحابين في الله – عز وجل –: (2/952) ، والمسند: (2/439) .
تنبيه:
حصر العدد في السبعة الواردة في الحديث الشريف لا مفهوم له، بدليل ورود غيرهم في روايات أخرى، وقد جمع الإمام ابن حجر عدد من ورد في الأحاديث أنهم يظللون تحت ظل العرش فبلغوا أربع سبعات – ثمانية وعشرين –، وأفردهم في جزء وسماه: معرفة الخصال الموصلة إلى الظلال، كما في فتح الباري: (2/144) .(3/47)
.. ويوالى إحسان العزيز الغفار، على من خافه في دار الزوال، فينجيه من النار، مع ما يحصل له من الأمن والإكرام في عرصات دار القرار، ثبت في سنن الترمذي، وغيره بسند صحيح عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع، ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم (1) ".
__________
(1) انظر سنن الترمذي – كتاب الجهاد – باب ما جاء في فضل الغبار في سبيل الله – عز وجل –: (5/351) وكتاب الزهد – باب ما جاء في فضل البكاء من خشية الله – عز وجل –: (7/73-74) ،وقال: هذا حديث حسن صحيح، وسنن النسائي – كتاب الجهاد – باب فضل من عمل في سبيل الله على قدمه: (6/11) ، والمسند: (2/505) ، والمستدرك – كتاب التوبة والإنابة –: (4/260) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، وأقره الذهبي، ونسبه السيوطي في الجامع الكبير: (1/938) لهناد والبيهقي في شعب الإيمان أيضاً، وهو في مسند الطيالسي – منحة المعبود: (1/234) .(3/48)
.. وفي سنن الترمذي بسند حسن عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: "عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله (1)
__________
(1) انظر سنن الترمذي – كتاب الجهاد – باب ما جاء في فضل الحرس في سبيل الله – عز وجل –: (5/357) ، وقال هذا حديث حسن غريب، قال الشيخ الأرناؤوط في تعليقه على جامع الأصول: (9/487) : وهو حديث صحيح بشواهده، ورواه عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – البيهقي في شعب الإيمان، والخطيب في المتفق والمفترق كما في جمع الجوامع: (1/513) ، والحديث رواه أبو يعلى بسند رجاله ثقات، والطبراني في الأوسط بنحوه عن أنس بن مالك – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – كما في مجمع الزوائد: (5/288) ، والترغيب والترهيب: (2/249) ، وعنه رواه الخطيب في تاريخ بغداد: (2/360) وروي الحديث عن العباس بن عبد المطلب – رضي الله تعالى عنه – بسند ضعيف في معجم الطبراني كما في مجمع الزوائد: (5/288) ، وتاريخ ابن عساكر والفيلانيات لأبي بكر الشافعي كما في جمع الجوامع: (1/513) ورواه الطبراني أيضاً عن معاوية بن حيدة – رضي الله تعالى عنه – وفي السند أبو حبيب العنقري، قال الهيثمي في المجمع: (5/288) لا أعرفه، وقال المنذري في الترغيب والترهيب: (2/249) لا يحضرني حاله، وبقية رجاله ثقات، ورواه الحاكم في المستدرك – كتاب الجهاد –: (2/82-83) من طريقين عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – وفي الطريق الأول عمر ابن راشد وقد ضعفوه، كما قال الذهبي والطريق الثاني منقطع كما قال الذهبي، والمنذري في الترغيب والترهيب: (2/250) ، وعنه رواه البغوي من شرح السنة من طريق المسعودي – كتاب السير والجهاد – باب فضل الجهاد –: (10/355) ، والحديث صحيح بشواهده المتقدمة، وقد رواه الحاكم أيضاً – المكان السابق – بسند صحيح وأقره الذهبي عن أبي ريحانة – رضي الله تعالى عنه – وهو في سنن الدارمي – كتاب الجهاد – باب في الذي يسهر في سبيل الله – حارساً –: (2/203) ، والمسند: (4/134-135) ، ومعجم الطبراني الكبير كما في مجمع الزوائد: (5/287) ، وفيه: ورجال أحمد ثقات.(3/49)
".
... وبالختام فالخوف من ذي الجلال والإكرام، ينجي من الآثام، ويحفظ الإنسان من الزلل والطغيان ويكسبه نيل رضا الرحمن، ولذلك كان نبينا – عليه الصلاة والسلام يوصي به أصحابه الكرام، ويحث على التخلق به جميع الأنام ففي سنن الترمذي بسند صحيح حسن عن عقبة بن عامر – رضي الله تعالى عنه – قال: قلت يا رسول الله، ما النجاة؟ فقال: "أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك (1)
__________
(1) انظر سنن الترمذي – كتاب الزهد – باب ما جاء في حفظ اللسان –: (7/128) ، والمسند: (4/148، 158، 5/259) ، والزهد والرقاق لابن المبارك: (43) ، والعزلة للخطابي: (8/8) ، والحلية: (2/9) وعزاه السيوطي في الجامع الكبير: (1/154) إلى البيهقي في شعب الإيمان، وزاد المنذري في الترغيب والترهيب: (3/524) عزوه إلى ابن أبي الدنيا في العزلة، وفي الصمت، وإلى البيهقي في الزهد وغيره، وعزاه لأبي داود أيضاً ولم أجده فيه بعد بحث فراجع، والحديث رواه الطبراني في الأوسط والكبير، وحسن إسناده عن ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه – وفي إسناده المسعودي وقد اختلط كما في مجمع الزوائد: (10/299) ، ورواه الطبراني بسند فيه عفير بن معدان وهو ضعيف كما في مجمع الزوائد: (10/299) عن أبي أمامة – رضي الله تعالى عنه – ولفظه: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ويشهد أني رسول الله فليسعه بيته، وليبك على خطيئته، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، ويشهد أني رسول الله، فليقل خيراً ليغنم، أو ليسكت عن شر فيسلم". وقد أوصى ابن مسعود ابنه أبا عبيدة بما ورد في هذا الحديث فقال له: أي بني أوصيك يتقوى الله، وليسعك بيتك، وابن على خطيئتك، وروى ذلك الطبراني بإسنادين رجالهما رجال الصحيح كما في مجمع الزوائد: (10/299) ، وفي الزهد للإمام أحمد: (156) قال عبد الله بن مسعود – رضي الله تعالى عنه – لابنه: يا بني، ليسعك بيتك، وأملك عليك لسانك، وابك من ذكر خطيئتك..وفي الزهد والرقاق لابن المبارك: (42) ، والحلية: (11/135) أن رجلاً قال لابن مسعود – رضي الله تعالى عنه –: أوصني، فقال: ليسعك بيتك، وابك من ذكر خطيئتك، وكف لسانك.(3/50)
" وفي معجمي الطبراني الصغير والأوسط بسند حسن عن ثوبان – رضي الله تعالى عنه –
: "طوبى لمن ملك لسانه ووسعه بيته، وبكى على خطيئته (1) " فمن سعادة الإنسان خشية الرحمن في السر والإعلان كما روى عن نبينا – عليه الصلاة والسلام –: "ثلاث منجيات، وثلاث مهلكات، فأما المنجيات فالعدل في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى، وخشية الله في السر والعلانية، وأما المهلكات: فشح مطاع، وعوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه (2) ".
... نسأل الله ربنا أن يرزقنا خشيته أينما كنا، وأن يجعل سرنا خيراً من علننا، فهو مولانا وحسبنا.
__________
(1) انظر مجمع الزوائد: (10/299) ، والترغيب والترهيب: (3/524) ، والعزلة لابن أبي الدنيا كما في جمع الجوامع: (1/567) .
