السبب في صلاحه كانت دعوته له مقبولة؛ لأن الوصل الذي علق عليه القبول والدعاء هو الصلاح فإذا لم يكن الأب سبباً في هذا الصلاح، فقبول الدعوة فيه ما فيه، والله - جل وعلا - يقول: {وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [(24) سورة الإسراء] يعني هذه الدعوة في مقابل التربية هذه الدعوة (رب ارحمهما) في مقابل (كما ربياني صغيراً) فالذي يهمل أولاده ولا يربيهم يعني دخوله في مثل هذه النصوص، فضل الله واسع لا يحد، وقد يكون الولد مستجاب الدعوة، فيجاب إذا دعا لأحد من أولى ذلك والديه لكن على الإنسان أن يبذل السبب ليدخل في هذه النصوص، قد يقول قائل: هناك أناس بذلوا أسباب ما نجحوا وأناس أهملوا وانتفعوا بأولادهم ما شاء الله، وصاروا علماء أولادهم نعم نعرف من أنفسنا ومن غيرنا من بذل الجهد في تربية الأولاد وما طلعوا على ما يريد حرص على تحفيظهم القرآن ما أفلح، وأعرف شخصاً عنده ولدان يقول: والله ما علمت أنهما حفاظ من حفاظ القرآن حتى دعيت لحفل التكريم، يقول: والله ما علمت أنهما يحفظان القرآن حتى دعيت إلى حفل التكريم، ولا شك أن ما بذل له أجر، والله -جل وعلا- لا يضيع أجر من أحسن عملاً، وهذا أيضاً لن يحرم -إن شاء الله- دعوة صالحة من هذين الولدين، الذين نشئا على الصلاح والخير؛ لكن أجره ليس مثل أجر من اهتم بولده، وبذل الأسباب، إذا عرفنا أن بذل السبب في وقاية الولد من النار جاء الأمر به في الآية التي نحن بصدد الحديث عنها، فهل يدخل فيها من أهمل ولده ولو نشأ الولد صالحاً؟ يعني ما بذل ما أُمر به {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [(6) سورة التحريم] ما وقى أهله النار مفهوم الآية؛ لكن فضل الله واسع، لا يحجر فضل الله؛ لكن يبقى هذا فيمن أهمل، فكيف بمن يسر لولده أسباب الفساد؟ نسأل الله السلامة والعافية، ثم بعد ذلك عاش الولد طيلة حياة والده على هذا الفساد، فلما توفي والده نسأل الله السلامة والعافية تولى هذا الولد غيره، غير هذا الوالد، ثم أصلحه الله بسبب من دعاه إلى الخير، لا شك أن هذا غاش لرعيته، ومتوعد بحرمانه من الجنة، نسأل الله السلامة والعافية.(26/11)
فعلى الإنسان أن يتمثل هذه الآية، ويربي ولده وأهله من أول يوم، بل قبل ذلك في الاختيار في اختيار الزوجة أن يختار المرأة الصالحة التي تعينه على نفسه أولاً، وعلى نفسها وعلى أولاده تعينه على الخير، ولذا جاء في الحديث ((فاظفر بذات الدين تربت يداك)) والأم مدرسة الأم مدرسة، أول من يستفيد منها الزوج إذا كانت صالحة، وأول من يستفيد من الزوج إذا كان صالحاً الزوجة، وبصلاحهما يتم لهما التعاون على البر والتقوى، ويتعاونان أيضاً على تنشئة جيل صالح يبدأ من هذه الأسرة، ويتنشر إلى الأقارب والجيران، ثم إلى المجتمع، على الأب إن كان من أهل العلم أن يعقد الدروس العلمية في بيته لأسرته بادئاً بصغار العلم، فيعلمهم القرآن، ويبدأ بقصار السور، ويعلمهم السنة بادئاً بالأربعين مثلاً، يجعلهم يحفظونها، ويشرح لهم معاني هذه الأحاديث، ويبين لهم غريب القرآن، أثناء حفظهم إياه، ويعلمهم العقيدة الصحيحة، يبدأ من الأصول الثلاثة والقواعد الأربع وكشف الشبهات والتوحيد والواسطية إلى آخر السلسلة المعروفة عند أهل العلم، يحرص على تنشئتهم تنشئة صالحة على العقيدة السليمة، ويعلمهم بعض الأحكام الشرعية التي تناسب مستواهم، هذا إن كان من أهل العلم، وأدركنا الجيل الذين قبلنا وقد يوجد أفراد لكنه ما يلاحظ بكثرة، يعني تجد الولد، وهو في الأشهر في الشهر السابع الثامن تجده يشير بأصبعه من كثرة ما يقال: له لا إله إلا الله، وتجده في سنة في سنة ونصف تسأله من ربك؟ يقول: ربي الله، أين الله؟ يقول: في السماء، على العرش استوى، أقول: مثل هذا الكلام وأدركناه يحفظونهم أصول الدين، يلقنونهم من الصغر، وجرت عادة العلماء من المتقدمين إحضار أولادهم إلى مجالس التحديث قبل سن التمييز، الولد ما ميز كيف تأتي به؟ يحضر مجالس العلم لينشأ عليها محباً لها، ولا يستنكرها ولا يستغرب، وأهل العلم عندما يحضر لديهم أمثال هؤلاء وهذا ذكروه في كتب المصطلح إذا أحضر عندهم أبو ثلاث سنوات أو أربع سنوات، وهو ما يحفظ ولا يفهم يختلفون هل تكتب أسماؤهم في الطباق أو لا تكتب؟ يعني هل يكتبون ضمن أسماء الحاضرين فيروون فيما بعد هذه المرويات بحضورهم عند الشيخ وسماعهم له، وإن لم يكونوا(26/12)
من أهل التمييز، فصار بعض المحدثين يكتب للمميز سمع فلان وفلان وفلان من كبار وصغار، من مكلفين وغير مكلفين؛ لكن كلهم في دائرة التمييز ولمن لم يميز حضر أو أحضر، نعم المميز يكتب له سمع مثل الكبار، وغير المميز يقال: حضر أو أحضر كل ذلك ليألف الصبي سماع العلم من الصغر، وينشأ على حبه.(26/13)
أما بالنسبة لحق الزوجة على زوجها فعليه أن يعلمها ما تحتاج إليه من أمور الدين من أول ليلة، من ليلة الدخول، وليكن ذلك بدأً بأذكار النوم من أول ليلة ما المانع؟ وتجد الزوجة تجلس عند بعض طلاب العلم العقود، وهي لا تعرف أذكار النوم ولا أذكار الأكل ولا أذكار الدخول ولا الخروج، ولا شيء، والأذكار لها شأن عظيم في حفظ النفس والأهل والمال والولد، وكان النبي -عليه الصلاة والسلام- يعوذ الحسن والحسين فتنشئتهم على هذه الأذكار، والآن كل شيء متيسر، الأذكار يمكن تطبع في كرت ورقة واحدة، ومع ذلك توزع على الأهل والأولاد، ويضرب لهم مدة لحفظها، وأعرف شخص ولده من هؤلاء الشباب الذين في مرحلة المراهقة، ويطلب سيارة قال: ما عندي مانع أن أشتري لك سيارة؛ لكن بشرط أن تحفظ أذكار الصباح والمساء، وجميع الأذكار، وهي مدونة في كتيب أعطاه الكتاب، وبعد مدة سمع له، واشترى له السيارة، هذه الأذكار تحفظ، الآن يعاني كثير من الناس، واحد من الأخوان اشترى لولده سيارة في الثانوية، يشكو يقول: كل يوم يأتي لنا بمصيبة، كل يوم حادث، هل عود الولد على الأذكار؟ ما عود والأذكار، لا شك أنها حصن هذه فائدتها في الدنيا فكيف بفائدتها في الآخرة؟ وهي من أعظم الأسباب في الوقاية من النار، والرسول -عليه الصلاة والسلام- يقول: ((سبق المفردون)) الذاكرين الله كثيراً والذاكرات، وجاء الحث على الذكر في كثير من النصوص، الذكر لا يكلف شيء، فتنشئة الولد والأهل على هذا الأمر لا شك أنه من الوقاية من عذاب الله -جل وعلا-، لا يكلف شيء، يعني هل الولد إذا قيل له: قل سبحان الله وبحمده مائة مرة، يعني في دقيقة ونصف أو في أول الأمر يكون في دقيقتين، يأخذ عليه وقت أو جهد، تقول له: والله يا ولدي اليوم مصروف المدرسة ثلاثة ريال، قل لي: سبحان الله وبحمده مائة مرة واعطيك ثلاثة في دقيقتين، لن يتردد تقول له: صلى على النبي -عليه الصلاة والسلام- عشر مرات، تقول: وقل لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد إلى آخره عشر مرات، أو مائة مرة في المقابل، وينشأ نشأة صالحة، فلا شك أن هذه من الأساليب التي ينبغي أن يسلكها كل مسلم؛ لأنها لا تكلف شيء، ولا تحتاج إلى علم، أما(26/14)
بالنسبة لمن لديه شيء من العلم لا شك أن المسئولية عليه أعظم، فعليه أن يعلم من ولاه الله -جل وعلا- أمانته، والذي ليس لديه شيء من العلم عليه أن يبذل السبب في إلحاقهم بحلق العلم، بدأ من حلقات التحفيظ، وأيضاً المعاهد العلمية التي تؤسس طالب علم متين، ولله الحمد ما زالت قائمة إلى الآن في قوتها، ويلحقهم بمن يحسن تعليم الشباب من أهل العلم؛ لأنه أيضاً ما يحسن أن يلحق الطالب الشاب المراهق في حلق الكبار، وحضر بعضهم من هذا النوع بعض الدروس، ثم ترك، يقول: ما استفدنا، صحيح أنه ما يستفيد؛ لأن الدروس فوق استطاعته فليبحث له عن شيخ يحسن التعامل معه، وهذا سبقت الإشارة إليه قريباً، فيلحق بحلقات التحفيظ، ويلحق أيضاً بالدروس العلمية المناسبة لمستواه، وذكرنا في مناسبات كثيرة أن طلاب العلم على طبقات، منهم المبتدئ ومنهم المتوسط، ومنهم المنتهي، والشيخ الفلاني يستطيع أن يتعامل مع المبتدئين، وفلان يستطيع أن يتعامل مع المتوسطين، وفلان يستطيع أن يتعامل مع الكبار، كل له ما يخصه، وكل له طلابه.
بالنسبة للزوجة عرفنا أن حقها على الزوج إذا كان من أهل العلم أن يعلمها العلم، ومع ذلك يفتح لها المجال أن تلتحق بحلقات التحفيظ، والدور النسائية وهي -ولله الحمد- متوافرة وكثيرة، هذا إذا لم يتيسر له تعليمها ويحفظها ما حفظ من القرآن، ويعلمها ما تعلم، وبعد ذلك يترك لها المجال أن تطلب العلم في هذه الدور، وهي منتشرة في الأحياء -ولله الحمد-، والوضع يبشر بخير نحمد الله ونشكره، النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لخاطب الواهبة: ((زوجتك بما معك من القرآن)) وفي بعض الروايات ((على أن تعلمها شيئاً من القرآن)) وحدد بعض السور، فمثل هذا لا شك أنه من أعظم المهور، هذا بالنسبة لحق الأهل والأولاد على الزوج.(26/15)
أما حق الوالدين على الولد فأمر لا يحتاج إلى ذكره، يعني النصوص قرنت حق الوالدين بحق الله -جل وعلا- ومن أعظم البر المقدم للوالدين والإحسان إليهما ما يكون سبباً في وقايتهم من النار، وذلك بالعلم النافع فيعلمهم الولد إذا كان عنده شيئاً من العلم، وهم في حكم العوام يعلمهم ما يجهلون لا سيما القرآن بعض عوام المسلمين عندهم من الحرص على الخير ما عندهم، فتجدهم مع الأذان في المسجد، مع الأذان يحضرون المسجد؛ لكن النتيجة؟ نعم هم على خير لأنهم ينتظرون الصلاة، والمطلوب المزيد من الخير، تجد أن هذا العامي المسكين الذي لا يقرأ ولا يكتب يلتفت يميناً وشمالاً، وينظر في الساعة أمامه وفي يده أو في جيبه ينتظر الإقامة لماذا؟ لأنه لا يقرأ المصاحف أمامه حتى في المواسم الأوقات الفاضلة يأتي مع الأذان في رمضان والناس يقرؤون من يمينه ومن شماله وهو لا يستطيع، فمثل هذا أمانة في عنق ولده، أن يعلمه شيء يستفيد منه في مثل هذه الأوقات، والأمور متيسرة ولله الحمد، ويندر أن يوجد بيت من بيوت المسلمين الآن ليس فيه من يقرأ القرآن، فيبدأ بهم من الفاتحة، ثم قصار السور، يبدأ يحفظهم الفاتحة، والفاتحة معروف أنها ركن من أركان الصلاة، تجد بعض العوام لا يحسن الفاتحة، وولده متعلم عنده شهادات، وقد يكون يعلم الناس ووالده محروم من هذا العلم، بإمكانك أن تعلم والدك يا أخي ما هو المانع أن تجلس ساعة ساعتين ثلاث يوم يومين أسبوع تعلمه الفاتحة والمعوذتين.(26/16)
في المنطقة الشرقية قبل شهر في صباح الجمعة، بعد صلاة الصبح ولمدة ساعة ونصف أسمع شاباً يلقن شيخاً كبيراً سورة الكهف كلمة كلمة في ساعة ونصف، ساعة ونصف يمكن أن يقرأ فيها سبعة أجزاء؛ لكن تلقين الكهف نصف جزء أخذت عليه ساعة ونصف، يعني شيء شهدته أنا وحضرته، وسمعته وأجزم أن هذا لا تربطه به صلة، ليس من أهله ولا من أقاربه، فكيف بالأب يحرم مثل هذه الأجور والولد يستطيع؟! بإمكان الولد أن يمسك الأب ويقول له: يا والدي الفاتحة ركن من أركان الصلاة، والصلاة ركن من أركان الإسلام وأنت لا تحسن الفاتحة، ولا غضاضة ولا عيب لا على الولد ولا على الوالد هذا شرف في الدنيا والآخرة للمعلم وللمتعلم، لماذا لا يقول: يا أبت أنت لا تحسن الفاتحة نعم قد يكون الأب قد تعلم على طريقة قديمة وسمعنا من يقرأ القرآن بقراءة فيها تصحيف وتحريف وتقديم وتأخير، وإبدال كلمات، وترك بعض الآيات سمعنا هذا، وعنده أنه من المهرة في القرآن، ويرجو أن يكون مع السفرة الكرام البررة، لولا أن الحديث عن القرآن لذكرت بعض الأمثلة مما سمعته من كبار السن؛ لكن أخشى أن يكون مسخرة، ومثل هذا لا يجوز في القرآن، مثل هذا ما هو المانع أن يقول الولد لوالده: أنت لا تعرف تقرأ، أو بأسلوب مؤدب أنت لا تعرف تجود دعنا نعلمك القرآن بالتجويد، أنت على طريقة شيوخنا الكبار الذين لا يجودون، يعني يعطيه شيء من الثقة ليقبل، أما لو قال له: أنت ما تعرف تقرأ يمكن يقول له: ما أدراك كل عمرنا مع شيوخنا، وهذه جملة يرددونها (هذه قراءة شيوخنا) وهذا ليس بصحيح؛ لكن هذا ما تعلمه، فيمسكه الابن ويعلمه الفاتحة على الطريقة الصحيحة، ويقرأها على الوجه الصحيح، يعني أنا سمعت إمام مسجد يقرأ (ثم لا تسألن يومئذ عن النعيم) قلب للمعنى، يعني لو كان هذا في الفاتحة بطلت الصلاة، ولو تعمد مثل هذا التحريف بطلت صلاته قلب حيد عن الصواب، فمثل هذا نقول: الولد يلزمه أن يعلم أباه؛ لأنه كما طُولب الأب أن يقي الولد من النار والابن يستطيع هذا أوجب عليه، يعني من باب أولى إذا كان الولد يستطيع أن يقي الوالد من النار، وهو السبب في وجوده والحق عليه أعظم من حق الولد على الوالد، فعليه أن يبذل وسعه لتعليمه(26/17)
ليخرجه من الظلمات إلى النور، فيعلمه قصار السور بلا يأس، عجوز عمرها أكثر من سبعين سنة لا تقرأ ولا تكتب حضرت حفل التحفيظ حفظت القرآن كامل فوق السبعين، ومشكلتنا أن اليأس من أقرب شيء إلى قلوبنا، إذا بلغ الولد الثلاثين قلنا: هذا ميئوس منه، ليس صحيح، صالح بن كيسان قالوا: أنه تعلم وعمره قيل: تسعين سنة، وقيل: خمسين، وقيل: أكثر.(26/18)
المقصود أنه لا يأس تعلم في التسعين في الستين في السبعين، القفال من أئمة الشافعية تعلم كثير، كثير من أهل العلم، كثير في تراجمهم تجد أنهم بدأوا التعلم في الكبر، نعم التعلم في الصغر أثبت؛ لكن إذا ما تعلم في الصغر ييأس ويترك، لا، لا ييأس ولو لم يكن له من النصوص إلا ((من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة)) يكفيه هذا، ولو لم يحصل من العلم شيئاً مثل ما قلنا: صالح بن كيسان تعلم في الكبر، حتى صار من كبار الآخذين عن الزهري، فلا يأس، فإذا قال الولد لأبيه: يا أبت أعلمك الفاتحة، ثم كررها عليه يوم، يومين، أسبوع، عشرة، أعظم سورة في كتاب الله ليس كثيراً أن ينفق عليها الولد مع أبيه مع أوجب الناس حقاً عليه بعد الله -جل وعلا-، وكذلك الأم إذا كانت لا تحسن القراءة يعلمها الولد، ولو طال الوقت، هذا باب من أبواب الجهاد، فإذا كان مأمور أن يقيهم نار الدنيا فلأن يقيهم نار الآخرة من باب أولى، أيضاً هناك الآلات مثل المسجل، يهيئ الولد لوالده مسجل، ويأتي بأشرطة لقاريء مؤثر مثلاً، وواضح يخرج الحروف من مخارجها، ويقال له: يا أبت اضغط هذا الزر، حتى تسمع القراءة، ثم أعد ثانية وثالثة، هذا إذا دب الملل إلى الولد أو صار له عمل يعوقه عن متابعة تعليم والده، وإلا أتصور أن من أفضل ما يقدم في هذه الحياة ما يقي الوالدين هذه النار، مما يعين أيضاً على التعليم والتعلم في الأسر، ولمس أثره هذه الآلات التي قلنا: مسجل سواء كانت هي أشرطة القرآن أو أشرطة الدروس العلمية أو المواعظ، وإذاعة القرآن الكريم في هذه البلاد نفع الله بها نفعاً عظيماً في البيوت، كثير من عوام الناس يشارك في مسائل علمية؛ لأنه يسمع نور على الدرب، فاستفاد الناس فائدة عظيمة، فالذي يحرص عليها الناس كلهم سواء كان متعلماً أو عامياً.(26/19)
لا شك أن الأم مع بناتها عليها مسئولية عظيمة في تربية البنات على العفة والستر والأب من ورائها يحوطهم بذلك، ويحضر لهم ما يحتاجون إليه مما يعينهم على ذلك، كذلك البنات مع الأمهات عليهن من المسئولية مثل ما على الأولاد مع الآباء، وكم من بنت صارت سبب إنقاذ لأسرة بما في ذلك الأب والأولاد، فضلاً عن الأم، هناك كلام لأهل العلم، وله نصيب من الواقع، قالوا: أزهد الناس في العالم أهله وجيرانه، وهذا مشاهد تجد العالم الكبير أولاده إن كان فيهم خير وفيهم حرص وفيهم طلب علم يحضرون دروس مشايخ آخرين، وهذا لا شك أنه خير؛ لكن تجدهم زاهدين في آبائهم، فأزهد الناس في العالم أهله وجيرانه، ولعل السبب في ذلك أن الهيبة والتعظيم والقدر في النفوس إنما يكون مع تمام الحشمة، فالعالم من بعيد تجده محتشم، يعني في الغالب عليه السمت وعليه اللباس الكامل، وقد يكون عليه البشت، والأب تراه على هيئات فيها شيء من ترك الحشمة، أحياناً ما يكون عليه ثوب، وهو بين أولاده وزوجته، فمثل هذه الحالة فلا شك أنه هيبته تقل في نفوسهم، أيضاً كثرة الإمساس، وجوده بينهم في كل وقت وفي كل حين، ويشاهدون تصرفاته، وأن تصرفاته تصفات بشرية، لا شك أن التصرفات البشرية يعتريها ما يعتريها من النقص، فإذا اطلع عليها الأهل والأولاد يعني نزلت قيمته ثم بحثوا عن غيره، بينما غيره من أهل العلم باستمرار على الحشمة ما يرونهم على خلافها فتجدهم يتعلقون به أكثر من تعلقهم بأبيهم أو أخيهم من أهل العلم، بعض الناس عنده حساسية زائدة، ولها نصيب من النضر، يخاف على ولده إذا خرجوا إلى الصلاة من قرناء السوء، أو إذا خرجوا إلى الحلقة في طريقهم ذاهبين وآيبين يمرون البقالة، ويطلع معهم فلان، ويتكلم معهم فلان، يقول: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، فأنا لا أتركهم يذهبون الجماعة بالنسبة لهم هم غير مكلفين يصلون في البيت، خشية من قرناء السوء، لا سيما إذا كانت بعيد عن البيت، وكذلك ذهابهم إلى الحلقات، أقول: يا أخي هذا ليس بعلاج، الترك ليس بعلاج، بل لا بد أن يصلوا مع الناس في المسجد، وأن يذهبوا إلى مواطن العلم ويتعلموا، ومع ذلك عليك أن تحوطهم برعايتك وعنايتك، وتكون من ورائهم ومن(26/20)
أمامهم ومن خلفهم، وتسأل عنهم وتتحسس وتربطهم بالرفقة الصالحة، وإن تيسر أنك أنت الذي تذهب بهم وترجع بهم فنور على نور، وإن أبيت إلا أن يتركوا هذا فأتِ لهم ببديل، تحضر لهم البديل، ما تقول: أتركهم لا يتعلمون، ثم تتركهم عوام، لا، والأمور متيسرة ولله الحمد، بإمكانك أن تحضر لهم البديل؛ لكن ليس بحل الترك، ليس بحل، بل لا بد أن يواصلوا التعلم والحفظ على أي حال؛ لكن يبقى أنك لا بد أن تربطهم بالرفقة الصالحة؛ لئلا ينزجّوا مع الرفقة السيئة ثم بدل أن يتعلموا الخير يتعلمون الشر؛ لأن بعض الناس يتعذر بهذا يقول: أنا والله ما أرى أن يذهب الأولاد التحفيظ خشية من قرناء السوء، يعني إذا ذهبوا يمرون البقالة، البقالة فيها جمع من الشباب، وعندهم مخالفات وأحياناً يدخنون، وأحياناً كذا، أيضاً إذا رجعوا ذهبوا إلى المسجد، ذهبوا إلى المدرسة، كيف سينشأ الولد بهذه الطريقة، يعني إذا كنت خائفاً عليهم فاصحبهم أو أصحبهم من يعتني بهم، ولا شك أن الحديث في هذا الباب لا ينتهي، والأولاد والأهل مسئولية عظيمة، وحمل ثقيل، حتى أن بعض الناس يتمنى في ظل الظروف التي نعيشها مع فساد الأوضاع وكثرة المغريات، يتمنى أنه كان عقيماً؛ لأنه يرى أن أولاد فلان كيف صاروا؟ وقد يكون لديه أولاد أتعبوه ما نجح في تربيتهم، ما أفلح، فيقول: ليته عقيم، عليك يا أخي أن تبذل السبب، عليك أن تمتثل ما أمرت به من التكاثر، تناسلوا تكاثروا فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة، أنت أمرت بهذا، وأمرت ببذل السبب في التربية، كونك تنجح أو ما تنجح هذا ليس بيدك، النتائج بيد الله -جل وعلا-، وقل مثل هذا في الدعوة، دعوة الناس، تقول: أنا والله أستطيع الدعوة؛ لكن دعوت ودعوت ما استفاد الناس مني، وما أشوف أثر واضح نقول: ليس عليك إلا أن تدعو {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [(33) سورة فصلت] {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [(108) سورة يوسف] ولنا قدوة وأسوة في الأنبياء، فمن الأنبياء من يأتي وليس معه أحد، فأنت إذا بذلت السبب فالأجر مرتب على بذل(26/21)
السبب، وحينئذ لا تيأس وأجرك ثابت، سواء استفاد الأهل، استفاد الأولاد، لكن لا بد أن تبذل السبب، لا تقول: ما جهدي وأنا الضعيف المسكين مع هذه الآلات، ومع هذه القنوات، ومع هذه الوسائل المفسدة، أحياناً ينتفع الإنسان بكلمة واحدة، وتنقلب حياته رأساً على عقب، إذا خرجت من القلب، انتفع بها الإنسان، وكم رأينا من ناس في غاية من الشهر والفساد، وأبواه على خطر عظيم منه، ثم بعد ذلك تجده في روضة المسجد، ومن السابقين إلى الدروس العلمية، بل من العاملين على إنجاح الدروس العلمية، والمتابعين للدروس، والخادمين للدروس، فلا يأس فكيف يتمنى الإنسان أن يكون عقيماً، لا شك أن العقم أفضل من الأولاد مع عدم بذل السبب؛ لأنه مسئول عنهم، مع الإهمال بحيث يخرجوا مفسدين، وما بذل أي سبب، هذا لا شك أن عدم الولد أفضل منه، لمثل هذا النوع من الناس، أما من بذل السبب ولو لم يفلح في تربيته، ولو لم تترتب الآثار، ولو لم يفلح في تربيته، ولو لم تترتب الآثار على هذا السبب، لا شك أنه خير؛ لأنه مع النصوص يدور أمر بالتكاثر فكاثر، أمر بالزواج تزوج، أمر بالتعدد فعدد، أمر بتكثير النسل فأكثر، وبذل السبب في التربية؛ لكن ما أفلح، النتائج بيد الله -جل وعلا-، ولا شك أنه كلما كثر التعب كثر الأجر، وهذه الظروف التي نعيشها مع كثرة المغريات، وكثرة المفسدات لا شك أنها أعظم أجور من قبل عشرين وثلاثين وأربعين وخمسين سنة، ولذا جاء في الحديث في المسند والسنن بإسناد حسن ((للعامل فيهن -في وقت الفتن- أجر خمسين)) قالوا: منهم يا رسول الله؟ قال: ((بل منكم)) يعني من الصحابة أجر خمسين على ماذا؟ على مثل هذا الصراع الذي نعيشه، فنحتاج إلى مزيد من البذل في التربية والتوجيه والرعاية والعناية، ليحصل لنا هذا الأجر العظيم، الذي وعد به على لسان النبي -عليه الصلاة والسلام-، ونكتفي بهذا، والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
طالب: نريد من فضيلة الشيخ التعليق على قوله تعالى: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [(82) سورة الكهف] في سورة الكهف؟(26/22)
أما بالنسبة لما جاء في أواخر سورة الكهف من قول الله -جل وعلا-: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [(82) سورة الكهف] فلا شك أن لصلاح الأب أثراً عظيماً في صلاح الولد، وجاء عن بعض السلف أنه يزيد في كل يوم ركعتين من أجل صلاح ولده، ولصلاح الأب أثر في صلاح ابنه؛ لأنه قدوة صالحة، والقدوة لها من الأثر في سلوك الولد أكثر من أثر القول، ولذا جاء الترغيب في صلاة النافلة أن تكون في البيت ليقتدي به من لا يحضر الصلاة في المسجد، فمن هذه الحيثية أثر صلاح الوالد في صلاح الابن، وفي حفظ الابن في حفظ الولد، وفي حفظ مال الولد رعاية لحق الأب، ولا شك أن مثل هذا يوجد، ولكنه ليس بمطرد، يعني كون أبوهما صالحاً، وحصل لهما ما حصل من الخضر -عليه السلام- لصلاح أبيهم؛ لكن هذا ليس بمطرد؛ لأن صلاح الأب إذا لم يكن الولد قابل، نعم إذا كان في دائرة الدين الذي يدين به الأب ينتفع، أما إذا كان الولد لم يتبع أباه في دينه مثل هذا لا ينتفع {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ} [(21) سورة الطور] يعني ما نقصناهم من عملهم من شيء فيلحقوا بآبائهم وإن كانت أعمالهم أقل، وأما بالنسبة لما يتعلق بالأولاد الصغار إذا حضروا للمسجد، وكانوا مميزين، وسبقوا إلى القرب من الإمام، فجاء في الحديث الصحيح ((ليلني منكم أولوا الأحلام والنهى)) يعني الكبار، أصحاب العقول، أصحاب الحجا، بحيث إذا أخطأ الإمام يستطيعون الرد عليه والفتح عليه، وهذا لا شك أنه أمر للكبار بالمبادرة، وليس هو طرداً للصغار عن الحضور المبكر، والقرب من الإمام، والقاعدة من سبق إلى ما لم يسبق إليه فهو أحق به، فقوله -عليه الصلاة والسلام-: ((ليلني)) اللام هذه لام الأمر، فهي أمر للكبار بالتقدم وليست طرداً للصغار من أن يقربوا من الإمام لتقدمهم ويسبقوا إلى ما لم يسبقوا إليه.
طالب: كثير من الآباء لم يبذلوا الكثير من الأسباب لتوجيه أبنائهم ثم إذا حصل عقوق بعد ذلك بدئوا بالدعاء عليهم بدلاً من الدعاء لهم فما نصيحتكم حفظكم الله؟(26/23)
لا شك أن مثل هذا إساءة على إساءة، تفريط ثم بعد ذلك في النهاية يدع عليهم، وجاء النهي عن الدعاء عن النفس والمال والولد خشية أن توافق ساعة إجابة يجاب هذا الدعاء، ثم يندم ندامة لا تعوض، ولا يمكن استدراكها ولاة ساعة مندم، فعلى الأب أن يبذل النصح، ويستفرغ الجهد في تربية أولاده، ومع ذلك يدعو لهم في حال صلاحهم، وقبل صلاحهم يدعو لهم بالصلاح، ويدعو لهم بالاستمرار عليه، والتوفيق لهم في الدنيا والآخرة.
طالب: يا شيخ أنا مؤذن الأذان الأول فيلزم أن أروح المسجد فهل يلزم أني أوقظ أهلي أو أأذن، وهل الأفضل أوقظ أهلي أم أجلس إلى الشروق اقرأ القرآن؟
إن كان المراد بالأهل من تلزمهم صلاة الجماعة، فعليك أن توقظهم قبل أن تخرج إلى الصلاة، ليتمكنوا من الصلاة في المسجد، وبعد الصلاة تجلس حتى ترتفع الشمس، وإن كانوا ممن لا يلزمهم صلاة الجماعة، ويغلب على ظنك أنهم لم يستيقظوا فخروجك إلى البيت وإيقاظك لهم أفضل من بقائك في المسجد.
طالب: بالنسبة لواحد متزوج بزوجة وهو مرتاح فهل يلزمه بالتعدد؟
التعدد ليس بلازم ولا واجب، هذا خلاف بين أهل العلم في الأصل، هل هو التعدد أو الواحدة؟ وما عدا ذلك يندب إليه يندب إلى الثانية والثالثة والرابعة {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} [(3) سورة النساء] ولا شك أن الموازنة في مثل هذا الباب بين المصالح والمفاسد أمر مطلوب شرعاً، فبعض الناس لا يستطيع العدل ولا يغلب على ظنه العدل، فمثل هذا لا يعدد، أو لا يستطيع النفقة على الجميع وإن كان الوعد من الله -تبارك وتعالى- بالإغناء إذا تزوج، فسوف يغنيهم الله من فضله، المقصود أن مثل هذا كل إنسان أدرى بمصالحه، والإنسان إذا كان مرتاح مع زوجته الأولى ويخشى من أن تتكدر حياته، فلا شك أن الواحدة تكفيه.
طالب: يا شيخ بالنسبة للجاليات الباكستانيين والأفغانيين ما يعرفون اللغة العربية كيف التعامل معهم وبالنسبة للزوجة والأولاد؟(26/24)
من لا يعرف اللغة يتعامل معه بواسطة المترجم على أن يكون المترجم ثقة، ويعرف اللغة المترجم لها، واللغة الأصلية التي يترجم تكون لديه معرفة تامة بمعاني ومفردات اللغتين التي تترجم منها، واللغة التي يترجم إليها، ويكون ثقة لا بد أن يكون ثقة، لئلا يحرف الكلام، فهؤلاء الذين لا يعرفون العربية إنما يتعامل معهم بواسطة المترجمين الثقات.
طالب: ورد في حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوه تكن فتنة)) وقوله -عليه الصلاة والسلام- في اختيار الزوجة: ((تنكح المرأة لأربع: لمالها وجمالها وحسبها ونسبها فاظفر بذات الدين)) تقول: هل هناك فرق بين قوله: ((من ترضون دينه وخلقه)) وقوله: ((فاظفر بذات الدين)) ولم يذكر الخلق، وهل في المسألة عموم أم خصوص؟
من متطلبات الدين الخلق، ونقص الدين يظهر في نقص الخلق، نعم قد يكون الإنسان جبل على الخلق الحسن وعنده مخالفات، وقد يكون جبل على الشدة والفضاضة وهو حريص على إقامة شعائر الدين، ومتصف به، وحريص عليه؛ لكن على كل حال الخلق في الأصل من متطلبات الدين، فالخلق مطلوب من الجميع، كما أن الدين مطلوب من الطرفين، على كل حال الدين ذكرنا أن الخلق من متطلبات الدين، فالمرأة التي خلقها سيئ لا شك أن نقصها في دينها بقدر نقص هذا الخلق، فالخلق مطلوب من الجميع، وإلا لا يتيسر العيش المطلوب والحياة المطمئنة بين الزوجين مع أن في الخلق شيء، سواء كان من الرجل أو من المرأة، لكن ظهوره في الرجل الذي بيده السلطة والتنصيص عليه بالنسبة للرجل، وطلبه من الرجل أكثر؛ لأنه إذا كان ذا خلق سيئ لا شك أنه يتسلط على المرأة، بينما المرأة لو كان في خلقها شيء فإنها باعتبار موقعها وللرجال عليهن درجة فإنها لن تتسلط عليه؛ لأن الحل بيده، ولذا نص عليه في جانب الرجل، ولم ينص عليه في جانب المرأة، وإلا فهو في الأصل مطلوب من الطرفين.
طالب: من الذي يُعد طالباً للعلم؟(26/25)
طالب العلم هو الذي عنده شيء من العلم، وهذه لا شك أنها من الأمور النسبية، والعلم لا يمكن أن يحاط به والله -عز وجل- يقول: {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} [(85) سورة الإسراء] ومهما بلغ الشخص من العلم فإنه لن يخرج عن دائرة هذه الآية {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} وقد يوصف الإنسان بأنه من بحور العلم، كما في تراجم بعض أهل العلم، ولن يخرج عن هذه الآية، ومع ذلك هذه الأمور نسبية، إذا حوا شيئاً من مبادئ العلوم، وحفظ بعض المتون في العلوم الشرعية المطلوبة وفهمها فإنه يكون من طلاب العلم، وإذا استطاع تقريرها وتدريسها وتعليمها لغيره صار من أهل العلم.
طالب: (السؤال غير واضح) لكن كأنه يسأل عن الختان؟
الختان من سنن الفطرة، وهو بالنسبة للذكور واجب؛ لأنه لا يتم التطهر إلا به، والتطهر واجب، إذاً هو واجب، وهذا محل يكاد أن يكون متفقاً عليه بين أهل العلم، وأما بالنسبة للنساء فهو مكرمة، وهو فضيلة، وهو أنظر وأحسن وأفضل؛ لكن ليس بواجب لا يأثم من تركه.
طالب: (السؤال غير واضح) لكن كأنه يسأل عن الموسيقى؟
الموسيقى معروف أنها من المعازف التي جاءت الشريعة بمحقها وتحريمها، وجاء في الحديث الصحيح في البخاري وأختلف في تعليقه ووصله، وعلى كل حال هو صحيح سواء كان معلقاً أو موصولاً، من حديث أبي عامر أو أبي مالك الأشعري: ((ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف)) والاستحلال لا يكون إلا للمحرم، فدل على أن المعازف محرمة، والموسيقى منها، فتعلمها حرام، ومزاولتها كذلك، واستماعها كذلك كلها محرم.
طالب: (السؤال غير واضح) كأنه يسأل عن البيع والشراء عن طريق الانترنت؟
البيع والشراء يكون بالإيجاب والقبول بأن يقول البائع: بعتك هذه السلعة بمبلغ كذا، ويقول الطرف الآخر: اشتريت، سواء كان مشافهة أو بالهاتف أو بالإنترنت، ثم بعد ذلك إذا حدث التفرق لزم البيع.
طالب: سائل من فرنسا يقول: أن له ابناً ذكياً ولله الحمد يعلمه أصول الدين؛ لكن الابن يطرح عليه أسئلة تحرج الوالد؛ لأنه قليل العلم، فما هي نصيحتكم لهذا الوالد؟(26/26)
هذا الوالد إذا كان لا يستطيع الإجابة على أسئلة هذا الولد يحيله إلى من يستطيع الإجابة، أو يحضر له من يستطيع الإجابة عن هذه الأسئلة المحرجة له، ويتم -إن شاء الله- حل الأسئلة بواسطة من لديه الخبرة والمعرفة في مثل هذه الإشكالات.
طالب: هذا سائل يسأل يقول: فضيلة الشيخ في الصحيح من حديث ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((كلكم راعٍ، وكلكم مسئول عن رعيته)) الحديث، هذا الحديث له دلالة عظيمة، وأن المسئولية عظيمة ما توجيهكم حفظكم الله للأسر من خلال هذا الحديث، وهل إذا جاهد الإنسان أهل بيته في التربية يخفف عنه في السؤال؟
هذا هو موضوع الدرس، يعني المسئولية في التربية والتعليم من قبل الوالد، ومن قبل الأم، فالوالد راع في أهل بيته، ومسئول عن رعيته، فإذا بذل السبب في تنشئة الولد والأهل على الدين والخير والفضل وعلى العلم والعمل حينئذ تبرأ ذمته، ولو لم يدرك المطلوب، فعليه أن يبذل السبب فهو مسئول عنهم، فإذا بذل السبب معهم واستفرغ وسعه فإنه تبرأ ذمته.
طالب: هل يلزم رب الأسرة في أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر خاصة مع أهل بيته أن يكون فاعلاً للمعروف أو تاركاً للمنكر؟
لا شك أن الآمر والناهي عليه أن يفعل ما يأمر به، ويجتنب ما ينهى عنه، وقد جاء الذم في نصوص الكتاب والسنة لمن يأمر بالشيء ولم يفعله، وينهى عن الشيء ويرتكبه {كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [(3) سورة الصف] لكن ليس هذا بشرط للأمر ولا للنهي، ولا يشترط في الآمر والناهي أن يكون معصوماً، بل يقرر أهل العلم أن له أن يأمر بالشيء وإن كان تاركاً له، وينهى عن الشيء وإن كان مرتكباً له، والجهات منفكة، له أجر الأمر والنهي، وعليه إثم المخالفة.
طالب: سائلة تقول: أمنع ابني من الالتحاق بحلقة تحفيظ القرآن ليس خشية عليه من صحبة سيئة في الطريق أو مخاطر فيه، بل خشية عليه من التأثر بأفكار تكفيرية أو تفجيرية من بعض طلاب الحلقات أو مشرفيها، فما هو الأسلوب الأمثل لإقناعها؟(26/27)
هذا من تلبيس الشيطان، وأسلوب من أساليبه الماكرة ليصد الناشئة عن حفظ القرآن، نعم إذا وجد شخص بعينه عرف بهذا الأمر استفاض عنه هذا الأمر أو حفظ من قبل أنه يدعو إلى هذا الأمر، يحذر منه، ويبعد الشاب عنه؛ لكن لا يعمم القول أنه يخشى، هذا لا شك أنه من تهويل الشيطان، ومن وسائله في الصد عن حفظ القرآن.
طالب: سائلة تقول: زوجي أدخل الدش في البيت بحجة سماع الأخبار والرياضة، فما تنصحون أن أفعل له ولأولادي؟
على كل حال يجب عليك أن لا تنظري إليه، يحرم عليك النظر فيه، ولا يجوز لك أن تمكني أولادك منه وأنتِ تقدرين على ذلك، إن جعل في مكان مستقل لا في مكان عام يشاهده الأولاد من بنين وبنات فهذا لا شك أنه أقل ضرراً، وعلى المرأة أن تتابع نصحها لزوجها بإخراجه وتصر عليه بذلك؛ لأنه معول هدم، نسأل الله السلامة والعافية، وداعية إلى الفجور والعهر والفساد والشبهات والشهوات، وكم من بيت وقعت فيه الفواحش بين المحارم بسبب هذه الآلات، نسأل الله السلامة والعافية.
طالب: يقول: هل يجوز ضرب الأولاد خصوصاً لأداء صلاة الفجر، كما ثبت في الحديث ((واضربوهم عليها لعشر))؟
نعم إذا أتموا عشر سنوات يضربون عليها ضرباً غير مبرح.
طالب: يقول: ما الكتب العلمية الضرورية التي يحسن توفرها في البيت، والتي تناسب أفراد الأسرة؟
لا شك أن أفراد الأسرة متفاوتون فيهم العامي، وفيهم المبتدئ، وفيهم المتوسط، وقد يكون فيهم طالب علم مدرك، ولكل فئة من هذه الفئات ما يناسبه من الكتب، وهناك مجموعة من الأشرطة انتشرت باسم كيف يبني طالب العلم مكتبته؟ بدءاً من أول كتاب يقرأ إلى آخر كتاب.
طالب: يقول: ما الحكم في تحديد النسل وذلك مقابل في حسن تربية الأولاد وتوجيههم؟(26/28)
إذا كان هذا هو الهدف في تحديد النسل من أجل التوجيه والتربية، وأنه لا يستطيع أن يربي أكثر من واحد في آن واحد مثل هذا لا شك أنه خطأ لا ينبغي؛ لأن المسلم مطالب بالتكاثر بالمكاثرة ليباهي النبي -عليه الصلاة والسلام- أمته بغيرها من الأمم، وهؤلاء الأولاد إذا كثروا لا شك أنهم يعينون على التربية، وبعضهم يعين على بعض، وما يصرف للواحد يصرف للجمع، فكون الإنسان يربي أكثر من واحد في آن واحد يعين بعضهم بعضاً على التربية، ويوضح بعضهم لبعض، والكبير يكون قدوة لمن هو أصغر منه، وهكذا والتجربة شاهدة بذلك.
طالب: يقول: نرجو توجيه كلمة للآباء الذين لا يحرصون على صلاة الجماعة، وخاصة صلاة الصبح مع توجيههم ببذل الأسباب في ذلك؟
نعم يوجد من يتهاون في صلاة الصبح بسبب السهر، يعني انتشر بين المسلمين مع الأسف الشديد في السنوات الأخيرة السهر، ولا شك أنه من الموانع، وإذا اجتمع معه عدم بذل السبب فإن الإنسان لا يستطيع القيام إذا لم يكن هناك وازع قوي، ودافع قوي لأداء هذه الصلاة، فهذه الصلاة على وجه الخصوص، إن كانت في الصيف فالليل قصير والقيام إليها ثقيل جداً، وإن كانت في الشتاء فبعد أن يحس الإنسان بالدفء وتحت الأغطية يصعب عليه القيام إلى ضد هذه الحالة، فعلى الإنسان أن يبذل الأسباب التي تجعله يستيقظ إلى هذه الصلاة فيجعل له منبهات ويعهد إلى من يوقظه إلى الصلاة، ويمنع ويقطع دابر الموانع التي تمنعه من القيام كالسهر والشبع وغيرهما.
طالب: سؤال من المغرب أنا الآن مخطوبة لشخص يعمل في محل كبير في الخارج، وهذا المحل يباع فيه الخمر، فهل يجوز لي أن أستمر في هذه العلاقة؟(26/29)
عليك يا أخت أن تبحثي عن الزوج الصالح، فكما أن الرجل مطالب بأن يبحث عن المرأة الصالحة فعلى المرأة أن تبحث عن الزوج الصالح، ولو كان ذلك بإهداء نفسها إلى من تظن فيه الصلاح، وقد حصل هذا من خيار الأمة فعثمان بن عفان خليفة المسلمين يعرض على عبد الله بن مسعود ابنته هل لك يا أبا عبد الرحمن بفتاة تعيد لك ما مضى من شبابك؟ فقال عبد الله بن مسعود: إنما قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج)) فعليها أن تبحث عن الزوج الصالح، ولا توافق على مثل هذا؛ لأن الزوج الصالح يعينها على الثبات، ومثل هذا يسهل لها الانحراف، نسأل الله السلامة والعافية.
طالب: هذا سائل من الجزائر يقول: ارتبطت مع امرأة على عقد شرعي، وعقد مدني ولم أدخل بها، فهل يجوز لي أن أخلو معها؟
نعم إذا تم العقد الشرعي بالإيجاب والقبول بحضور الولي والشهود فهي زوجته يفعل معها ما يفعل الرجل مع زوجته إذا تم ذلك بالإيجاب والقبول بحضور الولي، الإيجاب إنما يكون من الولي وبحضور الشهود فإنها زوجته.
طالب: سائلة تقول: بعض الفتيات المتدينات ترفض الزواج إلا من رجل على مستوى التدين ولكن يراها. . . . . . . . . ليست ذات أهمية مثل إعفاء اللحية مثلاً أو عدم الاهتمام بالعلم الشرعي بحجة أنها لا تأمنه على دينها. . . . . . . . . فما توجيهكم في مثل هذه الحالة؟
الزوج ما دام في دائرة الإسلام، ولا يرتكب أمراً يتعدى ضرره عليها، ويحافظ على الصلوات، ولا يتناول المسكرات ولا المخدرات التي ضررها يتعدى فما عدى ذلك تحرص على الكمال، فإن لم يتيسر فلا يضيع عمرها بلا زوج، فالزوج من فاسق فسقه لازم له لا يتعدى إليها لا شك أنه أفضل من البقاء بدون زوج، ومع ذلك تتابع النصح له والتوجيه عله أن يلتزم ويترك هذه المخالفات، أما ما يتعدى ضرره من شرب للمسكرات أو المخدرات، أو يكون أثره في الدين بالغاً كترك الصلاة مثلاً فمثل هذا لا يجوز التنازل معه.
طالب: هذه سائلة تقول: أنا أدرس في مدرسة وفي كلية أهلية فهل يجوز الغش في الامتحانات علماً أن الكلية تتبع أسلوباً تجارياً أي حصول نسبة كبيرة من الطالبات الراسبات من أجل تفادي الخسارة المالية؟(26/30)
الغش هذا الذي يسميه الناس غش في الامتحانات هو في الحقيقة خيانة، خيانة للأمانة نسأل الله السلامة والعافية، سواء كان ممن باشر هذا الأمر بنفسه بأن أخذ الجواب من غيره أو ممن لقنه الجواب كلهم قد خانوا الأمانة، والخيانة هذه لا شك أنها من علامات النفاق، وإذا اؤتمن خان، وقد اؤتمن على هذا العلم سواء يستوي بذلك المدرس الذي يمكن الطالب أو المدرسة تمكن الطالبة، أو الطالبة التي تخون هذه الأمانة فتحصل على الأجوبة من غيرها، ولو كان من غير علم لمن قام عليها، فهذه خيانة لا تجوز بحال.
طالب: هذا سائل يسأل يقول: كيف نوفق بين تربية الأولاد والزواج بالثانية، وهل يسقط حق الزواج بالثانية إذا كان يؤثر على تربية الأولاد؟
المسألة مسألة تسديد ومقاربة، فإذا كان لدى الإنسان القدرة على التعدد فالنبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((تزوجوا)) وأمر بالزواج، والله -جل وعلا- يقول: {مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} [(3) سورة النساء] فالتعدد من سنته -عليه الصلاة والسلام-، وقد توفي عن تسع نسوة؛ لكن غيره من أمته لا يجوز له أن يزيد على أربع فإذا كان الزواج من الثانية يتيح له فرصة الراحة والاطمئنان، ولا يؤثر على حياته العلمية والعملية لا شك أنه أفضل، وإن كان له تأثير على حياته العلمية والعملية أو يكون سبباً في الانصراف عن أولاده وتربيتهم وليس الداعي إليه قوياً فتركه أولى.
طالب: السائل يقول: ما واجبنا وتوجيهكم تجاه ما يغزونا من تحرير للمرأة وتغريب للطفل؟(26/31)
هؤلاء الدعاة دعاة الشر والفساد، وقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن هناك دعاة على أبواب جهنم، لا شك أنهم يريدون إفساد المرأة، تحرير المرأة يعني إفسادها، خروجها عن حدود الدين والعفة، لا شك أنهم خونة يريدون أن يعبثوا بأعراض المسلمين، ومحارم المسلمين ودعاواهم وإن لبست لباس النصح والشفق على المرأة لا شك أنها دعوات مغلفة، وهي في الحقيقة باطلة، ولنا فيمن جاورنا من البلدان الذين سعوا في هذا الباب، وقطعوا فيه شوطاً كبيراً عبرة وأسوة، علينا أن نعتبر ونزدجر لئلا نقع فيما وقعوا فيه، ولنا في نصوصنا من الكتاب والسنة الذي تأمر المرأة بالقرار وبالعفة والستر ما يكفينا عن الدعوات الوافدة.
طالب: يقول: إذا أمرت أولادي وأهل بيتي بأمر من الأمور التي هي تطوع كصيام تطوع وقيام الليل وأبوا فألحيت عليهم بالزجر والضرب فهل فعلي صحيح؟
عليك أن تؤكد عليهم لكن لا تضربهم إلا على ترك الصلاة، وما عداها لا يضربون إلا على الواجبات، أما السنن فيوجهون إليها ويحرص عليهم ومع ذلك تبرأ ذمتك، وحاول بهم مرة ثانية وثالثة، وكلما جاء مناسبة مرهم بذلك ورغبهم فيه، واذكر لهم من النصوص ما يحثهم على ذلك، ولو جعلت لهم مسابقات وجوائز تحفزهم على هذا كان هذا وسيلة من وسائل القبول.(26/32)
بسم الله الرحمن الرحيم
وجوب طلب العلم الشرعي وكيفيته
الشيخ/ عبد الكريم الخضير
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فلسنا بحاجة إلى بيان فضل العلم وشرفه، وإنما نذكر ما يتعلق بعنوان المحاضرة، فالمحاضرة عنونت بالوجوب، وجوب طلب العلم الشرعي.
حكم العلم الشرعي:
وهو علم الكتاب والسنة، وما يعين على فهم الكتاب والسنة، لأن الوسائل لها أحكام الغايات، فالأصل المطلوب من المسلم الاهتمام بالأصلين الكتاب والسنة، قد يقول قائل: لماذا يُعنى أهل العلم بالعربية، بأصول الفقه، بقواعد التحديث، بعلوم القرآن، وهي روافد؟ نقول: هذه دراستها وإن كانت وسائل إلا أنها خير ما يعين على فهم الكتاب والسنة، ولا يستطيع أحد أن يتعامل مع نصوص الوحيين إلا بعد معرفة هذه الوسائل.
العلم الشرعي أهل العلم يطلقون في حكمه الوجوب الكفائي، بمعنى أنه فرض كفاية، وعنوان المحاضرة كأنه يفيد الوجوب العيني، والعلم والتعلم تنتابه الأحكام من الوجوب العيني والوجوب الكفائي، والسنية والاستحباب، وقد ينتابه بسبب ما يقترن به بقية الأحكام من الكراهة والتحريم، فيجب وجوباً عينياً على من تأهل له بحيث لا يوجد غيره في البلد، لأن وجود أهل العلم والعلماء الذين ينيرون الطريق، ويوضحون للناس ما يحققون به الهدف الشرعي من وجودهم، وهو العبودية لله -جل وعلا- أمر واجب على الأمة، ويتعين بالنسبة لبعض الأشخاص الذين لا يمكن أن يقوم إلا بهم، فهو من هذه الحيثية بالنسبة لأولئك الأفراد الذين تأهلوا له بحيث لو تركوه لما وجد غيرهم ممن يقوم به، هذا وجوب عيني يأثمون بتركه، وأما بنسبة لحكمه على العموم فهو فرض كفاية، إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين، يقوم به من يكفي ويسقط الإثم على الباقين، ويصير في حكم الباقين سنة.(27/1)
نأتي إلى كل فرد بعينة، كل فرد بعينه ما أوجب الله عليه من أعمال وأحكام يجب عليه أن يتعلم ما يقوم به هذا العمل وهذا الحكم؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فالصلاة واجبة، فتعلم أحكام الصلاة واجب، لأن هذا الواجب لا يقوم إلا بتعلم هذه الأحكام، الصيام واجب، معرفة ما يخل بهذا الفرض واجب، لأنه قد يتطرق الخلل إليه وهو لا يشعر فهو واجب يأثم بتركه، وهناك مسائل بين أهل العلم وجوبها، وأنها لا بد أن تكون معلومة لدى الخاص والعام، وهي ما علم من الدين بالضرورة.
وجوب العلم الشرعي والمراد به:
وجوب العلم الشرعي، وجوب العلم، أولاً: العلم المراد به في النصوص هو العلم الشرعي، هو العلم الشرعي المبني على الكتاب والسنة، هذا هو الذي جاءت النصوص بمدحه والحث عليه، وهو المورث للخشية لله -جل وعلا-، {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} [(28) سورة فاطر] قد يقول قائل، الناس يقولون الأقسام العلمية، والقسم العلمي والنظري، هذا التقسيم الاصطلاحي الحادث، يجعل علوم الدنيا من طب وهندسة وغيرها من هذه العلوم يسمونها علمي، وما عدا ذلك يسمونه نظري، علمي ونظري، أو علمي وأدبي، فيجعلون العلوم الشرعية التي جاءت النصوص بمدحها علوم نظرية، أو علوم أدبية، ويخرجونها من مسمى العلم العرفي، العلم العرفي، لكن النصوص التي جاءت في مدح العلم والعلماء المراد به العلم الشرعي المورث للخشية، قد يقول قائل: أن الخشية قد توجد عند طبيب وعند مهندس وعند مزارع وعند راعي غنم، أكثر مما يوجد عند بعض أهل العلم أما ما يجده الإنسان من نفسه من غير أهل العلم الشرعي، مما يورث الخشية سببه التفكر والنظر، وللأطباء من هذا النصيب الأوفر، التفكر والنظر الذي يورثه ما يورثه من خشية الله -جل وعلا-، ومعرفة آلائه هذا سببه التفكر.(27/2)
كذلك الأعرابي في البادية إذا نظر في السموات والأرض نظرة تفكر واعتبار استفاد فائدة كبيرة، بينما قد يكون طالب العلم الشرعي، يطلب العلم عشر سنين عشرين سنة ما استفاد قلبه من هذا العلم، هذا سببه الخلل في كيفية التحصيل، نجد أو نشاهد من طلاب العلم، بل بعض ممن ينتسب إلى العلم من هو مخالف مخالفة ظاهرة لهذا العلم الذي يحمله بين جنبيه، هذا خلل، هذا يحرمه لذة العلم والعمل، فمثل هذا الذي يحمله مثل هذا الشخص الذي لا يستفيد منه هو في الحقيقة ليس بعلم، العلم الذي لا يورث صاحبه الخشية ليس بعلم لأن الأسلوب أسلوب حصر، {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} يعني لا غيرهم، فالذي لا يفيده علمه خشية لله -جل وعلا-، وقرباً منه هذا ليس بعلم، ولذا يقول الله -جل وعلا-: {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ} [(18) سورة آل عمران] فعطف شهادة أولي العلم على شهادة الملائكة، المعطوفة على شهادة الله -جل وعلا-، فهذه أعظم شهادة، الشهادة على كلمة التوحيد، أعظم شهادة، أعظم مشهود به، لأعظم مشهود له، ولا يتحرى ولا ينتقى للشهادة بهذا الأمر العظيم إلا العظماء من الناس، يعني فرق بين أن تشتري سلعة رخيصة زهيدة تطلب لها أدنى شاهد، وأحياناً لا تشهد عليها لأنها لا تستحق، لكن إذا اشتريت سلعة نفيسة غالية الثمن تطلب لها من الشهود ما يثبت به العقد، بحيث لا يتردد أحد في ملكك لهذه السلعة، يعني هل من المعقول أن تشتري بيتاً بمليون ريال وأكثر، ثم تأتي بآحاد الناس من الشارع لا تعرف عدالته ولا تعرف ثقته يشهد لك بهذه الصفقة؟ لا يمكن، لا بد أن تبحث عن شخص تجزم بأن الخلل لا يتطرق إلى العقد مع وجوده، فهذه أعظم شهادة أعظم مشهود به، لأعظم مشهود له، أشهد الله -جل وعلا- عليه أهل العلم، فدل على أن أهل العلم هو الثقات الذين يتحملون مثل هذه الشهادة، وبمفهوم المخالفة الذين يحملون العلم وهم ليسوا من الثقات لا يستحقون أن يوسموا بهذه السمات الشريفة، ليسوا من أهل العلم، ولهذا جاء في الحديث: ((يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله)) فالذي يحملون العلم الشرعي هم العدول، طيب قد يقول قائل: إن(27/3)
آثار الفسق ظاهرة على بعض من ينتسب إلى العلم؟ نقول: ما يحملونه هذا ليس بعلم، هذا ليس بعلم، وإن اشتمل على مسائل شرعية بأدلتها، هذا في الحقيقة ليس بعلم؛ لأن العلم ما نفع، ويدل على ذلك قول الله -جل وعلا-: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ} [(17) سورة النساء] بجهالة، هل يقول قائل: أن الفاسق الذي يعرف حكم الزنا ويزني، ويعرف حكم شرب الخمر ويشرب، ولو عرف الحكم بدليله بأقوال العلماء، وما حده وما يترتب عليه والآثار المترتبة عليه، لو عرف هذا كله هل نستطيع أن نقول عالم؟ يعرف جميع الأحكام المترتبة على هذه المسألة ويعرف حكم هذه المسألة بأقوال أهل العلم بأدلتها، ويستطيع أن يوازن بين هذه الأقوال من خلال هذه الأدلة، ويرجح، هل نستطيع أن نقول: مثل هذا عالم؟ الله -جل وعلا- وصفه بأنه جاهل، فكل من عصى الله -جل وعلا- فهو جاهل، ولو حمل من العلم ما حمل، لأننا لو قلنا عالم لترتب على ذلك أنه لا تقبل توبته، والله -جل وعلا- يقول: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ} [(17) سورة النساء] طيب الذي يعرف الحكم عالم أو جاهل؟ في عرف الناس عالم، لكنه في الحقيقة ومن خلال مفهوم هذه الآية هو جاهل، فمهما حمل من العلم هو جاهل، لأننا لو قلنا: أنه عالم، لقلنا توبته غير مقبولة، للنص في الآية على أن التوبة لا تقبل من الجاهل، فدل على أن من يزاول المعصية جاهل، ولو كان من أعلم الناس بحكمها.
فضل العلم:(27/4)
العلم لا يحمله إلا العدول الثقات، ومن أعظم ما يستدل على فضله وشرفه، الآية التي سقناها آية آل عمران، ومن ذلكم قول الله -جل وعلا-: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [(11) سورة المجادلة] درجات، وهل نتصور أن الدرجات مثل درجاتنا في الدنيا التي يتخطاها الإنسان بسهولة؟ يعني عشرين سانتي الدرجة ثلاثين سانتي، لا، درجات، بين كل درجة والأخرى مثل ما بين السماء والأرض، الأمر ليس بالسهل وليس بالهين، يقول: هذا سهل درجتين ثلاث نفرط بها، لكن أين الدرجة الأولى من الثانية من الثالثة إلى مائة درجة؟ هذا شيء عظيم من تأمله بعين البصيرة أفنى عمره في تحصيل العلم، وليس بكثير أن يفني عمره بتحصيل العلم.
يقول الرسول -عليه الصلاة والسلام-: ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)) يفقهه في الدين، أولاً إذا عرفنا الدين عرفنا المراد بالفقه، الدين بجميع أبوابه مما يدخل في مسمى الإسلام من الأحكام العملية والعقائد الداخلة في مسمى الإيمان، وما فوق ذلك من الصفات التي يمنحها الله -جل وعلا- لبعض عباده من مراقبته والتعبد على جهة الإحسان الذي لا يحصل لكل أحد، هذا هو الدين، ولذا لما سأل جبريل النبي -عليه الصلاة والسلام- عن الإسلام والإيمان والإحسان، قال -عليه الصلاة والسلام- في نهاية الحديث: ((هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم)) فدل على أن الدين يشمل الثلاثة، الإسلام والإيمان والإحسان، فمن يتفقه في هذه الثلاثة التي تشمل جميع أبواب الدين، هو الذي أراد الله به خيراً، لأن بعض الناس يعنى بالفقه العملي من الأحكام والحلال في الأبواب الأربعة المعروفة عند أهل العلم الأرباع الأربعة العبادات والمعاملات والمناكحات والأحوال الشخصية والجنايات والحدود، يخصون الفقه بهذا، هذا اصطلاح عرفي خاص، لكن لا يعني أن المراد بالحديث هو هذا.(27/5)
علم العقائد الفقه الأكبر، وتعلمه أهم من تعلم الأحكام مع أن الكل مهم، أبواب الدين الأخرى من التفسير والمغازي وسيرة النبي -عليه الصلاة والسلام- التي هي الترجمة العملية للإسلام والرقاق والفتن والاعتصام وغيرها من أبواب الدين؛ هذه في غاية الأهمية لطالب العلم، لكن نجد طلاب العلم عموماً في عزوف عنها، لأنهم على حد عزمهم، أنه لا يوجد داعي لدراستها داعي آني في الوقت الحاضر، الصلاة تحتاجها في كل يوم خمس مرات، وتحتاج من الصلوات الأخرى من النوافل أكثر من ذلك، فأنت تتعلم أحكامها هذا شيء طيب، هذا شيء طيب، لكن ماذا عن أبواب الفتن التي قد تعرض على قلبك فيقبلها وأنت لا تشعر؟ هذه في غاية الأهمية، ماذا عن كتاب الرقاق، كثير من طلاب العلم يأنف عن قراءته، ولا يود أن يصنف واعظ، هذا خطأ، خطأ عظيم، يا أخي ما الذي يحدوك إلى العمل بالأحكام، إلا كتاب المواعظ والرقائق، كيف تعمل بالأحكام التي تعلمتها إلا من خلال هذا الباب؟ وقل مثل هذا في جميع أبواب الدين ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)) يعني بجميع أبوابه، فلا يكون شيء على حساب شيء، نحن نشاهد طلاب العلم في الجملة لا يعنون بكثير من أبواب الدين، ويهتمون بالأحكام العملية فقط.(27/6)
طيب ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)) الذي لم يتفقه في الدين هل أراد الله به شراً؟ الذي لا يتفقه في الدين هل هو ممن أراد الله به شراً، أو نكتفي بأن الله -جل وعلا- لم يرد به خيراً، لأن من عوام المسلمين ممن لم يتفقه في الدين، وضرب في نصر الإسلام والبذل للإسلام الشيء الذي يعد أضعاف ما بذله بعض من ينتسب إلى العلم، هل نقول: أن هذا أراد الله به شراً؟ يعني مثل بعض الأثرياء الأتقياء الذين يبذلون لنصر الدين، وينفقون على العلم الشرعي، ويسهلون أمره للناس، هل نقول: أن هؤلاء أراد الله بهم شراً؟ نكتفي بأن نقول: بأن الله -جل وعلا- ما أراد الله بهم خيراً من هذه الحيثية، وأراد بهم خيراً من جهة أخرى، لكن الخير المطلق إنما هو لمن جاء الوعد له في الحديث ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)) ولا نقول: إن الله -جل وعلا- أراد به شراً، نعم لو كان أضاف إلى عدم تفقهه في الدين مزاولة محرمات ومنكرات وترك واجبات، نقول: هذا أراد الله به شراً، أما إذا كان من النوع العابد المخلص لله -جل وعلا-، ولو لم يتفقه في الدين وضرب في أبواب أخرى من النفع العام، كأن يجاهد في سبيل الله، ببدنه أو بماله أو ينصر الإسلام بماله أو بمقاله أو بجاهه هذا أراد الله به خيراً من هذه الحيثية، لكن الخير المطلق إنما هو بالتفقه في الدين، قد يقول قائل: من أراد الله به خيراً يفقهه في الدين، لكن أنا طلبت العلم عشرين ثلاثين، وعرفت من طلب العلم سبعين سنة وما أدرك شيئاً، الرسول -عليه الصلاة والسلام- يقول: ((إنما أنا قاسم، والله المعطي)) فعلى هذا على الإنسان أن يبذل السبب، ولا يقول: أنا طلبت العلم سنين ما استفدت، عليك أن تستفيد وتستمر إلى أن يأتيك اليقين، لأن العلم من أعظم أبواب العبادة، بل يفضله أهل العلم على جميع ما يتعبد به بعد الفرائض أفضل نوافل العبادات تعلم العلم الشرعي، فعليك أن تستمر، ولو كان حفظك ضعيف، ولو كان فهمك أقل، مثل هذا لا يثنيك عن تعلم العلم الشرعي، ومع الوقت والإخلاص والحرص تدرك -إن شاء الله تعالى-، ولو لم تدرك في ذلك إلا الاندراج في قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به(27/7)
طريقاً إلى الجنة)) فأنت ألا تريد أن يسهل الله لك طريقاً إلى الجنة؟ ولو لم تدرك العلم، لأن الوعد في هذا الحديث ما رتب على العلم إنما على سلوك الطريق فقط، فأنت مجرد ما تسلك الطريق، ييسر لك الطريق إلى الجنة، ولو لم تدرك من العلم ما يكفيك أو لم تدرك شيئاً، لأن هذا الوعد ثابت لمجرد من سلك الطريق.
فالعلم الشرعي في غاية الأهمية لكل مكلف، لكل مسلم ينتسب لهذا الدين، والعلماء الناس إليهم بأمس الحاجة بل الضرورة قائمة وداعية إلى وجود علماء، يمثلون لوجود العلماء بين أوساط الناس وعامتهم بمن؟ بقوم سلكوا وادياً في ظلام دامس وفيه أشجار وأحجار وسباع وهوام، وليس معهم من ينير لهم الطريق، في ظلام دامس، هؤلاء حيرى، فإذا جاءهم من بيده مصباح وتقدم عليهم واستناروا بنور مصباحه ما فضله عليهم؟ له فضل عليهم أو ما له فضل عليهم؟ السائر في الظلام ما يدري ماذا يواجهه؟ هل تنهشه حية؟ هل يتعرض لسبع يأكله؟ ما يدري، هل يمشي يمنياً أو شمالاً أو من الأمام، أو يرجع من طريقه؟ لا يعرف شيئاً، وهذا مثل عامة الناس، يتعبدون على جهل، فإذا جاءهم من يبين لهم وينير لهم الطريق الصراط المستقيم والتنظير مطابق، وإن كان المثال أقل من الممثل له؛ لأن هذا الذي مشى في الوادي المظلم إذا قل على أسوأ الاحتمالات تعرض لسبع أو نهشته حية فمات ماذا خسر؟ خسر الدنيا، لكن الذي يتعبد لله -جل وعلا- على جهل هذا يخسر الآخرة، ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) فإذا كان يتعبد على جهالة على غير مراد الله -جل وعلا- ومراد رسوله -عليه الصلاة والسلام- فإن مثل هذا يخسر الآخرة، ومجرد حسن القصد لا يكفي، بل لا بد أن تكون العبادة على بصيرة، والدعوة لا بد أن تكون على بصيرة، {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [(108) سورة يوسف] فلا بد من أن تكون العبادة على بصيرة على نور من الله على مراد الله، وأن تكون الدعوة كذلك.
أهمية العلم الشرعي لمن يشتغل في مجال الطب:(27/8)
نأتي لمن يعمل في مجالكم، في المستشفيات، ويعالجون المرضى، من أطباء ومساعديهم وغيرهم، هؤلاء العلم الشرعي في غاية الأهمية لهم، لأن مجتمعهم لا يسلم من شيء من التعرض للفتنة، فإذا كان الإنسان عنده من العلم الشرعي ما يورثه الخشية لله -جل وعلا-، ينجو من هذه الفتنة ويوفق ويسدد، هذه من جهة، الأمر الثاني أنه قد يطرأ له أحكام تتعلق بالمريض، وتتعلق بكيفية معاملته للمريض لا يعرفها إلا إذا كان عنده قسط كافي من العلم الشرعي، فالأطباء ومعاونوهم في أمس الحاجة إلى العلم الشرعي، وكذلكم هم أيضاً بأمس الحاجة إلى دعوة من يعالجونه ومن يحتاج إليهم؛ لأن المريض كالغريق، يريد بس من يأخذ بيده، أنت إذا كان الإنسان لديك له حاجة تستطيع أن تملي عليه ما شئت، طبيب يعالج مريض، افترضنا أنه حالق لحيته، فجاء الطبيب الذي يرى هذا المريض أنه بالنسبة له كل شيء، يريد أن ينقذه من هذا الغرق الذي هو فيه، من هذا المرض، لو قال له: يا أخي ماذا تستفيد من حلق اللحية، والنصوص التي جاءت في تحريمها معروفة؟ لو قال: أنت مسبل، ماذا تستفيد من كون ثوبك يكنس الأرض وينظفها؟ أنت في غنية لست بحاجة إلى مثل هذا، فهو يقبل من الطبيب، يقبل من صاحب المواعيد، ويقبل من كل أحد في هذا المجال.
فعلينا أن نستغل هذا الظرف، وهذه الفرصة التي سنحت ويسرها الله -جل وعلا- لنا، لو يجي عالم مثلاً ينصح له مريض مثلاً، ويعرف أنه ما يعرف من الطب شيئاً، قال: وش دخلك؟ هذا شأني، لكن لو جاء شخص هو محتاج إليه لا شك أنه يقبل منه، فلا نفوت مثل هذه الفرص، لا التعلم لأننا بحاجة ماسة إليه، ولا الدعوة ولا الصبر، لا بد أن نعرف كيف نتعامل مع المريض؟ المريض مسكين، أصيب بهذا الداء، لا بد أن نربطه بالله -جل وعلا-، وأن نوسع الآمال بسعة رحمة الله -جل وعلا-، وأن مفاتيح الأمور كلها بيده، ولا نعلقه بمخلوق، ولا نعلق هذا المريض بمخلوق، لأنه احتمال ألا يخرج من المستشفى يموت، فيموت على هيئة حسنة، وتعلق بالله -جل وعلا-، وحسن ظن به، ويكون في ميزان حسنات من وجهه إلى هذا.(27/9)
فالعلم والدعوة لا بد منهما لمن يعمل في هذا المجال، ولغيرهم، لكن نحن بصدد الكلام مع الأخوة العاملين في هذا المجال، هناك أحكام كثيرة تتعلق بالمرض والمرضى، وكيفية التعامل معهم وتوجيههم إلى أن يعبدوا الله -جل وعلا- حسب استطاعتهم هذه لا يدركها إلا من اعتنى بالعلم الشرعي، والأمر ميسور، يعني لا يتطلب منا أن نترك العمل نأخذ إجازة استثنائية لمدة ستة أشهر مثلاً، وأن نطلب العلم على المشايخ ونلازم الحلق، ثم بعد ذلك نرجع إلى عملنا لئلا نفصل مثلاً ثم بعد ذلك نأخذ إجازة استثنائية لا لا، ما يلزم هذا كله، الأمر في عصرنا متيسر جداً، والعلم سهل مذلل، لكن يحتاج إلى مبادرة منا، العلم لا يأتي إلى أحد، بالإمكان أن يكون الإنسان مع عمله الرسمي يحضر ما تيسر له من الدروس التي لا يكلفه الذهاب إليها قريب من بيته، والدروس -ولله الحمد- منتشرة وبكثرة كاثرة، في كل حي دروس، هذا لا يكلفه شيء، قد تكون الدروس بعد صلاة الصبح، قبل دوامك، ما الذي يمنعك من الحضور؟ قد تكون الدروس بعد المغرب، بعد انتهاء الدوام، قد يقول القائل منكم: إن الدوام الطبي يختلف عن الدوام الوظيفي العادي، الوظيفي العادي معروف من سبع ونصف إلى ثنتين ونصف وينتهي، لكن الطب لا بد أن يكون موجود على الأربعة والعشرين ساعة نقول كذلك، لكن ليس مطلوب من كل شخص أن يعمل أربعة وعشرين ساعة، نعم والمهنة شاقة ومتعبة، لكن مع ذلك إذا عرفنا شرف المطلوب ضحينا بكل شيء، يعني نقتطع له جزء من الوقت ولو ساعة في اليوم، لتعلم العلم الشرعي، وبعد صلاة الصبح، وقبل الدوام هذا يدركه كل أحد، يعني بعد صلاة الصبح لمدة ساعة حتى تنتشر الشمس أو ساعة وربع هذا لو استغله الإنسان بقراءة حزبه وورده من كتاب الله -جل وعلا- على الوجه المأمور به بالتدبر والترتيل ومراجعة كلام أهل العلم فيما يشكل علينا فهمه من كتاب الله -جل وعلا- هذا ليس بكثير، بل أنا أجزم بأن هذا خير ما يعين على أداء العمل، ويكون في آخر النهار مدة ساعة أخرى للنظر في سيرة النبي -عليه الصلاة والسلام- والفقه العقائد وغيرها.(27/10)
الأمر الثاني: أن الآلات والأجهزة يسرت الآن بإمكانك أن تحضر الدروس وأنت في بيتك، وأنت جالس في بيتك من خلال الأشرطة والإنترنت وغيره.
تأتي إلى المتن الذي يشرحه هذا العالم، وليكن مثلاً كتاب التوحيد، فتحضر المتن وتسمع الشرح من الشريط، أو من خلال الشبكة، وتنظر في المتن تقرأ المتن أكثر من مرة قبل أن تسمع الدرس وتفهم المتن معناه كلمة كلمة من خلال ما تسمع من شرح، والأمر ميسور -ولله الحمد- وهذا في جميع العلوم، وكثير من الناس أدرك من العلم أكثر مما يدركه من يزاحم العلماء وهم في بيوتهم، بل تأتينا الأسئلة التي تدل على الفهم الدقيق من كندا واستراليا في آن واحد، من خلال الشبكة، ونحن في الدرس، فالأمر متيسر، وليس لأحد عذر، فعلينا أن نعنى بهذا الجانب وهذا لا يكلفنا شيء، وإذا عرفنا لا بد أن نعرف أولاً شرف المطلوب، يعني لو قيل لك مثلاً: اذهب كل عصر إلى الحراج، ترزق، أنت راتبك قد لا يكفيك ويكفي أولادك، تروح إلى الحراج، تقول: يا أخي أيش أتردد إلى الحراج عشرين ثلاثين كيلو وأنا رايح جاي، أيش باحصل في الحراج؟ أثاث متكسر أو شيء ما يسوى التعب، لكن إذا عرفت شرف المقصود، وهو العلم الشرعي، الذي أشهد الله -جل وعلا- أربابه وأصحابه على الشهادة له بكلمة التوحيد، عرفت أن جميع ما تبذله من أجل تحصيل هذا العلم فهو رخيص، يعني ما يستحق الذكر بالنسبة لما تحصله.(27/11)
هناك كتب ألفها أهل العلم بلهجة العصر، صارت سهلة وميسرة، بإمكان المتعلم أن يقرأ فيها ويستفيد، نعم كانت المتون صعبة، كانت المتون صعبة، لا يدركها كثير ممن يقرأ فيها من غير أهل الاختصاص، الآن صارت العلوم ميسورة، سهلة ميسرة، يعني من كان يتطاول على زاد المستقنع من غير العلماء وطلاب العلم حتى يسر الله له الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- فشرحه بالشرح الممتع، الشرح الممتع يفهمه الناس كلهم، لأن الشيخ -رحمه الله تعالى- ذلل الله له كيفية التعليم وإيصال المعلومات، فنستفيد فائدة من هذا الكتاب الملخص الفقهي، كتاب يستفيد منه كل من يقرأ ويكتب، فلا عذر لنا ولا حجة لنا في أن نترك، يعني لو المسألة متن الزاد، نقول: هذا صعب على المتعلمين، لكن شرحه للشيخ ابن عثيمين مفهوم، شروح الشيخ ابن جبرين وشروح المشايخ كلها سهلة ميسرة، نفهما ونحن في البيوت، لكن نحتاج مع ذلك إلى أن نطلع درجة درجتين ثلاث، في علوم الآلة حتى نستطيع أن نتعامل مع النصوص على الطريقة العلمية المعروفة عند أهل العلم، وهذا أيضاً أمر يسير، ولله الحمد، لأن هذه العلوم شرحها هؤلاء العلماء ويسروها لطلاب العلم، فكيفية التحصيل تتم بحضور الدروس وبالمطالعة الخاصة بهذه الكتب التي ألفت بلغة العصر، ولهجة العصر بحيث يفهما كل أحد، بحضور الدروس بالبدن ومزاحمة الشيوخ والإفادة منهم مباشرة أو من طريق الآلات لمن لا يستطيع ذلك، فالأمر متيسر -ولله الحمد- وبإمكان الشخص أن يكون عالماً من خلال هذه الآلات، نعم قد يحتاج إلى أن يستفهم، بإمكانه أن يرفع سماعة التلفون ويسأل أي عالم يحل له هذا الإشكال، وقد يقول قائل: أن العلماء مشغولون نتصل ولا يردون، نعم التقصير موجود، وأيضاً العدد غير كافي لحاجات الناس، لأنه كان في السابق العالم الواحد يغطي البلد لأن السواد الأعظم عوام، لا يحتاجون إلى أسئلة إلا فيما يقع لهم، الآن لا، السواد الأعظم متعلم، ويسأل عن كل ما يشكل عليه، فصار في كثرة في الطلب على أهل العلم، مع كثرتهم، صار الطلب أكثر من طاقتهم، فعلينا أن نعنى بهذا الباب، وهذا الشأن، ومن الأطباء في السابق من ضرب أطنابه في العلم الشرعي، وصار بحيث يعد من العلماء الكبار في(27/12)
جميع أبواب العلم في التفسير في الحديث في الفقه، في العقائد في كل باب من أبواب الدين وهم أطباء، يعني شهرتهم في الطب طبقت الآفاق، فمثلاً -أنا أوردت مثالين- لاهتمام وعناية الأطباء بالعلم الشرعي، عندنا شخص يقال له: ابن النفيس ولا أخاله يخفى على أحد منكم، هذا من كبار الأطباء، ابن النفيس علي بن أبي الحزم القرشي، علاء الدين ابن النفيس الطبيب المصري صاحب التصانيف في الطب كالموجز، الموجز مطبوع معروف، شرح الكليات وغيرهما، يقول السبكي في طبقات الشافعية، كان فقيهاً في مذهب الشافعي، صنف شرحاً على التنبيه، التنبيه متن من متون الشافعية لأبي إسحاق الشيرازي، وصنف في الطب كتاباً سماه الشامل، قيل: لو تم لكان ثلاثمائة مجلد، تم منه ثمانون مجلداً، وصنف في أصول الفقه وفي المنطق وفي الفقه والعربية والحديث، يعني أقوال ابن النفيس في كتب المصطلح تدور بكثرة، يعني مثلما يدور كلام ابن حجر والعراقي وغيرهم من أهل الحديث في كل باب يذكر رأي ابن النفيس في علوم الحديث، وهو طبيب صنف الشامل أتم منه ثمانين مجلد.
وبالجملة كان مشاركاً في فنون كثيرة، قلت: ومنها علوم الحديث، فأقواله الكثيرة تدور في كتب المصطلح، وعناية العلماء بأقواله تدل على رسوخه في العلوم الشرعية، يقول السبكي: وأما الطب فلم يكن على وجه الأرض مثله، لأن بعض الناس يقول: لو اتجهت إلى العلم الشرعي ضعفت في تخصصي، نقول: هذا ليس بصحيح، لأنك قد تتجه إلى العلم الشرعي، وتنظم وقتك وترتب أمورك ولا تتأثر في تخصصك، وأما الطب فلم يكن على وجه الأرض مثله، قيل: ولا جاء بعد ابن سيناء مثله، قالوا: وكان في العلاج أعظم من ابن سيناء، توفي سنة سبع وثمانين وستمائة.(27/13)
من الأمثلة ما ذكره السخاوي في فتح المغيث، قال: "إن الرئيس المتطبب يوسف بن عبد السيد بن المهذب إسحاق بن يحيى الإسرائيلي، يهودي، المعروف بابن الديان، سمع الحديث في حال يهوديته، مع أبيه من شمس الدين محمد بن عبد المؤمن الصوري" هو سمع الحديث حال يهوديته، طيب قد يقول قائل: كيف يستفيد وهو يهودي؟ بأي نية يطلب الحديث وهو يهودي؟ قال السخاوي: "وكتب بعض الطلبة اسمه في الطباق" الطباق تدوين الأسماء، أسماء الطلاب الذين حضروا على هذا الشيخ من أجل أن يجيزهم بالرواية عنه "وكتب بعض الطلبة اسمه في الطباق في جملة السامعين، فأنكر عليه" أنكر على هذا الطالب الذي كتب هذا اليهودي في الطباق، وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن ذلك فأجازه، قال: اكتبوا اسمه، لأن كتابة اسمه ما تضر، وكونه يتلقى في حال كفره، هذا لا يمنع وتلقيه للعلم في حال اختلال الشرط صحيح، لكن العبرة فيه في حال الأداء، عندنا حال تحمل وحال أداء، حال التحمل للعلم ولو كان فاسقاً، يتحمل العلم ويطلب العلم لكن بعد ذلك لا يقبل منه هذا العلم حتى تنطبق عليه الشروط، فيصح تحمل الكافر، يتحمل العلم، وفي الصحيحين وغيرهما أن جبير بن مطعم أتى في فداء أسرى بدر وهو كافر، فسمع النبي -عليه الصلاة والسلام- يقرأ في صلاة المغرب بالطور، تحمل حال كفره، ثم لما أسلم أدى هذه السنة فقبلت عنه، خرجت في الصحيحين وغيرهما.
سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن ذلك فأجازه، ولم يخالفه أحد من أهل عصره، بل ممن أثبت اسمه في الطباق الحافظ المزي، -رحمه الله تعالى-، ويسر الله تعالى أنه أسلم بعد، وسمي محمد، وأدى وسمعوا منه، وممن سمع منه الحافظ شمس الدين الحسيني، وغيره، نقول: هذا طبيب وغير مسلم يُسمع منه الحديث، ومع ذلك يكتب اسمه في الطباق، ومع السامعين لكن لا تقبل روايته حتى يسلم، لأن من شرط الرواية العدالة، والكافر ليس بعدل.(27/14)
ابن الديان هذا ترجمه الحافظ ابن حجر في الدرر الكامنة فقال: "يوسف بن عبد السيد بن المهذب إسحاق بن يحيى الإسرائيلي، كان يهودياً فأسلم مع أبيه سنة إحدى وسبعمائة، وقد سمع مع أبيه ومحمد بن عبد المؤمن الصوري، وحدث عنه، وكان ماهراً في الطب، قليل الانطراح على الدنيا، إذا حصل كفايته في أول النهار توجه إلى النزاهة -يعني في حال يهوديته يستريح ويتعبد بما يظنه صواباً، وإن كان خطأ محرفاً، لكن جُبل على هذا- يقول: كان ماهراً في الطب قليل الانطراح على الدنيا، إذا حصل كفايته في أول النهار توجه إلى النزاهة لا يخل بذلك - ولعل هذا ازداد بعد إسلامه، بحيث يزاول الطب في أول النهار، ثم بعد ذلك يتجه إلى العبادة- مات في شهر رمضان سنة سبع وخمسين وسبعمائة.
ومن هذا نأخذ دروس، نقول: إذا كان هذا يهودي، ويسمع الحديث لأن الحديث كلام من لا ينطق عن الهوى، محبب إلى النفوس، فكيف بالقرآن الذي هو كلام الله -جل وعلا-؟! كلام الله -جل وعلا- الذي من كان يقرؤه كأنما يخاطب الرحمن، يخاطب الله -جل وعلا-، لكن علينا أن نقرأ القرآن على الوجه المأمور به، نتدبر ونرتل ونتفهم ونراجع كلام أهل العلم لنفهم، ونستفيد من القرآن الفائدة المرجوة.
في ترجمة هذا لفتة، وهي أن كثيراً من الأطباء وهم كغيرهم ممن يزاول أمور الدنيا من وجوه الكسب، تجده إذا زاد دخله زاد تعبه وعمله، فإذا كان طبيب عادي تجده عمله أقل ممن فوقه، أقل من استشاري، لماذا؟ لأن الدخل أقل، فلا يغري بأن الإنسان ينهمك في هذا العمل ويكثر منه، لكن إذا ارتفع شأنه صار استشاري وقصد من جميع الناس تجد عمله كله مشغول بهذا الأمر، فلا يصرف لما يصلح قلبه شيئاً من وقته.(27/15)
نرى الأطباء الكبار باستمرار أربعة وعشرين ساعة مشغولين، لماذا؟ لأن الدخل أعظم، تجده يحصل على الأموال الطائلة من خلال هذه المهنة، وينكب جانباً عما يتعلق بقلبه، وما يصلح دينه، وما يقربه إلى الله -جل وعلا-، فمثل هذا لا ينسى الله -جل وعلا-، نعم هو مطلوب بألا ينسى نصيبه من الدنيا، لكن هو خلق لهدف لا بد من تحقيقه والعبودية لله -جل وعلا- وبإمكانه أن يزاول العبودية من أبواب الدين المتنوعة، فتنوع العبادات من نعمة الله -جل وعلا- على المكلفين، فبإمكانه أن يتعبد بالصلاة يتعبد بالصيام، يتعبد بالإنفاق في سبيل الله -جل وعلا-، من خلال ما يكسبه من هذه المهنة تأدية لشكر هذه النعمة، بإمكانه أن ينفع الآخرين، فالطبيب عليه مسؤولية عظمى، فلا ينهمك في مهنته التي تدر عليه شيئاً من حطام الدنيا وينسى ما خلق من أجله، على الأطباء أن يبذلوا من أوقاتهم لنفع الناس، يعني لا يقال للطبيب مثلاً: أنت افتح عيادة أربعة وعشرين ساعة تبرع لنفع الناس، نقول: لا تنسى نصيبك من الدنيا، لكن أيضاً لا تكن الدنيا همك، يعني ابذل نفسك لنفع الناس، يعني وأنت في المسجد تصلي مع الناس، رأيت على واحد من الجيران آثار التعب، أو آثار مرض لم يحس به، وأنت تعرف أن هذه أعراض مرض، أنت تعرفه تنصحه وتسدي له النصيحة، ولو لم يطلب منك، فضلاً عن كونه يطلب منك.
فعلى هؤلاء الإخوان كغيرهم من العاملين في المجالات الأخرى أن يصرفوا من أوقاتهم لنفع الناس في أمور ما يحسنون، أنت طبيب تحسن أن تسدي النصيحة لهذا الشخص المريض لا تتردد يا أخي، والدنيا أنت ما خلقت من أجل الدنيا ليكون عملك كل كلمة لها مقابل، فإذا وجدت من يحتاج إلى بذل النصيحة سواء كان من الأقارب أو من الجيران، أو ممن يرد عليك ممن ليس من الأقارب ولا الجيران، وعرفت أنه بحاجة إلى هذه النصيحة فالدين النصيحة، وأنت تسعى لهذا العمل بنية أن يمتع الله -جل وعلا- هذا الشخص بصحة وعافية ليعبد الله -جل وعلا-، ويكثر سواد من يتعبد لله -جل وعلا-، وتستغل مثل هذه النصائح لهؤلاء الناس في مجال الدعوة إلى الله -جل وعلا-، أجرك عظيم، أنت حينئذ مجاهد.(27/16)
فعليهم أن يقتطعوا من أوقاتهم لاستقبال الناس وسماع شكواهم وأمراضهم ويشير بما ينفعهم مجاناً بادئين بالأقربين، ولا يحملهم الحرص على الدنيا أن ينشغلوا بوظائفهم وعياداتهم عن مثل هذا العمل التطوعي الذي يجدون ثوابه عند الله -جل وعلا-، وهو من أقرب وسائل الدعوة، والمريض يقبل ممن ينفعه في هذا الباب، أكثر مما ينفعه في باب المال، وإن كان المال بذله ينفع في الدعوة نفعاً كبيراً.(27/17)
أيضاً مما يشار به على الأطباء أن ييسروا هذا العلم لمن احتاجه بتأليف مؤلفات مبسطة، فيها مبادئ هذا العلم يستفيد منه كل من يقرأ ويكتب، بذكر بعض الأمراض المنتشرة بين الناس، وذكر أعراضها، وما ينفع فيها من الأدوية والأغذية، وما لا ينفع بل يضر فإذا وجدت هذه الأمراض وذكرت أعراضها بأسلوب سهل يفهمه عادي الناس، وذكر ما ينفع في علاجه من الأغذية وما يضر استعماله من الأغذية بالنسبة لهذا المرض، وكذلك الأدوية التي ليست لها آثار جانبية على أن يربطوا في مثل هذا المجال بالأطباء، وألا يستغنوا بهذه الكتب، لأن الإنسان قد يستعمل الشيء على غير وجهه، بل يحرص أن يكون مثل هذه الكتب سهلة ميسرة تفيد الناس وتعينهم؛ لأن ما كل الناس يستطيع أن يبذل الأموال من أجل العلاج، تعرفون الآن العلاج مرتفع القيمة، كثير من الناس الذين دخلهم متوسط وعوائلهم كبيرة، لا يستطيعون أن يغطوا ما يحتاجون إليه من علاج وما تحتاج إليه أسرهم، فمثل هذه الكتب تيسر، الكتب قليلة في المكتبات، نعم موجودة لكنها قليلة، وبعضها كتب قديماً، يعني من سنين، من خمسين من ستين سنة، تغير كثير من النظريات الطبية، وبعضها إذا وجد شيء حديث لكن باهض القيمة، أنا وجدت في مجلد واحد مكتوب عليه 120 ريال، لطبيبة ألفته في بعض الأدوية والأغذية والأمراض، فهذا باهض الثمن يعني لو كان كتاباً شرعياً كان بعشرة ريالات، فكيف يكون بهذه القيمة؟ لا بد من التيسير على أمور الناس، والأطباء لا يجعلون الناس يلجؤون إلى كتب الطب القديم، إذا ما وجد الإنسان شيء ميسر مبسط يفيده في هذا المجال، لا بد أن يبحث عن أي كتاب في الطب يستفيد منه، القانون لابن سيناء، كان معول الأطباء الشعبيين عليه، والنووي -رحمه الله تعالى- يقول: جرى في خاطري أن أنظر في كتب الطب، فاقتنيت كتاب القانون لابن سيناء، يقول: فأظلم قلبي، وصرت لا أستطيع الحفظ، ولا أفهم كلام العلماء، فأخرجت الكتاب، فعاد إلي ما كنت أعهده من نفسي، نعم، صاحب الكتاب معروف وضعه في ميزان الشرع، يعني ملحد زنديق، بكل صراحة، ما يحتاج إلى أن نجامل في هذا الباب، يعني لو نقرأ كلام شيخ الإسلام وابن القيم وغيره فيما يتعلق به وجدنا أنه ضال، نسأل(27/18)
الله السلامة والعافية.
الأطباء الشعبيون وكثير ممن ينتسب إلى العلم في العصور المتأخرة معولهم في الطب على كتاب اسمه: التذكرة، لداود الأنطاكي، التذكرة في هذا المجلد الكبير فيها بعض الأمراض، وفيها بعض الأدوية، التي تعالج بها هذه الأمراض، سواء كانت مركبة أو مفردة وفيها أغذية، تنفع في هذه الأمراض، لكن كثير من الأدوية لا يعرف كثير من النباتات التي يصفها لا تعرف أسماؤها، فلا يستفاد من هذا الكتاب، كثير من الأغذية التي ذكرها إنما ذكرها لمجرد أنها جربت مرة واحدة فنفعت لهذا المريض، لكن ماذا عن بقية المرضى، احتمال أن يكون هذا المريض عنده مضاد لهذا الغذاء، أو عنده قابلية لمرض آخر بسبب هذا الغذاء، أولاً: وعورة معرفة الأدوية والأغذية التي يذكرها لأن المسميات تغيرت، الأمر الثاني: أن التجارب ناقصة، ليست عن استقراء تام، كما هو شأن الطب الحديث، لأنه قد يجرب هذا الدواء نفع لفلان، فيظنه ينفع لجميع الناس والأمر ليس كذلك، قد يكون الإنسان مصاب بمرض آخر يزيده هذا العلاج أو هذا الغذاء يزيد مرضه الثاني، فيحصل عنده تعارض، فمطلوب من الأطباء أن يبذلوا في هذا المجال شيئاً ييسر للناس، ما كل الناس يرغب في مراجعة المستشفيات، بعض الناس يمكن يصاب بعاهة أو بأمر عظيم ولا يراجع، إما لكونه لا يرغب في هذا، أو لكون التكلفة عليه كبيرة لا يستطيعها.
إضافة إلى أن هذه الكتب فيها شعوذة، وفيها طلاسم، وقع بسببها كثير من الناس في السحر والاستعانة بالشياطين وهو لا يشعر، لأنها ألفت في عصور مظلمة، والكتاب هذا مشحون من الطلاسم، وفيها أيضاً استعانات، وفيها تعلق بحيوانات أو بطيور أو بأجزاء من الطيور، من وضع رأس الهدهد في وسادته صار له كذا، وعوفي من كذا، من استعمل كذا، مما يستعان فيه بغير الله -جل وعلا-.
وفيه أيضاً أرقام وحروف وأشياء هي إلى السحر أقرب، مثل هذه الأرقام، وفيها حروف مقطعة لا يدرى، وفيها كلمات هي إلى السحر أقرب، فلا نجعل عامة المسلمين يرجعون إلى مثل هذه الكتب، ونحن لدينا القدرة في تصنيف ما ينفع الناس في هذا المجال، والله المستعان.(27/19)
الإخوة العاملون في المجال الطبي، وما يعنيه وما يساعد عليه من معاونين يعملون في أماكن فيها تعرض لشيء من الفتن، سواء كانت من المرضى المراجعين لتباين مستوياتهم في العلم وفي التدين، أو كانت من العاملين، لأن العمل يرون أن من ضرورته أن يختلط الرجال بالنساء، مع أنه لا داعي لذلك ولا ضرورة له، لكن هم يدعون هذا، العامل في هذا المجال يتعرض لفتن، فعليه أن يكون داعية خير، وأن يحول بين الناس وبين هذه الفتن بقدر استطاعته، فهذا المجال وهذا المرفق الحيوي المهم الذي يحتاجه جميع الناس فيه ما فيه وكثير من الأخيار يتضايق من مراجعة الأطباء في المستشفيات من أجل هذا، حتى في العيادات الخاصة يجد ما يجد، التبرج على أشده في هذه الأماكن.
فعلينا أن نبذل النصيحة لكل من نراه مخالفاً، سواء كان من الذكور أو من الإناث، سواء كان من العاملين في القطاع أو من الواردين عليه، من مرضى ومن زوار وغيرهم، والإنسان الحريص على نفسه يتضايق عند مراجعة المستشفيات، وهذا ليس بسر، أمر مكشوف عند الناس كلهم، كل الناس يعترف بهذا، فعلينا أن نسعى جاهدين لتقليل هذا الشر بقدر الإمكان، لأنه قد يقول قائل: أنه ليس بالإمكان أن يفصل الأطباء عن غيرهم من الذكور، الذكور عن الإناث، أو ما أشبه ذلك، نعم المرضى الرجال على حدة، والنساء على حدة، لكن تجد الاشتراك أحياناً في مكتب مواعيد أو شيء من هذا، أو أسياب وطرقات ويتعرض بعض الناس للمضايقة ويتضايق بعض الناس من بعض المناظر، فعلينا أن نكون دعاة هدى في هذا الباب، وأن نحول بين مثل هذه المخالفات وبين أصحابها، ولا يفتح المجال للشيطان وأعوانه أن يستغلوا مثل هذه الفرص.
وجد مخالفات وعند الإخوان في الحسبة رصد لما يحدث في بعض المستشفيات وبعض المستوصفات الأهلية شيء كثير، لأن الرقابة عليها أقل، فعلينا أن نكون دعاة خير وهداة، نبذل النصيحة لكل أحد، ولنا الأجر العظيم من الله -جل وعلا-، فمن دل على هدى فله مثل أجر فاعله، فلنحتسب الأجر من الله -جل وعلا-.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
جزى الله الشيخ خير الجزاء، ونستأذنه بعرض بعض الأسئلة، جزاه الله خيراً.
تفضل.(27/20)
أولاً: أيها الأخوة هناك بشرى يقدمها مدير إدارة التوعية الدينية -جزاه الله خيراً- أنه سيكون هناك دورة علمية لفضيلة شيخنا الدكتور عبد الكريم الخضير في شرح كتاب الطب والمرض من كتاب صحيح البخاري -رحمه الله- وسيعلن عن وقتها لاحقاً -بإذن الله تعالى- ونحن نتقدم بالشكر الجزيل لشخينا على موافقته لإقامة هذه الدورة، فجزاه الله خيراً.
فضيلة الشيخ: كثرت الأسئلة -حقيقة من الأخوة الحضور- عن كيفية طلب العلم، وكيفية التدرج في هذا العلم، وما هي الكتب المصنفة في ذلك العلم؟ ويذكر كثير من الأخوة العوائق حيث أن بعضهم يذكر أن الدوام الرسمي ينتهي الساعة الرابعة، ويسألون أسئلة كثيرة حول هذا الأمر، وجدوى تفريغ بعض الأشرطة أشرطة سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- وسماحة الشيخ العلامة محمد بن عثيمين -رحمه الله-، فنرجو التفضل حول هذه الاستفسارات.(27/21)
الجواب: ذكرنا في أثناء المحاضرة إلى أن الأمر -ولله الحمد- في غاية اليسر والسهولة، لكن لا يعني أن الأطباء يتركون عملهم ويتجهون بكليتهم إلى دراسة العلم الشرعي، أنا أقول: الأمر تيسر عن السابق، في السابق ما فيه أبداً وسيلة للتحصيل إلا أن تجلس بين يدي الشيوخ، الآن بإمكانك أن تجلس في حال الضرورة في علم لا تحسن التعامل معه مع الشريط أو الكتاب بإمكانك أن تحضر لهذا العلم، لكن مع ذلك في تصوري أن العلم ميسر، بالنسبة لمن يعمل في هذا المجال على وجه الخصوص، أولاً: لأن من يعمل في هذا المجال من الأطباء هم في الأصل مؤهلون، يعني هم من النخبة ممن يتعلم القراءة والكتابة ويتدرج في التعليم لأنه يطلب لمن يريد الدخول في هذا المجال نسب عالية فالتأهيل الغريزي موجود، يعني يمكن أن يوجد طبيب ما يفهم؟ ما يمكن، لأن الأصل الشرط الأول من شروط القبول في هذا المجال أن يكون نسبته عالية جداً، ولا يمكن أن يحصل على نسبة عالية إلا إذا كان متصفاً بالأسباب الغريزية التي هي المقومات الأولى للتحصيل كالحفظ والفهم، الحفظ والفهم، نعم هم لم يتجهوا إلى العلم الشرعي، فإذا ناظروا بعض طلاب العلم وإن كان دونهم في الفهم والحفظ لا شك أنهم يفوقهم من طلب العلم الشرعي في هذا الباب، لكن مع ذلك هم مؤهلون لأن يحصلوا العلم فيبدأوا بالكتب الصغيرة؛ لأن الكتب صنفت من قبل أهل العلم على طبقات، تبعاً لطبقات المتعلمين، فالمبتدئون لهم كتب، وطبيب استشاري في الخمسين من عمره أراد من الآن أن يطلب العلم الشرعي، لا يأنف أن يكون طالب علم مبتدئ وأيش المانع؟ يقرأ في الكتب الصغار، لأنه إن لم يتنزل ويتواضع ويعرف قدر نفسه لن يتعلم، لأن هذا العلم لا يدركه مستح ولا مستكبر، لأن بعضهم يقول أنا استشاري خمسين أو ستين كيف أجلس مع طلاب صغار؟ نقول: تجلس يا أخي، أنت جلست من أجل أيش؟ من أجل شرف الدنيا والآخرة، فعليك أن تتحمل، لكن في مجال آخر أنت إمام في بابك، وهذا لا يعني أنك صغير في أي مجال من المجالات لكن مع ذلك تواضع واطلب العلم من الكتب الصغيرة، مع الطلاب الصغار، ثم بعد ذلك تنتقل إلى كتب الطبقة الثانية من المتوسطين من طلاب العلم، وبهذا تتدرج، أما شخص يقول:(27/22)
أنا والله استشاري ما عندي استعداد أجلس مع الصغار، أو أقرأ في متون صغيرة، أنا أريد الكتب الكبيرة، نقول: لا يا أخي، لن تدرك شيئاً، لن تستطيع أن تطلع السطح بدون سلم، لا بد أن تتدرج على ما اختطه أهل العلم لكيفية التحصيل تبدأ بكتب الصغار المتعلمين المبتدئين ثم المتوسطين ثم المتقدمين المنتهين إلى أن تصير عالم.
وإذا رتب الإنسان نفسه وجهده وأتى العلم من أبوابه واتصف بما يعينه على طلب العلم من التواضع والحرص لا بد من التواضع، هذا العلم لا يدركه مستكبر إطلاقاً {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ} [(146) سورة الأعراف] فالذي يتكبر لا يدرك العلم، قد يقول قائل: إحنا والله نشوف بعض العلماء ينهر الناس، وقد يدعوه شخص ولا يلتفت، أو يسلم عليه ولا يرد عليه بكلام يسمعه، قد يرد عليه بكلام ما سمعه، هل هذا متكبر أو لا؟ الله أعلم، الكبر موطنه القلوب، وله علامات تدل عليه، وله آثار تظهر على الجوارح، لكن ما يظن بأهل العلم مثل هذا، وإذا وجد من تحقق فيه هذا الوصف الذي هو الكبر، هذا ليس بعالم شاء أم أبى.
الأمر الثاني: أن لا يعجب بنفسه، كون الإنسان يكون غنياً ليس بعيب ولا ذم، لكن العيب أن يرى نفسه أنه قد استغنى، {كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} [(6 - 7) سورة العلق] ومثل هذا ليس بغريب أن يكون استشارياً كبيراً، لكن العيب أن يرى نفسه أنه وصل إلى هذا الحد الذي لم يبلغه غيره، هذا كبر مقيت مذموم، وهذا عجب بالنفس.
والعجب فاحذره إن العجب مجترف ... أعمال صاحبه في سيله العرم(27/23)
العجب يجترف ويأكل الحسنات -نسأل الله السلامة والعافية- وقل مثل هذا في جميع الأبواب، فعلى الإنسان أن يتواضع، ويأتي العلم من أبوابه، ويحرص ويسأل عما يشكل عليه، ويحضر الدورات المكثفة، لا مانع أن يكون الإنسان يأخذ إجازة أسبوع لأن فيه دورة مكثفة في متون مبادئ العلم، أسبوع ما يضيره، ولا يخل بعمله، فعليه أن يحرص إذا وجد مثل هذا الفرص، ووجدنا في صفوف المتعلمين في الدورات كثير من الأطباء، يعني حقيقة أن الأطباء إذا قلت أنهم أقرب من غيرهم فليس ببعيد، إلى تعلم العلم الشرعي، لأنهم رأوا من خلال مهنتهم من يبهر عقولهم من آيات الله -جل وعلا- فيما يتعلق بمجال عملهم، فأحبوا أن يكونوا على صلة بالله -جل وعلا-، والصلة لا تتقوى إلا من خلال كلامه -عز وجل-، وكلام نبيه -عليه الصلاة والسلام- اللذين هما مصدر العلم الشرعي.
السؤال/ سائل يسأل عن الكتب، وإنشاء مكتبة مثلاً في البيت؟
الجواب: حقيقة أنا لي خمسة لقاءات على الهواء في إذاعة القرآن اسمها كيف يبني طالب العلم مكتبة؟ فيه كثير من الكتب متدرجة، وفيه كيفية الإفادة من هذه الكتب، وهي موجودة في خمسة أشرطة، فتراجع يعني بدلاً من أن نأخذ وقت بعرضها.
سؤال: بالنسبة يا شيخ يتساءل البعض عن قول الشافعي -رحمه الله-: ضيعوا ثلث العلم وأوكلوه لليهود والنصارى، ويتساءل البعض عن قضية علم الطب، وأن الله سبحانه وتعالى ذكر العلم الشرعي، في فضائل هذا العلم العزيز، فقالوا: فما نصيبنا من هذا العلم، ونحن نتعلم الطب، نرجو التوجيه حفظكم الله؟(27/24)
أما تضييع العلم من قبل المسلمين، وإن كان المراد به علم الطب، فكانت الراية بأيديهم في أول الأمر، الطب عند المسلمين، وإن كان من كتب ترجمت من قبل غيرهم، بعضه ترجم وبعضه من خلال التجارب ثبت للمسلمين قبل غيرهم، واتجه السواد الأعظم للعلم الشرعي وهذا هو الأصل، لكن تعلم الطب، تعلم الهندسة، تعلم الزراعة، تعلم الصناعة، هذا كله داخل في قول الله -جل وعلا-: {وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [(77) سورة القصص] لأن من يتعلم الطب وهدفه الدنيا، هذا مثل المزارع سواء بسواء لا يختلف عنه، لأنه تعلمه من أجل أن يكسب وكسب، وهو في هذه الحالة أفضل ممن يتعلم الدنيا من أجل الدين، وأسلم عاقبة، تعلم الطب للدنيا ما يلام، لا يأثم بهذا، لكن إذا تعلم العلم الشرعي من أجل الدنيا نسأل الله السلامة والعافية.
إن تعلم ليقال كان من الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار يوم القيامة، من تعلم من أجل الدنيا لا يرح رائحة الجنة، لا يتعلم الدين إلا من أجل الدنيا هذا لا يرح رائحة الجنة، هذا الأمر خطير، يبقى أن العلوم الأخرى -علوم الدنيا- إذا تعلمها بنية الدنيا لا شيء عليه، يبقى أنه إذا تعلمها بشيء من الإخلاص لله -جل وعلا-، ونية نفع الآخرين يؤجر على هذه النية، وثوابه عند الله -جل وعلا-، إذا كان قصدهم من تعلم الطب نفع الناس، وإعانتهم على تجاوز ما يبتلون به من أمراض، وكذلك المزارع، إذا كان قصده من زراعته، والصانع إذا كان قصده من صناعته أن ينفع الآخرين بما ينتجه حقله، أو بما ينتجه مصنعه يؤجر على قدر هذه النية، مع أنه لو محض نيته لأمر الدنيا، ما يلام ولا يضيره ذلك ولا إثم عليه، لأن هذا هو الأصل، لكن كون المسلم ينوي الخير في كل باب يطرقه هذا من توفيق الله -جل وعلا- له، من توفيق الله -جل وعلا- أن يستحضر النية الخالصة لله -جل وعلا-، في أمور الدنيا.(27/25)
وإذا تصورنا أن الإنسان يجامع زوجته ويؤجر على ذلك، عرفنا أن فضل الله -جل وعلا- واسع ولا يحد، ولذا استغرب الصحابة، أيأتي أحدنا شهوته وله فيها أجر؟ قال: ((نعم، أرأيت لو وضعها في حرام كان عليه وزر؟ )) قال: نعم، الطبيب الذي يدرس الطب أن يتعفف بنفسه، ويقوم بمن تحت يده ممن ولاه الله -جل وعلا- أمرهم يثاب على ذلك، فإذا تجاوز هذه النية لنفع الآخرين لا شك أن ثوابه أعظم عند الله -جل وعلا-.
سؤال: يسأل البعض عن حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- قوله: ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)) وبعضهم يحمله على مفهوم المخالفة، فنرجو توجيهكم حفظكم الله؟
الجواب: مفهوم المخالفة فيه أن من لم يرد الله به خيراً، يعني أن الله أراد به شراً، وهذا تطرقنا له، فهل معنى أن التاجر الذي أعرض عن العلم، وزوال التجارة، واجتمعت لديه الأموال، وسخر هذه الأموال لنصر الدين ولنفع المسلمين، وبذلها في وجوه الخير والبر من دعوة وتحفيظ القرآن، وتحصيل علم شرعي ويسر الأسباب للمعلمين والمتعلمين، هل نقول: أن هذا أراد الله به شراً؟ لا، نقول الله -جل وعلا- لم يرد به خيراً، لأنه لم يتعلم العلم الشرعي من هذه الحيثية، أما باعتبار أراد الله به خيراً من وجوه أخرى أراد الله به خيراً، لأن الله يسر له اكتساب هذا المال من وجوهه الحلال وصرفه في وجوهه الشرعية، فمثل هذا نقول: أن الله أراد به خيراً من هذه الحيثية، وأما كونه لم يتعلم العلم الشرعي لم يرد الله به خيراً، فلم يوجهه إلى ذلك السبيل.
سؤال: بالنسبة يا شيخ يتساءل البعض، ونحن نعمل في حقل المستشفيات، ونتعامل مع طهارة المريض وصلاته، نرجو منكم يا شيخ التوجيه بمتن يكون ميسراً في شرح كتاب أهل الأعذار، جزاك الله خيراً.(27/26)
الجواب: أولاً: أهل الأعذار في صلواتهم وطهاراتهم خصصت لهم أبواب من كتب الفقه، وبالنسبة لظرفنا الذي نعيشه والأمثلة الموجودة الحية الآن لأنهم قد يمثلون بأمثلة -يعني أهل العلم- يمثلون بأمثلة لا وجود لها بيننا، لكن الأمثلة الحية التي نعيشها في شروح أهل العلم المعاصرين لكتب الفقه، وذكرنا أمثلة: الشيخ ابن عثيمين له باع واسع في هذا الباب، الشيخ ابن جبرين كذلك، وكتب أهل العلم -ولله الحمد- موجودة وميسرة.
سؤال: سائل يسأل كيف أتعامل مع طبيب كافر؟ وهل يجوز المزاح معه؟ والأكل معه من أجل دعوته؟ وهل يجوز إعطاؤه ترجمة من القرآن بلغته من أجل الدعوة؟ وما رأيكم بإعطائه القرآن؟ جزاكم الله خيراً.
الجواب: أما بالنسبة للتعامل مع الكافر الشريك في العمل هذا لا يخلو إما أن يكون ممن يرجى إسلامه، هذا يرجى إسلامه، فمثل هذا يلان له في الخطاب، لكن لا يبدأ بالسلام يتعامل معه معاملة حسنة، بحيث تكون هذه المعاملة باب من أبواب الدعوة، وذكرنا في المثال الذي أوردناه ابن الديان هذا الطبيب اليهودي لما حضر الدرس ما قال: أخرجوه، الشيخ ما قال: اطردوه من الدرس لأنه يهودي خبيث، نعم اليهودي خبيث، لكن يبقى إذا رجي إسلامه لا مانع من تمكينه من طلب العلم، والتعامل معه بالحدود والضوابط الشرعية، بحيث لا يبدأ بالسلام، وإذا ألين له الكلام وجومل في الكلام وحصل المداراة، وحصلت المداراة في هذا الباب هي مطلوبة، لكن لا تحصل المداهنة، فرق بين المداراة والمداهنة، أنت تتعامل مع شخص مخالف تداريه رجاء أن يسلم، لكن لا تداهنه، بمعنى أنك تتنازل عن شيء مما يجب عليك، أو ترتكب شيئاً مما حرمه الله عليك من أجل أن تستقطبه، نفسك أهم عليك منه، فعليك أن تأتي بما أوجب الله عليك بغض النظر عنه، أسلم أو لم يسلم مو شأنك، فلا تتنازل عما أوجب الله عليك ولا ترتكب ما حرمه الله عليك من أجله، وأما المداراة ولين الكلام هذا أمره سهل، بحيث لا ترتكب محرم.(27/27)
والنبي -عليه الصلاة والسلام- لما ذكر الشخص الذي في خلقه شيء وقال في حقه: ((بئس أخو العشيرة)) لأن في خلقه وفي طبعه شدة، ثم بعد ذلك لما استأذن وأذن له ودخل ألان له الكلام؛ فروجع النبي -عليه الصلاة والسلام- تقول: ((بئس أخو العشيرة)) وتحدثه بهذا الكلام السهل اللين، قال: نعم، ((إن شر الناس من تركه الناس اتقاء شره)) فمثل هذا يتقى شره من جهة، وأيضاً يكسب بالخلق، وإذا نظرنا إلى تأثير تعامل النبي -عليه الصلاة والسلام- مع الشخص الذي بال في المسجد، بال في المسجد، ثار عليه الصحابة -رضوان الله عليهم- من باب الغيرة لله -جل وعلا-، واحترام بيوته، ثاروا عليه وكادوا أن يوقعوا به، النبي -عليه الصلاة والسلام- الذي بُعث رحمة للعالمين قال: ((دعوه، لا تزرموه)) وهذا عين الحكمة، بمثل هذا تكتسب القلوب وتجتذب، أضف إلى ذلك ما يترتب على طرده من المسجد أثناء قضاء حاجته من الإضرار به وتكثير مواضع النجاسة وغير ذلك.
المقصود أن اللين ما دخل في شيء إلا زانه، ولا سلب من شيء إلا شانه، فعلينا أن نتعامل بالناس على مختلف مستوياتهم بالرفق واللين ولا نتنازل عن شيء مما أوجب الله علينا، بعض الناس يضيق ذهنه عن احتواء واستيعاب مثل هذه الأمور فتجده إما أن يصرم بالكلية، ويقول: أنا لا أستطيع أن أتعامل مع هذا إلا بشيء من التنازل، وبعض الناس يسترسل معه ويرتكب الصعب والذلول في سبيل دعوته وهدايته، فيتنازل عن الواجبات، وقد يرتكب بعض المحرمات فلا هذا، ولا هذا.
علينا أن نلين الكلام ونتعامل مع الناس بالرفق واللين والحكمة، ومع ذلك لا نتنازل عن شيء من أمور ديننا.
السؤال: أيها الشيخ: حيث أنه يحضر بعض الأخوات هذه المحاضرة، وتتساءل بعض الأخوات عن إمكانية طلب العلم مع كثرة المشاغل، وطلب الزوج، ومشاكل الأولاد، فنرجو التوجيه حول هذا الموضوع، وجزاكم الله خيراً.(27/28)
الجواب: المطلوب من الأخوة والأخوات على حد سواء التسديد والمقاربة، التسديد والمقاربة ولا يكون شيء على حساب شيء آخر، لا شك أن الناس عندهم فراغ، يعني إذا قلنا: أن العمل يحتاج إلى ثلث الوقت، والنوم ووقت العبادة وما أوجب الله من العبادة يحتاج إلى الثلث الثاني، الثلث الثالث يحتاج الإنسان إلى أن يستجم فيه، يحتاج إلى أن يستجم يرتاح يجلس مع أولاده، يجلس مع أقاربه، له ارتباطات عائلية، له سفرات، له أيضاً النزهات، المرأة لها أعمال أخرى غير العمل في بيتها مع أولادها، في حاجة زوجها، لكن يبقى لو أن الإنسان خصص ساعة من يومه للعلم الشرعي، ومثلما ما ذكرنا الآن بإمكان الإنسان وهو يتناول الشاي الذي يأخذ عند بعض الناس ساعة أو أكثر يضغط الزر بالنسبة للمسجل ويسمع الكلام الطيب، يأخذ المصحف بعد صلاة الصبح ويقرأ بالتدبر والترتيل، ويستفيد فائدة عظمى، والعلم كله تحت تدبر القرآن.
فتدبر القرآن إن رمت الهدى ج ... فالعلم تحت تدبر القرآن ج(27/29)
وإذا قرئ القرآن على الوجه المأمور به -كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية- أورث القلب من العلم واليقين والإيمان والطمأنينة شيء لا يدركه إلا من عاناه، نعم نحن نقرأ القرآن على غير الوجه المأمور به، متى تنتهي السورة؟ متى ينتهي الحزب؟ متى نختم القرآن؟ هذا همنا، ولذلك لا نتلذذ بقراءة القرآن، لا نستفيد الفائدة المرجوة من قراءة القرآن، نعم يثبت لنا أجر الحروف، كل حرف عشر حسنات، والختمة ثلاثة ملايين حسنة، والإنسان جالس بإمكانه أن يقرأ في سبع، يختم كل أسبوع، إذا جلس من صلاة الصبح إلى انتشار الشمس يقرأ القرآن في سبع، ويحصل على ثلاثة ملايين حسنة في كل أسبوع، في أمر في غاية اليسر والسهولة، وهذا لا يكلف شيء، نحصل على أجر الحروف التي هي هذه الحسنات العظيمة، وهذا أقل تقدير، وإلا فالله -جل وعلا- يضاعف إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة لبعض الناس، وجاء في بعض الآثار أن الله -جل وعلا- يضاعف لبعض عباده الحسنة إلى ألفي ألف حسنة، يعني تصور العدد والكم الهائل هذا، يعني إذا قارناه بقدرات الناس قلنا: خيال، ما يمكن هذا، لكن إذا نظرنا إلى فضل الله -جل وعلا- وسعة رحمته، وأن الله -جل وعلا- يعطي ما يتمناه آخر من يدخل الجنة يعطيه ما يتمناه، وايش يتمنى؟ تمنى أرض مساحتها ألف متر عليها قصر مشيد، يقال له: تمنى، تنطقع به الأماني ما يدري أيش يتمنى؟ لأنه آخر شخص يدخل الجنة، فيقال له: أترضى أن يكون لك ملك أعظم ملك في الدنيا؟ فيقول: نعم، فيقال له: لك هذا الملك وعشرة أمثاله، يعني فضل الله لا يحد، فإذا قرأنا في سبع واعتمدنا وجلسنا وتوكلنا وحزمنا، وحزمنا أنفسنا، لأن المسألة في أول الأمر تحتاج إلى جهاد فالنوم بعد صلاة الصبح تركه شاق على كثير من الناس، يحتاج إلى جهاد في أول الأمر، ثم بعد ذلك يتلذذ به، بحيث لو مرض في يوم من الأيام، وصلى الصبح وخرج لينام ما نام، ما جاءه النوم إلا في وقته، هذا شيء مجرب، فإذا جلس في مصلاه لمدة ساعة استطاع أن يقرأ القرآن في سبع، الأمر الثاني: أن هناك ساعة من آخر النهار لو اقتطعها الإنسان ما ضره ولا ضيع من أعماله ومصالحه لا الدينية ولا الدنيوية شيء، بل هذا مما يعينه على تيسير أمور دينه(27/30)
ودنياه.
فيقرأ في سنة النبي -عليه الصلاة والسلام-، بادئاً بالأربعين النووية ثم عمدة الأحكام، ثم البلوغ ثم يبدأ بالكتب الجوامع التي تجمع له أبواب الدين، وينظر في العلوم الأخرى ويسمع كلام أهل العلم، ومثل ما قلنا الأمر ميسر والنماذج كثيرة جداً، يعني يأتينا من تخصصات ومن أعمال حتى أعمال حرة، يحضرون الدروس ويسمعون الأشرطة وما ضاع عليهم شيء من أمور دينهم ولا دنياهم، ولو قيل: بأن هذا مما ييسر أمور الدين والدنيا لما بَعُد.
سؤال: بالنسبة يا شيخ حفظكم الله: رجل مصاب بكسر في يده وعليه جبيرة إلى كفه، ولا يستطيع أن يستعمل يده في الوضوء، علماً بأن الكسر في يده اليمنى، هل له أن يتيمم؟ وهناك سؤال آخر أيها الشيخ لعلكم تختمون إن تيسر ذلك؟
الجواب: بالنسبة لمن شج أو كسر ووضع الجبيرة على الكسر فهذه الجبيرة لا تخلو إما أن تكون بقدر الحاجة والحاجة لا يعني أنها موضع الجرح أو الكسر، موضع الحاجة موضع الكسر وما يحتاج إليه قبله وبعده مما يمسك هذه الجبيرة، وهذه حينئذ يكتفى بمسحها، وغسل بقية الأعضاء، نفترض أن الكسر في منتصف الذراع، يغسل الكف، ويغسل الكوع، ويبقى محل هذه الجبيرة يمسح عليه، وبهذا يكتفى. . . . . . . . . انقطع الشريط.(27/31)
بسم الله الرحمن الرحيم
مفاتيح طلب العلم
الشيخ/ عبد الكريم الخضير
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
ففي هذه الليلة المباركة، وفي هذا المكان المبارك، في بيت من بيوت الله نجتمع لنتدارس شيئاً مما لعله أن ينفعنا في طريقنا ومشوارنا الطويل في طلب العلم.
وأخونا الشيخ المقدم الشيخ علي -حفظه الله- حكم على أمور لم يتصورها بعد، وحكم بجودتها ولما يسمعها، وهذا إحسانُ ظنٍ منه، أرجو أن أكون عند حسن ظنه.
وهذا المكان الطيب المبارك يحمل اسم علم يعد من المجددين في التعليم، حيث بذل عمره في تحصيل العلم وتعليمه، وبسطه للطلاب، فالشيخ محمد -رحمة الله عليه- ابن صالح العثيمين الذي سمي باسمه هذا المسجد، في تقديري أنه ذلل العلم لسالكيه ولطالبيه، ذلل الطريق لسالكيه، وسهل العلم لطالبيه، كثيرٌ من طلاب العلم المتوسطين لا يجرؤون على قراءة بعض الكتب كزاد المستقنع حتى ذلله -رحمة الله عليه- بطريقته وأسلوبه وبسطه وإيضاحه.
ومثل هذا لا يتأتى من فراغ، فالتصوير الصحيح الدقيق الواضح البين لا يتم إلا بعد تصور صحيح دقيق،
الذي لا يتصور المسائل على وجهها لا يستطيع أن يصورها لغيره على وجهها، ففي هذا المكان الطيب المبارك نجتمع مع ثلة من طلاب العلم، لنبين لهم، وقد سمعوا من غيرنا الشيء الكثير في هذا الباب، وما نقوله إلا ما هو شيء مكرر مما سمعوه من غيرنا، وبعضه ألقيناه في مناسبات متعددة، وأشرطة مدلولة، لكن من الإخوان من لم يسمع مثل هذا الكلام.
تعريف مفاتيح العلم:(28/1)
المفاتيح والمفاتح -كما هو معلوم- جمع مفتاح، كالمساند والمسانيد والمراسل والمراسيل، تقال بالياء وبدونها، وهي عند أهل العربية يسمونها صيغة منتهى الجموع، بالياء وبدونها، والذي في القرآن من ذلك بالياء أو بدون الياء؟ {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ} [(59) سورة الأنعام] على كل حال الجمع بالياء -كما فعل الإخوان- سائغ، وهو الشائع، وهو جمع مفتاح، والمفتاح هو وسيلة الوصول إلى الشيء، فالذي يريد الدخول إلى المكان المحكم المغلق بدون مفتاح لن يدخل، والأصل فيه المحسوس الذي في الجيوب، وأطلق على المفتاح المعنوي من باب الحقيقة الشرعية والعرفية، وليس مجاز كما يقول بعضهم، وأعظم مفتاح يملكه الإنسان مفتاح الجنة "لا إله إلا الله"، هذا هو المفتاح الذي يدخل به الجنة، لكن المفتاح لا بد له من أسنان، فإذا جاء الإنسان بمفتاح ليس له أسنان لن يدخل؛ لأنه لن يفتح ولن ينفع، فالمفاتيح والمفاتح هي الطرق الموصلة إلى المراد.
والعلم يطلق لإزاء الجهل، وهذا هو المقصود، كما أنه يطلق قسيماً للظن والشك والوهم، وليس مراداً هنا، إنما يريد هنا ما يقابل الجهل.
فضل العلم:
والعلم رفعة، رفعة منزلة في الدنيا والآخرة {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [(11) سورة المجادلة] والجهل ضعة، وكل واحد يطلب لنفسه الرفعة، ويرفع عنها الضعة، يطلب رفعتها بالعلم ويرفع عنها هذه الضعة، وهذا الوصف الذميم بالمثابرة والجد والاجتهاد في تحصيل العلم.
مفاتيح العلم:
العلم له مفاتح ومفاتيح، منها المفاتح الغريزية التي ليس للإنسان فيها يد، مفاتح غريزية، وهذه يتفاوت فيها الناس، ولا اعتراض، كالفهم والحفظ، هم متفاوتون في هذين الوصفين، ولا بد من الفهم والحفظ لتحصيل العلم الشرعي.(28/2)
فالفهم وحده لا يكفي، والحفظ وحده لا يكفي، الفهم لا بد منه ((من يريد الله به خيراً يفقهه في الدين)) بحيث يفهم عن الله وعن رسوله -عليه الصلاة والسلام- مراده، وهذا هو الأصل في الفقه الفهم، {يَفْقَهُوا قَوْلِي} [(28) سورة طه] يعني يفهموه، إذاً لا بد من الفهم، كما أنه لا بد من الحفظ، العلم الشرعي لا يقوم إلا على حفظ، ويغالط نفسه ويكابر من يعتمد على حد زعمه على الفهم دون الحفظ، العلم: قال الله، قال رسوله، كيف يفهم كلام الله ولما يحفظه؟!.
نعم أهل العلم يقسمون العلم إلى ما حصوله بالفعل، وإلى ما حصوله بالقوة القريبة من الفعل، من أعطاه الله الحافظة ومنحه هذه الخصلة لا بد أن يكون عالماً بالفعل، بأن تكون النصوص في ذهنه، بحيث يعتمد عليها اعتماداً كلياً ويستنبط منها، ومن لا تسعفه الحافظة يكون من القسم الثاني وهو العالم أو الفقيه كما يقولون بالقوة القريبة من الفعل، يعني يحرص على فهم كلام أهل العلم ويحفظ ما يستطيع، يبذل جهده ويستفرغ وسعه على حفظ ما يستطيع، والذي لا يستطيع لا. . . . . . . . .
العلم حفظ وفهم:
فلا علم بدون فهم؛ لأن الاعتماد على الحفظ وحده دون فهم يصدق فيه ما يردده بعض الناس من قولهم لإزاء من يحفظ: زاد في البلد نسخة، يعني كون البلد فيها نسخ كثيرة من هذا الكتاب، وهذا يحفظ هذا الكتاب ولا يعاني فهمه هذا بمثابة زيادة نسخة، وهذه العبارة وإن كان أصلها ومنشأها سببه التقليل من شأن الحفظ، وقد راجا قبل نصف قرن من الزمان الدعايات ضد الحفظ، حتى قال قائلهم ممن يزعم أنه يعاني تربية الجيل أن الحفظ يبلد الذهن، وأقول: لا علم إلا بحفظ، وأنتم سمعتم ورأيتم من يُعلم ومن يفتي مع ضعف في حافظته أو عدم عنايةً منه بالحفظ سمعتم ما لا يعجبكم، بخلاف من حفظ العلوم وعلى رأسها النصوص، قال الله، وقال رسوله.
فالذي يفتي بالنصوص على نور من الله -جل وعلا-، أما الذي ليس له نصيبٌ من الحفظ، مثل هذا يتخبط يميناً وشمالاً، وبالأساليب الإنشائية يمضي الوقت، لكن هل يقنع السامع، لا سيما إذا كان السامع طالب علم؟ لا، والساحة مملوءة من أمثال هؤلاء.(28/3)
يعني فرق بين أن تسمع كلام عالم له عناية بالفقه بالعلم من أبوابه، وله حفظٌ ورصيدٌ من الحفظ من النصوص ومن أقول أهل العلم، ولا سيما من أقوال سلف الأمة فيما يوضح به النصوص، البون شاسع بين هذا وبين من لا يحفظ، فلا بد من الحفظ ولا بد من الفهم، لا يكفي الحفظ وحده، ولا يكفي الفهم وحده، ولو كان الفهم كافياً دون حفظ لرأينا من عوام المسلمين ممن يُعدون من أذكياء العالم، وهم في أسواقهم من الباعة، رأيناهم علماء، وهم يسمعون العلم، يسمعون الخطب، يسمعون الدرس في المساجد، ومع ذلك لا يدركون شيئاً من العلم، وهم على جانب كبير من الفهم.
فعلى هذا المفاتيح الغريزية هي الفهم والحفظ، فإذ حفظ طالب العلم ما يريد حفظه من نصوص الكتاب والسنة ومن أقوال العلماء، من المتون المعروفة عندهم في كافة العلوم، حرص على فهم واحد، وكل منهما يعين على صاحبه، فالفهم يعين على الحفظ، والحفظ يعين على الفهم.
كيف يحفظ الطالب ما يريد حفظه؟
يحدد القدر المراد حفظه، وهو أعرف بنفسه، وأعرف بحافظته قوةً وضعفاً، فإذا كانت حافظته تسعفه لحفظ الكثير فليستكثر، وإذا كانت متوسطة فلا يُرهق حافظته، وإذا كانت ضعيفة فليتقصد في العلم، فمن الطلاب من لا يستطيع أن يحفظ في اليوم إلا آية أو آيتين أو ثلاث، ويضيف إليها حديثاً واحداً، ومنهم من يستطيع أن يحفظ في اليوم الواحد جزء من القرآن، ويستطيع أن يحفظ مائة حديث.(28/4)
وقد رأيتُ بنفسي طفلين -هما شقيقان- أحدهما في العاشرة، والثاني في الحادية عشرة، يقول والدهم. . . . . . . . . حفظا القرآن، وحفظا الصحيحين بالأسانيد، والآن هما بصدد حفظ أبي داود والترمذي، يومياً يحفظان خمسين حديث من سنن أبي داود بأسانيدها، وخمسين حديث من سنن الترمذي بأسانيدها، هذه الحافظة التي تسعف، وبعض طلاب العلم يعانون في حفظ الآية، يرددها حتى يمسي، وإذا أصبح بدأ من جديد، و {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [(286) سورة البقرة] ومثل هذا لا ييأس، مثل هذا يعوِّد بالحرص والدأب على الطلب من غير انقطاع، ومثل هذا لو لم يحصل علماً البتة يكفيه أن يندرج في قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة)).
وقد زاملنا بعض كبار السن ممن هو في الثمانين من العمر وهم يطلبون العلم، موجود في حلقات التحفيظ منذ ستين أو سبعين سنة، إنما هو مجرد بركة وللاندراج في هذا الحديث، وإلا إذا نوقشوا أو سئلوا -سألهم الشيخ- فإذا بهم لا شيء، ومثل هذا لا ييأس، ألا يكفي الإنسان أن يسهل الله طريقه إلى الجنة؟ هذا يكفي مثل هذا، ولا شك أن مثل هذا جهاد.
فإذا أراد طالب العلم أن يحفظ فليبدأ بكتاب الله -جل وعلا-، وإذا كانت الحافظة تسعفه فلا يخلط معه غيره، إذا كان يستطيع أن يحفظ القرآن في ثلاثة أشهر كما فعل بعضهم، يذكر في ستين يوم الآن، لكن من الشيوخ المعروفين من حفظ خلال ثلاثة أشهر، منهم من حفظ خلال ستة أشهر، ومن حفظ خلال سنة، لكن إذا كان يتمكن من حفظ القرآن من غير خلط، ثلاثة أشهر أو أربعة أشهر أو خمسة أشهر أو ستة أشهر، فمثل هذا لا يخلط معه غيره، ليضمن حفظ القرآن.(28/5)
وهذه طريقة. . . . . . . . . التي أشار إليها ابن خلدون في مقدمته، أنهم يبدأون بحفظ القرآن ولا يخلطونه بغيره، ليضمنوا حفظ القرآن، وكم من واحد من طلاب العلم ممن أدخل العلوم الأخرى مع حفظ القرآن، ثم طال به الوقت في حفظ القرآن إلى أن وصل إلى حد قد يئس فيه من حفظ القرآن، فإذا ضمن طالب العلم حفظ القرآن سهل عليه ما عداه، وحفظ القرآن معينٌ له في تحصيل كل علم شرعي؛ لأنه أصل العلوم وأساسها، والسنة إنما هي بيانٌ له.
اختيار الوقت والمكان المناسب للحفظ:
إذا حدد القدر الذي يستطيعه خمس آيات عشر آيات ردد هذا المقدار حتى يحفظه، يردده حتى يحفظه، وليحرص أن يكون في مكانٍ مغلق، ليس بفسيح، مكان مغلق، صغير مغلق؛ لئلا يتشتت الذهن، وإذا كان في مكان كبير فليذهب إلى زاوية منه كالمسجد ويحفظ، وليحرص على الوقت المناسب للحفظ، ومن أنسب الأوقات للحفظ ما قبل صلاة الفجر، فإن لم يستطع فبعد صلاة الفجر ليس ببعيد، وقت هدوء.
أقول: الوقت المناسب والمكان المناسب للحفظ مهم جداً، بعض الناس من حرصه يأخذ معه ما يزيد حفظه في أماكن الانتظار، هو ذاهب إلى المستشفى وينتظر دوره، أو ذاهب إلى أي مكان يحاول حفظه، هذا ضياع وقت حقيقةً، لو استغله في غير ذلك؛ لأن مثل هذه الأماكن أولاً هذا العلم عزيز لا ينال براحة الجسم، وينبغي أن يفرض له من سنام الوقت، أما مثل الوقت الذي أشرنا إليه وقت الانتظار مثل هذا يكون للعلوم التي هي أقرب للاستجمام، مثل كتب الأدب والتواريخ والرحلات والذكريات وغيرها، وهذه فيها علم، لكن ليست بمثابة العلم الشرعي، وما يعين على تحصيل العلم الشرعي، الفهم يحتاج إلى مكان فيه سعة.
كيف يحفظ الطالب؟
إذا حفظ القدر المحدد هذا اليوم وكرره حتى يحفظه من الغد ينظر في المقدار هل هو قليل وإلا كثير؟ اختبار أول يوم، فإن كان كثيراً قلل، وإن كان قليلاً زاد، يعيد ما حفظه بالأمس خمس مرات قبل أن يبدأ بحصة اليوم، فإذا ضمن أنه حفظه بدأ بحصة اليوم، وقد تكون أكثر مما حفظه بالأمس، وقد تكون أقل وقد تكون مساوية، فيحفظها على الطريقة السابقة.(28/6)
فإذا كان في اليوم الثالث يعيد ما حفظه في اليوم الأول أربع مرات، وما حفظه في اليوم الثاني خمس مرات، ثم يشرع في حفظ النصيب الثالث لليوم الثالث، وفي اليوم الرابع يعيد ما حفظه في اليوم الأول ثلاث مرات وما حفظه في اليوم الثاني أربع مرات، وما حفظه في اليوم الثالث خمس مرات وهكذا، وهذه طريقة مجربة، وقد ذكرها بعض المتقدمين، وطبقت ووجدت نافعة.
لكن فليحذر طالب العلم من الاندفاع، وتكليف الحافظة فوق ما تطيق، بعض الناس يسمع الحث على العلم وما جاء في فضله، وقول العلماء من النصوص ثم يندفع، ليش أحفظ خمس آيات عشر آيات لماذا ما أحفظ جزء؟ يسمع أن هناك من يحفظ الجزء، ثم بعد ذلك يترك، يدب الملل واليأس إلى قلبه؛ لأنه إذا حفظ مثلاً ورقة أو ورقتين والحافظة لا تتحمل من الغد وجد. . . . . . . . .، ما عنده شيء، ثم يكرر ويعيد ولا يستطيع أن يعيد، ثم في اليوم الثالث كذلك، وهكذا ثم يدب اليأس، ثم يقعد شهر ما سوى شيء، وهذا مثله مثل المنبت الذي لا ظهراً أبقى ولا أرضاً قطع، كثيرٌ من الطلاب يأتي متحمس ويحفظ في أول يوم مقدار كبير، ثم من الغد يثقل عليه؛ لأن العلم في طبعه ثقيل، وقد وصف الله -جل وعلا- القرآن {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [(5) سورة المزمل] والعلم كله ثقيل على النفس؛ لماذا؟ لأنه موصل إلى الجنة، والجنة حفت بالمكاره، يعني هل يستوي هذا طالب مبتدئ، طالب علم مبتدئ ما شرب قلبه حب العلم، هل يستوي طالب مبتدئ يعاني حفظ متن من المتون، وقد يكون في عبارتها صعوبة، وبين آخر شاب مثله في السن والظروف، في استراحة وأنس مع إخوانه وأصدقائه، فضلاً عن كونه يزاول ما يسمونه بفاكهة المجالس من الكلام في أعراض الناس، مما حفت به النار، وخفف على النفوس، فنأتي على يقين ونوطن أنفسنا أننا في أول الأمر سوف نعاني من ثقل الحمل، وتجد بعض الناس إذا لوح له بأدنى خبر تركه، والله اليوم ربيع، اليوم ربيع نزهة، العلم بعدين، يقبل بسرعة بعض الناس، وبعضهم لأنه يدرك ما وراء هذا التحصيل، وما يوصله هذا العلم من مرضات الله -جل وعلا- وجناته، ومنازله العليا ما. . . . . . . . .(28/7)
فنقول: لا بد في أول الأمر من الجهاد، من جهاد النفس، وأطرها على شدائد التحصيل، ثم بعد ذلك إذا تجاوز هذه المرحلة، مرحلة المجاهدة يبشر بالإعانة والتوفيق بحيث يأتي عليه يومٌ من الأيام فيستغرق جميع الوقت إلا ما كان من وقت عبادة أو أكل أو نوم بالعلم والتحصيل.
وشيخٌ من شيوخنا -ما أدركناه- في ليلة زواجه أشكلت عليه آية فنزل إلى مكتبته ليلة الزواج، فنزل إلى المكتبة ومن تفسير إلى تفسير حتى أذن الفجر، وهذا مجرب، يصعب على طالب العلم أن يمسك كتاب ويقرأ ثم بعد ذلك إذا جاهد نفسه في أول يوم يقرأ ورقة أيش المانع؟ قراءة غير الحفظ، في اليوم الثاني يقرأ يزيد على ذلك وفي اليوم الثالث إلى أن يصل الحد إلى أن يقرأ في اليوم خمسة عشرة ساعة، وهذا موجود ومجرب، والأمر يسيرٌ على من يسره الله عليه.
قد يقول قائل: أنا موظف، أنا طالب، وقتي مستغرق في مدرستي أو في وظيفتي، نقول: خذ الأمثلة من العلماء الموجودين الآن، ممن تجاوز المرحلة التي يسميها مرحلة الجهاد، جهاد النفس، عنده دوام من الثامنة إلى الثانية ظهراً، وعنده نصيب وقسط وورد يومي من القرآن يصل عند بعضهم إلى أن يقرأ القرآن في ثلاث، وعنده درس بين المغرب والعشاء، وعنده ارتباطات ولقاء بعد العشاء، ويعود المرضى، ويزور المقابر، ويجيب الدعوات، ويصل الأرحام، قد يقول قائل: أنا. . . . . . . . . كيف عنده دوام من ثمانية إلى ثنتين ويفعل هذا؟ نعم هذا موجود، لكن متى؟ بعد مجاوزة المرحلة، مرحلة المجاهدة.
فعلى طالب العلم أن يعزم على نفسه، وأن يحملها على تحصيل العلم لتحمل شدائده، لكن بالطريقة التي شرحناها، بالتدريج، لا يأتي دفعة واحدة؛ لأن الذي يأتي دفعة واحدة لا يلبث أن ينصرف.
كيف يفهم الطالب؟
فإذا حفظ على الطريقة التي ذكرناها، الكتاب الذي يريد حفظه، متن من المتون في أي علم من العلوم ويحضر به درس من الدروس عند أحد المشايخ، إذا حفظ القدر المحدد خمسة أسطر، ستة أسطر، عشرة، كيف يفهم هذا الدرس؟ لأنه لا بد من الحفظ والفهم.(28/8)
ذكر الشيخ عبد القادر بن بدران طريقة، وهي طريقة ممتازة، يقول: يجتمع خمسة من الزملاء المتقاربين في الفهم، ثم يقرأ كل واحد منهم ما حفظ، ثم. . . . . . . . . كل واحد إلى الآخر فيشرح هذا المقدار قبل الرجوع إلى الشرح، يشرحه من تلقاء نفسه، على حسب فهمه هو، ثم يجتمعون فكل منهم يقرأ شرحه، ويتناقشون الصواب عندي الصواب معك إلى آخره، ثم يُقرأ الشرح من قبل أهل العلم، وتصحح الأخطاء، فإذا صححت الأخطاء هل تعود إلى الذهن مرة ثانية بعد هذه الطريقة؟ لا، لا يمكن أن يعود الخطأ مرة ثانية.
الإشكال الذي يعانيه كثير من طلاب العلم أنهم حفظوا في بداية الطلب وبعض ما حفظوه فيه خطأ في اللفظ، ومن ذلك بعض الأوراد والأذكار، كثيرٌ من الناس حفظ في أول الأمر من غير مراجعة سمع ثم حفظ على خطأ، ويصعب تصحيحه بعد حين، لكن لو كان التصحيح في وقته لسهل، كثير من الناس أذكار الصلوات يقرأه خطأ، وهو في صلاته، أذكار الاستفتاح أذكار الركوع، السجود، يخطي في الكثير حتى من طلاب العلم، لماذا؟ لأنهم حفظوا في السابق، وبعضهم يحفظ على لحن، وبعضهم يحفظ على تصحيف، ثم يستمر الخطأ، أقول: إذا اجتمع هؤلاء الثلة وقرؤوا، كل واحد قرأ شرحه، وصححوا الأخطاء بينهم اجتهاداً منهم، ثم قرؤوا الشرح من قبل أهل العلم، الكتب مشروحة مخدومة، ولذا يوصى بالاهتمام بالكتب المخدومة، أما الكتب غير المخدومة التي ليس لها شروح ولا حواشي ولا تدرس في البلد فلا يوصى بها؛ وإن كان فيها خير كبير، لكن تراجع، لكن ما تكون أساس في التحصيل.
قد يقول قائل مثلاً يعني على سبيل المثال، كافية ابن الحاجب في غاية الأهمية وأهتم بها أهل العلم، بل منهم من نذر نفسه عمره كله لتعليمها، ونسب إليها (الكافيجي) مثلاً، لكن لو قال واحد: أنا لا أحتاج لا إلى الأجرومية ولا القطر ولا الألفية، أنا أحتاج إلى الكافية، ولا يوجد من يدرسها، وأشكل عليك شيء؟.
أقول: على طالب العلم أن يعنى بالكتب المخدومة، ولا مانع من أن يراجع الكتب الأخرى، لكن حفظ وأساس متين يبني عليه، عليه أن يعنى بالكتب المخدومة في بلده.(28/9)
بعض الناس يترك الكتب المعروفة في البلد والتي تداولها أهل العلم وذلولها لطلابهم، وتداولوها ولا يصعب فيها شيء، إلى كتب لا تذكر عندنا، بل موجودة في بلدان أخرى. . . . . . . . . لكن قد يشكل عليهم شيء لا يدرون له حلاً.
فهؤلاء الذين اجتمعوا وقرؤوا شروحهم، وقرؤوا الشرح من قبل أهل العلم، ونظروا في الحواشي، ثم بعد ذلك حضروا الدرس عند الشيخ، ماذا بقي مما يستفاد من الشيخ بعدما ما صنعوه من حفظٍ وشرح وقراءة للشرح ومناقشة، وقراءة للحاشية؟ يأخذون ما عند الشيخ من زيادة، وفي الغالب أن الشيخ اطلاعه على المسائل سواءٌ كان بسعة اطلاع أو من كثرة التعليم، لا شك أنه يفوقهم بهذا، مع الإنصات يحضرون الدرس عند الشيخ مع الإنصات والأدب، وعدم الكبر والعجب؛ لأن بعض الإخوان يحضِّر الدرس، يقرأ الدرس قبل الحضور، ثم يحضر عند الشيخ، ثم إذا جاء الشيخ بالمبتدأ سبقه بالخبر، مثل هذا ما الدافع له أن يفعل مثل هذا؟ الذي يغلب على الظن أنه من أجل أن يعرف الشيخ أنه مطلع، وأن يعرف زملاؤه أنه يفوقهم، وهذه حقيقة مرة، لا يفلح معها الطالب، وكذلك لا يفلح الطالب إذا اعتمد على الدرس فقط، فلا يعرف الكتاب إلا في الدرس، فمثل هذا قلَّ أن يفلح، وقد نص على ذلك أهل العلم، العلم متين لا بد له من حفظ وفهم ومدارسة ومراجعة، على الطريقة التي ذكرناها، ثم يحضر الدرس ويسأل عما يشكل عليه، مجتنباً في ذلك الآفة الكبرى، العائق عن التحصيل وهي الكبر والعجب، وأن لا يستحيي عن الاستفهام عما يحتاجه وما لا يفهمه، ولذا يقول مجاهد: "لا يتعلم العلم مستحي ولا مستكبر".
فإذا حضر الدرس يناقش الشيخ بكل أدب واحترام، طالباً بذلك المعرفة، لا يطلب بذلك التعالم، ولا يطلب بذلك تعجيل الشيخ، وإذا قُدر أن الشيخ طرح بعض الأسئلة فأجاب عنها كغيره من الطلاب فحسن، ثم إذا انتهى الدرس اجتمع هؤلاء الإخوة، وتناقشوا فيه، ماذا حفظت؟ ماذا فهمت من شرح الشيخ؟ ما الذي زاد عندك بعد درسنا؟ إلى آخره، هذه تسمى مذاكرة العلم.(28/10)
العلم الذي يؤخذ بهذه الطريقة هو الذي ينفع، وهو الذي يبقى بإذن الله، والملاحظ على كثير من الطلاب أنهم لا يعرفون الكتاب إلا في الدرس، وبعضهم لا يستحي لا من زملائه ولا من الشيخ أيضاً، يترك الكتاب في المسجد إلى الغد ليحضر به الدرس، ومثل هذا -كما قرر أهل العلم- قل أن يفلح.
فالعلم متين ويحتاج إلى معانة، وعلى طالب العلم أن يعنى به، ويهتم بشأنه، ولا يفرط ولا يكسل، ولا يستكبر على غيره، ولا يستحيي من طلبه، فالعلم لا يناله مستحيي ولا مستكبر، كما أنه لا ينال براحة الجسم.
