|
تم استيراده من نسخة : عبد الحميد بن عبد الستار
المخطوط العربي
إعداد
دكتور
عصام عبيد
كلية الآداب – جامعة أسيوط
بسم الله الرحمن الرحيم
? وَمَآ أُوتِيتُمِ مّنَ الٌعِلٌمِ إِلاَّ قَلِيلاً ?
صدق الله العظيم
قائمة المحتويات
تمهيد
تعريف المخطوط
أهمية المخطوطات
المجالات والعلوم التي وضعت لها المخطوطات
تطور مواد الكتابة
تطور أدوات الكتابة
الكتابة العربية وتطورها
الكتابة العربية في العصر الجاهلي
الكتابة في عهد الرسول والخلفاء الراشدين
الكتابة في عصر الأمويين
المخطوط العربي وانتشاره
صناعة المخطوط
الخطوط التي كتبت بها المخطوطات
الفهارس وأشكالها وأنواعها
كيفية فهرسة المخطوطات
تمهيد
يكمن الهدف الأساسي من وراء هذه المحاضرات إلي التعرف علي المخطوطات العربية وأهميتها ومجالاتها وكيفية التعامل معها من حيث دراستها وفحصها من أجل فهرستها وتصنيفها وتنظيمها بالشكل الذي يظهر فوائدها للدارسين.
كما تهدف هذه المحاضرات إلي التعرف علي أنواع الفهارس الخاصة بالمخطوطات والخطوات الواجب إتباعها من أجل الإعداد الجيد لها، وأيضاً التعرف علي الصفات الواجب توافرها فيمن يقوم بعمليات فهرسة المخطوطات وتنظيمها
تعريف المخطوط
يطلق مفهوم المخطوط علي كل ما يتم كتابته وتدوينه بخط اليد وكل ما يم نسخه في عصور وفترات ما قبل ظهور الطباعة، وأيضاً بعد ظهورها بفترة إلي انتشار المطابع في كافة أنحاء العالم.
أي أن كل ما تم تأليفه وكتابته قبل الطباعة ما هي إلا مخطوطات، ولكن بداية من عصر النهضة وانتشار الطباعة بدأت الاستعاضة عن المخطوطات بالكتب المطبوعة، وذلك بالنسبة للمؤلفات الجديدة أو إعادة طبع للمخطوطات وذلك بهدف نشرها علي مجال واسع.
أهمية المخطوطات
تعتبر المخطوطات من المصادر الأساسية والأولية التي ينبغي الرجوع إليها عند دراسة أحد الموضوعات التي تناولتها تلك المخطوطات من علوم مختلفة أو عند دراسة فترة زمنية معينة تقوم المخطوطات بتغطيتها.
(1/1)
وتتعدد طبيعة المخطوطات لتعدد أنواع البيئة حيث قامت كل فئة من شعوب العالم بالاعتماد علي طبيعة البيئة المحيطة بهم في عمل المخطوطات، فمنهم من أخذ يكتب علي الأحجار ومنهم من كتب علي الحرير أو علي السعف أو عظام الحيوانات إلي غير ذلك.
إلي أن تم اختراع الورق في الصين وانتقاله إلي الدولة العربية في سمرقند وأيضاً وجود ورق البردي في مصر وانتقاله منها إلي دول العالم ثم تطور صناعة الورق حتى عصرنا الحالي.
وبما أن المخطوط مكتوب باليد فإن عد نسخة تكون قليلة مقارنة بما تم طبعه فيما بعد مع ظهور الطباعة، وتتنوع هذه النسخ ما بين نسخة المؤلف الأصلي التي يكتبها بيده وبين النسخ التي يقوم النساخ بكتابتها.
وللتميز بين النسخ المتعددة للمحطوط ينبغي الإطلاع بل ودراسة مقدمة المخطوط وخاتمته.
المجالات التي وضعت لها المخطوطات
تم تأليف المخطوطات في شتي مجالات المعرفة البشرية التي برز ونبغ فيها العرب أثناء نهضة الحضارة الإسلامية العربية والتي قامت علي الأخذ من الحضارات السابقة عليها كل ما ينفع الحياة العربية الإسلامية.
ولكن يلاحظ علي تلك المخطوطات أن حوالي 90% منها موزع بين علوم الدين وعلوم اللغة وعلوم التاريخ، أما بقية النسبة فتوزع علي العلوم العلمية من الطب والهندسة والرياضيات...
لذلك ينبغي علي من يقوم بعمل الفهارس في المكتبات وخاصة في قسم المخطوطات أن يكون ملماً بالقدر الكافي بعلوم الدين واللغة والتاريخ.
الغالبية العظمي من المخطوطات التي عرفها العالم قد تم طباعتها وتحقيقها ولكن أيضاً هناك العديد منها يحتاج إلي من يظهره إلي النور ليتعرف عليه الدارسين والعلماء لكي يستفيد من علمه.
(1/2)
ورغم أهمية المخطوطات العربية لهذا العصر الذي نحن فيه لأنها بمثابة حجر الأساس للتطور والتقدم العلمي الحالي. إلا أننا نجد أن معظم هذه المخطوطات أو الغالبية العظمي منها موجودة في مكتبات الدول الغربية الأوربية وإن الذين استفادوا منها هم أبناء تلك الدول وليس نحن أصحابها.
ومن أهم المكتبات العالمية التي تضم من بين مجموعاتها العديد من المخطوطات العربية نذكر:
مكتبة الكونجرس الأمريكي
مكتبة المتحف البريطاني بلندن
المكتبة الوطنية الفرنسية بباريس
المكتبة الوطنية بفينا بالنمسا
...
وقد انتقلت هذه المخطوطات إلي تلك المكتبات علي مراحل ممتد من هجوم التتار علي بغداد واستيلائهم علي كنوز المعرفة بها، ثم الحملات الصليبية، ثم وقوع الدولة الإسلامية تحت السيطرة العثمانية التي عملت علي نقل كل مظاهر الحضارة العربية إلي اسطنبول، وصولاً إلي الحملة الفرنسية وهجومها علي مصر يليهم الإنجليز.
كل هذه الهجمات من المستعمر علي الدولة الإسلامية في مرحلة ضعفها ساعدت علي انتقال الجزء الأكبر من المخطوطات العربية إلي خارج الدولة الإسلامية.
هناك أيضاً سبيل أخر وهو التجار وبعض المستشرقين الذين كانوا يأتون من دول أجنبية إلي الدولة الإسلامية وقيامهم بالاستيلاء علي المخطوطات سواء بالطرق المشروعة أو بالطرق غير المشروعة.
وأخيراً بعض ضعاف النفوس ممن قاموا ببيع هذه المخطوطات من أجل تحقيق مكسب مالي لا يوازي بالطبع القيمة الحقيقية لمثل تلك الكنوز العلمية.
بالرغم من ذلك يتوافر الكثير من المخطوطات في مكتباتنا العربية وتحتاج هذه المخطوطات إلي الكثير من العناية والاهتمام من جانب المتخصصين والمسئولين، وقد بدأ هذا الاهتمام من خلال تأسيس معهد المخطوطات، كما يوجد في دار الكتب المصرية قسم خاص بالمخطوطات يقوم علي تنظيمها ودراستها.
(1/3)
يعتبر القرآن الكريم هو أقدم المخطوطات لدى العرب حيث انه دون وكتب علي المواد التي كانت منتشرة في ذلك الوقت من عسب وكرانيف وأكتاف و مهارق ورق إلي غير ذلك من مواد الكتابة.
وقد تم جمع القرآن الكريم في عهد الخليفة إبي بكر الصديق علي يد زيد بن ثابت من تلك المواد، ثم تعددت نسخ القرآن الكريم علي يد زيد بن ثابت في عهد الخليفة عثمان بن عفان.
وقد تنوع الخط الذي كتبت به المخطوطات ومنها خط
النسخ، خط الثلث، الخط الكوفي إلي غير ذلك. وفي بداية الأمر لم يعرف الترقيم أو تشكيل الحروف ولكن ذلك ظهر بعد فترة من الزمن.
تطور مواد الكتابة
قبل التحدث عن تطور مواد الكتابة من الضروري أن نضع الخطوط المحددة للمخطوط العربي، فهل يشتمل كل ما كتب بخط اليد من رسائل ومعاهدات ومواثيق أم يقتصر المخطوط علي ما أُولف في العلوم بكافة مجالاتها المتعارف عليها في ذلك الوقت. نقتصر في هذه المحاضرات علي ما كتب في مجالات المعرفة البشرية.
وهل يضم المخطوط كل ما كتب بخط اليد في المعارف في كل اللغات أم يقتصر علي ما كتب باللغة العربية، تقتصر هذه المحاضرات كذلك علي ما كتب باللغة العربية حتى لو وجد هذا المخطوط خارج نطاق الدول العربية.
وعلي هذا الأساس فإن هذه المحاضرات سوف تقتصر علي المخطوط العربي المكتوب باللغة العربية.
المخطوط لا يوجد في أمة كمن الأمم إلا إذا توافر فيها ثلاث عناصر أو مقومات أساسية هي:
مواد يتم الكتابة عليها
أدوات يكتب بها
بشر يجيدون الكتابة ويحرصون علي تدوين التراث الفكري.
لذا فإن المقدمة الطبيعية للحديث عن المخطوطات هي تناول ودراسة مواد الكتابة وتطورها.
في عهد البداوة كانت المواد التي يكتب عليها العرب مشتقة من صميم البيئة الصحراوية التي يعيشون فيها، ومن أجل هذا كانت أهم تلك المواد هي:
الحجارة (اللخاف):
(1/4)
وهي الحجارة البيض الرقائق. وقد استخدمها العرب منذ القدم لأنها تعتبر من المواد المتوفرة بكثرة في البيئة الصحراوية، وقد استمر العرب في الكتابة عليها لفترة زمنية طويلة، ولكن نظراً لصلابتها وصعوبة النقش عليها، وصعوبة نقلها من مكان إلي أخر، لذلك حاول العرب إيجاد مواد أخري للكتابة قد يجدوا فيها ما لم يجدوه في الحجارة.
العظام:
كتب العرب علي عظام الإبل والأغنام والماعز، وخاصة عظام الأكتاف والضلوع العريضة، فكتبوا عليها القرآن والحديث والنصوص الأدبية وذلك بعد ظهور الإسلام.
وكان العظم يثقب من أعلاه حتى يتمكن الشخص من جمعه في خيط ليسهل الرجوع إليها.
العسب والكرانيف:
كانت تلك المواد هي أكثر المواد القديمة شيوعاً في الكتابة نظراً لتوافرها في تلك البيئة.
والعسب هو جمع عسبة وهي أوراق السعف وجريد النخيل الذي لا يتجاوز طوله أكثر من قدم ونصف.
الكرانيف وهو جمع كرنافه وهو السعف الغليظ الملتصق بجذع النخلة.
الجلود (الرق- الأديم- القضم)
انتشر استخدام الجلود كمادة للكتابة لدي العرب، ويقصد بالرق هو ما يرقق من الجلود، أما الأديم فهو الجلد الأحمر وبالنسبة للقضم فهو الجلد الأبيض.
وقد كانت صناعة دباغة الجلود منتشرة في جنوب الجزيرة العربية وبصفة خاصة في اليمن.
المهارق:
عبارة عن صحف بيضاء من نسيج من القماش أو كما يعرفها أين منظور "بأنها ثوب أبيض من حرير يسقي بالصمغ ثم يصقل ثم يكتب عليه"
وكان هذا النوع غير منتشر بالجزيرة العربية لأنه كان باهظ الثمن لأنه يستورد من الخارج لهذا السبب لم يستخدم بكثرة لكن اقتصر استخدامه علي الأمور الهامة ولي الفئات الغنية الميسورة من العرب.
الأقمشة (القباطي)
نوع من النسيج يتميز بمجموعة من الخصائص والسمات التي تميزه عن غيره من الأنسجة، وتجعله أهلاً لأن يطلق عليه العرب تلك التسمية المميزة له عن كل نسيج أخر.
الألواح والخشب ولحاء الشجر
(1/5)
استخدم الرومان واليونان قديماً لحاء الشجر والخشب المدهون بطلاء أبيض أو المكسو بالشمع ودونوا عليه نصوصاً قصيرة أو مذكرات موجزة أو رسائل صغيرة. وقد عرفه العرب وكتبوا عليه آيات من القرآن الكريم.
الفخار وبقاياه والشقف والخزف
استخدم الخزف في مصر علي نطاق واسع لتدوين إيصالات الضرائب والحساب والتمرينات المدرسية والرسائل وبعض النصوص الأدبية، والفخار من المواد التي سطرت عليها الكتابة المصرية القديمة.
أما العرب فقد كتبوا عليه في فجر الإسلام. أما اليونان والقبط فكانوا كثيراً ما يكتبون عليه.
الكتان
كان يزرع في مصر منذ أقدم العصور، وكان من المواد التي سطرت عليها الكتابة المصرية القديمة، وكثر استعماله في مصر في فجر الإسلام. وقد اشتهرت بوصير وسمنود بإنتاجهم نوعاً خاصاً من الكتان كمادة يكتب عليها وكانت تصدر إلي الخارج.
مواد الكتابة في العهد الإسلامي لدي العرب
استمرت المواد التي استخدمها العرب في الكتابة في العهد الجاهلي حتي العهد الإسلامي، فقد استخدمت في عهد الرسول وصحابته. وقد استخدمت في تدوين القرآن الكريم والحديث الشريف.
أمثلة وأدلة علي استخدام العرب للمواد التي كانت مستخدمة في العصر الجاهلي:
قال الزهري: أن الرسول "ص" قد توفي والقرآن في العسبة والقضم والكرانيف.
يروي البخاري في صحيحة أن زيد بن ثابت حين كلفة أبي بكر الصديق بجمع القرآن الكريم أنه ذهب يجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال من حفظة القرآن، وفي رواية أخري أنه جمع الرقاع والأكتاف والعسب واللخاف وصدور الرجال.
يروي في هذا الصدد عن البراءة أحد الصحابة أنه لما نزلت الآية الكريمة " لا يستوي القاعدون من المسلمين" قال له الرسول "ص" أدعوا لي زيداً باللوح والدواة والكتف أو الكتف والدواة.
اما الرق فقد ذكره الله عز وجل في كتابه الكريم بقوله "والطور وكتاب مسطور في رق منشور"
(1/6)
ويروي عن أم سلمه زوج النبي صلوات الله عليه وسلامه أنه دعي بأديم وعلي بم أبي طالب عنده فلم يزل الرسول "ص" يملي عليه وعلي يكتب حتي ملئ بطن الأديم وظهره.
وفي حديث جمع القرآن يروي السجستاني عن مصعب بن سعد أن عثمان بن عفان لما رأي اختلاف القراءات خطب في الناس طالباً من كل واحد منهم أن يحضر ما لديه من القرآن وكان الرجل يجئ بالرق والأديم.
ربما اضطر العرب إلي استعمال مواد أخري للكتابة عليها حتي ولو بصفة مؤقتة عندما يحتاجون للكتابة ولا يجدون ما يكتبون عليه من تلك المواد التي تحدثنا عنها. فنجد ان سعيد بن عبيد قال: كنت أسمع من أبن عمرو الحديث بالليل فأكتبه في واسطة رحلي حتي أصبح وأنسخه. وقال أيضاً كان أبن عباس يملي علي في السقيفة حتى أملاها وأكتب في نعلي وأملاه. ويقال أن الزهري كان يكتب الحديث في ظهر نعله مخافة أن يفوته.
في عهد الخليفة عمر بن الخطاب نجد أن الكتابة قد أصبحت جزءاً أساسياً من أعمال الدولة العربية فقد فتحت الأمصار وكثرت العهود والمواثيق بين المسلمين وغيرهم مما دخلوا في طاعتهم دون حروب، وزادت المراسلات بين الخليفة والولاة في حالات السلم والحرب علي حد سواء ودونت الدواوين ووجدت السجلات التي تدون فيها الأسماء والأرزاق التي تجري علي المسلمين فتوسعت الدولة ومن اجل كل ما سبق زاد الاهتمام بالكتابة في ذلك العهد.
وكان طبيعياً أن تعجز هذه المواد –الخاصة بالكتابة- عن سد احتياجات الدولة الجديدة ومن أجل ذلك كان الفتح العربي لمصر فتحاً لتاريخ الكتابة العربية حيث اتيح للعرب التعرف علي مادتين جديتين للكتابة، وهما أوراق البردي والقباطي.
البردي عبارة عن نبات كان يوجد في مصر بوفرة وكان يصنع منه هذه الأوراق. أما بالنسبة للقباطي، فكما سبق وأشرنا أنه عبارة عن ثوب أبيض مصنوع من نسيج الكتان.
(1/7)
وكان العرب يطلقون علي البردي عدة تسميات منها حفا وبردي وأبردي و خوص وغاثر... ولكن أكثر تلك التسميات انتشاراً واستخداماً من جانب العرب كانت القرطاس.
وقد ذكر أبن النديم في كتابه الفهرست أن القرطاس كان يعمل من قصب البردي.
والواقع أن القباطى من الممكن إدراجه تحت المهارق علي أنه نوع من أنواع النسيج، وإن كان ينفرد بسمات وخصائص خاصة تميزه عن غيره من الأنسجة وتجعله أهلاً لأن يطلق عليه العرب تلك التسمية.
وفي حقيقة الأمر بفضل هاتين المادتين اللتين فرضتا نفسيهما علي العرب انتقلت الكتابة العربية إلي مرحلة جديدة من مراحل نموها وتطورها. وأوراق البردي المصرية كان يصنع منها كاغد أبيض يقال له القراطيس وكانت هذه القراطيس أحسن ما كتب فيها من مواد والأهم من ذلك أن الحصول علي تلك القراطيس كان يسيراً ومن أجل ذلك لم تلبث الكتابة العربية أن خطت خطواتً واسعة، فأصبحت أكثر الكتابات العربية تكتب علي البردي والقباطي كما يقول جورجي زيدان في كتابه "التمدن الإسلامي"
ولقد ظل البردي والقراطيس المصنوعة منه تتصدر مواد الكتابة التي تحدثنا عنها، بل ظلت هي المادة الرئيسية للكتابة طوال عصر بني أمية وخلال الفترة الأولي من عهد العباسيين.
فقد اصبح البردي في ذلك الوقت في متناول عامة الناس وكان أوراق البردي تصنع علي هيئة لفائف طول الواحد منها كما يوضح السيوطي 30 زراع وعرض شبر.
ويروي أبن المدبر وهو من رحال القرن الثالث الهجري عن طرق إلصاق تلك اللفائف فيقول : " كان الصاقها هو أن يوضع الصمغ العربي في الماء لمدة ساعة ثم يلصق به وكذلك ماء كثيراً أو النشا ستيسن ثم يطوي طياً دقيقاً وتجعله في منديل نظيف ويوضع تحت وسادة حتي يجف.
ويؤكد هذا ما قاله الإمام الشافعي حيث قال: " انه كان يتردد علي المسجد في صباه ويجالس العلماء ليتعلم منهم ولكنه لم يجد ما يشتري به الورق أو القراطيس لكي يكتب عليها ما يتلقاه عن العلماء.
(1/8)
ويقول أيضاً " لما ختمت القرآن دخلت المسجد فكنت أسمع الحديث أو المسائلة فاحفظها ولم يكن عند امي ما تعطيني أشتري به القراطيس فكنت إذا رأيت عظماً يلوح أخذه وأكتب فيه فإذا امتلاء طرحته في جره قديمة كانت لنا"
الورق كمادة للكتابة وتعرف العرب عليها
في العصر العباسي بدأ يظهر الورق كمنافس جديد وخطير للبردي، وبدأت صناعة الورق تدخل إلي الأقطار العربية علي اثر انتصار الجيوش العربية بقيادة حاكم سمرقند علي أخشيد فرغان الذي كان يناصره ملك الصين عام 133 هجريه أي القرن الثاني الهجري.
فقد عاد المسلمون إلي سمرقند بما يقرب من 20 ألف أسير كان من بينهم صينيون يعرفون صناعة الورق وعلي أكتاف هؤلاء الأسري قامت صناعة الورق في سمرقند، ثم انتشرت في العالم العربي كله.
أقام الفضل أبن يحي البرمكي وزير هارون الرشيد مصنعاً للورق في بغداد ومن بعده قام أخوه جعفر البرمكي باستخدام الورق بدلاً من الرقوق في الدواوين.
يوضح القلقشندى في هذا الخصوص قائلاً عندما تولي الرشيد الخلافة وقد كثر الورق وانتشر أمره بين الناس فأمر الا يكتب الناس إلا في الكاغد لان الجلود ومثيلاتها تقبل المحو وإعادة الكتابة عليها مرة أخري وبالتالي تقبل التزوير، بخلاف الورق الذي إذا تم محو الكتابة عليه ظهر المحو وإذا كشط ظهر مكان الكشط. لذلك استمر الناس في الكتابة علي الكاغد حتى الآن.
ويبدو أن صناعة الورق قد ظلت منحصرة في العراق لفترة من الزمن لانها عاصمة الخلافة العباسية وبلاد ما وراء النهر حتى أوائل القرن الرابع الهجرى.
ويذكر الثعالبي أن الكواغيد التي تأتي من سمرقند قد عطلت قراطيس مصر والجلود لأنها أحسن وانعم وأوفر وأرقق.
(1/9)
وأشار أبن حوقل في أواخر القرن الرابع الهجري أن الكاغد لا نظير له في الجودة والكثرة ولكن تلك الصناعة ما لبثت ما انتقلت من العراق إلي الشام وفلسطين منذ منتصف القرن الرابع الهجري إلا أن كواغيد سمرقند ظلت محتفظة بجودتها وتفوقت علي غيرها مما كان يصنع في الشام أو دمشق أو فلسطين.
غير أن صناعة الورق بالشام ما لبثت أن تقوقت علي مر الزمن حتى أصبحت تنافس كواغيد سمرقند فيذكر أحد الرحالة وقد زار طرابلس الشام عام 438 هجرياً ويدعي ناصر حضرو حيث قال أن كواغيد اهل طرابلس التي يصنعون منها الورق الجديد هي مثل الورق السمرقندي بل وأحسن منه"
ومن الشام انتقلت تلك الصناعة إلي المغرب العربي ومنه عبرت البحر إلي الأندلس وأسبانيا حيث يصنع الورق الجيد كما ذكر ياقوت الحموي في كتابة معجم البلدان.
أما بالنسبة لمصر فلم تدخلها صناعة الورق إلا متأخراً لأنه كان لديه ورق البردي والقراطيس والقباطي الذين وجدوا فيه عوضاً عن الكاغد الذي لم يعرفوه في القرون الأولي للهجرة إلا مستورداً أو علي نطاق ضيق الحدود.
وقال أبن قباري أنه كان يأتي إلي طبقة الحكام أما الطبقة العامة فقد كانت تستعمل البردي، ومعني ذلك أن الورق في مصر كان قليلاً ونادراً حتى القرن الخامس الهجري. أما العرب فقد صنعوا الورق منذ أواخر القرن الثاني الهجري وأنهم تعلموا صناعته من الصينيون الذين كانوا يمارسونها منذ القرن الثاني الميلادي.
ولعل لفظ الكاغد الذي كان يطلقه العرب أول معرفتهم به هو لفظ صيني دخل إليهم عن طريق اللغة الفارسية.
وبظهور صناعة الورق في آفاق الحياة العربية يدخل المخطوط العربي مرحلة جديدة من مراحل نموه وتطوره وهي مرحلة خصبة تمتاز بكثرة الإنتاج ووفرته وسهولة تداوله بين القادرين.
(1/10)
علي ان ظهور الورق في العالم العربي واستخدامه في الكتابة ثم صناعته في بغداد كل ذلك لم يؤدي إلي اختفاء البردي وغيره من مواد الكتابة بين يوم وليلة، وذلك علي الرغم من تفوق الورق علي غيره من مواد الكتابة إلا أنه لم يكن تفوقاً حاسماً حتي القرن الثالث الهجري، فقد كانت الرقوق موجودة بجانب الورق وكان هناك من يفضلها عن الورق وكانت مستخدمة في الأشياء الحيوية كالمواثيق والعهود. وفي هذا الصدد نذكر أن أحمد بن بديل الكوفي المتوفي عام 258 هجريه أبي أن يكتب عنه حديث رسول الله (ص) في قرطاس بمداد واشترط ان يكتب في رق بحبر تشريفاً له وتعظيماً.
أما في المغرب العربي لم يكن نبات البردي يزرع في هذه المنطقة فظل الرق هو المادة الغالبة في الاستعمال ختى بعد القرن الرابع الهجري. فيشير المقدسي في عام 357 هجرياً أن امنغاربة كانت كل مصاحفهم وكل دفاترهم مكتوبة في رقوق.
والخلاصة التي يمكن أن نخرج بها من هذا العرض هي:
المادة التي كانت تتلقي الكتابة قبل الإسلام أصبحت لا تفي بمتطلبات الحياة الجديد بعد انتشار الإسلام وأن العرب الذين اعتادوا الكتابة عليها قد استبدلوها بأوراق البردي في أول الأمر ثم الكاغد بعد ذلك.
قد وضع بعد ذلك نهاية عهد العسب والأكتاف واللخاف، ولكن ظل الرق يستعمل إلي جانب المواد الاخري من البردي، القباطي، المهارق وحينما عرف الورق أصبح البردي والرق بمثابة مواد فرعية في الكتابة. ولكنهما كانا في طريقهما إلي الاختفاء والاندثار.
ومما يذكر أن العرب الذين تعلموا صناعة الورق عن طريق الصين قد طوروها وعملوا علي تنميتها وصاروا في ذلك بخطوات واسعة، كما كان للعرب فضلاُ في الحفاظ علي التراث الإنساني وخاصة الحضارة الإغريقية واليونانية والآثار العلمية والفلسفية. وكما كانت اللغة العربية هي الوعاء الذي انتقلت أليه تلك الثقافات والحضارات القديمة وعبرت من خلالها إلي دول الغرب.
(1/11)
كذلك كان للأمة العربية الفضل في نقل صناعة الورق إلي أوربا منذ القرن الثاني عشر ميلادياً فقد نقل العرب هذه الصناعة إلي الأندلس وصقلية ومنها إلي باقي الدول مثل فرنسا وإنجلترا.
وبهذا الصدد فالعرب الفضل علي الغرب في هذا النوع من أنواع المعرفة حيث ان أوربا في بداية الأمر استخدمت الكاغد الشامي ثم بعد ذلك انتقلت إليهم صناعة الورق عن طريق العرب.
وقال أحد المستشرقين في ذلك يوضح فضل العرب في هذه الناحية، والمسلمون هم الذين أسسوا أول المصانع لصناعة الورق في اوربا وفي أسبانيا وصقلية، فإن صناعة الورق قد عرفت في المشرق العربي وفي بغداد خاصة في اواخر القرن الثاني الهجري. ولم تلبث إلي أن انتقلت إلي المغرب العربي وعن طريق مراكش زحفت إلي الأندلس وصقلية.
ففي البداية كانت صقلية تستورد الورق من العرب، ثم استوردته جنوه عام 115 ميلادياً. وفي نفس هذا التاريخ وصلت تلك الصناعة إلي أسبانيا ثن إلي إيطاليا أما الفترة ما بين 1268 ميلادية (أي النصف الثاني من القرن الثالث عشر ميلادياً) وحتى عام 1276 ميلادياً فكان انتشار صناعة الورق قد امتد في أوربا وكان ذلك بتأثير المسلمين في صقلية وأخيراً انتقلت تلك الصناعة إلي فرنسا.