(2) الحديث ضعيف وله شواهد كثيرة، وروي عن ابن عمر – رضي الله تعالى عنهما – في معجم الطبراني الأوسط، وفي سنده ابن لهيعة ومن لا يعرف كما في مجمع الزوائد: (1/91) ، وانظر فيض القدير: (3/308) ففيه الحكم بتضعيف هذه الرواية، وروي عن أنس بن مالك – رضي الله تعالى عنهما – في مسند البزار ومعجم الطبراني الأوسط، وفيه زائدة بن أبي الرقاد، وزياد النميري، وكلاهما مختلف في الاحتجاج به كما في مجمع الزوائد: (1/91) ، وعنه رواه أبو نعيم في الحلية: (2/343، 6/268) عن زائدة بن أبي الرقاد عن زياد النميري في المكان الثاني، وفي المكان الأول من طريق الفضل بن بكر عن قتادة به، ورواه أبو الشيخ في التوبيخ كما في الجامع الصغير: (3/307) معه الفيض، ورواه الخطيب في المتفق والمفترق، والعسكري في الأمثال كما في الجامع الكبير: (1/487) ، والبيهقي في شعب الإيمان كما في المغني عن حمل الأسفار في الأسفار: (3/235) ، وقال العراقي: سنده ضيف، وروي ذكر المهلكات في حديث ابن عباس وابن أبي أوفى – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – في مسند البزار وفي المسند محمد بن عون الخرساني وهو ضعيف جداً كما في مجمع الزوائد: (1/91) .(3/51)
* أسباب خوف المكلفين من رب العالمين
... مهما تعددت دوافع الخوف من الملك الوهاب، فإنها ترجع لثلاث أسباب، إليكم بيانها يا أولي الألباب:
السبب الأول إجلال الله وتعظيمه – عز شأنه وثناؤه –:
ويحصل ذلك الأمر الجليل، نتيجة للتأمل في الصلة بين العبد الحقير، والرب الكبير، فمن علم من حاله الضعف والفقر والاحتياج والجهل، وعلم من ربه – جل جلاله – ضد تلك الأوصاف، فهو القوي الغني ذو الجلال والإكرام، خاف رب العالمين، وأجله إجلال تعظيم، وإن كان من عباد الله المقربين، وقد أشارت إلى ذلك آيات الذكر الحكيم، ففي سورة آل عمران يقول ربنا الكريم: {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ} آل عمران28-30 فكرر ربنا – جل وعلا – قوله: " يُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ " مرتين للإشارة إلى أن ما لله الجليل من صفات يحتم الخوف منه على المخلوقات، وقد تقدمت إشادة القرآن بمن خاف من مقام الرحمن، وأن ذلك يحتمل قيام الله عليه، أو قيام العبد في الآخرة بين يديه، وعلى كلا التأويلين ففي الآية دلالة على عظيم رتبة من خشي رب الكونين، لما يتصف به من صفات توجب ذلك على العباد، حيث جاء ذلك مقدماً على رتبة من خاف العذاب: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} إبراهيم14،(3/52)
قال ذو النون المصري – عليه رحمة الله تعالى –: خوف النار عند خوف الفراق كقطرة في بحر لجيّ (1) .
السبب الثاني: خشية التفريط ويكون ذلك في الطاعات والمعاصي:
__________
(1) كما في الإحياء: (4/165) ، وشرحه: (9/223) ، ومختصر منهاج القاصدين: (328) ، وذو النون المصري هو ثوبان وقيل: الفيض بن إبراهيم توفي سنة ست وأربعين ومائتين – عليه رحمة الله تعالى – قال ابن كثير في البداية والنهاية: (10/347) هو أحد المشايخ المشهورين، وكان حكيماً فصيحاً، قيل، وسئل عن سبب توبته فذكر أنه رأى قبرة عمياء نزلت من وكرها، فانشقت لها الأرض عن سكر جنتين من ذهب وفضة في إحداهما سمسم وفي الأخرى ماء، فأكلت من هذه وشربت من هذه 10هـ القبرة: ضرب من الطير كما في المختار: (524) قبر، والسكرجة: إناء صغير يوضع فيه الشيء القليل من الأدم، كما في لسان العرب: (3/123) "سكر".
ومن طيب كلامه: بصحبة الصالحين تطيب الحياة، والخير مجموع في القرين الصالح إن نسيت ذكرك وإن ذكرت أعانك، ومن تطأطأ لقط رطباً من تعالى لقي عطباً. انظر ذلك وغيره من ترجمته المباركة في الحلية: (9/331-395) : (10/4-5) ، وصفة الصفوة: (4/315-321) ، وشذرات الذهب: (2/107-108) .(3/53)
.. أما الطاعات فلا يدري الإنسان حالها عند رب الأرض والسموات، هل فبلت فضارت من المقربات، وسبباً لنيل عظيم السعادات، أم ردت فصارت من المهلكات، المرديات في أسفل الدركات، فللقبول شروط في الفعل والفاعلين، هيهات أن تحصل على وجه الكمال في أحد من المكلفين، فالله يتقبل من المتقين، إذا كانت أعمالهم مشروعة في الدين، ومرداً بها وجهه الكريم، ولذلك عظيم خوف المؤمنين، وإن كانوا بطاعة ربهم قائمين، قال رب العالمين – جل شأنه العظيم –: {إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} المؤمنون57-61 وفي المسند وسنن الترمذي وابن ماجه والمستدرك عن أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنها – قالت، قلت: يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قول الله – عز وجل –: " وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ " أهو الرجل يزني ويسرق ويشرب الخمر، وهو مع ذلك يخاف الله – عز وجل –؟ قال – صلى الله عليه وسلم –: "لا، ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق، وهو مع ذلك يخاف الله – عز وجل (1)
__________
(1) انظر المسند: (6/159، 205) ، وسنن الترمذي – كتاب التفسير – سورة المؤمنين: (8/318-319) ، وسنن ابن ماجه – كتاب الزهد – باب التوقي على العمل: (2/1404) ، والمستدرك – كتاب التفسير – تفسير سورة المؤمنين: (2/393-394) ، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد وأقره الذهبي، وهو في تفسير ابن جرير: (18/26) ، ومعالم التنزيل: (5/39-40) ، وأخرجه الفريابي وعبد بن حميد، وابن أبي الدنيا في نعت الخائفين، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان كما في الدر: (5/11) ، والحميدي في مسنده: (1/132-133) .
والحديث من رواية عبد الرحمن بن سعيد بن وهب الهمداني عن أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنها – ولم يدركها كما في تهذيب التهذيب: (6/186) ، وله شاهد يتقوى به من حديث أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – في تفسير الطبري: (18/26) ، ورواه ابن أبي الدنيا، وابن الأنباري في المصاحف، وابن مردويه كما في الدر: (5/11) ، وأشار إليه الترمذي في المكان المتقدم، وقد نص على ذلك الشيخ الأرناؤوط في تعليقه على جامع الأصول: (2/245) .(3/54)
–"، ولذلك قال الحسن البصري – عليه رحمة ربنا القوي – إن المؤمن جمع إحساناً وشفقة، وإن المنافق جمع إساءة وأمناً، ثم تلا: {إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} المؤمنون57-61، وقال المنافق: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} القصص78، وروي عن الحسن أيضاً ابن المبارك في الزهد قال في تفسير قول الله – عز وجل –: " وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا " قال: يعطون ما أعطوا، " وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ " قال: يعملون ما عملوا من أعمال البر، وهم يخشون أن لا ينجيهم ذلك من عذاب ربهم – عز وجل – (1) وهذا ما قرره أئمة التفسير، قال الإمام ابن كثير – عليهم جميعاً رحمة ربنا الجليل –: " وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ " أي: يعطون العطاء، وهم خائفون وجلون أن لا يتقبل منهم لخوفهم أن يكونوا قد قصروا في القيام بشروط الإعطاء، وهذا من باب الإشفاق والاحتياط (2) .
__________
(1) انظر جامع البيان: (18/25) ، ورواه عنه ابن أبي حاتم أيضاً كما في الدر: (5/11) ، وانظر الزهد والرقاق: (6) ، وهو أيضاً في تفسير الطبري: (18/25) ، ورواه عبد بن حميد كما في الدر: (5/11) .
(2) انظر تفسير ابن كثير: (3/248) ، ونحوه في تفسير ابن جرير: (18/24-25) ، ومعالم التنزيل: (5/39) .(3/55)
وأما المعاصي، فكل إنسان لا يخلو من هفوات، ولا يسلم من زلات وعثرات، فهو مفرط في جبن رب الأرض والسموات، ولا يدري هل سيغفر له بعد الممات، أو سيصلى النار المعدة للعاصين الغواة، فالعاقل يرى نفسه أنه أسير ذنبه، فيعظم خوفه من ربه وفي صحيح ابن حبان، وحلية الأولياء عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "لو يؤاخذني الله وابن مريم بما جنت هاتان – يعني الإبهام والتي تليها – لعذبنا، ثم لم يظلمنا شيئاً (1) ".، ولذلك قال على – رضي الله تعالى عنه – لا يرجو عبد إلا ربه، ولا يخافن إلا ذنبه (2) .