سن التحصيل:(28/11)
وسن التحصيل هو بداية الشباب، ويبدأ من التمييز، يُبدأ بطلب العلم بالنسبة للطفل من التمييز، وحينئذٍ على المعلم أن يعلم مثل هذا صغار العلم قبل كباره، ولا يكلف الطالب فوق ما يطيق، فكثيراً من الطلاب يطلب من الشيخ يقرأ عليه كتاب، فإذا كان هذا الشيخ ناصحاً -وهذا هو الأصل في أهل العلم- اختبره، ثم قرر له ما يناسبه من الكتب، وبهذا يستفيد الطالب، ومن المعلمين من ينظر إلى حاجته هو، يأتي طالب مبتدئ ويقول للشيخ: أريد أن أقرأ عليك، الشيخ بحاجة إلى كتاب، هو بنفسه بحاجة إلى كتاب يريد أن يطلع عليه فيقول: أحضر كذا، من غير نظرٍ إلى مصلحة الطالب، وهذا ليس من النصيحة، بل النصيحة أن يبدأ الطالب بما يحتاجه هو، وفيما يستطيعه، فالطالب المبتدئ له كتب تناسب مستواه، والطالب المتوسط له كتب تناسب مستواه، والطالب المنتهي أيضاً له كتب تناسبه، والمتعلم له كتب، والعالم له كتب، وأهل العلم ما قصروا بينوا ونظموا الكتب ورتبوها على حسب المستويات المذكورة، وسموها طبقات، فللطبقة الأولى المختصرات، الطبقة الأولى لهم المختصرات شديدة الاختصار، وفي كل علم من العلوم ما يناسب هذه الطبقة، والمتوسطون لهم كتب أرفع من هذه، وفي هذه الكتب المصنفة للمتوسطين ما يوجد في كتب المبتدئين، الطبقة الثالثة لهم كتب تناسبهم وهي أرفع من كتب المتوسطين، وفي كتب هذه الطبقة من العلوم، وإن كانت الصياغة تختلف لتناسب إدراك هؤلاء، فيها من العلم ما في كتب المتوسطين والمبتدئين، وقل مثل هذا في كتب الطبقة الرابعة، وكثير من المتعلمين -ونحن في عصر السرعة- يقول: لماذا يكرر العلم؟ لماذا نقرأ كتاب مختصر جداً، ثم نقرأ كتاب أوسع منه فيه جميع الكتاب المختصر، ثم نقرأ كتاب أوسع فيه جميع ما في الكتاب المتوسط وهكذا؟ على سبيل المثال: الموفق بن قدامة ألف كتب تناسب طبقات المتعلمين، العمدة على قولٍ واحد، المقنع على روايتين، الكافي فيه الروايات، المغني فيه المذاهب، لكن هل في العمدة ما لا يوجد في المقنع؟ وهل في المقنع ما لا يوجد في الكافي؟ وهل في الكافي ما لا يوجد في المغني؟ بعض الناس يقول: هذا ضياع وقت، نقول: هذا ليس بعبث، العلم الذي حفظته في الصغر وتكرر عليك(28/12)
مراراً هذا هو زادك في المستقبل، ولا أبعد عن الحقيقة إذا قلت: أن عمدتنا في العلم والتعليم على ما حفظناه في المعاهد العلمية، وأقول هذا ويشهد به أيضاً كل من وصل وتخرج من الجامعة مثلاً وقد درس في المعاهد العلمية، يعني مرور العلم في الكليات الشرعية يعني ما هو بمثل مروره في أول التحصيل في المعاهد العلمية.
أيضاً في المراحل التالية العلم يمر مثل طيف الخيال، ما لم يكن الإنسان متعمد لبحث هذه المسألة ومراجع لها في كثير من المراجع، أما مجرد قراءة، تقرأ قراءة، في القسم المتوسط يعني نفترض مدرسة أسست تأسيس علمي متين، وجعلت للمبتدئين الكتب المناسبة لهم وللمتوسطين كذلك، يعني قراءتك للكتاب الأول وقد صادفت القلب الخالي فتمكنت قراءتك للكتاب الثاني إن لم تكن مع عناية شديدة بهذا الكتاب ومراجعة عليه فإنها لن تكون بحال مثل قراءة الكتاب الأول، وقل مثل هذا للمرحلة الثالثة والرابعة، ولذا ينادي بعضهم، يقول: لماذا لا نقرأ في المرحلة الثانية زوائد هذا الكتاب على ما قرأناه سابقاً، وفي الثالثة زوائد الكتاب الثالث على ما قرأناه في الكتابين المتقدمين، وفي المرحلة الرابعة نقرأ زوائد هذا الكتاب الكبير، ونختصر الوقت والجهد إلخ ... ؟(28/13)
العلم لا يثبت إلا بالتكرار، أنت قرأت هذه المسألة من زاوية تناسبك في الصغر، في المرحلة الثانية قرأتها بشكل أوسع وبعبارة أعمق، في المرحلة الثالثة كذلك زيد في توضيحها وزيد أيضاً في الاستدلال لها وتعليلها، تصور مثلاً العمدة لابن قدامة هذه خالية من جميع الخلافات، ما في خلاف ولا في داخل المذهب، لكن فيها استدلال اعتمد في بناء المسألة على الدليل، وهذه ميزة العمدة، طيب الكافي توسعت مداركك، أنت الآن أخذت جملة من العلوم فمو مفترض أنك تقرأ في كتاب فقه فقط، تقرأ في العلوم كلها، توسعت مداركك في العلوم بحيث صرت تستوعب أكثر من قول، فألف لك المقنع على روايتين وأنت بحاجة إلى هاتين الروايتين، فإذا قرأت هذا الكتاب وراجعت شروحه وحضرت به الدرس ورجح لك الشيخ إحدى الروايتين من خلال الدليل، تختلف قراءتك لهذا الكتاب والكتاب الأول، وقل مثل هذا فيما يجمع جميع الروايات، كالكافي مثلاً، توسعت مدارك الطالب لما وصل إلى هذه المرحلة.(28/14)
وقل مثل هذا إذا وصل إلى مرحلة المغني وفيه المذاهب بأدلتها، فيخطئ من ينادي بعدم تكرار العلم والاقتصار على الزوائد، وقل مثل هذا فيمن يطالب باختصار الكتب، يقول: نحن في عصر السرعة، البخاري (7500) حديث والبخاري بغير المكرر الثلث فقط، لسنا بحاجة إلى الثلثين، فبدلاً من أن نقرأ البخاري في سنة، نقرأ البخاري بثلاثة في أشهر أو أربعة أشهر، ولسنا بحاجة إلى التكرار، نقول: لا يا أخي، أنت كيف تعتمد أولاً على اختصار النفس؟ واختصار الكتب من قبل طالب العلم نفسه من أعظم وسائل التحصيل، ومن أعظم المفاتيح للعلم، كيف؟ نأتي إلى صحيح البخاري الذي ينادي كثيرٌ من الناس باختصاره لأننا لسنا بحاجة إلى حدثنا قال: حدثنا حدثنا وتكرار، ويوجد الحديث في عشرين موضع علشان أيش؟ وهو الحديث، نحن غرضنا المتن؟ نقول: لا يا أخي، أنت تؤهل نفسك إلى أن تكون عالم، تنير الطريق للأمة بكاملها، وتفتي الأمة بحق، لا يا أخي ما يكفيك المختصر، إن أردت أن تختصر فاختصر لنفسك، وليكن الأصل هو ديدنك، ولا يخاطب بهذا الطالب المبتدئ، لا، لكن يخاطب به من يطالب باختصار البخاري، يقول: لماذا لا نقرأ في مختصر البخاري، المسألة مسألة متن، الذي يهمنا اللفظ النبوي؟ نقول: كم يفوتك من علم باقتصارك على المختصرات، اختصر لنفسك إن أردت.(28/15)
فتبدأ بالصحيح وتقرأ الترجمة الكبرى، كتاب كذا، ثم الترجمة التي تليها باب كذا، هذه الترجمة التي ترجم بها البخاري من عنده هذا فقهه، وبه يتمثل الفقه السلفي، فقه أهل الحديث، فإذا أتيت إلى الحديث في الموضع الأول، وقرأت ترجمة البخاري واطلعت على ما ساقه البخاري من آثار موقوفة ومقطوعة عن الصحابة والتابعين في توضيح هذه الترجمة، كلام نفيس تستغني عنه وتقتصر على المختصرات؟ المختصِر من وجهة نظره رأى أنك لست بحاجة إلا إلى ما ذكر، لكن أنت قد تكون بأمس الحاجة إلى ما حذف، فإذا قرأت الترجمة وفهمت فقه البخاري، ثم فهمت فقه السلف الذي دعم به البخاري فقهه، ثم أتيت إلى الحديث المرفوع بسنده وأنت بحاجة ماسة إلى معرفة رجال الصحيح ليوفر لك الجهد إذا مر عليك هؤلاء بكتابٍ لم تلتزم صحته، أنت عندك حديث في مسند أبي داود ما تدري هو صحيح وإلا لا؟ لكن تعرف أن هؤلاء الرواة من رواة الصحيح، مروا عليك وأنت تدرس صحيح البخاري، لكن لو اقتصرت على المختصر ما استفدت، إذا ما أمسكت الحديث الأول بهذه الطريقة ثم ذهبت إلى أطرافه والحمد لله الكتاب مخدوم، الحديث الأول خرج في سبعة مواضع، ترجع إلى هذه المواضع، شوف تراجم البخاري على هذا الحديث، واستنباط البخاري من هذا الحديث، وهذا فقهه، استنبط من الحديث فوائد كثيرة جداً، أودعها في هذه التراجم، ودعم هذا الفقه بفقه السلف من الصحابة والتابعين، وأردفه بالحديث المرفوع، ولا يمكن أن يكرر البخاري حديثاً بإسناده ومتنه في موضعين إلا نادراً، يعني في عشرين موضع فقط، يعني خمسة آلاف أحاديث مكررة، ما فيها ما كرره البخاري بإسناده ما فيها إلا عشرين فقط، وأما الباقية فلا يكرر حديث إلا لفائدة، سواء كان في متنه أو في إسناده، ولو في صيغ الأداء، فتجده أحياناً يقول: عن فلان، وفي الموضع الثاني يقول: حدثنا فلان، طالب العلم بحاجة ماسة إلى معرفة هذه الأمور، إذا كان يريد أن يكون طالب علم بحق.(28/16)
إذا انتهيت من اختصار البخاري على هذه الطريقة، أنت الآن اطلعت على المواضع السبعة واختصرت على أوفاها، وصار علمك بما حذفه المختصر كعلمك بما أثبت، هذه من أعظم وسائل التحصيل، العلم يحتاج إلى معاناة وحفر في القلوب، لا يقول طالب العلم: أن هذه الطريقة في البخاري وحده تحتاج إلى سنة، نعم تحتاج إلى سنة، لكن كثير على البخاري أن يصرف فيه سنة؟ ليس بكثير على البخاري أن يصرف فيه العمر، فضلاً عن سنة.
إذا انتهيت من الحديث الأول تأتي إلى الحديث الثاني، الحديث الأول من وافق البخاري على تخريجه إذا أردت أن تدرس الكتب الستة في آنٍ واحد، أو تقول: والله الآن أدرس البخاري إلى أن أنتهي منه وأرجع إلى مسلم، الأمر إليك، لكن إذا أردت أن تدرس الكتب الستة في آنٍ واحد ولا تستكثر أن تصرف عليها خمس سنوات، والمسألة مفترضة فيه من ضمن حفظ القرآن، والقرآن أيضاً يحتاج إلى شيء من المعاناة لفهمه وتدبره، ومراجعة التفاسير الموثوقة عليه، ومعرفة إعرابه وبيانه، وما ورد في تفسيره من أحاديث وأقاويل سلف هذه الأمة، القرآن يحتاج إلى معاناة، لكن نحن نمثل الآن بالحديث.(28/17)
إذا درس البخاري وحده -والأمر إليه- يأتي إلى مسلم، فما خرجه البخاري وعندي أن طالب العلم المتأهل للاختصار يبدأ بالكتب الستة جميعاً، فإذا عرف الحديث الأول في الصحيح وجمعه في مواضعه السبعة، واختصر منها على أوفاها، وذكر التراجم كلها، وذكر أقاويل السلف المدعومة لهذه التراجم، واقتصر على أوفى المتون، وعرف ما حذف كمعرفته بما أثبت وأبقى، ينظر من وافق البخاري وخرج هذا الحديث كمسلم مثلاً، ويصنع بهذا الحديث عند مسلم كما صنعه في البخاري، ويشير إلى ذلك في صحيح مسلم إلى أن هذا الحديث تمت دراسته، ويأخذ من الزوائد، زوائد العلم النبوي علم الحديث في صحيح مسلم ويضيفها إلى ما دونه في مختصره للبخاري، ويقول: زاد مسلم كذا، في الأسانيد كذا، في المتون كذا، في صيغ الأداء كذا، ترجم عليه شراح مسلم بكذا؛ لأن مسلم ما ترجم الكتاب، وهذا من أفضل الطرق التي يدرس بها علم الحديث حتى يستوعب البخاري ومسلم، ثم ينظر فيمن وافقهما من أصحاب السنن، ويفعل به ويصنع معه نظير ما صنعه بالصحيحين، ولا ينتهي من الكتب الستة بهذه الطريقة، إلا وعنده كتاب في عشرة مجلدات مثلاً، فيه الكتب الستة بكاملها، من غير تكرار بطريقته هو، وبالمعاناة يرتقي العلم وينحفر العلم في قلبه.
أما مرور الكرام مجرد قراءة سريعة أو اعتماد على مختصرات آخرين ....(28/18)
أقول: من أراد أن يعرف حقيقة ما أقول فليقارن بين صحيح البخاري وبين مختصراته في باب من أبواب الدين الأخيرة من الصحيح، الفتن والرقاق والاعتصام وغيرها، يجد هذا الكتاب من الصحيح يشتمل على مائتين حديث مثلاً بمائة وخمسين ترجمة هي فقه البخاري واستنباط البخاري، ويجد من الآثار الموقوفة على الصحابة والتابعين الشيء الكثير، بينما لو رجع إلى المختصر وجد خمسة أحاديث فقط أو ستة أو سبعة أو عشرة بدون آثار وبدون تراجم، فكيف يعتمد على كتب هذه. . . . . . . . .؟ كون الطالب يختصر لنفسه بهذه الطريقة. . . . . . . . . الكتاب بكامله وهو عن قراءة الكتاب هذه الطريقة عن قراءة الكتاب عشر مرات، الطريقة مجربة، والاختصار يسلكه أهل العلم، ويقررون فيه العلوم، وهو نوع من أنواع التصنيف، لكن لا أنفع لطالب العلم الرجوع إلى الكتب الأصل، نعم لطالب العلم أن يختصر لتحصيل العلم، كيف يفهم طالب العلم مثلاً النحو أو أصول الفقه؟ يعني مع حضور الدروس، حضور الدروس أمر لا بد منه، والجثي على الركب أمام الشيوخ أمر لا بد منه، ولذا المقرر عند أهل العلم أن من كان علمه من كتابه كان خطأه أكثر من صوابه.(28/19)
إذا أردت أن تدرس علم الأصول مثلاً وتحضر فيه درس، تأتي إلى هذا الكتاب الذي يشرحه الشيخ وتحفظ منه المقدار الذي يريد الشيخ شرحه ثم بعد ذلك تعمد إلى شرحه فتختصر، افترض أن الدرس في مختصر الروضة للطوفي، أو في مختصر التحرير، وهما من أمتن كتب الأصول وأمتعها، لكن قد يقول قائل: كيف يكون مختصر التحرير ماتع وفيه من التعقيد ما فيه؟ نقول: اقرأ وافهم وتجد المتعة، تأتي إلى الكتاب مختصر التحرير مشروح بأربعة مجلدات، صفحات كل مجلد ستمائة وسبعمائة صفحة، صفحات الكتاب بما يقرب من ثلاثة آلاف صفحة، أنت إذا قررت القدر الذي يشرحه الشيخ وهو خمسة أسطر مثلاً، وقرأت الشرح، وانتقيت من هذا الشرح ما يحل لك ويفك لك العبارة، خمسة أسطر يمكن أن تشرحها في صفحة، ثم الدرس الثاني والثالث والرابع والخامس إلى آخره، إذا انتهيت من الكتاب وإذا عندك شرح لمختصر التحرير قدر نصف مجلد، وأنت تقرأ في هذا المختصر تذكر ما حذفته؛ لأنك ما حذفته من العلم لم تتركه من دون فهم، كيف تستغني عنه وأنت ما فهمته؟ يعني إثباتك له بعد فهمه واستغناءك عنه بعد فهمه؛ لأنك لو تركته من غير فهم لقد يكون من أشد ما تمس إليه الحاجة، فإذا انتهيت من هذا الكتاب على هذه الطريقة مع حضور الدرس فقد نقش الكتاب في قلبك.
وقل مثل هذا في مختصر الروضة، وقل مثل هذا في العلوم الأخرى، فالاختصار وسيلة من وسائل التحصيل، ومفتاح من مفاتيحه.(28/20)
بعض الناس سمع هذا الكلام وقال: أنه يتعارض مع ما يفعله بعض الأخوة الذين نسأل الله -جل وعلا- أن يكتب لهم أجر هذه السنة، وأجر من عمل بها، الذين يُحَفِظون السنة، ويقتصرون على مختصراتهم هم، ويقرؤونها الطلاب ويحفظونهم، يحفظونهم إياها، يقول: إن طريقتك التي تذكر فيها استدراك أو قدح، لا، أبداً، من حفظ وأراد أن يحفظ بأقصر مدة هذا يعينه على الطريقة التي ذكرت، لكن الإشكال فيمن أراد أن يقرأ المختصرات ولا يرجع إلى المطولات، فأنت تقرأ على الطريقة التي ذكروها، البخاري من دون تكرار، ثم جوائد مسلم ثم جوائد أبي داود وهكذا، هذه الطريقة إذا حفظت على طريقتهم وهديهم فعندك أساس متين تبني عليه هذا العلم العظيم، ولا يغنيك هذا عن الطريقة التي شرحتها، كما أن الطريقة التي شرحتها في ضمنها حفظ ما يريدون حفظه، إلا أنهم يريدون ذلك في أقل، في أقصر مدة، وطريقتك التي شرحناها قد تطول بك المدة لكن مع ذلك لا بد لطالب العلم منها.
أيضاً العلوم الأخرى يفعل بها هكذا، ولا بد أن يكون طالب العلم على الجادة المشروحة عند أهل العلم والمطروقة لديهم، أما الذي يحاول أن يجدد أو يبتكر وهو ما زال بمرحلة الطلب مثل هذا يتخبط، العلماء سنوا هذه الطرق وهذه الطبقات التي نظموها، والكتب التي رتبوها، فأنت تقرأ على الجادة، وتأخذ العلم عن أهله؛ لأنه دين فانظر عمن تأخذ دينك.
ولا بد أن يكون علمك وهو دين مقروناً بالإخلاص لله -جل وعلا-؛ لأن العلم لأنه من أقرب الطرق الموصلة إلى الله -جل وعلا- أيضاً هو مزلة قدم، وليس فيه نصف حل أو شخص يريد أن يمسك العصا من منتصفه، لا، إما أن تكون ممن رفع درجة، أو تكون أول من تسعر به النار يوم القيامة، فلا بد من الإخلاص.
وليحذر طالب العلم من العوائق والصوارف، لا سيما ما يتعلق بآفات القلب، كالعجب، بعض الطلاب يهبه الله -جل وعلا- حافظة أو فهم بحيث يفهم قبل زملائه، وزملائه يطلبون من الشيخ الإعادة، وهو لا يحتاج إلى ذلك، ثم يتلفت ويتبسم معجباً بنفسه، ومزدرياً لإخوانه.
والعجب فاحذره إن العجب مجترفٌ أعمال صاحبه في سيله العرم
كذلك الكبر، الكبر من أعظم الصوارف عن تحصيل العلم الشرعي.(28/21)
وهاهنا طرفة عبيد الله السقاف مفتي حضرموت توفي قبل نصف قرن، يقول في رسالة له في العلم والتعليم: قرأت في بعض الكتب ممن يلمز شيخ الإسلام بن تيمية بالكبر -وحاشاه من ذلك- يقول هذه عصبية؟ ليست عصبية، لأن الرجل -عبيد الله السقاف- ما هو من المغرمين بشيخ الإسلام أو المعجبين به إعجاباً تاماً، إنما هو يرجى له خير كبير، لكن في عنده شيء من المخالفة لما يقرره شيخ الإسلام، ورحمة الله على الجميع، لكن يقول: يستحيل أن يجتمع مثل هذا العلم وأن يكون القرآن على طرف لسانه وأسلة بنانه وهو عنده شيء من الكبر، والله -جل وعلا- يقول: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ} [(146) سورة الأعراف] فلا يتعلم العلم مستحيي ومستكبر، يبدأ بالعلم الأهم فالمهم.
وبالمهم المهم ابدأ لتدركه وقدم النص والآراء فاتهم
لا بد أن تبدأ بالمهم والأهم ثم الذي يليه.
وبالمناسبة هناك قصيدة في الوصية بالعلم وطلبه، والوصية بكتاب الله وسنة نبيه -عليه الصلاة والسلام-، وهي مغفولٌ عنها لا أرى لها ذكر أو كبير ذكر بين طلاب العلم وهي للشيخ حافظ ابن أحمد الحكمي -رحمة الله عليه- أسماها "القصيدة الميمية في الوصايا والآداب العلمية" وهذا من أبدع ما نظم في هذا الباب، على طالب العلم أن يعنى بها.
أيضاً يعنى بالعلوم الأخرى، يعنى بالدرجة الأولى بكتاب الله وسنة نبيه -عليه الصلاة والسلام-، والعقيدة من مضانها ومن أهلها ممن سلك المسلك الصحيح، وانتهج نهج السلف الصالح، وأيضاً الفقه وما يخدم ذلك من المفاتيح التي يسمونها علوم الآلة، كعلم العربية بفروعه العشرة، ولا يكفي أن يتعلم الطالب شيء من علم النحو ويهمل العلوم الأخرى، كما هو الشائع الآن بفروعه، علوم القرآن، وقواعد التفسير، أصول الفقه، علوم الحديث، أيضاً يستجم ويستفيد ويعتبر بقراءة كتب التواريخ والأدب، وأيضاً الكتب الأخرى، وهناك أشرطة في ذكر هذه الكتب في العلوم التي أشرنا إليها، سميت "كيف يبني طالب العلم مكتبته" في خمسة أشرطة موجودة في الأسواق، وفيه اختصار شديد.
والمسألة تحتمل من البسط أكثر من ذلك، وأظن الوقت قرب.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(28/22)
يقول: هل يأخذ المبتدئ بالتفسير تفسير الجلالين أم ماذا يأخذ؟
ذكرنا في مناسبات كثيرة وفي الأشرطة التي ذكرناها أن المبتدئ يبدأ بتفسير الشيخ فيصل آل مبارك، واسمه "توفيق الرحمن بدروس القرآن" ثم يثني بتفسير الشيخ ابن سعدي -رحمه الله-، ثم بعد ذلك يقرأ في تفسير الجلالين على حذر؛ لأن فيه من المخالفات العقدية ما فيه، وهو تفسير متين، يصلح لأن يدرس في المساجد ويمرن عليه طلاب العلم، مع بيان ما عليه من ملاحظات.
ماذا تنصح فيمن حفظ القرآن وأراد أن يبدأ بالمتون ففي أي علم أو أي فن أو بأي متن؟
من حفظ القرآن وضمن ذلك، رزقه الله ومنحه الله -جل وعلا- هذه المرتبة العلية السنية؛ لا يخلو: إما أن يكون ممن يحتمل التعدد والتنويع، وهذه تناسب كثير من المتعلمين، بعض الطلاب يناسبه أن يقرأ في أكثر من فن في آنٍ واحد؛ لأنه لا يشتت ذهنه، وهو مع ذلك أيضاً ملول لو قيل له: اقرأ في علم واحد، والزم علم الحديث إلى أن تنتهي، ثم انتقل إلى غيره يمل، فمثل هذا إذا كان لا يشتت في تنويع العلوم مثل هذا ينصح بأن يقرأ العلوم أكثر من فن في آنٍ واحد، ليس معنى هذا أنه في ساعة واحدة وفي مجلس واحد يقرأ أكثر من فن، يخصص مثلاً أول النهار لفن، ثم يليه فلن، ثم بعد صلاة الظهر فن، ثم بعد صلاة العصر ثالث، وهكذا.
بعض الناس لا يحتمل مثل هذا، إذا قرأ في أكثر من كتاب تشتت، وعنده صبر وجلد على أن يمسك الكتاب بالطريقة التي ذكرناها إلى أن ينتهي مثل هذا يقال له: الزم علم واحد، فالناس يتفاوتون منهم الملول، ومنهم الصبور والدءوب، وكلٌ يسلك ما يناسبه.
يقول: نحن طلاب جامعة من خارج هذه المنطقة إذا اشتغلنا بدروس المساجد انشغلنا عن دروس الجامعة، وإذا اشتغلنا بدروس الجامعة انشغلنا عن دروس المساجد، فكيف نجمع بينهما؟ أم أن الأفضل أن نكتفي بدروس الجامعة؟(28/23)
هذه الجامعة لا تخلو إما أن تكون جامعة شرعية فدروسها تخدم دروس المسجد، ودروس المسجد تخدم دروسها، ولا يتميز في الجامعات في الكليات الشرعية إلا طلاب المساجد، أما إذا كانت الكليات غير شرعية من علوم الدنيا مثلاً من طب أو هندسة أو غيرهما، مثل هذا يعنى بما هو بصدده، وهو مأجور عن ذلك -إن شاء الله تعالى- بالنية الصالحة، ومع ذلك يقرأ ما يناسبه من الكتب التي ألفت في أمثاله بالأساليب المبسطة؛ لأن طلاب العلم لهم أساليب يمرن عليها طلاب العلم، وإذا قلت: أن الكتاب كلما كانت عبارته أدق وأصعب وأعمق كان تأثيره في طالب العلم أقوى، هؤلاء طلاب العلم الشرعي لا بد أن يمرنوا على هذه الكتب، يعني لا أقيم دورة علمية وأحضر مشايخ، وأقول لهؤلاء المشايخ: درسوا مؤلفاتكم كما وجد في بعض الدورات، مؤلفات هؤلاء المشايخ على جلالتهم وعلى عظم قدرهم ونفع مؤلفاتهم، مؤلفاتهم ألفت بأسلوب مناسب لهم، يعني هو جالس يشرب الشاي يقرأ هذه الكتب وهو مرتاح، لكن مرن طلاب العلم على الكتب التي ألفت لهم، ليكون طالب العلم قد تأهل لفهم ما فوقه، وليكون طالب العلم إذا انفرد في بلدٍ من البلدان ليس عنده من يسأله ولا يحل له إشكال يستطيع بنفسه أن يحل الإشكالات، وعلى كل حال ألف كتب بأسلوب العصر تناسب طلاب العلم غير الشرعي.
ما رأيك بالدورات التي تقام لحفظ الصحيحين بعد حفظ كتاب الله تعالى، وهل حفظ الأسانيد مهم في هذا الوقت بعد حفظها في الكتب؟(28/24)
على كل حال حفظ أو حضور الدورات التي يحفظ فيها كتب السنة لا شك أنه فتح، وكان الناس على يأس تام من حفظ هذه الكتب إلى أن سنت هذه السنة، ويذكر بعضهم أنه بدأ بحفظ زوائد البيهقي، من يتطاول على قراءة البيهقي قبل وجود هذه الدورات، أو المستدرك أو غيرهما من الكتب، يعني الجادة عندهم يُقرأ الأربعين والعمدة والبلوغ وإذا. . . . . . . . . المنتقى، وتقرأ كتب السنة الكتب الستة .... قراءة سرد، فوجدنا من يحفظ ولله الحمد، فحضور هذه الدورات في غاية الأهمية، مع التطبيق الذي ذكرناه، فإذا اجتمع هذا وهذا، ضمنا أن هناك من طلاب العلم من سار على الدرب الذي يوصله -إن شاء الله تعالى- بالشرط الذي ذكرنا، وهو الإخلاص لله -جل وعلا-.
ومن أعظم وسائل تحصيل العلم تقوى الله -جل وعلا- {وَاتَّقُواْ اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ} [(282) سورة البقرة] فالعلم بالعمل من أعظم وسائل تحصيله، والذي لا يتقي الله -جل وعلا- ولا يحقق هذا الشرط في نفسه هذا لا يحصل علم، ولو جمع من المسائل والأحكام ما جمع، فإن هذا ليس بعلم، شاء أم أبى، وإن قال الناس إنه عالم، فلا علم إلا بالتقوى، يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، العلماء استشهدهم الله -جل وعلا- على وحدانيته وألوهيته، فكيف يكون من يتصدى لأعظم شهادة لأعظم مشهود له، وهو ليس بأهل وليس بكفء يخالف الأوامر، ويرتكب النواهي؟ هذا جاهل وليس بعالم.
العلم الذي لا يورث الخشية لله -جل وعلا- ليس بعلم، والحصر في الآية صريح {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} [(28) سورة فاطر] وفي قوله -جل وعلا-: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ} [(17) سورة النساء] هل معنى هذا أن التوبة خاصة بالجهال الذين لا يعرفون الأحكام؟ ولو عرف الحكم أن هذا حلال وحرام وارتكبه فهو جاهل، كل من عصى الله فهو جاهل.
فالتقوى هي المحقق للوصف الشريف وهو العلم، وهي من أعظم ما يعين على تحصيله وتثبيته، فعلينا أن نعمل بما نعلم، وعلينا أن نطبق، وأن كون أسوة وقدوة في أفعالنا وأقوالنا.(28/25)
هذه تقول: لقد ترقيت إلى منصب وكيلة مدرسة، فانتقلت لمدرسة للمرحلة التأسيسية -من الإمارات- تقول: وجدت فيها موسيقى في الطابور وتحية العلم لكونها مدرسة أطفال في الروضة؟ وكذلك لأن فيها حصة ثالثة أساسية للموسيقى، وهذا أمر مجبورين فيه من الوزارة، فماذا أفعل فأنا مجبورة؟
انتقلي إلى مدرسة لا يوجد فيها هذا الأمر؛ لأن الموسيقى المحتمل عند أهل العلم أنها محرمة، وأنتِ تعلمين الخير وتقصدين الخير، تريدين ما عند الله -جل وعلا-، وما عند الله لا ينالُ بسخطه.
سائل من ليبيا يقول: ما حكم الدعاء بعد الصلاة؟
جاء أن من مضان الإجابة الدعاء بعد الصلاة المكتوبة، والمراد به ما قبل السلام، وهو مظنة إجابة، والدعاء أحياناً بعد السلام لا بأس به ما لم يتخذ ديدن وعادة.
كيف يجمع طالب العلم بين حفظ المتون ومراجعتها، ومراجعة القرآن الكريم؟
لا حل إلا بهذه الطريقة، لا بد أن يجمع بين مراجعة القرآن وأن يجعل له ورد من كتاب الله -جل وعلا- لا يفرط به سفراً ولا حضراً؛ لأن الذي يقرأ على التيسير والتسهيل إن تسير له وقت قرأ، وإن لم يتيسر له وقت لم يقرأ، مثل هذا لن يقرأ.
بعض الناس يترك قراءة القرآن إن حضر قبل الإقامة أخذ المصحف وقرأ، هذا لن يقرأ، ولا بد أن يجعل ويفرغ للقرآن وقت كافي، جاء الأمر بقراءة القرآن بسبع، اقرأ القرآن بسبع، وهذا تنفيذ هذا الأمر لا يكلف شيئاً، فاجلس بعد صلاة الصبح منتظراً انتشار الشمس في كل يوم وتقرأ القرآن في سبع، وهذا لن يعوقك عن أمر من الأمور لا من أمور الدين، ولا من أمور الدنيا.
يقول: هل يجوز أن يختبر الطالب شيخه؟(28/26)
كيف يختبر الطالب شيخه؟! أولاً: الطالب عليه أن يقصد من الشيوخ من يغلب على ظنه أنه يفيده وينفعه، ويكفي في مثل هذا الاستفاضة، وسؤال الأعلام، أما الطالب فكونه يختبر الشيخ، بأي شيء يختبره؟ هل وصل إلى مرحلة أن يختبر ما عند الشيخ من العلم ليقرر هل يصلح ليؤخذ عنه العلم أو لا يصلح؟ هذا مثل تكليف العامي بالاقتداء بالأعلم حقيقة، لن يصل العامي بنفسه إلى معرفة الأعلم، وإنما يكتفى بمثل هذا بالاستفاضة، إذا استفاض بين الناس أن فلان تبرأ الذمة بتقليده يسأله امتثالاً لقوله -جل وعلا-: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [(7) سورة الأنبياء].
يقول: إذا كان عاشوراء يوم السبت أو الجمعة هل يجوز إفراده بالصيام دون ضم يوم عليه؟
أهل العلم يقررون أن صيام عاشوراء له مراتب، إما أن يصام وحده وهو أدنى المراتب، أو يضم إليه يوم قبله أو يوم بعده، وهذه المرتبة الثانية، ومنهم من يقول: أكمل من ذلك أنه يصوم يومٌ قبله ويومٌ بعده، وعلى كل حال من صام الخميس والجمعة والسبت أدرك ذلك لا محالة.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
شكر الله لفضيلة الشيخ، ونسأل الله أن ينفعنا بما سمعنا، والله تعالى أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(28/27)
الهمة في طلب العلم
الشيخ/ عبد الكريم الخضير
الحمد لله رب العالمين، وصلي الله وسلم علي عبده ورسوله، نبينا محمد وعلي آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
وبعد شكر الله -جل وعلا- علي نعمه التي لا تعد ولا تحصى، الشكر موصول علي القائمين علي هذه الدورات، التي نسأل الله -جل وعلا- أن يثيبهم، ولا يحرمهم أجرها وأجر من عمل بها, فهم المفاتيح, مفاتيح هذا الخير، على أنهم لما كلموني في هذا الموضوع ليكون كالخاتمة لهذه الدورة اعتذرت, اعتذرت عن قبول الدعوة لا زهد في الأجر ولا رغبة عن نفع الإخوان؛ لكن لمخالفة الخُبر الخَبر, فالهمة وموضوعها يحتاج أن يتحدث به أو فيه من اتصف بها, اعتذرت وما قبلوا، وقلت بعد ذلك: لعلي أن أجد في مقرؤاتي من الأمثلة ما يبعث على الهمة، وإلا فالإخوة اغتروا، وكيف يؤتى ببخيل يتحدث عن الكرم، وبجبان يتحدث عن الشجاعة؟ أقول: الإخوان استسمنوا ذا ورم، وقبلهم من الشباب لكن نعذرهم لصغر أسنانهم وقلة خبراتهم وتجاربهم، ومنهم من جاء يسألني هل صحيح أنك قرأت فتح الباري سبعين مرة؟ قلت: فتح الباري يحتاج لقرأته سبعين مرة إلي مائة وأربعين سنة؛ لأن كل مرة بسنتين، يحتاج إلى سنتين، الإخوان يحسنون الظن، وأرجو أن أكون عند ذلك.
هذا الموضوع يحتاج إلى أن يتحدث فيه من عمر وقته بالعلم والعمل وصان أيامه ولياليه عن القيل والقال وقد ضربنا في هذا الباب -الذي هو التضييع والتفريط- ما نرجو أن يغفره الله لنا، ويتجاوز عنا وعنكم، هذا الموضوع بعد أن نعرف الهمة والهم من كلام أئمة اللغة وغيرهم، نتحدث عن بعض الأمثلة التي ضربها سلفنا الصالح في هذا الباب.(29/1)
في تهذيب اللغة للأزهري نقلاً عن الليث بن مظفر يقول: "الهم ما هممت به من أمر في نفسك، تقولوا: أهمني الأمر، والمهمات من الأمور الشدائد, والهم الحزن، والهمة ما هممت به من أمر لتفعله، وتقول: أنه لعظيم الهمة، وإنه لصغير الهمة, والهُمام من أسماء الملوك لعظم همته، والهِمة -كما جاء في المصباح- بالكسر أول العزم، وقد تطلق على العزم القوي، يقول: الهمة أول العزم إذا عرفنا مراتب القصد التي أولها الهاجس، ثم الخاطر، ثم حديث النفس، ثم الهم، ثم العزم، وبعد العزم يأتي الفعل، الذي هو التنفيذ، فالهم دون العزم:
مراتب القصد خمسٌ هاجسٌ ذكروا ... فخاطرٌ فحديث النفس فاستمعا
يليه همٌ فعزمٌ كلها رفعت ... إلا الأخير ففيه الإثم قد وقعا
يعني لا يؤاخذ الإنسان على الهاجس، ولا على الخاطر، ولا حديث النفس، ولا على الهم أيضاً؛ لكنه يؤاخذ على العزم إلا إذا ارتقى الهم إلى درجة العزم؛ لأنه أول العزم، والعزم يؤاخذ عليه الإنسان حديث: ((إذا التقى المسلمان بسيفهما القاتل والمقتول في النار)) قيل: هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: ((إنه كان حريص على قتل صاحبه)) عازم على قتل صاحبه، فالعزم مؤاخذ عليه.(29/2)
علي كل حال الذي يهمنا في هذه المراتب الهم، ويقول صاحب المصباح: أنه أول العزم، وقد يطلق على العزم فيقال: له همة عالية، والهم بالفتح أول العزيمة، جاء في الحديث الصحيح: ((لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام وأمر رجال يذهبون معي بحزم من حطب فأخالف إلى أقوام لا يشهدون الصلاة فاحرق عليهم بيوتهم بالنار)) ثم عدل عن ذلك بقوله: ((ولولا ما في البيوت من النساء والذرية لحرقت عليهم بالنار)) فالنبي -عليه الصلاة والسلام- هم أن يحرق عليهم بيوتهم ولا يهم -عليه الصلاة والسلام- إلا بما يجوز له فعله، {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} [(24) سورة يوسف] وهو دون العزم الذي يؤاخذ به على خلاف طويل بين أهل العلم في المراد بالهم هنا, يقول ابن فارس: "اللهم ما هممت به، وهممت بالشيء هماً من باب قتل، إذا أردته ولم تفعله" يقول ابن القيم -رحمه الله- في مدارج السالكين: "وقد جعل منزلة الهمة من منازل إياك نعبد وإياك نستعين" جعل الهمة في طلب ما يرضي الله -جل وعلا-، ويدخل تحصيل العلم الشرعي المرضي والموصل إلى مرضاة الله -جل وعلا- دخولاً أولياً؛ لأنه بعد الفرائض من أفضل ما يتعبد به.(29/3)
يقول ابن القيم في مدارج السالكين: "الهمة فعلة -يعني زنتها فعلة- وهو مبدأ الإرادة" الإرادة التي تبعث الإنسان على الفعل مبدأها الهمة، ولكن خصوها بنهاية الإرادة، ولذا من أراد أن يفعل لا يقال: إنه عنده همة، نعم، من يوصف بالهمة العالية؟ من فعل، أما من أراد أن يفعل ولما يفعل هذا لا يوصف بعلو الهمة لماذا؟ لاحتمال أن تكون هذه الإرادة مجرد أماني، يعني شخص عنده إرادة وعزيمة أن يحفظ أكبر قدر من العلوم هل يوصف بأن عنده همة؟ لأنها مبدأ الإرادة؟ أو حتى يترجم هذه الإرادة عملياً ويحفظ بالفعل, يعني شخص في تقديره أنه في سنة يحفظ سنن البيهقي مثلاً، هذا مبدأ الإرادة، وكانت الهمة تطلق على هذا باعتبار أن هم بالشيء أراده؛ لكن متى يترجم هذه الهمة؟ ومتى تسمى همة؟ نعم إذا انتهى، حفظ البيهقي وانتهى، قلنا: عنده همة, شخص يقول -وهو مبتلى بالسهر- يقول وهو في شعبان: إذا خرج رمضان سوف أترك السهر, هذا عنده همة؟ وإلا إذا ترك بالفعل وقاوم؟ نعم هذا صحاب الهمة أما مجرد الإرادة قبل التنفيذ فهي موقوفة على التنفيذ، فمنها ما هو همة بالفعل، ومنها ما هو مجرد أماني، وليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني؛ ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل، فالهمة إذا لم تترجم إلى واقع عملي هذه مجرد أماني وتسويف، سوف يفعل، وسوف يفعل.
فالهم مبدأها والهمة نهايتها, الهمة كغيرها من الغرائز منها ما هو جبلي فطري؛ ومنها ما هو مكتسب، ولها طرفان ووسط، فإذا جُبل الإنسان على علو الهمة لا شك أن مثل هذا يزاول أعماله بكل ارتياح، وقد تزيد هذه الهمة بالتهمم، كما أن الحلم يزيد بالتحلم، والعلم يزيد بالتعلم، هذه الهمة الجبلية التي غرست في نفوس بعض الناس والأمثلة تبين تباين الناس في هممهم لا شك أنها كغيرها, الحافظة مثلاً غريزة، والناس يتفاوتون ويتباينون تبايناً شديداً؛ لكن الذي يهمل هذه الحافظة ولا يتعاهدها تضعف، والذي يتعاهدها تزيد، وقل مثل هذا في جميع الغرائز، العقل بالتعقل منه ماهو غريزي فطري، ومنه ما هو مكتسب، الحلم، الصبر، الشجاعة، الكرم كلها منها ما هو مغروس في الإنسان ومفطور عليه، ومجبور عليه، ومنه ما يزيد بالمعاناة.(29/4)
الهمة هذه لها طرفان ووسط بعض الناس عنده همة؛ لكن هذه الهمة تتعدى ما عد له، هذه مذمومة، يعني إذا سمع من يطوف بالبيت ويقول: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي} [(35) سورة ص] نعم هذه همة؛ لكنها همة مذمومة، فكيف إذا كان القائل امرأة , امرأة تطوف بالبيت وتقول هذا الكلام، تبي ملك لا ينبغي لأحد من بعدها, هذه همة مذمومة، نعم يهم الإنسان أو سمها أماني لأن يبلغ منازل لا يستطيعها أو ليست له إما شرعاً أو قدراً، شخص يربي نفسه على أن يصل منازل الأنبياء مثلاً، كما يفعله أصحاب الرياضيات من غلاة المتصوفة، يصلون إلى مراتب من الولاية بحيث تكون فوق منازل الأنبياء والرسل، هذه همة؛ لكنها همة مذمومة، هنالك همم ضعيفة بإمكانه أن يكتسب من أمور الدين أو أمور الدنيا، ومع ذلك يخلد إلى الراحة، فلا يتعاطى الأسباب لا في أمور الدين ولا في أمور الدنيا، ويكون عالة يتكفف الناس، هذا صغير النفس، همه أن يأكل ويشرب، يقول: هذا متيسر أو أجلس في المسجد يتيسر الأكل والشرب أو أجلس في بيتي، الجيران ما يقصرون، نعم وفي مثله يقول القائل:
"ومن تكون همته ما يولج في بطنه قيمته ما يخرجه"
هذه همة؛ لكن همة ضعيفة، نسأل الله السلامة والعافية، فهل يليق بمسلم مثل هذا الأمر؟ وقد تكاثرت النصوص وتضافرت على اكتساب ما ينفع من وجوهه، فكيف بما جاء من نصوص الكتاب والسنة في طلب أشرف مطلوب وأعظم مقصود، وهو العلم بالله -جلا وعلا-، وبآياته وصفاته وأحكامه وشرائعه، وما جاء عنه وعن نبيه -عليه الصلاة والسلام-, من تكون همته مدارسة الكتاب والسنة, المسألة طرد وعكس، قيمته إيش؟ نعم هذه الهمة شرفها بشرف كون مأخوذ بشرف ما يهتم به، وهذا الأمر من أعظم ما يهتم به شرعاً وعلى هذا ينبغي لطالب العلم أن تكون همته تحصيل علوم الكتاب والسنة، وما يخدم هذه العلوم، ما يخدم الأصلين من علوم يحتاجها طالب العلم ليتعامل مع نصوص نصوص الكتاب والسنة على الجادة.(29/5)
نذكر أمثلة للهمة في علوها ودنوها، اجتمعا عبد الله بن عمر وعروة بن الزبير ومصعب بن الزبير وعبد الملك بن مروان بفناء الكعبة، فقال لهم مصعب: تمنوا، فقالوا: ابدأ أنت، فقال مصعب: أتمنى ولاية العراق، وأن يتزوج سكينة بنت الحسين وعائشة بنت طلحة، هذه أملح النساء، وهذه أجمل النساء، فنال ذلك، حصل له الولاية على العراق، وتزوج سكينة وتزوج عائشة بنت طلحة، هذه همة وحصل عليها، وتمنى عروة بن الزبير الفقه وأن يحمل عنه الحديث، فنال ذلك، كما تجد في كتب السنة عن عروة، نعم ما في كتاب من دواوين الإسلام يخلو من ذكر عروة مرات وكرات، نال ذلك وتمنى عبد الملك الخلافة فنالها، وتمنى عبد الله بن عمر الجنة، والمأمول من كرم الله -جل وعلا- أن يكون قد نالها، لا سيما وقد عرف بالتحري والإتباع والتثبت ويكفيه أنه صحابي.(29/6)
أمنية كل شخص في هذه الدنيا إذا ما أعرضنا عن ذكر الآخرة بالمثال السابق، وما سيأتي من أمثلة في سير العلماء والصالحين في أمور الدنيا كل يتمنى على قدر ما يعانيه منها وما يتمناه، وما يرغب فيه, قيل لوراق -الوراق ينسخ الكتب- تمنَ تمنى إيش؟ جلود وأوراق، وحبر براق، وقلم نشاق، هذا الذي يريده، هذه غاية ما يتمنى، جلود وأوراق وحبر وقلم، قيل لطفيلي: تمنَ فقال: ندامى تسكن صدورهم، يعني يعاملوني الناس معاملة رقيقة، ما يطردون من يأتيهم، وتغلي قدورهم، ولا تغلق دورهم، هذه أمنية لكن كيف؟ لكن هل هذه الأمنية مثل أمنية ابن عمر؟ تمنى بعضهم الإبل في الجنة، بعضهم تمنى كتب في الجنة؛ لأن هذا يحب الإبل وهذا يحب الكتب، وشخص من أهل الإبل يأخذ من أرواثها ويستنشق ويقول: إن كان بالجنة مثل هذا فنعيم أي نعيم، تمنى بعضهم أن يرزق الله فلان ليقرضه، هذه همته، فهل مثل هذا يسعى لكسب الرزق، تمنى آخر أن يجعل الله الكثيب الفلاني من الرمل -كثيب عظيم نفود كبير من الرمل- تمناه، تمنى أن يجعله الله -جل وعلا- حباً، بر، لينقله لآل فلان ليأخذ الأجرة، يعني هذه همة لكن همة إيش؟ يعني ما تمنى أن يكون هذا البر لنفسه، هذا صغير الهمة، وهنالك أماني منهم من يتمنى المعصية، ومنهم من يتمنى الوصل بفلان وفلانة المقصود أن الأماني تبعث على الأعمال، ومنها ما هو مما يوصل إلى مرضاة الله -جل وعلا- وإلى الدار الآخرة، ومنها ما يوصله إلى دار الجزاء الثاني، نسال الله السلامة والعافية.(29/7)
فلكل شخص أمنيته على قدر همته، يقول ابن القيم: "سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: جاء في بعض الاثار الإلهية يقول الله -جل وعلا-: إني لا انظر إلى كلام الحكيم، وإنما انظر إلى همته، قال شيخ الإسلام والعامة تقول: قيمة كل امرئ ما يحسن، والخاصة تقول: قيمة كل امرئ ما يطلب، يريد -رحمه الله- أن قيمة المرء همته ومطلبه، قيمة كل امرئ ما يحسن، والآن في أساليب الناس أن قيمة الشخص ما يحمله في جيبه، فإن كان غنياً صارت له قيمة، وإن كان فقيراً لا قيمة له، هذا في عرف الناس لما صارت الحياة الدنيا هدف، وغفلوا عن الهدف الأسمى الذي خلقوا من أجله، وهو تحقيق العبودية لله -جل وعلا-، غفلوا عن هذا، ولذا تجد القلوب توجل عند كثير من الناس إذا دخل المجلس أو دخل في المجلس وفيه من أهل الدنيا من أرباب المناصب والتجارات، وإذا جاءه من يعدل ملء الأرض من مثل هذا ولاه ظهره، وإذا أردت أن تعيش هذا الأمر في نفسك مثلاً وفي من تعرف فانظر نفسك إذا قيل لك: مدحك فلان مدحك الأمير الفلاني، أو الوزير الفلاني، انظر وضعك، ووضع ذلك الشخص الذي مدح من قبل هذا الكبير، من قبل هذا الوزير، من قبل هذا الأمير، تجده لا ينام الليل من الفرح؛ لكن لو كان الميزان عنده شرعي مالتفت إلى هذا البتة، وهو يعرف أن من ذكر الله في نفسه ذكره الله في نفسه، ومن ذكره في ملأ ذكره في ملأ خير منه، هذا الذي يحتاج أن يطير الإنسان شوقاً إلى مثل هذه الأعمال، الذكر، يقول القائل:
ومن تكن العلياء همة نفسه ... فكل الذي يلقاه فيها محببُ(29/8)
يعني الناس لو تقول له: احمل هذا الشيء اليسير يعني زنته خمس كيلو مثلاً، يقول: والله أنا ما تعودت الحمل، أنا والله لست بحمال، نعم لكن إتي له بشيء يرغبه تجده يحمل أضعاف أضعاف ما عرض عليه ما نحتاج أن نمثل يعني، من أهل العلم مثلاً وهو ما وضع نفسه للحمل والتنزيل، يأتيه كرتون زنته ستين كيلو كتب مثلاً عنده استعداد يشيله من السيارة ويدخله البيت؛ لأنه يحب الكتب، وهذه همته، وقل مثل هذا في سائر الأعمال البضائع مثلاً تجد أن صاحب هذه التجارة عنده استعداد يحملها لا سيما إذا كانت نفيسة عنده، أو كان يرجوها ويترقبها، أو لقلتها في الأسواق تجده يتولاها بنفسه، هذه همته: فكل الذي يلقاه فيها محببُ.
تجد الإنسان يسافر يقطع المفاوز أحياناً قبل وسائل المواصلات على قدميه تبعاً لهمته إن كان ممن فتن بالنساء تجده يسير الآلاف من الكيلومترات من أجل أن يجد امرأة، إن كان ممن فتن بالأموال يسير ذلك أو أكثر منه من أجل أن يتاجر, همته العلم يرحل لطلب العلم، وهذا الباب يحتاج إلى دروس؛ لكن الرحلة سُنة لأهل الحديث سُنة وطريقة عرفت عندهم وأُلفت فيها الكتب، ووجد من يرحل مسافة شهر من أجل حديث واحد، هذه همة نحتاج إليها، وإذا كان العلم بين أيدينا وبين أظهرنا ولا يحتاج إلى سفر، ولا يحتاج لقطع مفاوز فما عذرنا؟ أشخاص يتسمون بطلب العلم، ولا يعرفون العلم إلا في الدروس، يجلسون بين يدي الشيخ ومعهم الكتب، وإذا خرجوا من عند الشيخ أخر علمهم بالكتاب خروجهم من المسجد إلى أن يحضر الدرس الثاني، وبعضهم مع الأسف يجعل الكتاب في المسجد، يصعب عليه حتى حمل الكتاب، مثل هذا قل أن يُفلح.(29/9)
العلم يحتاج إلى مدارسة، يحتاج إلى أن تسهر الليالي، وعرف من كثير من المتقدمين تقسيم الليل إلى ثلاثة أجزاء: ثلث للنوم، وثلث للمطالعة والكتابة، وثلث للصلاة، ولا بد من الاستعانة بالصبر والصلاة؛ لأن بعض الطلاب تجده حريص على طلب العلم، ومن درس إلى درس، ومن حلقة إلى حلقة، ومع ذلك يشق عليه أن يصوم يوم في سبيل الله، أو يصلي ركعتين مثل هذا لا يعان على طلب العلم، خير ما يعين على طلب العلم العمل بالعلم، ولذا تجدون الكبار من أئمة الحفظ والفهم لو نظرت إلى مدة طلبهم للعلم بالنسبة لما عرف عنهم من عمل وجدت أن العمل أكثر، يعني الإمام أحمد وهو يحفظ سبعمائة ألف حديث، كيف تدرك سبعمائة ألف حديث؟ يعني يحتاج إلى أن يحفظ كم في اليوم الواحد؟ هل نقول: أنه عطل الواجبات، ترك النوافل والمندوبات أبداً، الإمام أحمد يصلي في اليوم والليلة ثلاثمائة ركعة، ويقول القائل مما لا يحتمل عقله مثل هذا الكلام هذا غير معقول، ثلاثمائة ركعة تحتاج إلى آيش؟ تحتاج إلى دقيقة مثلاً، يعني كل ركعة أقل ما يجزئ تحتاج إلى دقيقة، وثلاثمائة دقيقة يعني خمس ساعات، متى يطلب العلم؟ متى يتعلم؟ متى يُعلم؟ متى ينام؟ متى ... ؟ لكن لتعلم أن الإمام أحمد ما عنده استراحة، نعم وليس عنده أناس يؤنسونه، ويضيعون عليه الأوقات، كما يفعله كثير من الناس اليوم، وليس عنده على ما قال بعضهم: صالون في بيته، يحتاج إلى ثلاث ساعات في اليوم، ينظر في المرآة، وهذه شعرة زائدة، وهذه شعرة ناقصة، الإمام أحمد ما عنده شيء من هذا، فإذا صرف خمس ساعات في الصلاة، وقل مثلها للعلم، بقي عنده أربعة عشر ساعة، والواحد منا إذا حضر درس، أو ألقى درس يحتاج إلى راحة كأنه ألقى صخرة من فوق رأسه يحتاج بقية اليوم كله يرتاح وينفس عن نفسه، ويروح، فمثل هذا يحتاج الإنسان في مثل هذه الظروف إلى إعادة نظر.(29/10)
النبي -عليه الصلاة والسلام- كان يتخولهم في الموعظة في الحديث الصحيح أنه قيل لابن مسعود: "ألا تحدثنا كل يوم؟ قال: إني أتخولكم كما كان رسول الله -عليه الصلاة السلام- يتخولنا بالموعظة" نعم عوام الناس الذين ما أشربت قلوبهم حب العلم مثل هؤلاء لا يضيق عليهم، ولا يكرر عليهم الكلام؛ لأن هؤلاء يملون، فمثل هؤلاء يتخولون، أما بالنسبة لطالب العلم الذي يأمل أن يكون إماماً للمتقين، وقدوة للعاملين، مثل هذا لا بد أن يحمل نفسه على العزيمة والهمة العالية؛ لأنها يحتاج لمدة يسيرة إلى جهاد ومعاناة، ثم بعد ذلك لا يلبث أن تكون هذه ديدنه، وهي هجيراه، بحيث لا يستطيع أن يفارق هذا البرنامج، وهذا شيء مجرب، يبدأ الإنسان في بداية الأمر بقراءة صفحة صفحتين ثلاث ربع ساعة نصف ساعة في اليوم الثاني ساعة في اليوم الثالث إلى أن يضيق ذرعاً بوقت الطعام، ما يجد وقت للطعام، حتى أنه وجد من أهل العلم من يجعل القارئ يقرأ عليه وهو في مكان قضاء الحاجة؛ لئلا يضيع الوقت، واعرف من شيوخنا من حفظ ألفية العراقي وهو يتوضأ، يعني أحدهم يصب عليه الماء يتوضأ والثاني يقرأ عليه، بس وقت الوضوء! ووقت الوضوء يحتاج إلى آيش؟ دقيقة، يحفظ بيت، وحفظ كتب أخرى، بس هذا مثال, هذا من استغلال الوقت، وهذه همة عالية نحتاج إليها:
على قدر أهل العزم تأتي العزائمُ ... وتأتي على قدر الكرام المكارمُ
على قدر أهل العزم تأتي العزائمُ, العزائم: جمع عزيمة، والآن يلتبس العزيمة المأخوذة من العزم بالولائم وأحياناً يستدل بعض الناس أو يورد هذا البيت إذا كانت الوليمة كبيرة يقول: على قدر أهل العزم تأتي العزائم هذا قلب للحقائق:
على قدر أهل العزم تأتي العزائمُ ... وتأتي على قدر الكرام المكارمُ
نعم، الإنسان حيث يضع نفسه؛ لكن لا يضع نفسه منزلة لا يستطيعها.
وتكبر عين الصغير ضغارها ... وتصغر في عين العظيم العظائمُ
نعم، وهل في مما يتنعم به أعظم من الجنة، إذا كان همة الإنسان الجنة وعمل لها حق له.(29/11)
عمر بن عبد العزيز لما كان والياً على المدينة نعم, كانت همته الولاية على المدينة ثم حصلها، ثم الخلافة ثم حصلها، إيش بقي؟ أول يوم تولي الخلافة سمت همته إلى أعظم من الدنيا كلها إلى الجنة، فعل لها، وسمعتم وقرأتم سيرته في هاتين السنتين مدة خلافته ما لا يحقق في عشرات السنين، سنتين وعمره أربعون سنة، توفي -رحمه الله-، فالأعمال ما تقاس بالأعمار إنما تقاس بالإنجازات, تجد الشخص يعيش تسعين سنة، مائة سنة مثلاً وإذا وجدته إن كان من أهل العلم وجدت تراثه إذا جمعته وجدت أوراق، وقد لا تجد، تبحث عن طلاب يذكرونه ما تجد، وهو يشار إليه أنه من أهل العلم، وجلس إلى المشايخ، وحصل علم، وتولى منصب، ومنهم من بلغت علومه شرق الأرض وغربها، في نصف هذه المدة، عمر بن عبد العزيز أربعين سنة، النووي ست وأربعين سنة لو اجتمعت جامعات الدنيا من أجل تأليف مثل المجموع ما استطاعوا، لماذا؟ لأن النووي ما عنده استراحة، ولا عنده مائدة تجلب من ست قارات، مائدة تجلب من ست قارات؟ هذا مو بخيال يا إخوان هذا واقع يعيشه بعض الناس الآن، النووي عنده كسرة خبز، وماء مالح؛ لأن همته سمت عن الدنيا كلها، بهذا العمر القصير شوف النفع الكثير والكبير خلف من الكتب من الطلاب من له أجره وأجر من علمه هؤلاء الطلاب إلى يوم القيامة، لو أن الله -جل وعلا- ولو تفتح عمل الشيطان؛ لكن في مثل هذا لو أن الله -جل وعلا- نزهه عن التخليط في بعض مسائل الاعتقاد, نسأل الله -جلا وعلا- أن يعفو عنا وعنه.
مما ذكرنا في أول الأمر وأن الهمة قد تكون فوق ما يطلب من الإنسان، أو ما يتصور ويتوقع منه, تمنى بعض النساء الجهاد في سبيل الله، فانزل الله -جل وعلا-: {وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [(32) سورة النساء] فكل إنسان يتمنى ويهم بما يليق به.(29/12)
الشوكاني -رحمه الله- له كتاب اسمه: أدب الطلب، فيه توجيهات لطالب العلم، يقول فيه: "ينبغي لمن كان صادق الرغبة، قوي الفهم، ثاقب النظر، عزيز النفس، شهم الطبع، عالي الهمة، سامي الغريزة، أن لا يرضى لنفسه بالدون، ولا يقنع بما دون الغاية، ولا يكل عن الجد والإجتهاد المبلغين به إلى أعلى ما يراد، وأرفع ما يستفاد، فإن النفوس الأبية، والهمم العلية لا ترضى بما دون الغاية في المطالب الدنيوية، تجد من الناس يغامر بحيث لو أخفق في هذا المشروع الذي غامر فيه صار مديناً إلى أن يموت، ومع ذلك يغامر رجاء إيش؟ المكاسب الطائلة يقول: "والهمم العلية لا ترضى بما دون الغاية في المطالب الدنيوية من جاهٍ أو مالٍ أو رئاسة أو صناعة أو حرفة أو غير ذلك" يعني إذا كان هذا في أمور الدنيا فكيف بأمور الآخرة التي الدنيا بحذافيرها لا تزن عند الله جناح بعوضة؟ يعني إذا نسبنا الدنيا كلها بجميع ما حصل فيها من نعيم من أول مخلوق إلى قيام الساعة ماذا تزن عند الله -جل وعلا-؟ جناح بعوضة، لا تزن عند الله جناح بعوضة، من يعرف قدر هذه الدنيا؟ يعرفها مثل سعيد بن المسيب، عنده بنت علمها وأدبها فصارت محدثة فقيهة، هذه يربيها سعيد لمن؟ للخليفة أو لابن الخليفة؟ خطبها ابن الخليفة فجاءه السفير بينهما –الواسطة- فقال: يا سعيد جاءتك الدنيا بحذافيرها، قال: كيف؟ قال: فلان يريد البنت، قال: يا فلان إذا كانت الدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة فماذا يقص لي من هذا الجناح؟ صحيح, ويزوجها طالب فقير، لا يملك شيء، هذه هي الهمم، همم تسمو إلى مرضاة الله -جل وعلا-، وإلى تحقيق هذه الغاية، فأين طالب العلم من تحقيق هذه الغاية؟ يقول:
إذا غامرت في شرف مرومٍ ... فلا تقنع بما دون النجوم
فطعم الموت في أمر حقير ... كطعم الموت في أمر عظيم
الموت هو هو ما يتغير، خلاص طعمه واحد، فطعمه في تحصيل درهم أو طعمه في تحصيل معصية، نسال الله السلامة والعافية مثل طعمه في تحصيل الشهادة، بل الموت بالنسبة للشهيد قد لا يشعر به، يقول القائل:
بقدر الكد تكتسب المعالي ... ومن طلب العلا سهر الليالي
ومن رام العلا من غير كدٍ ... أضاع العمر في طلب المحالِ(29/13)
تروم العز ثم تنام ليلاً ... يغوص البحر من طلب أللآلي
بقدر الكد تكسب المعالي، قد يقول قائل: هذا الكلام ما هو بصحيح، بقدر الكد تكتسب المعالي، ومن طلب العلا سهر الليلي، كيف ما هو بصحيح؟ يقول: أنا عندي الحافظة ضعيفة، فاحتاج إلى ليلة كاملة لأحفظ ورقة وزميلي ما يكد ولا يتعب في خمس دقائق يحفظ ورقة، وأنتم تقولون: بقدر الكد تكتسب المعالي، نقول: يا أخي هل المعالي جمعت في هذه الورقة التي حفظتها؟ أليس بتعبك ونصبك في ما يرضي الله -جل وعلا- تحصيل للمعالي، فالذي يتعب في تحصيل العلم لا يضيق بذلك ذرعاً؛ لأنه في عبادة، نعم يبذل السبب، ويمشي على الجادة، ويصل بإذن الله -جل وعلا- إذا علم الله منه صدق النية والإخلاص؛ لكن أنت افترض أن شخصاً سبعين سنة يطلب العلم وفي النهاية لا شيء، وزاملنا أناس من هذا النوع، أكثر من سبعين سنة يتردد على الحلق، وفي النهاية لا شيء، يعني هذا ضاع جهده؟ ألا يكفيه حديث: ((من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله به طريقاً إلى الجنة)) ما يكفيه هذا يا إخوان؟ يكفي فأنت ابذل السبب والنتيجة بيد الله -جل وعلا-:
ومن رام العلا في غير كدٍ ... أضاع العمر في طلب المحالِ(29/14)
الأماني التي هي رأس مال المفاليس, إذا أوى إلى فراشه تمنى أن يكون مثل فلان ومثل فلان ومثل علان بدون عمل، ثم إذا أصبح تبخرت هذه الأماني، ورجع إلى عمله بالأمس، هذا لا يدرك شيئاً، أضاع العمر في طلب المحال, تروم العز ثم تنام ليلاً, وإذا نظرنا إلى حال كثير من طلاب العلم قلنا: قد ينال العز من ينام ليلاً إن قارناه في واقع كثير من طلاب العلم الذين يمضون كثير من الليالي في القيل والقال، فضلاً عن العامة، يغوص البحر من طلب اللآليء, ليجلس في البيت فإذا أصبح فإذا في بيته أعداد كبيرة من اللآليء هذه أماني، مثل صاحب العسل عنده منحلة صغيرة فجمع منها في إناء من زجاج شيء من العسل، وربطه لئلا يأتيه ما يريقه, ربطه في حبل وعلقه بالسقف، فلما أوى إلى فراشه وبجانبه العصا، قال: نبيع هذا العسل بمبلغ كذا، ثم نشتري كذا، ثم نبيعه بمكسب كذا، ثم نفعل كذا، إلى أن حصّل، وهو في فراشه المهر، ثم نتزوج، ثم نفعل ونترك، إلى أن يأتي الولد ونربيه على الكسب: الآن ما عنده إلا هذه العلبة من العسل، فإذا خالف يمين شمال فأخذنا العصا وضربناه ضرب الزجاجة وانكسرت تبخر كل شيء، كل الأحلام تبخرت، انتهى.
تروم العز ثم تنام ليلاً ... يغوص البحر من طلب أللآلي(29/15)
الكثير من طلاب العلم يقول: الوقت ما فيه بركة، السلف نعم هم في وقت مبارك، وحصلوا ما حصلوا لبركة الوقت، ونحن ما عندنا بركة، كيف تتصور البركة في وقتك وأنت إذا جيت من عملك أو من دراستك، وقد ذهب سنام الوقت وصليت العصر الآن الوقت يا الله يستوعب طعام الغداء، ثم صليت العصر، ماذا تترقب بعد الصلاة؟ تترقب شخص من زملائك يقف بسيارته عند الباب، يقول: والله عندنا مشوار نبي نروح عند فلان أو علان، ولا تصل إلى المشوار إلا مع صلاة المغرب، ثم بعد ذلك قيل وقال، وتنصرف بعد ذلك بعد هزيع من الليل، مثل هذا يدرك علم؟ فيه بركة وقته؟ إذا صلى الفجر ذهب إلى فراشه لينام؛ لأنه سهران في الليل، حتى يأتي وقت الدوام أو وقت الدراسة؛ لكن في مثل هذه الأيام والأيام القادمة صلِ الفجر، واجلس في مصلاك، اذكر الله حتى تنتشر الشمس، وخذ معك كتاب واقرأ إلى الساعة سبع أو أكثر، وشوف البركة في الوقت، في يوم الخميس والجمعة اقرأ إلى التاسعة والعاشرة وشوف البركة في الوقت، وأما في الشتاء جرب في الليل لو صليت العشاء اجلس خمس ساعات يكفيك عن شهر مما تضيعه، ويفعله كثير من طلاب العلم في هذه الأوقات، قد يقول قائل: نحتاج إلى ما يبعثنا على الزيادة من الهمة العالية، يلاحظ على كثير من طلاب العلم الاسترخاء، نقول: من عرف الهدف هان عليه كل شيء، وبذل كل ما يملك من جهد ومال ووقت؛ لأنك عرفت الهدف إيش تطلب أنت؟ تسهر ليلة من أجل أن تحصل على عشر ريالات مثلاً في هذه الأوقات، تقول: والله ما لازم نسهر عشر ريالات ندركها في أي مكان؛ لكن من قال لك: تسهر ليلة وتحصل على ألف تسهر ليلة، لو قال: ألفين كان الأمر أعظم وأشوق، والنفس أريح، ثلاثة ألاف أكثر، طيب اقرأ القران، كم جزء تقرأ في الساعة؟ يعني على أقل تقدير ثلاثة أجزاء، ساعتين ستة أجزاء في الليلة، ستة أجزاء كم فيها من حسنة؟ الجزء الواحد فيه مائة ألف حسنة، لو قال لك: مائة ألف هللة في شرق الأرض وغربها ذهبت، لكن احرص على ما ينفعك، فإذا عرفت نفاسة ما تطلب هان عليك في تحقيقه وسبيل كل ما تبذل.(29/16)
أيضاً النظر، مما يعينك على علو الهمة أن تنظر إلى الأعلى، ما تنظر إلى الأدنى، أنت في قاعة الدرس اختبرت وأخذت في النتيجة سبعين، يعني هل الأفضل لك أن تقول: والله زميلي فلان أخذ ستين أنا أفضل منه وإلا زميلي فلان أخذ تسعين لا بد أن أخذ تسعين امتياز، بل أضاعف الجهد لأخذ درجة كاملة، فمثل هذا يبعثك على علو الهمة، فكيف والمقابل لا تقوم له موازين الدنيا؟! فإذا نظرت إلى الأعلى ازددت، وهان عليك كل شيء، بخلاف ما إذا نظرت إلى الأدنى، كثير من الناس إذا ذكر له وضع الناس اليوم، وضع كثير من المسلمين، من عوامهم وخواصهم، إنهم أقل مما كانوا عليه من عشر أو عشرين سنة، كثير من الناس يقول: الحمد لله انظر إلى البلدان المجاورة، نحن على خير، هذا نظر إلى الأعلى أو إلى الأدنى؟ نظر إلى الأدنى لكن لما يعين في وظيفة، ويصرف له ثلاث ألف ريال شهرياً، ما يقول: الحمد لله، والله فلان موظف قبلي وعنده أسرة أكثر من أسرتي، وراتبه ألف وألفين، لا، يقول: زميلي فلان راتبه خمسة آلاف، وإيش الذي ينقصني أنا؟ هل أنا أقل منه كفاءة؟ فهو ينظر في أمور الدنيا إلى الأعلى، وفي أمور الآخرة إلى الأعلى، صار مثل الطالب جاء متأخر نصف ساعة عن الدرس، سأله المدرس: لماذا تأخرت؟ قال: أحمد ربك أني جيت بعد، هذا عنده همة هذا؟ ما عنده همة، فلإنسان يحتاج في مثل هذه الأمور، أمور الآخرة يحتاج لأن ينظر إلى الأعلى ليزداد ويترقى، ويصعد في الكمالات، أما في أمور الدنيا، والدنيا يعني جاء التوجيه بأن لا ينسى الإنسان نصيبه من الدنيا؛ لكن ما هي بهدف بقدر البلغة، ينظر إلى الأدنى، وجاء في الحديث الصحيح المتفق عليه من حديث أبي هريرة: ((إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق فلينظر إلى من هو أسفل منه)) نعم يعني في أمور الدنيا تنظر إلى من هو أسفل منك، وجاء في الحديث التعليل: "فهو أجدر ألا يزدري نعمة الله عليه" بخلاف أمور الدين ما تنظر إلى فلان وتقول: والله أنا أفضل من فلان، هذا يبعثك على إيش؟ على العجب المؤدي إلى ترك العمل، والعجب آفة في طريق العلم والعمل، من أعظم العوائق دون تحصيل العلم والعمل العجب بالنفس وازدراء الآخرين، فأنت إذا نظرت إلى من هو(29/17)
دونك في أمور الدين تقول: لا والله الحمد لله أنا أصلي فلان أكثر الأوقات لا يصلي في بيته، وفلان تفوته بعض الركعات، أنا ما تفوتني -ولله الحمد- أبكر، واقرأ القران؛ لكن انظر إلى سيرة السلف الصالح، كيف يقضون أوقاتهم؟ انظر من الأمثلة الواقعية التي تعيشها الآن من أهل العلم والفضل والعباد والزهاد والدعاة، تجد من الأمثلة ما يحدوك على العمل، توطين النفس على الشدائد، شدائد تحصيل العلم لتعلم أن هذا العلم مما حفت به الجنة، الجنة حفت بما تهواه النفوس أو بما تكره النفوس؟ نعم حفت الجنة بالمكاره، تبي الجنة أقدم على هذه المكاره، والعلم ليس بالأمر السهل، ولا يمكن أو يستطاع أو ينال براحة الجسم، لا يمكن أن ينال العلم براحة الجسم، لو كان يباع ويشترى ترى كل الناس علماء، التجار كلهم علماء، ولو كان يستطاع مع الراحة والنوم كل الناس علماء؛ لكن مع ما جاء في فضل العلم، ورفع منازل أهل العلم في الدنيا والآخرة، العلماء عددهم يسير قليل بالنسبة للناس، ما الذي أعاق أولئك عن تحصيل العلم ليحصلوا هذا المنازل، وهذه الدرجات العالية في الدنيا والآخرة؟ الذي أعاقهم الشدائد والعقبات التي تعوق دون التحقيق، فلابد من توطين النفس على الشدائد. أيضاً مما يعين على تقوية الهمة في نفس طالب العلم النظر في سير العلماء والعظماء والصالحين، وسيدهم ومقدمهم النبي -صلى الله عليه وسلم-، لا بد من إدامة النظر في سيرته -عليه الصلاة والسلام-، أفضل الخلق، أكرم الخلق، أشرف الخلق، أعلم الخلق بالله، أشجع الناس أخشاهم وأتقاهم لله، ومع ذلك يربط الحجر على بطنه، وينام على حصير يؤثر في جسده، ووسادة من أدم حشوه ليف، هذا الذي يعرف قدر الدنيا، وهو أعلم الناس وأخشاهم وأتقاهم وأكرمهم على الله -جلا وعلا-، إذا قرأت في سيرته عرفت الغاية التي تريدها والسبيل الذي تسلكه مقتدياً بالأسوة وهو النبي -عليه الصلاة والسلام-، يعني لما يقال: فلان يصلي كذا، أو يصوم كذا، قد يقول قائل: والله هذا شق على نفسه، والدين يسر، وعليكم من الدين ما تطيقون؛ لكن إذا قيل له: أن النبي -عليه الصلاة والسلام- الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر قام حتى تفطرت قدماه، هذا مغفور(29/18)
له ما تقدم من ذنبه وما تأخر -عليه الصلاة والسلام-، ومع هذا قام هذا القيام، وجاهد في الله حق جهاده، وأدى الأمانة، وبلغ الرسالة، وحصل له من الشدائد ما حصل، ومع ذلك حينما قيل له: تفعل هذا وأنت غفر لك، ترجو المغفرة؟! ((أفلا أكون عبداً شكوراً)) الله -جل وعلا- ينعم عليك بجلائل النعم، ودقائق النعم، النعم التي لا تعد ولا تحصى، ومع ذلك تبخل على نفسك بالذكر الذي لا يكلفك شيئاً، ولو أعملت لسانك ليل نهار بذكر الله، ولهجت بشكره، ما استطعت أن تفي شكر نعمة من نعم الله -جل وعلا-، فكيف بجميع نعمه؟ {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا} [(18) سورة النحل] فمثل هذا يحتاج إلى شكر، والشكر يحتاج إلى بذل من النفس.
الصحابة -رضوان الله عليهم- ضربوا أروع الأمثلة في علو الهمة والعطاء والبذل لهذا الدين، ثم سار على طريقتهم والكل يهتدون ويقتدون بالأسوة والقدوة -عليه الصلاة والسلام-، جاء بعدهم التابعون والأئمة وحصل منهم ما حصل, تقرؤون في سيرهم الأعاجيب، تقرؤون الأعاجيب في بذلهم وتضحياتهم في سبيل دينهم، في نشر العلم، وفي التعليم والعمل.
والإنسان يقرأ في هذه الكتب في سير الأئمة يظنه ضرب من الخيال، إنما يساق للتشجيع فقط، وإلا ما له حقيقة، أدركنا من شيوخنا من لا يرتاح في يومه ولا ليله ولا أربع ساعات، ولا ثلاث ساعات، والبقية كلها بذل وعلم وتعليم، وكل باب من أبواب الخير له فيه سهم، وما زالت الأمة فيها خير، والخير في أمة محمد إلى قيام الساعة -عليه الصلاة والسلام- موجود، يقول الإمام الشافعي:
إذا هجع النوام أسبلت عبرة ... وأنشدت بيتاً وهو من ألطف الشعرِ
أليس من الخسران أن ليالياً ... تمر بلا علم وتحسب من عمري(29/19)
أليس من الخسران أن ليالياً تمر بلا علم وتحسب من عمري، يعني هؤلاء الأئمة الذين حفظوا ما حفظوا وبقي ذكرهم إلى يومنا هذا, هذا عبث؟ يعني جاء مجرد صدفة واتفاق؟ يعني مجرد اختاروا الإمام الشافعي قدوة يقتدون به ويعملون بعلمه؟ هذا عبث أو لأنه قدم ما يستحق به أن يذكر إلى قيام الساعة، ويُدعو له ويترحم عليه؟ وقل مثل هذا في الإمام أحمد، يعني جاء من فراغ، حفظ سبعمائة ألف حديث؟ ما جاء من فراغ، كونه يذكر ويلهج بالثناء عليه، والاقتداء بعلمه، والأخذ بهديه المأخوذ من هدي النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ هذا ليس من العبث، لصدق مع الله -جل وعلا-، وبذل وإعطاء من النفس، يعني بعض الناس أعماله تكتب له إلى قيام الساعة، لماذا؟ لأنه سن سنن، وألف كتب، وبقي نفعها إلى قيام الساعة، وترك الطلاب والطلاب لهم أجرهم وأجر تلاميذهم، وهم وطلابهم أجرهم لشيخهم، وفضل الله لا يحد، قد يقول قائل: كيف هذه الأجور تحصل لمثل هؤلاء الأئمة؟ فضل الله واسع، وجاء في الحديث -وفيه كلام لأهل العلم-: ((إن الله ليضاعف لبعض عبادة الحسنة إلى ألفي ألف حسنة)) فإذا كان هذا الإمام قدوة ألف الكتب وبقيت إلى قيام الساعة، وفي كل مجلس، وفي كل درس، وفي كل بلد من تأليف الكتاب إلى ما الله به عليم يقال: قال رحمه الله تعالى, إضافة إلى أن مجرد صلاح الإنسان بنفسه يضمن له الخير الكثير، مجرد صلاح الإنسان بنفسه يضمن له دعوات المسلمين كلهم، كل مصلي يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، ممن تقدم، وممن سيأتي من السابق والآحق.(29/20)
فعلى الإنسان أن يسعى في تحقيق هذا الوصف، وهو الصلاح ليدخل في دعوة المسلمين، ثم بعد ذلك يسعى أن يستمر عمله إلى ما لا نهاية، إلى قيام الساعة، يقول: أبو الوفاء ابن عقيل وهو من أئمة الحنابلة، يقول: "إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري" أنت ما تملك نفسك، نفسك ما هي ملك لك، يعني هل يجوز لك أن تقلع أصبعك وتتبرع به لأحد يجوز؟ لا تملك من نفسك شيء، ويقول: "إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري، حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة ومناظرة، وبصري عن مطالعة، أعملت فكري في حال راحتي وأنا مستطرحٌ –مستلقي- فلا انهض إلا وقد خطر لي ما اسطره" هذه الهمة انتجت إيش؟ الفنون، كم مجلد الفنون؟ ثمانمائة مجلد، يعني ما هو من فراغ.
شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- أبو العباس ابن تيمية مضرب مثل في هذا الباب، يعني عمر شيخ الإسلام كم؟ إذا قلت: أربعين وثمان وعشرين ثمان وستين سنة، إذا قست عمر شيخ الإسلام بمؤلفاته فقط، دعونا من عبادة الشيخ، وجهاد الشيخ، وسجن الشيخ، وتضحية الشيخ، في المؤلفات تجد الشيء الكثير الذي لا يتصوره من يقيس بالأرقام، يكتب الكتاب في جلسة، فتوى في مائتين وثلاثين صفحة، يقول: "كتبتها وصاحبها مستوفز يريدها" مائتين وثلاثين صفحة الحموية بين الظهر والعصر، الناس يدرسونها سنين، ما الذي أوصل شيخ الإسلام إلى هذه المنزلة؟ همة, همة عالية، بذل في وقت الطلب، مع صدق وإخلاص لله -جل وعلا- جعله يكتب مثل هذه الكتب التي يحتار فيها كثير من العلماء، كتب لشيخ الإسلام، أنا أتصور أن شيخ الإسلام ما جلس شهر على (نقض التأسيس) وفي تحقيق الكتاب أربعين سنة ليحقق الكتاب، كيف يحقق؟ يقابل على النسخ، ويعلق عليها، الأصل موجود، يعني المبني عظم، يعني يحتاج إلى تلييس، ويحتاج إلى تركيب بس، تحقيق ويحتاج إلى أربعين سنة، كيف أربعين سنة؟ حققه ثمانية، وكل واحد خمس سنوات.
وكذلك التأسيس أصبح نقضه ... أعجوبة للعالم الرباني
هذا جاء من فراغ؟ كتاب (درء تعارض العقل والنقل) هذا الكتاب عندنا أُناس أئمة في باب الاعتقاد يطون مئات الصفحات من غير نظر ما تفهم.
واقرأ كتاب العقل والنقل الذي ... ما في الوجود له نظير ثاني(29/21)
قرأنا كتب شيخ الإسلام، وذُهلنا من السرعة في الكتابة، وسيلان الذهن، وترابط الكلام، والاستطرادات، ويمين ويسار، المقصود أن هذا أمر مذهل سببه إيش؟ الإخلاص والهمة العالية، تقرأ مثلاً في (منهاج السنة) وصية لطالب العلم في المجلد الأول ثلاثمائة صفحة، لا يقرأ، يخرج منها بخفي حنين، وفي السادس قريب منها، الكلام كلام فوق مستوى كثير ممن ينتسب للعلم، وسببه ما ذكرنا، وشيخ الإسلام تفرغ للعلم، ونذر نفسه للعلم؛ لكن العمل، أمرنا بالاستعانة بإيش؟ بالصبر والصلاة، شيخ الإسلام معروف بعبادته، يقول تلميذه ابن القيم -رحمه الله تعالي-: "حضرت شيخ الإسلام ابن تيمية مرة صلى الفجر، ثم جلس يذكر الله تعالى إلى قريب من انتصاف النهار" هذا يستعين به على الفهم، يستعين به على الحفظ، يعني لا تستطيع أن تأتي بسالب فقط أو موجب فقط تريد إنارة، لا بد من الاثنين، لا بد من علم وعمل؛ لكي تدرك العلم، وتستعين عليه بالعمل، يقول: "حضرت شيخ الإسلام ابن تيمية مرة صلى الفجر ثم جلس يذكر الله تعالى قريب من انتصاف النهار، ثم التفت إليّ، وقال: هذه غدوتي ولو لم أتغدَ سقطت قواي" وقال مرة: "لا أترك الذكر إلا بنية إجمام النفس وإراحتها" ليستعد بتلك الراحة لذكر آخر؛ لأنه يحتاج إلى أن ينام -رحمه الله تعالى- وإذا ذكرنا مثل هؤلاء لا ننسى:
لا تعرضنا لذكرنا مع ذكرهم ... ليس الصحيح إذا مشى كالمقعدِ
وليس معنى هذا يعني أن لا يوجد، وجد أمثلة في عصرنا مع طغيان المادة والانشغال بأمور الدنيا من ضرب بالأمثلة أروعها مثلاً من العصر القريب شيخ شيوخنا الشيخ عمر بن سليم -رحمه الله- عرف بالعلم والعمل يجلس من صلاة الفجر إلى أذان الظهر، قبل هذا خلنا نشوف الطيبي مثلاً شرف الدين الطيبي إمام من أئمة المسلمين، ذكر الشوكاني في ترجمته من البدر الطالع أنه كان يجلس بعد صلاة الفجر إلى أذان الظهر جلسة واحدة هذا إيش يسوي؟ يفسر القرآن وبعد أن يسلم من صلاة الظهر إلى أذان العصر يقرئ صحيح البخاري والعصر كذلك والمغرب كذلك قام على هذا مدة طويلة، ثم بعد ذلك يجلس ينتظر الصلاة يذكر الله -جل وعلا- يتأهب للصلاة وتقبض روحه وهو ينتظر الصلاة.(29/22)
الشيخ عمر بن سليم المتوفي سنة اثنين وستين وثلاثمائة وألف، شيخ شيوخنا قريب ما هو بعيد، الوقت كله من صلاة الفجر إلى بعد صلاة العشاء كله للعلم، يتخلل العلم يأتي في الشهر مرة مثلاً خصوم؛ لأنه قاضي فيقضي بينهم بكلمة أو كلمتين وينصرفون وهم راضون، فاجتمع عنده من الطلبة الجم الغفير، ونفع الله به، وكثير من قضاة المملكة في شمالها وجنوبها وشرقها من طلاب الشيخ، أو من طلاب طلابه، هذا بذل.
الشيخ محمد بن ابرهيم -رحمه الله تعالى- بدأ التدريس من وفاة عمه الشيخ عبدالله بن عبد اللطيف سنة تسع وثلاثين وتسعمائة وألف إلى سنة تسع وثمانين إلى وفاته نصف قرن والوقت كله معمور للعلم والتعليم والعبادة ونفع الناس.
الشيخ عبد الله القرعاوي -رحمة الله عليه- مثال للداعية المصلح، ذهب إلى جنوب المملكة، وفي ذلك الوقت فيها ما فيها من الجهل، وأسس فيها مئات المدارس، ومازال طلابه وطلاب طلابه إلى الآن وهم منارات في تلك البلاد، نفع الله به نفع عظيم, من قرأ سيرة هذا الرجل عرف أنه بالإمكان مع النية الصالحة والبذل، وترك الترفع والتنعم؛ لأن الدنيا والآخرة ضرتان، مثل كفتا الميزان إذا رجحت هذه ارتفعت تلك، عرف أنه بالإمكان أن يبذل الإنسان لا سيما مع صدق النية وصدق التوجه إلى الله -جل وعلا- ما لا يخطر على باله, وأما الشيخ ابن باز فكلكم أدركتموه، علمه ودعوته ونفعه للخاص والعام، بلغ مشارق الأرض ومغاربها ونعرف من حال الرجل أنه لا يرتاح في اليوم والليلة ولا أربع ساعات، والوقت كله للعلم والعمل، ونفع الناس والشفاعات، وقضاء حوائج الناس، والمصالح العامة التي أنيطت به.
الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله تعالى- سمعتم وقرأتم الشيء الكثير عن شيوخنا الشيخ ابن عثيمين كذلك، يعني هل تتصورون أن الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله تعالى- أو الشيخ ابن باز وغيره مما ذكرنا من هؤلاء أنهم أكمل أهل عصرهم في التركيب؟ نعم، قد يوجد في عصرهم من هو أقوى في البدن، وأذكى نعم، وأكثر فهماً لكن ما الذي جعل هذا يتقدم وهذا يتخلف، العلم والتعليم والبذل والإخلاص.(29/23)
يقول الليث بن سعد: "تذاكر الزهري ليلة بعد العشاء حديثاً، وهو جالس متوضئ فما زال ذلك مجلسه حتى أصبح" وهذا كثير، الشيخ عمر بن سليم -رحمه الله- قالوا: في ليلة زواج من زواجاته أشكل عليه معني آية فنزل إلى المكتبة إلى أذان الصبح من تفسير إلى تفسير والوقت يمشي.
قال فضيل بن غزوان: "كنا نجلس أنا ومغيرة نتذاكر الفقه، فربما لم نقم حتى نسمع النداء لصلاة الفجر"، على كل حال الأمثلة كثيرة ومدونة، ولو راجع طالب العلم ينبغي مع علوم الكتاب والسنة أن يقرأ أو يديم النظر في سيرة النبي -عليه الصلاة والسلام- وحياة صحابته -رضوان الله عليهم- وسير الأئمة يعني سير أعلام النبلاء من ألذ الكتب يقرأه طالب العلم، ويفيد منه في دروس علمية وعملية في كثير من كتب التراجم، قد لا توجد في غيرها، الطبقات، طبقات المفسرين، طبقات المحدثين، طبقات الحنابلة، طبقات الشافعية، وغيرها يعني لو تقرأ في ترجمة الزريراني من الحنابلة مثلاً يقول لك قرأ المغني ثلاث وعشرين مرة، وفي كل مرة يضع عليه حاشية غير الأولى هذا يحصل, طالب العلم إذا قيل له: اقرأ البخاري قال: ويين البخاري؟ أربع مجلدات، متى ينتهي؟ لا يا إخوة, لا بد أن تقرأ البخاري وغير البخاري، وتوطن نفسك على أنك سوف تكون عالماً، يخرج الله بك الأمة من ظلمات الجهل، لعلنا نكتفي بهذا، وإن كان في أسئلة وإلا شيء، نأخذ منها شيئاً يسيراً، والوقت ضيق، يعني قد تأخرنا على الإخوان ما ودنا عاد نملهم أكثر من هذا.
يقول: بعض طلاب العلم يتبجح بالتفرغ لطلب العلم، ثم هو لا يقوم بالدعوة والإنكار مع حاجة الناس الآن إلى ذلك فما توجيهكم؟
على كل حال العمل لا بد منه، والعمل منه القاصر، ومنه المتعدي، فمن القاصر الإكثار من النوافل، نوافل الصلاة والصيام والذكر وغيرها، ومن النفع المتعدي الدعوة، والأمر والنهي، وأهل العلم يقررون في الجملة أن النفع المتعدي أولى من القاصر، فعلى طالب العلم أن يبذل من نفسه ما يستطيع، وعليه أن يعرف قدر نفسه.
يقول: هل من المناسب لطالب العلم أن يترك الدرس عند الشيخ في بعض الحالات عند الحاجة للدعوة أم ماذا؟(29/24)
عليه أن يجمع بين طلب العلم والنفع العام من دعوة وأمر ونهي، على أن يكون في أول الأمر الحظ الأكبر والنصيب الأوفر للعلم، ثم بعد ذلك يتفرغ للعمل.
يقول: ألا تلاحظ أن بعض الناس لديه همة في تحطيم الهمة، فلا يعين صاحب الهمة في عمله ويحطمه فما نصيحتكم لهؤلاء؟
نعم، نسمع من بعض الناس: الله المستعان, الدنيا تغيرت، والأوقات نزعت البركة منها، والآن إيش تبي تسوي؟ أنت عندك سيارة, وعندك جوال، وعندك بيت، وعندك أسرة، وعندك تكاليف، وعندك أجور، وعندك فواتير، إيش تطلب العلم؟ نعم، ومع ذلك تطلب العلم بكل ارتياح، ويسر لك من الأسباب ما لم يتيسر لمن سمعنا أخبارهم.
يقول: ما رأيكم فيمن ينتقص ابن حجر والنووي ويقول: أنهم من أهل البدع فلا نقرأ في كتبهم؟
نقرأ في كتبهم، ومع ذلك لا يسلمون من شوب بدعة؛ لكن مع ذلك النفع الكبير في كتبهم وأثر هذه البدع في كتبهم مغمور بالنسبة لما اشتملت به من علم ونفع، من يستغني عن فتح الباري، وشرح مسلم، أو المهذب؟ ومع ذلك لو تولاها أهل العلم بالتعليق عليها، وبيان هذه الأخطاء، كما فعل شيخنا في أوائل فتح الباري.
يقول: هنالك هجمة شرسة على الشيخ الألباني نرجو تبين رأيك فيه ومؤلفاته؟
الشيخ الألباني -رحمة الله عليه- يعد من المجددين في علم الحديث، فإذا نظرنا إلى أعماله -رحمه الله- ومؤلفاته ودعوته إلى التمسك بالسنة، وإحياء السنة على مقدار نصف قرن، أو أكثر من الزمان، نجزم يقيناً بأنه من المجددين، هذا من حيث الرواية، وأما من حيث الدراية فالتجديد فيها لشيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله-، ومؤلفات الشيخ الألباني -رحمه الله- لا يستغني عنها طالب علم.
يقول: الإنسان إذا كان في أمر معين مثل طلب العلم هل يحجم عما لم تكن فيه همة فيه كالدعوة إلى الله؟
هذا تقدم قلنا: لا بد أن يجمع بين هذا على أن يكون النصيب الأكبر في أول الأمر للعلم والتعلم ثم بعد ذلك النفع.
يقول: سمعنا أن لكم تحقيقاً لفتح الباري وكتب مخطوطة فمتى نرى شيء من إنتاجكم؟
على كل حال لنا تعليق قديم على فتح الباري منذ أكثر من ربع قرن؛ لكنه يحتاج إلى إعادة نظر.(29/25)
يقول: أنا شخص لدي همة لا بأس بها ولكن لم أتمكن من تنظيم وقتي، وكلما نظمته أصابني التفكير في أمور والهم في بعض الأشياء مما يجعلني في بعض الأحيان لا أنام إلا الفجر؟
على كل حال عليك أن تنظم، والترتيب أمر لا بد منه، والتخبط هذا مضيعة للوقت دون جدوى، فمثل ما عندك جدول في الجامعة ضع عندك جدول في البيت، وإذا استشرت عليه من أهل الخبرة والمعرفة من يعينك علي ذلك فهو طيب.
يقول: أنا طالب في كلية الشريعة وأريد أن تبين لي كتب استفيد منها فائدة عظيمة لأقرأها لتزيد من همتي لطلب العلم وحضور الدروس؟
مثل ما ذكرت سير هؤلاء ألائمة أصحاب الهمم العالية إذا قرأتها وتصورت الهدف الذي من أجله تطلب العلم هان عليك كل شيء.
يقول: أنا سوف أتخذ حرفة ارتزق منها في الأيام المقبلة بإذن الله وأريد أن أكون عالماً من علماء الأمة فهل بإمكاني الجمع بينهما أم يشترط لذلك التفرغ للعلم؟
كثير من علماء الإسلام لهم إنجازات ولهم مصادر يتعيشون ويتقوتون منها؛ لكن النصيب الأكبر للعلم، وعليك بالإخلاص.
يقول: همتي لا بأس بها -ولله الحمد والمنة- ولكن تضعف جداً في عدم الترتيب وتقديم الأولويات والتشتت؟
مثل هذا ذكرنا أنه لا بد من جدول، ولا بد من ترتيب للأوقات، وترتيب للكتب التي تقرأ، وكيف تقرأ، وهذه شرحت في مناسبات كثيرة، وفي أشرطة متعددة.
يقول: مشكلتي هي كثرة النوم صحيح أني أعمل وأدرس أو أُدرس بجدية؛ ولكن يذهب عليّ ساعات كثيرة في النوم وقد جاهدت نفسي لأكثر من سنة؛ ولكن بدون جدوى فماذا تنصحني؟
لا شك أن كثرة النوم مرض يحتاج إلى علاج فتراجع فيه الأطباء.
يقول: أعاني من كثرة الهواجس والخواطر والانشغال الذهني بأمور الدنيا فهل هنالك وسيلة لتصفية الذهن وجعل الهواجش والخواطر أشياء مفيدة كمراجعة مسألة وتدبر آية وحديث؟
على كل حال نفسك إن لم تشغلها بالخير شغلتك بالشر، وإن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل، فاقطع عليك هذه الهواجس وهذه الخواطر بالذكر والقراءة بالتدبر، وشغل الوقت ومغالبة الشيطان؛ لأن الشيطان يريد أن يصدك عن الأعمال الصالحة.(29/26)
يقول: لدى بعض طلبة العلم همة عالية لكنهم يسيرون في طلبهم بغير خطة واضحة وتجدهم يترددون بين العلوم تارة يدارسون الفقه، وتارة الحديث، وأخرى بغيرهما، ثم لا يحسنون هذا ولا ذاك فماذا تنصحهم؟
مثل ما ذكرنا أنه لا بد من الترتيب للأوقات والكتب والأولويات كيف تقرأ؟ وهل أنت ممن يتشتت ذهنه إذا قرأ أكثر من علم في آن واحد؟ أو أنت ممن يمل إذا حصر ذهنه في آن واحد؟ خذ ما يناسبك أما بكثرة الكتب أو الانحصار في كتاب واحد.
يقول: كيف اضبط برنامجي لطلب العلم علماً أن الدوام الرسمي لدي يبدأ من السابعة إلى الثالثة تقريباً؟
على كل حال من عرف الهدف هان عليه كل شيء، فأنت تأخذ من وقتك وتقتطع منه ما يكفيك لطلب العلم ومن شيوخنا الآن الموجودين من يداوم من الدوام من الثامنة إلى الثانية والنصف، ومع ذلك له أكثر من درس في اليوم، ويقرأ القرآن في ثلاث، ويتبع الجنائز، ويزور المقابر والمستشفيات، ويصل الأرحام، ويضرب في كل باب من أبواب الإسلام بسهم، فالمسألة مسألة عود نفسك.
يقول: أنا شاب أسأل الله أن يوفقني لطلب العلم، وأنا من فترة أطلب العلم وأحفظ المتون فاشعر أنني أصلحت نفسي، وسلكت طريق الصواب المشكلة أنني بين فترة وفترة أقع في معاصي أظنها من الكبائر فتفسد عليّ حفظي، وأخشى أن تحبط عملي، خصوصاً أنها ذنوب خلوات وأشعر أنني منافق، فأنا أمام الناس طالب علم، ثم أسقط في مثل هذه الذنوب العظيمة؟
عليك أن تصدق مع الله -جل وعلا-، وأن تلجأ إليه أن يعصمك من هذه المعاصي، وأن تقطع جميع الوسائل الموصلة إلى هذه المعاصي، وأن تشغل نفسك بما ينفعك.
يقول: نود من فضيلتكم نصيحة للعجب ما الحل؟
ذكرناها في الآفات التي تعوق دون طلب العلم.
يقول: ما نصيحتكم لمن أراد البداية في القرأة في الكتب فما هي الكتب التي تنصحون بالقرأة فيها؟ أو أي كتاب يقع في يدي اقرأه؟
لا، المسالة تحتاج إلى ترتيب أولويات، فطالب العلم لا يبدأ بفتح الباري، ثم بعد ذلك ينقطع؛ لأنه كتاب متين وطويل، يعني لو بدأ بالكرماني أو شرح النووي على مسلم، هذه كتب سهلة، تنتهي بسرعة، بعد ذلك الطالب يتشجع لقراءة ما بعدها.(29/27)
يقول: فترت همتي بعد أن من الله على بحفظ القرآن وبعض المتون كالأصول الثلاثة والتوحيد وعمدة الأحكام وبلوغ المرام والشاطبية وغيرها ثم توقفت فلم أراجعها ولم أجد توجيه فيما أحفظ بعد ذلك؟
على كل حال عليك بالمراجعة؛ لأن مراجعة الحفظ أشد من الحفظ، تعاهد الحفظ أشد من الحفظ، وجاء الأمر بتعاهد القرآن، وجاء أيضاً الترهيب من حفظ القرآن ونسيانه، فعليك أن تراجع.
يقول: إذا سمع الشخص هذه الآثار عن السلف الصالح قال في نفسه: أولئك أقوام لا نقارن بهم. . . . . . . . . فكيف يجاب عن هذه الاشياء؟
نقول: هم رجال، في هذا الباب لا تطاول عليهم، وتقول: تخالفهم في الأقوال وأنت مازلت في الآراء، وتقول: كما قيل: هم رجال؟ لا، عليك أن تتواضع، وتعرف أقدار الناس، وأن تنزل الناس منازلهم، ومع ذلك تعرف أنهم ركبوا من لحم ودم وعظم، فأنت تستطيع كما استطاعوا بالهمة العالية.
يقول: أنا عندي برنامج يومي للحفظ وقراءة الكتب الفقهية، وحضور الدروس ولكن أجد نفسي أحب الاطلاع على الأمور السياسية وقراءة الكتب في ذلك والروايات والمذكرات هل في ذلك معارضة ودنو همة؟
على كل حال الاستجمام بمثل هذه الأمور يعني بقراءة كتب التواريخ والأدب والاطلاع على بعض الأخبار لا بأس؛ لكن أن يصرف الوقت كله لهذه الأمور، لا، يعني بعض الناس عنده إستعداد يقرأ عشر صحف في اليوم منذ أن ينتهي من الدوام أو الدراسة إلى قدوم النوم، وهو من صحيفة إلى جريدة إلى مجلة، ومن قناة إلى غيرها هذا أضاع نفسه، والصنعاني لما قرأ النخبة ونظمها في يوم واحد في مائة بيت، تصور نفسك مثل الصنعاني، ما جاء بمحال أربع وعشرين ساعة اليوم:
طالعتها يوماً من الأيامِ ... فاشتقت أن أودعها نظامي
فتم من بكرة ذاك اليومِ ... إلى المساء عند قدوم النومِ
بعض الناس إلى قدوم النوم وهي في هذه المجلات والجرائد والصحف والقنوات نسال الله العافية.
يقول: ما رأيكم في من يأخذ العلم عن طريق الأشرطة ويكتفي بها دون حضور الدروس؟(29/28)
لا شك أن الأصل حضور الدروس والاهتداء والاقتداء بسمت العلماء قد يكون أنفع لطالب العلم من مجرد سماع كلامهم، ومع ذلك الذي لا يستطيع الحضور، ويأخذ على الأشرطة، ويفرغ على المتون، ويفرغ على الأشرطة ويتابع الدروس هذا لا شك أنه خير عظيم.
يقول: كيف يتم الجمع بين الارتباط بين أصحاب أخيار وبين حفظ الوقت؟
نعم مع أصحاب أخيار جادين؛ لأن بعض الأخيار مع الأسف الهزل عليهم غالب مثل هؤلاء يضيعون عليه الوقت.
يقول: أشكو من زوجتي مع أنها صالحة -والحمد لله- إلا أنها لا تعينني على طلب العلم وتضجر من كثرة التردد على الدروس وانشغالي بالقراءة فكيف أتعامل معها؟ وكيف أقنعها بأهمية ما أنا عليه؟
على كل حال زوجتك لها حقها، لها وقتها، لها قسمها، ولها عليك من الحق ما أوجبه الشرع، فلا يجوز لك أن تقصر في حقها، وماعدا ذلك فأنت صاحب الشأن عليك أن تصرف بقية الوقت فيما ينفعك، وإذا حاولت وجاهدت أن تكون لك عوناً لك على طلب العلم بأن تدعوها هي لطلب العلم ببيانِ فضل العلم، ومنازل العلماء ممكن أن تكون خير عون لك، وأعرف شخص من الإخوان من طلاب العلم تزوج امرأة، وهي أيضاً عندها مبادئ تحصيل، درست في المدارس النظامية، فضجرت منه، وأخذت تكرر عليه: علم علم كل الوقت، ثم يقول: مع الوقت أدعوها وأترفق بها إلى أن ضجرت منها، الله المستعان.
وصلي الله وسلم وبارك على رسوله ونبينا محمد وعلي آله وصحبه أجمعين.(29/29)
وصايا لطالب العلم
الشيخ/ عبد الكريم الخضير
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
ففي اللقاء السابق تحدثنا عن فضل العلم، وأهميته في حياة المسلمين، وما جاء من النصوص في فضل العلماء، وشدة الحاجة إليهم، وأنه لا يستغني عنهم إلا من استغنى عن الدين، لا يستغني عن العلماء إلا من استغنى عن الدين.
فكما أنه لا يستغني عن المُزارع إلا من استغنى عن الدنيا، فكذلك لا يستغني عن العلماء إلا من استغنى عن الدين.
وبيان ذلك أننا لو افترضنا بلداً لا عالم فيه يفتي الناس، ويعلمهم ما يجب إليه عليهم، ويبين لهم ما نزل إليهم ولا يقضي بينهم، ويحل مشاكلهم وخصوماتهم، لما وجد الفرق بين المجتمع المسلم وغيره.
والعلماء مثلوا بالمصابيح، وأبو بكر الآجري في أخلاق العلماء صور ذلك تصويراً دقيقاً بليغاً، بحيث لو وجد جمع من الناس يسيرون في ليلة شديدة الظلام في وادٍ مسبع، فيه سباع وهوام، والظلام شديد، فلا يدري الإنسان من أين يؤتى؟ أيؤتى من تحته أم من بين يديه؟ أم من خلفه؟ فهذه حية تنهشه، وهذا سبع يقضمه، ثم جاءهم من معه مصباح أضاء لهم الطريق حتى أخرجهم من هذا الوادي، وهذا مثل العالم الذي يبين للناس كيف يسيرون إلى الله -جل وعلا-؟.
كل طريق يمكن قطعه بدون دليل وإن احتفت به المخاطر إلا هذا الطريق الموصل إلى الله -جل وعلا-، فلا يمكن قطعه إلا بواسطة أهل العلم.(30/1)
فالذي يزهد في أهل العلم لا سيما من رسخ قدمه، وعرف بالعلم والعمل لا شك أنه يزهد في الدين، ونرى مع الأسف في بعض المنتديات، وبعض المجالس، وفي بعض المحافل، من أخذ راحته في أعراض أهل العلم، وهذا لا شك أنه يقلل من قيمته ومن شأنه، فإذا كان العلم بهذه المثابة، وإذا كان العلماء بهذا الثقل، فلا بد لهم من وراث وهم طلبة العلم الذي يحملون عنهم العلم، وهم أنتم وأمثالكم، والحمد لله الأمور تبشر بخير، رغم ما يوجد من ظلام حالك في على وجه الأرض، لكن يوجد -ولله الحمد- مراكز توجه الناس وترشدهم على الجادة، ويوجد أيضاً فيمن يحمل هذا العلم عن هؤلاء العلماء الجلة، وفيهم كثرة ولله الحمد وعلى الجادة، كان الأمر قبل سنين في الغالب مجرد عواطف، إن وجد محاضرة عامة عاطفية تهيج المشاعر اجتمع الناس لها، وإذا وجد العلم الصحيح الأصيل قال الله وقال رسوله على الجادة المعروفة عند أهل العلم لا تجد إلا النزر اليسير، والآن -ولله الحمد- العكس يوجد طلاب في حلقات التعليم بالمئات بل بالألوف في بعض الأحيان، وهذا يبشر بخير، وهذه رجعة إلى المسار الصحيح للتحصيل.(30/2)
ولست بحاجة إلى أن أبين لكم ما ورد من النصوص في فضل العلم، من ذلك ما سمعناه في قراءة إمامنا جزاه الله خير، {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [(122) سورة التوبة] وهذه الجامعة العريقة تمثل تطبيق هذه الآية، فمن كل بلد من بلدان المسلمين نفرت طائفة قلوا أو كثروا، وطائفة تطلق على الجماعة كما تطلق على الواحد، فهذا فيه امتثال لهذا التوجيه الإلهي، ولم يؤمر النبي -عليه الصلاة والسلام- بالاستزادة من شيء إلا من العلم، كما قرأ إمامنا في الركعة الثانية قول الله -جل وعلا-: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [(114) سورة طه] وجاء في الحديث الصحيح عن النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((من يرد الله به خيراً يفقه في الدين)) ونحتاج من هذا أن نوضح المراد بالفقه في الدين لا كما يفهمه بعض الناس الذين صبت عنايتهم إلى معرفة الأحكام من الحلال والحرام، وهذا في غاية الأهمية في حياة طالب العلم؛ لكنه باب من أبواب الدين، وأهم منه ما عرف عند علماء الأمة بالفقه الأكبر.
المراد بالفقه في الدين هنا، الفقه في الدين من جميع أبوابه، ولذا لما سأل جبريل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الإيمان والإسلام والإحسان في النهاية في آخر الحديث قال: ((هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم)) فالفقه في الدين هو العلم بالدين بجميع أبوابه.
فإذا كان بعض أبواب الدين مهملاً بين بعض المتعلمين فعليهم أن يلتفتوا إليه، إذا كانت الأبواب التي كانت في غاية الأهمية من سلف هذه الأمة التي تدعو طالب العلم إلى العمل بعلمه، كانت محل عناية أهل العلم من المتقدمين أمثال الرقاق والحكم والاعتصام، وغيرها من أبواب الدين التي تدعو طالب العلم وتحثه على العمل بعلمه فهي كالسياط تسوقه سوقاً إلى العمل بما تحمله من علم الحلال والحرام.(30/3)
في اللقاء السابق ذكرنا بعض المعالم والمنارات التي قد يستضيء بها طالب العلم، وفي مناسبات كثيرة ذكرنا بعض العوائق التي تعوق عن التحصيل، ذكرنا أيضاً مفاتيح تفتح الآفاق أمام طالب العلم، وفي نقل عن سفيان بن عيينة بمناسبة المفاتيح وقفت عليه بالأمس، يقول سفيان: "أول العلم الاستماع، ثم الفهم، ثم الحفظ، ثم العمل، ثم النشر".
أول العلم الاستماع: لا بد أن يصغي طالب العلم إلى شيخه، مع الأسف يوجد من طلاب العلم وهذا يظهر جلياً في التعليم النظامي، تجد طالب حاضر عندك وأنت تشرح في كلام الله وكلام رسوله -عليه الصلاة والسلام- وهو ينظر في كتاب آخر، طيب مالك يا فلان منصرف؟ والله عندنا امتحان في المحاضرة التي تلي هذه، هل هذا عذر؟ بأن ينصرف طالب العلم عن العلم الشرعي، هذا ليس بمبرر، وقد تجد أسوأ من ذلك بعض الطلاب يحضر كتب لا علاقة لها بالعلم، وأحياناً تجد وإن كان على ندرة وقلة في الكليات الشرعية تجد جرائد، هذا لا شك أنه يبعث على الأسى في صفوف المتعلمين؛ لكن لا نجد مثل هذا في دروس المساجد وفي حلق العلم الذين جاءوا برغبة خالصة للتحصيل، قد يوجد من ينشغل بجوال مثلاً، وهذا ليس من الأدب في حلق التعليم، ينشغل بجوال، كل شوي النغمات، والرنات، هذا أيضاً ينبغي أن يجتنبه طالب العلم، عليه أن يستمع لشيخه، ويهتم بما هو بصدده من تحصيل هذا العلم الذي جاء من أجله، وتفرغ وتكلف العناء من أجله، يستمع، فأول العلم الاستماع، وفرق بين الاستماع والسماع، الاستماع مع قصد، الاستماع والفهم لما يلقى من أجل أن يثبت في الذهن ويرسخ، وأما مجرد مرور الكلام على السمع من غير قصد للاستماع هذا لا يجدي شيئاً، ولذا يقول أهل العلم في سجدة التلاوة: يسجد المستمع دون السامع" ولذا لو مررت وأنت في طريقك، ومر بجوارك سيارة ثانية، وصاحب السيارة شغل الأغاني ورفع عليها، فسمعت هذه الأغاني، أنت لا تلام، تلام إذا استمعت، أما إذا مجرد السماع مروره على أذنك من غير رضاً به، لا تلام على ذلك، إنما عليك أن تنكر؛ لكن كونك تؤاخذ بأنك سمعت الغناء فلا تؤاخذ، فأول العلم الاستماع.(30/4)
وعلى طالب العلم أن يصغي لشيخه وما يلقيه، ثم الفهم، إذا استمع للشيخ وذكر الشيخ جملة من الجمل، هذا الطالب بحاجة إليها؛ لأنه من العلم الذي تفرغ من أجله، هل فهم هذه الجملة؟ الشيخ مطالب بأن يكرر هذا الكلام حتى يحفظ، حتى يفهم، كان -عليه الصلاة والسلام- إذا تكلم تكلم ثلاثاً حتى يفهم عنه، فالشيخ يكرر، هذا واجبه، بأسلوب، فإذا لم يفهم بأسلوب آخر، ليتمكن الطالب من الفهم بأسلوب ثالث، لئلا يمل الطالب من تكراره عليه بحروف واحدة؛ لكن واجب الطالب الفهم، وظيفة الطالب الفهم عن الشيخ إذا فهم من أول مرة الحمد لله، ما فهم المرة الثانية، الثالثة، ما فهم بعد ذلك يطلب يستزيد من الشيخ أن يفهمه ويوضح له، وكثيراًَ ما يستثبت طلاب العلم في حلقات العلماء السابقين مع كثرتهم، يستثبت بعضهم من بعض، فاته كذا، خفي عليه كذا، غفل عن الجملة كذا، حتى يفهمها، إن لم يفهمها من الشيخ فهمها من زميله.
ثم الفهم يقول، ثم الحفظ، إذا راجعت بعد أن استمعت وبعد أن فهمت احفظ؛ لأن الاستماع ثم الفهم يعين على الحفظ، يعين على الحفظ، ولذا يوصي بعض العلماء أن يحفظ القرآن مع التفسير، القرآن يحفظ مع التفسير، من أجل أنك إذا فهمت سهل عليك الحفظ، فيصعب على الإنسان أن يحفظ كلام لا يفهمه.(30/5)
دعونا من مرحلة الصبا، لا نحن تجاوزنا مرحلة الصبا، في مرحلة الشباب، في مرحلة الفهم الآن، فإذا فهم الطالب المقطع الذي يريد حفظه سهل عليه حفظه، ومع ذلك يستعين بيمينه، إذا لم يستطع أن يحفظ من أول مرة، بعد أن يفهم مرتين، ثلاث، بعض الناس يتفاوتون في الفهم، بعضهم بطيء الحفظ أيضاً، فإذا كان من النوع بطيء الحفظ بعد أن يفهم عليه أن يستعين بيمينه، يكتب هذا المقطع مرة، مرتين، ثلاث، من أجل إيش؟ أن يحفظ الكتابة عن قراءة القطعة عشر مرات، وهذا مجرب، فإذا فهم ونفرض في التفسير مثلاً عنده خمس آيات، راجع تفسير هذه الآيات الخمس في تفسير موثوق به، في تفسير ابن كثير، تفسير ابن كثير أحياناً يتشعب بك بسبب كثرة الروايات، وكثرة الطرق فتتشوش، أنت تتشوش من الكثرة، اختصر، اختصر الكلام فأنت مع فهمك للقرآن يسهل عليك حفظه، ثم بعد ذلك إذا اختصرت ما يتعلق بهذه الآيات الخمس من تفسير ابن كثير، أو من غيره من التفاسير، إذا كنت لا تحسن الاختصار عليك بالمختصرات، أمثال تفسير الشيخ فيصل بن مبارك (توفيق الرحمن لدروس القرآن) خلاصة ولب للتفاسير الأثرية الثلاثة: لابن جرير والبغوي وابن كثير، هذا خلاصتها، يستفيد منه طالب العلم في فهم القرآن، وإن كان لا يستغنى بها غيره.
بعضهم يرى أن قراءة كتب التفسير تعوق عن مواصلة الحفظ، لكن لا بد من الفهم، نعم الصحابة كيف تعلمون القرآن؟ لا يتجاوزون العشر الآيات حتى يتعلموا ما فيها من علم وعمل، حتى تفهم وتحفظ، يسأل عما يشكل منها فيتعلمون العلم والعمل جميعاً.
فطالب العلم إذا عني بهذا المقطع خمس آيات عشر آيات، حسب قوة حافظته وضعفها بعد ذلك يحفظ، يحفظ هذا القدر ويسهل عليه حفظه، إن استطاع حفظه بالتكرار، وإلا بعض الناس مع التكرار يشرد ذهنه، مثل هذا يقيد، يستعين بيمنيه، ويكتب، يكتب مرة، مرتين، ثلاث، والجهد لم يضيع.(30/6)
بعد ذلك، بعد الحفظ العمل، والعمل من أعظم وسائل تثبيت العلم والعلم بدون عمل لا قيمة له؛ لأن القرآن ما أنزل إلا للعمل، والنبي -عليه الصلاة والسلام- بين ما نزل إليه في سنته من أجل أن يعمل به؛ لأن البيان يكون للمجمل، والمجمل لا يمكن أن يعامل به {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ} [(43) سورة البقرة] وبعدين؟ كيف نقيم الصلاة؟ ببيانه -عليه الصلاة والسلام- بقوله وفعله، ((صلوا كما رأيتموني أصلي)) حصل البيان، وعرفنا هذا البيان، ثم لم نعمل به إيش الفائدة؟ علم بدون عمل كشجر بلا ثمر، نخلة فحل لا تنبت بمفردها للزينة ما الفائدة منها؟ أو من الشجر الذي يجعل كالمنظر في الشوارع وفي بيوت بعض العلية من القوم، هذه لا قيمة لها، مثل العلم بلا عمل، إن كان يتخذ العلم لا للعمل بل للزينة كما تتخذ هذه الأشجار، هذه حقيقة مرة، هذه حجة على من تحمل هذا العلم، فعلى طالب العلم أن يعمل بما يعلم، ويذكر هنا من باب أنه من أعظم ما يعين على تثبيت العلم وترسيخه في الذهن.
ثم النشر، إذا تعلم استمر فهم، حفظ، عمل بنفسه، نشر علمه، نشر علمه للآخرين؛ لكي يستفاد منه، و ((لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)) وتصور أن بعض الناس تجرى لهم الأجور مئات السنين، كيف تجرى لهم مئات السنين؟ ((أو علم ينتفع به)) ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث. . . . . . . . . أو علم ينتفع به)) طيب انتفع هذا الجيل وانقرضوا؛ لأن بعض الناس يقول: العلم الذي ينتفع به خاص بالتصنيف، هو الذي يستمر، أما بالنسبة للتعليم ينقطع بانقطاع الجيل الذي علمته، بعد ذلك ينتهي، لا يا أخي ما ينتهي، فضل الله واسع، أنت علمت زيد، ومعه مائة من الطلاب، زيد هذا علم مائة، وهؤلاء أجورهم مثبتة لزيد، وأجورهم وأجور زيد مع أجورهم تثبت في أجرك أنت، فالأمر عظيم جداً، وفضل الله -جل وعلا- لا يحد؛ لكن نحتاج إلى أن نطلب العلم بنية خالصة، ونتعلم وننشر ونعلم ونؤلف بنية خالصة صالحة؛ لأن العلم الشرعي من أمور الآخرة المحضة، التي لا تقبل التشريك، فإما أن يكون مع السفرة الكرام البررة، مع النبيين والصديقين، وإما أن يكون من أول من تسعر بهم النار، نسأل الله السلامة والعافية.(30/7)
فعلينا أن نعنى بهذا الشأن، ونخاف منه أشد الخوف، فالنشر لا شك أنه يوسع دائرة الأجر، فلك أجرك ولك عملك، ولك أجر من دللته على الخير والدال على الخير كفاعله، والنشر يكون بالتعليم والتعليم من أقوى وأعظم وسائل التحصيل، المعلم أول ما يبدأ بالتعليم، يعني علومه محدودة بقدر ما حفظه وفهمه عن شيوخه، ومن مفحوظاته؛ لكن إذا علم الناس لا شك أن علومه تنمو وتزداد، وبركة آثار العلم تظهر عليه مع النية الصالحة الخالصة، وإلا إذا لم يعلم غيره لا يلبث أن ينسى ما تعلمه، ولنا عبرة بمن تعلم وتسلم المناصب العليا، وكان يشار إليه بالبنان، يشار إليهم، علماء كبار، ثم بعد ذلك تركوا التعليم وانصرفوا عنه، نعم هم على خير، وعلى ثغور في مصالح العامة؛ لكن مع ذلك تركوا التعليم، فانحسر علمهم، أخذ يتراجع، والنسيان آفة من آفات تحصيل العلم، النسيان معروف ما سمي الإنسان إلا لنسيانه.
وكثير من الطلاب الذين مروا علينا أثناء التدريس في الجامعة نوابغ، وتجدهم مع الأوائل، وتسأل في القاعة وفي الفصل تجدهم ما شاء الله مبرزين في تحصيلهم، وقد فاقوا أقرانهم؛ لكن يتوظف بعد التخرج بوظيفة إدارية شأنه الكتابة، نعم الكتابة ما ينسى الكتابة؛ لأنه يزاول الكتابة؛ لكن العلم إذا مضى عليه سنة نسي قدر من علمه، سنتين ينسى أكثر، ثلاث سنوات ينسى، خمس سنوات عشر سنوات يعود عامي أو في حكم العامي، فعلينا أن نتابع التحصيل والنشر، التعلم والتعليم.
فالتعلم لا حد له، "تفقهوا قبل أن تَسُودُوا"، أو "تُسوّدوا"، قال أبو عبد الله البخاري: "وبعد أن تسودوا" لأنكم إذا سودتم ووقفتم على الحد نسيتم ذلك.
يقول: "فإذا استمع العبد إلى كتاب الله تعالى وسنة نبيه -عليه الصلاة والسلام- بنية صادقة على ما يحبه الله"، يعني على الجادة المعروفة المأثورة عن سلف هذه الأمة، المبنية على الدليل على ما يحبه الله، ألهمه كما يحب، وجعل له في قلبه نوراً، فهو ينظر بنور الله.
هناك أمور ولا أريد أن أكرر ما ذكرته في اللقاء السابق، ولا ما ذكرته في مناسبات وسجلت وتداولها الإخوان من كلام؛ لكن عندنا فيما يتعلق في ظرفنا الذي نعيشه:
- واجب طالب العلم في أوقات الفتن.(30/8)
- وعندنا أيضاً: مسئولية حمل العلم وتبليغه.
- وأيضاً: فقه تطبيق العلم.
هذه مسائل لا بد أن نكون على بصيرة منها.
واجب طالب العلم في أوقات الفتن:
عليه أن يعتصم بكتاب الله وسنة نبيه -عليه الصلاة والسلام-، والعصمة من هذه الفتن بالاعتصام بالكتاب والسنة، ويقلل بقدر الإمكان إلا بقدر الحاجة، إلا بقدر ما يُحتاج إليه من الأمور التي يخوض فيها الناس، يقلل منها، ويقتصر منها على قدر الحاجة، بعض الناس في أوقات الفتن، والفتن مذهلة، والإنسان متشوق إلى أن يعرف ماذا حصل؟ وماذا قيل؟ وماذا قالوا؟ تجده يقضي من وقته أكثر من نصف الوقت في الجرائد والمجلات والمواقع والقنوات، ماذا قال فلان؟ وماذا قيل عن فلان؟ على أمور هي لا شيء إن لم تضر لم تنفع، نعم ينبغي أن يعرف الإنسان ما يدور حوله بقدر الحاجة، وأن يكون ديدنه كتاب الله وسنة نبيه -عليه الصلاة والسلام-، وما يعين على فهم الكتاب والسنة، وأن يُعنى بالعبادات الخاصة، يُعنى بالعبادات الخاصة مثل الذكر، سواءً كان المطلق أو المقيد في أوقات خاصة أو على العموم في جميع الأوقات، ومثل تلاوة القرآن على الوجه المأمور به.(30/9)
وأيضاً الصلاة، يكون له نصيب من الصلاة، وأيضاً الصيام، وغير ذلك من العبادات المتنوعة التي جاءت النصوص بفضلها، ((والعبادة في الهرج كهجرة إلي)) كما في الحديث الصحيح، فعلينا أن نهتم بهذا الأمر ونعنى به، ونلتف على أنفسنا، ونصلح ما فيها من خلل، ونعنى بأمراض القلوب كي نعالجها من كل ما جاءنا في شرعنا، ولا نحتاج إلى غيره، لا نحتاج إلى أن فلان العالم النفساني الأمريكي قال كذا، أو البريطاني قال كذا، لسنا بحاجة، عندنا العلاج لكل داء، {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء} [(82) سورة الإسراء] شفاء لإيش؟ لأدواء القلوب وأمراضها، ولأدواء الأبدان أيضاً، وأمراضها، فعندنا الشفاء، وفي كلام أهل العلم ما يعين على ذلك، وللإمام المحقق شمس الدين ابن القيم من ذلك القدح المعلى، وكتبه مملوءة من هذا الشيء، فيعنى بها أيضاً؛ لأنها تعين على فهم الكتاب والسنة، فعلى الإنسان أن يهتم بأمر العمل، وإذا صدق اللجأ إلى الله -جل وعلا- أعانه على كل ما يريد من علم وعمل.
مسئولية حمل العلم وتبليغه:
سمعنا في الآية: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ} لماذا؟ إذا أنذروهم إيش يترتب على هذا؟ {لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [(122) سورة التوبة] يحذرون مما يُخاف، أمام الإنسان مخاوف، أمامه مخاوف في دنياه، فتن الدنيا، وأمامه أيضاً فتنة القبر، أمامه فتنة في المحيا، أمامه فتنة في الممات، أمامه أيضاً إما نعيم دائم لا ينقطع، أو عذاب سرمدي لا ينتهي، فيحمل هذا العلم بإخلاص وصدق، ويبلغه قومه إذا رجع إليهم، والنتيجة {لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} وبعض الإخوان كما بلغنا قام بهذا على خير وجهه في بلده فرجع، وبعضهم انشغل بأمور الدنيا وأمور المعاش وعاد كغيره، ولا أثر له في المجتمع، وسمعنا مسألة تبليغ العلم ونشر العلم، وما يترتب عليه من عظائم الأجور.(30/10)
فالعلم مسئولية عظيمة، لا بد من تبليغها، ((بلغوا عني ولو آية)) ((نظر الله امرأً سمع مني حديثاً فوعاه، ثم ألقاه كما سمعه)) فلا بد من تبليغ ما سئل، أبو هريرة لما انتقد في كثرة التحديث قال: "لولا آية في كتاب الله ما حدثت، {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللهُ} [(159) سورة البقرة] فالكتمان أمره عظيم، إيش معنى أني أحفظ القرآن وأنام عنه؟! إيش معنى أنني أحمل العلم ولا أبلغه للناس؟! هذا وبال على صاحبه.
فقه تطبيق العلم:
عرفنا أنه لا بد من تطبيق العلم، وأن العلم بلا عمل كشجر بلا ثمر، عندنا مسألة نحتاج إليها، كثير من الإخوان يحرص على التعلم، وما وجدت هذه الجموع إلا من أجل هذا، والحرص دليل على إرادة الله -جل وعلا- للإنسان الخير، ومع ذلك يحرص على التطبيق، تطبيق العلم، وهو الثمرة المرجوة من العلم؛ لكن قد يخفى على بعض طلاب العلم فقه التطبيق.(30/11)
إيش معنى فقه التطبيق؟ حمل حديثاً يتضمن سنة، فعلم هذا الحديث، حرص على تطبيقه وطبقه بالفعل؛ لكنه لم يفقه ما يحتج بهذا الحديث من معارض مثلاً، فعلى سبيل المثال: طالب علم عرف ما جاء في التراص في الصفوف في الصلاة، وأن الصحابة كانوا يلصقون أقدامهم بأقدام من جاورهم في الصلاة، التراص في الصف أمر جاء الحث عليه، ((لا تدعوا فرجات للشيطان)) لكن مع ذلك هل نفقه أن نطبق هذا، بعض الناس يظن أن التطبيق لا يحصل إلا بالجفاء، حتى أنه وجد من -من حرصه على تطبيق السنة- لكن مع عدم الفقه لتطبيقها من يكون بعض أصابع جاره تحت قدمه، موجود هذا، ووجدت ردود أفعال ممن حصل معهم بعض هذه القضايا؛ لأن ربى بعض الأظافر لمثل هذا، هذه كارثة، هل هذا تطبيق لسنة؟ هذا حريص على تطبيق السنة، ويلصق القدم بالقدم؛ لكن ليس معنى هذا أنك تؤذي جارك، وتطأ على رجله، وإلا. . . . . . . . .، هذا شيء، بعض الناس ما يتحمل، تصير قدمه عندها شيء من الحساسية، يعني إذا وجد طالب علم مشهود له قطع صلاته من أجل إيش؟ خيط رفيع جداً ينزل من ثوبه على قدمه، وهو حساس شديد الحساسية، خرج قطع الصلاة، ظنه حشرة أو شيء، فكيف من يجعل بعض الأصابع تحت قدمه؟ وإذا سجد جافى بين عضديه حتى يضر بالآخرين، يا أخي ما هكذا تطبيق السنة، أنت مطالب ألا تدع فرجة للشيطان؛ لكن بقدرها، والمحاذاة ليست بالأقدام فقط، ولذا بعض الناس يظن أن الحل في عدم ترك الفرج بأن يفحج بين رجليه، يجعل بدل ما حجمه. . . . . . . . . في الأصل، يجعل بين رجليه أكثر من متر، هل هذا تطبيق للسنة؟ أين المحاذاة بالمناكب؟ هذا ليس هو تطبيق السنة، إنما يحرص الإنسان أن يحاذي بالمناكب والأقدام، ودين الله -جل وعلا- بين الغالي والجافي.(30/12)
بعض الناس يحرص على تطبيق السنة، أولاً: لا يفقه السنة، فتجده يتورك في كل جلسة، وفي بدنه ثقل، وفي جيبه مفاتيح، ومحافظ وجوال، وما أدري إيش؟ ثم يرمي بنفسه على جاره، هل هذا يفقه تطبيق السنة؟ لا بد من فقه التطبيق، يعني إذا كانت هذه السنة معارضة، مثل المجابهة، المجابهة سنة؛ لكن بجوارك آخر تؤذيه، ((والملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه، ما لم يؤذِ، ما لم يحدث)) وأي أذىً في أن تجعل مرفقيك في أضلاع أخيك؟ فننتبه في هذا، ولا شك أن الذي يحرص على السنة يؤجر على قدر حرصه؛ لكن لتمام أجره لا بد أن يفقه كيف يطبق هذه السنة؟ لا بد أن يفقه كيف يطبق هذه السنة؟ وليس معنى هذا التقليل من شأن التراص في الصفوف، وإلصاق الأقدام؛ لكن أيضاً إذا رأيت جاري من النوع الحساس أترك له فرصة، بعض الناس من يكبس في صلاته إلى أن يسلم وقلبه كالمرجل من خشية الله؟ ومن تأمل ما يقرأ؟ لا، على صاحبه، يغلو كالمرجل على صاحبه وجاره، على أخيه المسلم، لماذا؟ لأنه ضايقه، وهذا حساس ما يتحمل، والناس في طباعهم في بعضهم شدة، ما يتحمل مثل هذه الأمور، ووجدت تصرفات أثناء الصلاة، تجعل طالب العلم متسماً في جميع أفعاله بالرفق واللين، وليكن داعية خير بفعله قبل قوله ليقبل، فعلينا أن نهتم بهذه الأمور، ولا نريد أن نكرر ما ذكرته سابقاً، فهذه مسائل ثلاث رأيت أهميتها في مثل هذا الوقت.
وطلب الكثير من الأخوة يقولون: الإجابة على الأسئلة هي التي تحل بعض الإشكالات عند بعض الإخوان وقد يكون في الكلام المرسل المكرر شيء من التكرار، فالإجابة على الأسئلة لا شك أنها حاجة قائمة للإخوان، فنقتصر على هذا، ونبدأ في الأسئلة، ولعله يرد فيها ما ينفع -إن شاء الله-.
هذا يقول: ما رأيكم فيمن يستغني بالمذكرات الجامعية، في التعليم عن كتب السلف، وخصوصاً في بعض علوم الآلة، وهل هذا من التيسير على طلاب العلم الجامعيين؟(30/13)
أقول: مثل هذا مع احترامي وتقدير لزملائي من المعلمين في الجامعات الذين اجتهدوا وسهروا وحرروا وضبطوا المسائل، ورتبوها ونظموها؛ لكن هذه الطريقة لا تبني طالب علم، طالب العلم لا بد أن يبنى على الجادة المطروقة عند أهل العلم، فيربى على المتون المقررة من قبل أهل العلم، لا بد من هذا.(30/14)
فهذه المذكرات مثل مؤلفات المعاصرين التي صيغت بأساليبهم، بل هي منها، هل هذه تربي طالب علم على أساليب العلماء المتقدمين؟ افترضنا طالب تخرج في كلية الشريعة أو أصول الدين أو كلية الحديث أو غيره على هذه المذكرات، ثم بعد أن تخرج عُين في بنك، وعرض عليه مشاكل ومسائل واحتاج أن يراجع الكتب، هل يستطيع أن يفهم كتب المتقدمين من خلال فهمه لهذه المذكرات؟ هذه المذكرات هي عبارة عن مؤلفات صيغت بأسلوب يفهمه الشخص بدون معلم، لكننا في مرحلة التعليم لا بد أن نقرر كتب لا يفهمها الطالب بمفرده، بحيث إذا وجد في معنى واستقل بعد تخرجه في بلد لا عالم عنده نعم، يستطيع أن يستقل بنفسه، ويفهم كلام العلماء، ولا يحتاج إلى أن يرجع أن يتعلم مرة ثانية ليفهم هذه الأساليب التي انفرد بها وخلى بها، فكتب هذه المذكرات لا شك أنها من أعظم العوائق عن التحصيل مهما اعتذرنا عن أصحابها بحسن النية والقصد، ونحن لا نطعن في قصد أحد، وأرادوا التسهيل والتيسير؛ لكن طالب العلم لا بد أن يبنى على الحزم والعزم، ولذلك ليس من العبث أن يؤلف العلماء هذه الكتب بأساليب صعبة، بإمكانهم أن يبسطوا، يعني اختيار الزاد في هذه البلاد (زاد المستقنع) أو (المنتهى) أو (مختصر خليل) أو غيره في بلدان أخرى، يعني هذا. . . . . . . . . وهي أشبه ما تكون بالألغاز، متعبة لطلاب العلم؛ لكن طالب العلم إذا فهم هذا الكتاب سهل عليه فهم ما دونه، يعني طالب العلم الذي يتربى على (التدمرية) لشيخ الإسلام ابن تيمية، إذا تخرج وسكن بمفرده في بلد لا يوجد طالب علم غيره، يبي يشكل عليه (شرح الطحاوية)، ويشكل عليه (شرح الواسطية)، ويشكل عليه (الحموية) أو غيرها من كتب العقيدة؟ إذا تربى على الأصعب وفهمه بين يدي أهل العلم الذين هم الآن متوافرون، يمكن في وقت من الأوقات تطلبهم لا تجدهم، ولا تتصور أن الآلات التي تخدم الآن وتقرب المسافات وتيسر الاتصال بالآفاق، وأنت جالس تستمر، لا، اعتبر نفسك ما عندك إلا هذه الكتب، وعندك مشكلة لا بد من حلها، كيف تتعامل مع هذه الكتب؟ لا بد أن توطن نفسك على هذا الأمر.
يقول: ما هو خير كتاب أو متن فقهي غير متقيد بمذهب معين يصلح لتدريسه لعوام الناس؟(30/15)
يصلح لتدريسه لعوام الناس، عامة الناس بالإمكان تدريسهم مثل (منهاج السالكين) للشيخ ابن سعدي، أو الإرشاد له، أو ينتقى لهم من فتاوى أهل العلم، العوام الذين ليس لهم أرضية للتحصيل، يمكن أن ينتقى لهم من فتاوى ابن باز، أو فتاوى اللجنة الدائمة، أو من فتاوى الشيخ ابن عثيمين، يأخذ لهم مسائل من هذه وتقرأ عليهم، أما متن فقهي غير متقيد بمذهب، إيش معنى غير متقيد بمذهب؟ معناه هو متقيد باجتهاد مؤلفه، ما رحنا بعيد، وكثير من الناس يقول: لماذا لا تقرر الدرر البهية للشوكاني؟ نقول: يا أخي أنت فررت من اجتهاد الحنابلة إلى اجتهاد الشوكاني، نعم، فهي كلها مذاهب، أو مثلاً تقول: نعمل بفقه الشيخ الإمام المجد الإمام الألباني -رحمه الله- مثلاً، واختياراته وهو صاحب حديث، وصاحب سنة، طيب هذا اجتهاده، والشيخ ابن باز أيضاً هذا اجتهاده، وكلهم أئمة وعلى العين والرأس؛ لكن أنت تتأهل، أنت إن كان قصدك العوام تقرأ عليهم من اختيارات هؤلاء الأئمة ما لم يعرف بمسألة شذ فيها عالم، يُرجّع العوام إلى قول الأكثر، لكن يبقى أن تربية طلاب العلم على هذه الكتب غير متقيدة بالمذهب نقول: هذه كتب المتون المعتمدة في المذاهب لا بد من تمرين طلاب العلم عليها والتفقه عليها، إيش معنى هذا؟ ليس معنى هذا أن هذا دساتير لا يحاد عنها، أبداً، أو أنها كتب معصومة ليس فيها أخطاء.
من صغار الكتب التي تدرس الآن (زاد المستقنع)، وفيه أكثر من ثلاثين مسألة خالف فيه المؤلف المذهب نفسه، وخالف فيها القول الراجح الذي عليه الدليل في مسائل كثيرة؛ لكن ليس معنى هذا أن كل ما قاله صاحب الزاد أنه مثل القرآن، لا، يربى طالب العلم ليفهم هذه المسائل، يتصور هذه المسائل بعد أن تصور له من قبل المشايخ، إذا تصورها تصور دقيق استدل لها، فإن كان الدليل يسندها عمل بها، وإن كان الدليل على خلافها ضرب بها عرض الحائط وعمل بالدليل، وبهذه الطريقة نستطيع أن نخرج طالب علم متميز.(30/16)
يقول: عندي سؤال مهم بالنسبة لدي وتحيرت فيه، وهو كيفية الاستفادة من الكتب الستة، هل تقرأ كتاباً كتاباً مع شرحها، أو تقرأ المتون مع أسانيدها، وأخشى أني لا أصل إلى النسائي إلا وقد نسيت ما في البخاري، فأرجو من فضيلتكم الطريقة السديدة للاستفادة من كتب السنة؟
وهذا أيضاً مما شرحناه مراراً، وهو أن طالب العلم حينما يطلب العلم على الجادة ويقرأ المتون، ويحفظ متون الطبقة الأولى، الأصول الثلاثة والقواعد الأربع وكشف الشبهات والأربعين النووية، والنخبة، والآجرومية، إذا حفظ هذه المتون، وتحفة الأطفال في التجويد، وغيرها من المتون التي ألفت للمبتدئين، ثم بعد ذلك قرأ كتب المتوسطين، وحفظ ما أمكنه حفظه منها، مع حفظ أكبر قدر من كتاب الله -جل وعلا-، بحيث لا ينتهي من المران من كتب الطبقات الثلاث إلا وقد أتقن القرآن، نعم يوزع القرآن على هذا، فمع كتب الطبقة الأولى يحفظ المفصل، ومع كتب الطبقة الثانية يحفظ بقية النصف الأخير، مع كتب الطبقة الثالثة يحفظ النصف الأول يكون بهذا انتهى من حفظ القرآن وضمنه مع حفظ هذه الكتب، إذا انتهى من هذه الكتب التي ألفت في طبقات المتعلمين يطلع إلى كتب السنة، المسندة، الأصول، وعرفنا كيف يتعامل معها؟(30/17)
بعضهم يقول: يقتصر على المختصرات؛ لأننا لسنا بحاجة إلى التكرار في صحيح البخاري، أو إلى الأسانيد في صحيح البخاري، لسنا بحاجة إلى هذا؛ لأنه يهمنا المتون المرفوعة إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، نقول: لا يا أخي، تريد أن تتعلم على الجادة، ويكفيك في تقرير خمس سنوات لإتقان الكتب الستة، وتحضر الكتب الستة في آن واحد، والكتب -ولله الحمد- مخدومة، بالترقيم والإحالات، وكل شيء موجود، فيأتي إلى صحيح البخاري الحديث الأول في صحيح البخاري، حديث: ((إنما الأعمال بالنيات)) كم أورده البخاري من موضع في صحيحه؟ في سبعة موضع، نستحضر هذه المواضع، نستحضر هذه السبعة المواضع، وما ترجم عليه البخاري على هذا الحديث في المواضع السبعة، وهي فقه البخاري، وما أردفه في الترجمة من أقوال سلف الأمة لشرح هذه الترجمة، نعم، انتهينا من المواضع السبعة في صحيح البخاري، نجد أيضاً وافقه على تخريجه مسلم، نذهب إلى مسلم ونضيف ما رواه مسلم من زيادات في المتون والأسانيد إلى ما صفيناه من صحيح البخاري من بين المواضع السبعة اقتصرنا على أوفى هذه المواضع، وذكرنا فروق الأسانيد والتراجم على الحديث، ثم أضفنا إليه مسلم إن كان فيه زيادة، وأشرنا على صحيح مسلم أن هذا الحديث دُرس مع صحيح البخاري، هذا الحديث يرويه أبو داود أيضاً، نرجع إلى سنن أبي داود ونضيف على ما استخلصناه من الصحيحين ما يزيده أبو داود من لفظ زائد أو لفظ مغاير، أو زيادة راوٍ، أو فائدة في صيغة أداء، أو طريق لا يوجد في الصحيحين نضيفه إلى مذكرتنا الذي نجمع فيها الجمع بين الكتب الستة، ثم نرجع إلى الكتاب الرابع والخامس والسادس وهكذا، إذا انتهينا من الحديث الأول نرجع إلى الثاني في صحيح البخاري ونفعل به كما فعلنا بالأول.(30/18)
الآن مررنا على المائة الحديث الأولى، جاءنا حديث هذا الحديث درسناه مع الحديث الأول، انتهينا منه، وقد أشرنا عليه ومررنا، لا نحتاج إلى دراسته، مر علينا حديث درسناه مع الحديث العاشر، فلا نحتاج إلى دراسته، مر علينا الحديث الخامس بعد المائة درسناه، وهكذا، وبهذا نكون إذا انتهينا من صحيح البخاري على هذه الطريقة نكون انتهينا من نصف صحيح مسلم، نعم، ونأخذ ربع ما في سنن أبي داود، وربع ما في سنن الترمذي، وابن ماجه وهكذا، نعم، ثم بعد ذلك نأتي إلى زوائد مسلم، الأحاديث التي في مسلم ولم ندرسها مع البخاري نأتي إليها نفعل ونصنع فيها كما صنعنا في صحيح البخاري، نجعل مسلم، في الأول جعلنا البخاري محور الدراسة، في المرحلة الثانية إذا انتهى البخاري نجعل زوائد مسلم محور الدراسة، ونراجع على هذه الزوائد كتب السنن، ثم انتهينا من صحيح مسلم نبدأ بسنن أبي داود فنجد نصف سنن أبي داود انتهى، زوائد أبي داود على الصحيحين تصبح محور البحث، ننظر فيها بالطريقة التي نظرنا فيها إلى الأحاديث في الصحيحين، ثم انتهينا من سنن أبي داود، ونربع بالترمذي، ثم نخمس بالنسائي، ونختم بابن ماجه.
هذه الطريقة يعني مع الجد لا أتصور أنها تأخذ على طالب العلم خمس سنوات، خمس سنوات يفهم كل ما في كتب الستة بعجرها وبجرها، بصحيحها وضعيفها، بمتونها وأسانيدها، بمرفوعاتها وموقوفاتها، ومقطوعاتها، بفقه هؤلاء الأئمة، هذا مع طريقة التخبط التي نعيشها نحتاج إلى مائة سنة، ويمكن نموت وما مررنا على أحاديث في الصحيحين؛ لكن إذا اعتمدنا هذه الطريقة ومشينا عليها بحزم وجد أتصور خمس سنوات كافية.(30/19)
طيب إذا اعتمدنا على ما لخص واختصر لنا من البخاري، وأضفنا إليه زوائد مسلم باختصار فقط المتون، وأضفنا إليه زوائد السنن، كم فاتنا من علم بهذه الطريقة، يعني لسنا بحاجة إلى التراجم التي ترجم بها أئمة السنة على هذه الأحاديث وهي خلاصة فقههم؟ ألسنا بحاجة إلى ما يدعم به المؤلف فقهه من أقوال الصحابة والتابعين؟ إحنا في أمس الحاجة إلى مثل هذا، ولكن مع ذلك بعض الناس يتطاول مثل هذه الطريقة وهي سهلة ميسرة، والأمور كله -ولله الحمد- متيسرة، وكل شيء متوفر، بعض الناس يقول: لماذا لا نكتفي بالحاسوب وهو يطلع لنا الخلاصة بيوم واحد، نضغط طلب ويطلع لنا ما في الكتب الستة بغير تكرار، وخلال أيام و. . . . . . . . . قرأتها؛ لكن العلم ما يأتي بسهولة، لا يستطاع العلم براحة الجسم، العلم يحتاج إلى حفر في الذهن، يحتاج إلى تعب ومعاناة لكي يثبت، فأتصور أن هذه الطريقة نافعة ومجدية.
نعم مسألة الحفظ الذي يريد أن يحفظ في أقصر مدة، ويحفظ على الطريقة التي يسلكها الإخوان الآن، مع اعتماده وعنايته بالطريقة التي شرحتها، فإذا حفظ المتون المجردة على طريقة الإخوان، وعمل بدراسة الأحاديث على الطريقة التي شرحناها، أتصور أنه سيتخرج محدث، متقن بارع، إن حالفه توفيق الله -جل وعلا- الذي سببه الصدق مع الله -جل وعلا-.
يقول: ما هي الكتب التي توصون بقراءتها لطالب العلم المبتدئ وخصوصاً الطلاب الذين أتوا من مدارس الثانوية لم يسبق لهم دراسة العلوم الشرعية؟(30/20)
مثل ما ذكرنا يحفظ كتب الطبقة الأولى، والآن كل شيء متيسر، هذه الكتب تشرح الآن في المساجد، وسجل عليها شروح كثيرة، كون الطالب -ولله الحمد- يحفظ هذه المتون، ويسمع ما سجل عليها، ويحضر الدروس يصير له أمر كبير، ويهتم بكتب الطبقة الأولى التي هي الأساس، التي هي باصطلاح أهل المقاولات يسمونها ميدة، الأساس الذي يبنى عليه غيره، هي الأصل ثم بعد ذلك يرتقي إلى كتب الطبقة الثانية، ومع الأسف أنه يوجد من يقول: لماذا لا تجرد كتب الطبقة الثانية، فيذكر زوائدها على كتب الطبقة الأولى؟ نحن اعتمدنا في الطبقة الأولى مثلاً العمدة، يعني نمشي على ترتيب الموفق، عمدة الفقه مثلاً نعم، لماذا ندرس المقنع في الطبقة الثانية وتسعين أو سبعين بالمائة من مسائل المقنع مرت بالعمدة فلماذا نكرر؟ نقول: يا أخي لا بد من التكرار، التكرار أمر لا بد منه، كون المسألة تمر عليك مرة واحدة في عمرك، هل يكفي لفهمها وثبوتها في ذهنك، تنساها؛ لكن إذا مرت عليك بأسلوب آخر بأبسط بوجوه باستدلال، كما في الكافي مع ذكر المذاهب والأدلة، كما في المغني، لا شك أن هذه المسائل ترسخ في ذهن طالب العلم.
يقول النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله)) ... إلى آخره، فهل يفهم من هذا الحديث التعديل المطلق لطلبة العلم والعلماء؟
هذا الحديث أولاً: مختلف في ثبوته وصحته، وصححه بعض العلماء، والإمام أحمد يميل إلى ثبوته، فيما نقله عنه الخطيب في شرف أصحاب الحديث وغيرهم، نقل عن الإمام أحمد تصحيحه، وفهم منه ابن عبد البر أن هذا تعديل لكل من يحمل العلم، كل من حمل العلم فهو عدل لقول المصطفى.
قلت: ولابن عبد البر كل من عني ... بحمله العلم ولم يوهنِ
فإنه عدل بقول المصطفى ... يحمل هذا العلم لكن خولفا(30/21)
لكن خولفا، الواقع يشهد بأنه يوجد من يحمل العلم، وأنا عندي تحفظ على إطلاق كلمة علم على ما يحمله من لم يعمل بعلمه، يوجد في الواقع من يحمل مسائل علمية بأدلتها يتصورها تصوراً صحيحاً دقيقاً بأدلتها بعجرها وبجرها وعنده شيء من المخالفات، فهل نستطيع أن نعدل من خلال هذا الحديث من حمل العلم وهو يرتكب محرمات، ألا يوجد ممن يرتكب محرم وهو يقال له: عالم ويحمل شهادات عليا، ويعلم التعليم الشرعي، لا يمكن أن نعدله، فإما أن نقول: أن الحديث جاء لحث أهل العدالة على حمل العلم، كما جاءت الرواية: ((ليحمل هذا العلم من كل خلف عدوله)) حث للعدول أن يحملوا العلم، ولا يتركوا المجال لغيرهم أن يحملوا هذا العلم، أو نقول: أن ما يحمله الفساق ليس بعلم، ما يحمله الفساق ليس بعلم، وهذا هو المتوجه عندي، وإن سماه الناس علماً، وهو في الحقيقة ليس بعلم، يعني علم ما ينفع، إيش الفائدة؟ ومن أوضح الأدلة على ذلك قول الله -جل وعلا-: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ} [(17) سورة النساء] عمل السوء، ارتكب مخالفة جاهل وإن كان من أعلم الناس، يعرف أن الزنا حرام، هل نقول: أنه عالم عنده الأدلة أن الزنا حرام، ويزني، هل نقول له: عالم؟ لو قلنا: عالم لقلنا: أن توبته لا تقبل، والنص القطعي في الثبوت والدلالة يدل على أن توبته مقبولة، يعمل السوء بجهالة، هل معنى هذا أنه لا يعلم الحكم؟ يعلم الحكم، ولذا يقرر أهل العلم أن كل من عصى الله فهو جاهل.