مواد الكتابة عند العرب
……قد إستخدم العرب فى الجاهلية مواد تختلف عن تلك التى استخدموها اليونان والرومان وهى :-
أكتاف الإبل ـ عظام الحيوانات ـ اللخاف ( هى الحجارة البيضاء الرقيقة ) ـ الخشب ـ العسب ( جمع عسيب وهى السعفة إذا إنشقت ) ـ الكرانيف ( جمع كرنافة وهى أصل السعفة الغليظة الملتصقة بجذع النخلة ) كما استخدموا أيضاً الرق والاديم ( نوع من الجلد لونة أحمر ) ـ القضيم ( نوع من الجلد لونة أبيض ) ـ وبعد الفتوحات الاسلامية وإختلاطهم بأهالى البلاد المفتوحة استخدموا الحرير فى الكتابة وُسمى المهارق ،،،
(1/12)
……كما استخدموا البردى بعد فتح مصر وتوجد مجموعة عظيمة من البرديات العربية محفوظة بدار الكتب المصرية كدليل على إستخدام العرب للبردى كمادة للكتابة ،،،
……كما ألف المستشرق العالمى (( أدولف جروهمان )) كتاباً عن البرديات العربية وعنوانة (( عالم البرديات العربية )) ولعل ذلك يدلنا على إستخدام البردى وإستمرار إستعماله فى الكتابة فى العصور الوسطى على الرغم من أن الرقوق هى المادة السائدة خلال العصر الوسيط بعد زوال اللفافة البردية القديمة،،،
كما يدلنا أيضاً إستخدام المسلمين للبردى فى أغراض الكتابة كما عرف العرب أيضاً قماش صنعة أقباط مصر للكتابة عليه وعرف باسم القباطى كما كتبوا أيضاً على الجلود وقد كانت معرفتهم للجلد أو الرق قبل البردى وإن لم يستعملوه بكثرة لسهولة محو ما كان يكتب عليه وخشية التزوير أما الحرير فقد كان مادة غالية الثمن ولذلك لم تنتشر بينهم كما تمكن المسلمون من إستخدام الورق فى الكتابة ، ولم تكن أوربا تعرفة بعد عندما ُصنع وجلب من سمرقند ووصل إلى العرب وإنتشر بينهم وخاصة بعد تأسيس مصنع للورق فى بغداد ثم وصلت صناعة الورق إلى مصر فى القرن 10 م وإنتقل بعد ذلك إلى شمال أفريفيا وأوربا عن طريق أسبانيا والاندلس واطلق العرب على الورق القرطاس أو الكاعز كما سمى الورق بأسم البلاد التى صنعته مثل الورق الشامى أو البغدادى أو المصرى.
واستمرت المواد التي استخدمها العرب في الكتابة في العهد الجاهلي حتي العهد الإسلامي، فقد استخدمت في عهد الرسول وصحابته، وقد استخدمت في تدوين القرآن الكريم والحديث الشريف.
وفي عهد البداوة كانت المواد التي يكتب عليها العرب مشتقة من صميم البيئة الصحراوية التي يعيشون فيها، ومن أجل هذا كانت أهم تلك المواد هي:
الحجارة (اللخاف):
(1/13)
وهي الحجارة البيض الرقائق. وقد استخدمها العرب منذ القدم لأنها تعتبر من المواد المتوفرة بكثرة في البيئة الصحراوية، وقد استمر العرب في الكتابة عليها لفترة زمنية طويلة، ولكن نظراً لصلابتها وصعوبة النقش عليها، وصعوبة نقلها من مكان إلي أخر، لذلك حاول العرب إيجاد مواد أخري للكتابة قد يجدوا فيها ما لم يجدوه في الحجارة.
العظام:
كتب العرب علي عظام الإبل والأغنام والماعز، وخاصة عظام الأكتاف والضلوع العريضة، فكتبوا عليها القرآن والحديث والنصوص الأدبية وذلك بعد ظهور الإسلام.
وكان العظم يثقب من أعلاه حتى يتمكن الشخص من جمعه في خيط ليسهل الرجوع إليها.
العسب والكرانيف:
كانت تلك المواد هي أكثر المواد القديمة شيوعاً في الكتابة نظراً لتوافرها في تلك البيئة.
والعسب هو جمع عسبة وهي أوراق السعف وجريد النخيل الذي لا يتجاوز طوله أكثر من قدم ونصف.
الكرانيف وهو جمع كرنافه وهو السعف الغليظ الملتصق بجذع النخلة.
الجلود (الرق- الأديم- القضم)
انتشر استخدام الجلود كمادة للكتابة لدي العرب، ويقصد بالرق هو ما يرقق من الجلود، أما الأديم فهو الجلد الأحمر وبالنسبة للقضم فهو الجلد الأبيض.
وقد كانت صناعة دباغة الجلود منتشرة في جنوب الجزيرة العربية وبصفة خاصة في اليمن.
المهارق:
عبارة عن صحف بيضاء من نسيج من القماش أو كما يعرفها أين منظور "بأنها ثوب أبيض من حرير يسقي بالصمغ ثم يصقل ثم يكتب عليه"
وكان هذا النوع غير منتشر بالجزيرة العربية لأنه كان باهظ الثمن لأنه يستورد من الخارج لهذا السبب لم يستخدم بكثرة لكن اقتصر استخدامه علي الأمور الهامة ولي الفئات الغنية الميسورة من العرب.
الأقمشة (القباطي)
نوع من النسيج يتميز بمجموعة من الخصائص والسمات التي تميزه عن غيره من الأنسجة، وتجعله أهلاً لأن يطلق عليه العرب تلك التسمية المميزة له عن كل نسيج أخر.
الألواح والخشب ولحاء الشجر
(1/14)
استخدم الرومان واليونان قديماً لحاء الشجر والخشب المدهون بطلاء أبيض أو المكسو بالشمع ودونوا عليه نصوصاً قصيرة أو مذكرات موجزة أو رسائل صغيرة. وقد عرفه العرب وكتبوا عليه آيات من القرآن الكريم.
الفخار وبقاياه والشقف والخزف
استخدم الخزف في مصر علي نطاق واسع لتدوين إيصالات الضرائب والحساب والتمرينات المدرسية والرسائل وبعض النصوص الأدبية، والفخار من المواد التي سطرت عليها الكتابة المصرية القديمة.
أما العرب فقد كتبوا عليه في فجر الإسلام. أما اليونان والقبط فكانوا كثيراً ما يكتبون عليه.
الكتان
كان يزرع في مصر منذ أقدم العصور، وكان من المواد التي سطرت عليها الكتابة المصرية القديمة، وكثر استعماله في مصر في فجر الإسلام. وقد اشتهرت بوصير وسمنود بإنتاجهم نوعاً خاصاً من الكتان كمادة يكتب عليها وكانت تصدر إلي الخارج.
ومن أمثلة وأدلة العرب علي استخدام المواد التي كانت مستخدمة في العصر الجاهلي:
قال الزهري: أن الرسول "ص" قد توفي والقرآن في العسبة والقضم والكرانيف.
يروي البخاري في صحيحة أن زيد بن ثابت حين كلفة أبي بكر الصديق بجمع القرآن الكريم أنه ذهب يجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال من حفظة القرآن، وفي رواية أخري أنه جمع الرقاع والأكتاف والعسب واللخاف وصدور الرجال.
يروي في هذا الصدد عن البراءة أحد الصحابة أنه لما نزلت الآية الكريمة " لا يستوي القاعدون من المسلمين" قال له الرسول "ص" أدعوا لي زيداً باللوح والدواة والكتف أو الكتف والدواة.
اما الرق فقد ذكره الله عز وجل في كتابه الكريم بقوله "والطور وكتاب مسطور في رق منشور"
ويروي عن أم سلمه زوج النبي صلوات الله عليه وسلامه أنه دعي بأديم وعلي بن أبي طالب عنده فلم يزل الرسول "ص" يملي عليه وعلي يكتب حتي ملئ بطن الأديم وظهره.
(1/15)
وفي حديث جمع القرآن يروي السجستاني عن مصعب بن سعد أن عثمان بن عفان لما رأي اختلاف القراءات خطب في الناس طالباً من كل واحد منهم أن يحضر ما لديه من القرآن وكان الرجل يجئ بالرق والأديم.
ربما اضطر العرب إلي استعمال مواد أخري للكتابة عليها حتي ولو بصفة مؤقتة عندما يحتاجون للكتابة ولا يجدون ما يكتبون عليه من تلك المواد التي تحدثنا عنها. فنجد ان سعيد بن عبيد قال: كنت أسمع من أبن عمرو الحديث بالليل فأكتبه في واسطة رحلي حتي أصبح وأنسخه. وقال أيضاً كان أبن عباس يملي علي في السقيفة حتى أملاها وأكتب في نعلي وأملاه. ويقال أن الزهري كان يكتب الحديث في ظهر نعله مخافة أن يفوته.
في عهد الخليفة عمر بن الخطاب نجد أن الكتابة قد أصبحت جزءاً أساسياً من أعمال الدولة العربية فقد فتحت الأمصار وكثرت العهود والمواثيق بين المسلمين وغيرهم مما دخلوا في طاعتهم دون حروب، وزادت المراسلات بين الخليفة والولاة في حالات السلم والحرب علي حد سواء ودونت الدواوين ووجدت السجلات التي تدون فيها الأسماء والأرزاق التي تجري علي المسلمين فتوسعت الدولة ومن اجل كل ما سبق زاد الاهتمام بالكتابة في ذلك العهد.
وكان طبيعياً أن تعجز هذه المواد –الخاصة بالكتابة- عن سد احتياجات الدولة الجديدة ومن أجل ذلك كان الفتح العربي لمصر فتحاً لتاريخ الكتابة العربية حيث اتيح للعرب التعرف علي مادتين جديتين للكتابة، وهما أوراق البردي والقباطي.
وكان العرب يطلقون علي البردي عدة تسميات منها حفا وبردي وأبردي و خوص وغاثر... ولكن أكثر تلك التسميات انتشاراً واستخداماً من جانب العرب كانت القرطاس.
وقد ذكر أبن النديم في كتابه الفهرست أن القرطاس كان يعمل من قصب البردي.
والواقع أن القباطى من الممكن إدراجه تحت المهارق علي أنه نوع من أنواع النسيج، وإن كان ينفرد بسمات وخصائص خاصة تميزه عن غيره من الأنسجة وتجعله أهلاً لأن يطلق عليه العرب تلك التسمية.
(1/16)
وفي حقيقة الأمر بفضل هاتين المادتين اللتين فرضتا نفسيهما علي العرب انتقلت الكتابة العربية إلي مرحلة جديدة من مراحل نموها وتطورها. وأوراق البردي المصرية كان يصنع منها كاغد أبيض يقال له القراطيس وكانت هذه القراطيس أحسن ما كتب فيها من مواد والأهم من ذلك أن الحصول علي تلك القراطيس كان يسيراً ومن أجل ذلك لم تلبث الكتابة العربية أن خطت خطواتً واسعة، فأصبحت أكثر الكتابات العربية تكتب علي البردي والقباطي كما يقول جورجي زيدان في كتابه "التمدن الإسلامي"
ولقد ظل البردي والقراطيس المصنوعة منه تتصدر مواد الكتابة التي تحدثنا عنها، بل ظلت هي المادة الرئيسية للكتابة طوال عصر بني أمية وخلال الفترة الأولي من عهد العباسيين.
فقد اصبح البردي في ذلك الوقت في متناول عامة الناس وكان أوراق البردي تصنع علي هيئة لفائف طول الواحد منها كما يوضح السيوطي 30 زراع وعرض شبر.
ويروي أبن المدبر وهو من رحال القرن الثالث الهجري عن طرق إلصاق تلك اللفائف فيقول : " كان الصاقها هو أن يوضع الصمغ العربي في الماء لمدة ساعة ثم يلصق به وكذلك ماء كثيراً أو النشا ستيسن ثم يطوي طياً دقيقاً وتجعله في منديل نظيف ويوضع تحت وسادة حتي يجف.
ويؤكد هذا ما قاله الإمام الشافعي حيث قال: " انه كان يتردد علي المسجد في صباه ويجالس العلماء ليتعلم منهم ولكنه لم يجد ما يشتري به الورق أو القراطيس لكي يكتب عليها ما يتلقاه عن العلماء.
ويقول أيضاً " لما ختمت القرآن دخلت المسجد فكنت أسمع الحديث أو المسائلة فاحفظها ولم يكن عند امي ما تعطيني أشتري به القراطيس فكنت إذا رأيت عظماً يلوح أخذه وأكتب فيه فإذا امتلاء طرحته في جره قديمة كانت لنا"
الورق كمادة للكتابة وتعرف العرب عليها
(1/17)
في العصر العباسي بدأ يظهر الورق كمنافس جديد وخطير للبردي، وبدأت صناعة الورق تدخل إلي الأقطار العربية علي اثر انتصار الجيوش العربية بقيادة حاكم سمرقند علي أخشيد فرغان الذي كان يناصره ملك الصين عام 133 هجريه أي القرن الثاني الهجري.
فقد عاد المسلمون إلي سمرقند بما يقرب من 20 ألف أسير كان من بينهم صينيون يعرفون صناعة الورق وعلي أكتاف هؤلاء الأسري قامت صناعة الورق في سمرقند، ثم انتشرت في العالم العربي كله.
أقام الفضل أبن يحي البرمكي وزير هارون الرشيد مصنعاً للورق في بغداد ومن بعده قام أخوه جعفر البرمكي باستخدام الورق بدلاً من الرقوق في الدواوين.
يوضح القلقشندى في هذا الخصوص قائلاً عندما تولي الرشيد الخلافة وقد كثر الورق وانتشر أمره بين الناس فأمر الا يكتب الناس إلا في الكاغد لان الجلود ومثيلاتها تقبل المحو وإعادة الكتابة عليها مرة أخري وبالتالي تقبل التزوير، بخلاف الورق الذي إذا تم محو الكتابة عليه ظهر المحو وإذا كشط ظهر مكان الكشط. لذلك استمر الناس في الكتابة علي الكاغد حتى الآن.
ويبدو أن صناعة الورق قد ظلت منحصرة في العراق لفترة من الزمن لانها عاصمة الخلافة العباسية وبلاد ما وراء النهر حتى أوائل القرن الرابع الهجرى.
ويذكر الثعالبي أن الكواغيد التي تأتي من سمرقند قد عطلت قراطيس مصر والجلود لأنها أحسن وانعم وأوفر وأرقق.
وأشار أبن حوقل في أواخر القرن الرابع الهجري أن الكاغد لا نظير له في الجودة والكثرة ولكن تلك الصناعة ما لبثت ما انتقلت من العراق إلي الشام وفلسطين منذ منتصف القرن الرابع الهجري إلا أن كواغيد سمرقند ظلت محتفظة بجودتها وتفوقت علي غيرها مما كان يصنع في الشام أو دمشق أو فلسطين.
(1/18)
وغير أن صناعة الورق بالشام ما لبثت أن تقوقت علي مر الزمن حتى أصبحت تنافس كواغيد سمرقند فيذكر أحد الرحالة وقد زار طرابلس الشام عام 438 هجرياً ويدعي ناصر حضرو حيث قال أن كواغيد اهل طرابلس التي يصنعون منها الورق الجديد هي مثل الورق السمرقندي بل وأحسن منه"
ومن الشام انتقلت تلك الصناعة إلي المغرب العربي ومنه عبرت البحر إلي الأندلس وأسبانيا حيث يصنع الورق الجيد كما ذكر ياقوت الحموي في كتابة معجم البلدان.
أما بالنسبة لمصر فلم تدخلها صناعة الورق إلا متأخراً لأنه كان لديه ورق البردي والقراطيس والقباطي الذين وجدوا فيه عوضاً عن الكاغد الذي لم يعرفوه في القرون الأولي للهجرة إلا مستورداً أو علي نطاق ضيق الحدود.
وقال أبن قباري أنه كان يأتي إلي طبقة الحكام أما الطبقة العامة فقد كانت تستعمل البردي، ومعني ذلك أن الورق في مصر كان قليلاً ونادراً حتى القرن الخامس الهجري. أما العرب فقد صنعوا الورق منذ أواخر القرن الثاني الهجري وأنهم تعلموا صناعته من الصينيون الذين كانوا يمارسونها منذ القرن الثاني الميلادي.
ولعل لفظ الكاغد الذي كان يطلقه العرب أول معرفتهم به هو لفظ صيني دخل إليهم عن طريق اللغة الفارسية.
وبظهور صناعة الورق في آفاق الحياة العربية يدخل المخطوط العربي مرحلة جديدة من مراحل نموه وتطوره وهي مرحلة خصبة تمتاز بكثرة الإنتاج ووفرته وسهولة تداوله بين القادرين.
(1/19)
علي ان ظهور الورق في العالم العربي واستخدامه في الكتابة ثم صناعته في بغداد كل ذلك لم يؤدي إلي اختفاء البردي وغيره من مواد الكتابة بين يوم وليلة، وذلك علي الرغم من تفوق الورق علي غيره من مواد الكتابة إلا أنه لم يكن تفوقاً حاسماً حتي القرن الثالث الهجري، فقد كانت الرقوق موجودة بجانب الورق وكان هناك من يفضلها عن الورق وكانت مستخدمة في الأشياء الحيوية كالمواثيق والعهود. وفي هذا الصدد نذكر أن أحمد بن بديل الكوفي المتوفي عام 258 هجريه أبي أن يكتب عنه حديث رسول الله (ص) في قرطاس بمداد واشترط ان يكتب في رق بحبر تشريفاً له وتعظيماً.
أما في المغرب العربي لم يكن نبات البردي يزرع في هذه المنطقة فظل الرق هو المادة الغالبة في الاستعمال ختى بعد القرن الرابع الهجري. فيشير المقدسي في عام 357 هجرياً أن امنغاربة كانت كل مصاحفهم وكل دفاترهم مكتوبة في رقوق.
والخلاصة التي يمكن أن نخرج بها من هذا العرض هي:
المادة التي كانت تتلقي الكتابة قبل الإسلام أصبحت لا تفي بمتطلبات الحياة الجديد بعد انتشار الإسلام وأن العرب الذين اعتادوا الكتابة عليها قد استبدلوها بأوراق البردي في أول الأمر ثم الكاغد بعد ذلك.
قد وضع بعد ذلك نهاية عهد العسب والأكتاف واللخاف، ولكن ظل الرق يستعمل إلي جانب المواد الاخري من البردي، القباطي، المهارق وحينما عرف الورق أصبح البردي والرق بمثابة مواد فرعية في الكتابة. ولكنهما كانا في طريقهما إلي الاختفاء والاندثار.
ومما يذكر أن العرب الذين تعلموا صناعة الورق عن طريق الصين قد طوروها وعملوا علي تنميتها وصاروا في ذلك بخطوات واسعة، كما كان للعرب فضلاُ في الحفاظ علي التراث الإنساني وخاصة الحضارة الإغريقية واليونانية والآثار العلمية والفلسفية. وكما كانت اللغة العربية هي الوعاء الذي انتقلت أليه تلك الثقافات والحضارات القديمة وعبرت من خلالها إلي دول الغرب.
(1/20)
كذلك كان للأمة العربية الفضل في نقل صناعة الورق إلي أوربا منذ القرن الثاني عشر ميلادياً فقد نقل العرب هذه الصناعة إلي الأندلس وصقلية ومنها إلي باقي الدول مثل فرنسا وإنجلترا.
وبهذا الصدد فالعرب الفضل علي الغرب في هذا النوع من أنواع المعرفة حيث ان أوربا في بداية الأمر استخدمت الكاغد الشامي ثم بعد ذلك انتقلت إليهم صناعة الورق عن طريق العرب.
وقال أحد المستشرقين في ذلك يوضح فضل العرب في هذه الناحية، والمسلمون هم الذين أسسوا أول المصانع لصناعة الورق في اوربا وفي أسبانيا وصقلية، فإن صناعة الورق قد عرفت في المشرق العربي وفي بغداد خاصة في اواخر القرن الثاني الهجري. ولم تلبث إلي أن انتقلت إلي المغرب العربي وعن طريق مراكش زحفت إلي الأندلس وصقلية.
ففي البداية كانت صقلية تستورد الورق من العرب، ثم استوردته جنوه عام 115 ميلادياً. وفي نفس هذا التاريخ وصلت تلك الصناعة إلي أسبانيا ثن إلي إيطاليا أما الفترة ما بين 1268 ميلادية (أي النصف الثاني من القرن الثالث عشر ميلادياً) وحتى عام 1276 ميلادياً فكان انتشار صناعة الورق قد امتد في أوربا وكان ذلك بتأثير المسلمين في صقلية وأخيراً انتقلت تلك الصناعة إلي فرنسا.
المحاضرة الرابعة
تطور أدوات الكتابة
المحاضرة الرابعة
تطور أدوات الكتابة
لاشك أن الأدوات التي استخدمت في الكتابة العربية قد تطورت هي الاخري بتطور الزمن، وتغير ظروف المجتمع فقبل أن يعرف العرب الأقلام التي ظهرت مؤخراً كانوا يستعملون آلات حادة ينقشون بها كلماتهم في الحجارة أو علي اللحاء أو الأقطان وربما استخدموا السكين في النقش.
(1/21)
لا شك أن العرب قد عرفوا الأقلام وكتبوا بها منذ العصر الجاهلي، والقرآن الكريم يذكر كلمة القلم مفرداً أو جماعاً فقال تعال " ن والقلم وما يسطرون" فالأقلام كانت معروفة كما جاء في القرآن الكريم وكان لها دلاله واضحة ومحددة في أذهان العرب منذ عصر النبوة وربما قبل عصر النبوة، ولقد كان العرب يطلقون علي القلم لفظ اليراع أو القصب أو المذبر، والمذبر هو القلم كما قال الزمخشري.
وفي حديث ابي بكر الصديق أنه دعا في طلبه الدواة والمذبر فكتب اسم الخليفة من بعد أي الخليفة عمر بن الخطاب الذي تولي الخلافة بعده.
وكانت الأقلام العربية الأولي تصنع من السعف او الغاب أو القصب فكان الغاب أو القصب يخط ويقلم أو يبري ثم يغمس في المداد ويكتب به وكان لا بد أن تكون الأقلام صلبة ومعتدلة وقليلة العقد.
ومن أدوات الكتابة الأخري غير الأقلام نذكر:
المدية
هي السكين التي يبري بها الأقلام، وكان ينصح بعدم استخدامها في غير البراية حتى لا تكل ولا تخدش.
المقط أو المقسمة
هي قطعة صلبة يبري عليها القلم واشترط فيها أن تكون ملساء وصلبة غير خشنة حتى لا يتشظي القلم
المقلمة
هي المكان الذي يوضع فيه الأقلامسواء كان من نفس الدواة أو تختلف عنها
الممسحة
هي آلة تتخذ عادة من خرق الكتان بطانة لها وهي من الصوف أو نحوه.
المداد أو الدوى
المداد في الأصل بقصد به " كل شئ يمد به" ثم كثر الاستخدام لما تمد به الدواة فغلب كل شئ غيره فإذا قيل المداد فلم يعرف شي سواه.
والحبر نوع من أنواع المداد ولكنه ملون وقد سمي الحبر بهذا الاسم لتحسين الخط لقول العرب "حبرت الشئ تحبيراً أو حبرته حبراً" أي زينته وحسنته.
وكما كان الورق يجلب من الصين كان المداد هو أيضاً يتم احضاره من الصين.
(1/22)
صنع بعد ذلك العرب المداد من العفص (شجر البلوط) والصمغ، الزان أو من الدخان. وكل نوع من أنواع المداد يصلح للكتابة علي مادة معينة من مواد الكتابة، فعلي سبيل المثال الدخان لا تصلح الكتابة به علي الجلد أو الرق وذلك لأنه سريع الزوال منها.
وكان اللون الأسود دائماً هو اللون المفضل والمستحب لدي العرب ويرجع بعض العلماء تلك الظاهرة إلي ما يوجد بين اللون الأسود ولون الصحيفة من تضاد مما يساعد علي ظهور الكتابة في أوضح صورة ممكنة.
كما ان صناعة المداد الأسود كانت أيسر بكثير من صناعة المداد الملون لأنها لم تكن تحتاج إلي ألوان أو أصباغ. ففي القرون الأولي كان العرب يتخذون المداد الأسود من العفص والزان والصمغ وهذا لا يحتاج إلا للجهد القليل بينما تحتاج صناعة المداد الملون إلي ألوان ومواد كيماوية وربما لم تكن ميسورة في ذلك الزمان البعيد.
الدواة أو المحبرة
فهما بمعني واحد وهي الآلية التي توضع فيها الحبر من خزف كانت أو من قوارير وقد فرق القلقشندى في كتابة " صبح الأعشي في صناعة الإنشا" بين الدواة والمحبرة فجعل الدواة أعم من المحبرة وجعل المحبرة بمحتوياتها الثلاث (جونة، ليقة، مداد) آلة من الآلات التي تحتوي عليها الدواة.
الجونة: هي الظرف الذي توجد فيه الليقة والحبر وقد تنبه العرب إلي أن الشكل المربع يتكاثف فيه المداد في زواياه فيفسد نتيجة لذلك، ونصحوا أن تكون الجونة في شكل مستدير
الليقة: يسميها العرب الكرسف، تسمية لها من القطن الذي تتخذ منه في بعض الأحيان، فأحيانا تكون من القطن أو من الحرير أو من الصوف.
المرواق
فهو الآلة التي تدار بها الدواة أي تحرك به الليقة والمسقاة التي يصب بواستطها الماء في المحبرة.
إذاً يمكن القول أنه في العصر الجاهلي وخلال القرون الأولي للإسلام كانت الدواة تصنع من الخشب أو من المعدن من النحاس أو الحديد وربما صنعت من الفخار أو من مادة زجاجية.
(1/23)
والأوصاف المستحبة للدواة هي أن تكون متوسطة في قدرها وسطاً في قدها لا باللطيفة جداً فتكسر أقلامها ولا بالكبيرة فيثقل حملها.
وعلي أي حال تلك هي الأدوات التي استعملها العرب في المتابة منذ أن بدو يكتبون في العصر الجاهلي إلي ان استوت كتباتهم في شكلها النهائي الذي احتفظت به علي مر السنين والأيام.
ولكن ما مكان المخطوط بين هذه المواد أو بمعني أخر ما هي المواد الأولي التي بدأ العرب يسجلون عليها مخطوطاتهم وما هي أهم سمات الطريق الذي قطعه المخطوط حتى استوي في الصورة الحالية؟
فلا شك أنه كما ذكرنا من قبل أن مرحلة الكتابة علي العسب والكرانيف والأكتاف..... سواء كان ذلك بآلة حادة او بمادة طباشيرية أو بمواد من الطبيعة كل ذلك كان مرحلة سابقة لنشأة المخطوط العربي.
والكتاب العربي المخطوط كان في أول عهده بالوجود كان يكتب علي الرق حيث أن القرآن الكريم هو أقدمك المخطوطات العربية الإسلامية، وقد تم جمعه من العسب والاضلاع والأكتاف ولكنه كتب وتم تدوينه علي الرق، واتخذ شكل المصحف اشتقاقاً من الصحف.
ثم ما لبث المخطوط العربي أن وجد في أوراق البردي المصرية مادة طيعة له وذلك بعد فتح مصر وانتشار هذه المادة من مواد الكتابة في العالم العربي.
ولكن الكتابة علي البردي لم تضع نهاية لعهد الكتابة علي الرق بينما ظلت المادتان جنباً إلي جنب وإن كان لكل منهما استعمالاته المفضلة.
فالرق أبقي دواماً ولكنه أغلي ثمناً وأكثر تعرضاً للتحريف والتبديد والتزوير.