__________
(1) انظر موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان – كتاب الزهد – باب الخوف من الله – سبحانه وتعالى – وأنه يعذب من يشاء ويرحم من يشاء –: (617) ، وحلية الأولياء: (8/132) .
(2) روى ذلك أبو نعيم في الحلية: (1/75) فساق بسنده إليه إنه قال: احفظوا عني خمساً فلو ركبتم الإبل في طلبهن لأفضيتموهن قبل أن تدركوهن: لا يرجو عبد إلا ربه، ولا يخاف إلا ذنبه، ولا يستحي جاهل أن يسأل عما لا يعلم، ولا يستحي عالم إذا سئل عما لا يعلم أن يقول: الله أعلم والصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسم، ولا إيمان لمن لا صبر له.(3/56)
وصور عبد الله بن مسعود – رضي الله تعالى عنه – حال المؤمن مع ما يفلت منه من الذنوب بمثال يخلع القلوب، فقال: إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه، فقال به هكذا، قال الحافظ في الفتح: قال ابن أبي جمرة – رحمة الله عليهم أجمعين –: السبب في ذلك أن قلب المؤمن منور، فإذا رأى من نفسه ما يخالف ما ينور به قلبه عظم الأمر عليه، والحكمة في التمثيل بالجبل أن غيره من المهلكات قد يحصل التسبب إلى النجاة منه، بخلاف الجبل إذا سقط على الشخص لا ينجو منه عادة، وحاصله: أن المؤمن يغلب عليه الخوف لقوة ما عنده من الإيمان، فلا يأمن من العقوبة بسببها، وهذا شأن المسلم أنه دائم الخوف والمراقبة يستصغر عمله الصالح، ويخشى من صغير عمله السيئ، وأما الفاجر فهو مظلم القلب فوقوع الذنب منه خفيف عنده، ولهذا تجد من يقع في المعصية إذا وعظ يقول: هذا سهل، والحكمة في تشبيه ذنوب الفاجر بالذباب كون الذباب أخف الطير وأحقره وهو مما يعاين ويدفع بأقل الأشياء، وفي ذكر الأنف مبالغة في اعتقاده خفة الذنب عنده، لأن الذباب قلما ينزل على الأنف، وإنما يقصد غالباً العين، وفي إشارته بيده تأكيد للخفة أيضاً لأنه بهذا القدر اليسير يدفع ضرره.(3/57)
وقال الحافظ أيضاً، قال المحب الطبري – عليهما رحمة الله تعالى –: إنما كانت هذه صفة المؤمن لشدة خوفه من الله – عز وجل – وعقوبته، لأنه على يقين من الذنب، وليس على يقين من المغفرة، والفاجر قليل المعرفة بالله – عز وجل – فلذلك قل خوفه، واستهان بالمعصية (1) .
__________
(1) انظر أثر ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه – في صحيح البخاري – كتاب الدعوات – باب التوبة –: (11/102) بشرح ابن حجر ورواه الترمذي – كتاب صفة القيامة – باب "50": (7/90) ، ورواه ابن مبارك في الزهد – باب ما جاء في تخويف عواقب الذنوب –: (23) ، وأبو نعيم في حلية الأولياء: (4/29) ، وانظر ما نقله الحافظ عن ابن أبي جمرة، والمحب الطبري في الشرح: (11/105) مع تصرف يسير في التقديم والتأخير.(3/58)
قال عبد الرحيم – غفر الله له ذنوبه أجمعين –: ولذلك عظم خوف الصحابة الصادقين – عليهم رضوان رب العالمين – فكانوا يحترسون مما وقع فيه كثير من المتأخرين، مما يحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم ففي صحيح البخاري عن أنس بن مالك – رضي الله تعالى عنهما – قال: إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر، إن كنا لنعدها على عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – من الموبقات، وفي المسند أيضاً عن أبي سعيد الخدري – رضي الله تعالى عنه – قال: إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر كنا نعدها على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من الموبقات، وفي المسند والمستدرك وغيرهما عن عبادة بن قرط – رضي الله تعالى عنه – قال: إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر كنا نعدها على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من الموبقات، قال حميد بن هلال فقلت لأبي قتادة، فكيف لو أدرك زماننا هذا؟ فقال أبو قتادة لكان لذلك أقول، وفي المسند وسنن الدارمي فذكروا ذلك لمحمد بن سيرين فقال: صدق، أرى جر الإزار منها (1) .
__________
(1) انظر الرواية الأولى في صحيح البخاري – كتاب الرقاق – باب ما يتقى من محقرات الذنوب: (11/329) بشرح ابن حجر، والرواية الثانية في المسند: (3/3) قال الهيثمي في المجمع: (10/190) ورجاله رجال الصحيح، وقال العراقي في تخريج أحاديث الإحياء: (4/18، 170) رواه أحمد والبزار بسند صحيح، وانظر رواية البزار في المجمع: (1/106) ، قال الهيثمي: وفيه عباد بن راشد وثقه ابن معين وغيره، وضعفه أبو داود وغيره، والرواية الثالثة في المسند: (5/79) ، والمستدرك – كتاب التوبة والإنابة –: (4/291-292) ، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأقره الذهبي، وسنن الدارمي – كتاب الرقاق – باب في الموبقات: (2/315) والطبراني كما في مجمع الزوائد: (10/190) ، وقال الهيثمي وبعض أسانيد أحمد والطبراني رجاله رجال الصحيح والتاريخ الكبير: (6/94) ، ومسند الطيالسي – منحة المعبود في ترتيب مسند الطيالسي أبي داود –: (2/64) - كتاب الكبائر – باب الترهيب من احتقار الذنوب الصغيرة – وانظره في أسد الغابة: (3/162) ، والإصابة: (2/270) ، وعبادة بن قرط وقيل: ابن قرص أصح وقال الهيثمي: قال الطبراني: عبادة الله أعلم، قتله الخوارج سنة إحدى وأربعين عندما كان بالأهواز بعد رجوعه من الغزو في سبيل الله فسمع أذاناً فأقبل نحوه، فإذا هو بالخوارج، فقالوا: من أنت؟ قال: أنا أخوكم، فقالوا: أنت أخو الشيطان، فلما أرادوا قتله، قال لهم أما ترضون بما رضي النبي – صلى الله عليه وسلم – مني، أتيته وأنا مشرك فشهدت أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فخلى عني، فقتلوه، قتلهم الله، ورضي عنه وأكرمه – انظر تفصيل ذلك في التاريخ الكبير: (6/93-94) ، وأسد الغابة: (3/162) ، وتجريد أسماء الصحابة: (1/294) ، والإصابة: (2/269-270) القسم الأول من حرف العين، وتعجيل المنفعة –: (209-210) .(3/59)
وفي المسند عن حذيفة – رضي الله تعالى عنه – قال: إن كان الرجل ليتكلم بالكلمة على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فيصير بها منافقاً، وإني لأسمعها من أحدكم في المقعد الواحد أربع مرات، لتأمرون بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتحاضن على الخير، أوليسحتكم الله جميعاً بعذاب، أو ليؤمرن عليكم شراركم ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لكم (1) .
قال كاتب هذه الأسطر: ستره رب العالمين والمسلمين أجمعين –: إذا كان كل إنسان لا يخلو من تقصير في حق الرب الجليل، ولا يعلم بأي ذنب يحل عليه غضب الرب الكبير، فينبغي أن يكون شديد الوجل من العزيز القدير، محترساً تمام الاحتراس من كل ذنب كبير وصغير، فلا ينظر إلى صغر الخطيئة وحقارتها، ولكن ينظر إلى كبرياء وجلال من واجهه بها، ثبت في صحيح ابن حبان وسنن ابن ماجه وغيرهما عن أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنها – قالت: قال لي رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "يا عائشة إياك ومحقرات الأعمال، فإن لها من الله طالباً" ورواه الإمام أحمد في المسند بلفظ: "إياك ومحقرات الذنوب فإن لها من الله – عز وجل – طالباً (2) ".
__________
(1) انظر المسند: (5/390) ، قال العراقي في تخريج أحاديث الإحياء: (1/128، 4/169) رواه أحمد بإسناد فيه جهالة.