يقول: ما الفرق بين النسخة السلطانية واليونينية لصحيح البخاري؟(30/22)
النسخة السلطانية الذي طبعها السلطان سنة (1311هـ) وشكل لها سبعة عشر من علماء مصر لمراجعتها وإتقانها وأثبتوا عليها الفروق التي أثبتها الحافظ شرف الدين اليونيني بعد عنايته بالصحيح، عناية فائقة، وذكر الفروق بين الروايات هذه النسخة هي السلطانية، وعن فروق هذه النسخة مأخوذة عن ما أثبته الحافظ اليونيني في مقارنته بين روايات الصحيح، فهي نسخة متقنة، هذه النسخة طبعت في بولاق تسعة أجزاء، سنة (1311هـ) ووجد فيها ما يقرب من مائة خطأ مطبعي، صحح في الطبعة الثانية (1313هـ) وكانت هذه النسخة إلى وقت قريب مفقودة من الأسواق، ثم صورت -ولله الحمد- واستفيد منها الطلاب، فالسلطانية هذه الفروق التي على هامشها مأخوذة من عمل اليونيني.
على أني وقفت من الفروق للحافظ ابن رجب في شرحه على البخاري ما فات اليونيني مما لم يذكر في هذه النسخة، فالمقصود أنه لا يتصور أن اليونيني مع اهتمامه بصحيح البخاري وعنايته برواياته، لا يتصور أنه أشار إلى كل شيء، لا، على كل حال بعض الطلاب يخلط بين هذه النسخة وبين النسخة التركية المطبوعة باسطنبول دار الخلافة العامر -على ما يقولون- بعد ذلك، في ثمانية أجزاء، وليس فيها فروق، عليها بعض التعليقات؛ لكن ليس فيها فروق الروايات، بعض الناس يسميها السلطانية، لماذا؟ كيف حصل الوهم؟ حصل لأنها أولاً: مطبوعة بتركيا، وتركيا معروفة أنها محل السلطان.
الأمر الثاني: أنه يأتي من هذه النسخ نسخ جميلة مذهبة بتجليد فاخر اشتهر بين الكُتْبِيين أن هذه النسخ نسخ سلطانية، بمعنى أنها تليق بالسلاطين لنفاستها، فيحصل اللبس من هذه الحيثية.
يقول: ما رأيكم بملتقى أهل الحديث في الإنترنت، وهل يستفاد منه؟
نعم يستفاد منه، هو فيه بعض طلاب العلم من الأخيار يكتبون فيه، وفيه نفع -إن شاء الله تعالى-، وهناك أيضاً وجهات نظر يكتبوها في ملتقاهم، وإن كنت أختلف معهم في بعضها؛ لكن هذا لا يعني أن الإنسان إذا خولف باجتهاده ينسف كل الجهد.
يقول: ما رأيك بالطرق الجديدة في طلب العلم مثل الأشرطة لكبار العلماء والدروس العلمية في القنوات، مثل قناة المجد والحاسب الآلي؟(30/23)
أولاً: طلب العلم من الأشرطة لكبار العلماء هذه من أنفع ما يتعلم عليه إذا لم يتمكن الطالب من المثول بين يدي هؤلاء العلماء، نحن لا نتصور أن الأمر ميسر أن الإنسان سهل عليه أن يركب سيارته ويذهب إلى فلان أو علان ليطلب عليه العلم من الكبار، لا يتيسر لكثير من الناس، بعض الناس يشغله البعد في الآفاق، وبعض الناس يشغله العمل، وطلب المعيشة، وبعض الناس يشغله الارتباط بالوظيفة، أو على أمر من أمور المسلمين، المقصود أن مثل هذه الأشرطة تحل كثير من الإشكال.
وأيضاً: الدروس من خلال الإنترنت وأنا حقيقة مثل هذه المحدثات على حذر كبير منها، أنا لا أوصي بها بالإطلاق؛ لأن فيها الغث والسمين، والغث كثير، وجد -ولله الحمد- من يستفيد منها، لكن أيضاً وجد باسم الاستفادة من بعض من ينسب إلى طلب العلم أيضاً من تيسر له النظر في أمور لا يجوز النظر إليها، ففيها الغث والسمين، فإن اقتصر على الأشرطة فهو الأفضل، إذا لم يتمكن ولم يتحصل على هذه الأشرطة، إذا لم يكن إلا هذا مع أخذ الحيطة والحذر الشديد؛ لأنه يسهل لك الاتصال بأمور ما كانت ميسرة في السابق، فهذه مزلة قدم، ولا يقول الإنسان: أنا متحصن بالعلم، لا، قد زل أناس وضاعوا بسببها، ضاع بسببها أناس كثير.
يقول: الدروس العلمية في القنوات، مثل قناة المجد والحاسب الآلي؟
قناة المجد لا غرو عليها، وذكرت مراراً رأيي فيها، وقلت: السلامة لا يعدلها شيء، السلامة الذي يستطيع ويرتكب العزيمة في هذا الباب فالسلامة لا يعدلها شيء.
أما الإنسان الذي لا يستطيع أو يبتلى بآلات أخرى فهي من أفضل الموجود الآن.
هذا يقول: طلاب العلم ينتظرون طبعة فتح المغيث؟
قد حققت نصفه، وهو الآن كامل، والآن تم صفه وكتاب فتح المغيث للسخاوي في شرح ألفية الحديث، والآن تم صفه، ويأتي -إن شاء الله- قريباً، وكذلك الألفية المتن، تم تحقيقها وطبعها ومراجعتها، وتأتي -إن شاء الله- قريباً.
يقول: ما هي أحسن طبعة لشرح العلل لابن رجب؟(30/24)
شرح العلل -علل الترمذي- للحافظ ابن رجب تنال عنايتي منذ أن ظهر الكتاب بتحقيق نور الدين عتر، ومنذ أن خرج وأنا عنايتي به من خلال هذه الطبعة، وكون الإنسان يرجع إلى أكثر من طبعة هذا عندما يعترضه ما يقتضي ذلك من استغلاق العبارة، أو يغلب على ظنه أنه خطأ الكلام لا يستقيم، يرجع إلى الطبعات الأخرى، واقتناء الطبعات كلها في كل ما يحتاج إليه طالب العلم هو مهم جداً؛ لكن دونه خرط القتاد، فأنا ممن يُعنى بجمع الطبعات في الكتب القديمة بطبعاتها القديمة لكنها مرهقة تحتاج إلى جهد كبير لتحصيلها، وتحتاج مع ذلك متابعة في البحث، وتحتاج إلى مكان واسع، وتحتاج إلى دعم مادي قوي؛ وإلا لو وجد من هذه الطبعة تصحيح جملة تكفي خلاص قيمة هذا الكتاب وصلت، لو صححت جملة واحدة يستقيم بها الكلام المطلوب خلاص.
فكون طالب العلم يقتني الطبعات لا سيما من بعض الكتب الذي هو بأمس الحاجة إليها ما يضره أن يجمع في شرح علل الترمذي عشرة مجلدات مثلاً تحوي جميع طبعات الكتاب، ثم ماذا؟ لكن فتح الباري مثلاً طبع عشر مرات يجمع كم؟ مائتين مجلد صعب، وقل مثل هذا في كتب التفسير الكثيرة، أو كتب الشروح، الذي يصعب على طالب العلم أن يجمعها؛ لكن الكتب الذي حجمها صغير بإمكانه أن يجمع هذه الطبعات من أجل أن يراجع الطبعات الأخرى إذا وقف على خطأ في الطبعة التي بين يديه والتي يعتني بها.
يقول: ما رأيكم في منهج التفريق بين المتقدمين والمتأخرين في التعليم في علوم الحديث عموماً؟(30/25)
أولاً: لا يشك أحد ولا يجادل ولا ينازع في أن المتأخرين عالة على المتقدمين، وأنه لا علم عند المتأخرين وصل إليهم إلا عن طريق الأئمة الكبار الذين هم عمدة هذا الشأن؛ لكن من يخاطب بمثل هذا الكلام، يخاطب به المنتهي، أما طالب العلم المبتدئ يخاطب بمثل هذا الكلام هذا تضييع له، لا بد أن يتعلم على طريقة المتأخرين، وعلى جادتهم، ثم بعد ذلك إذا تأهل بعد أن يتقن هذه القواعد على الطريقة المشروحة بدأً بالنخبة ثم اختصار علوم الحديث لابن كثير، ثم الألفية وشروحها، ويكثر مع ذلك من التخريج والدراسة للأسانيد, ويعرض أعماله على أهل الاختصاص، فإذا صوبوا عمله، وقارن أحكامه بأحكام الأئمة من المتقدمين والمتأخرين، بعد ذلك تحصل لديه ملكة، يستطيع بواسطتها أن يحاكي المتقدمين، أما إذا قيل له: اعتني بكتب المتقدمين، فإذا اعتمدنا شرح علل الترمذي لابن رجب إيش فيه من القواعد التي يحتاجها طالب العلم المبتدئ؟ هل فيه كل شيء مما يحتاج إليه؟ لا، لا بد أن يطلب العلم على الطريقة والجادة المعروفة، ثم بعد ذك إذا تأهل وعرف القرائن التي بها يرجح قول إمام على قول إمام آخر، حينئذ، وصار في مصف المتقدمين مع أن دون ذلك خرط القتاد، يوجد الآن من طلاب العلم من تبنى هذا الرأي من سنين طويلة؛ لكن هل نستطيع أن نقول: هذا الشخص بعد عشرين، خمسين سنة من الآن يبي يحاكي أحمد أو ابن معين أو الحاكم والرازي، من المستحيل، يعني شخص ما يحفظ، عمدته على العمل والنظر في الأسانيد المرسلة من خلال أقوال العلماء، أحياناً من خلال أقوال المتأخرين، يعني أنه إذا تسنى له الاجتهاد في التصحيح والتضعيف في نوع من المتون، كيف يتسنى له أن يجتهد في كل راوٍ راو من رواة هذه الأحاديث الذين بلغوا مئات الألوف، الرواة بلغوا ألوف مألفة، وكل راوٍ من هؤلاء الرواة تجد فيه من الأقوال المتعارضة المتناقضة الشيء الكثير تجد أحياناً بعض الرواة عشرين قول، فتريد أن تجتهد لتحاكي المتقدمين في تصحيح كل حديث حديث بنفسك، على شان تتأهل تتقوى لديك القرآن التي تحكم بها تحاكي بها المتقدمين، وحكمك على هذه الأحاديث مبني على النظر في كل راو راو من رواة هذه الأحاديث، بالنظر إلى جميع ما قاله(30/26)
أهل العلم في هذا الراوي، لا شك هذا دونه خرط القتاد، لا نستطيع أن نحاكي أئمة يحفظ الواحد منهم سبعمائة ألف حديث، عجزت البرامج أن تحفظ هذه الأعداد، ولا نصف هذه الأعداد.
على الإنسان أن يعرف قدر نفسه، يتعلم على الجادة، ويأخذ العلم بالتدريج، وإذا تأهل أن يقارن ويوازن بين حكم الإمام أحمد، وحكم أبي حاتم إن استطاع أن يرجح له ذلك، ولا أحد يمنعه، وقل مثل هذا في الاجتهاد في المسائل الفرعية، يعني مناداة طلبة مبتدئين لا يحسنون شيئاً من العلم، وما عرفوا مبادئ العلوم يقال لهم: اجتهدوا تفقهوا من الكتاب والسنة، هذا تضييع، هذا تضييع له؛ لكن إذا تأهل طالب العلم ففرضه الاجتهاد، والذي يتعين عليه أن يدين الله -جل وعلا- بما يوصله إليه اجتهاده بعد النظر في أدلة المسائل من الكتاب والسنة، وبعد النظر في أقوال فقهاء الأمصار لئلا يشذ ويأتي بشذوذات لا يوافق عليها، وقد يخرق الإجماع وهو لا يدري، المقصود أن مثل هذا الطلب يعني توجهه إلى المنتهين أنا عندي أنه له وجه.
أما توجيه هذا الكلام إلى الطلبة المبتدئين أتصور أنه تضييع لهم، إذا تأهل طالب العلم فهذا فرضه، أما إذا لم يتأهل ففرضه ما جاء في قول الله -جل وعلا-: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [(7) سورة الأنبياء].
هذا يقول: أهل المدينة بانتظار درس شهري في المدينة، وطلاب الجامعة يتمنون أن تستقروا في المدينة، ولا يخفاكم أجر السكنى فيها؟
لا يخفى ما جاء من قوله: ((المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون)) نصوص كثيرة بفضل المدينة؛ لكن ليستحضر الطالب الذي يستحضر هذه النصوص تفرق الصحابة في الأمصار بعد وفاة النبي -عليه الصلاة والسلام-، يعني هل الصحابة يخفاهم مثل هذه النصوص؟ أو تفرقوا لينفعوا في بقية الأمصار؟ يعني لو أن العلماء كلهم خوطبوا بمثل هذا، وكلهم اجتمعوا في المدينة وتركت الأمصار، لا شك أن الفائدة والنفع يعني تفرق علماء الأمة في أقطارها لينفع الله بهم وينتشر النفع، والسكنى إلى الآن ما بعد استقر الأمر على شيء، نسأل الله -جل وعلا- أن يعيننا وإياكم على ما ينفعنا في ديننا ودنيانا.(30/27)
يقول: لماذا أهل العلم يحثون الطلاب للعناية بالإخلاص في طلب العلم خاصة، دون غيره من العبادات؟(30/28)
لا يا أخي، يمكن أن يتكلم عن الصلاة والزكاة ولا يحتاج إلى الإخلاص؟ الذين يتكلمون عن العلم، الذي يتكلم عن العلم وطلب العلم هل يمكن أن يقول: أن الصلاة لا تقبل إلا بالإخلاص؟ هو يتكلم عما هو بصدده من طلب العلم، فيحث على الإخلاص في طلب العلم، الأمر الثاني: أن الإخلاص في طلب العلم على وجه الخصوص ما ينازعه أكثر مما ينازع الإخلاص في أبواب العبادات الأخرى، يعني يتصور شخص أن يتوضأ في بيته كما أمر، ويحضر إلى الصلاة بسكينة وخشوع، ويؤدي الصلاة على الوجه المأمور مع الإخلاص التام، أو المخدوش خدشاً يسيراً، ما يتصور إلا إذا كان منافق ليس في قلبه شيء من الإخلاص يريد أن يحضر إلى المسجد ليقول الناس: هذا يصلي مع الجماعة، لا سيما مع الفرائض، المسلمون يؤدون الفرائض، ولذا يستشكل بعض طلاب العلم ما يجده في نفسه من ثقل في العبادة، مع قول الله -جل وعلا- عن المنافقين: {وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى} [(142) سورة النساء] يقول: أنا أقوم كسلان، هل أنا منافق؟ هل أنا منافق لأني أقوم كسلان؟ نقول: يا أخي أنت الفرق بينك وبين المنافق، أنك أنت مصلي مصلي، تبي تصلي رآك أحد وإلا ما رآك أحد، هذه الصلاة لا بد أن تؤديها، وهذا في قرارة ذهنك أنك لن تترك الصلاة إذا لم يراك أحد، بخلاف المنافق، المنافق إذا ما رآه أحد ما صلى، وهذا الفرق بين من يستثقل الصلاة ممن حكم بإسلامه، ولم يحكم بنفاقه، وكثير من المسلمين حتى نسأل الله -جل وعلا- أن يعاملنا بالعفو، قد توجد أحياناً من طلاب العلم استثقال لشيء من العبادات؛ لكن هل يعني هذا أنهم وافقوا المنافقين في كونهم {قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى} [(142) سورة النساء]؟ نقول: نعم، من هذه الحيثية لكن يبقى أن الفارق الكبير أن المسلم الذي لم يتصف بالنفاق ولو ثقل عليه الأمر لا بد أن يصلي، ولا يدور في باله أنه يترك الصلاة إذا لم يجد أحد بخلاف المنافق، بل لنزداد اطمئناناً بعد من أهل العلم من يرجح من يؤدي الصلاة على ثقل يقول: أجرها أعظم من أجر من يأتي الصلاة وغيرها من العبادات منشرح النفس، منبسط القلب، مرتاح البال، مع أن القول المرجح خلافه، هذا المرجح لهذا(30/29)
القول يقول: أدى العبادة وجاهد نفسه، وعليه شيء من الثقل كل هذه يؤجر عليها، الذي جاء منشرح هذا يؤجر على عبادته؛ لكن لا يؤجر على المجاهدة، نقول: لا، هذا أفضل وهو الموافق لما كان عليه النبي -عليه الصلاة والسلام- وهو يقول: ((أرحنا يا بلال بالصلاة)) ويأتي إليها وهو متشوق إليها، متشوف لها، مشتاق إليها، نعم فأجره أعظم، ولنعلم جميعاً أننا لن نصل إلى هذه المرحلة أرحنا بالصلاة حتى نتجاوز المرحلة الأولى التي هي مرحلة امتحان، وقل مثل هذا في الصيام، صيام النوافل مثلاً، قيام الليل كابد السلف سنين طويلة من مشقة قيام الليل ثم تلذذوا به، فهم ما وصلوا إلى هذه المرحلة حتى تجاوزوا المرحلة التي قبلها.
يقول: نريد إقامة دورة علمية قبل نهاية الفصل الدراسي، وذلك حتى يشهد الطلاب قبل السفر إلى بلادهم حتى ينالوا .... ؟
المقصود أنه يريد دورة في نهاية الفصل، يعني قبل أن يتفرق الطلاب، ويتوزعوا إلى بلدانهم، وأظن التخطيط جار على هذا، وقد فعلنا ذلك في السنة الماضية.
وهذا يسأل عن فتح المغيث هل طبع أم لا؟
تم صفه، والآن هو في المراجعة النهائية -إن شاء الله تعالى-.
يقول: كيف يمكن للطالب أن يوازن بين دروس الجامعة والدروس الخارجية مع ما لا يخفاكم من التزاحم والتراكم، أفيدونا جزاكم الله خيراً؟
التوفيق سهل، إذا عرفت الهدف الذي من أجله خلقت، وهو تحقيق العبودية، وهذه العبودية لا تتم على الوجه المطلوب إلا بمعرفة ما يصححها وما يفسدها، فإذا عرفت أنك خلقت لهذا تجاوزت هذه العقبات، وأقبلت لحلق العلم، وأنت منشرح الصدر، فيمكنك أن توازن ولا سيما أن الدروس العلمية ليست في وقت الدراسة النظامية، فبالإمكان أن يدرس الإنسان في أول النهار دراسته النظامية، وبعد أن يستريح ويسترخي، الظهر والعصر، ويأخذ حظه من الراحة، ويراجع ما يحتاج إلى مراجعته، أن يحضر الدروس في المغرب مثلاً أو بعد العشاء، ولا تزاحم.
يقول: ألا ترون أن تكون الدراسة الأكاديمية مركزة أكثر مما هي عليه الآن على المداخل للعلوم مثل مقدمة التفسير لابن تيمية، ودراسة كتب الأحاديث الستة وكيفية التعامل معها، ومناهج المفسرين وغيرها من الأصول في التعريف بالمفاتيح؟(30/30)
معرفة المفاتيح أمر مهم، وعلوم الآلة يوليها أهل العلم عناية فائقة؛ لأنها تيسر عليهم فهم المقاصد والغايات، لا بد من أن يوجد مقررات تعرف طلاب العلم بما يريدون قراءته من كتب التفسير من معرفة مناهج المفسرين، ومعرفة ما تشتمل عليه هذه الكتب الكبيرة من المحاسن والمآخذ، وقل مثل هذا في شروح كتب السنة، وقل مثل هذا في كتب الفقه، وترتيبها في الأولويات، يحتاج طالب العلم كثير من هذا.
يقول: عندما أقرأ في كتب الفقه أتجاوز الكثير من الفروع، فما رأيكم بهذه الطريقة؟
هذه الطريقة لا تجدي؛ لأن الفروع بعضها مبني على بعض، وكتب الفقهاء ألفت بعناية ودقة، ورتبت فيها العلوم، فتأخذ كما ألفت، وتدرس على الطريقة التي شرحناها.
يقول: بعض طلبة العلم هدانا الله وإياهم يتكلمون على المشايخ؟
حصل الكلام حتى وجد في بعض وسائل الإعلام الكلام على المشايخ، ولا شك أن هذه يؤدي إلى التقليل من شأنهم، ويليه عدم الأخذ منهم، ثم بعد ذلك تضيع الأمة؛ لأن الأمة إذا حيل بينها وبين علمائها بهذه الطريقة لا شك أن الناس سيبحثون عن بدائل، ولا بديل عن شيوخنا الكبار أهل العلم والعمل.
يقول: نجد من أنفسنا وممن حولنا من طلاب العلم حاجة إلى التوجيه في أمرين: فيما بين العبد وبين ربه، وكيف يصلح العبد قلبه، وفي العمل بالآداب؟
هذه في مناسبات كثيرة تكلمنا عليها طويلاً، وذكرنا بعض الأمور التي يوجد فيها الخلل عند السامع والمتكلم، ونسأل الله -جل وعلا- أن يعيننا على ما يصلح قلوبنا، ويجعلها سليمة، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، لا بد من البحث عما يحقق هذا الوصف للقلب.
يقول أيضاً: في منهجية طلب العلم عموماً والأصول والفقه خصوصاً؟ يقول: فنناشدك الله أن تبين لنا هذه الأمور بجلاء حتى نخرج من الظلمة التي نحن فيها، فيكون ذلك من الصدقات الجارية؟
في أشرطة كثيرة حول كيفية تحصيل العلم في العلوم كلها، وهي أيضاً أشرطة تداولها الإخوان، وكانت لقاءات على الهواء في الإذاعة، خمسة لقاءات، سموها كيف يبني طالب العلم مكتبته؟(30/31)
ذكرنا كيف يستفيد طالب العلم من هذه الكتب، فالطالب محتاج في مثل هذه، يراجع هذه الأشرطة، أيضاً فيه معالم في طريق الطلب، فيه مفاتيح العلم، في أمور كثيرة، ونسأل الله -جل وعلا- أن يعاملنا بالعفو، نأخذ من هذا، مع أني لا أكتب أنا، فيحصل من هذا تكرار، ويحصل أيضاً ترديد قد يكون مملولاً عند بعض الطلاب؛ لكن بعض الطلاب يحتاج إلى شيء منه.
يقول: من خرج من بلده وعليه حقوق الناس، يعني الفلوس بينهم ثم جاء إلى مكة هنا فحج قبل أن يرد عليهم أموالهم ثم رد عليهم بعد الحج هل حجه جائز؟
نعم حجه صحيح، وعليه الإثم بحجه وهو مدين، ولم يستأذن من دائنيه، فإذا وفىّ لهم حقوقهم برئت ذمته وحجه صحيح، وعليه أن يستحلهم، لا سيما إذا كانت الديون حالة عندما حج.
مما يشجع طالب العلم، ويجعله يتجاوز بعض العوائق، ويجعله ينشط في الطلب، ما ضربه أهل العلم من أروع الأمثلة في البذل، إذا كان شيوخ كبار السن يبذلون ليل نهار، والآن يوجد نماذج من أهل العلم من عنده أربعة دروس في اليوم، ووجد في المتقدمين من كان عنده من الدروس اثنا عشر درس، وذكروا في ترجمة الطيبي شارح (المشكاة) أنه يجلس بعد صلاة الصبح لتفسير القرآن إلى أن تزول الشمس، جلسة واحدة مع طلابه، فإذا زالت الشمس تجهز لصلاة الظهر، ثم جلس ينتظر الصلاة، فإذا سلم شرع في شرح البخاري إلى أن يؤذن العصر، ثم يصلي العصر، ثم يجلس إلى المغرب لكتاب ثالث وهكذا.
احنا نستكثر أن نأتي إلى درس يحتاج إلى خمس دقائق، عشر دقائق، والدرس ما يصفو منه ساعة في اليوم، العلم لا يستطاع براحة الجسم، كما قال يحيى بن أبي كثير فيما سقناه وشرحناه، وذكرنا مناسبته عند الإمام مسلم في الدرس الماضي.
يقول: إننا عند مطالعتنا لكتب العلماء يتكرر معنا قولهم: "إن هذا النص أو هذا الحديث خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له".(30/32)
جاء في حديث الزكاة في كتاب أبي بكر الصديق الذي كتبه في الصدقات،. . . . . . . . . في كتابه في الصدقات التي فرضها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم قال: "في الإبل في سائمتها في كل خمس شاة، في الغنم في سائمتها في كل خمسين شاة" فنص على السوم، وجاء أيضاً في غيره النص على السوم بالنسبة للبقر، فاشترط العلماء في زكاة بهيمة الأنعام أن تكون سائمة، آخذاً من هذه النصوص، وأن هذا القيد معتبر، ومفهومه مقصود، بحيث إذا لم تكن هذه البهيمة من الأنعام من الإبل والبقر والغنم سائمة لا زكاة فيها زكاة بهيمة الأنعام، أما إذا أعدت للتجارة ففيها زكاة عروض التجارة، سواءً كانت سائمة أو معلوفة.
المقصود أن هذا القيد معتبر عند الجمهور، المالكية يرون أن السوم ليس بشرط، طيب "في سائمتها" ماذا نقول في هذا الوصف؟ خرج مخرج الغالب؛ لأن غالب بهيمة الأنعام في عصر النبوة سائمة، فلا مفهوم له.
هذا موجود عند أهل العلم وبكثرة، فتجد من أهل العلم من يرى أن الوصف مؤثر وله مفهوم، ومنهم من يلغي المفهوم لمعارض عنده، متى نحتاج إلى إلغاء المفهوم؟ المفهوم جماهير أهل العلم يعملون به، نعم مفهوم المخالفة معمول به عند الجمهور؛ لكن متى يلغى المفهوم؟ يلغى المفهوم إذا عورض بمنطوق أقوى منه، يعني في قوله -جل وعلا-: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ} [(80) سورة التوبة] مفهومه أنك لو استغفرت واحد وسبعين مرة أنه يغفر لهم؛ لكن هذا المفهوم معارضه به بقوله -جل وعلا-: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} [(48) سورة النساء] فالمفهوم ملغى، النهي عن أكل الربا أضعافاً مضاعفة، مفهومه أنه لو كان ضعف واحد يجوز أو لا يجوز؟ يجوز؛ لكن هذا المفهوم ملغى، بدليل أنه معارض بمنطوق أقوى منه، فيحتاج لمثل هذا عند المعارضة، نسأل الله -جل وعلا- التوفيق والإعانة للجميع.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(30/33)
معالم في طريق طلب العلم
الشيخ/ عبد الكريم الخضير
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فالموضوع موضوع في غاية الأهمية، وهو من السعة والطول بحيث لا يمكن أن يحاط به في محاضرة، بل ولا في دورة، وترددت كثيراً من أين أبدأ؟ وكيف أبدأ؟ هل أنقل لكم ما قاله الله -جل وعلا- في فضل هذا العلم، وما ذكره، وما نقل عن رسوله -عليه الصلاة والسلام-، وما ثبت عن سلف هذه الأمة في هذا الباب، أو أنقل لكم تجارب في هذا العلم، صدرت ممن عانى هذا العلم، وتعب في تحصيله، المقصود أنني اجتهدت فذكرت -أو سأذكر لكم- إن شاء الله تعالى بعض النصوص التي تدل على فضل هذا العلم، والمراد بهذا العلم، مما يشحذ همة طالب العلم، وأذكر لكم -إن شاء الله تعالى- على سبيل الإجمال والاختصار الشديد بعض المعالم التي هي عنوان المحاضرة، وما ينبغي لطالب العلم أن يصحبه في هذه الرحلة المباركة، وهي طلب العلم الشرعي الشريف.(31/1)
من النصوص التي جاءت في فضل العلم ما قال المولى -جل وعلا-: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [(11) سورة المجادلة] درجات، ما هذه الدرجات التي يرتفع بها أهل العلم على من سواهم؟ وهذه الدرجات لا شك أنها متفاوتة، فلكل عالم منها نصيبه، فمنهم من يحوز منها أعلى الدرجات، ومنهم من هو دون ذلك، ومن أعظم ما يستدل به على فضل العلم مما أطنب ابن القيم -رحمه الله تعالى- في بيانه وشرحه وتوضيحه في كتابه العظيم (مفتاح دار السعادة) قوله -جل وعلا-: {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ} [(18) سورة آل عمران] يمر بها الطالب يقرأها، ويمر بها الكبير والصغير ولا تحرك ساكناً هذه الآية، وهي آية عظيمة في فضل العلم وأهله {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [(18) سورة آل عمران] يقول ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "استشهد سبحانه بأولي العلم على أجل مشهود، وهو توحيده، وهذا يدل على فضل العلم وأهله من وجوه" ثم ذكر هذه الوجوه، أوردها باختصار شديد؛ لأنه أطنب -رحمه الله تعالى- كعادته إذا سال واديه في أي مسألة -رحمة الله عليه- حتى يملأ الخوابي، ويبلغ الروابي -رحمة الله عليه-، وبالمناسبة، وقبل أن نفوت هذه المناسبة ينبغي لطالب العلم أن يعنى بكتب هذا الإمام المحقق -رحمة الله عليه-.
الوجه الأول: استشهادهم دون غيرهم من البشر، استشهادهم على أجل مشهود عليه، استشهادهم على هذا الأمر العظيم دون غيرهم من البشر.
والثاني: اقتران شهادتهم بشهادته -جل وعلا-.
والأمر الثالث: اقتران شهادتهم أيضاً بشهادة ملائكته.(31/2)
والرابع: أنه في ضمن هذا تزكيتهم وتعديلهم، من أي وجه؟ الشهادة إنما يطلب لها العدول، يعني لو شهد شخص على أدنى شيء من حطام الدنيا طلبت تزكيته وتعديله، فكيف بمن يشهد على أجل مشهود عليه؟ إن في ضمن هذا تزكيتهم وتعديلهم، فإن الله لا يستشهد من خلقه إلا العدول، ومنه الأثر المعروف عن النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا كلام بن القيم-: ((يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين)) يقول: الأثر المعروف مختلف في ثبوته، وممن أثبته الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-، ((يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله)) فابن القيم أخذ من الآية تزكية أهل العلم وتعديلهم، واستشهد بهذا الحديث الذي هو عمدة ابن عبد البر في تعديل أهل العلم، وأن كل من عرف بحمل العلم فهو عدل، ((يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله)) يعني العدول الثقات هم الذين يحملون هذا العلم، والحديث مختلف في ثبوته؛ لكن ممن أثبته الإمام أحمد، فعلى افتراض ثبوت هذا الخبر هل يدل على ما أدعاه بن عبد البر؟ ابن القيم -رحمه الله- استشهد به على دلالة الآية؛ لكن يدعي ابن عبد البر -رحمة الله عليه- أن كل من يحمل العلم فهو عدل، فهل الواقع كذلك أو لا؟ هل يوجد في واقع الناس على مر العصور من يحمل العلم الشرعي وهو غير عدل؟ يوجد ولا ما يوجد؟ إذاً كيف يقول ابن عبد البر من عرف بحمل العلم فهو عدل؟ يقول الحافظ العراقي -رحمه الله تعالى-:
قلت: ولابن عبد البر كل من عُني ... بحمله هذا العلم ولم يُوهنِ
فهو عدل بقول المصطفى ... يحمل هذا العلم لكن خولفا(31/3)
خولف ابن عبد البر في هذه الدعوة؛ لأنه وجد في الواقع من يحمل شيئاً من العلم الشرعي، بل قد يكون من أعلم الناس، وأشدهم استحضاراً للمسائل العلمية؛ لكنه غير عدل، يعني يوجد من يحمل هذا العلم من الفساق ممن يخالف عمله قوله، يعني على ثبوت هذا الحديث كيف نجيب عنه؟ هل هذا خبر بمعنى الخبر الذي لا يختلف، بل لا بد أن يطابق الواقع؟ أو أن هذا وإن كان لفظه لفظ الخبر فالمراد به الأمر؟ فيكون الحديث والخبر حث للثقات العدول على حمل العلم، بحيث لا يترك مجال للفساق بأن يكون لهم موقع بين أهل العلم بدليل ما جاء في بعض طرقه بلام الأمر: ((ليحمل هذا العلم من كل خلف عدوله)) ونظير ذلك: ((ليلني منكم أولوا الأحلام والنهى)) هل في الخبر طرد للصغار أو حث للكبار على أن يتقدموا بحيث لا يتركون مجالاً للصغار أن يلوا الأئمة؟ نعم، يوجد في الواقع من ينتسب إلى العلم من عنده مخالفات شرعية، على أنه يمكن أن يقال: أن العلم الشرعي لا يحمله إلا العدول الثقات، وإنما يحمله بعض من عندهم مخالفات أو فسق لا يسمى علم شرعي؛ لأنه وإن استحضر مسائل علمية في أدلتها، وعرف مظانها، وفهمها على وجهها، إلا أنها في الحقيقة ليس بعلم؛ لأن العلم إنما هو ما نفع، العلم إنما هو ما ينفع، وما يوصل إلى مرضات الله -جل وعلا-، أما مجرد معرفة المسائل العلمية مع مخالفتها هذا وبال على صاحبها، نسأل الله السلامة والعافية، وهذا في الحقيقة ليس بعلم، العلم إنما هو ما نفع.
نعود إلى كلام ابن القيم في استشهاد العلماء بالآية، يقول:
الخامس: أن الله وصفهم بكونهم أولي العلم، وهذا يدل على اختصاصهم به، وأنهم أهله وأصحابه، ليس بمستعار لهم، يعني إذا قلنا للطبيب: عالم، وقلنا للمهندس: عالم، وقلنا للمزارع: عالم في فنه، وقلنا للصانع: عالم؛ لكن من يقول الله -جل وعلا- عنه عالم، هذه هي الحقيقة التي حث عليها في كتابه، وعلى لسان نبيه -عليه الصلاة والسلام-، فالله -سبحانه وتعالى- وصفهم بكونهم أولي العلم، وهذه هي الحقيقة الشرعية للعلم.
السادس: أنه -سبحانه وتعالى- استشهد بنفسه، وهو أجل شاهد، ثم بخيار خلقه، وهم ملائكته، والعلماء من عباده، ويكفيهم بهذا فضلاً وشرفاً.(31/4)
والسابع: أنه استشهد بهم على أجل مشهود به، وهو شهادة أن لا إله إلا الله، واستشهد بهم على أجل مشهود به وأعظمه، وهو شهادة أن لا إله إلا الله، والعظيم القدر إنما يستشهد على الأمر العظيم، لا شك أنه إنما يستشهد على الأمر العظيم أكابر الخلق وساداتهم، لو كان لك مبلغ يسير على شخص تأتي إلى علية القوم يشهدون لك، تذهب بهم إلى المحاكم وتحضرهم، وتأخذ مواعيد من القضاة، وترددهم على أمر يسير؟ لا، إنما يطلب مثل هؤلاء، الملأ، علية القوم، يطلبون للأمور الكبيرة، ولا شك أنك تفضل ترك ما لك من حق على استشهاد مثل هؤلاء الكبار، إذا كان شيئاً يسيراً.
يقول الثامن: "أنه سبحانه جعل شهادتهم حجة على المنكرين، فهم بمنزلة أدلته وبراهينه الدالة على توحيده" جعل شهادتهم حجة على المنكرين، يعني من أنكر الربوبية، من أنكر الألوهية من يشهد عليه؟ يشهد عليه من أُثبتت شهادته في هذه الآية.
التاسع: أنه سبحانه أفرد الفعل المتضمن لهذه الشهادة منه، ومن ملائكته، ومنهم، يعني من أهل العلم، أفرد الفعل المتضمن لهذه الشهادة، {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ} [(18) سورة آل عمران] فهي شهادة واحدة على مشهود به واحد، وإن كان للخالق ما يخصه، وللمخلوق ما يخصه، لم يعطف شهادتهم بفعل آخر غير شهادته، ما قال: شهد الله أنه لا إله إلا هو، وشهد ملائكته، وشهد العلماء؟ لا، وهذا يدل على شدة ارتباط شهادتهم بشهادته، فكأنه سبحانه شهد لنفسه بالتوحيد على ألسنتهم، وأنطقهم بهذه الشهادة، فكان هو الشاهد بها لنفسه إقامة، بمعنى أنه شهد هو بنفسه، وإنطاقاً وتعليماً، وهم الشاهدون بها له اقراراً واعترافاً وتصديقاً وإيماناً.(31/5)
العاشر: "أنه سبحانه جعلهم مؤدين لحقه عند عباده بهذه الشهادة يعني حق الله -جل وعلا- على العباد ما حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وهذا هو معنى لا إله إلا الله، هذا هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله، أنه جعلهم مؤدين لحقه عند عبادة بهذه الشهادة، فإذا أدوها فقد أدوا الحق المشهود به، فثبت على الخلق الإقرار به، فكان ذلك غاية سعادتهم في معاشهم ومعادهم، وكل من ناله الهدى بشهادتهم، وأقر بهذا الحق بسبب شهادتهم فلهم من الأجر مثل أجره، هم بهذه الشهادة أقاموا هذا الحق، فمن عمل بهذا الحق يكون لهم من الأجر مثل أجر هذا الذي عمل بهذا الحق؛ لأنه الدال على الخير كفاعله، وهذا فضل عظيم لا يعرف قدره إلا الله -جل وعلا-، وكذلك كل من شهد بها عن شهادتهم، فلهم من الأجر مثل أجره أيضاً، فهذه عشرة أوجه في هذه الآية، وهذا يدلنا على أمر عظيم جداً، وهو عظم أجر من عني بهذه الشهادة، وهي شهادة أن لا إله إلا الله، فبينها للناس، ودعاهم إليها، ووضحها، وكشف شبهات من نقضها، أو أتى بما يناقضها بقصد أو غير قصد، وبهذا تنال الإمامة بالدين اقتداءً بالأنبياء والرسل، وعلى رأسهم سيدهم نبينا محمد -عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة وأتم التسليم- الذي مكث في مكة ثلاثة عشرة سنة يقرر هذه العقيدة الصافية من خلال شهادة أن لا إله إلا الله، وسار على دربه أئمة الإسلام من الصحابة والتابعين، وسلف هذه الأمة، ومن تبعهم على مر القرون، وأنتم من خلال سماعكم ومطالعتكم من نال الإمامة بالدين بغير الدعوة إلى هذه الشهادة الخالصة الصافية، وُجد من برز في العلوم كلها؛ لكن عنده شيء يخل بصفاء هذه الشهادة، لا يكتب له من نباهة الذكر واشتهار الأمر والاقتداء به مما يجعل أجره يجري مئات السنين بعد وفاته بقدر ما يناله من حقق هذه الشهادة، ودعا إليها من آخر من دعا إليها مع صفاء الدعوة على ما جاء عن الله وعن رسوله -عليه الصلاة والسلام-، وجاهد دونها، وكشف شبهات من أراد أن أو أتى بما ينقضها الإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، أجزل الله له الأجر والثواب، وأدخله الجنة بدون حساب، وجمعنا به ووالدينا وجميع المسلمين في جنات النعيم.(31/6)
من علامة التوفيق لطالب العلم وللعالم الاهتمام بهذه الشهادة، والدعوة إليها، وبيان ما يضادها وينقضها، والعناية بقراءة وإقراء الكتب التي تُعنى بها من كتب أئمة هذه الدعوة، وكتب من قبلهم من أئمة الإسلام من سلف هذه الأمة وأئمتها.(31/7)
من الأدلة على فضل العلم والعلماء قوله -جل وعلا-: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [(9) سورة الزمر] فنفى التسوية بينهم وبين غيرهم، قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، هل هذا مجرد استفهام مطلوب جوابه؟ لا، هذا نفي للتسوية بين أهل العلم وبين غيرهم؛ لكن هذا النفي مقرون بأمر عظيم تقدمه فعلى طالب العلم أن يستحضر السبب الذي نفيت فيه هذه التسوية، وهو في صدر الآية، في صدر الآية يقول الله -جل وعلا-: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [(9) سورة الزمر] يعني هل يمكن فصل عجز الآية عن صدرها لا يعني سبب عدم أو نفي هذه التسوية ما اتصف به أهل العلم، مما أشير إليه في صدر هذه الآية، أمن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه خائفاً راجياً وجلاً، هذا هو المفضل على غيره، والله المستعان، وهذا يجرنا إلى أمر جاء في كتاب الله -جل وعلا- على سبيل الحصر للعلماء {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} [(28) سورة فاطر] فالذي علمه لا يزيده من خشية الله -جل وعلا- فهذا في الحقيقة ليس بالعلم؛ لأنه على سبيل الحصر هل يستطيع أن يقول قائل: أن هذا حصر إضافي ليس بحصر حقيقي، والله -جل وعلا- يقول: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} [(28) سورة فاطر] والنبي -عليه الصلاة والسلام- أخشى الناس وأتقاهم، فهل يوجد عالم لا يخشى الله -جل وعلا- بعد هذا الأسلوب الذي يقتضي الحصر فيهم، من شرف العلماء وفضلهم أن الله -جل وعلا- جعل أهل الجهل بمنزلة العميان، جعل الله -جل وعلا- أهل الجهل بمنزلة العميان الذين لا يبصرون، فقال تعالى: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} [(19) سورة الرعد] فقابل الذي يعلم بالأعمى، العلم نقيض العمى وإلا نقيض الجهل؟ نقيض الجهل، فلما جعل العمى في مقابلة العلم صار الجهل عمى، إذا كان الذي يقابل العلم هو الجهل، وجُعل العمى(31/8)
مقابلاً للعلم إذاً الجهل عمى، قال ابن القيم: "فما ثم إلا عالم أو أعمى" وقد وصف الله أهل الجهل بأنهم صم بكم عمي في غير موضع، في أخلاق العلماء للآجري قال -رحمه الله-: فما ظنكم -رحمكم الله- بطريق فيه آفات كثيرة، ويحتاج الناس إلى سلوكه في ليلة ظلماء فما ظنكم -رحمكم الله- في طريق فيه آفات كثيرة، وادٍ مهلكة فيه سباع وهوام، ويحتاج الناس إلى سلوكه، يعني لا مندوحة لهم من سلوكه في ليلة ظلماء فإن لم يكن فيه ضياء وإلا تحيروا، فقيض الله لهم فيه مصابيح تضيء لهم فسلكوه على السلامة والعافية تصور وادٍ مهلكة فيها هوام، وفيه سباع، وفيه وحوش، في ليلة شديدة الظلام، وأنت مضطر إلى سلوكه، ثم يأتيك من بيده مصباح يمشي به بين يديك، هل له فضل عليك أو لا؟ أي فضل لهذا؟! يقول: "فقيض الله لهم فيه مصابيح لهم فسلكوه على السلامة والعافية، ثم جاءت طبقات من الناس لا بد لهم من السلوك فيه فسلكوا، فبينما هم كذلك إذ طفأت المصابيح، فبقوا في الظلمة، فما ظنكم بهم؟! هكذا العلماء في الناس، لا يعلم كثير من الناس كيف أداء الفرائض، ولا كيف اجتناب المحارم، ولا كيف يعبد الله في جميع ما يعبد إلا ببقاء العلماء، كلام في غاية الوضوح، تصور جمع غفير من الناس، أو بلد كبير ليس به عالم، كيف يتعبد الناس، كيف يعبد الناس ربهم على مراده -جل وعلا-؟ يقول: "فإذا مات العلماء تحير الناس، ودرس العلم بموتهم، وظهر الجهل، فإنا لله وإنا إليه راجعون، مصيبة ما أعظمها على المسلمين ... "إلى آخر كلامه -رحمه الله تعالى-.(31/9)
من أعظم المصائب على هذه الأمة موت نبيها -عليه الصلاة والسلام- الذي لا يمكن أن يصل أحد إلى شيء من العلم إلا من طريقه -عليه الصلاة والسلام- لكنه تركنا على المحجة على البيضاء ليلها كنهارها، ترك فينا الكتاب والسنة، ولا شك أن موت العلماء وكل بحسب نفعه للأمة، بحسب نفعه وما يقدمه من نفع متعدي، فجيعة موت العلماء فاجعة، وثلمة في الدين لا تسد، وأدركتم شيء من هذا بموت بعض العلماء الراسخين في هذه البلاد وفي غيرها، تركوا ثلمة لا تسد، ولا شك أن الخير موجود في أمة محمد، وهذه البلاد -ولله الحمد- محط أنظار العالم كله، وفيها من العلماء العاملين، فيها العباد والزهاد، وفيها الدعاة والقضاة، والخير موجود، وطلاب العلم لا يحصرهم عدد -ولله الحمد-، وجلهم -ولله الحمد والمنة- على الجادة، والله المستعان.
ومن شرف العلماء أن الله -جل وعلا- أمر بسؤالهم والرجوع إلى أقوالهم، فقال تعالى: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [(43) سورة النحل] وأهل الذكر هم أهل العلم بما أنزل الله على أنبيائه، والذكر يدخل فيه دخولاً أولياً القرآن {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} [(9) سورة الحجر] المراد به القرآن، وليس في هذا مستمسك لما يروجه بعض المتصوفة أن الذين يُسألون هم أهل الأفكار المبتدعة من شيوخهم، يقول قائلهم: الله -جل وعلا- ما قال: اسألوا أهل العلم، قال: اسألوا أهل الذكر، يقول: ما المراد بالذكر؟ فالله -جل وعلا- يقول: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} [(9) سورة الحجر] ما هذا الذكر؟ هو القرآن، فالذي يسأل هم أهل القرآن الذين عنوا بكتاب الله -جل وعلا- حفظاً وقراءة وتعلماً وتعليماً وتدبراً وتفقهاً هم العلماء العاملون.(31/10)
ومن ذلك أن الله -جل وعلا- سلا نبيه بإيمان أهل العلم به، وأمره أن لا يعبأ بالجاهلين، فقال -جل وعلا-: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً} [(106) سورة الإسراء] {قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُوا} جهال {آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً} [(107 - 108) سورة الإسراء] إذا آمن أهل العلم الجهال لا تعبأ بهم، فالله -جل وعلا- سلا نبيه بهذا، يقول بن القيم: "وهذا شرف عظيم لأهل العلم، وتحته أن أهله العالمون قد عرفوه، وآمنوا به، وصدقوه، فسواء آمن به غيرهم أم لا".(31/11)
ومن ذلك أن الله -سبحانه وتعالى- مدح أهل العلم، وأثنى عليهم وشرفهم بأن جعل كتابه آيات بينات في صدورهم، وهذه خاصة ومنقبة لهم دون غيرهم، فقال تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} [(49) سورة العنكبوت] فالذي ليس في صدره شيء من القرآن هل يمكن أن يقال: أنه من أهل العلم؟ {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [(49) سورة العنكبوت] الذي ليس بجوفه شيء من القرآن ليس من أهل العلم قطعاً؛ لكن أهل العلم يقررون في أبواب الاجتهاد من كتب الأصول أنه لا يلزم حفظ القرآن كاملاً للاجتهاد، والاجتهاد علم المجتهد هو العالم الحقيقي؛ لكنه يقبح ممن يتصدى لإقراء الناس وإفتاءهم وتعليمهم ألا يكون حافظاً لكتاب الله -جل وعلا- نعم قد يكون بعض الناس لا تسعفه الحافظة، لا سيما إذا كان انتباهه لحفظ القرآن متأخراً، قد لا تسعفه حافظته للحفظ، عليه أن يحرص، أن يحفظ ما يستطيع من حفظه، وإن لم يستطع الحفظ كاملاً فعليه أن يديم النظر في هذا الكتاب العظيم على الوجه المأمور به، ويحرص على قراءته بالتدبر والترتيل، وحينئذ يورثه ذلك من العلم واليقين والإيمان ما لا يدركه إلا من فعل فعله، كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية، وإذا أدام النظر في هذا الكتاب العظيم، وقرأه على الوجه المأمور به، واستنبط منه، وفهمه، وعمل بما علم منه صار من أهله، الذين هم أهل الله وخاصته، يقول بن القيم -رحمه الله تعالى- في زاد المعاد: "أهل القرآن هم العاملون به، وإن لم يحفظوه" لكن لا شك أن الحفظ شأنه عظيم الحفظ شأنه عظيم، ولا علم إلا بحفظ، من فضل العلم أن الله -جل وعلا- لم يأمر نبيه أن يسأله المزيد من شيء سواه، كما في قوله -جل وعلا-: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [(114) سورة طه] وكفى بهذا شرفاً للعلم وأهله إلى غير ذلك من الآيات الشيء الكثير، ومن السنة أيضاً نصوص كثيرة جداً صحيحة صريحة في فضل العلم، وفضل أهله، الحث على طلبه مما ورد فيه قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة)) وجاء في(31/12)
الحديث: ((العلماء ورثة الأنبياء)) ((من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة)) في هذا بشارة عظيمة لمن يسلك هذا السبيل ويطلب العلم، ويستمر في الطلب، ولو لم يدرك منه شيئاً على حد زعمه، بعض الناس يبدأ بطلب العلم والمقومات قد تكون مستواها أقل، يكون ضعيف الحافظة، وضعيف الفهم، لم يوفق لسلوك جادة مختصرة لتحصيله، فينتقل من شيخ إلى آخر، ومن حلقة إلى أخرى، ويمضي سنة، سنتين، عشر سنوات، عشرين سنة، فإذا حاسب نفسه وجد أنه لم يدرك شيء يذكر، ثم هذا الإحساس يحمله على ترك التعلم، تسهيل طريق الجنة مربوط ببذل السبب، ولم يربط بالنتيجة، ابذل السبب، واسلك هذا الطريق، التمس العلم، نعم احرص على أن تحصل ما تستطيعه من علم؛ لكن إذا لم تدرك لست مطالب بالنتائج، وهذه من نعم الله -جل وعلا- على خلقه أن ربط الأجور ببذل الأسباب، طالب العلم يلتمس العلم ويسهل له به طريق إلى الجنة وإن لم يدرك، العالم يجلس للتعليم وأجره عند الله عظيم ولو لم يستفد منه طلابه، نعم يحرص على أن يفيد الطلاب؛ لكن جلس، وبذل الأسباب، ولم يستفد منه أحد، النبي يأتي وليس معه أحد، وليس في هذا عيب، الآمر الناهي الذي يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر: ((من رأى منكم منكراً فليغره بيده، فإن لم يستطع ... )) يبذل السبب لا يقول: والله أنا يائس من تغيير هذا المنكر، نقول: لا يا أخي أنت مأمور ببذل السبب، والنتائج بيد الله -جل وعلا-، فأنت يسهل لك طريق إلى الجنة، وإن لم تدرك ما تطمع فيه من علم، في الحديث الصحيح: ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)) والمراد بالفقه هنا جميع أبواب الدين، وعلى رأس ذلك الفقه الأكبر، والفقه العملي، وجميع أبواب الدين، مما يحتاج إليه طالب العلم، وكثير من طلاب العلم تجد حرصه على الفقه العملي؛ لكن الأبواب الأخرى كثير منها مهجور، ونصيبها لو استعرضنا الجداول، جداول الدروس يعني في الرياض على سبيل المثال حدود خمسمائة درس أسبوعي، تجد النصيب الأوفر للفقه، الأحكام العملية؛ لكن ما يخص العقائد أقل، وإن كان موجود -ولله الحمد-، ما يخص التفسير أقل، ما يتعلق بأمراض القلوب وعلاجها أقل، طالب علم يدرك يقول: يخشى أن يقرئ(31/13)
الناس أو يشرح للناس كتب الرقاق أن يصنف واعظ، ولا يصنف من أهل العلم، ما هذه الخشية؟ هذا من أعظم أبواب العلم، هب أن الناس تعلموا وفقهوا؛ لكن ما الذي يحدوهم إلى العمل؟ إلا مثل هذه الأبواب، فعلى طالب العلم وقبل ذلك على العالم أن تكون نظرته إلى العلم أشمل وأوسع، وأن يعلم الناس جميع أبواب الدين.(31/14)
ما المراد بالعلم الذي ذكرنا فضله في النصوص؟ المراد به ما عظم شأنه في النصوص الشرعية إنما هو العلم الشرعي، المورث لخشية الله -جل وعلا- كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} [(28) سورة فاطر] "أي إنما يخاف من الله -جل وعلا- من علم قدرته وسلطانه، وهم العلماء" قاله ابن عباس، يقول ابن القيم في مدارج السالكين: "الخشية أخص من الخوف، فإن الخشية للعلماء بالله، كما في الآية، فهي خوف مقرون بمعرفة" قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((إني أتقاكم لله وأشدكم له خشية)) ولا شك أن من كان بالله أعرف كان منه أخوف، وله أتقى، قد يقول قائل: هل الأولى أن يتجه الناس كلهم لتحصيل العلم الشرعي ويترك ما سواه من العلوم التي تنفع في أمور الدنيا؟ العلوم الدنيوية الأخرى النافعة مما يحتاجه المسلمون كالطب والهندسة والزراعة والصناعة وغيرها هذه كغيرها من الحرف حرفة من الحرف إذا طلبت بغير نية هي حرفة مما يكتسب به المال، إنما يؤجر الإنسان في طلبها بقدر نيته في تحصيلها، فإن نوى بها الاستغناء عن الخلق، وكفاية نفسه، وكفاية من يمون، هذا له أجر بهذه النية، وإذا نوى بها رفعة الأمة، وقوتها على أعدائها، وعدم احتياجها إلى غيرها من أعدائها أجر على ذلك أعظم، وهكذا هذه العلوم إن أورثت خشية الله -جل وعلا- وهذا موجود عند بعضهم لا سيما من وفق للتفكر والتأمل صار أجره أعظم يوجد في محيط الأطباء من قاده هذا العلم الدقيق إلى منزلة من الإيمان، قد لا يصل إليها كثير ممن تصدى لطلب العلم الشرعي؛ لكن طالب العلم الشرعي إذا امتثل بقوله -جل وتعالى-: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [(21) سورة الذاريات] حصل له من هذا ما هو أعظم لمعرفته للنصوص الشرعية؛ لكن هذه العلوم من طلبها للدنيا فقط أعني علوم الدنيا مما أشرنا إليه من طب وهندسة وزراعة وصناعة وغيرها من العلوم، من طلبها للدنيا فقط هذا لا يأثم، بخلاف العلوم الشرعية التي يبتغى بها وجه الله -عز وجل-، العلم الشرعي من أمور الآخرة المحضة التي لا يجوز التشريك فيها في طلبها، فضلاً عن أن تطلب بغير نية، أو رياء، أو سمعة، أو ليقال، وقد جاء التحذير من ذلك أشد(31/15)
التحذير، وأبلغ التنفير، ففي حديث الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار، منهم من تعلم العلم وعلمه، فقد يمضي عمره كله مائة سنة نصفها في التعلم، والنصف الثاني في التعليم ثم يكون بعد ذلك أحد الثلاثة الذين أول من تسعر بهم النار، ماذا صنعت يا فلان؟ تعلمت العلم، وعلمته الناس، لا، إنما تعلمت ليقال، وقد قيل، ومثله المجاهد الذي يبذل نفسه ومهجته فيما يبدو للناس، ويظهر للناس أنه يقدمها لإعلاء كلمة الله -جل وعلا-، والأمر خلاف ذلك، إنما ليقال: شجاع، وثالثهم الذي يتصدق بالأموال الطائلة ليقال: جواد، والله المستعان.
يقول الشيخ حافظ الحكمي -رحمه الله تعالى- في ميميته في الوصية بالعلم وطلبه، وهي منظومة جدير بطالب العلم أن يحفظها، ويعنى بها، يقول -رحمه الله تعالى-:
ومن يكن ليقول الناس يطلبه ... أخسر بصفقته في موقف الندمِ
فالإنسان عليه أن يتفقد هذه النية، فالنية شرود، يأتي ليطلب العلم ثم يغفل عن هذه النية فتشرد.
ومن يكن ليقول الناس يطلبه ... أخسر بصفقته في موقف الندمِ
فليطلب العلم طالبه مخلصاً لله -عز وجل-، مبتغياً به وجه الله -جل وعلا- والدار الآخرة، وليحذر من المراءات والممارات، يقول الشيخ حافظ أيضاً -رحمه الله-:
إياك واحذر ممارات السفيه به ... كذا مباهاة أهل العلم لا ترمِ(31/16)
ليحذر طالب العلم أيضاً الكبر، يعني إذا كان ممن أوتي مزيد من حفظ، أو فهم لا يتكبر على غيره؛ لأن المتكبر يصرف عن الإفادة من العلم الشرعي، لا سيما ما يتعلق بالقرآن الكريم، الذي هو أصل العلوم، كلها كما قال -جل وعلا-: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [(146) سورة الأعراف] المتكبر يصرف عن آيات الله، وبهذا رد مفتي حضرموت الشيخ عبد الرحمن بن عبيد الله السقاف رد على من اتهم شيخ الإسلام بن تيمية بالكبر؛ لأن بعض من ترجم له نبزه بالكبر، شيخ الإسلام إمام من أئمة المسلمين، إمام علم وعمل وتواضع وتقوى ونشر للعلم وجهاد في سبيل الله، ويأتيك من ينبزه بمثل هذا، ماذا قال مفتي حضرموت عبد الرحمن بن عبيد الله السقاف له محاضرة ألقاها في تحقيق الفرق بين العامل بعلمه وغيره، نفى الكبر عن شيخ الإسلام ابن تيمية، قد يكون ممن يختلف مع شيخ الإسلام في بعض الأمور؛ لكنها كلمة حق، نفى الكبر عن شيخ الإسلام ابن تيمية، واستند في نقض كلامه -كلام الذي ادعى هذه الدعوى- إلى أنه رأى القرآن على طرف لسانه، وأثلة قلمه، كيف يفسر القرآن لمثل هذا وفيه شيء من الكبر؟ وعلق الإمام البخاري عن مجاهد: "لا يتعلم العلم مستحيي ولا مستكبر" مستحيي بياءين "مستحيي ولا مستكبر" لا شك أن الذي يستحيي والمراد بالحياء الحياء العرفي لا الحياء الشرعي؛ لأن الحياء في الشرع خير كله، والحياء لا يأتي إلا بخير؛ لكن الحياء في عرف الناس الذي يمنع من تحصيل العلم، ويمنع من إنكار المنكر، ويمنع من توجيه الناس ونصحهم وإرشادهم مثل هذا مذموم، وحينئذ لا يدرك من العلم من اتصف بهذا الوصف، وهو الحياء الذي يمنعه، قد يجلس الطالب وفي نفسه أشياء مشكلة، فيستحيي أن يسأل الشيخ، وبلفظ آخر يخجل أن يسأل الشيخ، فتستمر هذه الإشكالات عنده، فكيف تنجلي هذه المشكلات إلا بالسؤال، "ولا مستكبر" قد يستكبر ويستنكف ويترفع على أن يسأل هذا السؤال بين الناس، ويظهر للناس أنه فوق مثل هذا السؤال، وبهذا يحرم العلم.(31/17)
مما يتعين على طالب العلم الحذر منه العجب والإعجاب ورؤية النفس؛ ولا شك أن هذا من الأمراض المقيتة، فإذا كان الإنسان إذا أعجب بما أوتي من أمور الدنيا قد يعطى الإنسان من هذه الدنيا الشيء الكثير، ويستفيد منه في أمور دينه ودنياه؛ لكن متى يذم؟ إذا طغى، ومتى يطغى؟ {أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} [(7) سورة العلق] يعني إذا رأى أنه استغنى، وهنا طالب العلم إذا رأى أنه حصل ما يغنيه عن غيره، وأعجب بنفسه حينئذ يهلك إذا وصل إلى هذه المرحلة، فلا شك أنه وصل إلى مرض مزمن يحتاج إلى علاج قوي، ماحق لبركة العلم والعمل، يقول الشيخ حافظ -رحمه الله- في ميميته التي أشرت إليها:
والعجب فاحذره إن العجب مجترف ... أعمال صاحبه في سيله العرمِ(31/18)
طالب العلم ينبغي أن يتفقد القلب، والقلب لا يخفى عليكم أنه جميع الخطابات الشرعية جاءت موجه إلى ماذا؟ إلى القلب ((ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)) {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [(88 - 89) سورة الشعراء] فالقلب على طالب العلم أن يعنى به، ويترفع عن هذه الأمراض والأدواء، أيضاً على طالب العلم أن يطرح الكسل، ويشمر عن ساعد الجد في الطلب، فإن العلم لا ينال براحة الجسد، نقله الإمام مسلم عن يحي بن أبي كثير، العلم لا يستطاع براحة الجسم، ما هو بتمني المسألة، وإلا كان كل الناس علماء، كل يعرف منزلة العلماء؛ لكن دونه خرط القتات، لا بد من الجد والاجتهاد، لا بد من ثني النفس وغسلها عن شهواتها، وما حصل أهل العلم ما حصلوا إلا بالسهر، إذا أراد الطالب سلوك هذا الطريق، بعد أن يبذل الأسباب، ويسعى في البراءة من هذه الموانع التي أشرنا إلى بعضها، يسلك أسباب التحصيل، ويبرأ من الموانع، فليسلك الجواد المعروفة عند أهل التحقيق من العلماء الراسخين، الذين يربون طلابهم على العلم النافع والعمل الصالح على الكتاب والسنة وعقيدة أهل السنة والجماعة، وفي هذه البلاد -ولله الحمد- العلماء العاملين الناصحين لهذه البلاد القدح المعلى، وهي أيضاً محط أنضار العالم كله في العلم والفتوى، وحينئذ يبدأ بمن يراه يفيده من الشيوخ؛ لأن الشيوخ مدارس، فالشيخ له طريقته ومنهجه في التعليم، قد يناسب هذا، وقد لا يناسب هذا، ثم ليتخير من المتون ما يناسب سنه وفهمه، من المتون المختصرة في العلوم المعتبرة عند أهل العلم في كل فن مقدم بين يدي ذلك حفظ كتاب الله -عز وجل-، ولو تفرغ في أول الأمر في حفظ القرآن الكريم كاملاً ثم طلب غيره من العلوم ليضمن حفظ القرآن؛ لأن من العلماء تختلف طريقتهم في هذا الأمر فأهل المشرق لهم طريقة، وأهل المغرب لهم طريقة، طريقة المغاربة يجعلون الطالب يحفظ القرآن كاملاً، ولا يدخل عليه شيء من الحفظ، فإذا انتهى من حفظه طلب غيره من العلوم، وإذا ضمن حفظ القرآن اتجه إلى الأمور الأخرى، أما المشارقة فطريقتهم تختلف في(31/19)
بداية الطلب يحفظون المتون الصغيرة، التي هي بمثابة اللبنة الأولى الأساس لهذا العلم، مع حفظ ما تيسر حفظه من المفصل، ثم يترقى الطالب إلى كتب الطبقة الثانية، ويزيد على ذلك من حفظ القرآن ما يناسب سنه، وهكذا حتى إذا انتهى من الطلب يكون قد حفظ القرآن كاملاً، وأدرك ما يحتاجه من علوم، وليحرص طالب العلم على كتاب الله -جل وعلا-، وما يعينه على فهم كتاب الله من النظر في التفاسير الموثوقة التي كتبها أهل التحقيق، والنظر أيضاً في العلوم التي يسمونها علوم الآلة التي تعين على فهم الكتاب والسنة؛ وليكن حفظه للقرآن وغيره من العلوم على الجادة، فالقرآن مثلاً يخصص ما يريد حفظه، والناس يتفاوتون، من الناس من رزق حافظه تسعفه لو أراد حفظ جزء كامل من القرآن، ومن الناس من لا يستطيع حفظ أكثر من آية، وبقية الناس بين هذين، فيحدد ما يغلب على ظنه أنه يستطيع حفظه، أربع آيات، خمس آيات، عشر آيات، ثم يحفظ هذه الآيات، ويتعلم ما فيها من علم وعمل، يراجع عليها ما يناسب سنه، وتحصيله من التفاسير التي تعينه على فهم هذه الآيات، فإذا انتهى من القرآن فإذا به قد انتهى من العلم والعمل، يتعلم، يحفظ، يفهم، يستنبط، يعمل، كما قال أبو عبد الرحمن السلمي: "حدثنا الذين يقرؤننا القرآن أنهم كانوا لا يتجاوزون عشر آيات حتى يعلموا ويعرفوا ما فيها من علم وعمل، فتعلموا العلم والعمل جميعا"ً بهذه الطريقة.(31/20)
العلوم كثيرة: هناك علوم غايات، وهناك وسائل، الغايات هي علم الكتاب والسنة، والوسائل ما يعين على فهم الكتاب والسنة، وليأخذ من كل فن ما يناسبه، ويتدرج في كل فن، والعلماء كتبوا في هذا المجال وأكثروا، وفي مناسبات كثيرة تحدثنا عن هذا الموضوع، فلا أريد أن أطيل فيه؛ لكن إذا اختار الشيخ واختار الكتاب عليه أن يحفظ المقطع الذي يراد شرحه في هذا اليوم، ذكروا في كتب طرق التعلم أنك تردد هذا المقطع حتى تحفظه، من الغد تقرأ ما حفظته بالأمس خمس مرات، ثم تحفظ نصيب اليوم الثاني، في اليوم الثالث تكرر ما حفظته في اليوم الأول أربع مرات، وما حفظته في اليوم الثاني خمس مرات، ثم تزيد نصيب اليوم الثالث، ثم في اليوم الرابع نصيب اليوم الأول ثلاث مرات، والثاني أربع مرات، والثالث خمس مرات، وهكذا تبدأ تترك في اليوم السادس تترك نصيب اليوم الأول، وفي اليوم السابع تترك نصيب الثاني، ضمنته، كم كررته من مرة، وهذه طريقة مجربة ونافعة، فإذا حفظ الطالب هذا النصيب ... ، والشيخ عبد القادر بدران ذكر طريقة لتحضير الدروس نافعة؛ لكن مع الأسف الشديد أن كثير من الطلاب لا يعرف الكتاب إلا عند الشيخ في حلقة الدرس، ومثل هذا قل أن يفلح، الشيخ عبد القادر يقول -رحمه الله-: "تحفظ المقدار المحدد مع مجموعة خمسة ستة يكون من الطلاب الجادين الذين يناسبونك في فهمك، وفي مستواك العلمي، ثم كل واحد ينفرد بمفرده، ويشرح ما حفظه من غير الرجوع إلى الشروح، يشرح المقطع، فإذا شرحه قرئ الشرح على هذا الكتاب، وكل واحد معه شرحه، ثم إذا تبين له خطأ في فهمه وفي شرحه صحح، بهذه الطريقة لن يتكرر الخطأ مرة ثانية، خلاص اجتث الخطأ من أساسه، ثم بعد ذلك راجعوا الحواشي، وتناقشوا في الشرح والحواشي، بعد ذلك يذهبون إلى الشيخ، يمثلون بين يديه بكل أدب وتواضع واحترام، ما يجي الطالب شايف نفسه، ويقول: خلاص أنا مانا بحاجة الشيخ، أنا حفظت وقرأت الشرح والحاشية، وش عنده هو؟ لأن بعض الطلاب يأتي بهذه النفسية، وحينئذ لن يستفيد من الشيخ، بعض الطلاب قد يحضر عند بعض الشيوخ يوم يومين ثلاثة عشرة ثم يتركه، ما السبب؟ والله ما استفد، ترددت على هذا الشيخ ما شفت منه فائدة تذكر، وقد(31/21)
يكون هذا الشيخ من الأكابر من العلماء الكبار؛ لكن هذا الطالب يريد يطلع من عند الشيخ في يوم وفي يومين وفي عشرة وهو شيخ، يصبر، ولا شك أن كلاً من الشيخ والطالب لا بد من أن يتعرضا لمرحلة امتحان، حتى إذا تجاوز هذه المرحلة وفقا وسددا، الشيخ أيضاً قد يجلس لإقراء الطلاب وتعليمهم، يجلس أول يوم عشرة مثلاً اليوم الثاني ينقصون يصيرون خمسة، اليوم الثالث يصيرون اثنين، الشيخ يراجع حساباته ويترك نقول: يا أخي لا تترك هذه مرحلة امتحان استمر، أنت لو استأجرت من يقرأ عليك بالدراهم ما هو بكثير خله يقرأ عليك اثنين ثلاثة ما يخالف؛ ((لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)) لكن أنت إذا تجاوزت هذه المرحلة أبشر، وقد أدركنا بعض شيوخنا ما عندهم إلا طالب واحد، ليس من أهل هذه البلاد، والآن بالمئات، بل بالألوف الحضور عنده، وآحاد الناس يأتي إلى هذا الشيخ الذي يحضره الأكابر من العلماء ومن القضاة ومن الدعاة يأتي من صغارهم يقول: والله ما مسكت شيء، ما فيه فائدة، إذا كنت جاي لتطلب العلم بهذه النفسية من الآن يا أخي لن تحصل شيء، على كل حال العلوم لا بد أن يأخذ طالب العلم من كل علم منها بطرف، فيعنى بكتاب الله، وما يخدم الكتاب، وليكن لسنة نبيه -عليه الصلاة والسلام- النصيب الأوفر على الجادة المعروفة، يبدأ بالكتب المتون الصغيرة المختصرة، إلى أن يترقى إلى الكتب المسندة الأصلية، يتفقه أيضاً على مذهب معين، وليست هذه دعوة إلى التقليد، لا إنما هي دعوة إلى المنهجية وسلوك الجادة في طلب العلم، يعني بعض الناس يسمعنا نقول أو يسمع غيرنا يقول: اقرأ في زاد المستقنع، أو في دليل الطالب يظن أن هذه الكتب دساتير لا يحاد عنها، لا هي كتب البشر؛ لكن كيف تتحدد معالم العلم وأنت لست على جادة؟ يقول بعضهم: أنه يتفقه من الكتاب والسنة، يا أخي أنت مبتدئ كيف تتعامل مع الكتاب والسنة؟ هل عندك من العلم ما يعينك على فهم الكتاب والسنة؟ عرفت العام والخاص، والمطلق والمقيد، عرفت كيف تتعامل مع النصوص؟ عرفت الناسخ والمنسوخ ما عرفت، تفقه على كتاب مختصر احفظ مسائله، وتصور هذه المسائل بدقة، اقرأ الشروح، واحضر الدروس، وفرغ الأشرطة، واستدل لهذه(31/22)
المسائل؛ لأنه ليس مفترض من طالب العلم أن يحفظ أقوال جافة بدون أدلة، العلم قال الله قال رسوله، يستدل لهذه المسائل، وانظر من وافق المؤلف على هذه الأحكام، مع النظر في أدلتهم وتحليلاتهم، وانظر من خالف، وانظر دليل المخالف، ووازن بين الأدلة بهذا تخرج عالم، لكن لما تقول: أتفقه من الكتاب والسنة وأنت ما عندك شيء، طيب ما الذي في الكتاب من تفصيلات أحكام الصلاة فضلاً عن غيرها، وأنت تقول: أتفقه من الكتاب، إذا قرأت في السنة وأنت لا تعرف مطلق ولا مقيد ولا ناسخ ولا منسوخ كيف تعرف؟ مثال رددناه مراراً يقرأ الطالب المبتدئ (باب الأمر بقتل الكلاب) ثم يخرج بالمسدس فإذا رأى كلب قتله، طيب الدرس من الغد (باب نسخ الأمر بقتل الكلاب) كيف يتفقه مثل هذا؟ لا بد من الجواد المعروفة عند أهل العلم، قد يقول قائل: أن هذه الكتب لا توجد في عصر السلف، إنما أخذوا من النبي -عليه الصلاة والسلام- مباشرة وتفقهوا، يا أخي إذا كنت في مستواهم، وفي فهمهم، هم يفهمون اللفظ كيف يراد، اللفظ العام، اللفظ الخاص، العام المخصوص، العام الذي أُريد به الخصوص، أنت ما تفهم شيء، ما زلت مبتدئ بحكم العامي، بهذه الطريقة إذا سلكها الطالب -بإذن الله- ما ينهي كتاب مختصر من المختصرات من المتون المتينة المعروفة عند أهل العلم، لا يأتي إلى كتاب سهل والمشقة كما هو معروف ليست مقصودة لذاتها في الشرع؛ لكن الكتاب المتين يربي طالب علم، هو الذي يجعلك تبحث عن معاني هذا الكتاب ومنطوقه ومفهومه، وإلا فالمشقة ليست مطلوبة لذاتها، كتاب سهل تقرأه طيب ويش يثبت؟ ما الذي يثبت في الذهن من قراءة كتاب ميسر، ما يثبت شيء؛ لكن إذا كان الكتاب فيه معاناة، فيه صعوبة، هذا يثبت -بإذن الله-، وإلا ما الذي يجعل طلاب العلم يعانون زاد المستقنع من ألف إلى يومنا هذا، وهو من أعقد الكتب، مختصر خليل عند المالكية ألغاز، ومع ذلك هو عمدتهم، يعني هذا الاعتماد جاء من فراغ، اعتماد المالكية على خليل خطأ، ما هو بصحيح؛ لأنه كتاب يربي طالب علم، وكثير من الإخوان يعتمد على مؤلفات معاصرين وكتابات سيالة، هذه لا تحتاج إلى معاناة، ولا مجرد ما تترك الكتاب وش يعلق بذهنك منه؛ لكن الكتاب الصعب الذي(31/23)
السطر منه يحتاج معاناة مراجعة شروح وحواشي وسؤال مشايخ وتفريغ أشرطة هنا يثبت العلم.
الكلام طويل جداً، والمعالم التي ذكرها الإخوان تحتاج إلى دروس لا درس واحد.
على كل حال مما يركز عليه مسألة الإخلاص والحرص، وملازمة الشيوخ واستشارتهم، وقبل ذلك التقوى {وَاتَّقُواْ اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ} [(282) سورة البقرة] التقوى من أهم وسائل تحصيل العلم، فيتقي الله -جل وعلا- الطالب بفعل ما أمر به، وترك ما نهي عنه، ولينشغل بعيوبه عن عيوب غيره، أما إذا انشغل بعيوب الناس والقيل والقال هذا لا يدرك علم، هناك أيضاً أمور ووصايا؛ لكن الوقت لا يسعف في استقصائها، ولا استيعابها، هناك أيضاً أشرطة حول كيف يبني طالب العلم مكتبته؟ كيف يقرأ المطولات؟ كيف يقرأ المختصرات؟ هي موجودة في الأسواق يستفيد منها طالب العلم، والله المستعان.
طالب: أحسن الله إليكم، وكتب الله أجركم، ورفع الله قدركم يا شيخنا، الأسئلة حقيقة كالسيل العرم كثيرة جداً، ولكن يجمعها قاسم مشترك وهو أن كثير من النفوس تحمست لطلب العلم، ويشكو بعضهم أنه في بداية الطلب، فما توجيه شيخنا لهم، ولعل الشيخ أجاب على جزء كبير من هذا السؤال.
فهذا يقول: كيف نكون مثل العلماء الكبار؟
وهذا يقول: أنا شاب عزمت على طلب العلم -إن شاء الله- فبأي الكتب يا شيخنا الفاضل تنصحوننا وغيرها من الأسئلة.
وهذا يقول: نظراً لأهمية هذا الموضوع وطوله وسعته فنطلب منكم أيها الشيخ الكريم أن يكون هذا درساً أسبوعياً أو على الأقل كل أسبوعين، ونرجو أن تجيبوا هذا الطلب وغيرها من الطلبات الكثيرة، فلعل شيخاً أن يلفت إلى شيء من هذه النصائح السريعة في بداية الطلب؟(31/24)
أما بالنسبة لطلب تكرار الدرس في الأسبوع أو في الأسبوعين أو في الشهر فلا أظن هذا في المقدور؛ لأن الوقت كله مستغرق؛ لكن قد يحصل شيء من ذلك مستقبلاً -إن شاء الله تعالى-، وأما بالنسبة لتوجيه طالب العلم الذي هو في البداية مثل ما ذكرنا، عليه أن يبدأ بنية صالحة خالصة، وينوي بذلك الانتفاع، وما يوصله إلى الله -جل وعلا-، وما يبتغى به وجهه، وأن يعبد الله -جل وعلا- كما أراد على مراده، لا يتعبد بجهل ينوي بطلب العلم رفع الجهل عنه، وعن غيره ممن هو تحت يده أو بقربه، أو يستطيع إيصال الخير إليه، فينوي بذلك الانتفاع بالدرجة الأولى والنفع.
طالب: أحسن الله إليكم، وهذه أسئلة أتت أيضاً عن طريق الانترنت، فهذا سائل من الكويت يقول: من فاته حفظ القرآن وهو صغير ماذا يفعل ليسهل عليه الحفظ؟ وهو في الثلاثينيات وما فوق؟(31/25)
عليه أن يصدق اللجأ إلى الله -جل وعلا-، وأن يسأله بصدق، وأن يحرص، وإذا حرص سوف يوفق إذا علم الله -جل وعلا- صدق النية، وصدق اللجوء إليه أعانه، وأن يفرغ نفسه لهذا الأمر، وأن يأخذ من القرآن بقدر ما تسعفه حافظته، لا يأتي متحمس يريد يحفظ جزء أو نصف جزء أو ربع جزء، لا إذا كان يعرف من نفسه أنه لا يستطيع، يحفظ آيتين ثلاث، والمجرب أن الحافظة تستجيب، الأصل فيها أنها غريزة؛ لكن منها قسم مكتسب يدرك بالتمرين، والحافظة لا شك أنها تزيد وتنقص، فإذا استعملت ونميت زادت؛ لأن من الغرائز ما هو ثابت ملكات، وهذا لا شك أن الناس يتفاوتون فيه، منه أيضاً ما هو مكتسب، وعامة أهل العلم يرون أن الحافظة في الصغر أقوى منها في الكبر، وهي تنقص تدريجياً كغيرها من القوى البدنية، والذي يقرره الماوردي في أدب الدنيا والدين أن الحافظة عند الكبير والصغير واحدة، لا تزيد ولا تنقص، واحدة عند الصغير ست سبع عشر سنوات وعند ستين سبعين سنة؛ لكن الذي يجعل الكبير ما يحفظ، التشتت، تشتت الذهن، لو أنجمع ذهن الكبير كما أنجمع ذهن الصغير لحفظ، ولذا على من أراد الحفظ أن يجمع نفسه، وأن ينزوي في مكان للحفظ، أهل العلم يقولون: ينبغي أن يكون مكان الحفظ ضيق؛ لئلا ينتشر البصر، فيتشتت الذهن فإذا كان المكان ضيق أعان على الحفظ، بينما يقولون للفهم نعم يجلس في مكان فسيح، على كل حال على الإنسان أن يأخذ العلم بالتدريج، وأشرنا إلى أن الناس يتفاوتون، أعرف شخص قرأ شرح بن رجب لما ظهر في شهر واحد، عشرة مجلدات، وأجزم أنه استوعب منه تسعين بالمائة، وشخص آخر قرأه في ستة أشهر، وأعرف عنه أنه ما استوعب منه ولا عشرة بالمائة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وهذه نعم ومنح إلهية كغيرها من المنح؛ لكن ليس الشأن أن تمنح هذه النعمة، الشأن أن تستغل هذه النعمة، وتشكر الله -جل وعلا- على هذه النعمة؛ لأن النعم إذا شكرت زادت، إذا استعملت فيما خلقت له هذا هو شكرها، وإلا بعض الناس يتفاوتون واحد البصر عنده ستة على ستة، وزميله البصر عنده ستة على ستين، والثاني يستفيد من بصره أكثر مما يستفيده الأول، بل قد يتضرر الأول من بصره أكثر مما عند الأعمى، لا شك أن هذه نعم تحتاج إلى(31/26)
شكر، فالذي أوتي هذه النعم من قوة إدراك، قوة فهم، قوة حفظ، قوة سمع، قوة بصر، قوة بدن، عليه أن يشكر هذه النعم، ويوظفها فيما يرضي الله -جل وعلا-، الثاني بالمقابل عليه أن يبذل السبب لتحصيل ما يستطيع تحصيله، وحينئذ يكون في مصف الأول، إذا بذل السبب {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [(286) سورة البقرة] {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [(7) سورة الطلاق] لا تكلف أكثر مما تطيق، فإذا تعبت وعلم الله منك صدق النية أعانك، إذا لم يعنك وقد بذلت السبب أجرك ثابت ومضمون.
طالب: وهذا سائل من بلاد الكفر، ورأس الكفر، ودولة الكفر، والتي ترعى الكفر وتذود عنه، وأكرم المسجد أن أذكر اسمها، فيقول: فضيلة الشيخ توجد غرفة على الانترنت اسمها نداء المعرفة، ويقوم عليها فرقة من الأحباش، ولا يوجد من يتصدى لها من العلماء الأفاضل، وهم يبثون سمومهم، ويكفرون غالبية الناس، وخاصة العلماء الأفاضل الكبار، مثل المعاصرين كابن باز، وابن عثيمين، والألباني وغيرهم، فما دورهم، ولعل شيخنا أيضاً يشير إلى دور العلماء في التعامل مع المنكرات وغيرها؟(31/27)
الانترنت هذه الشبكة التي وجدت أخيراً، لا شك أن الذي صنعها غير المسلمين، ويريدون أن يفيدوا منها في أمور دنياهم، وأيضاً في أمور دينهم للدعوة إلى دينهم، ولصرف المسلمين عن دينهم، وحصل منها -ولله الحمد- نفع عظيم، بثت من خلالها الدروس والمحاضرات، فحصل بسببها نفع عظيم جداً، ووصل العلم ووصل الخير، ووصلت الدعوة إلى زوايا وأماكن لا يخطر على البال، أنها تصل وتأتي الأسئلة من شرق الأرض وغربها أثناء الدرس، ويجاب عليها أثناء الدرس، وتقدم أسئلتهم على أسئلة الحاضرين مراعاة لظروفهم؛ لكن هذه الآلات فيها من السموم الشيء الكثير، فكل داعية يبث ما في جعبته، داعية الهدى يبث ما عنده من علم وفضل، وداعية الضلال يبث ما عنده، كما قال الله -جل وعلا-: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [(4) سورة الليل] لكن على أهل العلم وعلى الغيورين من خيار هذه الأمة أن يتصدوا لمثل هؤلاء، والإشكال فيما تبثه القنوات، وتوصله إلى قعر البيوت من شبهات وشهوات، هذه لا شك أنها تحتاج إلى وقفة صادقة، وتظافر جهود لصد هذا الغزو، تصور أن بعض عوام المسلمين علق بأذهانهم من الشبهات ما لا يستطاع اجتثاثه، فهؤلاء لا شك أنهم أمانة في أعناق أهل العلم، فعليهم أن يبينوا لهم الحق، ويردوا الباطل بقوة نشر هذا الباطل، نعم يوجد من يتصدى لكثير من هذه الأمور؛ لكن المأمول أقوى وأوسع، والجهود لا بد أن تتظافر خدمة لهذا الدين، ودفعاً لهذا الغزو، الذي وصل إلى قعر البيوت، كان الناس في السابق في غفلة عن كثير من هذه الأمور، الآن تفتحت أذهانهم، وعرفوا شيء لا يعرفه سلفهم، ونحن بحاجة ماسة إلى بث العقيدة الصحيحة السليمة بين المسلمين، وتبليغها لغيرهم، وأيضاً بحاجة ماسة لصد هذا العدوان الفكري الذي هو أشد من العدوان العسكري؛ لأن الناس إذا شكوا في دينهم، ثم انسلخوا منه لا يحتاجون إلى العدوان العسكري، صاروا لقمة سائغة للعدو، ولا يقف في وجه العدو إلا من تمسك بدينه الصحيح، ولذلك العدو الآن يركز على الدعوة الصحيحة السلفية الصافية؛ لأن المذاهب الأخرى أمرها يسير، لكن علينا جميعاً أن نتعاون ونتظافر والذي يستطيع بنفسه وإلا يشحذ همة غيره، وعلينا أن نكون على صلة وثيقة بأهل العلم، ونبلغهم ونبصرهم بما يحصل؛ لكي يتم التعاون على صد هذا العدوان، والله المستعان.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد ...(31/28)
ميراث الأنبياء
الشيخ/ عبد الكريم بن عبد الله الخضير
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين،
أما بعد:
فالواضح من عنوان الدرس أن المراد والمقصود به الحديث عن العلم، وأهل العلم وطلب العلم وكتب العلم بدءاً من الوحيين وما يخدمهما، لكن قبل ذلك نبدأ بمقدمة تتعلق بالميراث، وما جاء عن النبي -عليه الصلاة والسلام- وهو أن الأنبياء لا يورثون ((لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر)) هذا المقصود من الدرس هو ما أشير إليه في هذا الحديث، ويرد عليه سؤال نبي الله زكريا -عليه السلام- من قوله: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي .... فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا* يَرِثُنِي} [(5 - 6) سورة مريم] ما المراد بالإرث هنا؟ هل هو الإرث المشار إليه بقوله -عليه الصلاة والسلام- ((إنا معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركنا صدقة)) فنحتاج إلى التوفيق بين الآية والحديث؟ أو أن المراد به إرث النبوة والعلم على ما قاله جماهير أهل العلم؟ فنذكر ما ذكره البخاري، وما قاله بعض الشراح، وبعض الحديث مما نقلته عن البخاري في صميم الموضوع، وبعضه مما يضطر إليه، ويحتاج إليه طالب العلم، وننقل من كلام أهل العلم ما يبين مراد البخاري -رحمه الله تعالى- ثم ننقل من التفاسير ما قاله أهل العلم في مراد زكريا في قوله: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} [(6) سورة مريم] ثم نختم بكلام حاسم للإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى- في (مفتاح دار السعادة) ثم بعد ذلك الكلام الذي تكرر كثيراً عن العلم وأهل العلم، وطلاب العلم، وكتب العلم، وهذا فيه -ولله الحمد- عنا وعن غيرنا أشرطة كثيرة في هذا الموضوع، في كيفية التحصيل، وفي ما يعين عليه، وفي عوائقه.
على كل حال نبدأ بما أشرنا إليه سابقاً.
فبدءاً بكلام الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- لنفاسته ويكون مدخلاً لما نريد.(32/1)
يقول الإمام البخاري في صحيحه: "باب: العلم قبل القول والعمل"؛ لقول الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [(19) سورة محمد] فبدأ بالعلم، {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [(19) سورة محمد] فبدأ بالعلم، وأن العلماء هم ورثة الأنبياء، هذا الذي نحتاجه من هذه الترجمة، لكن لأهمية ما ذكره في هذه الترجمة وحرصاً على إفادة الطلاب مما ذكره الإمام البخاري -رحمه الله-؛ لأن كثير من طلاب العلم يغفلون عن مثل هذه الفوائد التي في الصحيح في كتاب العلم من صحيح البخاري ما لا يوجد في غيره.
يقول: "باب: العلم قبل القول والعمل"؛ لقول الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [(19) سورة محمد] فبدأ بالعلم، والذي يحفظ الأصول الثلاثة يعرف هذا الكلام {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ} [(19) سورة محمد] قال الإمام: فبدأ بالعلم، وبعض نسخ الأصول الثلاثة يقول: فبدأ بالعلم قبل القول والعمل، قبل القول والعمل هذا في الترجمة ليس في ثنايا الكلام، وإنما الذي في ثناياه قوله: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [(19) سورة محمد] فبدأ بالعلم، وأن العلماء هم ورثة الأنبياء، ورثوا العلم، ورثوا العلم من أخذه أخذ بحظ وافر، ومن سلك طريقاً يلتمس به علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة، وقال جل ذكره: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} [(28) سورة فاطر]، وقال: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [(43) سورة العنكبوت]، وقال: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [(9) سورة الزمر].
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، وإنما العلم بالتعلم)) وقال ابن عباس -رضي الله عنهما- {كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ} [(79) سورة آل عمران] "حلماء فقهاء" ويقال: الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره، الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره.(32/2)
هذه الترجمة، وهذه الأخبار، وهذه الآيات والأحاديث التي أوردها الإمام البخاري بمجموعها هي من صميم درسنا اليوم، لكن العنوان -عنوان الدرس- يخصه قوله: ((وأن العلماء هم ورثة الأنبياء)) يقول ابن حجر: قوله: "باب: العلم قبل القول والعمل" قال ابن المنير -وهذا له كتاب في تراجم البخاري، شرح تراجم البخاري ناصر الدين ابن المنير، له كتاب اسمه: (المتواري في شرح تراجم البخاري) وهو كتاب مختصر يستفيد منه طالب العلم.(32/3)
يقول ابن المنير .. ، وزين الدين ابن المنير له حاشية على البخاري، ناصر الدين بن المنير له تراجم البخاري، يقول ابن المنير -رحمه الله-: أراد به أن العلم شرط في صحة القول والعمل، العلم شرط في صحة القول والعمل، فلا يعتبران إلا به، لا يعتبران إلا بالعلم، فهو متقدم عليهما، مصحح للنية المصححة للعمل، يرى أن النية المشترطة لصحة العمل لا تكون إلا بالعلم؛ لأن من شرط صحة العمل العلم به، فإذا كنت جاهلاً به غير متصور له فإنك لا تستطيع أن تؤديه على الوجه الشرعي، وحصر القصد بتصحيح النية لا يكفي؛ لأنه مصحح للنية مسدد للاقتداء؛ لأن من شرط صحة العمل الشرعي أن يكون خالصاً لوجه الله تعالى، صواباً على سنة رسوله -عليه الصلاة والسلام-، فالذي يجهل هذا العلم لا يستطيع أن يقصده بالتحديد؛ لأنه جاهل به، فكيف يقصد ما يجهل؟ والذي لا يعلم ما يريد أن يفعل لا يستطيع أن يفعله على مراد الله -جل وعلا-، ومراد رسوله -عليه الصلاة والسلام-، الذي لا يعرف أحكام الصلاة لا يستطيع أن يصلي، كما رأى النبي -عليه الصلاة والسلام- يصلي، أمر النبي -عليه الصلاة والسلام- أن يصلي المسلم كصلاته، ((صلوا كما رأيتموني أصلي)) هذا بالنسبة للذي رآه من الصحابة، وأما من بعدهم فكما شرح لهم من بيان صلاته -عليه الصلاة والسلام-، فيما نقل عنه، وصح من سنته -عليه الصلاة والسلام-، فالذي لا يعلم لا يحدد القصد والنية بدقة مما يريد فعله، كما أنه أيضاً لا يستطيع أن يؤدي ما أمر به على الوجه الشرعي المطلوب، فيتخلف حينئذٍ الشرطان، إما تخلفاً كلياً مع الجهل المطبق، أو جزئياً فيما يجهله دون ما يعلمه، عوام المسلمين عندهم جهل بأحكام الصلاة، لكن يعرفون صورتها الظاهرة؛ لأن صورة الصلاة متلقاة بالعمل والتوارث من لدن النبوة إلى يومنا هذا، والناس يصلون على مدى أربعة عشر قرناً، يرى بعضهم أباه ويرى أخاه، ويرى الناس في المسجد يصلون، ولذا شرعت النوافل في البيوت من أجل أن يراها النساء والصبيان فيصلون كما يصلي هذا الأب الذي صلى في المسجد واقتدى بإمام المسجد فيعلمون الصورة الظاهرة، ويبقى دقائق الأحكام لا يعرفها إلا أهل العلم، والذي لا يعرف هذه الدقائق لا يمكن أن(32/4)
يأتي بالصلاة على الوجه المطابق لصلاته -عليه الصلاة والسلام-، المأمور به في قوله: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)).
يقول ابن المنير: فنبه المصنف على ذلك حتى لا يسبق إلى الذهن من قولهم: "إن العلم لا ينفع إلا بالعمل"، "إن العلم لا ينفع إلا بالعمل"؛ لأن هذا مستفيض على ألسنة أهل العلم، أن الثمرة من العلم هي العمل، كالثمرة من الشجرة هي المقصودة منه، حتى لا يسبق إلى الذهن من قولهم: "إن العلم لا ينفع إلا بالعمل" تهوين أمر العلم والتساهل في طلبه.
يعني كثير من الناس إذا سمع أن العلم لا قيمة له بدون عمل يقول: إذاً لا داعي لئن أتعلم، وأنا أرى كثيراً ممن تعلم لا يعمل بعلمه، نقول: العلم مطلوب ومرغب فيه، ويجب وجوباً عينياً على بعض الناس، وكفائياً على عموم الناس، ويستحب بالنسبة لسائر الناس، هذا بالنسبة للعلم، والعمل مطلوب أيضاً، والعمل مطلوب أيضاً، لكن العلم متقدم على العمل، كما ترجم الإمام البخاري -رحمه الله-: "باب: العلم قبل القول والعمل".
يقول ابن حجر -رحمه الله-: قوله: فبدأ بالعلم، أي حيث قال: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [(19) سورة محمد] ثم قال: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ} [(19) سورة محمد] والخطاب وإن كان للنبي -صلى الله عليه وسلم- فهو متناول لأمته؛ لأن الأصل أنه هو القدوة وهو الأسوة.
واستدل سفيان بن عيينة بهذه الآية على فضل العلم حيث قال: ألم تسمع أنه بدأ به فقال: "اعلم" ثم أمره بالعمل؟(32/5)
((وأن العلماء هم ورثة الأنبياء، ورثوا العلم من أخذه أخذ بحظ وافر)) هذا طرف من حديث مخرج عند أبي داود والترمذي والحاكم، مصححاً من حديث أبي الدرداء وحسنه حمزة الكناني، وضعف بالاضطراب، لكن له شواهد يتقوى بها، له شواهد يتقوى بها، وشاهده من كتاب الله قول الله -جل وعلا-: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [(32) سورة فاطر] {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ} [(32) سورة فاطر] الإنسان قد يرث من أبيه القرآن لكن قد يرثه حساً، وقد يرثه معنىً، قد يرثه حساً بأن يترك له مصحف، وقد يرثه معنىً بأن يكون الأب حافظاً لكتاب الله محفظاً لابنه كتاب الله -جل وعلا-، {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [(32) سورة فاطر] والمراد بذلك الميراث المعنوي الحسي الأهم؛ لأن الإنسان قد يرث مصحف لكن لا يقرأ فيه ولا ينتفع به، وجاء من الأمور التي يجري عملها بعد موت ابن آدم ((أو مصحفاً ورثه))، ((أو مصحفاً ورثه)).
ورثوا: بتشديد الراء المفتوحة أي: الأنبياء، بحظ وافر: أي بنصيب كامل، بنصيب كامل، يعني من أخذه، لكن كل يأخذ من هذا الإرث بقدر ما كتب له، بقدر ما كتب له، والله -جل وعلا- هو المقدر، والعبد هو المأمور بالسعي في الأسباب، والنتائج بيد الله -جل وعلا-، والنبي -عليه الصلاة والسلام- قاسم كما يقول، والله -جل وعلا- هو المعطي، لا يقول الإنسان: أنا حرصت على أخذ العلم، ومكثت سنين عدداً أتردد بين أهل العلم، وأقرأ في الكتب وفي النهاية لا شيء، أنت تدخل في قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة)) ولو لم تدرك علم، أنت سلكت الطريق يكفي، هذا السبب، أنت تبذل ما عليك والنتيجة بيد الله -جل وعلا-.
((ومن سلك طريقاً)) هو من جملة الحديث المذكور، هو من جملة الحديث ((العلماء ورثة الأنبياء)) وأخرج هذه الجملة بمفردها مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة.(32/6)
طريقاً: نكرها، ((سلك طريقاً)) نكرة، لماذا؟ ونكر أيضاً علماً ((من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً)) لو قال: العلم لكان المراد العلم الشرعي المتكامل، علم الوحيين، وما يخدم الوحيين، لكن ((من سلك طريقاً)) هذا نكرة، وعلماً: نكرة أيضاً ليندرج فيه القليل والكثير، ولو جزء من أجزاء العلم، ولو تخصص في فرع من العلوم الشرعية، يعني سواءً سلك طريقاً علماً في التفسير في الحديث في العقيدة فيما يخدم ذلك كله علم، نكر طريقاً ليتناول أنواع الطرق إلى تحصيل العلوم الدينية؛ ليتناول أنواع الطرق الموصلة إلى تحصيل العلوم الدينية؛ وليندرج فيه القليل والكثير، فيدخل فيه دخولاً أولياً سلوك الطريق الحسي بأن يمشي أو يركب إلى مواطن العلم ومدارسه ومعاهده، ويجثو بركبتيه بين يدي أهل العلم ليأخذ من علمهم، هذا يدخل بدخول أولي، هذا سلك الطريق الحسي الذي لا يختلف فيه، وتنكير الطريق يتناول عمومه من تعلم عن طريق الوسائل، من سلك طريقاً هذا طريق من طرق التحصيل، يتناول عمومه من تعلم عن طريق الوسائل الحديثة والكتب المؤلفة، والكتب المؤلفة، ما دام هذا سلك طريق يلتمس فيه العلم النافع الشرعي وما يخدمه يلتمس علم الوحيين الكتاب والسنة وما يعين على فهم الوحيين هذا سلك طريقاً.
فإن سلك الطريق الحسي دخل فيه دخولاً أولياً قطعياً، يعني سلك طريقاً غير الطريق الحسي، يعني حيل بينه وبين الوصول إلى معاقل العلم، وسلك الطرق المؤدية إلى هذا العلم من غير الطريق الحسي من الطرق المعنوية بالوسائل التي وجدت -ولله الحمد- ويسرت العلم الشرعي وأوصلته إلى قعر البيوت، وسمعه الخاص والعام هذا سلك طريقاً، فيتناوله عموم التنكير ((سهل الله له طريقاً)) أي: في الآخرة؛ لأنه قال: ((إلى الجنة)) أو ما يشمل الآخرة والدنيا بأن يوفقه للأعمال الموصلة إلى الجنة، يعني يوفقه إلى الأعمال الصالحة الموصلة إلى الجنة.(32/7)
وفيه بشارة بتسهيل العلم على طالبه؛ لأن طلبه من الطرق الموصلة إليه، ((سهل الله له طريقاً إلى الجنة)) ومن الطرق الموصلة إلى الجنة تعلم العلم الشرعي والعمل به، وأعظم من ذلك ما جاء في قول الله -جل وعلا-: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} [(17) سورة القمر] لكن هل من متمني يتمنى أن يحفظ القرآن؟ يتمنى أن يكون القرآن على لسانه، وعلى أسلة بنانه، يتمنى أن يكون مردداً للقرآن صبحاً وممساً ومهجعاً،. . . . . . . . . بالأماني لا؛ لأنه قال: {فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} [(17) سورة القمر] أما الذي يتمنى ما يحصل له شيء.
وقال الإمام البخاري: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} [(28) سورة فاطر] من الذي يخاف من الله -جل وعلا-؟ من علم قدرة الله -جل وعلا- وسلطانه وهم العلماء، قاله ابن عباس: الذين يخشون الله -جل وعلا- هم الذين عرفوا قدرة الله -جل وعلا- وسلطانه، ومن كان بالله أعرف كان منه أخوف، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول عن نفسه بأنه أعلم الخلق بربه: ((إنما أنا أخشاكم وأتقاكم لله -جل وعلا-)) -عليه الصلاة والسلام-، ثم قال الإمام البخاري: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [(43) سورة العنكبوت] يعني: الأمثال، الأمثال المضروبة ما يعقلها إلا العالمون، وهو نوع عظيم، وباب مهم من أهم أبواب العلم معرفة الأمثال التي ضربها الله -جل وعلا- في كتابه، وضربها نبيه -عليه الصلاة والسلام- في سنته، وإذا كان الإنسان لا يعقل ولا يفقه ولا يفهم هذه الأمثال فليراجع نفسه، وإن ادعى أنه من أهل العلم، وإن قيل عنه: إنه من أهل العلم؛ لأن الأسلوب حصر، {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [(43) سورة العنكبوت] لأن الذي لا يعقلها ليس من أهل العلم.(32/8)
((وإنما العلم بالتعلم))، ((وإنما العلم بالتعلم)) والتفعل المادة هذه وهذا التضعيف يدل على التدريج، التعلم شيئاً فشيئاً، فلا يؤخذ العلم جملة، العلم لا يؤخذ جملة، وإنما يؤخذ بالتدريج، وهو حديث مرفوع .... المتعلم، بالتعلم حديث مرفوع أورده ابن أبي عاصم والطبراني من حديث معاوية بلفظ: ((يا أيها الناس تعلموا إنما العلم بالتعلم، والفقه بالتفقه، ومن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين))، ((ومن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين))، والحديث بمجموع جمله إسناده حسن، والجملة الأخيرة: ((ومن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)) مخرج في البخاري وغيره من حديث معاوية، والمراد بالفقه في الدين: الفهم للدين بجميع أبوابه، لا يراد به في هذا الحديث الفقه العرفي عند أهل العلم، الاصطلاحي الذي هو معرفة الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية بالأرباع الأربعة المعروفة؛ لأن الفقه العرفي مخصوص بالعبادات والمعاملات والأحوال الشخصية والمناكحات، والأقضية والجنايات هذا الفقه في عرف أهل العلم، وكثير من الفقهاء لا سيما الشراح يصدرون خطب كتبهم بهذا الحديث: "الحمد لله الذي فقه من شاء بالدين" استدلالاً أو إشارة إلى أن هذا الكتاب موضوعه الفقه، والفقه في الحديث الفقه في الدين أعم من الفقه العملي، بل يتناول ما سماه العلماء: الفقه الأكبر الذي هو العقائد يدخل فيه دخولاً أولياً، والمقصود المراد بالدين هنا بجميع أبوابه، بجميع أبوابه، فالعقائد، الأحكام، المغازي، السير، التفسير، الآداب، الرقاق، الأدعية والأذكار، وغيرها من أبواب الدين التي اشتملت عليها الكتب الجوامع مثل صحيح البخاري، بدليل أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال في حديث جبريل لما سأله عن الإسلام والإيمان والإحسان قال: ((هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم)) فالمراد بالدين بجميع أبوابه وفروعه وأصوله.(32/9)
والمعنى: ليس العلم المعتبر إلا المأخوذ من الأنبياء، ((إنما العلم بالتعلم)) ما في وسيلة للتحصيل إلا بالتعلم، أما أهل التخريف والشطحات والنزغات الشيطانية الذي يقول: إنه نام فلما انتبه من النوم فإذا به يحفظ القرآن، أو يحفظ السنة، أو يحفظ كتاب كذا أو كذا، هذا لا يمكن أن يحصل، وليست هذه هي الطريقة الشرعية المثاب عليها المرتب عليها الأجور العظيمة في الكتاب والسنة، ((إنما العلم بالتعلم))، ((إنما العلم بالتعلم)) وأصحاب بعض الحركات المستحدثة المسماة: بالبرمجة ونحوها يقول: أبداً بإمكانك أن تحفظ القرآن في وقت يسير في يوم مثلاً يعني كأنك تمسح مسح ضوئي، هذا الكلام ليس بصحيح، هذا الكلام ليس بصحيح، ويأتي على ألسنة بعض المخرفين من شيوخ الصوفية وغيرهم أنه يقول: حفظت القرآن في ساعة، أو حفظت كتاب كذا من الكتب الكبار في يوم، هذا الكلام لا شك أنه يجرى على أيدي شياطين تغرهم وتغر بهم، وتستدرجهم وتستدرج بهم، لكن العلم بالتعلم، نعم قد تطول مدة التعلم وقد تقصر، لكن ما في علم بساعات أو أيام، العلم بالتعلم، فالمعنى ليس العلم المعتبر إلا المأخوذ من الأنبياء وورثتهم على سبيل التعلم.(32/10)
قال ابن عباس .. ، ذكر البخاري في ترجمة هذا الباب قال ابن عباس: {كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ} [(79) سورة آل عمران] "حلماء فقهاء"، "حلماء فقهاء" أخرجه ابن أبي عاصم والخطيب بإسناد حسن، وفسره ابن عباس أيضاً بأنه الحكيم الفقيه، الرباني: الحكيم الفقيه، ووافقه ابن مسعود، وقيل: الرباني الذي يقصد ما أمره الرب بقصده من العلم والعمل، من العلم والعمل، وقال ثعلب وهو إمام من أئمة اللغة على منهج أهل السنة وأهل التحقيق، قال ثعلب: قيل للعلماء: ربانيون لأنهم يربون العلم أي يقومون به؛ لأنهم يربون العلم أي يقومون به، والحاصل أنه اختلف في هذه النسبة الرباني اختلف فيها هل هي إلى الرب أو إلى التربية؟ هل هي إلى الرب أو إلى التربية؟ فالذي يقصد العلم النازل من الرب -جل وعلا- على لسان جبريل على النبي -عليه الصلاة والسلام-، والوحي المصاحب له من سنة النبي -عليه الصلاة والسلام- هذا رباني؛ لأن العلم هذا منسوب إلى الرب، والذي يربي الناس على العلم والعمل أيضاً هو رباني، ويقال: الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره، ويقال: الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره، يعني ينتبه إلى الصغار، ويربيهم على المتون الصغيرة.(32/11)
يعني مثل هذه الدورات التي توجه إلى المبتدئين؛ لأن كثير من أهل العلم يهتمون بالكبار؛ لأنهم يعينونهم على التحصيل، أما الصغار فأمرهم متعب، ولذا مع الأسف قل وندر أن تجد من الكبار من يحفظ القرآن، وهو أولى الأولويات وأهم المهمات، ما تجد إلا القليل النادر من الكبار من يحفظ الناس القرآن، أو يعلمهم المتون الصغيرة، ولو تصدى لشرح المتون الصغيرة المؤلفة للمبتدئين لحلق بهم إلى طبقة المتقدمين، فنحن بحاجة ماسة إلى من يحسن التعامل مع الناشئة يربيهم على صغار العلم، ويحفظهم المتون الصغيرة، وما يحتاج إليه في هذا السن من القرآن، ومعاناتهم أشق من معاناة الكبار، ويقال: الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره، والمراد بصغار العلم هي ما وضح من مسائله، وبكباره ما دق منها، وقيل: يعلمهم جزئياته قبل كلياته، أو فروعه قبل أصوله، أو مقدماته قبل مقاصده، وقال ابن الأعرابي: لا يقال للعالم: رباني حتى يكون عالماً معلماً عاملاً، حتى يكون عالماً معلماً عاملاً.
العلم يهتف بالعمل، والمقولة التي سبقت وهي: أن العلم بدون عمل كالثمر بلا شجر، هذه لها حظ من النظر؛ لأن الثمرة العظمى من العلم هي العمل، فإذا تعلم وعمل بعلمه، ودعا الناس إليه ووجههم وأرشدهم إليه، استحق أن يدعى ربانياً، فإذا علم هذا فميراث النبوة العلم والعمل والدعوة إلى هذا العلم والعمل، والصبر على ذلك، وهي المسائل الأربع التي قررها الإمام المجدد في الأصول الثلاثة، واستدل لها بسورة العصر التي قال فيها الإمام الشافعي: "لو ما أنزل الله على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم".
ذكرنا في بداية الكلام الإشكال على هذا الكلام أن العلماء هم ورثة الأنبياء ((نحن معاشر الأنبياء لا نورث)) الأنبياء ورثوا العلم ((فمن أخذه أخذ بحظ وافر)) يشكل على هذا قول نبي الله زكريا -عليه السلام- في سورة مريم {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا* يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [(5 - 6) سورة مريم].(32/12)
في تفسير القرطبي: قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: خاف أن يرثوا ماله، خاف أن يرثوا ماله، وأن ترثه الكلالة، فأشفق أن يرثه غير الولد، وقالت طائفة: إنما كانت مواليه مهملين للدين فخاف بموته أن يضيع الدين، فطلب ولياً يقوم بالدين بعده حكى هذا القول الزجاج، وعليه فلم يسأل زكريا من يرث ماله؛ لأن الأنبياء لا يورثون، وهذا هو الصحيح من القولين كما يقول القرطبي في تأويل الآية، وأنه -عليه الصلاة والسلام- أراد وراثة العلم والنبوة، أراد وراثة العلم والنبوة لا وراثة المال لما ثبت عن النبي -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: ((إنا معشر الأنبياء لا نورث، ما تركنا صدقة)) وفي كتاب أبي داود: ((أن العلماء ورثة الأنبياء، وأن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً ورثوا العلم)).
يقول: وهذا الحديث يدخل في التفسير المسند لقوله تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} [(16) سورة النمل]، وعبارة عن قول زكريا: {فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا* يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} [(5 - 6) سورة مريم] وتخصيص للعموم في ذلك، وأن سليمان لم يرث من داود مالاً خلفه داود بعده، وإنما ورث منه الحكمة والعلم، ولذلك ورث يحيى من آل يعقوب هكذا قال أهل العلم بتأويل القرآن ما عدا الروافض، ما عدا الروافض؛ لأن الروافض طالبوا أبا بكر وطالبوا عمر ومازالوا يطالبون بالإرث النبوي من فدك وغيرها، وأن ما تركه النبي -عليه الصلاة والسلام- فهو لورثته .. ، ما ترك من مال فهو صدقة.
قال: وروي عن الحسن أنه قال: يرثني مالاً، ويرث من آل يعقوب النبوة والحكمة، قال القرطبي: وكل قول يخالف قول النبي -صلى الله عليه وسلم- فهو مدفوع مهجور، قاله أبو عمر، يعني ابن عبد البر.
يقول الإمام المحقق شمس الدين ابن القيم -رحمه الله تعالى- في كتاب (مفتاح دار السعادة): قول زكريا -عليه الصلاة والسلام-: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا* يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [(5 - 6) سورة مريم].(32/13)
يقول: فهذا ميراث العلم والنبوة فهذا ميراث العلم والنبوة، والدعوة إلى الله وإلا فلا يظن بنبي كريم أنه يخاف عصبته أن يرثوه ماله، يعني لو خاف إنسان من سائر الناس، شخص كلالة لا والد له ولا ولد، وخاف من عصبته الذين قد يكون منهم البعيد الذي لا يعرفه طول حياته، ابن عم بعيد يكون هو أقرب الناس إليه ويأخذ ماله بالتعصيب لو خاف هذا الإنسان من هذا الوارث وتصرف في ماله من أجل حرمان هذا الوارث لأثم بذلك، وبطلت وصيته، ونفذ الميراث، فكيف بني يخاف من الموالي من ورائه أن يرثوا ماله ويطلب من الله -جل وعلا- ويسأله أن يرزقه الولد الذي يرث عنه المال؟!.
يقول ابن القيم: فهذا ميراث العلم والنبوة فهذا ميراث العلم والنبوة والدعوة إلى الله وإلا فلا يظن بنبي كريم أنه يخاف عصبته أن يرثوه ماله فيسأل الله العظيم ولداً يمنعهم ميراثه، يعني يحجبهم عن الميراث، فهل هذا من مقاصد خاصة الناس فضلاً عن الأنبياء؟ هذه ليست من المقاصد التي يقصدها خواص الناس من أهل العلم والفضل والدين فضلاً عن الأنبياء، قد يقصد ذلك شخص ليس من أهل العلم، وليس من أهل الفضل، يشق عليه أن يجمع المال ويتعب عليه ثم بعد ذلك يأخذه ابن عم له بعيد لم يره طول حياته، قد يقصد ذلك، لكن هل يمكن أن يرد هذا بالنسبة لنبي من الأنبياء؟ لا يمكن، والدنيا بحذافيرها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، وكذلك عند أوليائه، لما جاء السفير الخاطب إلى سعيد بن المسيب من ابن الخليفة يخطب ابنته فقال له الخاطب أو الخطيب -السفير بينهما-: أتتك الدنيا بحذافيرها، ماذا؟ قال: ابن الخليفة يطلب ابنتك، قال: إذا كانت الدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة فماذا ترى أن يقص لي من هذا الجناح؟ الدنيا لا شيء في نظر أهل الآخرة، وإن كانت كل شيء بالنسبة لنظر أهل الدنيا.(32/14)
الأصل أن الإنس والجن إنما خلقوا لغاية، وهي تحقيق العبودية لله -جل وعلا-، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [(56) سورة الذاريات] هذا هو الهدف، وهذه هي الغاية، إنما هي تحقيق العبودية، طيب تحقيق العبودية لا يمكن أن يتم وبقاء النوع الإنسان واستمرار العبودية لله -جل وعلا-، والتوارث على هذه الأرض وعمارة الأرض إلا بشيء من الدنيا، ولذلك قال الله -جل وعلا-: {وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [(77) سورة القصص] وبعض الناس عكس جعل جل الوقت للدنيا ووقت الفراغ ووقت الاسترخاء للدين، هذا عكس ما خلق من أجله، إنما خلق للعبودية وتحصيل أمر الدنيا وما يقوم به المعاش هذا لا ينساه.
يقول: فهذا ميراث العلم والنبوة والدعوة إلى الله وإلا فلا يظن بنبي كريم أنه يخاف عصبته أن يرثوه ماله فيسأل الله العظيم ولداً يمنعهم ميراثه ويكون أحق به منهم، وقد نزه الله -جل وعلا- أنبياءه ورسله عن هذا وأمثاله فبعداً لمن حرف كتاب الله ورد على رسوله -صلى الله عليه وسلم- كلامه، ونسب الأنبياء إلى ما هم براء منزهون عنه، والحمد لله على توفيقه وهدايته.
ثم ختم بأثر ساقه بصيغة التمريض قال: ويذكر عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه مر بالسوق .. ، ويذكر عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه مر بالسوق فوجدهم في تجاراتهم وبيوعاتهم فقال: أنتم هاهنا، أنتم هاهنا فيما أنتم وميراث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقسم في مسجده؟! فقاموا سراعاً إلى المسجد، قاموا سراعاً إلى المسجد فلم يجدوا فيه إلا القرآن والذكر ومجالس العلم، فقالوا: أين ما قلت يا أبا هريرة؟ فقال: هذا ميراث محمد -صلى الله عليه وسلم-، القرآن والذكر والعلم، هذا ميراث النبوة، هذا ميراث النبي -صلى الله عليه وسلم-، يقسم بين ورثته وليس بمواريثكم ودنياكم، أو كما قال.(32/15)
إذا تقرر هذا فالميراث الذي طلب الحديث عنه هو العلم؛ لأن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وما تركوه صدقة، إنما ورثوا العلم، فما المراد بالعلم الذي يورث عن الأنبياء؟ هو العلم الموصل إلى رضا الله -جل وعلا- وإلى جناته، من كتاب الله وسنة نبيه -عليه الصلاة والسلام-، وما يعين على فهم الكتاب والسنة، وما يوفر لحامله خشية الله -جل وعلا-، وما يوفر لحامله خشية الله -جل وعلا-، فإذا ترتبت هذه الآثار على هذا العلم، صار هو الموروث عن النبوة، فأخشى الناس لله -جل وعلا- هو محمد -عليه الصلاة والسلام-، وأصدقهم تحقيقاً لهذا الوصف أتقاهم وأتبعهم للنبي -عليه الصلاة والسلام-.(32/16)
إذا علم هذا فما يحمله الفساق الذين لا يخشون الله -جل وعلا- مما يمكن أن يسمى علماً، هو في عرف الناس علم؛ لأنه إذا سئل أجاب، أجاب عن الحكم بدليله، وهذا في عرف الناس علم، الفساق عندهم معرفة بالأحكام، وعندهم أدلة، وعندهم طريقة صحيحة لكيفية الاستنباط من الأدلة، درسوا هذا وأتقنوه وعرفوه، لكن ارتكبوا بعض المحرمات، وتركوا بعض الواجبات هل نقول: إن هذا علم شرعي موروث؟ هل ينظر إلى العالم بمجرده أو ينظر إلى العالم بعلمه وعمله معاً؟ الذي يحمله الفساق ليس بعلم موروث وإن كان في عرف الناس علم، والله -جل وعلا- يقول: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ} [(17) سورة النساء] يعملون السوء بجهالة، الذي يشرب الخمر وهو يعرف الحكم أن الخمر محرم، الذي يزني ويعرف أن الزنا حرام، الذي يرابي ويعرف أن الربا حرام له توبة وإلا ليست له توبة؟ {فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ} [(275) سورة البقرة] هل نقول: إن هذا للجاهل أو للذي يعرف الحكم؟ لأن من أنواع الجهل ما يعذر به صاحبه، فباب التوبة للعالم بالحكم والجاهل على حد سواءً، إذاً ما المراد بالعالم هنا والجاهل؟ العاصي جاهل، كل من عصى الله فهو جاهل، كل من عصى الله فهو جاهل؛ لأننا لو قلنا: إن الذي يعلم الحكم عالم وإن عصى قلنا: إنه ليس له توبة؛ لأن التوبة محصورة بمن ارتكب المعصية عن جهالة، التوبة محصورة فيمن عصى الله -جل وعلا- عن جهالة، فمن عرف الحكم إن قلنا: عالم قلنا: ليست له توبة، وهذا خلاف ما أجمع عليه أهل العلم، ودلت عليه النصوص القطعية، وإذا قلنا: جاهل، فما يحمله من علم ليس في الحقيقة بعلم، إذاً ميراث النبوة هو العلم المبني على الدليل الصحيح من الكتاب والسنة، المورث للعمل والخشية، ومع ذلك يتطلب أمراً ثالثاً مهماً وهو الدعوة إلى هذا العلم وتعليمه.(32/17)
جاء في الحديث: ((يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله)) هذا الحديث فيه كلام لأهل العلم، فمنهم من ضعفه، ومنهم من قواه، ويذكر عن الإمام أحمد أنه صححه، هل هذا خبر عن أهل العلم أنهم عدول؟ أو هذا تعديل لأهل العلم أو هذا حث للعدول بحمل العلم؟ الذي قال: إن هذا خبر عن أهل العلم وأنهم عدول قال: كل من عرف بحمل العلم فهو عدل، وهذا يقوله أبو عمر بن عبد البر، ويتبناه، وينتصر له.
قلت: ولابن عبد البر كل من عني ... بحمله العلم ولم يوهنِ
فإنه عدل بقول المصطفى ... يحمل هذا العلم لكن خولفا(32/18)
خولف ابن عبد البر من جماهير أهل العلم أن هذا تعديل لمن يحمل العلم بغض النظر عن العمل، وأن كل من عرف بحمل العلم أنه عدل، هذا الكلام يخالفه الواقع، يخالفه الواقع، فإن الواقع يشهد ويثبت بأن ممن يحمل العلم من ليس بعدل، بل يخالف علمه إما بترك مأمور أو بفعل محظور، وعلى هذا يكون معنى الحديث عند من يثبته ويصححه أنه حث للعدول بحمل العلم، وتوجيه لهؤلاء الثقات العدول بحمل العلم، وأن لا يتركوا مجالاً لغيرهم أن يلبسوا على الناس، يشوشوا على الناس، ويضلوا الناس، ويشهد لذلك أو يدل على ذلك رواية: ((ليحمل هذا العلم من كل خلف عدوله)) فهو أمر للعدول بحمل العلم، وأما غير العدول فلا شك أن ضررهم أكثر من نفعهم، وهم في الحقيقة جهال، وظهر أثرهم على مر العصور في تضليل الناس، وهو في وقتنا بسبب انتشار هذه الأقوال التي تلقى من أولئك الفساق عن طريق وسائل الإعلام ودخولها وولوجها إلى الناس في بيوتهم، هذا يدل دلالة واضحة أن ممن يحمل العلم من ليس بعدل، لكن لا ينبغي أن يسمى عالماً، ولا أن يسمى ما يحمله علم، ولو كان لديه معرفة بالأحكام، والنبي -عليه الصلاة والسلام- في الحديث المخرج في البخاري وغيره يقول: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الرجال، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبقِ عالماً اتخذ النار رؤوساً جهالاً، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا)) وما يوجد في وقتنا هذا من اضطراب كبير وتناقض وتعارض وتضارب في الفتاوى، إلا نماذج حية نلمسها في واقعنا، وأمثلة ظاهرة لما قاله النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((اتخذ النار رؤوساً جهالاً)) وإنما يقبض العلم بقبض العلماء، يعني الأمة خسرت ومنيت بوفاة بعض العلماء الربانيين الوارثين لعلم النبوة، لكن بقي -ولله الحمد- بقية صالحة تجمع بين العلم والعمل، وكثر أيضاً من يدعي العلم، ومن يتقمص العلم، ويفتي بغير علم -نسأل الله السلامة والعافية-.(32/19)
المقصود أن العلم الموروث والإرث النبوي هو العلم الصحيح المؤصل المبني على كتاب الله وسنة نبيه -عليه الصلاة والسلام-، بفهم سلف هذه الأمة بفهم سلف هذه الأمة بالتوسط والاعتدال، وإلا ففي النصوص ما قد يتمسك به فئات من الطوائف المبتدعة، فالخوارج عندهم ما يستدلون به من نصوص الكتاب والسنة، والمرجئة في مقابلهم عندهم ما يتمسكون به من نصوص الكتاب والسنة، لكن العبرة بمن أخذ بالطرفين لم يأخذ بطرف ويترك الطرف الآخر، لم يأخذ بنصوص الوعيد فيرتكب ما ارتكبت الخوارج، ويدع نصوص الوعد، ولا يأخذ بنصوص الوعد فيرتكب ما ارتكبته المرجئة، ويترك ويهدر نصوص الوعيد، وقد وفق الله -جل وعلا- أهل السنة والجماعة وهم أهل التوسط بين الفرق والمذاهب فأخذوا من الطرفين بما يقتضي التوفيق بينهما، والتوفيق بينهما جارٍِ عند أهل السنة من غير أي تنافر وأي تناقض وأي تضارب وأي اعتراض، فإذا استطاع الإنسان على طريقة أهل السنة والجماعة أن يوفق بين هذه النصوص التي ظاهرها التعارض فإنه حينئذٍ على الجادة، وحينئذٍ يكون وارثاً إذا عمل بهذا العلم، وعلمه الناس، ودعا إليه، وفقه الناس به، والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
هناك مسائل كثيرة تتعلق بالعلم والتحصيل والطلب وكيفية حفظ المتون، وكيفية جرد المطولات، والمنهجية في قراءة الكتب وطريق .. ، كلها هذه أمور في كل فرع منها محاضرة مستقلة ومسجلة -ولله الحمد-، وما عاد بقي إلا أن ننظر في الأسئلة.
يقول: أنا أحب العلم والعلماء، وأريد أن أكون من أهل العلم؛ لأنني وأخواني ... ، ولكن العلم يحتاج إلى حفظ ولا يكون إلا بالحفظ -على حد علمي- وأنا أواجه صعوبة شديدة في الحفظ، وعوضني الله سرعة الفهم فما توجيهكم حفظكم الله؟(32/20)
لا شك أن العلم يحتاج إلى مقومات منها الغريزي، ومنها المكتسب، فمما يحتاج إليه المتعلم الحافظة التي تعينه على ثبات ما يقرأ والفهم؛ لأن الحفظ وحده لا يكفي، والفهم وحده لا يكفي، والفهم وحده لا يكفي، لكن هذه هبات من الله -جل وعلا-، فبعض الناس يشكو من ضعف الحافظة، وبعض الناس يشكو من بطء الفهم، والناس يتفاوتون، وقد جمع الله -جل وعلا- لبعض الناس الحفظ مع الفهم، ووفقهم لسلوك الجادة والطريق من أوله، فاختصروا المدة في تحصيل العلم، بعض الناس عنده حافظة وعنده فهم، لكن لا يوفق للطريق من أوله، تجده في أول الأمر يتخبط، فإذا أفاق فإذا به قد فاته شيء من السن الذي يؤهله للحفظ والفهم، ثم بعد ذلك إما أن يواصل أو ييأس فينقطع، بعض الناس عنده الحافظة القوية، وبعضهم يشق ويصعب عليه الفهم، فمثل هذا عليه أن يعالج ويعاني فهم ما يحفظ وما يقرأ يردده حتى يفهم، يقرأ الشروح، يقرأ الحواشي، يسأل أهل العلم عما يشكل عليه، وإذا أدام النظر في الشروح، إذا أدام النظر في شروح الكتب سواءً كانت من تفاسير القرآن، أو من شروح كتب الحديث، أو المتون العلمية، إذا أدام النظر فيها، فإنه حينئذٍ يتولد عنده ملكة لفهم النصوص، وفهم أقاويل أهل العلم؛ لأن بعض الناس يعنى بالمتون، وليس لديه مُكنة من النظر في الشروح، ويقول: إن هذه الشروح طويلة وتعوق عن التحصيل، الشروح لا بد منها؛ لأنك لا بد أن تفهم هذا العلم على الجادة، على جادة أهل العلم وعلى طريقتهم، وإلا فلا شك أنك ستظل في الفهم، فأنت إذا كنت لديك الحافظة، وليست لديك الفهم فإن عليك أن تعاني كلام أهل العلم في شرح النصوص وشرح المتون، وبعد ذلك بعد مدة يتيسر لديك الفهم، تتولد لديك الملكة وتعينك -بإذن الله- على فهم ما تقرأ.(32/21)
وإذا كان لديك الفهم وليست لديك الحافظة فعليك أن تعاني الحفظ، وتكرر ما تريد حفظه مرة مرتين عشر مرات عشرين إلى آخره، ومن أفضل ما يعين على الحفظ كتابة ما يراد حفظه، كتابة ما يراد حفظه مرتين ثلاث حتى يحفظ، وذكر الشيخ عبد القادر بن بدران في كتابه: (المدخل) طريقة للحفظ، طريقة للحفظ، يقول: إذا كانت الحافظة ضعيفة فقدر المحفوظ لهذا اليوم شيئاً يسيراً سطرين ثلاثة، وإذا كانت متوسطة فقد عشرة أسطر مثلاً، وإذا كانت الحافظة قوية فقدر ورقة، ثم ردد ما قدرته حتى تجزم بأنك قد حفظته، هذا نصيب هذا اليوم، إذا جزمت بأنك حفظته من الغد كرر هذا الذي حفظته في هذا اليوم عشر، خمس مرات، أو قال: خمس مرات، قال: خمس مرات نعم، كرره خمس مرات، ثم اشرع في نصيب اليوم الثاني حتى تجزم أنك حفظته كما حفظت نصيب اليوم الأول، فإذا جاء اليوم الثالث كرر ما حفظته في اليوم الأول أربع مرات، وما حفظته في اليوم الثاني خمس مرات، ثم حدد نصيب اليوم الثالث وكرره حتى تحفظه، لا تقول: أنا ضعيف الحافظة، كرر سطر، وإذا عجزت عن حفظه اكتبه وسجله ثم اسمعه، واجعل أحد يقرأه عليك، واقرأه على أحد، المقصود قلب ما تريد حفظه على جميع الوجوه، فإذا حفظته فراجع ما حفظته في اليوم الأول ثلاث مرات، واليوم الثاني يعني في اليوم الرابع كرر ما حفظته في اليوم الأول ثلاث مرات، وفي اليوم الثاني أربع مرات، وفي اليوم الثالث خمس مرات، ثم حدد نصيب اليوم الخامس، واحفظه على الطريقة السابقة، ثم بعد ذلك كرر ما حفظته في اليوم الأول مرتين، والثاني ثلاث مرات، والثالث أربع مرات، والخامس خمس مرات، ثم اشرع في نصيب اليوم السادس وهكذا، وبهذه الطريقة تضمن أنك لن تنساه -بإذن الله-، وهذه طريقة مجربة، هذه طريقة مجربة.(32/22)
في بعض كتب التربية الحديثة التزهيد بالحفظ، وأنه يبلد الذهن، وأن المعول أولاً وأخراً على الفهم، وهذا الكلام إذا صح بالنسبة لعلوم غير المسلمين من العلوم التجريبية التي تنبني على الأعمال اليدوية، هذه تحتاج إلى فهم، تحتاج إلى دقة، لكن ما تحتاج إلى حفظ، لكن علومنا الشرعية المبنية على النصوص لا بد فيها من الحفظ، والتزهيد بالحفظ تزهيد بالعلم، تزهيد بالعلم لا شك أن الفهم أمر في غاية الأهمية لمن يريد العلم، لكن الحفظ إن لم يكن أهم من الفهم فلن يكون دونه بحال لا سيما ما يتعلق بالكتاب والسنة، يعني نجد الخلل في علم من اعتمد على الحفظ على الفهم وأهمل الحفظ، الحفظ هو الذي يسعف المعلم، هو الذي يسعف المعلم لإلقاء ما يريده من نصوص الكتاب والسنة، يعني إذا جازت رواية الحديث بالمعنى فإنه لا بد أن يكون لديه معرفة بأصل الحديث، وأن يعرف ما يخل بمعناه، وهذا أيضاً يحتاج إلى حفظ وإن لم يحفظ الحديث بحروفه، ولكن نصوص القرآن وآيات القرآن لا تجوز فيها الرواية بالمعنى، ولا تدرك بالاجتهاد، بل لا بد من حفظها بحروفها.
من الغرائب أن يجتمع اثنان على كتاب واحد، يعني على تأليف كتاب واحد، أحدهما: آية في الحفظ، آية من آيات الله في الحفظ، والثاني: آية في الفهم، تفسير الجلالين ألفه جلال الدين المحلي هذا قال أهل العلم في ترجمته: إن ذهنه يثقب الفولاذ من قوة فهمه، ويقول عن نفسه: إنه حاول حفظ ورقة من كتاب مدة طويلة ثم ظهرت فيه بثور، وارتفعت حرارته إلى أن تركها، كله من ضعف الحافظة، لكن ذهنه وفهمه قالوا: يثقب الفولاذ، وبالمقابل النصف الثاني من تفسير الجلالين، يعني القسم الذي ألف آخراً، وإن كان هو النصف الأول، يعني من الكهف إلى آخر القرآن مع الفاتحة هذا لجلال الدين المحلي، أتمه من أول البقرة إلى آخر الإسراء جلال الدين السيوطي الذي يحفظ مائتي ألف حديث، يحفظها كما يحفظ الفاتحة، ويقول: لو وجدت من الأحاديث أكثر من ذلك لحفظت، فاجتمع هذا وهذا وألفا الكتاب بنفس واحد.(32/23)
وقلنا: إن من تسعفه الحافظة يكثر من المحفوظ، ويديم النظر في شروح أهل العلم؛ لكي تتولد له الملكة للفهم، كيف يفهم أهل العلم النصوص؟ كيف يعالجون التعارض؟ وكيف يتعاملون مع هذه النصوص؟ النصوص تحتاج إلى خبرة ودربة في كيفية التعامل معها، يعني لا تكفي النصوص فقط أن تورث علم متكامل، النصوص لا بد منها ولا بد من فهمها على طريقة سلف هذه الأمة وأئمتها.
هذا يقول: حينما يسلك الإنسان طريق العلم فهل يبدأ بفن الحديث أم الفقه أم العقيدة؟
طريقة المشارقة في التعلم تختلف عن طريقة المغاربة، المغاربة يقدمون حفظ القرآن، ولا يقرؤون معه شيئاً آخر، فإذا ضمنوا حفظ القرآن كما ذكر ذلك ابن خلدون في مقدمته اتجهوا إلى العلوم الأخرى، والمشارقة يمزجون العلوم، بمعنى أنهم في وقت واحد ينوعون ويتفننون، فيتعلمون من القرآن نصيباً، ومن الحديث شيئاً، ومن الفقه قدراً، ومن العقيدة وجميع العلوم يطرقونها في آن واحد، على ترتيبهم لطبقات المتعلمين فالمبتدئون لهم كتب، والمتوسطون لهم كتب، والمنتهون لهم كتب، فبهذه الطريقة يدرس من القرآن مثلاً في حال كونه مبتدئاً المفصل، يحفظ هذا القدر من القرآن، ويحفظ متناً صغيراً في الحديث، ومتناً في العقيدة، ومتناً صغيراً في الفقه، ومتن في علوم الآلة من اللغة بفروعها، وأصول الفقه، وعلوم الحديث وغيرها، ثم بعد ذلك ينتقل إلى كتب الطبقة الثانية والثالثة وهكذا، قد يقول قائل: إذا قرأت في أكثر من علم في وقت واحد يتشتت ذهني، ولا بد أن أحصر جهدي في كتاب واحد في فن واحد، نقول: لك ذلك، ابدأ بالقرآن فاحفظه، اضمن حفظ القرآن، ثم احفظ من السنة بعض المتون المرتبة عند أهل العلم احفظ الأربعين ثم العمدة ثم البلوغ، ثم بعد ذلك اتجه إلى علم الفقه والاستنباط فتحفظ متناً صغيراً ثم الذي يليه، ثم الذي يليه، على طريقة شرحناها مراراً في كيفية التفقه من كتب العلم، ثم بعد ذلك اتجه إلى العقيدة، أو قدم بعضها على بعض على حسب ما يتيسر لك من علماء تلازمهم يحسنون التعامل معك في سنك، فإذا كنت ممن يتشتت فاقتصر على علم واحد، وإن كنت ممن يستوعب ويمل لو اقتصر على علم واحد فنوع، والناس يختلفون في هذا.(32/24)
هذا يقول: نرجو أن تكون لك زيارة شهرية لبريدة لمحاضرة تكون سلسلة في كتب العلم؟
عندنا دورة في الصيف مدتها أسبوعان في شرح جامع الترمذي، وأما هذا فحسب التيسير، يعني إذا وجد فرصة لبينا الطلب وإلا فالإخوان يعذروننا.
يقول: ما توجيهكم لمن يتابع المحاضرات هل يكتب أم يكتفي بالسماع مع العلم أنه بطيء الكتابة لا يستطيع أن يكتب كل ما يقوله الشيخ، وكيف يراجع الدرس في وقت آخر؟
هذا إذا كان حضر المحاضرة وانتبه لها انتباهاً جيداً، وقيد ما يحتاج إليه مما يلفت نظره وانتباهه من هذه المحاضرة، رؤوس، عناوين، ويكون إذا تذكر هذه العناوين تذكر ما قيل تحت كل عنوان بها ونعمت، وإن كانت حافظته لا تستطيع استيعاب ما قيل في المحاضرة فالتسجيل يقوم بهذا، يعني مراجعة التسجيل يقوم بشيء من هذا.
يقول: هل من الممكن أن أحفظ على نفسي القرآن من غير شيخ آخر؟
نعم إذا أتقنت القرآن، إذا أتقنت قراءته وتلاوته فلك أن تحفظه بمفردك على غير شيخ، لكن شريطة أن ترفع صوتك بالقراءة وقت الحفظ؛ لأن الذي يحفظ القرآن سراً لا يستطيع أن يجهر به، قد يقرأه سراً لكن لا يستطيع أن يقرأه في الصلاة مثلاً حتى تتظافر عليه جميع الحواس، النظر في المصحف مع تكريره باللسان والشفتين مع استماع الأذنين له، وهذا أمر مجرب من حفظ سراً لا يستطيع أن يجهر به.
يقول: أنا متضايق نفسياً عندي ضيق نفس وطفش وملل من الدنيا، كل شيء يتكرر علي يومياً حتى أني أفكر بالانتحار فكيف أتخلص من ذلك؟
نسأل الله السلامة والعافية.
أولاً: الانتحار قتل للنفس وقاتل نفسه متوعد بالنار -نسأل الله السلامة والعافية-، ويأتي يوم القيامة وبيده الآلة التي قتل نفسه بها، يقتل بها نفسه مراراً في نار جهنم -نسأل الله السلامة والعافية-، والذي أجزم به أن سبب هذا الضيق البعد عن ذكر الله، وعن تلاوة القرآن، وعن الأذكار المرتبة في أوقاتها ومناسباتها، فلو لزم الإنسان الذكر {أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [(28) سورة الرعد] كما قال الله -جل وعلا- خلافاً لمن تدعى ولايته ممن يقول:
ألا بذكر الله تزداد الذنوبُ ... وتنطمس البصائر والقلوبُ(32/25)
هذا تدعى ولايته، ويعبد من دون الله -نسأل الله السلامة والعافية-، ولي من أكابر الأولياء في عرف فئام جموع غفيرة من المسلمين -نسأل الله السلامة والعافية-، لكن الله -جل وعلا- يقول: {أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [(28) سورة الرعد] وقراءة القرآن كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- على الوجه المأمور به تورث الإنسان من العلم والإيمان واليقين ما تطمئن به نفسه، وينشرح له صدره، مما لا يجده غيره إلا من فعل فعله.
هذا يقول: ممكن أن نفسر ربانيين بقول: إن الرباني هو الذي يجلي القلوب، أي ينظفها من وسخ الدنيا، أي كمثل الذي يرب دلة القهوة أي ينظفها من الوسخ الذي عليها؟
هذا تنظير للمعنويات بالمحسوسات، ولا شك أن توجيه الناس إلى العلم الشرعي وتربيتهم عليه سعي جاد وحثيث إلى تجلية القلوب وتنظيفها من الأوساخ والأدران وجميع الأمراض التي تلم بها.
يقول: لي سنوات في طلب العلم وأشكو من ضعف الحفظ وكثرة النسيان، فما الأصلح لي؟ هل أكثر القراءة أم أعكف على الحفظ والثاني شاق علي، وأسعى إيش؟ وأشعر -الخط يعني رديء- وأشعر بملل من الحفظ؟
لا شك أن الحفظ والتكرار والترديد ممل، لكن ما في وسيلة لضعيف الحافظة إلا بهذا، يقرأ مرة مرتين، عشر، عشرين، ولا يمل؛ لأنه إذا عرف شرف المقصود هان عليه كل شيء، إذا عرف شرف المقصود والأجور المرتبة عليه فإنه يهون في سبيل تحصيله كل شيء، ويرخص كل نفيس، ولا أنفع لمثل هذا من الكتابة واختصار الكتب، يعني يأتي من يشكو ضعف الحفظ، وأنه قرأ تفسير ابن كثير مراراً، وفي النهاية لا شيء، ما فهم شيء، ولا حفظ شيء، ولا يذكر شيء من التفسير، نقول: يا أخي إذا كنت بهذه المثابة فاختصر تفسير ابن كثير، اختصر تفسير ابن كثير، طيب في السوق في المكتبات مختصرات كثيرة لتفسير ابن كثير، فأنا أضيف نسخة، أنا أقول: لا تضف نسخة إلى السوق، أضف إلى نفسك نسخة، فبمعاناتك هذا الاختصار وتعبك على فهم ما تقرأ، وتمييزك بين ما تثبته وما تتركه هذا يجعل هذا العلم ينقش ويحفر في قلبك.(32/26)
يقول: ما توجيهكم لمن تساهل في التصوير حتى لا يكاد يمر موقف من المواقف إلا وله فيه بصمة من خلال كاميرته، أي أن الواحد منا لا يجلس في مجلس إلا وقد تعرض لما يسمى بصيد هذه الكاميرات؟
أولاً: التصوير بالنسبة لاختياري ورأيي أنه محرم كما جاءت به النصوص الصحيحة الصريحة، وأنه من كبائر الذنوب -نسأل الله السلامة والعافية- وأن هذه النصوص تناول ما يسمى تصوير بجميع آلاته وأشكاله ووسائله، حتى الكاميرات الموجودة في كاميرات الفيديو والجوال كلها تصوير، كل ما يمكن أن يعاد في غيبتك فهو تصوير، وأما قول من يقول: إن النصوص الشديدة والوعيد الشديد على المصورين لا يمكن أن يتوجه لشخص ضغط زراً في لحظة فأوجدت صورة، والمصور في الحقيقة هو الآلة، وأن الذي ضغط الزر هذا ما فعل شيء كبير يمكن أن يتوعد عليه بمثل هذا الوعيد، نقول: نظيره من ضغط زر المسدس فقتل مسلماً بضغطة زر، الإنسان لا ينظر إلى صعوبة العمل أو مشقة العمل أو خفة العمل يتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار سبعين خريفاً، المسألة مسألة امتثال، المسألة مسألة طاعة لله ورسوله،
والمعصية قد تكون كبيرة وإن كان فعلها ومعاناتها يسير، إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، بلى إنه كبير، العذاب وجل عذاب القبر من هذا العمل الذي يظن في عيون الناس أنه صغير، يقول: ضغطة زر تصور لك مائة شخص، وجاء في الحديث الصحيح أنه يقال: ((أحيوا ما خلقتم)) يؤمر بنفخ الروح في هذه المائة، فماذا عن من صور الألوف المؤلفة -نسأل الله السلامة والعافية-، وعلى كل حال من أهل العلم من ينازع في دخول هذا في النصوص، وأن يجعل هذا من نوع حبس الظل وشبهه، ولهم اجتهادهم، ولا نعترض على من اجتهد لا سيما من عرف بالعلم والعمل وصدق النية والإخلاص، وأنه لا يتبع الهوى، لكن هذا اجتهاده.(32/27)
في قصة يعني ليست بما يستدل بها على حكم التصوير، حكم التصوير محسوم بالأدلة الصحيحة، فيه النصوص الصحيحة، وفيه الكلام الكثير لأهل العلم، لكن هناك قصة وقفت على كتاب اسمه: (شيوخ معهد أسيوط) مطبوع منذ ثمانين عاماً، شيوخ معهد أسيوط، وفي هذا تراجم لمن تولى مشيخة المعهد، يعني مدير المعهد أو رئيس المعهد يسمونه شيخ المعهد، كل واحد فيه ترجمته بصفحة أو صفحتين، وفيه صورته، على جانب العنوان اسمه صورة لهذا الشيخ، فيه شيخ من شيوخ المعهد اسمه: محمد شريت، بالتاء، محل الصورة المربع فاضي، ومكتوب: لم يمثل أمام كاميرات التصوير قط، يقول المؤلف وهو من أساتذة المعهد وليس من الشيوخ يعني مدير المعهد يقول: كنت نائم في ليلة من الليالي فجاءني من يقول: هذا رسول الله نائم في الغرفة، دخلت فكشفت عنه الغطاء فإذا شيخنا محمد شريت ميت، فلما ذهبت إلى المعهد وجدت الشيوخ يتبادلون التعازي في وفاة شيخ المعهد، أنا أقول: مثل هذه القصص لا يقرر بها حكم شرعي، لا وزن لها في مقام الاستدلال، لكن هذه لها دلالتها، فعلى الإنسان أقل الأحوال أن يتورع خشية أن يقع في هذه النصوص الشديدة، خشية أن يقع في هذه النصوص الشديدة، وإلا عندنا من العلماء من يفتي من الجهات الرسمية وهم أهل علم وورع ودين، ولا نقول إلا خيراً، ممن يقول: إن هذه لا تسمى تصوير، وإنما تسمى حبس ظل، وكنا نسمع هذا الكلام من قديم، يأتينا من الوافدين ومن الخارج ثم بعد ذلك .. ، وأظن ضغوط الواقع أثرت في الفتوى، ورأوا أن هذا الأمر لا بد منه، وعمت بها البلوى، فما منهم إلا أنهم أوجدوا مخرجاً.(32/28)
دعك من الناس المفتونين هناك من هو مفتون -نسأل الله السلامة والعافية- ممن يحرف الكلم عن مواضعه، في تفسير الجواهر وهو تفسير متداول، تفسير عصري متداول صدر أمر الملك عبد العزيز سنة (1353هـ) أو (54) بمنعه من دخول المملكة، وحقيق وجدير أن يمنع؛ لأنه أشبه ما يكون بكتب العلوم، كله صور وتطبيقات ونظريات، مبني على هذا، وفيه شيء من التحليل اللفظي للقرآن، وفيه استطرادات وتجارب وقعت له ولغيره، لكن مما قاله يقول يستدل بقول الله -جل وعلا-: {وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ} [(43) سورة الأنفال] يقول: أراهم الله -جل وعلا- إياهم، أراه الله -جل وعلا- إياهم أقل من واقعهم، أقل من واقعهم، ولا يمكن أن يكون هذا إلا بطريق التصوير؛ لأنه ما يمكن أن تشوف ناس أقل من الواقع أو أصغر من الواقع إلا بالتصوير، فيكون هذا دليل على جواز التصوير، يعني ضلال، هذا تحريف للكلم -نسأل الله السلامة والعافية-، يقول: فعرضت هذا الاستدلال على شيخ من الشيوخ فقال: لا يكفي أن يقال: هذا دليل على جواز التصوير، بل هو دليل على وجوب التصوير -نسأل الله السلامة والعافية-، يعني يصل الحد إلى هذا؟! ((اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا)).
ابن القيم -رحمه الله تعالى- تحدث في إغاثة اللهفان عن المسخ الذي يكون في آخر الزمان، وقال: "إنه يكون أكثر ما يكون في العلماء المضلين الذين يحرفون الكلم عن مواضعه".
يقول: ما هي الأسباب المعينة لطلب العلم مع أنني في كلية الشرعية لكن أحس أنني لا أفهم شيئاً؟
ذكرت في بداية أو في أثناء الكلام في الدرس أن هناك أشرطة تناولت العلم من جميع جوانبه، بحدود ثلاثين شريطاً كلها تعالج هذه المشاكل وهذه الأسباب، وما يعين طالب العلم، وما يعوق طالب العلم، فيرجع إليها؛ لأنها تحتاج إلى شيء من التفصيل.
بماذا تنصحون من بدأ أكثر من مرة في حفظ القرآن ثم يتوقف فترة يبدأ من جديد، حتى بلغ الأربعين ولم يحفظ؟(32/29)
مثل هذا يتحسس نفسه، لا بد أن يكون مبتلاً بشيء عوقب بسببه بعدم متابعة الحفظ، فيتحسس نفسه، فعليه أن يحفظ نفسه من الأسباب المؤثرة على القلب، وأكثر ما يؤثر على القلب الفضول، فضول الكلام، فضول النظر، فضول الاستماع، فضول الطعام والشراب، فضول النوم، فضول الخلطة، كما قرر ذلك ابن القيم -رحمه الله تعالى- وعليه أن لا ييأس، عليه أن لا ييأس.
يقول: حبذا لو ذكرت لنا باختصار أفضل الطبعات لكل من شرح الكرماني للبخاري، إرشاد الساري، شرح النووي على مسلم، مع ملاحظة أن تكون الطبعة متوافرة؟
هناك أشرطة خمسة أو ستة نسيت من وقت من زمن تكلمنا فيها على شروح الكتب الستة، ومنهج كل شرح، واستخرجنا فوائد وطرائف من كل شرح، وذكرنا الطبعات المعتمدة لهذه الشروح، وأحسب أن هذه الأشرطة نافعة لبعض المتعلمين، فيرجع إليها من أراد الجواب على هذا السؤال.
يقول: ما أفضل التحقيقات لكتاب فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر؟
على كل حال الكتاب طبع مراراً كثيرة، ولا تزال طبعة بولاق هي أفضل الطبعات، وأصح الطبعات، وإن ادعى من ادعى أنه حقق الكتاب، وصحح الكتاب، نعم صحح، وذكر نماذج من تصحيحه، ويشكر على هذا، لكن الكتاب لا يمكن أن ينوء به شخص.
السيديهات والأقراص للكمبيوتر هل تغني عن قراءة كتب الحديث؟(32/30)
أبداً، هذه الوسائل لا شك أنها معينة لطالب العلم ومختصره لوقته، لكن لا يمكن أن يبنى عليها طالب علم يستقل بها ويجعلها مصدره الوحيد للتلقي، يستفيد منها طالب العلم باختبار عمله، يعمل بيده، يقرأ بنفسه، يبحث بنفسه لا يعتمد على أقراص ولا على فهارس، ولا .. ، لا يعتمد على شيء، توصل إلى المعلومات بنفسه، وقد يصل إلى معلومات هو بأمس الحاجة إليها، عشرات المسائل يقف عليها بنفسه قد تكون حاجته إليها أقوى من حاجته إلى المسألة التي يبحث عنها، لكن إذا أراد أن يختبر عمله خرج الحديث مثلاً من عشرين طريقاً بالنظر وتقليب الكتب، ثم أراد أن يختبر العمل يضغط الزر ويشوف إذا كان هناك طرق زائدة لم يقف عليها، أو هو خطيب بقي من الوقت على الخطبة يسير لا يكفي لتخريج الحديث من الكتب، وأراد أن يطلع على ما قاله أهل العلم في هذا الحديث بدلاً أن يلقيه على عموم الناس دون معرفة لدرجته له ذلك، أما أن يتعلم على هذه الآلات فلا.