والبردي أقل احتمالاً لعوامل البلي والضياع أو التلف ولكنه أيسر في التداول والتناول وأضمن بقاء للنص المسجل عليه وغير تحريف أو تبديد لانه لا يحتمل القشط دون ان يتمزق أو علي الأقل تظهر آثار وأضحة فيه.
وهكذا ظل المحدود العربي محدود أو مقتصراً علي هاتين المادتين خلال القرن الأول ونصف القرن الثاني الهجري.
(1/24)
ثم حدث اعظم تطور في تاريخ المخطوطات العربية وهو الانتقال إلي عصر الورق أو الكاغد بعد أن اتيح للعرب أن يتصلوا بغيرهم من أصحاب الحضارات الأخري سواء عن طريق التجارة أو عن طريق الفتح.
وبعد أن عرفوا الورق مجلوباً من خارج بلادهم أول الأمر ثم مصنوعاً بداية من بغداد حيث أمر يحيي البرامكي بإنشاء مصنع للورق فيها ومنها إلي جميع مراكز الحضارة الإسلامية.
وعلي هذه المواد الثلاث (الرق والبردي والورق) كتب العرب مخطوطاتهم بالمداد والأقلام القصبية وكانت المحابر هي أهم عداد طلبة العلم.
فيقول ياقوت الحموي في كتابه "معجم البلدان" يروي أن أبن خليل الطبري وهو عالم وفقيه ومحدث حين قدم إلي بغداد في عام 259 هجرية قصدة للحنابلة فسألوه عن أحمد بن حنبل وعن حديث الجلوس علي العرش فقال الطبري كما يقول الحموي أما أحمد فلا يعد خلافهم أما حديث الجلوس علي العرش فمحال، فوثب عليه الحنابلة وأصحاب الحديث ورموه بالمحابر وكانت الوفاة.
وقد احصيت محابر الحاضرين في مجلس أبي مسلم الكاجي المتوفي في أواخر القرن الثالث الهجري فبلغت كما قالوا أكثر من أربعين ألف محبرة.
تلك هي الصورة لأقدم المواد التي استخدمها العرب للكتابة عليها وللأدوات التي كتبوا بها والتي تمثل أحد الأركان التي لا بد من توافرها لوجود الكتب في أمة من الأمم.
تطور أدوات الكتابة
لاشك أن الأدوات التي استخدمت في الكتابة العربية قد تطورت هي الاخري بتطور الزمن، وتغير ظروف المجتمع فقبل أن يعرف العرب الأقلام التي ظهرت مؤخراً كانوا يستعملون آلات حادة ينقشون بها كلماتهم في الحجارة أو علي اللحاء أو الأقطان وربما استخدموا السكين في النقش.
(1/25)
لا شك أن العرب قد عرفوا الأقلام وكتبوا بها منذ العصر الجاهلي، والقرآن الكريم يذكر كلمة القلم مفرداً أو جماعاً فقال تعال " ن والقلم وما يسطرون" فالأقلام كانت معروفة كما جاء في القرآن الكريم وكان لها دلاله واضحة ومحددة في أذهان العرب منذ عصر النبوة وربما قبل عصر النبوة، ولقد كان العرب يطلقون علي القلم لفظ اليراع أو القصب أو المذبر، والمذبر هو القلم كما قال الزمخشري.
وفي حديث ابي بكر الصديق أنه دعا في طلبه الدواة والمذبر فكتب اسم الخليفة من بعد أي الخليفة عمر بن الخطاب الذي تولي الخلافة بعده.
وكانت الأقلام العربية الأولي تصنع من السعف او الغاب أو القصب فكان الغاب أو القصب يخط ويقلم أو يبري ثم يغمس في المداد ويكتب به وكان لا بد أن تكون الأقلام صلبة ومعتدلة وقليلة العقد.
ومن أدوات الكتابة الأخري غير الأقلام نذكر:
المدية
هي السكين التي يبري بها الأقلام، وكان ينصح بعدم استخدامها في غير البراية حتى لا تكل ولا تخدش.
المقط أو المقسمة
هي قطعة صلبة يبري عليها القلم واشترط فيها أن تكون ملساء وصلبة غير خشنة حتى لا يتشظي القلم
المقلمة
هي المكان الذي يوضع فيه الأقلامسواء كان من نفس الدواة أو تختلف عنها
الممسحة
هي آلة تتخذ عادة من خرق الكتان بطانة لها وهي من الصوف أو نحوه.
المداد أو الدوى
المداد في الأصل بقصد به " كل شئ يمد به" ثم كثر الاستخدام لما تمد به الدواة فغلب كل شئ غيره فإذا قيل المداد فلم يعرف شي سواه.
والحبر نوع من أنواع المداد ولكنه ملون وقد سمي الحبر بهذا الاسم لتحسين الخط لقول العرب "حبرت الشئ تحبيراً أو حبرته حبراً" أي زينته وحسنته.
وكما كان الورق يجلب من الصين كان المداد هو أيضاً يتم احضاره من الصين.
(1/26)
صنع بعد ذلك العرب المداد من العفص (شجر البلوط) والصمغ، الزان أو من الدخان. وكل نوع من أنواع المداد يصلح للكتابة علي مادة معينة من مواد الكتابة، فعلي سبيل المثال الدخان لا تصلح الكتابة به علي الجلد أو الرق وذلك لأنه سريع الزوال منها.
وكان اللون الأسود دائماً هو اللون المفضل والمستحب لدي العرب ويرجع بعض العلماء تلك الظاهرة إلي ما يوجد بين اللون الأسود ولون الصحيفة من تضاد مما يساعد علي ظهور الكتابة في أوضح صورة ممكنة.
كما ان صناعة المداد الأسود كانت أيسر بكثير من صناعة المداد الملون لأنها لم تكن تحتاج إلي ألوان أو أصباغ. ففي القرون الأولي كان العرب يتخذون المداد الأسود من العفص والزان والصمغ وهذا لا يحتاج إلا للجهد القليل بينما تحتاج صناعة المداد الملون إلي ألوان ومواد كيماوية وربما لم تكن ميسورة في ذلك الزمان البعيد.
الدواة أو المحبرة
فهما بمعني واحد وهي الآلية التي توضع فيها الحبر من خزف كانت أو من قوارير وقد فرق القلقشندى في كتابة " صبح الأعشي في صناعة الإنشا" بين الدواة والمحبرة فجعل الدواة أعم من المحبرة وجعل المحبرة بمحتوياتها الثلاث (جونة، ليقة، مداد) آلة من الآلات التي تحتوي عليها الدواة
الجونة: هي الظرف الذي توجد فيه الليقة والحبر وقد تنبه العرب إلي أن الشكل المربع يتكاثف فيه المداد في زواياه فيفسد نتيجة لذلك، ونصحوا أن تكون الجونة في شكل مستدير
الليقة: يسميها العرب الكرسف، تسمية لها من القطن الذي تتخذ منه في بعض الأحيان، فأحيانا تكون من القطن أو من الحرير أو من الصوف.
المرواق
فهو الآلة التي تدار بها الدواة أي تحرك به الليقة والمسقاة التي يصب بواستطها الماء في المحبرة.
إذاً يمكن القول أنه في العصر الجاهلي وخلال القرون الأولي للإسلام كانت الدواة تصنع من الخشب أو من المعدن من النحاس أو الحديد وربما صنعت من الفخار أو من مادة زجاجية.
(1/27)
والأوصاف المستحبة للدواة هي أن تكون متوسطة في قدرها وسطاً في قدها لا باللطيفة جداً فتكسر أقلامها ولا بالكبيرة فيثقل حملها.
علي أي حال تلك هي الأدوات التي استعملها العرب في المتابة منذ أن بدو يكتبون في العصر الجاهلي إلي ان استوت كتباتهم في شكلها النهائي الذي احتفظت به علي مر السنين والأيام.
ولكن ما مكان المخطوط بين هذه المواد أو بمعني أخر ما هي المواد الأولي التي بدأ العرب يسجلون عليها مخطوطاتهم وما هي أهم سمات الطريق الذي قطعه المخطوط حتى استوي في الصورة الحالية؟
فلا شك أنه كما ذكرنا من قبل أن مرحلة الكتابة علي العسب والكرانيف والأكتاف..... سواء كان ذلك بآلة حادة او بمادة طباشيرية أو بمواد من الطبيعة كل ذلك كان مرحلة سابقة لنشأة المخطوط العربي.
الكتاب العربي المخطوط كان في أول عهده بالوجود كان يكتب علي الرق حيث أن القرآن الكريم هو أقدمك المخطوطات العربية الإسلامية، وقد تم جمعه من العسب والاضلاع والأكتاف ولكنه كتب وتم تدوينه علي الرق، واتخذ شكل المصحف اشتقاقاً من الصحف.
ثم ما لبث المخطوط العربي أن وجد في أوراق البردي المصرية مادة طيعة له وذلك بعد فتح مصر وانتشار هذه المادة من مواد الكتابة في العالم العربي.
ولكن الكتابة علي البردي لم تضع نهاية لعهد الكتابة علي الرق بينما ظلت المادتان جنباً إلي جنب وإن كان لكل منهما استعمالاته المفضلة.
فالرق أبقي دواماً ولكنه أغلي ثمناً وأكثر تعرضاً للتحريف والتبديد والتزوير.
والبردي أقل احتمالاً لعوامل البلي والضياع أو التلف ولكنه أيسر في التداول والتناول وأضمن بقاء للنص المسجل عليه وغير تحريف أو تبديد لانه لا يحتمل القشط دون ان يتمزق أو علي الأقل تظهر آثار وأضحة فيه.
وهكذا ظل المحدود العربي محدود أو مقتصراً علي هاتين المادتين خلال القرن الأول ونصف القرن الثاني الهجري.
(1/28)
ثم حدث اعظم تطور في تاريخ المخطوطات العربية وهو الانتقال إلي عصر الورق أو الكاغد بعد أن اتيح للعرب أن يتصلوا بغيرهم من أصحاب الحضارات الأخري سواء عن طريق التجارة أو عن طريق الفتح.
وبعد أن عرفوا الورق مجلوباً من خارج بلادهم أول الأمر ثم مصنوعاً بداية من بغداد حيث أمر يحيي البرامكي بإنشاء مصنع للورق فيها ومنها إلي جميع مراكز الحضارة الإسلامية.
وعلي هذه المواد الثلاث (الرق والبردي والورق) كتب العرب مخطوطاتهم بالمداد والأقلام القصبية وكانت المحابر هي أهم عداد طلبة العلم.
فيقول ياقوت الحموي في كتابه "معجم البلدان" يروي أن أبن خليل الطبري وهو عالم وفقيه ومحدث حين قدم إلي بغداد في عام 259 هجرية قصدة للحنابلة فسألوه عن أحمد بن حنبل وعن حديث الجلوس علي العرش فقال الطبري كما يقول الحموي أما أحمد فلا يعد خلافهم أما حديث الجلوس علي العرش فمحال، فوثب عليه الحنابلة وأصحاب الحديث ورموه بالمحابر وكانت الوفاة.
وقد احصيت محابر الحاضرين في مجلس أبي مسلم الكاجي المتوفي في أواخر القرن الثالث الهجري فبلغت كما قالوا أكثر من أربعين ألف محبرة.
تلك هي الصورة لأقدم المواد التي استخدمها العرب للكتابة عليها وللأدوات التي كتبوا بها والتي تمثل أحد الأركان التي لا بد من توافرها لوجود الكتب في أمة من الأمم.
الكتابة العربية وتطورها
الكتابة العربية في العصر الجاهلي
علي الرغم من قلة النقوش والآثار الكتابية التي كتبت بحروف عربية أو قريبة من الصورة العربية إلا أن ما تم العثور عليه من نقوش نبطية في شمال الحجاز تمثل مراحل تطور الخط النبطي الآرامي إلي الصورة العربية وتقطع –تؤكد- بأن الخط العربي الذي كتب به القرآن الكريم قد تولد عن الخط النبطي، وهي في نفس الوقت تدل علي أن الكتابة العربية قد وجدت في شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام.
(1/29)
وليست الأمة العربية في ذلك بدعاً من الأمم، ففي العالم القديم عرف القدماء المصريين الكتابة قبل الميلاد بما يقرب من ثلاثة آلاف عام، كما عرفها الحيثيين والكنعانيون.
ولكن علي الرغم من معرفة العرب للكتابة قبل الإسلام إلا أنها لم تكن تستعمل إلا في أضيق الحدود، ربما يرجع السبب في ذلك إلي كونهم أمة امية تعيش في حياة بدوية لا تحتاج إلي الكتابة، بعبارة أخري لا تمثل الكتابة مظهراً أساسياُ من مظهر الحياة عندهم. وربما لتعذر الحصول علي أدوات الكتابة ووسائلها في ذلك الحين.
ولكن الشي الذي لا شك فيه هو أن العرب قد عرفوا الكتابة واستعملوها في جاهليتهم بدليل ما عثر عليه المنقبون في صحرائهم من نقوش وحفريات وما سجله التاريخ من اشعار.
ويروي عن الواقدي أن الإسلام جاء وفي قبيلتي الأوس والخزرج احد عشر رجلاً يكتبون، وفي قريش سبعة عشر رجلاً يعرفون الكتابة كما يقول البلازي.
والقرآن الكريم نفسه يثبت معرفة العرب للكتابة قبل الإسلام في أكثر من موضع. ويحدثنا القرآن الكريم بأن العرب وهم بصدد إنكارهم للإسلام قد طالبوا الرسول "ص" بأن ينزل عليهم كتاباً من السماء يقرؤونه.
ولم تكن الكتابة في العصر الجاهلي مقصورة علي النصوص الدينية وإنما استعملوها أيضاً في تسجيل عهودهم وأحلافهم، فصحيفة المقاطعة التي كتبتها قريش والتزمت فيها بمقاطعة بني هاشم وبني المطلب في أول العهد الإسلامي معروفة ومشهورة.
كتابة الأحلاف وصكوك الدين والرسائل الشخصية في العصر الجاهلي ليست شيئاً بالقياس إلي كتابة الشعر الجاهلي لأنه كان من الكثرة والثراء بحيث يصبح تدوينه حدثاً خطيراً في تاريخ الكتابة العربية.
فهل كان هذا الشعر يدون في العصر الجاهلي؟
(1/30)
يرجع ان مثل تلك الأشعار كانت رسائل شفوية يحملها الشعراء إلي من يلقونه ليبلغها إلي القبيلة لأن الكتابة لم تكن شائعة بين القوم في تلك البيئة البدوية، ولأن وسائل الكتابة وأدواتها لم تكن من الانتشار والشيوع بحيث تتوافر بسهوله.
وهنا تبرز مسألة دار حولها جدل كثير وهي قضية كتابة المعلقات، فقد زعم قوم أن العرب علقوا بين أستار الكعبة سبع قصائد تخيرتها من الشعر القديم. والأمر في حقيقته ليس أكثر من تفسير أفسد به المتأخرون معني كلمة المعلقات. فلفظ المعلقات ليس مشتقاً من التعليق وإنما من مادة العلق، والعلق في اللغة هو الشئ النفيس.
ولعل السبب في ظهور قصة كتابة المعلقات وتعليقها في الكعبة إلي أن الجاهلين كانوا يعلقون كل صحيفة ذي خطر (أهمية) في جوف الكعبة مثل صحيفة المقاطعة.
الشعر الجاهلي لم يدون في الجاهلية وإنما ظل يحفظ في الصدور حتى دون في أواخر العصر الأموي.
ولو أن الشعراء كانوا يدونون أشعارهم في الجاهلية ما طالعتنا تلك الظاهرة التي لا توجد إلا حيث ينعدم التدوين ونعني بها ظاهرة الرواة الذين كانوا أبواقاً للشعراء يذيعون اشعارهم في الناس.
اكبر الظن ان العرب لم يتواجد لديهم في العصر الجاهلي نصوص جمع بعضها إلي بعض علي هيئة كتب غير النصوص الدينية. بدليل أننا نجد لفظ الكتاب يتردد كثيراً في القرآن الكريم معرفاً أحياناًً ونكرة أحياناً أخري. ولم يكن يعني غير الكتب السماوية التي تحمل رسائل الله إلي البشر وأن العرب لم يعرفوا من قبل كتباً تعالج أمراً من أمور الدنيا.
ولعل هذا يفسر إطلاق لفظ أهل الكتاب علي أصحاب الديانات السماوية التي سبقت الإسلام.
الكتابة في عهد الرسول والخلفاء الراشدين
(1/31)
في عصر الرسول الكريم نجد أن الكتابة كظاهرة قد بدأت تنتشر ويتوسع استعمالها. فأول آية نزلت في القرآن الكريم تشيد بفضل الكتابة حيث يقول سبحانه وتعالي " اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم".
ولله سبحانه وتعالي يقسم بالقلم حيث يقول "ن والقلم وما يسطرون" وبالكتاب حيث يقول تعالي " والطور وكتاب مسطور في رق منشور".
كما يحث القرآن الكريم صراحة علي استخدام الكتابة بين المعاملات بين الناس.
ظهور الإسلام يعني بدابة مرحلة جديدة من مراحل تاريخ الكتابة العربية، فقد كان الدين الجديد في حاجة إلي كُتاب يدونون آيات الكتاب الكريم، ويكتبون الرسائل التي يبعث بها الرسول الكريم "ص" إلي شتي بقاع الأرض.
فقد أتخذ الرسول "ص" كُتاباً يكتبون له الوحي وفي مقدمتهم عثمان بن عفان، علي بن أبي طالب، زيد بن ثابت، أُبي بن كعب.
واتخذ الرسول "ص" كذلك كُتاباً يكتبون له حوائجه منهم معاوية بن أبي سفيان، سعيد بن العاص.
وقد كان المغيرة بن شعبة والحصين بن نمير يكتبان ما بين الناس. وعبد الله بن الأرقم والعلاء بن عقبة الحضرمي يكتبان بيم القوم في قبائلهم وفي دور الأنصار بين الرجال والنساء.
بالنسبة لأموال الصدقات فقد كان يكتبها الزبير بن العوام وجهم بن الصلت. أما مغانم الرسول "ص" فكان يكتبها قعيقب بن أبي فاطمة وحليف بني أسد، وكان حنظلة بن الربيع خليفة أو بديل لكل كاتب من كُتاب الرسول "ص" إذا ما غاب عن عمله.
وهذا التخصص في أنواع الكُتاب في حد ذاته دليل علي انتشار الكتابة وكثرة الكُتاب، ولقد بلغ من كثرة كُتاب الرسول الكريم "ص" أن اختلف في عددهم.
(1/32)
وقد حث الرسول "ص" علي تعلم القراءة والكتابة كأداة لمعرفة الدين ووسيلة لنشرة، كما أنه حث بعض أصحابه علي تعلم لغات الأمم والشعوب الأخري حيث أمر زيد بن ثابت بأن يتعلم كتابة اليهود حتى يطمئن إلي أنهم لن يحرفوا كتبه التي يبعث بها إليهم...
وقد قيل أن زيد تعلم الفارسية والقبطية والحبشية.
كتابة الأحاديث
قد نهي الرسول عن كتابة شي سوي القرآن الكريم، فقد قال "لا تكتبوا عني ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني فلا حرج ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار"
ويرجع الخطيب التعدادي ذلك إلي سببين:
السبب الأول: الخشية من أن يضاهي بكتاب الله تعالي غيره أو ينشغل عن القرآن بسواه.
السبب الثاني: الخوف من الاتكال علي الكتابة وترك الحفظ وخاصة في تلك الفترة الأولي التي كان الإسناد فيها قريباً.
وأكبر الظن أن نهي الرسول الكريم "ص" عن الكتابة لم يكن مطلقاً بدليل معني كلمة "عني" التي وردت في نص الحديث الشريف. وذلك خشية أن يخلط المسلمون بين كلامه "ص" وكلام رب العالمين.
نخرج من هذا كله بأن الكتابة كانت موجودة ومستخدمة في عهد الرسول "ص" وصحابته الأولين، وبدأت تنتشر بانتشار الإسلام.
ولم تلبث دواعي التدوين أن فرضت نفسها علي العرب نتيجة لانتشار الروايات وتشعب الأسانيد وكثرة أسماء الرجال وأنسابهم مما جعل الحفظ أمراً عسيراً، وبدأت حركة التدوين مع أوائل القرن الثاني، أما فلا خلال القرن الإسلامي الأول فكان التدوين محدوداًُ إذا استثنينا كتاب الله عز وجل.
كتابة المصحف
(1/33)
كتابة المصحف أمراً خطيراً، فالقرآن لم ينزل علي الرسول "ص" دفعة واحدة، وإنما نزل علي مراحل طوال ثلاثة وعشرين عاماً. وعلي الرغم من أن القرآن قد كتب كله في عهد الرسول "ص" إلا أنه كان موزعاً علي أماكن متعددة ومتفرقة. ولم يجمع له نص مكتوب وكاملاً إلا في عهد الخليفة أبي بكر الصديق, وذلك عندما استشهد عدد كبير من حفظة القرآن الكريم في يوم اليمامة، ففزع عمر بن الخطاب واقترح علي أبي بكر الصديق جمع القرآن الكريم، فتردد أبي بكر وتحرج من ان يقوم بعمل لم يُقدم عليه رسول الله "ص" فقال له عمر بن الخطاب "هو وتالله خير" حتي شرح الله له صدره، وأرسل إلي زيد بن ثابت يطلب منه تتبع القرآن وجمعة فيتردد زيد أيضاً وقد كان زيد يقول "والله لو كلفوني بنقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن". وذلك قبل أن يشرح الله له صدره، فتتبع القرآن وجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال من حفظة القرآن الكريم. وقد وجد أخر سورة التوبة مع رجل وأحد وهو أُبي بن خزيمة الأنصاري.
وهكذا تم جمع القرآن الكريم وظلت الصحف مع أبي بكر يحتفظ بها حتى توفاه الله فانتقلت الأمانة إلي خليفته عمر بن الخطاب ومن بعده آلت إلي أم المؤمنين حفصة بنت عمر، وبقيت عندها إلي أن وقع الخلاف بين القراء حيت التقي الشاميون بالحجازيين والعراقيين في فتح أرمينية وأذربيجان وقرأ كل منهم قراءته. وحين رأي حذيفة بن اليمان الذي حدث ذهب إلي الخليفة عثمان بن عفان ووصف له ما حدث فارسل عثمان إلي حفصة لترسل له الصحف لكي ينسخها في المصاحف ويرسلها إلي الآفاق.
وقد اختلف في عدد المصاحف التي أرسلها عثمان بن عفان إلي الآفاق أو الأقطار فقيل أنها أربعة وقيل أنها خمسة وذهب البعض إلي أنها سبعة، وقد أرسلها إلي كل من الكوفة والبصرة ومكة والشام والمدينة واليمن والبحرين.
وأكبر الظن أن هذه المصاحف قد كتبت علي الرق لأنه أخف حملاً وأبقي دوماً وأكثر استيعاباً للنص.
(1/34)
اما ما ذهب إليه أبن شهاب والهوريني من ان المصاحف قد نسخها عثمان علي الورق فهي شي بعيد الاحتمال ويرجع ذلك إلي:
العرب لم يكونوا قد عرفوا الورق واستعملوه في الكتابة زمن أبي بكر أو غيره من الخلفاء الراشدين، حيث أن الورق لم يعرفه العرب إلا منذ أواخر القرن الأول الهجري واستعملوه في أضيق الحدود في حين أن الرق هو المادة الغالبة.
إن أقدم المصاحف الموجودة في العالم مكتوبة علي الرق، وأقدم نص عربي مكتوب علي الورق وصل إلينا يرجع إلي أوائل القرن الثالث الهجري وهو رسالة الإمام الشافعي.
هل هذه المصاحف كانت مشكلة كما نري اليوم؟
إن أقدم المصاحف الموجودة حالياً في شتي أنحاء العالم خالية من النقط والشكل، وفي مقدمة هذه المصاحف الأولي مصحف جامع عمرو بن العاص الذي يعتقد أنه أحد المصحفين الذي تحدث عنهما المقريزي في خططه عندما ذكر الجامع العتيق، حيث قال "إن رجلاً من العراق قد أحضر هذا المصحف، وقيل أنه مصحف عثمان بن عفان الذي كان بيده يوم الدار وكان فيه أثر دم".
وهو الآن موجود بدار الكتب المصرية. وهذا المصحف مكتوب بخط كوفي لا شكل فيه ولا تنقيط، وكذلك الحال بالنسبة إلي مصحف سمرقند الذي شيع أنه مصحف الإمام الذي استشهد عليه الخليفة عثمان بن عفان.
هناك اتجاه يستبعد ان يكون أي من المصحفين يرجع إلي عهد عثمان أو يكونا قد كتبا في القرن الأول الهجري وذلك للأسباب التالية:
طريقة كتابتهما قد بلغت من الإتقان والدقة والفن درجة عالية لا يمكن ان نتصور أن أهل القرن الأول الهجري قد بلغوها
إن صناعة الرق وإعدادها للكتابة لم تكن تقدمت بعد إلي تلك الدرجة التي نراها في هذين المصحفين.
الكتابة في عصر الأمويين
متي بدأ نقط الكتابة العربية وشكلها في غير المصاحف؟
ومتي زال الحرج من استعمالها في كتابة القرآن الكريم؟
مع بدابة العصر الأموي دخلت الكتابة العربية مرحلة جديدة من مراحل تطورها وهي مرحلة الشكل والإعجام.
(1/35)
فأما الشكل فقد بدأ نقطاً علي أواخر الكلمات ثم امتد إلي بعض حروفها ثم تطور إلي الحركات الإعرابية.
والذي دعا السلف –رضي الله عنهم- إلي شكل المصاحف كما يقول الداني ما شاهدوه من أهل عصرهم من فساد ألسنتهم واختلاف ألفاظهم ودخول اللحن علي كثير من خواص الناس.
وقد اختلف فيمن كان أول من نقط المصاحف نقط إعراب، فقيل أبو الأسود الدؤلي وقيل نصر بن عاصم الليثي وقيل يحيي بن يعمر العدواني ولكن الإجماع علي أن ابي الأسود الدؤلي هو أول من شكل أواخر الآيات بطريقة النقط حتى لا يلحن المسلمون في قراءة كتاب الله القرآن الكريم. وأكبر الظن أن ذلك حدث في عهد الخليفة عمر بن الخطاب بعد ما لوحظ من فساد الالسنة نتيجة لاختلاط العرب بمن دخل في دينهم من الأجناس الاخري.
يعتبر ضبط آيات القرآن الكريم كان خطوة جريئة لأن الرعيل الأول من المسلمين كانوا يعتبرون النقط دخيلاً علي الكتابة العربية ويتحرجون من أن يدخلوا علي القرآن ما ليس منه. ولكن عمر قد خشي أن يتزايد اللحن بمرور الأيام، وأن يتسبب في وقوع الخلافات والفتن بين المسلمين فأقدم علي نقط المصحف.
في البصرة كان أول نقط للمصاحف علي يد أبي الأسود الدؤلي أخذه عنهم أهل المدينة، ومن المدينة انتقل النقط إلي المغرب وبلاد الأندلس.
وكان نقاط المدينة يستعملون اللون الأحمر في نقط حركات السكون والشديد والتخفيف، ويجعلون اللون الأصفر للهمزات الخاصة، وكذلك كان نقاط الأندلس. أما نقاط العراق فكانوا يستعملون الحمرة للحركات والهمزات جميعاً، وبذلك تُعرف مصاحفهم وتميز عن غيرها.
وقد كره بعض العلماء استعمال الألوان المختلفة في المصاحف للتميز بين مختلف القراءات ومنهم أبو عمرو الداني واستدل عن كراهته بما يروي عن سعيد بن جبير عن أبن عباس انه قراء "عباد الرحمن" فقال له سعيد إن في مصحفي "عبد الرحمن" فقال له امحها وأكتبها "عباد الحمن".