(2) انظر موارد الظمآن – كتاب الزهد – باب اجتناب المحقرات –: (617-618) ، وسنن ابن ماجه – كتاب الزهد – باب ذكر الذنوب –: (2/1417) ، قال في الزوائد: إسناده صحيح، ورجاله ثقات، وانظره في سنن الدارمي – كتاب الرقاق – باب في المحقرات –: (2/303) ، وانظر رواية المسند فيه في: (6/70، 151) ورواه النسائي في السنن الكبرى كما في فتح الباري: (11/329) .(3/60)
وفي المسند ومعجم الطبراني الأوسط بسند صحيح عن ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "إياكم ومحقرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه، وإن رسول الله – صلى الله عليه وسلم ضرب لهن مثلاً كمثل قوم نزلوا أرض فلاة فحضر صنيع القوم فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود، والرجل يجيء بالعود، حتى جمعوا سواداً فأججوا ناراً وأنضجوا ما قذفوا فيها (1) ".
__________
(1) انظر المسند: (1/402-403) ، ومجمع الزوائد – كتاب التوبة – باب فيما يحتقر من الذنوب –: (10/189) ، قال الهيثمي: رواه أحمد والطبراني في الأوسط ورجالهما رجال الصحيح غير عمران ابن داور القطان، وقد وثق، وقد صحح الحديث الشيخ شاكر في تعليقه على المسند: (5/313) رقم "3818 لكنه تعقب صنيع الهيثمي بالتساهل لأن عبد ربه لم يرو له شيء في الصحيحين ورواه البيهقي في شعب الإيمان كما في جمع الجوامع: (1/363) ، والحديث رواه الطبراني بنحوه موقوفاً بإسنادين، ورجال أحدهما رجال الصحيح كما في مجمع الزوائد: (10/189-190) .
ورواه بنحوه أيضاً أحمد في المسند: (5/331) عن سهل بن سعد – رضي الله تعالى عنه – بسند حسن كما في فتح الباري: (11/329) ورجاله رجال الصحيح كما في مجمع الزوائد: (10/190) والطبراني في الثلاثة من طريقين ورجال أحدهما رجال الصحيح غير عبد الوهاب بن عبد الحكم، وهو ثقة، كما في المجمع: (10/191) .
ورواه بنحوه الطبراني عن سعد بن جنادة – رضي الله تعالى عنه – وفيه نفيع أبو داود وهو ضعيف كما في مجمع الزوائد: (10/191) .(3/61)
وإذا كان للمحقرات تلك الدركات، فهي تهلك من يتلبس بها من المخلوقات، وفاعلها في غفلة وفي سبات، فإن الشيطان يرضى بصدورها من المكلفين والمكلفات، كما أخبرنا عن ذلك خير البريات – عليه أزكى السلام وأفضل الصلوات – ففي سنن الترمذي وغيره عن عمر بن الأحوص – رضي الله تعالى عنه – قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: "ألا إن الشيطان قد أيس أن يعبد في بلادكم هذه أباداً، ولكن ستكون له طاعة فيما تحتقرون من أعمالكم فسيرضى له (1) ".
وقد سار سلفنا الأكابر على ذلك الهدي الفاخر فحذروا من الصغائر كما حذروا من الكبائر لما في الأمرين من انتهاك لحرمة العزيز القادر قال بلال بن سهد – أسكنه الله جنان الخلد –: لا تنظر إلى صغر الخطيئة، ولكن انظر إلى عظمة من عصيت (2) ، قال ابن المعتز:
خَلّ الذنوبَ صغيرها ... وكبيرها ذاك التُقَى
واصنعْ كَمَاش ً فوق أر ... ض الشّوك ِ يحْذرُ ما يرى
لا تَحْقِرَنّ صغيرة ... إنّ الجبالَ منَ الحَصَى (3)
السبب الثالث خوف سوء الخاتمة حسبما قدر على العبد في السابقة:
__________
(1) ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ لا يوجد الحاشية رقم 2.
(2) انظر رواية ذلك عنه في كتاب الزهد لابن المبارك: (24) ، وحلية الأولياء: (5/223) ، وصفة الصفوة: (4/218) ، وبلال بن سعد شامي ومنزلته في بلاد الشام كمنزلة الحسن البصري في بلاد العراق، وكانت وفاته في حدود العشرين ومائة، ومن جميل كلامه: لا تكن ولياً لله في العلانية وعدوا له في السر، وكفى بنا ذنباً أن الله يزهدنا في الدنيا ونحن نرغب فيها، وانظر ذلك وغيره من أخباره الطيبة فيما تقدم، وفي البداية والنهاية: (9/248-250) ، وتهذيب التهذيب: (1/503-504) .
(3) انظر نسبة ذلك إليه في تفسير القرطبي: (1/162) ، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير: (1/1) والأبيات في روح المعاني: (1/108) دون نسبة.(3/62)
.. وهذا السبب العظيم هو الذي من أجله طاشت له قلوب الصديقين، وطارت بسببه أفئدة الراسخين، فاشتد خوفهم من رب العالمين، وسألوه الثبات على دينه الكريم في جميع الأحايين، وخاصة عند اشتداد السياق بهم وهو الكرب العظيم، ومن سلك هذا المسلك الكريم، فيرجى له التثبيت من قبل رب العالمين، على صراطه المستقيم، والحظوة بفضله العميم، ومن انحرف عن ذلك من المكلفين، فهذا علامة خسرانه المبين، نسأل الله العظيم أن يثبت قلوبنا على دينه القويم، وأن يجعلنا يوم الفزع الأكبر من الآمنين، وأن يمن علينا بجنات النعيم، والنظر إلى وجهه الكريم فهو ربنا لكريم، وهو خير المسئولين.(3/63)
.. ثبت في الصحيحين وغيرهما عن عبد الله بن مسعود – رضي الله تعالى عنه – قال: حدثنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو الصادق المصدوق: "إن أحدكم يجمع خلفه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات، يكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أم سعيد، فوالذي لا إله إلا غيره، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها (1) ".
ولسوء الخاتمة أسباب تجمع في سببين عند أولي الألباب:
السبب الأول:
__________
(1) انظر صحيح البخاري – كتاب بدء الخلق – باب ذكر الملائكة – على نبينا وعليهم الصلاة والسلام –: (6/303) ، وكتاب الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – باب خلق آدم وذريته –: (6/363) ، وأول كتاب القدر –: (11/477) ، وكتاب التوحيد – باب "28": (13/440) بشرح ابن حجر في الجميع، وصحيح مسلم – أول كتاب القدر –: (16/189-195) بشرح النووي، وسنن أبي داود – كتاب السنة – باب في القدر –: (5/82) ، وسنن الترمذي – كتاب القدر – باب ما جاء أن الأعمال بالخواتيم –: (6/310) ، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وفي الباب عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنهم أجمعين –، وسنن ابن ماجه – المقدمة – باب في القدر –: (1/29) ، والمسند: (1/382، 414، 430) ، ومسند الحميدي: (1/69) ، وشرح السنة – كتاب الإيمان – باب الإيمان بالقدر –: (1/129) ، ومسند الطيالسي – منحة المعبود – كتاب القدر – باب تقدير حال الإنسان وهو في بطن أمه –: (1/31) ، والسنة لابن أبي عاصم: (1/77) ، والشريعة للآجري: (182) ، وقال: والحديث ابن مسعود طريق عن جماعة – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – ثم ساقها، والاعتقاد للبيهقي: (70) .(3/64)
.. الأمن على الإيمان من الاستلاب، عند الخروج من دار التكليف إلى دار الحساب ومن أمن من تقلبات القلوب عند تغاير الأحوال والأسباب، فهو من أهل التباب بلا ارتياب، ولذلك كان أبو الدرداء – رضي الله تعالى عنه – يحلف بالله – جل وعلا – أنه ما من أحد أمن على إيمانه أن يسلبه عند الموت إلا سلبه، ولما احتضر سفيان الثوري – عليه رحمة الله القوي – جعل يبكي ويجزع، فقيل له، يا أبا عبد الله، عليك بالرجاء فإن عفو الله أعظم من ذنوبك، فقال: أو على ذنوبي أبكي؟ لو علمت أني أموت على التوحيد لم أبال بأن ألقى الله – جل وعلا – بأمثال الجبال من الخطايا (1) .
قال عبد الرحيم – ختم الله الكريم له وللمسلمين بالحسنى آمين –: اعلم أخي المؤمن يا من يريد نصح نفسه، والفوز برضوان ربه، أنه لن يمر على الإنسان في كياته كرب كالكرب الذي سيلقاه عند مفارقة الدنيا، روى الإمام أحمد في المسند عن أنس بن مالك – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "لم يلق ابن آدم شيئاً قط خلقه الله أشد عليه من الموت، ثم إن الموت لأهون مما بعده (2) "، وذلك من وجهين فتأملهما، واعتن بما يلزمهما، عن طريق إعداد العدة لهما، فعما قريب سينزلان بك وستعرف حقيقتهما.