ما موقف طالب العلم من اختلاف العلماء؟ وما موقف العامة كذلك من اختلاف وتضارب فتاوى العلماء المعاصرين في بعض المسائل؟
طالب العلم إن كان مؤهلاً للنظر والاستدلال ففرضه أن ينظر ويستدل، ويعمل بما ترجح لديه من خلال النصوص، والذي ليست لديه الأهلية -أهلية النظر- ولا الاستدلال هذا حكمه حكم العامي فرضه سؤال أهل العلم، سؤال أهل العلم.
ويقول هو: تضاربت الفتاوى من يقدم؟ من نأخذ بقوله؟ ومن نترك؟
عليك أن تقدم الأوثق، الأوثق قد يقول قائل مثلاً: أنا عامي لا أعرف كيف أوازن بين هذا هل هو أوثق من هذا أو أوثق من هذا؟ نقول في مثل هذا: تكفي الاستفاضة على ألسنة أهل العلم، والله -جل وعلا- لا يكلف نفساً إلا وسعها، الاستفاضة على ألسنة أهل العلم كافية، ومع ذلك لا بد من توافر الشروط الثلاثة.
وليس في فتواه مفتٍ متبع ... ما لم يضف للعلم والدين الورع
هذا يقول: يتعرض الشيخ المحدث عبد المحسن العباد لهجمة شرسة في منتديات الانترنت فهل من نصيحة لمن يتعرض للشيخ؟(32/31)
الشيخ -فيما نحسب والله حسيبه- على خير عظيم، وأنه من خيار أهل العلم، من أهل العلم والورع والدين، والتقوى فيما نحسب والله حسيبه، هذا فيما نعلم عن الشيخ، فالذي يتعرض لأولياء الله الخطر عليه ((من عادى لي ولياً)) ونحسب الشيخ -والله حسيب الجميع- من هذا النوع، يبقى أن من يتعرض للحيلولة بين الإفادة من هذا الشيخ وبين .. ، من الإفادة من علم هذا الشيخ، من يحول بينه وبين طلاب العلم هذا يسميه بعض أهل العلم قاطع طريق، قاطع طريق.
يقول: كيف نتعامل مع مدرسي العلوم الشرعية في الدراسة النظامية الذين يظهر عليهم المنكر من حلق اللحية، والإسبال، وجهل تدريس كتب أهل العلم؟
مثل هؤلاء لا بد أن تسدى لهم النصيحة، وأن يوجهوا بالقول اللين، بالرفق، باللين، بالحكمة، بالموعظة الحسنة، إن نفع هذا وإلا فبرفع أمرهم إلى المسئولين، والتفاهم معهم لاستبدالهم بمن يعلم الناشئة ممن تبرأ الذمة؛ لأن هذه أمانة، ولا بد من أداء الأمانة على الوجه المطلوب، وتولي أو تولية مثل هذا النوع لا شك أنه مخل بشيء من الأمانة، فيراجع عليه الجهات المختصة بهذا، ويناقشون، ويستجيبون -إن شاء الله تعالى-.
يقول: ما حكم عرائس الأطفال، وجوال الكاميرا؟(32/32)
عرائس الأطفال يتكلم فيها بعض أهل العلم على أساس أنها هي لعب البنات الموجودة في النصوص، وأن عائشة كان عندها لعب، كانت تلعب بلعب البنات، وعندها فرس له جناحان، وعندها وعند غيرها، لكن ما المراد بهذه العرائس وهذه اللعب؟ فسرها أهل العلم الشراح قالوا: اللعبة هذه عبارة عن وساد كبير في رأسه وساد صغير، ولا في أكثر من هذا، ليس فيه أكثر من هذا، والآن العرائس واللعب الموجودة الآن المضاهاة التامة لخلق الله، فهي الصور المجسمة التي أجمع العلماء على تحريمها، مضاهاة مصورة بدقة، بدقة فاتنة، ومن مضاهاتها أنها إذا أضجعت أغمضت عينيها، إذا أجلست ضحكت، إذا أوقفت وصفق لها رقصت وغنت، هل يشك في تحريم مثل هذه العرائس؟ إذاً ما الصور المجسمة المجمع على تحريمها إن لم تكن هذه؟ إضافة إلى أنه وجد أنواع من هذه المجسمات التي يسمونها عرائس ولعب بنات بأحجام تثير الغرائز، وإخواننا في الهيئة وفي الحسبة عندهم قصص من هذا النوع، لا يحسن ذكره في هذا المكان.(32/33)
جوال الكاميرا لا شك أنه آلة تصوير وهو بحد ذاته قد يصور ما فيه روح فيكون تصويره محرماً، وقد يصور ما لا روح فيه وتصويره جائز، وإن كان المختار عند الإمام القرطبي المفسر المعروف أنه لا يجوز تصوير خلق الله ولو لم يكن ذا روح، فلا يجوز عنده تصوير الأشجار، لكن عامة أهل العلم على جواز تصوير ما لا روح فيه، مثل ما قلنا: إن هذا الجوال قد يصور المباح وقد يصور المحرم، لكنه يسهل المحرم، وقد يجد الإنسان نفسه في موقف يفرض نفسه عليه التصوير، التصوير يفرض عليه نفسه كيف؟ قد يكون شاب من الشباب صالح لا يرى مثل هذه الأمور وقد ينكر هذه الأمور ولو تمكن من هذه الكاميرات لكسرها، وقد يكون قد شارك في وقت من الأوقات في تكسير الكاميرات في المشاعر، لكنه الآن اقتنى هذا الجوال باعتبار أنه فيه خدمات لا توجد في غيره، لكن ماذا عن الثبات؟ إذا حمل الجوال الذي فيه الآلة اللي تسهل له مزاولة هذا المنكر؟ هذا لا ينتبه، أو قد لا يجد الصراع النفسي في تصوير نفسه، في تصوير والده، في تصوير والدته، في تصوير أخيه، لا يجد صراع قوي في تصوير هذا، لكن ماذا عما لو رزق بطفل وجعل الطفل يحبو مرة ومرتين ثم يسقط، هذا المنظر لن يتكرر عليه مرة ثانية، فيأتيه الشيطان يقول: اغتنم هذه الفرصة والتصوير فيه خلاف، فتجده يجرأ على مثل هذا التصوير، وماذا عن الطفل إذا خطا مرة أو مرتين في بداية المشي يقوم ويعثر يقول له الشيطان: هذا المنظر لا يمكن يتكرر عليك مرة ثانية؟ فيسهل عليه التصوير، ثم بعد ذلك إذا صور صور انتهى، وعرفنا شباب في غاية من التحري والتثبت ثم بعد ذلك لما ملكوا هذه الآلة أقدموا على التصوير وصاروا يصورون من غير قيد ولا شرط، ثم مالوا إلى القول الآخر وقالوا: تبرأ الذمة بتقليد فلان وفلان، لكن المسألة مسألة هوى، كان يرى حرمة التصوير ثم رأى إباحته لا من أجل نظر في الأدلة وتغير اجتهاد، لا، لكن الهوى قاده إلى ترجيح هذا القول من غير نظر في أدلته، والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(32/34)
المنهجية في قراءة الكتب وجرد المطولات
الشيخ عبد الكريم الخضير
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فإن هذا الموضوع الذي اختاره الإخوة عنواناً لهذا الدرس يحتاج إلى محاضرات، بل إلى وقت؛ لأن كل فن يحتاج إلى وقت مستقل -من فنون العلم-، سواء كان العلم الشرعي، أو ما يعين على فهم العلم الشرعي، لكن في هذا الدرس نُلِمُّ بأطرافه -إن شاء الله تعالى-، ونذكر -بإذن الله جل وعلا- ما لعله أن يفيد السامع، وإن كان قد تقدم لقاءات كثيرة في هذا الشأن، وسُجِّلت، والأشرطة موجودة، ولكنها متشعبة تحتاج إلى أن تلتقط من عدة لقاءات.
المقدمة:
في هذه الساعة نبدأ بمقدمة لبداية التأليف والتصنيف.
في عهد النبي -عليه الصلاة والسلام- لم يكن هناك كتب مصنفة ولا مؤلفة، حتى القرآن لم يكن مجموعاً في مصحف، بل كان محفوظاً في الصدور، ومكتوباً كتابات متفرقة، والخشية مأمونة في ذلك الوقت مع وجوده -عليه الصلاة والسلام- في أن يختلط هذا القرآن بغيره، وفي أن يضيع منه شيء؛ لأن الله -جل وعلا- تكفل بحفظه.(33/1)
لما فتحت البلدان ووجدت بوادر للاختلاف على أصل الأصول وهو القرآن، بادر الصحابة -رضوان الله عليهم- بجمعه، فجمع في عهد أبي بكر جمعاً مبدئياً، ثم جمع الجمع النهائي في عهد عثمان -رضي الله تعالى عنه-، وكَتَبَ منه نسخاً أربع، أو خمس، وأرسلها إلى الأمصار، واعتمدها الناس، ومازالت بأيدي الناس إلى يومنا هذا، وهذا برهان على حفظ القرآن الذي تكفل الله بحفظه من الزيادة والنقصان، حتى ذكر البيهقي في دلائل النبوة: عن يهودي دعاه القاضي يحيى ابن أكثم إلى الإسلام، فلم يُسْلِم، لم يسلم لما دعاه القاضي يحيى ابن أكثم، وبعد ذلك، بعد مرور سنة كاملة جاء ليعلن إسلامه على يدي القاضي يحيى ابن أكثم، فسأله عن السبب في هذا التأخر؟ فذكر له: أنه عمد إلى التوراة فكتب منها نسخاً حَرَّفَ فيها وغير وبدل، ثم ذهب بها إلى سوق اليهود، فتخطفوها من يده، واشتروها، وقرؤوها، وعملوا بما فيها، ثم صنع مثل ذلك في الإنجيل، -قدم وأخر وزاد ونقص وحرف-، ثم بعد ذلك عرضه على النصارى، فاشتروه، واعتمدوه، ثم بعد ذلك عَمِدَ إلى القرآن الكريم فغير فيه تغييرات يسيرة جداً لا تكاد تُلْحَظ، فجاء به إلى سوق المسلمين -سوق الوراقين- من المسلمين، فمن نظر فيه رماه في وجهه، ثم بعد ذلك أعلن إسلامه، وذكر القصة ليحيى بن أكثم.
فلما حج يحيى بن أكثم التقى سفيان بن عيينة، واجتمع به، وذكر له القصة، فقال: هذه القصة شاهدها في القرآن، فالله -جل وعلا- تكفل بحفظه {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [(9) سورة الحجر]، لا يستطيع أحد، ولا يجرؤ أن يزيد أو ينقص، وأما بالنسبة للتوراة والإنجيل، فقد استحفظوا عليها، ووكل حفظهما إليهم، فلم يحفظوا، فوقع ما وقع من التحريف والتبديل والزيادة والنقصان، هذا الكتاب المحفوظ بين الدفتين هو أصل الأصول بالنسبة لهذا الأمة، وفي فلكه تدور جميع الكتب، بما في ذلك السنة؛ لأنها مفسرة للقرآن ومبينة له وموضحة للقرآن.
نعم! فيها أحكام زائدة على ما جاء في القرآن وتستقل بتشريع بعض الأحكام، وهي من الوحي كما قال: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى*ِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [(3 - 4) سورة النجم].
تدوين السنة:(33/2)
بالنسبة لتدوين السنة، جاء في حديث أبي سعيد عند مسلم: ((لا تكتبوا عني شيئاً سوى القرآن، ومن كتب شيئاً غير القرآن فليمحه))، ومع ذلكم كان من الصحابة من يكتب، فمنهم من حمل هذا الأمر أو هذا النهي على الكراهة، الأمر على الكراهة، يعني خلاف الأولى، يعني اعتنوا بالقرآن ولا تخلطوا معه غيره، ومنهم من حمل هذا النهي على ما إذا خيف اختلاط غير القرآن بالقرآن بأن تكتب السنة مع القرآن في صحيفة واحدة فيتجه النهي حينئذٍ، ومنهم من حمله على ما إذا اعتمد الناس على الكتابة وتركوا الحفظ.؟
والواقع يشهد بهذا، أن من اعتمد على ما يكتب فإن الحافظة عنده تضعف إلى أن تذهب، فالذي يكتب ما يحتاج إليه، يعتمد على هذا المكتوب، ثم إذا تذكر شيئاً منه لم يذكره، بينما من لم يكتب وانتبه لما يُذْكر وما يُقال لا شك أنه يحفظه، والناس متفاوتون في الحفظ قوة وضعفاً.
بعد هذا أُمن المحظور، فأمر عمر بن عبد العزيز بكتابة السنة؛ خشية أن تضيع بموت الصحابة -رضوان الله عليهم-، وهذا هو بداية التدوين الرسمي للسنة، وأما قبل ذلك فهو تدوين شخصي ككتابة عبد الله بن عمرو بن العاص، في قوله عليه الصلاة والسلام: ((اكتبوا لأبي شاه)) هذا أمر بالكتابة لكنه نادر، ويبقى أن الضبط والكتابة للقرآن، ولم يكتب غيره خشية أن يختلط به.
وما خيف منه من الاعتماد على الكتابة وضياع الحفظ هو الحاصل، فالناس قبل أن يكتبوا يحفظون، والتدرج الزمني الذي حصل يشهد بهذا، فكان الصحابة يحفظون السنة، ثم بعد ذلك جاء بعدهم التابعون وهم حفاظ، ثم بعد ذلك بدأ التدوين وما زال الحفظ في الأمة حتى وجد من الأئمة من يحفظ سبعمائة ألف حديث أكثر من الحواسب، أكثر مما جمع في الحواسب بكثير، ثم انتشرت الكتابة وما زال الأمر يضعف، -أعني مسألة الحفظ؛ حفظ الصدر-، وإن كان حفظ الكتاب الذي هو عنوان وبرهان لحفظ هذا الدين ما زال مستمراً.
ولم يفت على الأمة شيء، ولم يضع من دينها وعلمها شيء بمجموعها، استمر الأمر على ذلك والحافظة عند الناس تضعف اعتماداً على هذه الكتب، ونظراً لكثرتها وتنوعها وتشعبها.
تدوين الكتب:(33/3)
في أول الأمر كتبت السنة، ثم كتبت الآثار عن الصحابة والتابعين، ثم دونت أقوال الرجال، وصار لها أثر على حفظ السنة.
دونت العلوم وصنفت الكتب فمنها الغايات ومنها الوسائل، ومنها ما يتوصل به إلى المطلوب، ويكون مطلوباً لا لذاته، ثم بعد ذلكم جاءت المطابع، فصارت الكتب متيسرة أكثر مما كان عليه الأمر قبل، تيسر الحصول على الكتاب بعد المطابع.
في السابق قبل وجود هذه المطابع، إذا احتجت إلى كتاب: إما أن تستعيره وتحرص على قراءته والفراغ منه وتعيده إلى صاحبه، أو تنسخ الكتاب، وكتابة الكتاب ونسخه أفضل من قراءته عشر مرات، ويستفيد الطالب بهذه الكتابة كما أنه يستفيد إذا استعار الكتاب؛ لأن يوماً من الأيام لا بد أن يُرد على صاحبه، بخلاف ما إذا اقتناه الإنسان، والاقتناء غير متيسر للسواد الأعظم من طلاب العلم، يصعب على طلاب العلم اقتناء الكتب قبل وجود هذه المطابع، فأوجدت هذه المطابع، وهي بقدر ما هي نعمة من نعم الله -جل وعلا- إلا أن لها من الأثر على الحفظ ودراسة هذه الكتب ما يشاهده كل أحد.
في أول الأمر، في بداية الطباعة أفتى بعض شيوخ الأزهر بتحريم طباعة الكتب الشرعية، وأجازوا طباعة كتب التواريخ والأدب واللغة وما أشبهها، ولا شك أن هذه -لا سيما في أول الأمر- نظرة طبيعية؛ لأن هذه الكتب توجد ريبة في قلوب العلماء؛ لأنهم يعرفون من آثارها ما يعرفون، فإذا كان الأمر قبل الكتابة الاعتماد كله على الحفظ، ثم بعد ذلك لما انتشرت الكتابة صار الاعتماد على الكتابة، والكتابة تحتاج إلى معاناة، وبالمعاناة يثبت العلم، ثم بعد الطباعة ما الذي حصل؟ حصل أن طالب العلم يجمع من الكتب أضعاف ما كان عند شيوخه، ومع ذلكم لا يعرف عنها شيئاً.
يعني طالب العلم الحريص المجتهد الذي إذا اشترى الكتاب قرأ المقدمة وصار عنده تصور عن الكتاب، أما أن يُقرأ الكتاب من أوله إلى آخره، -مع كثرة المطبوعات- لا شك أن دونه خرط القتاد.
ثم استمر الأمر بعد الطباعة إلى أن ظهرت هذه الحواسب، هذه الحواسب التي يسرت كثيراً على المتعلمين، وبضغطة زر في ثواني تحصل على ما تريد، لكن القاعدة: أن ما أخذ بسهولة يفقد بسهولة.(33/4)
يعني تضغط زر وتستخرج ما تريد من النصوص من الكتاب، من السنة، بالطرق بالأسانيد، تستخرج ما تريد من أقوال أهل العلم بسهولة، لكن ما الذي يثبت من هذا العلم الذي يؤخذ بسهولة، إذا فقد الكهرباء عاد طالب العلم عامياً، نعم هذا هو الواقع؛ لأن العلم متين يحتاج إلى معاناة، ويحتاج إلى حفر في القلوب، ما يحتاج أن يمر مرور السراب، ومثلنا لذلك: بمن يمشي على رجليه بشارع من الشوارع، وهذا الشارع فيه محلات تجارية، وينظر في هذه العناوين الموضوعة على هذه المحلات، إذا انتهى من الشارع يكون قد حفظ شيئاً كثيراً، وعرف ما في هذا الشارع من المحلات، لكن إذا مر بهذا الشارع بسيارة، هل يحفظ منها شيء؟ أو يعرف المحلات؟ ما يعرف شيء.
فالذي يمر بسرعة لا شك أنه لا يثبت في القلب منه شيء، وقد يقول قائل: إذا كان الأمر كذلك، فهل نكتب الكتب ولا نعتمد على الطباعة؟
نقول: لا يا أخي؛ الآن الطباعة فرضت نفسها، وهل نترك هذه الحواسب؟
نقول: لا يا أخي.
إذاً كيف يتفق هذا مع ما ذكرت؟
نقول: الكتب يقتنى منها ما يحتاج إليه؛ لأن كثرة التصانيف -كما قال ابن خلدون- مشغلة عن التحصيل.
وأما بالنسبة لهذه الحواسب فلا يعتمد عليها، ولا يعول عليها في بناء طالب علم أبداً، فطالب العلم لا يعتمد عليها البتة في بناءه العلمي، إنما يتعلم على الجادة على طريقة من سبق بحفظ المتون، ومجالسة الشيوخ وملازمتهم، وبمطالعة الشروح والحواشي، ثم بعد ذلك يستفيد من هذه الآلات، إذا أراد أن يخرج حديث يخرجه بنفسه من الكتب، وإن استطاع أن يخدم نفسه بنفسه دون الفهارس فهو أولى.
قد يقول قائل: إن في هذا إضاعة وقت؟ نقول: نعم فيه إضاعة وقت، لكن وقت في سبيل من؟ في سبيل التحصيل، وأنت تريد حديثاً من الأحاديث -في طريقك إلى الوقوف على هذا الحديث- تمر بأحاديث كثيرة، أنت قد تكون بحاجة إليها أشد من الحديث الذي تنشده وتطلبه.
إذا أردت أن تقف على مسألة من مسائل العلم، وتوصلت إليها بنفسك، ما توصلت إلا بعد أن مررت على مسائل كثيرة.
كثير من الناس من طلاب العلم مع الأسف يقول: الناس في عصر السرعة، وتعدو هذا الكلام وتخطوه، الآن بلحظة تأخذ ما تريد؟ فنقول: نعم بلحظه، لكن ما النتيجة؟(33/5)
إذا أردت تخريج حديث فاتعب عليه، ويش المانع أن تتعب على الحديث؟
إتعب على جمعه -جمع طرقه وألفاظه-، وقد تقف على عشرين طريقاً بنفسك، ثم بعد ذلك لا مانع من أن ترجع إلى هذه الآلات فتختبر العمل، علك أن تقف على طرق لم تقف عليها بنفسك، وحينئذ تثبت هذه الطرق التي أخذتها من الآلات في قلبك؛ لأنها قدر زائد على ما جمعت، تتشوف إليه.
فهذه يستفاد منها في اختبار العمل، يستفاد منها –أيضاً- عند ضيق الوقت، إذا ضاق الوقت عندك خطبة جمعة، وما بقي إلا ربع ساعة، وأنت محتاج إلى حديث ما تدري ماذا قال فيه أهل العلم؟ لا مانع من أن تطلع على درجته من خلال هذه الآلات، أما أن تعول عليها في مبتدأ أمرك فلا.
فلا بد أن يكون طلب العلم على الجادة، وأن يتعب في تحصيله، وأن يسلك السبل والطرق التي سلكها من تقدم، لنحصل على ما حصلوا عليه، ولذلكم مع هذه التيسيرات وهذه التسهيلات، كم في الأمة من الحفاظ؟ -أعني حفاظ السنة- وإن كانت البوادر -ولله الحمد- قد ظهرت وتبشر بخير، وبعثت آمال، وكانت الطريقة عند أهل العلم حفظ المختصرات الصغيرة اليسيرة، مثل: الأربعين، ثم العمدة، ثم البلوغ. ومن يتطاول على المنتقى فضلاً عن أن يحفظ الكتب المسندة؟ لكن مع ذلك الآمال -ولله الحمد- وجدت، ففي الشباب من يحفظ آلاف الأحاديث، وهذا يبشر بخير، لكن لا يكفي هذا، لا يكفي أبداً، بل لا بد من معرفة الفقه، والاستنباط من هذه الأحاديث، ومعرفة ثبوت هذه الأحاديث من عدم ثبوتها، فلا بد أن نتحقق من ثبوتها بمعرفة الأسانيد والطرق؛ لأن الإخوان يحفظون أحاديث مجردة بدون تكرار، لكن لا بد من التكرار، لا بد من الأسانيد، لا بد من النظر في المتون.
قد يقول قائل: إنهم في هذه المرحلة في مرحلة تخزين، تخزين للمتون؟
نعم صحيح، لكن لا بد أن يعود إلى هذا العلم مرة أخرى ليتفقه فيه على طريقة شرحناها مراراً، وإن كان الآن بدأنا ندخل في السنة، والأصل أن نتحدث عن القرآن.
كيفية التفقه في السنة؟
ذكرناها مراراً، وهي سهلة وميسورة، لكنها تحتاج إلى وقت، وتحتاج إلى معاناة، وتحتاج إلى تعب، باختصار:(33/6)
تأتي إلى البخاري، وتجعله المحور والأساس الذي تدور عليه، وهذه مرحلة لاحقة بعد حفظ المتون المعتبرة عند أهل العلم في الفنون، وعلى حسب الترتيب الطبقي لمستويات الطلاب.
تأتي إلى الحديث الأول في البخاري، وتجد الإمام البخاري خرجه في سبعة مواضع، تنظر في هذه المواضع كلها، وتنظر بم ترجم البخاري على هذا الحديث في هذه المواضع، وتقارن بين الأسانيد في المواضع السبعة، هل هي متطابقة؟ مختلفة؟ هل زاد البخاري في هذا الموضع على الموضع الآخر؟ هل تغير بعض الرواة؟ هل تغيرت صيغ الأداء؟ كل هذا مؤثر في فهم السنة، وفي تحصيل هذا العلم العظيم.
إذا انتهيت من المواضع، تنظر في مطابقة الحديث للترجمة التي وضعها البخاري عنواناً لهذا الحديث، وتربط هذا الحديث بترجمته، وتنظر في أقوال السلف من الصحابة والتابعين التي يذكرها المؤلف -رحمه الله تعالى- تحت هذه الترجمة؛ لأنها خير معين على فهم الحديث.
وإذا نظرت في المواضع السبعة على هذه الطريقة، تكشف لك أمور، لا تتكشف لك إذا اقتصرت على موضع واحد كما هو شأن المختصرات؛ لأنه أحياناً يختصر البخاري، وأحياناً يبسط، أحياناً تجد كلمة تفتح لك آفاق في فهم هذا الحديث، وكم حصل من الخبط بالنسبة للشروح والخلط التي لا يُعنى مؤلفوها بالنظر في أطراف الحديث، ثم إذا أنت انتهيت من هذه المواضع تنظر إلى حديث في صحيح مسلم بطرقه وألفاظه، وبما ترجم عليه الشراح؛ لأن مسلماً لم يترجم الكتاب.
ثم بعد ذلك تنظر في سنن أبي داوود ثم في الترمذي والحديث مخرج عند الجماعة، بهذه الطريقة يكون لديك التصور كامل للحديث، وبهذه الطريقة تتفقه في السنة ويكون عندك فقه الحديث على طريقة أهل الحديث.
كيف تقرأ القرآن؟ وكيف تفهم القرآن؟
لأنه لابد من أن نبدأ بأصل الأصول.
القرآن محفوظ بين الدفتين؛ فلذلك لا تتعب في مسألة ثبوته كالسنة، ولا في جمع طرقه، ولا غير ذلك، تقرأ القرآن على الوجه المأمور به، وهذا يكون بعد الحفظ إن تيسر؛ لأن ما يأتي الحفظ، الحفظ ما يتيسر لكل الناس -مع أن الله جل وعلا قد يسر القرآن- {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} [(17) سورة القمر].(33/7)
القرآن ميسر -ولله الحمد-، فيكون هذا بعد الحفظ، تنظر في المصحف، وتقرأ فيه على الطريقة المأمور بها بالتدبر والترتيل، وأنت تنظر في كلماته، ما يُشكل عليك من هذه الكلمات تدونه في كراس، الذي يشكل عليك من كلماته تدونه في كراس، وهذا يسميه أهل العلم غريب القرآن، ومن أفضل ما كتب في غريب القرآن: كتاب صغير اسمه: نزهة القلوب لابن عُزيز السجستاني: كتاب مختصر في غريب القرآن أثنى عليه أهل العلم كثيراً من المتقدمين والمتأخرين.
المنهجية في التفسير:
ويكون بيد طالب العلم المبتدئ بعض التفاسير الموثوقة المختصرة جداً؛ لأن كثرة التفاريع تُذهب عليه الوقت دون فائدة؛ لأنه لا يستوعب، ومن أنفع ما يرجع إليه طالب العلم المبتدئ في فهم القرآن، في فهم ألفاظ القرآن؛ لأن الألفاظ لا بد أن تفهم، والمعاني أيضاً لا بد أن تفهم.
في فهم القرآن، في فهم ألفاظه يكون بيد طالب العلم "توفيق الرحمن لدروس القرآن: للشيخ فيصل المبارك" هذا التفسير على اختصاره هو مختصر جداً، مختصر من ابن جرير والبغوي وابن كثير، وهو على منهج السلف -مختصر جداً- فجعل القرآن على ثلاثمائة وخمسين درس بقدر أيام السنة، وأيضاً يستفاد في فهم معاني القرآن من تفسير الشيخ ابن سعدي -رحم الله الجميع-، هذه التفاسير المختصرة تجعل طالب العلم لا يتشتت، فيرجع في غريب القرآن إلى السجستاني، ويرجع -أيضاً- إلى تفسير الشيخ فيصل بن مبارك، ويرجع أيضاً إلى تفسير ابن سعدي في هذه المرحلة، ومع ذلك يفيد من كتب علوم القرآن: يستفيد من كتب علوم القرآن، وكتب علوم القرآن التي ألفت على طريقة المتون تفيد طالب العلم في مرحلته الأولى منها "رسالة للسيوطي" جيدة في هذا الباب، وكذلك منظومة "الزمزمي": هي نضم لهذه الرسالة، والرسالة مأخوذة -مستلة- من كتاب للسيوطي اسمه: "النقاية".
وهذه الكتب موجودة ومتداولة ومشروحة، لها شروح مسجلة ومطبوعة –أيضاً- فيفاد منها، ومع ذلك يحتاج إلى فهم المشكل من معاني القرآن.(33/8)
ولابن قتيبة كتاب اسمه: "تأويل المشكل"، لكن أنا عندي أن مشكل القرآن يؤجل إلى المرحلة الثانية، يكفي أن نفهم ونعنى بألفاظ القرآن بحيث لا يشكل علينا لفظ، وأما المشكل والاستنباط من القرآن واستخراج درر القرآن وعجائب القرآن هذه مرحلة لاحقة، تلي هذه المرحلة.
فإذا أكمل القرآن على هذه الطريقة -حفظ القرآن- ونظر في ألفاظه ورجع في ما يشكل عليه إلى كتب الغريب، غريب القرآن، وهذه التفاسير المختصرة إذا أنهى القرآن على هذه الطريقة لا شك أنه يخرج بفائدة عظيمة، وقد يطلب العلم سنين عديدة، ثم تسأله عن لفظة غريبة في القرآن فلا يجد الجواب، لكن إذا عنى به من أول الأمر سهل عليه.
بعد هذا إذا تعدى هذه المرحلة يعنى بتفسير الإمام الحافظ ابن كثير- تفسير ابن كثير- ويكون مع ذلك نظر في العلوم الأخرى على ما سيأتي، تفسير ابن كثير، كثير من الناس يقول: قرأت تفسير ابن كثير لما انتهيت ما عندي شيء، نقول إذا كانت الحافظة لا تسعفك فاختصر التفسير، اختصره بنفسك، تفسير ابن كثير له مختصرات موجودة ومتداولة ومتعددة؟ نقول: يا أخي لا تعتمد ولا تعول على المختصرات؛ لأن العلم إنما يثبت بالمعاناة فاختصر تفسير ابن كثير؛ لأنك الآن عندك شيء من الأهلية، عنده أرضية -كما يقولون-، فإذا اختصرت تفسير ابن كثير وعرضته على من تثق بعلمه وسدد لك هذا المختصر بعد الرجوع إلى أصله، لا شك أنك إذا انتهيت عندك رصيد كبير مما ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- من الأحاديث والآثار والتوجيهات للأقوال والاستنباط والفقه.
إذا ارتفعت درجة وأردت أن تنظر وتجمع بين التفسير بالأثر الذي عليه المعول والتفسير بالرأي -كتب التفسير التي تعنى بالصناعة اللفظية- فتجمع بين تفسير البغوي بعد ابن كثير أو الطبري مع تفسير أبي السعود لعنايته بالمباحث البلاغية، وتفسير أبي حيان لعنايته بالمباحث النحوية والصرفية، وغيرهما من التفاسير.(33/9)
لكن قد يقول قائل: العمر لا يستوعب إذا كان هذا فن واحد ونحتاج إلى هذه الكتب؟ نقول: نعم، تحتاج إلى هذه الكتب، وبعض طلاب العلم قد تتقدم به السن ويتسلم المناصب، ويسود على غيره ويتصدر لتعليم الناس وإرشاد الناس ووعظهم وتوجيههم ولو تسأله هل قرأت تفسيراً كاملاً؟ يقول لك: ما قرأت تفسيراً كاملاً.
فإذا اختصر تفسير ابن كثير وانتهى منه ثم اِرتقى إلى البغوي والطبري ثم نظر في كتب التفاسير الأخرى المتنوعة الفنون ممن يعنى بالعلوم الأخرى المعينة على فهم القرآن كفروع علوم اللغة من نحو وصرف ومعاني وبيان وبديع وإعجاز وغير ذلك.
وأيضاً: ينظر في كتب أحكام القرآن، كتب أحكام القرآن موجودة -مع الأسف أنها موجودة على المذاهب عدا المذهب الحنبلي- الآن المتداول بين الناس، فتجد أحكام القرآن لابن العربي على مذهب مالك، إلكيا الطبري الراسي على مذهب الشافعي، الجصاص على مذهب أبي حنيفة.
لا مانع أن يتخذ على طالب العلم آلية تعينه على فهم هذه الكتب فينظر في آيات الأحكام ويراجع لها هذا الكتب، ويثبت المذاهب الثلاثة من هذه الكتب، ثم بعد ذلك يأتي بالمذهب الحنبلي من كتب الفقه الحنبلي فيسدد هذا النقص.
وإذا انتهى من هذه الكتب الثلاثة، المسألة ما هي بمسألة سواليف أو مسألة استرخاء، يقول: والله أنا عندي روحات وجيَّات وأسفار ورحلات وهو بيقرأ هذه الكتب، ما يمكن، فلا بد أن يقتطع من عمره سنين حتى يثبت العلم في قلبه، وإلا لو كان العلم بهذه السهولة كان كل الناس علماء؛ لأننا نرى رفعة العلماء في الدنيا فضلاً عن الآخرة، كان كل الناس علماء، وفي أسواق المسلمين من يفوق في الفهم والحفظ والذكاء كثير ممن ينتسب إلى العلم، كان هؤلاء علماء، لكن دون تحصيله هذا التعب الشديد، فنحتاج إلى أن نعتكف لقراءة هذه الكتب، فإذا نظرنا في هذه الكتب على هذه الطريقة وجمعنا بين أقوال أهل العلم، مذهب أبي حنيقة نأخذه من الجصاص، مذهب مالك نأخذه من ابن العربي، مذهب الشافعي نأخذه من إلكيا الطبري، والمذهب الحنبلي نأخذه من المغني إيش المانع؟ ما الذي يمنع؟ نراجع هذه المسائل في المغني ونضيف حقل رابع للمذهب الحنبلي، إذا انتهيت من هذه الكتب.(33/10)
قد يقول قائل: إنه مع الجد تحتاج إلى سنة! طيب سنة، وبعدين؟ ويش أنت عجلان عليه؛ لأننا نمضي عشرات السنين ما صنعنا شيء، فبعد ذلك إذا تأهل فينظر في الكتب التي فيها فائدة، وفيها شوب بدعة؛ لأنها فيها فوائد، لكن مع ذلك يمنع من النظر فيها في المرحلة الأولى والثانية والثالثة وجود هذه البدع، فعندك مثلاً تفسير الزمخشري فيه من الفوائد اللغوية والبلاغية والبيانية قد لا يوجد في غيره مثله، ونعرف أنه معتزلي وشبهه استخرجها أهل العلم بالمناقيش، ومع ذلك لا تنظر فيه مجرداً، انظر فيه مع حواشيه، والأمنية قائمة في أن يتصدى أهل السنة وأهل الخبرة، أهل الاختصاص في العقيدة، وأهل الذهن الحاضر الوقاد لهذه الكتب فيعلق على ما فيها من مخالفات؛ لأننا قد نجد من يعلق على الزمخشري ويبين اعتزالياته، لكن هو متلبس ببدعة أخرى، فكون هذه الكتب لا ينظر فيها من قبل أهل السنة، وقد يدور ذكرها على بعض الألسنة ونجد –مثلاً- في تفسير ابن كثير: نقول عن الزمخشري، نقول عن الرازي، فطالب العلم إذا قرأ في هذه النقول استهواه ما نقله الحافظ ابن كثير عن هذه الكتب إلى الرجوع إلى هذه الكتب، لكن لا يمكن أن يجرؤ طالب علم إلى القراءة في مثل تفسير الرازي؛ لأنه خطر على طالب العلم، خطر، ولذا المرجو والمطلوب من أهل التحقيق من أهل العلم الذين عندهم خبرة ومعرفة بهذه الأمور أن يعلقوا على هذه الكتب، فيستفاد منها ويتقى شرها.
إذا انتهينا من هذه الطريقة -قرأنا كتب التفسير بهذه الطريقة- نخرج بفائدة عظيمة، هذه الكتب مطولات قد يقول طالب: أنا لا أستطيع أن أستوعب هذه المطولات، وهذه الطريقة تصلح لكتب التفسير وكتب الحديث وغيرها من الكتب.
يكون معك أقلام أربعة أو خمسة بألوان، وأنت تنظر في تفسير القرطبي –مثلاً-: وهو أطول تفسير في أحكام القرآن، وفيه من الفوائد شيء كثير، لكنه على مذهب الأشاعرة.(33/11)
وأيضاً فيه من الأحاديث الضعيفة والواهية والموضوعة شيءٌ كثير؛ لأنه ليس من أهل الصناعة، تقرأ في تفسير القرطبي –مثلاً- وعندك الأقلام الملونة، والمسألة مسألة جرد قراءة؛ لأن الكتاب من عشرين مجلد، إذا أردت أن تقف عند كل مسألة ما تنتهي، تأخذ القلم الأحمر وتقول: قف، عند مبحث تريد حفظه؛ لأن بعض المباحث يمر عليك في هذا التفسير أوفي غيره لا بد أن تحفظه؛ مثل هذا لا يمكن أن يمر ثانية، هذا تستفيد منه في كل العلوم ينير لك طريقك، بعض التوجيهات في بعض الكتب هذه يفتح الله -جل وعلا- بها على هذا المؤلف بحيث لا توجد عند غيره، فمثل هذه اكتب: قف -بقلم أحمر-، وفي طرة الكتاب تقول: اللون الأحمر -مثلاً- صفحة كذا.
يأتيك مسألة صعبت عليك وتريد أن تراجعها لتفهمها الأخضر: قف.
تذكر الاصطلاح في طرة الكتاب: الأحمر لما يراد حفظه، الأخضر لما يراد مراجعته، تحتاج تراجع على شان تفهم، إذا ما فهمت بنفسك راجع أهل العلم يحلون لك هذا الإشكال، وجدت مقطعاً أعجبك أسلوبه وتريد أن تستفيد منه في إنشاءك، وفي إلقاءك وفي تعليمك فتأتي بالقلم الأسود وتقول: قف؛ لتعود إليه مرة ثانية، فتنقله إلى مذكرتك، وهكذا.
بهذه الطريقة في سائر الكتب المطولة يستفيد طالب العلم؛ لأن هذه المطولات لا يمكن أن تعامل معاملة متون، فتفهم كل شيء فيها؛ ما يمكن؛ لأن أهل العلم لما صنفوا المصنفات وجعلوا منها المختصرات؛ لتحفظ، وجعلوا منها المطولات؛ لتُفْهِم ويستفاد منها، ويستعان بها على فهم هذه المختصرات.
أنواع الكتب عند أهل العلم:
فالكتب عند أهل العلم على أنواع: منها المتون، ومنها الشروح، ومنها الحواشي، ومنها النكت، -وبعض الطلاب يسمع النكت على كتاب كذا، يظنه الأخبار الطريفة المضحكة، ليس الأمر كذلك، بل هي المسائل المشكلة-، هي المسائل المشكلة: يعني ليست حاشية تتعرض لكل شيء، وإنما هي في مسائل دون مسائل، هذه المطولات تقرأ بهذه الطريقة، وانتهينا من التفسير، نأتي إلى الحديث.
المنهجية في الحديث:(33/12)
الحديث يُبدأ فيه بالأربعين النووية؛ لأن ابن عباس يقول: الرباني هو الذي يبدأ بصغار العلم قبل كباره، يبدأ بصغار العلم قبل كباره؛ فتبدأ من العتبة الأولى لهذا السلم الذي ترتقيه لنيل هذه المطالب.
تبدأ بالأربعين النووية وهي أحاديث جوامع من كلم النبي -صلى الله عليه وسلم- فتحفظ الأربعين وتراجع عليها الشروح الموثوقة من قبل أهل العلم، المختصرة أيضاً.
ثم تقرأ في العمدة، في العرضة الأولى تقرأ كتاباً ميسراً على العمدة؛ لأن العمدة أُلف فيها، أو في شرحها كثير، فتقرأ عليها شرحاً مبسطاً، يعني في بداية الأمر لو قرأ الإنسان شرح الشيخ عبد الله بن بسام (تيسير العلام) ينفعه ويستفيد منه، وسهل جداً كتاب شبه مدرسي، ثم بعد ذلك يقرأ على العمدة شرح ابن دقيق العيد؟ نقول: لا، يؤجل شرح ابن دقيق العيد إلى أن يقرأ كتب أخرى؛ لأن شرح ابن دقيق العيد في غاية الصعوبة.
ومن استطاع أن يتعامل مع شرح ابن دقيق العيد ويخرج منه بحيث لا يشكل عليه شيء فهذا تعلم السباحة، فليقرأ أي كتاب من شروح السنة، بعد هذا يقرأ، يحفظ البلوغ ويقرأ في شروحه ويجمع بين سبل السلام وتوضيح الأحكام للشيخ عبد الله البسام -إذا جمع بينهما استفاد فائدة عظيمة-؛ لأن شرح الصنعاني شرح متين يمكن أن يربى عليه طالب علم بخلاف الشروح التي أشبه بالمذكرات التي لايستشكل منها شيء، هذه لا يربى عليها طالب العلم، لكنه ينتفع منها وفيها فوائد، وفيها ما يعين طالب العلم، فإذا قرأ بلوغ المرام -لأنه مخدوم-، وقرأ معه في الوقت نفسه المحرر لابن عبد الهادي، وقارن بين الكتابين، ونظر في زوائد هذا، وزوائد هذا، واستخرج الزوائد على الكتابين، ونظر في أحكام ابن حجر، وابن عبد الهادي وقارن بينهما، وبحث؛ ليصل إلى القول الصائب من هذين القولين مع مراجعته للشروح، بعد ذلك يتأهل للكتب المسندة الكبرى، يقرأ في البخاري، في مسلم، في بقية الكتب الستة، ويراجع على كل كتاب منها شرح.(33/13)
وإن أراد أن تكون قراءته للشروح سرداً وجرداً؛ لأن الفائدة من قراءة المطولات -مثل: شروح البخاري- تولد عند طالب العلم ملكة يستطيع بواسطتها أن يتعامل مع الأحاديث، لأنه ليس كل الأحاديث مشروحة، إذا سمعت حديث مباشرة ترجع إلى شرحه فترى كلام أهل العلم له، أنت في يوم من الأيام سوف تقف على حديث لم يشرح، وإذا نظرت في الشروح، وجردت على كل كتاب شرح أو أكثر من شرح، فإنك حينئذ تتولد لديك هذه الملكة، ويفتح عليك بعض الأمور التي لا توجد في هذه الكتب، وهذا مجرب، لكن قد يقول قائل: إذا بدأت بالبخاري، كيف أقرأ بفتح الباري؟ وكم يحتاج فتح الباري من المدة لكي أنتهي منه؟.
نقول: يا أخي فتح الباري، لا شك أن فيه صعوبة مثل: لحم الجمل بالنسبة للصبي، فيه وعورة بالنسبة لطالب العلم، نقول اقرأ قبله كما يقول أهل العلم: "الكوامخ والجوارش مشهيات"، اقرأ الكرماني مثلاً: الكرماني فيه طرائف وفيه لطائف تشد طالب العلم.
حقيقة من بدأ بهذا الكتاب لا يتمالك أن يتركه حتى ينهيه، ويقرأه بالطريقة التي ذكرناها عندما يقرأ تفسير القرطبي بالأقلام الأربعة بالطريقة السابقة.
فإذا قرأ الكرماني انفتحت نفسه للقراءة، وتعود على القراءة؛ لأن طالب العلم أول ما يبدأ بالقراءة، القراءة لاشك أنها تحتاج إلى معاناة وتحتاج إلى صبر، تحتاج إلى حبس نفس، فإذا قرأ يقرأ في أول الأمر في اليوم ساعة، ثم بعد من الغد النفس تجره وتسحبه إلى القراءة، لا سيما إذا بدأ بمثل هذا الكتاب، فإذا قرأ الكرماني فيه الطرائف، وفيه الغرائب، وفيه العجائب بالنسبة للرواة، وفيه استنباطات، فيه أشياء، وعليه ملاحظات وأوهام.
الذي يستشكله يضع عليه من الخطوط ما قدمناه سابقاً، ويراجع عليه ماذا قال ابن حجر: هل وافق الكرماني أو ما وافق؟(33/14)
ثم بعد الكرماني يقرأ في شرح النووي على مسلم، وهو أيضاً من المشهيات، وفيه ما في شرح الكرماني، وإن كان الكرماني قد يذكر في ترجمة راوي ويطيل فيها بخلاف غيره من الشروح، يذكر في ترجمة هذا الراوي أطرف ما ذكر في ترجمته، وما يستغرب من ترجمة هذا الراوي، سواء كانت في علمه، في عبادته في زهده، في أخباره العجيبة التي ذكرت عنه، فالكرماني، والنووي لاشك أنهما ييسران القراءة على طالب العلم.
بعد ذلك إذا قرأ في هذين الكتابين لا مانع أن يقرأ في فتح الباري، ويجد النفس قد انفتحت لقراءته، وفتح الباري إذا خصص له وقت يحتاج إلى سنتين بالطريقة السابقة بالأقلام، ويش المانع أن تفهم البخاري ويرسخ في ذهنك صحيح البخاري بمعانيه ولا يشكل عليك شيء بسنتين؟ يعني متكاثر على البخاري سنتين؛ لأن بعض الطلاب يستعجل الفائدة، ثم بعد ذلك تنبيه أريد أن أنبه له الإخوة: أنه لا بد أن يكون شيء على حساب شيء، فإذا استرسل الإنسان وراء الشروح التي تحتاج إلى مدد متطاولة لا شك أنها سوف تكون على حساب المتون، وقد يغفل الطالب إذا بدأ بالشروح على هذه الطريقة عن أهم المهمات: عن القرآن، مراجعة القرآن، وتلاوة القرآن.
فنقول: لا بد أن يقتطع للقرآن جزء يفرضه من وقته من سنام وقته لا من فضوله، جالس في انتظار، ولا عند إشارة ولا في مستوصف، ولا شيء يفتح المصحف، لا، إنما يفرض للقرآن إن استطاع أن يقوم قبل صلاة الفجر ويقرأ حزبه من القرآن هذا أفضل -بلا شك-، وأحضر لقلبه، إن كان لا يستطيع فبعد صلاة الفجر إلى انتشار الشمس ينتهي من حزبه؛ لأنه في خضم هذا الكم الهائل من المقروءات وما يخطط له طالب العلم من الإطلاع عليه قد يغفل عن القرآن، نعم الأوقات المفضولة: أوقات الاستجمام لا مانع أن يقرأ طالب العلم في كتاب تاريخ -مثلاً- للاستجمام وللاعتبار؛ لأن كتب التواريخ فيها العبرة، وكذلك ينظر في كتب الأدب فيها متعة، وقد يحتاج إليها طالب العلم، ومرَّ بنا في علوم القرآن، وعلوم السنة ما كان مفتاحه في كتب الأدب، ولو أن الوقت يستوعب لذكرت أمثلة.(33/15)
الحديث الذي نتحدث عنه عبارة عن متون وأسانيد وفقه واستنباط من هذه المتون؛ فالأسانيد وسيلة لإثبات هذه المتون، والغاية العظمى هو الاستنباط الذي على ضوءه يكون العمل، فإذا قرأنا في هذه الشروح ورأينا كيف استنبط أهل العلم من هذه الأحاديث، الأذهان تتفتق ويكون لديها الاستعداد للاستنباط والمزيد منه؛ لأن طالب العلم ليس مثل الآلة، هذه الآلات لا تزيد ولا تنقص خزن فيها تجد لا أكثر ولا أقل، لكن طالب العلم وهبه الله -جل وعلا- هذا العقل الذي به يستطيع النظر والموازنة فينظر فيما قاله، يرجع إذا قلنا يقرأ في فتح الباري ووجد صاحب الفتح ينتقد الكرماني يُدون هذا النقد على شرح الكرماني الذي سبق أن قرأه.
ثم بعد ذلك أريد أن ننبه إلى أن كل شرح من الشروح له مزيته وله خصيصته.
فشرح الخطابي الذي هو أقدم الشروح واسمه "أعلام الحديث" أو "أعلام السنن" لا شك أن مؤلفه إمام، وفتح المجال لغيره واعتمدوا عليه، لكن فيه قصور وعواز شديد.
شرح الكرماني فيه مثل ذلك من القصور ما يسدد من الكتب التي جاءت بعده لكنه -قلنا إنه- يفتح الشهية، وفيه فوائد ولطائف وطرائف، وفيه أوهام.
إذا قرأ في شرح النووي، ثم فتح الباري استفاد الفائدة العظمى، ثم بعد ذلك هناك كتب لا يستغنى عنها، فإذا كانت خصيصة فتح الباري تكمن في إحاطة الحافظ ابن حجر في الأحاديث التي يشرحها بجميع أطرافها فإن لغيره من المزايا ما لا يوجد فيه.
شرح الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى- شرح فيه نفس السلف، شرح معتمد اعتماد كلي على أقوال السلف، وهو أيضاً مجرد من أقوال الخلف وتعقيداتهم.
العيني: يفيد طالب العلم في الناحية اللغوية والناحية الفقهية؛ لأنه يطيل أيما إطالة في المسائل اللغوية، ويطيل أيضاً في الفقه والاستنباط إلا أنه فقيه حنفي، قد يكون مدلول على خلاف ما يريد وخلاف ما يقرر، فعلى هذا يستفاد منه أصل المسألة، وأما تقرير الحكم فالحَكَم هو النص.(33/16)
شرح القسطلاني المسمى "إرشاد الساري" شرح لا يستغنى عنه, لا يستغني عنه طالب علم، لا سيما الذي يريد أن يفهم البخاري؛ لأن البخاري مروي بروايات متعددة، روى البخاري عن صاحبه، الصحيح رواه عن مؤلفه ما يقرب من مائة ألف راوي، والبخاري وهو كغيره من كتب المتقدمين في كل رواية يزيد المؤلف وينقص ويغير.
فإرشاد الساري ميزته في بيان هذه الروايات، الحافظ ابن حجر اعتمد على رواية أبي ذر وأشار إلى ما عداها، إرشاد الساري لا، أشار إلى جميع ما وقف عليه من الروايات وهذه ميزة له، وهو مفيد من هذه الحيثية على اختصاره، وهو في الجملة كأنه زبدة لفتح الباري وعمدة القاري، فيستفاد منه، ويستفاد لمعرفة ثبوت الخبر من كتب علوم الحديث، وعلوم الحديث مشتملة على أنواع: كل نوع يستفاد منه في ما يخصه، فمنها ما يتعلق بالأسانيد، ومنها ما يتعلق بالمتون، منها ما يتعلق بالظاهر، ومنها ما يتعلق بالباطن: كالعلل، فيستفاد من كتب علوم الحديث، وكتب العلل في إثبات الأخبار وعدم إثباتها.
المنهجية في العقيدة:
كتب العقائد: يتدرج فيها طالب العلم بدءً من مؤلفات الإمام المجدد -رحمه الله تعالى- الأصول الثلاثة، والقواعد الأربع، وكشف الشبهات، ثم كتاب التوحيد، ثم الواسطية، ثم الحموية، والطحاوية، والتدمرية على هذه الطريقة، على هذا التسلسل يمسك المتن الطالب ويحفظ، ويراجع في أول الأمر شرح مختصر يحل له بعض الإشكالات، ثم يراجع ما هو أطول منه على ما تقدم في كيفية دراسة التفاسير وشروح الأحاديث.(33/17)
فإذا قرأ هذه المتون، مؤلفات الشيخ الإمام المجدد الأصول الثلاثة، والقواعد الأربع، وكشف الشبهات، التوحيد، الواسطية، الحموية، التدمرية، والطحاوية، عاد أيهما يُقَدِم على الآخر؟ لا شك أن الحموية أسهل من التدمرية، لكن التدمرية لا بد منها، يقرأ بعد ذلك أو قبل التدمرية والطحاوية، لو قرأ في سلم الوصول مثلاً وفي عقيدة السفاريني وراجع عليها الشروح، وفي هذين الكتابين وغيرهما من الكتب ككتاب التوحيد يختصر الشروح، قد يقول قائل: أنا أقرأ شروح التوحيد ثم بعد ذلك إذا انتهيت الفائدة موجودة لكنها أقل مما توقعت، نقول: اختصر .. اختصر فتح المجيد ويش المانع، اختصر تيسير العزيز الحميد، أنقل زوائد هذا على هذا؛ لأنه العلم بالتقليب وبالمعاناة هذه وكثرة التعب يثبت.
فعندك سلم الوصول أبيات قليلة شرحت في ألف وثلاثمائة صفحة ما المانع أن تختصر هذا الكتاب بثلاثمائة صفحة فقط ويرسخ عندك الكتاب تحفظ المنظومة وبعد ذلك يرسخ عندك معاني هذه الأبيات، وقل مثل هذا في منظومة السفاريني في عقيدته "الدرة المضية" مع شرحها "لوائح الأنهار البهية، أو لوامع الأنوار"؛ لأنه في طبعته الأولى طبعة المنار سموه "لوائح"، وفي الطبعة الثانية "لوامع"، فالاختصار أنا عندي في غاية الأهمية لطالب العلم، ولا يختصر هذا بنية النشر على أنه مؤلف له جديد ينشره بين الناس، لا، أول من يستفيد منه نفس المختصر هذا، ولذا يقول الإمام مسلم في مقدمة صحيحه: وإذا عزم لي تمامه فأول من يفيد منه أنا، صحيح المؤلف أول من يستفيد من كتابه لا على أن ينشره للناس، ولا مانع أنه إذا تأهل بعد ذلك وعرضه على أهل العلم والخبرة والاختصاص أن يقدمه للناس يستفيدون منه.(33/18)
فعندي مسألة الاختصار خير معين للتحصيل، بل إذا قلت أنها من أقرب الطرق -لا سيما لمتوسط الحافظة-، أما قوي الحافظة هذا إذا قرأ ما عنده مشكلة، إذا قرأ الكتب من الناس - وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء - إذا قرأ مرة واحدة استوعب الكتاب، بعض الناس إذا قرأ مرتين انتهى، بعض الناس يقرأ مئة مرة ما يستوعب الكتاب، مثل هذا لا بد له أن يعاني ويتعب على الكتاب، والاختصار من أفضل الوسائل، وذكرنا هذا بالنسبة لتفسير ابن كثير، ونذكره في مثل هذه الكتب، ونذكره في شروح كتب الأصول مثلاً؛ لأن كثيراً من طلاب يقول مثلاً أنا أعاني، عجزت ما مسكت شي، أو كتب النحو، نقول: تقرأ الورقات، تحفظ الورقات وتقرأ وتسمع شروح الورقات فتستفيد، فتتأهل للمرحلة التي بعدها، والمرحلة التي بعدها يكون فيها الاختصار، تأتي إلى مختصر التحرير، قد لا تفهم المختصر؛ لأنه صعب، كَلّ، أو تأتي إلى مختصر الروضة للطوفي، ثم بعد ذلك هذان الكتابان مشروحان بشرحين مبسوطين، فشرح مختصر التحرير اسمه "الكوكب المنير"، هذا في أربعة مجلدات، والمختصر في صفحات يسيرة، ما المانع في أن تنظر في هذا الشرح، وتنظر في المتن مسألة، مسألة، وماذا قال الشارح، تحاول أن تفهم هذا الشرح، تعيده مرتين ثلاث، فتصوغه بأسلوبك، بدل ما هو بثلاث صفحات أربع صفحات، تصوغه بأسطر، فإذا انتهيت من الكتاب المكون من أربعة مجلدات، تكون قد اختصرته في مائتي صفحة أو ثلاثمائة صفحة، بهذا يثبت العلم، وينحفر في الذهن، وقل مثل هذا في مختصر الروضة، شرح مختصر الروضة للمؤلف نفسه، والشرح من أنفس الكتب في هذا الباب، ما تستطيع أن تستوعب ألف وسبعمائة صفحة من القطع الكبير، لكن إذا اختصرت وأنتهيت من هذا الاختصار تستوعب. ولا بد أن ننبه إلى أن من استطال الطريق لن يحصل علم.
لا بد أن يطول الطريق؛ لأن العلم لا بد أن يطلب من التمييز إلى الموت إلى الوفاة، فأنت إذا حفظت المتون، وقرأت في الشروح المختصرة قبل ذلك بعد الحفظ، ثم بعد ذلك تختصر الشروح المطولة.(33/19)
كتب العقائد التي ذكرناها على هذا الترتيب وهذا التسلسل إذا انتهيت منها أنت مؤهل لأن تقرأ أي كتاب في العقائد، نعم إذا يكن لديك معرفة بعلم الكلام، يبقى عندك إشكالات في مثل منهاج السنة، وفي مثل درء تعارض العقل والنقل، وفي مثل نقض التأسيس، نقول: يا طالب العلم، لا تكلف نفسك بفهم كل شيء يقوله شيخ الإسلام في هذه الكتب الثلاثة؛ لأنها تعوقك عما هو أهم منها، يعني في شرح السنة عندك في المجلد الأول أو الثاني ما يقرب من ثلاثمائة صفحة أشبه ما تكون بالطلاسم، إلا شخص عنده دربه بعلم الكلام، وله معاناة في هذا الفن، وقل مثل هذا درء تعارض العقل والنقل مملوء من هذه المباحث، فما تفهمه أعد النظر فيه وكرره، والذي لا تفهمه إمرار، ولا يلزم أن تقف عليه؛ لأن من الكبار من يمر هذه المباحث، بل إذا علم عليها علامة الصعوبة، بالقلم المعين لهذه المباحث، وليكن بيده قلم خامس، بلون خامس، يضع عليه علامة أن هذا لا يرجع إليه.
وعلم الكلام كما قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "المنطق علم غث، كلحم جمل، على رأس جبل، لا يحتاجه الذكي، ولا يفيد منه الغبي"، نعم يحتاجه من يريد أن يرد على الفلاسفة وعلماء الكلام، يفيد منه، لكن كم تحتاج الأمة إلى مثل هؤلاء علشان نقول لطلاب العلم: كلكم اقرءوا في هذا، ويصير هذا على حساب المقاصد التي هي علوم الكتاب والسنة.
السواد الأعظم من طلاب العلم لا يحتاجونه، وكتب شيخ الإسلام وكتب ابن القيم لايستغني عنها طالب علم، كتب منها ما لا يمكن تصنيفه تحت عنوان، أو تحت فن من الفنون، فإذا تدرج طالب العلم في الفنون قد يغفل عن هذه المهمات، وهو بحاجة إلى هذه الكتب التي تعالج أدواء القلوب، فإذا مشى على الترتيب المعروف لتحصيل العلم الذي يتعلق بعلم الجوارح متى يرجع إلى هذه الكتب التي تعالج أمراض القلوب؟ متى يقرأ الجواب الكافي -مثلاً- لابن القيم؟ متى يقرأ في حادي الأرواح؟ متى يقرأ في مدارج السالكين؟ متى يقرأ في إغاثة اللهفان؟ متى يقرأ -وهو بأمس الحاجة- إلى إعلام الموقعين، أو زاد المعاد؟.(33/20)
لا بد أن يقتطع لها جزءاً من وقته، وقل مثل هذا في كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وتكون بجواره الأقلام التي ذكرناها لتتم الاستفادة.
المنهجية في الفقه:
كتب الفقه يحتاج فيها إلى التدرج، ولا نحتاج أن نطيل فيها؛ لأن الشيخ عبد القادر بن بدران ذكر طريقة للتفقه مفيدة:(33/21)
أولاً: التدرج لا بد منه؛ فيقرأ الطالب في أول الأمر مثل آداب المشي إلى الصلاة مع شروطها للشيخ الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب، ثم يقرأ في عمدة الفقه للإمام الموفق، ثم بعد ذلك يقرأ في الدليل والزاد وما بعد ذلك على طريقة تكون هذه الكتب في المرحلة الثالثة عناصر بحث، خطة بحث، يعني في المرحلة الأولى طريقة الشيخ عبد القادر ابن بدران نافعة والمرحلة الثانية، يحفظ المتن، ويجتمع مع مجموعة متقاربين في السن والفهم، ثم بعد ذلك كل واحد من هؤلاء الطلاب يشرح القدر المحدد بنفسه من غير رجوع إلى الشروح، ثم بعد ذلك إذا اجتمعوا يقرأ كل واحد شرحه، ويتناقشون، يقول: أنا فهمت كذا، والثاني يقول: لا أنا فهمت في هذه الجملة كذا، فإذا انتهوا من قراءة ما عندهم يقرؤون الشرح - شرح الكتاب-، ويصححون أخطاءهم، فإذا صححت هذه الأخطاء لن تعود إلى القلب مرة ثانية، ثم يرجعون إلى الحواشي، ثم بعد ذلك يحضرون الدرس عند الشيخ، يصير عندهم الآن استعداد تام لما يزيده الشيخ على ما في الكتب، يتفقه الطالب بهذه الطريقة، في المرحلة الثالثة وهو حينئذ يقرأ الزاد، -زاد المستنقع- ووضع له أساس كتاب أو اثنين، يقرأ الزاد على أساس أنه عناصر بحث خطة بحث، لا على أنه دستور لا يحاد عنه، لا، هذا كلام البشر؛ فتمسك المسألة الأولى ثم تبحث لها عن دليل وتعليل لهذه المسألة، من وافق المؤلف على هذا من أتباع المذهب؟ من خالفه؟ من وافقه من المذاهب الأخرى؟ ومن خالفه؟ وننظر في أدلة الجميع، ونأخذ بالقول الراجح، يعني طالب العلم إذا انتهى من "زاد المستقنع" على هذه الطريقة فقيه، ينتهي فقيه بدون تردد، هذا إذا كان لديه فقه نفس؛ لأن ما كل واحد يعاني العلم يكون عالم، فقد يطلب العلم سنين ولا يحصل علم، ولكن إذا مسك الجادة من أولها، ومعه من الإخلاص ما يعتمد عليه مما يكون سبباً إلى توفيقه، ومعه حرص واجتهاد، وعنده من يستشيره من أهل العلم ممن يثق بعلمه، -بإذن الله- يحصل، وإلا فلا يلزم لكل من طلب العلم يكون عالم، ويكفي من لم يقدر الله له شيئاً من العلم، يكفيه أن يكون قد سلك الطريق ((من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له فيه طريقاً إلى الجنة)) يكفيه هذا،(33/22)
المتفقه على هذه الطريقة، قد يقول قائل: هل نحفظ كتب الفقه؟
إذا كانت الحافظة قوية وتسعف، لا شك أن كلام أهل العلم مفيد، نحن نسمع من يفتي ويتصدر للإفتاء تجد بعض الناس عنده محفوظ من كلام أهل العلم، كلامه متين ورزين، وبعض الناس ما عنده حفظ تجده أقرب ما يكون إلى الإنشاء، وهذا عند تفريغ الكلام وطبعه، لا تقبله الأسماع -الذي ليس لديه رصيد من كلام أهل العلم-.
انتهينا من التفسير والحديث والعقائد والفقه.
المنهجية في اللغة:
طالب العلم بأمس الحاجة إلى اللغة؛ لأن القرآن عربي، والرسول -عليه الصلاة والسلام- عربي، ولا يفهم الكتاب والسنة إلا بلغة العرب، علوم اللغة متفرعة، تصل إلى اثني عشر فرعاً، لكن أكثر ما يحتاج إليه: النحو والصرف والمعاني والبيان والبديع والوضع والاشتقاق، ومتن اللغة، وفقه اللغة، هذا أكثر ما يحتاج إليها، ليأخذ طالب العلم من كل فن من هذه الفنون مختصر؛ فيبدأ بالآجرومية فيحفظها ويقرأ عليها الشروح المطبوعة، يحضر فيها الدروس.
قراءة الكتب يا إخوان لا تغني عن حضور الدروس، يعني هذا لا بد أن نؤكد عليه، لا بد من الحضور عند المشايخ، ويقول أهل العلم قديماً: من كان علمه من كتابه صار خطؤه أكثر من صوابه.
إذا حضر الدروس وسمع من المشايخ، وقرأ الشروح، وسمع ما سجل على هذا الكتاب من أشرطة يفيد فائدة عظيمة، لبنة أولى في هذا الفن، ثم بعد ذلك القطر -قطر الندى-، أو الملحة بشروحها، ثم بعد ذلك يتأهل للنظر في ألفية ابن مالك، فإذا قرأ هذه الكتب، قد يقول قائل: أنا والله حفظت الألفية، لكن ما ثبت في ذهني من شروحها شيء؟ نقول: عليك تمسك الشروح، شرح ابن عقيل مثلاً تصوغه بأسلوبك، شرح ابن هشام مثل شرح مختصر التحرير صعب، فأنت إذا فهمته وصغته بأسلوبك فهمت، لو تطلع إلى ما فوق ذلك من شروح الأشموني، مع حاشية الصبان، وتختصره في أربع مجلدات تختصره في مجلد واحد تستفيد فائدة عظيمة.
المنهجية في علوم الحديث:
وأما ما يتعلق بعلوم الحديث فقد كررناها مراراً، وكتبت في مقدمة بعض الكتب، يرجع إليها طالب العلم.
المنهجية في الصرف:(33/23)
بقي عندنا الصرف، فإذا تدرجنا في النحو الآجرومية، القطر، الألفية، وفيها مباحث صرفية، يقرأ قبل الألفية مما يعينه على فهم المباحث الصرفية الشافية لابن الحاجب، ولها شأن عند أهل العلم، وهي مشروحة، لكن مع الأسف أنه قد لا يجد شيخ يعينه على فهمها، ولا مانع من أن يجتمع ثُلة من طلاب العلم يذكرون حاجتهم إلى شرح هذا الكتاب إلى شخص متخصص، ويحتسب لهم بدرس، وعليها شروح وموجودة ومطبوعة.
المنهجية في البلاغة:
المعاني والبيان والبديع، هذه يقوم بها، التلخيص، تلخيص المفتاح مع شروحه، ويقرأ المطولات في كل علم من العلوم على الطريقة التي أبديناها سابقاً في التفاسير المطولة، بالأقلام، والمذكرات.
المنهجية في قراءة ملح العلم من تاريخ وأدب:
وهناك علوم يستهين بها كثير من طلاب العلم، وكثير منها لا شك أنه ليس من متين العلم، بل هي من ملحه، ككتب التاريخ مثلاً، كتب التاريخ، إذا قرأ الطالب في كتب التاريخ لا شك أنها فيها شيء من المتعة والاستجمام؛ لأنك إذا انتقلت من أصول الفقه إلى النحو، ورجعت إلى التفاسير، عدت إلى كتب شروح الحديث، لا شك أن الذهن يحتاج إلى شيء من الاستجمام فيحصل الاستجمام بكتب التواريخ، وكتب الأدب.
كتب التواريخ إضافة إلى الاستجمام فيها العظة والاعتبار؛ لأن السنن الإلهية واحدة لا تتغير؛ فالأسباب التي أهلك بسببها الأمم يهلك فيها غيرهم، السنن لا تتغير ولا تتبدل، ولم يستثنى من ذلك إلا قوم يونس، وأما من عداهم إذا توافرت الأسباب حقت الكلمة.
فما عما لو قرأنا في تاريخ ابن كثير -رحمه الله- في الأمم الماضية واللاحقة، في الأمم التي قبل الإسلام، والدول التي جاءت بعد الإسلام، لوجدنا أن كثيراً من بلدان المسلمين يحذو حذو تلك الأمم التي حقت عليها الكلمة، وحصل ما حصل في بعض البلدان من الأسباب ما حصل، والنتائج حصل فيها ما حصل، في العصر الذي نعيشه، وما أشبه الليلة بالبارحة، وإذا كنا نقرأ قصص القرآن في الأمم الماضية على أنها للتسلية، فنحن إذاً لسنا على الصراط، ضللنا إذن "، مضى القوم ولم يرد به سوانا" {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ} [(111) سورة يوسف]، فلا بد أن نعتبر وندكر.(33/24)
يعني لو قرأنا في المجلد السادس مثلاً من نفح الطيب في تاريخ الأندلس، الإنسان يضع يده على قلبه، ويسأل الله السلامة، وأن يدفع عن المسلمين ما يستحقونه من عذاب، لا بد من القراءة في هذه الكتب لما ذكرنا، يقرأ في كتب الأدب، وفيها أيضاً من المتعة ما فيها، وهي أكثر إن لم نقل مثل كتب التاريخ من المتعة ما فيها، وفيها أيضاً: ثروة لغوية يستطيع العالم أو طالب العلم أن يبين عما في نفسه بواسطتها، فالعلماء يقرؤون هذه الكتب، وإن كان في كثير منها شيء مما لا يقبله الذوق، ذوق الرجل العادي فضلاً عن عالم ومتعلم، شيء يستحيى من ذكره، لكن لا بد من قرائتها، ووجدنا من أهل العلم من يقرأ، ووقع في أيدينا من كتب الأدب المطولة ما عليه اسم بعض كبار أهل العلم والورع، وعليها تعليقات لهم، فدل على أنهم يقرؤون في هذه الكتب، لكن ليس معنى هذا أن يكون على حساب علوم الكتاب والسنة، لا، هذه يستفاد منها متعة واستجمام، وشيء يتحدث به العالم حينما يشرح لطلابه، ويذكر نكتة من هذه الكتب يريح الطلاب فيها، ويجعلهم يتقبلون ما عنده، فإذا لم يكن في الدرس طرفة، لا شك أن الطالب يمل، وما يشاهد في بعض الدروس من نوم بعض الطلاب إلا لأنها ماشية على وتيرة واحدة؛ فالخروج إلى مثل هذه الكتب والإفادة منها، وإفادة الطلاب، وإلقاء مثل هذه العلوم عليهم، لا شك أنه ينشط الطلاب "والأمور بمقاصدها".
ويستعمل في هذه الكتب المطولة ما ذكرناه من الأقلام، وكتب التواريخ كثيرة جداً، فيها مطولات ومن أنفعها لطالب العلم: الكامل لابن الأثير، وصياغته للأحداث لا نظير لها، البداية والنهاية للإمام الحافظ ابن كثير وفيه أيضاً لفتات له -رحمه الله-، وتنبيهات لا توجد في غيره.
فعلى سبيل المثال: لما ترجم لابن الراوندي (ملحد)، ذكر عنه ما يستحق من الألفاظ، ثم قال: ترجم له ابن خلكان في وفيات الأعيان، وأشاد به وأطال في ترجمته كعادته في معاملة الأدباء، وبخس العلماء، ولم يذكر عنه ما عرف عنه من زندقة، وكأن الكلب ما أكل له شيئاً من العجين.(33/25)
يعني ما كأن الأمر يعنيه، مع أن العالم أو المتعلم هذه وظيفته، هذه وظيفة العالم بيان الحق من الباطل، فإذا عاملنا ابن الراوندي مثل ما نعامل أئمة الإسلام، وأضفنا عليه من الثناء والمدح، ولو في فنه، مثل ما يضاف إلى علماء المسلمين، كيف يفرق طالب العلم.
الحافظ ابن كثير له تنبيهات مهمة جداً، وله أيضاً عناية بالتراجم، أكثر من ابن الأثير، وأيضاً يفيد طالب العلم من تاريخ ابن خلدون، وفيه تحليل للأحداث، ولا شك أن هذا يفتح آفاق لطالب العلم، يحلل بها الأحداث المماثلة بدلاً من أن يتخبط كما يتخبط الناس الآن، -مع الأسف- حتى بعض طلاب العلم يخرجون في وسائل الإعلام، ثم بعد ذلك يتحدثون عن بعض القضايا المعاصرة، كأنهم صحفيون، توقعات كلها، ما كأنهم يأوون ويرجعون إلى نصوص، فطالب العلم بحاجة إلى قراءة كتب التواريخ والأدب.
هناك كتب الأدب متفاوتة، فيها المسف، وفيها النزيه إلى حدٍ ما، فـ"زهر الآداب للحصري" نظيف إلى حدٍ ما، وأيضاً نزهة المجالس وأنس المجالس لا بن عبد البر كتاب نفيس، هذا في كتب أدب الدرس، أما في كتب أدب النفس فعلى طالب العلم أن يعنى بها عناية فائقة، كالآداب الشرعية لابن مفلح، منظومة الآداب مع شروحها لابن عبد القوي، هذه في غاية الأهمية لطالب العلم، المنظومة الميمية في الوصايا والآداب العلمية للشيخ حافظ حكمي، أيضاً في غاية الأهمية لطالب العلم؛ فطالب العلم عليه أن يُعنى بهذه الكتب، ويستفيد منها من أدب النفس ما لا يجده في غيرها من الكتب.
والطريقة لقراءة هذه الكتب على ما ذكرنا، المقطع الذي يحتاج إلى حفظه يعلم عليه بعلامة ما يراد حفظه، والمقطع الذي يراد فهمه وإعادة النظر فيه كذلك، والذي يراد نقله كذلك .. إلى آخر ما ذكرنا، والكتب كثيرة لا يمكن أن تنتهي، والعلم دربه طويل لا يمكن أن يقطع بمرحلة أو مراحل، فعلى طالب العلم أن يوطن نفسه على هذا، وحينئذ إذا صاحب ذلك الإخلاص، والجد فإن طالب العلم حينئذٍ يوفق ويسدد.
والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الأسئلة:(33/26)
هذا يقول: حفظت الأربعين والعمدة مع الشروح حتى وصلت باب الحج في البلوغ وحفظت القرآن وبعدها دخلت عالم الأسهم ولي الآن قرابة سبعة أشهر لم أفتح كتاباً، ولا أستطيع إلا قراءة سورة الكهف يوم الجمعة، ما نصيحتك؟
الجواب: إذا عرفت الهدف الذي من أجله خلقت أجبت عن نفسك، أجبت عن سؤالك، أنت خلقت لتحقيق العبودية، وما دام لديك أهلية لطلب العلم فكيف تفرط بعد أن حفظت ما حفظت، ثم بعد ذلك ألا يحز في نفسك أن تفقد أغلى ما تملك؟!.
يعني لو أن الإنسان لديه خمسة من الأولاد مع الوالدين وفجأة فقدهم بلحظة هل يعوض هذا جميع من يملك من أمور الدنيا؟ لا، فكيف بمن حفظ كتاب الله -جل وعلا-، ثم يفرط فيه بسبب هذه الأسهم أو غيرها من التجارات.
الإنسان، الأنس والجن ما خلقوا إلا لتحقيق العبودية لله جل وعلا، تحقيق العبودية لا يتم إلا إذا كان على بصيرة، والبصيرة لا تكون إلا بطلب العلم، فإذا فرط هذا من أجل حطام الدنيا فلا شك أن هذا خذلان، هذا خذلان، نسأل الله السلامة والعافية، فعليك أن تعود وأن تراجع ما حفظت وأن تلزم الدروس وتسمع التسجيل والأشرطة على هذه الكتب، وتزاحم الشيوخ وتلازمهم ولا تنس نصيبك من الدنيا، كما قال الله -جل وعلا-، يعني لا ينبغي أن يعيش طالب العلم عالة يتكفف الناس، لا ينسى نصيبه من الدنيا، وعليه أن يسدد ويقارب، لكن لا يترك العلم.
يقول: أنا أقرأ القرآن بترتيل لكن ما أدري كيف أتدبر القرآن، ما الطريقة على تدبر القرآن؟
الجواب: تدبر القرآن يعينك عليه فهمه، فإذا فهمت القرآن بالطريقة التي شرحناها واستمعت إلى قراءة قارئ مؤثر فلا شك أنك سوف تتدبر القرآن إذا قرأت بنفسك، يعني تسمع القرآن من قارئ مؤثر وتنظر في التفاسير على الطريقة التي ذكرناها، لا شك أنك يورثك هذا التدبر.
يقول: هل أختار فن من الفنون وأبدأ به، أم أشملها جميعاً؟(33/27)
الجواب: يعني في آن واحد في وقت واحد، ينوع ويتفنن ويقرأ في أكثر من علم أو يقتصر على علم واحد؟ نقول: الناس يتفاوتون في هذا، منهم الملول الذي يمل بسرعة، فإذا مسك وبدأ بكتاب واحد يمل مثل هذا ينوع، يقرأ في الفنون يجعل له جدول مثل جدول المدرسة، بعد صلاة الصبح لكذا، بعد طلوع الشمس لكذا، إذا كان لديه عمل إلى الظهر بعد صلاة الظهر مباشرة كذا، ثم يرتاح بعد صلاة العصر فن أو فننين إذا طال الوقت، وبعد صلاة المغرب كذا، فيضع جدول، أما إذا كان من غير هذا النوع، عنده صبر وجلد وتحمل لكتاب واحد، فمثل هذا لو اقتصر على فن أو فنين أفضل حتى يتمه ثم ينتقل إلى الآخر، ثم ينتقل إلى الفن الآخر.
هذا يسأل يقول: قول من يقول: إن الغرابة تراعى في الوصف والتفرد في الفعل فيقال: تفرد به فلان، ولا يقال أغرب به؟ ويقال حديث غريب دون حديث فرد، ما صحة هذه العبارة؟
الجواب: نعم يندر أن يقال من قبل أهل الحديث أغرب به فلان، وإنما يقال تفرد به فلان، وحديث غريب أكثر من قولهم حديث فرد، وإن جاء إطلاق الجمع الأفراد، جاء أيضاً إطلاق الجمع الغرائب، وهما متقاربان في المعنى، وأكثر ما يطلقون الفرد على الغرابة المطلقة التي تكون في أصل السند، وأما بالنسبة للغرابة حينما تكون في أثناء السند النسبية، وإلا فالأصل أن المعاني واحدة، منهم من يقول: أنه إذا أُطلق الفعل -مثلما ما ذكر السائل- جاؤوا بالتفرد وإذا وصف الحديث جاؤوا بالغرابة، مثلما ذكر السائل، وهذا كثير في كلامهم، ما يقال أغرب به وإنما يقال تفرد به، والسبب في ذلك: قرب المعنى في اللفظين.
هذا يقول: قررت حفظ ألفية العراقي وألفية ابن مالك ومنهاج البيضاوي في أصول الفقه ومنهاج الطالبين للنووي في الفقه وذلك بالتدرج، ولكن أخبرني بعض الإخوان أن صرف الوقت في حفظ الحديث مثل البلوغ ورياض الصالحين يكون أفضل وأنا في حيرة فما الأفضل علي في أني أحفظ المتون الصغيرة مثل الآجرومية والورقات والنخبة والطحاوية؟(33/28)
الجواب: على كل حال هذه الكتب من أهم المهمات عند أهل العلم، وهي للطبقة العليا، أعني ألفية العراقي وألفية ابن مالك ومنهاج البيضاوي ومنهاج الطالبين للنووي، يعني منهاج الطالبين يعادل الزاد، ومنهاج البيضاوي يعادل مختصر التحرير، والألفية سواء كانت ألفية ابن مالك أو ألفية العراقي للطبقة العليا، بعد أن توجد الأرضية بتجاوز كتب المرحلة الطبقة الأولى والثانية، فلا بد من المرور ولا يلزم إذا كانت الحافظة ضعيفه، وخشي أن يمضي به العمر والوقت ويكون هذا على حساب الأصول، نقول: سدد وقارب، احفظ من ألفية العراقي ما يختار لك حفظه، لا سيما الثلث الأول، واحفظ من ألفية ابن مالك ما يحتاج إليه؛ لأن هذه العلوم الوسائل لا ينبغي أن تكون على حساب المقاصد، يعني بعض الناس يستهويه علم النحو فيحفظ الآجرومية ويقرأ شروحها ويأخذ عليه وقت طويل، ثم بعد ذلك القطر بجميع شروحه ثم شذور الذهب ثم ملحة الإعراب بشروحها ثم الألفية ثم المفصل بشروحه ينقضي العمر، والنحو كما يقول أهل العلم كالملح، إنما يُحتاج منه ما يفيد الطالب، وكثير من طلاب العلم لا سيما في النحو، قد يقول إنه قرأ في كتب النحو، حضر الدروس لكنه إن قرأ في كتاب لحن، ضبط القواعد وحفظها وفهم، لكن إن قرأ في كتاب لحن، وإن ألقى كلمة لحن، فهل نقول: إنه استفاد من علم النحو مع هذه المعاناة، أو نقول: أن جهده ذهب سدى؟ نقول: استفاد، لماذا؟ لأن علم النحو يفيد فائدتين: الأولى: تعديل اللسان، وهذا يحتاجه المعلم والخطيب والذي يقرأ على الشيوخ بأمس الحاجة إليه، لكن إذا لم يستفد هذا هل يحرم فهم المعاني المتغيرة بتغير الإعراب؟.
افترض أنه ينصب الفاعل ويرفع المفعول، لكن إذا أعرب هل يتصور منه أنه يخطأ في الإعراب بعد معرفة هذه الأمور، يعني وهو يقرأ يسبق لسانه إلى الخطأ، لكن إذا تأمل وقرأ ضرب زيد عمراً، ونطقها ضرب زيداً عمرو وهو يريد العكس، سبق لسانه إلى الخطأ، نقول أخطأ بلا شك.(33/29)
والفائدة الثانية: وهي تقويم اللسان ما استفادها هذا الرجل؛ لأن هذا بالمران تأتي، المران المصاحب للتعلم ولذا تجد طالب علم أقل في التحصيل من آخر فتجد هذا إذا قرأ يشنف السامعين ويطربهم ولا يلحن والذي أعلى منه وأرفع وأعرف منه بهذا العلم لا يقيم جملة، يخطأ ويمل السامعون من قراءته، هذا ما تعود، لكن الفائدة الثانية وهي فهم الكلام الذي يختلف معناه باختلاف إعرابه، لن يحرم من عرف النحو إذن هو يقرأ ضرب زيد عمراً، لكن إذا أراد أن يعرب ما يخطئ، وفهم الكلام مترتب على إعرابه، وخير ما يعين على التطبيق في هذا الفن، خير ما يعين إعراب القرآن.
إذا انتهيت من الآجرومية، طبقتها بشروحها أعرب الفاتحة كاملة، إعراباً مفصلاً، ثم بعد ذلك اعرض إعرابك على كتب إعراب القرآن، فإن طابق فأنت مستفيد مائة بالمائة، إن لم يطابق فبقدر ما يختل من المطابقة يكون الخلل في تحصيلك لهذا العلم، ومما يمتاز به شرح الأزهرية إعراب قصار السور؛ لأن هذا مهم؛ لأن هذا الإعراب مع كونك تستفيد منه في العربية تستفيد منه في فهم القرآن؛ لأن بعض الكلمات، كلمات القرآن لا يفهم معناها إلا إذا عرف موقعها من الإعراب.
يقول: قررتم أن ما حفظ سريعاً ينسى سريعاً، وفي الإجازة هناك دورات لحفظ القرآن والسنة فما رأيكم؟
الجواب: هذه الدورات لا شك أنها مفيدة، ونافعة لطالب العلم، وهل معنى هذا أنك إذا انتهيت في شهرين من هذا الكم الهائل من الأحاديث أنك تكون ضبطت هذه الأحاديث وأتقنتها؟
أولاً: الناس يتفاوتون منهم من يضبط في هذه المدة، ومنهم من يضبط بنسبة 80%، ومنهم من يضبط بنسبة 60%، ومنهم من يضبط بنسبة 90%، وبعد شهر ينسى على كل حال هذه توطئة، لا بد من أن يعاود سقي هذا الزرع، مو معنى أنك حفظت مختصر الصحيحين، مختصر البخاري بزوائد مسلم أنك خلاص، طبقت الكتابين، لا، هذا بذر، سقيته أول مرة وظهرت سنابله خضر، لكن يحتاج إلى زيادة في السقي، تعاهده بالسقي لتكون الثمرة ناضجة؛ لأننا سمعنا من بعض من ينتسب إلى العلم من ينتقد هذه الدورات.
ولا شك أن هذا صد عن التحصيل، فهذه الدورات في غاية الأهمية، والحمد لله أن الوسائل تنوعت، ويمكن ضبط السنة وحفظ السنة متون السنة بهذه الطريقة وأسانيد الأحاديث والتفقه وفهم السنة على طريقة السلف بالطريقة التي شرحناها مراراً.
والله أعلم ...
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،،،(33/30)
حاجة الناس إلى العلماء
الشيخ/ عبد الكريم الخضير
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن الله -جل وعلا- لم يخلق الخلق عبثاً، ولا تركهم سدى ولا هملاً، بل خلقهم لهدف عظيم، وغاية نبيلة، وهي تحقيق العبودية لله -جل وعلا-، كما في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [(56) سورة الذاريات] ومن أجل تحقيق هذا الهدف تحقيق العبودية بعث الله الرسل، وأنزل الكتب، إذ لا سبيل إلى الخلق لتحقيق هذا الهدف إلا عن طريق الرسل، وما جاءوا به عن الله -جل وعلا-، لا يستطيع الإنسان مهما بلغ من الذكاء أن يعبد الله على مراده من غير ما جاءت به الرسل، فبالنسبة لما بعد بعثة النبي -عليه الصلاة والسلام- لا وصول لأحد إلى تحقيق الهدف وبلوغ الغاية إلا عن طريقه -عليه الصلاة والسلام-.
وأهل العلم يذكرون من النواقض -من نواقض الإسلام- كون الإنسان يزعم أنه يسعه ما وسع الخضر من عدم الاقتداء والاتباع لموسى، وأنه بإمكانه أن يصل إلى الغاية من غير طريق النبي -عليه الصلاة والسلام-، هذا ناقض من نواقض الإسلام، فلا معرفة لنا بالأمور التوقيفية إلا عن طريقه -صلى الله عليه وسلم-.(34/1)
النبي -عليه الصلاة والسلام- بعثه الله بشيراً ونذيراً، مبشراً لمن أطاع واتبع، ومنذراً لمن خاف وعصى، وبلغ ما أرسل به، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، ومات -عليه الصلاة والسلام- بعد أن كمل الدين، {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [(3) سورة المائدة] فمن يزعم أنه يكمل الدين بشيء كان فيه نقص فهو ضال، ومن أحدث في الدين ما لم يسبق له شرعية من كتاب ولا سنة فهو مبتدع، وكل بدعة ضلالة، فهو ضال أيضاً، فالدين ليس بحاجة إلى تكميل من أحد، بل هو كامل قبل وفاة النبي -عليه الصلاة والسلام-، وليس بحاجة إلى ترويج، نعم هو بحاجة إلى علماء يبينون وإلى دعاة ينشرون، لكن ليس بحاجة إلى ترويج، ولذا ضل فريق من المتعبدة الذين يعبدون الله على جهل وضلال أن الناس قد انصرفوا –على حد زعمهم– عن الدين فأرادوا أن يردوهم، وأن يروجوا الدين بأخبار وقصص ينسبونها زوراً وبهتاناً إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- من أجل أن يرغبوا الناس في الدين، والدين كامل شامل لجميع نواحي الحياة، لجميع ما يحتاجه الناس من الولادة إلى الوفاة.
وضعوا الأحاديث ترغيباً في الدين، وصرفاً لهم عن ما يشغلهم عنه، وهؤلاء قوم ضلال، ولا يكفي في ذلك صحة الهدف، يعني كون الناس يرجعون إلى الدين هدف نبيل، لكن كيف تحقق هذا الهدف النبيل؟ تحقق هذا الهدف ببيان الدين وإجلائه وتوضيحه للناس، لا بترويجه بالأحاديث والقصص الكاذبة، ولذا اشتدت الحاجة إلى أهل العلم إلى الراسخين الذين قد بنوا علمهم على ما جاء عن الله وعن رسوله -عليه الصلاة والسلام-، بنوا العلم على الأساس المتين من نصوص الوحيين، وتعلموا ما يعينهم على فهم هذه النصوص، ولذا صارت الجادة المطروقة عند من يريد أن يكون ممن أراد الله به الخير وفقهه في دينه بنى علمه على كتاب الله وسنة نبيه -عليه الصلاة والسلام-، وتعلم ما يعينه على فهم الكتاب والسنة.(34/2)
الصحابة -رضوان الله عليهم- الذين بعث فيهم النبي -عليه الصلاة والسلام- عرب، عربيتهم لم تتلوث بغيرها، ولم يختلطوا بغيرهم فيؤثروا عليهم، فهموا نصوص الكتاب والسنة بمجرد سماعها، ولذا لم يكونوا بحاجة إلى غير الكتاب والسنة، يسمعون القرآن ويفهمون، المشركون يسمعون القرآن من النبي -عليه الصلاة والسلام- ويفهمون، ومما يؤسف له أن بعض المشركين يفهم القرآن أكثر من فهم بعض من ينتسب إلى الإسلام اليوم، لما قال النبي -عليه الصلاة والسلام- للمشركين: ((قولوا: لا إله إلا الله)) استنكروا ورفضوا {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [(5) سورة ص] لكن بعض المسلمين مع الأسف الشديد لا يفهم معنى لا إله إلا الله، يطوف بقبر ويقول: لا إله إلا الله، يذبح لولي أو لجني أو لغير ذلك ويقول: لا إله إلا الله، هذا دليل على أنه لم يفهم لا إله إلا الله، حتى أتى بما ينقضها من أساسها، أتى بالشرك الأكبر الذي لا يغفر، نسأل الله السلامة والعافية.(34/3)
الحاجة إلى الأنبياء ضرورية كما أسلفنا إذ لا يمكن الوصول إلى تحقيق الهدف إلا عن طريقهم، ثم بعد ذلك الحاجة ماسة إلى ورثة هؤلاء الأنبياء وهم العلماء، العلماء الربانيون الراسخون الذين حملوا العلم، مما جاءهم عن طريق الأنبياء حملوه بحق وأدوه بحق، ولا يتمارى اثنان في أن الحاجة إلى العلماء أمس من الحاجة إلى الطعام والشراب، يتصور الإنسان نفسه وليس عنده شيء من مبادئ العلوم، في بلد ليس فيه عالم ولا تعليم، كيف يعبد الله -جل وعلا-؟ كيف يصلي؟ كيف يزكي؟ كيف يصوم؟ كيف يحج؟ كيف يتعامل مع الناس؟ ولذا ذكر الآجري في أخلاق العلماء مثالاً لحاجة الناس إلى العلماء، فقال: "مثل العلماء ومثل الناس بهم وبدونهم كمثل قوم ساروا في ليلة مظلمة في وادٍ مسبع، فيه سباع ووحوش وأشجار وحيات وعقارب، في ظلام دامس، يسيرون لا يدرون على ما يطئون، وما يواجههم، ولا إلى أين يتجهون؟ فجاءهم شخص بيده مصباح فأنار لهم الطريق حتى أخرجهم من هذا الوادي المظلم، يعني هؤلاء هل هم بحاجة إلى صاحب المصباح؟ بحاجة ماسة، يعني وإذا تصورنا هذه الحاجة أن غاية ما يدعو إليها طلب السلامة من الموت الذي هو أعظم ما يواجه الإنسان، والموت نهاية لكل حي، وبعد ذلك يواجه ما قدم، وماذا خسر؟ خسر الدنيا، خسر ما بقي من عمره على حد زعمه من الدنيا، ما الذي يخسره من فقد العلم والعلماء؟ يخسر الآخرة، وموضع سوط من الجنة يعدل الدنيا وما فيها، والدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة، كيف نعرف حقيقة هذه الدنيا؟ ونحن نقضي الأوقات الطويلة فيما لا ينفع، فضلاً عن كوننا نقضيه فيما ينفعنا في أمور دنيانا، غير ملتفتين إلى ديننا، وما ينفعنا في الآخرة.(34/4)
كثير من الناس بحاجة ماسة اليوم أن يقال له: ولا تنس نصيبك من الآخرة، بدلا من أن يكون الأصل ما خلق من أجله الأصل العبودية، ثم يحتاج إلى أن يقال له: {وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [(77) سورة القصص] يعني من الدنيا التي تعينك على تحقيق الهدف، هل عرفنا حقيقة الدنيا مثل ما عرفها سعيد بن المسيب؟ خطبت ابنته من قبل ابن الخليفة جاء الوسيط فقال لسعيد: جاءتك الدنيا بحذافيرها، ابن الخليفة يخطب ابنتك، ماذا كان جوابه؟ جوابه يقول: إذا كانت الدنيا لا تعدل عند الله جناح بعوضة فماذا ترى يقص لي من هذا الجناح؟ إيش اللي بيوصل سعيد من هذا الجناح؟ ((ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها)) المراد بذلك النافلة خير من الدنيا وما فيها، ركعتان يمكن أداؤهما على ما جاء في الوصف في الحديث بدقيقتين؛ لأن من صفة هذه الصلاة الخفة، حتى قالت عائشة: "ما أدري أقرأ -صلى الله عليه وسلم- الفاتحة أم لا؟ " بدقيقتين تعدل الدنيا وما فيها.
المقصود أن الحاجة داعية وماسة إلى العلماء، بقدر حاجة الإنسان إلى دينه وإلى الفوز برضى الله -جل وعلا-، والنجاة من عذابه -جل وعلا-.(34/5)
إذا عرفنا أننا بأمس الحاجة إلى أن ننجو من العذاب، كيف ننجو من العذاب؟ بمعرفتنا بما ينجينا من معرفة الحلال والواجب لنفعله، والمحرم لنجتنبه، ولا يكون ذلك إلا عن طريق العلماء، والعلماء إذا أطلقوا يراد بهم أهل العلم والعمل؛ لأنه قد يوجد بين ظهراني الناس من يسمون علماء، وهم في الحقيقة لا يستحقون هذا الاسم؛ لأن الوصف بالعلم تشريف، ورفعة في الدنيا والآخرة، {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [(11) سورة المجادلة] هذا وصف تشريفي، فكيف يستحقه من يحمل شيئاً من العلم وهو لا يعمل به؟ يسمع الأمر والنهي في الكتاب والسنة ويخالف، يتثاقل عنه، ويسمع النهي الصحيح الصريح ويرتكبه، وعلى هذا المقرر المحقق أن ما يحمله الفاسق ليس بعلم؛ لأن العلم في الحقيقة ما نفع، وهذا لم ينتفع بعلمه، والعلم ما أورث الخشية، {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} [(28) سورة فاطر] فالذي لا يخشى الله -جل وعلا- ليس من العلماء، ولذا جاء قول الله -جل وعلا-: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ} [(17) سورة النساء] هل من شرط قبول التوبة أن لا يعرف الإنسان الحكم؟ يعني الذي يعرف حكم الزنا ويزني تقبل توبته وإلا ما تقبل؟ نعم؟ تقبل، الذي يعرف أن شرب الخمر حرام ويشرب تقبل توبته وإلا ما تقبل؟ إذاً هو يعرف الحكم، ولارتكابه ما يخالف هذه المعرفة سماه الله -جل وعلا- جاهلاً، ولذا يقرر أهل العلم أن كل من عصى الله فهو جاهل، وجاء في الحديث: ((يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله)) ولذا جزم ابن عبد البر أن كل من يحمل العلم عدل، كل من يحمل العلم عدل.
قلت: ولابن عبد البر كل من عني ... بحمله العلم ولم يوهنِ
فإنه عدل بقول المصطفى ... (يحمل هذا العلم) لكن خولفا(34/6)
يعني المسألة في شخص حمل العلم، يعني على رأي ابن عبد البر هو عدل، يعني وجدنا من يحمل العلم وهو غير عدل، وهو غير ثقة، إذاً نعكس كل من عمل بعلمه .. ، أو كل من عمل فهو عالم، أقرب إلى قول: كل من علم فهو عدل، كل عدل عالم، ولا عكس، ولذا يقول: لكن خولفا، يعني ابن عبد البر خالفه أهل العلم؛ لأنه وجد بين ظهراني الناس من يحمل العلم وهو في الحقيقة غير عدل، خولف، والحديث مختلف في ثبوته، وممن أثبته الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-، كثير من أهل العلم يضعفوه، إذا عرفنا هذا وأن ما يحمله الفساق ليس بعلم، وأن الفاسق ليس بعالم نأتي إلى من تصدى على مر العصور من عصر الصحابة إلى يومنا هذا للتعليم، حمل العلم بالطرق المعتبرة عند أهل العلم، وعلى الجادة المعروفة عندهم، وعلم الناس، وقضى بينهم، وأفتاهم، وبين ما يجوز وما لا يجوز، هذا هو العالم الحقيقي، هذا هو العالم الذي يقتدى به، فإذا بين للناس ما نزل إليهم، وأخبرهم عن الأحكام وبين لهم الحلال والحرام هذا يسمى في العرف العلمي والاصطلاح مفتي، إذا كان يبين للناس من غير إلزام، وإذا كان يبين للناس مع الإلزام فهو قاضي.
الفتوى الإخبار عن الله -جل وعلا-، وعمدتها الكتاب والسنة، يعني ما جاء عن الله، وجاء ما يدل على اعتماد القياس عند جماهير أهل العلم، ولهذا القول دلائله من الكتاب والسنة، مما لا نطيل بذكره.
المفتي مخبر عن الله -جل وعلا-، موقع عنه تعالى، ولذا ابن القيم -رحمه الله تعالى- سمى كتابه: (إعلام الموقعين عن رب العالمين) وبعضهم يضبطه (أعلام الموقعين عن رب العالمين) ويقصد بذلك المفتين، هم الذين يوقعون عن الله -جل وعلا-، وسواءً قلنا: إعلام وهو إخبار بمضمون هذا الكتاب، أو قلنا: أعلام لأنه ذكر من الأعلام الذين تولوا الفتوى من الصحابة والتابعين ومن بعدهم وهم أعلام، أئمة أعلام، وسواءً هذا أو ذاك فالموقعون هم المفتون عن الله -جل وعلا-.
المفتي لا يتبع في فتواه حتى يجمع ويضم إلى العلم الدين والورع.
وليس في فتواه مفت متبع ... ما لم يضف للعلم والدين الورع(34/7)
لأنه إذا لم يكن عالماً وهو الشرط الأول كيف يفتي الناس؟ وقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الله -جل وعلا- لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الرجال، وإنما يقبضه بقبض العلماء، حتى إذا لم يبقِ عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا)) رؤوساً جهالاً، يعني قبل ذلك عند وجود العلماء اتخذ الناس رؤوساً جهال وإلا علماء؟ علماء، ولذا يقول أهل العلم: إن الرئاسة الحقيقية لأهل العلم، الرئاسة وفي رواية: ((رؤساء)) الرئاسة الحقيقية لأهل العلم، ومن يتصدى للإجابة عن مشاكل الناس وأسئلتهم وبقدر ما يعطي يكون نصيبه من هذه الرئاسة، ولا نحتاج إلى ضرب أمثلة؛ لأنه يوجد من يبذل وهو من أهل العلم بحق ولذا ساد الناس، ويوجد من أهل العلم من بذله أقل وسيادته تكون أقل.
"ما لم يضف للعلم والدين" الدين المراد به التدين والعمل بالعلم، وإلا إذا قلنا: المراد به الإسلام ما يمكن أن يتصور عالم غير مسلم، نعم، لا يتصور إلا إذا كان يدرس الدين ويدرس العلم الشرعي لهدف من الأهداف كالمستشرقين مثلاً، الذين يقصدون من دراستهم هدم الدين، وهؤلاء ليسوا بعلماء، وإن لاك أو لاكت ألسنة بعض الناس وصفهم بالعلم، بل الترحم عليهم، نسأل الله السلامة والعافية، هذا ضلال نسأل الله العافية.
. . . . . . . . . ... ما لم يضف للعلم والدين الورع
من لازم الدين الصحيح الصادق الورع، من لازم الدين الصادق الذي يخلص فيه صاحبه لله -جل وعلا- الورع، لكن التنصيص عليه لأنه قد يغفل عنه، المفتي على قدر من العلم وعلى قدر من التدين والعبادة، لكن قد يغفل عن الورع إذا سئل عن شيء.(34/8)
وهل الورع من أجل أن يحمل الناس عليه أو من أجل أن يكف نفسه عن الفتوى التي لا يتبينها؟ السلف يتورعون عن الفتوى، ويتدافعون الفتيا، وقد يرد، يقدم من العراق أو من خراسان أو من أقاصي الدنيا إلى المدينة أو مكة وبعد لأي وجهد جهيد يجد من يفتيه، والصحابة متوافرون، والتابعون لهم كذلك، كل واحد يقول: اذهب إلى فلان، اذهب إلى فلان، يأتي السائل من العراق يسأل ابن عمر فيقول: اذهب إلى ابن عباس، فيقول: ابن عباس مالت به الدنيا ومال بها، يعني توسع في أمور الدنيا بخلاف ابن عمر، يعني توسع ابن عباس في حدود المباح -رضي الله تعالى عنه وأرضاه-، ابن عمر لا تورع عن كثير من الأمور، وبهذا نعرف قيمة العالم العابد حتى عند عوام الناس، الذي ينجمع على آخرته وقد يغفل عن كثير من أمور دنياه؛ لأن مثل هذا بغض النظر عن ابن عباس، ابن عباس حبر الأمة، وترجمان القرآن، لا يستطيع أحد أن يتطاول عليه، لكن هذا الحاصل، القصة في الصحيح، اذهب إلى ابن عباس، قال: ابن عباس مالت به الدنيا ومال بها، فهو يريد مثل ابن عمر في ورعه وانكفافه وانجماعه، فالعالم الرباني عليه أن ينظر إلى آخرته، وليس معنى هذا أن يحرم نفسه، ويحرم من تحت يده، بحيث يتكففون الناس، لا، لكن يتوسط في أمرهم، لا يكون جمعه لدنياه، وحرصه على دنياه على حساب دينه.
. . . . . . . . . ... ما لم يضف للعلم والدين الورع(34/9)
طيب قد يقول قائل: كيف يتورع الصحابة عن الفتوى وهم يعرفون الجواب، ويأتيه السائل من بعيد ويقول: اذهب إلى فلان، ثم فلان يقول: اذهب إلى فلان، فلان يقول: اذهب إلى فلان، لا شك أن هذا ورع، وقد أخذ العهد والميثاق على أهل العلم أن يبينوا، وأبو هريرة يقول: لولا آية في كتاب الله ما حدثتكم {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} [(159) سورة البقرة] آية مخيفة تجعل العالم يبذل، وإن كان بالمقابل أيضاً على خطر شديد، فالفتوى قول على الله، فإذا كانت من غير علم ولا تثبت فهي كذب على الله -جل وعلا-، {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ} [(116) سورة النحل] كذب على الله ليس ككذب على أحد، إذا كان الكذب على النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((إن كذباً عليّ ليس ككذب على أحد)) فكيف بالكذب على الله -جل وعلا-؟ المسألة خطيرة يا الإخوان، وإذا ضممنا هذه الآية إلى قول الله -جل وعلا- في سورة الزمر: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ} [(60) سورة الزمر] هل يرضى الإنسان من أجل أن يقال: عالم يرضى بمثل هذا؟ وما الذي يدعوه إلى أن يجيب؟ إما بجهل أو بغير تثبت أو بتسرع، الذي يدعوه إلى ذلك من أجل أن يقال: فلان عالم، من بحور العلم، والله ما رد أحد، يسأل ويجيب بسرعة، أقول: يا أخي هون على نفسك، أتعلم من الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار، ترى فيهم رجل تعلم وعلم، ولكن ليش؟ ليقال: عالم.
ومن يكن ليقول الناس يطلبه ... أخسر بصفقته في موقف الندمِ(34/10)
النبي -عليه الصلاة والسلام- وهو المؤيد بالوحي يُسأل فيسكت، ينتظر من أهل العلم من يقول: إنه ينتظر الوحي، ومنهم من يقول: ينتظر يسكت ليربي من يفتي بعده؛ لئلا يتسرع؛ ولئلا يتعجل، ومع الأسف أننا نجد من يتصدى للفتوى في هذه الأزمان من يسارع، ويجيب على السؤال قبل تمامه، وأحياناً يجيب بضد المطلوب، والأمثلة كثيرة، سمعتم وتسمعون، شخص يسأل في وسيلة من وسائل الإعلام يسأله شخص، يقول: إن ولده يضربه، تصور الولد يضرب الابن، والأب هو السائل يقول: إن ولده يضربه، وأريد أن تسدي له نصيحة مباشرة قال: الأدب شرعي، والولد لا بد له من الأدب، وكون الوالد يضرب ولده هذا أمر مطلوب، ((واضربوهم عليها لعشر)) فهم عكس المراد، فهم أن الابن هو الذي يشكي أباه، أو يسأل عن حال أبيه، ويطلب توجيه للأب أنه يخفف عليه ولا يضربه، عكس المراد، والأمثلة على هذا كثيرة.
ولذا يتصدى كثير الآن مع الأسف الشديد، ومع الانفتاح الذي يعيشه الناس، ومع قلة الورع قد يكون هناك علم، لكن الورع أين الورع؟ يصعب عليه أن يقول: لا أعلم، يشق عليه أن يقول: لا أدري، من غاب عنه لا أدري لا بد أن يقع؛ لأنه مهما كان من العلم لن يخرج عن قول الله -جل وعلا-: {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} [(85) سورة الإسراء] فالفتوى تحتاج إلى علم، وتحتاج أيضاً إلى دين ليكون قدوة، إذا أجاب يعمل بقوله، وإلا إذا لم يوجد الدين ولو وجد العلم، يبين له الحكم ويخالف الحكم لن يعمل بقوله ولن يقتدى به، ويحتاج المفتي أيضاً إلى الورع.
بعض السلف إذا سئل عن مسألة انتفض، وأصابته الرحضاء، وعرق عرقاً شديداً ولو كان في الشتاء، لماذا؟ لأن الفتوى مزلة قدم، أنت تخبر عن من؟ يعني إذا كان الكذب على آحاد الناس حرام، والكذب على الرسول: ((من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)) والكذب على الله -جل وعلا- أعظم.(34/11)
فالمسألة تحتاج إلى إعادة حساب من قبل بعض من يتصدى إلى الفتوى، عندنا علماء، وعندنا راسخون، وعندنا أئمة علم وعمل، ويتصدون للفتوى، وهم مسددون موفقون، ونحمد الله على هذه النعمة، الخير موجود، لكن قد يوجد من يفتي من الطرف الآخر، والزلات كثرت، وثقة العوام بأهل العلم تزحزحت، لماذا؟ لأن الشيخ الفلاني يُسأل عن مسألة عقد مالي فيقول: حرام، ويسأل آخر وهو في السن في مقام أولاد الشيخ الأول ويقول: حلال، طيب قد يقول: إحنا أعرف من أولئك في تصور المسائل الجديدة والاقتصاد، يقول: حلال، ثم بعد ذلك الناس ما يدرون منهم من يرجح بالهوى فيرتكب الفتوى الثانية، ومنهم من يقول: الشيخ الفلاني أعرف فنطلب مرجح ثالث، حتى رمي بعض أهل العلم الراسخين وشاع في مجالس الناس مع الأسف الشديد أن فلاناً لا يُسأل، كل شيء حرام، لماذا؟ لأنه يفتي بما يخالف أهواءهم، لا يسأل فلان كل شيء حرام، إذا كان مرد القبول والرفض الهوى، الحديث المختلف في ثبوته: ((لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به)) ومقتضى قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولد والناس أجمعين)) وفي قوله لعمر: ((حتى من نفسك)) يقتضي هذا، إذا قدمت هواك على ما جاء عن الله وعن رسوله فأنت ما أحببت الرسول؛ لأن الذي يحب يكون مطيعاً لم يحبه.
أتعصي الإله وأنت تزعم حبه؟! ... هذا لعمري في القياس شنيعُ
لو كان حبك صادقاً لأطعته ... إن المحب لمن يحب مطيعُ(34/12)
فالمعول على الوحيين، وإذا جاءت الفتوى بنص ... ؛ لأنه أحياناً يأتي السؤال مطابق لسؤال سئل عن النبي -عليه الصلاة والسلام- فيورده المفتي فلا مفر، ولا يجوز التردد في القبول، اللهم إلا إن كان النظر من جهة هل هذا النص محكم أو منسوخ أو مقيد أو مخصص هذا من هذه الحيثية لا بأس، ويكون هذا في حق من له النظر، أما العامي إذا أفتاه من يثق بدينه وعلمه لا يجوز له أن يتردد وإلا صار متبعاً لهواه، إذا أفتاه فلان قال: يلزمك دم، قال: لا، ندور غيره، في أسمح منه، إذا سئل عن معاملة قال: حرام، نبحث، نسأل غيره، ثم بعد ذلك يقع الاضطراب بين الناس، ويقع من قبل بعض العامة إساءة الظن بالدين، بعضهم يقول: الدين تغير، كل عمرنا عايشين على كذا، ثم جاءونا ها الشباب وغيروا الدين، هذه إساءة ظن بالدين، وإذا أطلع الناس على الخلاف وهم لا يستوعبونه لا بد من إطلاعهم على سببه، على سبب الخلاف ليعرف أن هذا الاختلاف وهذا الاضطراب ليس في الدين، الحق واحد لا يتعدد، لكن العلماء يجتهدون ويختلف اجتهادهم وكلهم مأجور إذا كانوا أهلاً للاجتهاد، فعلى طالب العلم أن يمرن نفسه، وأن يعسف نفسه على التريث إذا سئل، وأن يكون على صلة وثيقة بفتاوى أهل العلم.(34/13)
ومما ينصح به طلاب العلم قراءة فتاوى العلماء المعاصرين، وهي موجودة ولله الحمد؛ لأنها تعالج قضايا حية، موجودة وبأسلوب يفهمه كل أحد، مثل فتاوى الشيخ ابن باز أو ابن عثيمين أو اللجنة الدائمة أو غيرها من الفتاوى الموجودة -ولله الحمد- وجود كثرة، ليسير على الجادة، ويتصور التصور الصحيح، ولا تكثر الشواذ عنده؛ لأن بعض الناس يكون علمه من الكتب، وظروف ما أفتي به قبل خمسمائة أو ستمائة سنة في بلد من البلدان أو لشخص من الأشخاص قد تختلف عن الظروف التي نعيشها وإن كان هناك قدر مشترك وهو الكثير الأغلب في أحكام الدين أنها ثابتة لا تتغير، قد يتغير جواب العالم بالنسبة لزيد عن جوابه لعمرو، لما يحتف بزيد من الأمور التي جعلت الحكم يخفف عليه، وعلى ذاك يشدد؛ ولأن هذا جاهل عذر بجهله، وذاك غير جاهل، يعني على سبيل المثال سئل الإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب عن قوم يطوفون على قبر في بلد ما، وسئل نفس السؤال عن بلد آخر، فأفتى بأن هؤلاء البلد أو هؤلاء الناس كفروا بهذا، وأولئك عذرهم بالجهل؛ لأنه يعرف من حال هؤلاء أنهم بلغتهم الدعوة، وبين لهم الحق، وأصروا على ذلك، وأما أولئك فهم معذورون بجهلهم، فالذي يسمع الفتوى هذه والفتوى هذه يقول: اضطرب جواب الشيخ، ومرده إلى هذا.(34/14)
فليكن من يتصدى للفتوى على حذر شديد؛ لأن ألزم ما على الإنسان خلاص نفسه، يسعى الإنسان جاهداً على خلاصه قبل أن يسعى إلى خلاص غيره، أنت مسئول أمام الله -جل وعلا-، لن تترك بعد هذه، هي مدونة عليك في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، أنت الآن أحسنت على هذا على حد زعمك، وخففت عليه الحكم لكن أنت وين جوابك؟ يعني هل عند شخص من الأشخاص أغلى من نفسه؟ هل يمكن أن يؤثر على نفسه أحد ويتحمل؟ يقول: نتحمل، نفتيه بأنه لا يجب عليه هذا، أو لا شيء عليه ونتحمل، يمكن أن يقول هذا عاقل؟ لماذا طلب العلم؟ لماذا تعلم؟ لماذا أفتى؟ مو من أجل أن يرجو ثواب الله -جل وعلا-، فكيف يرتكب ما يوجب عقابه؟ فليكن السعي إلى خلاص النفس قبل السعي إلى خلاص الغير، نعم الإحسان إلى الآخرين مطلوب، أيضاً مع وجود من يتسرع في الفتوى، ويعرض نفسه لها، بل يطلب أن يساهم في هذا الباب، ويكثر من هذا ولا يتورع.
يوجد أيضاً في المقابل طرف آخر، أهل وأكفاء ومع ذلك يتهربون بحجة أن السلف يتدافعون الفتوى، لكن إذا تعينت الفتوى على شخص لا يجوز له بحال أن يعتذر عنها ((من سئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار)) فالمسألة تحتاج إلى توازن وإلى اعتدال، فمن كان أهلاً لذلك لا يتأخر، والناس بحاجة ماسة، ومن جعل نفسه للناس يعرف مقدار هذه الحاجة، الناس يتصلون في الهاتف إلى قبيل الفجر يبحثون عن من يفتيهم، ويقسم بعضهم أنه منذ شهر يبحث عن من يفتيه ولا يجد، لماذا يفعل هذا؟ لأنه يعرف هؤلاء الذين يعرضون أنفسهم وهم موجودون في كل وقت وعلى كل حال، يريد أهل تحري، فمثل هذا من له؟ لا بد من البذل، من الأكفاء لا بد من البذل، وطالب العلم عليه أن يسعى لتكميل نفسه؛ ليقوم بحاجة الناس، الحاجة ماسة، والبيان أمر لا بد منه، ولا يقوم أمر الدين ولا الدنيا إلا بالعلم، ولذا جاءت النصوص الصريحة الصحيحة القطعية بأن العلم من أفضل الأعمال، وهو في حق بعض الناس يكون أفضل الأعمال، وقد يتعين على بعض الناس، فإذا تعين على الشخص وتخلى عنه فهو آثم.(34/15)
طالب العلم الذي يسر الله له سلوك السبيل ((من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة)) إذا يسر الله لك سلوك هذا الطريق وأنت في أثنائه قد تراودك نفسك بالترك أو بالفتور؛ لأن زملائك توظفوا وكسبوا أو ساهموا أو زاولوا التجارة وتجروا وأنت في مكانك {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} [(61) سورة البقرة] العلم لا يعدله شيء، العبادة على بصيرة، الدعوة على بصيرة متى تكون؟ {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [(108) سورة يوسف] لا تكون الدعوة على بصيرة إلا إذا كانت مبنية على علم راسخ، والعبادة لا تكون على بصيرة إلا كذلك.(34/16)
فعلى طالب العلم أن يحرص وأن يجد ويجتهد لتحصل له الرفعة في الدنيا والآخرة، قد يقول قائل: أنا طالب علم لكن تأهيلي الشخصي قد يعوق دون التحصيل، حافظتي ضعيفة، وفهمي ضعيف، هل أترك الطلب أو أستمر؟ نقول: استمر؛ لأن تسهيل طريق الجنة إنما رتب على مجرد سلوك طريق العلم، لا على كون الإنسان يصير عالماً ((من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً)) ولو لم يكن عالماً ((سهل الله له به طريقاً إلى الجنة)) قد يقول قائل: أنا والله شايب كبير، أنا عمري خمسين، ستين، سبعين، ثمانين، صالح بن كيسان ذكر في ترجمته أنه لما بلغ التسعين طلب العلم، وإن كان الذهبي وغيره يشكك في السن، لكن هذا موجود، القفال الكبير معروف، كبير جداً سنه، لما بلغ التسعين صالح بن كيسان أو قل: سبعين، ستين، خمسين، بعض الناس إذا لاح الشيب يقول: ما يجيب العمر كثر مما مضى، يا أخي أنت لو ما عندك إلا يوم واحد تسلك فيه علم سهل الله لك به طريقاً إلى الجنة، بس تصدق النية لله -جل وعلا-، والأمور متيسرة، الأسباب موجودة، يعني -ولله الحمد- الأشرطة الآن في كل بيت، الشباب والشابات والنساء والرجال كلهم تعلموا، عجوز في السبعين من عمرها لا تقرأ ولا تكتب حفظت القرآن، في أكثر من حادثة، ونجد بعض كبار السن من الرجال الذين متعهم الله بصحة، زودهم من الذكاء والحفظ، أحياناً يوجد في الكبار من الذكاء والفهم ما لا يوجد عند الشباب، يقول: والله ما يجيب العمر كثر مما مضى، ثم يتقدم إلى المسجد مع الأذان، وهو على خير -إن شاء الله تعالى-، يجلس ما يصنع شيئاً، ولا يعان ولا على تسبيح وتهليل، أدنى بزر عندك في البيت لو تقول له: حفظني سورة كذا، موجود في البيت، وعندك الأشرطة المعلمة، وعندك كل شيء، فلا يأس.
أذان؟
طالب:. . . . . . . . .(34/17)
بالنسبة للمفتي مع غيره قد يتعرض لشيء وهو الاختلاف مع غيره في تحديد ما يفتى بجوازه ومنعه، وقد يلتبس عليه الضابط فيما يجوز وما يمنع، ولنضرب مثال بالجوال مثلاً ومناسبته قائمة، ورن الجوال أثناء الصلاة وبعد الصلاة من بدايته إلى نهايته ولا أغلق بنغمات موسيقية، وفتوى اللجنة الدائمة بتحريم النغمات الموسيقية موجودة ومبذولة، ومع ذلك لا يرفع إنسان لسانه إلى لهاته ولا ينكر، لماذا؟ يقول لك: والله الجوال هذا مع عامل لو تكلمت ما يفهم، أو يقول: يمكن هذا ما هو بموسيقى نختلف في كونه موسيقى، ثم بعد ذلك إذا تواطئنا على ترك المنكر في أول الأمر سوف تُسمع الأغاني في المساجد عقوبة من الله -جل وعلا-، فمثل هذه الأمور وهو في بدايتها لا بد من إنكارها، ومع الأسف أن كثير من مساجد المسلمين تحولت إلى ما يشبه الكنائس، جوال يمين وجوال وسط، وجوال يسار، وجوال كذا، وبالموسيقى، يعني الرنات التي ما تؤثر في النفوس وليست على طريقة الفساق في أغانيهم هذه أمرها سهل، يعني تنبيه مجرد تنبيه، والملائكة لا تصحب رفقةً فيهم جرس، الجرس الذي يعلق على الدواب هذا لا تصحبهم الملائكة، فكيف بالموسيقى المطربة التي بعضها مستخلص من أغانٍ ماجنة؟ ومع ذلك كل واحد يتكل على الثاني، أو يقال: هذه ما هي بموسيقى، أو يروج في القنوات من بعض من يفتي، يعني ويش فيها الموسيقى؟ ويش فيه الغناء؟ ابن حزم يقول: حلال، حتى كبار سن شياب يقول لك هذا الكلام، ابن حزم يقول: حلال، متى عرف ابن حزم هذا؟ لولا وجود من يفتي بمثل هذه الفتاوى، طيب تعال ما دام ابن حزم يقول: حلال يقول ابن حزم أيضاً: إذا بلت في إناء وصببته على الماء ما فيه شيء، لكن لا تبول في الإناء مباشرة، الولد إذا ضرب أباه ما في شيء، لكن لا يقول له: أف، يرضى أن يكون هذا قدوته؟ أو يقتدي به فيما يريده وتهواه نفسه وما عدا ذلك الناس أحرار.
ابن حزم أعل أحاديث الأغاني والمزامير، لكن قوله مردود مرذول، يقول الحافظ العراقي في مثال:
. . . . . . . . . أما الذي ... لشيخه عزا بـ (قال) فكذي
عنعنة كخبر المعازفِ ... لا تصغ لابن حزم المخالفِ(34/18)
ابن حزم شذ في هذه المسألة، ولعل لعيشه الذي عاش فيه وظروفه التي عاش فيها أثر في هذه الفتوى، عاش في نعمة كان وزير، كان في بيت نعمة فأثر فيه هذا.
ونجد الإخوة الوافدين من البلدان الأخرى منذ عقود وهم يسمعون الأغاني علناً من غير نكير، يستمرئون مثل هذه الأمور، وتجد هو في الصف مثلاً في الصلاة وحريص وجاء متقدم، ومع ذلك النغمة الموسيقية من بداية الصلاة إلى نهايتها ولا تسمح نفسه يغلق الجوال؛ لأنه ما في شيء عنده، جاي من بلد الناس كلهم من هذا وأشد، فيستخفون بمثل هذه الأمور، فعلى الإنسان أن يغار لدينه، وهذه أماكن عبادة، يعني إذا كانت الموسيقى محرمة في البراري والقفار فكيف بأماكن العبادة، وتشبيه أماكن العبادة بالكنائس ومعابد المخالفين، هم اللي يصحبون عباداتهم بموسيقى، فعلينا أن نحرص على هذا.
قد يقول .. ، يختلف اثنان في نغمة من النغمات واحد يقول: هذه موسيقى أو هذه ليست موسيقى؛ لأنها قريبة يعني ما هي بعيدة، وإطرابها للنفس يسير، هذه مما تختلف فيها وجهات النظر، لكن لو على سبيل الإشارة على الشخص أو المشورة عليه بأن يغير هذه الموسيقى إلى نغمة لا إشكال فيها.
قد يقول قائل: جاء النهي عن الجرس والملائكة لا تصحب رفقة فيها جرس كيف يشبه الوحي وهو أفضل شيء بصلصلة الجرس، ((أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس)) يشبه المحمود بالمذموم؟ نقول: نعم، التشبيه لا يقتضي المشابهة من كل وجه، والجرس فيه صوت متدارك، وفيه إطراب، فكونه يشبهه في تدارك الصوت، لا يعني أنه يشبهه في الإطراب.
الرؤية، رؤية الباري -جل وعلا- في الجنة شبهت برؤية القمر ليلة البدر، لا تضامون في رؤيته، أو لا تضامون في رؤيته، يعني هل هذا التشبيه من كل وجه؟ تشبيه رؤية برؤية لا مرئي بمرئي، فالتشبيه من وجه دون وجه.
الذين يدخلون الجنة، أول زمرة تدخل الجنة وجوههم كالقمر أو على هيئة القمر هل معنى هذا أنه ما فيهم عيون ولا أنوف ولا ... ؟ ما فيهم أنوف ولا عيون؟ القمر ما فيه، لا، في الإضاءة والنور لا في بقية التفاصيل، فمثل هذا ينتبه له.(34/19)
هذا سائل يقول: إن عدد المفتين الذين يفتون في قضية واحدة كثيرون، وتختلف أقوالهم في تلك القضية، ويحتار أحدنا أي فتوى يقدم أو يقوم بأخذها؟
الخلاف موجود من عهد الصحابة إلى يومنا هذا، ولن ينقطع في كثير من المسائل، والخلاف مرده إلى بلوغ الدليل لبعض الناس دون بعض، فالذي بلغه الدليل يفتي بمضمونه، والذي لم يبلغه يفتي بما عنده قبل ورود الدليل.
قد يبلغ الدليل ويختلف العلماء في ثبوته، فمن ثبت عنده أفتى بمقتضاه، ومن لم يثبت عنده أفتى بخلافه، قد يبلغ الدليل للأطراف كلها، ويبلغ بعض العلماء المخصص أو المقيد ولم يبلغ الآخرين، فيعمل به بعضهم على إطلاقه، ومن بلغه المقيد يعمل بالمقيد.
الفهوم، الفهوم تختلف، القواعد التي أخذت من عمومات الشريعة تختلف من عالم إلى عالم، الفهوم قد يستدل العالم بدليل ويستدل مخالفه بنفس الدليل، بنفس الدليل الفهم يختلف، وكلهم مأجور، لكن الذي يصيب الحق له أجران، والذي يخطئ الحق له أجر واحد، كلهم مجتهدون وأهل للاجتهاد، ولا يعني هذا أن كل إنسان له النظر في الأدلة، لا، الذي ينظر في الأدلة من له أهلية الاجتهاد.
أما ما يشاع في بعض القنوات أو في بعض الصحف أنهم رجال وِأئمة هذه الأمة وسلفها رجال، نفهم مثل ما يفهمون، هذا الكلام ليس بصحيح، لا بد أن يكون الفهم مضبوط، فهم من يحسن التعامل مع النصوص، من يفهم الحقائق اللغوية والشرعية والعرفية ويوازن بينها، إذا سئل شخص وقال: هذا شخص عنده الملايين في البنوك ويكاد أن يموت من الجوع مقتر على نفسه وعلى من تحت يده تحل له الزكاة أو لا تحل؟ الذي لا يعرف يفرق بين الحقائق يقول: تحل له الزكاة؛ لأن الله -جل وعلا- يقول: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ* لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [(24 - 25) سورة المعارج] وهذا محروم، لا يا أخي، هذه وأن كانت حقيقة عرفية بين الناس لكنها ليست هي الحقيقة الشرعية، الحقيقة الشرعية السائل الذي يأتي للناس ويسألهم، المحروم الذي لا يسأل، فلا يعرف ولا يدرى به، ولا يفطن له، مثل هذا إذا عُرف بأي طريقة من الطرق هذا يحرص عليه.(34/20)
شخص يخطب ابنته شخصاً لا تريده، البنت لا تريد هذا الشخص فيجبرها عليه، يناقش في ذلك يقول: الله -جل وعلا- يقول: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء} [(33) سورة النور] ويش البغاء هذا؟ هو يدري إن البغاء هذا هو الزنا؟ إلى أن قال: {وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [(33) سورة النور] هو يريد هذه المغفرة، هذا مثل يفهم النصوص؟ مثل هذا يترك أن يفهم النصوص ويقول: نحن رجال وهم رجال؟ هذا كلام بعض العامة، ومن بعض من يكتب مثل العامي أو أردأ؛ لأن بعض العوام فطرهم سليمة، وبعض من يكتب تلوثت أفكارهم، وهذا موجود، تجده يشط في الفهم، ويخالف جميع ما جاء عن سلف هذه الأمة وأئمتها ويقول: نحن رجال.(34/21)
كون الفتوى تختلف من أهلها أولاً: كون الفتاوى التي فيها شيء من الاختلاف من أهل العلم الذين يوثق بعلمهم، من أهل العلم الراسخين الذين لهم النظر والاجتهاد وتوافرت فيهم الشروط، أولاً: لا ينبغي إشاعتها بين الناس، مثل ما تقدم، بعض الناس يسيء الظن بالدين، ومرده إلى اجتهاد المجتهدين لا إلى الدين، فإذا سئل العالم وأفتى بما أداه إليه اجتهاده حصل له الأجر، لكن ليس معنى هذا أنه يعرف أنه يوجد من يخالفه، وهو من أهل النظر والاجتهاد، ودليله له حظ من النظر أن يشيعه بين الناس؛ لأنه يحصل بهذا الاضطراب، ويحصل مثل ما يقول، يحتار الناس، تحصل الحيرة بمثل هذا، فلا مانع أن يجتهد، وهذا هو الأصل أن يجتهد الإنسان فإذا أفتى على ما يؤديه اجتهاده بعد التجرد لله -جل وعلا- ولو أخطأ، لكن لا يشاع بين الناس القول وضده، واحد يقول يجوز وواحد يقول: لا يجوز، ويزعم بعض الناس أن هذا من السعة في الدين، ومن التيسير على الناس، ويستدل بحديث لا أصل له يقول: "اختلاف أمتي رحمة"، والله -جل وعلا- يقول: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ* إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} [(1187 - 119) سورة هود] الرحمة في عدم الاختلاف، لكن إذا وجد الاختلاف الذي رتب عليه أجر لا مانع من وجوده، وهو شرعي والصحابة اختلفوا، ولا مانع من ذلك، لكن على أن لا يضطرب الناس في هذا الباب، أو يترك الناس يتخيرون، والله شوف اللي يفتيك بالحلال أو بالحرام، تخير، العامي لو كان أهل للنظر والتخير ما يحتاج إلى أن يستفتي، فمثل هذا ينبغي أن لا يشاع بين الناس بقدر الإمكان.
يقول: البعض من الناس قد يستفتي عن مسألة عند شيخ، ثم يقوم بعدم قبول تلك الفتوى ويسأل شيخاً آخر، وكذلك حتى يحصل على ما يرضيه من الفتوى؟
هذا هو الذي ذكرنا أنه متبع لهواه، فإذا سأل من تبرأ الذمة بتقليده، ويثبت ذلك بالاستفاضة بين الناس يلزمه قوله؛ لأن فرض العامي سؤال أهل العلم، والله -جل وعلا- يقول: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [(43) سورة النحل].(34/22)
هذا نفس السؤال السابق إلا أنه بصيغة أخرى يقول: في الآونة الأخيرة كثر عدد من يفتي ويتصدر الفتوى، وخاصة في وسائل الإعلام المختلفة، حيث أن بعض من يفتي في وسائل الإعلام بخلاف الكتاب والسنة، وخاصة في قضية حجاب المرأة، حيث أن بعض المفتين يفتي بعدم ضرورة تغطية المرأة لوجهها، وهذا يثير الشك والجدل والبلبلة وضعفاء النفوس وضعفاء الدين.(34/23)
المسائل التي تعم الأمة وتعظم الآثار المترتبة عليها إنما هي للكبار، للراسخين، ومثل هذه المسألة التي أشار إليها حجاب الوجه بالنسبة للمرأة هناك نصوص صحيحة صريحة لا تحتمل التأويل، وكان يعرفني قبل أن ينزل الحجاب، استيقظت باسترجاعي -هذا في البخاري- فخمرت وجهي بجلبابي {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} [(59) سورة الأحزاب] ثم بعد ذلك بعدها مباشرة: {لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ} [(60) سورة الأحزاب] ونفرق بين من يفتي بعد أن يدرس المسألة ويؤديه اجتهاده إلى أن هذا الحكم كشف الوجه حلال، مخلصاً في ذلك لله، وهو من أهل الاجتهاد، يعني نفترض مثلاً المسألة في الألباني مثلاً أداه اجتهاده إلى أن الوجه ليس بعورة، وعامة أهل العلم يفتون بأنه عورة، هل نقول: إن الآية: {لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ} تنطبق على الألباني؟ لا، نقول: اجتهد وهو أهل للاجتهاد، ونظر في النصوص، وأداه اجتهاده إلى هذا، وله أجر واحد، أجر الاجتهاد، أجر الإصابة مع الفريق الآخر، هؤلاء الذين يكتبون في الصحف ويروجون مثل هذه المسائل وليسوا من أهل العلم وما عرفوا بعلم، ولا بحثوا مسائل لا في الصلاة ولا في الزكاة، ولا في المعاملات، همهم هذه المسألة، ويش الهدف من هذه المسألة؟ الهدف أن ينسلخ، تنسلخ النساء من حيائهن، ويستمتع أمثال هؤلاء بمناظرهن، ويتوصلون إلى مآربهم، ولذا تنطبق عليهم الآية الأخرى: {لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} [(60) سورة الأحزاب] جاءت عقب هذه الآية مباشرة، أهل العلم والاجتهاد والنظر والإخلاص لهم حكم، لكن مثل هؤلاء الذين لا دور لهم، لا ناقة لهم ولا جمل في العلم، ما يعرفون مسألة من مسائل الصلاة يبحث في الحجاب؟ الهدف من الأهداف الأولى لإبليس وآدم في الجنة قبل أن ينزل من الأهداف وسوس لهما ليبدي لهما ما وري عنهما من سوءاتهما، هدف شيطاني هذا، ومع ذلك يكتب من يعرف ومن لا يعرف، ومن عرف كلمة رددها في وسائل الإعلام، هذا أمر خطير يخشى على(34/24)
نفسه مثل هذا، والله المستعان.
يكفي؟ جاءت الإقامة؟
طالب:. . . . . . . . .
اللي يريحكم، بس لا نشق على الإخوان، الأسئلة كثيرة جداً، لكن عاد ...
يقول: كثرت في هذه الأيام في وسائل الإعلام والفضائيات ظاهرة ما يسمى بالمفتيات من النساء فهل يمكن أن تفتي المرأة؟ وهل الضوابط التي تكون للمفتين واحدة بالنسبة للرجال والنساء؟ وما هو تعليقكم على ما حدث من تقدم إحدى النساء لإمامة الرجال؟
من الصحابة من النساء كعائشة من تصدر للإفتاء، لكن هذا لا بد أن يكون من رواء حجاب، ولا بد أن تؤمن الفتنة، وإلا فالأصل أن المرأة تقر في بيتها، الأمر الإلهي: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [(33) سورة الأحزاب] فإذا رجحت المصلحة بأن تكون مفتية للنساء، وهي أعرف بأمور النساء، لا مانع؛ لأن الرجال لهم من يحل مشاكلهم، ولا يوجد امرأة الآن عندها من العلم مثل ما عند عائشة مما يخفى على الرجال، لنقول: إن عائشة تفتي الرجال، هل يمكن أن يتصور امرأة عرفت من أمور النساء ما يخفى على غيرها أو ما يخفى على الرجال؟ الذي جاء عن عائشة مما يخفى على الرجال كله مدون في الكتب، وعرفه الرجال بأجلى صوره، فلا يقال: إن المرأة تفتي الرجال؛ لأن الرجال عندهم من يكفيهم، ومع الاحتياطات التامة لا مانع أن تفتي المرأة النساء إذا دعت الحاجة إلى ذلك، وهي أقرب إلى معرفة مشاكل النساء وظروف النساء، بالضوابط الشرعية التي لا بد أن تكون من رواء حجاب، {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ} [(53) سورة الأحزاب] ولا بد أن تؤمن الفتنة.(34/25)
في الأمور العامة إنما يطلب لها الرجال، في الإمامة في التحقيق امرأة متهمة مثلاً الذي يحقق معها في عهد النبي -عليه الصلاة والسلام- فيه من النساء من أهل العلم والعقل والدين ما يمكن أن يقوم بمثل هذا، لكنه -عليه الصلاة والسلام- قال: ((واغد يا أنيس)) لأن هذه الأمور لا يقوم بها النساء، ولا تناسب أن يقوم بها النساء، ((اغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها)) قد يقول قائل: مثلاً أنيس هذا رجل كيف يخلو بامرأة؟ هل يتصور خلوة في عصره -عليه الصلاة والسلام-؟ معها محرمها، ومعها .. ، ويسألها من رواء حجاب إن اعترفت أقيم عليها الحد، يعني بعض الناس يستمسك بشيء من المتشابه ويترك الأمور المحكمة، والهجمة التي يروج لها الأعداء وأبواق الأعداء لتحرير المرأة هجمة خطيرة، نسأل الله -جل وعلا- أن يقينا ومجتمعات المسلمين شرها، والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(34/26)
منهج السلف في الإفتاء
الشيخ/ عبد الكريم بن عبد الله الخضير
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فالموضوع المختار لهذا الدرس كما سمعتم: (هدي السلف) هدي السلف المراد بهم من تقدم في صدر هذه الأمة، ومن تبعهم بإحسان من غير تغيير ولا تبديل، هدي السلف في الفتوى وهذا موضوع عظيم، وموضوع في الوقت نفسه خطير؛ لأن الإنسان يخشى وهو يذكر شيئاً مما عليه سلف هذه الأمة وأئمتها، في قول نظري طبقه سلف هذه الأمة، إقداماً في مجال الإقدام وإحجام حينما يقتضي الأمر الإحجام.(35/1)
نعرض لأقوال سلف الأمة ولطريقة السلف في الفتوى، وتهيبهم للفتوى، وتتدافعهم، وتدارئهم الفتوى، حتى قد كانت الفتوى تمر على العدد الكبير من سلف هذه الأمة ثم تعود إلى الأول، يتدافعونها، ويتدارؤنها، ثم بالمقابل من يتكلم عن هديهم تعرض عليه الأسئلة فلا يسلك مسلكهم، فالذي يخشى منه أن يكون العمل مكذباً للقول، ولا شك أن مثل هذا مزلق خطير، والمسألة عن الفتوى فيها النصوص الكثيرة التي منها ما يدعو إلى الإقدام ويشدد فيه، ويجعل من لا يقدم عليه ممن يكتم العلم وله الوعيد الشديد في نصوص الكتاب والسنة، وبالمقابل من يجرؤ عليه، له بالمقابل وعيد شديد، فمن المأمور، ومن المنهي؟ من المأمور بالفتوى، ومن المنهي والمحذر منها؟ نحتاج إلى مثل هذا الموضوع في هذا الوقت، وفي هذا الظرف الذي نعيشه، وكثير ممن يتصدى للفتوى ليسوا ممن عرف بعلم ولا عمل، أصلاً، فضلاً عن كونهم لم يتأهلوا الأهلية التامة في هذا الشأن، وموقف السلف كما هو معلوم من نصوص الأمر بالفتوى، وعدم الإحجام عنها، وعدم كتم العلم لمن طلبه، تصدى له أناس عرفوا بالفتوى، من الصحابة ما يزيد على المائة تصدوا للفتوى، ومنهم من جمعت فتاواه في مجلدات، وعلى كل حال منهم المقل، ومنهم المكثر، وهم موجودون مطبقون لهذه النصوص، ومنهم من أحجم، منهم من أحجم ورأى أن التبعة عظيمة، والموقف خطير، ومزلة قدم؛ لأن هذا الموضوع يحتاج، علماً بأنه قد يخفى الأمر على الشخص نفسه أمر الشخص يخفى عليه نفسه، هل هو ممن أمر بالفتوى، أو هو ممن حذر منها؟ الشخص نفسه قد لا يستطيع تحرير واقعه، هل هو ممن أمر بها أو حذر منها، والسائل العامي الذي فرضه سؤال أهل العلم، {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ} [سورة النحل: 43]، قد لا يستطيع التحرير فيمن يسأل هل بلغ مقام من يسأل أو لم يبلغ؟ قد لا يستطيع أن يميز بين من يسأل ومن لا يسأل، فالمسألة تحتاج إلى مزيد عناية وتحرير دقيق، لا سيما وأن المجال الآن والفضاء مفتوح لكل أحد، حتى سمعنا من يستفتي رعاع الناس عن مسائل علمية فيها نصوص شرعية، ويجعل الراجح من يدعمه من الأصوات أكثر، في مجتمع لا يمت إلى الالتزام فضلاً عن التدين، فضلاً عن العلم، هذه مسائل خطيرة، وهناك(35/2)
شيء أو نصوص فيها إرهاص من مثل هذه التصرفات التي نعيشها، ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الرجال، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا)) يعني بعض الناس ممن يتصدى للفتوى قد يكون ممن أعطي بياناً، يمرر به كلامه على السذج، بحيث يتناقلونه ويتداولونه، والبيان من هذا النوع جاء فيه قول النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((إن من البيان لسحراً))، وهذا على سبيل الذم، وإن كان بعض أهل العلم يقول: إنه على سبيل المدح لكن السحر مذموم، ((إن من البيان لسحراً)) فمثل هؤلاء الذين يمررون هذه الأقوال ويتدخلون في أمور الدين، وفي قضايا الأمة العامة من غير اعتماد على نص من كتاب ولا سنة، وإذا تصدر للفتوى من لا علم له بالكتاب والسنة لا شك أنه سوف يضل بنفسه، ويضل غيره، وإذا كان من يحتاج إلى الكتاب والسنة من غير المختصين في العلم الشرعي من الأدباء أو من المؤرخين، تجد لهم، لبعضهم عناية فائقة بالنصوص، نصوص الوحيين، فإذا كان هذا في مؤرخ أو أديب، تجده، يرى أن معرفة النصوص حتم لازم لإتقان الفن الذي يريده، فابن الأثير مثلاً صاحب المثل السائر، يقول: إنه استعان على نشر أو على تحقيق ما يطمح إليه من الأدب الرفيع الذي يستحق أن يسمى أدباً، إنما هو بعد حفظه للقرآن، وبعد حفظه لثلاثة آلاف حديث، وصار يردد هذه الأحاديث على مدى عشر سنوات، يختمها في كل أسبوع، الأديب يحتاج إلى النصوص، حاجة ماسة، المؤرخ يحتاج إلى النصوص، وإلا فسوف يقع الخلط في كلامه، يعني فرق بين أن تقرأ في التاريخ لمفسر محدث كابن كثير، وبين أن تقرأ لمحلل لا يعتمد على النصوص كثيراً، فإذا كان هذا في جانب التاريخ والأدب، الحاجة داعية إلى العناية بنصوص الكتاب والسنة، فكيف بمن يتصدى لإقراء الناس، وتعليم الناس، وإفتاء الناس، وليست له عناية بالكتاب والسنة؟ ونرجو ألا يكون مثل هذا الكلام حجة علينا.
إذا عرفنا هذا فقد جاء الوعيد الشديد في حق من كتم العلم وفي حق من جرؤ على العلم، وقال فيه بغير مستند، ولا دليل، ولا برهان من الكتاب والسنة.(35/3)
يقول الله -جل وعلا-: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [سورة الأعراف: 33].
يقول الإمام ابن القيم -رحمه الله- تعالى: "رتب المحرمات أربع مراتب، يعني جعل المحرمات أربع مراتب، وبدأ بأسهلها، قد يقول قائل: إن هذه الجمل الأربع عطفت بالواو، وهي لا تقتضي الترتيب، فلماذا يقول ابن القيم وغير ابن القيم أن القول على الله بغير علم أعظم من الشرك؟ لأننا إذا قلنا أنها رتبت على سبيل الترقي وأن هذه المراتب كل مرتبة منها أعظم من التي قبلها كما يقرر جمع من أهل العلم، ومنهم الإمام ابن القيم يقول: "رتب المحرمات أربع مراتب وبدأ بأسهلها وهو الفواحش، ثم ثنى بما هو أشد تحريماً وهو الإثم والظلم، ثم ثلث بما هو أعظم تحريماً منهما وهو الشرك به سبحانه، ثم ربع بما هو أشد تحريماً من ذلك كله وهو القول عليه بلا علم".
يعني طالب العلم إذا سمع مثل هذا الكلام المفترض أن يحسب له ألف حساب، وأنه إذا سئل عن مسألة يحسب لها وللخلاص منها بين يدي الله -جل وعلا- ألف حساب، يعني وما يضيرك أن تقول: لا أدري، وإذا كان الأئمة على ما سيأتي كثر في أجوبتهم قول: لا أدري، وإذا كان النبي -عليه الصلاة والسلام- المؤيد بالوحي يُسأل فيسكت، لماذا يسكت؟ ينتظر الوحي، ينتظر الوحي، ومن أهل العلم من يقول: أنه يسكت ليربي المفتين؛ لئلا يتسرعوا في الجواب؛ لأن بعض الناس إذا سئل لا يترك السائل يكمل الجواب، بل يبادر بالجواب قبل إكمال السؤال، وما الذي ترتب على ذلك؟ ترتب عليه مثل قول من أجاب السائل، السائل يقول: إن ابني يضربني، ابني يضربني، فأرجو توجيه كلمة لهذا الابن، وما حكم هذا الفعل؟ ومن هذه القبيل، قال السائل: ضرب الوالد لولده شرعي، الضرب شرعي، والأدب شرعي، هل فهم المجيب السؤال، عكس، عكس المراد، لكنه لو تأمل بان له المراد، ومثل هذا قد يحتاج السؤال إلى شيء من الاستفصال من السائل؛ لأن السؤال يحتمل وجوه، وحينئذ على المفتي أن يستفصل من هذه الوجوه.(35/4)
"ثم ربع بما هو أشد تحريماً من ذلك كله، وهو القول عليه بلا علم، وهذا يعم القول عليه سبحانه بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله وفي دينه وشرعه".
يقول الله -جل وعلا-: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ* مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة النحل: 116 - 117].
متاع قليل، يعني الدنيا وإن طالت وإن كثرت متعها فإنها قليلة، فإذا تصورنا أن ركعتي الصبح خير من الدنيا وما فيها فالعجب كل العجب ممن يبيع دينه بعرض من الدنيا، تجده يسابق ويسارع، في القرابين من الدين، من أجل أن يكسب شيئاً من عرض الدنيا الزائل.
يقول: "فتقدم إليهم سبحانه بالوعيد على الكذب عليه في أحكامه وقولهم لما لم يحرمه هذا حرام، ولما لم يحله هذا حلال، وهذا بيان منه سبحانه أنه لا يجوز للعبد أن يقول: هذا حلال وهذا حرام إلا بما علم أن الله سبحانه أحله وحرمه، إلا بما يعلم أن الله سبحانه أحله وحرمه".(35/5)
إذا قرنا هذا وعرفنا أن القول على الله بلا علم كذب، {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ}، إيش معنى كذب؟ كذب يعني أنه غير مطابق لما عند الله -جل وعلا- من حكم، وغير مبني على وسائل شرعية يستنتج منها الحكم، وهذا حال الجاهل الذي يفتي بغير علم، الذي أخبر عنه النبي -عليه الصلاة والسلام- أنه يضل ويضل، هذا كافر، فإذا قرنا هذه الآية بقوله -جل وعلا- في سورة الزمر: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ} [سورة الزمر: 60]، هذه مثل هذه الآيات ترتعد منها الفرائص، ما دام كذب، يعني المقدمة ما دام القول على الله بلا علم كذب، والفتوى بلا علم كذب على الله، وافتراء، والذي يكذب على الله يأتي يوم القيامة مسود الوجه، نسأل الله السلامة والعافية، {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ} [سورة الزمر: 60]، ما الذي يمنعه من قول لا أدري، هذا الجاهل إذا سئل وافترى على الله الكذب وقال: حلال أو حرام، مع مخالفة الحكم الصحيح مثل هذا ما الذي يمنعه من قول: لا أدري؟ لا شك أنه الكبر نسأل الله العافية.
وفي سنن أبي داود من حديث مسلم بن يسار قال: سمعت أبا هريرة يقول: "من قال علي ما لم أقل، فليتبوأ بيتاً في جهنم، ومن أفتى بغير علم كان إثمه على، أو من أُفتي بغير علم كان إثمه على من أفتاه، ومن أشار على أخيه بأمر يعلم الرشد في غيره فقد خانه".
يقول ابن القيم -رحمه الله- تعالى: "وكل خطر على المفتي فهو على القاضي، وكل خطر على المفتي فهو على القاضي، وعليه من زيادة الخطر ما يختص به، ولكن خطره أعظم من جهة، يعني خطر المفتي أعظم من جهة، وخطر القاضي أعظم من جهة".(35/6)
كيف يكون خطر القاضي أعظم من خطر المفتي؟ لأنه؛ لأن القضاء بيان الحكم مع الإلزام، فيلزم الخصمين، والمفتي لا يلزم، لكن القاضي يقضي في مسألة واحدة معينة، والمفتي إذا أفتى بحكم شرعي اطرد، اطرد فلو قال شخص: ما حكم كذا، لهذا الذي يفتي، قال: الجواز، أو التحريم، ثم وقعت نظائر لهذه المسألة قيل: إن الشيخ فلان أفتى بكذا، ولا يحتاج أن يسأل مرة ثانية، يقول: "وعليه من زيادة الخطر ما يختص به ولكن خطره أعظم من جهة أخرى فإن فتواه شريعة عامة تتعلق بالمستفتى وغيره". تتعلق بالمستفتى وغيره، وأما الحاكم فحكمه جزئي خاص لا يتعدى إلى غير المحكوم عليه، وله فالمفتي يفتي حكماً عاماً كلياً أن من يقول: كذا، ترتب عليه كذا، ومن قال كذا لزمه كذا، والقاضي يقضي قضاءً معيناً على شخص معين فقضاؤه خاص لكنه ملزم، وفتوى العالم عامة لكنها غير ملزمة، فكلاهما أجره عظيم، وخطره كبير".
جاء في الحديث وفيه كلام لأهل العلم رجحوا إرساله: ((أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار))، ثم رجح إرساله، يعني لا يثبت صحيحاً، وإن كان بعضهم يحسنه، لكنه قد لا يصل إلى درجة التحسين.