اعجام الحروف أو النقاط (التنقيط)
(1/36)
أما إعجام الحروف أو تنقيطها فهي للتفريق بين الحروف المتشابهة منها، فقد حدث في عهد بني أمية، أما ما يذهب إليه بعض الباحثين من أن التنقيط وجد في الجاهلية وإن لم يستعمل في كتابة المصاحف الأولي، إلا أنه لا يوجد حتى يومنا الحالي دليلاً مادياً واحداً علي مدي صحة هذا الرأي.
فالاعجام ظهر بعد الإسلام لأن العرب لو كانوا كتبوا منذ العصر الجاهلي بحروف معجمة لما رأوا في الإعجام شي دخيلاً علي الكتابة، ولما تحرجوا من استعماله في كتابة المصاحف. د
والأدلة المادية أروع في الدلالة واقوي في الحجة من كل الروايات والأقوال فالنقوش والوثائق البردية والمصاحف الأولي التي بين أيدينا تتجرد حروفها من الإعجام.
وبناء عليه فإن الكتابة العربية لم تدخل في مرحلة الإعجام إلا في عصر "عبد الملك بن مروان" كما كان للعراق فضل السبق إلي وضع نقط الإعراب فقد كان له أيضاً فضل السبق إلي إعجام أو تنقيط الحروف. وذلك عندما أمر الحجاج كُتابه أن يضعوا للحروف المتشابهة في الرسم علامات تميز بعضها عن بعض. فقام يحيي بن يعمر ونصر بن عاصم بوضع النقط علي الحروف أو تنقيطها بنفس المداد الذي تكتب به الحروف وذلك علي اعتبار أن تنقيط الحرف جزء لا يتجزأ من الحرف.
في الربع الأخير من القرن الأول الهجري نري كتابات عربية ذات خاصيتين:
أحدهما بلون المداد الأصلي الذي كتبت فيه الحروف وهو الإعجام، والأخر بلون مخالف وهو الشكل أو الإعراب.
وجود الشكل والإعجام علي الحروف كان يعتبر أمراً معقداً حيث أنها مجهدة لكل من القارئ والكاتب علي السواء إلي جانب كونها مدعاة لاختلاط الكتابة علي القراء.
من اجل ذلك كان لا بد من عملية تهدف إلي تيسير الكتابة العربية، ومن هنا كانت المرحلة الأخيرة من مراحل تطورها، وهي التي تمت علي يد "الخليل بن أحمد" في العصر العباسي الأول. وتتلخص مهمة "الخليل بن أحمد" في:
(1/37)
إبدال النقط التي وضعها "أبي الأسود الدؤلي" للدلالة علي الحركات الإعرابية بجرات علوية وسفلية للدلالة علي الفتح والكسر وبرأس (واو) للدلالة علي الضم علي أن تكرر تلك العلامة في حالة التنوين.
كذلك قام "الخليل بن أحمد" بإضافة خمس علامات أخري وهي: السكون والشدة والمد وعلامة الصلة والهمزة. واصطلح علي أن تكون:
علامة السكون: دائرة صغيرة وهي رمز الصفر عند الهنود، وهي دلالة علي خلو الحرف من الحركة. وكان حُذاق الكُتاب يجعلونها جيماً صغيرة بغير عراقة (أي بغير كمال) وذلك لأن الجيم هي أول حرف كلمة "جزم" التي هي أسم السكون.
علامة الشدة: وجعلوها شيناً صغيرة ترسم فوق الحرف بغير نقط ولا عراقة وهي أول حرف من حروف كلمة شدة.
علامة الصلة: رسموها صاد لطيفة إشارة إلي الوصل.
علامة الهمزة: اختاروا لها العين بغير العراقة لقرب مخرجها.
لكن نلاحظ أن ظهور تلك العلامات لم يقضي علي شكل حروف القرآن الكريم بطريقة النقط القديمة، فقد كان بعض الكتاب يلتزمون الطريقة التقليدية في كتابة المصحف ويتحرجون من إدخال أي تعديل علي صورة الكتابة القديمة.
المخطوط العربي وانتشاره
حركة التأليف والترجمة
بدأت المؤلفات العربية تخرج إلي حيز الوجود منذ منتصف القرن الأول الهجري.
كانت من الطبيعي أن يبدأ التأليف في الحديث والتفسير والمغازي قبل غيرها من العلوم وذلك لأنها تخدم النص القرآني وتساعد علي فهمه وتقريبه إلي الأذهان. فنري مغازي الرسول "ص" وقد جمعها "عروة بن الزبير" و"وهب بن منبه" أما أحاديثه الشريفة فقد جمعها أبن "شهاب الزهري" بأمر من "عمر بن عبد العزيز" في مطلع القرن الثاني الهجري.
(1/38)
ثم لم تلبث أن ظهرت المسانيد وأولها مسند "الربيع بن حبيب الأباصي" ومن بعدها الكتب المبوبة وأول من بوب من كتب الأحاديث هو "الوليد بن عبد الملك بن عبد العزيز بن جريح" وذلك في سنة 143 هجرية بمكة. وبعد ذلك كثر تدوين العلم وتبويبه ودونت الكتب العربية في اللغة والتاريخ وأيام الناس.
كذلك شهد القرن الثاني بدايات التأليف في النحو. ولم يلبث العرب أن أحسوا بالحاجة إلي تدوين تراثهم وتاريخهم فظهرت كتب اللغة والشعر والتاريخ متأثرة في أول أمرها بطريقة التأليف في الحديث فكان الإخباريين لا يسوقون خبراً إلا مشفوعاً بسلسلة من الأسانيد التي تكشف عن مدي الثقة به والاطمئنان إليه.
لذلك يمكن القول أن حركة التأليف الفعلية قد بدأت في القرن الثاني الهجري، ولم تلبث أن ازدهرت ازدهاراً رائعاً في أواخر هذا القرن وأوائل القرن الثالث الهجري.
حركة التأليف والترجمة لم تظهر بصورة واضحة إلا في العصر العباسي، فقد شهد هذا العصر نشاطاً ملحوظاً في هذا المجال، وهو نشاط بلغ ذروته في القرنين الثالث والرابع، وكان من نتيجته هو ظهور المكتبات الخاصة بالأفراد من ناحية ومكتبات الخلفاء من ناحية أخري.
ويعبر "ديورانت" عن روح العصر فيقول: "لم يبلغ الشغف باقتناء الكتب في بلد أخر من بلاد العالم – اللهم إلا في بلاد الصين- ما بلغه في بلاد الإسلام في القرون الثامن والتاسع والعاشر والحادي عشر ففي هذه القرون الأربعة بلغ الإسلام ذروة حياته الثقافية"
وقد صاحب كثرة الكتب وولع الناس بها أن أصبحت المكتبة لازمة من لوازم كل بيت من بيوت الأندلسيين المترفين، حتى وإن لم يكن بين صاحبها وبين البحث العلمي والتأليف صلة.
بيت الحكمة
كنتيجة طبيعية لازدهار حركة التأليف ظهرت في أواخر القرن الثاني الهجري أول مكتبة ضخمة في تاريخ العرب وهي "بيت الحكمة" أو "خزانة الحكمة".
(1/39)
وقد أنشئت في عصر الرشيد وربما قبل عصره، ثم اتيح لها أن تزدهر ازدهاراً رائعاً في خلافة المأمون الذي عمل علي جلب الكتب إليها من كل حدب وصوب.
فيذكر أبن النديم أن المأمون قد طلب من ملك الروم بعض الكتب القديمة المخزونة ببلد الروم فأجابه إلي ذلك بعدم امتناع فأخرج المأمون جماعة منهم الحجاج بن مطر، وابن البطريق لتسلمها وتسليمها إلي صاحب بيت الحكمة.
وأيضاً عندما صادق المأمون ملك قبرص أرسل إليه بطلب خزانة كتب اليونان، وكانت موضوعة عندهم في بيت لا يطلع عليها أحد، فأرسلها إليه ففرح بها المأمون وأمر العلماء بتعريبها وجعل "سهل بن هارون" خازناً عليها.
ولم تكن خزانة الكتب هذه مجرد مخزناً للكتب، وإنما كانت مركزاً للثقافة بأوسع معانيها، كما كانت مركزاً لترجمة الكتب ونسخها وإعادة نشرها.
حيث كانت مسرحاً لأكبر حركة ترجمة شهد لها التاريخ العربي، ومن ثم ارتبطت بها أسماء كثير من المترجمين مثل: يوحنا بن مأسويه الذي جعله المأمون رئيساً للخزانة و"يوحنا البطريق" الذي كان أميناً علي الترجمة في زمن المأمون.
وفي عصر الخليفة العباسي "المتوكل" نري "حنين بن إسحاق" المترجم علي رأس بيت الحكمة، ومن كان فيها من كُتاب ومُترجمين. وجدير بالذكر أن "حنين بن إسحاق" هو الذي أوضح معاني كتب "بقراط" في الطب و"جالنيوس" في العلوم ولخصها أحسن تلخيص وكشف ما غمض منها.
ولهذا فمن العسير أن نفصل حركة الترجمة عن حركة التأليف في ذلك الزمان، فقد كان معظم المترجمين يقومون بالتأليف أيضاً. ولو لم تكن للمترجمين مكانة مرموقة ما ارتقي رجل مثل "يوحنا بن مأسويه" أو "حنين بن إسحاق" إلي منصب الرئاسة في بيت الحكمة.
وينبغي الإشارة إلي أن خزانة الحكمة أو مثيلاتها من المكتبات التي أنشئت فيما بعد وألحقت بقصور الخلفاء غير مفتوحة لجماهير الشعب.
(1/40)
فقد كانت في الواقع مكتبات خاصة بأصحابها وكانت مقصورة علي علية القوم، ولكنها كانت نموذجاً احتذاه اولو العلم والمعرفة من ذوي السعة فقبل أن ينقضي القرن الثاني بدأت خزائن الكتب الخاصة بالأفراد تشق طريقها إلي الوجود.
وفي أفريقيا أسس "عبد الله بن إبراهيم الأغلب التميمي" أخر أمراء الأغالبة بتونس مكتبة سنة 290 هجرية وجعل عليها "إبراهيم بن محمد الشيباني".
في خلال هذا القرن الثالث الهجري تكثر الكتب والمصنفات لدرجة تلفت النظر "فالجاحظ" قد كتب في كل شي، وتجاوزت مصنفاته مأئة وعشرين كتاباً أشار إليها في أول كتاب "الحيوان" وقد ذكرها ياقوت الحموي في معجمه "معجم الأدباء".
ولعل من ابرز مؤلفي هذا العصر الطبيب الفيلسوف "محمد بن زكريا الرازي" وقد بلغت مصنفاته مأتين وخمسين مصنفاً. وأبن جرير الطبري والذي يروي أنه مكث أربعين سنة يكتب في كل يوم منها أربعين ورقة، وإن تلاميذه حصلوا أيام حياته ثم قسموا علي هذه الأيام أوراق مصنفاته فصارت حصة كل يوم أربعة عشرة ورقة.
ولم تكن كثرة الكتب هي الشئ الملفت للنظر في هذا العصر، فقد كانت مباحث صغيرة لا يتجاوز الواحد منها بضع أوراق، ولكن الشئ الذي يستدعي الانتباه أنه كان بعضها بقع في ثلاثة آلاف ورقة، وأخر يبلغ حجمه أربعة آلاف ورقة.
ولم تكن كتب المغاربة والاندلسيين أقل ضخامة من كتب المشارقة، فقد كان كتاب الأغاني الذي ألفه " أبو الفرج الأصفهاني" يقع في واحد وعشرون مجلداً كبيراً.
وقد كان يقابل كثرة التأليف وضخامته شغف شديد بالقراءة ينبغي أن نسجله بالفخر والإعجاب لأنه هو الذي كان يدفع عجلة التأليف ويمدها بأسباب القوة.
منذ أوائل القرن الرابع نري خزائن الكتب وقد تناثرت في ديار الإسلام. ولكن أعظم مكتبتين ظهرتا في تلك الحقبة من التاريخ، بل في العصر الوسيط وهما:
المكتبة الملحقة بقصر الخلافة الفاطمية في مصر
المكتبة الملحقة بقصر الخلافة الأموية في الأندلس.
(1/41)
1. المكتبة الملحقة بقصر الخلافة الفاطمية في مصر
هي خزانة كتب العزيز الذي ولي الحكم من سنة 365 هجرية إلي 386 هجرية. والذي يذكر صاحب كتاب الذخائر أنه كان فيها ثمانية عشر ألف كتاب، وان عبيد المغاربة قد أحرقوا أوراق هذه الكتب واتخذوا من جلودها نعالاُ لهم سنة 461 هجريه أثر هزيمة ناصر الدولة بن حمدان أمام المغاربة.
وقد ذكر أبن أبي واصل إن كتب هذه الخزانة كانت تزيد علي مائة وعشرين ألف مجلد. وقال أبن الطوير أنه كان بها ما يزيد علي مائتي ألف من المجلدات ويسير من المجردات.
سواء وقفت مجموعات هذه المكتبة عند ثمانية عشر ألفاً من الكتب أو تجاوزت المأئة ألف فهو عدد ضخم لا شك في هذا. وخاصة إذا نظرنا إليه في إطار العصر الذي أنشئت فيه المكتبة.
2. المكتبة الملحقة بقصر الخلافة الأموية في الأندلس
تنسب هذه المكتبة إلي الحاكم "المستنصر" الذي ولي الحكم من سنة 350 إلي 366 هجريه. كان يجلب المصنفات من الأقاليم باذلاً فيها ما أمكن من الأموال حتى ضاقت عنها خزانته، وحتى بلغت في عهده أربعمائة ألف مجلد.
وجمع بداره المجيدين لصناعة النسخ، والمهرة في الضبط والإجادة في التجليد.
واجتمعت بالأندلس خزائن من هذه الكتب لم تكن لأحد من قبله ولا من بعده. ولم تزل هذه الكتب بقصر قرطبة إلي أن بيع أكثرها في حصار البربر.
والواقع أن الكتب قد كثرت في العاصمة الأندلسية وأصبحت موضع اهتمام الناس جميعاً حتى قيل أنه "إذا مات عالم باشبيلية فأريد بيع كتبه حملت إلي قرطبة حتى تباع فيها.
ولكن الظاهرة الغريبة حقاً أن الكتب لم تعد بالنسبة للاندلسيين مظهراً من مظاهر العلم، وإنما أصبحت مظهراً من مظاهر الترف والثراء وغدت المكتبة قطعة من الأثاث يحرص عليه ذوي المال والجاه، ويقتنيه اولو الثراء قبل أولي العلم والمعرفة.
(1/42)
وتلك الظاهرة لا تدل علي كثرة الكتب والمؤلفات وانتشارها فحسب في ذلك العصر، وإنما تدل أيضاً علي أنه كان هناك سوق نشطة لتجارة الكتب.
ثانياً: الوراقة والوراقون
تعريف الوراقة
الوراقة كما يعرفها أبن خلدون هي عملية الانتساخ والتصحيح والتجليد وسائر الأمور الكتابية والدواوين.
والوراقي كما يقول السمعاني هو من يكتب المصاحف وكتب الأحاديث وغيرها، وقد يقال لمن يبيع الورق وهو الكاغد.
وبتعبير العصر الحديث نستطيع أن الوراقة هي عملية النشر والتحقيق بكل ما تستتبعه من تجليد وتوزيع، وإن حوانيت الوراقين كانت تقوم مقام دور النشر في هذه الأيام، وكانت تقوم إلي جانب ذلك بما تقوم به المكتبات الآن من بيع الورق والأدوات الكتابية كالمداد والأقلام.
وطبيعي أن توجد هذه الحوانيت في مراكز الحضارة وخاصة في الأمصار، وقد أشار أبن خلدون أنها قد تناثرت في شوارع بغداد في عصر العباسيين.
ومما لاشك فيه أن الوراقة كانت صناعة رائجة في القرنين الثالث والرابع الهجريين، وكان يفد عليها جميع المشتغلين بالعلم بقصد الإطلاع أو بقصد النسخ أو الاستنساخ.
وكان بعض الوراقين يسعون إلي المؤلفين يحصلون منهم علي ما يمكن أن نسميه "حقوق النشر" بمصطلح العصر الحديث، ثم يمضون إلي العلماء وطلاب العلم يعرضون عليهم بضاعتهم من الكتب التي أعطي لهم مؤلفوها حق التوريق فيها. فمن أراد نسخه من الكتاب فما عليه إلا أن يتفق مع الوراق علي السعر والوقت اللازم لعملية النسخ والمراجعة والضبط.
ويبدو أن بعض الوراقين كانوا يباشرون أعمالهم في دور من يقومون بالوراقة لحسابهم.
(1/43)
كما أن بعض الوراقين كانوا موظفين دائمين عند علية القوم، ففي مصر علي سبيل المثال كان في خزانة الوزير " أبي الفضل بن الفرات" عدة وراقين، كان في دار الوزير "أبي الفرج يعقوب بن كلس" قوم يكتبون القرآن الكريم وأخرون يكتبون كتب الحديث والفقه والأدب حتى الطب، وكان الوزير ينفق علي من عنده من العلماء والوراقين والمجلدين ألف دينار كل شهر.
وفي الأندلس كان القاضي "أبس المطرف عبد الرحمن بن فطيس" ستة وراقين ينسخون له دائماً، وكان قد رتب لهم علي ذلك راتباً معلوماً.
وكثيراً ما كان الوراقون يلجاون إلي اطلاب وغيرهم للمساعدة في عمليات الاستنساخ حين تضطرهم الظروف لتعجيل عمليات النسخ.
ومهما يكن من أمر فإن حركة الوراقة بلغت مجدها في القرنين الثالث والرابع الهجريين وهي صورة مشرفة تدعو إلي الفخر والإعجاب لأنها تعكس نشاط فكري رائع وتمثل جانباً مضيئاً ليس فقط في تاريخ الثقافة العربية وإنما في تاريخ الحضارة الإنسانية كلها.
وقد كانت عاصمة العباسيين في ذلك الوقت تتمتع بثراء فكري وكانت سوق الوراقين مركزاً للنشاط العقلي، وكانت حوانيتهم مستودعاً لما أنتجه العرب في شتي فروع المعرفة. وكانت كثرة هذه الحوانيت ورواج سوقها دليلاً واضحا علي خصوبة الفكر العربي.
وإن كان هذا هو الجانب المضي المشع فلا يخلو من جانب مظلم، فلم يكن كل الوراقين من الثقات وأهل العلم والفضل وإنما كان من بينهم من يتصف بالمبالغة والكذب والاختلاق في بعض الأحوال.
ففي حقيقة المر كان بعض الوراقين لا يلتزمون الأمانة العلمية فيما يصنعون، ولا يتحرجون أن يضيفوا إلي الناس ما ليس فيهم، ومن أجل ذلك فقدوا ثقة الناس فيما يكتبون.
ولقد وجدت هذه الفئة مجالاً واسعاً للكسب في كتب الأسحار والخرافات كما يقول أبن النديم.
وليت الأمر يقف عند هذا الحد من الافتعال والتلفيق للقصص والأساطير فقد كان بعض الوراقين لا يتورعون من أن يختلقوا الكتب ويضيفوها إلي العلماء.
(1/44)
هذا هو الجانب المعتم في الصورة المضيئة وهو جانب لا يمس جلالها إلا مساً دقيقاً لأنه يمثل قطاعاً صغيراً ومحدوداًُ لا يكاد يذكر إذا قيس إلي الصورة الكبيرة المشرقة.
صناعة المخطوط
إخراج المخطوط
هناك طريقين رئيسيين سلكتهما المؤلفات العربية وصولاً من المؤلف إلي اقاري وهما طريق التأليف وطريق الإملاء.
1. طريق التأليف.
ونعني به أن يعكف المؤلف علي جمع مادة كتابته ومراجعتها وتنقيحها والإضافة إليها ثم يخرجها إلي الناس.
وكان المؤلف يعتبر الصورة الأولي التي يكتبها مسودة للكتاب يصحح فيها ويبدل ويغير كما يشاء.
وقد عرفت طريقة المسودات منذ عصور التأليف الأولي، فيذكر "أبن أبي أصيبعه" أن "الرازي" قد ألف كتاب "الحاوي" ولكنه توفي ولم يفسح له في الأجل إن يحرر هذا الكتاب.
لذلك ينبغي إلا نقلل من شأن مخطوط يغلب عليه الاضطراب واختلاط الأسطر، ويكثر فيه الشطب والمحو والإلحاق بالحواشي، فقد تكون مسودة المؤلف وبذلك تكون أوثق وأقوم من أي نسخة أخري متأخرة مهما بلغت من الأناقة وجمال الخط وحسن الإخراج.
وربما تراءي للمؤلف بعد تبيض كتابه وإخراجه للناس أن يضيف إليه جديداً تكشف له بعد إتمام الكتاب، وقد تكون هذه الإضافة كبيرة بحيث تستغرق مجلداً أو أكثر، وقد تكون يسيرة بحيث يمكن للمؤلف أن يلحقها بنسخته أو بنسخة أحد تلاميذه المقربين، ولعل هذا هو ما يفسر لنا ملاحظة من أن بعض المؤلفين كانوا يتركون أوراقاً بيضاء في أخر كل باب من الأبواب.
وكان بعض المؤلفين يعودون إلي كتبهم التي سبق أن ألفوها فيعيدون النظر فيها، ثم يخرجونها إلي الناس مرة أخري، كما يحدث الآن بالنسبة للكتب المطبوعة والتي يعاد طبعها مرة أخري من جديد في صورة مزيدة ومنقحة.
فيروي "ياقوت" أن كتاب "البيان والتبيين" للجاحظ نسختان أولي وثانية، والثانية أصح من الأولي.
(1/45)
وربما يتوفى المؤلف قبل أن ينتهي إلي الصورة التي يرضاها لكتابة فيكمل تلاميذه ما بدأ ويرتبونه ويذيعونه في الناس. فكتاب "المسائل" "لحنين أبن إسحاق" جمعه مؤلفه في مسودات بيض منها البعض في مدة حياته، ثم إن "حبيش بن الحسن" تلميذه وأبن أخته رتب الباقي بعده وزاد فيه من عنده وألحقها بما أثبته "حنين" في دستوره، لذلك يوجد هذا الكتاب معنوناً باسم كتاب "المسائل لحنين بزيادة حبيش الأعسم".
الشي نفسه حدث "لصحاح الجوهري" فقد توفي مؤلفه قبل أن يتم تبيضه وتنقيحه، وترك بقية الكتاب مسودة غير منقحة ولا مبيضه، فبيضه أبو إسحاق إبراهيم بن صالح الوراق تلميذ الجوهري فغلط فيه في عدة مواضع غلطاً فاحشاً كما يقول ياقوت.
وهذه تعتبر إشارة تلفتنا إلي أن بعض المؤلفات التي تحمل أسماء أصحابها قد تكون كلها أو بعضها من جمع أحد تلاميذ المؤلف لذلك لا ينبغي أن نحمل المؤلفين الأصليين مسئولية ما نجدة في كتبهم من أخطاء وقع فيها تلاميذهم.
ويتصل بهذه النقطة موضوع رواية الكتب واختلاف نصوص الكتاب الواحد من مخطوطة إلي أخري تبعاً لاختلاف رواياته، وقد تجلت ظاهرة الرواية هذه في أوضح صورها في كتب الأحاديث ودواوين الشعر. فكتاب "الموطأ" له روايات كثيرة أهمها رواية "محمد بن الحسن الشيباني" ورواية "يحيي بي يحيي الليثي الأندلسي.
ولكن الرواية لم تكن المسئول الوحيد عما نجده من اختلافات بين النسخ المخطوطة للكتاب الواحد، وإنما كان الوراقون يشاركون بنصيبهم أيضاً، فقد كانوا يضيفون إلي الكتب ما ليس فيها حتى أن بعضهم قد اشتهر بالكذب والاختلاق.
ومن الكتب التي لم تسلم من عبثهم "معجم العين" الذي زادوا فيه وأفسدوه.
2. طريق الإملاء
وهذا الطريق يعتبر الرافد الثاني الذي تدفقت عبره المخطوطات العربية.
وظاهرة الامالي هي ثمار مجالس الإملاء التي انتشرت في البلاد الإسلامية خلال القرنين الثالث والرابع الهجريين.
تعريف الإملاء
(1/46)
الإملاء كما يقول "حاجي خليفة"
" إن يقعد عالم وحوله تلاميذه بالمحابر والقراطيس فيتكلم العالم بما فتح الله سبحانه وتعالي عليه من العلم ويكتب التلاميذ فيصير كتاباً ويسمونه الإملاء أو الامالي"
ولم يكن يتصدى للإملاء إلا من وثق بنفسه ووثق الناس به وشهدوا له بالعلم والفضل.
وكان المجلس يستهل عادة بتلاوة القرآن الكريم ثم يبدأ الشيخ في الإملاء، وكان السامع في اول كل مجلس "أملاه شيخنا فلان، بجامع كذا، في يوم كذا، ويذكر التاريخ"، ثم يورد ما يسمع عن الشيخ تفسراً وحديثاً نحو ولغة إلي غير ذلك.
وقد بدأت مجالس الإملاء تنتشر وتصبح ظاهرة عامة علي مشارف القرن الثالث الهجري، وكانت متمركزة في بغداد مقر الخلافة، ومركز الحركة التعليمية، ومقصد العلماء والأدباء من شتي بقاع العالم العربي والإسلامي.
ولضخامة هذه المجالس لم يكن صوت الشيخ مسموع من جانب جموع الحاضرين، ولم تكن مكبرات الصوت قد عُرفت بعد في ذلك الوقت. ومن اجل ذلك ظهرت في المجتمع فئة جديدة تعرف باسم "المستملين" وهم الذين يرددون كلمات الأستاذ ورائه حتى يسمع الناس.
ويمكن أن نتصور حاجة الجماهير إلي هؤلاء المستملين حين نقرأ ما يقول "عمر بن حفص" من انه سمع "عاصم الواسطي" يقول يوماً، حدثنا "الليث بن سعد" إن الحاضرين كانوا يسألونه أن يعيد حتى أنه أعاد أربعة عشرة مرة والناس لا يسمعون، وإن "هارون المستملي" كان يركب نخلة معوجة ويستملي عليها.
وكان عدد هؤلاء المستملين يكثر عندما يكثر عدد الحاضرين وبعدت المسافة بينهم وبين الشيخ، ويقل حيثما يقل العدد وقصرت المسافة بين الحاضرين والشيخ.
(1/47)
والظاهرة التي تلفت النظر في تلك المجالس أنها كانت تتسم بأمانة علمية منقطعة النظير. فقد حكي أن " أبو الحسن الدار قطني" أنه حضر مجلس إملاء "أبي بكر بن الأنباري" فسمعه يصحف اسماً أورده في إسناد الحديث فقال "حيان" بدلاً من "حبان" فبقول أبو الحسن "ولما فرغ من إملاءه تقدمت إليه فذكرت له وهمه وعرفته صواب القول فيه وانصرفت ثم حضر الجمعة الثانية مجلسه فقال "أبو بكر" للمستملين عرف جماعة الحاضرين أنا صحقنا الاسم الفلاني لما أملينا حديث كذا في الجمعة الماضية ونبهنا ذلك الشاب علي الصواب وهو كذا، وعرف ذلك الشاب إنا رجعنا إلي الأصل فوجدناه كما قال".
وتلك أرقي مراتب الأمانة العلمية، وأروع مظاهر الخلق العلمي الأصيل.