الوجه الأول:
__________
(1) انظر الخبرين في إحياء علوم الدين: (4/168-169) ، وإتحاف السادة المتقين: (9/229-230) , والخبران في مختصر منهاج القاصدين: (329) ، والخبر الأول رواه الرازي في كتاب صفات المنافقين: (47) عن أبي إدريس الخولاني – رحمه الله تعالى – بلفظ: ما على ظهرها من بشر يخاف على إيمانه أن يذهب إلا ذهب.
(2) تنظر المسند: (3/154) قال الهيثمي في مجمع الزوائد: (2/319) رجاله موثقون.(3/65)
.. شدة سكرات الموت التي تذهل الحليم، وتحول القوي الشديد إلى عليل سقيم، وتأمل ما وقع لنبينا – عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم – لترى ما يقع عند الموت من شدة لعباد الله المقربين، فضلاً عن بقية المكلفين، ثبت في صحيح البخاري وغيره عن أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنها – قالت: إن من نعم الله عليّ أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – توفي في بيتي، وفي يومي بين سحري ونحري – السحر: الرئة، وتعني بذلك أنه مات في حضنها – وأن الله جمع بين ريقي وريقه عند الموت، دخل عليّ عبد الرحمن – وهو ابن أبي بكر فهو أخوها – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – وبيده السواك، وأنا مسندة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فرأيته ينظر إليه، وعرفت أنه يحب السواك، فقلت: آخذه لك؟ فأشار برأسه أن نعم، فتناولته فاشتد عليه، وقلت، ألينه لك؟ فأشار برأسه أن نعم، فلينته له، فأمره – أي: على أسنانه فاستاك به -، وبين يديه ركوة أو علبة فيها ماء فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بهما وجهه، ويقول: لا إله إلا الله، إن للموت سكرات، ثم نصب يده فجعل يقول: في الرفيق الأعلى حتى قبض، ومالت يده" وفي لفظ في المسند وسنن الترمذي، وابن ماجه عنها – رضي الله تعالى عنها – قالت: رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو يموت، وعنده قدح فيه ماء، فيدخل يده في القدح، ثم يمسح وجهه بالماء، ثم يقول: "اللهم أعنى على سكرات الموت (1) ".
__________
(1) انظر روايات الحديث الشريف في صحيح البخاري – كتاب المغازي – باب مرض النبي – صلى الله عليه وسلم – ووفاته –: (8/144) ، وكتاب الرقاق – باب سكرات الموت –: (11/361) بشرح ابن حجر فيهما، والمسند: (6/64، 70، 77، 151) ، وسنن الترمذي – كتاب الجنائز – باب ما جاء في التشديد عند الموت –: (3/361) ، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب، وسنن ابن ماجه – كتاب الجنائز – باب ما جاء في ذكر مرض رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: (1/519) .(3/66)
.. ولذلك كانت – رضي الله تعالى عنها – تقول: مات رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وإنه لبين حاقنتي وذاقنتي، فلا أمره شدة الموت لأحد أبداً بعد ما رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وفي لفظ للترمذي عنها – رضي الله تعالى عنها – قالت: ما أغبط أحداً بهون موت بعد الذي رأيت من شدة موت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – (1) .
__________
(1) انظر الحديث في صحيح البخاري – كتاب المغازي – باب مرض النبي – صلى الله عليه وسلم – ووفاته: (8/140) بشرح ابن حجر، وسنن النسائي - - كتاب الجنائز – باب شدة الموت –: (4/6) ، والمسند: (6/74، 77) ، وسنن الترمذي – كتاب الجنائز – باب ما جاء في التشديد عند الموت –: (3/262) ، وشرح السنة – كتاب الجنائز – باب شدة الموت –: (5/297) ، وقال: هذا حديث صحيح، قال السيوطي في زهر الربى على المجتبى: (4/7) الحاقنة هي الوهدة المنخفضة بين الترقوتين من الحلق، والذاقنة بالذال المعجمة: الذقن، وقيل: طرف الحلقوم، وقيل: ما يناله الذقن من الصدر 10هـ وقال ابن الأثير في جامع الأصول: (11/67) الحاقنة: ما سفل من البطن، والذاقنة: طرف الحلقوم الناتيء، وقيل: الحاقنة: المطمئن من الترقوة والحلق، والذاقنة: نقرة الذقن.(3/67)
.. وثبت في صحيح البخاري وغيره عن أنس بن مالك – رضي الله تعالى عنه – قال: "لما ثقل النبي – صلى الله عليه وسلم – جعل يتغشاه، فقالت فاطمة – عليها السلام – واكرب أباه، فقال لها رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "ليس على أبيك كرب بعد اليوم"، فلما مات – صلى الله عليه وسلم – قالت: يا أبتاه أجاب ربا دعاه، يا أبتاه جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه، فلما دفن قالت فاطمة – عليها السلام –: يا أنس، أطابت نفوسكم أن تحثوا على رسول الله – صلى الله عليه وسلم - التراب (1) ؟.
وجاء في مراسيل الحسن البصري – عليه رحمة الله تعالى – بيان شدة الموت وما فيه من كربات بما يضعضع الجبال الراسيات، قال الحسن: إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ذكر الموت وغصته وألمه، فقال: "هو قدر ثلاثمائة ضربة بالسيف (2) ".
__________
(1) انظر صحيح البخاري – كتاب المغازي – باب مرض النبي – صلى الله عليه وسلم – ووفاته: (8/149) بشرح ابن حجر، وسنن ابن ماجه – كتاب الجنائز – باب ذكر وفاته ودفنه – صلى الله عليه وسلم –: (1/522) ،وفيه قال حماد: رأيت ثابتاً – الراوي عن أنس – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – حين حدث بهذا الحديث بكى حتى رأيت أضلاعه تختلف، والحديث في المسند: (3/141) قال الحافظ في الفتح: (8/149) ، وسكت أنس عن جوابها – رضي الله تعالى عنها وعنه وعنا معهما – رعاية لها، ولسان حاله يقول: لم تطب أنفسنا بذلك، إلا أنا قهرناها على فعله امتثالاً لأمره – صلى الله عليه وسلم –.
(2) رواه ابن أبي الدنيا مرسلاً بسند رجاله ثقات كما في المغني عن حمل الأسفار في الأسفار: (4/447) .(3/68)
قال الإمام الغزال – عليه رحمة الملك الباري –: اعلم أنه لو لم يكن بين يدي العبد المسكين كرب ولا هول ولا عذاب سوى سكرات الموت بمجردها لكان جديراً بأن يتنغص عليه عيشه، ويتكدر عليه سروره، ويفارقه سهوه وغفلته، وحقيقاً بأن يطول فيه فكره، ويعظم له استعداده، ولا سيما وهو في كل نفس بصدده، كما قال بعض الحكماء: كرب بيد سواك، لا تدري متى يغشاك، وقال لقمان لابنه: يا بني أمر لا تدري متى يلقاك استعد له قبل أن يفجأك، والعجب أن الإنسان لو كان في أعظم اللذات، وأطيب مجالس اللهو، فانتظر أن يدخل عليه جندي فيضربه خمس خشبات لتكدرت عليه لذته، وفسد عليه عيشه، وهو في كل نفس بصدد أن يدخل عليه ملك المموت بسكرات النزع، وهو عنه غافل فما لهذا سبب إلا الجهل والغرور.
واعلم أن شدة الألم في سكرات الموت لا يعرفها بالحقيقة إلا من ذاقها، ومن لم يذقها فإنما يعرفها بالقياس إلى الآلام التي أدركها، وإما بالاستدلال بأحوال الناس في النزع على شدة ما هم فيه.