يقول المناوي في شرح الجامع الصغير في شرح هذه الحديث: ((أجرؤكم)) يعني أقدمكم، يعني أسرعكم إقداماً على إجابة السائل عن حكم شرعي من غير تثبت وتدبر، والإفتاء بيان حكم المسألة ((أجرؤكم على النار)) أقدمكم على دخولها؛ لأن المفتي مبين على الله حكمه، فإذا أفتى على جهل أو بغير علم أو بغير ما علمه أو تهاون في تحريره، أو استنباطه فقد تسبب في إدخال نفسه النار لجرأته على المجازفة في أحكام الجبار، {آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ} [سورة يونس: 59]، هذه فرية على الله -جل وعلا-.
يقول الزمخشري: "كفى بهذه الآية زاجرة زجراً بليغاً عن التجوز فيما يسأل من الأحكام، وباعثة على وجوب الاحتياط فيها، وأن لا يقول أحد في شيء جائز إلا بعد إتقان وإيقان ومن لم يوقن فليتق الله وليصمت، وإلا فهو مفتر على الله تعالى".(35/7)
هذا في بيان الحكم المجزوم به، يعني يأتي سائل فيقول: ما حكم كذا؟ فيقول: هذا حلال وإلا حرام؟ هذا لا بد أن يعد لنفسه مخرج بين يدي الله -عز وجل-، لكن لو طُرحت مسألة في مجلس علم بين طلبة علم وشارك الحاضرون من غير علم، من غير علم، لا على سبيل الفتوى، وإنما على سبيل المشورة، والترجي، فقال بعضهم: لعل الحكم كذا، قال بعضهم: لعل الحكم كذا، لعل المراد كذا، مثل هذا لا يضر مثل هذا لا يضر، لما ذكر النبي -عليه الصلاة والسلام- السبعين الألف الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب قال الصحابة: لعلهم كذا، لعلهم كذا، لعلهم كذا، فخرج النبي -عليه الصلاة والسلام- فقال قوله الفصل، ولم يوافق أحد منهم هذا القول، فدل على أنه إذا لم يكن على سبيل الإلزام، بل على طريق الترجي، فإن هذا يتسامح فيه، ومثله لو طلب معنى حديث أو معنى آية، يعني بعض الناس يجرؤ على كلام الله -جل وعلا- فيفسره برأيه، وقد جاء الوعيد الشديد على من يفسر القرآن برأيه، فإذا قيل: لعل المراد، مراد الله -جل وعلا- بهذه الآية كذا، أو كذا، فالأمر فيه يسر إن شاء الله تعالى.
ومن الناس من يجرؤ على تفسير كلام الله -جل وعلا- بما لا يحوم حوله ولا يصوب صُوبَه، حتى أنه سئل بعضهم عن كلمة أو عن آية فيها ثمانية أقوال لأهل العلم فأجاب بجواب خارج عن هذه الثمانية، ما وافق ولا قول لأهل العلم، قد يقول قائل: وليكن قولاً تاسعاً، ونفترض أنه قول تاسع ما الذي يضر؟ لكن هل هذا القول التاسع من قائل يسوغ له أن يفسر القرآن بمثل هذه الطريقة؟ هل يسوغ التفسير لكل أحد بغير نقل؟ الأصل أن التفسير منقول، التفسير أمره موكول إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، ثم إلى صحابته مما فهموه من أقواله وأحواله -عليه الصلاة والسلام-، ثم لمن تبعهم بإحسان ممن فهم حال من تقدم.(35/8)
كثيراً ما يصل الإنسان إلى رتبة من العلم، ويقرأ في تفاسير الأئمة الشيء الكثير، ثم يسأل عن تفسير آية، أو يقرأ شروح الحديث، ثم يُسأل عن معنى حديث لا يذكر فيه قول لقائل معين، لكنه من خلال قراءاته واطلاعه الواسع على كلام أهل العلم، تكونت لديه ملكة، بحيث يظهر له معنى الآية أو معنى الحديث، مثل هذا هو التفسير بالرأي المستند إلى أقوال أهل العلم، وإلا لو نظرنا في تفاسير الأئمة الموثوقين، لا سيما بعد عصور الرواية، تجد كثير منهم يدخل في تفسيره من كلامه الشيء الكثير، واستظهاراته ظاهرة في كتابة، هل نقول: إن هذا من التفسير بالرأي الممنوع، أو نقول: إن هذا ما دام أدام النظر في كلام أهل العلم، وفي أقوال المفسرين، وما جاء في التفسير المأثور، تكونت لديه هذه الملكة فصار موازياً لمن أخذ عن سلف هذه الأمة، يعني لو على سبيل المثال نظرنا إلى تفسير الشيخ ابن سعدي، هل فيه كلمة مضافة إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، أو مضافة إلى صحابي أو تابعي؟ لا، كله من إنشاء الشيخ، هل نقول: إن هذا تفسير بالرأي لا يجوز؟ هو منتقى من تفاسير السلف، لكن لا يلزم إضافة كل قول إلى قائله لا سيما إذا كان للمؤلف دور في الصياغة، والتعبير عن الأقوال الكثيرة بألفاظ وجيزة، مثل هذا لا شك أنه ينطلق من أصل أصيل، وأساس متين، يعتمد على التفسير المروي عن سلف هذه الأمة؛ لأن هذا قد يلتبس، يقول: لماذا نقول: الزمخشري بالرأي حرام، الرازي بالرأي حرام، ونقول لأناس آخرين ليس؟ نقول: لا يا أخي، الرازي خالف السلف فيما قرره في التفسير، خرج عن طريق السلف ومنهج السلف وسنن السلف، الرازي كذلك، الزمخشري وغيرهما ممن فسر من المبتدعة، لكن من نظر في تفاسير السلف وأدام النظر فيها تتولد لديه ملكة يستطيع أن يتعامل بها مع نصوص الكتاب على طريقة السلف وهدي السلف، وقل مثل هذا في معاني ما جاء عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، وهذا يجعلنا نديم النظر في كلام أهل العلم الموثوقين ممن هم على الجادة، ولا مانع أن ننظر في أقوال المخالفين والمعارضين من أجل أن نحذر هذه الأقوال ونتصور هذه الأقوال؛ لئلا نقع من حيث لا نشعر بمثل ما وقعوا فيه، وهذا للمتأهل، هذا للمتأهل.(35/9)
يقول ابن المنكدر: "المفتي يدخل بين الله وبين خلقه، فلينظر كيف يفعل فعليه التوقف والتحرز لعظم الخطر". وكان ابن عمر -رضي الله عنه- إذا سئل قال: "اذهب إلى هذا الأمير الذي تقلد أمر الناس وضعها في عنقه" وكان الولاة في عصر السلف من أهل العلم، وجاء رجل من العراق أو من الشام كما في صحيح مسلم يسأل ابن عمر عن مسألة في المناسك، فقال: اذهب انظر ابن عباس، اذهب إلى ابن عباس، ابن عباس ند لابن عمر، ونظير له في السن، وعند ابن عمر من الجوانب ما لا توجد عند ابن عباس، والعكس أيضاً، يعني جانب العلم في ابن عباس أظهر وجانب العمل والعبادة في ابن عمر أظهر، ولذلك قال السائل لما قال له ابن عمر كما في صحيح مسلم: اذهب إلى ابن عباس، فقال: ذاك رجل مالت به الدنيا، ومال بها.
فالناس عامة الناس يثقون بالعالم الذي لا يتوسع في أمور دنياه، نحن لا نقول أن ابن عباس ارتكب محرمات، وجلب الأموال من غير حلها، وصرفها في غير حلها، كلا، ليس بصحيح، لكنه توسع في الدنيا أكثر من ابن عمر، ابن عمر شدد على نفسه شيئاً، ومع ذلك هو من أهل التحري وأهل الورع، وأهل التثبت ولا يقال لابن عباس متساهل، ابن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن، لكن عامة الناس تجدهم يثقون في صاحب العمل أكثر من غيره، وإن كانوا لا يميزون أيهما أعلم، هو لا يدري أيهما أعلم، لكن شهرة ابن عمر في تتبع آثار النبي -عليه الصلاة والسلام-، والاقتداء به والائتساء به، جعلته يكون راجحاً عند هذا، وإلا فلا شك أن العلماء عندهم من الناحية العلمية ابن عباس أرجح.(35/10)
من سئل عن فتوى فينبغي أن يصمت عنها ويدفعها إلى من هو أعلم منه بها، هذا من سئل عن فتوى عليه أن يصمت عنها ويدفعها -كما قال أهل العلم- إلى من هو أعلم منه بها، هذا إذا وجد من يكفيه أمرها، أما إذا تعين عليه الجواب؛ لأن هذه الأعمال العامة التي تتعلق بعموم الأمة، هي فروض كفايات، فروض كفايات، الفتوى لا بد من نصب المفتين، القضاء لا بد من تعيين القضاة ونصبهم لحل المنازعات، التعليم لا بد منه، الولاية الخاصة والعامة لا بد منها، هذه فروض كفايات، لا بد من القيام بها، فالإقدام من غير تأهل ومن غير حاجة، هذا لا شك أنه خطر ومزلة قدم، والإحجام حينما يتعين عليه الأمر أيضاً مسئولية عظيمة أمام الله -جل وعلا-، ونجد في وقتنا هنا، في وقتنا الحاضر نجد طرفي النقيض، نجد طرفي النقيض، تجد الأهل الكفء إذا سئل: أروح اسأل، ما أدري، اذهب اسأل، اسأل غيري، لكن يا أخي ما الذي يخلصك أمام الله -جل وعلا- حينما جاءك هذا الشخص وعندك من العلم ما عندك؟ نعم إذا كنت لا تتبين المسألة على وجهها، فلك أن تقول: اذهب، إذا لم يتعين عليك، ويسهل على السائل أن ينتقل إلى شخص يجيبه عن سؤاله، لك ذلك، لكن إذا تعين عليك البلد ما فيه إلا أنت، تقول: اذهب اسأل غيري؟ هذا الكلام ليس بصحيح، ولا يعني هذا أنك تجيب عن كل ما تسأل عنه، هناك أسئلة فورية تحتاج إلى جواب فوري.(35/11)
ويتصل من يتصل بعد هزيع من الليل، يعني افترض الساعة الثالثة من الليل، قبيل الفجر، وإذا قيل له: ما الذي دعاك إلى الاتصال في هذا الوقت، هذا يا أخي إحراج؟ قال: المسألة عاجلة، وتحتاج إلى جواب عاجل، حصل منه طلاق لامرأته وهي في الطلق، إيش يعني هذا؟ يعني أنها قد تلد بعد ربع ساعة، أو نصف ساعة، وتخرج من العدة، فلا يكون له عليها سلطان، مثل هذا لا بد من إجابته في وقته، لئلا يفوت الأمر عليه، والتقصير حاصل نسأل الله العفو والعافية، نسأل الله المسامحة، التقصير حاصل، يعني يتصل على كثير من المشايخ في أوقات سعة، وليست في أوقات ضيق، فلا يجيب، نعم الأمور كثرت والتبعات كثيرة، والمتطلبات، وشئون الحياة، وأمور الأسر الآن صعبت، تأزمت، يعني على الإنسان أن يراعي من يسأل، لكن مع ذلك على المسئول أن يجيب إذا كان عنده علم.
يقول: فمن سئل عن فتوى فينبغي أن يصمت عنها ويدفعها إلى من هو أعلم منه بها، أو من كلف الفتوى بها وذلك طريقة السلف، من كلف الفتوى بها، هل لمن عين من قبل الإمام وأخذ أجر على الفتوى أن يقول: اذهب إلى فلان، أو اذهب إلى من هو أعلم مني؟ ليس له ذلك، لماذا؟ لأنه يأخذ على ذلك أجراً من بيت المال، فعليه أن يجيب، لا يلزم أن يجيب بما يعرف وما لا يعرف، لا، يلزمه أن يجيب بما يعرف، أما ما لا يعرفه لا يجوز له أن يجيبه، بل يدفعه إلى من هو أعلم منه.
وذلك طريقة السلف، يقول الماوردي: "فليس لمن تكلف ما لا يحسن، فليس لمن تكلف ما لا يحسن غاية ينتهي إليها، ولا له حد يقف عنده، ومن كان تكلفه غير محدود فأخلق به أن يضل ويضل".(35/12)
هذا الطالب العلم المبتدئ الذي نصب نفسه يفتي الناس، هذا ليس له حد محدود، وليست له غاية، يعني هل يقول: أنا لا أفتي إلا في باب من الأبواب، أو لا أفتي إلا فيما أحسن؟ يعني إذا كنت لا تفتي إلا فيما تحسن فسوف تقول، هذا إذا صدقت مع ربك ومع نفسك فسوف تقول عن تسعة وتسعين بالمائة من المسائل لا أدري، وحينئذ في عرف الناس تحترق، خلاص كيف يتجه الناس إلى من يقول في تسعة وتسعين بالمائة من المسائل لا أدري؟، وقد تمر عليه بعض المسائل ويستحضر الأقوال ولا يوفق للجواب عنها، في هذا الواحد بالمائة هذا، ليس هناك حد يقف عنده، ويفاجئ بما ليس في حسبانه، يقول: أنا الآن أتقنت، أتقنت باب الصلاة، أو الزكاة، أو باب من أبواب الدين، ثم ينصب نفسه للفتوى ثم أول ما يسأل عنه مسألة طلاق، أو مسألة أيمان ونذور، أو في مسائل من أبواب الدين الأخرى، وقد لا يسأل ولا عن سؤال واحد مما يحسن؛ لأن العلم بحر محيط لا يمكن إدراكه، فإذا كان لا هناك غاية ينتهي إليها، ولا حد يقف عنده، فمثل هذا عليه أن يحجم، فإن أقدم فسوف يضل بنفسه ويُضل غيره.
وقال بعض الحكماء: "من العلم ألا تتكلم فيما لا تعلم، بكلام من يعلم، فحسبك خجلاً من نفسك وعقلك أن تنطق بما لا تفهم" لأننا نسمع من يسأل ومر بنا وبغيرنا، فيجيب بكلام يعرض السائل وغير السائل من السامعين، أن هذا المسئول على يدري ماذا سيقول، من البداية تعرف لأنه ما يدري إيش يقول هو، هذا واضح، وبعض الناس يأتي بكلام ينقض بعضه بعضاً، لا خطام له ولا زمام، والإشكال أنه يسأل ويسجل كلامه ثم يفرغ، ثم يأتي بكلام لو قيل له أو وضع مسابقة على كلام لا يفهم، لا يمكن يأخذ رقم واحد، كلام مرتبط يمسح بعضه بعضاً، ويشوش بعضه على بعض، ويأتي بالكلمة بالجملة، ويأتي بنقيضها، يا إخوان هذا موجود، موجود مع تساهل الناس في هذا الباب الخطير، يعني قد يكون السماع أسهل من القراءة، أن يمشي لأن الذهن قد لا يكون حاضراً في كل ما يُسمع، يفوت بعض الشيء، لكن إذا فرغ على ورقة ونشر في وسائل الإعلام المقروءة افتضح.(35/13)
يقول بعض الحكماء: "من العلم ألا تتكلم فيما لا تعلم، بكلام من يعلم، فحسبك خجلاً من نفسك وعقلك أن تنطق بما لا تفهم، وإذا لم يكن إلى الإحاطة بالعلم من سبيل، فلا عار أن تجهل بعضه، فلا عار أن تجهل بعضه، وإذا لم يكن في جهل بعضه عار فلا تستحيي أن تقول: لا أعلم، فيما لا تعلم".
يعني والملاحظ على مر العصور من صدر الأمة إلى يومنا هذا أن الذي يقول: لا أعلم، ويكثر منها هم أهل العلم على الحقيقة، هم الأئمة هم الراسخون في العلم، والذي لا يقول لا أعلم، ولا تكثر على لسانه، تجدهم هؤلاء الصغار المبتدئون، على حد زعمهم أن هذا الكبير انتهى من بناء الشخصية، وأذعن الناس واعترفوا به، عالم ولو قال: لا أعلم، لكن هذا الصغير الذي ما استتمت شخصيته، إذا قال لا أعلم، فهو يظن هذا عيب عليه، ولا شك أن هذا من جهله المركب، قال ابن أبي ليلى: "أدركت مائة وعشرين صحابياً، وكانت المسألة تعرض على أحدهم فيردها إلى الآخر حتى ترجع إلى الأول، حتى ترجع إلى الأول".
يقول الغزالي: "فانظر كيف انعكس الحال فصار المرهوب منه مطلوباً، والمطلوب مرهوباً، المطلوب لا أدري، مرهوب، يخشاه الإنسان، والمرهوب وهو الجرأة على الفتوى من غير أهلها هو المطلوب، وتجد في مجالس الكبار يحضر طلاب علم، يحضر طلاب علم في مجالس كبار أئمة فإذا سئل هذا الكبير بادر الصغير بالجواب، ألا يوجد مثل هذا؟! يوجد وبكثرة، أما في قاعات الدراسة ومسابقات الأساتذة حدث ولا حرج، لكن أيضاً في مجالس الأئمة في مجالس العلماء الذي يستحي الإنسان من تحديد النظر في وجوههم، فضلاً عن مسابقتهم، والتقدم بين أيديهم بكلام قد لا يكون صواباً.
يقول ابن القيم -رحمه الله- تعالى: "وكان السلف من الصحابة والتابعين يكرهون التسرع في الفتوى، ويود كل واحد منهم أن يكفيه إياها غيره، كان السلف من الصحابة والتابعين يكرهون التسرع في الفتوى، ويود كل واحد منهم أن يكفيه إياها غيره، فإذا رأى أنها قد تعينت عليه، ما في غيره، بذل اجتهاده في معرفة حكمها من الكتاب والسنة، أو قول الخلفاء الراشدين ثم أفتى".(35/14)
ما يستعجل إذا تعينت عليه، يزيد في التأمل لماذا؟ لأنه يبحث عن خلاص نفسه، وألزم ما على الإنسان أن يسعى في خلاصه قبل خلاص السائل، قبل خلاص السائل، أنت مطالب أولاً بنجاة نفسك، ثم بعد ذلك إذا كان هناك فضل، فاطلب نجاة غيرك.
يقول عبد الله بن المبارك: حدثنا سفيان عن عطاء بن السائب عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى قال: "أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أُراه قال في المسجد، فما كان منهم محدث إلا ود أن أخاه كفاه الحديث، إلا ود أن أخاه كفاه الحديث، " هذا من حفاظ الحديث، لماذا يود أن يكفيه أخوه الحديث؟ خشية أن يزل لسانه فيأتي بالحديث على غير وجهه، "ولا مفت إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا".
وجاء رجل من أهل البادية طلق امرأته ثلاثاً إلى عبد الله بن الزبير وعاصم بن عمر فقال: ما تريان؟ قال ابن الزبير: "إن هذا الأمر ليس لنا فيه قول، جاء رجل من أهل البادية طلق امرأته ثلاثاً إلى عبد الله بن الزبير وعاصم بن عمر فقال: ما تريان؟ فقال ابن الزبير: "إن هذا الأمر ليس لنا فيه قول، فاذهب إلى عبد الله بن عباس وأبي هريرة فإني تركتهما عند عائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم ائتنا فأخبرنا، يعني لا يكفي أن تذهب إلى ابن عباس وأبي هريرة وتسمع الفتوى وتذهب إلى امرأتك، إما لفراقها أو لإعادتها، على حسب الفتوى، لا يكفي هذا، ارجع إلينا فأخبرنا بما قال لك، ثم ائتنا فأخبرنا، فذهب السائل فسأل فسألهما، فقال ابن عباس لأبي هريرة: أفته، أفته يا أبا هريرة فقد جاءتك معضلة، وهذه المسألة عند كثير من طلاب العلم أسهل من شرب الماء، أسهل من، مثل النفس عندهم، يفتي فيها كما يتنفس، ما في مشكلة، طلاق طلق امرأته ثلاثاً، ألا تدري ما الذي يترتب على فتواك؟ إما أن تجعله يجامعها في حرام؛ لأنها بانت منه بالحقيقة وأنت قلت ما وقع الطلاق، أو العكس، تفرق بين رجل وامرأته وتشرد أولاده من أجل جهلك، المسألة خطيرة يا الإخوان، ليست بالسهلة ولا بهينة، أفته يا أبا هريرة، قد جاءتك معضلة، المسألة من عضل المسائل، طلاق الثلاث ليس بالسهل.
وقال ابن عباس: "كل من أفتى الناس في كل ما يسألونه عنه لمجنون". إنه لمجنون، وعن ابن مسعود مثله.(35/15)
يقول عبد الرحمن بن مهدي: "سأل رجل، يقول عبد الرحمن بن مهدي: "سأل رجل من أهل المغرب مالك بن أنس عن مسألة فقال: لا أدري، فقال: يا أبا عبد الله تقول لا أدري؟ قال: نعم، قال: نعم، مالك نجم السنن يقول: لا أدري؟ قال: نعم، فأبلغ من وراءك أن مالك لا أدري".
ثم ماذا؟
والعلماء ينقلون عن مالك ويتداولون في كتبهم، أنه سئل عن أربعين مسألة فأجاب عن ست وثلاثين مسألة بقوله: لا أدري، وأجاب السائل عن أربع.
الذي يجيب هذه النسبة عشر ما يسأل عنه هل يصنف عالم، وإلا طالب علم، وإلا لا علم له، عنده، بماذا ينصف؟ هل هذا فقيه؟ يعني لو إنسان يسأل طول عمره ما يجيب إلا بالعشر، هل يصنف عالم وإلا ما يصنف؟ هل يقال: هذا فقيه وإلا ليس بفقيه؟ إي نعم في عرف أهل العلم أن مثل هذا ليس من أهل العلم.
لكن عند أهل العلم أن الفقه كما يكون بالفعل يكون بالقوة القريبة إلى الفعل، إيش معنى القوة القريبة من الفعل؟
مالك الآن ليست عنده مراجع، سئل عن هذه المسائل وأجاب عن أربع هذه يتبينها مثل الشمس، والبقية يشك فيها، فهل يلزم أن يجيب فيها؟ لا يلزم، لكن مالكاً إذا رجع إلى كتبه وأصوله، يستطيع أن يحرر هذه المسائل أو لا يستطيع؟ يستطيع، فمالك فقيه؛ لأن الفقه عندهم إما أن يكون بالفعل بأن يسأل عن المسائل فيجيب عن الأسئلة بأدلتها، وإما أن يكون بالقوة القريبة من الفعل بأن تكون لديه الأهلية لبحث المسائل العلمية والترجيح والتعامل مع النصوص على مقتضى الجادة المعروفة عند أهل العلم، هذا فقيه بالقوة، لكن من سئل عن مسألة في الطهارة مثلاً، فأخذ كتاباً من كتب الفقه المرتبة على الطريقة المعروفة عند أهل العلم، ثم أخذ يقلب الصفحات الأخيرة، هذا فقيه بالفعل أو بالقوة؟ لا هذا، ولا هذا، كما لو سئل عن مسائل في الإقرار فذهب يبحث عنها في أوائل الكتب المرتبة.(35/16)
لكن بعض الناس بالفعل فقيه، تسأله عن مسألة فيذهب إلى الكتاب فيفتح الكتاب يقع على المسألة، قد يقع على المسألة وقد يقدم ورقة ويؤخر ورقة، هذا الفقيه بالقوة القريبة من الفعل، يستطيع الوصول إلى المسائل في كتب أهل العلم، ويستطيع أن يتعامل مع كلام أهل العلم بالطريقة المسلوكة عنده، لكن من تخرج على المذكرات هل يستطيع أن يتعامل في كتب أهل العلم، ويفهم كلام أهل العلم؟ لا يستطيع، كلام أهل العلم عندهم أصول، وعندهم قواعد، وعندهم اصطلاحات لا يفهمها إلا من عانى كلامهم، ولذا المطلوب من طلاب العلم ألا يقرءوا ولا يعتمدوا على كتب المعاصرين، يكون معولهم على الكتب التي ألفت لطبقات المتعلمين من أهل العلم، وهي التي يربى عليها طالب علم، أما أن يقرأ في مذكرات، وفي كتب معاصرين صيغت للمعاصرين يفهمها كل أحد، هذه ما تربي طالب علم؛ لأنه قد يحتاج إلى مسألة في كتاب من كتب المتقدمين، فلا يستطيع فهمها.
يقول عبد الله بن الإمام أحمد: كثيراً ما يسأل الإمام أحمد عن المسائل فيقول: لا أدري، ويقف إذا كانت مسألة فيها اختلاف وكثيراً ما يقول: سل غيري فإن قيل له: من نسأل؟ قال: سلوا العلماء، ولا يكاد يسمي رجلاً بعينه، لا يكاد يسمي رجلاً بعينه، قال: وسمعت أبي يقول: "كان ابن عيينة لا يفتي في الطلاق، ويقول: من يحسن هذا".
مع أنه من أهل الفتوى المعروفين ابن عيينة.
وكان أحمد -رحمه الله- تعالى شديد الكراهية والمنع للإفتاء بمسألة ليس فيها أثر عن السلف، يعني مسألة جديدة، نازلة، الإمام أحمد يكره كراهية شديدة أن يفتي بهذه المسألة التي لم يسبق إليها، كما قال الإمام أحمد لبعض أصحابه: "إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام".(35/17)
وقال بعضهم: إن استطعت ألا تحك رأسك إلا بنص فافعل، يعني لا بد أن يكون لك قدوة في عملك، وفي قولك، وكان -رحمه الله- يسوغ استفتاء فقهاء الحديث، وأصحاب مالك ويدل عليهم، ويمنع من استفتاء من يعرض عن الحديث ولا يبني مذهبه عليه، ولا يسوغ العمل بفتواه؛ لأن عناية الإمام أحمد بالوحيين ظاهرة، حتى أن من أهل العلم من لا يعده فقيهاً، وإنما يعده من أهل الحديث، وابن عبد البر لما ترجم للأمة الفقهاء ترجم للثلاثة وتركه، لكن مثل هذا لا يضيره، ففقه معروف، ومتداول وأصحابه فيهم كثرة، وحملت علمه الذي بقي إلى يومنا هذا قامت بهم مئونة حمل هذا العلم العظيم، عن هذا الإمام المقتدي المؤتسي، المتثبت إمام أهل السنة الإمام أحمد.
قال أبو داود في مسائله: "ما أحصي ما سمعت أحمد سئل عن كثير مما فيه الاختلاف في العلم فيقول: لا أدري، قال: وسمعته يقول: ما رأيت مثل ابن عيينة في الفتوى، أي ما رأيت أحسن منه، وكان أهون عليه أن يقول: لا أدري" يقول: لا أدري.
وقال سحنون بن سعيد: "أجسر الناس على الفتيا أقلهم علماً، يكون عند الرجل الباب الواحد من العلم يظن أن الحق كله فيه".
ويقول ابن القيم: "الجرأة على الفتيا تكون من قلة العلم، ومن غزارته وسعته، "الجرأة على الفتيا تكون من قلة العلم، ومن غزارته وسعته".
فقليل العلم -مثل ما ذكرنا سابقاً- يريد أن يبني شخصيته، ولو كان على حساب دينه وشغل ذمته، والعالم المتبحر عنده ما يجيب به في كثير من المسائل أو كبار المسائل.
يقول: "فإذا قل علمه أفتى عن كل ما يسأل عنه بغير علم، وإذا اتسع علمه اتسعت فتياه ولهذا كان ابن عباس من أوسع الصحابة فتيا وقد بلغ ما جمع من فتواه في عشرين سفراً" عشرين مجلد.(35/18)
كان الناس ينظرون إلى مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ويقولون: كيف جمع هذا العلم، وجمع هذه، وأجاب عن جميع هذه المسائل في هذا العمر؟ شيخ الإسلام لم يعمر، من واحد وستين إلى ثمان وعشرين، أربعين وسبعة وعشرين سبعة وستين سنة، ما شاء الله، سبع وثلاثين مجلد فتاوى إذا نظرت إلى فتاوى النووي إذا هي في جزء صغير، وإذا قارنا هذا بفتاوى من يتصدى للإفتاء في وقتنا تجد البون كبير، يعني لو أن إنسان يجيب في كل يوم عن خمس مسائل مثلاً في عصرنا هذا في السنة يحتاج إلى كم؟ ألف وسبعمائة مسألة، وفي عشر سنوات يجيب عن سبعة عشر ألف مسألة، وفي العشرين وهكذا إلى أن تبلغ المئات من المجلدات، وهذا الحاصل، يعني لو جمعنا فتاوى شيوخنا مثلاً، يعني ما جمع معنا مثلاً الشيخ ابن باز، يقرب من فتاوى شيخ الإسلام، وبقي الشيء الكثير، ولو جمعت فتاواه في الطلاق لبلغت حجم مجموع فتاوى شيخ الإسلام كله، والحاجة داعية، والناس كثرت عندهم الإشكالات، كثر عندهم ما يحتاج إلى سؤال أهل العلم من مشاكل سواءً كانت في الدين، أو في أمور الدنيا، أو في التعامل والأمور الاجتماعية، هذه كثيرة جداً، تحتاج إلى من يحلها بالطريقة الشرعية.
وكان سعيد بن المسيب أيضاً واسع الفتيا وكانوا يسمونه الجريء، كانوا يسمونه جريء، يعني تحس إن بعض الناس جرأة، جرأة لكن إن كانت الجرأة مبنية على أصول شرعية فنعمت الجرأة، وإن كانت غير مبنية على الأصول الشرعية فيا ويلهم، يعني أحياناً تقرأ فتوى لشيخ الإسلام بذيولها واستطراداتها تجد عنده قوة في الكلام، وقد تقول: هذا الكلام فيه جرأة، لكنها جرأة سببها الإحاطة بنصوص الشرع وقواعده وأصوله، ومع ذلك سئل عنه محمد رشيد رضا، يعني نظير ابن عباس مع من تقدمه من الصحابة، شيخ الإسلام مع من تقدمه من الأئمة، رشيد رضا سئل عن شيخ الإسلام هل هو أعلم من الأئمة الأربعة، أو هم أعلم منه؟ فقال: "من وجه باعتبار أن شيخ الإسلام -رحمه الله- تعالى تخرج على كتب الأئمة، وكتب أصحابهم فلهم الفضل عليه، وباعتبار إحاطته بما كتبه هؤلاء الأئمة فهو أوسع منهم علماً".(35/19)
ابن عباس جمع، جمع الله له علم كبار الصحابة كلهم، وتأخرت حياته حتى احتيج إليه، احتيج إليه، احتيج إلى علمه، فكثرت فتاواه، ولذلك تجدون الشيخ إذا عُمّر وهو على الجادة، وعلى هدي شرعي تجده يكون محل ثقة الناس، يعني الشيخ ابن باز -رحمه الله- عمر بعد أقرانه فاحتاج الناس إلى علمه، انقرض أقرانه قبله بعشر، سنوات عشرين سنة احتاج الناس على ما عنده، ولذلك انتشر علمه انتشار الليل والنهار، بيمنا من أقرانه من لو جمعت فتاواه في مجلد مثلاً، فالتأخر تأخر السن بعد الأقران لا شك أنه تكثر الحاجة إليه، ولذا يقولون في العبادلة الأربعة ابن عمر وابن عباس، وابن الزبير، وعبد الله بن عمرو بن العاص، قالوا: ابن مسعود ليس من العبادلة الذين انتشرت فتاواهم، لماذا؟ لأنه مات قديم، وهؤلاء تأخروا حتى احتاج الناس إلى علمهم، فالحاجة هي التي تجعل الانتشار للعلم أكثر وأوسع.
ذكر ابن وهب عن محمد بن سليمان المرادي عن أبي إسحاق قال: "كنت أرى الرجل في ذلك الزمان، وإنه ليدخل يسأل عن الشيء فيدفعه الناس من مجلس إلى مجلس، حتى يدفع إلى مجلس سعيد بن المسيب كراهية للفتيا" فيجيبه سعيد، سعيد أعلم التابعين على الإطلاق، ووارث علم أبي هريرة، صهره.
وقال سحنون: "إني لأحفظ مسائل منها ما فيه ثمانية أقوال من ثمانية أئمة من العلماء، فكيف ينبغي أن أعجل بالجواب قبل الخبر فلم ألام على حبس الجواب؟ ".
يعني إذا كانت المسألة فيها ثمانية أقوال فلماذا أستعجل أنا في إبداء رأيي قبل أن ينضج الرأي، فلم ألام على حسب الجواب؟ والمسألة أفتى فيها أئمة، ويأتي من الشباب من يقول: هم رجال ونحن رجال.
وقال ابن وهب حدثنا أشهل بن حاتم عن عبد الله بن عون عن ابن سيرين قال: قال حذيفة: "إنما يفتي الناس أحد ثلاثة: من يعلم ما نسخ من القرآن، أو أمير لا يجد بداً أو أحمق متكلف، هذا كلام حذيفة "إنما يفتي الناس أحد ثلاثة: من يعلم ما نسخ من القرآن، أو أمير لا يجد بداً، أو أحمق متكلف، قال: "فربما قال ابن سيرين: "قلت: فلست بواحد من هذين، لست الأول والثاني، ولا أحب أن أكون الثالث" يعني الأحمق المتكلف.(35/20)
يقول: من يعلم ما نسخ من القرآن، إيش معنى هذا الكلام؟ يعني ليعرف كيف يتعامل مع النصوص؛ لأن نصوص الكتاب والسنة فيها المتقدم والمتأخر، وفيها المحكم والمتشابه، وفيها المطلق والمقيد، وفيها العام والخاص، وفيها الظاهر والنص، والمؤول وفيها أنواع كثيرة جداً، كيف يتعامل، الذي يستطيع أن يتعامل مع النصوص بمعرفة هذه الأمور هو الذي يفتي الناس.
والنسخ في عرف السلف أعم من الرفع الكلي للحكم، النسخ في عرف السلف أعم من أن يكون رفعاً كلياً للحكم، كما هو المعنى الاصطلاحي العرفي عند أهل العلم، بل يشمل النسخ الكلي، ويشمل أيضاً النسخ الجزئي من التقييد والتخصيص وغيرهما.
إذا نظرنا في سير السلف الصالح، نجدهم بدءاً من الصحابة منهم المقل ومنهم المتوسط، ومنهم المكثر، منهم من لو جمعت فتاواه لبلغت عشرات المجلدات، ومنهم من تبلغ الآحاد، ومنهم من مما لو جمعت فتاواه لصارت في جزء صغير فهم متفاوتون، وكل منهم الحادي له على ما ارتضاه لنفسه النصوص، الله -جل وعلا- أخذ العهد وا لميثاق على أهل العلم أن يبينوه، أن يبينوه للناس ولا يكتموه، ولو لم يسأل، لا بد من البيان ولو لم يسأل الإنسان، لكن إذا سئل تعين؛ لأنه لا يجوز تأخير هذا البيان عن وقت الحاجة.
يقول الله -جل وعلا-: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [سورة البقرة: 159 - 160].
يقول -جل وعلا-: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة البقرة: 174].(35/21)
ويقول -جل وعلا-: {وَإِذَ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [سورة آل عمران: 187].
أبو هريرة -رضي الله عنه- يقول: "لولا آيتان في كتاب الله ما حدثت، ويقول الناس: أكثر أبو هريرة والله الموعد، ولولا آيتان من كتاب الله ما حدثت: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ} إلى آخره.
فالكتمان مغبته وخيمة، كما أن الجرأة من غير تأهل أيضاً شأنها عظيم وخطير، في حديث أبي هريرة المخرج في المسند والسنن ومستدرك الحاكم: ((من سئل عن علم فكتمه، ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار)).
يقول المناوي: أي أدخل في فيه، أي أدخل في فيه لجام من نار مكافئة له على فعله، حيث ألجم نفسه بالسكوت في محل الكلام، فالحديث خرج على مشاكلة العقوبة للذنب، يعني الجزاء من جنس العمل، وذلك لأنه -سبحانه وتعالى- أخذ الميثاق على الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه، وفيه حث على تعليم العلم؛ لأن تعلم العلم إنما هو لنشره والعمل به، ودعوة الحق إليه، والكاتم يزاول إبطال هذه الحكمة وهو بعيد عن الحكيم المتقن، ولهذا كان جزاءه أن يلجم تشبيهاً له بالحيوان الذي سخر ومنع من قصد ما يريده"؛ لأنه أشبه الحيوان، الحيوان أعجم لا يتكلم، وهذا شبيه له حينما سكت في موضع الكلام، أو في وقت يتعين عليه فيه الكلام أشبه العجماوات، والحيوان يحتاج إلى لجام، وكذلك من كتم هذا العلم يحتاج إلى أن يلجم بلجام من نار.
يقول الشيخ حافظ الحكمي في ميميته الفريدة الشهيرة:
والكتم للعلم فاحذره إن كاتمه ... في لعنة الله والأقوام كلهم
ومن عقوبته أن في المعاد له ... من الجحيم لجاماً ليس كاللُجم
وصائن العلم عمن ليس يحمله ... ماذا بكتمان بل صون فلا تلم
وإنما الكتم منع العلم طالبه ... من مستحق له فافهم ولا تهم(35/22)
وعلى هذا فعلى طالب العلم أن يرى ويعرف ويقرر مكانته في هذا العلم، يعرف واقعه وحقيقته، فإن كان ممن أخذ عليه العهد والميثاق أن يبين، فلا يجوز له حينئذ أن يحجم البتة؛ لئلا يلجم بلجام من نار، وإذا كان ممن لم يبلغ هذه المرتبة، ولم يتمكن من معرفة الأحكام الشرعية بأدلتها فلا يجوز له حينئذ أن يقدم.
ومما يشاهد أن من الأكفاء في وقتنا الحاضر من انزوى في بيت أو في مزرعة أو اقتصر على عمل رسمي، ولم يشارك في نفع الناس، ولا ولم يساهم في إخراجهم من ظلمات الجهل إلى نور العلم، ولم يساهم في حل إشكالاتهم، وإجابة سؤالاتهم، فمثل هذا هو الذي صار سبباً في جرأة بعض غير الأكفاء على أن أضلوا الناس بعد أن أضلوا بأنفسهم.(35/23)
قد يقول قائل: أنا لا أستطيع أن أقرر عن نفسي أنني وصلت إلى الحد الذي يلزمني أن أفتي ولم أتجاوز الذي لا يجوز لي أن أفتي، فالمسألة تحتاج إلى وضوح، وسئل بعض الكبار لماذا لا تتصدى لتعليم طلاب العلم؟ فقال: إن النصاب لم يكتمل، والأمة كلها تشهد له أن نصابه قد زاد، فهل يقال إن الإنسان متروك له هذا الأمر وله أن يقول: أن أعرف بنفسي ما بلغت، وكثير منهم يقول مثل هذا الكلام من باب التواضع، وهضم النفس، من باب التواضع، وهضم النفس، لكن مثل هذا التواضع لا يعفيه من الوعيد الشديد الذي جاء بصدده العهد والميثاق على أهل العلم أن يبينوا للناس ما نزل إليهم، ولو تواضع، لا يعفيه هذا التواضع، إلا إذا قام بالأمر من يكفي، أما إذا تعين عليه فلا بد أن يساهم، لا بد أن يبين، لا بد أن يجيب، وأقول مثل هذه المواقف لا شك أنها فيها شيء من الخفاء والغموض، يعني قد يكون الإنسان تأهل بالفعل، لكن لا يدري عن نفسه، وقد يكون شديد الحذر، شديد الخوف على نفسه، من بلوغه الحد الذي يلزمه أن يتصدى لتعليم الناس وإفتائهم، ورفع الجهل عنهم، وبيان ما نزل إليهم، وبعضهم قد يجرؤ ظناً منه أنه قد وصل إلى الحد، ولا شك أن مثل هذا الأمر تكفي فيه الاستفاضة، تكفي فيه الاستفاضة، بالنسبة للشخص نفسه ولغيره أيضاً، لا يستفيض بين أهل العلم أن فلاناً قد بلغ مبلغاً يتعين عليه أن يعلم، يتعين عليه أن يدعو، يتعين عليه أن يقضي، يتعين عليه أن يفتي، إذا استفاض بين أهل العلم لا سيما الموثوقين منهم، فإنه حينئذ يكون نصابه قد بلغ، وذمته تبرأ بتصديه لهذه الأعمال.
أما إذا لم يستفض أمره وخفي أمره على الناس فهذا يوكل إليه، وحينئذ يعرف عن نفسه ما يعرف، لا سيما قبل أن يعرف، ومثله بالنسبة للعامي ومن يستفتيه، العامي ليست لديه أهلية الموازنة بين أهل العلم، هناك أمور ظاهرة إذا اتصف بها العالم فهو أهل لأن يستفتى،
وليس في فتواه مفت متبع ... ما لم يضف للعلم والدين الورع(35/24)
لا بد من أن يتحلى بهذه الأوصاف الثلاثة: العلم والدين، والورع؛ لأن بعض الناس عنده علم، لكن ليس عنده ورع، إذا لاح له مطمع دنيوي أو شرف أو جاه، تخطى هذا العلم الذي يحمله، وتجاوزه، وبعضهم ليس عنده دين يحميه وبعضهم ليس عنده علم، فلا بد من توافر الأمور الثلاثة، والعامي أيضاً يكفيه في تقرير من يسأل استفاضة هذا الذي يراد سؤاله عند أهل العلم الموثوقين، إذا استفاض على ألسنة أهل العلم أن فلان أهل لأن يستفتى فيقصده الناس للاستفتاء من عامة وأشباههم، ومع هذه النصوص المحكمة في المنع والإلزام نجد في عصرنا من يجرؤ على الفتوى وهو ليس من أهل العلم أصلاً، كما أسلفنا في المقدمة، يعني يجمع في قناة من القنوات ثلة من الشباب، وثلة من الجنس الآخر من الشابات، ثم يطرح مسألة شرعية وقد يكون معه ممن يستطيع استغفال الناس واللعب بعقولهم ممن يؤيده على كلامه وطريقته واستفتائه، ثم يقول: ماذا تقولون في كذا؟ ثم بعد ذلك يحسب الأقوال، ثلاثين صوت، من يعارضهم عشرة أصوات، إذن الحكم كذا، هل هذه طريقة شرعية لتقرير المسائل العلمية؟
هؤلاء هم الذين أخبر النبي -عليه الصلاة والسلام- عنهم أنهم اتخذوا رؤوسا جهالاً، يضلون بأنفسهم، ويضلون غيرهم، ويصرح ويتبجح بأنه ليس من أهل العلم، إذا انتهى من تقرير المسائل بهذه الطريقة قال: يا الإخوان، أنا تخصصي غير شرعي، تخصصه كيمياء وإلا صيدلة، وإلا زراعة وإلا شيء آخر، لكنها وسيلة كسب، وسيلة كسب مادة، فويل لمثل هذا ويل له، يتخبط في دين الله ويقرر أحكام شرعية بهذه الطريقة، نسأل الله السلامة والعافية.(35/25)
مع هذه النصوص المحكمة في المنع والإلزام نجد في عصرنا من يجرؤ على الفتوى وهو ليس من أهل العلم أصلاً، فضلاً عن طالب غير متأهل لا سيما مع تيسر وصول أقوالهم إلى الناس بواسطة الوسائل المتعددة، مما سبب اضطراب في الفتوى، وضياع للمستفتين، وضياع للمستفتين، والمسئولية في مثل هذا تقع على أولياء الأمور، من العلماء والقادة، أن يوضع لهذا الاضطراب، وهذا اللعب، والتلاعب على الحد؛ لأن الناس اضطربوا، ونسبوا هذا الاضطراب إلى الدين، كم سمعنا على ألسنة العامة أن الدين تغير!، كنا نرى الناس يصلون كذا، وظهرت أقوال، كنا نراهم يفعلون كذا وظهر غير ما كنا نعلم، فنسبوا هذا الاضطراب إلى الدين والدين منه بريء، نعم أهل العلم بينهم خلاف، والخلاف موجود من عصر الصحابة لكن في مثل هذه الظروف التي ظهرت فيها هذه الأقوال، لا بد أن يطلع العامة على الأسباب الحقيقية للاختلاف، وأن يعرى أمثال هؤلاء الأدعياء الذين يضللون الناس وأن تبين حقائقهم، مما سبب اضطراب في الفتوى وتبلبلاً عند الناس وتشتت لعدم تمييزهم بين العالم وغيره، فكثيراً ممن يتصدى لذلك قد يكون ممن وهب بلاغة وفصاحة يؤثر بها على الناس، وقد جاء في الحديث كما تقدم: ((إن من البيان لسحراً)).
صاحب ذلك إحجام من كثير من طلاب العلم المتأهلين احتجاجاً بما جاء من نصوص المنع والوعيد، وتأسياً بسلف هذه الأمة في تدافع الفتيا وتدارئها مما فسح المجال لأدعياء العلم أن يتصدروا في القنوات والوسائل والمجالس ولا شك أن الحاجة قائمة، وقد أمر الله جل علا بسؤال أهل العلم، بسؤال أهل العلم قال -جل وعلا-: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [سورة الأنبياء: 7]، فالعامي ومن في حكمه ممن ليست لديه أهلية النظر فرضه تقليد أهل العلم، وسؤالهم بنص القرآن، فإذا أحجم الكفؤ مع اضطرار العامة إلى من يفتيهم اضطروا إلى سؤال من ليسو من أهل العلم فضلوا وأضلوا، نسأل الله السلامة والعافية.
والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
إن أجبنا على جميع هذه الأسئلة نقضنا الكلام النظري الذي قلنا.
طالب:. . . . . . . . .
هذه وإلا ذي؟(35/26)
طالب:. . . . . . . . .
أقول: إذا أجبنا على الأسئلة ما اكتفينا بالسابق.
طالب: هو تطبيق عملي يا شيخ.
والله كأنه نقل عملي، إيش رأيك.
طالب: اللي تشوفه يا شيخ.
هاه.
طالب:. . . . . . . . .
أنا أعرف بنفسي، نعود إلى كلامنا السابق، الله المستعان.
نجيب على الأسئلة الواضحة التي لا تحتاج إلى أئمة.
يقول: عملت في هيئة الحرم، وتعرضت لسؤال الناس من الحجاج والمعتمرين، وأفتيت الكثير بعد إلحاحهم على فتاوى علماءنا بقولنا: قال ابن باز، وقال؟
هذه ليست فتوى، هذا نقل للفتوى، هذا نقل للفتوى، وإذا أحلت على من تبرأ الذمة بتقليده، فأنت في حل من هذا النقل، شريطة أن تتأكد مما تنقل.
يقول: متى يكون المفتي مجتهداً؟ هل بعد حفظه للقرآن وكتب السنة، أم بعد حفظه لمتون أهل العلم، أم بعد معرفته لجميع ما يتعلق بالفتاوى في الكتاب والسنة؟
لا شك أن المفتي عقد له فصول في كتب الأصول، وضعوا له شروط، وضعوا له شروط، وعلى كل حال أوجب الواجبات على من أراد أن يتأهل لهذا المنصب أن يحفظ من نصوص الكتاب والسنة، نصوص الكتاب والسنة ما يكفيه، ثم بعد ذلك يعرف كيف يتعامل مع نصوص الكتاب والسنة بمعرفة ما قرره أهل العلم في هذا الشأن.
يقول: ما مدى صحة قاعد: لا إنكار في مسائل الخلاف، وقد شرحت في الدرس الأول، ولكن لم أستوعب ما قاله الشيخ وفقه الله، من غير نقص فيه للأهمية؟
على كل حال ما دام شرح من قبل أهل العلم لا داعي أن يكرر الشرح، لا سيما في مكان واحد؛ لأننا نقع في شيء من الاضطراب.
ما الراجح في تفسير القرآن بالرأي؟(35/27)
جاء الوعيد الشديد على من قال في كتاب الله برأيه، على من قال في القرآن برأيه، والقرآن يفسر بالقرآن وبالسنة وبأقوال الصحابة والتابعين، وبلغة العرب، ومثل ما ذكرنا سابقاً أن الدعي الذي لا علاقة له بالقرآن، ولا بما يخدم القرآن، هذا ليس له أن يتكلم في القرآن، ونسمع ونقرأ بعض المقالات في الصحف من أناس لا في العير ولا في النفير، يتكلمون في كلام الله -جل وعلا- بكلام هو أبعد ما يكون عن مراد الله -جل وعلا-؛ لأنهم ليست لهم عناية في الكتاب ولا ما يخدم الكتاب، لكن من كانت له عناية بالقرآن، صار من أهله ونظر كثيراً، وأطال، وأدام النظر في كتب أهل العلم الموثوقين، هذا له أن يدلي برأيه؛ لأنه تكونت لديه ملكة يستطيع بها أن يتعامل مع نصوص القرآن، والسنة.
يقول: هل ينبغي لطالب العلم أن ينكر المنكر، مع وجود عالم في المجلس الذي فيه المنكر، مثال: الجوالات، وأصواتها في المسجد مع وجود عالم فهل أقول وأنكر هذا؟
من باب الأدب، هو الإنكار لا بد منه سواءً كان من العالم أو من غيره، ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه)) لكن لو كان على طريقة السؤال لهذا العالم، ما رأيكم في مثل هذه النغمة، ما رأيكم في مثل هذا الصوت؟ فيجيب الشيخ إن شاء الله بما ينفع، وإن أجاب أيضاً بخلاف ما يراه هذا، هذا يراه منكر، والشيخ لا يراه منكر، فعليه أن يبين رأيه لكن مع الأدب.
يقول: في زماننا ما الأفضل: عالم أحجم عن الفتوى في ظل نطق الرويبضة، أم عالم تصدر للفتوى لنشر العلم والفهم الصحيح في الأمة؟
لا شك أن مثل هذا فرع عن العزلة والخلطة، العزلة والخلطة، هذه كما تكون لسائر الناس، تكون أيضاً للعلماء، فالعالم الذي يستطيع أن يؤثر بالناس، ولا يخشى على نفسه من التأثر بما عندهم من منكرات هذا يتعين عليه أن يخالط وأن يعلم، وأن يفتي، وأن يقضي، وإذا كان يخشى على نفسه من التأثر، فإنه حينئذ لا مانع من عزلته؛ لأن حرصه على نفسه آكد وأوجب، ذكرنا في حديث ((أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار)) أن الأصح أنه مرسل.
يقول: كثير من طلاب العلم في هذا الوقت لا يفرق بين المدارسة والفتيا؟(35/28)
لا شك أنه إذا اجتمع مجموعة من طلاب العلم، وتذاكروا العلم، وتدارسوه فيما بينهم، وطرح بعضهم سؤال وطلب الجواب من البقية، وقال بعضهم: لعله كذا، لعله كذا، بحيث لا يجزم، هذا لا إشكال فيه إن شاء الله تعالى.
هناك أيضاً الأسئلة في الامتحان، قد يدخل الإنسان الامتحان ثم يسأل بأسئلة ما مرت عليه، يجيب وإلا ما يجيب؟ نقول: هذا ليس مجال فتوى، هذا ليس بمجال فتوى، إنما هو مجال كشف ما عند الشخص، فليكشف ما عنده من علم أو جهل، لكن يتقي الله -جل وعلا- ألا يقول باطلاً، ألا يقول باطلاً، ولو صدر كلامه بلعل كان أحوط.
متى يكون الشخص من أهل العلم، ومتى من يكون له حق الفتيا؟
ذكرنا أنه لا بد من التأهل وأخذ العلم بجميع أبوابه، وجميع متطلباته، واستفاضة الخبر خبر هذا الشخص من قبل أهل العلم، فإذا اجتاز هذه الاستفاضة وصار على ألسنة أهل العلم أنه أهل للتعليم، وأهل للفتيا، كان من أهلها، وإلا فلا.
يقول: إذا كان الوقت ضيق، وسؤال طالب العلم وليس عنده تصور كان وسئل، طالب العلم وليس عنده تصور كامل للمسألة فماذا يفعل؟
عليه أن يقول: الله أعلم.
هل قول: لا أدري مع العلم بالمسألة يعد كذباً؟
نعم هو كذب بلا شك؛ لأنه مخالف للواقع، هذا كذب، لكن قد يحمل على قول لا أدري ممن يعرف الحكم، ما يجعل الإنسان يدرأ عن نفسه شراً، فمثل هذا قد يعفى عنه.
يقول: لو سئلت عن مسألة أعرفها فهل أجيب عنها؟
إن كنت تعرفها بأدلتها وذيولها وما تتطلبه من تفصيل، فتجيب عنها؛ لأنك حينئذ من أهل النظر في هذه المسألة، ولو كنت لست من أهل النظر في مسائل أخرى وأبواب أخرى تجيب عنها، لكن إذا كانت المسألة غير مكتملة في ذهنك، وتحفظ فيها قول لمن تبرأ الذمة بتقليده فانقل هذا القول لمن يسألك.
ونكتفي بهذا القدر من الأسئلة والبقية كثيرة لكن الوقت يعني تأخر على الإخوان.
والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(35/29)
أحكام الحج
الشيخ/ عبد الكريم الخضير
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فرضية الحج:
إن الحج إلى بيت الله الحرام ركن من أركان الإسلام إجماعاً، لا يختلف أهل العلم في كونه ركن، وقد الله -جل وعلا-: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [(97) سورة آل عمران] فشأن الحج عظيم، فهو أحد أركان الإسلام، وأحد دعائمه العظام، ففي الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان)) متفق عليه، من حديث ابن عمر، وتفرد مسلم -رحمه الله تعالى- بتقديم الصيام على الحج، ولذا بنا الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- ترتيب كتابه على تقديم الحج على الصيام، بناء على الرواية المتفق عليها، والأكثر من أهل العلم يقدمون الصيام على الحج، والرواية بذلك عن ابن عمر صحيحة، حتى إنه اُستدرك عليه، فرد على المستدرك، لما قال: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان" قيل له: صوم رمضان والحج، قال: وصوم رمضان والحج، قيل له: الحج وصوم رمضان، قال: لا، صوم رمضان والحج، مع أن تقديم الحج ثابت عنه في الصحيحين وغيرهما.
حكم من أنكر وجوب الحج:
وعلى كل حال من أنكر وجوبه كفر إجماعاً، ومن تركه فهو على خطر عظيم مع القدرة عليه؛ لأن الله -جل وعلا- يقول: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [(97) سورة آل عمران] ويستدل بهذا مع نصوص جاءت في التشديد والتأكيد بالنسبة لمن ترك الحج وهو قادر عليه، جعل بعض أهل العلم يقولون: بكفر من لم يحج مع الاستطاعة، وجاء عن عمر -رضي الله تعالى عنه- أنه كتب إلى الأمراء في الآفاق: "أن انظروا من كانت له جدة فلم يحجوا، فاضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين".(36/1)
وجاء مرفوعاً من حديث أبي ذر وأبي هريرة وأبي أمامة وغيرهم، عن النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((من كان ذا جدة فلم يحج فليمت إن شاء يهودياً أو إن شاء نصرانياً)) له طرق كثيرة تدل على أن له أصلاً، كما قال الحافظ ابن حجر، وإن بالغ ابن الجوزي فأورده في الموضوعات؛ لكن الجمهور على أنه ضعيف، ليس بالموضوع، وليس بالصحيح، وابن حجر يقول: كثرة طرقه تدل على أن له أصلاً.
وعلى كل حال هو ركن اتفاقاً، وتاركه على خطر عظيم، ولو لم نقل بكفره كقول الجمهور؛ لكنه مفرط، شأن الحج عظيم، وجاء في الترغيب فيه أحاديث كثيرة جداً، ثبت عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: ((من حج فلم يرفث، ولم يفسق، رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)) وجاء أيضاً: ((الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)) وهو واجب على الفور على القول المحقق عند أهل العلم، وإن قال كثير من أهل العلم أنه على التراخي؛ لكن جاءت النصوص التي تدل على أنه على الفور، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- لما فرض عليه الحج في السنة التاسعة على القول المحقق عند الإمام البخاري وابن القيم وغيرهما أنه فرض في السنة التاسعة، وحج النبي -عليه الصلاة والسلام- في السنة العاشرة، نعم قد يقول قائل: لو كان على الفور لحج في السنة التاسعة، بعث النبي -عليه الصلاة والسلام- في السنة التاسعة أبا بكر، ثم أردفه بعلي -رضي الله عنه- من أجل أن يبلغ عن النبي -عليه الصلاة والسلام- أن لا يحج بعد العام مشرك، وأن لا يطوف بالبيت عريان، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- لا يطيق هذه المناظر، ولذا أخر الحج وهو واجب على الفور من أجل ذلك.
وكثير من المسلمين الآن مع الأسف الشديد أنه بطوعه واختياره من غير أي داعٍ ينظر إلى العورات، من خلال وسائل الإعلام، لا يلزم أن تكون العورات المغلظة؛ لكن هي عورة على كل حال، المرأة بالنسبة للرجل عورة، والأمر أعظم من ذلك، ويذكر أمور يُستحى من تخيلها فضلاً عن ذكرها، يستحي الرجل السوي الذي على الفطرة من مجرد التصور فضلاً عن سماع أخبارها، أو تصورها، أو الكلام فيها، والله المستعان.(36/2)
إذا عرفنا هذا، وقلنا: أن الحج واجب على الفور، فإن من استطاع أن يحج ولم يحج آثم، يأثم إذا أخر الحج من غير عذر، ومع الأسف أنه توجد أعذار واهية تؤخر من أجلها هذه الشعيرة، أو الفريضة في العام الماضي قيل لبعضهم: لم لا تحج؟ قال: والله السنة هذه ربيع -مع الأسف الشديد أن نسمع مثل هذا الكلام بين المسلمين- وقبل ذلك قيل له: لم لا تحج؟ قال: والله تسليم البحث بعد الحج مباشرة، لا أستطيع أن أحج، ومثل هذه الأعذار، حرص الصحابة على أداء هذه الشعيرة مع النبي -عليه الصلاة والسلام- شيء لا يخطر على بال، امرأة يبدأ الطلق بها، طلق الولادة يبدأ بها من بيتها، وتخرج لتحج مع النبي -عليه الصلاة والسلام-، إجابة لندائه ونداء الله -جل وعلا-، ومع ذلكم تلد في المحرم، في الميقات بعد مسافة عشرة كيلو، بيوت المدينة يراها حديد البصر، هذا من حرصهم -رضوان الله عليهم- على إبراء الذمة من الواجب، وامتثالاً للمسارعة والمسابقة التي أمر الله بها -جل وعلا-، والإنسان لا يدري ماذا يعرض له؟ وإذا كان المستطيع الذي أنعم الله عليه بالصحة والعافية والمال ولم يحج ولم يفد إلى الله -جل وعلا- كل خمس محروم، فكيف بمن ترك الفرض المكمل المتمم لدينه؟
تعريف الحج:(36/3)
إذا عرفنا هذا، فالحج: هو قصد بيت الله الحرام لأداء النسك، والعنوان -عنوان المحاضرة- (الحج) كبير جداً ولذا لا أدري متى أبدأ؟ ولا أدري كيف أبدأ؟ ولا أدري كيف أنتهي؟ العنوان كبير جداً، فأحكام الحج ألفت فيه المجلدات، ومن أنفع ما كتب فيها كتاب المناسك من المجموع للنووي، ويقع في المجلد السابع والثامن من الكتاب، أحكام مفصلة، وتفاريع، وتصوير دقيق لكثير من الفروع بأدلتها، ومن ذلكم أيضاً المغني لابن قدامة يذكر الأحكام والخلاف والأدلة يستفاد منه، وهناك منسك كان مشهوراً بين طلاب العلم، ثم ترك لطوله، وفيه شيء من التكرار الملل لطلاب العلم اليوم هو منسك الشيخ ابن جاسر، اسمه (مفيد الأنام) في جزئين، وهناك مناسك تعتمد على الدليل، مثل منسك الشيخ ابن باز، ومنسك الشيخ الألباني، وغيرهما، والموضوع ثري، والمصادر والمراجع كثيرة جداً، والنصوص متوافرة، وكتب السنة فيها الشيء الكثير من بيانه -عليه الصلاة والسلام- بفعله وقوله لما أمر الله به -جل وعلا-.
شروط الحج وأركانه ومحظوراته وسننه:(36/4)
الحج له شروط، وله أركان، وله واجبات، وله سنن، وفيه محظورات –ممنوعات-، فمن شروطه: الإسلام فغير المسلم لا يجب عليه الحج، ولا يصح منه، وكونه يشترط في وجوبه الإسلام لا يعني أن الكافر غير مخاطب بفروع الشريعة، بل الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، ومنه الحج، وإذا كان الكافر لا يؤمر به حال كفره فما معنى خطابه بهذا الفرع أو بغيره من الفروع؟ وغير الحج لا يطالب بقضائه إذا أسلم بمعنى أنه لو أسلم وعمره سبعون سنة ما يقال له: عليك أن تصلي صلاة خمسة وخمسين سنة، أو تصوم خمسة وخمسين شهر، لا، أما بالنسبة إلى الحج -هذا إذا كان مستطيعاً وقت كفره ثم أسلم غير مستطيع لا يكلف به كغيره من العبادات- وكونه مكلف به، مطالب به، أنه يزاد في عذابه على عذاب كفره، وإلا فالإيمان شرط من تصحيح العبادات {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللهِ} [(54) سورة التوبة] فالكفر مانع من قبول الأعمال، الكافر لا يصح منه العبادة حال كفره، ولا يطالب بها إذا أسلم، وإنما تكليفه من باب زيادة عذابه، وقد قال الله -جل وعلا-: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} [(42 - 44) سورة المدثر] المقصود أنهم ذكروا فروع، فدل على أنهم مخاطبون في قول عامة أهل العلم.(36/5)
فالإسلام شرط من شروط الحج، والتكليف: الحج لا يجب على الصبي ولا على المجنون، إن حج الصبي حال صباه صح حجه؛ لكنه لا يجزئ عن حجة الإسلام، فإذا بلغ عليه أن يحج حجة أخرى، وقد رفعت امرأة صبياً للنبي -عليه الصلاة والسلام- فقالت: ألهذا حج؟ قال: ((نعم، ولك أجر)) فيصح حجه، ويلزمه ما يلزم المكلف من الإتمام، والتبعات مما يرتكبه من محظورات، اللهم إلا ما لا يستطيعه، والمجنون لا يصح منه الحج، وكذلك الرقيق حجه لو حج صحيح؛ لكنه كالصبي لا يجزئ، ولا يجب عليه؛ لأنه مشغول بخدمة سيده فلا يجب عليه الحج أثناء رقه، فلو حج أثناء الرق وهو مكلف؟ عليه حجة أخرى كالصبي، وإن قال بعض أهل العلم أنه يختلف عن الصبي باعتبار أنه تصح منه العبادات كالصلاة والصيام وغيرها، وفي المسألة حديث، لا يخلو من مقال، أن من حج وهو صبي أو رقيق فبلغ أو عتق فعليه حجة أخرى.
المقصود أن وجوب الحج من شرطه الحرية، يقولون: إذا بلغ الصبي، وعتق الرقيق، وأفاق المجنون بعرفة صح حجهم فرضاً، عندنا ركن تقدم قبل الأهلية، نعم لأن من أركان الحج الإحرام، والمراد به نية الدخول في النسك، فإذا أحرم وهو صبي وحجه نفل ما دام صبياً، ثم بلغ بعرفة، قالوا: تجزئ عن حجة الإسلام، ينقلب نفله فرضاً، والنية في الحج عندهم تختلف عن نية سائر العبادات؛ لأنه يمكن تحويلها، بخلاف من أحرم بنفل الصلاة، ثم أراد أن يقلبها فرضاً، ما تنقلب، وعند الحنابلة أنه إذا شرع في الصلاة، ثم بلغ في أثنائها فإنه تلزمه الإعادة؛ لأنه مضى جزء منها غير فرض، إنما هو نفل؛ لكن ما عرف عنه -عليه الصلاة والسلام- ولا عن أحد من صحابته أنه أمر أحداً صلى نفلاً، ثم بلغ في أثناء الصلاة، مع أن إثبات البلوغ في أثناء الصلاة يعني دونه خرط القتاد، وما يدريك أنه بلغ في هذه اللحظة، إلا إذا عرف أنه ولد في الدقيقة كذا من يوم كذا من شهر كذا من سنة كذا، ثم على تمام الخامسة عشرة يكون قد بلغ، وهذا فيه عنت، يعني ملاحظة هذه الأمور الدقيقة ليست من مقاصد الشرع، فيها مشقة، وفيها عنت، وما عرف أن أحداً أمر بإعادة الصلاة لأنه بلغ في أثنائها.(36/6)
قلنا: من الشروط: الإسلام، والتكليف الشامل للبلوغ، والعقل، والحرية، والاستطاعة، المستطيع يلزمه الحج يجب عليه الحج وغير المستطيع لا يجب عليه، لقول الله -جل وعلا-: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [(97) سورة آل عمران] وجاء تفسير الاستطاعة بالزاد والراحلة، الحديث جاء من طرق، وكلها لا تسلم من مقال، واستطاعة كل شخص بحسبه، يعني لا تلزم الراحلة لكل شخص، المكي مثلاً الذي يستطيع أن ينتقل بين المشاعر من غير مشقة، لا تلزمه الراحلة لتكون شرطاً على قدرته على الحج، بل عليه أن يحج، ولذا قالوا: القدرة بالمال والبدن، والمال من أجل النفقة، لا بد منه، ولا يحج مثل الذين يدعون التوكل، يتوكلون على الله ولا يتزودون، ثم بعد ذلك يعيشون عالة على الناس، وسئل النبي -عليه الصلاة والسلام- عن بر الحج؟ فقال: ((إطعام الطعام)) ما قال: التسول، وبعض الناس تجد عنده ما يغنيه عن الناس، ثم ينزل ضيفاً على فلان أو على فلان، أو على جهة حكومية، ويزاحم المستحقين، وقد أغناه الله -جل وعلا- عن هذا وهذا، خلاف ما يتطلبه الحج من الإنفاق، إطعام الطعام، وإفشاء السلام.
وعلى الإنسان أن يحج من ماله الحلال، فإذا لم يكن مستطيعاً ببدنه إن استطاع بماله وجب عليه أن ينيب، "إن فريضة الله بالحج أدركت أبي شيخاً كبيراً، لا يثبت على الراحلة" يعني لا يستطيع ببدنه، أفأحج عنه؟ قال: ((نعم)) وفي حديث أبي رزين قال: ((حج عن أبيك واعتمر)) فالذي لا يستطيع بنفسه يستطيع بولده، أو بماله يلزمه أن ينيب، لكن إن عوفي بعد النيابة، أناب من يحج عنه، ثم عوفي بعد ذلك، صار يستطيع أن يحج بنفسه، هل يلزمه أن يحج أو تكفي هذه الحجة التي نيب عنه فيها؟ الحنابلة يقولون: تكفي لأنه لا يجب في الإسلام إلا حجة واحدة، ولو أوجبنا عليه أن يحج بنفسه لأوجبنا عليه حجتين، وكثير من أهل العلم يقولون: لا تكفي لأنه لما عوفي عرفنا أنه غير ميئوس منه، والنيابة إنما هي في الميئوس منه.(36/7)
يزيد المرأة من الشروط المحرم: فلا تسافر المرأة بغير محرم، إذا لم تجد محرم، وهو زوجها، أو من تحرم عليه على التأبيد، فإنه لا يلزمها الحج بنفسها، والمحرم جاء في النصوص الصحيحة الصريحة بوجوبه ولزومه في جميع الأسفار الطويلة والقصيرة، وجاء النهي عن السفر بدون محرم مسيرة ليلة، ومسيرة يوم، ومسيرة ثلاث، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم بإطلاق، فدل على المدة ليست مقصودة، فبمجرد ما يوجد الوصف الذي هو السفر، والسفر والسفور والإسفار والبروز هو مجرد الخروج من البلد، الشروع في السفر، وعلى هذا إذا قلنا: أن هذا مشترط بالنسبة للحج فكيف بغيره من الأسفار؟ أسفار النزهات مع الأسف أن يوجد نساء مع سائق في البرية، في رحلة نزهة، ويلاحظ هذا، ويوجد مع الأسف الشديد كثير هذا في الطالبات والمدرسات أن تسافر مع غير محرم، وهذا داخل في النصوص، وما عند الله لا ينال بسخطه، ولا يحملنكم استعجال الرزق على أن تطلبوه بسخط الله، فإن ما عند الله لا ينال بسخطه، ويكثر السؤال عن هذا، لا سيما بالنسبة للمدرسات، يسافرن مجموعة من النساء على قول عند بعض أهل العلم أن المرأة تسافر مع مجموع النسوة مع الأمن في الطريق، ومع أمن الفتنة، ثم بعد ذلك يضطر السائق أن لا يقف في الطريق حتى يصل المقصد، المدرسة، ولو بعد طلوع الشمس، ويترتب على هذا تأخير صلاة الصبح إلى أن يخرج وقتها، ويسألون عن حكم تأخير صلاة الصبح عن وقتها، ظلمات بعضها فوق بعض، وإذا أردنا النتائج الشرعية لا بد أن نسلك المقدمات الشرعية، تسافر المرأة بدون محرم، ثم يقول السائق: أنا لا أستطيع أن أقف في الطريق علينا خطر، لا بد أن لا نقف إلا في المدرسة، أصل المقدمة التي تريد بنا الحكم عليها ليست شرعية، فالنتيجة حتماً ليست شرعية.(36/8)
المقصود على المسلم أن يتقي الله -جل وعلا- ذكراً كان أو أنثى، فإذا توافرت هذه الشروط فالحج واجب على ما تقدم، فهو ركن من أركان الإسلام، لا يجوز تأخيره، ومن قال من أهل العلم أنه على التراخي؛ لأنه عندهم فرض سنة ست، والنبي -عليه الصلاة والسلام- لم يحج إلا سنة عشر، قالوا: لا يلزم على الفور مع العزم على أدائه؛ لكن القول المحقق أنه واجب على الفور، وجاء الأمر بتعجيله، قلنا: له شروط، هذه هي الشروط، وله أركان، أركانه الإحرام، والمراد به: نية الدخول في النسك، فإذا سافر مريد الحج من بلده ووصل الميقات المحدد له شرعاً، والنبي -عليه الصلاة والسلام- حدد المواقيت، فجعل لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل اليمن يلملم، ولأهل نجد قرناً، والخلاف في ذات العرق، هل جاء تحديدها لأهل المشرق لأهل العراق ومن كان في جهتهم هل هو مرفوع أو هو من اجتهاد عمر -رضي الله تعالى عنه-؟ ورفعه يصح إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-؛ لكنه ليس في القوة بمثابة المواقيت الأخرى التي ثبتت بالحديث الصحيح.
وعلى كل حال توقيته من قبل عمر صحيح، ورفعه إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- صحيح، ولا يبعد أن يكون من موافقات عمر، يكون عمر ما عرف أو ما بلغه النص المرفوع إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- فاجتهد فحدد لهم ذات عرق، فوافق اجتهاده النص المرفوع، وليس هذا ببدع، فموافقات عمر -رضي الله تعالى عنه- كثيرة، إذا وصل إلى الميقات مريد الحج فإنه حينئذ يتجرد من المخيط، ويغتسل، ويلبس ثياب الإحرام الإزار والرداء، ثم بعد ذلك ينوي النسك الذي يريده من الأنساك الثلاثة، إما الحج فقط، أو الجمع بين الجمع والعمرة، أو العمرة فقط على أن يحج إذا حل منها ليكون متمتعاً، والأنساك عند الجمهور كلها جائزة الثلاثة؛ لكن من ساق الهدي فالقران في حقه أفضل، كما فعل النبي -عليه الصلاة والسلام- له أن يتمتع أو ليس له أن يتمتع من ساق الهدي؟ هل يلزمه أن يقرن؟ ولو قال: أريد أن أفرد؟ أنا لست معتمر؟
طالب:. . . . . . . . .(36/9)
لا سوق الهدي لك أن تسوق الهدي وأنت في الرياض، ويصل مكة ويذبح هناك، لو ساق الهدي تطوع ما في إشكال؛ لكنه يمنع من التحلل قبل أن يبلغ الهدي محله، فلا يتمتع حينئذ، إنما لو قال: أريد أن أفرد أسوق الهدي وأفرد، ما فيه ما يمنع؛ لأنه سوف يبقى على إحرامه حتى يبلغ الهدي محله، إن قرن كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- فهو أفضل؛ لكن التمتع الاصطلاحي الذي مفاده أن تفصل بين الحج والعمرة بالحل، كل الحل فهذا متعذر بالنسبة لمن ساق الهدي، ولذا تأسف النبي -عليه الصلاة والسلام- على سوق الهدي، وقال: ((لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة)) فمن ساق الهدي الأفضل في حقه القران، كما فعل النبي -عليه الصلاة والسلام-، ومن لم يسق الهدي فالأفضل في حقه التمتع؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- أمر أصحابه أن يجعلوها عمرة، أما إذا تصور أن شخصاً لا يريد أن يزيد على ما أوجب الله عليه من حج وعمرة، يقول: أنا لا أريد أن أتنفل لا بحج ولا بعمرة، إنما أريد أن أعتمر عمرة واحدة، وأن أحج حجة واحدة، فهذه الصورة هي التي نقل عليها شيخ الإسلام أن الإفراد أفضل اتفاقاً، لماذا ليأتي بالحج بسفرة مستقلة، ويأتي بالعمرة بسفرة مستقلة، هذه المسألة مفترضة في شخص يقول: لن أحج إلا مرة واحدة، ولن أعتمر إلا مرة واحدة، فكونه يسافر من بلده إلى مكة ليؤدي العمرة الواجبة عليه، ثم يسافر ليؤدي الحجة الواجبة عليه، أو العكس هذا أكمل وأفضل اتفاقاً، فيما نقله شيخ الإسلام، يعني أيهما أفضل أن يسافر للعمرة ثم يسافر للحج أو العكس، أو يسافر سفرة واحدة للحج والعمرة فيتمتع؟ السفرتين أفضل، وهذا الذي نقل عليه شيخ الإسلام اتفاقاً، أما من أراد أن يعتمر عمرة مفردة في رمضان مثلاً، أو في شوال أو في القعدة أو في محرم ثم يسأل في المحرم يقول: أفضل لي أتمتع وإلا أفرد؟ نقول: تمتع لأنك بهذا تكون اعتمرت مرتين، أما من قال: أنا لا أريد أن أزيد على ما أوجب الله علي، فكونه يأتي بالنسكين في سفرين أفضل
طالب:. . . . . . . . .(36/10)
إيه لا، لا، {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ} [(196) سورة البقرة] قال بعض الصحابة: تمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك، والمراد بذلك أن تنشئ له السفر من بلدك.
إذا وصل الميقات، ونوى الدخول بالنسك، بعد أن تجرد واغتسل وتطيب، وصلى، ثم بعد ذلك نوى، لبى بما يريد من الأنساك، إن كان مفرداً قال: لبيك حجاً، وإن كان متمتعاً قال: لبيك عمرة، وإن كان قارناً قال: لبيك حجاً وعمرة، الصلاة للإحرام عامة أهل العلم على مشروعيتها للإحرام، ويقول النووي: إنه لا يعلم خلافاً إلا ما يحكى عن الحسن البصري، أنه قال: ليس للإحرام صلاة، وجاء في الحديث الصحيح: ((صل في هذا الوادي المبارك، وقل: حجة وعمرة)) فأمر بالصلاة، ولا شك أن النبي -عليه الصلاة والسلام- أحرم بعد الصلاة؛ لكن الصلاة التي صلاها قبل إحرامه هي صلاة الظهر، صلاها ركعتين، ثم أحرم بعدها، واختلفوا في وقت إهلاله، فنية الدخول في النسك هذا الركن، والإحرام من الميقات واجب من واجبات الحج، على ما سيأتي، يعني لو تجاوز الميقات، ونوى الدخول في النسك من مكة، قلنا: هذا الركن، وتركت واجب من واجبات الحج، ما تركت ركن، ومن ترك واجب يأتي حكمه.(36/11)
إذا صلى سواء كانت فريضة وإلا نافلة في قول عامة أهل العلم نوى الدخول في النسك، وأهل بما شاء من الأنساك الثلاثة بعد الصلاة، وإذا استقلت به راحلته، وإذا علا على شرف البيداء، وجاء في الحديث الصحيح أن النبي -عليه الصلاة والسلام- أهل من عند المسجد، وجاء أيضاً أنه أهل عند الشجرة، وجاء أيضاً أنه أهل حينما استوت به راحلته، وجاء عنه أيضاً أنه أهل حينما علا على شرف البيداء، والجمع بين هذه الروايات جاء في حديث ابن عباس عند أبي داوود والحاكم، قال: أهل النبي -عليه الصلاة والسلام- من عند المسجد، فسمعه أناس يهل فنقلوا، وأهل لما استوت به دابته فسمعه أناس فنقلوا، وأهل حينما علا على شرف البيداء فسمعه من لم يسمعه قبل فنقل، وبهذا يكون الجمع بين الروايات المختلفة أنه أهل في هذه المواضع كلها، وكلٌ نقل ما سمع، وابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- يقول: "بيداءكم هذه التي تكذبون فيها على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعني أن النبي -عليه الصلاة والسلام- إنما أهل لما علا عليها، إنما أهل من عند المسجد، وعلى كل حال كلٌ نقل ما سمع، وكلها صحيحة.(36/12)
جاءت الروايات المختلفة في إهلاله -عليه الصلاة والسلام-، وبأي الأنساك أهل؟ فجاء عنه أنه أهل مفرداً، وصح عنه أنه تمتع، يقول الصحابي: تمتع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتمتعنا معه، والقول المرجح الصحيح من خلال الروايات المفصلة المفسرة أنه حج قارناً، وأنه لم يتمتع؛ لأنه ساق الهدي، ولم يفرد؛ لأنه لبى بهما جميعاً، فكيف يجاب عن رواية التمتع؟ وعن رواية الإفراد؟ من قال: حج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قارناً هذا هو الأصل، وهو الذي استقر عليه أمره -عليه الصلاة والسلام-، وهو ما فعله على الحقيقة، ومن قال: تمتع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد نظر إلى المعنى الأعم للتمتع، إن التمتع فيه الجمع بين النسكين في سفرة واحدة، هذه حقيقة التمتع، ومعناه الأعم يشمل التمتع الاصطلاحي، ويشمل القران؛ لأن من قرن بين النسكين في سفرة واحدة ترفه بترك أحد السفرين، فهو متمتع من هذه الحيثية، ومن قال: تمتع هذا مراده، لا أنه فصل بين الحج والعمرة كما يفعل المتمتع تمتعاً اصطلاحياً، على ما أمر به النبي -عليه الصلاة والسلام- صحابته، ومن قال: أنه حج مفرداً فمراده أن أعماله -وقد حج قارناً- لا تختلف عن أعمال المفرد، الآن لو حج زيد وعمرو معاً خرجوا من الرياض، ووصلوا إلى المحرم، ثم لبى زيد بالإفراد وعمرو بالقران، ثم ذهبا جميعاً -إن شاءا- إلى البيت، وطافا للقدوم، وسعيا بعده، أو مباشرة ذهبا إلى عرفة، واحد مفرد وواحد قارن، ثم بعد ذلك ينزلون مزدلفة، ثم منى، ثم يرمون، ثم يفيضون يطوفون ويسعون ولا فرق بين عملها البتة إلا في الهدي، فمن قال: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- حج مفرداً، رأى أن أعماله كأعمال المفرد، سواء بسواء، القارن لا يختلف عن المفرد إلا في الهدي، إلا عند الحنفية الذين يلزمونه بهديين، وإلا على قول الجمهور لا فرق بين عمل القارن وعمل المفرد، فكما أن القارن إذا أراد أن يطوف للقدوم وهو سنة، ثم يسعى بعده سعي الحج، ثم بعد ذلك يطلع إلى منى وعرفات، ثم مزدلفة، ثم منى، ثم ينزل لطواف الإفاضة للرمي وطواف الإفاضة وأعمال يوم العيد، والمفرد مثله سواء بسواء.(36/13)
والأنساك الثلاثة جائزة عند جمهور العلماء كلها، ويختلفون في الأفضل، ومنهم من يوجب التمتع؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- أمر به أصحابه، أمرهم به، وأكد وشدد، وتأسف على سوقه الهدي، فدل على أنه أفضل من غيره، وقد أوجبه بعضهم، ومنهم من يرى، وقد نقل عن بعض الصحابة، أن الفسخ فسخ الحج إلى العمرة خاص بهم في تلك السنة، لأنهم أحرموا بالحج فأمرهم أن يفسخوا إلى العمرة، وقالوا: لا يجوز للإنسان أن يلتزم بشيء ينوي الدخول في شيء ولا يتمه، بل ينتقل منه إلى غيره؛ لكن لما قام سراقة بن مالك بن جعشم، فقال: ألعامنا هذا أم للأبد؟ قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((بل لأبد الأبد)) فدل على أن المحرم له أن ينتقل إلى الأعلى من الأنساك دون العكس، فمن أحرم مفرداً، ثم لما وصل البيت وجد فيه فرصة أن يجعلها عمرة، ويتحلل منها ثم يحرم بالحج يوم التروية، كما أمر النبي -عليه الصلاة والسلام- أصحابه هذا أكمل، له ذلك ما لم يكن حيلة، ما لم يكن عمله حيلة، كيف يكون عمله حيلة؟ يحرم مفرد أو قارن ولم يسق الهدي، ثم لما وصل البيت قال: النبي -عليه الصلاة والسلام- أمر أصحابه أن يجعلوها عمرة نحن نريد أن نجعلها عمرة، فيلبي بالعمرة ويطوف ويسعى ويقصر ثم يلبس ثيابه، ويقول: أنا الآن حللت من الإحرام الحل كله، ما الذي يلزمني بالحج، وأنا الآن حلال، يعني لو لم يكن هذا حيلة يعني لو أن شخصاً جاء بنية التمتع من بلده، وأحرم ابتداء بالعمرة، يعني هذه تختلف عن قلب النية، أحرم بعمرة ابتداء من الميقات، وطاف وسعى وقصر، رأى الزحام الشديد، أو أتصل عليه أهله قالوا: نحن بحاجة إليك، ضرورة ملحة، لا بد أن تحضر، ثم رجع إلى بلده، ما الذي يلزمه بالحج؟ فيما يلزمه؟ حل الحل كله، الحنابلة يلزمونه بأن يحج عن هذه السنة؛ لأنه جاء بهذه النية؛ لكن هل مجرد النية الناهزة له من بيته تكفي لإلزامه بالإتمام؟ يعني خرج للحج من الرياض مثلاً وصل الطائف ورجع، قال: ما أنا بحاج، من يلزمه؟ يعني ما بعد لبى، في أحد يلزمه بالحج؟ ما في أحد يلزمه بالحج، وهذا يقول: أنا حللت الحل كله، ما الذي يلزمه بالحج؟ نقول: إن كان عمله حيلة أحرم بحج أو قارن ثم قلبها عمرة ليتنصل من الحج(36/14)
ويرجع، نقول: لا، لا يجوز؛ لأنك انتقلت من الأعلى إلى الأدنى؛ لكن تنتقل من الأدنى إلى الأعلى كما أمر النبي -عليه الصلاة والسلام- صحابته هذا صحيح.
طالب:. . . . . . . . .(36/15)
إذا لبى بأحد الأنساك، ووصل البيت فإن كان قد لبى بالعمرة يقطع التلبية بمجرد رؤية البيت؛ ويبدأ بالطواف للعمرة، وإن كان قد لبى بالحج أو قارناً فإنه يطوف للقدوم -إن شاء- وهو سنة، والذي لبى للعمرة يطوف طواف العمرة، وهو ركن، فإذا انتهى من الطواف سواء كان المتمتع أو المفرد أو القارن للقدوم، وسعى بعده سعي الحج، وأما المتمتع يطوف للعمرة ويسعى للعمرة، وهما ركنان من أركان العمرة، إذا حصل الطواف للقدوم من القارن والمفرد أو للعمرة من المتمتع وانتهى منه على الوجه الشرعي بأن وصل إلى الركن الذي فيه الحجر فقبله أو استلمه بيده، وقبل يده، أو أشار إليه، بما معه من محجن أو غيره، وكبر مع ذلك، وجعل البيت عن يساره، وجاء بالأذكار الواردة، وطاف على البيت سبع مرات، يكبر كلما حاذى الركن، وقد جاء عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه كلما حاذى الركن كبر، إن تيسر له أن يستلم الركن اليماني استلمه، وإلا فلا يشير إليه، يستلمه ويستلم الركن الذي فيه الحجر؛ لأنهما على قواعد إبراهيم، وأما الركنان الشاميان فلا يستلمان؛ لأنهما ليسا على قواعد إبراهيم، كلما حاذى الركن كبر، يفتتح طوافه بالتكبير، ويختتمه بالاستلام والتكبير، كنا نطوف مع النبي -عليه الصلاة والسلام- فنستلم الركن الفاتحة والخاتمة، النبي -عليه الصلاة والسلام- كلما حاذى الركن كبر، فدل على أنه يختم طوافه بالتكبير، ثم بعد ذلك يصلي ركعتي الطواف، خلف المقام، النبي -عليه الصلاة والسلام- لما طاف للقدوم صلى الركعتين، بعد أن قرأ قول الله -جل وعلا-: {وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [(125) سورة البقرة] وجعل المقام بينه وبين البيت، صلى ركعتين قرأ في الأولى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [(1) سورة الكافرون] والثانية: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [(1) سورة الإخلاص] وفي هذا الطواف -سواء كان للعمرة أو للقدوم- يسن الرمل والاضطباع، الرمل في الثلاثة الأشواط الأولى، والاضطباع في جميع الطواف، ويرمل من الركن إلى الركن، وسبب المشروعية قول المشركين في عمرة القضاء: يقدم محمد وأصحابه، وقد وهنتهم حمى يثرب، فأمر النبي -عليه الصلاة والسلام- صحابته بالرمل وهو الإسراع(36/16)
في المشي، مع تقارب الخطى ليري المشركين قوتهم، لا بد من إغاظة المشركين بمثل هذا، وفي عمرة القضاء مشى بين الركنين؛ لأن المشركين لا يرونه في جهة الحجر، وأما في حجة الوداع فقد استوعب الطواف بالرمل من الركن إلى الركن، وهذا هو الذي استقر عليه الأمر، ثم بعد الركعتين يرجع فيستلم الحجر، ثم بعد ذلك يخرج إلى الصفاء؛ ليسعى سعي العمرة إن كان متمتعاً، وسعي الحج إن كان مفرداً أو قارناً -إن شاء-، وإن أخره -أعني المفرد والقارن- إن أخرا السعي إلى ما بعد طواف الإفاضة لهم ذلك، وإن تركا طواف القدوم فلا شيء عليهما؛ لأنه سنة، كما تقدم، ثم بعد ذلك إذا وصل إلى الصفاء قرأ قول الله -جل وعلا- قال كما قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((نبدأ بما بدأ الله به)) أو ابدأ، وفي رواية: ((ابدأوا أمر بما بدأ الله به)) {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللهِ} [(158) سورة البقرة] ثم يستقبل البيت، ويهلل ويكبر ويدعو ثلاثاً، ثم يشرع في السعي إذا انصبت قدماه في بطن الوادي بين العلمين سعى سعياً شديداً، ثم يمشي بقية الشوط إلى أن يرقى إلى المروة، ويفعل فيها نظير ما فعل في الصفا، ومن الصفا إلى المروة شوط والرجوع من المروة إلى الصفا شوط آخر، خلافاً لمن قال: إن الذهاب والإياب شوط واحد؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- بدأ بالصفا وانتهى بالمروة، كيف ينتهي بالمروة والذهاب والإياب شوط واحد؟ لا يمكن فدل على أن الذهاب شوط، والرجوع شوط آخر، فإذا انتهى من السعي يبقى المفرد والقارن على إحرامه، ولا يقصر من شعره، وأما المتمتع يقصر من شعره، ويلبس ثيابه، ويحل الحل كله، فإذا كان يوم التروية أهل بالحج، المتمتع، وخرجوا جميعاً إلى منى، فصلوا بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكثوا حتى تطلع الشمس، ثم دفعوا إلى عرفة، ثم إن وصلوا إلى نمرة قبل الزوال، النبي -عليه الصلاة والسلام - وجد القبة قد ضربت له بنمرة، لما زالت الشمس رحلت له القصوى، فدفع إلى بطن عرنة، فخطب بها، وصلى الظهر والعصر جمع تقديم، بعد الخطبة، بأذان واحد وإقامتين، ثم دخل إلى الموقف بعرفة ووقف على ناقته. . . . . . . . . الجبل عند الصخرات، استقبل القبلة(36/17)
والناس بين يديه -عليه الصلاة والسلام- ما زال واقفاً يدعو ويذكر الله، ويجيب عما يسأل عنه، ويأتسي به الناس، ويقتدون به، إلى أن غربت الشمس، وتحقق من مغيبها -عليه الصلاة والسلام-.(36/18)
والوقوف بعرفة ركن من أركان الحج، لا يصح إلا به، وأركان الحج: الإحرام نية الدخول في النسك والوقوف بعرفة، والثالث: طواف الإفاضة، والرابع: السعي، أربعة أركان للحج، ثم يقف بعرفة يدعو ويذكر الله -جل وعلا-، ويستغل هذا الوقت العظيم المبارك، الذي ينزل فيه من الرحمات ما لا يكون في غيره، وجاء في الحديث عند ابن ماجه أن النبي -عليه الصلاة والسلام- سأل الله -جل وعلا- أن يغفر لأهل الموقف، فقال الله -جل وعلا-: "قد فعلت إلا المظالم" يعني حقوق العباد، وفي المزدلفة بعد صلاة الصبح لما وقف على المشعر ودعا لأمته بعموم المغفرة، فقال: "قد فعلت" وهذا ذكره الحافظ ابن حجر شاهداً لحديث ((من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)) ويرى أن المغفرة تعم الكبائر والصغائر، وحديث ابن ماجه فيه ضعف، وأما تكفير الحج وغيره من العبادات للصغائر فأمر مستفيض في النصوص، أولاً: اجتناب الكبائر كفيل بتكفير الصغائر، {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [(31) سورة النساء] ((الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان)) وجاء أيضاً: ((والعمرة إلى العمرة، كفارات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر))، وفي رواية: ((ما لم تؤتَ كبيرة))، ولذا المرجح عند الجمهور أن هذه الأعمال على أنها أعمال عظيمة وجليلة لا تكفر الكبائر، بل الكبائر لا بد لها من توبة، أو رحمة أرحم الراحمين، فمرتكب الكبيرة تحت المشيئة، أما تكفير الكبائر بمجرد فعل هذه الأعمال لا، لا تكفر إلا الصغائر، وليس معنى هذا أن الإنسان يعتمد على مثل هذه النصوص، أحاديث الرجاء، ويسترسل في فعل المنكرات، واقتراف الكبائر والجرائم، ثم يقول: أحج وأرجع من ذنوبي كيوم ولدتني أمي، قد يقوله بعض الناس، ولذا جاء عند البخاري في كتاب الرقاق: ((من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، دخل من أي أبواب الجنة الثمانية، ولا تغتروا)) لا نغتر بنصوص الوعد، ونترك نصوص الوعيد، بعض الناس يسمع مثل قوله -عليه الصلاة والسلام- رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه، ويقول الله -جل(36/19)
وعلا- غفور رحيم، ونحج وتحط عنا الأوزار، لكن من يضمن له أن يُوفق لترك ما اشترط للمغفرة، ((من حج فلم يرفث ولم يفسق)) من يضمن لهذا أن يوفق في ترك الرفث والفسوق، جاء في حديث ابن عباس: ((تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة)) فالشخص الذي يحفظ نفسه في أيام الرخاء، يحفظ في حال الشدة؛ لكن الشخص الذي ديدنه وعادته وعمره كله مشغول بالقيل والقال، والوقوع في أعراض الناس، واللغو والرفث والفسوق والمجون والجدال العقيم، ثم بعد ذلك يقول: الحج أربعة أيام لو الإنسان يخيط الفم بالإبرة والخيط، أربعة أيام نستطيع، والله ما يستطيع ولا ساعة؛ إن تيسر له أحداً يأتي إليه وإلا هو ذهب يدور الناس، ((تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة)) أما إذا جاءك الأخيار، أهل التحري والتثبت، تستثقل مجالسهم، وتقول: أنا أريد أن أحفظ نفسي في أيام الشدة، لا، لا يمكن، كل إنسان حريصاً على أن تغفر ذنوبه؛ لكن ما الذي يوقع الناس عشية عرفة بالغيبة، إلا أنهم طول العام على هذا، هذا ديدنهم، فلا يوفقون لحفظ الأوقات الفاضلة، من طلاب العلم مع الأسف الشديد من يهجر القرآن، ويكون نصيبه من التلاوة إن جاء قبل الإقامة بخمس دقائق فتح المصحف وإلا ما هي إلا في رمضان، ثم بعد ذلك في العشر الأواخر يعتكف في أقدس البقاع ويترك الأهل والمال، وجميع الأعمال، يذهب إلى مكة ويعتكف في العشر الأواخر أو المدينة، من أجل إيش اعتكف؟ من أجل أن يتعبد، ويفعل ما يقربه إلى الله -جل وعلا- لكنه في طول العام مفرط في حق القرآن، هاجر للقرآن، هل يوفق لقراءة القرآن؟ هذا يا إخوان رأينا من يجلس من صلاة العصر في مكان إلى أن يؤذن المغرب فيفطر ويطلع خلال ساعتين كم يقرأ من القرآن يفتح القرآن دقيقة دقيقتين، ثم يمل، ما تعود، ثم تلفت يمين وإلا يسار، يطبق المصحف، ثم يضعه بجانبه، ثم يفعل ذلك مرة ثانية، ثم يمل، يتلفت لعل الله -جل وعلا- أن ييسر له من يوسع صدره على ما قال، إن جاءوا وإلا هو ذهب يبحث عن الناس، ترى هذا الحاصل يا إخوان، إنما يوجد من طلاب العلم -ولله الحمد- من يختفي في مكان بحيث لا يرى؛ لكي يقرأ ما قرره وحدده من القرآن؛ لأن هذا ديدنه طول عمره، وفي الحديث: ((تعرف(36/20)
على الله في الرخاء يعرفك في الشدة)) تظن أنك توفق وتعان وأنت طول العام مفرط، لا، ما يمكن.
فعلى الإنسان أن يحفظ نفسه، وإذا كسب شيئاً من الأعمال عليه أن يحافظ عليها؛ لئلا يكون مفلساً كما في الحديث الصحيح: ((أتدرون من المفلس؟ )) قالوا: ((المفلس من لا درهم له ولا متاع)) وهذه حقيقة شرعية للمفلس، في باب الحجر والتفليس، المفلس ما عنده دراهم، أو تكون ديونه أكثر من أمواله، قال: ((المفلس من يأتي بأعمال)) وفي رواية: ((أمثال الجبال)) من صلاة، وصيام، وصدقة، وأمر بمعروف، وجهاد، وغيرها من الأعمال الصالحة، أمثال الجبال، ثم بعد ذلك يأتي مبذر ومبعثر لهذه الأعمال، يأتي وقد ضرب هذا، شتم هذا، أخذ من مال هذا، انتهك عرض هذا، فعل كذا، يأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، إلى آخره إلى أن تنتهي، فإن انتهى ما عليه من المظالم، وإلا أخذ من سيئاتهم، ونكتت عليه، هذا المفلس حقيقة، فالإنسان إذا كسب شيئاً من الأعمال الصالحة عليه أن يحافظ عليها.(36/21)
يقف بعرفة، وعرفنا أن الوقوف بعرفة هو الركن الثاني من أركان الحج، إلى أن تغرب الشمس، وعليه أن يستغل هذه الأوقات، ويوجد من يفرط في هذه الأوقات من ينام في الأوقات الفاضلة طول العام تجده فعلاً يغلب عليه النوم في وقت النزول عشية عرفة، الذي شغل وقته طول العام بالقيل والقال كذلك، وبعض الإخوان لا سيما في الحملات الجماعية تجدهم يشغلون هذا الوقت الذي هو أنفس الأوقات بترتيب الناس في الباصات، وأنت يا فلان، قم يا فلان، أنت رقم كذا، أنت كذا، إلى أن تغيب الشمس، هذا أيضاً حرمان، يعني الأمور يمكن أن ترتب بأقل من هذا؛ لكن منهم في ليلة مزدلفة يوقظون الناس من الساعة الحادية عشرة، باقي كم على الصبح؟ بقي ست ساعات، نعم، ويوقظونهم ويصفونهم في الباصات، والناس نيام قدامهم، ما هم ماشيين أيضاً، لكن العجلة طبع لكثير من الناس، فيحرم الحجاج بهذه الطريقة من استغلال هذه الأوقات، فعلى من تولى حملة أو تعهد للناس بالحج أن ييسر لهم أمور عبادتهم، ويمكنهم ويعينهم على ما يقربهم إلى الله -جل وعلا-، ويمكنهم من فعل السنن، فضلاً عن الواجبات والأركان، وبعضهم يتسمح ويترخص، والسنن هذه في الغالب يعني قد يقال: أنها في مثل هذه الظروف التي نعيشها، وقد لا تتيسر لكثير من الناس؛ لكن على المسلم أن يحرص عليها، إذا حرص عليها ولم يتمكن من فعلها كتبت له، الآن الواجبات بدأوا يترخصون ويتساهلون فيها، والتساهل لا نهاية له، إذا تساهلت في المستحبات يجرك هذا إلى التساهل في الواجبات، ثم بعد ذلك تتساهل بما فوقها، وقل مثل هذا في فعل المباحات، من استرسل في فعل المباحات تجره إلى المكروهات؛ لأنه يعود نفسه على أشياء لا تتيسر له في كل وقت، إلا بطريق فيه ما فيه، لا يقال: حرام، ثم بعد ذلك يتجاوز، يقول: مكروه ما فيه إثم سهل، ثم بعد ذلك إذا لم يجدها إلا في طريق فيه شبهة قوية يرتكبها ثم بعد ذلك يتجاوز إلى المحرم، ولذا عرف من عادة السلف في هذه الأمة أنهم يتركون تسعة أعشار الحلال خشية أن يقعوا في الحرام، وهذه هي الشبهات التي يتقيها الإنسان من أجل إيش؟ أن يجعل بينه وبين ما حرم الله -جل وعلا- حاجز، يجعل حاجز لئلا ينتهك ما حرم الله -جل وعلا-، وهنا(36/22)
يكون الاستبراء للدين والعرض.
إذا غابت الشمس دفع إلى مزدلفة بسكينة، النبي -عليه الصلاة والسلام- دفع بعد أن تأكد من مغيب الشمس، دفع وقد شنق للقصواء الزمام، يعني رد الحبل الذي تقاد به إليه بقوة، بحيث لا تسرع، ويشير إلى الناس بيده اليمنى السكينة السكينة، ومن نظر إلى الناس حال انصرافهم، وجد خلاف السنة، وجد الهوج والطيش والسرعة الجنونية، وأبواق السيارات والحوادث، كل هذا من شؤم مخالفة النبي -عليه الصلاة والسلام-، ثم بعد ذلك إذا وصل مزدلفة يصلي المغرب والعشاء جمعاً بأذان واحد وإقامتين، والنبي -عليه الصلاة والسلام- لما صلى نام اضطجع حتى أصبح، يعني حتى طلع الصبح، ولذا يستنبط بعضهم من هذا أنه لم يوتر في تلك الليلة؛ لكن لعلها الوتر هذا مما لم يذكره جابر للعلم به، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- لم يترك الوتر لا سفراً ولا حضراً، وخفي على جابر -رضي الله عنه- أنه رخص لبعض الناس، ولم يذكره جابر، فلعل هذا مما فاته، لما أصبح قام -عليه الصلاة والسلام- استيقظ، وصلى الصبح في أول وقتها، ثم وقف في المشعر الحرام الجبل الذي يسمونه قزح، وقف يدعو، ويذكر الله -جل وعلا- إلى أن أسفر جداً، وقبل طلوع الشمس دفع إلى منى، يجوز للضعفة أن ينصرفوا من مزدلفة إلى منى بعد منتصف الليل، فقد استأذنت سودة أن تنصرف فأذن لها، وأسماء باتت تلك الليلة ترقب القمر وتصلي، إلى أن غاب ثم دفعت، قبل طلوع الصبح، قبل صلاة الصبح.(36/23)
فالدفع من مزدلفة بعد منتصف الليل يجوزه الجمهور؛ لأنه مكث غالب الليل، وأما بالنسبة للضعفة فلا إشكال فيه، وأما المستطيع فالأفضل له الاتباع، بأن يصلي صلاة الصبح بمزدلفة، ويقف عند المشعر، ويذكر الله حتى يسفر، وقبل أن تطلع الشمس من باب مخالفة المشركين يدفع قبل أن تطلع الشمس، المشركون لا يدفعون حتى تطلع الشمس، ويقولون: "أشرق ثبير كيما نغير" ثم إذا وصل منى بادر برمي الجمرة، ولا يزال يلبي، ومنهم الملبي، ومنهم المكبر، ولا يعيب هذا على هذا، ولا هذا على هذا، فإذا بلغ الجمرة -جمرة العقبة- وهي الأخيرة بالنسبة لمنى، وهي حد بين مكة ومنى، ومنهم من يقول: أنها من مكة، ومنهم من يقول: إنها من منى، فإذا بلغها قطع التلبية، ورماها بسبع حصيات مثل حصى الخذف، يكبر مع كل حصى، حصى الخذف مثل حب الباقلاء بين الحمص والبندق، حصيات صغيرة، ورفعا النبي -عليه الصلاة والسلام- بيده الكريمة، وقال: ((بمثلها فارموا، وإياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو)) ويلاحظ من بعض الحجاج –لجهلهم- من يرمي بالأحجار الكبيرة، ومنهم من يرمي بالنعال، ومنهم من يأخذ العصا ويجلد الشاخص ويسبه ويشتمه، زاعماً أنه هو الذي فرق بينه وبين زوجته، يسمعون الشيطان الشيطان، الاتباع الاتباع، فإذا رمى جمرة العقبة بسبع حصيات، ثم نحر هديه، وحلق شعره، نحر الهدي إن كان معه هدي، أو ممن يلزمه الهدي من متمتع وقارن، وحلق شعره، حل له كل شيء إلا النساء، على خلاف فيما يحصل به التحلل الأول، هل يحصل بالرمي فقط؟ وهل يشترط أن يكون معه الحلق أو لا؟ مسألة خلافية بين أهل العلم ولكل من القولين أدلته، وهو الأحوط أن لا يحل حتى يحلق، ثم بعد ذلك يفيض إلى مكة، فيطوف طواف الإفاضة، وهو الركن الثالث، ويسعى بعده المتمتع سعي الحج، والقارن والمفرد إن لم يكونا سعيا بعد طواف القدوم، والسعي ركن من أركان الحج عند الجمهور، خلافاً للحنفية، لا يتم الحج إلا به، وبهذا تكون أركان الحج قد تمت، وحل له كل شيء حتى النساء، بعد أن أدى الأركان الأربعة، ورمى وحلق.(36/24)
أعمال يوم النحر على الترتيب الرمي، ثم النح، ثم الحلق، ثم الطواف والسعي، هذه الأعمال -أعمال ذلك اليوم- هذا الترتيب هو الأفضل؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- فعلها كذلك؛ لكنه سئل عمن رمى قبل أن يحلق، ومن حلق قبل أن يرمي، ومن نحر قبل أن يحلق، فما سئل عن شيء قدم ولا أخر في ذلك اليوم إلا قال: ((افعل ولا حرج)) فيجوز تقديم بعضها على بعض؛ لكن الأفضل ترتيبها على ما أثر عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، النبي -عليه الصلاة والسلام- لما أفاض طاف، صلى الظهر بمكة، ثم أتى زمزم، ووجد بني عبد المطلب يسقون، وحثهم على السقي، سقي الحجيج، لما فيه من عظيم الأجر، ولولا أن يغلبهم الناس على سقايتهم لنزع معهم -عليه الصلاة والسلام-؛ لأن كل مسلم يريد أن يقتدي بالنبي -عليه الصلاة والسلام-؛ لكن لما لم يفعل هان الأمر، واستقلوا به، واختصوا به، ثم بعد ذلك رجع إلى منى ثم صلى بهم الظهر ثانية -عليه الصلاة والسلام-؛ لأنه وجدهم لم يصلوا فصلى بهم، وهذا هو الجمع بين الحديثين الصحيحين، أحدهما يقول: صلى الظهر بمنى، والآخر يقول: صلى الظهر بمكة، وهو محمول على هذا أنه صلى بمكة ثم أعادها نفلاً بالنسبة له بمنى، وبات بمنى ليلة الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر، والمبيت بمنى من واجبات الحج، كما أن الرمي والحلق من واجبات الحج، الركن لا يتم الحج إلا به، لا بد من الإتيان به، والواجب عند عامة أهل العلم يجبر بدم، اعتماداً على قول ابن عباس: "من ترك نسكه فليرق دماً".(36/25)
يبيت ليالي التشريق الحادي عشر، والثاني عشر إن تعجل، والثالث عشر إن تأخر، ويرمي في الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر الجمرات الثلاث بعد زوال الشمس؛ فكانوا يتحينون الزوال، والنبي -عليه الصلاة والسلام- رمى يوم العيد ضحى، وأيام التشريق بعد الزوال، وقال: ((خذوا عني مناسككم)) فالجمهور على أنه لا يصح الرمي إلا بعد الزوال، ويذكر عن عطاء وطاووس أنه يجوز الرمي قبل الزوال في أيام التشريق كلها، وأبو حنيفة يجوزه يوم النفر للحاجة؛ لكن المرجح قول الجمهور، وهو الذي عليه الدليل يرمي الجمرات الثلاث، يرمي الصغرى بسبع حصيات، ثم يرمي الوسطى، إذا رمى الصغرى يكبر مع كل حصاة، ثم يسهل قليلاً، ثم يدعو طويلاً بعدها، ثم يرمي الوسطى كذلك، ثم يدعو بعدها طويلاً، ثم يرمي العقبة فلا يقف بعدها، في اليوم الأول والثاني إن تعجل اكتفى بهذا، على أن يخرج من منى قبل غروب الشمس، وإن تأخر رمى الثالث كذلك، والنبي -عليه الصلاة والسلام- تأخر، والله -جل وعلا- يقول: {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [(203) سورة البقرة] قوله: {لِمَنِ اتَّقَى} يعود على المتأخر أو على المتعجل؟
طالب:. . . . . . . . .
يتعقب الجملتين، الجار والمجرور تعقب جملتين، من تعجل ومن تأخر، فهل تعود إلى الجملة الأخيرة فقط أو تتعلق بالجملة الأولى فقط أو إلى الجملتين معاً؟
طالب:. . . . . . . . .(36/26)
نعم إلى الجملتين، هذا مطرد وإلا غير مطرد؟ نعم غير مطرد، يعني هناك وصف واستثناء، يتعقب جمل، هل يعود إلى الأخيرة فقط أو إلى الجميع؟ أو إلى الأخيرة والتي قبلها فقط دون الأولى؟ أو إلى أي شيء؟ هل هناك ضابط يضبط هذه الأمور؟ المثال الواضح مثلاً في القذف حد القاذف: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [(4 - 5) سورة النور] الاستثناء يعود إلى الجمل الثلاث؟ أو إلى الأخيرة فقط؟ أما كونه يرفع الحد {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} يعني لا تجلدوهم ثمانين هذا لم يقل به أحد، فلا يعود إلى الجملة الأولى، وكونه يعود إلى الجملة الأخيرة اتفاق، الخلاف في الجملة الوسطى {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} فمن تاب بعد القذف توبة نصوح بشروطها تقبل شهادته أو لا تقبل؟ هذا محل الخلاف وعندنا {لِمَنِ اتَّقَى} [(203) سورة البقرة] هل يعود إلى الجملة الأخيرة أو إلى الجملتين؟ يعني اشتراط التقوى هل الأولى به من تأخر أو من تعجل؟ أو هما معاً كلهم لا بد من التقوى؟ كلهم، نعم صحيح، كل منهم مطالب بالتقوى، وعلى هذا يكون معنى الآية: أن من تعجل في يومين وقد اتقى الله -جل وعلا- في حجه لا إثم عليه، يعني ارتفع الإثم عنه بهذا الحج الذي اتقى الله فيه، ومن تأخر فزاد ثالثاً، واتقى الله في حجه فقد ارتفع عنه الإثم، وحينئذ من خلال هذه الآية يظهر تفضيل التأخير أو التعجل؟ أو ما يظهر شيء؟ ما يظهر شيء، لأن من تعجل واتقى الله -عز وجل- ارتفع عنه الإثم، رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه، ومن تأخر واتقى الله -جل وعلا- فلا إثم عليه، ارتفع عنه الإثم على حد سواء؛ لكن تفضيل التأخير من فعله -عليه الصلاة والسلام-، وما كان الله أن يختار لنبيه إلا الأفضل، فالتأخير أفضل لأن الله -جل وعلا- اختاره لنبيه، وأما الآية فتدل على أن الإثم مرتفع عن الحاج إذا اتقى الله -جل وعلا-، سواء تعجل أو تأخر، وتكون الآية حينئذ بمعنى قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)) وبهذا يكون الحج قد ترتبت عليه آثاره من المغفرة، إذا(36/27)
ارتفع عنه إثمه فقد غفر له بهذا الشرط الذي هو التقوى، والصيام الذي يباعد الله به وجه صاحبه عن النار سبعين خريفاً هو الذي يورث التقوى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [(183) سورة البقرة] يعني ما الفائدة من حج تنتهك فيه المحرمات، ويتطلع فيه إلى الغرات، أو صيام لا يصان عن الكذب والغيبة والنميمة والبهت وأكل أموال الناس؛ والوقوع في أعراضهم، نعم، ((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)) وما الفائدة من صلاة لا تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر، فالعبادة التي تترتب عليها آثارها، وتمحى بها الذنوب هي المصاحبة للتقوى، نعم هذه الأعمال إذا أديت ولو ارتكب صاحبها محرماً لا يتعلق بأصل الحج، ولا بشرطه، العبادة صحيحة، بمعنى أنها مسقطة للطلب، لا يؤمر بإعادتها، وكذلك الصلاة، وكذلك الصيام، عبادات مسقطة مجزية، مسقطة للطلب؛ لكن هل تترتب عليها آثار؟ هي مقبولة عند الله -جل وعلا-؟ {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [(27) سورة المائدة] الشخص الذي يرجع من صلاته بعشرها مثلاً، هل يرجى بمثل هذه الصلاة أن تكفر ما بينها من الذنوب؟ العبادات المكفرة هي التي يؤتى بها على الوجه المطلوب.
شيخ الإسلام يقول: شخص يصلي بصلاة لا يرجع إلا بعشر أجرها، هذه إن كفرت نفسها بركة، يكفي أنها تكفر نفسها، والله -جل وعلا- إنما يتقبل من المتقين، والمراد بنفي القبول هنا نفي الثواب المرتب على العبادة، لا نفي الصحة، الصلاة صحيحة، فلا يؤمر بإعادتها، وقل مثل هذا في الصيام والحج وغيرها من العبادات.(36/28)
إذا انتهى فعليه أن يطوف للوداع، فهو واجب من واجبات الحج، ثبت الأمر به، بعد أن أتم الحج، وخُفف عن الحائض والنفساء، وأعفين من طواف الوداع، وهذا دليل على وجوبه، إذ لو كان سنة لما احتاجت الحائض والنفساء أن يخفف عنهم، وليس بركن؛ لأن الركن لا يعفى عنه أحد، فدل على أنه واجب من واجبات الحج، وكونه -عليه الصلاة والسلام- يأمر به في الحج ولم يأمر به في العمرة، اعتمر النبي -عليه الصلاة والسلام- عُمَر، ولم يثبت عنه أنه أمر بالوداع بعد العمرة، دل على أنه من واجبات الحج دون العمرة، وهذا قول الأكثر، وهو الظاهر.
فإذا طاف للوداع سافر، ورجع إلى أهله، بعد أن حرص على أداء الحج على الوجه الشرعي بشروطه وأركانه وواجباته وسننه؛ وحرص على أن يكون حجه مبروراً، ثم بعد ذلك تكون حاله بعد الحج أفضل من حاله قبله؛ ليكون ذلك برهاناً على بر هذا الحج، وقبوله من عند الله -جل وعلا-، بعض الناس يسعى بعد طواف القدوم، وهو مفرد أو قارن، ثم لا يبقى عليه إلا طواف الإفاضة، والسعي انتهى منه يؤخره إلى قرب مغادرته إلى أهله ويكتفي به عن طواف الوداع، وهذا صحيح؛ لأنه لا حد لآخر وقت طواف الإفاضة، وإن كان السنة أن يكون في يوم العيد؛ لكن إن أخره واكتفى به عن طواف الوداع أجزأه على أن ينوي به طواف الإفاضة، وتدخل العبادة الصغرى بالكبرى، كما هي القاعدة المقررة عند أهل العلم.(36/29)
بعض الناس يكون عليه طواف وسعي، مثل المتمتع، ويريد أن يؤخر الطواف والسعي إلى وقت مغادرته ويكتفي به عن طواف الوداع، والأصل أن يجعل آخر عهده بالبيت، والبيت المراد به الكعبة، والسعي ليس من البيت، والمقرر أن المسعى خارج المسجد، فضلاً عن البيت، البيت المراد به الكعبة، فهل يقدم السعي ويؤخر الطواف ليكون آخر عهده بالبيت؟ أو يطوف ثم يسعى ويخرج؟ أو يلزمه أن يطوف للوداع؟ الأصل أن يطوف للإفاضة، ثم يسعى للحج، ثم يوادع هذا الأصل؛ لكن إذا كان طواف الإفاضة ما حصل إلا بشق الأنفس، هل يلزم بإعادة الطواف؟ نقول: يتجاوز الله -جل وعلا- لقرب عهدك بالبيت، والنبي -عليه الصلاة والسلام- ما أمر عائشة لما طافت وسعت للعمرة، ما حفظ أنه قال: وادعتي أو ما وادعتي؟ أو نقول له كما جاء في حديث أسامة بن الشريك: "سعيت قبل أن أطوف" قال: ((افعل ولا حرج)) يقدم السعي ثم يطوف للإفاضة ويمشي، هنا الترتيب لا شك أنه أكمل، وجمع من أهل العلم يرون أن السعي لا يصح إلا بعد طواف، من شرط صحة السعي أن يقع بعد طواف، ولو مسنوناً، وعلى هذا نقول: رتب، تطوف للإفاضة وتسعى، إن كان فيه متسع تطوف للوداع وإلا فلقرب العهد الله -جل وعلا- يعفو عنك، وليحرص المسلم إذا عاد من حجه أن يبرهن على أن حجه مقبولاً مبروراً بأن تكون حاله بعد ذلك أفضل من حاله قبل.
يا إخوان عنوان المحاضرة كبير جداً، يحتاج إلى محاضرات؛ لكن لمّ الأطراف بهذه المدة اليسيرة لعله يكفي، والمناسك موجودة مطبوعة ومسجلة ومسموعة ومفصلة من قبل أهل العلم، يعني كل شيء متيسر، ولله الحمد.
طالب. . . . . . . . .
إيه هذا من قبل الصحابة، إذا فهم الصحابي، هذا الذي ذكرته أنا، أن بعض الصحابة فهم أنها لهم خاصة.
طالب. . . . . . . . .
صحيح مسلم، (لنا خاصة) هذا فهم الصحابي، أنها لهم خاصة، (بل لأبد الأبد) هذا من قوله -عليه الصلاة والسلام- وين أنت؟ هذه تحتاج إلى. . . . . . . . .
طالب. . . . . . . . .
هذه في الحج.
طالب. . . . . . . . .
هذه للحج، لو أجيب عليها تحتاج إلى مجلد؛ لكن الوقت ضيق.
يقول: صفة الدخول بالنسك متى يلبي بالعمرة؟(36/30)
يلبي بالعمرة، ثم بعد ذلك إذا حل منها الحل كله، وجاء يوم التروية يلبي بالحج.
يقول: هل يدعو بعد جمرة العقبة مثل الصغرى والوسطى في أيام التشريق؟
لا، جمرة العقبة يرميها ولا يدعو بعدها.
يقول: هل يجوز العمرة فقط في اليوم التاسع والعاشر والحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر؟
التاسع بالإمكان أن يؤدي العمرة في الضحى مثلاً، ويخرج يتحلل، يتصور التمتع في أول اليوم التاسع، ثم يقف مع الناس في آخر الوقت، متصورة العمرة؛ لكن في اليوم العاشر والحادي عشر والثاني عشر، هو متلبس بنسك، لا تصح العمرة فيه.
طالب. . . . . . . . .
بدون حج؟ نعم يعمل عمرة، العام كله وقت للعمرة، إذا لم يكن متلبساً بنسك آخر.
طالب. . . . . . . . .
غابت الشمس له إلى طلوع الفجر، يعني وقت الوقوف عند الجمهور من زوال الشمس يوم عرفة إلى طلوع الفجر ليلة النحر، حديث عروة بن مبرز ((من صلى صلاتنا هذه، وكان قد وقف قبل ذلك ساعة من ليل أو نهار)) والخلاف فيما قبل الزوال من يوم عرفة، الحنابلة يستدلون بحديث عروة على أن ما قبل الزوال وقت للوقوف، والجمهور يقولون: لا، وقت الوقوف من وقوفه -عليه الصلاة والسلام-، ولم يقف إلا بعد الزوال.
يقول: إذا لم يتمكن الإنسان من السعي أو الطواف بسبب الزحام الشديد وخاف على نفسه، ماذا يفعل؟ إذا خاف فوات وقوفه؟
وقت ماذا؟ طواف وسعي، طواف الحج وسعيه ماله وقت، يتأخر حتى يخف الزحام.
يقول: الرجاء بيان معنى الرفث والفسوق؟
الرفث: هو الكلام الفاحش، أو ما يتعلق بالنساء، لا سيما في مواجهتهن به، والأصل فيه القول الفاحش، والجماع يدخل فيه دخولاً أولياً، والفسوق: مزاولة المنكرات والمعاصي.
يقول: ما حكم من وصل إلى عرفة بعد الزوال وهو ينوي الإفراد؟
يقف مع الناس وحجه صحيح.
يقول: متى يحل من دفع قيمة الأضحية حيث لا يعلم متى تذبح؟
على كل حال ما يستحب أخذه عند الإحرام من أراد أن يضحي لا يأخذ شيء من شعر ولا ظفر؛ لكن ما يجب أخذه من أجل النسك كالحلق والتظفير يأخذه، وأما الحلق في يوم العيد يحرص أن تقدم أضحيته، لتكون قبل حلقه، وإن حلق قبل ذلك فلا بأس؛ لأن هذا واجب.(36/31)
يقول: هل يجوز أن أطلع من مزدلفة مع الضعفاء، وأنا قادر؛ ولكن بسبب الزحام؟
إذا كان لمصلحة هؤلاء الضعفة فلا بأس، لا لذاتك، لا بأس.
يقول: إذا سعيت وأنا لم أطف طواف القدوم، يعني وصل إلى مكة في اليوم السابع أو الثامن، ثم قدم السعي ولم يقع هذا السعي بعد طواف؟
لا بد أن يكون بعد طواف.
يقول: هل يوم عرفة كل دعوة مستجابة؟
الدعاء سبب، وهذا اليوم من أرجاء الأوقات لإجابة الدعاء؛ لكن هناك موانع يخشى الإنسان منها، موانع على الإنسان أن يحذر منها، ومن أعظمها المطعم والمشرب والملبس والغذاء.
يقول: هل هناك تكبير مطلق وتكبير مقيد؟ أم جميع التكبير مطلق؟
أما التكبير المطلق فقد ثبتت به النصوص، وأما المقيد فهو ثابت عن سلف هذه الأمة بأدبار الصلوات، من فجر يوم عرفة إلى عصر آخر أيام التشريق، وأما من يطلب له دليلاً مرفوعاً فقد يعوزه ذلك، وعلى كل حال كل خير في إتباع من سلف.
يقول: ما رأيكم فيمن يشرع في التكبير بعد السلام من الصلاة مباشرة دون أن يقول أذكار الصلوات؟
أذكار الصلوات مقيدة في هذا الوقت، فلا يقدم عليها غيرها، إلا ما هو أخص منها، وهو المقيد في وقته، أما قبل وقته فلا يقدم على أذكار الصلوات شيء.
يقول: ما رأيكم في تقديم السعي على طواف الإفاضة في الحج، وكذلك هل تجب الموالاة بين الطواف والسعي؟
تقديم السعي على الطواف لا سيما إذا كان في يوم العيد لأنه ما سئل عن شيء قدم ولا أخر في هذا اليوم إلا قال: ((افعل ولا حرج)) وسئل في حديث أسامة بن شريك: "سعيت قبل أن أطوف" قال: ((افعل ولا حرج)) لكن الأصل الترتيب؛ لكن إن فعل فلا بأس، الموالاة بين الطواف والسعي هذا هو الأصل، وقد اشترط جماعة من أهل العلم أن يقع السعي بعد طواف ولو مسنوناً.
يقول: كنت أطوف طواف الإفاضة، فلم أقل عند كل شوط: بسم الله والله أكبر، فهل علي شيء أم لا؟
الطواف يحصل بالمرور، أو الدوران على الكعبة من الحجر إلى الحجر سبع مرات، ولو لم ينطق بكلمة.(36/32)
يقول: ذكر لي بعض الأخوة أنه رأى هلال شهر ذي الحجة يوم الثلاثاء الماضي، أي أن الشهر السابق تسعة وعشرين يوماً، وبالتالي يختلف يوم عرفة، وأنا أريد حج هذا العام، وأنا في حيرة من أمري، بعد هذا الخبر الذي بلغ التواتر؟
كيف بلغ التواتر؟ هذا إذا كان رأى الهلال ولم يتقدم بشهادته، هذا غاش لنفسه ولغيره، فالواجب عليه أن يتقدم بشهادته، والمسئولين عن دخول الأشهر، ومراقبة الأهلة، وإثباتها إثباتاً شرعياً إذا لم يتقدم لهم أحد بالشهادة فما عليهم إلا أن يعملوا بالنصوص الشرعية، التي تقتضي إكمال الشهر، مادام ما تقدم لهم أحد يشهد بأنه رأى الهلال، وهو عدل ثقة، ما عليهم إلا أن يكملوا الشهر، إجرائهم شرعي، كون الهلال مرتفع أو كونه كبير، كل هذا لا أثر له، المعول على الشهادة، إن وجد من يشهد بأنه رأى الهلال ممن تقبل شهادته لزم دخول الهلال، وعمل بمقتضاه، إن لم يتقدم إلى الجهات التي أنيط بها هذا الأمر من يشهد، وما يدريهم عن الناس وما في أنفسهم، وكرروا الإعلان، وطلبوا مراراً، طلبوا من المسلمين، ومن من الله عليه بنعمة حدة البصر، بأن يتبرع وأن يحتسب لترائي الهلال، ومع ذلك ما جاءهم أحد، فكملوا الشهر، إجراء شرعي، يعني كونه موجود ليلة الثلاثاء، يعني كونه مخلوق وموجود في السماء، ولم يشهد به أحد، أو حال دون رؤيته غيم مثلاً إجراء الشرع أي نكمل الشهر.
طالب. . . . . . . . .
أخي الهلال كلنا رأيناه، في الليلة التي قرروا أنها واحدة، أنا ما أذكر أني رأيته ولا ليلة الاثنين، كبير ومرتفع لكن لا يكفي، لا يدخل الشهر إلا برؤية تقوم بها شهادة، وجاء ما يدل على انتفاخ الأهلة في آخر الزمان، على كل حال إذا حججت في هذا العام ووقفت على حسب ما قرر شرعاً، وقرره أهل العلم الذين تبرأ الذمة بتقليدهم، ووقف الناس في هذا اليوم فحجك صحيح، ولو وقفت في العاشر في حقيقة الأمر.
يقول الله تعالى: {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [(40) سورة الشورى] ويقول -عز وجل-: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [(25) سورة الحج] والسؤال كيف نوفق بين هاتين الآيتين، وهل معنى ذلك أن الذنب في مكة مضاعف؟(36/33)
المضاعف هي الحسنات، وأما الذنوب فهي معظمة، عذاب أليم، يعني عظيم، يعظم، ولا شك أن الذنوب تعظم بسبب الزمن أو بسبب المكان، وهنا علق العذاب الأليم بمجرد الإرادة، وهذا من خواص مكة، (من يرد) ليس من يفعل، بينما غيرها من البلدان لا يتعلق إلا بالفعل.
يقول: نرجو توضيح كيف تستر المرأة المسلمة وجهها، وكفيها عن مرأى الرجال، وهل يلزمها ذلك داخل الحرم أيضاً أثناء الطواف؟ وما هو النقاب الممنوع حالة الإحرام؟
المرأة عند عامة أهل العلم عند الجمهور، بل نقل بعضهم الاتفاق أن إحرامها في وجهها، لا يجوز لها أن تغطي وجهها إلا بحضرة الرجال الأجانب، وفي هذا حديث عائشة وأسماء أنهن يحرمن مع النبي -عليه الصلاة والسلام-، فإذا حاذاهن الرجال -يحرمن بكشف الوجه- فإذا حاذاهن الرجال سدلت إحداهن خمارها على وجهها، فلا يترك الواجب إلا لما هو أوجب منه، فلولا أن تغطية الوجه واجب لما عدل عن كشفه الواجب عند أهل العلم.
يقول: وما هو النقاب الممنوع حالة الإحرام؟
النقاب ما يبدي العين، غطاء الوجه الذي فيه فتحة للعين، ومنع المحرمة منه يدل على إباحته في غير الإحرام، وهذا أشكل على كثير من الإخوة، كيف النقاب جائز لغير المحرمة؛ لأن مفهوم لا تنتقب المحرمة أن غير المحرمة تنتقب، واستروح بعضهم إلى تضعيف هذه الرواية بناء على إشارة عند أبي داوود؛ لكن هي في الصحيح، ولا كلام فيها لأحد، والنقاب التي تنتقبه غير المحرمة هو النقاب، لا السفور، والمراد بالنقاب النقب في غطاء الوجه الذي يظهر سواد العين فقط، وما يظهر من البشرة شيئاً ولو كان يسيراً هذا ليس بنقاب، وإنما هو سفور.
يقول: ما حكم السلفة أو التدين من أجل الحج؟
إذا كان يرجو قضاء هذا الدين، ويغلب على ظنه قضاؤه لا بأس -إن شاء الله تعالى- وإلا فالأصل أنه لا يلزمه.
يقول: ما حكم ترديد الذكر: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، عند القبور وداخل المقبرة، وأيضاً باقي الأذكار، مثل أذكار الصباح والمساء وغيرها من الذكر؟ وما هو الدليل على ذلك؟(36/34)
المقبرة جاء النهي عن الصلاة فيها، سداً للذريعة، استثني من ذلك صلاة الجنازة ((لا تصلوا إلى القبور، ولا تجلسوا عليها)) ((لا تجعلوا بيوتكم قبوراً)) فالصلاة لا تصح ولا تجوز بحال في المقبرة، ولا بين القبور، ولا إلى القبور سداً للذريعة، بقية العبادات أيضاً من باب سد الذريعة؛ لئلا يقال: أن هذه الأذكار لها مزيد فضل لوجود هؤلاء المقبورين، بما فيهم من فلان الصالح، أو فلان العابد، قد يقال هذا، فتمنع هذه الأذكار، وقراءة القرآن ممنوعة في المقبرة سداً للذريعة، وأما الأذكار بعض الناس يشرع في الذكر بعد صلاة الصبح، أو بعد صلاة المغرب، ثم يكون هناك جنازة، ولذا يتبعها، ويبقى شيء من الذكر يريد أن يكمله في المقبرة، هل يمسك؟ بما في ذلك لا إله إلا الله وحده لا شريك له مائة مرة، هل يمسك أو يكمل في المقبرة؟ نقول: لو يمسك أفضل وأولى، سداً للذريعة.
يقول: أريد أن أحج قارناً، ولا أستطيع الذهاب لمكة إلا يوم عرفة ظهراً، فماذا أفعل؟
تريد قارن، عرفنا أنك لو ذهبت إلى عرفة مباشرة وأنت قارن أو مفرد لا بأس؛ لأن طواف القدوم سنة، والمبيت بمنى، والصلاة بها، والصلوات الخمس كلها سنة، كلها سنن لا يلزم من تركها شيء.
يقول: ما حكم تأخير طواف الإفاضة إلى طواف الوداع؟
لا شيء فيه؛ لأنه لا حد لآخره، وبهذا نكتفي، والأسئلة كثيرة جداً، تحتاج إلى وقت طويل.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(36/35)
تفسير آيات الحج
23 - 11 - 1427هـ
الشيخ/ عبد الكريم الخضير
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن كتاب الله -جل وعلا- هو عمدة هذه الأمة ومعولها، وهو مصدرها الأول، وكلام ربها، من قرأه فكأنما يخاطب الرحمن، وقد جاء الحث على قراءته وتدبره وترتيله ومدارسته، وقد كان النبي -عليه الصلاة والسلام- يقرأه على أصحابه على الوجه المأمور به، وكان يدارسه جبريل في كل ليلة من ليالي رمضان، وفي السنة التي قبض فيها -عليه الصلاة والسلام- عرضه عليه مرتين، هذا القرآن الذي تكفل الله بحفظه ورتب الأجور العظيمة على قراءته، والعناية به، هذا الكتاب الذي تكفل الله بحفظه من وجوه عديدة:
تكفل الله بحفظ لفظه، وتكفل الله برسمه، وتكفل الله بأحكامه، وتكفل الله ببيانه على لسان رسوله -عليه الصلاة والسلام-، ثم على ألسنة من ورثه -عليه الصلاة والسلام- من العلم النافع.
من مظاهر حفظ الله -جل وعلا- لهذا الكتاب: أن تجد العناية الفائقة لهذا الكتاب العظيم مما لا تجد نظيره في الكتب الأخرى السماوية وغير السماوية.
ولو استعرضنا الفهارس وتراجم أهل العلم لوجدنا أن الكتابات حول هذا الكتاب لا يحصرها ديوان، ولا يمكن الإحاطة به، ويكفينا أن نعرف أن ما كتب على تفسير البيضاوي من الحواشي يزيد على المائة، فقط، فكيف بما كتبه سلف هذه الأمة من التفسير الأثري الذي يذكر في تراجم أهل العلم مما لم يصل إلينا أكثره من التفاسير المطولة التي تشرح كتاب الله بمئات الألوف من الأحاديث والآثار، ثم بعد ذلك التفاسير المتنوعة المختلفة المشارب، فمن التفسير بالمأثور، إلى التفسير بالمعقول، إلى التفسير اللفظي والتحليل، إلى التفسير الذي يغلب عليه الجانب الأثري إلى التفسير الذي يغلب عليه الجانب النحوي، إلى التفسير الذي يغلب عليه الجانب البلاغي، إلى التفسير الذي يغلب عليه الجانب الفقهي والكلامي، وغير ذلك، أنواع وفنون كتبت ودونت في التفاسير الكبار والمتوسطة والصغار، خدمة لهذا الكتاب العظيم.(37/1)
التفاسير منها ما يتناول القرآن من أوله إلى آخره على ترتبيه، ومنها ما يتناول القرآن حسب موضوعاته، ويسميه أهل العلم التفسير الموضوعي، التفسير الذي يتناول القرآن بالترتيب من أوله إلى آخره، من الفاتحة إلى الناس هذا لا شك أن فيه كثرة عند أهل العلم، كثرة متكاثرة، ومتنوعة على حسب ما أشرنا آنفاً.
التفسير الموضوعي هو أيضاً مطروق؛ لكنه ليس بالمستوى الذي كتب فيه التفسير المرتب التحليلي، يسميه أهل العلم تحليلي.
التفسير الموضوعي يمشي على الموضوعات، فمثلاً آيات التوحيد، آيات الإيمان، آيات الصلاة، آيات الزكاة، آيات الصوم، آيات الحج، وهكذا، آيات الأمانة آيات التقوى، آيات الإخبات، آيات كذا، إلى آخره، يمشي على القرآن من أوله إلى آخره فيجمع الآيات التي تتحدث عن هذا الموضوع فيفسرها تفسيراً تحليلاً في بداية الأمر، يشترك فيه مع التفسير الذي يسار فيه على ترتيب القرآن، وينفرد عنه أيضاً بالتفسير الإجمالي الذي يستنبط منه وظائف هذا الموضوع في نهايته.
هذا اللون من ألوان التفسير -الذي هو التفسير الموضوعي- أقرب ما يكون إلى موضوعنا في تفسير آيات الحج.
تفسير آيات الحج لون أو فرع من فروع التفسير الموضوعي، فإذا كان المعول على القرآن مدعوماً بالسنة والآثار مما يجمع آيات موضوع واحد فإنه حينئذ يسمى تفسير موضوعي، وكُتب كثيراً: آيات الإيمان في القرآن، اليوم الآخر في القرآن، التقوى في القرآن، الصبر في آيات القرآن، الدعاء في القرآن، هذه تفاسير موضوعية، ومنها هذا الذي نتحدث فيه (تفسير آيات الحج).(37/2)
وهذا النوع من التفسير ينفع المفسر أولاً، وينفع طالب العلم القارئ نفعاً كبيراً باعتبار أنه يلم بجميع أطراف الموضوع، قد تقرأ آية في سورة الفاتحة مثلاً، أو البقرة في أولها، وتحتاج إلى ما يضم إليها من السور المتأخرة، فإذا قرأت في أوائل البقرة آية، ومما يبين معناها ويوضح معناها آية في سورة الحج مثلاً، هذا إذا كان المفسر كابن كثير -رحمه الله تعالى-، وأيضاً الشنقيطي، مما يجمع الآيات المتشابهة في موضع واحد تستفيد يا طالب العلم، لكنهم يذكرونها ذكر، ما يفسرونها ويشرحونها، ويوضحون ما جاء فيها، مثل الآية التي هي الأصل في الباب، ولا يقوم بهذا إلا التفسير الموضوعي، فالتفسير الموضوعي ينفع طالب العلم باعتبار أنه يعطيه الصورة الكاملة على الموضوع من خلال الآيات المتفرقة في كتاب الله -عز وجل-، ولو كان البدء، ولكن المناسبة لآيات الحج فالموسم قريب وقادم، فاختار الشيخ حفظه الله هذا الموضوع ليكون الحديث عنه، وإلا فالأصل أن يبدأ به على الترتيب: آيات العقائد، آيات التوحيد، آيات الإيمان، آيات التوكل، آيات الخشية، آيات الإنابة، آيات الصلاة، آيات الزكاة إلى آخره، وهكذا، ويمشي على القرآن كله بهذه الطريقة، وهي طريقة ناجعة مثلما ذكرنا أن الطالب يخرج بتصور تام عن الموضوع من خلال القرآن الكريم.
الأمانة في القرآن الكريم من يستغني عنها؟ ثم بعد ذلك يأتي بما يؤيد هذه الآيات، وبما يبين ويشرح هذه الآيات من مشكاة النبوة من كلامه -عليه الصلاة والسلام-، ابن القيم في مدارج السالكين يستوعب الآيات التي تبحث في المنازل التي تحدث عنها، فمنزلة التوبة مثلاً ذكر الآيات المتعلقة بالتوبة وذكر الأحاديث، وذكر أقوال أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، هذا موضوعي، منزلة التوبة يصلح أن يكون موضوع مستقل، يعني يستخرج من مدارج السالكين، وكذلك المنازل الأخرى، على كل حال هذا اللون وهذا النوع فائدته واضحة وجلية، وعلى طالب العلم أن يعنى به، وعلى العلماء أن ينبروا له، ويبسطوا الكلام فيه، كالتفسير المرتب.(37/3)
هناك تفسير يعني من عناية الله -جل وعلا- بكتابه أن طرق من جميع الأبواب، طرق شرح القرآن وتفسر القرآن من جميع الأبواب، حتى وصلت المسألة إلى حد الترف، فكتب في تفاسير يظن المفسر أن الناس بحاجتها، والواقع أنهم ليس بحاجتها، وأودعت بعض التفاسير ما ينبو عنه كلام الله -جل وعلا-، وفسر القرآن بالحروف المهملة، يعني تقرأ تفسير من أوله إلى آخره ما تجد ولا نقطة، يعني تفسير بالحروف المهملة؛ لكن هل مثل هذا الصنيع يخدم القرآن، ويخدم العلم، ويخدم طلاب العلم؟ هذا هو مجرد ترف.
يعني إذا قبل من الحريري في مقاماته، مقامة مثلاً بحرف الشين، بحرف السين، بحرف كذا، يقبل؛ لأنه المسألة مسألة فضول من أصلها، إلا أن الحاجة داعية إليه من حيث الإحاطة بمفردات غريب اللغة، الحاجة داعية إلى المقامات؛ لكن ليست الحاجة إليها مثل الحاجة إلى كلام الله -جل وعلا-، فالترف العلمي الموجود وصل ببعضهم إلى أن يفسر القرآن بالحروف المهملة، ولا شك أن مثل هذا لا يحتاج إليه طلاب العلم.
وأقحم بعض المفسرين في التفسير ما ليس منه، وما لا يليق بكلام الله -جلا وعلا- أن يبين به ويوضح به، وعلى كل حال هي جهود، حتى وصل الأمر ببعضهم إلى أن فسر القرآن على غير ترتيبه، فسره على ترتيب النزول، بادئاً بسورة اقرأ، قبل الفاتحة، وقبل البقرة، وقبل. . . . . . . . .، ورتبه على حسب النزول، يعني ما الفائدة من تغيير الترتيب الذي أجمع عليه الصحابة -رضوان الله عليهم-، وأودعه عثمان -رضي الله عنه- بين الدفتين، واتفقوا عليه، وصدروا عنه، إلى أن يغير الترتيب من أجل الترتيب الزمني التاريخي لنزول الآيات والسور، يعني هل نحتاج إلى مثل هذا الترتيب لنعرف الناسخ من المنسوخ؟ وهل توقف معرفة الناسخ والمنسوخ على مثل هذا الترتيب؟ العلماء يعرفون الناسخ من المنسوخ من غير هذا الترتيب، وهذه مخالفة لما أجمع عليه الصحابة، وفاعلها لا شك أنه مخطئ، ولا وجه لفعله البتة، ومع ذلك يوجد في المكتبات تفسيران على هذه الكيفية، تفسير الحديث، والتفسير البياني للقرآن، موجودة.(37/4)
المقصود أن الإخلال بترتيب القرآن الذي أجمع عليه الصحابة لا شك أنه خطأ، لمخالفته الإجماع، ولا شك أن هذا يقصد منه صاحبه أنه نوع من التجديد، وإن كان هذا هو الهدف وهو المقصد وهذه، فهذا لا شك أن هذه حقيقة مرة، لا يغير ترتيب كلام الله -جل وعلا- من أجل هذه الحقوق، وإن كان القصد من ذلك معرفة المتقدم من المتأخر ليعرف الناسخ والمنسوخ، فالناسخ والمنسوخ معروف عند أهل العلم ولا يحتاج إلى مثل هذا، وألفت فيه المؤلفات الخاصة.
تفسير آيات الحج لا شك أنها تحتاج إلى وقت طويل، وكل آية منها تحتاج إلى أكثر من درس؛ لأن هذه الآيات بالإمكان أن يؤلف فيها منسك متكامل، بأكثر من مجلد؛ لأن الآيات اشتملت على كثير من أحكام المناسك، مع ما يبنها من كلام النبي -عليه الصلاة والسلام-، فنأخذ ما نأخذه من هذه الآيات، ولو قدر أننا نستطيع إكمال آيتين فقط، فيكون إنجاز؛ لأن المسألة تحتاج إلى دروس متتابعة.
من أول هذه الآيات يعني إذا كنا نسير على تفسير هذه الآيات بالدلالة الأصلية، يعني فيها دليل واضح على منسك من مناسك الحج، وعلى مسألة من مسائل الحج، لا بالدلالة التبعية، وإلا فهذا يلزمنا أن نبدأ بالبسملة، يعني لو جرينا على الدلالة التبعية، ودلالات النصوص لا شك أنها تنقسم إلى:
أصلية: يعني مقصود الاستدلال بها لهذه المسألة.
ودلالات تبعية: ليست مقصودة لهذه المسألة بالأصالة؛ لكن يستنبط منها ما يستنبط، مما يدل على المسألة.(37/5)
فلو وسعنا الدائرة لنأخذ الدلالات التبعية ما انتهينا أبداً، نحتاج إلى تفصيل كامل، يعني لو مثلاً من قوله -عليه الصلاة والسلام- لعائشة: ((افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت)) قلنا: في الحديث دلالة على أن الحائض تقرأ القرآن، هل هذه دلالة أصلية أو تبعية؟ تبعية بلا شك؛ لأن هذه لا تخطر على السامع من أول وهلة؛ لكن بعمومها قد يستدل من يستدل بها؛ لكن هل نقول: افعلي ما يفعل الحاج، هل نستطيع أن نقول: أن الحاج ينام فيسن للحاج النوم من هذا الحديث؟ حاج يأكل، هل يسن للحاج أن يأكل استنباطاً من هذا الحديث؟ دلالات بعيدة كل البعد، ولذا كثير من أهل العلم يرى عدم الاستدلال بالدلالات التبعية، والاقتصار على الدلالات الأصلية، فمثل هذا لا نحتاجه لبعده، وإذا استعملنا الآيات بهذه الطريقة معناه ما ننتهي، ونحتاج في آيات الحج أن نستعرض القرآن كله، لكننا نقتصر على الدلالات الأصلية في هذه الآيات.
فأول الآيات المتعلقة بالحج قوله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [(125) سورة البقرة].
يعني دلالته على ما نحن فيه أن النبي -عليه الصلاة والسلام- صلى الركعتين، ركعتي الطواف خلف المقام، وتلا الآية، وإلا قد يقول قائل: جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا ما له علاقة بالحج في الدلالة الأصلية: {وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [(125) سورة البقرة] الصلاة عامة في الحج وغيره، نقول: لما تلا النبي -عليه الصلاة والسلام- هذه الآية حينما صلى ركعتي الطوف خلف المقام قلنا: دلالتها على المراد أصلية، فتلاها النبي -عليه الصلاة والسلام-، ودونت في المناسك، ودونت في كتب الستة في كتب المناسك، وترجم بها الإمام البخاري على ما يريد من ركعتي الطواف.(37/6)
يقول الطبري: {وَإِذْ جَعَلْنَا} عطف على قوله: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} [(124) سورة البقرة] وقوله: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ} [(124) سورة البقرة] معطوف على قوله: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ} [(122) سورة البقرة] واذكروا {إِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ} [(124) سورة البقرة] {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً} [(125) سورة البقرة] يعني هذه الجمل متعاطفة، كلها مصدرة بـ (اذكروا) صراحة في الموضع الأول، ومقدرة في المواضع التالية، والبيت الذي جعله الله مثابة للناس هو البيت الحرام، وأما المثابة فإن أهل العربية مختلفون في معناها، والسبب الذي من أجله أنثت، البيت يذكر، فكيف يقال: البيت مثابة؟ البيت مذكر فكيف يجعل أو يوصف بأنه مثابة؟ والتاء هذه تاء التأنيث؟
يقول الطبري: "وأما المثابة فإن أهل العربية مختلفون في معناها، والسبب الذي من أجله أنثت"، فقال بعض نحويي البصرة: ألحقت الهاء في (المثابة) لما كثر من يثوب إليه، كما يقال: (سيارة) لمن يكثر ذلك، (ونسابة) يعني تكون للمبالغة، يقول: التاء حينئذ للمبالغة، هذا كلام بعض نحويي البصرة، وقال بعض نحويي الكوفة: بل (المثاب) و (المثابة) واحد، المثاب والمثابة واحد، نظيرة: (المقام) و (المقامة) الآن عندنا المقامة، المقام {وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ} [(125) سورة البقرة] {الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ} [(35) سورة فاطر] هل هذا المذكر مع المؤنث من باب واحد؟ لأنه يقول: نظيره المقام والمقامة، فإما أن نقول: مُقام إبراهيم ليكون الباب واحداً، أو نقول: مقامة، ليكون الباب واحداً، إما أن نقول في الآية: مقام، وفي الآية الأخرى: مقامة، يكون الباب واحد وإلا لا؟
طالب:. . . . . . . . .(37/7)
نكمل الكلام ليتبين، يقول: "والمقام ذُكر على قوله -يعني قول القائل من بعض نحويي الكوفة- ذُكر على قوله لأنه يريد به الموضع الذي يقام فيه، وأنثت (المقامة) لأنه أريد بها البقعة" يعني إذا مررت ببلد مثلاً أي بلد من البلدان، فإما أن تذكره أو تؤنثه، تذكره على إرادة الموضع والمكان، ولك أن تؤنثه على إرادة البقعة، ولذا يقول أهل العلم: إذا جهزت الجنازة لا يُدرى ذكر أو أنثى، فماذا تفعل في الضمائر؟ تقول: اللهم اغفر له وارحمه، أو اغفر لها وارحمها؟ نعم إن شئت ذكرت، وإن شئت أنثت، إن شئت ذكرت على إرادة الميت، وإن شئت أنثت على إرادة الجنازة، فما ينتابه مثل هذا يجوز تذكيره وتأنيثه.
وأنكر هؤلاء -يعني بعض نحويي الكوفة- أن تكون (المثابة) مثل: (السيارة والنسابة)، وقالوا: إنما أدخلت الهاء في (السيارة والنسابة) تشبيها لها بـ (الداعية) الأصل الداعي، وإذا أضيفت إليه الهاء دل على المبالغة.
و (المثابة) مفعلة من (ثاب القوم إلى الموضع) إذا رجعوا، فهم يثوبون إليه مثاباً ومثابةً وثواباً.