ولقد تمخضت مجالي الإملاء هذه عن كتب كثيرة ظهرت باسم ألآمالي. وأفرد لها "حاجي خليفة" فصلاً خاصاً بها في "كشف الظنون" وأقدم ألآمالي التي يذكرها أمالي الإمام "أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري" وهي في الفقه ويقال أكثر من ثلاثمائة مجلد.
وبمرور الزمن كثرت تلك ألآمالي وتنوعت، ففي أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع كانت هناك أمالي كثيرة أشهرها:
أمالي ثعلب والزجاج في النحو
أمالي أبن دريد في اللغة
أمالي أبي جعفر البحتري في الحديث
أمالي أبي علي القالي.
وقبل نهاية القرن الرابع ظهرت أمالي "بديع الزمان الهمزاني" وأمالي "أبي طاهر الزيادي".
وفي قرطبة كان القاضي "أبي المطرف عبد الرحمن بن فطيس" يملي الحديث من حفظه في مسجده، ومستمل بين يديه، وعلي غرار ما يفعله كبار المحدثين بالمشرق والناس يكتبون عنه.
علي أن ظاهرة الإملاء لم تستمر بدرجة واحدة بالنسبة لشتي فروع المعرفة. فقبل أن ينقضي القرن الرابع كان إملاء اللغة قد بدأ ينقطع فيما استمر إملاء الحديث بعد ذلك مئات السنين.
(1/48)
ومع ذلك فقد كان أكثر العلماء يملون مجالسهم دون أن يعودوا إلي مراجعتها أو مطابقتها، فكان الكتاب الواحد يتعرض للزيادة أو النقصان إذا تكرر إلقاؤه في أكثر من مجلس ومن الأمثلة:
ما يذكره أبن النديم عن مجالس تعلب واختلاف نسخها زيادة أو نقصاناً باختلاف رواياتها.
عن كتاب الجمهرة في اللغة لابن دريد وأنه مختلف النسخ كثر الزيادة والنقصان لأنه أملاه بفارس وأملاه ببغداد من حفظه فلما اختلف الإملاء زاد ونقص.
هكذا كانت ألآمالي تستوي كتباً في أيدي الناس، وكان الوراقون يقومون بما تقوم به المطابع في الوقت الحالي، وهو إصدار النسخ اللازمة للسوق من كل كتاب، وكان عدد النسخ يختلف باختلاف إقبال الناس علي الكتاب وحاجتهم إليه.
والفرق بين عمل الحوانيت والوراقة وعمل المطابع هو الفرق بين المخطوط والمطبوع، فكل نسخة مخطوطة تتميز عن غيرها في الخط والورق والحجم وغير ذلك من السمات التي تفردها عن نظائرها من نسخ الكتاب.
الخطوط التي كتبت بها المخطوطات
الخطوط العربية
الخطوط العربية لها أنواع كثيرة ولا بد أن يكون المفهرس ملماً بها والخبرة تعتبر عامل أساسي للتعرف علي تلك الخطوط بسرعة وكفاءة.
القرآن الكريم هو رافع منار الخط العربي وأول ما نزل علي الرسول عليه الصلاة والسلام قول الله تعالي " اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم."
وقد أخذ الخط يترقى ويترفع شأنه شأن أي شي أخر، فمدرسة الخط العربي تحظي بعناية واسعة وقد قطع المستشرقون في هذا المجال شوطاً كبيراً ولا تزال المحاولات العربية حتى الآن تهتم بالخط العربي.
والخطوط بصفة عامة ترجع إلي مصادر أربعة:
1. الخط المصري
والذي ينقسم بدوره إلي:
الخط الهيروغليفي: واستخدم هذا الخط لإغراض دينية
الخط الهيراقيطي: واستخدم لموظفي الدواوين والكُتاب
(1/49)
الخط الديموطيقي: وهو أبسط الأنواع في الخط المصري، وكان هذا الخط معاصراً لجماعة اليونان وكان موجود علي حجر رشيد.
2. الخط المسماري
وقد استخدم هذا الخط أهل بابل وأشور بالعراق
3. الخط الحيثي
وهو الذي استخدم في تركيا والشام وينقسم إلي الخط الحميري والخط الحبشي
4. الخط الصيني
وما زال هذا الخط مستخدماً حتى الآن ومن أنواعه الخط الياباني والخط الماهوني.
وقد تطورت هذه المصادر
العوامل التي ساعدت علي انتشار الخط العربي
حظي الخط العربي باهتمام كبير في الإسلام لأنه الوسيلة الوحيدة لحفظ القرآن الكريم.
وقد كان لكتابة المصاحف أكبر الأثر في تحسين الخط العربي وتجويده خاصة بعد اهتمام المسلمين بإدخال علامات الإعجام والحركة عليه حتى يتفادوا اللحن في القرآن الكريم الذي ظهر نتيجة اختلاط العرب بالعجم واتساع الرقعة الإسلامية.
وقد ساعد كذلك علي الاهتمام بالخط العربي ما تضمنه تعاليم الدين الإسلامي بالإشادة بالعلم والتعليم كما جاء في القرآن الكريم من الحث عليه والقسم بالقلم.
كما أخذ الخط العربي في الاتساع بعد أن اتسعت رقعة الدولة الإسلامية وامتد نفوذ العرب خلال قرن من الزمان حتى شمل من حدود الصين شرقاً حتى المحيط غرباً ومنه إلي الأندلس، فكون العرب إمبراطوريه إسلامية كبيرة، وبذلك صارت اللغة والكتابة العربية ذات قيمة سياسية إلي جانب أهميتها الحضارية لأن من يعتنق الإسلام لا بد وأن يقرأ القرآن بالعربية، ولذلك فإنه كان بعد فتح أي دولة يتم تعريب دواوينها وطالما كان هناك تعريب للدواوين فلا بد من الاهتمام بالخط العربي.
قد بدأت حركة إصلاح السكة (العملة) وتعريب الدواوين في عهد عبد الملك بن مروان إلي جعل اللغة العربية هي اللغة الرسمية في دواوين أمصار البلاد المفتوحة وأيضاً أدي إلي إقبال أهالي تلك البلاد علي تعلم اللغة العربية والخط العربي ليتم تبوأ مراكز الدولة.
(1/50)
كل هذا أدي إلي انتشار اللغة والخط العربي في جميع الأقطار التي خضعت للحكم العربي.
أسباب العناية والاهتمام بالخط العربي
قد تطور الخط العربي إلي فن جميل احتل مكان الصدارة بين الفنون لإسلامية إذ وجد فيه الفنان مجالاً لخياله الخصب فابدع فيه بأساليب شتي وقد ساعد علي ذلك ما تمتاز به طبيعة الخط العربي وأشكال حروفه القابلة للتشكيل والزخرفة لمرونتها وليس أدل علي ذلك من أن هذه الحروف قد كتبت بهيئات وأشكال مختلفة ولعل حرف مثل الهاء كتب بهيئات عديدة وصل إلي المئات.
ربما كان من أسباب العناية بالخط العربي وتطويره ما شاع بين المسلمين في العصور الوسطي من تحريم الإسلام لتطوير الكائنات ومن هنا وجد المسلمون في الخط متسعاً لمواهبهم الفنية يعوضهم ذلك في ذات الوقت عن تصوير الكائنات الحية منعاً لمضاهاة خلق الله في شيوعيتها كما كان لمعرفة المسلمين بصناعة الورق أكبر الأثر في تطور الخط العربي.
تجويد الخط العربي ومراكزه
نال الخط العربي عناية كبيرة من المسلمين، وقد أدي اهتمام المسلمين به منذ ظهور مدارس تجويده وتحسينه فكانت بلاد الحجاز أول مراكز التجويد في عصر النبوة وذلك لأنها منشأ الرسالة السماوية، ثم بعد ذلك أصبحت الكوفة مركزاً لتجويد الكتابة عندما صارت مقر الخلافة في عهخد الخليفة "علي بن أبي طالب" ولما انتقل مركز الخلافة من الكوفة إلي دمشق أصبحت دمشق مركز لتجويد الكتابة العربية في عهد الدولة الأموية.
ومن أشهر مجودي الخط في ذلك العصر:
خالد بن الهياج الذي ذاع صيته في كتابة المصاحف في عهد "عبد الملك بن مروان" كما اشتهر أيضاً في هذا المضمار "مالك بن دينار" المتوفي عام 131 هجريه.
وقد استمرت العناية بالخط وتجويده في العصر العباسي فاشتهر " خشنام المصري" و"مهدي الكوفي" اللذان عاصرا خلافة "هارون الرشيد" كما اشتهر "أبو حنين الكوفي" بتحسن الخط في خلافة "المعتصم".
(1/51)
وقد لمع من مجمدي الخط العربي في أواخر القرن الثاني الهجري "أبن مقله" وزير الخليفة العباسي، وقد أتخذ من الألف ميزاناً ومقياساً أساسياً ينسب له جميع حروف خط النسخ، لذلك عرف بالخط المفتوح الذي طوره أبو الحسن علي أبن هلال المعروف بابن البواب المتوفى عام 423 هجرياً.
وقد اشتهر من مجودي الخط العربي الذين أخذوا عن " أبن حقله" و "أبن البواب" الشيخ "جمال الدين ياقوت البغدادي" الذي لقب بقبلة الكتاب والخطاطين لتميزه في مجال تجويد خط النسخ. وقد توفي في نهاية القرن السابع الهجري الثالث عشر الميلادي. ومن أشهر أعمال هذا الخطاط مصحف كان بمدرسة الأشرف بن قلاوون.
لذلك فقد خط الخطاطون دون غيرهم عن الفنانين بعناية الكتاب، فقد ذكرهم الشعراء وأفردت لهم فصولاً لترجمة حياتهم وعن أساليبهم.
كذلك ما جاء عن الخط والخطاطين في المؤلفات والموسوعات مثل ما جاء في الفهرست لأبن النديم، وصبح الأعشي للقلقشندى.
وقد كان الخطاط في كثير من الأحيان يوقع علي المخطوط أما بعبارة أنه المنجز الوحيد لسائر فنون الكتاب أو باعتباره الأحق بالذكر بين هؤلاء الذين نسخوا هذا الكتاب ومثل ذلك نسخة مزخرفة من مقامات الحريري عليها فقط اسم ناسخها "يحيي بن محمود الواسطي".
كما أسهم الخطاط المسلم في إخراج معظم التحف الفنية الإسلامية سواء في مجال العمارة أو الفنون المختلفة الأخري.
تطور الخطوط
قد استمر استخدام الصور اليابسة (الجافة) في كتابة المصاحف التي ظلت تكتب بالخط الكوفي ما يقرب من قرون لما فيها من جلال يتناسب مع جلال القرآن الكريم، لذلك ظل الخط الكوفي مفضلاًُ في كتابة المصاحف.
حتى حل محله خط ابتدعه الأتابكة في الموصل وبلاد الشام وكتبوا به المصاحف وهو خط النسخ وقد عنت مدرسة السلاجقة الأتباكية لتجويد هذا الخط فيما بين القرنين الرابع والسابع الهجري.
(1/52)
وقد وورثت المدرسة المملوكية في مصر وبلاد الشام تراث المدرسة السلفية والعراقية والعباسية والسلجوقية والأتابكية.
وقد فضل المماليك علي خط النسخ حطاً اكبر منه كتبوا به مصاحفهم وفنونهم وأعمالهم وهو خط الثلث المشتق من خط الطومار.
كما ورثت المدرسة العثمانية من المدارس السابقة عليها لا سيما ان اللغة التركية كانت تكتب بحروف عربية فأخذت من السلاجقة خط النسخ وممن المماليك خط الثلث وابتدعت منها خطوط جديدة هي:
خط الرقعة والخط الديواني اللذان بلغا حظاً كبيراً من التجويد علي يد "شهلا باشا"
خط الإيجاز هو مزيج بين النسخ والثلث
الخط الهاميوني وهو مشتق من الخط الديواني
كما اشتهر العثمانيون (بالطغراء) وهي علامة السلاطين علي المراسيم السلطانية.
كما ابتدعت خط القرمة وهو خط كثير الثناءات والانحناءات وهذا الخط كان قاصراً علي الأعمال الديوانية والحسابية.
ومن اشهر العثمانيين في تجويد الخط السلطان "محمود الثاني العثماني" فقد عرف عن هذا السلطان جودة خطه.
كان من نوابغ الخطاطين أيضاً "حمد الله بن الشيخ مصطفي" الذي اشتهر بنسخ المصاحف في أوائل القرن الثامن عشر.
ولم يكن الفرس اقل حظاً وإسهاماً في مجال تجويد الخط لأنه الخط الذي يقرأ به القرآن كما أنهم كتبوا لغتهم الفارسية بحروف عربية.
كذلك أهتم الإيرانيون بتجويد الخط وابتكروا من الخط اللين النسخ والثلث خطين جديدين هما خط التعليق وخط النستعليق اللذان سجلا بهما نصوص آثارهم وفنونهم منذ القرن السابع الهجري والسابع عشر الميلادي.
أنواع الخطوط العربية التي عرفها العرب
لقد كان للعامل الديني الأثر الواضح في اهتمام المسلمين بالخط العربي وجويده وتطويره وابتكار أنواع جديدة منه تشهد علي براعة وخصوبة عقلية الفنان المسلم.
(1/53)
قد أمدتنا الآثار الإسلامية بالعديد من العمائر المختلفة والمخطوطات وشواهد القبور والفنون التطبيقية من زجاج وخشب وعاج ومعادن بأمثلة عديدة متنوعة، لأنواع الخط العربي الذي ينقسم من حيث الشكل إلي نوعيين رئيسيين هما:
أولاً الخط الجاف (الكوفي)
ثانياً الخط اللين
وسوف نتناول في الفقرات التالية كل نوع من هذين النوعيين بالشرح والتفسير.
أولاً الخط الجاف (الكوفي)
نموذج للخط الكوفي
ينقسم هذا الخط إلي قسمين من حيث الأغراض التي يستخدم فيها وهما.
أ. الخط الكوفي التذكاري الرسمي
وهو الخط الذي سجلت به النصوص علي الآثار الإسلامية أي أنه خط خاص بالعمارة ويشتمل هذا الخط علي عدة أنواع منها:
1. الخط الكوفي البسيط
وهو الخط الكوفي الخالي من الزخارف. وتنتهي فيه قوائم الحروف بشكل مثلث، وقد شاع انتشاره في شرق وغرب العالم الإسلامي في القرنين الثاني والثالث الهجري حيث قام الخطاط بتطوير هذا الخط بتعريض نهايات الحروف بحيث تنتهي بشكل مثلث وهي المرحلة التي مهدت لمرحلة زخرفية بأشكال نباتية.
2. الخط الكوفي المورق
وقد ظهر في المرحلة التالية لتعريض قوائم حروف الخط الكوفي في الربع الأول من القرن الثالث الهجري.
إذ فتح تعريض قاماتها المجال أما الفنان لزخرفتها بعد ذلك بمراوح أو أنصاف مراوح تخيلية وأوراق نباتية متصلة بالحروف مباشرة.
وقد ساعد علي هذا التطوير طبيعة حروف الخط الكوفي الجاف ذي الزوايا وقابليته للزخرفة.
وقد بدا التوريق يظهر بحروف الخط الكوفي بعد مستهل القرن الثالث الهجري وشاع انتشاره في القرنين الثالث والرابع الهجريين.
3. الخط الكوفي المزهر
يمثل مرحلة تالية متطورة لظهور الخط الكوفي المورق، وتنتهي فيه قوائم الحروف بفروع نباتية وقد ظهر هذا الخط منذ الربع الثاني من القرن الثالث الهجري وتطور بحيث أصبح الخطاط ينهي حروفه بفروع نباتية حلزونية مثمرة
4. الخط الكوفي ذو الأرضية النباتية
(1/54)
نجح الفنان من القرن الخامس الهجري في تنفيذ الخط الكوفي علي أرضية من زخارف نباتية تتألف من فروع نباتية حلزونية مثمرة تنطق بالمهارة وخصب الخيال.
ويبدو ان الثراء الزخرفي للأرضية لم يجعل الفنان يكتفي بوضع الكتابات دون أن يلحق بحروفها زخارف بل تجده يهتم بزخرفة النصوص الكتابية والأرضية معاً مما يضفي عليها مظهراً من الثراء والإبداع الفني
5. الخط الكوفي المضفر (المجدول)
هو من أنواع الخط الكوفي المتطور الذي أبدع في زخرفته الخطاط المسلم بعد ان قطع شوطاً كبيراً في مجال تجويد الخط الكوفي، لا سيما بعد أن أحتل كل من الخط النسخ والثلث مكان الصدارة منذ القرن السابع الهجري كخط رسمي تذكاري تسجل به نصوص العمائر والتحف الفنية والمصاحف.
فقد بذل الفنان جهداً كبيراً في زخرفة حروف الخط الكوفي حتى يستطيع أن ينافس تلك الخطوط الرسمية لذلك فقد لجا الخطاط إلي تضفير حروف الكلمة الواحدة أو تضفير قامات كلمتين متجاورتين محققاً بذلك أشكال زخرفية تنم عن خصوبة العقول الفنية، وقد بولغ في تضفير تلك الحروف غلي حد يصعب معه تمييز العناصر الخطية من العناصر الزخرفية، مما يؤدي إلي صعوبة قراءتها.
6. الخط الكوفي الهندسي
انتشر هذا النوع من الخط قبل القرن السادس الهجري بعد أن أصبح الخط الكوفي خطاً زخرفياً. ويتسم هذا الخط بخطوط شديدة الاستقامة التي تؤلف أشكالاً بزوايا قائمة، كما يتميز هذا الخط بأنه يؤلف تكوينات زخرفيه علي هيئة مستطيل أو دائرة أو شكل سداسي او ثماني، او يؤلف شكلاً معمارياً وهو ما يعرف بالخط الكوفي المعمار.
كما عرف من أنواع هذا الخط:
الخط الكوفي المربع:
(1/55)
وهو يتألف من كلمات تنظم في أوضاع رأسية وأفقية متداخلة ومتشابكة بحيث يؤلف شكل مربع، يراعي فيه الخطاط ان تكون الحروف علي شكل قنوات رأسية وأفقية بشكل زوايا قائمة تساوي في سمكها مع سمك الفراغات المتروكة بينها، والتي تتخذ نفس هيئة القنوات الأفقية والرأسية وتتداخل وتتشابك مع الكتابات نفسها، بحيث يؤلف في النهاية شكل مربع كبير مزخرف بكتابات عبارة عن قنوات بشكل زوايا واخري فارغة متداخلة معها، ومساوية لها في المساحة وذلك في انسجام جميل ساعدت عليه طبيعة حروف الخط الكوفي ذو الزوايا القائمة.
ب. خط التدوين
قد استخدم في كتابة المصاحف والمخطوطات والرسائل وقد كان هذا الخط أكثر تحرراً وبساطة من الخط السابق (الخط الكوفي التذكاري الرسمي) وأيضاً أسهل في التنفيذ، ويشتمل هذا الخط علي عدة أنواع منها:
1. الخط البسيط
وهو خالي من الزخارف ولذلك شاع استخدامه في كتابة المصاحف في بلاد العالم الإسلامي بطريقة يتضح فيها البساطة وسهولة التنفيذ عن الخط الكوفي التذكاري، ثم بدأ يحل محله منذ أوائل القرن السابع الهجري الخط النسخ في كتابة المصاحف.
2. الخط المغربي
ظهر هذا النوع من الخط المحلي في بلاد المغرب والأندلس وعرف بالخط المغربي، وشاع استخدامه في كتابة مصاحفهم وهو أقرب إلي الخط الجاف واللين معاً مما يعطيه طابعاً ميزاً لا تخطئه العين، ومما يجعله أكثر طواعية في التنفيذ ويلجا كاتب هذا النوع من الخطوط إلي كتابة بعض الحروف مثل لام، نون، ياء النهائية بهيئة أو علي شكل أقواس نصف دائرية تهبط عن مستوي السطر وتتكرر علي امتداده.
كما يمزج الخطاط بين هذه الاستدارات وبين الحروف الأخري، ذات الشكل الجاف ذي الزوايا مما يذكرنا بالكتابة العربية البدائية المأخوذة عن الشكل النبطي، وظل هذا النوع مستخدماً حتى حل محله خط النسخ في كتابة المصاحف في القرن السابع الهجري.
ثانياً الخط اللين (الاستدارات)
(1/56)
وينقسم هذا النوع من الخط إلي قسمين من حيث الأغراض التي يستخدم فيها وهما:
أ. الخط التذكاري الرسمي
وهو خاص بالآثار الإسلامية ويشتمل هذا الخط علي عدة أنواع منها:
1. خط النسخ
يرجع الأصل في تسميته بالنسخ إلي أن المصاحف أصبحت تنسخ به منذ أوائل القرن السابع الهجري بعد أن حل محل الخط الكوفي.
وقد سمي خط النسخ بالخط المنسوب وذلك لأن الخطاط المعروف "بأبن مقله" قد وضع معايير وضوابط للخط. ويرجع الفضل في تطوير خط النسخ إلي سلسلة من الخطاطين الأفذاذ وعملوا علي تحسينه وفي مقدمتهم "أبن مقله" وقد كان كل منهم يضم جهده إلي تراث سلفه.
وصار الخطاطون في سبيل تحسين الخط وتطويره بأسلوب يختلف عن أسلوبهم في تطوير الخط الذي يعتمد علي الطابع الزخرفي والتناسق الهندسي بين حروفه علي عكس خط النسخ الذي أعتمد علي ضوابط ومعايير ومقاسات محددة لضبط حروفه يل وإن هناك ضوابط تحدد تقليم سن القلم الذي سبكت به بما يتناسب مع نوع الخط الذي سبكت له، وطريقة الإمساك بالقلم. وقد بذل الخطاطون الذين جاءوا بعد "أبن مقله" قصارى جهدهم في سبيل تطوير وتجويد الخط والوصول به إلي ذروة الكمال الفني ومنهم: " أبو الحسن علي بن هلال" المعروف بأبن البواب المتوفي أوائل القرن الخامس الهجري.
وقد نال خط النسخ حظاً كبيراً من التجويد في عصر الأتابكة كما ازدهر وتطور في القرن السابع الهجري علي يد "جمال الدين ياقوت البغدادي" الذي لقب بقبلة الكُتاب والخطاطين وذلك للدور الذي قام به لتحسين وتطوير الخط وقد تتلمذ علي يديه عدد من الخطاطين الممتازين والذين كان لهم دوراً بارزاً في تجويد خط النسخ.
نموذج لخط النسخ
2. خط الثلث
(1/57)
وقد اختلفت الآراء في أسباب تسميته بهذا الاسم، غير إنه مما لا شك فيه أن هذه التسمية ترجع إلي مقارنة حجم خط الثلث بحجم خط الطومار الذي يبلغ سن قلمه 24 شعرة من شعر الخيل وهو اكبر الخطوط حجماً ومنها اشتقت جميع الخطوط اللينة مثل خط الثلث الذي بلغ سمك سن قلمه 8 شعرات من شعر الخيل (أي الثلث) وخط الثلثين الذي يبلغ سمك سن قلمه 16 شعرة من شعر الخيل (أي الثلثين).
وقد شاع الخلط بين خط الثلث والنسخ في كثير من كتب مؤرخي الفنون لأن كلا الخطين من النوع اللين رغم ما بينهما من اختلاف واضح في الشكل الناتج عن اختلاف مقياس سن القلم الذي يستخدم في كتابة كل خط منهما.
وقد قال القلقشندى:
" أن أقلام الكتابة كانت تصنع من البوص الغليظ الذي كان يرسله عامل البريد كل عام من الوجه القبلي إلي العاصمة لتحفظ عند كاتب السر"
والمحقق نوع من أنواع خط الثلث تبسط أطرافه وتمتد بشكل أميل إلي الاستقامة منها إلي التقويس.
ومن الجدير بالملاحظة أن خط النسخ هو الخط الذي تكتب حروفه باستدارة دون امتداد، كما تتميز بأنها أقل سمكاً وجمالاً وأيسر في التنفيذ من خط الثلث.
خط الثلث تتميز حروفه بالرصانة والاسترسال والتنوع في تخانات الحروف بحيث تنتهي بجزء رفيع. حيث نلاحظ أن الحروف في خط الثلث تكتب بنسب أكبر وأطول منها في خط النسخ وبشكل مقوس مائل في استرسال جميل يتسم بالرشاقة والجمال. أي أن نسب حروف خط الثلث أكبر من نسب خط النسخ وأكثر سمكاً.
كما يتميز خط الثلث بقابلية حروفه للتركيب كما تبدأ طوالع حروفه بنسبة ثني طرفها إلي أسفل مثل حرف الألف واللام والراء والزاء المفردة، وطوالع الطاء والظاء علي عكس خط النسخ.
(1/58)
علي الرغم من خضوع الخطاط ومراعاته الدقيقة لمعايير وقوانين كتابة الخط النسخ غير أنه حاول أن يظهر مزيداً من البراعة في كتابة الخط بأن يجمع قواعد وأصول ونسب كتابة خط النسخ أو الثلث وبين زخرفة قوائم الحروف برؤوس وأشكال آدميين تمثل محاربين وصيادين مستغلاً في ذلك قامات الحروف في كلا الخطين النسخ والثلث مما يصعب معه قراءتها في بعض الأحيان.
وقد ظهر هذا النوع من خط النسخ والثلث ذو الرسوم الآدمية في خراسان (فارس) في القرن السادس الهجري، ومنها انتقل إلي الموصل ثد دمشق ثم مصر بعد هجوم المغول علي الخلافة العباسية والقضاء عليها عام 1258 ميلادية حيث هاجر الصناع إلي بلاد الشام ومصر التي تأثرت بأسلوب المدرسة الموصلية في صناعة وزخرفة المعادن وكتابة الخطوط.
نموذج لخط الثلث
3. خط التعليق
هو من الخطوط المشتقة من خط الثلث الذي شاع استخدامها في بلاد فارس، إذ من المعروف أن الفرس كتبوا لغتهم بالحروف العربية بعد انتشار الإسلام في بلادهم.
كما اهتموا بوضع علامات التشكيل علي الحروف علي عكس خط النستعليق الذي يخلوا منها تماماً. وينسب إلي كاتب عضد الدولة فضل تجويد خط التعليق.
وقد انتشر استخدام خط التعليق علي الآثار والفنون الإسلامية منذ القرن السابع الهجري. وتتميز حروفه بالرصانة والاسترسال مثل خط الثلث، وبأن حروف الذال والراء والهاء والحاء (ذ-ر-هـ-ح) وما علي شاكلتها ذات تخانات متغمة تتنوع من الشكل الرفيع إلي السميك ومكسورة مما يدل علي أن الخطاط استخدم قلماً من البوص ذي سن مائل مشطوف مثل القلم الذي يكتب به خط الثلث ليحقق به السمك المطلوب عند استخدامه في وضع لتحقيق الأشكال الرفيعة حين يمتد به الاسترسال في كتابة الحروف لإعطاء تنغيم وتباين بين الأجزاء الرفيعة والسميكة.
(1/59)
ويرجع الفضل في تجويد وتحسين خط التعليق إلي "ميرغلي التبريزي" المعروف باسم "قدوة الكتاب" الذي عمل في خدمة "تيمور لانك" وخلفه ابنه "عبد الله" فأكمل ما بدأه والده في هذا المجال وقد تتلمذ علي يد عبد الله تلميذان ذاع صيتهما في تجويد الخط هما"جعفر التبريزي" و "زاهر التبريزي". وقد سافر إلي العديد من البلدان الإسلامية فانتشر أسلوبه في الخط وتتلمذ علي يديه السلطان "علي المشهري" الذي حقق شهرة واسعة في مجال تجويد هذا الخط.