فأما القياس الذي يشهد له، فهو أن كل عضو لا روح فيه فلا يحس بالألم، فإن كان فيه الروح فالمدرك للألم هو الروح، فمهما أصاب العضو حرج أو حريق سرى الأثر إلى الروح، فبقدر ما يسري إلى الروح يتألم، والمؤلم يتفرق على اللحم وسائر الأجزاء، فلا يصيب الروح إلا بعض الألم، فإن كان في الآلام ما يباشر نفس الروح، ولا يلاقي غيره ما أعظم ذلك الألم وما أشده.(3/69)
والنزع عبارة عن مؤلم نزل بنفس الروح، فاستغرق جميع أجزائه حتى لم يبق جزء من أجزاء الروح المنتشر في أعماق البدن إلا وقد حل به الألم، فلو أصابته شوكة فالألم الذي يجده إنما يجري في جزء من الروح يلاقي ذلك الموضع الذي أصابته الشوكة، وإنما يعظم أثر الاحتراق لأن أجزاء النار تغوص في سائر أجزاء البدن فلا يبقى جزء من العضو المحترق ظاهراً وباطناً إلا وتصيبه النار فتحسه الأجزاء الروحانية المنتشرة في سائر أجزاء اللحم، وأما الجراحة فإنما تصيب الموضع الذي مسه الحديد فقط، فكان لذلك ألم الجرح دون ألم النار، فألم النزع يهجم على نفس الروح ويستغرق جميع أجزائه، فإنه المنزوع المجذوب من كل عرق من العروق، وعصب من الأعصاب وجزء من الأجزاء، ومفصل من المفاصل، ومن أصل كل شعرة وبشرة من الفرق إلى القدم، فلا تسأل عن كربه وألمه، حتى قالوا: إن الموت لأشد من ضرب السيف، ونشر بالمناشير، وقرض بالمقاريض، لأن قطع البدن بالسيف إنما يؤلم لتعلقه بالروح، فكيف إذا كان المتناول المباشر نفس الروح، وإنما يستغيث المضروب ويصيح لبقاء قوته في قلبه، وفي لسانه، وإنما انقطع صوت الميت وصياحه مع شدة ألمه لأن الكرب قد بالغ فيه، وتصاعد على قلبه، وبلغ كل موضع فهد كل قوة، وضعف كل جارحة فلم يترك له قوة الاستغاثة، أما العقل فقد غشيه وشوشه، وأما اللسان فقد أبكمه، وأما الأطراف فقد ضعفها، ويود لو قدر على الاستراحة بالأنين والصياح والاستغاثة ولكنه لا يقدر على ذلك، فإن بقيت فيه قوة سمعت له عند نزع الروح وجذبها خواراً وغرغرة من حلقه وصدره، وقد تغير لونه واربد حتى كأنه ظهر منه التراب الذي هو أصل فطرته، وقد جذب منه كل عرق على حياله، فالألم منتشر في داخله وخارجه، حتى ترتفع الحدقتان إلى أعالي أجفانه، وتتقلص الشفتان، ويتقلص اللسان إلى أصله، وترتفع الأنثيان إلى أعالي موضعهما، وتخضر أنامله، فلا تسل عن بدن يجذب منه كل عرق من عروقه، ولو كان المجذوب(3/70)
عرقاً واحداً لكان ألمه عظيماً، فكيف والمجذوب نفس الروح المتألم لا من عرق واحد، بل من جميع العروق، ثم يموت كل عضو من أعضائه تدريجياً فتبرد أولاً قدماه، ثم ساقاه، ثم فخذاه، ولكل عضو سكرة بعد سكرة، وكربة بعد كربة، حتى يبلغ بها إلى الحلقوم، فعند ذلك ينقطع نظره عن الدنيا وأهلها ويغلق دونه باب التوبة، وتحيط به الحسرة والندامة ثم نقل الغزالي عن أخبار أهل الكتاب أن نبي الله موسى – على نبينا وعليه الصلاة والسلام – لما صارت روحه إلى الله – تبارك وتعالى – قال له: يا موسى كيف وجدت الموت؟ قال: وجدت نفسي كالعصفور حين يقلى على المقلى، لا يموت فيستريح ولا ينجو فيطير، وروي عنه أنه قال: وجدت نفسي كشاة حية تسلخ بيد القصاب (1) .
الوجه الثاني:
... إن الإنسان مع كونه في تلك الحال عند الاحتضار، فإن الشياطين الأشرار، تحيط به من جميع الجهات والأقطار، ويقول بعضهم لبعض: دونكم هذا، فإن فاتكم فلن تدركوه، فيجتمع على الإنسان عند السياق أمران فظيعان:
الأول: ضعف قواه، لدهاه من كربات الموت واعتراه.
الثاني: كثرة المردة الطغاة، وبذلهم ما في وسعهم لجعل المحتضر من العتاة، الغواة.
... فإن تداركت رحمة أرحم الراحمين عبده الضعيف المسكين في ذلك الحين، وثبته بالحق المبين، فقد سعد أبد الآبدين، وفاز بالنعيم المقيم في جنات النعيم، وإلا فهو من الهالكين الخاسرين، المخلدين في نار الجحيم.
__________
(1) انظر إيحاء علوم الدين: (4/445-447) ، ومختصر ذلك في مختصر منهاج القاصدين: (416) .(3/71)
.. فكيف يأمن العاقل على إيمانه، ولا يدري في ساعة الاحتضار عن حال جنابه، أو ما علم الإنسان أن قلب يتقلب مدى الأزمان، والمحفوظ من حفت به ألطاف ربنا الرحمن، قال نبينا – عليه الصلاة والسلام –: "لقلب ابن آدم أشد انقلاباً من القدر إذا استجمعت غلياناً" وفي رواية: "لقلب ابن آدم أسرع تقلباً من القدر إذا استجمعت غلياناً" ولذلك كان أكثر دعاء نبينا – صلى الله عليه وسلم –: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك" كما تقدم (1) ولله در من قال:
أحْسَنْتَ ظنّكَ بالأيام إذ ْ حَسُنَتْ ... ولم تخَفْ سُوءَ ما يأتي به القَدَرُ
وسالمَتْكَ الليالي فاغْتَرَرْتَ بها ... وعند صفْو ِ الليالي يحْدثُ الكدرُ (2)
__________
(1) الحديث رواه عن المقداد بن الأسود – رضي الله تعالى عنه – مرفوعاً كل الأئمة الكرام: أحمد في المسند: (6/4) ، والحاكم في المستدرك – كتاب التفسير – سورة آل عمران –: (2/289) ، وقال: هذا حديث على شرط البخاري، ولم يخرجاه، وأقره الذهبي، ورواه ابن أبي عاصم في السنة: (1/102) ، والطبراني بأسانيد ورجال أحدهما رجال الصحيح كما في مجمع الزوائد: كتاب القدر – باب ما جاء في القلب –: (7/211) ، وأبو نعيم في حلية الأولياء: (1/175) ، وانظر حديث "يا مقلب القلوب" في صفحة: (.....) من هذا الكتاب المبارك.
(2) انظر الأبيات في إحياء علوم الدين: (4/173) ، ومدارج السالكين: (1/516) .(3/72)
.. ولذلك كانت حلية الأبرار، عدم الأمن على إيمانهم ما داموا في هذا الدار، ولا يشعرون بالسعادة، وحصول الأمن إلا إذا فارقوا هذه الدنيا على توحيد العزيز الغفار، ذكر الأئمة الكرام في ترجمة الإمام أحمد بن حنبل شيخ الإسلام – عليهم جميعاً رحمة رب الأنام – أن ولده عبد الله قال: لما حضرت أبي الوفاة جعل يفرق ثم يفيق، ثم يفتح عينه، ثم يقول بيده هكذا لا، بعد، لا، بعد، ثلاث مرات، ففعل هذا مرة وثانية، فلما كان في الثالثة قلت له: يا أبتي أي شيء هذا، قد لهجت به في هذا الوقت؟ تفرق حتى تقول: قد قضيت، ثم تعود، فتقول: لا، بعد، لا بعد؟ فقال لي: يا بني ما تدري؟ فقلت: لا، فقال: إن إبليس – لعنه الله تعالى – قائم حذائي عاض على أنامله، يقول لي: يا أحمد فتني، وأنا أقول له، لا، بعد، حتى أموت (1) .
... ولما احتضر أبو هريرة – رضي الله تعالى عنه – بكى، وقال: والله ما أبكي حزناً على الدنيا، ولا جزعاً من فراقكم، ولكن أنتظر إحدى البشارتين من ربي، بجنة أو بنار.
... وقيل لجابر بن زيد عند الموت: ما تشتهي؟ فقال نظرة إلى الحسن البصري – عليهم جميعاً رحمة الله تعالى، فلما دخل عليه الحسن رفع طرفه إليه، ثم قال: يا أخو أناه الساعة والله أفارقكم إلى النار أو إلى الجنة.