فمعنى قوله: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ} [(125) سورة البقرة] أي مرجعاً، ثاب القوم إلى الموضع إذا رجعوا {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ} أي مرجعاً للناس يأتونه.(37/8)
يقول الفقهاء في اللبن المحرِم الذي ينشر الحرمة في الرضاع، هو ما ثاب عن حمل، يعني رجع أو اجتمع؟ أو تكون؟ لأن المثابة هنا المرجع {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً} أي مرجعاً للناس يأتونه كل عام، ويرجعون إليه فلا يقضون منه وطراً، (وأمناً) قال أبو جعفر: "الأمن مصدر من قول القائل: أمن يأمن أمناً، وإنما سماه الله أمناً لأنه كان في الجاهلية معاذاً لمن استعاذ به، هكذا يقول الطبري، فإما أن يكونوا يستعيذون به دون الله -عز وجل- باعتبارهم مشركين، أو أن مراده منهم أنهم يلجأون إليه إذا خافوا فيأمنوا، فالذي يستعيذ بالبيت إذا كانت استعاذته بالحجارة المنصوبة فهذا شرك، وإن كانت استعاذته بالله -جل وعلا- ولجأ إلى بيته الذي جعله حرماً آمناً فلا إشكال، فالعرب في الجاهلية يجعلون البيت معاذاً لمن استعاذ به، ولذا لما أهدر النبي -صلى الله عليه وسلم- دم ابن خطل وُجد متعلقاً بأستار الكعبة؛ لكن هل يعاذ مثل هذا؟ لا يعاذ، فقتل.(37/9)
وترون كثير من الناس يتعلقون بأستار الكعبة، وبعض أهل العلم يجيز مثل هذا باعتبار أن النبي -عليه الصلاة والسلام- ما أنكر صنيع من تعلق بأستار الكعبة، وهذا من الدلالة التبعية أو الأصلية؟ التبعية، من الدلالة التبعية، بمعنى أن الخبر ما سيق للاستدلال به على جواز التعلق بأستار الكعبة، وإنما سيق لبيان قتل مثل هذا المجرم الذي يقتل في الحل والحرم، فمن يستدل بالدلالة التبعية يقول: أن النبي -عليه الصلاة والسلام- رآه متعلق بأستار الكعبة ولم ينكر صنيعه، ولا بين وهذا موضع بيان، هذا الذي استدل بالدلالة التبعية، والذي يستدل بالدلالة الأصلية ترى معرفة الدلالتين تحل إشكالات كثيرة مما يواجه طالب العلم من مثل هذه النصوص، الذين لا يستدلون بالدلالة التبعية يقولون: المقصد من سياق الخبر قتل هذا الفاسق، ولو تعلق بأستار الكعبة، والذين يقولون: يستدل بالخبر بجميع ما يدل عليه، نستدل به على القتل، وعلى جواز التعلق، والمسألة كما سمعتم مراراً مختلف فيها ورجح الشاطبي أنه لا يستدل بها مطلقاً، وكلامه فيه نظر، وإن كان القول الثاني أيضاً له من ينصره وله أدلته، فلا يستدل بها مطلقاً ولا تهدر مطلقاً، يعني فرق بين كلام المخلوق الذي إذا تكلم بشيء يغفل عما سوى ما هو بصدده، المخلوق يغفل؛ لكن الخالق -جل وعلا- ولذلك تجدون أهل العلم يستنبطون من الجملة الواحدة أحكام كثيرة بعضها واضح من سياق الكلام، واضح لكل أحد، وبعضها يخفى على بعض الناس، ويبدو للكثير، وبعضها يفهمه بعض الناس ويخفى على الكثير، فدلالة الخبر على التعلق بأستار الكعبة لا شك أنها تبعية وليست أصلية، والخبر عندما سيق أصالة لبيان القصة التي قتل فيها وهو متعلق بأستار الكعبة، وتبقى الدلالة التبعية البعيدة عن المراد في سياق الخبر حسب ما يوافقها وما يعارضها من نصوص أخرى، فإن كانت معارَضة بنصوص أخرى ألغيت، ولعل هذا هو مراد من ألغى الدلالة التبعية مطلقاً، أنها حينما تعارض، وإذا لم تعارض وإنما ووفقت بأدلة أخرى فإنها حينئذ تكون معتبرة، ولعل هذا هو مراد القائلين بأن الدلالة التبعية معتبرة، ويستدل بها كالأصلية.(37/10)
وهنا معارضَة وإلا موافقَة؟ التعلق بأستار الكعبة؟ معارضة؛ لأن هذا التعلق ما يراد به؟ يراد به التبرك والتبرك ممنوع، التبرك ممنوع خاص بمن جعل الله به البركة، وهو النبي -عليه الصلاة والسلام-، فلا يتبرك بمخلوق، وكان الرجل منهم -يعني أهل الجاهلية- لو لقي به قاتل أبيه أو أخيه لم يهجه، ولم يعرض له حتى يخرج منه، كما قال جل ثناؤه: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [(67) سورة العنكبوت] ولذا يختلف أهل العلم في إقامة الحدود في مكة، في حدود الحرم، يختلفون، والمسألة مبسوطة في مواضع متعددة.
ثم قال: {وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [(125) سورة البقرة] يقول ابن الجوزي: "في مقام إبراهيم ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الحرم كله، قاله ابن عباس، والثاني: أن المراد بالمقام عرفة والمزدلفة والجمار، قاله عطاء، وعن مجاهد كالقولين، وقد روي عن ابن عباس وعطاء ومجاهد قالوا: الحج كله مقام إبراهيم، والثالث: الحجر، يعني الذي قام عليه إبراهيم حينما ارتفع البينان، وفيه أثر موضع القدمين، الحجر، قاله سعيد بن جبير، وهو الأصح.
قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كما في الحديث الصحيح: "قلت: يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى؟ فنزلت الآية".
يعني سبب النزول لا شك أن دخوله في النص عند أهل العلم قطعي، يعني الحجر مراد ودخوله في الآية قطعي، الحجر الذي فيه أثر القدمين المجاور للكعبة، دخوله قطعي؛ لكن الحجر بالمعاني الأخرى التي ثبتت عن الصحابة والتابعين والسياق لا يأباها، بل العموم يتناولها، لا شك أنها مراده بالعموم، والتنصيص على بعض أفراد العام لا يقتضي التخصيص، فكل مواضع الحج ومقامات الحج من مقامات إبراهيم، وإن كان المراد به في هذه الآية المراد به في هذه الآية الحجر المجاور للكعبة، والذي فيه أثر القدمين.(37/11)
المقام هل يراد به الحجر نفسه أو موضع القيام؟ هل يراد به الحجر نفسه بحيث نتبعه حيثما وضع، أو المراد به الموضع الذي فيه المقام؟ لأن اللفظ يحتمل الأمرين، يعني لو اقتضى النظر واجتهاد أهل العلم أن المقام الآن في المطاف مسبب للزحام، واقتضى الاجتهاد أن يدفع إلى الأروقة داخل، ليوسع المطاف، نصلي في مكانه أو نتبع الحجر نصلي هناك؟ ومسألة نقل المقام عن مكانه مسألة خلافية بين أهل العلم كتب فيها الشيخ عبد الرحمن المعلمي، مقام إبراهيم هل يجوز تقديمه أو تأخيره؟ وذكر أقول أهل العلم في ذلك، ورد عليه الشيخ سليمان بن حمدان في كتاب له أسماه: (نقض المباني من فتوى اليماني) ورد عليه الشيخ محمد بن إبراهيم، ورد عليه الشيخ سليمان، المقصود أن المسألة محل خلاف بين أهل العلم، هناك رسالة اسمها (مقام إبراهيم) وقد يراها طالب العلم ويشتريها على أنها في الموضوع، مطبوعة طباعة فاخرة، يقول: أنه سيستفيد، هذه لا فائدة فيها، هذه لنشاشيبي هي عبارة عن مقامة ألقاها في حفل تأبين إبراهيم هنانو، هذا عضو مجمع اللغة العربية بدمشق، مات وسووا له حفل تأبين فألقيت هذه الكلمة وسماها مقام إبراهيم، وبين كل جملتين أو ثلاث سلام على إبراهيم، نسأل الله العافية، فطالب العلم قد يشتري هذه الرسالة يظنها تبحث فيما نحن فيه، وليست فيما نحن فيه لا من قريب ولا من بعيد.
الآن نرجع إلى مسألتنا وهي أن المقام الذي أمرنا باتخاذه مصلى هل المراد به الحجر نفسه بحيث نتبعه حيثما وضع، أو المراد به المكان بحيث لو أبعد عن مكانه الحالي نصلي في المكان نفسه؟ نظير ذلك الحجر لما أخذه القرامطة ومكث عندهم سبعة عشر سنة، نكبر حينما نحاذي المكان، ولا علاقة لنا بالحجر الذي ذهب به إلى البحرين، فهل نقول مثل هذا الكلام أنه مقتضى النظر واجتهاد أهل العلم أن يبعد المقام عن المطاف لتخفيف الزحام الذي يسببه وجود المقام، نتبع الحجر أو نفس المكان؟ واللفظ يحتمل الأمرين، المقام يحتمل أن يكون الحجر، ويحتمل أن يكون المكان الذي تم فيه قيامه.
طالب: المكان.
وهل المكان الذي هو فيه الآن هو نفس المكان الموجود فيه على عهد النبي -عليه الصلاة والسلام-؟
طالب:. . . . . . . . .(37/12)
أبعده نعم، فمقتضى هذا أننا نصلي بين المكان الحالي للمقام وبين الكعبة إذا قلنا: العبرة بالمكان، وإذا قلنا: العبرة بالحجر تبعناه ولو أدخل في الأروقة، واللفظ محتمل، وماذا عند الشيخ؟
أحد المشايخ الحضور: منكم نستفيد يا شيخ.
نحتاج إلى من يعاوننا؛ لأن المسألة مسألة مقام، يعني دخلها في اللغة كبير.
أحد المشايخ الحضور: والله إحنا على منهج الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- حيث قال في الشرح الممتع: "أنا متوقف".
ليش؟ لأن اللفظ يحتمل الأمرين، فكما يطلق على الحجر يطلق أيضاً على المكان، وما دام توقف الشيخ توقفنا.
{وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [(125) سورة البقرة] قال ابن الجوزي -وذكر الأقوال الثلاثة في روائع التفسير الجامع لتفسير ابن رجب -رحمه الله تعالى- وإذا وجد لهذا الإمام كلام في أي مسألة علمية على طالب العلم أن يعض عليه بالنواجذ؛ لأن ابن رجب يكتب العلم بنفس السلف -رحمه الله-.
قوله تعالى: {وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [(125) سورة البقرة] قال البخاري: باب قول الله -عز وجل- {وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [(125) سورة البقرة] حديث عمر في سبب نزول هذه الآية قد خرجه البخاري فيما بعد، وهو من موافقاته -رضي الله عنه وأرضاه-، قال: "لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى" فنزلت الآية.(37/13)
قال البخاري: حدثنا الحميدي قال: حدثنا سفيان قال: حدثنا عمرو بن دينار قال: سألنا ابن عمر عن رجل طاف بالبيت العمرة ولم يطف بين الصفا والمروة أيأتي امرأته؟ فقال: قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- فطاف بالبيت سبعاً، وصلى خلف المقام ركعتين، وطاف بين الصفا والمروة، وقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة" والشاهد أن النبي -عليه الصلاة والسلام- صلى خلف المقام ركعتين، وسألنا جابر بن عبد الله فقال: "لا يقربنها حتى يطوف بين الصفا والمروة"، وقد روى جابر أن النبي -عليه الصلاة والسلام- تلا هذه الآية، يعني في حديث جابر الطويل في صفة حج النبي -عليه الصلاة والسلام- المخرج في مسلم وغيره النبي -عليه الصلاة والسلام- تلا هذه الآية عند صلاته خلف المقام {وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [(125) سورة البقرة] وإلا فالأصل العموم، {وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} في ركعتي الطواف وفي غيرها من الصلوات، يعني اللفظ عام وقصره على سببه عند أهل العلم معمول به وإلا غير معمول به؟ يطبقون على أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فهل يشرع كل صلاة خلف المقام أو صلاة الركعتين فقط؟
طالب:. . . . . . . . .
صلى بعد الطواف وعمر قال: "لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى" هل هو في الحج أو في العمرة أو مطلقاً؟ فنزلت الآية.
النبي -عليه الصلاة والسلام- صلى الركعتين وتلا الآية، فدل على أن هناك اقتران بين هاتين الركعتين ركعتي الطواف والمقام؛ لكن هذا لا ينفي أن يصلى خلفه غير هذه الصلاة، لعموم الآية.(37/14)
يقول ابن رجب -رحمه الله-: "وهذا كله يدل على أن المراد بمقام إبراهيم في الآية مقامه المسمى بذلك عند البيت، وهو الحجر الذي كان فيه أثر قدمه -عليه السلام-، وهذا قول كثير من المفسرين، وقال كثير منهم المراد بمقام إبراهيم الحج كله، وقال بعضهم: الحرم كله، وقال بعضهم: الوقوف بعرفة ورمي الجمار والطواف، وفسروا المصلى بالدعاء، وهو موضع الدعاء، يعني حمل الصلاة في الآية على الصلاة اللغوية التي هي في الأصل الدعاء {وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [(125) سورة البقرة] أي ادعوا في المواضع التي دعا فيها إبراهيم -عليه السلام-، يعني من مقاماته التي دعا فيها من مشاعر الحج ومناسكه، ادعوا فيها كما دعا فيها -عليه الصلاة والسلام-.
والاختلاف في الصلاة هنا لا شك أن أكثر أهل العلم يرون أن الصلاة هي الصلاة ذات الركوع والسجود وهي ركعتا الطواف، وإن قال بعضهم أن المراد بها الدعاء، نظير ما قيل في ((إذا دعاء أحدكم أخوه فليجب، فإن كان مفطراً فيطعم، وإن كان صائماً فليصلي)) جمهور أهل العلم أن على أن المراد بالصلاة هنا اللغوية، الدعاء يدعو لهم وينصرف، وإن كان من أهل العلم من قال: يصلي ركعتين وينصرف؛ لكن قد ترد الصلاة ويراد بها المعنى اللغوي، وترد ويراد بها المعنى الشرعي، ومثل هذا صلاة النبي -عليه الصلاة والسلام- على أهل أحد بعد ثمان سنوات كالمودع لهم، منهم من قال: أنه صلى عليهم صلاة الجنازة، ومنهم من قال أنه مر عليهم ودعا لهم الصلاة اللغوية، وإلا فالشهداء لا يصلى عليهم كما هو معروف.
يقول ابن رجب: "وقد يجمع بين القولين بأن يقال: الصلاة خلف المقام المعروف داخل فيما أمر به من الاقتداء بإبراهيم -عليه السلام- مما في أفعاله بمناسك الحج كلها، واتخاذها مواضع للدعاء وذكر الله -عز وجل-".
يعني ركعتي الطواف خلف المقام فرد من أفراد العام، يعني والتنصيص عليه لا يقتضي التخصيص، فالآية عامة تحتمل أشياء كثيرة مثل ما ذكره أهل العلم، لا تقصر على سببها من نزول هذه الآية استجابة لقول عمر: "لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى" وإنما تشمل ما يحتمله اللفظ.(37/15)
قالت عائشة وقد روي مرفوعاً ((إنما جعل الطواف والسعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمار لإقامة ذكر الله)) [خرجه أبو داود والترمذي]، والأمر في الآية باتخاذ المقام مصلى كما قال ابن المنذر: يحتمل أن تكون صلاة الركعتين خلف المقام فرضاً {وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [(125) سورة البقرة] لكن هل الأمر الذي بني عليه هذا الاحتمال هو أمر بالصلاة أو أمر بالاتخاذ لمن أراد أن يصلي؟ الأمر (اتخذوا) من أراد أن يصلي فعليه أن يتخذ من مقام إبراهيم مصلى، وهل الأمر بالاتخاذ أمر بالصلاة ليقول ابن المنذر: تحتمل أن تكون صلاة الركعتين خلف المقام فرضاً؟ لكن أجمع أهل العلم على أن الطائف تجزئه ركعتا الطواف حيث شاء إلا شيئاً ذكر عن مالك في أن من صلى ركعتي الطواف الواجب في الحجر يعيد" انتهى كلامه.
الأمر باتخاذ مقام إبراهيم مصلى، كلام ابن المنذر يقول: "يحتمل أن تكون صلاة الركعتين خلف المقام فرضاً" الآن عندنا الصلاة والمكان الذي هو الحال المبينة لهذه الصلاة، فهل الأمر في الآية متجه إلى الصلاة أو متجه إلى أن تكون خلف المقام؟ {وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [(125) سورة البقرة] هل معنى هذا صلوا؟ أو صلوا في هذا المكان؟ يعني في قول يوسف -عليه السلام- {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا} [(101) سورة يوسف] هل المقصود الوفاة؟ الطلب للوفاة أو الوفاة على الإسلام؟ يعني هل مراد يوسف -عليه السلام- أن يتوفاه الله ويتخلص من هذه الدنيا أو أن المطلوب التوفي حال كونه مسلماً؟ وهنا هل المأمور به اتخذوا هل الأمر للاتخاذ بمعنى أن صلاة الركعتين من أراد أن يصلي ركعتي الطواف فليصليهما خلف المقام، أو المأمور به الصلاة نفسها؟
ابن المنذر قال: "يحتمل أن تكون صلاة الركعتين خلف المقام فرضاً؛ لكن أجمع أهل العلم على أن الطائف تجزئه ركعتا الطواف حيث شاء إلا شيئاً ذكر عن مالك ... " إلى آخره.
يعني إجماع أهل العلم يدل على خلاف ما ذكره ابن المنذر في صدر كلامه، وأنها ليست بفرض، لا الصلاة ولا المكان.(37/16)
ترجم الإمام البخاري -رحمه الله تعالى-: باب من صلى ركعتي الطواف خارجاً من المسجد، وصلى عمر -رضي الله عنه- خارجاً من الحرم، فعمر -رضي الله عنه- لما طاف بالبيت بعد صلاة الصبح صلى الركعتين بذي طوى، لما ارتفعت الشمس، فهذا العمل من عمر -رضي الله عنه- يستفاد منه أن الأمر في الآية لا على سبيل الوجوب، الأمر باتخاذ المقام، ومن المقام مصلى أنه لا على سبيل الوجوب، وإلا لو كان واجباً لانتظر عمر إلى أن ترتفع الشمس وصلى خلفه ركعتين، هذا من جهة.
الأمر الثاني: صنيع عمر يدل على أنه لا يرى الصلاة ولو كانت ذا سبب في أوقات النهي، بدليل أنه أخر الركعتين لما طاف بعد الصبح إلى أن ارتفعت الشمس وصلاهما خارج الحرم، صلاهما بذي طوى، وهل المراد بالحرم في قوله: "خارجاً من الحرم" المراد به المسجد أو المراد به الحرم بعمومه بحدوده؟
طالب:. . . . . . . . .
خارج حدود الحرم، يعني لو طاف في صبح عرفة مثلاً، ثم ركب إلى عرفة وصلى الركعتين بعرفة خارج الحرم، يتفق مع صنيع عمر وإلا لا؟ لا يتفق؛ لأن ذا طوى المعروفة الآن بالزاهر داخل الحرم، والمراد خارجاً من الحرم يعني خارج المسجد، فعلى هذا لو طاف الإنسان في وقت زحام ثم أخر الركعتين إلى سكنه، ما في إشكال، الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- لما ترجم باب الطواف بعد الصبح وبعد العصر، أورد أحاديث النهي عن الصلاة بعد العصر وبعد الصبح، وأورد الشارح من حديث جابر أننا ما كنا نطوف مع النبي -صلى الله عليه وسلم- لا بعد الصبح ولا بعد العصر، كل هذا اهتماماً بأوقات النهي؛ ولكن الطواف لم ينه عنه في وقت النهي، وإنما المنهي عنه الصلاة، فإذا طاف بالبيت بعد صلاة الصبح أو بعد العصر فإنه يؤخر الصلاة إلى طلوع الشمس وارتفاعها أو إلى غروبها، كما فعل عمر -رضي الله عنه-.(37/17)
في فتح الباري {وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [(125) سورة البقرة] أي قبلة، قاله الحسن البصري وغيره، وبه يتم الاستدلال {وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} أي قبلة هل يراد بالقبلة أنه يتوجه إليه بغض النظر عن الكعبة أو لا بد من أن تكون الكعبة هي القبلة وأن يكون المقام في القبلة؟ يعني في جهة القبلة يكون مصلى أي قبلة، فهل يكفي أن يستقبل المقام دون استقبال البيت؟ لا، لا يكفي إجماعاً؛ لأنه الشرط في صحة الصلاة أن تكون إلى القبلة إلى الكعبة، وكونه قبلة يعني بين المصلي وبين قبلته، قاله الحسن البصري وغيره وبه يتم الاستدلال، وقال مجاهد: أي مدعاً يدعى عنده" مصلى أي مدعى يدعى عنده، فالدعاء عند المقام على هذا له مزية؛ لأن الصلاة أعم من أن تكون لغوية أو شرعية، ولا شك أن هذا جار على رأي من يقول بجواز استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، الذي يقول بجواز استعمال اللفظ في الأمرين ما عنده إشكال في هذا، يقول: نتخذه مصلى نصلي خلفه ركعتين، وندعو خلفه؛ لأن الصلاة أشمل من أن تكون لغوية أو شرعية، وهذا جار على قول من يرى جواز استعمال اللفظ في معنييه الحقيقي والمجازي، اللغوي والاصطلاحي.
يعني في أكثر من حقيقة يستعمل، الذي يقول: لا يستعمل اللفظ الواحد في أكثر من معنى، يقول: لا، إما أن تكون الصلاة لغوية أو شرعية؛ لكن إذا دخلت إحدى الحقيقتين في الأخرى هل يمنع من ذلك مانع؟ حتى على قول من يقول أن اللفظ لا يستعمل في معنييه، صلى الركعتين وسجد ودعا في سجوده، نقول: استعمل الحقيقتين؟ هل يمنع مثل هذا أحد؟ ما يمكن أن يمنعه أحد؛ لكن الكلام في الدعاء اللغوي المجرد عن الصلاة.
يقول: وقال مجاهد: أي مدعىً يدعى عنده، ولا يصح حمله على مكان الصلاة؛ لأنه لا يصلى فيه بل عنده، لأنه لا يصلى فيه يعني في المقام نفسه، وإنما يصلى عنده، ويترجح قول الحسن بأنه جار على المعنى الشرعي.(37/18)
ابن حجر في فتح الباري يقول: "روى الأزرقي في (أخبار مكة) بأسانيد صحيحة أن المقام كان في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر وعمر في الموضع الذي هو فيه الآن، حتى جاء سيل في خلافة عمر فاحتمله حتى وجد بأسفل مكة، فأتي به فربط إلى أستار الكعبة حتى قدم عمر فاستثبت في أمره حتى تحقق موضعه الأول فأعاده إليه، وبنى حوله، فاستقر ثَم إلى الآن".
يعني الكلام هذا ماشي على ما يعرفه طلاب العلم أو كلام فيه غرابة؟ ماذا يقول؟ يقول: "روى الأزرقي في (أخبار مكة) بأسانيد صحيحة أن المقام كان في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر وعمر في الموضع الذي هو فيه الآن" يعني يبعد عن الكعبة حدود خمسة أمتار، هو الموضع الذي فيه الآن؛ لأنه في وقت الأزرقي هذا مكانه، نعم، "أن المقام كان في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر وعمر في الموضع الذي هو فيه الآن" يعني ما هو لاصق بجدار الكعبة، كما يقتضيه الفائدة من وجوده، يعني الفائدة من وجوده أن يكون ملاصقاً لجدار الكعبة، ولهذا هذا اللفظ وإن ورد بأسانيد صحيحة لا يسلم من نكارة؛ لأن الفائدة منه أصلاً أنما وضع لما ارتفع البناء ليطلع عليه أو ليرقى عليه إبراهيم -عليه السلام-، ويتناول الحجارة من ولده، فيبني ما ارتفع من جدار الكعبة.
"المقام كان في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر وعمر في الموضع الذي هو فيه الآن، حتى جاء سيل في خلافة عمر فاحتمله –جرفه- حتى وجد بأسفل مكة، فأتي به فربط إلى أستار الكعبة حتى قدم عمر فاستثبت في أمره -يعني قدم عمرة مكة من أين؟ من المدينة- حتى تحقق موضعه الأول فأعاده إليه، وبنى حوله، فاستقر ثَم إلى الآن".
يعني مكانه الآن هو الذي وضعه فيه عمر وهو الذي كان على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وعلى عهد أبي بكر وعمر إلى أن جاء السيل واحتمله، ثم ردوه إلى هذا المكان.
لكن هذا اللفظ على أنه كما قال ابن حجر: بأسانيد صحيحة، يعني الحجر ما الفائدة من اتخاذ إبراهيم -عليه السلام- له؟
طالب: ليرقي عليه.(37/19)
نعم ليرقي عليه ليستطيع الوصول إلى الحد الذي لا يستطيع الوصول إليه بدونه؛ لأنه ارتفع عليه البنيان، فأتي بهذا الحجر واستفيد منه، كونه بعيد بهذه المنزلة خمسة أمتار تقريباً يستفاد منه لبناء جدار الكعبة؟
طالب:. . . . . . . . .
ما يستفاد، لا يستفاد منه، وإن كان يستفاد منه ولو سلمنا أن طول إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- مناسب لمثل هذا البعد، لقلنا: إن قربه من الجدار أيسر له من البعد مع وجود هذا الحجر، ولا شك أن اللفظ منكر، يعني الحجر المعروف عند أهل العلم أنه كان ملاصق للكعبة، فرأى عمر -رضي الله عنه- أنه في المطاف يسبب إشكال بالنسبة للطائفين وزحام فأبعده عن المطاف إلى قدر بحيث ينفس للناس، على أن وجوده في هذا المكان أو وجوده في مكانه الأصلي في أيامنا هذه مع كثرة الناس لا فرق، ومسألة تقديم المقام وتأخيره عن مكانه مسألة خلافية ذكرناها أو أشرنا إليها فيما تقدم.
المقدم: أثابكم الله وجزاكم الله خيراً، عندي أسئلة كثرة، وهي أسئلة طلبة العلم، ثلاثة أسئلة:
يقول: لو تكرمتم يا فضيلة الشيخ أن تذكروا لنا كتاباً في التفسير الموضوعي نستفيد منه، ويقدم على غيره من التفسيرات من الكتب في هذا الباب؟
التفسير الموضوعي لا يوجد تفسير شامل لجميع موضوعات القرآن، تفسير شامل لجميع الموضوعات لا يوجد بهذه الصورة، لا أعرف كتاباً ألف موضوعياً للموضوعات بالتفسير، أما الموضوعات أنفسها فقد صنفت الآيات حسب الموضوعات، تفصيل موضوعات القرآن، والترتيب والبيان لموضوعات القرآن، كتب كثرة ألفت في هذا، فالمادة جاهزة، الترتيب موجود، وأكثر من كتاب بهذه الطريقة تجمع فيه الآيات المتناسقة التي يشملها موضوع واحد على حدة، ثم بعد ذلك يقوم المفسر بتفسير هذه الآيات موضوعاً موضوعاً، أما كتاب واحد يشمل جميع موضوعات القرآن مرتب على هذه الكيفية ما أعرف كتاب بهذه الطريقة.
يقول السائل: هل هناك كتاب في تفسير آيات الحج في القرآن؟(37/20)
المناسك المؤلفة في بيان أحكام الحج اشتملت على الآيات؛ لكنها ما ألفت قصداً لتفسير الآيات، يعني جاء شرحها، شرح هذه الآيات بالأحاديث، جاء بيانها بالأحاديث من السنة النبوية، وجاء بيانها بأقوال أهل العلم لا على جهة الاستقلال، باعتبار أن الكتاب يفسر آيات الحج فقط، التفسير موجود في التفاسير؛ لكنها تحتاج إلى استخراج، وقد قام بعض طلاب العلم باستخراج آيات الحج من أضواء البيان، مناسك الحج من أضواء البيان، يعني تفسير الشيخ الشنقيطي -رحمه الله تعالى- جمع منه آيات الحج، ويصلح أن يكون تفسيراً موضوعياً لهذه الآيات.
المقدم: أحسن الله إليكم، ماذا تقولون في كتاب: (روائع البيان في تفسير آيات الأحكام)؟
للصابوني؟
المقدم: الظاهر نعم.
لأن في أكثر من كتاب باسم روائع البيان.
المقدم: ما ذكر المصنف.
هو الذي يظهر أنه كتاب الصابوني؛ لأنه هو الذي فيه تفسير آيات الأحكام، أما روائع البيان الذي ذكرناه قريباً في تفسير ابن رجب الذي جمعه الشيخ طارق عوض الله، من مصنفات الإمام الحافظ ابن رجب، وكذلك أيضاً هناك روائع البيان في تفسير ابن القيم، هذا اسمه؟
المقدم: بدائع التفسير.
إن كان المقصود روائع البيان في تفسير آيات الأحكام للصابوني فهو كتاب جيد في بابه، وليس الأجود في بابه، يعني جمع آيات الأحكام، وتكلم عليها آية آية، بكلام مختصر ومرتب ومنظم ومرقم؛ لكن لا يعني هذا أنه يغني عن كتب تفسير آيات الأحكام، لا، يعني يستفيد منه المثقف مثلاً، على أنه في ترجيحاته بين أقوال أهل العلم قد يخالف، وكتب تفسير آيات الأحكام لأهل العلم المتقدمين موجودة ولله الحمد، فمنها: (أحكام القرآن) لابن العربي، تفسير (أحكام القرآن) للجصاص، (أحكام القرآن) للكيا الطبري الهراسي، الأول مالكي، والثاني حنفي، والثالث شافعي، (الجامع لأحكام القرآن) للقرطبي، هذا بحر محيط، فيه جميع أحكام القرآن، يعني مما دونه هذا الإمام.(37/21)
يبقى تفسير آيات الأحكام من وجهة نظر الحنابلة، نعم لهم كتب في هذا الباب لكنها ما طبعت، وجردت أحكام القرآن من خلال المغني، في رسائل علمية، وذكرنا في محاضرة اسمها (المنهجية في قراءة الكتب) ذكرت أن من وسائل التحصيل أن يأتي لمثل هذا الموضوع: أحكام القرآن، فيحضر عنده أحكام القرآن لابن العربي والجصاص، والطبري، في المذاهب الثلاثة، ثم بعد ذلك يعلق على هذه الكتب مذهب الحنابلة من خلال كتاب معتبر عندهم، وهذا لا يكلف كثير، فبمجرد ما تنقل قول أحمد، أو روايات المذهب إلى أحكام القرآن لابن العربي، يكون عندك كتاب في أحكام القرآن للحنابلة، يعني نظير ما عمل الشاه ولي الله الدهلوي في (المسوى شرح الموطأ) المسوى شرح الموطأ أصله الموطأ للإمام مالك، ويحمل فكر الإمام مالك، ووجهة نظر الإمام مالك، وهو مخلوط بموطأ محمد، موطأ محمد من وجهة نظر الحنفية، أضاف الشارح رأي الشافعية فاكتملت المذاهب الثلاثة، ولو أن طالب علم عمد إلى هذا الكتاب وأضاف إليه القول الرابع قول الحنابلة كمل الكتاب، وأول من يستفيد من هذا العمل الذي لا يكلف شيء كبير، ترى ما يكلف طالب العلم، ما يحتاج إلى عصر ذهن، هذا العمل أول من يستفيد منه هذا الطالب، وعندي أن هذا من أعظم وسائل تحصيل العلم.
المقدم: أحسنتم، يقول: فضيلة الشيخ قرأت في تفسر الشوكاني في قوله تعالى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [(196) سورة البقرة] قال الشوكاني -رحمه الله تعالى-: "كاملة توكيد آخر بعد الفذلكة، بزيادة التوصية بصيامها، فما معنى الفذلكة؟
من أحيل على مليك فليحتل، أجب، نستفيد، أجب، أجب.
أحد المشايخ الحضور: يعني أنا ما أخفيكم أني لا أحب أجلس إلى جوار الشيخ، لا رغبة عنه علم الله، ولكني أخشى من أن يحيل علي في شيء، وأنا أجلس بين يديه جلوس الطالب المستفيد.
مثل هذا التواضع لا يخفى عليكم أيها الإخوة.
أحد المشايخ الحضور: الفذلكة: يعني هي جمع العدد بعد توكيده، أو توكيده بعد جمعه، وقد عرفها في لسان العرب تعريفاً طيباً، وهي لفظة مولدة، فيرجع السائل إلى لسان العرب.
يعني منحوتة من أكثر من كلمة؟
يعني كأنها يقول: مأخوذة من كذلك، أو فذلك.
فذلك، مثل البسملة والحمدلة.(37/22)
يقول السائل: فضيلة الشيخ، أشهد الله على محبتكم، وكثير من الأسئلة صدرت بهذه الجملة الدعائية، يقول: هل الأفضل الصيام عشرة الأيام من ذي الحجة، أو أنني أصوم بعضها، فقد سمعت من بعض الطلاب أنه لا يجوز صيامها، وأن صيامها بدعة؟
أولاً: ثبت في الصحيح أنه: ((ما من أيام العمل الصالح خير وأحب إلى الله منه في هذه الأيام العشر)) العمل الصالح، ومن الأعمال الصالحة بل من أفضلها الصيام، فقد جاء في الحديث الصحيح: ((من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً)) فإذا ضممنا هذا إلى هذا تخرج لنا النتيجة أن الصيام في هذه الأيام من أفضل الأعمال، كونه -عليه الصلاة والسلام- كما في حديث عائشة لم يصوم العشر، أو ما صام العشر، وقد ثبت عنه من حديث بعض أمهات المؤمنين وغيرها أنه صام العشر، أولاً: المثبت مقدم على النافي، الأمر الثاني: أن هذا على حسب علمها، وقد يقول قائل: أنه لا بد أن يمر يوم من أيامها في هذه العشر فتكون على علم واطلاع من حاله -عليه الصلاة والسلام-، لا شك أنها مطلعة على حاله، وبعض الأيام الذي لا يكون عندها لا تطلع عليه، فلعله أفطر لعارض، علماً بأن من يعوقه الصيام، عما هو أفضل منه من الأعمال، يكون الصيام في حقه مفضولاً، وما يسلكه ويفعله هو الفاضل، فمقام النبي -عليه الصلاة والسلام- وقد قام بأعباء حاجات الأمة من كل وجه، فهو الإمام وهو الخطيب، وهو الداعية وهو الموجه، وهو القاضي، وهو المعلم، كل أعباء الأمة على عاتقه -عليه الصلاة والسلام-، فإذا كان الصيام يضعفه أو يفعل ذلك لبيان مثل هذا الأمر لمن يقوم مقامه ممن يأتي بعده، وإلا فالنبي -عليه الصلاة والسلام- يحتمل، يحتمل الصيام، ويحتمل جميع الأعمال -عليه الصلاة والسلام-، وقد أوتي قوة في العبادة، ومع ذلك يكون تركه للصيام أفضل منه تشريعاً لمن يخلفه في هذا المقام، فمن كان يعوقه الصيام عن الأمور العامة بالنسبة للأمة فلا شك أن فطره أفضل من صيامه، فلو افترضنا أن ولي الأمر مثلاً يلي أعمال المسلمين كلها، فإذا صام لزم من ذلك أن يجلس في بيته ولا يخرج للناس، نقول: لا يصوم.(37/23)
إذا كان قاضي يحل المنازعات بين الناس، ويفصل بين الخصوم، إذا صام جلس في بيته ولا يستطيع أن يبرز للناس، نقول: يا أخي لا تصوم، قيامك بهذا العمل أفضل من الصيام، علماً بأن الشيخ ابن باز -رحمة الله عليه- يقول: "من قال أن صيام العشر بدعة فهو جاهل" -رحمه الله-.
المقدم: أحسن الله إليكم، يقول السائل: فضيلة شيخنا هل يمكن الاستدلال بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [(56) سورة الأحزاب] على أن من معاني الصلاة الدعاء؟
الصلاة من الله -جل وعلا- الثناء عليه عند الملائكة، ومن غيره من الملائكة والناس الدعاء، كما جاء عن أبي العالية في صحيح البخاري، وجاء عن ابن عباس في الصحيح أيضاً: "يصلون يبركون" وليس معنى هذا {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} معناه أنهم يصلون الصلاة بحقيقتها الشرعية أبداً.
المقدم: أحسن الله إليكم، هذا سؤال من الشبكة من فرنسا من المتابعين معنا يقول: كيف تحرم أو تحج الحائض أو النفساء؟ وهل يجوز له الطواف وهي حائض؛ لأنني سأحج هذا العام؟ يبدو أن السائل امرأة، تقول: لأنني سأحج هذا العام، ولا أظن أن الحملة التي سأحج معها ينتظرونني إلى أن أنتهي، وقد لا أتمكن من الحج أو العمرة مرة أخرى، فماذا ترى يا فضيلة الشيخ والله يجزيكم عني خيراً؟
أما بالنسبة لما تفعله عليها أن تحرم من الميقات مع الناس، وتفعل في إحرامها مثل ما يفعل الطاهرات، ثم بعد ذلك تلبي وتفعل جميع ما يفعله الحاج غير ألا تطوف بالبيت، فالحائض ممنوعة من الطواف بالبيت، كما جاء في الصحيح من حديث عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال لها: ((افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت)) وقال في حق صفية لما بلغه أنها حاضت قال: ((أحابستنا هي؟ )) فدل على أن الحائض تحبس الرفقة، ولا يجوز لها أن تطوف بأي حال من الأحوال، ولو ترتب على ذلك حبس الرفقة.(37/24)
شيخ الإسلام -رحمه الله- يقول في مثل هذه الصورة إذا كانت لا تطهر قبل مغادرة رفقتها مكة، ويشق عليها البقاء وحدها، ويشق على رفقتها انتظارها، ولا شك أن المسألة في أيامنا الارتباط بالحجوزات وبالطيران، أمور محرجة، شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- يرى أن مثل هذا الحرج مرتفع بالشريعة، وعليها أن تتحفظ وتتطهر وتطوف على حالها؛ لكن لا أجرأ أن أقول بقوله، والنبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: ((أحابستنا هي؟ )).
المقدم: أحسن الله إليكم، يقول السائل: فضيلة الشيخ أين نجد مبحث الدلالات؟
الدلالات في كتب الأصول، ومسألة الدلالة الأصلية والتبعية بحثت في الموافقات بما يقرب من عشرين صفحة، ووفاها الشاطبي حقها، وإن كانت نتيجته مما لا يوافق عليها، بل يناقش فيها.
المقدم: أحسن الله إليكم، وهذا سائل من الشبكة من الكويت يقول: فضيلة الشيخ، قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ} [(85) سورة الحجر] في آيات أخرى في ذكر خلق السماوات والأرض يقول فيها: (بالحق) فما المقصود بقوله: (بالحق)؟.
الحق ضده الباطل، ومن الباطل العبث، والله -جل وعلا- خلق السماوات والأرض لحكمة عظيمة بالغة.
المقدم: أحسن الله إليكم، يقول السائل: فضيلة الشيخ النبي -صلى الله عليه وسلم- حين صلى ركعتين خلف المقام هل دعا، يعني بعد الصلاة يقصد؟
ما حفظ عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه دعا؛ لكن الدعاء في السجود مطلوب ومرغب فيه، وبين السجدتين واجب عند جمع من أهل العلم، وعلى كل حال الصلاة مشتملة على الدعاء، والحقائق اللغوية مع الشرعية تلتقي، كما قرر شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- في كتاب الإيمان، أن الحقيقة الشرعية تشتمل على اللغوية وزيادة، فالصلاة مشتملة على الدعاء.
المقدم: أحسن الله إليكم، هذا سؤال نجعله الأخير من فرنسا سائل يقول: قال ابن حجر في النخبة: "رواية المبتدع، ثم البدعة، ثم بمكفر، أو بمفسق فالأول ... " إلى آخره، ما هو القول الصحيح في رواية المبتدع؟(37/25)
المبتدعة قسمهم الذهبي في مقدمة الميزان إلى أقسام، تبعاً لبدعهم، البدع الكبرى المغلظة يقول الحافظ الذهبي -رحمه الله تعالى- في حقهم: "فمثل هؤلاء لا يروى عنهم ولا كرامة" وأما البدع الصغرى غير المغلظة فمثل هؤلاء المبتدعة كتب السنة طافحة بالرواية عنهم، ومنها الصحيحين، فالبدع المغلظة المكفرة مثل هؤلاء لا يروى عنهم، ولم يدخلهم ابن الصلاح في الخلاف، ما أدخلهم ابن الصلاح في الخلاف أصلاً، وإن كان رأي ابن حجر في مثل هؤلاء أنهم إذا كانت بدعهم وإن كانت مكفرة وكانوا لا ينكرون أمراً معلوماً من الدين بالضرورة، واشتملوا على الصدق فإن أخبارهم مقبولة؛ لأن بعض من بدعتهم مغلظة كالخوراج مثلاً بل دعاتهم خرج لهم في الكتب، بل في صحيح البخاري رواية عمران بن حطان وهو خارجي، بل من دعاتهم، بل من دعاة الخوارج، وابن حجر في فتح الباري لما ذكر البخاري -رحمه الله تعالى- الحديث من طريق عمران بن حطان، أورد مثل هذا الإشكال، وقال: بأن بدعته مغلظة وداعية؛ لأن جماهير أهل العلم يقبلون غير الداعية، فماذا عن الداعية مثل عمران بن حطان؟ قال: "ما المانع من قبول روايته وقد عرف بصدق اللهجة؟ " ولا شك أن الخوارج يرون الكذب كبيرة، والكبيرة مكفرة، فهم يجتنبونه، وهم من أصدق الطوائف المبتدعة، كما قرر ذلك شيخ الإسلام وغيره.
يقول ابن حجر ما المانع من قبول روايته وقد عرف بصدق اللهجة؟ والعيني يرد عليه بقوله: "وأي صدق في لهجة مادح قاتل علي" لكن الإنسان الذي يتدين بشيء وينصر ما يراه الحق هو في حد ذاته صادق في نصره لما يراه حق، كونه أخطأ في رؤيته لهذا الأمر الحق أمر آخر، فالصدق موجود؛ لأنه ينصر ما يراه الحق، وشيخ الإسلام لما سئل عن الرازي وقال: إن كثير من الناس يقع في قصده، ولا شك أن من يقرأ كلامه في تفسيره يوجس خيفة من كلامه، لا سيما وقد سمى كتاب التوحيد كتاب الشرك، ورمى إمام الأئمة ابن خزيمة بأعظم القبائح، لا شك أن القارئ يجد في نفسه شيء على هذا، وأن له غرض.
شيخ الإسلام يقول: "بعض الناس يقع في قصده والذي أراه أنه ينصر ما يراه حق".(37/26)
نعم عنده شبه وعنده مخالفات عقدية وعنده طوام، يعني ليست الخلافات معه يسيرة، لا، كبيرة، مع ذلك يقول شيخ الإسلام: "ينصر ما يراه الحق، فالذي ينصر ما يراه الحق فهو صادق، بغض النظر عن كون الحق الذي يراه هو الحق الصحيح أو غيره.
المقدم: أحسن الله إليكم، هذا ما اتسع له الوقت مع مدنا له، وبين يدينا أسئلة كثيرة، نحفظها للأخوة ونسأل الله -جل وعلا- أن يثيب فضيلة الشيخ عبد الكريم بن عبد الله الخضير أحسن الثواب، ويجزيه خيراً على هذه المحاضرة السديدة، وعلى هذه الأجوبة الموفقة، ولنا ولكم جميعاً إنه سبحانه جواد كريم، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله ..(37/27)
المسائل المشكلة في الحج
الشيخ/ عبد الكريم بن عبد الله الخضير
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
أيها الأخوة الحضور والأخوات الحاضرات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وحياكم الله جميعاً في مجلس من مجالس العلماء الذين لهم الفضل بعد الله -عز وجل- في تبيين الحق والدعوة إليه.
فمجلسنا هذا كان عنوانه المسائل المشكلة في الحج، وسنطرحه على فضيلة الشيخ الدكتور العلامة/ عبد الكريم بن عبد الله الخضير، مجموعة من الأسلة التي أعدت قبل ذلك ثم نستقبل أيضاً منكم الأسئلة التي ترد من عندكم.
نبدأ بالسؤال.
يقول: فضيلة الشيخ: هل لوقوف الحاج بعرفة داعياً من دليل الذين يقفون في عرفة ويدعون يعني لفترة طويلة، هل لهذا من دليل؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإجابة على هذا السؤال: النبي -عليه الصلاة والسلام- جمع بين صلاتي الظهر والعصر جمع تقديم في يوم عرفة؛ ليتوفر الوقت للذكر والدعاء والإلحاح على الله -جل وعلا-، ووقف -عليه الصلاة والسلام- راكباً، ولذا يرى جمع من أهل العلم أن الركوب أفضل، وأن يستقبل القبلة راكباً ويدعو الله -جل وعلا- ويخلص في دعائه ويستحضر ما يدعو به ويصدق اللجأ إلى الله -جل وعلا-؛ فإن هذا الموقف عظيم، ينبغي أن يستشعر، تستشعر عظمة هذا الوقف وقرب الرب -جل وعلا-.
ومن المؤسف أن نجد كثيراً من طلاب العلم يقضونه إما بالنوم أو بالأحاديث المباحة، وقد يتجاوز بعض الناس في ذلك فيقع في شيء من المحرم، من الكلام وغيره، وقد يوجد من الحجاج في هذا الموقف العظيم من يرتكب بعض المحظورات كإرسال النظر إلى النساء، إضافة إلى القيل والقال الذي لا ينفع بل يضر، وبعضهم يسترسل يأتي بما حرم الله عليه من غيبة ونميمة ووقوع في أعراض الناس، ولا سيما أهل العلم، هذا موقف عظيم ينبغي أن يستشعره كل حاج فضلاً عن طالب علم.(38/1)
وبعض الناس يتشاغل بما لا ينفعه، همه أن ينتهي هذا اليوم ثم الذي يليه، ثم الذي يليه ليعود إلى أهله ويزاول أعماله، كأن هذا النسك العظيم صار عبئاً على الناس، والمسألة مسألة أربعة أيام، كيف تستثقل هذه الأيام الأربعة، وقد كان المسلمون على مر العصور يقضون الأشهر، أشهر متتابعة، شهر أو شهرين في الطريق قادماً على الحج، ثم يجلس في مكة والمشاعر مدة طويلة ليست بيوم أو يومين أو ثلاثة، يأتون قبل الحج بمدة طويلة؛ ليحتاطوا لحجهم، ثم بعد ذلك إذا قفلوا أمضوا الوقت الطويل في الرجوع والله -جل وعلا- يقول: {لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ} [(7) سورة النحل]، والآن قد يصوم الشخص في بلده يوم عرفة وبين أهله ويفطر معهم ثم يحج ويرجع بعد ثلاثة أيام، هذا من تيسير الله -جل وعلا- وهذه نعمة يجب شكرها، فعلى الحاج أن يستحضر وعلى أصحاب الحملات -وهذا شيء مشاهد بالنسبة للحملات- من بعد صلاة العصر مباشرة الذي هو وقت اللزوم، وقت تأكد واستحباب الدعاء، ووقت نهاية الوقت الذي ينبغي أن يحرص عليه أشد الحرص قبل فواته، أصحاب الحملات كثير منهم بعد صلاة العصر يتأهبون للانصراف، نعم لا ينصرفون إلا بعد الغروب، لكنهم يتأهبون للانصراف، وبعد الفتاوى التي سمعت في الأعوام المتأخرة أنه يجوز الانصراف قبل غروب الشمس، انظر ماذا سيحدث يمكن يمرون مرور بعد صلاة الظهر يجمعون ويصلون الظهر ويمرون مروراً، ووقوفهم مجزئ عند عامة أهل العلم، وإن أوجب عليهم جمع من أهل العلم الدم إذا انصرفوا قبل الغروب، فإذا انتشرت هذه الفتاوى وشاعت لن يكون للوقوف أي أثر في نفس الحاج، فعلى أهل الحملات أن يرفقوا بمن معهم، وهم مؤتمنون على هذا، إنما دفعت لهم الأموال ليتفرغ الحاج لحجه ويؤدي حجه على الوجه المشروع، فعلى الحاج إذا جمع بين الصلاتين جمع تقديم وتوفر له من الوقت ما يكفي للذكر والدعاء والتلاوة والتضرع والانطراح والانكسار بين يدي الله -عز وجل- فهذا أمر لا بد منه وهذا وقته، لكن مع الأسف أن الأعمال قيدت أربابها وأصحابها، تجده طول العام في القيل والقال، فمثل هذا لا يوفق لاغتنام مثل هذه الأوقات.(38/2)
فعلينا أن نحرص على حفظ النفس واللسان وجميع الجوارح، نحرص أن نحفظها عما يغضب الله -جل وعلا- وأن تضيع علينا سدى، لنوفق لحفظها في مثل هذه الأوقات الفاضلة، ((تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة)). نعم.
يقول السائل: ما حكم الرمي قبل الزوال؟
بالنسبة ليوم النحر فالرمي فيه من طلوع الشمس إلى غروبها، وإن رمى بعد غروبها فلا حرج -إن شاء الله تعالى- لكن بالنسبة لأيام التشريق فلا رمي إلا بعد الزوال، والنبي -عليه الصلاة والسلام- وجميع أصحابه إنما رموا بعد الزوال، وقال النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((خذوا عني مناسككم))، فكانوا يتحينون الزوال، يعني ينتظرونه, والرسول -عليه الصلاة والسلام- يحبس أصحابه حتى تزول الشمس، فإذا زالت رمى، ولو كان الرمي قبل الزوال جائزاً لرخص لبعضهم أو قال: ارموا وأنا أفعل الأفضل، لكن لما لم يرمِ أحد من أصحابه قبل الزوال، وقد رمى وانتظر وتحين الزوال وقال: ((حذوا عني مناسككم)) دل على أنه لا يجوز الرمي قبل الزوال.
الذين يفتون بالرمي قبل الزوال، هذا رأي أبي حنيفة، في اليوم الأخير في يوم النفر الأول، ومن يفتي به مطلقا -كما نسمعه في هذه الأيام- قصدهم التخفيف والتيسير على الناس؛ وجد الزحام الشديد مما لا يوجد نظيره فيما تقدم فرأوا أن هذه المشقة تجلب التيسير، فرأوا أن توسعة الوقت يحل الإشكال، والذي في نظري وتقديري أنه لن يحل الإشكال، كونهم يرمون قبل الزوال لن ينحل الإشكال، فالإشكال الموجود في يوم العيد -في ضحى يوم العيد- سوف ينتقل إلى أيام التشريق؛ لأن الناس مجبولون على العجلة، {خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [(37) سورة الأنبياء]، فالذي يزاحم مع زوال الشمس، سوف يزاحم مع طلوع الشمس، والذي يتضرر مع زوال الشمس، سوف يتضرر مع طلوع الشمس، وهكذا، فطول الوقت لا يحل الإشكال، فعلينا أن نلتزم بالسنة، والرمي قبل الزوال لا يجوز عند جماهير أهل العلم.
من سافر بالطائرة إلى جدة يريد العمرة أو الحج فمن أين يحرم؟(38/3)
من سافر على الطائرة عن طرق جدة فإنه يحرم إذا حاذى أقرب المواقيت إلى بلده، فإن كان يمر بميقات معين إذا وازنه وحاذاه وإلا فيحاذي أقرب المواقيت إلى بلده، ولا ينتظر حتى يأتي ميقاته؛ لأنه إن مر بذي الحليفة، كمن سافر مثلاً من القصيم وميقاته ميقات أهل نجد السيل، مروراً بالمدينة فإنه لا ينتظر حتى يحاذي السيل، عليه أن يحرم إذا حاذى ذا الحليفة، فإن تجاوز وأحرم من محاذاة ميقاته الأصلي فالجمهور على أنه يلزمه دم، والإمام مالك يقول يكفيه إذا أحرم من ميقاته، نقول مثل هذا بالنسبة لمن يمر بميقات أو أكثر من ميقات، يمر بميقات ويتجاوزه.
الشامي مثلاً ميقاته الجحفة إذا مر بالمدينة ثم تجاوزها غير محرم إلى الجحفة الذي هو ميقاته الأصلي فإنه يلزمه عند جمهور العلماء دم؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: ((هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن)) والإمام مالك يقول: إذا أحرم من ميقاته الأصلي لا يلزمه دم، ولو تجاوز ميقاتاً لقوله: ((هن لهن)) أي هذه المواقيت لأهل تلك الجهات، وقد عمل بنص صريح، نعم هو ترك جزءاً من النص وعمل بجزء، لكن عمل بالجزء الذي يخصه، فالذي يظهر أن قول الإمام مالك وجيه، لكن إذا كان غير ميقاته مثلاً، تجاوز ذا الحليفة، الشامي تجاوز ذي الحليفة، ثم لما وصل إلى جدة مثلاً، قيل له ارجع إلى الجحفة، قال: لا، أريد أن أحرم من السيل، أرفق بي، هذا ليس بميقاته الأصلي، وليس بالميقات الذي مر به، فهل يدخل في قول مالك أو يخرج عليه؟
الظاهر أن التسامح في مثل هذا له وجه -إن شاء الله تعالى- ما دام أحرم من ميقات شرعي معتبر محدد من قبل الشارع ومنصوص عليه.
يقول السائل: إذا تأذى الحاج من البرد في ليلة مزدلفة وغطى رأسه، هل عليه فدية؟
لا يجوز للمحرم أن يغطي رأسه ولا وجهه؛ للحديث الصحيح، في حديث الحاج الذي وقصته دابته فقال: ((لا تخمروا رأسه ولا وجهه))، فلا يجوز للمحرم أن يغطي رأسه ولا وجهه، لكن إن احتاج إلى المحظور فعله ولا إثم عليه وعليه فدية، إن غطى رأسه وهو لا يحس بذلك أثناء النوم، عادته أن يغطي رأسه، ولا ينام إلا إذا غطى وجهه، فإذا نام وغطى رأسه ووجهه حال النوم فقد رفع القلم عنه ولا شيء عليه.(38/4)
يقول السائل: متى تكون الضرورة مستدعية للمبيت خارج حدود منى؟
المبيت بمنى من أهل العلم من قال بأنه ركن من أركان الحج لا يصح إلا به كالوقوف بعرفة، ولا شك أن هذا قول شديد، يجعل الإنسان يحتاط لنفسه، ومنهم من يرى أن الوقوف واجب من واجبات الحج يأثم بتركه ويلزمه إذا تركه دم، ومنهم من قال بسنيته وأنه مستحب، لكن أعدل الأقوال في المسألة أنه واجب، ليس بركن؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- رخص للرعاة والسقاة بتركه، ولو كان ركناً ما رخص فيه، وليس بسنة، وإنما هو اجب ولو كان سنة لما احتاجوا إلى الترخيص.
فالضرورة أو المبرر للمبيت خارج منى ألا يجد مكاناً، فإن كان ممن يحتمل المبيت في الطرقات ولا خطر عليه في ذلك فالذي يتعين عليه أن يبيت؛ لأنها من منى، أما قوله هذا المكان لا يليق به، كيف لا يليق به؟ هذا مبيت، وهذا من منى، وهذا مشعر عظيم، وهو أيضاً لازم لك أيها الحاج، لكن إن خشيت على نفسك الضرر، بأن تدهس بالسيارات أو ينالك ضرر حينئذ: {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [(78) سورة الحج].
من معه نساء وخشي أن يتعرضن لأذية الناس بأنظارهم أو بمزاحماتهم، أو معه أطفال خشي عليهم من السيارات، لا يلزمه أن يبيت على الطرقات، أن يفترش الطرقات، أما إذا كان شاباً قوياً نشيطاً لا خوف عليه ولا ضرر فإنه يلزمه حينئذ المبيت، فإذا بحث عن مكان ما تكفي الإشاعة أن الحجاج كثير ومنى ضاقت، لا، لا بد أن يطلع بنفسه، وكثير من الناس يتساهل في هذا الأمر ويستصحب الأصل أن الحجاج كثير ومنى تضيق بهم ولا تستوعبهم، إذن ما له داعي أطلع، لا، لا بد أن تخرج، فإذا لم تجد مكاناً تبيت بأقرب مكان إلى الحجاج، وإن بتَّ في مكان أبعد عنه باعتبار أن الأماكن غير المشعر المحدد تتساوى فلا حرج -إن شاء الله تعالى- في حدود الحرم.
يقول السؤال: ما حكم تفصيل إزار الإحرام على هيئة ما يسمى الإزار وتكون له جيوب، هل يكون من المخيط المنهي عنه أم لا؟(38/5)
هذا النوع من الألبسة يسمى عند العرب نقبة، كما نص على ذلك الأزهري في تهذيبه، وابن سيده في مخصصه، وغيرهم من أهل اللغة، وذكر في ألبسة العرب أنه نقبة وهو نوع من السراويل، وهو من ألبسة النساء، وليس من ألبسة الرجال، وهو المستعمل الآن هو للنساء وليس للرجال، الذي يسمونه التنورة هذا هو، فلا يجوز لبسه؛ لمنع لبس السراويل، لما جاء من منع من أن المحرم لا يلبس السراويل، لكن نوع من السراويل ليست له أكمام يسمونه التبان، هذا رخصت فيه عائشة رضي الله تعالى عنها- للذين يرحلون رحلها خشية أن تظهر عوراتهم، رخصت فيه عائشة، وجمهور أهل العلم على منعه أيضاً؛ لأنه نوع من السراويل، فلا يجوز لبسه ولا تحت الإزار، وقل مثل هذا في لبس النقاب تحت الخمار، لا يجوز لبس النقاب للمرأة ولا تحت الخمار؛ لأنه في حكم لبس السروال تحت الإزار.
يقول السؤال: هل يجوز للمتمتع الخروج إلى جدة والطائف بعد العمرة وقبل الحج؟
ما يوجد -إن شاء الله تعالى- ما يمنع من ذلك، لا سيما إذا دعت الحاجة إلى ذلك، وإلا فالأفضل أن يمكث في الحرم؛ لمضاعفة الأجر واستغلال الوقت، بدلاً من أن ينهي أو يقضي على وقته بالأسفار والغدو والرواح، لكن إذا سافر سفراً يحتاجه فلا يوجد ما يمنع ويبقى متمتعاً ما لم يرجع إلى أهله.
يقول السائل: قول الفقهاء: كل من ترك واجباً فعليه دم، ما دليلهم رحمهم الله تعالى؟
هذا قول ابن عباس، صح عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- أنه قال: "من ترك نسكاً فليرق دماً" وأهل العلم يقولون أن هذا له حكم الرفع؛ لأنه لا يمكن أن يقوله ابن عباس من كيسه، من جيبه، لا، لا بد أن يكون عنده فيه شيء عن النبي -عليه الصلاة والسلام- وعمل به جماهير أهل العلم فالقول به متجه.
بعد الشوط السابع في السعي -سواءً للحج أو العمرة- هل هناك دعاء أو أنه ينصرف بدون دعاء؟(38/6)
بعد الشوط السابع من الطواف ومن السعي يفعل كما يفعل في سائر الأشواط، وانتشر وشاع بين طلاب العلم أنه لا يكبر عند نهاية الشوط السابع من الطواف، والمرجح أنه يكبر؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- كلما حاذى الركن كبر، وجابر بن عبد الله -رضي الله تعالى عنهما- يقول: "كنا نطوف مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فنمسح الركن الفاتحة والخاتمة" يعني في بداية الطواف وفي نهايته، فالمرجح أنه يكبر، وكذلك يفعل عند المروة إذا انتهى من سعيه.
ما القول الراجح في شرط الطهارة للطواف؟
جماهير أهل العلم على أنها شرط، من ذلك قول النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت))، وأيضاً ما جاء في الحديث -وإن كان مختلف في ثبوته وعدمه- أن ((الطواف بالبيت صلاة)) وقد عمل به عامة أهل العلم.
الاحتمالات التي أوردها شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- وقال: إذا وجد امرأة حاضت وضاق عليها الوقت، ورفقتها لا يوافقونها على البقاء، وإذا بقيت ضاعت، فتتحفظ وتحتاط لخروج الدم، وتطوف على هيئتها، ولا تحبس الرفقة، والمرجح أنها تحبس الرفقة؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- لما حاضت صفية قال: ((أحاسبتنا هي؟ ))، فدل على أن الحائض تحبس الرفقة، نعم ظروف اليوم، والحجوزات والإتيان من بعيد قد يكون فيها مشقة شديدة، لكن هذا ركن من أركان الإسلام، يعني لا يتسامح فيه إلى حد لا يبقى منه شيء، فإذا تساهلنا في هذا الركن، وتساهلنا في ركن من أركانه ماذا يبقى منه؟ ماذا يبقى منه؟
يعني لو قلنا مثلاً أن هذا الركن، هذه ضرورة، طيب ضرورة، ثم تأتي ضرورة أخرى تبيح لها ترك السعي، ثم تأتي ضرورة أخرى ينفتح باب ثاني يبيح لها ترك بعض الواجبات، المقصود أن مثل هذه الأمور الاسترسال معها ينهي العبادة، فلا بد من الحزم لا سيما في الأركان، والواجبات إذا اضطر إليها يجبرها بدم وله تركها، أما الأركان فلا.
ما حكم من يحجون بدون تصريح وبعضهم يلبس المخيط بعد الميقات، حتى لا يمنع؟(38/7)
أولاً التصريح هذا، التحديد بخمس سنوات مبني على فتوى من أهل العلم، ومخالفته لا شك أنها مخالفة لولي الأمر الذي لوحظ فيه المصلحة، ولوحظ فيه أيضاً البناء على قول أهل العلم، فلا ينبغي مخالفة هذا الأمر، لكن إن رأى الشخص أن يحج امتثالاً لما ورد من الأحاديث الكثيرة في الترغيب في الحج، ولم يترتب على ذلك لا كذب ولا رشوة ولا احتيال ولا ارتكاب محظور فيرجى، أما إذا أدى ذلك إلى كذب أو رشوة أو تحايل أو ارتكاب محظور كما يفعل الآن، بعضهم يرتكب محظور ويدخل، ويتجاوز الميقات بثيابه هذا كله لا يجوز ولا يسوغ له ذلك.
ما حكم طواف الحائض للضرورة أي لأجل السفر؟
هذا أجبنا عليه سابقاً.
هل يجوز تقديم السعي على الطواف يوم النحر استدلالاً بحديث: ((افعل ولا حرج)) ورواية: "سعيت قبل أن أطوف"؟
نعم في حديث أسامة بن شريك قال: "سعيت قبل أن أطوف" قال: ((افعل ولا حرج)) والحديث تكلم فيه بعض أهل العلم لكن المرجح ثبوته، والقاعدة العامة تؤيده ويندرج فيها، "ما سئل عن شيء في ذلك اليوم قدم ولا أخر إلا قال: ((افعل ولا حرج))، فيجوز تقديم السعي على الطواف في هذا اليوم، لكن إذا كان طوافه للإفاضة في غير هذا اليوم فأراد أن يقدم السعي لا سيما إذا احتاج إلى تأخير الطواف ليكتفي به عن طواف الوداع، بعض الناس يؤخر طواف الإفاضة من أجل أن يكتفي به عن طواف الوداع، ويكون آخر عهده حينئذ بالبيت، فيقول: أقدم السعي، أولاً أن فعله ليس من أفعال يوم النحر، إنما هو مما يفعله بعد ذلك فلا يتجه القول بجوازه، لا سيما وأن جماهير أهل العلم يرون أن السعي لا يصح إلا بعد طواف، يشترط لصحة السعي أن يقع بعد طواف ولو مسنوناً، وعلى هذا ماذا يصنع من أخر الطواف والسعي ووجد الحرج والمشقة في إعادة الطواف، أنا عندي أنه يطوف ثم يسعى وينصرف أسهل من كونه يقدم السعي على الطواف، يطوف ثم يسعى فإن وجد فسحة لطواف الوداع وإلا يكفيه لقرب العهد، لا سيما وأن عائشة -رضي الله عنها- لما أعمرها أخوها عبد الرحمن من التنعيم طافت ثم سعت، ولم يذكر أنها طافت للوداع.(38/8)
لكن قد يقول قائل: أن عائشة، هذه عمرة، والعمرة لا يلزم لها طواف وداع؟ نقول: لقرب العهد ولوجود المشقة يكتفى بمثل هذا -إن شاء الله تعالى- من غير تقديم للسعي.
يقول السائل: كيف يستشعر المسلم مناسك الحج حين تأديتها خاصة في هذا الزمان الذي انشغل أهله بالمال والبنين؟
استشعار العبادات عموماً هو لبها وهو روحها، شخص يصلي ولا يدري ما الصلاة، شخص يصوم ويوم صومه ويوم لهوه سواء، لا فرق بينهما، يعتكف وكأنه في استراحة، يحج وكأنه في نزهة، مثل هذا لا يمكن أن يستشعر إذا لم يكن اتصاله بالله -جل وعلا- وثيقاً في سائر عمره فإنه لن يعان على هذا، فإنه لا يعان على هذا، بل على الإنسان أن يتعرف على الله -جل وعلا- في الرخاء؛ ليعرفه في الشدة.
وكثير من الناس -في السنة هذه- في رمضان في العشر الأواخر من رمضان وجد من يصلي من بعد صلاة التراويح إلى صلاة التهجد بدون فاصل، يصلي ركعتين ركعتين، لكن بدون فاصل، هذا توفيق من الله -جل وعلا- هل يوفق لمثل هذا من شغل أوقاته باللهو، ولا يعرف الوتر إلا ركعة أحياناً، وأحياناً لا يعان عليها؟ مثل هذا لا يعان على مثل هذا في الأوقات الفاضلة، وقد رأينا من الصالحين من يستغل الوقت بعد صلاة التراويح إلى أن عدنا لصلاة التهجد وهو رافع يديه يدعو الله -جل وعلا- كيف يعان على مثل هذا وهو في سائر وقته لا يعرف الله -جل وعلا- إلا بجسده دون قلبه وروحه؟ ندخل المسجد وكأننا داخلين ملهى، نسأل الله العافية، ويسهو الإمام ويتجاوز أحياناً آيات ونحن كأننا لا نشعر، والإمام نفسه أيضاً قد يقرأ الآيات المؤثرة ولا يتأثر، ولا أحد من المأمومين يتأثر، وإذا تأثر الإمام وبكى في بعض آية تجد تكملته للآية كـ لا شيء، كأن شيئاً لم يحصل، هل هذا تأثر؟! يعني قد يبكي في جزء من الآية ثم بعد الآية ينهيها على شيء من التعتعة لكن الآيات الثانية التي تليها كأن شيئاً لم يحصل، هل هذا تأثر؟(38/9)
عرف من حال السلف أن الإنسان إذا خشع في صلاته أو في تلاوته في الليل يعاد في النهار، فنحتاج إلى مراجعة، الصلاة التي لا تنهى عن الفحشاء والمنكر هذه بدون لب، الصيام الذي لا يدل على التقوى بدون لب، في قوله -جل وعلا-: {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [(203) سورة البقرة]، لِمَنِ اتَّقَى: فرفع الإثم لمن؟ لمن اتقى، هذا خاص بالمتأخر، أو يشمل المتأخر والمتعجل؟ لمن اتقى يعني ممن تأخر وإلا الجميع؟
الجميع لا يرفع الإثم عن الجميع سواءً تعجل أو تأخر إلا إذا اقترن حجه بالتقوى، ورفع الإثم هنا كقوله -عليه الصلاة والسلام-: ((رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه))، والذي لا يستشعر مثل هذه الأفعال، ومثل هذه المناسك، ولا يعظمها حق تعظيمها فما عظم الله -جل وعلا- ولا وجدت تقواه في قلبه، تعظيم الشعائر من تقوى القلوب، فالإنسان يدخل على أي هيئة؟
وشخص يدخل المسجد وينتظر شخصاً -هو ظاهره الصلاح وملتحي- ينتظر شخصاً خشية أن يخرج قبله لأنه فاته بعض الركعات إلى أن سلم الإمام فكلمه ثم عاد يصلي، هذا حصل، ومع ذلك يأتي شخص مثلاً وجاء من المواضئ توضأ حاسراً شماغه على كتفه، والعقال على يده، ويصل يصلي ركعة ما بعد كمل؟! ما بعد لبس الشماغ ولا بعد عدل العقال ولا يديه، ولا شيء، مثل هذا يستشعر عظمة هذه العبادة؟ فلا بد من الاستشعار ولا بد من استحضار القلب؛ لتؤتي هذه العبادات ثمارها، لا يقول قائل أن هذه العبادات ليست صحيحة باطلة لا بد من إعادتها، الصلاة -العبادة عموماً- إذا اشتملت على أركانها وشروطها وواجباتها صحت وسقط بها الطلب، لكن هل تؤتي الثمرة التي من أجلها شرعت؟ هل حقق العبودية التي من أجلها خلق على مراد الله جل وعلا؟ هذا خلل كبير، مثل هذا عرضة لأن ينحرف، فلا بد أن يتصل المسلم بالله -جل وعلا- وأن تكون صلته به وثيقة، في حال شدته ورخائه.
هذا سؤال يقول: ما حكم المسابقات الثقافية والبرامج العامة التي تكون في الحملات وفيها نوع من الترفيه في أيام الحج؟(38/10)
بالنسبة للمسابقات عموماً فالأصل في المسابقات أنها لا تجوز إلا في الجهاد، فقط، ((لا سبق إلا في خف أو نصل أو حافر)) ما في إلا في الجهاد.
شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- وابن القيم رأوا -أو شيخ الإسلام بالذات الذي هو أصل في المسألة- رأى أن العلم باب من أبواب الجهاد، باب من أبواب الجهاد، فألحق المسائل العلمية بالجهاد وجوز فيها السبق، وما عدا ذلك فيبقى على المنع، ما عدا ذلك فيبقى على المنع، ولا شك أن الحج جهاد وفي سبيل الله، الحج في سبيل الله، لكن هل يسوغ لنا أن من وقف بعرفة فله كذا، من بات بمزدلفة إلى كذا فله كذا، وإن كان في سبيل الله ونلحقه بالجهاد؟ أبداً، من هذه الحيثية لا، لأن هذه عبادات مطلوب عملها من المسلم ولا يلزم أن يحث عليها، وإذا كان لا يفعلها إلا إذا شجع عليها هذا ما جاء للعبادة، وإلا الأصل في المسابقات المنظور فيها لا شك أنه الفائدة العلمية، سواءً كانت في الحملات أو غيره، لكن يبقى أن جانب الترفيه والتسلية ملحوظ أيضاً، وبدلاً من أن يؤمر الحجاج بالإكثار من النوافل والأذكار والتلاوة والتدبر وخدمة الإخوان، نلهيهم ونشغلهم ونقضي على أوقاتهم بمثل هذا؟ وإن كان فيه نوع نفع، لكن لكل مقام مقال، ولذا في الاعتكاف إنما شرع للعبادات الخاصة، حتى أن السلف يعطلون دروسهم وهي في الكتاب والسنة يعطلونها؛ من أجل أن يتفرغوا للقيام والصيام والتلاوة والأذكار والصلة بالله تقوية لصلة بالله -جل وعلا-.(38/11)
فبعض الناس الآن بحجة أنه يتألف الشباب على الاعتكاف ويسترسل في هذا، حتى أنه وجد بعض الألعاب في المسجد من أجل أن يتألف هؤلاء الشباب، وبعض الآلات التي في بعضها شيء من المخالفات، يجيب لهم بعض الآلات من أجل أن يتألفهم، هذا ليس باعتكاف، يعني لو سماه محضن تربوي ممكن، لكن هذا مجاله غير المسجد، هذه العبادة خاصة وجاءت على نمط خاص، والتفرغ التام فيها ظاهر من فعله -عليه الصلاة والسلام- وفعل أصحابه من بعده، فلا ينبغي أن تخلط بشيء من هذا، والاعتكاف الذي لا يأتي إلا بشيء من المخالطة هذا ليس باعتكاف، ولن تترتب عليه آثاره، وبعض الناس ولوحظ حتى ممن ينتسب إلى العلم يأتي بآلاته يأتي بالمحمول ويأتي بالجوال، ويأتي بـ ... هذا اعتكاف؟! لا بد أن يتجرد الإنسان من أمور الدنيا، ليس معنى هذا أن يترهب أو يتبتل أو يفعل فعل اليهود والنصارى ومغرقة الصوفية وغيرهم، لا، المسألة مسألة تقوية الصلة بالله -جل وعلا- كيف تكون؟، قراءة القرآن هذا وقته؛ رمضان شهر القرآن، والاعتكاف إنما شرع لمثل هذا، فإذا قرأ القرآن على الوجه المأمور به في هذا الوقت آتى ثماره، ورزقه الله به من العلم واليقين والطمأنينة وزيادة الإيمان ما لا يدركه إلا هو أو من فعل فعله، هذا والله المستعان يذكر في الكتب وإلا التجربة الظاهر أنها انتهت، والله المستعان من غير تيئيس، وإلا يوجد ولله الحمد في الشباب بعض من يظن فيه الخير -إن شاء الله تعالى-.
شيخ كبير قد جاز المائة -وهذه كررتها مراراً لكنها مؤثرة بالفعل- قد جاز المائة -بدون مبالغة- في صلاة التهجد في التسليمة الأخيرة خفف الإمام بدلاً من أن يقرأ جزء في التسليمة خفف ورقة أو ورقتين؛ لأنه سمع من يؤذن، والعادة أنهم إذا أذنوا فهم انتهوا من الصلاة، فلا يريد أن يشق على جماعته، فلما سلم نزل عليه هذا الشائب -هذا الشيخ الكبير- بأقسى الأساليب، يقول: يوم جاء وقت اللزوم خففت؟!(38/12)
عندنا ما أبداً الساعة في كل وقت، وإذا كانت في الحائط هي الشاغل للإنسان، العادة أننا ننتهي في الساعة كذا، ينظر متى انتهت ومتى .. ، ولا يستشعر من صلاته شيء، لا شك أن القلوب مدخولة؛ وسببها التخليط في المأكل والمشرب والملبس والمنكح، المركب، فضول الكلام، فضول النوم، فضول الاستماع، في الفضول كلها، هذه كلها منافذ إلى القلب، فإذا سددت هذه المنافذ بهذه الأمور التي تجعل الران يغطي القلب انتهى، ينتهي.
يقول السائل: قد لبست الإحرام الذي يكون مخاطاً من أعلى فماذا علي الآن؟
هذا لبسه سابقاً لبسه سابقاً واعتمد فيه على فتوى من تبرأ الذمة بتقليده، هذا ما عليه شيء، لا شيء عليه لا سيما إذا لم يكن من أهل النظر.
من كان عمره سبعة عشر سنة وهو يستطيع الحج، ووالده يرفض أن يحج، هل يعصي والده أم يطيعه؟
كيف يعصي والده، هو عاص لله -جل وعلا-؛ لأن الحج على الفور وهو مكلف مطالب به، إذا كان مستطيعاً لا يجوز له أن يؤخر الحج، هو عاص لله -جل وعلا- قبل والده.
ومع الأسف أنه يوجد من طلاب الكليات الشرعية من يقول: والله تسليم البحث بعد الحج مباشرة، أنا لا أستطيع أن أحج، الاختبارات بعد الحج أنا لا أستطيع أن أحج، بل وجد ما هو أيسر من ذلك بكثير، منهم من قال والله السنة سنة ربيع، ما أستطيع أن أحج والربيع ما شاء الله، لنستغل ها الفرصة أيام الحج بالرحلات والروحات مع الأخوان وجد هذا، والله وجد ممن ظاهره الصلاح.
هذا على قول من يقول أن الحج على التراخي، ما شي، لكن على القول بأن الحج على الفور وهو القول المرجح يأثم، ولو مات لا شك أن إثمه عظيم، نعم؛ لأنه فرط.
كثر من الناس التحجيج عن الأموات نفلاً، فهل هذا مستحب وهل له من ضوابط؟
الحج والعمرة مما يقبل النيابة، والنبي -عليه الصلاة والسلام- قال: ((حج عن أبيك واعتمر))، فلا أرى ما يمنع من النيابة عن الغير في الحج إن شاء الله تعالى.
ما حكم المبيت بما يسمى منى الجديدة أو توسعة منى، مع العلم أننا لم نتأكد هل في منى زحام أم لا؟(38/13)
كيف منى الجديدة، وكيف تكون لمنى توسعة، هل هي تقبل التوسعة، مشعر معروف الحدود والأطوال من جميع الجهات فلا تقبل التوسعة، يعني لو ضحكوا على من يقتدي بهم وقالوا هذا من منى الجديدة، إيش معنى منى الجديدة، هذه لا تقبل التوسعة، من بات خارج حدود منى فهو خارج منى، سواء كان في مزدلفة أو في مكة أو يمينها أو شمالها، هو خارج منى ومنى معروفة الحدود والأطوال، ولا شك أنه إذا فرط ولم يبحث عن مكان أنه آثم من جهة ويلزمه ما يلزم تارك الواجب.
يقول السائل: من كانت وظيفته في الرياض وأهله بين مكة والميقات من أين يحرم إذا أراد الحج والعمرة؟
هو مسكنه الرياض، وأنشأ النسك -سواءً كان حجاً أو عمرة- من الرياض، عليه أن يحرم من ميقات أهل نجد، الذي هو السيل.
يقول: من المعلوم أن جمهور العلماء يقولون: بأن من ترك الحج تكاسلاً مع إقراره بوجوبه أنه لا يخرج من الإسلام، فما أحسن الأجوبة عن قوله تعالى: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [(97) سورة آل عمران]، والإجابة عن أثر عمر: "ما هم بمسلمين" وحديث: ((من وجد زاداً وراحلة فلم يحج، فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً))؟
الحج ركن من أركان الإسلام بالإجماع، وجاء فيه الوعيد الشديد في الآية: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [(97) سورة آل عمران]، وجاء في الحديث، والكلام فيه كثير لأهل العلم؛ حتى أدخله ابن الجوزي في الموضوعات، ولا يصل إلى حد الوضع، بل بشواهده قد يقبل التحسين عند بعضهم.
المقصود أن شأن الحج عظيم، شأنه عظيم، ومن أهل العلم وهو رواية في مذهب الإمام أحمد، وقول لبعض أصحاب مالك، أنه يكفر بترك الحج كتارك بقية الأركان، فالأمر عظيم، هذه نصوص وعيد، ومعلوم عند أهل العلم أن نصوص الوعيد تمر كما جاءت؛ لأنها أبلغ بالزجر، لا سيما على قول الجمهور الذين يرون أنه لا يكفر كسائر الأركان، ماعدا الشهادتين اللتين لا يدخل الإسلام إلا بهما، والصلاة والمرجح أن تاركها كافر، والنصوص في هذا صحيحة صريحة.
يقول: هل يجوز للمرأة أن تستخدم مانع الحيض لأجل الحج؟(38/14)
إذا كان لا يضر بها فلا يوجد ما يمنع -إن شاء الله تعالى- إذا كان من غير ضرر فلا يوجد ما يمنع -إن شاء الله تعالى- من أجل الحج أو من أجل الصيام، أو من أجل القيام مع الناس، لا يوجد ما يمنع إذا كان لا يضر بها والحكم معلق بخروج الدم، فإذا لم ينزل فصيامها صحيح وطوافها صحيح وصلاتها صحيحة، مع أنها لو تركت الأمر كما قدر الله -جل وعلا- على بنات آدم ونزل في وقته لكان أولى وأحوط.
يقول السائل: كثر الحديث حول حج النبي -صلى الله عليه وسلم- هل حج -عليه الصلاة والسلام- قارناً أو متمتعاً؟ وأي مناسك الحج أفضل؟
أما بالنسبة لحجه -عليه الصلاة والسلام- فقد جاء فيه أحاديث صحيحة، وأنه حج مفرداً، وجاء أيضاً ما يدل -وهو صحيح- أنه كان قارناً، وجاء ما يدل على أنه تمتع -عليه الصلاة والسلام- وكلها صحيحة، والشيخ الأمين الشنقيطي -رحمه الله تعالى- يقول: "تعارضها تعارض بيِّن، ولا يستطيع عالم -مهما بلغ من العلم- أن يجمع بين ما تعارض منها؛ لأن معارضتها ظاهرة".
ونقول: لا يوجد حديثان صحيحان صريحان تعارضهما ظاهر، إلا إذا كان أحدهما ناسخ والثاني منسوخ، وإلا فلا بد من التوفيق بين هذه الأحاديث.
ومن أفضل ما يقال: بأن من قال إن النبي -عليه الصلاة والسلام- حج مفرداً إما أن يقال أنه لبى مفرداً في أول الوقت إلى أن قيل له: "صلِّ في هذا الوادي المبارك، وقل: حجة وعمرة" فقرن -عليه الصلاة والسلام-، فمن نظر إلى إحرامه في بادئ أمره قال: مفرداً، ومن نظر إلى نهاية أمره قال: قارناً، ومنهم من يقول: أن من قال أنه حج مفرداً نظر إلى صورة فعله -عليه الصلاة والسلام-؛ وصورة حج القارن لا تختلف عن صورة حج المفرد، فمن نظر إلى الصورة قال مفرداً، ومن نظر إلى الحقيقة، وأنه جمع بين النسكين وأهدى ومنعه هديه من أن يكون متمتعاً قال: إنه حج قارناً وهو الأرجح.
الأرجح أنه حج قارناً -عليه الصلاة والسلام-، ومن قال تمتع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد نظر إلى المعنى الأعم في التمتع، المعنى الأعم في التمتع: وهو الجمع بين النسكين في سفرة واحدة، هذا تمتع؛ لأنه ترفه بترك أحد السفرين، فهذا تمتع يشمله المعنى العام للتمتع.(38/15)
والمحقق في نسكه -عليه الصلاة والسلام- أنه كان قارناً، ولم يمنعه من أن يتمتع إلا سوقه الهدي، وقد صرح بذلك -عليه الصلاة والسلام-.
يقول السائل: لدي عم توفي ولم يحج وكان يصلي تارة ويترك الصلاة تارات أخرى تهاوناً وكسلاً، فهل يجوز لي أن أحج عنه أفتونا أثابكم الله؟
ينظر في آخر أمره، وفي آخر صلاة مرت عليه من حياته وهو يعقل، هل صلى أو لا؟ فإن كان صلى آخر صلاة فهو مسلم، فهو مسلم حكماً، ومع ذلك يحج عنه، ويتصدق عنه ويدعى له، وإن كان في آخر وقته مع ثبات عقله لا يصلي فمثل هذا لا يحج عنه، ولا يدعى له، ولا يتصدق عنه.
يقول السائل: ما ضابط المبيت في منى؟
ضابط المبيت أن يبيت غالب الليل؛ لأن الحكم للغالب، وعلى هذا جمهور أهل العلم، أن يبيت غالب الليل، فإذا بات غالب الليل يكفيه إن شاء الله تعالى.
يقول: لقد حجَّت والدتي قبل سنوات ولكنها طافت طواف الحج وهي على غير طهارة، فما الحكم في ذلك؟
هذه حجَّت قبل سنين، وقد طافت طواف الحج، يعني طواف الإفاضة، وهل طافت للوداع أو لم تطف بعده؟
طالب: طافت ....
طافت طواف الحج غير طاهرة، الطواف غير صحيح، فإن كانت قد طافت طواف الوداع بالطهارة فمن أهل العلم من يرى أنه يقوم مقام طواف الإفاضة، وهو معروف عند الشافعية، وعند المالكية أيضاً، يقوم مقامه أول طواف صحيح يقع بعده؛ لأنه دين في ذمتها وقد أدته، ومنهم من يقول أنه ما زال، ما دام ما نوت أنه طواف إفاضة -الذي هو ركن الحج- فلا يزال في ذمتها فعليها أن تذهب فتطوف للحج، وتسعى بعده باعتبار أن السعي لا يصح إلا بعد طواف، وبعد ذلك أو قبله تذبح شاة، ويكفيها عن ذلك، وأما المحظورات التي ارتكبتها وهي جاهلة يعفى عنها إن شاء الله تعالى.
طالب:. . . . . . . . .
توفيت؟ لو طيف عنها يسقط إن شاء الله.
يقول: إذا جامع الرجل زوجته في الحج قبل التحلل الأول هل يترتب على المرأة ما يترتب على الرجل من الأحكام؟
إذا كانت مطاوعة وهي حاجة ومطاوعة يترتب عليها؛ لأن النساء شقائق الرجال، وإن كانت مكرهة فلا شيء عليها.
يقول السائل: ما حكم قول من يقول: أنه يصح التحلل الأول برمي جمرة العقبة فقط يوم النحر؟(38/16)
المسألة بين أهل العلم فيها خلاف طويل، ومن قال به فله دليله: ((إذا رميتم فقد حللتم))، والرواية الأخرى: ((إذا رميتم وحلقتم))، لكن كأن إذا رميتم أصح، لكن أصح من الجميع حديث عائشة، حديث عائشة أصح من الروايتين في هذا الحديث، وهي أنها كانت تطيب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لإحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف، فقيدت الحل بما قبل الطواف، وقد مضى الأمران، فالقول المرجح -إن شاء الله تعالى- أنه لا يتم التحلل الأول إلا بفعل اثنين من ثلاثة.
يقول السائل: في مخيم بعض الحملات مصلى، ولكنه لا يكفي فهل يصح تكرار الجماعة، أم يقال يصلي الحجاج في خيام ويتابعون الإمام عبر مكبر؟
إن أمكن أن يصلوا ويتابعوا الإمام وهم ملتصقون بالجماعة، ويرونهم ولا يوجد ما يحول دونهم، فمتابعتهم للإمام أفضل، وإن ضاق بهم المكان أو كان هناك فواصل من طرقات وغيرها فيصلون جماعات، يعيدون الجماعة؛ وإعادة الجماعة عند جمع من أهل العلم لا إشكال فيها؛ لا سيما وأن النبي -عليه الصلاة والسلام- لما رأى الداخل بعد الفراغ من صلاة الفجر، وأراد أن يصلي منفرداً قال: ((من يتصدق على هذا))، وفي هذا إعادة للجماعة.
ما حكم طواف الوداع في العمرة؟
لا يجب طواف الوداع للعمرة؛ لأنه لم يحفظ عن النبي -عليه الصلاة والسلام- أنه طاف، وقد اعتمر مراراً، لم يحفظ عنه أنه طاف للوداع، ولا أمر به، وإنما أمر بالوداع بعد تمام نسكه الذي حج فيه حجه، ((إذا أراد أحدكم أن ينفر فلا ينفر حتى يطوف بالبيت))؛ ليكون آخر عهده بالبيت الطواف.
ما حكم من حج مفرداً ولم يؤدِّ عمرة الإسلام من قبل؟
حجه صحيح، لكن تبقى العمرة في ذمته، تبقى العمرة في ذمته؛ لأنها واجبة في أصح قولي العلماء.
ما معنى قول جابر، "أهل النبي -صلى الله عليه وسلم- بالتوحيد"؟
أهل بالتوحيد أهل بقوله: ((لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك))، على خلاف ما كانت تلبي به العرب قبل الإسلام فيستثنون: إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك، هذا الشرك فنقضه النبي -عليه الصلاة والسلام- من أساسه واقتصر على التوحيد.(38/17)
مما يؤسف له أن كثيراً من الحجاج الذين يفدون إلى هذه البقاع المقدسة يقع منهم شيء من الشرك، سواءً كان الأصغر أو الأكبر أحياناً، يقع منهم الشرك خلاف ما شرع الحج من أجله، وخلاف ما خلق الإنسان من أجله، فيقع الشرك بينهم فيحلفون بغير الله -جل وعلا-، ويتداولون بعض الألفاظ الذي جاء تسميتها شركاً، وقد يتجاوزون ذلك إلى الشرك الأكبر، فيدعون من يعتقدون صلاحه من دون الله -جل وعلا- وقد سمعت بأذني من يقول تحت الكعبة: "يا أبا عبد الله جئنا بيتك وقصدنا حرمك نرجو مغفرتك"، والنبي -عليه الصلاة والسلام- أهل بالتوحيد، هذا الشرك، إن لم يكن هذا هو الشرك فلا شرك، نعم.
بعض الحجاج يحجون مفردين ثم يأتون بالعمرة بعد الحج حتى يسقط عنهم الهدي، فما حكم فعلهم هذا؟
فعلهم صحيح، والإتيان بالعمرة بعد الحج ثبت من أمر النبي -عليه الصلاة والسلام- لعبد الرحمن بن أبي بكر أن يعمر أخته عائشة من التنعيم ويسقط عنه الهدي، وفعله صحيح، لكنه فاته الأفضل، إلا على قول من يوجب التمتع.
طالب:. . . . . . . . .
طيب، هذه مما اختلف فيه أهل العلم فأوجبه كثير من أهل العلم، وأنه لا يجوز أن يدخل مكة بغير إحرام، وأن دخوله -عليه الصلاة والسلام- يوم الفتح بغير إحرام وعلى رأسه المغفر، هذا إنما كان في الساعة التي أحلت له، والاستثناء يشمل هذا، وهذا قال به جمع من أهل العلم ممن يعتد بقولهم.
وأما القول الآخر فإنه لا يلزم الإحرام إلا من أراد الحج والعمرة، وهذا هو الأظهر من حيث الدليل؛ لما حدد النبي -عليه الصلاة والسلام- المواقيت قال: ((هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج أو العمرة))، فهذا صريح، وأما الاستثناء فإن ترخص أحد بفعل النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((فإنما أحلت لي ساعة من نهار، وعادت حرمتها إلى يوم القيامة)).(38/18)
قالوا إن قوله -عليه الصلاة والسلام- من ترخص بفعلي أو اقتدى بي في هذه الساعة، فقولوا له أن النبي -عليه الصلاة والسلام- إنما أحلت له في هذه الساعة، يعني أحل له القتال وأحل له الدخول بغير إحرام، ثم عادت حرمتها، فلا يجوز القتال فيها، ولا يجوز دخولها بغير إحرام، وهذا نص عليه جمع من أهل العلم واستدلوا بهذا الحديث على أنه يجب على كل من أراد دخول مكة أن يحرم، لكن الحديث الآخر أصرح في الدلالة، والقول الثاني أرجح، وأنه لا يلزم؛ لأن دليل القول الأول مجمل، يحتمل الأمرين معاً، ويحتمل القتال فقط، مادام مجملاً ويوجد النص الصحيح المفسر البين الواضح فيقدم عليه، ولذا المرجح من قول أهل العلم أنه لا يلزم الإحرام إلا من أراد الحج والعمرة.
ما حكم الإحرام للمتردد في الحج والعمرة؟
نعم هذه مسألة تحصل كثيراً يكون للإنسان عمل معين قريب من مكة، إما أن ينتدب إلى الطائف أو إلى جدة، فالطائف بإمكانه أن يحرم من السيل، لا إشكال فيه إذا غلب على ظنه أو ترجح عنده أداء العمرة، لكن الإشكال في مثل جدة، ينتدب للعمل في جدة، ويكون متردداً إن تيسر لي اعتمرت، ما تيسر أديت العمل ورجعت، إن كان تردده على حد سواء هل يعتمر أو لا يعتمر على حد سواء -خمسين بالمائة يعتمر وخمسين بالمائة لا يعتمر أو أقل- كان عزمه على العمرة أقل من عدمه، فمثل هذا يحرم من حجه، وإن كان الغالب على الظن أنه يأتي بالعمرة ويتمكن من فعلها بعد فراغه من عمله أو قبله، فمثل هذا يحرم من ميقات بلده، والحكم معلق بغلبة الظن.
ما حكم الإحرام قبل الميقات؟(38/19)
الإحرام قبل الميقات: كثير من الناس يحرم في مطار الرياض، وليس المراد بالإحرام التأهب للإحرام، لا، بعض الناس يقول: ما أدري يمكن تفوت الطيارة وأنا ما انتبهت فيلبي في مطار الرياض، ثبت عن بعض الصحابة أنهم أحرموا قبل الميقات، وأحرم ابن عمر، وأحرم عُبادة وغيرهم من الصحابة أحرموا قبل الميقات، ومنهم من أحرم من بيت المقدس، وإلا لو لم يثبت الإحرام قبل الميقات عن بعض الصحابة لقيل بأنه بدعة؛ لأن فعله -عليه الصلاة والسلام- هو الأصل في الباب، وأحرم النبي -عليه الصلاة والسلام- من الميقات وقال: ((خذوا عني مناسككم))، فالإحرام قبل الميقات لا شك أنه خلاف الأولى، فالذي يحرم من مطار الرياض خشية أن تمر الطائرة على الميقات وهو لا يشعر، يقول أرتاح، أنا الآن أضمن أني دخلت في النسك، والمراد بالإحرام نية الدخول في النسك لا التجهز له والتجرد من المخيط ولبس لباس الإحرام، لا، هذا لا بأس أن يلبس من بيته، يلبس من بيته، في بيته في الرياض يتجهز، ويلبس الإزار والرداء، لكن لا ينوي الدخول في النسك إلا إذا حاذى، ويوجد في مدينة الرسول -عليه الصلاة والسلام- من يحرم في مكان إقامته، ثم يدخل المسجد للصلاة بإحرامه، ولوحظ هذا بكثرة، يدخل المسجد النبوي بإحرامه، فمثل هذا يوقع في لبس، بعض الجهال يظن أن هذا أحرم لدخول المسجد، أو لزيارة النبي -عليه الصلاة والسلام- فيظن أن هذا مشروعاً فينبغي أن يمنع، إذا أراد أن يحرم في بيته وهو أرفق له من الميقات يحرم، لكن لا يأتي إلى المسجد، لا يحرم إلا إذا انتهى من المسجد، فكونه يحرم ثم يدخل المسجد محرماً قد يظن بعض الجهال -ولا سيما أنه لوحظ أنه يزداد، يعني كان يوجد أفراد، لكن الآن يوجد جماعات يدخلون المسجد محرمين- فيظن بهم، أو يظنون أنهم أحرموا من أجل زيارة النبي -عليه الصلاة والسلام- فمثل هذا ينبغي أن يمنع، ولا يحرم إلا من الميقات، أو لا يدخل المسجد إذا أحرم، إذا لبس ثياب الإحرام، إذا لبس ثياب الإحرام.
يقول: ما حكم لبس الخف لمن لم يجد النعل؟(38/20)
جاء في الحديث الصحيح أن ((من لم يجد النعلين فليلبس الخفين))، وجاء أيضاً في حديث آخر: ((من لم يجد النعلين فليلبس الخفين، وليقطعهما أسفل الكعبين))، وأكثر أهل العلم على حمل المطلق على المقيد في هذه الصورة؛ لأنه اتحد الحكم والسبب فلا بد من القطع.
النبي -عليه الصلاة والسلام- بيَّن القطع في المدينة، ولم يشر إليه بعرفة، فقال في المدينة: ((من لم يجد النعلين فليلبس الخفين، وليقطعهما أسفل الكعبين))، وفي عرفة قال: ((من لم يجد النعلين فليلبس الخفين)) ولم يشر إلى القطع، فمنهم من رأى أن هذا ناسخ للأول، ناسخ للأول؛ لأن الحاجة داعية إلى البيان في هذا الموطن؛ لأنه حضر في عرفة -حضر الموقف- من لم يحضر الخطبة في المدينة، ومنهم من يقول: أبداً اتحدا في الحكم والسبب فيجب حمل المطلق على المقيد، فيُستصحب الأمر بالقطع ولو لم يذكر، ويكفي في ثبوت الحكم التنصيص عليه مرة واحدة، والقول بالنسخ لا يصار إليه إلا إذا تعذر الجمع، والجمع ممكن بحمل المطلق على المقيد، ولا شك أن مثل هذا أحوط: ((وليقطعهما أسفل الكعبين))، ولو عمل بالقول الآخر لا سيما وأن الحاجة ماسة إلى البيان، وتركه للبيان يدل على الجواز، وهذا ما سلكه الإمام أحمد، وأنه يلبس الخفين ولا يقطعهما.
ووجد من يلبس ابتداءً، يجد نعلين، لكن يلبس خفين أسفل من الكعبين، هو يجد نعلين، ما دام رخص في الخفين المقطوعين أسفل من الكعبين كأنه ظن أن هذا يجوز في حال السعة! مثل هذا الخف المقطوع أسفل من الكعبين لا يلبس إلا مع عدم النعلين، لا يلبس مع وجود النعلين.
نرجو توضيح لبس المرأة المشروع في الحج من رأسها إلى قدميها؟(38/21)
لبس المرأة المشروع في الحج، المرأة تختلف عن الرجل فتلبس ما يستر بدنها كله، ولا يستثنى من ذلك إلا النقاب والقفازين، فلا يجوز للمحرمة أن تلبس النقاب، ولا يجوز لها أن تلبس القفازين، وما عدا ذلك يجب ستر بدنها، لا سيما إذا كانت بحضرة الأجانب، وعليها أن تغطي وجهها وكفيها بغير القفازين، وبغير النقاب؛ لأن وجهها ويديها عورة بحضرة الأجانب، وكانت إحداهن كما في حديث أسماء وحديث عائشة وغيرها تكشف وجهها، فإذا حاذاها الركبان سدلت إحدانا كما تقول: "سدلت إحدانا خمارها على وجهها" فتغطية الوجه وسائر البدن بحضرة الرجال الأجانب لا بد منه للمحرمة وغيرها.
من كان لديه خادمة فهل يجوز له أن يأخذها معه للحج؟
يشترط لوجوب الحج على المرأة وجود المحرم، فإذا لم تجد محرم فإنه لا يجب عليها حج، وإذا حجت بغير محرم أثمت وأثم من حج بها، وحجها صحيح، ومجزئ ومسقط للطلب، لكنها آثمة، فلا يجوز لها أن تسافر بغير محرم.
يقول السائل: إذا كانت علة ترك المحظورات هي الترفه، وإذا كان ذلك كذلك فهل تكره الرفاهية الزائدة في بعض الحملات في المآكل والمشارب والمراكب والفرش؟
صح عن النبي -عليه الصلاة والسلام- في البخاري وغيره أنه حج على رحل، ما معنى حج على رحل؟ يوضحه بقية الحديث: "وحج أنس بن مالك على رحل ولم يكن شحيحاً" حج النبي -عليه الصلاة والسلام- على رحل، وحج أنس بن مالك على رحل ولم يكن شحيحاً، هذا فيه دليل على عدم الترفه، ولم يفعله النبي -عليه الصلاة والسلام- ولا خيار هذه الأمة، فعلى الإنسان أن يتوسط في أموره كلها، في حجه وفي غير حجه، لكن في أوقات العبادات والأزمان الفاضلة ينبغي أن ينكسر الرجل ويخرج عن مألوفه بالقرب من الله -جل وعلا-، وكلما تواضع الإنسان وانكسر قلبه كان أقرب إلى ربه، ولذا ((أقرب ما يكون العبد إلى ربه وهو ساجد)).(38/22)
بعض الناس يبحث عن أفضل الحملات، أفضل من ناحية إيش؟ من ناحية الخدمات، وبعضهم يبحث عن أفخر الفنادق، ما أدري كيف يستحضر ويستشعر لذة العبودية، رائح ليتعبد في العشر الأواخر من رمضان ويبحث عن أفخر الفنادق، التي لا يسكنها إلا طبقة من الناس قد لا يناسبونه، ويمر بأمور لا تناسب لا الوقت ولا الزمان ولا المكان، وينظر عن يمنيه وعن شماله، وناس لا يناسبونه فمثل هذا عليه أن يتواضع لله -جل وعلا- لا سيما في هذه الأماكن المقدسة والأوقات الفاضلة.
إذا كان النبي -عليه الصلاة والسلام- كادت الخميصة أن تفتنه -خميصة ثوب مخطط- فماذا عن غيره -عليه الصلاة والسلام-؟ وماذا عما هو أعظم من الخميصة؟
لا بد أن يبذل الإنسان كل ما يستطيع لحماية جناب العبادة، الخميصة كادت أن تفتن النبي -عليه الصلاة والسلام- وصلته بربه –عليه الصلاة والسلام- أقوى الصلات، فكيف بغيره؟
لو تحرك الباب نسي كل شيء -كما هي حالنا- وبعض المساجد الذي له أدنى ذوق بالخط والرسم لن يدرك من صلاته شيء، هذا إذا كان له أدنى ذوق، فكيف بمن يتذوق أمثال هذه الخطوط والرسوم والنقوش، وصارت مساجد المسلمين تشبه الكنائس، فما بالك بالفنادق الخمسة نجوم، وأحياناً يقولون: بعد الآن ظهر سبع نجوم وما أدري كم، {وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [(8) سورة النحل]، ما تدري،؟ هل يستشعر الإنسان الصلة بالله -جل وعلا- وهو بين هذه الزخارف؟
والمساجد حالها كما ترون، المساجد والنهي عن زخرفتها وأنها من علامات الساعة معروفة، كل هذا من أجل حماية العبادة، جاء في الأثر: "لا تحمروا ولا تصفروا"، وإذا نظرت إلى أكثر المساجد والألوان اللي فيها الأحمر والأصفر، والله المستعان.
يقول السائل: الذي يطوف بالصبي وقد ضم صدره إلى صدره، فيكون البيت عن يمين الصبي ما حكم طوافه؟ وهل تكفي نية واحدة للحامل والمحمول؟
نعم إذا طاف بصبي طوافاً صحيحاً، بمعنى أن يكون البيت على جانبه الأيسر، وقد نوى عنه وعن محموله أجزأه، أجزأه الطواف ولا يلزم أن يطوف به ثانية، لكن إذا حمله على الصفة المذكورة بأن يكون البيت عن يمين الصبي المحمول فإن الطواف لا يصح،؛ يشترط لصحة الطواف أن يكون على الجهة اليسرى على يسار الطائف.(38/23)
في قوله تعالى: {وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ} [(196) سورة البقرة] قول السائل: أشكل علي الحلق في يوم العيد قبل ذبح الهدي، أرجو التوضيح؟
هذا من أعمال الحج التي سئل عنها النبي -عليه الصلاة والسلام-، وما سئل عن شيء منها إلا قال: ((افعل ولا حرج))، ولا شك أن الذبح أيضاً فيه إشكال، هل يذبح من حين ينصرف من مزدلفة باعتبار أنه يجوز له أن يرمي، ويجوز له أن يطوف، ويجوز له أن يقدم الحلق عليهما بناء على ما ثبت من قوله: ((افعل ولا حرج))؟ فإذا جاز له أن يرمي مجرد وصوله إلى منى، يجوز له أن يطوف بمجرد انصرافه من مزدلفة، ويجوز له أن يقدم النحر عليهما، لا شك أن هذا فيه إشكال، والنحر الذي سببه التمتع أو القران عند أهل العلم حكمه حكم الأضحية، وإن وجد من يقول: بأنه يجوز ذبحه قبل الصلاة وقبل طلوع الفجر بل قبل يوم النحر، بل قبل يوم عرفة من حين إحرامه بالحج؛ لأنه انعقد سببه، ما دام انعقد السبب فيجوز فعله ولو لم يأتي وقت الوجوب، والقاعدة: أن العبادة إذا كان لها سبب وجوب ووقت وجوب فإنه لا يجوز فعلها قبل السبب اتفاقاً، ويجوز فعلها بعد الوقت يعني بعد دخول الوقت اتفاقاً، والخلاف فيما بينهما، نظير ذلك اليمين، اليمين تنعقد بالحلف، لكن متى تلزم الكفارة؟ تلزم إذا حنث، يقول: يجوز أن يكفر إذا حلف قبل أن يحنث، لا يجوز له أن يكفر اتفاقاً قبل أن يحلف، قبل أن يحلف -يعقد اليمين- ويجوز له اتفاقاً أن تكون الكفارة بعد الحنث، والخلاف فيما بينهما، بعد انعقاد اليمين وبعد الحنث، وجا في الحديث: ((إلا كفرت عن يميني ثم أتيت الذي هو خير))، وجاء أيضاً بلفظ مغاير، فيدل على أن فيه سعة، لكن الأحوط بالنسبة للذبح أن يقع بعد صلاة العيد وأن يكون بعد ذبح الإمام إذا عرف، وإلا فبقدره، يعني بعد الصلاة كشأن الأضحية هذا هو الأحوط، وقد قال به بعض العلماء، فهو أحوط، لكن إذا رمى ثم نحر ثم حلق حل، لكن إذا قدم الحلق، الحلق نسك وهو من أعمال يوم النحر يجوز تقديمه على النحر، حلقت قبل أن أنحر؟ قال: ((افعل ولا حرج)) حلقت قبل أن أرمِ؟: ((افعل ولا حرج)) رميت قبل أن أنحر؟ ((أفعل ولا حرج)).(38/24)
فبناء على هذا الحديث الخاص والعام، ما سئل عن شيء قدم ولا أخر في هذا اليوم إلا قال: ((افعل ولا حرج)) يدل على جواز تقديم الحلق على الرمي والطواف والنحر.
منهم من يتحرج؛ باعتبار أن حلق الشعر محظور من محظورات الحج، فيجعله آخر شيء، لا شك أن هذا أحوط، والترتيب على فعله -عليه الصلاة والسلام- يرمي الجمرة ثم ينحر ثم يحلق ثم يفيض، هذا هو الترتيب، هذا الذي فعله النبي -عليه الصلاة والسلام- وهو أكمل.
يقول السائل: هل هناك دليل على لزوم المبيت لمن تأخر في الرمي إلى بعد غروب الشمس يوم الثالث عشر؟
لزوم المبيت والتأخر أيام التشريق الثلاثة في اليوم الثالث لمن غربت عليه الشمس، لمن غربت عليه الشمس؛ لأنه إذا غربت عليه الشمس دخل عليه الليل، والله -جل وعلا- يقول: {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} [(203) سورة البقرة]، ما قال في ليلتين، أو في يوم وليلة، أو في يومين وليلتين، لا، دل على أنه لا بد من اعتبار الأيام فإذا شرع في اليوم الثالث لا بد أن يقع ما يجب عليه فعله في اليوم الثالث، وبغروب الشمس يكون شرع في اليوم الثالث.
بهذا أيها الأخوة نكون قد وصلنا إلى نهاية هذا اللقاء مع فضيلة الشيخ عبد الكريم بن عبد الله الخضير، نسأل الله أن يجزيه خير الجزاء، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد ..(38/25)
رحلات أهل العلم في الحج
الشيخ/ عبد الكريم بن عبد الله الخضير
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، أفضل من صلى وصام، وحج البيت الحرام، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين، أما بعد:
فيا أيها الإخوة الكرام:
الرحلة إلى حج بيت الله الحرام، رحلة خير وبركة على من وفق الله -تبارك وتعالى- ومن خيرات هذه الرحلة أنها مشرع روي، وسبيل من سبل التصنيف عند العلماء؛ يدونون فيها مروياتهم، ويكتبون فيها ملاقاتهم بالعلماء، ويذكرون فيها اختياراتهم العلمية في أبواب العلم المختلفة.
ولعل ذلك يصدق قول تبارك وتعالى -بل هو مما يصدق قول الله -تبارك وتعالى-: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [(27) سورة الحج].
ونحن في هذه الليلة نستضيف فضيلة شيخنا العلامة الشيخ الدكتور/عبد الكريم بن عبد الله الخضير، ليحدثنا عن محاضرة -سمعتم بل قرأتم عنوانها- وهي: رحلة العلماء إلى حج بيت الله الحرام، وفضيلته حينما يتحدث عن هذا الموضوع فإنه سيحدثنا حديث العارف الخبير؛ فإنه حفظه الله له اطلاع واسع على كتب أهل العلم، وله قراءة ممتدة في الفنون المختلفة.
فنسأل الله أن يثيبه لقاء ما أجاب من هذه الدعوة، ونسأل الله -تبارك وتعالى- أن يرفع درجاته، وأن يوفقه إلى كل خير، فليتفضل مشكوراً.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فقد طلب مني الأخ الشيخ الفاضل الدكتور/ عبد المحسن -حفظه الله- أن أساهم في دورتهم هذه العلمية بحديث عن الرحلات العلمية المتعلقة بالحج.(39/1)
وهذا الكلام في هذا الموضوع لا شك أنه يحتاج إلى أديب؛ فجل من كتب في هذا المجال له يد طولى في الأدب، ولا تجدون من أهل العلم الصرف ممن كتب إلا القليل النادر، وإذا كتب فإنه يكتب منسكاً، يسميه رحلة، على طريقة أهل العلم، وأما من كتب في الموضوع ممن يشد القارئ إلى هذه الرحلة فهم من لهم عناية في الأدب، ولذا تجدون كل من كتب في الجملة له يد طولى في الأدب كما سيأتي في تراجم بعضهم، ولذا لو طلب مني فضيلته أن أتحدث عن رحلتي الخاصة أو عن رحلاتي إلى الحج ما أجبته؛ لأني لست من أهل الأدب.
الأدب المقصود به أدب الدرس، وإلا فأدب النفس معروف، كل من ينتسب إلى العلم يظن فيه إن شاء الله هذا.
أنا أتحدث عن الكتب والرحلات باعتبار أنها كتب، ولي شيء من الدراية والخبرة بالكتب، لكن مع الأسف أن كتب الرحلات وكتب الدواوين وكتب الأدب عموماً عندي -في مكتبتي- مركوم بعضها على بعض منذ أمد طويل؛ رجاء أن يتسنى الوقت لترتيبها وتنظيمها، ولذا لا تجد في هذه الكتب مما قرأته ودونته فوائده، إنما كتب من الكتب الطارفة يعني ما هي من التليدة.
على كل حال، لا بد من إجابة الدعوة؛ لأن الداعي له حق عليَّ بلا شك وهو أثير عندي فلا أستطيع رد الدعوة، وإن كانت كتبي غير مهيأة للنظر فيها، لا سيما في هذا المجال، ولذا قد تجدون شيئاً مما توقعتم أكثر منه.
على كل حال الله -جلا وعلا- أمر نبيه إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- لما بنى البيت بقوله -جل وعلا-: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [(27) سورة الحج].(39/2)
يقول القرطبي: لما فرغ إبراهيم -عليه السلام- من بناء البيت، وقيل له: أذن في الناس بالحج، قال: يا رب وما يبلغ صوتي؟ قال: أذِّن وعليَّ البلاغ، فصعد إبراهيم -عليه الصلاة والسلام وعلى نبينا- جبل أبي قبيس وصاح: يا أيها الناس، إن الله قد أمركم بحج هذا البيت؛ ليثيبكم به الجنة ويجيركم من عذاب النار فحجوا، فأجابه -كما في الرواية- من كان في أصلاب الرجال وأرحام النساء: لبيك اللهم لبيك، فمن أجاب يومئذ حج على قدر الإجابة، إن أجابه مرة حج مرة، وإن أجاب مرتين حج مرتين، وجرت التلبية على ذلك، قاله ابن عباس وابن جبير.
وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمة الله عليه-: ذكر المفسرون أنه لما أمره ربه أن يؤذن في الناس بالحج، قال: يا رب، كيف أبلغ الناس وصوتي لا ينفذهم؟! فقال: ناد وعلينا البلاغ.
فقام على مقامه -هناك في الرواية الأولى على جبل أبي قبيس- فقام على مقامه، وقيل على الحجر، وقيل على الصفا، وقيل على أبي قبيس، وقال: يا أيها الناس، إن ربكم قد اتخذ بيتاً فحجوه، فيقال إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض، وأسمع من في الأرحام والأصلاب، وأجابه كل من سمعه من حجر ومدر وشجر، ومن كتب الله أنه يحج إلى يوم القيامة، لبيك اللهم لبيك.
قال الإمام الحافظ ابن كثير -رحمه الله- بعد أن ذكر هذا الكلام: هذا مضمون ما ورد عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير، وغير واحد من السلف، والله أعلم.
وأوردها ابن جرير وابن أبي حاتم في تفسيريهما مطولة.
ولما ذكر في الآية الرجال والركبان أجمع العلماء على جواز الركوب والمشي، واختلفوا في الأفضل منهما فذهب مالك والشافعي وآخرين إلى أن الركوب أفضل اقتداءً بالنبي -صلى الله عليه وسلم-؛ ولكثرة النفقة، ولتعظيم شعائر الحج بأبهة الركوب، وذهب غيرهم إلى أن المشي أفضل لما فيه من المشقة على النفس ولتقديمه في الآية.
يقول القرطبي: استدل بعض العلماء بسقوط ذكر البحر: {رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [(27) سورة الحج] هذا المذكور في الآية، لكن ما ذكر بحر ولا جو، يقول القرطبي: استدل بعض العلماء بسقوط ذكر البحر من هذه الآية على أن فرض الحج بالبحر ساقط.(39/3)
قال مالك: لا أسمع للبحر ذكراً، وهذا تأنس، لا أنه يلزم من سقوط ذكره سقوط الفرض فيه؛ وذلك أن مكة ليست على ضفة بحر يأتيها الناس في السفن، ولا بد لمن ركب البحر أن يصير في إتيان مكة إما راجلاً وإما على ضامر، فإنما ذكرت حالتا الوصول -يعني إلى مكة- وإسقاط فرض الحج بمجرد البحر ليس بالكثير ولا بالقوى. لماذا؟ لأن الغالب السلامة، ولكن إذا كان الغالب الهلاك لسقط الحج، لمن لا يستطيع إلا بركوب البحر، أو بركوب جو مثله.
يقول: فأما إذا اقترن به عدو وخوف أو هول شديد أو مرض يلحق شخصاً، فمالك والشافعي وجمهور الناس على سقوط الوجوب بهذه الأعذار، وأنه ليس بسبيل يستطاع.
أقول، وقل مثل هذا في ركوب الجو الطائرة مثلاً، فبعض الناس لا يطيقه ويحصل له ما يحصل لراكب البحر من الدوار وغيره، الذي لا يستطيع ركوب البحر يلحقه بذلك ألم شديد أو مرض مثلاً، قل مثل هذا في الجو، إذا كان لا يستطيع حينئذ يعذر، كمن لا يثبت على الراحلة، ولذا لم يقل أحد من أهل العلم أنه يلزم أن يشد على الراحلة حتى يصل، وليس معنى هذا أن يتساهل الناس يقولون: الطيران في الجو، ما الذي يمسكها؟ يمسكها الذي يمسك الطير، والغالب ولله الحمد السلامة، ما يحصل ولا واحد من ألف، وهذه النسبة ولو حصلت غير منظور إليها، ولذا يجب الحج بالاستطاعة، سواءً كان ماشياً أو راكباً على أي وسيلة مباحة كانت، استجابة لهذا النداء وامتداداً له، فرض الحج على هذه الأمة وشدد فيه حتى جعل ركناً من أركان الإسلام، يقول الله -جل وعلا-: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [(97) سورة آل عمران]، وفي الصحيح من حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج لمن استطاع إليه سبيلاً، وصوم رمضان)) متفق عليه.
فوجب على كل قادر أن يحج، فلبى المسلمون بتلبية نبيهم الذي لبى بالتوحيد، وسيأتي في ذكر بعض هذه الرحلات ما يناقض ويخالف هذا.(39/4)
ما حصل من بعض الرحالين، بل من مشاهيرهم وكبارهم وممن عني برحلاتهم ما ينقض كلمة التوحيد، من وقوفهم على المشاهد والمزارات ودعائهم الموتى وتوسلهم بالصالحين، وطلب الحاجات منهم، هذا كثير، مع الأسف أنه لو أردنا أن نذكر مثال لكل باب من أبواب التوحيد الذي صنفه الإمام المجدد -رحمه الله- من رحلة ابن بطوطة، أشهر الرحلات لوجدنا ما يشهد لكلامه -رحمه الله- وما ينقضه، فتجده يطلع الجبل أسبوع ليقف على قبر، ذكر له أنه قبر رجل صالح، ويعكف عنده، ويبدو منه من الشركيات ما الله به عليم، وهذا كثير في رحلته، وأيضاً هو موجود في الرحلات الأخرى، لكن هذه الرحلة على وجه الخصوص، لا بد من ذكر مثل هذه الأمور؛ لأنها منتشرة شائعة بين الناس وترجمت إلى جميع اللغات الحية، وعني بها وقررت في بعض الدول كمنهج دراسي، والحديث عنها يأتي قريباً إن شاء الله تعالى.
فوجب على كل قادر أن يحج البيت، فلبى المسلمون واستجابوا فلم يترك الحج إلا غير المستطيع ممن عذره الله -عز وجل- أو من تساهل في تعجيله فاخترمته المنية قبل ذلك، هذا بالنسبة لعموم المسلمين، وأما بالنسبة للعلماء فلم يذكر منهم ممن لم يحج إلا النزر اليسير.
ممن لم يحج كابن حزم -رحمه الله- ذكر ذلك ابن القيم عنه في زاد المعاد، ولعل سبب أوهامه في بعض مسائل الحج يرجع إلى هذا، كونه لم يحج، ولو حج لتغيرت بعض آرائه.
وذكر عن بعضهم أنه صنف في المناسك، فلما حج أحرق كتابه، وصنف كتاباً آخر، وكما جاء في الخبر: "ليس الخبر كالعيان، ليس الخبر كالمعاينة".
حج المسلمون امتثالاً لأمر ربهم رجالاً ونساءً علماءً وعامة، والذي يعنينا منهم العلماء الذين هم موضوع الدرس (رحلات العلماء في الحج).
والعلماء اختلفت طرائقهم أثناء حجهم، وكل له طريقته ومنهجه:
فمنهم من زاول في حجه العبادات الخاصة، واغتنم فضل الزمان والمكان فأكثر من النوافل ومن الأذكار والابتهال، وقراءة القرآن على الوجه المأمور به، واستغل هذا المكان بهذه العبادات الخاصة، ولا شك أن هذا خير كثير لمن وفق له.(39/5)
ومنهم من فعل ذلك وزاد عليه بأن تصدر للنفع العام، ووقف نفسه ووقته وجهده لاستقبال الناس وإفتائهم وإرشادهم، والمقرر عند أهل العلم أن النفع المتعدي أفضل من اللازم في الجملة، لا يورد علينا أن الصلاة أفضل من الزكاة، لكن في الجملة النفع المتعدي -لا سيما في النوافل- أفضل من النفع القاصر، هذا المقرر عند أهل العلم، ولذا صار طلب العلم عند جماهير أهل العلم أفضل من نوافل العبادات؛ لأن نفعه متعدي ينتفع به الإنسان وينفع به غيره.
هؤلاء العلماء إذا وصلوا إلى تلك الأماكن، كل سلك مسلكه، وكل بحث عما يناسبه، فتجد القارئ يبحث عن القراء ويستفيد منهم ويفيدهم، وتجد المحدث يبحث عن المحدثين، ويستفيد منهم ويفيدهم، وتجد الفقيه كذلك، والمؤرخ كذلك، والأديب كذلك، وكل من له اهتمام بشيء بحث عن نظرائه وحاورهم وطارحهم وناقشهم واستفاد منهم وأفادهم، وهذا موجود في الرحلات، كل من كتب في الرحلات يظهر نفَسُه في كتابه وما يميل إليه.
كثير من أهل العلم ما دونوا هذه الرحلات وإن اشتملت على فوائد عظيمة، كثير منهم ما دونت رحلاتهم؛ والسبب في ذلك ما أشرت إليه في التقدمة، أن هذه المدونات جل مؤلفيها ممن له عناية بالأدب ممن يستطيع أن يصوغ المشاهدات، بعض الناس يشاهد لكن لا يستطيع أن يعبر عما شاهد وإن كان من أهل العلم، يعني ليست له دربة ولا خبرة بالعبارات والأساليب والأشعار وحفظ ما ذكر في هذه الأماكن، إنما يهمه قال الله وقال رسوله والحلال والحرام، ونِعْمَ ما اهتم به.(39/6)
لكن من له عناية بالأدب تجده يشاهد، ربع ساعة فيكتب ما يقرأ في ساعة، وهذا موجود إلى وقتنا هذا، تجد من ينتسب إلى العلم من طبع له أكثر من مائة رحلة، وما زال يسافر ويكتب ويدون، فهي قدرات {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [(4) سورة الليل]، فمنهم من يتجه إلى القرآن وما يخدم القرآن ويكتب فيه ويصرف جل همه فيه، ونعم ما سلك، ومنهم من يصرف همته إلى السنة، ومنهم من ينصرف إلى الحلال والحرام، وغير ذلك من العلوم، ومنهم من يصرف نفسه -جهده ووقته- في القيل والقال، ومع الأسف أن هذا ملاحظ حتى في تلك الأماكن في تلك الأوقات الفاضلة تجد بعض طلاب العلم يذهب وقته سدى قيل، وقال، في اللغو والرفث، فمثل هذا عليه أن يرجع، أن يراجع نفسه، يسمع قول الرسول -عليه الصلاة والسلام-: ((من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)) وأربعة أيام لا يستطيع أن يملك نفسه، لماذا؟ لأن بقية وقته، وطيلة عمره في القيل والقال، ما تعرف على الله في الرخاء ليعرف في الشدة، على كل حال على طالب العلم أن يسلك الجادة، وأن يهتم بنفسه، وأن يحرص كل الحرص على اكتساب المغانم قبل فوات الأوان.
أقول: قليل من أهل العلم من سجل هذه الفوائد التي مرت عليه سواءً كانت منه أو من غيره في مدون على أن أكثر هذا القليل، الكثير من هذا القليل من الرحلات المدونة، عني كاتبوها فيه بذكر الآثار في بلاد الحرمين، وكثير منه لا يسلم من ابتداع، وهم يتفاوتون: منهم المبتدع البدعة المخففة، ومنهم من دون في رحلته البدع المغلظة.
من هذه الرحلات المدونة، بل من أقدمها: رحلة ابن جبير، وهو أبو الحسين، هذه رحلته، رحلة ابن جبير أبو الحسين محمد بن أحمد بن جبير الكناني الأندلسي الشاطبي البلنسي، مولده ليلة السبت عاشر ربيع الأول سنة أربعين وخمسمائة ببلنسية، أخذ القراءات وعني بالأدب فبلغ الغاية فيه، وتقدم في صناعة القريظ والكتابة.
ومن شعره أثناء رحلته يقول:
لا تغترب عن وطنٍ ... واذكر تصاريف النّوى
أما ترى الغصن إذا ... ما فارق الأصل ذوى
قال هذين البيتين لما رأى غصناً مال عن الشجرة فاصفر، هو الرحالة المشهور ويقول:
لا تغترب عن وطنٍ ... واذكر تصاريف النّوى(39/7)
أما ترى الغصن إذا ... ما فارق الأصل ذوى
أبلغ من ذلك قول الرسول -عليه الصلاة والسلام-: ((السفر قطعة من العذاب، أو من نار))؛ معروف أنه يعوق عن تحصيل كثير مما كان يحصله في إقامته، لكن من رحمة الله -جل وعلا- بعباده أن جعل العمل يجري لصاحبه الذي كان يفعله في الحضر يجري له أجره إذا سافر أو مرض.
يقول ابن الخطيب، لسان الدين ابن الخطيب في حقه: أنه من علماء الأندلس بالفقه والحديث والمشاركة بالآداب وله الرحلة المشهورة، وقال في نفح الطيب: كان انفصاله من غرناطة بقصد الرحلة المشرقية أول ساعة من يوم الخميس الثامن لشوال سنة ثمان وسبعين وخمسمائة، ووصل الإسكندريّة يوم السبت التاسع والعشرين من ذي القعدة من السنة، فكانت إقامته على متن البحر من الأندلس إلى الإسكندرية ثلاثين يوماً، ثلاثين يوماً وهو في البحر، إقامته في البحر، وفي مجيئه من الأندلس إلى الإسكندرية ثلاثين يوماً، لكن رجوعه إلى الأندلس على متن البحر الأبيض المتوسط ذكروا ستة أشهر؛ لأنه كلما قارب الوصول جاءت ريح ردته إلى مبتدئه، وعلينا أن نشكر هذه النعم التي نتقلب فيها.
شيخ كبير جاوز التسعين من عمره صام يوم عرفه في بلده في الرياض، وأفطر مع أولاده، فلما رأى منظر الانصراف من عرفة إلى مزدلفة بكى، فقال له ابنه البار: ما الذي يبكيك؟ قال: يحج الناس وأنا في الرياض؟ قال: اركب، وحج في تلك السنة على السيارة، لا على الطائرة، على السيارة ركب بعد أن أفطر ووصل إلى عرفة قبل طلوع الفجر، ثم نزل إلى مزدلفة ثم إلى منى وهكذا وحج!
وهؤلاء يمكثون الأشهر الطوال، وكتب التاريخ مملوءة بالعجائب في أخبار الحجاج، وكانت الطرق غير آمنة، قل من يسلم، كثير منهم يعطب، ذكروا في كتب التواريخ العجائب.
ذكر الحافظ ابن كثير -رحمه الله- عن رجل أنه حج تسعين مرة حافياً، نعم الحج حافياً ليس بالمشروع، لكن يدل على حرص شديد وذكروا أيضاً من الغرائب أن قدميه كقدمي العروس، مع هذه المدة، وإن كان الخبر ما يسلم من نكارة، ويبقى أن له أصل، .... يحج عشر مرات أو عشرين مرة على قدميه من بغداد كثير.(39/8)
وذكروا في ترجمة شخص أنه حج ثلاث مرات من بغداد ماشياً، فلما قدم من الحجة الثالثة دخل البيت، فإذا أمه نائمة، فنام بجانبها لم يوقظها فانتبهت فرأته بجانبها فقالت: يا فلان أعطني ماءً فتثاقل كأنه لم يسمع، ثم قالت له الثانية: أعطني ماءاً، ثم لما قامت الثالثة: قام إلى شن معلق وأعطاها شيئاً من الماء، ثم مكث بقية ليلته يحاسب نفسه، أحج ماشياً، والماء أمتار، أحج نفل ماشياً والواجب الذي هو البر، والماء على بضعة أمتار يثقل عليَّ؟!! شك في نيته وإخلاصه، فذهب يسأل، ذهب يسأل، معروف أنه لو سأل أحد من الفقهاء فقال له: عليك أن تخلص وتراجع نفسك وتندم وتستحل والدتك، وحجك صحيح ولا عليك شيء، لكنه سأل شخصاً من أطباء القلوب، ولا يعني أنه فقيه من الفقهاء الكبار أهل الفقه العملي، فقال له: أعد حجة الإسلام، أنت ما حججت لله، وليس معنى هذا أننا نصوب هذه الفتوى لكن نقول: على الإنسان أن يراجع نفسه فيما يأتي وفيما يذر، أن يكون عمله فعلاً وتركاً خالصاً لله -عز وجل- ما الذي يغلب على الظن يذهب إلى مكة ماشياً ثلاث مرات، والماء على بضعة -لا تقل أمتار- بضعة أشبار يمكن؛ لأنه ما كانت بيوتهم كبيرة، ويثقل عليه أن يأتي لأمه بشيء من الماء، مع الأسف أن هذا موجود عند كثير من طلاب العلم، وكثير من الآباء والأمهات يشكون من هذا.
يسهل على الإنسان أن يمر به واحد من زملائه فيذهب به إلى البراري في الشتاء القارس، وأماكن بعيدة ويناله من المشقة والتعب ما يناله، يسهل عليه، ويثلج على قلبه وصدره، ويخف لهذا، ولا يحتاج إلى أن يكرر ضرب المنبه، مستعد، ثم يذهب به الأيام والليالي الطوال، وإذا قالت له الوالدة نريد أن نذهب إلى أختي، يعني خالته، والخالة بمنزلة الأم، والآمرة الأم، قال: والله أنا مشغول، أنا عندي درس، مع أن هذا الكلام بعد صلاة العصر، يقول: أنا عندي درس المغرب، وخالته احتمال أن تكون في نفس الحي، ويثقل عليه جداً، وهذا موجود فعلى الإنسان أن يراجع نفسه، وعلى الإنسان أن يهتم بهذا الباب.
مكث ابن جبير شهراً كاملاً في البحر، من الأندلس إلى الإسكندرية، ومات -رحمه الله- سنة أربع عشرة وستمائة.(39/9)
جاء في تقدمة الدكتور/ حسين نصار لهذه الرحلة يقول: هذا الكتاب رحلة قام بها أندلسي للحج، استغرقت عامين وثلاثة أشهر ونصف، من التاسع عشر شوال سنة ثمان وسبعين وخمسمائة، إلى الثاني والعشرين من المحرم سنة إحدى وثمانين وخمسمائة، وزار فيها مصر وبلاد العرب والعراق والشام وصقلية، ووصف في هذه الرحلة المدن التي مر بها، والمنازل التي حل فيها وصفاً يختلف إسهاباً وإيجازاً وفقاً لأهمية الموضع، وتختلف المظاهر التي عني بوصفها في المدن المتنوعة، تختلف أحياناً وتتفق أحياناً، فقد عني في جميع المدن التي وصفها بالمساجد وقبول الصحابة، والمشهورين، والمستشفيات، والمصحات، والآثار المعروفة، وعني في مصر خاصة ببعض النواحي الاجتماعية والاقتصادية، وببلاد العرب بالناحية الدينية خاصة، وفي العراق بالوعظ والوعاظ، يعني يذكر ما يشتهر به هذا البلد.
أذكر في قراءتي القديمة لهذه الرحلة أنه ذكر أنه دخل بلد من بلدان فلسطين، ما أدري نابلس أو غيرها، فوجد أهلها يضعون أيديهم على أستائهم إذا مشوا، يعني يضعون أيديهم على خلفهم -وهذا متى؟ في القرن السادس- ثم أخذ يتكلم عن هذه العادة وأنها سيئة ولا تنبغي، لا ينبغي فعلها.
عني في بلاد العرب بالناحية الدينية خاصة، وفي العراق بالوعظ والوعاظ وفي الشام بالنواحي السياسية والاقتصادية والحروب بين المسلمين والصليبين، وفي صقلية بالمسلمين تحت حكم الملك الكافر، وطبيعي أنه التفت في كل مدينة بالأمر الذي اشتهرت به، واهتم بوصفه كمنار الإسكندرية وأهرام القاهرة، ومقياس جزيرة الروضة، وآثار مكة الإسلامية والمسجد النبوي بالمدينة، ومسجد الكوفة، ونفط الموصل، وقلعة حلب، والمسجد الأموي بدمشق وما إلى ذلك، والحق أن الكتاب -يقول المقدم-: يتضمن بعض المعلومات التي لا يستغني عنها مؤرخ أو جغرافي أو أديب.
وعني المؤلف في كل قطر نزل به بتقصي أحوال المغاربة فيه -أحوال قومه- وعلاقة أهله بهم، ووصف ذلك في رحلته وصفاً مطولاً، والكتاب اختلف في عنوانه، فجعله حاجي خليفة صاحب كشف الظنون: (رحلة الكناني)؛ لأن نسبته تنتهي إلى كنانه.(39/10)
والكتاب يبدئ بتذكرة الأخبار عن اتفاقات الأسفار، فقد يكون هذا هو عنوان الكتاب: (تذكرةٌ بالأخبار عن اتفاقات الأسفار) وهذا الكتاب طبع مراراً، مطبوع في أوروبا أكثر من مرة، وطبع في مصر أيضاً ولبنان.
وفيه فوائد كثيرة جداً، وفيه بعض المخالفات، لا سيما إذا وصف مشهداً أو مزاراً، لكنه أخف بكثير من ابن بطوطة أو النابلسي على ما سيأتي.
من هذه الرحلات، بل من أهمها، ولو قلت أنها أهم الرحلات لطالب العلم لما بعدت (رحلة ابن رشيد) أبي عبد الله محمد بن عمر بن رشيد أبو عبد الله الفهري السبتي المولود سنة سبعة وخمسين وستمائة، وقال الحافظ ابن حجر في الدرر الكامنة: "واحتفل في صباه بالأدبيات حتى برع في ذلك، ثم رحل إلى فاس، فأقام بها وطلب الحديث فمهر فيه، وصنف الرحلة المشرقية في ست مجلدات، وفيه من الفوائد شيء كثير –هذا كلام ابن حجر- وقفت عليه وانتخبت منه".
وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء: "ولما رجع من رحلته سكن سِبْت ملحوظاً عند العامة والخاصة" يعني محل عناية من الناس، وذلك لما تميز به من العلم والعمل.
كان ورعاً مقتصداً منقبضاً عن الناس ذا هيبة ووقار، يسارع في حوائج الناس، يجلب المصالح، ويدرأ المفاسد، يؤثر الفقراء والغرباء والطلبة، لا تأخذه في الله لومة لائم، وكان مع ذلك على مذهب أهل الحديث، في الصفات يمرها ولا يتأول.
يقول عنه لسان الدين بن الخطيب: كان فريد دهره، عدالة وجلالة وحفظاً، وأدباً، وهدياً، عالي الإسناد، صحيح النقل، تام العناية، عارفاً بالقراءات، بارع الخط، كهفاً للطلبة"، يعني يأوون إليه عند الحاجة كما يؤى على الكهف عند الحاجة من برد وحر.
في، وهذا استطراد في منسك الشيخ سليمان بن علي، جد الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وجد في جميع النسخ تأليف الشيخ الأجل والكهف الأضل، إيش معنى هذا؟ الكهف الذي يؤى إليه في المشاكل والمسائل العلمية، لكن أضل: يعني واسع جداً بحيث يضل فيه داخله، ويضيع، -رحمه الله-.
يقول: وكل تواليفه مفيدة، وكانت وفاته في أواخر المحرم سنة إحدى وعشرين وسبعمائة بفاس -رحمه الله-.(39/11)
هذه الرحلة اسمها: (ملئ العيبة بما جمع بطول الغيبة في الوجهة الوجيهة إلى الحرمين مكة وطيبة)، هذا عنوان الرحلة، استغرق ذكر الحرمين الشريفين من رحلته من أول الجزء الخامس إلى صفحة (283) من هذا الجزء، وذكر فيها من الفوائد الحديثية ما لا يوجد عند غيره من التحريرات العلمية والاستنباطات الفقهية، والمباحثات، والمطارحات الأدبية مع العلماء الذين لقيهم في رحلته، وعلى هذا يتحتم على طالب العلم أن يرجع على هذه الرحلة، لا سيما الحريص على الفوائد الحديثية، في مباحثات واستنباطات لا توجد عند غيره، وعول عليه من كتب في مصطلح الحديث ممن جاء بعده في كثير من تحرير المسائل، فعلى طالب العلم أن يرجع إليها ويفيد منها، ولاهتمامه بالعلم ولقاء العلماء، يهتم بمتين العلم.
ابن رشيد همته متجهة إلى متين العلم، ولذا لا تجده يصف المعالم التي شاهدها أو المزارات التي وقف عليها، غير شيء قليل، شيء يسير فعله، ولذا فإن الطابع المعهود في كثير من الرحلات لم يكن ملموساًِ في هذه الرحلة إلا قليلاً جداً، وذلك لأن اهتمامه مُنْصبٌّ بالجانب العلمي.
هذه الرحلة، رحلة متينة، كتاب علم وليس بكتاب أدب كبقية الرحلات، ولذا تجد كثير من طلاب العلم يصعب عليه أن يقرأ في مثلها، ويسهل عليه جداً أن يقرأ في رحلة ابن بطوطة، ذلكم بأن رحلة ابن بطوطة فيها متعة لا شك؛ لأنه شاهد الغرائب والعجائب ويذكر أشياء، وبعضها ينسجها من خياله، المؤلف ليس بثقة، ولذا عني الناس بها واهتموا بشأنها، وترجمت إلى لغات العالم على ما سيأتي.
هنا الرحلة التي نذكرها الآن رحلة ابن بطوطة المسماة (تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار) لأبي عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن إبراهيم اللواتي الطنجي المعروف بابن بطوطة.(39/12)
يقول ابن حجر في الدرر الكامنة: قال ابن الخطيب: كان مشاركاً في شيء يسير –يعني من العلم- مشاركاً في شيء يسير، عنده شيء من فقه الإمام مالك، ولا يتعدى فقه الإمام مالك ولا يجتهد، ولذا لما دخل نيسابور، ونيسابور أهل سنة أرسل يديه في الصلاة ما قبضهن، على ما اشتهر عند متأخري المالكية، أرسل يديه ولم يقبضهما، فاتهمه أهل نيسابور بالرفض؛ لأنه لا يفعل ذلك إلا الرافضة -في جهتهم- اتهموه بالرفض فاختبروه بأن قدموا له أرنب؛ والرافضة لا يأكلون الأرنب، فأكل منها، وتعجبوا فقالوا: الرافضي ما يأكل الأرنب، قال: لا أنا سني لست برافضي، قالوا: كيف ما قبضت يديك، ولا نعرف أحد لا يقبض يديه إلا الرافضة؟ قال: لا هذا مذهبنا – يعني المالكية- فهو مشارك في بعض الأمور ويرد في رحلته بعض الأشياء، لكن فيها العجائب والغرائب، ولا يعني هذا أن كل ما فيها .... ، أكثر ما فيها باطل؛ فيها من الشرك الأكبر الشيء الكثير، والتعلق بالأولياء ودعوتهم من دون الله، واعتقاد أنهم يعلمون الغيب وبعضهم يصرف الكون، يعني طوام، ولعل هذا أحد الأسباب التي جعلت المستشرقين يعنون بها؛ فهم يسارعون لنشر مثل هذه الضلالات، ولذا ترجمت إلى كثير من اللغات.
وعلى كل حال الطالب، طالب العلم الذي قرأ التوحيد وضبط التوحيد، ونشأ في بلاد التوحيد وأتقنه وضبطه، إن قرأ فيها لا إشكال في ذلك؛ لأن ما أورده ظاهر ومكشوف، هو لا يورد شبه، هو يذكر ضلالات، ولا يورد شبه يبرهن عليها ويدلل لها ويناقش فيها أبداً، ولذا لا تخفى على المتعلمين.
يقول ابن حجر في الدرر الكامنة: قال ابن الخطيب كان مشاركاً في شيء يسير، ورحل إلى المشرق سنة خمس وعشرين وسبعمائة، فجال البلاد وتوغل في عراق العجم، ثم دخل الهند والسند، ورجع إلى اليمن، فحج سنة 26، ولقي من الملوك والمشايخ خلقاً كثيراً، وجاور ثم رجع إلى الهند فولاه ملكها القضاء فيها، ثم رجع إلى المغرب".
ذكر في رحلته أنه كل بلد يدخل فيه يتزوج، من الطرائف أنه تزوج في بلد وولد له اثنين أو ثلاثة -نسيت الآن- ثم بعد ذلك ركب في السفينة قبل أولاده وزوجته فمشت به السفينة وتركهم في مكانهم، ذكر هذا في موضع من مواضع الرحلة.(39/13)
مثل هذه القصص وهذه الطرائف لا شك أنها –وإن كانت تشد القارئ- لكن لها دلالاتها في ديانة الشخص، لها دلالاتها، يعني شخص يتدين لله -جل وعلا- بالعلاقة بين الزوج وزوجته، وبين أولاده، بينه وبين أولاده، ما يفعل مثل هذا.
على كل حال مثل ما أشرنا هذه الرحلة فيها من المتعة، وفيها من الاستجمام لطالب العلم، لكن فيها من الشرك الشيء الكثير، فليحذر طالب العلم.
يقول: "ولقي من الملوك والمشايخ خلقاً كثيراً وجاور، ثم رجع إلى الهند، فولاه ملكها القضاء فيها، ثم رجع إلى المغرب فحكى بها أحواله وما اتفق له وما استفاده من أهلها".
قال ابن مرزوق: "ولا أعلم أحداً جال البلاد كرحلته، مات سنة تسع وسبعين وسبعمائة، ورحلته على النقيض من رحلة ابن رشيد.
قلنا ابن رشيد لا يهتم بالمشاهد ولا المزارات، يهتم بالعلم وتقرير مسائل العلم، فهذه الرحلة على النقيض من رحلة ابن رشيد، جل اهتمامه فيها، وصف المعالم والمزارات والمشاهد والمقابر وغيرها.
وفي ذلك من الغلو في الصالحين مما يصل بعضه إلى الشرك، ولم يسطر فيها من الفوائد العلمية إلا النزر اليسير، وترجمت رحلته إلى اللغات البرتغالية والفرنسية والإنجليزية، ونشرت بها، وترجمت فصول منها إلى الألمانية، ونشرت أيضاً.
واستغرقت رحلته أكثر من ربع قرن، وطبعت الرحلة طبعات عديدة واختصرت في عدة مختصرات، وطبعت وزارة المعارف العمومية بمصر مهذب رحلة ابن بطوطة، سنة ثمان وثلاثين وتسعمائة وألف بمطبعة بولاق الأميرية.
ووقف على تهذيبه وضبط غريبه وأعلامه أحمد العوامري ومحمد أحمد جاد المولى، وهما من المفتشين بوزارة المعارف، مع الأسف الشديد أنهما لم يحذفا مما اشتملت عليه من الغلو والكذب على شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره شيئاً، هذا موجود.
هو يقول لما دخل دمشق وقصد جامعها الكبير -الجامع الأموي- وجد في المسجد في الجامع على المنبر رجل كثير العلم قليل العقل، ذكر حديث النزول فنزل من درجات المنبر يعني شيخ الإسلام، وقال: إن الله -جل وعلا- ينزل في آخر كل ليلة كنزولي هذا، وهذه فرية، شيخ الإسلام -وقت دخوله دمشق- شيخ الإسلام في السجن.(39/14)
قد يقول قائل مثلاً: إن نزول الشيخ، النزول المنسوب لشيخ الإسلام ألا يمكن أن يكون مثل ما جاء في الخبر لما تلا قول الله -جل وعلا-: {وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [(134) سورة النساء]، وضع إصبعه على عينه وعلى أذنه؛ ليبين أن سمع الخالق وبصر الخالق حقيقي، كما أن سمع المخلوق حقيقي وليس سمع المخلوق كسمع الخالق، ولا بصر المخلوق، ولا عينه كعين الخالق؟ هذا ليدل على أن هذا حقيقة، لكن مثل هذا يقتصر فيه على مورد النص، ولا يتجاوز، ولم يرد أن النبي -عليه الصلاة والسلام- نزل من درجات المنبر وقال: كنزولي هذا، أبداً، بل هذه محض فرية على شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-.
استغرق ما يتعلق بالحرمين الشريفين من صفحة اثنين وثمانين إلى مائة وستة وعشرين، من هذه الطبعة، إلى مائة وستة وعشرين، أربعة وأربعين صفحة، أربعة وأربعين صفحة, ومن الطبعات الأخرى كطبعة صادر مثلاً من مائة وثلاثة عشرة إلى مائة واثنين وسبعين، يعني قريب من ستين صفحة.
المقصود أنه أطال في ذكر المشاهد والمزارات والجبال والمواقف والمشاعر، أطال في هذا كثيراً ولم يذكر في رحلته من المسائل العلمية إلا الشيء اليسير، وتعرفون الوقت لا يتسع لبسط بعض ما ذكره من هذه الأمور.
من الرحلات المشهورة رحلة الورثيلاني، واسمها: (نزهة الأنظار في فضل علم التاريخ والأخبار) ومؤلفها الحسين بن محمد السعيد الورثيلاني مؤرخ من فقهاء المالكية، له اشتغال بالتصوف، نسبته إلى بني ورثيلان، قبيلة بالمغرب الأوسط قرب بجاية في الجزائر، نشأ بها وحج فأخذ عن علماء مصر والحجاز، وذكر في رحلته ما شاهده من الأمكنة ومن اجتمع بهم من الأعيان في حجته سنة تسعة وسبعين ومائة وألف، وهذه الرحلة طبعت في تونس سنة 1321 فقي ثلاثة أجزاء، لكنها طبعة قد لا يستفيد منها كثير من طلاب العلم؛ لأنها طبعة حجرية، وبالخط المغربي العتيق، ثم طبعت في الجزائر سنة ستة وعشرين وثلاثمائة في مجلد كبير، وقراءتها متيسرة لطلاب العلم من المشارقة، سهل يعني قراءتها، وإن كانت في رسمها وصورتها على الحروف المغربية وطريقتهم، وصورت بعد ذلك سنة 1394 في دار الكتاب العربي.(39/15)
ويبدأ من صفحة 385 دخوله مكة المشرفة إلى أن خرج من المدينة في صفحة 532 يعني مائة وخمسين صفحة، وفيها فوائد كثيرة، فيها فوائد علمية وفيها مبالغات وفيها غلو، ولا تسلم.
ويعنى برحلته بوصف الآثار من المساجد والأودية والجبال والآبار وغيرها ومن لقيه من العلماء، وسمة التصوف ظاهرة في الكتاب.
بعد هذا الرحلة العياشية لأبي سالم العياشي المتوفى سنة تسعين وألف، وتقع في مجلدين طبع على الحجر بالمغرب، وأعيد طبعه بالأوفست في المغرب أيضاً سنة 1397، ويبدأ دخوله مكة من صفحة 191 من الجزء الأول وينتهي بنهايته، والتعامل مع هذه الطبعة في غاية الصعوبة لغير المغاربة، طبعة حجرية على الحرف المغربي العتيق، فالاستفادة منها ضعيفة جداً.
وهذه الرحلة لا شك أن الصبغة فيها كسابقتها، تعنى بالمشاهد والمزارات والقبور، ومن لقيهم من العلماء ويترجم لهم، ويطيل في تراجم أهل العلم، ويذكر ما أفاده منهم وما أفادهم به، وعلى كل حال هي رحلة فيها فائدة، لا تسلم من فائدة، لكن ليكون القارئ على حذر.
من الرحلات المشهورة عند أهل العلم، رحلة اسمها: ((الحقيقة والمجاز في الرحلة إلى بلاد الشام ومصر الحجاز) تأليف: عبد الغني بن إسماعيل النابلسي، عبد الغني بن إسماعيل بن عبد الغني بن إسماعيل بن أحمد بن إبراهيم الدمشقي الصالحي النقشبندي القادري المعروف النابلسي، صوفي مغرق في التصوف، ولد في دمشق في خمسة ذي الحجة سنة 1050هـ.
من كتبه: دواوين المدائح النبوية وغلا فيها غلواً شديداً، ومن كتبه أيضاً: جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص، وهذا يعبر عن اتجاه المؤلف؛ حيث شرح فيها فصوص ابن عربي الذي قرر فيه وحدة الوجود.
نشرت صورتها الخطية بتقديم وإعداد الدكتور/ أحمد عبد المجيد هويدي، سنة 1986م، أطال المصنف في ذكر المشاهد والقبور والآثار، وفيه فوائد علمية وأدبية كثيرة جداً، لكن فيه من الغلو ومما يجب أن ينتبه له طالب العلم.(39/16)
من الرحلات المتداولة المطبوعة، رحلة أبي عبد الله محمد بن أحمد القيسي الشهير بالسراج، والملقب ابن مليح، هذه الرحلة اسمها: (أنس الساري والسارب من أقطار المغارب إلى منتهى الآمال والمآرب سيد الأعاجم والأعارب) يعني ابتدأت من المغرب إلى أن انتهت بمدينة النبي -صلى الله عليه وسلم-.
منتهى الآمال والمآرب سيد الأعاجم والأعارب، ويظهر من العنوان أنه قصد في رحلته النبي -عليه الصلاة والسلام-، وأيضاً هي رحلة فيها الكلام عن مكة بما تحتويه من مشاعر، وفيه أيضاً الحديث عن المدينة النبوية، ولا يسلم الكتاب مما وجد في سوابقه من التصوف والتعلق بالآثار.
وعلى كل حال الرحلة هذه مطبوعة، وفيها فوائد وفيها نفس علمي وآداب وأشعار، لكن ليكن القارئ منها على حذر.
من الرحلات: رحلات للمعاصرين ومنها:
من أهمها لا سيما في الناحية التاريخية كتاب كبير في مجلدين اسمه: (مرآة الحرمين) أو (الرحلات الحجازية والحج ومشاعره الدينية) وهذه مهمة، فيها وصف دقيق لكثير من المشاعر، وفيه أيضاً صور فوتوغرافية لكثير مما يحتاجه من يريد أن يقف على هذه المشاعر، لا سيما أن هذه الرحلة متقدمة يعني صار لها أكثر من ثمانين سنة، هذه الرحلة ألفها اللواء: إبراهيم رفعت باشا، وهي مطبوعة في مجلدين، وفيها أخبار ونكات وطرائف أدبية وتاريخيه، وفيها أيضاً شيء من المخالفات، لكنها في الجملة فيها فوائد، فليكن القارئ فيها على حذر.
هنا أيضاً: الرحلة الحجازية، يقول مؤلفها: الرحلة الحجازية لولي النعم الحاج عباس حلمي باشا الثاني، بقلم محمد لبيب البتنوني هذه ألفها الخديوي، خديوي مصر الحاج عباس حلمي، وفيها أيضاً فوائد، وفيها إحصائيات، وصور، وفيها أيضاً مخالفات، فيها اعتماد لبعض طقوس المتصوفة، وما يصاحب المحمل من منكرات فيها إقرار لهذا كسابقتها، أيضاً مرآة الحرمين فيها عناية بالمحمل وفيها، أيضاً ذكر لبعض المسائل الفقهية على المذاهب الأربعة، على كل حال لا نطيل في مثل هذه؛ لأنها أشبه ما تكون إلى كتب التاريخ.(39/17)
هنا الرحلة السعودية الحجازية النجدية لمحمد سعيد العوري قاضي مدينة بيت المقدس سابقاً، فيها تفصيل لأحكام المناسك وآداب الحج، وفيها كلام على الآثار، فيها فوائد علمية كثيرة فقهية تتعلق بالمناسك.