ثم ذاع صيت "محمود النياغوري" في عهد الشاه إسماعيل الصفوي فكتب له المخطوط المشهور "المنظمات الخمس" للشاعر "النطامي" المحفوظ بالمتحف البريطاني بلندن.
وقد انتقل بعض الخطاطين الايرانيين إلي القسطنطينية ونقلوا معهم أساليبهم في الخط إليها، ومنهم شاه "قاسم التبريزي". ويعتبر عصر التيموري العصر الذهبي الذي نال فيه الخط والخطاطين رعاية كبيرة وتشجيعاً من الدولة.
4 خط النستعليق
هو من الخطوط التي شاع استخدامها في بلاد الفرس، وهو مشتق من خطي النسخ والتعليق، لذلك عُرف بهذا الاسم لأنه يجمع في سماته بين الخطين، وإن كان يتميز بأنه أكثر بساطة وليونة وأسرع في تنفيذه من خط التعليق. لذلك فهو يتسم بخلوه من علامات الشكل لذلك كتبت به المخطوطات ودواوين الأشعار الفارسية.
وقد شاع خط النستعليق في المخطوطات الإيرانية في القرنين الثامن والتاسع الهجريين. ويرجع فن تجويد هذا الخط إلي جهود مجموعة من الخطاطين الإيرانيين مثل "مير علي التبريزي" ثم "ميز علي الهواري" الذي يشاهد توقيعة علي صفحة مكتوبة بخط النستعليق عام 1513.
ب. خط التدوين
هو خط التوقيعات الديوانية والملكية علي المراسيم ويشتمل علي عدة أنواع منها:
1. قلم الطومار
(1/60)
تكتب به علامات السلطان علي مكاتباته علي ورق الطومار الكبير الحجم. وكان يستخدم في الدواوين ويبلغ سمك قلمه 24 شعرة من شعر الخيل، وقد اشتق منه مختصر الطومار وهو بين حجم الطومار والثلثين أي ما بين 16 أو 24 شعرة، وكان مخصص لمراسيم ومكاتبات الوزراء.
2. خط الثلثين (قلم الثلثين)
كان يحرر به مكاتبات الخلفاء إلي ولاة الأقاليم.
3. الخط الديواني (الهمايوني)
هو خاص بالمكاتبات الرسمية في دواوين الدولة العثمانية حيث كانت تكتب به التعيينات في الوظائف العليا والمناصب الرفيعة وما يصدره الحكام من أوامر. وقد بدأ يظهر هذا الخط بعد فتح السلطان محمد الثاني القسطنطينية عام 1456 ويقال بأن أول من وضع قواعد هذا الخط هو الخطاط " إبراهيم نيف" الذي عاش في عهد السلطان محمد الفاتح.
وهو من الخطوط اللينة التي تخضع لقواعد ومعايير دقيقة في مقاييس حروفها التي اشتقت من خطي الثلث والنسخ.
وتتميز حروف هذا الخط بالليونة والاستدارة والتداخل والتشابك والتنوع في تنغيم سمك الحروف من الخط الرفيع إلي الخط السميك ثم الرفيع مرة اخري.
وقد راعي الخطاط أن يبدأ الحرف وينهيه بالخط الرفيع، كما تتسم حروف هذا الخط بالانسيابية والرشاقة وميل الحروف وإمدادها باستدارة إلي أسفل خط الكتابة مثل كتابة حروف الباء والتاء والكاف النهائية.
كما ترتب كلمات السطر كله بميل إلي جهة اليسار، مما يعطي مظهر الانطلاق، وقد راعي الخطاط أيضا أن تمتد رؤوس الحروف إلي اعلي بميل وكأنها ترنو برؤوسها إلي أعنان السماء مما يضفي عليها طابع العظمة والخيلاء الذي يتناسب مع الاستخدامات الديوانية الرسمية لهذا الخط.
وقد نال الخط الديواني حظاً كبيراً من التجويد والتحسين علي يد "شهلا باشا" الذي عاصر السلطان "أحمد الثالث".
4. الخط الديواني الجليل
(1/61)
أدت الجهود التي بذلها الخطاطون في الدولة العثمانية لتحسين الخط الديواني إلي ظهور هذا الخط الديواني الجليل منذ نهاية القرن العاشر الهجري.
وهنو يمتاز عن الخط الديواني العادي بسمكه ورصانته وبأنه قد أضيف لحروفه حركات إعرابية ونقط وزخرفية إلا أنه من الملاحظ أن حروفه المفردة ظلت محتفظة بطابع الخط الديواني العادي.
نموذج للخط الديواني
5. خط الطغراء
هي كلمة فارسية استخدمها العرب للدلالة علي العلامة التي تكتب بالقلم الغليظ، وهو يمثل علامة التوقيع السلطاني التي تجهز علي الأختام لتختم بها المراسيم السلطانية والمكاتبات الرسمية للدولة لإعطائها الصفة الشرعية. فيكتب اسم السلطان بالطغراء من أسفل إلي أعلي مصحوباً بعبارة دعائية بشكل تتداخل فيه حروف الأسماء من حيث تنتهي من أعلي جهة اليسار وبالتفافتين نصف دائرة انسيابيتين تنسحب إلي اسفل إلي جهة اليمين في خطين رفيعيين متوازيي، بعبارة اخري، ثلاثة حروف رأسية من اسم السلطان أو اللقب تأخذ شكل قوسين دائريين يقفلان من جهة اليسار ويمتدان إلي جهة اليمين علي شكل خطين متوازيين.
كما نقش توقيع الطغراء علي بعض العمائر العثمانية في مصر، ومن الملاحظ أن طريقة كتابة الطغراء قد خرجت من أسلوب القواعد المعروفة للخط إلي طريقة الرسم.
وقد ظهرت الطغراء كتوقيع للسلاطين منذ عصر المماليك، ومنذ عهد السلطان "محمد بن قلاوون" منذ أن أستولي المماليك علي الشام ومصر، ثم جاء العثمانيون واستولوا علي تلك البلاد، وانتقلت الوثائق والمخطوطات إلي خزائن الدولة العثمانية.
6. خط الغبار: قلم الجناح
يكتب بخط النسخ الصغير لذلك سمي بقلم الغبار لدقة حروفه كما سمي بقلم الجناح لأنه كانت تكتب به الرسائل التي ينقلها الحمام من بلد إلي أخر.
وقد استخدم العثمانيون هذا النوع من الخطوط للكتابة علي الأشياء الصغيرة الحجم مثل بيض الدجاج أو المصاحف الصغيرة الموضوعة في علب فضية أو ذهبية لتعلق فيها.
(1/62)
7. خط الرقعة
يكتب بخط عثماني لين علي الرقاع أو الورق الصغير، وقد كتب به العثمانيون لسهولة وسرعة تنفيذه. فهو يتميز أن حرفي السين والشين (س، ش) تكتب بدون أسنان، وحرف الكاف النهائي (ك) يكتب بدون همزة بل ينتهي بدائرة حلزونية، كما لا يستخدم النقط مع حرف القاف (ق).
مثال لخط الرقعة
بعد هذا العرض لأهم أنواع الخطوط العربية، يمكن الجزم بأن الخط العربي قد تطور تطوراً كبيراً عبر العصور الإسلامية وأسهم المسلمون في جميع الأقطار في تجويده وتطوره وزخرفته وابتكار أنواع جديدة منه.
وقد شاركت بعض الدول الغير عربية مثل إيران وفارس وتركيا بقسط وأفر بأن كتبوا لغتهم بحروف عربية.
وقد زاد الاهتمام بشأن الخط العربي وتجويده علي مر العصور تبعاً لازدهار الحضارة الإسلامية، وتبوأ الخطاطين مكانة مرموقة علي عكس غيرهم من المصورين الذين كانوا يأتون في المرتبة التالية لهم لأن الخطاطين كانوا يكتبون المصاحف كما كانوا يكتبون دواوين الأشعار العربية والفارسية والتركية.
الفهارس وأشكالها وأنواعها
تعريف الفهرس وأهميته
الفهرس هو لفظ معرب أصلة من الفارسية ويعني قائمة كتب أو مواضيع الكتاب، والقائمة تصف شيئاً من الأشياء مثل الكاتالوج.
لكن المكتبيين يستعملون كلمة فهرس للدلالة علي قائمة محتويات المكتبة من الكتب، وهذا المفهوم عبارة عن مجموعة من المداخل تسجل وتصف وتبين هذه المحتويات.
والفهرس هو مرآة المكتبة فلا تستطيع أي مكتبة سواء كانت صغيرة أو كبيرة أن تقدم خدماتها للباحثين في سهولة ويسر دون الاعتماد علي الفهرس، فالفهرس هو الأداة بين المكتبة ورواجها، وقدرة العاملين بالمكتبة علي معرفة ما تحتويه، ولذلك يعتبر الفهرس الأداة المحركة للمكتبة.
(1/63)
في عام 250 قبل الميلاد وضع "كاليماخوس" أمين مكتبة الإسكندرية القديمة فهرس مفصل في 120 مجلد بعد ان قسم مجموعات المكتبة إلي ثمانية أقسام رئيسية، وبذلك يكون هذا أول من مصنف علمي في تاريخ الأدب، وقد أحتوي علي أسماء المؤلفين الذين لهم مؤلفات في المكتبة، وكان الفهرس بمثابة حصر وقائمة جرد للمحتويات.
وظائف الفهرس
1. وظائف متصلة بالحصر والجرد: وهذه وظيفة قديمة قامت بها الفهارس القديمة وتمثل حالياً سجلات المكتبة
2. تحديد مكان المواد داخل المكتبة، وهي تختص بخدمة الاسترجاع، لذلك يتحول الفهرس من أداة للمكتبي إلي أداة للرواد والباحثين، وهي وظيفة مهمة تجيب علي كل ما يطرحة الباحثون من أسئلة.
ويخدم الفهرس أغراض كثيرة ومتنوعة منها:
1. تجميع القوائم الببليوجرافية لحصر موضوع أو حصر ما في المكتبة من كتب وغير ذلك سواء كانت مخطوطات أو دوريات إلي غير ذلك.
2. تجميع الكتب ذات الموضوع الواحد
3. تحديد مكان وجود الكتاب داخل المكتبة
4. إفادة الباحث وإعطاءه المعلومات الببليوجرافية التي يحتاجها عن الكتاب
5. تجميع الكتب المؤلفة عن موضوع واحد
6. تجميع مؤلفات كل مؤلف
ولا تقتصر الإفادة من الفهرس علي الجمهور المنتفع من المكتبة، وإنما من المكن أن يستفيد منه كذلك الهيئة العاملة بالمكتبة، فهو يغتبر جزء من النظام المتكامل للمكتبة.
كذلك ينبغي أن يتمشى مع سياسة المكتبة وطبيعتها فالمكتبة الكبيرة تختلف عن المكتبة الصغيرة، والمكتبة الجامعية تختلف عن المكتبة المدرسية. فالفهرس هو أداة للاتصال أي ان وظيفته الرئيسية تكمن في توصيل المعلومات عن المواد التي يسجلها وإذا فشل في إعطاء هذه المعلومات فإنه يفشل بالتالي في أدائه لوظائفه.
أشكال الفهرس التقليدية
1. الفهرس المطبوع أو الكتاب
2. الفهرس المحزوم
3. الفهرس البطاقي.
1. الفهرس المطبوع (الكتاب)
(1/64)
يعتبر من اقدم الأشكال وقد أخذت به الكثير من المكتبات، ويتألف من مجلد أو عدة مجلدات وهو في شكل الكتاب المطبوع.
مميزاته:
1. سهولة استخدامه
2. صغر حجمة
3. كثرة نسخة المطبوعة
4. يستطيع أكثر من باحث استخدامه في نفس الوقت
5. يعتمد عليه اعتماد كلي في إعداد الببليوجرافيات
6. سهولة الحصول عليه ونقلة من مكان إلي أخر.
عيوبه:
1. تكلفة طباعته كبيرة
2. يصعب التغيير فيه بالإضافة أو الحذف
3. يتلف مع كثرة التداول والاستعمال
4. لا يدل علي الحجم الفعلي من مقتنيات المكتبة
2, الفهرس المحزوم
عبارة عن جذاذات ورقية سميكة تحمل كل جذاذة مدخل مستقل، ويتم تجميعها وترتيبها ترتيباً أبجدياً واحداً من خلال ثقبها وتجميعها في شكل مجلد مستقل.
يستخدم هذا الشكل في فهرس مكتبة جامعة القاهرة القديم ومكتبة الحرم المكي بمكة، وعدد محدود من مكتبات انجلترا.
مميزاته:
1. المرونة حيث يسهل الإضافة إليه والحذف منه
2. صغر الحيز الذي يشغلة
3. قلة تكاليفه بالمقارنة بالفهرس البطاقي والمطبوع
4. تتسع بطاقاته لكثير من البيانات
5. سهولة حمله ونقله
6. من السهل إنتاج نسخ إضافية منه
عيوبه:
1. التلف السريع بسبب كثرة الاستخدام
2. ملفاته السميكة أيضاً معرضة للتلف
3. يحتاج إلي خزائن معينة لحفظه
4. لا يسهل تزويده بالوسائل المرشدة مثل الفهرس البطاقي وهذا يخفض من فاعليته عندما يكون الترتيب نعقداً.
3. الفهرس البطاقي
انتشر استخدامه منذ بداية القرن العشرين، وهو عبارة عن بطاقات يسجل علي كل بطاقة مدخل مستقل، ثم ترتب هذه البطاقات ترتيباً أبجدياً داخل أدراج معدنية أو خشبية.
انتشر استخدام هذا الفهرس بعد أن ثبت نجاحه مقارنة بالفهارس المطبوعة والفهارس المحزومة.
مميزاته:
1. المرونة الفائقة حيث يسهل التعديل والإضافة والحذف فيه
2. سهولة تزويده بوسائل إرشادية كثيرة
3. يمكن إضافة بطاقات لمخطوطات جديدة بسهولة ويسر دون المساس بعملية الترتيب
(1/65)
4. لا يتلف بسرعة
5. البطاقة الواحدة هي وحدة قائمة بذاتها تعطي الباحث فكرة عامة عن المخطوط ومؤلفة وبياناته بشكل كامل.
عيوبه:
1. يشغل حيز كبير
2. هذا الفهرس معرض للنقصان بسبب فقدان البطاقات أو وضعها في مكان أخر مخالف للترتيب
3. من الصعب إعداد نسخ إضافية منه
4. لا يمكن استخدامه من جانب اكثر من فرد يقف علي درج واحد
5. رغم ان الإحالات تساعد الباحث كثيراً وترشده إلا أن وجودها في الفهرس البطاقي مفقود من درج لاخر.
أنواع الفهارس
1. فهرس العنوان
2. فهرس المؤلف
3. فهرس الموضوع
4. فهرس المصنف
5. فهرس اسم الناسخ
6. فهرس تاريخ النسخ
7. فهرس موحد
8. فهرس رقمي.
1. فهرس العنوان
ترتب فيه البطاقات ترتيب هجائي وفقاً لعناوين الكتب، وقد اختل هذا الفهرس المرتبة الأولي قبل فهرس المؤلفين. ولا تستطيع أي مكتبة ان تغفل هذا الفهرس خاصة أن المخطوطات عادة ما يتم التعرف عليها من خلال عناوينها أكثر من مؤلفيها. لذلك فإن استعمال العنوان كمدخل رئيسي للمخطوط يعفي المفهرس من مشاكل الأسماء العربية للمؤلفين بكل ما فيها من أسماء شهرة وكني وألقاب.
كما يمكن إعداد بطاقات بالمتابعات مثل عنوان أخر عرف به المخطوط، ويتم ترتيبها داخل بطاقات العنوان أبجدياً وحسب ترتيبها. فالفهرس الخص بالعنوان يفيد في الوصول إلي كتاب معين يعرف القارئ عنوانه.
2. فهرس المؤلف
لكل مكتبة نظامها الخاص في صياغة اسم المؤلف، حتي لا تتكرر ترجمته بمدخلين مختلفين، فمدخل المؤلف يختلف في كتاب "الأعلام" عن كتاب "معجم المؤلفين" لذلك من الضروري الالتزام بمرجع معين لتثبيت مدخل المؤلف، فيكون هو أفضل وأمثل طريقة للبحث عنة والوصول إليه دون مشقة.
وفهرس المؤلف من أهم الفهارس ولا غني عنة في المكتبة فلا يمكن ان يكون للمكتبة فهرس كامل دون أن يتوافر بها فهرس للمؤلف.
(1/66)
يتم ترتيب البطاقات ترتيب هجائي وفقاً لأسماء المؤلفين أي مدخلهم ثم يلي كل مؤلف مؤلفاته مرتبة ترتيب هجائي حسب العناوين علي أن يكون ضمن هؤلاء المؤلفين الراوي والجامع والمترجم.
مميزاته:
1. تجميع مؤلفات كل مؤلف
2. سهولة إفادة الباحث الذي يبحث عن كتاب معين لمؤلف معين
3. إعداد الببليوجرافيات عن المؤلفين بسهولة
4. إزالة الشكوك في نسبة كتاب معين لمؤلف معين.
عيوبه:
1. طالما أن البحث لا يعرف مدخل المؤلف فلا يستطيع الوصول إلي هدفه بدون مساعدة الشخص المتخصص (أخصائي المكتبات)
ومن المعروف أن فهرس المؤلف هو أكثر الفهارس استعمالاً من جانب رواد المكتبة والعاملين بها لأغراض المراجعة والتحقيق والإرشاد.
3. الفهرس الموضوعي
ترتب فيه البطاقات ترتيباً هجائياً وفقاً لرؤوس الموضوعات التي تندرج تحتها الكتب ومزودة بالإحالات اللازمة.
لابد أن تكون رؤوس الموضوعات موحدة ومتفقاً عليها بالمكتبة، كما أنه من الجائز أن يكون للكتاب الواحد عدة بطاقات لعدة رؤوس موضوعات يندرج تحتها الكتاب.
الباحث يحتاج لمثل هذا الفهرس الموضوعي حتي يكون ملماً بكل ما تحتويه المكتبة من كتب في موضوع معين، بالإضافة إلي أن هذا الفهرس يفيد المكتبة نفسها في معرفة ما لديها من كتب في كل موضوع.
مميزاته:
1. بسيط ويسهل علي أي قاري استخدامه
2. تلبية احتياجات الباحث في موضوع معين
3. مساعدة الباحث الذي ليس لديه عناوين كتب معينة فيبحث عن الموضوع المتصل بدراسته
4. يساعد المكتبة في معرفة ما لديها من كتب في كل موضوع.
عيوبه:
1. يفتقد المنطقية في ترتيبه
2. إعداده يتطلب عملاً إضافياً
3. من الصعب الاعتماد عليه في تجميع الببليوجرافيات
4. الفهرس المصنف
ترتب فيه البطاقات ترتيب منطقي وفقاًُ لنظام التصنيف الذي تعتمد عليه المكتبة. حيث يذكر رقم التصنيف ويكتب تحت اول حرف من عنوان الكتاب وأول حرف من مدخل المؤلف.
مميزاته:
1. من السهل إعداده من وجهة نظر المفهرس
(1/67)
2. يساعد في تجميع كل المواد عن رأس معين، ويظهر العلاقات بين الموضوعات بطريقة أكثر نفعاً للقاري.
3. يمكن فيه طبع كل مجموعة أو كل قسم من الكتب لتكوين فهرساً كاملاً.
4. يعكس النظام المنطقي الخاص بخطة التصنيف المتبعة بالمكتبة
5. يؤدي ترتيب المداخل وفقاً لأرقام خطة التصنيف إلي عدم التقييد بأي لغة.
عيوبه:
1. عادة ما تكون الأرقام المستخدمة غير مفهومة بالنسبة للمستفيدين.
5. فهرس النساخ
عبارة عن تجميع البطاقات باسماء النساخ الموجودة بالمكتبة والتي تم الاستدلال عليها من الفهرسة. والباحث بطبيعة الحال لا يرجع إلي هذا الفهرس إلا في حالات بسيطة ونادرة مثل الاستدلال أو معرفة خط فلان من النساخ أو الاستدلال علي نسخة بخط المؤلف الذي يقوم بالدراسة عنه، وهو يساعد المكتبات علي إعداد كشافات في نهاية الفهارس الموضوعية المطبوعة بأسماء النساخ
6. فهرس بتاريخ النسخ
هذا الفهرس بطاقي مرتب حسب تاريخ النسخ، وفي حالة عدم وجود تاريخ نسخ علي المفهرس أن يقدر هذا التاريخ الذي كتبت فيه المخطوطة من خلال نوع الحبر والتذهيب وصناعته والتعليقات والتجليد. وإذا تصادف وجود تاريخ نسخ واحد لعدة نسخ مختلفة ترتب حسب العنوان ولهذا الفهرس أهميته للاستدلال علي المخطوطات القديمة النفيسة.
7. الفهرس الموحد
يشمل هذا الفهرس علي محتوي مكتبتين أو أكثر ويتم تجميعه حسب العنوان وذلك لمعرفة مكان وجود كتاب معين في مكتبة أو أكثر. ويتم إعداد هذا الفهرس بناء علي فهرسة كل مكتبة علي حدا، علي بطاقات ثم في النهاية يتم إدماج هذه البطاقات وترتب حسب عناوين المخطوطات. مثال ذلك تقوم دار الكتب المصرية بإنجاز اكبر مشروعين كبيرين يعتبران خطوة أساسية نحو إعداد الفهارس الموحدة للإنتاج الفكري المطبوع والمخطوط علي حد سواء في مصر وهما:
إعداد فهرس مطبوع لمقتنياتها المطبوعة في عام 100 حتي عام 1970
(1/68)
إعداد قائمة حصرية لمقتنياتها المخطوطة ودار الكتب المصرية والخزانة التيمورية. والقائمة الحصرية يراد بها عنوان المخطوط، اسم المؤلف، تاريخ الميلاد والوفاة، عدد الوراق، تاريخ النسخ، اسم الناسخ، الرقم، اسم المكتبة أو رمزها.
والفهرس الموحد يتمتع بميزة فريدة في كشف الغموض للباحث كما يريدة وتحتاجه من نسخ كثيرة لكتاب واحد في وقت واحد ووجيز فلا يكلفة أي عناء.
8. الفهرس الرقمي
يتم ترتيب البطاقات وفقاً للرقم المخزني أو رقم تخزينة بالمكتبة بسجل قيد المخطوطات والبطاقات تحمل كل البيانات عن الكتاب كبطاقة العنوان أو المؤلف أو الموضوع .....
والباحث لا يرجع إلي هذا الفهرس ولا يستخدمه فهذا الفهرس يفيد العاملين بالمكتبة فقط لمعرفة ما وصلت إليه المقتنيات، فالفهرس ترمومتر المكتبة وميزانها.
كيفية فهرسة المخطوطات
فهرسة المخطوطات هي تنظيم مواد العلم والمعرفة لاستعمالها السريع وهذا التنظيم يتطلب الوصف الدقيق للمخطوط لتمييزه عن مخطوط أخر ولكي يستطيع الباحث أن يصل إليه بسهولة ويسر.
فهرسة المخطوطات تعتبر من العمليات الشاقة، وهي تختلف عن فهرسة المطبوعات. وكل مكتبة لديها مجموعة من المخطوطات تجري فهرستها بطريقة خاصة، وعند فهرسة المخطوط من الضروري إيراد مميزاته من الناحيتين الداخلية والخارجية وهما:
المميزات الخارجية:
وهي الشكل المادي للمخطوط مثل مادة الكتابة، أنواع الخطوط، التهذيب، الزخرفة، المسطرة والتجليد.
المميزات الداخلية:
وهي مثل اسم المؤلف متبوعاً بتاريخ الميلاد والوفاة واسم الناسخ وتاريخ النسخ وبداية ونهاية المخطوط مختصر عن الأبواب والفصول.
وفهرسة المخطوط يجب أن تتضمن العناصر التالية:
1. صفحة العنوان
2. اسم المؤلف
3. بداية المخطوط (الاستهلال)
4. نهاية المخطوط (الخاتمة)
5. الترقيم والمسطرة والحجم
6. نوع الخط واسم الناسخ وتاريخ النسخ
7. وصف المخطوط
(1/69)
8. المصادر والفهارس التي تم الرجوع إليها لتحديد اسم المؤلف والناسخ وتاريخ النسخ.
سوف نتناول فيما يلي كل عنصر من هذه العناصر بالشرح والتفصيل.
أولاً. . صفحة العنوان
هي وأجهة الكتاب المطبوع الآن، وتشتمل صفحة العنوان في المخطوط علي العنوان واسم المؤلف، اسم الناسخ، مكان النسخ وتاريخ النسخ.
في اول العهد العربي لم يكونوا علي علم بصفحة العنوان وكانت الصفحة الأولي تترك بيضاء وقد قام من يمتلك نسخة من المخطوط بكتابة العنوان علي هذه الصفحة. ومن الضروري الإشارة من.أن المخطوطات كانت تعرف بعناوينها وليس اسم المؤلف فلا بد أن يكون المدخل بالعنوان.
يجب علي المفهرس أن يثبت العنوان الذي ورد في صفحة العنوان أو المقدمة أو الخاتمة ويحيله إلي العناوين الأخري المشهور بها هذا المخطوط.
في حالة عدم العثور علي عنوان بسبب فقدان صفحة العنوان أو الخاتمة أو تجاهل الناسخ ذكر صفحة العنوان، يجب علي المفهرس في هذه الحالة قراءة جزء ليس بصغير من المخطوط حتي يتعرف علي موضوعه، ثم يفهرس أنه كتاب كذا.
وفي حالة عدم التوصل إلي عنوان المخطوط إذا كان صغيراً يقال رسالة كذا مع الاحاطة بأن الكتاب هل هو متن أو شرح أو حاشية.
المخطوطات العربية لها عناوين متشابهة كثيرة إلا انها لعدة مؤلفين مثل مخطوط " أسباب النزول لابن الجوري" و"أسباب النزول لابن حجر العسقلاني".
والواجب علي المفهرس إلا ينساق وراء المعلومات بدون التأكد من صحتها من خلال:
الإطلاع علي مراجع وفهارس المخطوطات الاخري
مقابلة النسخة بعدة نسخ
وفي حالة إتيان المفهرس بعنوان من عنده أو بفقرة فلا بد من وضعها بين قوسين.
نلاحظ أن عنوان المخطوط كان يتميز عن النص الأصلي بـ:
اختلاف لون المداد
أنه كان يكتب بخط كبير
ولكن في العصور القديمة لم يكن هناك اختلاف بين عنوان المخطوط أو النص. ويذكر لنا الدكتور عبد الستار الحلوجي أن هذا التطور قد حدث في القرن الرابع الهجري.
(1/70)
ثانياً: اسم المؤلف
لا بد من ذكر اسم المؤلف كاملاً في الفهرسة وتوثيقه عن طريق أحد كتب التراجم أو الطبقات مثل الأعلام، معجم المؤلفين، هدية العارفين إلي غير ذلك. ويعتمد المفهرس علي مصدر واحد فقط لاختلاف ترتيب المداخل من مصدر لاخر، كذلك لا بد من ذكر سنة الميلاد أو الوفاة.
يجب ألا يقع المفهرس في الخطأ الناتج عن تشابه الأسماء حيث من الجائز ان ينسب الكتاب أو المخطوط إلي مؤلف أخر، ومثل هذه الأخطاء الجسيمة لا تغتفر.
إذا استطاع المفهرس من خلال قراءته للمخطوط أن يحدد القرن الذي يعيش فيه المؤلف وأسم شيخاً له أو تلميذاً له أو انه توجه للحج في عام كذا فإنه يمكن أن يذكر ذلك في نهاية ترجمته.