... وقال محمد بن واسع – رحمه الله تعالى – عند الموت: يا إخواناه، السلام عليكم، إلى النار أو يعفو الله – عز وجل –.
... قال الغزالي – رحمه الله تعالى –: فخوف سوء الخاتمة قطع قلوب العارفين، وهو من الدواهي العظيمة عند الموت (2) .
__________
(1) انظر القصة في مناقيب الإمام أحمد لابن الجوزي: (408) – سياق ذكر حاله عند احتضاره، ونحوها في كتاب الزهد لابن المبارك: (104) عن عطاء بن يسار قال: تبدى إبليس لرجل عند الموت فقال: نجوت مني، قال: وأمنتك بعد.
(2) انظر إحياء علوم الدين: (4/449-450) ، وفيه الأخبار الثلاثة المتقدمة.(3/73)
السبب الثاني لسوء الخاتمة: الاغترار بالحال الحاضرة، والعجب بما يصدر عن الإنسان من طاعات ناقصة قاصرة، والغفلة عما في المكلف من الآفات، التي توجب له سوء الخاتمة عند الممات، وأمهات ذلك ثلاث بليات مهلكات، قل أن يخلو عن واحد منها أحد من المخلوقات، والمحفوظ من حفظه رب الأرض والسموات.
البلية الأولى باتفاق: اتصاف المكلف بالنفاق والغفلة عما فيه من سوء الأخلاق، ولا يخلو عن ذلك إلا الصديقين المقربون، لأن حقيقة النفاق اختلاف السر والعلانية، وتغاير المدخل والمخرج، وتضاد القلب والفعل، قال يزيد بن الحارث: إذا استوت سريرة العبد وعلانيته فذلك النصف، وإن كانت سريرته أفضل من علانيته فذلك الفضل، وإن كانت علانيته أفضل من سريرته فذلك الجور، وأنشد في هذا المعنى:
إذا السرُ والإعلان في المؤمن استوى ... فقد عزّ في الدارين واستوْجبَ الثنا
فإنْ خالفَ الإعلانُ سِراً فماله ... على سعْيه فضلٌ سوى الكَدِّ والعنا
فما خالِصُ الدينار في السوقُ نافِقٌ ... ومغشوشه المردودُ لا يقْتضي المُنا (1)
__________
(1) انظر قول يزيد بن الحارث وأبيات الشعر في إحياء علوم الدين: (4/379) ، ونحوه في الحلية: (2/156) عن الحسن.(3/74)
.. وفي كتاب الزهد لابن المبارك عن أبي عمر وقيس بن رافع، قال: اجتمع ناس من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عند ابن عباس، فتذاكروا الخير فرقوا، وواقد بن الحارث – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – ساكت، فقالوا: يا أبا الحارث ألا تتكلم؟ فقال: قد تكلمتم وكفيتم، فقالوا: تكلم فما أنت بأصغرنا سناً، فقال: أسمع القول فالقول خائف، وانظر الفعل فالفعل فعل آمن، وقال ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه –: إن الناس قد أحسنوا القول كلهم، فمن وافق قوله فعله، فذاك الذي أصاب حظه، ومن خالفه فإنما يوبخ نفسه (1) .
... واعلم أن لفظ الصدق كما يستعمل في صدق القول، يستعمل أيضاً في غيره، وقد نص العلماء الكرام على استعمال الصدق في ستة أقسام:
1- صدق في القول: وهذا أشهر أنواع الصدق وأظهرها فواجب على كل عبد حفظ ألفاظه فلا يتكلم إلا بالصدق ويدخل في هذا مراعاة معنى الصدق في ألفاظه التي يناجي بها ربه – جل وعلا – كقوله: " وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ " فإن كان منصرفاً عن الله مشغولاً بالدنيا فهو كاذب.
__________
(1) انظر كتاب الزهد والرقاق: (25) ، وقيس بن رافع يكنى بأبي عمرو، وبأبي رافع مصري تابع وهو مدني الأصل، ووهم من ذكره في الصحابة روى له أبو داود في المراسيل كما في تهذيب التهذيب: (8/391) ، وتقريبه: (2/128) ، وتجريد أسماء الصحابة: (2/20) ، وواقد بن الحارث يكنى بأبي الحارث وهو صحابي باتفاق – رضي الله تعالى عنه – وقد روى هذه القصة في ترجمته ابن الأثير في أسد الغابة: (5/431-432) ، ورواها ابن حجر عن كتاب الزهد في كتابه الإصابة: (3/627-627) القسم الأول من حرق الواو، وانظر تجريد أسماء الصحابة: (2/25) .(3/75)
2- صدق في النية والإرادة: ومرد ذلك إلى الإخلاص، وحقيقته: أن لا يكون له باعث في الحركات والسكنات إلا رضاء رب الأرض والسموات، فإن مازج نيته شيء من حظوظ النفس، وخالطها شوب من رعوناتها فهو بمعزل عن وصف الصدق عن رب العالمين، ويظهر كذبه يوم الدين، وتسعر به نار الجحيم، وقد ثبت هذا عن نبينا الأمين – عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم – (1) .
__________
(1) ثبت في صحيح مسلم – كتاب الإمارة – باب من قاتل للرياء والسمعة استحق النار –: (3/1513) ، وسنن النسائي – كتاب الجهاد – باب من قاتل ليقال فلان جريء –: (6/20-21) ، والمسند: (2/322) واقتضاء العلم العمل: (69-70) ، وسنن الترمذي – كتاب الزهد – باب ما جاء في الرياء والسمعة –: (7/112-114) ، وتفسير ابن جرير: (2/9-10) ، وصحيح ابن حبان، وصحيح ابن خزيمة كما في الترغيب والترهيب: (1/62-65) ، ورواه ابن المنذر، والبيهقي في شعب الإيمان كما في الدر المنثور: (3/323) ، وهذا لفظ مسلم عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: "إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه، رجل استشهد فأتي به، فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال: جريء، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال هو قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال كله، فأتى به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال: هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه، ثم ألقي في النار"، وفي رواية الترمذي، وابن جرير، وابن خزيمة عن شفى الأصبحي أنه دخل المدينة المنورة فإذا هو برجل قد اجتمع عليه الناس، فقال: من هذا؟ فقالوا: أبو هريرة – رضي الله تعالى عنه – فدنوت منه حتى قعدت بين يديه، وهو يحدث الناس، فلما سكت وخلا، قلت له: أنشدك بحق وبحق لما حدثتني حديثاً سمعته من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عقلته وعلمته، فقال أبو هريرة – رضي الله تعالى عنه –: أفعل، لأحدثنك حديثاً حدثنيه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عقلته وعلمته، ثم نشغ أبو هريرة – رضي الله تعالى عنه – نشغة – أي: شهق وغشي عليه كما في اللسان: (10/339) "نشغ" – فمكث قليلاً ثم أفاق، فقال: لأحدثنك حديثاً حدثنيه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في هذا البيت ما معنا أحد غيري وغيره، ثم نشغ أبو هريرة – رضي الله تعالى عنه – نشغة أخرى، ثم أفاق فمسح وجهه، فقال: لأحدثنك حديثاً حدثنيه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأنا وهو في هذا البيت ما معنا أحد غيري وغيره، ثم نشغ أبو هريرة – رضي الله تعالى عنه – نشغة أخرى، ثم أفاق ومسح وجهه، فقال: أفعل لأحدثنك حديثاً حدثنيه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأنا معه في هذا البيت ما معه أحد غيري وغيره، ثم نشغ أبو هريرة – رضي الله تعالى عنه – نشغة شديدة، ثم مال خاراً على وجهه، فأسندته علي طويلاً، ثم أفاق فقال: حدثني رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وساق الحديث نحو ما تقدم، وفي آخره: "ثم ضرب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على ركبتي: يا أبا هريرة – أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة" فأخبر شفى معاوية بهذا الحديث عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – فقال – رضي الله تعالى عنه –: قد فعل بهؤلاء هذا، فكيف بمن بقي من الناس؟ ثم بكى معاوية بكاء شديداً حتى ظننا أنه هالك، وقلنا: قد جاءنا هذا الرجل بشر، ثم أفاق معاوية – رضي الله تعالى عنه – ومسح عن وجهه، وقال: صدق رسول الله: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} هود15-16.