فيه أيضاً رحلة أسماها مؤلفها: (رحلتي إلى الحجاز تسعة وأربعون يوماً في الأراضي المقدسة) تأليف محمد صابر مرسي، هذا مدرس بالتعليم الأدبي، وهذه الرحلة قديمة منذ أزمان متطاولة، طبعت سنة خمسة وأربعين أو ستة وأربعين، الذي علق عليها، حتى قرأها شخص وعلق عليها بتعليقات ليتها بدونها، ذو القعدة سنة 1355هـ، هذه الرحلة فيها أيضاً مسائل علمية، وفيها وصف لبعض المشاهد، والمعلق عليها الذي قرأها علق بكلام ليس بجيد.(39/18)
يقول: وبعد العصر، المؤلف يقول: وبعد العصر خلي جبل الرحمة وأحيط بالجنود حيث وقف به الملك عبد العزيز إلى بعيد المغرب، وهذا يقول: إخلاء السعوديين شعائر الحج لكبرائهم مما يخالف الشريعة الغراء، تعليقات حتى فيما يخالف التوحيد، السعودية وإزالة الآثار بدعوى التوحيد، هذا كلام المعلق، والمؤلف أكد هذا، لكن مما ذكره ما حصل له في سوق الرقيق، حصل له في سوق الرقيق محاورة طالت مع من يبيع ومع واحد من الأرقاء، وتكلم عن الرق في الإسلام وسببه وحرص الإسلام على بيع الرقيق في مكة، يقول: في يوم الأربعاء ستة ذي الحجة في ضحى هذا اليوم توجهت إلى سوق الدكة، وهي سوق يوميه تقام بمكة لبيع الأرقاء من الضحى إلى الظهر أو بعده بقليل، وقد شاهدت من بين معروضاتها رقيقاً سنه حوالي خمس وأربعين سنة أو خمسين، ووصل المزاد فيه إلى سبعة وعشرين جنيهاً ذهباً، والجنيه يومئذ يساوي مائة وسبعة وستين قرشاً مصرياً، وطالعت حالة الرقيق المحزنة، فدفعني حب الاستطلاع إلى التحدث إليه رغم ما ملأ النفس من الأسى والتأثر يقول: حديث محزن مع رقيق معروض بالسوق، عرفت أن اسمه إبراهيم بن موسى بن محمد من اليمن، كان مولى لمحمد الإدريسي الذي حكم اليمن ثم توفي ثم ورثه ابنه الذي احترب مع عمه، ولما كانت الغلبة للأخير، فقد وقع هذا الرقيق في يده مع جملة الأرقاء البالغ عددهم تسعة وسبعين، فباعهم العم جميعاً وباع بعضهم لجلالة الملك عبد العزيز آل سعود، أما هذا الرقيق فقد بيع لأحد اليمينين الذي غضب عليه أخينا فباعه إلى من قدم به من تهامة إلى مكة، ماشياً ليبيعه في هذا السوق، سألته: ألم تتزوج؟
الجواب: تزوجت ولي أولاد وبنات صغار.
أين هم؟
الجواب: عند سيدي، معلوم أن الولد يتبع أمه حرية ورقاً، هذا الحكم الشرعي فيه.
أين هم؟
الجواب: عند سيدي.
وكيف تركتهم؟
تركتهم يبكون، وأنا أبكي ولكن ما العمل، وهنا اغرورقت عيناه بالدموع.
أنت شكل المحرم أي مستور النصف السفلي فقط برداء فهل أنت كذلك؟
الجواب: نعم.
ما طول الطريق؟ ... إلى آخر كلامه، في مناقشته لهذا الرقيق.(39/19)
على كل حال هذه الرحلة مطبوعة ونفعها ليس بالكبير يعني فيها شيء من المتعة لمن يمضي وقت في انتظار وإلا شبهه، لا بأس.
هنا أيضاً رحلة إلى الديار المقدسة في الأرض المقدسة بين مصر والحجاز لإبراهيم محمد حبيب المفتش بوزارة الداخلية وعضو مجلس النواب، والقاضي بالمحاكم الوطنية إلى آخره، يعني بمصر.
هذه الرحلة رحلة ذكر فيها ما شاهده على طريقة من تقدمه.
من الغرائب -وأنا أخرت الرحلات النفيسة التي نفسها نفس أهل العلم- من الغرائب هذه رحلة كتبها مؤلفها باللغة العامية، وكثير من ألفاظها لا يعرفها إلا المصريون، بل بعض جملها اندرس لا يتداوله ولا المصريون، عنوانها: (يا هناء للوعد) وقال ذكر فيها أنها نقد وفكاهة وحج، وذكر فيها شيء من الطرائف، لكنها بلغتهم ولهجتهم فلا نطيل بذكرها.
من الرحلات المهمة في الباب: رحلة الشيخ صديق حسن خان، هذه الرسالة تأليف الشيخ/ أبو الطيب السيد محمد صديق بن حسن بن علي بن لطف الله الحسيني البخاري القنوجي، وتحتوي على مسائل هامة فيما يتعلق بأمر المسلمين، هذه الحجة صارت أو حصلت سنة 1285هـ، وفي ذلك التاريخ كانت رحلة الشيخ بالسفن الشراعية من بمباي إلى جدة، وصادف أن نزل بالحديدة في طريقه ذهاباً وإياباً، وقد استغرق سفره ثمانية أشهر من يوم أن غادر جوجال إلى أن عاد إليها.(39/20)
الرسالة أشبه ما تكون وأقرب ما تكون إلى المناسك، منسك متكامل، فالرسالة تحتوي على ما يتعلق بالحج والعمرة وزيارة المسجد النبوي مستدلاً في جميع ذلك بالكتاب والسنة، مشيراً إلى تلك البدع الشائعة، عكس الرحلات الأدبية الأخرى، أولئك شحنوا رحلاتهم بالبدع والشرك، وهذا أشار إلى تلك البدع الشائعة آنذاك في تلك البلاد، وقد رد عليها في رسالته متمنياً إزالتها والقضاء عليها، يعني المتأخرون من الرحالة عتبوا على الدولة السعودية أن أزالوا بعض الآثار الشركية هناك، فأزالوا البنايات على القبور المشيدة، فهذا لا شك أنه من حماية جناب التوحيد، وأولئك يقولون: أزالها بدعوى التوحيد، أزالوها بدعوى التوحيد، والشيخ صديق -رحمة الله عليه- لأنه محقق في باب توحيد العبادة يقول، وقد رد عليها في رسالته متمنياً إزالتها والقضاء عليها، لكن كانت رحلته قبل إزالتها، وقد تحققت هذه الأمنية على يد الملك عبد العزيز -رحمه الله- يقول وقد حقق الله أمنيته بعد أن استولت قوات المملكة العربية السعودية على الحجاز، ... إلى آخره.
المقصود أن هذه الرحلة أشبه ما تكون بالمنسك، ولذا لا تجد فيها كلام على مشاهد ومزارات وأساليب أدبية ومطارحات نقدية أو شعرية ما فيها شيء من هذا.
من الرحلات مما كتبه الشيخ العلامة المحقق محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله تعالى- رحلته إلى حج بيت الله الحرام، هذه الرسالة أو هذه الرحلة مختصرة فيما يقارب أو يقرب من ثلاثمائة صفحة، وفيها فوائد علمية ومطارحات ومشاركات أدبية شعرية ونثرية شيء كبير، فالشيخ له يد في حفظ الشعر، يحفظ من القصائد الشيء الكثير، والتقى بكثير من أهل العلم في هذه الرحلة، وشاركهم وطارحهم في كثير من المسائل العلمية والرحلة هذه مفيدة، ولو كان الوقت يسمح لبسط كل رحلة بما لها وما عليها وذكر شيء من فوائدها وطرائفها لفعلنا هذا، لكن الوقت قد لا يتسع لهذا فنكتفي بمثل هذا ونلتفت إلى الأسئلة.
اللهم صلي على محمد وعلى آله محمد.
أحسن الله إليكم وأثابكم وجزاكم أحسن الجزاء.
من ضمن الأسئلة ما هو متعلق بالمحاضرة فلعلنا نأخذ ما يتيسر منه.(39/21)
يقول السائل: فضيلة الشيخ هل وجد من الغربيين ممن كان على الإسلام أو من لم يكن على هذا الدين من له رحلة إلى بيت الله الحرام؟
أما من لم يكن على هذا الدين فإنه لا يمكن من الدخول؛ لأنه لا يجوز تمكينه من دخول البيت الحرام، {فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [(28) سورة التوبة]، لا يجوز لهم أن يدخلوا، كما أن النبي -عليه الصلاة والسلام- في أيامه الأخيرة وفي مرضه الذي مات فيه أمر بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب، والحديث متفق عليه.
المقصود أن غير المسلمين إلا إن تظاهر بالإسلام وادعى ذلك وتسمى به، قبل أن تضبط الأمور بالجوازات والمنافذ فيمكن، وقد وجد منهم من تظاهر بالإسلام وهو في الحقيقة يتجسس، بل وجد منهم من أمَّ الناس في الصلاة بدعوى أنه مسلم، فإذا كان بهذه الهيئة أو بهذه الصفة فالإمكان قائم، لكن لا نعرف أحداً منهم حج البيت وكتب رحلة، وأما من كان مسلماً فمنهم من حج البيت بلا شك، وأما كتابتهم فلم يقع في يدي شيء منها.
أثابكم الله.
يقول: ألا تلاحظون يا فضيلة الشيخ أن كثيراً من الذين ذكرتموهم ممن لهم رحلات إلى الحج أنهم من المغاربة، فأين حظ المشارقة من ذلك؟
أقول: نصيب المشارقة أولاً ما كتب في الحج بالنسبة لمن حج من أهل العلم شيء يسير، قليل من أهل العلم من دون، والذي وصلنا من المكتوب أقل من القليل، الأقل من هذا القليل.
والمشارقة لهم نصيبهم، منهم الرحالة من الهند، ومنهم الرحالة من العراق، ومنهم جهات المشرق كلها، وما من عالم إلا وقد حج، لكن المطبوع منها شيء يسير، من ذلك رحلة الصديق إلى البيت العتيق، الذي هي رحلة الشيخ/ صديق حسن خان، ومثل ما قدمت في مقدمة المحاضرة أو الدرس أن كتبي في حكم المعدومة؛ لأنها مركوم بعضها على بعض، ولم يتيسر لي أن أقف من الرحلات إلا القدر الذي سمعتم، وشيء أيضاً كلامه عن الحج شيء يسير، بعض الرحلات تجدها في مجلد، لكن ما تكلم عن مكة والمدينة إلا في ورقة أو ورقتين، مثل هذا لا يستحق أن يذكر في الرحلات إلى الحج، وهذا كثير من الرحلات على هذا المنوال، والذين أولوا الحرمين الشريفين العناية التامة هم من أتينا برحلاتهم ومن ذكرناهم، نعم.(39/22)
أثابكم الله.
هل تنصحون طالب العلم أن يكتب رحلته إلى الحج لا سيما إذا التقى بأهل العلم وأخذ عنهم من فوائدهم؟
لا شك أن التدوين، تدوين الفوائد باب من أبواب التصنيف، سواءً سمي رحلة أو منسك أو غير هذين الاسمين، التدوين يحفظ العلم، ولذا ضاع علم كثير بعدم تدوين هذه الرحلات، يحصل من الالتقاء بالآفاقيين من الحجاج يحصل من تلاقح الأفكار بلقائهم فوائد لا تخطر على البال، وكثير منها لم يدون فضاعت، فالمؤمل من طلاب العلم أن يدونوا ما رأوا وما شاهدوا وما سمعوا، نعم قد يتحرج، وهذا الأصل في طالب العلم أن يدون كل شيء بما في ذلك ما كان يعمله وما كان يزاوله من عبادة ومن شيء يخصه، مثل هذا لو لم يذكره أفضل، محافظة على الإخلاص.
أحسن الله إليكم.
يقول السائل: هل للأمير الصنعاني -رحمه الله- رحلة في الحج؟
له القصيدة المشهورة، قصيدة مشهورة، وهي عبارة عن رحلة، وبعد التحقيق تبين أن هذه القصيدة التي طبعت مرات كثيرة باسمه موجودة قبله، وهي موجودة بحروفها في المجلد الثاني من شفاء الغرام للتقي الفاسي، قبل وجود الصنعاني بكثير، لكن ألحقت في ديوانه ونشرت على أساس أنها له، وهي في الحقيقة ليست من شعره، نعم.
أحسن الله إليكم.
يقول السائل: يا فضيلة الشيخ قرأت في بعض كتب ابن القيم -رحمه الله- كالوابل الصيب أنه جاور بمكة، ودون كتاباً سماه فيما أظن التحفة المكية، فهل يعتبر ذلك تدويناً لرحلته إلى الحج؟(39/23)
لا شك أن مثل هذا يسمى رحلة، وكثير من الرحلات سموها الرحلة المكية، أو التحفة المكية، أو الفوائد المكية، بهذا الاسم، وابن القيم -رحمه الله- ذكر في مجاورته عنه وعن شيخه -شيخ الإسلام- الشيء الكثير، وابن القيم تحرر له من المسائل هناك في مكة ما لم يتحرر له في غيرها لا سيما بعد أن يكثر من الذكر، وشيخ الإسلام يذكر شيئاً من هذا في هذا المكان الطاهر الذي هو أقدس البقاع، ومع الأسف أن طالب العلم إذا ذهب إلى هناك قد لا يستشعر عظمة هذا البيت، ويوجد ما يشوش عليه بلا شك مما يجعله لا يستشعر هذه العظمة ولا يستشعر العبودية التي من أجلها خلق، لا سيما في هذا المكان المقدس، والصوارف عن هذا الاستشعار كثيرة، الصوارف كثيرة، فهذا قد يكون عذراً، لكن في الحقيقة على الإنسان أن يتجه إلى الله -جل وعلا- في كل زمان وفي كل مكان لا سيما في هذه الأماكن المقدسة.
تجد بعض الناس يشغل ويؤذي عباد الله من المتعبدين وغيرهم بالأنغام المحرمة، تجده أثناء الطواف وأثناء التهجد أحياناً ولا يستحي من أحد، وهذا مما يؤسف له، فعلى طالب العلم أن يلجأ إلى الله -جل وعلا- في كل زمان وفي كل مكان لا سيما في هذه الأماكن التي تضاعف فيها الأجور، وتعظم فيها الأوزار، ومجرد الهم بالمعصية يكتب عليه، {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [(25) سورة الحج]، فعلى الإنسان أن يستشعر مثل هذا، ويلجأ إلى الله -جل وعلا- ويصدق اللجأ إليه، ويسأله أن يهديه لما اختلف فيه من الحق بإذنه، وحينئذ يوفق إن شاء الله تعالى.
أحسن الله إليكم.
هل كتب العلماء رحلات علمية إلى غير الحج؟
نعم، كتبوا رحلات إلى البلدان التي زاروها، وهذا كثير جداً، كتبوا رحلات كثيرة إلى الأندلس، من المشارقة إلى الأندلس، ومن المغاربة إلى المشرق، منهم من كتب جولاته في ربوع العالم في القارات كلها، ممن تقدم وممن تأخر، فالرحلات موجودة في القديم والحديث، وكلها موجودة ومدونة، لكن الحديث في درسنا هذا فيما يتعلق بحج بيت الله الحرام ولم نشر إلى غيره.
أحسن الله إليكم.
هذا السؤال لعله يكون الأخير.(39/24)
يقول: يا فضيلة الشيخ أثابكم الله وأحسن إليكم يقول: هل مثل هذه الرحلات كفيلة بسبر منهج صاحب الرحلة وطريقته وعقيدته، أم أنه ربما يكون قد تراجع في آخر حياته إلى ما هو خير؟
الاحتمال قائم أنه تراجع لا سيما إذا عمر بعد ذلك، لكن ليس للناس إلا ما يظهر من صنيعه، سواءً كان من قوله أو من فعله أو في مصنفاته، لنا أن نحاسبه على ما كتب، وتوبته إذا تاب هذه بينه وبين ربه إذا لم يبينها للناس {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ} [(160) سورة البقرة]، لا بد من البيان، وأن يكون هذا البيان للتوبة مما وقع فيه من زلة أو غفوة لا بد أن يكون على نفس المستوى الذي نشر به ذلك الضلال وبثه في رحلته أو في أي مصنف من مصنفاته.
أثابكم الله وأحسن إليكم على هذه المحاضرة الطيبة، والأجوبة الماتعة، ونسأل الله لفضيلة الشيخ أن يطيل في عمره على الخيرات وأن يحفظه بما يحفظ به عباده الصالحين، وإيانا وإياكم جميعاً وصلى الله وسلم على عبده ورسوله وعلى آله وصحبه أجمعين.(39/25)
أحكام الأضحية
الشيخ/ عبد الكريم بن عبد الله الخضير
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن الله -جل وعلا- خلق الجن والإنس لهدف عظيم، وهو تحقيق العبودية لله -جل وعلا- فقال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [(56) سورة الذاريات].
ومن نعمة الله -جل وعلا- على المسلمين أن نوع لهم العبادات، فلم يجعلها نوعاً واحداً بل أنواع، افترض عليهم الفرائض، وسن لهم السنن؛ ليرتب لهم عليها الأجور، وجعل هذه الشرائع متنوعة، فمنها البدنية، ومنها المالية، ومنها المشترك بين المال والبدن، ومنها القاصر على النفس، ومنها المتعدي إلى الغير، فلو كانت نوعاً واحداً، بأن كانت بدنية فقط، كثير من المسلمين مستعد أن يدفع الأموال الطائلة ولا يكلف نفسه وبدنه شيئاً، فيشق عليه أن يؤدي ركعتين ويسهل عليه أن يتصدق بألفين، ومن الناس من هو بعكس ذلك وضده، فيشق عليه إخراج المال، ويسهل عليه ما يتعلق بالبدن، فهو مستعد أن يصلي الليل كله ويصوم النهار، ولكن يصعب عليه ويشق عليه أن يتصدق بالشيء اليسير.
الفرائض لا بد من الإتيان بها، سواءً وافقت هوى النفس أو خالفت، لكن الكلام فيما عدا ذلك من النوافل.
قد يفتح للإنسان باب يوصله إلى الجنة متعلق بالبدن، فليلزم هذا الباب، وقد يفتح للإنسان بابٌ يوصله إلى الجنة وهو متعلق بالمال، وقد أوتي المال فليلزم هذا الباب ويكثر من الإنفاق في سبيل الله.
وأبواب الجنة الثمانية مخصص لكل عبادة منها باب، وقد يدخل الإنسان من جميع الأبواب كأبي بكر -رضي الله عنه- ومثله من يجود بعبادة ربه بجميع أنواعها.
من العبادات ما يطلب فيه السر، وهذا هو الأصل؛ لأنه الأقرب إلى الإخلاص، سواءً كان في ذلك العبادات البدنية أو المالية، وجاء في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: ((ورجل تصدق بصدقة، فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمنيه))، ومنها ما يسن إظهاره وإشهاره كالشعائر، كالصلوات الخمس، والجمعة والأعياد، هذه شعائر، وشعائر الحج أيضاً.(40/1)
ومنها ما نحن بصدد الحديث عنه وهو الأضحية، يسن إظهارها كصدقة الفطر، وإن كانت صدقة تدخل في عموم ما يسر، إلا أنها شعيرة، كثير من الناس يشتري الرز من المحل ويقدر أن في بيته كذا -عدد كذا من الأولاد والبنات والزوجة- ثم يذهب إلى المحل ويشتري بقدرهم ويدفعها إلى الفقير والأولاد لا يعرفون شيئاً عن صدقة الفطر، مع أن السنة أن تحضر إلى البيت وتكال أمام الأولاد بالصاع وتوزع؛ لينشأ الناشئ على هذه العبادة وهذه الشعيرة، وقل مثل هذا في الأضحية، بعض الناس يذهب إلى البنك، ويأخذ إشعار بأنه دفع قيمة أضحية، وأولاده لا يدرون هل ضحى أو لم يضحي؟! مع أن السنة إشهار وإشعار وإظهار هذه الشعيرة، يشتري الأضحية أو يربيها ويسمنها في بيته كما كان السلف يفعلون ذلك، ثم بعد ذلك يجتمع هو وأولاده يوم العيد بعد الصلاة فيذبحونها، يسمون ويكبرون ويأكلون ويغدون ويتصدقون؛ لينشأ الناشئة على هذه الشعائر، مع الأسف أنه في كثير من بيوت المسلمين لا يعرفون شيئاً عن كثير من العبادات، حتى ما أمر بفعله في البيت من النوافل تجد كثير من الناس يصليها في المسجد، وبعضهم لما سئلوا –وهم من طلبة العلم- قيل له: لماذا أنت تصلي النافلة في المسجد وفعلها في البيت أفضل؟ حتى أن الإمام أحمد سئل عن راتبة المغرب هل تجزئ في المسجد فتردد؛ لأنها بيتية، وكذلك راتبة العشاء وغيرها من النوافل ((وصلاة المرء في بيته أفضل إلا المكتوبة))؛ ليتعلم الشباب، ليتعلم النساء، ليتعلم الأطفال من فعل أبيهم لهذه العبادة العظيمة، ولذا سئل بعض الناس قال: أنا إذا صليت في البيت أتساهل في أمر الصلاة، لكن إذا صليتها في المسجد وأمام الناس أضبطها وأتقنها.
قلنا هذا خلل في القصد، هذا خلل في النية، خلل ظاهر في النية؛ لأنه يظهر -والله أعلم- أنه يتقنها؛ لما يرى ممن يراه من الناس، وإلا فما الفرق في العبادة أن تكون في مكان أو في مكان آخر، والمعبود هو الله -جل وعلا-، وإذا مثل الإنسان بين يدي ربه ينبغي أن تكون صلاته كما قالوا صلاة مودع، وما يدريه لعله ألا يصلي غير هذه الصلاة.(40/2)
وبعضهم إذا كان في بيته تجوز تجوزاً شديداً، وفعل ما جاء فعله ظاناً أنه هو السنة، فحمل طفله وصبيه وهو يصلي، وقال النبي -عليه الصلاة والسلام- حمل أمامة وهو يصلي، ولا يدري ما الأعذار التي ذكرت في ظروف هذا الخبر، والحديث متفق عليه، وحمل الصبي في الصلاة لا يؤثر، لكنهم يغفلون عن شيء مهم جداً، وهو أنه قد يحمل الطفل في الصلاة وهو فيه نجاسة، لكن لا يدري بها الحفاظة موجودة ويمكن فيها نجاسة فتكون الصلاة حينئذ باطلة؛ إذا صلى وهو حامل نجاسة تكون باطلة، نخن نشاهد في الحرم، في المسجد الحرام من يصلي وهو حامل طفل ويزعم بذلك أنه يطبق السنة وهو لا يدري ماذا يحمل، إذا أراد أن يطبق السنة، أولاً: السنة هذه سنة حاجة، لا يقال أن فعلها أفضل من تركها، هي تشريع بالنسبة للنبي -عليه الصلاة والسلام- وأفضل من عدمه بالنسبة له، أما بالنسبة لغيره ففعله يدل على الجواز لا سيما عند الحاجة، إذا لم يجد ما يكفيه مؤونة هذا الطفل فإنه يحمله صلاته صحيحة.
المقصود أن العبادات منها ما يطلب فيه السر وهذا هو الأصل، ومنها ما يطلب فيه الإعلان والإشهار، وهذا موجود في الشريعة، والتنوع من سمة شريعتنا، ولله الحمد والمنة.
الموضوع الذي هو محل الحديث بعنوان:
الأضحية:
الأضحية ضبطت بأربعة ألفاظ: أُضحية بضم الهمزة، وإضحية بكسرها، وجمعها حينئذ أضاحي، وضحية كهدية وعطية، وجمعها حينئذ ضحايا كهدايا وعطايا، وأَضحاة بالتاء المربوطة، وجمعها أضحى، كأرطاة وأرطى.
الأضحية أخذت التسمية من وقت فعلها، وهو الضحى؛ لأنها تذبح ضحى يوم العيد، وسمي العيد بها فقيل عيد الأضحى.
يلزم من هذا دور وإلا ما يلزم؟ يلزم منه الدور وإلا ما يلزم؟ يعني ترتيب الشيء على شيء مترتب عليه هذا يسمونه دور وهو ممنوع، فيلزم من هذا وإلا ما يلزم؟
طالب. . . . . . . . .
ما يلزم لماذا؟
طالب:. . . . . . . . .
الأضحية أخذت من الضحى، من الوقت الذي تذبح فيه، والعيد سمي بها، فلم يرتب الشيء على شيء مترتب عليه، وإنما مرتب على غيره، رتب العيد على الأضحية، والأضحية على الوقت -الضحى- هل يلزم من هذا تسلسل وإلا ما يلزم؟
نعم.
طالب. . . . . . . . .
لا يلزم، لماذا؟(40/3)
طالب:. . . . . . . . .
لأنه منتهي، لأن التسلسل يرتب شيء على شيء، والشيء على آخر، والثاني على ثالث، والرابع على الخامس، وهكذا إلى ما لا نهاية، يعني قول الشاعر:
لولا مشيبي ما جفا ... لولا جفاه لم أشب
هذا أيش؟
دور؛ لأن المشيب رتب على الجفا، والجفاء رتب على المشيب، هذا دوره ممنوع، لكن إذا قلنا: الدجاجة من البيضة، والبيضة من الدجاجة، والدجاجة من البيضة، والبيضة من الدجاجة ... إلى آخره هذا إيش؟ تسلسل، والتسلسل معروف يبحث في كتب العقائد، وهل يوجد التسلسل في الماضي أو في المستقبل، وهل يمنع فيهما أو يقر فيهما؟ مسألة طويلة الذيول بحثها شيخ الإسلام في كثير من كتبه، وقرر أنه لا مانع من التسلسل في المستقبل، وأما في الماضي فيمنعه الجمهور.
على كل حال نعود إلى موضوعنا.
أدلة مشروعية الأضحية:
الأضحية مشروعة، ودل على شرعيتها الكتاب والسنة والإجماع، مشروعة بالكتاب والسنة والإجماع:
أما الكتاب، فلقول الله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [(2) سورة الكوثر]، فالصلاة المراد بها صلاة العيد، والمراد بالعيد عيد الأضحى. {وَانْحَرْ}: نحر الهدي والأضاحي وما يحصل بعد الصلاة يوم العيد.
مقتضى الأمر هنا الوجوب، وبه يقول الحنفية في الجملتين، فيوجبون صلاة العيد، ويوجبون الأضحية، والأمر ظاهر في الوجوب.
شيخ الإسلام يوافقهم على الصلاة، فيوجب صلاة العيد، ويؤكد في مسألة الأضحية، ومقتضى السياق أن يوجَب الأمران، وإن كان يوجد ما يصرف الأمر من الوجوب إلى الاستحباب في الجملتين عند الجمهور، وفي الأخيرة منهما عند شيخ الإسلام -رحمه الله-.
{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} طيب، القرآن دل على وجوب صلاة العيد ووجوب الأضحية -كما يقول الحنفية- لكن هل يقولون بالوجوب أو بالفرضية؟ هل يقولون صلاة العيد فرض، والأضحية فرض كالصلوات الخمس والجمعة، وكالزكوات المفروضة أو يقتصرون على قولهم واجبة؟
نعم.
طالب:. . . . . . . . .
واجبة وليست بفرض، فهم يفرقون بين الفرض والواجب، ويقولون: إن الفرض ما ثبت بدليل قطعي، والواجب ما ثبت بدليل ظني، طيب، {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} ثابت بالقرآن القطعي، كيف يقولون واجب وليس بفرض؟(40/4)
طالب:. . . . . . . . .
نعم، دلالته ظنيه، وليست بقطعية، ولذا يقولون في حديث صدقة الفطر: "فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "يقولون واجبة وليست بفريضة، مع أن نص الصحابي يقول: فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن الخبر ليس بقطعي، فيكتفون بالوجوب.
وهذه مسألة أيضاً النزاع فيها قديم، والمسألة معروفة ومبسوطة في الأصول، هذا بالنسبة لدلالة الكتاب على مشروعية الأضحية وحكمها والخلاف فيها سيأتي.
ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أحاديث كثيرة صحيحة تدل على مشروعيتها، منها: حديث أنس بن مالك -رضي الله تعالى عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يضحي بكبشين أملحين أقرنين، ويسمي ويكبر، ويضع رجله على صفاحهما، وفي لفظ ذبحهما بيده" متفق عليه، وفي لفظ "سمينين"، ولأبي عوانة في صحيحة: "ثمينين" بالمثلثة بدل السين.
سمينين وثمينين، وفي ترجمة عند الإمام البخاري: ويذكر سيمنين، مع أن لفظ سمينين ثابتة، ولفظ ثمينين -بالمثلثة بدل السين- في صحيح أبي عوانة، يعني بالمستخرج وهذه مما تزيده المستخرجات على أصولها، وهي من أهم فوائد المستخرجات، فإذا ورد مثل هذا، الأصل فيه سمينين، والفرع فيه ثمينين، هل نقول أن اللفظين ثابتان، أو نقول الثابت أحدهما، إما هذا أو هذا؟ نعم.
طالب:. . . . . . . . .
يعني هل نقول إن النبي -عليه الصلاة والسلام- ضحى بكبشين أقرنين أملحين سمينين ثمينين؟ فبعض الرواة ذكر لفظ وبعضهم ذكر لفظ آخر، أو أن اللفظ الوارد واحد فبعضهم قال سمينين وبعضهم قال ثمينين؟ والثاء والسين تتبادلان بالنسبة لبعض الناس، قد يكون المحدث أثرم مثلاً، فالسين ينطقها ثاء مثلاً، وقد يكون من جهة يبدلون الثاء بالسين.
على كل حال في مثل هذا لا بد من الترجيح، إلا إذا وجد طريق صحيح قرن فيه بين اللفظين؛ لأنه في المستخرج ثمينين بدل سمينين، وهذا اللفظ أو ذاك لا شك أنه يتمسك به من يقول سمينين أن الأفضل في الأضحية الأنفع للفقير، الأنفع هو الأفضل سمينين، فيلاحظ السمن وهو أنفع، ومن يقول باللفظ الثاني ثمينين يقول: الأفضل الأغلى ثمناً.(40/5)
ولو افترضنا كبشاً زنته خمسون كيلاً وقيمته ألف ريال، ووجدنا كبش آخر زنته ثلاثون كيلاً وقيمته ألف وخمسمائة ريال، أيهما أفضل؟
طالب:. . . . . . . . .
ما يوجد مثل هذا؟
طالب:. . . . . . . . .
ما تلقى. . . . . . . . . كبير بألف ريال يصل إلى خمسين كيلو، وتجد نجدي أصغر منه بكثير ثلاثين كيلو وقيمته ألف وخمسمائة؟ ما نجد هذا؟ أيهما أفضل؟ لأن هذه واقعة عملية نحتاج إليها؟
طالب. . . . . . . . .
نعم.
طالب. . . . . . . . .
كيف؟
طالب. . . . . . . . .
يعني المقصود منها هو اللحم، فينظر إليه أكثر مما عداه.
لا شك أن السمين الذي يمكن توزيعه على أكبر عدد من الفقراء أفضل من ضده، الذي هو أقل منه وزناً، لكن إذا نظرنا من ناحية ثانية، مسألة طيب النفس بالعبادة، وجاء الأمر بذلك: ((فطيبوا بها نفساً)) -وإن كان الحديث فيه مقال- الذي يشتري بألف وخمسمائة مثلاً، نفسه أطيب أم الذي يشتري بألف فقط؟ أيهما.
طالب. . . . . . . . .
أطيب نفس؟
طالب. . . . . . . . .
كيف؟
طالب. . . . . . . . .
أطيب نفس يعني الذي يبذل أكثر أطيب نفس وإلا الأقل؟
طالب. . . . . . . . .
نعم.
طالب. . . . . . . . .
لا، لا ما يلزم، لا، لا الناس يتفاوتون في هذا الباب، لكن لا شك أن البذل دليل على طيب النفس، يعني لو شخص عنده -في نيته- عمارة مسجد، وقيل له إن هناك حي في شمال الرياض محتاج إلى مسجد والمتر بألفين ريال قال: لا، لا في حي آخر في جنوبه أو في شرقه المتر بمائتين ريال، ويش هو الألفين، أيهما والحاجة واحدة؟
لا شك أن الذي يبذل الأموال أطيب نفس، أطيب نفس من الذي يفاضل بينها ويدخر بعضها لنفسه.
طالب:. . . . . . . . .
أنت لو كانت واحد، لو كانت المسألة مفترضة في شخص واحد يمكن يطيب بالألف ولا يطيب بالألف والخمس، لكن بعض الناس يطيب بألف وخمس وبعضهم ما يطيب بمائة وخمسين.
طالب. . . . . . . . .
((فطيبوا بها نفساً)) يعني نفس مرتاحة وهو يبذل لله -جل وعلا- لا شك أن الذي يبذل الأكثر أطيب نفساً من الذي يخير بين الأمرين فيختار الأقل، فلا شك أن هذا له ميزة، وله مرجح من أهل العلم، والثاني له مرجح من أهل العلم.(40/6)
ولمسلم من حديث عائشة أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بكبش أقرن يطأ في سواد، ويبرك في سواد، وينظر في سواد، فأتي به ليضحي به، فقال لها: يا عائشة ((هلمي المدية)) يعني السكين، هلمي المدية: يعني هاتيها. ثم قال: ((اشحذيها بحجر))؛ لتكون أحد وأريح في الذبح، ((اشحذيها بحجر)) ففعلت، ثم أخذها وأخذه -يعني الكبش- فأضجعه ثم ذبحه قال: ((باسم الله، اللهم تقبل من محمد وآل محمد، ومن أمة محمد، ثم ضحى به)).
((هلمي المدية)): يعني السكين، ويقوم مقام السكين كل ما أنهر الدم، كل ما أنهر الدم قطع الودجين وقطع البلعوم يجزئ ولو كان حجراً، كما فعلت الجارية -جارية كعب- كانت ترعى غنماً لكعب في شعب من الشعاب فرأت علامات النَّفاق الذي هو الموت على شاة منها، فأخذت حجراً فذبحتها به، فسأل النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: ((كلوا)).
كل ما أنهر الدم فإنه يذبح به، إلا السن والظفر، كما في الصحيحين. ((أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة))، ومقتضى الحديث أنه لا يجوز الذبح بالعظام؛ لأن العلة كون السن عظم، وجاء النهي عن الاستنجاء بها، والدم المسفوح بحكم الاستنجاء؛ لأنه نجس، والعظم زاد إخوانكم الجن، لكن ماذا عن السن؟ كونه عظم هل المعنى لأنه زاد إخواننا من الجن؟ سن الإنسان زاد إخوانه من الجن؟ نعم.
طالب:. . . . . . . . .
يعني لابد أن نربط النصوص بعضها ببعض، يعني النهي عن الاستنجاء بالعظم؛ لأنه زاد إخواننا من الجن، والتعليل بعدم الذبح بالسن؛ لأنه عظم، فيمنع التذكية بالعظام مطلقاً، لكن هل العلة الموجودة هنا هي العلة الموجودة في باب الاستنجاء؟ نعم.
طالب. . . . . . . . .
كيف؟
طالب:. . . . . . . . .
تختلف، إذن لماذا نهينا عن التذكية بالعظم؟ أما السن فعظم، ما يصلح أن يكون زاداً لإخواننا الجن فحكمه حكم الاستنجاء كما سمعنا، لكن السن لا يصلح أن يكون زاداً لإخواننا الجن؛ لأنه يعود أوفر ما كان لحماً؛ ليستفيد منه الجن، أما العظم لم يعود إليه لحمه.(40/7)
ترى الحديث فيه، الحديث في الصحيحين متفق عليه، وسمعنا وأطعنا، لكن من ناحية التفقه لا بد أن نعرف العلة، لا سيما وأن الحديث معلل في الطرفين، أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة، يعني مقتضى كونه عظم، وهو لن يكون زاداً للجن؛ لأننا أمرنا بعدم الاستنجاء بالعظم؛ لأنه زاد إخواننا من الجن، فهل كون النهي عن التذكية بالسن لأنه زاد إخواننا الجن؟
لا، ما يقول هذا أحد، لكن مقتضى كونه عظم هل يكفي عله للنهي أو للمنع من التذكية به لا سيما والعلة منصوصة، أو نقول: هذه علة منصوصة قريبة من التعبدية، كما لو لم ينص عليها؛ لأن كونه عظم هل نستفيد من ذلك في مسألة الإلحاق في القياس؟
طالب:. . . . . . . . .
مسألة الإلحاق في باب القياس، ما الفائدة من معرفة العلل؟
القياس، الفائدة من معرفة العلل القياس، فماذا نقيس على السن؟ لأنه عرفنا أنه عظم، أي عظم لا نذبح به، وقد جاء التعليل بكونه زاد إخواننا من الجن، أما السن لن يكون زاداً لإخواننا من الجن، يبدو أنني ما استطعت أن أوصل لكم الإشكال الذي عندي، مفهوم وإلا ما هو مفهوم؟
يعني مقتضى العلة أنه عظم، يعني لا نذبح بالسن؛ لأنه عظم، نقول: العظم نهي عن الاستنجاء به؛ لأنه زاد إخواننا من الجن والسن ليس كذلك، يبقى أن التذكية به ممنوعة، سواءً عرفنا العلة أو لم نعرف، يعني هذه العلة هل نقول هي معقولة لنقيس عليها بقية العظام؟ العظام ممنوعة بنصوص أخرى، لكن هل يمكن أن نقيس عليه عظام ما لا يؤكل لحمه لمن يتدين بدين الإسلام مثلاً، لو وجدنا عظم خنزير مثلاً، هل يكون زاداً لإخواننا من الجن؟
طالب:. . . . . . . . .
لا.
عظم كلب، نعم.
طالب:. . . . . . . . .
لا يكون زاداً لإخواننا من الجن؛ لأنهم مسلمون، ولا يحل لهم إلا ما يحل لنا، إذن نلحق هذه العظام وإن لم تكن زاداً لإخواننا الجن بالسن؛ لأنها عظم.
استفدنا من هذا وإلا ما استفدنا؟ استفدنا من هذه العلة طيب.(40/8)
((وأما الظفر فمدى الحبشة)): كون الظفر مدى الحبشة، يقتضي أن المنع للتشبه، صح وإلا لا؟ صح وإلا لا؟ المنع للتشبه، فيستعملون الظفر مكان السكين، طيب اشتريت مسواك سواك اشتريته وتحتاج إلى سكين لتشيل اللحاء عنه فتستعمله بالسكين، ما وجدت سكين هل تستعمله بظفرك وإلا لا؟ أو نقول: لا تستعمله؛ لأنه مدى الحبشة؟
يعني مقتضى التعليل بكونها مدى الحبشة، مقتضى التعليل كونها مدى الحبشة هل يعني هذا أننا لا نستعملها في الذبح، ونستعملها في بقية الاستعمالات التي هي غير الذبح؟ العلة المنصوصة بالخبر أنها مدى الحبشة والمنع للتشبه، والمدية تستعمل في الذبح وغير الذبح، والظفر يستعمل في الذبح وغير الذبح، فهل ننزع اللحاء من السواك بالظفر، أو لا؛ لأنه مدى الحبشة؟
طالب:. . . . . . . . .
إذن ما الفائدة من التعليل في كونها مدى الحبشة؟
طالب:. . . . . . . . .
نعم.
طالب:. . . . . . . . .
والسواك.
طالب. . . . . . . . .
خليه
طالب. . . . . . . . .
يغني إيش الفائدة من التنصيص على العلة؟ لو قال لا تذبحوا بالسن ولا بالظفر لانتهى الإشكال،
طالب. . . . . . . . .
أقول ما الفائدة من التنصيص على العلة في الحديث؟ إلا ليستفاد منها في باب القياس والإلحاق.
طالب. . . . . . . . .
نعم. كيف؟
طالب. . . . . . . . .
يعني ألحقنا بالعظم بعض العظام التي هي ليست زاداً لإخواننا من الجن، كعظم ما لا يؤكل لحمه، فالظفر حينما مُنِعنا من استعماله في الذبح؛ لأنه مدى الحبشة، فهل نقول أن الظفر لا يستعمل مطلقاً في جميع الاستعمالات التي تستعمل بها السكين؛ لأنه مدى الحبشة؟ ويستعمل فيما عدا ذلك في غير ما يستعمل فيه المدية، يستعمل ما فيه إشكال، لكن فيما تستعمل فيه المدية نكون بذلك تشبهنا بالحبشة؛ لأننا استعملنا مديتهم يعني سكينهم وهي الظفر، في حَل وإلا ما في حَل؟
نعم.
طالب. . . . . . . . .
لا، لا ينهر، ينهر ما فيه إشكال، ينهر، العصفور يكفيه الظفر، يعني مقتضى النهي التشبه، ما دام تشبهنا استعملناه فيما يستعمله فيه الحبشة الذين نهينا عن التشبه بهم.(40/9)
يعني هل استعمال المدية خاص بالذبح، فنقول الظفر مثله لا يذبح به، ويكون له استعمالات أخرى غير الذبح؟ أو أنهم لا يذبحون إلا بالظفر-وهذا مستحيل- فنمنع ونحسم مادة الذبح بالظفر دون ما عدا؟، هل يمكن أن نقول أن الحبشة لا يذبحون إلا بالظفر، يذبحون الجمل بالظفر؟
ما يمكن لا يمكن، فلا شك أن العلة المنصوصة هذه قاصرة وإلا متعدية؟
طالب:. . . . . . . . .
وإذا كانت قاصرة ويش الفائدة من ذكرها؟
طالب. . . . . . . . .
لا، هو التعليل ظاهر في كونه مدى الحبشة، العلة المنصوصة كونه مدى الحبشة.
طالب. . . . . . . . .
في أيش؟
طالب:. . . . . . . . .
لأنه مدية، طيب.
طالب. . . . . . . . .
طيب هم يستعملون غير الظفر، ويستعملون الظفر في الذبح وغيره، المسألة أوسع مما جاء في الخبر، ها الإخوان شاركوا ما هي المسألة ...
نعم.
طالب. . . . . . . . .
كيف؟
طالب. . . . . . . . .
ترى ما فهمت والله ولا سمعت؟
طالب. . . . . . . . .
يعني دخول الظفر في الذبح قطعية ما عندنا إشكال، يعني التنصيص على بعض أفراد العام في النص دخوله قطعي هذا ما فيه إشكال، لكن ماذا عن بقية الأفراد التي تلحق بالأصل بالقياس؟ ومثلنا بمثال كل يستعمله واضح يا أخي، اشتريت مسواك وتبي تستعمله وتبي تشيل اللي فوقه ما معك سكين بأي شيء تشيله فهي إلا بأسنانك أو بظفرك، كثير من الناس يستعملون الظفر، نقول: ممنوع لا تستعملوا الظفر؛ لأنه مدى الحبشة؟ الظفر يستعمل في القطع في كثير من الأشياء نعم.
طالب. . . . . . . . .
إيه.
طالب:. . . . . . . . .
طيب.
طالب. . . . . . . . .
ما صنعنا شيئاً؛ لأنه نص على علة والعلة معتبرة عند أهل العلم، والعلة المنصوصة لها شأن عند أهل العلم يدور الحكم معها وجوداً وعدماً.
الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- ترجم: باب أضحية النبي -صلى الله عليه وسلم- بكبشين أقرنين ويذكر سمينين، وأجمع المسلمون على مشروعية الأضحية.(40/10)
إذا عرفنا هذا، وأن الأضحية عبادة لا يجوز صرفها لغير الله تعالى، ((من ذبح لغير الله فقد أشرك)) كما قال -جل وعلا- {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ* لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [(162 - 163) سورة الأنعام]، فالنسك وهو الذبح كالصلاة لا يجوز لغير الله -جل وعلا-، يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله- تعالى وقد ذكر الآية في آخر سورة الأنعام: يأمره - {قُلْ إِنَّ} - يأمره تعالى أن يخبر المشركين الذين يعبدون غير الله -عز وجل- ويذبحون لغير اسمه، أنه مخالف لهم في ذلك، فإن صلاته لله، ونسكه على اسمه وحده لا شريك له، وهذا كقوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [(2) سورة الكوثر] أي: أخلص له صلاتك وذبحك، فإن المشركين كانوا يعبدون الأصنام ويذبحون لها، فأمره الله تعالى بمخالفتهم والانحراف عما هم فيه، والإقبال بالقصد والنية والعزم على الإخلاص لله تعالى.
وقد جاء في الصحيح عند مسلم وغيره من حديث علي-رضي الله عنه- قال: ((لعن الله من ذبح لغير الله))، وقد ورد في فضل الأضحية أحاديث كثيرة لكنها كلها ضعيفة.
حديث عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((ما عمل آدمي من عمل يوم النحر أحب إلى الله من إهراق دم، إنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع من الأرض، فطيبوا بها نفساً)) رواه الترمذي وقال: حسن غريب لا نعرفه من حديث هشام -يعني هشام بن عروة- إلا من هذا الوجه، ورواه ابن ماجة أيضاً وفي إسناده سليمان بن يزيد راويه عن هشام وهو ضعيف.(40/11)
وعن زيد بن أرقم قال: قال أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا رسول الله ما هذه الأضاحي؟ قال: ((سنة أبيكم إبراهيم)) قالوا: "فما لنا فيها يا رسول الله" قال: ((بكل شعرة حسنة)) قالوا: فالصوف قال: ((بكل شعرة من الصوف حسنة)). رواه ابن ماجة والحاكم وقال صحيح الإسناد، وقال المنذري في الترغيب: "بل واهٍ" يعني ضعيف جداً، عائذ الله المجاشعي وأبو داود نفيع بن الحارث الأعمى كلاهما ساقط، وحكم عليه الألباني -رحمه الله- بالوضع في ضعيف الترغيب.
وذكر المنذري في الباب أحاديث كثيرة ولكنها كلها ضعيفة، ويكفينا أن النبي -عليه الصلاة والسلام- فعل وحث على ذلك، وأمر به كما سيأتي في أدلة الوجوب، لكن أجمع المسلمون على مشروعيتها، يعني ولو لم يثبت هذا الفضل المذكور فيها، يعني حينما ينازع في الأجر المرتب على الجلوس بعد صلاة الصبح إلى طلوع الشمس، هل نقول أن الجلوس ليس بسنة؟ يعني حينما يقال الخبر لا يثبت ((من صلى الصبح في جماعة ثم جلس في مصلاه حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين كان له أجر حجة)) قالوا: هذا ضعيف، وإن كان النزاع موجود منهم من يحسنه، على اعتبار أنه ضعيف هل من جلس نقول له: لا تجلس، الحديث لم يثبت؟
طالب:. . . . . . . . .
لا يا أخي، العمل مشروع ولو لم يثبت هذا الخبر، فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يجلس في مصلاه حتى تنتشر الشمس؛ فالأضحية مشروعة بل من أفضل الأعمال واختلف في وجوبها، ولو لم يثبت الأحاديث التي ذكرها المنذري.
ذكر الخلاف في حكم الأضحية:
أجمع المسلمون على مشروعيتها، واختلفوا في حكمها، فذهب أكثر أهل العلم إلى أنها سنة مؤكدة في حق الموسر، ولا تجب عليه، قال النووي في المجموع: "هذا مذهبنا وبه قال أكثر العلماء، منهم أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وبلال، وأبو مسعود البدري، وسعيد بن المسيب، وعطاء، وعلقمة، والأسود، ومالك، وأحمد، وأبو يوسف، وإسحاق، وأبو ثور المزني، وداود، وابن المنذر".
الجمهور قالوا: بأنها ليست بواجبة، وإن كانت مستحبة، سنة مؤكدة.(40/12)
وقال ربيعة والليث بن سعد وأبو حنيفة والأوزاعي هي واجبة على الموسر، إلا الحاج بمنى، وقال محمد بن الحسن: هي واجبة على المقيم بالأمصار، والمشهور عن أبي حنيفة أنه إنما يوجبها على مقيم يملك نصاباً.
وقال ابن قدامة في المغني: أكثر أهل العلم على أنها سنة مؤكدة غير واجبة، وذكر من تقدم ذكره في الطرفين، إلا أنه ذكر مالكاً فيمن أوجبها وهو خلاف المعروف من مذهبه بل مذهبه أنها سنة.
من قال بوجوبها استدل بأدلة، منها: قوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [(2) سورة الكوثر] وقد تقدم.
ومنها ما رواه البخاري في صحيحه من حديث جندب بن سفيان البجلي قال: شهدت النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم النحر فقال: ((من ذبح قبل أن يصلي فليعد –أمر- فليعد مكانها أخرى، ومن لم يذبح فليذبح)).
فقوله: فليعد، وليذبح كلاهما أمر؛ لاقتران الفعل بلام الأمر، والأصل في الأمر الوجوب.
من أدلتهم ما رواه أبو داود في سننه عن عامر بن أبي رملة قال: "أخبرنا مخنف بن سليم قال: ونحن وقوف مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعرفات قال: ((يا أيها الناس إن على كل أهل بيت في عام أضحية وعتيرة، أتدرون ما العتيرة؟ قال: هي التي يقول الناس الرجبية)).
قال ابن حجر في الفتح: أخرجه أحمد والأربعة بسند قوي، لكن قال الخطابي فيه أبو رملة مجهول، وقال ابن حجر في التقريب: أبو رملة شيخ لابن عون لا يعرف، يعني فكيف يكون بسند قوي وأبو رملة لا يعرف.
قال الذهبي في الميزان: عامر أبو رملة فيه جهالة وقال عبد الحق: إسناده ضعيف.
وقال أبو داود في سننه بعد سياق الحديث: العتيرة منسوخة، هذا خبر منسوخ، والناسخ له ما رواه الجماعة من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا فرع ولا عتيرة)).
والعتيرة -كما قال الترمذي-: ذبيحة كانوا يذبحونها في رجب يعظمون بها الشهر المحرم شهر رجب.
من أدلتهم ما رواه أحمد وابن ماجه -وصححه الحاكم- عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من وجد سعة فلم يضحي فلا يقربن مصلانا)).
قال ابن حجر في البلوغ في هذا الحديث: رواه أحمد وابن ماجه وصححه الحاكم، ورجح الأئمة غيره وقفه.(40/13)
وقال في فتح الباري: وأقرب ما يتمسك به لوجوب الأضحية حديث أبي هريرة رفعه: ((من وجد سعة فلم يضحِّ فلا يقربن مصلانا)) يقول: أخرجه ابن ماجه وأحمد ورجاله ثقات، لكن اختلف في رفعه ووقفه، والموقوف أشبه بالصواب، قاله الطحاوي وغيره، ومع ذلك فليس صريحاً في الإيجاب، وفي المسألة أحاديث أخرى كلها ضعيفة، لكن الأحاديث التي ذكرناها هي التي يعول عليها من يقول بوجوب الأضحية.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد.
الحديث الأخير حديث أبي هريرة في قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((من وجد سعة فلم يضحِّ فلا يقربن مصلانا)) دلالته على وجوب الأضحية ظاهرة وإلا غير ظاهرة؟
طالب:. . . . . . . . .
نعم، من أي وجه؟
طالب:. . . . . . . . .
نعم، يعني مثل دلالة: ((من أكل ثوماً أو بصلاً فلا يقربن مصلانا)) إذا قلنا بوجوب الأضحية بهذا السياق قلنا أن صلاة الجماعة ليست بواجبة من ذلك السياق، وصلاة الجماعة واجبة، ومع ذلك النهي عن قربان المسجد، وقربان المصلى إنما هو تعزير، ((من وجد سعة فلم يضحِّ فلا يقربن مصلانا)) هذا طرد له من المصلى، كما أن ((من أكل ثوماً أو بصلاً فلا يقربن مساجدنا)) فلا يؤذنا، هذا أيضاً تعزير وليس فيه دلالة على عدم وجوب صلاة الجماعة.
فالمسألة طردية عكسية، يعني إن قلنا بأن هذا يدل على الوجوب -وجوب الأضحية- على هذا يلزمنا أن نقول بعدم وجوب صلاة الجماعة، كيف ذلك؟
لأننا إذا وازنا بين الأمرين المفعول والمتروك في الطرفين ظهرت لنا هذه النتيجة، وصلاة الجماعة واجبة، والنبي -عليه الصلاة والسلام- هم بتحريق البيوت على المتخلفين، وقال للرجل الأعمى الذي لا يجد قائداً يلائمه: ((أتسمع النداء؟ )) قال: نعم، قال: ((أجب لا أجد لك رخصة)) وأي وجوب أعظم من هذا، هذه أدلة من قال بالوجوب، فننظر إلى أدلة الجمهور.
الجمهور استدلوا بأدلة منها:(40/14)
ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أم سلمة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من شعره وبشره شيئا))، وفي لفظ عند مسلم أيضاً: ((إذا دخل العشر وعنده أضحية يريد أن يضحي فلا يأخذن شعراً ولا يقلمن ظفراً))، وفي لفظ له عنها: ((إذا أراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره)).
ووجه الاستدلال أن الأضحية موكولة إلى إرادة المضحي، ولو كانت واجبة لما كانت كذلك، قال النووي: قال الشافعي: "هذا دليل على أن التضحية ليست بواجبة؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((وأراد)) فجعله مفوضاً إلى إرادته، ولو كانت واجبة لقال: فلا يمس من شعره حتى يضحي".
الآن الاستدلال سياق الخبر هل هو لبيان حكم الأضحية، أو لبيان المنع من مس الشعر والبشر لمن أراد أن يضحي؟
يعني دلالته الأصلية نعم في حكم الأخذ من الشعر والبشرة لمن أراد أن يضحي، نعم فيه دلالة تبعية وليست أصلية، أن الأمر وكل إلى إرادة المضحي، ولا شك أن الدلالة التبعية معتبرة، إلا إذا عورضت بما هو أقوى منها؛ لأن الخبر إنما سيق من أجل منع من أراد أن يضحي أن يأخذ من شعره وبشرته شيئاً، ولم يسق لبيان حكم الأضحية، فدلالته الأصلية في حكم أخذ الشعر لمن أراد أن يضحي، ودلالته التبعية يعني لو لم يوجد معارض قلنا، على أنه يمكن أن يقال بمثل هذا السياق حتى في الأركان، نعم، من أراد أن يحج فليحتط لنفسه باللباس -مثلاً- لأن الوقت شتاء مثلاً، من أراد أن يحج فليحتط لنفسه باللباس، يعني يأخذ فروة يأخذ بطانية يأخذ شيئاً يتقي به من شر البرد، هل هذا يدل على عدم وجوب الحج؟ يعني الكلام سيق لبيان حكم الحج؟ إنما سيق للاحتياط، كما أن الحديث الذي معنا ((من أراد أن يضحي)) نعم سياقه للمنع من أخذ البشرة، ولذا الدلالة الأصلية ما سيقت من أجل حكم الأضحية.(40/15)
والعلماء يختلفون في اعتبار الدلالة الفرعية، أما الأصلية يتفقون عليها، يتفقون على اعتبار الدلالة الأصلية، لكن الدلالة الفرعية يختلفون فيها اختلاف كبير، حتى أن الشاطبي كأنه يميل إلى عدم اعتبار الدلالة الفرعية، لكن لا شك أن القول الوسط أن الدلالة الفرعية إذا لم تعارض فهي معتبرة، والعلماء ما زالوا يستنبطون من أدلة الكتاب والسنة من الجملة الواحدة أكثر من فائدة، لا يقتصرون على الدلالة الظاهرة من النص، بل يسترسلون ويستنبطون منه أدلة أخرى، لكن مثل هذا إنما سيق لبيان حكم أخذ الشعر ممن أراد أن يضحي، وتنظيره مثل ما سمعتم، قد يكون فيكم من لم يحج حجة الإسلام، فإذا قيل لكم بمجموعكم بمن فيكم ممن لم يحج حجة الإسلام وهو قادر على ذلك وهي ركن من أركان الإسلام: إذا أراد أحدكم أن يحج فليحتط لنفسه، أو من أراد منكم أن يحج فليحتط لنفسه؛ لأن الجو بارد، ويخشى من الضرر، هل نقول أن هذا فيه ترخيص للجميع لمن أراد أن يحج أو لمن لم يرد، لا، دلالة الحديث الأصلية ما سيقت لهذا.
طالب. . . . . . . . .
طيب أنا جيب لك مثال.
الحنفية يقولون: أن وقت صلاة العصر يبدأ من مصير ظل الشيء مثليه، يعني لو وقفت بالشمس صار ظلك طولك مرتين، والجمهور يقولون: لا، مثله مرة واحدة بس، إلى قدر هذا بمَ استدلوا؟
استدلوا بحديث: ((إنما مثلكم ومثل من قبلكم كمثل رجل استأجر أجيراً من أول الصبح إلى وقت الظهر بدينار، ثم استأجر أجيراً من وقت الظهر إلى العصر بدينار، ثم استأجر أجيراً من وقت العصر إلى غروب الشمس بدينارين، فاحتج أهل الكتاب نحن أكثر عملاً وأقل أجراً)).
وجه الاستدلال: اليهود الذين عملوا من أول النهار إلى الزوال واضح احتجاجهم، ولهم أن يحتجوا؛ لأنهم عملوا ضعف العمل الباقي، لكن اليهود كيف يطيب لهم الاستدلال بأنهم عملوا أكثر من عمل المسلمين، وصلاة العصر تبدأ من مصير ظل الشيء مثله؟
قالوا: لا، ما يمكن أن يحتج اليهود إلا إذا كان الوقت يمتد إلى مصير ظل الشيء مثليه، على شان يصح احتجاجهم.
نقول: الاستدلال بمثل هذا الحديث صحيح وإلا ما هو بصحيح؟ صحيح وإلا ما هو بصحيح؟ الدلالة أصلية وإلا فرعية؟(40/16)
فرعية بعيدة كل البعد عن المراد، مع أن في حديث عبد الله بن عمرو: ((ووقت العصر من مصير ظل الشيء مثله إلى أن تغرب الشمس))، هذا في الصحيح، نقابل هذه الدلالة بمثل هذا الحديث الصحيح الصريح؟ يعني هل الدلالة من الأحاديث المعتبرة؟
يا إخواني، نفرق بين الدلالات قوة وضعفاً، لا بد من التفريق، يعني الأئمة حينما يتكلمون ويحتجون بالنصوص ما يتكلمون من فراغ، ما يتكلمون من فراغ، يعني ما تورد حديث على أبي حنيفة، حديث عبد الله بن عمرو في صحيح مسلم وتنكره أبداً، ما أحتج بهذا الحديث.
طيب صحيح، قال: صحيح لكن ما أحتج به، ما يمكن أن يقول هذا مثل أبي حنيفة، لكن يجيب لك حديث ما يخطر على بالك، ولا على بال غيرك من أهل العلم.
فالدلالة الفرعية لا شك أنها معتبرة، لكن يبقى أنها إذا عورضت بما هو أقوى منها تلغى، مثل المفهوم؛ المفهوم معتبر إذا عورض بمنطوق يلغى؛ لأنه أقوى منه، فمثل هذا ينتبه له.
فالدلالة الأصلية للخبر إنما هي لأخذ الشعر والبشر لمن أراد أن يضحي، الدلالة الفرعية ((وأراد أن يضحي)) لو لم تعارض لقلنا بها.
على كل حال، مثل هذا يحتاج إلى بسط، مثل هذه المسألة على وجه الخصوص تحتاج إلى ضرب أمثلة، يعني من استدل على أن الحائض تقرأ القرآن بأيش، حائض تقرأ القرآن، النبي -عليه الصلاة والسلام- قال لعائشة: ((افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت)) قالوا الحاج يقرأ القرآن، طيب ولا يفعل غير هذا؟ افعلي يعني مما هو من أعمال الحج الخاصة به، افعلي كل ما يفعله الحاج، طيب الحاج يأكل ويشرب وينام ويتكلم وكذا، نقوم نلزم الحائض أن تفعل؛ لأن الحاج يفعل هذا، يعني إبعاد، إبعاد واستغراق في العموم، لا شك أن هذه الدلالة الفرعية يعني تضعف كلما بعدت، إنك تجد العلماء يستنبطون من الحديث عشر فوائد، يعني من جملة واحدة يستنبطون عشر مسائل الأولى واضحة مثل الشمس، ما يختلف فيها أحد، الثانية قريبة منها، الثالثة، قريبة منها، إلى أن تصل إلى العاشرة وفيها خفاء شديد، يعني هل كل هذه الفوائد معتبرة؟ نعم معتبرة إذا لم تعارض، فإذا عروض شيء منها بما هو أقوى منه، ألغي.(40/17)
مما احتجوا به ما رواه البيهقي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((هن علي فرائض وهن لكم تطوع، النحر والوتر وركعتا الضحى))، وهذا الحديث إسناده ضعيف.
وقال النووي في الشرح المهذب: صح عن أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- أنهما كانا لا يضحيان مخافة أن يعتقد الناس وجوبها، صح عن أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- أنهما لا يضحيان مخافة أن يعتقد الناس وجوبها، يعني الواجب يمكن أن يترك من أجل أن يعتقد الناس أو لا يعتقد؟!
طيب الأمر استقر بوفاة النبي -عليه الصلاة والسلام- فما الداعي لفعل أبي بكر وعمر؟ لأنهما خليفتان راشدان أمرنا باتباعهما والاقتداء بسنتهما.
لكن يأتي شاب في الثانوية -وهذه مسألة واقعة- الناس يصلون على الجنائز في المسجد الحرام وهو جالس جالس، سلموا الناس، لماذا لم تصلي؟ قال: لئلا يعتقد الوجوب، نجلس لبيان الجواز، هذه مسألة حقيقة يعني!! قد يقع بعض التصرفات من الشباب -أنا سمعت بأذني- وأنا ذاهب إلى رمي الجمرة يوم العيد اثنين من الشباب أجزم بأنهما ما دخلا الجامعة بعد، قال الحمد لله الذي ما أرانا ما كنا نتخوف من البدع، قال صاحبه: مثل إيش؟ قال: مثل قيام الليل ليلة مزدلفة، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- نام حتى أصبح!!
يعني حديث ما ترك الوتر سفراً ولا حضراً، وكونه ما نقل يعني هل يعني أنه ما حصل أو كذا؟ يعني تعجب من كيفية جرأة هؤلاء الشباب، على الإنسان أن يعرف قدر نفسه، عامة أهل العلم على الاستحباب، وأنها ليلة من سائر الليالي بل من أفضل الليالي، ومع ذلك يقول: ما رأينا مبتدعة ولله الحمد.
يعني الذين يسبون الصحابة ويدعون غير الله -جل وعلا- هؤلاء ما هم مبتدعة، لكن الذي يوتر ليلة مزدلفة هذا مبتدع.
هذا خلل، والله خلل في التصور وفي التحصيل، يحتاجون إلى تربية من جديد، يجلس والناس ألوف مؤلفة تصلي على الجنائز؛ لئلا يظن الوجوب! أو لبيان الاستحباب؟!، ولعله يريد أن فعله يصرف الحكم من كذا إلى كذا، والله المستعان.(40/18)
أبو بكر وعمر على العين والرأس يتركان؛ لئلا يظن الوجوب؛ لأننا أمرنا بالاقتداء بهما، ولذلك كثير ما يستدل أهل العلم على الوجوب بفعل الخلفاء الراشدين، وأكثر من يستدل بهذا الإمام مالك -رحمه الله- يعني يذكر الخبر المرفوع، ثم يذكر فعل أبي بكر وعمر لماذا؟ ليبين أن الحكم محكم غير منسوخ، ولو كان منسوخاً لما فعله أبو بكر وعمر، فيستدل بفعلهما، وقد أمرنا بالاقتداء بهما، والله المستعان.
قال ابن حجر في فتح الباري: قال ابن حزم: لا يصح عن أحد من الصحابة أنها واجبة، وصحَّ أنها غير واجبة عن الجمهور، ولا خلاف في كونها من شرائع الدين.
استدل المجد ابن تيمية صاحب المنتقى جد شيخ الإسلام -رحم الله الجميع- على عدم الوجوب بتضحية الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن أمته، وذكر حديث جابر -رضي الله عنه- قال: "صليت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عيد الأضحى، فلما انصرف أتي بكبش فذبحه" فقال: ((باسم الله، الله أكبر، اللهم هذا عني، وعن من لم يضحِّ من أمتي)) رواه أحمد أبو داود والترمذي.
وحديث علي ابن الحسين عن أبي رافع أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا ضحى اشترى كبشين سمينين أقرنين أملحين، فإذا صلى وخطب الناس أتي بأحدهما وهو قائم في مصلاه فذبحه بنفسه بالمدية، ثم يقول: ((اللهم هذا عن أمتي جميعاً، من شهد لك بالتوحيد وشهد لي بالبلاغ))، ثم يؤتى بالآخر فيذبحه عن نفسه، ويقول: ((هذا عن محمد وآل محمد)) فيطعمهما جميعاً المساكين، ويأكل هو وأهله منهما، فمكثنا سنين ليس لرجل من بني هاشم يضحي؛ قد كفاه الله المئونة برسول الله صلى الله عليه وسلم". رواه أحمد.
يقول الشوكاني في شرحه: وجه "دلالة الحديثين على الوجوب أن تضحيته -صلى الله عليه وسلم- عن أمته وعن أهله تجزئ كل من لم يضحِّ، سواءً كان متمكناً من الأضحية أو غير متمكن، ثم تعقبه بقوله: ويمكن أن يجاب عن ذلك بأن حديث: ((على كل أهل بيت أضحية)) يدل على وجوبها على كل أهل بيت يجدونها، فيكون قرينة على أن تضحية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن غير الواجدين من أمته".(40/19)
على كل حال مما تقدم من أدلة الفريقين، يتضح أن أقوى أدلة القائلين بالوجوب الآية، وحديث جندب بن سفيان والأمر بإعادة الذبح، ((فليذبح مكانها أخرى)) والذبح أيضاً: ((ومن لم يذبح فليذبح)) هذا ظاهر في الوجوب.
وأقوى أدلة المخالفين رد أمر التضحية إلى إرادة المضحي كما في حديث أم سلمة عند مسلم وغيره، ولا شك أن الأدلة تقرب من التكافؤ، وإذا كان الأمر كذلك فالذي ينبغي على المسلم أن يحتاط لدينه، ويخرج من العهدة بيقين إبراءً للذمة وخروجاً من الخلاف، فيضحي إذا كانت الأضحية لا تشق عليه، أو إذا كان يستطيع أن يقترض ثم يجد سداداً لذلك فليقترض.
وترجم الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- باب سنة الأضحية، وقال ابن عمر: "هي سنة ومعروف".
هل على الحاج أضحية:
الإمام مالك -رحمه الله تعالى- استثنى الحاج بمنى، وقال: "لا تسن له الأضحية؛ لأن ما يذبحه هدي لا أضحية" واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- ففي الاختيارات قال: "ولا تضحية بمكة وإنما هو الهدي".
وخالفهم جماهير أهل العلم؛ نظراً لعموم أدلة الأمر بالأضحية في الحاج وغيره، ولبعض النصوص المصرحة بمشروعية الأضحية للحاج بمنى، وترجم الإمام البخاري في صحيحه: باب الأضحية للمسافر والنساء.
ذكر حديث عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -عليه الصلاة والسلام- دخل عليها وقد حاضت بسرف، قبل أن تدخل مكة وهي تبكي فقال: ((ما لك، أنفست؟ )) قالت: نعم، قال: ((إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم فاقض ما يقضي الحاج غير ألا تطوفي بالبيت))، فلما كنا في منى أُتيت بلحم بقر، فقلت: ما هذا؟ قالوا: ضحى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أزواجه بالبقر". وهذا الحديث في الصحيحين، وعند مسلم بلفظ "أهدى" بدل ضحى.
قال ابن حجر: الظاهر أن التصرف من الرواة، يعني بعضهم يقول أهدى، وبعضهم يقول ضحى؛ لأن الوقت واحد، وقت الأضحية ووقت الهدي واحد، فبعضهم يعبر عنه بالأضحية وبعضهم يعبر عنه بالهدي.(40/20)
يقول: "الظاهر أن التصرف من الرواة؛ لأنه ثبت في الحديث ذكر النحر فحمله بعضهم على الأضحية؛ فإن رواية أبي هريرة صريحة في أن ذلك كان عمن اعتمر من نسائه، فقويت رواية من رواه بلفظ: " أهدى" وتبين أنه هدي التمتع؛ فليس فيه حجة على مالك في قوله: لا ضحايا على أهل منى، وتبين توجيه الاستدلال به على جواز الاشتراك في الهدي والأضحية والله أعلم.
إذا عرف هذا فليس في الحديث ما ينفي التضحية، يعني لا نقول أنه قطعي في حكم التضحية لقوله: "ضحى عن نسائه بالبقر"؛ لاحتمال أن يكون أطلق ضحى وأراد أهدى، لا سيما وقد جاء في بعض الألفاظ: "أهدى عن نسائه بالبقر"، لكن ليس فيه تعرض لنفي الأضحية؛ الأضحية ثبتت بأدلة أخرى، وكونه -عليه الصلاة والسلام- أهدى عن نسائه البقر، لا يعني أنه لم يضحِّ عنهن، إذا عرف هذا فليس في الحديث ما ينفي التضحية لعدم ذكرها، فتبقى على حكمها المبين في نصوص أخرى كما قال الجمهور.
في قواعد ابن رجب في من فروع قاعدة: (إذا اجتمعت عبادتان من جنس واحد ليست إحداهما مفعولة على جهة القضاء، ولا على طريق التبعية للأخرى في الوقت، تداخلت أفعالهما، واكتُفى فيهما بفعل واحد وهو على ضربين).
إذا اجتمعت عبادتان من جنس واحد: ليست إحداهما مقضية يعني والأخرى مؤداة، وليست إحداهما تفعل على طريق التبعية للأخرى، تداخلت أفعالهما، واكتفى فيهما بفعل واحد وهو على ضربين: -
أحدهما: أن يحصل له بالفعل الواحد العبادتان جميعًا، بشرط أن ينويهما على المشهور.
الثاني: أن يحصل له أحدى العبادتين، وتسقط عنه الأخرى، ولذلك أمثلة: فذكر منها:
إذا اجتمع عقيقة وأضحية فهل تجزئ الأضحية عن العقيقة أم لا؟
هذا المولود ولد في اليوم الرابع يوم العيد يوم السابع، وأراد أن يذبح العقيقة ونواها عقيقة وأضحية، تجزئ وإلا ما تجزئ؟
عبادتان من جنس واحد ليست إحداهما مقضية؛ كلها في الوقت، وليست هذه مشروعة على سبيل التبعية للأخرى، وليست تابعة لشيء آخر، تتداخل؛ مقتضى القاعدة أنها تتداخل.
إذا اجتمع عقيقة وأضحية فهل تجزئ الأضحية عن العقيقة أم لا؟.(40/21)
على روايتين منصوصتين يعني عن الإمام أحمد، وفي معناه لو اجتمع هدي وأضحية واختار الشيخ تقي الدين أنه لا تضحية بمكة وإنما هو الهدي.
أقول: ينظر في قوله بمكة، هل المراد الحاج فقط، أو نقول المقيم بمكة لا أضحية عليه، كما أنه لا هدي عليه، هذه متعة وهذا قران ما عليه، {ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [(196) سورة البقرة]، فهل أهل مكة ما يضحون؟ أو المراد من حج منهم، أو المراد من أهدى منهم، سواءً كان حاجاً أو غير حاج؟؟ الذي يظهر أن المراد من أهدى، حاجاً كان أو غير حاج، لكن من لم يهدِ، النصوص تشمل، تشمله كما تشمل غيره.
قال ابن القيم -رحمه الله- في الهدي، -الهدي الذي ينحر وإلا كتاب؟
طالب:. . . . . . . . .
نعم، كتاب اسمه زاد المعاد، لكن تعارف أهل العلم على تسميته واختصار اسمه بـ (الهدي): "الأضحية والهدايا والعقيقة مختصة بالأزواج الثمانية المذكورة في سورة الأنعام، ولم يعرف عنه -عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا عن الصحابة، هدي ولا أضحية ولا عقيقة من غيرها، وهذا مأخوذ من القرآن من مجموع أربع آيات: إحداها: قوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ} [(1) سورة المائدة].
والثانية قوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [(27) سورة الحج].
والثالثة قوله تعالى: {وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ* ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [(142 - 143) سورة الأنعام]، ثم ذكرها.
الرابعة قوله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [(95) سورة المائدة]، فدل على أن الذي يبلغ الكعبة من الهدي هو هذه الأزواج الثمانية، وهذا استنباط علي بن أبي طالب".(40/22)
وهذا أمر مجمع عليه، أن الهدي والأضحية والعقيقة لا تصح إلا من بهيمة الأنعام، إلا ما حُكي عن الحسن بن صالح أنها تجوز التضحية ببقرة الوحش عن عشرة، والضبي عن واحد، وروي عن أسماء أنها قالت: ضحينا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالخيل، وما روي عن أبي هريرة أنه ضحى بديك، وكل هذه لا تثبت، ولا اعتبار بها.
وقت الأضحية:
ووقت الذبح يوم العيد بعد الصلاة أو قدرها، إلى آخر يومين من أيام التشريق، فتكون أيام النحر ثلاثة، يوم العيد، ويومان بعده، هذا المذهب عند الحنابلة، وهو قول عمر، وعلي، وابن عمر، وابن عباس، وأبي هريرة وأنس، وإليه ذهب مالك والثوري وأبو حنيفة، يعني قول الجمهور أنها ثلاثة أيام.
وروي عن علي-رضي الله عنه- أن آخر أيام الذبح آخر أيام التشريق، وتكون على هذا أربعه، وبه قال عطاء والحسن والشافعي لحديث: ((أيام منى كلها منحر))؛ ولأنها أيام تكبير وإفطار، فكانت محلاً للنحر كالأولين واختاره شيخ الإسلام.
ابن سيرين يقول: لا يجوز النحر إلا في يوم النحر خاصة؛ لأنها وظيفة عيد فاختصت بيوم العيد كالصلاة وأداء الفطرة يوم الفطر.
ودليل المذهب أن الذبح في ثلاثة أيام فقط بل هو قول الجمهور بل هو قول الأكثر، دليل المذهب النهي عن الادخار فوق ثلاث، ولا يجوز الذبح في وقت لا يجوز ادخار الأضحية إليه، وحكم الادخار سيأتي، وشيخ الإسلام، والمفتى به الآن أن الذبح في جميع أيام التشريق الثلاثة، وعلى هذا تكون أيام الذبح أربعة.
حكم ذبح الأضحية قبل الصلاة:
من ذبح أضحيته قبل أن يصلي إمام المسلمين صلاة العيد فإن ذبيحته لا تجزئه عن الأضحية، وإنما شاته التي ذبحها لحم يأكله هو ومن شاء وليست بشاة نسك؛ لما روى البخاري في صحيحه عن البراء -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((إن أول ما يبدئ به في يومنا هذا أن نصلي، ثم نرجع فننحر من فعل فقد أصاب سنتنا، ومن ذبح قبل فإنما هو لحم قدمه لأهله، ليس من النسك بشيء)) وفي الباب عن أنس وجندب ابن سفيان -وكلها متفق عليها- كلها مصرحة بأنه لا يجوز الذبح قبل الصلاة.(40/23)
ومن كان في مكان لا تصلى فيه العيد فإنه يتحرى بذبح أضحيته قدر ما يصلي الإمام صلاة العيد عادة ثم يذبح، يعني لو انتظر ساعة بعد طلوع الشمس له أن يذبح؛ لأن الصلاة في الغالب تكون انتهت.
السن المجزئ للأضحية:
اختلف العلماء في السن المجزئ، ففي صحيح مسلم عن جابر-رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تذبحوا إلا مسنة، إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضان))، والمسنة هي الثنية من كل شيء، من الإبل والبقر والغنم، قاله النووي.
ومذهب الجمهور أن الجذعة من الضان يجزئ، مع أنه يقول: ((لا تذبحوا إلا مسنة، إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضان)) الجمهور أن الجذع من الضأن يجزئ، سواءً وجدت المسنة أو لا.
وحكي عن عمر والزهري أنهما قالا لا يجزئ، الجذع من الضأن، استدلالاً بالحديث ((لا تذبحوا إلا مسنة، إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضان)) وقد يحتج لهما بظاهر هذا الحديث، وقال الجمهور هذا الحديث محمول على الاستحباب والأفضل.
اختلفوا في الجذع من الضأن فقيل ما له سنة تامة، قال النووي وهو الأصح عند أصحابنا، وهو الأشهر عند أهل اللغة وغيرهم، وقيل ما له ستة أشهر، وهذا قول الحنابلة كما في المقنع وشرحه يقول: "ولا يجزئ إلا الجذع من الضأن، وهو ما له ستة أشهر، والثني مما سواه، والثني من الإبل ما كمل له خمس سنين، ومن البقر ما له سنتان، ومن المعز ما له سنة"، فيجزئ الجذع من الضأن لحديث أبي هريرة عند أحمد والترمذي قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((نعم، أو نعمت الأضحية الجذع من الضأن)).
وعن أم بلال بنت هلال عن أبيها أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((يجوز الجذع من الضأن ضحية)).
وعن مجاشع بن سليم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: ((إن الجذع يوفي مما يوفي منه الثني)) وعن عقبة بن عامر قال: "ضحينا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالجذع من الضأن" وهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضاً، وعلى العمل بها عامة أهل العلم، أن الجذع من الضأن يجزئ، وأن الحديث الأول محمول على الاستحباب.(40/24)
ترجم الإمام البخاري -رحمه الله- باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي بردة: ((ضحِّ بالجذع من المعز، ولن تجزئ عن أحد بعدك))، وذكر حديث أبي بردة، وأنه ضحى قبل الصلاة، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((شاتك شاة لحم)) فقال: إن عندي داجناً، جذعة من المعز، فقال: ((اذبحها ولا تصلح لغيرك)).
وفي الاختيارات لشيخ الإسلام ابن تيمية، قال: "تجوز الأضحية بما كان أصغر من الجذع من الضأن لمن ذبح قبل صلاة العيد جاهلاً بالحكم ولم يكن عنده ما يعتد به في الأضحية غيرها؛ لقصة أبي بردة بن ميار ويحمل قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((ولن تجزئ عن أحد بعدك)) أي بعد حالك، يعني شيخ الإسلام حمل الحديث على الحال، لا على الشخص، والجمهور على أنها لا تجزئ عن أحد أبداً، يعني لا يذبح، إذا ما كان عنده إلا جذعة من المعز لا يذبح، أو أقل من جذع الضأن لا يذبح، ليست أضحية، ليست مما يشرع التقرب به؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: ((لن تجزئ عن أحد بعدك))، شيخ الإسلام يقول: تجزئ، وحمل الحديث على الحال، يعني بعد حالك، يعني غير حالك هذه لا تجزئه، أما من كانت حاله مثل حالك تجزئ، ولا شك أن هذا من شيخ الإسلام -رحمه الله- مقبول باعتبار إحاطته بنصوص الشريعة وقواعدها العامة والمصالح وغيرها والمقاصد -مقاصد الشريعة- لكن غيره هل يمكن أن يقول مثل هذا الكلام؟ هل يمكن أن يقول غير شيخ الإسلام غير هذا الكلام، يعني هل لطالب علم أن يقول: أبداً لن تجزئ، يقول تجزئ، يمكن أن يقوله طالب علم؟ ما يمكن، هل يمكن أن يقول طالب علم: أحابستنا هي الرسول يقول: ((أحابستنا هي)) يقول الحائض ما تحبس الرفقة، لكن شيخ الإسلام بسعة علمه واطلاعه على نصوص الشريعة ومقاصدها وقواعدها العامة يقول مثل هذا الكلام، ولا إمامة إلا بجرأة، كما هو معروف، لكن يبقى أن الجرأة لمن؟ ما يقول والله شاب من الشباب أو متعلم من المتعلمين ولا حتى عالم دون شيخ الإسلام بمراحل أن يقول مثل هذا الكلام.(40/25)
لا يجزئ في الأضحية العوراء البين عورها والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين ضلعها، الكبيرة التي لا تنقي، كما رواه أحمد والأربعة، وصححه الترمذي وابن حبان من حديث البراء بن عازب، قال أبو داود: "لا تنقي يعني ليس لها مخ".
وأخرج أبو داود من حديث عقبة بن عامر السلمي أنه قال: "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن المصفرة" وهي التي تستأصل أذنها، والمستأصلة التي استئصل قرنها، والبخقاء التي تبخق عينها، والمشيعة وهي التي لا تتبع الغنم عجفاً أو ضعفاً، والكسراء الكسيرة لكن الحديث فيه ضعف.
وأخرج أيضاً أبو داود عن علي قال: أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نستشرف العين والأذن ولا نضحي بعوراء ولا مقابلة ولا مدابرة ولا خرقاء ولا شرقاء المقابلة مقطوعة طرف الأذن، والمدابرة المقطوعة من مؤخرة الإذن، والشرقاء قال: المشقوقة الإذن، والخرقاء مخروقة الأذن للسمة، يعني للوسم، وهذا أيضاً ضعيف.
مقطوع الألية، يستورد من الغنم ما هو مقطوع الألية لا سيما من استراليا، جمع من أهل العلم على أنه يجزئ؛ لأن قطع الألية إنما هو لمصلحته كالخصاء، لمصلحة الفحل أو المضحى به.
أخرج أحمد وابن ماجة والبيهقي من حديث أبي سعيد قال: اشتريت كبشاً لأضحي به، فعدى الذئب فأخذ الألية منه، فسألت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((ضحي به)) والحديث ضعيف؛ لأن فيه جابر الجعفي مضعف عند أهل العلم شديد الضعف، وشيخه مجهول، لكن له شاهد عند البيهقي.
من أحكام الأضحية:
أفضل الأضاحي الإبل ثم البقر ثم الضأن ثم الماعز، فتجزئ البدنة والبقرة عن سبعة، قال شيخ الإسلام: "الأجر في الأضحية على قدر القيمة مطلقاً"، ولعل مستنده قوله في الحديث: "ثمينين".
وتنحر الإبل قائمة معقولة يدها اليسرى، فيطعنها بالحربة في الوهدة التي بين أصل العنق والصدر، ويذبح البقر والغنم ويقول عند ذلك: بسم الله والله أكبر، اللهم هذا منك ولك، اللهم تقبله عن فلان.
يتولى الذبح بنفسه إن كان يحسن ذلك كما فعل النبي -عليه الصلاة والسلام-، وإذا كان لا يحسن ذلك ولم يعتد هذا الأمر فأقل الأحوال أن يحضر الذبح، ثم يأكل ويهدي ويتصدق منها أثلاثاً.(40/26)
لا يجوز لمن أراد أن يضحي أن يأخذ من شعره أو بشرته شيئاً -كما تقدم في حديث أم سلمة- وبذلك قال سعيد بن المسيب، وربيعة، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، وداود، وقال بعضهم أن الحديث محمول على الكراهة، كراهة التنزيه لا التحريم.
في البخاري من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: "كنا نتزود لحوم الأضاحي على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة" يعني يأخذون يتزودونها أكثر من ثلاثة أيام، يعني طريقهم هذا يأكلون منها، بل قد يدخرونها إذا وصلوا إلى المدينة يبقى منها شيء.
عن سلمة بن الأكوع قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((من ضحى منكم فلا يصبحن بعد ثالثة وبقي منها شيء))، يعني نهي عن الادخار بعد ثلاث، والصحابة: كنا نتزود لحوم الأضاحي على عهده إلى المدينة وهذا يستمر أكثر من ثلاثة أيام، بل يأخذ أسبوع وأكثر. سلمة بن الأكوع قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((من ضحى منكم فلا يصبحن بعد ثالثة وبقي منه شيء))، فلما كان العام المقبل قالوا: يا رسول الله، نفعل كما فعلنا عام الماضي قال: ((كلوا وأطعموا وادخروا فإن ذلك العام كان بالناس جهد فأردت أن تعينوا منها))، يعني تتصدقون بما زاد عن حاجتكم في الأيام الثلاثة.
ومن حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "الضحية كنا نملح منه فنقدم به إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة فقال: ((لا تأكلوا إلا ثلاثة أيام)) وليست بعزيمة، ولكنه أراد أن نطعم والله أعلم.
وجاء في الخبر أن النهي عن الادخار فوق ثلاث إنما كان من أجل الدافة: قوم قدموا إلى المدينة وبهم حاجة وجوع، فنهي عن الادخار من أجل أن يتصدق على هؤلاء المحتاجين، والله أعلم وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(40/27)
الأضحية فضلها وأحكامها
(الحكمة من تنوع العبادات، اللغات في الأضحية، ما ورد من السنة في الأضحية، حكم الأضحية، أدلة القائلين بالوجوب، أدلة القائلين بعدم الوجوب، الأصناف التي تجزئ في الأضحية، وقت الذبح، سلامة الأضحية من العيوب)
الشيخ/ عبد الكريم بن عبد الله الخضير
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
تتشرف مؤسسة الدعوة الخيرية في جامع الأمير فيصل بن فهد -يرحمهم الله- وعبر برنامجها المتعلق بملتقى الدعوة الثامن في مجالس عشر ذي الحجة، في هذا اليوم الموافق الأربعاء الثاني والعشرين من شهر ذي القعدة لعام (1427هـ) وضمن سلسلة هذه اللقاءات التي يقوم على لقائها نخبة من كبار علمائنا الأفاضل.
يسرنا في هذه الليلة المباركة أن يكون معنا أحد علمائنا الأجلاء فضيلة الشيخ العلامة الدكتور/ عبد الكريم بن عبد الله الخضير، وعنوان هذا اللقاء: (الأضحية فضلها وأحكامها) وما زلنا وإياكم نعيش هذه الأيام مع علمائنا الأجلاء في طرح ما يتعلق بمسائل عشر ذي الحجة، وفي هذا اليوم سيتحدث فضيلة شيخنا عن عدد من العناصر فيما يتعلق بالأضحية (فضلها وأحكامها).
أولاً: في الترغيب فيها.
ثانياً: فضلها.
ثالثاً: أحكامها.
رابعاً: سننها وآدابها.
سادساً: عيوبها.
سابعاً: تنبيهات مهمة لمن أراد أن يضحي.
أرحب بكم جميعاً أيها الحضور، وأرحب بالأخوة المشاركين معنا في عدد من المواقع في مدينة عرعر، وفي جامع الأمير عبد العزيز بن مساعد، وكذلك الأخوة الذين يشاركوننا عبر الموقع، أرحب بكم في هذا اللقاء، وأنبه كالمعتاد أنه سيتم طرح ثلاثة أسئلة على محاضرة الشيخ، ثم بعد ذلك ننتقل إلى أسئلة المناطق، وأسئلة الحضور، وكذلك الأسئلة التي تردنا عبر الموقع.
أسأل الله -عز وجل- بمنه وكرمه أن يبارك في جهود شيخنا، وأن ينفع به الإسلام والمسلمين، وأن يجعل ما يبذله ويقدمه في ميزان حسناته، وأن يبارك له في جهوده ووقته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أترككم مع فضيلة الشيخ فليتفضل مشكوراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(41/1)
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
الحكمة من تنوع العبادات:
فمن نعم الله -جل وعلا- على المسلمين، على هذه الأمة أن نوع لها العبادات، وشرع لها الشرائع المتنوعة المناسبة لجميع الطبقات، وجميع الفئات، تنوع العبادات نعمة عظيمة من الله -جل وعلا-، فلو كانت العبادات كلها من نوع واحد بدنية مثلاً لشق الأمر على كثير من الناس، فكثير من الناس لديه استعداد أن يبذل الأموال الطائلة ولا يتعب جسده في ركعتين، ونوع آخر لديه الاستعداد التام على أن يتعب بدنه حفاظاً على ماله، فجاءت العبادات في هذه الشريعة الكاملة الشاملة الخاتمة للشرائع منوعة، فمنها العبادات البدنية كالصلاة مثلاً والصيام، فهذه يُكثِر منها من وفقه الله -جل وعلا-، ويسر عليه العبادات البدنية، ليتوفر له أجره عند الله -جل وعلا-، وجاء في فضل الصلاة، وهي عبادة بدنية، وفضل الصيام ما جاء من نصوص الكتاب والسنة، لكن كثير من الناس لم يفتح له هذا الباب، لا يستطيع الإكثار من الصلوات، مع أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: ((أعني على نفسك بكثرة السجود)) والقنوت طول القيام كما هو معروف.
ومنهم من لا يستطيع الإكثار من نوافل الصيام مع أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: ((من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً)) فتجد بعض الناس مستعد يدفع عشرة آلاف ولا يصوم يوم، ومن الناس من هو بالعكس، مستعد أن يصوم الأيام المتتابعة، وأن يقوم الليالي المتواصلة، ولا تجود نفسه ببذل شيء من المال، والمسألة مفترضة في القدر الزائد عن الواجبات، وأما الواجبات سواءً كانت بدنية أو مالية فلا يعفى منها أحد؛ لكن الكلام في النوافل، بعض الناس يفتح له باب الصلاة، وبعضهم باب الصيام، وبعضهم باب الإنفاق في سبيل الله، وهكذا.(41/2)
ولذا جاءت العبادات متنوعة، وهذه العبادة الخاصة وهي عبادة النسك، والذبح لله -جل وعلا- الذي هو نوع من أنواع العبادة التي لا يجوز صرفها لغير الله -جل وعلا-: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ* لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [(162 - 163) سورة الأنعام] فمن ذبح لغير الله -جل وعلا- فقد أشرك.
قد يلتبس على بعض الناس ما يذبح لإكرام الضيف مثلاً، أو لكونه سكن بيتاً جديداً، أو ما أشبه ذلك مما تعارف الناس على ذبحه، فهل هذا يتعارض؟ هل يقول الإنسان: أن هذه ذبيحة لفلان وليست لله؟ وقد ذبحت على اسم الله -جل وعلا-، قال ذابحها: بسم الله والله أكبر، وأكرم بها ضيفه ممتثلاً لقول النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه)) وقد تعزب هذه النية عنه، لكنها داخلة فيما يجمل، وإن كان الأجر يترتب على استحضار هذه النية، وما أشبه ذلك، فالضيافات المعروفة عند العرب ثمان كما قدرها أهل العلم وحددوها، المقصود أن مما يذبح تقرباً إلى الله -جل وعلا- هذه الشعيرة من شعائر الدين.
اللغات في الأضحية:
ويقال لها: أضحية، بضم الهمزة، وإِضحية بكسرها، والجمع أضاحي، كما يقال لها: ضحية، وجمعها ضحايا، ويقال لها أيضاً: أضحاة، وجمعها أضحى، كأرطاة وأرطى.
هذه اللغات في هذه اللفظة: أضحية وإضحية، وجمعهما أضاحي، وضحية كعطية وهدية، وجمعها ضحايا، كهدايا وعطايا، وأضحاه، وجمعها أضحى، كأرطاة وأرطى.
والأضحية مشروعة بإجماع المسلمين، وشرعيتها تظافرت عليها الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع.(41/3)
ورد أحاديث كثيرة كما جاء في القرآن ما يشير إليها من قوله -جل وعلا-: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [(2) سورة الكوثر] والمراد بالصلاة في هذه الآية هي صلاة العيد وعيد النحر، والنحر هنا المأمور به في قوله: {وَانْحَرْ} ذبح الضحايا والهدايا، هذا ما يتعلق بعيد الأضحى، أما بالنسبة لعيد الفطر فجاء قوله -جل وعلا-: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى* وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [(14 - 15) سورة الأعلى] هذه وظيفة عيد الفطر، ووظيفة عيد الأضحى {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [(2) سورة الكوثر] والأمر هنا الأصل فيه الوجوب، وثبوته قطعي؛ لكن دلالته على المراد (فصلِ) أمر بالصلاة، (وانحر) أمر بالنحر، يستدل بهذا من يقول: بوجوب الأضحية على ما سيأتي.
الثبوت قطعي؛ لأنه بين الدفتين في المصحف؛ لكن دلالة الصلاة هنا على صلاة العيد، ودلالة الأمر بالنحر على الأضحية ليست بقطعية، ولذا اختلف أهل العلم في حكمها، في الطرفين، في صلاة العيد وفي النحر، والجمهور على عدم وجوب صلاة العيد وجوباً عينياً، كما يدل له قوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ} كما أن مذهب الجمهور على عدم وجوب الأضحية كما سيأتي، وذلكم لأن دلالة الآية في الموضعين على الصلاة وعلى النحر ليست قطعية، وقال بالوجوب في الطرفين الحنفية، قال بوجوب صلاة العيد الحنفية، وقالوا بوجوب النحر، بوجوب الأضحية الحنفية أيضاً، فمذهبهم مطرد.
شيخ الإسلام يوافقهم على وجوب صلاة العيد، ويؤكد في استحباب الأضحية؛ لكنه لا يصل بها إلى حد الوجوب، المقصود أن الأضحية هي ما يذبح يوم عيد النحر، وما يليه من أيام التشريق، على ما سيأتي من الخلاف في هذه المسألة.(41/4)
وكأنها أخذت من اسم الوقت الذي شرع ذبحها فيه، وهو الضحى، ثم سمي بها اليوم، يوم العيد، عيد الأضحى، يعني هل نقول: أن الأضحية أخذت من عيد الأضحى؟ لا، لماذا؟ لأنه يلزم عليه الدور، العيد أخذ من الضحايا والهدايا هذه من الضحية؛ لأنه تذبح فيه الأضاحي، والأضحية أخذت من يوم العيد هذا هو الدور، وهذا ممنوع، ترتيب شيء على شيء مترتب عليه ممنوع عند أهل العلم، ولا يمكن، ما يتصور؛ لكن أخذت الأضحية من الضحى من الوقت الثابت المعروف، الذي يلي الصبح الضحى، وقبل الظهيرة أخذت من هذا؛ لأنها تذبح في هذا الوقت، يعني في الغالب بعد الصلاة -صلاة العيد- وقبل الزوال تذبح الضحايا هذا في الغالب، ويجوز ذبحها إلى آخر الوقت الذي جاءت به النصوص، وبعد ذلك أُخذ عيد الأضحى منها، أضيف إليها لأنها تفعل فيه.
ما ورد من السنة في الأضحية:
ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أحاديث كثيرة تدل على مشروعيتها منها:
حديث أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يضحي بكبشين أملحين أقرنين، ويسمي ويكبر، ويضع رجله على صفاحِهِما، وفي لفظ: "ذبحهما بيده" [متفق عليه] وفي لفظ: "سمينين" ولأبي عوانة في صحيحه: "ثمينين" الأصل ما جاء في صحيح مسلم "سمينين" وفي صحيح أبي عوانة "ثمينين" نفس الحديث لأن مستخرج أبي عوانة على صحيح مسلم، وهذا مما اختلف فيه المستخرج على أصله، فهل العبرة بالأصل أو بالمستخرج؟ العبرة بالأصل.(41/5)
أهل العلم يقولون: من فوائد المستخرجات ورود ألفاظ زائدة في المستخرجات لا توجد في الأصل، هذه من فوائد المستخرجات؛ لأنها تزيد ألفاظ وجمل، فهل نقول: إن هذه الزيادة مقبولة وتضم إلى ما في الأصل أو نقول: إن الأصل كلمة واحدة في سياق واحد، فإما سمينين أو ثمينين؟ في الأصل سمينين، لو جاء في المستخرج سمينين ثمينين، قلنا: زيادة؛ لكنها جاءت بدل من اللفظ الأصلي، فتقبل مثل هذه، أو نرجح بين اللفظين؟ أو نقول: لعله ثبت اللفظان، وبعض الروات حفظ لفظاً، وبعضهم حفظ لفظاً آخر، فنجمع بينهما، نلفق من الروايتين سياقاً واحداً، ونطلب من الأضحية أن تكون سمينة ثمينة في الوقت نفسه؟ وعلى هذا لو كانت ثمينة فقط ليست بسمينة لا تكون فاضلة، أو العكس لو كانت سمينة وليست ثمينة لا تكون فاضلة حتى تكون سمينة ثمينة، وعلى رواية مسلم يكفينا أن نتوخى السمينة، ولو كانت رخيصة، وعلى رواية المستخرج نتوخى الثمينة ولو كانت غير سمينة، ولا شك أن كونها سمينة أنفع للفقراء، وكونها ثمينة تدل على طيب نفس باذلها، على طيب نفس المضحي، ولذا جاء الأمر بطيب النفس بها، على ما سيأتي، وإن كان فيه كلام.
المقصود أن على الإنسان أن تطيب نفسه بما يبذله لله -جل وعلا-، ولا شك أن هذا من تعظيم شعائر الله، توخي النافع للفقير مع كونه ثميناً يعني ثمنه مرتفعاً، من غير مباهاة؛ لأنه يوجد في الناس مع الأسف الشديد من يباهي، من يشتري خروف مثلاً بألفين، ثم يتحدث به في المجالس، أنا اشتريت خروف بألفين، في المجالس، وهذه المباهاة لا شك أنها تنقص من الأجر إن لم تقضِ عليه.
وقد اشترى شخص قبل عشرين سنة خروفاً بسبعمائة ريال، فلقيه شخص فقال له: ما هذا؟ قال: هذا أضحية للوالد -رحمه الله-، قد اشتريتها بسبعمائة ريال، انظر إلى حجمها، انظر إلى ظهرها، قال: لكن في ذمة أبيك دين لي بمقدار خمسمائة ريال، قال: الحقه ما عندي لك شيء، أيهما أهم إبراء ذمته أو التضحية له بهذه الأضحية؟(41/6)
بلا شك أن إبراء الذمة وقد علق بدينه، ولا شك أن مثل هذه التصرفات لا شك أن لها دلالة على ما في الباطن، وإن كانت القلوب لا يعلمها إلا علام الغيوب؛ لكن هناك دلالات وقرائن تدل على ما وراء الألفاظ تشتري له أضحية في ذلك الوقت، يعني الأضحية يمكن يضحي بمائتين، ويدفع الخمسمائة للدائن، وهذا هو التصرف السليم؛ لكن الآن اشترى هذه الأضحية بسبعمائة، وعينها لوالده لا يستطيع إرجاعها؛ لكن لو رده رداً جميلاً، قال: أنا والله ما عندي خبر من دينك، وأبشر -إن شاء الله- نسعى في سداده، بدلاً من أن يقول: الحقه واتبعه ما عندي لك شيء، فمثل هذه التصرفات لا شك أنها موجودة مع الأسف بين مسلمين، وتجد الإنسان إذا سافر سفر طاعة وأنفق فيه الأموال يتحدث به في المجالس: اعتمرنا في العشر الأواخر، واستأجرنا بخمسين ألف، بستين ألف، ثم بعد ذلك على شان إيش؟ هل تتصور أن هؤلاء المخلوقين الضعفاء الذين لا يقدمون لك نفعاً ولا ضراً تستفيد من كلامك هذا عندهم؟ أبداً، فمثل هذه الأمور الإخلاص يقتضي السر، وعلى هذا نبحث عن السمين الثمين، وشيخ الإسلام سيأتي كلامه في أن الأفضل الثمين مطلقاً، ورواية أبي عوانة تدل على هذا، ولا شك أن هذا يدل على طيب نفس، فرق بين من فكر في الأضحية، أو أهدى للبيت هدية، أو هدياً ثم بعد ذلك يبحث عن أرخص الأشياء، ويجاهد نفسه في إخراج القيمة، وبين من يبادر إذا سمع النص ذهب بحث عن أفضل ما يوجد، ولما أمر إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- بذبح ابنه تردد؟ تله للجبين، وأمة كاملة بنو إسرائيل يؤمروا بذبح بقرة فذبحوها وما كادوا يفعلون، لا شك أن هذه المبادرة تدل على ارتياح قلبي، وعلى سرعة ومبادرة بالامتثال.
ولمسلم من حيدث عائشة أن النبي -عليه الصلاة والسلام- أمر بكبش أقرن، يطأ في سواد، ويبرك في سواد، وينظر في سواد، فأتي به ليضحي به فقال لها: ((يا عائشة هلمي المُدية)) ثم قال: ((اشحذيها بحجر)) المُدية السكين، ((اشحذيها بحجر)) لتكون حادة ((وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة)) ويذبح بكل حاد إلا السن والظفر، أما السن فعظم، وأما الظفر فمُدى الحبشة، كما جاء في الحديث الصحيح.(41/7)
يعني كون الظفر مدى الحبشة هل معنى هذا أنه ينهى عن استعماله مطلقاً فيما تستعمل به السكين، أو أنه في الذبح خاصة؟
العلة كونه مُدى الحبشة، يعني سكين الحبشة، فلو اشتريت مسواكاً ثم بعد ذلك أردت استعماله فقلت: بظفرك كذا لتزيل اللحى الذي عليه، هل نقول: استعملت مدى الحبشة؟ أو نقول: هذا لا بأس به؟ انظروا للعلة، العلة المنصوصة في الحديث الصحيح، ((أما السن فعظم، وأما الظفر فمُدى الحبشة)) يعني لو أن إنساناً ذبح عصفوراً بظفره مُدى الحبشة، قال: كما يزال لحى السواك بالظفر وكلاهما مُدى الحبشة، وبدل ما استعمل السكين هنا لا تستعملها نفس الشيء، أو نقول: هذا خاص بالذبح؟ يعني استعمال المُدية خاص بالذبح أو عام؟ وإذا استحضرنا هذه العلة في المدية، وأن الظفر مدى الحبشة، هل نقول: أن هذا يمنع في الذبح ويمنع في غيره؟
طالب:. . . . . . . . .
يا إخوان لا نستحضر فيما في أذهاننا، نحن نناقش حديث، هذه العلة المنصوصة، هل هي مطردة في جميع ما يستعمل فيه المدية أو خاصة بالذبح؟
طالب: صدر الحديث نص على الذبح.
قل هذا فرد من أفراد العام في جميع ما يستعمل فيه المدى، التنصيص على فرد لا يعني التخصيص، كون السن عظم هل يمنع من استعماله؟ يعني عندك حبل معقود بقوة تحله بسنك، تقول: عظم، نفس القضية الأولى، يعني كونه عظم يعني لا نستعمله؟ نعم يا إخوان أجيبوا.
يعني قضية العظم وتنجيسه بالدم، يعني إذا استحضرنا لكن ما يمكن يُستحضر كون النهي عن الاستنجاء بعظم وتلويثه وكذا، هل نستحضر مثل هذا ونقرن بين الحكمين؟
طالب: لا.
لماذا؟
طالب: لأن العظم طعام الجن.
يعني طعام الجن، ولن يكون السن في يوم من الأيام طعاماً للجن، يعني هذه العلل هل نقول: أنها مؤثرة مطردة، أو أنها كالتعبدية؟ يعني ما فائدة التنصيص على العلة؟ يعني العلة المنصوصة لها شأن عند أهل العلم بمعنى أنه يدور الحكم معها وجوداً وعدماً، فهل نطرد هذه العلل فيما يستعمل فيه العظم بالنسبة للسن؟ وما تستعمل فيه المدية بالنسبة للظفر؟
طالب: لا.
لماذا؟
طالب: لأن الحكمة تعبدية.
إيه تعبدية لو لم تذكر العلة؛ لكن العلة منصوصة.
طالب: أحسن الله إليك هل الظفر يريح الذبيحة؟
كيف؟(41/8)
طالب: هل الظفر يريح الذبيحة؟
طيب لو أتينا بمدية غير مشحوذة، يصح وإلا لا؟
طالب: يصح.
ما تريح الذبيحة لكن الذبح صحيح.
طالب: لكن يا شيخ حديث: ((إذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة))؟
مأمورين بهذا؛ لكن أنت افترض أن شخص جاء بمدية كلّة، ثم حرحر الذبيحة إلى أن ذبحها ذبحاً صحيحاً بقطع الودجين والبلعوم، الذبح صحيح، يعني لو ذبحها بمنشار أساء وظلم وتعدى وخالف النهي، ومع ذلك الذبح صحيح، في شيء؟
طالب: السن من جنس الذبيحة.
يعني بحث مثل هذه الأمور ترونه مجدي وإلا نتجاوزه؟ نعم لا سيما قدامنا طلاب علم.
طالب: مجدي بلا شك.
لأن مثل هذا ما أشوف أحد يتطرق له، حتى في الكتب والمؤلفات، ما في أحد تطرق له؛ لكن الذي قدامنا طلاب علم، وتربية طلاب العلم على مثل هذه الأمور لا بد، كيف يتعاملون مع النصوص؟ يعني لو قال لك: علة منصوصة ((أما السن فعظم)) هل نقول: إن اطراد العلة يمشي على جميع العظام فنمنع الذبح بجميع العظام؛ لأن السن عظم وقد نهي عنه، واطراد العلة يكون من هذه الحيثية؟ ولا نطرد العلة بالنسبة للسن فنستعمله استعمال المدية باستمرار؛ لأن عندنا اللفظ فيه تنصيص على العلة، فهل المراد من العلة طرد الحكم في جميع العظام؛ لأن السن عظم فجميع العظام لا تجزئ التذكية بها، ولو جئت بضلع بعير وأردت أن تذبح به قلنا: ما يجوز؛ لأنه عظم، ولو جئت بلحي شاة أو جمل وذبحت به قلنا: ما يجوز؛ لأن السن عظم، وليس الاطراد فيما تستعمل فيه المدية، بقوله: ((مدى الحبشة)) وكأن هذا متماثل للاستنباط من الحديث.
وأما بالنسبة للظفر فالمسألة مسألة ذبح، وكونه مدى الحبشة هل يقتضي هذا أننا ممنوعون من جميع ما يستعمله الكفار في الذبح؟
طالب:. . . . . . . . .(41/9)
أما ما يشترك فيه الشعوب والناس كلهم من مسلمين وكفار وغيرهم هذا ما يقول أحد بمنعه؛ لكن لو عرفنا أن هذه الآلة ما يذبح بها إلا اليهود فقط، أو ما يذبح بها إلا النصارى، أو ما يذبح بها إلا ملة من الملل المخالفة لدين الإسلام تركنها من أجل التشبه بهم، فالظفر نتركه من أجل التشبه بالحبشة، وإذا كان الترك من أجل التشبه فاستعماله في غير هذا الموضع لا يقتضي التشبه، وإذا كان المنع للتشبه ينتفي التشبه لأنهم يذبحون به.
ثم قال: ((اشحذيها بحجر)) ففعلت فأخذها وأخذه فأضجعه ثم ذبحه فقال: ((بسم الله، اللهم تقبل من محمد وآل محمد، ومن أمة محمد)) ثم ضحى به.
التسمية شرط لحل الذبيحة، فالذبيحة التي لا يذكر عليها اسم الله لا يجوز الأكل منها، ميتة، والخلاف بين أهل العلم فيمن نسى التسمية، ومقتضى الاشتراط أنها لا تصح عمداً أو سهواً، إذا تركت.
وقد ترجم الإمام البخاري -رحمه الله تعالى-: باب أضحية النبي -صلى الله عليه وسلم- بكبشين أقرنين، ويذكر سمينين، إشارة إلى الرواية التي أوردها أبو عوانة، ويذكر سمينين، وقد أوردها الإمام البخاري بصيغة التمريض.
وأجمع المسلمون على مشروعية الأضحية، ومثلما تقدم الذبح عبادة لا يجوز صرفه لغير الله تعالى، فمن ذبح لغير الله فقد أشرك، وعلى هذا جميع من يعتد بقوله من أهل العلم لا يجيزون الذبح لغير الله -جل وعلا-، كما في قوله -سبحانه وتعالى-: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ* لاَ شَرِيكَ لَهُ} [(162 - 163) سورة الأنعام] فجعل الذبح مثل الصلاة، لا يصرف لغير الله -جل وعلا-.
يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله- بعد أن ذكر الآية: "يأمر الله تعالى نبيه أن يخبر المشركين الذين يعبدون غير الله، ويذبحون لغير اسمه أنه مخالف لهم في ذلك، فإن صلاته لله، ونسكه على اسمه وحده لا شريك له، وهذا كقوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [(2) سورة الكوثر] أي: أخلص له صلاتك وذبحك، فإن المشركين كانوا يعبدون الأصنام ويذبحون لها، فأمره الله تعالى بمخالفتهم، والانحراف عما هم فيه، والإقبال بالقصد والنية والعزم على الإخلاص لله تعالى".(41/10)
ورد في فضل الأضحية أحاديث، أولاً: إذا عرفنا أن الأضحية جاء ذكرها في القرآن، والأمر بها، وجاءت بها السنة الصحيحة الصريحة، فهل يلزم مع ذلك أن يذكر فضلها بالتفصيل؟ هل يلزم من مشروعيتها أن يذكر الفضل المرتب عليها؟ لا، لا يلزم، ولذلك الأحاديث الواردة في فضلها كلها ضعيفة، ورد في فضل الأضحية أحاديث منها حديث عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((ما عمل آدمي من عمل يوم النحر أحب إلى الله من إهراق دم، إنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض، فطيبوا بها نفساً)) رواه الترمذي، وقال: حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث هشام بن عروة إلا من هذا الوجه، ورواه ابن ماجه أيضاً، وفي إسناده سليمان بن يزيد راويه عن هشام وهو ضعيف، فالخبر ضعيف.
وعن زيد بن أرقم قال: قال أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا رسول الله ما هذه الأضاحي؟ " قال: ((سنة أبيكم إبراهيم)) قالوا: "فما لنا فيها يا رسول الله؟ " قال: ((بكل شعرة حسنة)) قالوا: فالصوف؟ قال: ((بكل شعرة من الصوف حسنة)) رواه ابن ماجه والحاكم وقال: صحيح الإسناد، وقال المنذري في الترغيب: "بل واهي" ضعيف جداً يعني، عائذ الله المجاشعي وأبو داود نفيع بن الحارث الأعمى ساقطان، فالحديث شديد الضعف، يعني لا يقول قائل: إن هذا ينجبر بالذي قبله؛ لأن هذا لا يفيد، وجوده مثل عدمه، وحكم عليه الألباني في ضعيف الترغيب بالوضع.
وذكر المنذري في الباب أيضاً أحاديث كلها تدل على فضل الأضحية؛ لكن كلها ضعيفة، ومع ذلكم أجمع المسلمون على مشروعيتها كما تقدم.
حكم الأضحية:(41/11)
واختلفوا في حكمها، فذهب أكثر أهل العلم إلى أنها سنة مؤكدة في حق الموسر، ولا تجب عليه، قال النووي في المجموع شرح المهذب: "هذا مذهبنا -يعني الشافعية- وبه قال أكثر العلماء، منهم أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنهما- وبلال وابن مسعود البدري -رضي الله تعالى- عن الجميع، وسعيد بن المسيب وعطاء وعلقمة والأسود ومالك وأحمد وأبو يوسف وإسحاق وأبو ثور والمزني وداود وابن المنذر"، يعني هذا قول الجمهور، أكثر أهل العلم على أنها سنة مؤكدة.
وقال ربيعة والليث بن سعد وأبو حنيفة والأوزاعي هي واجبة على الموسر إلا الحاج بمنى.
وقال محمد بن الحسن: "هي واجبة على المقيم بالأمصار" يعني دون المسافر، ولو لم يكن حاجاً، لأن الحاج بالنسبة لقول أبي حنيفة يكفيه الهدي، وسيأتي في كلام شيخ الإسلام أن الحاج ليس عليه أضحية، وأما بالنسبة لقول محمد بن الحسن أنه مسافر لا شك أن المشقة لاحقة به، والخلاف فيها قوي فلا تجب على المسافر.
والمشهور عن أبي حنيفة أنه إنما يوجبها على مقيم يملك نصاباً، ويقول ابن قدامة في المغني: "أكثر أهل العلم على أنها سنة مؤكدة غير واجبة" وذكر من تقدم ذكره في الطرفين، يعني من قال بالوجوب، ومن قال بالاستحباب، إلا أنه ذكر مالكاً فيمن أوجبها، يعني مع أبي حنيفة، وهو خلاف المعروف من مذهبه بل مذهبه أنها سنة.
أدلة القائلين بالوجوب:
أما من قال بوجوبها فقد استدل بأدلة، منها: قوله الله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [(2) سورة الكوثر] وهذا تقدم ذكره، ووجه الاستدلال كما هو واضح في الأمر، والأصل في الأمر الوجوب.
والأمر الثاني: ما رواه البخاري في صحيحه من حديث جندب بن سفيان البجلي قال: شهدت النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم النحر فقال: ((من ذبح قبل أن يصلي فليعد مكانها أخرى، ومن لم يذبح فليذبح)).
((من ذبح قبل أن يصلي فليعد مكانها أخرى)) يعني لو لم تكن واجبة هل يؤمر بإعادتها؟ ((ومن لم يذبح فليذبح)) واللام في: (فليعد) وفي: (فليذبح) هي لام الأمر، والأصل في الأمر الوجوب.(41/12)
ومن ذلكم ما رواه أبو داود في سننه عن عامر أبي رملة، قال: "أخبرنا مخنف بن سليم، قال: ونحن وقوف مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعرفات قال: ((يا أيها الناس إن على كل أهل بيت في كل عام أضحية وعتيرة)) "أتدرون ما العتيرة؟ قال: هي التي يقول الناس: الرجبية".
يقول ابن حجر في الفتح: "أخرجه أحمد والأربعة بسند قوي، إلا أنه قول غير قوي"، يقول الخطابي: "فيه أبو رملة مجهول" ويقول ابن حجر نفسه في التقريب: "أبو رملة شيخ لابن عون لا يعرف" فيكيف يكون قوي وفيه هذا الذي لا يعرف؟
قال الذهبي في الميزان: "عامر أبو رملة فيه جهالة" وقال عبد الحق: "إسناده ضعيف"، وقال أبو داود في سننه بعد سياق الحديث: "العتيرة منسوخة، وهذا خبر منسوخ" ما الناسخ؟ ما رواه الجماعة من حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا فرع ولا عتيرة)) والفرع أول النتاج، كان ينتج لهم فيذبحونه، والعتيرة كما قال الترمذي: "ذبيحة كانوا يذبحونها في رجب، يعظمون بها شهر رجب".
ومن أدلة القائلين بالوجوب ما رواه أحمد وابن ماجه وصححه الحاكم عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من وجد سعة فلم يضحِ فلا يقربن مصلانا))، قال ابن حجر في البلوغ في هذا الحديث: "رواه أحمد وابن ماجه وصححه الحاكم، ورجح الأئمة غيره وقفه"، وقال في فتح الباري: "وأقرب ما يتمسك به لوجوب الأضحية حديث أبي هريرة رفعه: ((من وجد سعة فلم يضحِ فلا يقربن مصلانا)) أخرجه ابن ماجه وأحمد، ورجاله ثقات؛ لكن اختلف في رفعه ووقفه، والموقوف أشبه بالصواب، قاله الطحاوي وغيره، ومع ذلك فليس صريحاً في الإيجاب، يعني على سبيل التنزل، وتصحيح الخبر هل يدل على الوجوب؟ فلا يقربن مصلانا؟ أما على قول من يقول بوجوب صلاة العيد يدل على الوجوب وإلا ما يدل؟
طالب: يدل.
لماذا؟ لأنه في مقابل ترك واجب، ولا يترك الواجب إلا لما هو أوجب منه، وأما على قول من يقول باستحباب صلاة العيد فلا يدل على الوجوب.(41/13)
نأتي إلى مسألة عكس هذه توضح هذه، هذا الحديث يدل على الوجوب إذا قلنا: بوجوب صلاة العيد، ماذا عن قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((من أكل ثوماً أو بصلاً فلا يقربن مساجدنا)) وصلاة الجماعة واجبة؟ يعني هل نقول: إن صلاة الجماعة ليست واجبة؛ لأنه مُنع منها من يأكل الثوم والبصل وإلا لو قلنا: بوجوب صلاة الجماعة، وهو القول الحق الذي لا مراء فيه، والأدلة عليه متظاهرة متكاثرة؛ لكن هذا على سبيل المناقشة يعني مع طلاب علم، وإلا تقرير المسألة مفروغ منها، وصلاة الجماعة واجبة، ولا يعذر منها إلا العاجز عنها.
((من أكل ثوماً أو بصلاً فلا يقربن مساجدنا)) فنحن بين أمرين، إما أن نقول: إن صلاة الجماعة ليست بواجبة، أو نقول: إن الثوم والبصل حرام كما يقول ابن حزم؟ لأنه لا يمنع من صلاة الجماعة الواجبة إلا لأمر أعظم منه، والثوم والبصل لما ذكره النبي -عليه الصلاة والسلام- كما في صحيح مسلم قيل له: أحرام هو يا رسول الله؟ قال: ((أنا لا أحرم ما أحل الله)) ابن حزم لا شك أنها تضاربت عنده النصوص، وهو ممن يرى أن صلاة الجماعة شرط لصحة الصلاة، يعني أقوى مما يذهب إليه أهل التحقيق، فلا يمنع من الجماعة التي هي شرط لصحة الصلاة إلا لأمر محرم.
فالذي يقول بوجوب صلاة الجماعة هل يلزمه أن يقول: بتحريم أكل الثوم والبصل؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، يعني تركهما واجب إذاً أكلهما محرم، ولا يتم الإتيان لصلاة الجماعة إلا بتركهما، فتركهما واجب إذاً أكلهما محرم ضد الواجب؟(41/14)
وهل في مثل هذه النصوص ترخيص لمن فعل هذه المخالفات في ترك الجماعة؟ أو أنه تعزير وطرد له عن الجماعة؟ لكن لما خف الأمر في نفوس الناس كان هذا الأمر عظيم جداً عند المسلمين أن يطرد من المسجد، لكن لما خف الأمر عند كثير من المسلمين ظنوه ترخيص، وإلا لو كان جالساً في مجلس بين ملأ من القوم ثم قيل له: اخرج، هذا سهل عليه؟! هذا ليس بسهل عليه، فكيف يمنع من دخول المسجد ويرى الأمر سهل؟ هذا ليس بالسهل، إنما هو تعزير له، وعلى هذا فهذا ليس بصريح في الوجوب من قوله: ((فلا يقربن مصلانا)) كما أن قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((من أكل ثوماً أو بصلاً فلا يقربن مساجدنا)) ليس صريحاً في التحريم، وقد نص النبي -عليه الصلاة والسلام- على الإباحة، ومع ذلك سماهما شجرتين خبيثتين، فهل وصفهما بالخبث يقتضي إدخالهما في قوله -جل وعلا-: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [(157) سورة الأعراف] أو أن الخبث يطلق بإزاء أمور متعددة؟ يطلق على الدون، على الأقل {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} [(267) سورة البقرة] يعني لو كان عندك تمر فاخر وتمر أقل منه، ثم أنفقت من الأقل، أنت منهي عن هذا؛ لكن ما في أجر إذا أنفقت؛ لكن هذا نهي إرشاد، يعني أنفق {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} [(92) سورة آل عمران] ومع ذلك لا تيمموا الخبيث الرديء، وإن كان نافعاً للمحتاج، بعض الناس يقصد الخبيث الرديء، يقصد الرديء ويكثر منه، يقول: بدلاً من أن أشتري مائة كيلو من التمر الجيد أشتري خمسمائة كيلو من التمر الوسط وأنفع أكبر قدر من الفقراء، هذا مقصد حسن، هل نقول: أنه ترك الطيب ولجأ إلى الخبيث؟ المقصود أن مثل هذه الأمور لا شك أن هذه أحوال تنزل منازلها، فإذا رأينا أن المحتاجين أكثر من أن يحصر القدر الطيب فيهم ويعمهم نتوجه إلى ما هو أقل منه بحيث نكثر ونستوعب أكبر قدر من الفقراء، ومع ذلك هو خبيث بالنسبة لما فوقه، فالخبث نسبي وإلا فهو طيب حلال، داخل في {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} [(157) سورة الأعراف] يعني لو نظرنا إلى أسعار التمر مثلاً تجد بمائة ريال الكيلو، وكيلو بمائة ريال وتجد بريالين، وعندك أسر كثيرة(41/15)
محتاجة إلى التمر، تقول: أنا معي ألف ريال، نقول لك: اشترِ عشرة كيلو، ووزعهم على تمرة واحدة، أو اشترِ خمسمائة كيلو ووزع على الجميع شيء يكفيهم مدة، لا شك أن هذا مطلوب، الموازنة مطلوبة، فالخبث هنا نسبي.
أدلة القائلين بعدم الوجوب:
استدل من قال بعدم وجوبها وهم الجمهور بأدلة، منها:
ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أم سلمة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من شعره وبشره شيئاً)).
وفي لفظ عند مسلم أيضاً: ((إذا دخل العشر وعنده أضحية يريد أن يضحي فلا يمس شعراً، ولا يقلمن ظفراً)) وفي لفظ له عنها: ((إذا أراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره)) ووجه الاستدلال من حديث أم سلمة بألفاظه أن الأضحية موكولة إلى إرادة المضحي؛ لكن هل الحكم سيق لبيان حكم الأضحية، أو سيق لحكم ما يحتف بها من مقدماتها؟ يعني لو كان نص لمجموعة من الناس فيهم الذي حج، وفيهم الذي لم يحج الفرض، وقيل لهم: من أراد منكم أن يحج فليحتط لنفسه؛ لأن الجو بارد، هل في هذا ما يدل على أن الحج ليس بواجب؟
طالب: لا.
ما يدل على أن الحج ليس بواجب، فكونه موكول إلى إرادته ما سيق لبيان حكم الأضحية، الجمهور يستدلون بهذا الحديث، قالوا: إن الأضحية موكولة إلى إرادة المضحي، ولو كانت واجبة لما كانت كذلك، يقول النووي نقلاً عن الإمام الشافعي: "هذا دليل على أن التضحية ليست بواجبة لقوله: ((وأراد)) فجعله مفوضاً إلى إرادته ولو كانت واجبةً لقال: "فلا يمس من شعره حتى يضحي" لكن هل السياق فيه دلالة صريحة على عدم وجوب الأضحية؟ ما في دلالة صريحة؛ لأن الخبر ما سيق لذلك، وهذه المسألة، مسألة الدلالة الأصلية، والدلالة التبعية، الدلالة الأصلية يجمع أهل العلم على أنها هي المعتبرة، ولا ينازع فيها أحد؛ لكن الدلالة التبعية يختلفون فيها اختلاف قوي، والشاطبي في الموافقات بسط المسألة، وقرر أنه لا يستدل بها، مع أن الكلام في القبول والرد بالإطلاق لا يسوغ.(41/16)
يعني من أمثلة هذه المسألة حديث: ((إنما مثلكم ومثل من قبلكم كمثل رجل استأجر أجيراً من أول النهار إلى منتصفه بدينار، ثم استأجر أجيراً من الزوال إلى وقت العصر بدينار، ثم استأجر أجيراً من العصر إلى المغرب بدينارين، فاحتج أهل الكتاب فقالوا: نحن أكثر عملاً، وأقل أجراً)).
يستدل به الحنفية على أن وقت صلاة العصر يبدأ من مصير ظل الشيء مثليه، هل الحديث سيق لهذا؟ ما سيق لهذا، كيف يتم الاستدلال للحنفية؟ قالوا: اليهود عملوا من أول النهار إلى المنتصف، هذا ما فيه إشكال هذا أكثر؛ لكن عمل النصارى من الزوال إلى وقت العصر، وعمل المسلمين من وقت العصر إلى الغروب لا بد أن يكون عمل النصارى أكثر ليتم صدق القول بأنهم أكثر عملاً، فلا بد أن يكون الظهر أطول من العصر، وعلى هذا فالعصر يبدأ من مصير ظل الشيء مثليه، ومع ذلكم الحديث ما سيق لهذا، ومعارض بأدلة صحيحة صريحة تدل على المقصود، وأن وقت العصر يبدأ من مصير ظل الشيء مثله، معارض بأدلة صحيحة صريحة، ومع ذلكم الظهر حتى على القول بأن وقت العصر يبدأ من مصير ظل الشيء مثله أطول في كل زمان وفي كل مكان، لو حسبنا لو نظرنا التقويم وجدنا هذا.
هذه دلالة تبعية ما سيق الحديث من أجلها، فهل نستدل بهذا على هذا الحكم، فضلاً عمن يقول: أن عمر الأمة من هذا الحديث ألف وأربعمائة سنة، ثم يقول: إن مدة العالم سبعة آلاف سنة، والعصر مقداره خمس المدة خمس النهار، إذاً المدة خمس الألف، وما أدري إيش؟ ألف وأربعمائة سنة، يعني هل الحديث سيق لهذا؟ هذه دلالة تبعية وليست أصلية، وهذه مما يختلف فيها أهل العلم.(41/17)
فهل الحديث ((إذا دخلت العشر وأرد أحدكم أن يضحي)) هو سيق لبيان حكم الأضحية، أو لبيان حكم آخر؟ ومع ذلكم الأدلة يأتي منها الدليل الواحد بل الجملة الواحدة ما يستنبط منها عشرة أحكام، وهذا واضح من صنيع أهل العلم في التفاسير يستنبطون من الآية الواحدة أحكام كثيرة، شيء جاء بالأصالة، شيء دلالته على المراد كالشمس، ومنها ما دلالته أخفى، إلى أن يصل إلى الدلالة التي لا تلوح لكل أحد، فالدلالة التبعية لا شك أنها معتبرة ما لم تعارض بما هو أقوى منها، يعني لو لم يرد في الباب في وقت صلاة العصر شيء إلا هذا الحديث التمسناه؛ لكن ورد أحاديث صحيحة صريحة تحدده بدقة من أوله إلى آخره، فلسنا بحاجة إلى هذه الدلالة التبعية.(41/18)
من الأدلة ما رواه البيهقي عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((هن علي فرائض، وهن لكم تطوع، النحر والوتر وركعتا الضحى)) لكن إسناده ضعيف، وقال النووي في الشرح المهذب: "صح عن أبي بكر وعمر -رضي الله تعالى عنهما- أنهما كانا لا يضحيان، مخافة أن يعتقد الناس وجوبها" وجوب الأضحية، يقول النووي: "صح عن أبي بكر وعمر -رضي الله تعالى عنهما- أنهما كانا لا يضحيان مخافة أن يعتقد الناس وجوبها" هل هذا سائغ من الشيخين؟ أو هما إمامان إماما هدى وقدوة للناس، يعني لو لم يتركها أبو بكر ولا سَنة، ولم يتركها عمر ولا سَنة ظن الناس وجوبهما، وقد أمرنا بالاقتداء بهما؟ لا شك أن مثلهما في مقامهما قد يكون الترك أفضل في حقهما، أما في حقه -عليه الصلاة والسلام- إذا ترك هذا واضح لبيان الجواز، ومقام أبا بكر وعمر وقد صح عنهما ذلك أيضاً هما قدوة، وقد أمر النبي -عليه الصلاة والسلام- بالاقتداء بهما، وكونها سنة مؤكدة لا شك أنه قد يعرض للمفوق وهو الترك ما يجعله فائقاً، لا سيما إذا وجدت قرائن تدل على أن بعض الناس يرى الوجوب، يعني مثل ما جاء في أنواع النسك، بعض الصحابة ترك الفاضل إلى المفضول لبيان أنه جائز، وليس هذا لكل أحد، شاب في الثانوي أو في السادسة عشر من عمره، جالس ما صلى على الجنازة في المسجد الحرام، فلما قيل له: قال: لبيان الجواز؛ لئلا يعتقد وجوبها، هذا الحرمان بعينه، هذه مسألة واقعة ورده بالحرف؛ لكن هل يؤخذ من مثل هذا، أو يقتدى به، أو يلتفت إليه؟ بينما مثل أبي بكر وعمر لا شك أنهما قدوة، قدوة للناس، فلو لم يتركها أبو بكر ولا عمر ولو مرة واحدة يبينان فيها الجواز؟ لا شك أن فعلهما ينظر إليه من قبل الأمة، وهما إماما هدى، والنووي -رحمه الله- صحح ما ذكر عنهما.
قال ابن حجر في فتح الباري: "قال ابن حزم: لا يصح عن أحد من الصحابة أنها واجبة، وصح أنها غير واجبة عن الجمهور، ولا خلاف في كونها من شرائع الدين".(41/19)
واستدل المجد ابن تيمية في المنتقى على عدم الوجوب بتضحية الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن أمته، وذكر حديث جابر -رضي الله تعالى عنهما- قال: "صليت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عيد الأضحى، فلما انصرف أتي بكبش فذبحه" فقال: ((باسم الله والله أكبر، هذا عني وعن من لم يضحِ من أمتي)) رواه أحمد وأبو داود والترمذي.
وأيضاً ذكر حديث علي بن الحسين عن أبي رافع أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا ضحى اشترى كبشين سمينين أقرنين أملحين، فإذا صلى وخطب الناس أتي بأحدهما، وهو قائم في مصلاه فذبحه بنفسه بالمدية، ثم يقول: ((اللهم هذا عن أمتي جميعاً، من شهد لك بالتوحيد، وشهد لي بالبلاغ)) ثم يؤتى بالآخر فيذبحه بنفسه، ويقول: ((هذا عن محمد وآل محمد)) فيطعمهما جميعاً المساكين، ويأكل هو وأهله منهما، يقول: فمكثنا سنين ليس لرجل من بني هاشم يضحي، قد كفاه الله المئونة برسول الله -صلى الله عليه وسلم-" رواه الإمام أحمد.
يقول الشوكاني في شرحه نيل الأوطار: "ووجه الدلالة من الحديثين على عدم الوجوب أن تضحيته -صلى الله عليه وسلم- عن أمته وعن أهله تجزئ كل من لم يضحِ، سواءً كان متمكناً من الأضحية أو غير متمكن، ثم تعقبه بقوله: ويمكن أن يجاب عن ذلك بأن حديث: ((على كل أهل بيت أضحية)) يدل على وجوبها على كل أهل بيت يجدونها، فيكون قرينةً على أن تضحية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن غير الواجدين من أمته".
فقوله: ((من لم يضحِ)) يعني مع عدم القدرة، أما القادر فلا يعفى عنها، على كل حال مما تقدم يتضح أن أقوى الأدلة للقائلين بالوجوب الآية: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [(2) سورة الكوثر] وحديث جندب بن سفيان ((فليعد)) ((وليذبح)) لا شك أن اللام لام الأمر، والأصل في الأمر الوجوب.
وأقوى أدلة المخالفين رد أمر التضحية إلى إرادة المضحي، كما في حديث أم سلمة عند مسلم وغيره، ولا شك أن المسألة في الطرفين محتملة.
طالب: لماذا لا يكون قول النبي -صلى الله عليه وسلم- ((فليعد)) ((وليذبح)) لأنه عين الأضحية؟
لا، قال: ((من ذبح قبل صلاة الإمام فليعد)) غير قصة أبي بردة بن نيار، غيرها.(41/20)
وإذا كان الأمر كذلك فالمرجح قول الجمهور؛ لأن الأدلة تكاد تكون متكافئة، ومع ذلك إذا كانت المسألة بهذه المثابة فلا يلزم المسلم إلا بملزم، والأصل براءة الذمة، وعلى هذا على المسلم أن يحرص على هذه الشعيرة، لا سيما وأنه قيل بوجوبها، والأدلة قابلة للنظر، إبراءً لذمته، وخروجاً من الخلاف.
وترجم الإمام البخاري -رحمه الله-: باب سنة الأضحية، وقال ابن عمر: "هي سنة ومعروف"، إذا عرفنا ذلك فقد استثنى الإمام مالك الحاج بمنى، وقال: "لا تسن له الأضحية؛ لأن ما يذبحه هدي لا أضحية" واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- ففي الاختيارات: "ولا تضحية بمكة، وإنما هو الهدي".
لا تضحية بمكة، هل المقصود مكة الحاج؟ أو ممن وجد في مكة وقت الأضحية؟ وإذا أهدى غير الحاج إذا أهدى للبيت هو غير حاج، شيخ الإسلام يقول: "ولا تضحية بمكة، وإنما هو الهدي" يعني هل كلام شيخ الإسلام على عمومه أن كل من وجد بمكة لا أضحية عليه؟ أو أن المراد به الحاج، كما قال مالك؟ استثنى مالك الحاج بمنى، وقال: "لا تسن له الأضحية؛ لأن ما يذبحه هدي لا أضحية"؟
ويمكن التوفيق بين القولين أن من كان بمكة ممن يريد الهدي من الحاج، وعلى هذا لو حج مفرداً، ولا هدي عليه، لا واجب ولا تطوع، يضحي وإلا ما يضحي؟ مالك وشيخ الإسلام ما تركوا الأضحية إلى غير بدل، وإنما تركاها لبدل وهو الهدي، فالحاج مفرداًً نقول: والله شيخ الإسلام الحاج ما عليه أضحية فلا تضحي، وهو لا يهدي لا واجب ولا مستحب، أو تبقى أدلة الأضحية في محلها؟ وإنما إذا أهدى سقطت عنه الأضحية؟
طالب:. . . . . . . . .(41/21)
أدلة الأضحية في محلها، الأدلة الدالة على استحبابها استحباباً مؤكداً في محلها، فإن أراد أن يهدي سواءً كان هديه واجب، كهدي التمتع والقران، أو مستحب، كما يساق إلى البيت من غير إيجاب، فإن هذا تسقط عنه الأضحية، هذا كلام شيخ الإسلام، وقبله الإمام مالك، خالفهم جميع أهل العلم، أو جماهير أهل العلم نظراً لعموم أدلة الأمر بالأضحية في الحاج وغيره، ولبعض النصوص المصرحة بمشروعية الأضحية للحاج بمنى، وقد ترجم الإمام البخاري في صحيحه: باب الأضحية للمسافر والنساء، وذكر حديث عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -عليه الصلاة والسلام- دخل عليها، وحاضت بسرف، يعني وقد حاضت بسرف، قبل أن تدخل مكة، وهي تبكي، فقال: ((ما لك؟ أنفست؟ )) قالت: نعم، قال: ((إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم فاقضي ما يقضي الحاج غير ألا تطوفي بالبيت)) فلما كنا بمنى أتيت بلحم بقر، تقول عائشة: "أتيت بلحم بقر" فقلت: ما هذا؟ قالوا: ضحى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أزواجه بالبقر"، يعني تمسك بقوله: "ضحى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أزواجه بالبقر" من يقول: بأن الأضحية مشروعة للحاج بمنى، يعني ولو أهدى، ولو أهدى يضحي، وهذا في الصحيحين، أخرجه مسلم بلفظ: "أهدى" بدل "ضحى"، قال ابن حجر: "الظاهر أن التصرف من الرواة" يعني التصرف بين أهدى وضحى إنما هو من الرواة؛ لأنه ثبت في الحديث ذكر النحر فحمله بعضهم على الأضحية، فإن رواية أبي هريرة صريحة في أن ذلك كان عمن اعتمر من نسائه، فقويت رواية من رواه بلفظ: "أهدى" وتبين أنه هدي التمتع، فليس فيه حجة على مالك في قوله: "لا ضحايا على أهل منى" وتبين توجيه الاستدلال به على جواز الاشتراك في الهدي والأضحية، إلى آخره.
الآن في الحديث المخرج في البخاري: "ضحى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أزواجه بالبقر" يعني تمسك بهذا الجماهير فقالوا: أن الأضحية إضافة إلى النصوص العامة التي وردت في الأضحية، أن الحاج بمنى يضحي، أخذاً من لفظ: "ضحى"، اللفظ الثاني وهو عند مسلم: "أهدى" فلا يكون في الحديث دليل، وتبقى النصوص العامة على وضعها.(41/22)
إذا عرف هذا فليس في الحديث ما ينفي التضحية، يعني إذا لم يكن به ما يثبت التضحية؛ لأنه ورد بدل "ضحى" "أهدى" إذا كان لا يوجد فيه ما يثبت التضحية فليس فيه ما ينفي التضحية، لعدم ذكرها، فتبقى على حكمها المبين في النصوص الأخرى، كما قال الجمهور، طيب إذا أراد أن يضحي ويهدي يجمع بينهما، بناءً على قول الجمهور؟ أراد أن يضحي ويهدي ويذبح عقيقة عن ولده أو بنته، عندنا ثلاثة أشياء، هدي وأضحية وعقيقة، اجتمعت في يوم واحد، أراد أن يهدي، وينويها أضحية وعقيقة في الوقت نفسه، يصح وإلا ما يصح؟
طالب: ذبيحة واحدة؟
ذبيحة واحدة.
طالب: ما يصح.
يصح وإلا ما يصح؟ الهدي هدي تطوع ساقه من الحل أهداه للبيت من غير إيجاب، وقال: تدخل فيها، واليوم السابع ولدت له بنت في اليوم الرابع من الحجة، وقال: هذا اليوم السابع نذبح واحدة تكفي عن ثلاث.
طالب:. . . . . . . . .
طيب ننظر في قواعد ابن رجب يقول -رحمه الله-: "إذا اجتمعت عبادتان من جنس واحد ليست إحداهما مفعولة على جهة القضاء، ولا على طريق التبعية للأخرى في الوقت تداخلت أفعالهما، واكتفى فيهما بفعل واحد، وهو على ضربين: أحدهما: أن يحصل له بالفعل الواحد العبادتان جميعاً، بشرط أن ينويهما جميعاً على المشهور، الثاني: أن يحصل له إحدى العبادتين، وتسقط عنه الأخرى، ولذلك أمثلة: فذكر منها:
إذا اجتمع عقيقة وأضحية، فهل تجزئ الأضحية عن العقيقة أم لا؟ على روايتين منصوصتين:
وفي معناهما لو اجتمع هدي وأضحية، واختار الشيخ تقي الدين أنه لا تضحية بمكة، وإنما هو الهدي.
وتقدم المراد من قوله: "بمكة" أنه ليس المراد به الموجود بمكة، ولا يريد هدي ولا أضحية، ولا شك أن حضور المسجد الحرام له دخل في التخفيف، لما ذكر هدي التمتع قال: {ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [(196) سورة البقرة] يعني كون الإنسان بمكة من أهل المسجد الحرام ومن حاضريه لا شك أن هذا له دخل في التخفيف.
الآن اجتمع عندنا عبادات من جنس واحد، وكلها مؤداة، لا مقضية، وليست واحدة منها تبع للأخرى، يقول: "تداخلت أفعالهما، واكتفي فيهما بفعل واحد".(41/23)
"أحدهما: أن يحصل له بالفعل الواحد العبادتان جميعاً بشرط أن ينويهما على المشهور" هذا إذا حصل له بالفعل الواحد العبادتان يكون أجره أجر من فعل الأمور كلها، "الثاني: أن يحصل له إحدى العبادتين" يحصل له الهدي، وتسقط عنه الأضحية، وتسقط عنه العقيقة، وحينئذ لا يحصل له إلا أجر الهدي؛ لكن لا يطالب بأضحية، ولا يطالب بعقيقة، "أن يحصل له إحدى العبادتين، وتسقط عنه الأخرى، ولذلك أمثلة" فذكر منها إذا اجتمع عقيقة وأضحية، وقل أيضاً: هدي، فهل تجزئ الأضحية عن العقيقة أم لا؟ على روايتين منصوصتين يعني عن الإمام أحمد، وفي معناهما لو اجتمع هدي وأضحية، واختار الشيخ تقي الدين أنه لا تضحية بمكة وإنما هو الهدي، بعض الناس يكون عنده عقيقة فيؤجلها يقول: أتركها حتى يأتي ضيف، فإذا جاء ضيف استضافه، وأصر عليه أن يلبي الدعوة، وذهب واشترى من السوق شاة، وقال: اللهم هذه عن فلانة بنته، ويكرم بها الضيف، تجزئ وإلا ما تجزئ؟
طالب:. . . . . . . . .
يعني إذا دلت القرينة على أنها عقيقة وإن صرح بها عند الضيف هذا لا إشكال فيه، قال: والله هذه عقيقة، أو حينما عرض عليه قال: عندنا عقيقة، هذه ما فيها إشكال؛ لكن إذا أظهر للضيف ولمن جاء معه أن هذا إكراماً لهم؟ يأتي ((من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه)) السياق سياق ذم؛ لأنه يظهر للناس خلاف الواقع، يظهر للناس أنه كريم، يظهر للشخص ومن معه أنه أكرمه، مثل هذه الصورة في إجزائها نظر؛ لكن لو قال له: إن هذه عقيقة، ودعاه ودعا غيره لحضورها هذا لا إشكال فيه، يعني إذا دلت القرينة على أنها ما ذبحت من أجله، جاء ضيف في يوم عيد النحر ليلة الحادي عشر، فقدم له ذبيحة على الطعام، هل في مثل هذه الحالة يحتاج أن يقول: هذه أضحية؟ ما يحتاج؛ لأن القرائن تدل على أنه مضحي اليوم والحمد لله وقدمناها، مثل هذه القرينة تدل على أنه ليس من باب إنما ذبحت لإكرامه، فإذا دلت القرائن كفت وإلا فلا بد من أن يصرح من أنها ليست له، هذه عقيقة، وإن لم يصرح ففي إجزائها نظر.
الأصناف التي تجزئ في الأضحية:(41/24)
يقول ابن القيم -رحمه الله تعالى- في الهدي -ما هو بالهدي الذي يذبح يهدى للحرم، لا، كتابه اسمه: زاد المعاد في هدي خير العباد، وأهل العلم يختصرونه بالهدي-: "الأضحية والهدايا والعقيقة مختصة بالأزواج الثمانية المذكورة في سورة (الأنعام) ولم يعرف عنه -صلى الله عليه وسلم- ولا عن الصحابة هدي، ولا أضحية، ولا عقيقة من غيرها، وهذا مأخوذ من القرآن من مجموع آيات:
إحداها: قوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ} [(1) سورة المائدة] والثانية: قوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [(27) سورة الحج] والثالثة: قوله تعالى: {وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [(142 - 143) سورة الأنعام] ثم ذكرها، الرابعة: قوله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [(95) سورة المائدة] فدل على أن الذي يبلغ الكعبة من الهدي هو هذه الأزواج الثمانية، وهذا استنباط علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-".
وهذا أمر مجمع عليه، إلا ما حكي عن الحسن بن صالح أنها تجوز التضحية ببقرة الوحش عن عشرة، والضبي عن واحد، وروي عن أسماء أنها قالت: "ضحينا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالخيل" وما روي عن أبي هريرة أنه ضحى بديك، يعني يذكر عن أبي هريرة، وحديث أسماء لا يصح، وما يذكر عن الحسن بن صالح هذا اجتهاده، وما يذكر عن أبي هريرة أنه ضحى بديك أيضاً لا يثبت عنه.
أثيرت مسألة التضحية بالدجاج قبل بضع سنين ثلاث سنوات أو أربع في جهة من الجهات، واستدلوا بهذا، استدلوا بقول من يقول: "إنها غنم المساكين" نعم المساكين يأكلونها مع طعامهم لا شك، وهي غنمهم، الذين لا يجدون الغنم ولا الإبل؛ لكن لا يضحون بها، وليس من هديه -عليه الصلاة والسلام- التضحية بهذا النوع، على كل حال الإجماع قائم على أن الأضحية لا تكون إلا من الإبل والبقر والغنم.
وقت الذبح:(41/25)
ووقت الذبح في يوم العيد بعد الصلاة أو قدرها إلى آخر يومين من أيام التشريق، فعلى هذا تكون أيام النحر ثلاثة: يوم العيد، ويومان بعده، هذا المذهب عند الحنابلة، وهو قول عمر وعلي وابن عمر وابن عباس وأبي هريرة وأنس، وإليه ذهب مالك والثوري وأبو حنيفة، يعني قول الأكثر أن أيام الذبح ثلاثة: يوم النحر، ويومان بعده.
وروي عن علي -رضي الله عنه- أنه يستمر إلى آخر أيام التشريق، فعلى هذا تكون أيام الذبح أربعة، وبه قال عطاء والحسن والشافعي، لحديث: ((أيام منى كلها منحر)) ولأنها أيام تكبير وإفطار، فكانت محل للنحر كالأولين، واختار هذا شيخ الإسلام ابن تيمية، وهذا هو المرجح، والمعمول به الآن.
وقال ابن سيرين: "لا يجوز النحر إلا في يوم النحر خاصة؛ لأنها وظيفة عيد فاختصت بيوم العيد كالصلاة
وأداء الفطرة يوم الفطر".
ويستدل للمذهب باقتصارهم على اليومين مع يوم العيد النهي عن الادخار فوق ثلاث، ولا يجوز الذبح في وقت لا يجوز ادخار الأضحية إليه، وعلى كل حال الحكم واحد بالنسبة للهدي والأضاحي، حكمها واحد، فإذا جاز في الهدي إلى آخر أيام التشريق فليجز في الأضاحي، ومن قال بهذا يلزمه القول بهذا.
من ذبح قبل أن يصلي الإمام -إمام المسلمين- صلاة العيد فإن ذبيحته لا تجزئه عن الأضحية، وإنما شاته التي ذبحها شاة لحم يأكلها، هو ومن شاء، وليست بشاة نسك، لما روى البخاري في صحيحه عن البراء -رضي الله تعالى عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((إن أول ما يبدئ به في يومنا هذا أن نصلي، ثم نرجع فننحر، من فعل فقد أصاب سنتنا، ومن ذبح قبل فإنما هو لحم قدمه لأهله، ليس من النسك في شيء)) وفي الباب عن أنس وجندب بن سفيان البجلي، وكلها متفق عليها.(41/26)
ومن كان في مكان لا تصلى فيه العيد فإنه يتحرى بذبح أضحيته قدر ما يصلي الإمام صلاة العيد عادة ثم يذبح، والمراد بالإمام إمام المسلمين إن كان يتولى صلاة العيد، وإلا فمن ينوب عنه في البلدان والأقطار والأقاليم؛ لكن إذا كان بعض الأقطار يصلي قبل بعض بساعة، وافترضنا أن إمام المسلمين في البلد المتأخر؟ يعني إمام المسلمين في مكة مثلاً، وأهل الشرق يصلون قبل مكة بساعة، نقول: انتظروا حتى تصلى الصلاة التي فيها إمام المسلمين؟ لا، كل بلد يخاطب بصلاته هو، فإذا صحت الصلاة دخل وقتها، وأديت الصلاة مع الخطبة انتهى الإشكال.
وعلى هذا إذا كان في بلد لا يصلى فيه صلاة العيد فإنهم يقدرون قدره، يعني بعد طلوع الشمس بساعة مثلاً تكون الصلاة قد انتهت، لا سيما الأضحى الذي أمر بتعجيلها.
عرفنا أنه إذا ذبح الأضحية قبل صلاة العيد فإنها شاة لحم، ليست بأضحية، وعلى هذا لا تصح ولا يجوز ذبحها قبل صلاة العيد.
الهدي يذبح قبل صلاة العيد أو قبل يوم النحر أو لا؟ يذبح وإلا ما يذبح؟ يعني حكمه حكم الأضحية وإلا يختلف؟
طالب:. . . . . . . . .