ثالثاً: بداية المخطوط (الاستهلال)
معظم المخطوطات العربية تبدأ بالبسملة والحمد لله ثم الصلاة علي النبي عليه الصلاة والسلام، وبعض المخطوطات قد تشذ عن هذه القاعدة وتدخل في الموضوع مباشرة. ثم يذكر المؤلف اسم مخطوطه وموضوعه والسبب في التأليف ثم يذكر الطريقة أو المنهج الذي اتبعه في ترتيب مادته (فصول أو أقسام المخطوط)، ثم يذكر المصادر التي اعتمد عليها في تأليف المخطوط لتزيد من ثقة المخطوط.
وقد ذكر أن أول المخطوط يضمن لنا أمرين:
الأول: معرفة بدايته تماماً
الثاني: التأكد من صحته إذا ما قورن بنسخة أخري.
رابعاً: نهاية المخطوط (الخاتمة)
تختلف نهاية المخطوط من مخطوط إلي اخر. إذا كان الكتاب له أجزاء أخري نجد عبارة " انتهي جزء كذا، يتلوه إن شاء الله جزء كذا، أوله كتاب كذا، أوله فصل كذا" ثم يأتي بعد ذلك تاريخ النسخ (يوم – شهر – سنة).
غالباً ما تكون هذه النهاية علي شكل هرم مقلوب يسمي بحرد المتن وفي بعض الأحيان يذكر الناسخ أسمه، مكان النسخ، تاريخ النسخ.
يؤكد أساتذة المكتبات أنه يجب علي المفهرس أن يثبت كل المعلومات التي توجد في نهاية المخطوطات دون أي إيجاز حيث أن نهاية المخطوط تكون بنفس أهمية صفحة العنوان.
(1/71)
خامساً: الترقيم والمسطرة والحجم
1. الترقيم
في العصور القديمة لم يكن يعرف الترقيم فظل المخطوط العربي دون ترقيم حتي القرن الخامس الهجري، مما كان يسبب في اضطراب الأوراق السائبة، مكان الأمر يتطلب عناية فائقة في ترتيب تلك الأوراق.
وعندما اتسعت حركة التأليف والترجمة ابتدع النساخ طريقة التعقيبات وهي تدوين الكلمة الأولي من الصفحة اليسري في أسفل هامش الصفحة اليمني، ومع زيادة اتساع حركة التأليف والترجمة أصبحت المخطوطات ترقم بالورق ثم بعد ذلك رقمت المخطوطات بالصفحات.
هناك ثلاثة طرق للترقيم اتبعت فيما بعد هي:
ترقيم الأوراق 1- 2- 3- 4......
ترقيم كل ورقة باعتبارها وجهين 1- 3- 5....
ترقيم بالصفحات 1- 2- 3- 4..........
إذا كان المخطوط غير مرقم يفضل ترقيمه بالأوراق، أما إذا كان المخطوط يحتوي علي عدة كتب أو رسائل فيرقم بالصفحات.
2. المسطرة (التسطير)
في البداية لم يكن هناك معدل ثابت لعدد الأسطر في كل صفحة فيختلف عدد الأسطر من صفحة إلي أخري، ويرجع السبب في ذلك إلي ان النساخ لم يكونوا يسطرون أوراق الكتابة قبل التدوين.
ثم أصبح الأمر كله متروك للناسخ في ان يجعل كل صفحة من صفحات المخطوط متساوية في عدد الأسطر أو يجعل سطور الصفحة الواحدة غير الصفحات التي تليها. كما أن المسافة بين السطور واحدة ولا تزداد إلا عند بداية باب جديد، وسعة الفصول وضيقها.
3. الحجم والمقاس
المخطوط ليس له حجم ثابت ولكنه يتوقف علي حجم الأوراق. وفي البداية لم يكن هناك اهتمام بتساوي الأوراق والسبب في ذلك يرجع إلي:
قلة الورق
أنه لم يكن متناول بين عامة الناس
ارتفاع أسعاره.
وليس هناك من شك أنهم كانوا يحاولون جهداً أن تكون أوراق المخطوط الواحد متقاربة ولكن كان المخطوط يتخلله أوراق صغيرة الحجم ومختلفة المقاس.
وحدة القياس هي سنتيمتر (الطول xالعرض)، وبعض الفهارس تقيس بالملليمتر، وبعض الفهارس تضيف سمك المخطوط.
(1/72)
سادساً: نوع الخط، اسم الناسخ، تاريخ النسخ
1. نوع الخط
هناك أنواع كثيرة من الخطوط يجب أن يكون المفهرس ملماً بها إلماما كاملاً، والخبرة عامل أساسي ومهم في التعرف علي نوع الخط بسرعة وفي وقت قصير ومن أهم أنواع الخطوط نذكر:
1. الخط الكوفي البسيط
2. الخط الكوفي المورق
3. الخط الكوفي المزهر
4. الخط الكوفي ذو الأرضية النباتية
5. الخط الكوفي المضفر (المجدول)
6. الخط الكوفي الهندسي
7. الخط المغربي
8. خط النسخ
9. خط الثلث
10. خط التعليق
11 خط النستعليق
12. الخط الديواني الجليل
13. خط الرقعة
14. ..........
2. أسم الناسخ
من الضروري ذكر اسم الناسخ كما جاء بالنسخة لان الناسخ له أهمية كبيرة، حيث إذا كان المؤلف مجهولاً، يمكن ان يكون هذا الكاتب المجهول هو أستاذ أو شيخ للناسخ وبذلك من الممكن أن يصل المفهرس إلي المؤلف عن طريق الناسخ.
بعض المخطوطات قد امتدت إليها يد خبيثة لتعبث وتغير اسم الناسخ أو تاريخ النسخ قاصدة من هذا العمل الارتقاء بالنسخة وارتفاع أسعارها، ومن هنا فعلي المفهرس التدقيق الشديد في اسم الناسخ وتاريخ النسخ.
قد يأتي الناسخ بعبارة قبل ذكر اسمه مثل "تمت علي يد العبد الحقير الذليل المذنب راجي عفو ربه وإحسانه" ثم يذكر أسمه.
3. تاريخ النسخ
هو عامل مهم من العوامل الأساسية لفهرسة المخطوطات، وعادة ما يكون تاريخ النسخ بالهجري. ولتاريخ النسخ أهمية كبيرة حيث يستطيع الباحث معرفة مدي قرب النسخة من الأصل المنقول عنته. وإذا كانت النسخة منقولة عن نسخة أخري مكتوب عليها تاريخ النسخ فيكتب تاريخ النسخ ثم يذكر أنها منقولة عن نسخة.
قد يصادف المفهرس بعض المخطوطات التي ليس عليها تاريخ نسخ وفي هذه الحالة يمكن للمفهرس من خلال نوع الورق ونوع الخط والتعليقات والتجليد أن يصل إلي تاريخ قريب من تاريخ نسخ هذه النسخة.
سابعاً وصف المخطوط
يندرج تحت هذا العنوان العديد من الملاحظات مثل:
(1/73)
التملكات – السماعات – الاجازات
التصويبات – الإيضاحيات – التعليقات
هوامش المخطوط
الأبواب – العناوين الموجودة داخل المخطوط
الزخرفة - – التهذيب – الصور – الرسوم
التجليد
1. التملكات – السماعات – الاجازات
التملكات:
كان العرب يهتمون بتسجيل اسمائهم للتملك وكانوا يدونون كيفية حصولهم علي الكتب بالشراء أو الاهداء او الارث.
السماعات:
هي ان يذكر المؤلف أنه سمع الكتاب عن الشيخ فلان مثلاً، وكان الكتاب يحرصون علي تدوين ذلك السماع أما في نهاية المخطوط أو بدايته، وهذا السماع يعطي ثقة كافية عن المعلومات التي تأتي بالمخطوط.
الاجازات:
وهي مثل الشهادات العلمية، فبعد أن يتأكد الشيخ من ان تلميذه قادر علي الحفظ ثم الاعادة بسرعة فإنه بعد ذلك يجيزه للتدريس هذا الكتاب.
2. التصويبات – الإيضاحيات – التعليقات
وهي معلومات إضافية لاستكمال الوصف، وهي أمور تزيد من قيمة المخطوط
3. هوامش المخطوط
حرص النساخ علي ترك هوامش جانبية تتلاءم مع حجم الأوراق وكانت الهوامش بحجم واحد في كل الصفحات.
كان يمكن ان يستغلها كل قاري في كتابة أية بيانات أو تعليقات أو تصحيحات، كما كانت هذه الهوامش في بعض الأحيان تستخدم من جانب المؤلف نفسه لتصحيح بعض الأخطاء، كتابة وزيادة بعض السطور.
4. الأبواب –العناوين الموجودة داخل المخطوط
عناوين الفصول والأبواب كانت تكتب بخط أكبر من خط نص المخطوط ثم أصبحت بعد ذلك تكتب بلون مخالف.
يجب علي المفهرس أن يوضح ما إذا كانت الألفاظ مشكلة من عدمه، وإذا كانت الألفاظ مهملة من النقط من عدمه.
5. الزخرفة - – التهذيب – الصور – الرسوم
الصور والرسوم
عرفت طريقها للمخطوط منذ منتصف القرن الثاني الهجري، وكانت في أول عهدها بسيطة عبارة عن خطوط تحدد الأشكال، يرسمها الناسخ بقلمه، وقد دخلت الصور والرسوم المخطوطات العربية لتخدم أغراض لا لان تكون غاية من ذلك.
الزخارف
(1/74)
تطورت الزخارف وأصبح لها خطوط وأشكال معينة وقد انفرد العرب بانشاء نوع خاص من الزخارف والدليل علي ذلك المصاحف الشريفة التي كانت ميداناً لهذا الفن واستخدمت الأشكال الهندسية.
التهذيب
لم يقتصر التهذيب علي الصفحات أو العناوين أو أسماء أو صور القرآن الكريم بل امتد إلي تذهيب وتهذيب جلد المخطوط نفسه.
6. التجليد
أخذ العرب عن الاحباش طريقة بدائية في التجليد ثم اخذ التجليد يتطور ويترقي في مشارف القرن الرابع الهجري. والقرآن الكريم هو أول كتاب عربي يصنع علي شكل كتاب.
تجليد المخطوط يفيد في تحديد عمر المخطوط في حالة عدم وجود المؤلف ودراسة تاريخ التجليد عبر العصور.
ثامناُ: المصادر والفهارس التي يمكن الرجوع إليها لتحديد أسم المؤلف، الناسخ، تاريخ النسخ.
لا بد للمفهرس أن يعود لبعض المصادر والمراجع والفهارس التي تثبت وتؤكد صحة نسبة المؤلف حتي يكون علي يقين من صحة المعلومات التي يثبتها في فهرسة المخطوط.
مشكلة المخطوطات المجهولة المؤلف
كثيراً ما يتعرض المفهرس لمخطوط ناقص الأول، ناقص الأخر، أو ناقص الأول والأخر معاً. ففي هذه الحالات يجب علي المفهرس أن يبذل قصارى جهده ليصل إلي عنوان المخطوط ومؤلفه.
في حالة ما إذا كان المخطوط ناقص الأول والأخر ولا يستطيع المفهرس الوصول إلي عنوانه، فلا بد من قراءة جزء كبير من المخطوط حتي يستطيع التعرف علي موضوع المخطوط. وربما وجدت في المخطوط أسماء وحوادث تفيد في الوصول إلي المؤلف، ثم بالرجوع إلي كتب الطبقات يستطيع المفهرس أن يصل إلي المؤلف.
أما في حالة ما إذا كان المخطوط ناقض أخره فطالما عرف المفهرس موضوعه يمكن أن يصل للكتاب عن طريق مراجعة الفهارس
في حالة ما إذا كان الكتاب ناقص أوله فعن طريق قراءة جزء من المخطوط والرجوع إلي الفهارس سيتم التعرف علي عنوانه ومؤلفة والناسخ .....
من الضروري الوصول والتعرف علي الأمور التالية حتى يمكن معرفة الكتاب
(1/75)
1. معرفة الموجود من المخطوط وهل المخطوط متن ،حاشية أو شرح
2. قراءة الموجود من المخطوط لمعرفة موضوعة
3. استخراج كل ما يقابل المفهرس من أسماء الأعلام والشيوخ والأماكن والكتب وذكر الفصول والأبواب مرتبة حتى يستطيع أن يقابلها مع مخطوطات ذات فصول وأبواب في نفس الموضوع
4. نقل بعض النصوص المنقوله من نصوص أخري مما يساعد المفهرس علي معرفة ما ألف في هذا العصر أو في هذا الموضوع.
كل هذا سوف يؤدي في النهاية إلي عنوان المخطوط ومؤلفه.
مشكلات أخري أمام المفهرس تبدو بسيطة ولكن عواقبها جسيمة منها:
1. مخطوط يرد عليه عنوان ومؤلف منسوب إليه خط فينقاد المفهرس أمام البيانات الصحيحة الواضحة ويبدأ في الفهرسة وعلي المفهرس أن يدقق النظر ويتأكد أن هذا الكتاب من مؤلفات الكاتب أم لا. والمصادر والمراجع تفيد ذلك، وعندما يثبت صحتها تنتهي المشكلة. أما إذا ثبت خلاف ذلك من عدم صحة نسب المخطوط للمؤلف، فإنه سيكتشف الخطأ ويقوم بعمل تصحيح وينسب المخطوط للمؤلف الصحيح
2. مخطوط ورد في صفحة عنوانه (العنوان والمؤلف) يعتقد المفهرس عادة ان العنوان وأسم المؤلف ليس فيهما أدني شك ويبدأ في الفهرسة إلا أن الحقيقة غير ذلك وأن هذه البيانات يمكن ان تكون خاطئة ولو رجع إلي الفهارس لتأكد من ذلك.
3. لابد علي المفهرس من الإلمام بماهية المتن أو الشرح أو الحاشية أو الاجازة وذلك حتي لا يقع في خطأ لا يغتفر.
4. كثيراً ما يصادف المفهرسون كراسات من كتب أو أجزاء بسيطة لم يستطيع التعرف علي عناوينها الصحيحة ففي هذه الحالة يذكر كلمة رسالة في كذا مثل الرسالة في النطق
بعض المشكلات العامة في فهرسة المخطوطات
1. مشكلة التكاليف
يذكر د. عبد الستار الحلوجي أن مكتبات كبري وضخمة مثل مكتبة المتحف البريطاني بلندن قد عجزت علي أن تستمر في فهرسة مخطوطاتها بالطريقة التي بدات بها وعجزت ان تستمر في نشر فهارسها لمقتنياتها من المخطوطات العربية.
(1/76)
ويجب علبنا أن نضع في اعتبارنا حقيقتين:
1. كثرة ما عندنا من كفاءات في هذا المجال إذا ما قيست بالكفاءات الموجودة في مكتبة المتحف البريطاني وغيرها من مكتبات الغرب
2. قلة التكاليف عندنا إذا ما قيست بالتكاليف التي تتحملها المكتبات بالخارج ويكفي أن نقارن بين ما يتقضاه مستشرق يعمل في فهرسة المخطوطات العربية في مكتبة أجنبية وبين من يعمل بفهرسة المخطوطات في أي مكتبة مصرية أو عربية.
ويبقي بعد ذلك حقيقة هامه أن المخطوطات هي مخطوطاتنا وتراثنا واجبنا المحافظة علي هذا التراث أكثر من الأمم الأخري. هذا بالإضافة إلي أن لدينا العقول الفذة والكفاءات العالية في هذا المجال، وهناك رأي غير صائب إننا لدينا عجز في الأيدي العاملة الماهرة في هذا المجال، ولكن أن المادة هي العقبة الوحيدة في سبيل إظهار تلك الكفاءات النادرة.
2. مشكلة الإعداد
ينفر معظم المتخصصين في علوم المكتبات من التعامل مع المخطوطات حتى أنهم لا يستطيعون أن يسمعوا كلمة المخطوطات ويفضلون العمل في المطبوعات فالعمل في المطبوعات أسهل وأيسر، ففيه الراحة للمفهخري عن العمل في المخطوطات.
ويذكر د. عبد الستار الحلوجي أن هؤلاء لم يتم إعدادهم الإعداد الكافي للقيام بهذا العمل وإن معلوماتهم وخبراتهم لا تمكنهم في أغلب الأحوال من التصدي لهذا العمل.
فالأساس العلمي لمفهرس المخطوطات أن تتوافر فيه القدرة علي التميز بين الفقه وأصول الفقه الحديث ومصطلح الحديث.
ويستطيع المفهرس أن يميز بين النحو والصرف هذا خلاف ما لديه من قوة ذاكرة ومهارة ونشاط مستمر.
أن يكون ملماً بقواعد الفهرسة والتصنيف المتبعة داخل المكتبة
أن يكون علي علم بأنواع الخطوط ويتم تدريبة عليها
أن يكون علي دراية بما تحتويه الفهارس المطبوعة من مصادر ومراجع وكتب تراجم وطبقات
وهذا الأمر يجرنا إلي ضرورة التعرف علي الصفات الشخصية الواجب توافرها في مفهرس المخطوطات:
(1/77)
1. من الضروري أن يكون المفهرس ذو ثقافة واسعة
2. لا بد أن يكون علي علم باللغة والتاريخ والأدب والدين، ومن الضروري أن يكون ملماً بكل جوانب الثقافة الإسلامية.
3. أن يكون من مؤهلاته الشخصية الدقة وحُسن النظام والقدرة علي البحث في الفهارس والمصادر. أن يكون لديه ذاكرة قوية فيكون بذلك علي دراية كاملة بالمخطوطات التي لديه والتي فهرسها من قبل.
4. أن يكون ملماً بإجراءات التصنيف والفهرسة وكيفية استعمال الفهارس والمصادر
5. أن يكون ملماً بأنواع الخطوط ويأتي هذا بالمران والخبرة
6. أن يكون من مميزاته الصبر وعدم اليأس والثقة في معلوماته.
وعندما تتوفر هذا الأيدي العاملة نستطيع أن نظهر تراثنا العربي بصورة أفضل ومشرفة للحضارة العربية الإسلامية التي خلقت هذا التراث.
نموذج لفهرسة المخطوطات
عنوان المخطوط: فهرست كتب أبن عربي
أسم المؤلف: محيي ابن علي بن محمد بن عبد الله بن العربي الطالبي الأندلسي.
بداية المخطوط: بدء بالبسملة، ثم قال الشيخ افمام الأكمل الأوحد الفرد الراسخ أبو عبد الله محيي ابن علي بن محمد بن عبد الله بن العربي الأندلسي رضي الله عنه.
نهاية المخطوط: وتمت بحمد الله تع وحسن توفيقه في غرة ذي الحجة سنة تسعة وثمانين وستمائة نسخه عبده الضعيف إبراهيم بن محمد بن مظهر الشيمي وصلي الله علي نبيه محمد واله م صلي وسلم
نوع الخط: نسخ
أسم الناسخ: إبراهيم بن محمد بن مظهر الشيمي
تاريخ النسخ: 689 هجرية
عدد الوراق: 11 لوحة في 22 صفحة
المسطرة: 24 سطر
المقاس: 20x28 سم
بيان الأجزاء: 1
الموضوع: التصوف وما يتعلق به
بيان الطبع:-----
وصف المخطوط: يحتوي المخطوط بالإضافة إلي خط النسخ بعض الكلمات بالرقعة، يوجد في نهايته حرد متن بالكوفي، يذكر في اخر الصفحة اليمني تحت السطر الأخير أول كلمة من الصفحة اليسري، توجد به بعض الاختصارات مثل كلمة تع وتعني (تعالي) يوجد بالنسخة آثار ترقيع ومحو.
مصدر المخطوط:-----
(1/78)
الفهارس والمراجع:-----
المحاضرة الثالثة عشر
الخطوط التي كتبت بها المخطوطات
الخطوط العربية
الخطوط العربية لها أنواع كثيرة ولا بد أن يكون المفهرس ملماً بها والخبرة تعتبر عامل أساسي للتعرف علي تلك الخطوط بسرعة وكفاءة.
القرآن الكريم هو رافع منار الخط العربي وأول ما نزل علي الرسول عليه الصلاة والسلام قول الله تعالي " اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم."
وقد أخذ الخط يترقى ويترفع شأنه شأن أي شي أخر، فمدرسة الخط العربي تحظي بعناية واسعة وقد قطع المستشرقون في هذا المجال شوطاً كبيراً ولا تزال المحاولات العربية حتى الآن تهتم بالخط العربي.
والخطوط بصفة عامة ترجع إلي مصادر أربعة:
1. الخط المصري
والذي ينقسم بدوره إلي:
الخط الهيروغليفي: واستخدم هذا الخط لإغراض دينية
الخط الهيراقيطي: واستخدم لموظفي الدواوين والكُتاب
الخط الديموطيقي: وهو أبسط الأنواع في الخط المصري، وكان هذا الخط معاصراً لجماعة اليونان وكان موجود علي حجر رشيد.
2. الخط المسماري
وقد استخدم هذا الخط أهل بابل وأشور بالعراق
3. الخط الحيثي
وهو الذي استخدم في تركيا والشام وينقسم إلي الخط الحميري والخط الحبشي
4. الخط الصيني
وما زال هذا الخط مستخدماً حتى الآن ومن أنواعه الخط الياباني والخط الماهوني.
وقد تطورت هذه المصادر
العوامل التي ساعدت علي انتشار الخط العربي
حظي الخط العربي باهتمام كبير في الإسلام لأنه الوسيلة الوحيدة لحفظ القرآن الكريم.
وقد كان لكتابة المصاحف أكبر الأثر في تحسين الخط العربي وتجويده خاصة بعد اهتمام المسلمين بإدخال علامات الإعجام والحركة عليه حتى يتفادوا اللحن في القرآن الكريم الذي ظهر نتيجة اختلاط العرب بالعجم واتساع الرقعة الإسلامية.
(1/79)
وقد ساعد كذلك علي الاهتمام بالخط العربي ما تضمنه تعاليم الدين الإسلامي بالإشادة بالعلم والتعليم كما جاء في القرآن الكريم من الحث عليه والقسم بالقلم.
كما أخذ الخط العربي في الاتساع بعد أن اتسعت رقعة الدولة الإسلامية وامتد نفوذ العرب خلال قرن من الزمان حتى شمل من حدود الصين شرقاً حتى المحيط غرباً ومنه إلي الأندلس، فكون العرب إمبراطوريه إسلامية كبيرة، وبذلك صارت اللغة والكتابة العربية ذات قيمة سياسية إلي جانب أهميتها الحضارية لأن من يعتنق الإسلام لا بد وأن يقرأ القرآن بالعربية، ولذلك فإنه كان بعد فتح أي دولة يتم تعريب دواوينها وطالما كان هناك تعريب للدواوين فلا بد من الاهتمام بالخط العربي.
قد بدأت حركة إصلاح السكة (العملة) وتعريب الدواوين في عهد عبد الملك بن مروان إلي جعل اللغة العربية هي اللغة الرسمية في دواوين أمصار البلاد المفتوحة وأيضاً أدي إلي إقبال أهالي تلك البلاد علي تعلم اللغة العربية والخط العربي ليتم تبوأ مراكز الدولة.
كل هذا أدي إلي انتشار اللغة والخط العربي في جميع الأقطار التي خضعت للحكم العربي.
أسباب العناية والاهتمام بالخط العربي
قد تطور الخط العربي إلي فن جميل احتل مكان الصدارة بين الفنون لإسلامية إذ وجد فيه الفنان مجالاً لخياله الخصب فابدع فيه بأساليب شتي وقد ساعد علي ذلك ما تمتاز به طبيعة الخط العربي وأشكال حروفه القابلة للتشكيل والزخرفة لمرونتها وليس أدل علي ذلك من أن هذه الحروف قد كتبت بهيئات وأشكال مختلفة ولعل حرف مثل الهاء كتب بهيئات عديدة وصل إلي المئات.
(1/80)
ربما كان من أسباب العناية بالخط العربي وتطويره ما شاع بين المسلمين في العصور الوسطي من تحريم الإسلام لتطوير الكائنات ومن هنا وجد المسلمون في الخط متسعاً لمواهبهم الفنية يعوضهم ذلك في ذات الوقت عن تصوير الكائنات الحية منعاً لمضاهاة خلق الله في شيوعيتها كما كان لمعرفة المسلمين بصناعة الورق أكبر الأثر في تطور الخط العربي.
تجويد الخط العربي ومراكزه
نال الخط العربي عناية كبيرة من المسلمين، وقد أدي اهتمام المسلمين به منذ ظهور مدارس تجويده وتحسينه فكانت بلاد الحجاز أول مراكز التجويد في عصر النبوة وذلك لأنها منشأ الرسالة السماوية، ثم بعد ذلك أصبحت الكوفة مركزاً لتجويد الكتابة عندما صارت مقر الخلافة في عهخد الخليفة "علي بن أبي طالب" ولما انتقل مركز الخلافة من الكوفة إلي دمشق أصبحت دمشق مركز لتجويد الكتابة العربية في عهد الدولة الأموية.
ومن أشهر مجودي الخط في ذلك العصر:
خالد بن الهياج الذي ذاع صيته في كتابة المصاحف في عهد "عبد الملك بن مروان" كما اشتهر أيضاً في هذا المضمار "مالك بن دينار" المتوفي عام 131 هجريه.
وقد استمرت العناية بالخط وتجويده في العصر العباسي فاشتهر " خشنام المصري" و"مهدي الكوفي" اللذان عاصرا خلافة "هارون الرشيد" كما اشتهر "أبو حنين الكوفي" بتحسن الخط في خلافة "المعتصم".
وقد لمع من مجمدي الخط العربي في أواخر القرن الثاني الهجري "أبن مقله" وزير الخليفة العباسي، وقد أتخذ من الألف ميزاناً ومقياساً أساسياً ينسب له جميع حروف خط النسخ، لذلك عرف بالخط المفتوح الذي طوره أبو الحسن علي أبن هلال المعروف بابن البواب المتوفى عام 423 هجرياً.
(1/81)
وقد اشتهر من مجودي الخط العربي الذين أخذوا عن " أبن حقله" و "أبن البواب" الشيخ "جمال الدين ياقوت البغدادي" الذي لقب بقبلة الكتاب والخطاطين لتميزه في مجال تجويد خط النسخ. وقد توفي في نهاية القرن السابع الهجري الثالث عشر الميلادي. ومن أشهر أعمال هذا الخطاط مصحف كان بمدرسة الأشرف بن قلاوون.
لذلك فقد خط الخطاطون دون غيرهم عن الفنانين بعناية الكتاب، فقد ذكرهم الشعراء وأفردت لهم فصولاً لترجمة حياتهم وعن أساليبهم.
كذلك ما جاء عن الخط والخطاطين في المؤلفات والموسوعات مثل ما جاء في الفهرست لأبن النديم، وصبح الأعشي للقلقشندى.
وقد كان الخطاط في كثير من الأحيان يوقع علي المخطوط أما بعبارة أنه المنجز الوحيد لسائر فنون الكتاب أو باعتباره الأحق بالذكر بين هؤلاء الذين نسخوا هذا الكتاب ومثل ذلك نسخة مزخرفة من مقامات الحريري عليها فقط اسم ناسخها "يحيي بن محمود الواسطي".
كما أسهم الخطاط المسلم في إخراج معظم التحف الفنية الإسلامية سواء في مجال العمارة أو الفنون المختلفة الأخري.
تطور الخطوط
قد استمر استخدام الصور اليابسة (الجافة) في كتابة المصاحف التي ظلت تكتب بالخط الكوفي ما يقرب من قرون لما فيها من جلال يتناسب مع جلال القرآن الكريم، لذلك ظل الخط الكوفي مفضلاًُ في كتابة المصاحف.