فتأمل هذا الحديث يا عبد الله، يا من يريد نصح نفسه وسعادتها، كيف اعتبر الله – جل وعلا – كدر النية وفسادها كذباً، وأوجب لأهل ذلك الوصف ناراً ملتهبة، مع أن ما صدر من أولئك الأصناف في منتهى الفضيلة والجلال، ولم ينف الله صدوره من العمال، إنما نفى إرادة وجهه الكريم بتلك الأعمال.
وقد ثبت عن نبينا الكريم – عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم – ما يخلع قلوب المتعلمين، إذا لم يخلصوا لله رب العالمين، ففي المستدرك – كتاب العلم –: (1/85) وهو حديث صحيح وسنده ثقات رواته على شرط الشيخين ولم يخرجاه كما قال الحاكم، وأقره الذهبي، وصحيح ابن حبان – موارد الظمآن – كتاب العلم – باب في النية في طلب العلم: (51) ، وسنن أبي داود كتاب العلم – باب في طلب العلم لغير الله تعالى –: (4/71) ، وسنن ابن ماجه – المقدمة – باب الانتفاع بالعلم والعمل به: (1/92-93) ، والمسند: (2/338) ، وشعب الإيمان للبيهقي كما في جمع الجوامع: (1/764) ، وجامع بيان العلم وفضله: (1/190) ، وقد حكم العراقي على الحديث في المغني عن حمل الأسفار في الأسفار: (1/67) بأنه جيد الإسناد، عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "من تعلم علماً مما يبتغي به وجه الله، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا، لم يجد عرف الجنة يوم القيامة" يعني: ريحها.
وفي شرح الشرنوبي على تائية السلوك: (31-32) أبيات سديدة رشيدة في هذا المعنى، على طريق الإخبار عن الكبير المتعال، وهي:
تعَلمْ ما استطعت لقصْدِ وجهي ... فإن العلم من سفن النجاة
وليس العلمُ في الدنيا بفخر ٍ ... إذا ما حل في غير الثقاتِ
ومن طلب العلوم لغير وجهي ... بعيدٌ أنْ تراه من الهُداةِ
فعليك أخي المسلم في كل عمل باستحضار النية، وجعلها خالصة لرب البرية، فالعمل بغير نية عناء وهباء، والنية في غير إخلاص من شرك ورياء، نسأل الله الكريم أن يجعل علمنا صالحاً ولوجهه خالصاً، وأن لا يجعل لأحد فيه شيئاً، إنه سميع الدعاء.(3/76)
لأنه لا مشقة في ذلك، والمؤنة فيه خفيفة، فإذا حقت الحقائق، وحصل التمكن هاجت الشهوات فانحلت العزائم، وتأخر الإنسان عن فعل المكارم، وهذا مضاد للصدق في العزيمة، ومعاقبته وخيمة وهو خلق المنافقين الفجار، ويتنزه عنه المؤمنين الأبرار، كما أخبرنا عن ذلك العزيز الغفار، وقال: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} الأحزاب23، ثبت في الصحيحين وغيرهما عن أنس بن مالك – رضي الله تعالى عنهما – قال: غاب عمي أنس بن النضر – رضي الله تعالى عنه – عن قتال بدر، فقال: رسول الله – صلى الله عليه وسلم – غبت عن أول قتال قاتلت المشركين، لئن الله أشهدني قتال المشركين ليرين الله ما أصنع، فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون، قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء – يعني: أصحابه – وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء – يعني: المشركين – ثم تقدم، فاستقبله سعد بن معاذ – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – فقال: يا سعد بن معاذ، الجنة ورب النضر، إني أجد ريحها من دون أحد، قال سعد ما استطعت يا رسول الله ما صنع، قال أنس: فوجدنا به بعضاً وثمانين ضربة بالسيف، أو طعنة برمح، أو رمية بسهم، ووجدناه قد مثل به المشركون، فما عرفه أحد إلا ببنانه، قال أنس: كنا نرى – أو نظن – أن هذه الآية نزلت فيه، وفي أشباهه: " مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ " إلى آخر الآية (1) .
__________
(1) انظر صحيح البخاري – كتاب الجهاد – باب "12" قول الله – عز وجل – " مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ " الآية: (6/21) ، وكتاب المغازي – باب غزوة أحد –: (7/354-355) ، كتاب الإمارة – باب ثبوت الجنة للشهيد –: (3/1512) ، وسنن الترمذي – كتاب التفسير – سورة الأحزاب: (8/341-342) ، والمسند: (3/194، 201، 253) ، وجامع البيان: (21/93) ، وحلية الأولياء: (1/121) ، ومعالم التنزيل: (5/246) ، والحديث أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه، وأبو نعيم في المعرفة، وابن سعد، والبغوي في معجمه، والبيهقي في دلائل النبوة، والنسائي في السنن الكبرى، وابن المنذر، والحاكم كما في الدر المنثور: (5/191) ، قال الحافظ في الفتح: (6/22) قوله: " فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ " أي: مات، وأصل النحب: النذر، فلما كان كل حي لابد له من الموت فكأنه لازم له، فإذا مات فقد قضاه، والمراد هنا: من مات على عهده لمقابلته بمن ينتظر ذلك، وأخرج ذلك ابن أبي حاتم بإسناد حسن عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهم أجمعين –.
قال عبد الرحيم: يحصل الأجر للمكلفين بمقدار صدقهم في وفائهم على ما عزموا عليه من طاعة رب العالمين، فمن تم صدقه اكتمل أجره، ومن خف صدقه قل أجره كما ثبت في سنن الترمذي في كتاب الجهاد – باب ما جاء في الشهداء عند الله – عز وجل –: (5/360-361) ،وقال حسن غريب، والمسند: (1/23) ، قال الشيخ شاكر في تعليقه على المسند: (1/221) رقم: "150" إسناده حسن عن عمر بن الخطاب – رضي الله تعالى عنه – قال سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: " الشهداء أربعة، رجل مؤمن جيد الإيمان لقي العدو فصدق الله حتى قتل فذلك الذي يرفع الناس إليه أعينهم يوم القيامة هكذا، ورفع رأسه حتى وقعت قلنسوته، - قال الراوي –: فما أدري أقلنسوة عمر أراد، أم قلنسوة النبي – صلى الله عليه وسلم -، قال: ورجل مؤمن جيد الإيمان لقي العدو فكأنما ضرب جلده بشوك طلح من الجبن أتاه سهم غرب فقتله فهو في الدرجة الثانية، ورجل مؤمن خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً فلقي العدو فصدق الله حتى قتل فذلك في الدرجة الثالثة، ورجل مؤمن أسرف على نفسه لقي العدو فصدق الله حتى قتل فذلك في الدرجة الرابعة".
وإذا تلبس المكلف بالنفاق، فالعمل مردود عليه فاتفاق، ففي سنن الدارمي – كتاب الجهاد – باب في صفة القتل في سبيل الله: (2/206-207) ، والمسند: (4/185-186) ، ومجمع الطبراني كما في مجمع الزوائد: (5/291) ، وقال الهيثمي: رجال أحمد رجال الصحيح غير المثنى الأملوكي وهو ثقة، وقال المنذري في الترغيب والترهيب: (2/317) إسناد أحمد جيد، والحديث رواه ابن حبان في صحيحه – موارد الظمآن – كتاب الجهاد – باب جاء في الشهادة –: (388) ورواه البيهقي كما في الترغيب والترهيب: (2/317) كلهم عن عتبة بن عبد السلمي – رضي الله تعالى عنه – واللفظ لرواية المسند أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: والقتلى ثلاثة: رجل مؤمن قاتل بنفسه وما له في سبيل الله حتى إذا لقي العدو قاتلهم حتى يقتل، فذلك الشهيد المفتخر في خيمة الله تحت عرشه، لا يفضله النبيون إلى بدرجة النبوة، ورجل مؤمن قرف على نفسه من الذنوب والخطايا جاهد بنفسه وماله في سبيل الله، حتى إذا لقي العدو قاتل حتى يقتل محيت ذنوبه وخطاياه، إن السيف محاء الخطايا – وفي رواية غير المسند: فتلك مصمصمة محت ذنوبه وخطاياه – أي: ضربة بالسيف الصمصام تكفر عنه الأوزار والآثام – وأدخل من أي أبواب الجنة شاء، فإن لها ثمانية أبواب، ولجهنم سبعة أبواب، وبعضها أفضل من بعض، ورجل منافق جاهد بنفسه وماله حتى إذا لقي العدو قاتل في سبيل الله حتى يقتل، فإن ذلك في النار، إن السيف لا يمحو النفاق".(3/77)