طيب هدي {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [(196) سورة البقرة] يعني هل المقصود مكان حلوله أو وقت حلوله؟ يعني إذا أحرم يذبح؟ يعني لو أحرم في أربعة ذو الحجة يذبح؟ إذا أحرم في ثمانية يأكلها في يوم ثمانية وتسعة؟ على كل حال قيل بهذا، والأكثر على أنها لا تذبح إلا يوم العيد كالأضحية، يعني بعد صلاة العيد.(41/27)
والقاعدة عند أهل العلم كما ذكر ابن رجب وغيره أنه إذا كان للعبادة سبب وجوب ووقت وجوب فإنه لا يجوز تقديمها على السبب إجماعاً، وتصح بعد الوقت، لا يعني بعد خروجه، يعني بدخوله اتفاقاً، والكلام فيما بين السبب والوقت، يعني لو قال شخص: أنا الآن عندي عيش زائد أو تمر زائد عن حاجتي أخرج كفارة أو كفارتين أو ثلاث من كفارات اليمين ما دام عندي، وهو ما بعد حلف إلى الآن، سبب الوجوب ما انقعد، نقول: تجزئ هذه الكفارات عن أيمان لاحقة؟ لا، لكن لو حلف وحنث وقعت المخالفة منه لما حلف عليه، يجوز أن يكفر اتفاقاً بعد وقت الوجوب، يعني بعد دخوله لا خروجه لا نفهم من بعد خروج الوقت، ثم يأتينا من يقول: أنه يجوز ذبح الهدي بعد أيام التشريق، لا، يعني بعد دخوله، بينهما، بين اليمين وبين الحنث يجوز وإلا ما يجوز؟ يعني بين السبب والوقت، هو حلف ألا يفعل كذا، هل نقول: كفر عن يمينك، ثم افعل ما شئت؟ أو نقول: افعل خالف احنث ثم كفر؟ ((والله إني لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا كفرت عن يميني، ثم أتيت الذي هو خير)) أو العكس في رواية بالعكس: ((إلا أتيت الذي هو خير، ثم كفرت عن يميني)) ولذا يجوز عند أهل العلم أن يكفر قبل الحنث بعد انعقاد السبب، وأما تأخيره بعد الحنث هذا ما فيه إشكال، اتفاق.
نأتي إلى مسألة أخرى، الآن كيف تدخل مسألتنا في الهدي، هدي المتعة والقران مثلاً في العبادة التي لها سبب وجوب ووقت وجوب؟
نقول: سبب الوجوب الإحرام بالعمرة في أشهر الحج ممن يريد الحج، انعقد سبب الوجوب ووقت الوجوب هو وقت الأضحية، فهل نقول: إنه يجوز ذبح الهدي بين السبب والوقت؟ مقتضى القاعدة الجواز، وهذا قول معروف عند جمع من أهل العلم؛ لكن المرجح وهو قول الأكثر أنها لا تجوز إلا في وقتها، لا يلزم أن تكون هذه القواعد كلية ما يخرج عنها شيء.(41/28)
نأتي إلى الهدي، هدي التمتع والقران من أعمال يوم النحر، أعمال يوم النحر أول ما يبدأ برمي جمرة العقبة، ثم ينحر، ثم يحلق، ثم يقصر، ثم يطوف؛ لكن هذه الأفعال لو قدم بعضها على بعض افعل ولا حرج، طيب من ساغ له التعجل، مكث في مزدلفة أكثر الليل، وساغ له أن يتعجل، وله أن يرمي، وإن كان في حديث ابن عباس: ((لا ترموا حتى تطلع الشمس)) ساغ له أن يرمي عند الجمهور، وحديث ابن عباس فيه كلام، وساغ له أن يطوف، وبقي من أعمال يوم النحر الحلق والنحر، وما سئل عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: ((افعل ولا حرج)) الآن لو قال: أنا لما انصرفت من مزدلفة إلى منى وبدلاً من أن أرمي ويسوغ لي أن أقدم وأأخر أذبح، الآن المجزرة فاضية، هو ما سئل عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: ((افعل ولا حرج))؟ الأصل أن يذهب إلى منى؛ لأن الرمي تحية منى، فقال: أنا يسوغ لي أن أقدم وأأخر ليش ما أقدم الذبح؟
طالب:. . . . . . . . .
لا يجوز تقديمه، فيكون مثل هذا مستثنى، يعني فما سئل عن شيء قدم ولا أخر يعني مما يجوز تقديمه إلا قال: ((افعل ولا حرج)).
هذا الذي قدم النحر في وقته، يعني بعد صلاة العيد، وصل إلى منى فنحر، لا يسوغ له أن يلبس؛ لأنه إلى الآن ما بعد تحلل؛ لكن يلبي وإلا ما يلبي؟ "فما زلنا نلبي حتى رمينا جمرة العقبة" افترض أنه ما رمى إلا في آخر النهار، يلبي وإلا ما يلبي؟ وقد كان تحلل التحلل الأول ولبس ثيابه في أول النهار.
طالب:. . . . . . . . .
يعني أول ما يباشر أعمال التحلل يقطع التلبية، سواءً كان بالرمي أو بما يتحلل به من الحلق أو الطواف، فعلى هذا مجرد ما يباشر أول ما يُتحلل به تنقطع التلبية.
اختلف العلماء في السن المجزئ في الأضحية، ففي صحيح مسلم عن جابر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تذبحوا إلا مسنة، إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن)) والمسنة هي الثنية من كل شيء من الإبل والبقر والغنم، قاله النووي.(41/29)
ومذهب الجمهور أن الجذعة من الضأن يجزئ، مطلقاً سواءً وجد غيره أو لا، وحكي عن عمر أو ابن عمر والزهري أنهما قالا: "لا يجزئ"، وقد يحتج لهما بظاهر هذا الحديث؛ لأن الترخيص بذبح الجذعة من الضأن عند عدم أو عند عسر الجذعة.
طالب:. . . . . . . . .
عند إيش؟
طالب:. . . . . . . . .
المسنة، نعم، الذي هي الثنية.
قال الجمهور هذا الحديث محمول على الاستحباب.
اختلفوا في الجذع من الضأن فقيل: ما له سنة تامة، قال النووي: وهو الأصح عند أصحابنا، وهو الأشهر عند أهل اللغة وغيرهم، وقيل: ما له ستة أشهر، وهو قول الحنابلة، في المقنع للإمام الموفق: "ولا يجزئ إلا الجذع من الضأن، وهو ما له ستة أشهر، والثني مما سواه، والثني من الإبل ما كمل له خمس سنين، ومن البقر ما له سنتان، ومن الماعز ما له سنة" فيجزئ الجذع من الضأن، لحديث أبي هريرة عند أحمد والترمذي قال: "سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((نعمت الأضحية الجذع من الضأن)) وعن أم بلال بنت هلال عن أبيها أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((يجوز الجذع من الضأن ضحية)) وعن مجاشع بن سليم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: ((إن الجذع يوفي مما يوفي منه الثنية)) وعن عقبة بن عامر قال: "ضحينا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالجذع من الضأن" وهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضاً، وعلى العمل بها عامة أهل العلم، هذا بالنسبة للجذع من الضأن، وبه يصرف بهذه الأحاديث بمجموع هذه الأحاديث يصرف الحديث السابق: ((لا تذبحوا إلا مسنة)) يصرف من الوجوب إلى الاستحباب.
ترجم الإمام البخاري بقوله: باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي بردة: ((ضحِ بالجذع من المعز، ولن تجزئ عن أحد بعدك)) وذكر حديث أبي بردة، وأنه ضحى قبل الصلاة، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((شاتك شاة لحم)) فقال: يا رسول الله، إن عندي داجناً، جذعة من المعز، فقال: ((اذبحها ولا تصلح لغيرك)) يعني لو جاء وذبح من المعز جذعة بالنسبة للضأن يجزئ؛ لكن بالنسبة للمعز لا يجزئ، وحديث أبي بردة هانئ بن نيار واضح في الموضوع.(41/30)
شيخ الإسلام -رحمه الله- في الاختيارات يقول: "تجوز الأضحية بما كان أصغر من الجذع من الضأن لمن ذبح قبل صلاة العيد جاهلاً بالحكم، ولم يكن عنده ما يعتد به في الأضحية غيرها، لقصة أبي بردة بن نيار"، يعني هل يمكن أن يستدل بقصة أبي بردة على الجواز مع قوله: ((ولا تصلح لغيرك)) ((ولن تجزئ عن أحد بعدك)).
شيخ الإسلام يقول: "تجوز الأضحية بما هو أصغر من الجذع من الضأن لمن ذبح قبل صلاة العيد جاهلاً بالحكم، ولم يكن عنده ما يعتد به في الأضحية، لقصة أبي بردة بن نيار".
يعني هل يستطيع أحد أن يجرؤ ويقول مثل هذا الكلام؟ وهل نقول: أن هذا النص خفي على شيخ الإسلام وهو يقول: لقصة أبي بردة بن نيار؟
طالب:. . . . . . . . .
في إيش؟
طالب:. . . . . . . . .
يقول: يحمل قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((ولن تجزئ عن أحد بعدك)) أي بعد حالك، ولا شك أن مثل هذه الجرأة من شيخ الإسلام إذا قبلت منه، وقد أحاط بنصوص الشريعة، وقواعدها العامة، يعني مثل هذا يقبل من شيخ الإسلام؛ لكن ولا يلزم أن يكون راجح؛ لكن ما يمكن أن نقول: أن شيخ الإسلام صادم النصوص، الرسول يقول: لا تجزئ وهو يقول: تجزئ، والرسول يقول: ((أحابستنا هي؟ )) وهو يقول: الحائض ما تحبس الرفقة، هل يمكن أن نقول هذا؟ لكن لو قاله من دون شيخ الإسلام، يعني هل هذا مجرد عاطفة من شيخ الإسلام، أو لعلمنا أن شيخ الإسلام يأوي إلى علم مكين متين من علم الكتاب والسنة؟ وأن إحاطته بالنصوص وإحاطته بالقواعد، ومراعاة المصالح العامة التي جاءت الشريعة بتقريرها، نعم نقبل مثل هذا من شيخ الإسلام، ولا يعني أنه راجح عندنا، ولا نشك بعلم شيخ الإسلام، وتقوى شيخ الإسلام، وورع شيخ الإسلام في هذا الباب؛ لكن بعض الناس يصادم وهو من النكرات.
طالب:. . . . . . . . .
كيف جاهلاً؟
طالب:. . . . . . . . .
جاهلاً بالحكم.
طالب:. . . . . . . . .
لكن لو جاءنا واحد جاهل قال: أنا والله ذبحت قبل العيد وعندي ها السخل ذا الصغير، نقول له: اذبح؟
طالب:. . . . . . . . .(41/31)
لا، لا، نقول لك: هذا الشخص الآن المسألة قائمة ذبح قبل العيد ومعه سخل صغير، ويقول: والله ما عندي غيره، هل نقول: باعتبار أن المسألة في إطار المندوب، وأن هذا هو المقدور عليه؟ هو ما عنده شيء، يعني نظير قول شيخ الإسلام في مسألة صلاة الجنازة إذا خشي أن ترفع يتيمم ويصلي؛ لكن هل يمكن أنه يصحح التيمم بوجود الماء؟ وصلاة الجنازة صلاة: ((لا يقبل الله صلاة من أحدث حتى يتوضأ)) هل نقول: أننا نتساهل في مثل هذه الأمور؛ لأن الأصل المسألة إما فوات بالكلية إما ما يضحي أصلاً أو يضحي بصغير؟ إما ما يصلي على هذه الجنازة، أو يصلي بطهارة ناقصة بالتيمم؟
طالب:. . . . . . . . .
هذا كلام، هل نقول: إن الصلاة ما دام ((لا يقبل الله صلاة من أحدث حتى يتوضأ)) ما في صلاة إلا بوضوء مع وجود الماء، ولو رفعت الجنازة، ونقول: ما في أضحية إلا بالسن المجزئ الذي جاء عن الشرع بيانه، وثقتنا بعلم شيخ الإسلام لا يلزمنا بأن نتبعه في كل ما يقول، فالمرجح أنها لا تجزئ لأحد كائناً من كان، لو ما يضحي، لو ما يضحي لا يضحي بمثل هذا، كونه يأكلها وأولاده لا بنية التقرب بكيفه، الأمر إليه.
حمل شيخ الإسلام قوله –عليه الصلاة والسلام-: ((ولن تجزئ عن أحد بعدك)) أي بعد حالك، فالصورة تنطبق على فلان تجزئ عنه، أما من يختلف معه في وضعه لا تجزئ عنه.
الرضاع بعد الحولين، في قصة سالم مولى أبي حذيفة، احتاجوا إليه، احتاجوا إلى المولى هذا فأرضعوه وهو كبير، وجاء الدليل على ما يدل على الاختصاص به، وأن الرضاع لا يكون إلا في الحولين، وأن هذا خاص بسالم مولى أبي حذيفة، وعائشة تجيزه مطلقاً رضاع الكبير، وشيخ الإسلام يخصه بالحاجة، يعني إذا كانت الحاجة قائمة وداعية مثل الحاجة التي دعت إلى إرضاع سالم مولى أبي حذيفة يرضع وينفع، فلا شك أن شيخ الإسلام يعمل الأحوال وينزلها منازلها، ولو دل الدليل على الاختصاص، فيكون اختصاص أحوال لا اختصاص أشخاص.
سلامة الأضحية من العيوب:(41/32)
في الأضحية لا بد أن تكون سليمة من العيوب، يعني إذا عرفنا سنها ووقتها فلا بد أن تكون سليمة من العيوب، فلا يجزئ التضحية بالعوراء، البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين ضلعها، والكبيرة التي لا تنقي، كبيرة، وتنقي يعني ليس فيها نقي، وهو المخ، وهذا كما رواه الإمام أحمد والأربعة وصححه الترمذي وابن حبان من حديث البراء بن عازب، أن هذه العيوب الأربعة لا تجزئ في الأضحية العوراء البين عورها؛ لكن لو كانت العين قائمة من رآها لا يحس أنها عوراء، وهي في الحقيقة لا ترى بإحدى عينيها، المريضة البين مرضها كذلك، العرجاء البين ضلعها، الكبيرة التي لا تنقي، وهذه جاءت عند أحمد وأصحاب السنن من حديث البراء بن عازب.
ومن باب أولى العمياء لا تجزئ؛ لأنه إذا منع التضحية بالعوراء فلأن يمنع التضحية بالعمياء من باب أولى، يعني على جادة الظاهرية تجزئ العمياء وإلا ما تجزئ؟ تجزئ؛ لأن النص على العوراء، طيب العرجاء البين ضلعها، لو افترضنا أنها مقعدة ما تمشي البتة، يعني على مذهب الظاهرية من باب أولى تجزئ.
لكن رو نظرنا من جهة أخرى العوراء البين عورها لا شك أنها تبي تتجاوز بعض العشب من جهة العين التي لا ترى فيها ما تأكله، فيكون أكلها أقل من السليمة، لو قال الظاهري مثلاً: العمياء تجزئ، ليش؟ قال: العمياء ما هي برايحة ترعى، بينجاب لها العلف، فهي كالسليمة تبي تأكل أكل كافي، نسأل له وجه وإلا ما له وجه؟
الآن العوراء، هل العور يؤثر في لحم الشاة؟ ما يؤثر، إذاً أثره في أكلها العشب، واستيعابها لما في جميع الجهات، هي ما تستوعب إلا جهة واحدة، طيب عمياء قالوا: هذه عمياء ومربوطة ما راح تأكل وتروح ترعى، عمياء ما يمكن ترعى بنفسها ما ترى العشب؛ لكن صاحبها يحضر لها الطعام، يكفيها المئونة، ويعطيها أكثر مما تأكل السليمة، تجزئ وإلا ما تجزئ؟
طالب: لا تجزئ.
نعم، العلة غير منصوص عليها فلا يدور الحكم معها.
أخرج أبو داود من حديث عقبة بن عامر السلمي أنه قال: "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن المصفرة، وهي التي تستأصل أذنها" إيش دخل الصفير باستئصال الأذن؟
طالب: السماع.(41/33)
يعني أصوات الرياح وأصوات كذا باعتبار أنها مقطوعة الأذن تصعب عندها، أو تتضافر، موجودة، "والمستأصلة التي استأصل قرنها، والبخقاء التي تبخق عينها" كذا بعود أو أصبع، أو ما أشبه ذلك، "والمشيعة وهي التي لا تتبع الغنم عجفاً، أو ضعفاً، والكسراء" يعني الكسيرة، وهي في معنى العرجاء.
وأما مقطوع الألية والذنب، يستورد الآن من استراليا غنم مقطوعة الألية، ما حكمها؟ تجزئ وإلا ما تجزئ؟ الآن الخصي من الذكور يجزئ، شريطة ألا يكون مجبوباً، فمقطوع الألية والذنب يجزئ، لما أخرجه أحمد وابن ماجه والبيهقي من حديث أبي سعيد، قال: "اشتريت كبشاً لأضحي به، فعدى الذئب فأخذ الألية منه، فسألت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((ضحِ به)) لكنه حديث ضعيف، فيه جابر الجعفي، وشيخه مجهول.
وعلى كل حال ما يفعل بالأضحية من أجل أن يطيب لحمها هذا لا إشكال فيه، فهو الأحظ للفقراء، وهذا منه، قالوا: إذا جبت الألية فإن السمن يتداخل مع اللحم فيكون أطيب، وله شاهد عند البيهقي، وأفضل الأضاحي الإبل، ثم البقر، ثم الضأن، ثم الماعز، وهذا مفترض فيمن أراد أن يضحي ببدنة كاملة لا بسبع بدنة، أو أراد أن يضحي ببقرة كاملة لا سبع بقرة، أما من أراد أن يضحي ببدنة عن سبعة، وبقرة عن سبعة فإن الغنم أفضل، الآن الفقهاء يقولون: إن الأفضل الإبل ثم البقر ثم الضأن ثم الماعز، والبقرة عن سبعة، كما أن البدنة عن سبعة.(41/34)
جاء في حديث التبكير والتهجير لصلاة الجمعة: ((من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، من راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، من راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن)) فالإبل أفضل من البقر، فهل الفضل فيها والإجزاء تفاوته بمقدار التفاوت بين الساعات الثلاثة؟ لو قلنا بهذا قلنا: إن كل واحد ضعف الذي يليه، على شأن يكون التفاوت متناسق، يعني قيمة الساعة الأولى، يعني لو افترضنا أن أجير بالساعات كلما زاد ساعة زاد أجره الضعف، لو قيل مثلاً الساعة بعشرة ريال مثلاً، ساعيتين؟ عشرون، ثلاث؟ ثلاثون وهكذا، من راح في الساعة الأولى يعني تقدم خمس ساعات، يعني له خمسون ريال، من راح في الساعة الثانية نقص ساعة، له أربعون ريال، وهكذا، فهل التفاوت بهذه النسب باعتبار أن أجزاء الوقت متناسقة وأجرها واحد؟ هذا غير منظور إليه؛ لكن النصوص دلت على هذا أن الإبل عن سبعة، والبقرة عن سبعة. طيب في حديث القسم في الغنائم عدل النبي -صلى الله عليه وسلم- الإبل بعشرة، وهنا بسبعة، ألا يمكن أن يقال: إن الإبل عن عشرة أو نقول: إن التعديل يختلف باختلاف الأبواب؟ يختلف باختلاف الأبواب والأحوال والظروف، أنت افترض المسألة في غزوة، وأعطيت عشر غنم وإلا تعطى ناقة تركبها، أيهما أفضل؟ تبي تفضل الناقة على عشرين ما هو على عشرة بعد، في بعض الظروف، نعم في بعض الأحوال، فالظروف والأحوال لا شك أن لها مدخل في مثل هذه الأمور، فكون الناقة عدلت بعشرة في الغزوة يختلف عن كونها عن سبعة في الأضاحي والهدايا، ((من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة)) في الساعة الأولى قرب بدنة، لو قال قائل: لن أذهب إلى الجمعة إلا قبيل دخول الإمام، وأترك البقرة والبدنة والكبش وكلها أتركها وأتعلم في مسجدنا -الذي بجور البيت- مائة آية، ومن ذهب وتعلم آية خير له من ناقة كوماء، ومائة آية يعني خير له من مائة ناقة كوماء، وهو إذا ذهب مع طلوع الشمس ناقة واحدة، بدنة واحدة، نقول: أيهما أفضل؟ يعني التهجير إلى الجمعة أفضل، هذه واحدة، وتعلم مائة آية مائة بدنة كوماء؟
طالب:. . . . . . . . .(41/35)
نعم البدنة في ساعة الجمعة يعني تقرب بها إلى الله كأنه ذبحها، وقسمها بين الفقراء والمساكين، أما هذه فكأنها اكتسبها وجناها، فهي من أمور الدنيا، والثانية من أمور الآخرة، يعني في تقديم البدنة في ساعة الجمعة من أمور الآخرة، يعني تقرب بها إلى الله -جل وعلا-، والبدنات التي اكتسبها من حطام الدنيا، فهي ممثلة بما يكسبه من أمور الدنيا، ولا نسبة بينهما، لا نسبة بين هذه وهذه، وإلا بعض الناس يقول: بدل من أن أروح وأزاحم الناس، وأروح للجامع مبكر خليني أنام، أجلس في مسجدنا، وأقرأ القرآن، وأتعلم مائة آية، وأنام لي ساعة ساعتين، وقبل ما يدخل الإمام أروح لصلاة الجمعة، وقد اكتسبت مائة بدنة، بدل من هذا.
نقول: لا يا أخي الفرق واضح، يعني أمور الدنيا ليست شيء بالنسبة للآخرة، الدنيا كلها لا تزن عند الله جناح بعوضة، يعني لو تصورنا ركعتي الفجر، وأنها تعدل الدنيا بحذافيرها، ركعتين بدقيقتين تعدل الدنيا بحذافيرها، بما في ذلك المليارات التي يملكها الناس، ولو كانت الأرض ملؤها ذهب ما تعدل ركعتي الفجر، فيحرص على ما ينفع في الآخرة.
قد يقول قائل: ما دام الأمر كذلك وهذا من حطام الدنيا ليش أتعلم؟ جاءت النصوص الأخرى التي تدل على فضل تعلم القرآن وتعليمه: ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه)) وكل حرف بعشر حسنات، يعني أنت تعلمت مائة آية مثلاً، وهذه المائة آية فيها خمسمائة حرف كم خمسة آلاف حسنة، ليست المسألة حسنة، هذا أقل تقدير، والله يضاعف لمن يشاء.
يقول شيخ الإسلام: "الأجر في الأضحية على قدر القيمة مطلقاً" وهذا تحدثنا عنه، وأنه إذا تعارضت القيمة مع السِمن، وكل منهما ملاحظ، فالسِمن أنفع للفقراء، والقيمة أدل على طيب النفس، فلا شك أنها مثل هذا مما ينتابه النظر، فينظر للأحظ للفقراء، وإن جمع بينهما فهو الأصل.(41/36)
تنحر الإبل قائمة، معقولة يدها اليسرى، يدها اليسرى معقولة بحبل، وهي قائمة على ثلاث، فتنحر، فيطعنها بالحربة في الوهدة التي بين أصل العنق والصدر، هل في القرآن ما يدل على هذا؟ {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [(36) سورة الحج] يعني سقطت، ولا تسقط إلا إذا كانت قائمة، والنبي -عليه الصلاة والسلام- نحر ثلاثاً وستين من البدن بيده الشريفة.
يذبح البقر والغنم، ويقول عند ذلك: بسم الله والله أكبر، اللهم هذا منك ولك، ويتولى الذبح بنفسه، على كل حال البسملة لا بد منها، ولا تحل الذبيحة إلا بها، التكبير سنة، والخطباء يقولون: ويقول: بسم الله وجوباً، والله أكبر استحباباً، يعني يبينون الحكم، حكم التسمية وحكم التكبير، ثم يأتي الذابح من العامة، ويضجع الذبيحة، وهو يقول: بسم الله وجوباً، والله أكبر استحباباً، يحكون كلام الخطيب وما يدريهم؟ يظنون هذا القول هو المشروع، ترى واقع يا إخوان، ما هو بافتراض، فلا بد من تغيير هذه الصغية، تغييراً يفهم منه العامة أن هذا لا دخل له في الذكر.
يتولى الذبح بنفسه، كما كان النبي -عليه الصلاة والسلام- يتولى ذبح أضحيته وهداياه بنفسه -عليه الصلاة والسلام-، إذا كان قادراً على ذلك، وعنده المعرفة والخبرة، وإلا فليحضر، يكل الذبح إلى غيره ويحضر، ثم يأكل ويهدي ويتصدق أثلاثاً، ولو أكلها كلها كما يقول أهل العلم إلا أوقية جاز؛ لكن {كُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا} [(36) سورة الحج] والأكل مستحب عند الجمهور، وأوجبه بعضهم للأمر به، {كُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا} [(36) سورة الحج]، وأما الإطعام فلا بد منه، فهو واجب، والهدية مستحبة.
ولا يجوز لمن أراد أن يضحي أن يأخذ من شعره أو بشرته شيئاً، كما تقدم في حديث أم سلمة، الذي سقناه ضمن أدلة من يقول: بعدم وجوب الأضحية.(41/37)
طيب المتمتع إذا حل من عمرته، وقبل أن يحرم بالحج إنما يحل من عمرته بالطواف والسعي والحلق أو التقصير، هذا يخالف حديث أم سلمة، يعني على قول من يقول وهم الجمهور: أن الحاج يضحي، ماذا يصنع؟ يقصر وإلا ما يقصر؟ يقصر؛ لكنه لا يتعدى القدر الواجب، تعارض واجبان عندنا، أحدهما أرجح من الآخر فيقدم الأرجح، وعلى هذا لا يتجاوز به القدر المحتاج إليه، بهذا ننهي الكلام عن الأضحية.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
شكر الله لفضيلة شيخنا على هذا البيان العلمي، وأسأله سبحانه وتعالى أن ينفعنا به، وأستأذن فضيلة الشيخ في الانتقال للأخوة في المناطق لأخذ بعض أسئلتهم، ونظراً لكثرة الأسئلة كما ذكرت اللجنة أنها تعرض يومياً في إذاعة القرآن أيضاً على أصحاب الفضيلة من العلماء التي لا تعرض في هذا المجلس فأنبه الأخوة على ذلك.
وأنتقل إلى الأخوة في مدينة عرعر في جامع الأمير عبد العزيز بن مساعد الشيخ عبد العزيز العنزي تفضل.
فضيلة الشيخ أحسن الله إليكم، ونفعنا الله بعلمكم، يقول السائل: هل تجزئ الشاة المقطوع طرف أذنها ما يسمى بالوسم، أحسن الله إليكم؟
مر بنا في العيوب أن التي لا تجزئ هي التي يسمونها المصفرة، التي قطعت أذنها بالكامل، أما ما قطع بعض أذنها، أو بعض قرنها فإنه لا يؤثر -إن شاء الله تعالى-.
أحسن الله إليكم، يقول السائل: ما وجه الدلالة في هذه الآية: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [(15) سورة الأعلى] بأنه دليل على عيد الفطر، أحسن الله إليكم؟
عيد الفطر الذي به يكمل شهر الصوم {وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ} [(185) سورة البقرة] التكبير هو الذكر المنصوص عليه بقوله: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [(15) سورة الأعلى] والصلاة هي صلاة العيد، ومثل ما قلنا: في {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [(2) سورة الكوثر] ثبوته قطعي، ودلالته ظنيه على المراد؛ لكن هذا الموجه عند أهل العلم، وقرره شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وغيرهما.
أحسن الله إليكم، يقول السائل: من نسي التسمية هل يذبح مرة أخرى قياساً لحديث: ((من ذبح قبل أن يصلي فليعد ذبحه))؟(41/38)
نعم من نسي التسمية فذبيحته لا تحل له كالميتة، وحينئذ يذبح غيرها؛ لكن هل يلزمه البدل؟ لا سيما عند من يقول: بعدم وجوب الأضحية، أو يعود الحكم إلى ما كان عليه قبل الذبح؟ يعني مثل من أفطر صام نفلاً، ثم أفطر من غير عذر، من أهل العلم كالحنفية يلزمونه بالقضاء، لا يجيزون له أن يفطر، ويلزمونه بالقضاء، ويفرق المالكية بين أن يكون الفطر لحاجة أو لغير حاجة، والجمهور على أنه لا يلزمه قضاء؛ لأنه في الأصل متطوع، فإذا قلنا: هو متطوع في الأصل، إذا كان متطوع في الأصل، ونسي التسمية وحرمت عليه هذه الذبيحة، فمقتضى قول الجمهور في الصيام أنه لا يلزمه أن يذبح غيرها، وإذا قلنا: أن قوله: ((فليذبح مكانها أخرى)) في حديث من ذبح قبل صلاة الإمام، فالأصل في الأمر الوجوب، فهل نقول: إن الأضحية في أصلها مندوبة، ثم بعد ذلك وجبت عليه، باعتبار أنه أوجبها على نفسه وعينها فيلزمه بدلها؟ لا شك أن مثل هذا قابل للنظر، وينظر إلى ظرف الإنسان فإن كان موسراً أُكد عليه أن يذبح مكانها، وإن كان معسراً فلا يكلف فوق ما يطيق.
أحسن الله إليكم، يقول السائل: إذا لم يكن عندي ثمن الأضحية، هل آخذ للأضحية دين لأجل؟
إذا كان يغلب على ظنه أنه يسد هذا الدين بأن كانت لديه حرفة أو مهنة فإنه يستدين، ونص الإمام أحمد وغيره على أنه يستدين، ويوفي الله عنه، ومع ذلك إذا كان ميئوس من السداد، وأموره في دنياه متعسرة، فمثل هذا لا يكلف بأن يستدين؛ لأن الدين شأنه عظيم في الشرع.
أحسن الله إليكم، يقول السائل: من وكله شخص بذبح الأضحية، هل يجوز أن يأخذ من شعره وأظفاره؟
الوكيل لا دخل له في الأضحية، الوكيل يأخذ من شعره وبشره حيث شاء، وكيفما شاء، والعبرة بمن أراد أن يضحي بنفسه أو بوكيله، لمن له الأضحية.
أحسن الله إليكم، ونختم بهذا السؤال وهو خارج موضوع الدرس يقول السائل: شخص دخل مع الإمام وهو راكع، وكبر تكبيرة الإحرام والإمام راكع، وعندما انتقل إلى الركوع وكبر تكبيرة الركوع رفع الإمام هل يعتبر مدرك للركعة؟ وإذا لم يكن مدركاً للركوع ماذا يفعل حيث تم لهذا الركوع ومضى على ذلك فترة؟(41/39)
إذا لم يتفق مع الإمام في الركوع في الركن، ولو بجزء يسير، بمعنى أنه يركع الركوع الشرعي قبل أن يرفع الإمام، ولو لم يقل: سبحان ربي العظيم، إذا لم يدرك ذلك فإنه لم يدرك الركعة، ولو أدركه بجزء من الركوع ولو كان يسيراً، بمعنى أنه ركع الركوع المعتبر قبل أن يرفع الإمام فإنه حينئذ يكون مدركاً للركعة، والصورة في السؤال تدل على أنه لم يدرك الركوع، عليه إعادة هذه الصلاة مع طول الفصل.
أشكر الأخوة في مدينة عرعر، وأشكر الشيخ عبد العزيز، ولعلنا ننتقل إلى أسئلة الحضور، وكذلك الأسئلة التي وردت عن طريق الموقع.
والآن نعرض بعض أسئلة الحضور.
أحسن الله إليكم يا صاحب الفضيلة ونفع الله بعلمكم والمسلمين.
هذا سائل يقول: ما حكم ذبح الأنثى في الأضحية؟ ومن اشترى أنثى فماذا يفعل بها؟
يعني هل المقصود ذبح الأنثى من إضافة المصدر إلى فاعله أو مفعوله؟
طالب: مفعوله.
يعني هل الذابح أنثى أو المذبوح أنثى؟
طالب: المذبوح.
ما فيه إشكال، الشاة تجزئ، نعم الكبش أفضل لكن الشاة مجزئة، الكبش أفضل، الذكر أفضل، والأنثى من الأنواع كلها مجزئة، ومادام السؤال محتملاً نأتي بما يحتمله أيضاً ذبح المرأة جائز، ومثله ذبح المرأة ولو كانت أمة، جائز، والناس يشككون في ذبح المرأة، يشككون في ذبح الجنب، كل هذا لا أثر له في الحكم، إذا كان مسلماً أو كتابياً جاز ذبحه لحديث كعب: أن له غنم ترعى، فالجارية ترعاها فأدركت بشاة منها موتاً فأخذت حجراً فذبحتها به، فأخبر النبي -عليه الصلاة والسلام- فقال: ((كلها)) فهذه امرأة وجارية أمة صحح النبي -عليه الصلاة والسلام- ذبحها.
أحسن الله إليكم، يقول السائل: هل يشرع صيام العشر؟ وهل ورد فيه دليل؟(41/40)
جاء في الحديث الصحيح ((ما من أيام العمل الصالح فيهن خير وأحب إلى الله من هذه الأيام العشر)) وقد رجحها كثير من أهل العلم على العشر الأخيرة من رمضان، لا سيما النهار مع النهار، فهذه الأيام العشر أفضل من الأيام العشر في رمضان، وفضلها لا شك أنه دليل على فضل العمل الصالح فيها، ((ما من أيام العمل الصالح فيها خير وأحب إلى الله من هذه الأيام العشر)) قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء)) ومن أفضل الأعمال التي دلت النصوص على فضله الصيام، ((ومن صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً))، وفي الحديث الصحيح عن عائشة -رضي الله تعالى عنها- أن النبي -عليه الصلاة والسلام- ما صام العشر، وثبت عن بعض نسائه أنه صام العشر، وإن كان حديث عائشة أرجح؛ لأنه في الصحيح؛ لكن المثبت مقدم على النافي؛ لأنه معه زيادة علم خفيت على النافي، وقد يكون قولها بعد سنين متطاولة من وفاته -عليه الصلاة والسلام-، فقد عاشت بعده ما يقرب من نصف قرن.
الأمر الثاني: أن ظرف النبي -عليه الصلاة والسلام- ومن يشبهه في ظرفه ممن يتولى أمور المسلمين العامة بحيث يعوقه الصيام عن بعض الأعمال التي هي أفضل من الصيام بالنسبة له، لا شك أن له أجر الصيام، وما هو أعظم من الصيام.(41/41)
لو أن شخصاً افترضنا أن شخصاً يتولى أمور المسلمين العامة؛ لكنه إذا صام ضعف عن هذه الأعمال وتكاسل، وقال: أنا لا أستطيع أن أجمع بين العمل والصيام، قلنا له: العمل أفضل لا تصم، وهذا وضعه -عليه الصلاة والسلام- أمور الأمة متعلقة ومنوطة به، يعني لو قال المفتي: أنا والله ما أقدر أدوام وأنا صائم، قيل له: لا تصم، ترك الصيام أفضل لك في هذا الحالة، ويبقى عموم الناس على شريعة الصيام، وأنه أفضل الأعمال؛ لأنه في هذه العشر، وسمعنا من يقول: أن الصيام في العشر بدعة، والشيخ ابن باز -رحمه الله- يقول: "من قال: أن الصيام في العشر بدعة فهو جاهل" ولا شك في ذلك؛ لأن المسألة واضحة، والصيام من أفضل الأعمال، وكون الرسول -عليه الصلاة والسلام- لو لم يُعارَض حديث عائشة البتة، وثبت أنه لم يصم ولا في سنة من السنين قلنا: عمله أفضل من الصيام؛ لأنه قائم بأعمال الأمة بكاملها، فالمسألة مسألة مفاضلة وموازنة بين الأعمال الصالحة، فإذا تعارض العمل الفاضل مع العمل المفضول يقدم الفاضل، يعني لو أن موظفاً مثلاً قال: أنا والله ما أستطيع أدوام وأنا صائم، قلنا له: لا تصوم الواجب أهم، لو كان شخص يعمل عمل تطوع؛ لكن نفعه متعدي يعلم الناس الخير ويفتيهم ولو تطوعاً، وإذا صام خف عمله، أو لا يستطيع أن يجمع بينهما قلنا: لا تصم يا أخي أنت مشغول بما هو أفضل، والمفاضلة بين العبادات أمر مقرر شرعاً.
السؤال الأول: من المغرب يقول: شخص يسكن مع والديه، وله طابق خاص ومستقل في مأكله ومشربه هل تلزمه أضحية عن نفسه؟
نعم في مثل هذه الصورة تشرع له أضحية؛ لأنه مستقل، يعني ما دام في طابق مستقل يغلق على نفسه الباب، وعلى أولاده وزوجته هذا مستقل في البيت؛ لكن لو عاش في بيت يشمله باب واحد مع والديه دخل معه في الأضحية.
هذا السؤال تابع له ولعلها تكون الإجابة الأخيرة فيما ذكره الشيخ يقول: إذا كان الشخص يسكن مع والديه ويشتركون في المئونة، هل تلزمهم أضحية واحدة؟
إذا كانوا يشتركون في المصاريف مثلاً والمئونة بينهما فحكمهم واحد، حكمهم واحد.(41/42)
أحسن الله إليكم، هذا السائل من فرنسا يقول: نحن نعيش في تلك البلاد، وسنحج هذا العام، ومن الناس من يقولون لنا: أن الهجرة من بلاد الكفر أولى من الحج، أفيدونا بارك الله فيكم؟
الحج ركن من أركان الإسلام، والهجرة واجبة من واجبات الإسلام، ولا شك أن الركن أعظم من الواجب، يعني هذا مع التعارض، وإذا لم يكن ثم تعارض فالركن قائم بلا شك مع القدرة عليه لا بد أن يحج، أولاً: إذا ترك الحج فهو على خطر عظيم، فقد ترك ركناً ركيناً من أركان الإسلام، حتى قال بعض أهل العلم بكفر من لم يحج مع القدرة عليه، وإذا تسنى له واستطاع الهجرة فإنه تلزمه، ولا يجوز له البقاء بين أظهر الكفار.
هذا السائل سؤاله ورد باللغة الإنجليزية وهي مترجمة يقول: أريد أن أعرف صفة الغسل المجزئة للجنابة حيث أني حديث عهد بالإسلام؟
الغسل المجزئ أن يعمم بدنه بالماء يتمضمض ويستنشق ثم يعمم بدنه بالماء، والكامل أن يتوضأ وضوءه للصلاة، أولاً: يغسل الفرج، وما لوثه ثم يتوضأ وضوءاً كاملاً للصلاة، ثم بعد ذلك يفيض الماء على رأسه ثلاثاً، ثم يغسل شقه الأيمن، ثم شقه الأيسر هذا الكامل، وإذا عمم بدنه بالماء بعد المضمضة والاستنشاق كفاه هذا.
ختاماً: أسأل الله -عز وجل- أن يبارك في جهود الشيخ، وأن ينفعنا في هذا المجلس المبارك، وأن يبارك في جهود شيخنا، وفي عمره ووقته، وأسأله سبحانه وتعالى أن ينفعنا وإياكم بالعلم النافع والعمل الصالح، إنه ولي ذلك والقادر عليه.(41/43)
تفسير سورة القارعة
الشيخ/ عبد الكريم بن عبد الله الخضير
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فأعتذر عما قاله الأخ في حقي، وما أنا إلا طويلب علم، متطفلٌ على موائد أهل العلم، نأخذُ من كلامهم، ونقتبس من كتبهم، ونلقي على طلابنا ما نجمعه من كلامهم.
أيها الإخوة: الموضوع الذي بلغتُ به قبل المجيء غير الموضوع المعلن، فقد حضرت، وفي ذهني أن الدرس سوف يكون عن تفسير سورة العصر، فلما حضرت، ورأيت الإعلان في سورة القارعة، رأيت أن أتحدث بما تيسر عن هذه السورة العظيمة، وإلا ما كان الموضوع مطابقاً لما عندي، وما أخبرت به، لما رأيت الإعلان، وقد وزع رأيت أن لا مناص، ولا مفر من أن يكون الموضوع هو المعلن؛ لأن تغيير الموضوع يحتاج إلى إجراءات لا يتسع لها الوقت، وعلى كل حال سواءٌ كان الحديث عن تفسير القارعة أو عن تفسير سورة العصر، وأي سورة من سور القرآن هو كلام الله -جل وعلا-، الذي يمنع بعض العلماء تفضيل بعضه على بعض، يمنع بعض أهل العلم تفضيل بعضه على بعض، وإن كان القول المحرر المحقق وهو الذي نصره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أن بعض السور أفضل من بعض، وبعض الآيات أعظم من بعض، وأعظم سورة في كتاب الله هي سورة الفاتحة، كما في حديث أبي سعيد بن المعلى في صحيح البخاري وغيره، وسورة الإخلاص تعدل ثلاث القرآن، وأعظم آية في كتاب الله هي آية الكرسي.
على كل حال الحديث عن هذه السورة يطول، ولو لم يكن الحديث إلا في لفظ القارعة، هذه السورة مكية، وآياتها إحدى عشرة، أو عشر آيات على الاختلاف في الترقيم، واعتبار البسملة آية منها أو ليست بآية؟(42/1)
وكما هو المعلوم أنه يشرع لمن أراد قراءة القرآن أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، امتثالاً لقوله -جل وعلا-: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [(98) سورة النحل] وهل يستعاذ بلفظ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أو بلفظ: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم؟ على كل حال لكلٍ منهما ما يدل عليه، والأمر فيه سعة، والاستعاذة سنة، وهي قبل القراءة، فقوله: {فَإِذَا قَرَأْتَ} يعني إذا أردت القراءة، هذا قول عامة من يعتد بقوله من أهل العلم، وإن كان أهل الظاهر يرون أن الاستعاذة بعد القراءة، يعني إذا قرأت يعني إذا فرغت من القراءة كما هو الأصل في الفعل الماضي، وعامة أهل العلم يقولون: إذا أردت، يعني قبل القراءة، كما في قوله -جل وعلا-: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [(6) سورة المائدة] يعني إذا أردتم القيام، فالفعل الماضي يطلق ويراد به الفراغ منه، وهذا هو الأصل، إذا قلت: قام زيد، يعني أنه انتصب قائماً وانتهى من عملية القيام، ويطلق الفعل ويراد به الشروع فيه، كما في الحديث: ((وإذا ركع فاركعوا)) يعني إذا شرع في الركوع فاركعوا، لا أن المعنى إذا أراد الركوع اركعوا، وتركعون قبله، ولا أن المراد به إذا فرغ من الركوع فاركعوا، يعني إذا شرع، وأخذ في الركوع اركعوا، فالفعل يطلق ويراد به الفراغ منه، ويطلق ويراد منه الشروع فيه، ويطلق ويراد به إرادته قبل البدء به، ومنه {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ} [(98) سورة النحل] يعني إذا أردت القراءة.
والاستعاذة سنة عند عامة أهل العلم، ولذا تشرع في الصلاة وخارج الصلاة، وبعد دعاء الاستفتاح يشرع للمصلي أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، ويبسمل، يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، والبسملة عند أهل العلم محل خلاف هل هي آية من كل سورة أو ليست بآية؟ الخلاف بسطه معروف في مقدمات كتب التفسير، وفي كتب الفروع.(42/2)
بعد أن نحرر محل النزاع، فنقول: هي بعض آية من سورة النمل إجماعاً، وليست بآية من سورة التوبة اتفاقاً، والخلاف فيما عدا ذلك، فمنهم من يرى أنها آية من كل سورة من سور القرآن، وعلى هذا يختلف العد في آيات السور، فمن قال سورة القارعة إحدى عشرة عد البسملة، ومن قال: عشر لم يعد البسملة، وهذا الاختلاف في العدد مبني على الاختلاف في عد البسملة آية أو ليست بآية؟ فمنهم من يرى أنها آية من جميع ما ذكرت معه من السور، ومنهم من يرى أنها ليست بآية مطلقاً، ومنهم من يرى أنها آية من سورة الفاتحة فقط، ومنهم من يرى أنها آية واحدة نزلت للفصل بين السور، والفرق بين هذا القول وبين قول من يقول: إنها آية من كل سورة ذكرت قبلها أننا نعد البسملة آية واحدة من القرآن، إضافة إلى ما جاء من سورة النمل، أو مائة وثلاثة عشرة آية، وعرفنا أنه يترتب على هذا الاختلاف في عد الآيات، ولذا يستغرب بعض الناس حينما يقال: الفاتحة سبع آيات، الفاتحة ثمان آيات، منهم من يقول: الفاتحة ست آيات، فهذا مبني على اعتبار البسملة آية أو ليست بآية؟ إضافة إلى قرن الآيتين في آخرها، هل هما آية واحدة أو آيتان؟ والقول المقرر المحرر الذي يدل عليه الدليل أنها سبع آيات، {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي} [(87) سورة الحجر] وهي الفاتحة.
بعد هذا يقول الله -جل وعلا-: {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ} [(1، 2) سورة القارعة] {الْقَارِعَةُ} الوقف على هذه الآية حكمه، أنتم تسمعون كثير من القراء: {الْقَارِعَةُ} [(1) سورة القارعة]، {مَا الْقَارِعَةُ} [(2) سورة القارعة] {الْحَاقَّةُ} [(1) سورة الحاقة]، {مَا الْحَاقَّةُ} [(2) سورة الحاقة] حكم الوقف على الآية الأولى؟ أو نقول: {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ} [(1، 2) سورة القارعة]؟
طالب:. . . . . . . . .(42/3)
نعم، على رأي شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- الذي يرى أن الوقوف على رؤوس الآي سنة، يقول: سنة، والوقوف على رؤوس الآي عند شيخ الإسلام سنة مطلقاً، ولو ارتبطت الآية التي بعدها بما قبلها، ولو ارتبطت، ومنهم من ينظر إلى المعنى، فإن احتاجت الآية الأولى إلى الآية الثانية صار الوصل أفضل؛ لأن المعنى لا يتم إلا به، {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ} [(4) سورة الماعون] هذا رأس آية، هل نقف على هذا؟ على رأي شيخ الإسلام نقف، ثم نقول: {الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} [(5) سورة الماعون] وعلى رأي غيره يقول: لا؛ لأنك لو وقفت لفهم غير المراد، أن الله -جل وعلا- يتوعد المصلين، ولذا تجدون مكتوبٌ عليها على رأس الآية في المصحف، ويش مكتوب يا بو .... ؟
{الْقَارِعَةُ} [(1) سورة القارعة] واحد يفتح المصحف، مكتوب عليها؟
طالب:. . . . . . . . .
لا، افتح المصحف تأكد، القارعة؟ إيش مكتوب على القارعة؟ بعض المصاحف .. ، شوف الثاني ذاك، اللي جنبه، إيه، كتب عليها في طبعة فاروق (لا) إيش يعني (لا)؟
طالب:. . . . . . . . .
ما عليها شيء، نعم طبعة فاروق مكتوب عليها (لا) إيش تعني (لا)؟ يعني عدم الوقوف، يعني صل الآية الثانية بالأولى، وعلى كل حال يتبع الخلاف السابق، من يرى الوقوف على رؤوس الآية يقف عليها، والنبي -عليه الصلاة والسلام- حفظ عنه أنه كان يقف ويمد، والأمر فيه سعة، اللهم إلا إذا اقتضى الوقوف أو الوصل خلاف المراد، حينئذٍ يترجح ما يفيد المراد.
{الْقَارِعَةُ} [(1) سورة القارعة] القارعة: اسم من أسماء القيامة، كالواقعة والحاقة والطامة والصاخة، اسمٌ من أسماء القيامة؛ سميت بذلك لأنها تقرع القلوب بأهوالها وأفزاعها، أمرٌ عظيم مهول مخوف، فعلينا أن نستعد لهذا اليوم، تقرع القلوب بأهوالها وأفزاعها، شيء لا يخطر على البال، يعني أعظم هول تتصوره هو فوقه، لكن كما قال الله -جل وعلا- عن أوليائه: {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ} [(103) سورة الأنبياء] فاحرص أن تكون من هؤلاء.(42/4)
القيامة لها أسماء منها القارعة، وكما قال أهل العلم: إن السبب في تسميتها القارعة أنها تقرع القلوب بأهوالها، ونحن في هذه الأيام نعيش ظروفاً وفتناً تتقاذفنا أمواجها من يمين وشمال، نخشى أن تصيبنا قارعة، لماذا؟ لأن نعم الله علينا تزيد وتترى وتتابع، ولا تعد ولا تحصى، ومع ذلك هل أدينا شكر هذه النعم؟ {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [(7) سورة إبراهيم] فما مصير الأقوام من المتقدمين من الأمم السابقة، ومن اللاحقين، ومن المعاصرين الذين كفروا النعم، تبلون أخبارهم، وكانت الأخبار منقطعة لا يسمع أحدٌ عن أحد، ثم صارت تسمع الأخبار، ثم صارت في الأخير تشاهد، كأنك بينهم، وأطفال المسلمين الآن ما صار يخفى عليهم شيء، كأنهم بين هذه الأحداث، وهذه الأحداث المروعة لا تحرك فينا ساكناً، وإذا أراد الله شيئاً يسر أسبابه، فنحن نخشى أن تصيبنا قارعة، ونسأل الله -جل وعلا- أن يلطف بنا، فالقارعة هي الأمر الشديد الذي يقرع القلب، ويعتصر القلب من الألم، فعلينا أن نسعى لدفع هذه القارعة التي حلت قريباً من دارنا، هي ما حلت بنا، لكن حلت قريباً من دارنا {فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} [(15) سورة القمر].
{الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ} [(1، 2) سورة القارعة] القارعة في اللفظ الأول مبتدأ، و (ما القارعة) هذه الجملة خبر المبتدأ، ما مبتدأ، والقارعة الثانية خبر، والجملة من المبتدأ والخبر خبر القارعة الأولى، وهذا استفهام يراد به التهويل من شأنها، والتعظيم من أمرها.(42/5)
ثم بعد ذلك يقول الله -جل وعلا-: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ} [(3) سورة القارعة] ما أدراك، ما أعلمك ما القارعة، نعم الرسول -عليه الصلاة والسلام- وغيره لا يعلمون عما غاب عنهم إلا ما أعلمهم الله -جل وعلا- إياه، {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ} [(3) سورة القارعة] وهذا أيضاً أسلوب تهويل وتعظيم لشأن هذه القارعة، ولا شك أن ما يحدث في الآخرة، وما يحدث في الدنيا من الأمور المهولة المفزعة لا نسبة بينها، كرب الدنيا من أولها إلى آخرها كَلَا شيء بالنسبة لكرب الآخرة، ولذا جاء في الحديث: ((من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، ومن فرج عن مسلمٍ كربةً من كرب الدنيا فرج الله عنه كربةً من كرب الآخرة)) ما قال من كرب الدنيا والآخرة؛ لأن كرب الدنيا لا شيء بالنسبة لكرب الآخرة.
{وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ} [(3) سورة القارعة] تكون القارعة، أو تحل القارعة متى؟ {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} [(4) سورة القارعة] الناس حين يبعثون من قبورهم إلى يوم الحساب يوم الجزاء يكونون كالفراش المبثوث، الفراش هذه الحشرات التي تتطاير لا إلى غاية، ولا إلى هدف، تجد سيرها وطيرانها لا على صراط مستقيم، يعني لا تمشي إلى هذا، تجدها تتحرك يميناً وشمالاً، {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ} [(4) سورة القارعة] متى يكونون كالفراش؟ ولماذا يكونون كالفراش؟ يكونون كالفراش في القيامة، إذا بعثوا من قبورهم، يموج بعضهم في بعض، يكونون كالفراش الذي لا يدري أين يذهب؟ وتجده في النهاية أعني الفراش يقع في النار؛ لأنه ليست له غاية ولا هدف، {كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} [(4) سورة القارعة] المتفرق في الجو الذي لا يدري إلى أين يذهب؟ إلا أنه في النهاية يقع على النور، ويقع في النار.(42/6)
والنبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: ((مثلي ومثلكم كمثل من استوقد ناراً فجعل الفراش يقعن فيها، وأنا أذودكم، وأخذ بحجزكم عن النار، وأنتم تقحمون فيها)) فالنبي -عليه الصلاة والسلام- يذودنا عن النار، لكن يأبى كثيرٌ من الناس إلا أن يقع فيها كالفراش، وواقع كثير من المسلمين يصدق، تجده يُنهى عن المحرمات ويقع فيها، يؤمر بالواجبات ولا يمتثل، هذا مثل الفراش.
وجاء الوصف الآخر: {يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ} [(7) سورة القمر] تصور الجراد إذا انتشر في الجو إلا أن الجراد ما هو مثل الفراش، الفراش يموج لا إلى غاية، والجراد غايته واحدة، فهم في أول الأمر يموجون ثم يتجهون، يعني من هول الموقف تجدهم يموجون مثل الفراش، ثم بعد ذلك إذا استقرت أحوالهم صاروا كالجراد، وهم في الأصل يموج بعضهم في بعض، ويقول العلماء: كغوغاء الجراد، والغوغاء: الأمور المجتمعة المختلطة، {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} [(4) سورة القارعة] يعني المتفرق المنتشر في الجو.
{وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ} [(5) سورة القارعة] هذه الجبال التي أرسى الله -جل وعلا- بها الأرض؛ لئلا تميد ولا تتحرك، تكون الجبال في يوم القيامة كالعهن كالصوف المنفوش، يعني المندوف المفرق بعضه عن بعض، يعني تصور الجبال، هذه الجبال الرواسي التي أرسى الله بها الأرض تكون كالصوف، الصوف إذا نفش وندف أدنى نسمة هواء، أو أدنى ريح تفرقه في الجو، يكون لا شيء.(42/7)
ومنهم من يقول: إن المراد بالعهن الصوف المصبوغ الذي له ألوان، والجبال لها ألوان، لها ألوان وإلا بدون ألوان؟ {جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ} [(27) سورة فاطر] ألوان، فهي مناسبة لتمثيلها بالصوف، بالعهن المنفوش الذي ندف، معلومٌ أن الصوف إذا رص بعضه على بعض يكون له وزن، وكانت الفرش إلى وقتٍ قريب إنما حشوها الصوف، والوسائد حشوها صوف، فإذا كانت ملبدة، هذه الوسائد ملبدة بالصوف له وزن، لكن إذا استخرجت هذا الصوف وندفته ونفشته، وفرقت بعض أجزائه عن بعض، صار لا وزن له، يطير في الهواء كالهباء، وبهذا يتصور عظمة الخالق -جل وعلا-، هذه الجبال التي أرسى بها دعائم الأرض تكون مثل الصوف مثل الهباء الذي يتفرق يميناً وشمالاً، كالعهن المنفوش.
ثم بعد ذلك بين الله -جل وعلا- حال الفريقين، حال السعداء، وحال الأشقياء، وهما فريقان فريقٌ في الجنة وفريقٌ في السعير، يقول الله -جل وعلا-: {فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} [(6 - 9) سورة القارعة]، {فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} [(6) سورة القارعة] يعني كثرت أعماله الصالحة، فرجحت كفتها بكفة الأعمال السيئة، يعني زادت حسناته على سيئاته، وقد خاب من رجحت آحاده على عشراته، يقول أهل العلم: خاب وخسر من رجحت آحاده على عشراته، يعني الحسنة بعشر أمثالها والسيئة واحدة، ومع ذلك ترجح السيئات على الحسنات؟! هذا دليل الخيبة والحرمان والخسران، خاب وخسر من رجحت آحاده وزادت على عشراته، ففضل الله -جل وعلا- وكرمه وجوده يجعل الحسنة بعشر أمثالها، هذا أقل تقدير، وإلا فالله -جل وعلا- يضاعف إلى سبعمائة ضعف، وفتح لنا أبواب وآفاق توصلنا إلى جناته ومرضاته، وضاعف لنا الأجور على أعمالٍ يسيرة.(42/8)
يعني لو أن الإنسان يكثر من الاستغفار، بحضور قلب لا مع الغفلة واللهو، لكان له شأن غير شأنه الذي يعيشه، ولو كان يكثر من التسبيح والتحميد والتهليل وكل تسبيحة صدقة، وكل تسبيحة أو تحميدة أو تهليلة شجرة في الجنة، والجنة قيعان، وغراسها التسبيح والتحميد والتهليل، يعني ما يكلف شيء، الإنسان إذا أراد أن يغرس نخلة يحتاج إلى أن يشتري الفسيلة، ثم يغرسها، ويتعب على نخلها وغرسها وسقيها، وانتظار ثمرتها السنين، فضلاً عن كونه يغرس نواة، انتظار طويل، لكن إذا قال: سبحان الله غرست له هذه النخلة، الحمد لله غرست له نخلة، إيش يكلف شيء يا الإخوان هذا؟ هذا ما يكلف شيء، سبحان الله وبحمده مائة مرة في دقيقة ونصف تقال، حطت عنه خطاياه، وإن كانت مثل زبد البحر، ((من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير)) عشر مرات، بدقيقة تقال يا الإخوان العشر، ((كان كمن أعتق أربعة من ولد إسماعيل)) عتق، عتق رقبة، وهذه عشر رقاب بدقيقة تقال، ((حطت عنه خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر)) بدقيقة ونصف، وبهذا ترجح كفة الحسنات، بشيء لا يكلفك شيء، ما أمرت بأخذ مسحات على كتفك، وتذهب إلى البراري والقفار من أجل أن تغرس شجرة؛ ليغرس لك بدلها شجرة في الجنة، وأنت في فراشك، وأنت في طريقك، وأنت جالس في مجلسٍ يكثر فيه اللغط، والكلام في أمور الدنيا بإمكانك أن تقول: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم ((كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم))، ((سبق المفردون: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات)) فالذكر الذكر يا الإخوان، هذا لا يكلف شيء، وبه ترجح كفة الحسنات.
{فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} [(6 - 7) سورة القارعة]، فهو في عيشة: يعني في عيش رغيد، راضي يعني مرضي، اسم الفاعل بمعنى اسم المفعول، (عيشة راضية) يعني مرضية، كما أنه يأتي اسم المفعول ويراد به اسم الفاعل {حِجَابًا مَّسْتُورًا} [(45) سورة الإسراء] يعني ساتراً، فهذا يأتي بمعنى هذا، وهذا يأتي بمعنى هذا، {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} [(7) سورة القارعة].(42/9)
ومنهم من يقول من المفسرين: إن راضية على بابها اسم فاعل، فالعيشة راضية، كيف تكون راضية؟ تكون راضية إذا أتت بطوعها واختيارها من غير عناءٍ ولا تعب، تصور أن الثمرة في الشجرة، والطير على غصن الشجرة يشتهيه من أكرمه الله -جل وعلا- بدخول الجنة تتدلى. . . . . . . . .، والطائر يتم طبخه وشيه بمجرد الأمنية، والأخاديد أو الأنهار تمشي من غير أخدود، تمشي على وجه أرض الجنة، التي ترابها المسك الأذفر، تراب الجنة.
أنهارها من غير أخدود جرت ... سبحان ممسكها عن الفيضانِ
ما تسيح لا يمين ولا يسار ومن غير سواقي ولا أخدود، فنحتاج إلى عمل، نحتاج إلى بذل سبب، وهذا السبب لا يكلفنا شيء، فالدين يسر، ولله الحمد.
{فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} [(21) سورة الحاقة] إما أن تكون مرضية، وهذا قول الأكثر، يعني أن من يعيش هذه العيشة يرضى هذه العيشة، أو أن العيشة نفسها راضية، بمعنى أنها تأتي إلى من أكرمه الله -جل وعلا- بدخول الجنان من غير تعب ولا نصب، كمن يأتيه راغب فيه، راضٍ بما يصنع به، وفي هذا إثبات الموازين.(42/10)
والميزان له لسان، وله كفتان، في قول أهل السنة والجماعة، وأنكره المعتزلة، أنكر المعتزلة الميزان، وقالوا: ما في شيء اسمه ميزان، وإنما هو كناية عن العدل الإلهي، وإلا فالأعمال الصالحة معاني كيف توزن؟ الأعمال الصالحة معاني، أنت صليت كيف توزن هذه الصلاة؟ الله -جل وعلا- قادر على تحويل هذه المعاني إلى أجسام، وكما توزن الأعمال الصالحة والسيئة، يؤتى بالرجل السمين يوم القيامة فلا يزن عند الله جناح بعوضة، هذا إذا كان من أهل النار، نسأل الله السلامة والعافية، فالقول المحقق عند أهل العلم هو قول سلف هذه الأمة وأئمتها وخيارها، وهو المعتمد عند أهل السنة والجماعة: إن الميزان حقيقي، له لسان، وله كفتان، توضع في كفة الحسنات، وتوضع في كفة السيئات، فمن رجحت حسناته على سيئاته فهو في عيشة راضية، وأما من خفت موازينه بأن رجحت كفة سيئاته على كفة حسناته فأمه هاوية، ولا شك أن هذا هو الشقي، الذي يعمل من السيئات أضعاف مضاعفة مما يعمله من الحسنات، يعني لا يقال: هذا زادت حسناته على سيئاته، عمل ألف حسنة وألف سيئة وواحدة، لا، الحسنات هذه الألف الأصل فيها مائة، لكن الله ضاعف هذه الحسنات، وجعلها عشرات، الحسنة بعشر أمثالها، هذا على أقل تقدير.
فمن ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية، وأما من خفت موازينه، خفت موازين حسناته، ورجحت موازين سيئاته عليها فهذا أمه هاوية، {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} [(9) سورة القارعة] والهاوية: اسمٌ من أسماء النار، نعوذ بالله منها، الهاوية هذه أمه؛ لأنه يأوي إليها، ويصير إليها كما يصير الطفل إلى أمه، يأوي إليها، وتحتويه، وتحتضنه النار كما تحويه وتحتضنه أمه، فهذا أمه النار؛ لأنه يلازمها ويأوي إليها، كما يأوي الطفل إلى أمه.
ومنهم من قال: إن معنى قوله -جل وعلا-: {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} [(9) سورة القارعة] يعني أنه يهوي على أم رأسه في النار، نسأل الله السلامة والعافية، يهوي في النار على أم رأسه منكساً، نسأل الله العافية.(42/11)
{فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ} [(9، 10) سورة القارعة] أيضاً هذا أسلوب تهويل لهذه النار، {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ} [(10) سورة القارعة] الأصل (ما هي) وما أدراك ما هي، يعني النار، والهاء هذه هي هاء السكت، كما في قوله -جل وعلا-: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ} [(28، 29) سورة الحاقة] يعني ما أغنى عني مالي، وهلك عني سلطاني، لكن هذه الهاء تسمى عند أهل العلم هاء السكت، وهي ثابتةٌ في الوقف والوصل، ومنهم من يحذفها في الوصل، لكن القراءة إنما ثبتت بإثباتها، فسواءٌ قرئت وقفاً أو أصلاً فهي ثابتة.
فعلى المسلم أن يتأمل مثل هذه الآيات، وهذه السور القصيرة فيها العجائب، لا سيما السور المكية التي فيها هذه الأهوال، السور النبوية فيها شيء مما ذكر مما يوعظ به، ويذكر به، لكن الغالب فيها بيان الأحكام والشرائع، أما السور المكية فعلى قصرها ففيها ما يسوط القلوب، ويزجر القلوب، ويدفع القلوب إلى العمل، لكن قلب من؟ الله -جل وعلا- يقول: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} [(45) سورة ق] فالذي يخاف الوعيد هو الذي يذكر بالقرآن، أما الذي لا يخاف، ممن مات قلبه نسأل الله السلامة والعافية، مثل هذا يقرأ القرآن، أو يسمع القرآن، أو يسمع جريدة، أو يسمع تحليل صحفي أو غيره لا فرق عنده، والله -جل وعلا- يقول: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} لكن لمن؟ هل هو للغافل واللاهي والساهي أو كما قال الله -جل وعلا-: {فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} [(17) سورة القمر]؟ يعني هل من متذكر؟ هل من متعظ؟ هل من مزدجر؟ نعم إذا وجد هذا القرآن ميسرٌ عليه، يسرت قراءته، يسر حفظه، يسر فهمه، يسر العمل به، لكن لمن أراد أن يذكر، لمن أراد أن يتذكر بالقرآن، يتعظ بالقرآن يستفيد، أما الذي يقرأ القرآن لا بهذه النية، فإن فائدته وإن استفاد أجر قراءة الحروف فإنه لا يستفيد قلبه شيء من هذه القراءة إلا بقدر ما يعقل منها.
بعض الإخوان يؤثر أن يكون الوقت الأطول للأسئلة، والآن بقي يمكن ربع ساعة للأذان أو أقل؟
طالب:. . . . . . . . .(42/12)
نعم إيه ربع ساعة مع ربع ساعة يكون نصف ساعة للأسئلة؛ لأن كثير من الإخوان يطالب بأن تكون الأسئلة لها حظ، وأقول: غالباً تكون المحاضرات تقضي على الوقت، ولا يبقى للأسئلة وقت كافي، فنكتفي بهذا القدر من تفسير هذه السورة العظيمة، وننظر في الأسئلة.
يقول: ما الغاية من تقديم بث الناس كالفراش على كون الجبال كالعهن؟
لا شك أن الناس هم المقصودون بالخطاب، وهم المطالبون بتأمل هذه الآيات والاعتبار بها، فقدموا على الجبال.
يقول: هل المقصود بتشبيه الناس بالفراش خفة جسمها، ومن ثم عدم قرار حركتها، أو المقصود عدم ثباتها لأنها مبثوثة؟
على كل حال هذا وضع الناس في ذلك اليوم العظيم أنهم كالفراش، وسواءٌ كانوا بأحجامهم، أو أكبر من أحجامهم، أو أصغر، الله أعلم، المقصود أن هذا وضعهم، والإنسان إذا أراد أن يعتبر، ويستحضر مثل هذه المواقف هناك مواقف تذكر بمثل هذه الأمور، يعني لو أن إنسان أطل على الناس من الدور الثاني أو السطح في المسجد الحرام في ليالي العشر، في صحن الحرم، عرف كيف يموج الناس؟ وهؤلاء ذاهبون، وهؤلاء آيبون بجموعٍ غفيرة، يستحضر مثل هذه الأمور ويستذكرها، وإن كان لا مقارنة بين هذه الأعداد وما يكون في يوم القيامة؛ لأن الله -جل وعلا- يحشر الناس كلهم الأولين والآخرين.
هل تجوز الصلاة والثوب مسبل؟
يعني هل تجوز؟ يعني هل تصح؟ نعم الصلاة صحيحة، والمسبل متعرض، معرضٌ نفسه لغضب الله وعقوبته، وقد توعد بالنار، نسأل الله السلامة والعافية، وأما الصلاة فهي صحيحة؛ لأن الجهة منفكة.
يقول: أسأل عن قضاء الصلاة إذا كنت قد تركت الصلاة عدة أوقات في عدة أيام، وهي غير معروفة، أي عدد الصلاة والأيام ... ؟
على كل حال إذا كنت لا تجزم بالعدد، وحصره يشق عليك بأن تقول مثلاً: تركت الصلاة في هذه الفترة خلال عشر سنوات، أصلي وأترك، ولا أعرف كم صليت؟ ولا أعرف كم تركت؟ حينئذٍ عليك أن تكثر من النوافل، وتقلع فوراً، وتعزم على أن لا تعود إلى التفريط، وتحافظ على الصلوات مع الجماعة، ويكفر عنك ما مضى -إن شاء الله تعالى-.(42/13)
يقول: امرأةٌ أرضعت، ولكنها لا تعلم عدد الرضعات، وكانت لسنوات عديدة تكشف وتسلم على هذا الرجل وأبنائها وبناتها على أن الرضاعة تحرم وبعد ذلك سمعت أنه لا بد من خمس رضعات مشبعات ... ؟
على كل حال الرضاع لا بد أن يكون خمس رضعات مشبعات في الحولين، يعني في وقت الرضاعة، فإن كان العدد أقل من ذلك فإنه لا يحرم، وإذا شكت هل بلغ العدد أو لم يبلغ تحتاط للأمرين؟ لا تثبت المحرمية بهذا الرضاع، فلا تكشف له، ومع ذلك لا تتزوجه، ولا يتزوج أحداً من بناتها، احتياطاً للطرفين.
يقول: شخص مبتلى بعدم القيام لصلاة الفجر، وقد بذل شتى الطرق للاستيقاظ فلم يوفق لذلك لثقل نومه، وهو يشعر بعظم هذا الذنب، ولكن لا يستطيع القيام نرجو الدعاء له؟
نسأل الله -جل وعلا- أن يُيسر عليه صلاة الصبح وغيرها من الصلوات مع جماعة المسلمين، لكن هناك أسباب لا بد أن تبذل، وهناك موانع لا بد أن تنفى، مثل هذا لا يسهر، ويجعل الأسباب والاحتياطات التي تعينه على القيام، ويكل الأمر، أمر إيقاظه إلى أحد يوقظه، وإن وضع شيء من الآلات، ركب الجوال أو ساعة أو منبه أو ما أشبه ذلك، فلا بد من أن يبذل السبب، وأن يمنع جميع ما يعوقه عن الانتباه.
يقول: أريد أن أطلب العلم ولكن لا أعرف من أين أبدأ؟ وبأي الكتب أبدأ؟ والأمور التي تعينني على طلب العلم؟ وهل أطلب العلم ومن ثم أدعو إلى الله -عز وجل-؟ وأرجو أن تدعو لي لأكون عالماً؟
نسأل الله -جل وعلا- أن لا يحرمك ما أملت، لكن هناك أشرطة تعينك على البداءة بطلب العلم، وماذا تقرأ؟ وما تستفيد منه؟ وما تحفظ؟ وهي موجودة في الأسواق.
هذا من الإنترنت يقول: نسمع كثيراً من المواعظ، وقد نتأثر في المحاضرة، ونعزم على التوبة، ولكن بعد الخروج نرجع إلى ما كنا عليه، فما الأمور التي تعين على التطبيق وقوة العزيمة؟
الذي يعين على التطبيق المبادرة، وعدم التسويف، وصدق اللجوء إلى الله -جل وعلا-، وسؤال الرب -جل وعلا- أن يعينه على ذلك.
هذا من جهة خارج المملكة يقول: هو مبتلىً بالعادة السرية، فما العلاج؟ فإني لا أستطيع تركها؟(42/14)
على كل حال القول المرجح أن العادة السرية التي هي الاستمناء محرمة؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- حث الشباب على الزواج، ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)) فالرسول -عليه الصلاة والسلام- أرشد إلى الصيام، ولو كانت جائزة لأرشد إليها، وعلى كل حال لعل السبب في الاضطرار إلى مثل هذه الأعمال هو أن الإنسان يعرض نفسه للفتن، فيغشى المجالس والأماكن التي تكثر فيها النساء، فتثور شهوته، أو يشاهد الأفلام، أو يشاهد القنوات، فعلى مثل هذا عليه التوبة والاستغفار من هذه العادة، ومع ذلك لا يعرض نفسه للفتن، يحفظ نفسه، وإن استطاع أن يتزوج فليبادر، وإن كان فقيراً فيرجو أن يغنيه الله -جل وعلا-، كما جاء في قوله -جل وعلا-: {إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} [(32) سورة النور] فعليه أن يبادر بالزواج، وعليه أن لا يعرض نفسه للفتن، ويكثر من الصوم، ولا يغشى الأماكن التي فيها المناظر المثيرة، ولا ينظر إلى الصور، سواءً كانت مرئية متحركة أو ثابتة، سواءٌ كانت صور بجرائد أو مجلات، أو في دشوش أو قنوات أو ما أشبه ذلك، عليه أن يصون نفسه، وينشغل عن هذه الأمور بما ينفعه في دينه ودنياه، وعلى كل حال الأطباء يثبتون أنها ضارة في الجسم عموماً، وعلى هذه الآلات خصوصاً، فيندر أن يستمر مستفيداً من هذه الغريزة بعد أن يتزوج، وقد أرهقها قبل الزواج بمثل هذا العمل كما يقول الأطباء.
يقول: توفي شخص مكتتب في بنك البلاد باسمه واسم زوجته وأبنائه أثناء حياته، فكيف توزع الأسهم؟ علماً أن له ولدين؟(42/15)
إن كان الاكتتاب باسم هؤلاء على نية أن تكون هذه الأسهم لهم فهي لهم، كلٌ له نصيبه مما كتب باسمه، هذا إذا لم يكن له غير هؤلاء، وإن كان الاكتتاب له، وقد كتب هذه الأسهم باسمه ليمنح أكبر قدر من الأسهم، فهي تركة، تقسم على الورثة، كما قسمها الله -جل وعلا-، وإن كان خصهم بهذه الأسهم ونواها لهم، ولم يعدل بين بقية أولاده، إن كان له أولاد، ولم يكتتب بأسمائهم، فمثل هذه العطية مع هذا الجور، وتخصيص بعض الأولاد ملغاة على القول الصحيح، يجب أن يعدل بين أولاده، ولو بعد مماته، وإن كان بعضهم يقول: إنه إذا مات عليه الإثم، ومن أُعطي ثبتت له العطية.
طالب: إن لم يتبين ... ؟(42/16)
يسألون، يعني هل هذه، هل هي منهم أو منه؟ فإن كانت منه فهل عدل بين أولاده أو ليس له غيرهم؟ ففي حال حياته تبين المسألة، أنت تفترض أنه ليس له إلا هذه الزوجة، وهؤلاء الأبناء، ليس له غيرهم لا بنات ولا .. ؛ لأنه لو كان له غيرهم لاكتتب بأسمائهم أكثر الأسهم، لكن اللي يظهر أنه ما له إلا هذه الزوجة، وهذان الابنان، ليس له غيرهم، فعلى هذا إذا كان نصيب الزوجة مما اكتتب لها يعادل الثمن بالنسبة لما اكتتب للأولاد، والأولاد البقية، يعني على قسمة الله -جل وعلا-، يكون ميراث، وإن كان نصيب الزوجة مثل نصيب الأولاد، وهي في الحقيقة في الميراث أقل، إذا كانت المسألة: توفي، أو هلك هالك: عن زوجة وولدين للزوجة الثمن، والباقي للولدين سبعة أثمان، في حال حياته لا يلزم أن يعدل بين الزوجة والأولاد، عليه أن يعدل بين الأولاد، لكن مع الزوجة لو أعطاها أكثر أو أقل لا يلزمه العدل بينهم، فإذا كان نوى هذه الاكتتاب لهم، ويستمر لهم، فلا ينظر في العدل بين الزوجة والأولاد، نعم ينظر العدل بين الأولاد أنفسهم، وأما ما اكتتب باسمها فهو لها إن كان نوى ذلك، وإن كان نوى أن تكون هذه الأسهم له، وإنما الاكتتاب بأسمائهم، إنما هو لأجل أن يكتب له أكبر قدر من الأسهم، هذا شيء آخر، مع أني لا أرى أن يكتتب أحد باسم غيره؛ لأن هذا وسيلة إلى المشاكل، وحصل مشاكل كثيرة، قد يكون الأب مثلاً مع أبنائه وزوجته الأمر أخف، لكن إذا اكتتب بأسماء آخرين، سواء كان بجُعْل، أو مجاني، مثل هذا لا شك أنه نشأ عنه مشاكل، والمحاكم تشتكي من هذه القضايا.
يقول: أنا رجل من عامة الناس، سمعتُ رجلٌ يسب الله -عز وجل- ورسوله سباً صريحاً، وأنا متيقن أن موانع التكفير عنه منتفية، فهل يجوز لي الإقدام على تكفيره؟
على كل حال إذا كنت من عامة الناس، كيف تقدر أن هذا العمل كفر؟ أو أن موانع التكفير منتفية؟ هذا لا يقدره إلا أهل العلم، فبإمكانك أن تعرض هذا الأمر على أهل العلم، وتقول: حصل كذا، والظرف كذا، والرجل يعني مستواه العلمي كذا، وعاش في بيئة كذا، وهم يقدرون هذه الأمور، وعلى كل حال الآثار المترتبة على التكفير إنما تكون بعد أن يحكم به الحاكم.(42/17)
هذا يقول: ما حكم شراء السيارة من البنك، والتوقيع على السندات قبل تملك البنك السيارة، ولم أعلم بذلك إلا في الأخير؟
أولاً: لا يجوز أن تشتري سلعة من شخصٍ لا يملكها؛ لأنك بذلك تعينه على هذا الأمر المحرم، فلا بد أن يكون البائع مالك للسيارة، وإذا تم هذا الأمر وأنت لم تعلم به إلا في الأخير، يعني بعد أن وقعت، واستملت السيارة، وبعتها، ما عليك حينئذٍ إلا التوبة والاستغفار؛ لأن هذا أمر لا يمكن تلافيه، فعليك أن تتوب وتندم على ما مضى، وتخبر البنك بأن هذا أمر محرم، ولا يجوز لهم أن يتصرفوا في شيء لم يملكوه ملكاً تاماً مستقراً.
هذا يقول: ما حكم تأمين السيارة بشتى أنواعه؟ وما السبب في ذلك؟ نرجو التوضيح حيث يجادل في ذلك كثيرٌ من الأخوة؟
التأمين: أن تدفع مبلغ معلوم مقطوع، ويكون في مقابل مجهول، يكون مقابله مجهول، تدفع مبلغ ثلاثمائة ريال، خمسمائة ريال، ألف ريال، أكثر، أقل، على أن يقدموا لك خلال السنة التي أمنت عليها خدمات مجهولة، قد تحتاج منهم أضعاف أضعاف ما دفعت، وقد لا تحتاجهم أصلاً، ومن شرط صحة العقد أن يكون الثمن والمثمن معلومين، فأنت إذا دفعت ألف ريال تأمين على السيارة، وحصل لك حادث، وأنت المخطئ ونتج عن هذا الحادث إصابات تقدر بعشرة آلاف ريال، هذه صورة، أو عشرين ألف، أو ثلاثين ألف، أو مائة ريال، أو تمر السنة كاملة ما احتجت لهم، هل هذا معلوم؟ هل المقابل معلوم وإلا مجهول؟ مجهول بلا شك، وما كان أحد العوضين فيه مجهول فإنه لا يجوز، فلا بد أن يكون الثمن معلوماً، وأن يكون مقابله معلوماً.
هذا يقول: ما حكم شراء السيارة المنتهي بالتمليك؟(42/18)
كيف شراء منتهي بالتمليك؟ إن كان المقصود به التأجير المنتهي بالتمليك فالمشايخ، الهيئة أفتوا بتحريمه، لا سيما إذا كان هناك عقدان، عقد إجارة، وعقد تمليك بعقدين، أما إذا كان مما يسمى بالإجارة، وفي النهاية تملك السيارة، يعني فرق بين أن تشتري سيارة، تستأجر سيارة أربع سنوات (48) ألف، فإذا انتهت الأربع السنوات تدفع عشرين مثلاً، هذا تأجير منتهي بالتمليك، وهذا الذي عليه التحريم، تشتري سيارة بـ (48) ألف لمدة أربع سنوات من غير مبلغ آخر، فبمجرد ما تنتهي الأربع السنوات تملك السيارة هذا عقد واحد، هم يسمونه تأجير، وهو في الحقيقة تمليك بيع، بيع أقساط، لكن يسمونه تأجير من أجل ألا تلزمهم بتعديل الاسم في الاستمارة، فيكون هذا بحكم الرهن، والمتجه جوازه، يعني سواء سميناه بيع، أو سميناه تأجير ما يختلف؛ لأنه في النهاية تملك السيارة بالعقد الأول، أما إذا كان هناك عقدان فهنا يكمن المنع، والسبب في ذلك أن الضمان عائر، ما يدرى على من؟ يعني لو استأجرت سيارة بالإجارة المنتهية بالتمليك على ما يقولون، ثم احترقت هذه السيارة من الذي يضمنها؟ صاحب السيارة الأصلي الوكالة يقولون: والله إحنا بايعينها عليك ما علينا منك، أنت اللي تضمن؛ لأنه بيع، وإن كان أصله تأجير، لكنه بيع، والسلعة في البيع يكون الضمان على المشتري، وفي حال التأجير يكون الضمان على البائع، وحينئذٍ يحصل مشاكل، لا يقول قائل: إن هذه المشكلة يحلها التأمين، نقول: التأمين ما دام ليس بشرعي، لا يبنى عليه أحكام شرعية، فالتأجير المنتهي بالتمليك لا يجوز، بهذا أفتى أهل العلم.
رجل يشكو من ضيقة في الصدر، ويدهن نفسه بزيت الزيتون، وهو مقصرٌ في الصلوات، فبماذا تنصحه؟
السبب واضح، {فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [(125) سورة الأنعام] ما دام يشكو من ضيقة في الصدر، وهو مقصرٌ في الصلوات، يحافظ على الصلوات ويتغير وضعه -إن شاء الله تعالى-.
يقول: رجلٌ مستقيم، ولكن يرجع دائماً مع أصحاب السوء ومجالسهم، فمباذا تنصحونه؟ وبماذا يشتغل إذا كان لديه وقت فراغ؟(42/19)
على كل حال عليه أن يجانب أصحاب السوء؛ لأنه يخشى من ضررهم عليه، وأن يكون في يومٍ من الأيام من أهل السوء، {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [(28) سورة الكهف] احرص على مجالسة أهل الخير، فإنهم هم الذين يعينونك على الثبات، والنبي -عليه الصلاة والسلام- مثل جليس السوء والجليس الصالح بحامل المسك وبنافخ الكير، والفرق بينهما ظاهر، والحديث لا يحتاج إلى شرح.
يقول: هل قول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، عشر مرات بعد صلاة المغرب والفجر؟ أم عند قول أذكار الصباح والمساء؟
هذه لو قلتها في كل وقت؛ لأن الأجر المرتب عليها عتق أربع من ولد إسماعيل، فاحرص على كثرة العتق، فأكثر من التهليل، لكن ما جاء مما يخص صلاة الفجر وصلاة المغرب وهو ثانٍ رجله، هذا ذكر مؤقت بما بعد صلاة الصبح وبعد صلاة المغرب، فيقال في هذين الوقتين، ويقال في الأوقات الأخرى.
يقول: ما حكم سماع الأغاني بدون موسيقى؟ وأيضاً تردادها؟
الأغاني إذا كانت ألفاظها محرمة فهي محرمة، ولو كانت من غير موسيقى، وإذا كانت ألفاظها مباحة، وأداؤها لا على طريقة أهل الفسق والأعاجم فإنها لا بأس بها، وإن كان أداؤها على طريق أهل الفسق والمجون، أو على طريقة الأعاجم لا على طريقة العرب في أدائهم، فإنها تمنع كما قرر ذلك ابن رجب وغيره، وإن صحبتها آلة فهي محرمة.
يقول: ما حكم تأخير الصلاة عن وقتها وخاصة صلاة الظهر؛ لأنني أدرس في منطقة تبعد عنا (80 كيلو) ولا أصل إلى منطقتي إلى الساعة الثانية بعد الظهر تقريباً؟
يا أخي عليك أن تصلي الصلاة في وقتها مع الجماعة حيث ينادى بها، مع جماعة المسلمين في المسجد، فإذا نودي للصلاة وأنت في المكان الذي تدرس فيه يا أخي بادر إلى الصلاة في المسجد، ولا تؤخرها إلى أن تصل إلى بلدك، على كل حال احرص على الصلاة مع جماعة المسلمين، حيث ينادى بها؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال للأعمى عبد الله بن أمِّ مكتوم: ((أتسمع النداء؟ )) قال: نعم، قال: ((أجب، لا أجد لك رخصة)).
يقول: ما حكم سماع الأناشيد بإيقاع؟(42/20)
إيقاع يعني آلات؟ أو أصوات مجتمعة؟ إذا كانت بآلات، معازف وطبول، وما أشبه ذلك فهي محرمة، وإن كان باجتماع أصوات كما يقولون، فإذا كان أداء هذه الأصوات هو نفس أداء الآلات، يعني يسمع منها ويطرب منها مثل ما يطرب من الآلات، فالحكم واحد، لا يجوز استماعها.
يقول: يتناقل الناس أخبار عن كارثة يوم (27/ 4) بناءً على رؤية أو كلام طفل، ماذا يعمل المؤمن تجاه هذه الأخبار؟ هل يصدق أم يكذب؟
أقول: ديننا -ولله الحمد- كامل وشامل، وأتمه الله بموت محمد -عليه الصلاة والسلام-، فلا يلتفت إلى مثل هذه الأمور، فعلينا العمل بما عندنا من نصوص.
هل تجب الزكاة على من يرتكب المعاصي؟ وأكثر وقته يطالع الدش؟
نعم، إذا كان لديه مال، وحال عليه الحول تجب عليه زكاته، ولو كان عاصياً، لا يجمع بين سيئتين، وعليه أن يقلع عن معصيته، ويتوب إلى الله -جل وعلا-؛ لتكون حسناته مقبولة، وعباداته مقبولة {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [(27) سورة المائدة] فاحرص.
ما حكم شراء أسهم في إحدى الشركات النقية؟ واستثمارها لمدة عام؟ وبيعها بعد ذلك؟
هذه الأسهم عموماً أنا لا أرتاح إليها، ولا أنصح بها أحداً، والشبهة فيها قوية، ولو كانت نقية، لكني لا أجزم بتحريمها، أما المختلطة فلا تردد في تحريمها.
يقول: هل نزيد على الأذكار المحددة في اليوم والليلة؟، أم على التحديد الذي ذكره الرسول -عليه الصلاة والسلام-؟
أما ما جاء تقييده بوقت معين، أو بعدد معين، فهذا لا يزاد عليه، أما ما عدا ذلك من الأذكار المطلقة فلا حصر فيه، ولا تحديد.
يقول: هل ننكر على من لا يقول: "آمين" بعد قراءة الفاتحة؟
هذا لا شك أنه محروم، الذي لا يقول: آمين بعد قراءة الإمام الفاتحة محروم؛ لأنه جاء في الحديث الصحيح: ((وإذا قال: ولا الضالين، فقولوا: آمين، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له)) فهذا لا شك أنه محروم.
يقول: وهل ننكر على من يرفع يديه بالدعاء بعد الفريضة؟
إذا كان ديدنه ذلك، يعني بعد كل فريضة يرفع يديه ينكر عليه، وأما إذا كان يفعل ذلك أحياناً، ويترك أحياناً فلا بأس.(42/21)
يقول: نرجو التنبيه على كيفية التعامل مع الخلاف بين العلماء بالنسبة للعوام، بالنسبة لطلبة العلم، وخاصة وأن طلبة العلم -ولله الحمد- قد كثروا، وأصبحوا يتعصبون لبعض المشايخ؟
الخلاف بين أهل العلم لا شك أنه موجود، لا سيما في الفروع من عهد الصحابة -رضوان الله عليهم-، فالخلاف موجود، ولن ينتهي، وسببه اختلاف الفهوم، فهذا العالم يفهم من هذا النص كذا، والعالم الثاني يفهم منه غير ذلك، والاحتمالات قائمة، وكلٌ منهم مأجور إذا كان أهلاً للاجتهاد، فالمصيب منهم له أجران، والمخطئ منهم له أجرٌ واحد، وطالب العلم الذي ليست لديه أهلية النظر، وكذلك العامي عليه أن يقلد أوثقهما عنده، الذي يراه أرجح في علمه ودينه وورعه يقلده؛ لأن فرضه سؤال أهل العلم {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [(43) سورة النحل]
وليس في فتواه مفتٍ متبع ... ما لم يضف للعلم والدين الورع
فإذا عرفت أن هذا الشخص أعلم من هذا، وعنده من الدين والورع ما يحجبه من أن يقول على الله بجهل، بغير علم، أو يتقول على الله، أو ما أشبه ذلك، أو يفتي بهوى، فمثل هذا يتبع ويقلد، وأما التعصيب للمشايخ فإنه أمرٌ لا سيما إذا ترتب عليه هضم لحق المفضول عنده، فإنه لا يجوز حينئذٍ.
يقول: هل تجوز الزكاة على أخي وعليه دين بالأقساط ويكون تسديده؟
إذا كان ليس شريكاً لك هذا الأخ، إن لم يكن شريكاً لك في مالك، فإنه يجوز أن تدفع الزكاة عليه، وتسدد عنه دينه.
يقول: هل الترديد خلف الأذان داخل المسجد كمثل خارجه؟ وبالذات في قول المؤذن: حي على الصلاة، حي على الفلاح هل يقال: لا حول ولا قوة إلا بالله ... ؟(42/22)
الترديد، إجابة المؤذن واحدة، سواءٌ كان داخل المسجد، أو خارج المسجد، يعني إذا سمعت المؤذن فعليك أن تقول مثل ما يقول، وتقول بعد ذلك: اللهم رب هذه الدعوة التامة، وتقول بدل حي على الصلاة حي على الفلاح، لا حول ولا قوة إلا بالله، فأنت في بيتك وتسمع المؤذن تجيب المؤذن، أنت في المسجد تجيب المؤذن، أنت في طريقك، أنت في سيارتك تجيب المؤذن، وإذا كان الأذان بواسطة الإذاعة مثلاً، فإنك إن كان الأذان حياً، يعني الآن يقام، وينقل مباشرةً، فأنت تجيبه، كأنه يؤذن بمكبر الصوت، وأنت بعيد، أما إذا كان مسجل هذا الأذان مسجل، وإذا حان وقت الأذان شُغل هذا المسجل، وسمعته عبر الإذاعة فمثل هذا لا يجاب.
هل الذكر لله -سبحانه وتعالى- يلزم حضور القلب بفضلها أم لا؟
أكثر أهل العلم على أنه لا بد من إحضار القلب، وأن الذكر باللسان لا يكفي، والذي رجحه ابن حجر أن الذكر باللسان يكفي، وإذا كان مع حضور القلب، وتواطئ القلب مع اللسان فإن الأجر يكون أعظم؛ لأن أكثر الأذكار جاءت بلفظ، أو بصيغة من قال: كذا، أو فليقل: كذا، والقول يحصل بمجرد اللسان، هذا ما رجحه ابن حجر، وعلى كل شخص أن يعي ما يقول؛ ليترتب الأثر على ذلك.
يقول: أتيت والإمام في الركعة الثانية، وسها في صلاته، وسجد بعد السلام لسجود السهو، وبعد سلامه قمت، وأتيت بالركعة الباقية، ثم سلمت، وسجدت سجود السهو، فهل فعلي صحيح؟
فعلك صحيح، لكن لو أنك سجدت مع الإمام قبل أن تنوي الانفراد كان أكمل وأصح.
يقول: ما الحكمة من تغير صلاة السنة الراتبة عن مكان صلاة الفريضة؟
أولاً: هذا لم يثبت به خبر، وجاء في البخاري -رحمه الله- في الصحيح يقول: "ويذكر عن أبي هريرة: لا يتطوع الإمام في مكانه، ولم يصح، اللهم إلا أن أهل العلم يستحبون هذا؛ لتكثير مواضع العبادة؛ لتشهد له؛ لتكون من آثاره التي تشهد له يوم القيامة.
يقول: هل المسلم ملزم شرعاً بتكفير أحداً من أهل القبلة ممن يلاحظ عليهم ارتكاب ما عده العلماء كفراً؟(42/23)
أقول: على الإنسان أن يعنى بخويصة نفسه، ويترك عنه الناس، إلا إذا كان ممن وكل إليه الأمر، وإلا ما دام الإنسان في عافية وسعة، وقد كفي هذا الأمر، والآثار المترتبة على التكفير إنما يتولاها من عين إلى هذا الأمر، ويحكم بها من وكل إليه، فأنت في عافية، لكن إن ابتليت بهذا، وكلفت به من قبل ولي الأمر، فعليك أن تقوم به، وكونك تخطئ في عدم التكفير أفضل من كونك تخطئ في التكفير؛ لأنك إذا رميت أحد، أو وصفته بالكفر، وهو لا يستحق ذلك فالأمر خطير جداً، لكن كونك تعتذر له، لا سيما إذا كنت ممن لا حول لك، ولا قوة، ولا تستطيع أن ترتب آثار ولا شيء، فالسلامة لا يعدلها شيء.
يقول: ما حكم الوقوع في أهل العلم، وإن صدر منهم بعض الفتاوى التي تخالف إجماع أهل العلم؟(42/24)
الوقوع في أعراض المسلمين كما يقول ابن دقيق العيد يقول: "أعراض المسلمين حفرة من حفر النار، وقف على شفيرها العلماء والحكام" فعليك أن تحفظ لسانك، وتصون ما اكتسبته من حسنات، لا توزع حسناتك على فلان وفلان وفلان، فاحرص على ما جمعت، يعني لو أنك اجتهدت في يومك وكسبت دراهم معدودة، مئات، أو ألوف، أو عشرات، ثم وضعتها في صندوق عند الباب، ولم تنوِ بذلك التقرب إلى الله -جل وعلا-، إنما من باب السفه، فجاء الصبيان، وجاء الأطفال وأخذوها، ورموها، أو مزقوها، ماذا يقال عنك؟ يقال: مجنون، ما في أحد بيتردد أن من يصنع هذا العمل مجنون، لكن هذه الحسنات التي تعبت عليها، وهي زادك إلى الآخرة، عليك أن تحافظ عليها، والنبي -عليه الصلاة والسلام- يقول لصحابته الكرام: ((أتدرون من المفلس؟ )) قالوا: المفلس من لا درهم ولا متاع، قال: ((لا، المفلس من يأتي بأعمال .. )) وفي بعض الروايات: ((أمثال الجبال من صلاة وصيام وصدقة -وغيرها من الأعمال الصالحة- ثم يأتي وقد شتم هذا، وضرب هذا، وأخذ مال هذا، وسفك مال هذا، يأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، وهذا من حسناته، إن فنيت قبل أن يستكملوا أخذ من سيئاتهم وطرحت عليه فأدخل في النار)) فعليك أن تحفظ لسانك لا بالنسبة للعلماء ولا لغيرهم، والعلماء أولى من تحفظ أعراضهم؛ لأن الكلام فيهم يهون من شأنهم، والتهوين من شأنهم لا لأنهم فلان أو علان، هذا لا يضر كثيراً مثل ما يضر من التهوين من شأن العلم الذين هم في الحقيقة قدوات للناس.
يقول: وإن صدر منهم بعض الفتاوى التي تخالف إجماع أهل العلم؟
إذا لحظت مثل هذه الفتوى فعليك أن تتثبت بالفعل، هل قالها هذا العالم؟ لأن بعض الناس يتسرع في النقل وقد ينقل خطأ، فأنت تتثبت من صحة نسبتها، ومن صحة مفادها، ومن صحة حقيقتها، من صحة نسبتها إلى القائل، ومن صحة القول في نفسه، ثم بعد ذلك عليك أن تناقش هذا القائل، وبأسلوب مؤدب ومحترم، تقول له: سمعنا كذا فهل هو صحيح؟ وإن كان صحيح فما وجهه؟ وأهل العلم سلفاً وخلفاً يقولون: كذا، وتصل إلى مرادك من غير أن تضر نفسك.(42/25)
يقول: بعض الناس في صلاة الاستسقاء يقولون عبارة لم تكن معتادة عند المسلمين وهي: لو ما صليتم كان أحسن، إذ جاء بعد الاستسقاء رياح، أو كان هناك سحاب، ثم انقشع، ما قولكم في هذا؟
الاستسقاء سنة ثبتت عن النبي -عليه الصلاة والسلام- على وجوهٍ مختلفة، فثبت عنه أنه صلى ركعتين، كما يصلى العيد وخطب ودعاء واستسقى، وثبت أنه استسقى في صلاة الجمعة، وثبت عنه أنه كان جالس في المسجد فاستسقى، واستسقى عند أحجار الزيت فاستسقى، أنواع استسقائه -عليه الصلاة والسلام- ستة، كما ذكر ابن القيم، فهي سنة ثابتة بفعله -عليه الصلاة والسلام-، وعامة أهل العلم على أنها بصلاة، دعاء بعد صلاة، أو دعاء مجرد أو في خطبة، المقصود أن الاستسقاء ثابت، فلا يجوز أن يقال في مثل هذا الكلام ويهون من شأن هذه السنة، يعني كونه يأتي شيء على خلاف ما توقعه الناس، الناس لا شك أنهم يدعون الله -جل وعلا-، ولا بد في إجابة الدعوة أن تكون الأسباب متوافرة، والموانع منتفية، لكن لا تعطل هذه السنة باعتبار أن كثير من الناس متلبس بموانع.
يقول: هل الزيادة في البيع المؤجل بأكثر من نصف القيمة حاضراً فيه محظور شرعي؟
لا شك أن مثل هذا فيه مشقة على الطرف الثاني اللي هو المستدين، وعلى المسلم أن يرفق بإخوانه، وأن يتعامل معهم بيسر وسهولة، وأن يرفق بهم ليرفق به، وأن يتسامح معهم ليُتسامح عنه، لكن إذا حصل مثل هذا ورضي الطرفان، الأمر لا يعدوهم، والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(42/26)
بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة العصر
الشيخ عبد الكريم الخضير
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
فالمقدم وفقه الله -إمام المسجد- لما قرأ السورتين في الصلاة تردد هل المطلوب العصر أو النصر، فلا شك أن هذا له أصل، هذا التردد له أصل، وهو أن الطلب أو الإجابة الأولى كانت في سورة النصر، ثم بعد ذلك قلنا الإعلان خرج باسم سورة العصر، لما قرأ الإمام السورتين كأنه يخيِّر في ... لكن لما قدم عين، ذكر أن المطلوب سورة العصر.
بين يدي السورة:
وسورة العصر على قصرها سورة جامعة شاملة -كما تفضل- لخير الدنيا والآخرة للعلم والعمل، للعمل الخاص والعمل المتعدي, وجاء عن الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- أنه لو ما أنزل الله على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم.
وبالإمكان في تفسير هذه السورة أن يتكلم المتحدث عن جميع أبواب الدين؛ لأنها في ألفاظها الوجيزة كل لفظ يدخل تحته أبواب كثيرة من أبواب الدين, وهذه السورة سورة مكية في قول الأكثر، وقال بعضهم إنها مدنية.(43/1)
هذه السورة جاء عن الصحابة -رضوان الله عليهم- أنهم كانوا إذا التقى أحدهم بالآخر لم يفترقا حتى يقرأ أحدهم أو أحدهما سورة العصر، وجاء فيها من الأخبار مما يذكره المفسرون أن من قرأ سورة العصر كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر، هذا وإن تواطأ على ذكره أكثر المفسرين، إلا أنه لا أصل له، يذكرون هذا في تفسير هذه السورة، ومما يذكر فيها من الأخبار قبل أن ندخل في مفرداتها أن عمرو بن العاص قبل أن يسلم -رضي الله عنه- ذهب إلى مسيلمة فسأله مسيلمة ماذا أنزل على صاحبكم؟ فقرأ عليه سورة العصر، فقال إني أنزل عليَّ مثلها، أنزل عليَّ مثلها، فقال ماذا؟ فقال من تراهاته وسخافاته التي تذكر عنه فيما يعارض به القرآن نسأل الله السلامة والعافية، فقال: يا وبر يا وبر، إنما أنت أذنان وصدر، وسائرك حفز وقفر، قال: ماذا تقول يا عمرو؟ قبل أن يسلم، والعدو يفرح بمثل هذا الكلام الذي يعارض به كلام عدوه، لكن عمراً قال: والله إنك لتعلم أني أعلم أنك كاذب، وهذا قبل أن يسلم عمرو، وأُثر عن مسيلمة من أمثال هذه الأقوال الساقطة التي لا يعارض بها الكلام العادي فضلاً عن أفصح الكلام وأثر أيضاً عن أبي العلاء المعري الزنديق المعروف الشاعر أنه عارض القرآن بكتاب مطبوع متداول، اسمه الآيات البينات في مواعظ البريات، وكان أصله في معارضة الآيات.
والله -جل وعلا- تحدى الخلق، تحدى العرب الذين هم أفصح من نطق أن يأتوا بمثله، ثم تحداهم بعشر سور، فلم يستطيعوا، ثم تحداهم بسورة ولو كانت أقصر السور، كهذه السورة أو سورة الكوثر مثلاً، لكنه لم يقع التحدي بآية، وقع التحدي بسورة، لكنه لم يقع التحدي بآية؛ وذلكم لأن العرب لا يعجز الواحد منهم أن يقول ثم نظر، أو يقول مدهامتان، وهما آيتان، لكن آية بقدر أقصر سورة لا يستطيع العرب ولو اجتمعوا أن يأتوا بمثله، فكيف بمثل هذا الكلام المضحك للصبيان، كيف يقال أن مثل هذا معارضة، أو يؤخذ له شيء في الاعتبار، هذا كله هذيان، أشبه بكلام المجانين الذي لا معنى له، أفترى على الله كذبا أم به جنة، هذا شبه المجنون.(43/2)
جاء أيضاً في هذه السورة ما ذكره الرازي في تفسيره, وهو أن امرأة تجوب شوارع المدينة وسكَكَها تبحث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فدُلَّت عليه فقالت: يا رسول الله: إنها شربت –تعني الخمر– ثم زنت، ثم ولدت من الزنا، فقتلته، تقول: إنها شربت الخمر، ثم زنت بعد أن شربت، ثم ولدت من الزنا ثم بعد ذلك قتلت هذا الولد، هذه العظائم التي ارتكبتها -والخبر سيأتي الكلام عليه- يقول الرازي في سياق خبره هذا إن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال لها: أما الخمر ففيه الحد، وأما الزنا فلعلك لم تصل العصر، وأما القتل فالنار، هكذا قال الرازي في تفسيره في تفسيره, في تفسير هذه السورة، ونقله عنه الألوسي في روح المعاني, وقال تفرد بذكره الإمام – يقصد بذلك الرازي- وإذا أطلق في كتب المتأخرين -لاسيما ممن ينتسب إلى مذهب الشافعي- الإمام فهو المقصود – الرازي- قال تفرد به الإمام، ثم قال الألوسي: ولعمري إنه إمام, ولعمري إنه إمام في نقل ما لا يعرفه أهل الحديث، فهل هذا مدح أو ذم؟ ذم، ذم شديد، ولهذا الحديث لا أصل له، لا يوجد في داوين الإسلام المعتبرة، ومثل هذا الخبر إذا بحث عنه في الدواوين المعروفة من الصحاح والسنن والمسانيد والجوامع والمعاجم والمستخرجات -في الداواوين المعروفة عند أهل العلم- فما وجد هذه أمارة وعلامة من علامات وضعه، وممن قال بهذا الكلام الرازي نفسه، في المحصول قال هذا الكلام، أن الحديث إذا لم يوجد في دواوين الإسلام المعروفة فهذه أمارة وضعه، فلم يوجد هذا الخبر إلا عند الرازي وقد تفرد به وليس من أهل الرواية، فالخبر لا أصل له، وسمعنا كلام الألوسي فيه، فهذه الأمور التي ذكرناها بين يدي تفسير هذه السورة من قول الإمام الشافعي وقبل ذلك صنيع الصحابة إذا اجتمعوا وما جاء في قصة عمرو بن العاص، وما ذكره الرازي يمكن أن تكون هذه مدخل لتفسير هذه السورة.
حول البسملة:(43/3)
هذه السورة كغيرها من سور القرآن عدا براءة، صُدِّرت بالبسملة، فالبسملة في المصاحف التي أجمع عليها الصحابة وأرسلها عثمان إلى الأمصار فيها البسملة مثبتة في مائة وثلاث عشرة سورة, في جميع سور القرآن عدا براءة والخلاف معروف بين أهل العلم هل البسملة آية من كل سورة؟ أو ليست بآية مطلقاً؟ أو هي آية واحدة نزلت للفصل بين السور؟ فمنهم من يقول أنها آية من كل سورة، يعني أن البسملة مائة وثلاث عشرة آية، بعدد السور التي صدرت بها، مع إجماعهم على أنها بعض آية في سورة النمل، واتفاق أهل العلم على أنها ليست بآية في صدر براءة، هذا القول يستند -وهو إثبات أن البسملة آية من كل سورة- إلى اتفاق الصحابة على كتابتها, مع اجتهادهم في تخليص القرآن من كل ما ليس بقرآن، فذكرهم واتفاقهم على ذكرها في مائة وثلاث عشرة موضعاً يدل على أنها آية، وبهذا يقول جمع من أهل العلم، والقول الثاني: أنها ليست بآية مطلقاً إلا في سورة النمل، بعض آية, أما في سورة النمل فهذا أمر متفق عليه، وبراءة أيضاً متفق على أنها ليست بآية، فمن أهل العلم من يرى أنها ليست بآية مطلقاً عدا ما استثني وهذا معروف عند المالكية، ومنهم من يرى أنها آية واحدة نزلت للفصل بين السور وبهذا يقول بعض الحنفية كالجصاص ويميل إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
إذا قلنا أنها آية من كل سورة، أو قلنا إنها آية واحدة نزلت للفصل بين السور، هل هناك فرق، فإذا قرأها الإنسان في تلاوته للقرآن مائة وثلاث عشرة مرة، سواء كانت مائة وثلاث عشر آية أو آية واحدة نزلت في فصل السور، يكررها مائة وثلاث عشرة مرة الأجر واحد، كل حرف بعشر حسنات، سواء كانت آية واحدة، أو مائة وثلاث عشرة آية، هل من فائدة لمثل هذا الخلاف؟ ما فائدة الخلاف؟ نعم.
طالب:. . . . . . . . .
لا تختل قراءته للسورة، إذا لم تكن آية، لا تختل قراءته للسورة، إذا لم يقرأها من الفاتحة لم تبطل صلاته، أما لو كانت آية بطلت صلاته، إذا لم يقرأها من الفاتحة.(43/4)
على كل حال هذه أقوال أهل العلم وكأن الذي مال إليه شيخ الإسلام متجه؛ لأن الأدلة على كونها ليست بآية من كل سورة لها حظ من النظر، ولو لم يكن من الأدلة على ذلك إلا الخلاف في كونها آية؛ لأن القرآن مقطوع بثبوته، ومع وجود مثل هذا الخلاف لا يقطع بثبوت البسملة من كل سورة.
تفسير السورة:
يقول الله -جل وعلا-: {وَالْعَصْرِ}: الواو حرف قسم، والعصر: هو الدهر، وأقسم الله به -جل وعلا- لما يحصل فيه من أعاجيب، فالدهر من أول الدنيا إلى آخرها يقال له العصر، وقد يطلق العصر ويراد به فترة من الزمن، العصور الإسلامية –مثلاً- العصر النبوي، عصر الخلفاء الراشدين، عصر بني أمية، عصر بني العباس وهكذا، فيراد به فترة من الزمن يشملها وصف واحد، ولذا قال جمع من المفسرين، أن المقسم به هو العصر النبوي، الذي هو أعظم عصور الدنيا، ومنهم من يقول إن العصر عصر كل إنسان بحسبه؛ لأنه في الحقيقة هو حياته من ولادته إلى وفاته, ولأهمية هذا الوقت الذي وجد فيه هذا الإنسان الذي ينبغي -بل يجب عليه- أن يستغل هذا الوقت بفعل الواجبات وترك المحرمات بتحقيق عبودية الله -جل وعلا- بل العصر عبارة عن الليالي والأيام المحدودة التي يعيشها كل إنسان بحسبه فهي الخزائن وهي العمر كله، عمر الإنسان كله من ولادته إلى أن يموت، والليالي والنهار -كما يقول أهل العلم- هي عبارة عن خزائن قيمتها بحسب قيمة ما يودع فيها، ومنهم من قال: إن المراد بالعصر وقت العصر، وقت العصر، الذي هو آخر النهار، ومنهم من يقول يبدأ من زوال الشمس إلى غروبها، ومنهم من يقول أن المراد بالعصر صلاة العصر، جاء في النصوص ما يدل على تعظيم وقت العصر، وجاء فيها أيضاً ما يدل على تعظيم شأن صلاة العصر، وهي الصلاة الوسطى -كما دل على ذلك الحديث الصحيح- هي الصلاة الوسطى، ومن ترك العصر فقد حبط عمله، المقصود أن العصر مختلف فيه بين المفسرين، والعصر الذي هو الوقت المعروف، من دخول وقته إلى غروب الشمس هذا له شأن وجاء في تعظيمه في النصوص ما جاء، وكذلك صلاة العصر التي هي الوسطى، التي هي الفضلى من بين الصلوات.(43/5)
والعصر أقسم الله -جل وعلا- بالعصر لما يحدث فيه سواء كان بكامله من أوله إلى آخره، أو بجزء من أجزائه طال أو قصر من الأعاجيب، يحصل فيه من الأعاجيب شيء قد لا يخطر على بال الإنسان، قد لا يدرك الإنسان شيئاً منه إذا كانت له عناية بقراءة التواريخ وأخبار الأمم الماضية، يدرك شيء من هذه الأعاجيب، وتصرف الأحوال وتصرم الليالي والأيام يدرك شيئاً من ذلك إذا كانت له عناية أو كان له بصيرة ينظر فيها بعين الاعتبار والادكار.
الله -جل وعلا- أقسم بالعصر كما أقسم بالضحى وأقسم بالليل، وأقسم بالفجر، يقسم -جل وعلا- بما شاء يقسم بما شاء، ومن أهل العلم من يقدر مقسم به مضاف إلى العصر محذوف فيقول: ورب العصر، لكن الأكثر على أنه لا يحتاج إلى تقدير، وأن الله -جل وعلا- له أن يقسم بما شاء من خلقه، وبما شاء من آياته يقسم بما شاء ولو كان مخلوقاً، بينما المخلوق ليس له أن يقسم ولا يحلف إلا بالله -جل وعلا- ((من حلف بغير الله فقد أشرك)) فالقسم بغير الله من الشرك، إن كان من الشرك الأصغر عند أهل العلم، إلا إن وقر في قلب الحالف أنه حلف به؛ لأنه مساو لله -جل وعلا- في عظمته فهذا أكبر نسأل الله السلامة والعافية، وإلا فهو من الأصغر الداخل في قول الله -جل وعلا-: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [(116) سورة النساء] عند جمع من أهل العلم, وأن الشرك الأصغر كالأكبر لا يغفر بل لا بد أن يعذب بقدره ثم بعد ذلك مآله إلى الجنة إن لم يرتكب مكفراً مخرجاً، أما الشرك الأكبر فإن صاحبه خالد مخلد في النار نسأل الله السلامة والعافية.(43/6)
الله -جل وعلا- أمر نبيه أن يقسم على البعث في ثلاثة مواضع من كتابه، والقسم إنما يؤتى به لتعظيم الكلام وتأكيده، فالله سبحانه وتعالى- أمر نبيه أن يقسم على البعث في ثلاثة مواضع, الأول في سورة يونس: {وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي} [(53) سورة يونس] والثاني في الآية الثالثة من سورة سبأ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي} [(3) سورة سبأ] , والثالث في سورة التغابن: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي} [(7) سورة التغابن] ثلاثة مواضع أمر الله -جل وعلا- نبيه أن يقسم فيها على البعث، وهذا لبيان شأن عظم المقسم عليه، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- كثيراً ما يحلف ويقسم على الأمور المهمة، ((والذي نفسي بيده)) ((لا ومقلب القلوب)) المقصود أنه يحلف -عليه الصلاة والسلام- وهو الصادق المصدوق، والله -جل وعلا- أقسم وأمر نبيه أن يقسم كل هذا لتعظيم شأن المحلوف عليه والاهتمام بشأنه, فالله -جل وعلا- أقسم بالعصر: {إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [(2) سورة العصر] هذا المقسم عليه، إن الإنسان لفي خسر، هذا شأنه عظيم وجاء التأكيد بالقسم وإنَّ؛ لأن إنَّ حرف توكيد ونصب، ولفي المؤكدة، لفي خسر، {إِنَّ الْإِنسَانَ}: الإنسان المراد به الجنس؛ بدلالة جواز دخول "كل" مكان (أل) فلو قال إن كل إنسان لفي خسر صح الكلام, وعلامة كون "أل" جنسية أن يحل محلها (كل).
فكل إنسان محكوم عليه بالخسارة إلا من استُثني فكل إنسان يتجه إليه قول الله -جل وعلا-: إن الإنسان لفي خسر، ثم بعد ذلك اسْعَ في خلاص نفسك من هذه الخسارة، وحقق ما بعد (إلا) لتنجو من هذه الخسارة الفادحة التي ليست خسارة الدراهم والدنانير، الخسارة خسارة الآخرة، ولذلك يقول الله -جل وعلا-: {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [(9) سورة التغابن] يعني التغابن الحقيقي هنالك, لا في الدنيا فلو أن إنساناً فقد جميع ما يملك في هذه الدنيا من مال وولد وجاه وصحة وبقي له رأس ماله الذي هو الدين هذا ليس بخسران، لكن لو خسر دينه وبقي جميع ما يملك في هذه الدنيا وأضعاف أضعاف ما كان يملك لفي خسر.(43/7)
ونشاهد أو شاهدنا بعض الإخوان لما وجدت التجارات التي لا تتطلب جهداً بدنياً، وإنما تتطلب جهد ذهني، مثل الأسهم، كثير من طلاب العلم فقدناهم في الحِلق، فإذا سألنا عنهم قالوا إنهم ذهبوا إلى تجارة الأسهم، وإذا كُلِّموا قالوا المدة يسيرة نشتغل ونحرك فإذا كسبنا وربحنا ما يكفينا رجعنا إلى العلم، يعني على اصطلاحهم العلم ملحوق عليه ما هو بفائت، الإشكال في الأسهم اللي الناس يجنون منها ما يجنون ثم تنتهي، وكانت النتيجة عكسية، النتيجة عكسية حصل ما حصل من الخسارة ونسوا ما نسوا من العلم، بل منهم من نسي حفظ القرآن، بل منهم من نسي لب صلاته، وهو الخشوع؛ لهثوا وراء هذه الأسهم ووراء هذه الدنيا ثم مع ذلك خسروا الدنيا والآخرة، نسأل الله السلامة والعافية- منهم من نسي القرآن هذا مؤكد، منهم من صلى ولا يدري كم صلى، وإذا كانت جماعة صلوا في مكان من أماكن الأسهم مجتمعاتهم وصلى بهم الظهر وجهر بالقراءة وأمن ولا واحد سبح، نسأل الله السلامة والعافية، والنتيجة لا شيء، عِبَر، لنعرف الخسارة الحقيقة ألا {إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [(15) سورة الزمر] نسأل الله السلامة والعافية، أما خسارة الدنيا، فالدنيا عرض يطرأ ويزول وقد يحصل للإنسان ما لا يخطر بباله, ويذكر من بعض أهل القناعة أنهم صاروا سبباً في ربح أهليهم، وإنما تنصرون وترزقون بضعفائكم، ومن أهل العلم من له شريك أخ شريك توفي والدهم وترك لهم أموال طائلة، وطالب العلم مقبل على علمه وعبادته وأخوه شريكه يضرب الأرض طولاً وعرضاً في التجارات والأموال تزداد، فقيل له أو سول له الشيطان أن هذا يطلب العلم ولا له أي دور في التجارة، وأنت يوم بالصين ويوم بكذا، ويوم ... لو افترقتم وصارت مكاسبك لك، جاء إلى أخيه وقال له أيش رأيك ... قال له اللي تشوف الأولاد قال له لعلكم تتفارقوا، الشيخ يتصرف بأمواله، وأنت تتصرف بأموالك وجاءه أيضاً من باب الورع، وقال: يمكن أني أتصرف في بعض الأموال وأنا ما شاورتك، أو آكل من هذه الأموال أكثر من نصيبي, فقال له الشيخ أبداً اقسم أنت، اقسم واللي لي ضعه على جنب وسلم لي إياه، حصلت القسمة، حصلت(43/8)
القسمة, فأعطى الشيخ نصيبه وأخذ نصيبه وأخذ يضارب به والشيخ أودعه عند واحد من التجار يعمل به مضاربة، وعلى رأس الحول جاء الأخ يقول لأخيه الشيخ أيش رأيك لو رجعنا إلى الشركة؟ قال وأيش اللي عندك؟ قال والله ذهب جميع المال، والله ما بقي إلا شيء. . . . . . . . . قال إحنا على شركتنا شوف الأموال عند فلان روح هاتها, الإنسان يتصور أنه بجهده يرزق، بجهده يرزق وأسواق المسلمين تعج بالعباقرة لكن في النتيجة أكثرهم فقراء يتكففون الناس وبعض الناس ممن عرفناهم وشاهدناهم في أوقات الصفقات ينعسون، الصفقات الكبرى ينعس ثم بعد ذلك يأخذ الغلة كلها هذا الذي ينعس، فليست الأمور تخضع لخذق الإنسان بل عرف من القدم أن حذق الإنسان وزيادة ذكائه نقص في رزقه وشواهد الأحوال تدل على هذا.
الشاهد أن الخسارة، خسارة الدنيا لا شيء بالنسبة لخسارة الدين، أو شيء من الدين.
وكل كسر فإن الدين يجبره وما لكسر قناة الدين جبران
{إِنَّ الْإِنسَانَ}: الجنس، كل الإنسان محكوم عليه بهذا الحكم إلا من استثني, وإلا أداة تخرج ما بعدها عن الحكم العام الذي قبلها، فمن المخرج من هذه الخسارة؟
من اتصف بالصفات الآتية:
{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [(3) سورة العصر]، أربع صفات لكنها شاملة لجميع خير الدنيا والآخرة.
{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُواِِ}: حققوا الإيمان على ما جاء في حديث جبريل حينما سأل النبي -عليه الصلاة والسلام- عن الإيمان، سأله ما الإيمان؟ قال: ((أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره)) هذه أركان الإيمان الستة، فمن حققها تحقق له الوصف المخرج المنجي من الخسران، وشرح هذه الأركان الستة يخرج بنا عن موضوع الدرس، وهو موجود في مضانه.(43/9)
فمن حقق آمن وأيقن وصدق واعتقد بدون تردد ولا شك ولا ريب، هذه الأركان الستة تحقق فيه وصف الإيمان. والإيمان عند أهل السنة قول باللسان واعتقاد وعمل، قول باللسان واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان، هذه أجزاؤه التي يتركب منها، فمجرد الاعتقاد لا يكفي؛ لأنه دعوى لا بد عليها من دليل يثبتها بالقول فالنبي -عليه الصلاة والسلام- أُمر أن يقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فلا بد من القول، والقول أيضاً دعوى ما لم يصدقها العمل كما قال الحسن: ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني ولكن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل.
{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِِ}: عطف الأعمال على الإيمان، من باب عطف الخاص على العام، للاهتمام بشأن الخاص والعناية به، وإلا فالإيمان متطلب للأعمال، فلا بد من العمل في الإيمان، فالتنصيص عليه -على العمل- للاهتمام بشأنه والعناية به.
وعملوا الصالحات، والصالحات جمع صالحة أو صالح، الأعمال الصالحات ما توافر فيها شرطا القبول، العمل الصالح ما توافر فيه شرطا القبول، الذي هو الإخلاص لله -جل وعلا- والمتابعة لنبيه -عليه الصلاة والسلام- فلابد من الإخلاص، فلو أن إنساناً عمل جميع ما سمع به مما جاء الحث عليه في الوحيين لكنه لم يخلص في عمله لله -جل وعلا- ولم يرد به وجه الله تعالى فإنه لا يقبل منه، ولو عمل أعمالاً تستغرق أنفاسه هي في ظاهرها صالحة، ويريد بها وجه الله تعالى لكنها ليست على منهاج النبوة، وليست على هدي النبي -عليه الصلاة والسلام- فإنها حينئذ لا تقبل: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) يعني مردود عليه، {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [(2) سورة الملك] قال الفضيل: أحسن عملاً، أخلصه وأصوبه، فإن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل وإن كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل، فلا بد من تحقيق هذين الشرطين، الإخلاص لله -جل وعلا- وأن يكون صواباً على سنة النبي -عليه الصلاة والسلام-.
قد يقول قائل –وقد قيل-: لماذا لا نكتفي بالشرط الثاني، أن يكون عملنا على مقتضى ما جاء عن النبي -عليه الصلاة والسلام-؟ لماذا نشترط الإخلاص؟(43/10)
لأن العمل إذا لم يكن على، يعني إذا كان على هدي النبي -عليه الصلاة والسلام- فإنه لا بد أن يكون خالصاً لله -جل وعلا- وإذا لم يكن خالصاً، فإنه لن يكون على هدي النبي -عليه الصلاة والسلام-؛ لأن هدي النبي -عليه الصلاة والسلام- شامل للأعمال الظاهرة البدنية وأعمال القلوب، فإذا كانت صورة العمل مطابقة لما جاء عن النبي -عليه الصلاة والسلام- لكنه ليس العمل خالصاً بل دخله وشابه ما شابه من مراءاة الناس أو التشريك في عبادته فإنه لن يكون على هدي النبي -عليه الصلاة والسلام- فلا حاجة إلى الشرط الأول، هكذا قال بعضهم. الكلام سليم أو ليس بسليم، مستقيم أو غير مستقيم؟
نقول: لسنا بحاجة إلى أن نقول بالشرطين، يكفينا الشرط الثاني؛ لأنه إذا كان على هدي النبي -عليه الصلاة والسلام- صواباً على سنة محمد -عليه الصلاة والسلام- فإنه لا بد أن يكون خالصاً، فلا داعي لاشتراط الإخلاص.
تنصيص أهل العلم على الإخلاص للاهتمام به والعناية بشأنه؛ لأن كثيراً من المسلمين لو لم يذكَّر به لنسيه، فالنية شرود، ويذكر، وجاءت فيه النصوص الكثيرة من الكتاب والسنة, ويتردد في كلام أهل العلم وهو شرط مؤكد عندهم يكررونه في كل عبادة من أجل أيش؟ أن يتذكره الإنسان فلا يعزب عن باله، وإلا فالنية شرود، النية شرود, أن تدخل بنية خالصة جئت إلى المسجد لتؤدي هذه الصلاة ولم ينهزك عن بيتك إلا هذه العبادة لله -جل وعلا- ثم بعد ذلك إذا كبَّرت النية لا بد أن تستحضرها، ولا تروح يمين وإلا يسار تفوتك، ويطرأ على الإنسان في أثناء صلاته ما لا يخطر في باله، فالناس لا بد من تذكيرهم بهذا الشرط والتنصيص عليه وإن كان كلام الآخر له وجه، لكن لا بد من التنصيص على مثل هذا؛ لأنه لو غفل عنه لمالت المقاصد بالمكلفين يميناً وشمالاً.
{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا}: عملوا الصالحات, لا بد من العمل لتتحقق النجاة من الخسران الذي حكم به على جميع الناس؛ لأن الإنسان وإن كان لفظه لفظ المفرد، إلا أن المراد به الجنس، المراد به الجنس.(43/11)
{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِِ} تحقق فيهم الانتفاع، تحقق فيهم ما ينفعهم ويخرجهم من الحكم العام بالخسارة على جميع الناس فحققوا الإيمان وعملوا الصالحات وبقي النفع، بقي النفع المتعدي، فعلى الإنسان أولاً أن يعلم ثم يعمل ثم بعد ذلك ينفع.(43/12)
{وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ}: هذا الحق وهذا الإيمان، وما يطلبه هذا الإيمان إذا عمل به في نفسه انتفع كثيراً، لكن من متطلبات هذا الإيمان نفع الآخرين، من متطلبات العمل الصالح أيضاً التعدي، أن تكون هذه الأعمال الصالحة متعدية، وتواصوا بالحق، التواصي تفاعل، لا بد أن يكون من طرفين، فكل واحد يوصي أخاه بالحق الذي هو الدين، الدين بجميع فروعه، وأصوله، هو الحق وماذا بعد الحق إلا الضلال، فإذا تواصى المسلمون بالحق نجوا من الخسارة، وتواصوا أيضاً بالصبر؛؛ لأن الإنسان إذا علم هذا الدين وهذا الإيمان وعمل به ودعا غيره إلى هذا المطلوب المنجي من الخسارة المحكوم بها على العموم، فإذا تواصى مع غيره لا بد أن يناله ما يناله من الأذى؛ لأن الناس لا يحتملون – يعني الناس جبلوا على ألا يحتملوا- من يعارض شهواتهم ونزواتهم، فلا بد أن يحصل له ما يحصل من الأذى، فعلى هذا يوصي نفسه ويوصي غيره بالصبر، يوصي نفسه ويوصي غيره ويوصيه غيره أيضاً بالصبر، لا بد أن يتواصوا بالصبر؛ لأن الطريق شاق فالذي لا يتعرض للناس، بمعنى أنه لا يأمرهم ولا ينهاهم هذا في الغالب سالم منهم، سالم منهم, ما في أحد يعتدي إلا إنسان ظالم، لكن الذي يرجو أن يعم نفعه وخيره وفضله وعلمه ويتعدى إلى الآخرين لا بد أن يناله ما يناله، وتنظرون فيمن يتولى الأمر والنهي والدعوة, تنالهم مشقة عظيمة، مشقة لاحقة ببدنه، مشقة لاحقة به من قبل غيره, فتجد الذي يقف ويحول دون الناس ودون شهواتهم ويوصيهم بالحق لا بد أن يوصي نفسه أولاً ويتجمل بهذا الخلق العظيم الذي هو الصبر، فلا بد من الصبر؛ لأن الجنة حفت بالمكاره, والمكاره تحتاج إلى صبر، والصبر حبس النفس فلا بد من أن يصبر على طاعة الله, ولا بد من أن يصبر عن معصية الله, ولا بد أن يصبر على أقدار الله المؤلمة التي تخالف ما يشتهيه، فلا بد أن يصبر على جميع ما يعترضه في طريقه في علمه في عمله في دعوته في أمره في نهيه وجميع ذلك لا بد فيه من الصبر، لا بد أن يصبر ولا بد أن يحتسب, وبعض الناس تجده على شفه بمجرد أدنى هزة ينكص على عقبيه, لا يتحمل ولا يصبر فالمسألة تحتاج إلى صبر, والأنبياء حصل لهم ما حصل من أقوامهم، والعلماء والدعاة(43/13)
حصل لهم ما حصل, فلا بد من الاهتداء بهدي من سبق، ولا بد من التحمل والصبر على جميع الأذى الذي ينال الإنسان بدعوته وأمره ونهيه؛ لأن الطريق ليست كما يقول المعاصرون مفروشة بالورود، كل من أتاه ليدعوه وينكر عليه أو يأمره بالمعروف استقبله استقبال ... بعض الناس يضرب من يأمره، بل حصل الأمر إلى القتل، والأمر جد خطير، فقتل من يأمر الناس بالقسط مقرون بقتل ا؛ لأنبياء نسأل الله السلامة والعافية، وحصل لهذه الفئة -أعني أهل الحسبة أهل الأمر والنهي- يحصل لهم ما يحصل أكثر مما يحصل لغيرهم، يعني يحصل لأهل الأمر بالمعروف من الأذى أكثر مما يحصل للعُبَّاد، أكثر مما يحصل للدعاة، أكثر مما يحصل للعلماء والمعلمين؛ لأن أولئك في الواجهة، يعني يسعون إلى الحيلولة بين العصاة ومعاصيهم، فيحولون بين الناس وشهواتهم ونزواتهم, فيتعرضون لهم بما يؤذيهم فلابد من الصبر، فلابد من الصبر, والله -جل وعلا- يقول: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [(155) سورة البقرة] فلا بد من الصبر.
والله أعلم, وصلى الله وسلم على وبارك على عبده ورسوله, نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الأسئلة:
هذا يقول: ما توجيهكم للشباب المستقيم بالتواصي بالحق وترك الاستكانة أمام جلد أهل الباطل ودعاة التغريب على باطلهم؟
الجواب: أما بالنسبة للصراع بين الحق والباطل فهو قديم، الصراع بين الحق والباطل قديم قدم الإنسان، ولابد من التدافع ولابد من دفع الباطل بقدر الإمكان, والإشكال في الاستكانة على ما ذكر السائل، والله -جل وعلا- إذا علم من أهل الحق في المدافعة والتصدي لأهل الباطل فالله -جل وعلا- يعذرهم من جهة ويعينهم على دفع الباطل ويرفع عنهم ما يستحقون من عذاب، بسبب تركهم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو خصيصة هذه الأمة، وسبب خيريتها وتفضيلها على الناس، {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [(110) سورة آل عمران].
بعض الناس يتصور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خاص بمن وكل إليه الأمر، وخاص بأمر الناس بالصلاة أو الحيلولة بين بعض الفساق وبين شهواتهم في الأسواق والمجامع العامة.(43/14)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أشمل من ذلك، فيشمل المنكرات التي تدور في البيوت وتدور في الأسواق وتدور على كافة الأصعدة، كبرت هذه أو صغرت، تنوعت أساليبها, ولابد من مقاومتها، فسبب خيرية هذه الأمة وتفضيلها على الناس هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويلاحظ أنه في الآية قدم على الإيمان، {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ} [(110) سورة آل عمران].
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يصح ولا يقبل بغير الإيمان، لكنه قدم في الآية لتعظيم شأنه وأنه هو السبب الذي فضلت به هذه الأمة، وإلا فجميع الأمم التابعين للرسل، يؤمنون بالله، ومع ذلك فضلنا عليهم بأي شيء؟ بأننا نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، وسبب لعن بني إسرائيل، {كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ} [(79) سورة المائدة]. فلا بد من الجد والحزم في هذا الأمر والتواصي عليه، والتعاون عليه.
يقول: تعصف بالأمة الأحداث وتنزل بها النكبات والإعلام الكافر والمشبوه يتولى توجيه الناس، حتى رأينا من أهل الخير والعقيدة الصحيحة من يشك ببعض الثوابت، وأصبح كثير من شباب الصحوة يتناظرون ويبحثون عن المرشد وربما أخذ بأيديهم مأفوكون في الإنترنت وبعضهم صار في ركاب الفئات الضالة والفرق الضالة الخارجة عن الإسلام؟
الجواب: على كل حال هذا الإعلام التي ابتليت به الأمة في هذه العصور المتأخرة لا شك أنه أحدث شرخاً كبيراً وضرراً عظيماً, لكنه مع ذلك فتح أبواباً وآفاقاً للعمل، وأيضاً ضاعف في الأجور -أجور العاملين-؛ لأن الأمور لو كانت سهلة وميسرة ما استحق كثير من العاملين مثل هذه الأجور العظيمة؛ لأن الأمر إذا كان سهل وميسر أجره المرتب عليه أقل مما لو كان صعب الحصول والمنال، {لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} [(10) سورة الحديد]؛ لأن كلما اشتدت الحاجة وتأزمت الأمور زادت الأجور، ولذا جاء في الحديث في المسند والسنن ((أن للعامل في آخر الزمان أجر خمسين قالوا يا رسول الله: منا أو منهم؟ قال: ((بل منكم)) وهذا الحديث حسنه ابن القيم وغيره.(43/15)
على كل حال إذا ادلهمت الأمور في وجه طالب العلم أو العامل لا شك أنه أعظم لأجره، هذا أعظم لأجره فعليه أن يعمل، وبعد ذلك النتائج ليست بيده، يقول عملنا وعملنا وعجزنا أن نصلح, النتيجة ليست بيدك، فالأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- منهم من يأتي وليس معه أحد, وبعض ا؛ لأنبياء كنوح أقرب الناس إليه ما استطاع هدايته إنما هداه الدلالة والإرشاد، لكن هداية التوفيق والقبول بيد الله -جل وعلا-.
هذا يقول: يحصل في بعض المناسبات تصوير وبعض التجار لا يدعم المشروع إلا بالتصوير، فهل يوافق على ذلك؟
الجواب: أولاً إذا عرفنا أن حكم التصوير محرم وجاءت النصوص الصحيحة الصريحة في تحريمه والتشديد في أمره، وإن اختلف في أنواع من التصوير الموجودة التي تدخل في النصوص أو لا تدخل، فالتصوير بجميع صوره وأشكاله وآلاته داخل في النصوص، ما دام صورة لذي روح فإنه داخل في النص, سواء كان باليد أو بآلة، وبعض الناس يقول: لا يضر أن تكون ضغطة زر لآلة ينتج عنها صورة أن يحصل فيها مثل هذا التشديد, أن يكلف بنفخ ويكون من أشد الناس عذاباً يوم القيامة ... إلى آخره، لا يمكن أن يكون مثل هذا الوعيد لهذا العمل اليسير، ضغطة زر يترتب عليه هذا الوعيد الشديد، نقول إن هذا ليس بأعظم من ضغطة زر المسدس وقتل مسلم، يترتب عليه الوزر العظيم وتوعد بالخلود في النار وقرن بالشرك، والأدلة الدالة على تعظيم شأن القتل لا يمكن حصرها, وإذا قلنا وعرفنا أن التصوير بجميع آلاته وأشكاله محرم، فإنما عند الله لا ينال بسخطه، هذا يقول مشروع خير لا يدعم إلا بمحرم لا يلزم ذلك، ما عند الله لا ينال بسخطه.
يقول: يأتي على الإنسان لحظات يشعر فيها بسعادة عظيمة دون سبب معين، وأحياناً يأتي لحظات يضيق فيها المرء ضيقاً حتى ليوسوس له الشيطان أن فعل المعصية باتباع الهوى هو ما يجعله سعيداً فما. . . . . . . . .؟(43/16)
الجواب: الذي يجعل الإنسان سعيداً وأسباب السعادة هي -بل من أعظمها- أسباب السعادة بالنسبة لهذه الحياة الدنيا في الإيمان بالله -جل وعلا- وبتحقيق توحيده ونفي الشرك بجميع صوره وأشكاله، الظاهر منه والخفي، هذه هي أسباب السعادة مع العمل الصالح وهذه الحياة الطيبة إنما تكون بذلك، والضيق والحسرة التي تمر بالإنسان إنما هي من وساوس الشيطان ليزين له الأعمال القبيحة.
ويذكر واحد من الإخوان أنه سافر إلى بلد لا يعرفه فيها أحد ولا يعرف أحداً فقال إنه بهذه الوحدة ولا يوجد من يؤنسه ويقول إن بعض الناس قالوا له إن الدخان يوسع الصدر، يقول: فاشتريته فوضعته في فمي وما أدري أيش يسمونه، المهم أنه يقول: من أول شفطة أصبت بكحة دائمة، وشرغ بذلك و. . . . . . . . . في دورة المياه؛ فالشيطان لا شك أنه يوسوس للناس ويلبس عليهم, وتسمعون كلام بعض الشباب يقولون نبي نستأنس, والأنس كله في طاعة الله، ولا أعظم من لذة المناجاة إذا حصلت للإنسان, فا؛ لأنس كله في طاعة الله -جل وعلا- وأما من لم يرد له الهداية فكأنما ... كما قال الله -جل وعلا-: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ} [(22) سورة الزمر] الذي في آية الزمر ...
طالب:. . . . . . . . .
لا ذاك ثانية.
طالب:. . . . . . . . .
يشرح صدره للإسلام ... يجعل صدره ... الطرف الثاني، يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء، وهذه الآية فيها العجب حيث أثبتت التجربة أنه كلما ارتفع الإنسان عن مستوى سطح الأرض يضيق معه الصدر، ولذلك يوصي الأطباء من كان في قلبه شيء من المرض الحسي ألا يقصد الأماكن المرتفعة، لا يقصد الأماكن المرتفعة، على كل حال ضيق الصدر سببه وسواس من الشيطان، والبعد عن الله -جل وعلا- وعن ذكر الله وعن تلاوة كتابه على الوجه المأمور به، فإذا حصل لك مثل هذا الضيق قم وتوضأ وأحسن الوضوء وصل ركعتين واقرأ في كتاب الله ما تيسر لك ويزول إن شاء الله تعالى.
يقول: إذا عمل الإنسان عملاً وهو مجتهد، لكنه غير موافق لهدي النبي -صلى الله عليه وسلم- هل يأخذ أجر الاجتهاد أو يرد عمله هذا؟(43/17)
الجواب: إن اجتهد من غير دليل فهذا لا يأخذ أجراً، لكن إن اجتهد على ضوء دليل، وأخطأ في فهم الدليل فلا شك أنه مأجور أجراً واحداً، ولو أصاب لكان له أجران.
يقول: أجد من نفسي ميل إلى علم الحديث, فيا حبذا لو أرشدتني إلى كيفية التدرج في هذا العلم؟
الجواب: هذه المسألة لا شك أن شرحها يطول، وهناك أشرطة موجودة في التسجيلات فيها التدرج في هذا العلم وفي غيره من العلوم فليُرجع إليها.
يقول: ما الفرق بين التواصي بالحق والتواصي بالصبر؟
الجواب: التواصي بالحق أعم، والتواصي بالصبر نوع من أنواع الحق, والتنصيص عليه من باب التنصيص على الخاص بعد العام للاهتمام به وشدة العناية به، والحاجة إليه، فالتواصي بالحق قلنا إنه الدين بجميع ما يتطلبه الدين من أصول وفروع، يتواصى به مع غيره، فيوصي غيره ويوصيه غيره, ومع ذلك إذا ترتب على ذلك شيء مما يحتاج إلى صبر تواصوا به.
ما كيفية ا؛ لأنكار بالقلب، وهل يكفي كراهة المنكر مع الاستمرار في المخالطة؟
الجواب: الإنكار بالقلب يعني كره هذا المنكر وكره صاحبه، وإذا ارتدع بهذا يظهر علامات الكره والسخط فإذا ارتدع بذلك وإلا وجب عليه العزلة، أن يعتزل عنه.
ما أفضل طبعة لحاشية الجمل على الجلالين؟
الجواب: الجمل على الجلالين مطبوع في مبطعة بولاق قبل مائة سنة، ثم طبع طبعات كثيرة طبعة بولاق هي أصحها.
هذا يقول: إنه موظف حكومي يخرج من الدوام بشكل مستمر وبأوقات متفاوتة؛ مع العلم بأن خروجه لا يؤثر على مصلحة العمل أو مصلحة المراجعين؟
الجواب: الخروج لا يجوز، الخروج من الدوام الذي اتفق عليه ويأخذ في مقابله أجر لا يجوز إلا لحاجة بعد استئذان من يملك الإذن.
يقول: ما رأيك في قول من قال: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الركن السادس من أركان الإسلام؟ ولا بد له من الصبر، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فهل يكون الصبر واجباً؟
الجواب: الصبر واجب، الصبر على الطاعات الواجبة واجب، والصبر عن المحرمات واجب، والصبر على الأقدار واجب، فالصبر بجميع أنواعه واجب، لكن الصبر على فعل المستحبات مستحب، والصبر عن المكروهات مستحب أيضاً.(43/18)
أما كونه الركن السادس فقد قال به جمع من أهل العلم، لكن عامة أهل العلم يخصون الأركان بما جاء في حديث جبريل، وحديث عبد الله بن عمر وغيرهما، أنه بني الإسلام على خمس.
يقول: في السلسلة الصحيحة حديث: كان رجلان من أصحاب –صلى الله عليه وسلم- إذا التقيا لم يفترقا حتى يقرأ أحدهما على الآخر والعصر, إن الإنسان لفي خسر، ثم يسلم أحدهم على الآخر، ما مفهوم الحديث؟ وكيف السبيل إلى تطبيقه؟
الجواب: مفهومه تلاوته يعني مجرد ما يجتمعان ويريدان الافتراق بعد ذلك يقرأ أحدهما على الآخر سورة العصر، ثم يسلم أحدهما على الآخر السلام، سلام الانصراف، وهو مستحب كسلام الدخول.
يقول: في كتاب التفسير من فتح الباري أورد تنبيهاً في آخر سورة العصر، لم أرَ في تفسير هذه السورة حديثاً مرفوعاً صحيحاً، لكن ذكر بعض المفسرين حديث ابن عمر: من فاتته صلاة العصر, وقد تقدم في صفة الصلاة مشروحاً، فهل يصح الحديث الذي ذكر أن الرجلين لم يفترقا حتى يقرأ أحدهما على الآخر سورة العصر؟
الجواب: على كل حال صححه بعضهم كالألباني رحمه الله, ويذكر المفسرين في سورة العصر، من قرأ سورة العصر كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر، وعرفنا أنه لا أصل له.
كيف يكون الصبر على أقدار الله المؤلمة؟
الجواب: حبس النفس عن التشكي والجزع على وفق الشرع.
وهل الصبر مجرد بغير رضا يؤجر عليه الإنسان؟
الجواب: نعم، الصبر يؤجر عليه الإنسان ولو لم يرض، والرضا قدر زائد على ذلك، حتى قال ابن حجر: إن الأجر المرتب على المصائب يحصل للإنسان ولو لم يصبر، لكن إن صبر كان أجره أعظم، وإن رضي بعد ذلك كان أجره أعظم.
يقول: نريد كلمة قصيرة في الأدب مع المشايخ والعلماء .... الإنترنت؟(43/19)
الجواب: على كل حال المشايخ من أهل العلم لهم فضلهم على الناس، وقد ذكر الآجري في أخلاق العلماء مثالاً يبين فيه قدر العلماء وفضلهم على الناس, فذكر أن الناس كأنهم في أرض فلاة في وادٍ مشتمل على حصا وشوك وسباع وهوام في ليلة مظلمة، كأنهم يسيرون في هذه الليلة المظلمة في هذا الوادي الذي يكثر فيه الشوك والأشجار المؤذية والدواب والسباع والهوام ثم بعد ذلك جاءهم من بيده مصباح فأنار لهم الطريق حتى خرجوا من هذا الوادي، ففضله عليهم يمثل هذا بفضل أهل العلم على سائر الناس؛ لأنه تصور الإنسان أنه في بلد ما فيه من أهل العلم أحد، فأشكل عليه أي مسألة من مسائل الدين كيف يعمل؟ كيف يعبد الله -جل وعلا-؟ كيف يحقق الهدف الذي من أجله وجد، دون أهل العلم؟! لا يستطيع تحقيق الهدف، وإذا أضاع الهدف خسر دنياه وأخراه، بخلاف ما لو صار في بلد لا يجد من يعينه على التجارة أو لا يجد من يفتح له آفاق وأبواب للتجارة فإنه حينئذ يخسر شيئاً من الدنيا ولا يضيقه هذا, فلا شك أن أهل العلم لهم فضل على الناس فاحترامهم مطلوب, لكن لا يوصل بهم إلى حد الغلو كما يوجد عند بعض الفئات وبعض المجتمعات وبعض المذاهب، يغلون في علمائهم وشيوخهم ويصرفون لهم مما هو حق لله -جل وعلا-.
يقول أحد الدعاة أن عبد العزيز بن باز أفتى بوجوب خروج الدعاة وأهل العلم في الإعلام؟
الجواب: على كل حال الشيخ نفسه ما خرج, وكان يوصي بعض من يتوسم فيه النفع أنه يتولى ذلك.
يقول: ما هي الأسباب التي جعلت الناس في الأوقات الأخيرة في هذه السنوات المتأخرة يزهدون في المحاضرات ويقلون في حضورها، مع العلم أنه لو كان هناك إعلان عن مهرجان لوجدت الحضور كبيراً باستمرار، ولو كان في كل يوم أرجو التنبيه؟(43/20)
الجواب: لو لم يستشعر الإنسان في هذا إلا أن الجنة حفت بالمكاره، لا شك أن حضور مثل هذه الدروس ثقيلة على النفس؛ لأنها مما حفت به الجنة، فهي ثقيلة على النفس والنفس لا تهوى مثل هذه الأمور كسائر التكاليف، أما الأمور التي فيها شيء من التوسع، وليس فيها شيء من التكليف هذا مما تهواه النفس وتميل إليه, لاسيما إذا كان فيه شيء من اللهو أو شيء من الممنوع شرعاً، فتجد الجمهور عليه يقبلون والله المستعان.
هل يجوز الحلف بقول: لعمري، أو لعمرك أو نحو ذلك؟
الجواب: نعم يجوز مثل هذا، لا مانع منه، وليس بحلف؛ لأنه ليس بمقترن بحروف القسم الثلاثة.
هذا يقول ادع لي بالعافية مما ابتليت به من المعاصي والفقر فإن نفسي تراودني على الإقبال على الكبائر كالنظر إلى الحرام؟
الجواب: الله المستعان نسأل الله -جل وعلا- أن يعصم الجميع مما يغضبه.
يقول إذا كان الداعية في الهيئة أو غيرها من مجالات الدعوة ويُفتن بالنساء أو ما شابه النساء هل يستمر في هذا المجال أو يبحث عن مجال آخر من مجالات الدعوة؟ علماً بأنه لا يكون فيه في هذا المجال غيره.
الجواب: عليه أن يجاهد نفسه، عليه أن يجاهد نفسه, فإن استطاع أن يتخلص من هذا الداء فليستمر في مجاله وإلا فليبحث عن عمل آخر لا يعرضه للفتن، بعيداً عن محافل الناس.
يقول: جاء النهي عن الانتعال بالواحدة فهل يقاس عليه من يلبس شراباً واحداً عند لعب كرة القدم أو لا يقاس؟
الجواب: الذي يظهر أنه مثله إلا عند الحاجة، لو وجد حاجة تحت الرجلين شيء يتأذى بعرائها واحتاج أن يلبس شراب والثانية لا حاجة لها بذلك والوقت صيف لا يحتمل فيه مثل هذا، فالحاجة تقدر بقدرها.
يقول: أنا سافرت من بلدي إلى بلد آخر وسوف أستقر أقل من أربعة أيام، فهل السنة ترك السنة الراتبة، أو فعلها؟ وهل ينكر على من حافظ على السنة الراتبة أثناء السفر؟(43/21)
الجواب: المسافر والمريض يكتب له ما كان يعمله صحيحاً مقيماً؛ فإذا كان محافظاً على الرواتب فليتركها وفي هذا يقول ابن عمر: لو كنت مسبحاً لأتممت، وبعضهم يعكس هذا فيقول: إذا صلى خلف من يقيم ولزمه الإتمام فإنه يصلي الرواتب، وإن قصر الصلاة فإنه لا يصلي، وعلى كل حال ما دام الرخصة جاءت بهذا ولا يعرف عن النبي -عليه الصلاة والسلام- أنه حافظ على شيء من الصلوات في السفر إلا الوتر وركعتي الفجر.
يقول: مسافر وصل إلى البلدة التي يريدها ودخل مع الإمام في صلاة الظهر والإمام قام للركعة الثالثة، هل بعد السلام يكمل أربعاً أم يكفي ركعتان؟
الجواب: لا بد من أن يأتي بأربع ركعات؛ لأنه إن صلى خلف مقيم لزمه الإتمام.
يقول في حالة دخولي في الصلاة تتوارد عليَّ الخواطر ويوسوس لي الشيطان بأني مراءٍ فما الحل؟
الجواب: لا شك أن الشيطان حريص على أن تخرج من صلاتك بلا شيء، وأن تكون صلاتك لا يترتب عليها شيئاً من الثواب؛ لأنه ليس للإنسان من صلاته إلا ما عقل، فعليك أن تقبل بقلبك وقالبك على مناجاة الله وأن تتصور أنك بين يدي الجبار.
يقول: ما هو شرح الحديث التالي مع التمثيل, قال -صلى الله عليه وسلم-: ((خير العمل أدومه وإن قل))؟
الجواب: يعني المحافظة على العمل باستمرار فيه أفضل من الانقطاع ولو كثر العمل، فبدلاً من أن يقرأ القرآن في يوم ثم ينقطع أسبوع يوزع هذه الأجزاء الثلاثين على الأسبوع ويستمر في ذلك أفضل من كونه يقرؤه في يوم أو يومين ويترك بقية الأيام، وقل مثل هذا فيمن يصلي الكثيرة في يوم ويترك أيام، لا أعني الفرائض، أعني من النوافل، تجد بعض الناس يصلي في يوم خمسين ستين ركعة، ثم بعد ذلك يفتر أيام ثم يعود، لو وزع هذه الصلوات على الأيام لكانت أخف عليه وأضمن للاستمرار؛ لأن النكوص وترك العمل لا شك أنه رغبة عن الخير وهذا مذموم شرعاً, والله أعلم, وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،،،(43/22)