حتى حل محله خط ابتدعه الأتابكة في الموصل وبلاد الشام وكتبوا به المصاحف وهو خط النسخ وقد عنت مدرسة السلاجقة الأتباكية لتجويد هذا الخط فيما بين القرنين الرابع والسابع الهجري.
وقد وورثت المدرسة المملوكية في مصر وبلاد الشام تراث المدرسة السلفية والعراقية والعباسية والسلجوقية والأتابكية.
وقد فضل المماليك علي خط النسخ حطاً اكبر منه كتبوا به مصاحفهم وفنونهم وأعمالهم وهو خط الثلث المشتق من خط الطومار.
(1/82)
كما ورثت المدرسة العثمانية من المدارس السابقة عليها لا سيما ان اللغة التركية كانت تكتب بحروف عربية فأخذت من السلاجقة خط النسخ وممن المماليك خط الثلث وابتدعت منها خطوط جديدة هي:
خط الرقعة والخط الديواني اللذان بلغا حظاً كبيراً من التجويد علي يد "شهلا باشا"
خط الإيجاز هو مزيج بين النسخ والثلث
الخط الهاميوني وهو مشتق من الخط الديواني
كما اشتهر العثمانيون (بالطغراء) وهي علامة السلاطين علي المراسيم السلطانية.
كما ابتدعت خط القرمة وهو خط كثير الثناءات والانحناءات وهذا الخط كان قاصراً علي الأعمال الديوانية والحسابية.
ومن اشهر العثمانيين في تجويد الخط السلطان "محمود الثاني العثماني" فقد عرف عن هذا السلطان جودة خطه.
كان من نوابغ الخطاطين أيضاً "حمد الله بن الشيخ مصطفي" الذي اشتهر بنسخ المصاحف في أوائل القرن الثامن عشر.
ولم يكن الفرس اقل حظاً وإسهاماً في مجال تجويد الخط لأنه الخط الذي يقرأ به القرآن كما أنهم كتبوا لغتهم الفارسية بحروف عربية.
كذلك أهتم الإيرانيون بتجويد الخط وابتكروا من الخط اللين النسخ والثلث خطين جديدين هما خط التعليق وخط النستعليق اللذان سجلا بهما نصوص آثارهم وفنونهم منذ القرن السابع الهجري والسابع عشر الميلادي.
المحاضرة الرابعة عشر
أنواع الخطوط العربية التي عرفها العرب
المحاضرة الرابعة عشر
أنواع الخطوط العربية التي عرفها العرب
لقد كان للعامل الديني الأثر الواضح في اهتمام المسلمين بالخط العربي وجويده وتطويره وابتكار أنواع جديدة منه تشهد علي براعة وخصوبة عقلية الفنان المسلم.
قد أمدتنا الآثار الإسلامية بالعديد من العمائر المختلفة والمخطوطات وشواهد القبور والفنون التطبيقية من زجاج وخشب وعاج ومعادن بأمثلة عديدة متنوعة، لأنواع الخط العربي الذي ينقسم من حيث الشكل إلي نوعيين رئيسيين هما:
أولاً الخط الجاف (الكوفي)
ثانياً الخط اللين
(1/83)
وسوف نتناول في الفقرات التالية كل نوع من هذين النوعيين بالشرح والتفسير.
أولاً الخط الجاف (الكوفي)
نموذج للخط الكوفي
ينقسم هذا الخط إلي قسمين من حيث الأغراض التي يستخدم فيها وهما.
أ. الخط الكوفي التذكاري الرسمي
وهو الخط الذي سجلت به النصوص علي الآثار الإسلامية أي أنه خط خاص بالعمارة ويشتمل هذا الخط علي عدة أنواع منها:
1. الخط الكوفي البسيط
وهو الخط الكوفي الخالي من الزخارف. وتنتهي فيه قوائم الحروف بشكل مثلث، وقد شاع انتشاره في شرق وغرب العالم الإسلامي في القرنين الثاني والثالث الهجري حيث قام الخطاط بتطوير هذا الخط بتعريض نهايات الحروف بحيث تنتهي بشكل مثلث وهي المرحلة التي مهدت لمرحلة زخرفية بأشكال نباتية.
2. الخط الكوفي المورق
وقد ظهر في المرحلة التالية لتعريض قوائم حروف الخط الكوفي في الربع الأول من القرن الثالث الهجري.
إذ فتح تعريض قاماتها المجال أما الفنان لزخرفتها بعد ذلك بمراوح أو أنصاف مراوح تخيلية وأوراق نباتية متصلة بالحروف مباشرة.
وقد ساعد علي هذا التطوير طبيعة حروف الخط الكوفي الجاف ذي الزوايا وقابليته للزخرفة.
وقد بدا التوريق يظهر بحروف الخط الكوفي بعد مستهل القرن الثالث الهجري وشاع انتشاره في القرنين الثالث والرابع الهجريين.
3. الخط الكوفي المزهر
يمثل مرحلة تالية متطورة لظهور الخط الكوفي المورق، وتنتهي فيه قوائم الحروف بفروع نباتية وقد ظهر هذا الخط منذ الربع الثاني من القرن الثالث الهجري وتطور بحيث أصبح الخطاط ينهي حروفه بفروع نباتية حلزونية مثمرة
4. الخط الكوفي ذو الأرضية النباتية
نجح الفنان من القرن الخامس الهجري في تنفيذ الخط الكوفي علي أرضية من زخارف نباتية تتألف من فروع نباتية حلزونية مثمرة تنطق بالمهارة وخصب الخيال.
(1/84)
ويبدو ان الثراء الزخرفي للأرضية لم يجعل الفنان يكتفي بوضع الكتابات دون أن يلحق بحروفها زخارف بل تجده يهتم بزخرفة النصوص الكتابية والأرضية معاً مما يضفي عليها مظهراً من الثراء والإبداع الفني
5. الخط الكوفي المضفر (المجدول)
هو من أنواع الخط الكوفي المتطور الذي أبدع في زخرفته الخطاط المسلم بعد ان قطع شوطاً كبيراً في مجال تجويد الخط الكوفي، لا سيما بعد أن أحتل كل من الخط النسخ والثلث مكان الصدارة منذ القرن السابع الهجري كخط رسمي تذكاري تسجل به نصوص العمائر والتحف الفنية والمصاحف.
فقد بذل الفنان جهداً كبيراً في زخرفة حروف الخط الكوفي حتى يستطيع أن ينافس تلك الخطوط الرسمية لذلك فقد لجا الخطاط إلي تضفير حروف الكلمة الواحدة أو تضفير قامات كلمتين متجاورتين محققاً بذلك أشكال زخرفية تنم عن خصوبة العقول الفنية، وقد بولغ في تضفير تلك الحروف غلي حد يصعب معه تمييز العناصر الخطية من العناصر الزخرفية، مما يؤدي إلي صعوبة قراءتها.
6. الخط الكوفي الهندسي
انتشر هذا النوع من الخط قبل القرن السادس الهجري بعد أن أصبح الخط الكوفي خطاً زخرفياً. ويتسم هذا الخط بخطوط شديدة الاستقامة التي تؤلف أشكالاً بزوايا قائمة، كما يتميز هذا الخط بأنه يؤلف تكوينات زخرفيه علي هيئة مستطيل أو دائرة أو شكل سداسي او ثماني، او يؤلف شكلاً معمارياً وهو ما يعرف بالخط الكوفي المعمار.
كما عرف من أنواع هذا الخط:
الخط الكوفي المربع:
(1/85)
وهو يتألف من كلمات تنظم في أوضاع رأسية وأفقية متداخلة ومتشابكة بحيث يؤلف شكل مربع، يراعي فيه الخطاط ان تكون الحروف علي شكل قنوات رأسية وأفقية بشكل زوايا قائمة تساوي في سمكها مع سمك الفراغات المتروكة بينها، والتي تتخذ نفس هيئة القنوات الأفقية والرأسية وتتداخل وتتشابك مع الكتابات نفسها، بحيث يؤلف في النهاية شكل مربع كبير مزخرف بكتابات عبارة عن قنوات بشكل زوايا واخري فارغة متداخلة معها، ومساوية لها في المساحة وذلك في انسجام جميل ساعدت عليه طبيعة حروف الخط الكوفي ذو الزوايا القائمة.
ب. خط التدوين
قد استخدم في كتابة المصاحف والمخطوطات والرسائل وقد كان هذا الخط أكثر تحرراً وبساطة من الخط السابق (الخط الكوفي التذكاري الرسمي) وأيضاً أسهل في التنفيذ، ويشتمل هذا الخط علي عدة أنواع منها:
1. الخط البسيط
وهو خالي من الزخارف ولذلك شاع استخدامه في كتابة المصاحف في بلاد العالم الإسلامي بطريقة يتضح فيها البساطة وسهولة التنفيذ عن الخط الكوفي التذكاري، ثم بدأ يحل محله منذ أوائل القرن السابع الهجري الخط النسخ في كتابة المصاحف.
2. الخط المغربي
ظهر هذا النوع من الخط المحلي في بلاد المغرب والأندلس وعرف بالخط المغربي، وشاع استخدامه في كتابة مصاحفهم وهو أقرب إلي الخط الجاف واللين معاً مما يعطيه طابعاً ميزاً لا تخطئه العين، ومما يجعله أكثر طواعية في التنفيذ ويلجا كاتب هذا النوع من الخطوط إلي كتابة بعض الحروف مثل لام، نون، ياء النهائية بهيئة أو علي شكل أقواس نصف دائرية تهبط عن مستوي السطر وتتكرر علي امتداده.
كما يمزج الخطاط بين هذه الاستدارات وبين الحروف الأخري، ذات الشكل الجاف ذي الزوايا مما يذكرنا بالكتابة العربية البدائية المأخوذة عن الشكل النبطي، وظل هذا النوع مستخدماً حتى حل محله خط النسخ في كتابة المصاحف في القرن السابع الهجري.
ثانياً الخط اللين (الاستدارات)
(1/86)
وينقسم هذا النوع من الخط إلي قسمين من حيث الأغراض التي يستخدم فيها وهما:
أ. الخط التذكاري الرسمي
وهو خاص بالآثار الإسلامية ويشتمل هذا الخط علي عدة أنواع منها:
1. خط النسخ
يرجع الأصل في تسميته بالنسخ إلي أن المصاحف أصبحت تنسخ به منذ أوائل القرن السابع الهجري بعد أن حل محل الخط الكوفي.
وقد سمي خط النسخ بالخط المنسوب وذلك لأن الخطاط المعروف "بأبن مقله" قد وضع معايير وضوابط للخط. ويرجع الفضل في تطوير خط النسخ إلي سلسلة من الخطاطين الأفذاذ وعملوا علي تحسينه وفي مقدمتهم "أبن مقله" وقد كان كل منهم يضم جهده إلي تراث سلفه.
وصار الخطاطون في سبيل تحسين الخط وتطويره بأسلوب يختلف عن أسلوبهم في تطوير الخط الذي يعتمد علي الطابع الزخرفي والتناسق الهندسي بين حروفه علي عكس خط النسخ الذي أعتمد علي ضوابط ومعايير ومقاسات محددة لضبط حروفه يل وإن هناك ضوابط تحدد تقليم سن القلم الذي سبكت به بما يتناسب مع نوع الخط الذي سبكت له، وطريقة الإمساك بالقلم. وقد بذل الخطاطون الذين جاءوا بعد "أبن مقله" قصارى جهدهم في سبيل تطوير وتجويد الخط والوصول به إلي ذروة الكمال الفني ومنهم: " أبو الحسن علي بن هلال" المعروف بأبن البواب المتوفي أوائل القرن الخامس الهجري.
وقد نال خط النسخ حظاً كبيراً من التجويد في عصر الأتابكة كما ازدهر وتطور في القرن السابع الهجري علي يد "جمال الدين ياقوت البغدادي" الذي لقب بقبلة الكُتاب والخطاطين وذلك للدور الذي قام به لتحسين وتطوير الخط وقد تتلمذ علي يديه عدد من الخطاطين الممتازين والذين كان لهم دوراً بارزاً في تجويد خط النسخ.
نموذج لخط النسخ
2. خط الثلث
(1/87)
وقد اختلفت الآراء في أسباب تسميته بهذا الاسم، غير إنه مما لا شك فيه أن هذه التسمية ترجع إلي مقارنة حجم خط الثلث بحجم خط الطومار الذي يبلغ سن قلمه 24 شعرة من شعر الخيل وهو اكبر الخطوط حجماً ومنها اشتقت جميع الخطوط اللينة مثل خط الثلث الذي بلغ سمك سن قلمه 8 شعرات من شعر الخيل (أي الثلث) وخط الثلثين الذي يبلغ سمك سن قلمه 16 شعرة من شعر الخيل (أي الثلثين).
وقد شاع الخلط بين خط الثلث والنسخ في كثير من كتب مؤرخي الفنون لأن كلا الخطين من النوع اللين رغم ما بينهما من اختلاف واضح في الشكل الناتج عن اختلاف مقياس سن القلم الذي يستخدم في كتابة كل خط منهما.
وقد قال القلقشندى:
" أن أقلام الكتابة كانت تصنع من البوص الغليظ الذي كان يرسله عامل البريد كل عام من الوجه القبلي إلي العاصمة لتحفظ عند كاتب السر"
والمحقق نوع من أنواع خط الثلث تبسط أطرافه وتمتد بشكل أميل إلي الاستقامة منها إلي التقويس.
ومن الجدير بالملاحظة أن خط النسخ هو الخط الذي تكتب حروفه باستدارة دون امتداد، كما تتميز بأنها أقل سمكاً وجمالاً وأيسر في التنفيذ من خط الثلث.
خط الثلث تتميز حروفه بالرصانة والاسترسال والتنوع في تخانات الحروف بحيث تنتهي بجزء رفيع. حيث نلاحظ أن الحروف في خط الثلث تكتب بنسب أكبر وأطول منها في خط النسخ وبشكل مقوس مائل في استرسال جميل يتسم بالرشاقة والجمال. أي أن نسب حروف خط الثلث أكبر من نسب خط النسخ وأكثر سمكاً.
كما يتميز خط الثلث بقابلية حروفه للتركيب كما تبدأ طوالع حروفه بنسبة ثني طرفها إلي أسفل مثل حرف الألف واللام والراء والزاء المفردة، وطوالع الطاء والظاء علي عكس خط النسخ.
(1/88)
علي الرغم من خضوع الخطاط ومراعاته الدقيقة لمعايير وقوانين كتابة الخط النسخ غير أنه حاول أن يظهر مزيداً من البراعة في كتابة الخط بأن يجمع قواعد وأصول ونسب كتابة خط النسخ أو الثلث وبين زخرفة قوائم الحروف برؤوس وأشكال آدميين تمثل محاربين وصيادين مستغلاً في ذلك قامات الحروف في كلا الخطين النسخ والثلث مما يصعب معه قراءتها في بعض الأحيان.
وقد ظهر هذا النوع من خط النسخ والثلث ذو الرسوم الآدمية في خراسان (فارس) في القرن السادس الهجري، ومنها انتقل إلي الموصل ثد دمشق ثم مصر بعد هجوم المغول علي الخلافة العباسية والقضاء عليها عام 1258 ميلادية حيث هاجر الصناع إلي بلاد الشام ومصر التي تأثرت بأسلوب المدرسة الموصلية في صناعة وزخرفة المعادن وكتابة الخطوط.
موذج لخط الثلث
3. خط التعليق
هو من الخطوط المشتقة من خط الثلث الذي شاع استخدامها في بلاد فارس، إذ من المعروف أن الفرس كتبوا لغتهم بالحروف العربية بعد انتشار الإسلام في بلادهم.
كما اهتموا بوضع علامات التشكيل علي الحروف علي عكس خط النستعليق الذي يخلوا منها تماماً. وينسب إلي كاتب عضد الدولة فضل تجويد خط التعليق.
وقد انتشر استخدام خط التعليق علي الآثار والفنون الإسلامية منذ القرن السابع الهجري. وتتميز حروفه بالرصانة والاسترسال مثل خط الثلث، وبأن حروف الذال والراء والهاء والحاء (ذ-ر-هـ-ح) وما علي شاكلتها ذات تخانات متغمة تتنوع من الشكل الرفيع إلي السميك ومكسورة مما يدل علي أن الخطاط استخدم قلماً من البوص ذي سن مائل مشطوف مثل القلم الذي يكتب به خط الثلث ليحقق به السمك المطلوب عند استخدامه في وضع لتحقيق الأشكال ال
الرفيعة حين يمتد به الاسترسال في كتابة الحروف لإعطاء تنغيم وتباين بين الأجزاء الرفيعة والسميكة.
(1/89)
ويرجع الفضل في تجويد وتحسين خط التعليق إلي "ميرغلي التبريزي" المعروف باسم "قدوة الكتاب" الذي عمل في خدمة "تيمور لانك" وخلفه ابنه "عبد الله" فأكمل ما بدأه والده في هذا المجال وقد تتلمذ علي يد عبد الله تلميذان ذاع صيتهما في تجويد الخط هما"جعفر التبريزي" و "زاهر التبريزي". وقد سافر إلي العديد من البلدان الإسلامية فانتشر أسلوبه في الخط وتتلمذ علي يديه السلطان "علي المشهري" الذي حقق شهرة واسعة في مجال تجويد هذا الخط.
ثم ذاع صيت "محمود النياغوري" في عهد الشاه إسماعيل الصفوي فكتب له المخطوط المشهور "المنظمات الخمس" للشاعر "النطامي" المحفوظ بالمتحف البريطاني بلندن.
وقد انتقل بعض الخطاطين الايرانيين إلي القسطنطينية ونقلوا معهم أساليبهم في الخط إليها، ومنهم شاه "قاسم التبريزي". ويعتبر عصر التيموري العصر الذهبي الذي نال فيه الخط والخطاطين رعاية كبيرة وتشجيعاً من الدولة.
4 خط النستعليق
هو من الخطوط التي شاع استخدامها في بلاد الفرس، وهو مشتق من خطي النسخ والتعليق، لذلك عُرف بهذا الاسم لأنه يجمع في سماته بين الخطين، وإن كان يتميز بأنه أكثر بساطة وليونة وأسرع في تنفيذه من خط التعليق. لذلك فهو يتسم بخلوه من علامات الشكل لذلك كتبت به المخطوطات ودواوين الأشعار الفارسية.
وقد شاع خط النستعليق في المخطوطات الإيرانية في القرنين الثامن والتاسع الهجريين. ويرجع فن تجويد هذا الخط إلي جهود مجموعة من الخطاطين الإيرانيين مثل "مير علي التبريزي" ثم "ميز علي الهواري" الذي يشاهد توقيعة علي صفحة مكتوبة بخط النستعليق عام 1513.
ب. خط التدوين
هو خط التوقيعات الديوانية والملكية علي المراسيم ويشتمل علي عدة أنواع منها:
1. قلم الطومار
(1/90)
تكتب به علامات السلطان علي مكاتباته علي ورق الطومار الكبير الحجم. وكان يستخدم في الدواوين ويبلغ سمك قلمه 24 شعرة من شعر الخيل، وقد اشتق منه مختصر الطومار وهو بين حجم الطومار والثلثين أي ما بين 16 أو 24 شعرة، وكان مخصص لمراسيم ومكاتبات الوزراء.
2. خط الثلثين (قلم الثلثين)
كان يحرر به مكاتبات الخلفاء إلي ولاة الأقاليم.
3. الخط الديواني (الهمايوني)
هو خاص بالمكاتبات الرسمية في دواوين الدولة العثمانية حيث كانت تكتب به التعيينات في الوظائف العليا والمناصب الرفيعة وما يصدره الحكام من أوامر. وقد بدأ يظهر هذا الخط بعد فتح السلطان محمد الثاني القسطنطينية عام 1456 ويقال بأن أول من وضع قواعد هذا الخط هو الخطاط " إبراهيم نيف" الذي عاش في عهد السلطان محمد الفاتح.
وهو من الخطوط اللينة التي تخضع لقواعد ومعايير دقيقة في مقاييس حروفها التي اشتقت من خطي الثلث والنسخ.
وتتميز حروف هذا الخط بالليونة والاستدارة والتداخل والتشابك والتنوع في تنغيم سمك الحروف من الخط الرفيع إلي الخط السميك ثم الرفيع مرة اخري.
وقد راعي الخطاط أن يبدأ الحرف وينهيه بالخط الرفيع، كما تتسم حروف هذا الخط بالانسيابية والرشاقة وميل الحروف وإمدادها باستدارة إلي أسفل خط الكتابة مثل كتابة حروف الباء والتاء والكاف النهائية.
كما ترتب كلمات السطر كله بميل إلي جهة اليسار، مما يعطي مظهر الانطلاق، وقد راعي الخطاط أيضا أن تمتد رؤوس الحروف إلي اعلي بميل وكأنها ترنو برؤوسها إلي أعنان السماء مما يضفي عليها طابع العظمة والخيلاء الذي يتناسب مع الاستخدامات الديوانية الرسمية لهذا الخط.
وقد نال الخط الديواني حظاً كبيراً من التجويد والتحسين علي يد "شهلا باشا" الذي عاصر السلطان "أحمد الثالث".
4. الخط الديواني الجليل
(1/91)
أدت الجهود التي بذلها الخطاطون في الدولة العثمانية لتحسين الخط الديواني إلي ظهور هذا الخط الديواني الجليل منذ نهاية القرن العاشر الهجري.
وهنو يمتاز عن الخط الديواني العادي بسمكه ورصانته وبأنه قد أضيف لحروفه حركات إعرابية ونقط وزخرفية إلا أنه من الملاحظ أن حروفه المفردة ظلت محتفظة بطابع الخط الديواني العادي.
نموذج للخط الديواني
5. خط الطغراء
هي كلمة فارسية استخدمها العرب للدلالة علي العلامة التي تكتب بالقلم الغليظ، وهو يمثل علامة التوقيع السلطاني التي تجهز علي الأختام لتختم بها المراسيم السلطانية والمكاتبات الرسمية للدولة لإعطائها الصفة الشرعية. فيكتب اسم السلطان بالطغراء من أسفل إلي أعلي مصحوباً بعبارة دعائية بشكل تتداخل فيه حروف الأسماء من حيث تنتهي من أعلي جهة اليسار وبالتفافتين نصف دائرة انسيابيتين تنسحب إلي اسفل إلي جهة اليمين في خطين رفيعيين متوازيي، بعبارة اخري، ثلاثة حروف رأسية من اسم السلطان أو اللقب تأخذ شكل قوسين دائريين يقفلان من جهة اليسار ويمتدان إلي جهة اليمين علي شكل خطين متوازيين.
كما نقش توقيع الطغراء علي بعض العمائر العثمانية في مصر، ومن الملاحظ أن طريقة كتابة الطغراء قد خرجت من أسلوب القواعد المعروفة للخط إلي طريقة الرسم.
وقد ظهرت الطغراء كتوقيع للسلاطين منذ عصر المماليك، ومنذ عهد السلطان "محمد بن قلاوون" منذ أن أستولي المماليك علي الشام ومصر، ثم جاء العثمانيون واستولوا علي تلك البلاد، وانتقلت الوثائق والمخطوطات إلي خزائن الدولة العثمانية.
6. خط الغبار: قلم الجناح
يكتب بخط النسخ الصغير لذلك سمي بقلم الغبار لدقة حروفه كما سمي بقلم الجناح لأنه كانت تكتب به الرسائل التي ينقلها الحمام من بلد إلي أخر.
وقد استخدم العثمانيون هذا النوع من الخطوط للكتابة علي الأشياء الصغيرة الحجم مثل بيض الدجاج أو المصاحف الصغيرة الموضوعة في علب فضية أو ذهبية لتعلق فيها.
(1/92)
7. خط الرقعة
يكتب بخط عثماني لين علي الرقاع أو الورق الصغير، وقد كتب به العثمانيون لسهولة وسرعة تنفيذه. فهو يتميز أن حرفي السين والشين (س، ش) تكتب بدون أسنان، وحرف الكاف النهائي (ك) يكتب بدون همزة بل ينتهي بدائرة حلزونية، كما لا يستخدم النقط مع حرف القاف (ق).
مثال لخط الرقعة
بعد هذا العرض لأهم أنواع الخطوط العربية، يمكن الجزم بأن الخط العربي قد تطور تطوراً كبيراً عبر العصور الإسلامية وأسهم المسلمون في جميع الأقطار في تجويده وتطوره وزخرفته وابتكار أنواع جديدة منه.
وقد شاركت بعض الدول الغير عربية مثل إيران وفارس وتركيا بقسط وأفر بأن كتبوا لغتهم بحروف عربية.
وقد زاد الاهتمام بشأن الخط العربي وتجويده علي مر العصور تبعاً لازدهار الحضارة الإسلامية، وتبوأ الخطاطين مكانة مرموقة علي عكس غيرهم من المصورين الذين كانوا يأتون في المرتبة التالية لهم لأن الخطاطين كانوا يكتبون المصاحف كما كانوا يكتبون دواوين الأشعار العربية والفارسية والتركية.
المحاضرة الخامسة عشر
الوراقة والوراقون
المحاضرة الخامسة عشر
الوراقة والوراقون
تعريف الوراقة
الوراقة كما يعرفها أبن خلدون هي عملية الانتساخ والتصحيح والتجليد وسائر الأمور الكتابية والدواوين.
والوراقي كما يقول السمعاني هو من يكتب المصاحف وكتب الأحاديث وغيرها، وقد يقال لمن يبيع الورق وهو الكاغد.
وبتعبير العصر الحديث نستطيع أن الوراقة هي عملية النشر والتحقيق بكل ما تستتبعه من تجليد وتوزيع، وإن حوانيت الوراقين كانت تقوم مقام دور النشر في هذه الأيام، وكانت تقوم إلي جانب ذلك بما تقوم به المكتبات الآن من بيع الورق والأدوات الكتابية كالمداد والأقلام.
وطبيعي أن توجد هذه الحوانيت في مراكز الحضارة وخاصة في الأمصار، وقد أشار أبن خلدون أنها قد تناثرت في شوارع بغداد في عصر العباسيين.
(1/93)
ومما لاشك فيه أن الوراقة كانت صناعة رائجة في القرنين الثالث والرابع الهجريين، وكان يفد عليها جميع المشتغلين بالعلم بقصد الإطلاع أو بقصد النسخ أو الاستنساخ.
وكان بعض الوراقين يسعون إلي المؤلفين يحصلون منهم علي ما يمكن أن نسميه "حقوق النشر" بمصطلح العصر الحديث، ثم يمضون إلي العلماء وطلاب العلم يعرضون عليهم بضاعتهم من الكتب التي أعطي لهم مؤلفوها حق التوريق فيها. فمن أراد نسخه من الكتاب فما عليه إلا أن يتفق مع الوراق علي السعر والوقت اللازم لعملية النسخ والمراجعة والضبط.
ويبدو أن بعض الوراقين كانوا يباشرون أعمالهم في دور من يقومون بالوراقة لحسابهم.
كما أن بعض الوراقين كانوا موظفين دائمين عند علية القوم، ففي مصر علي سبيل المثال كان في خزانة الوزير " أبي الفضل بن الفرات" عدة وراقين، كان في دار الوزير "أبي الفرج يعقوب بن كلس" قوم يكتبون القرآن الكريم وأخرون يكتبون كتب الحديث والفقه والأدب حتى الطب، وكان الوزير ينفق علي من عنده من العلماء والوراقين والمجلدين ألف دينار كل شهر.
وفي الأندلس كان القاضي "أبس المطرف عبد الرحمن بن فطيس" ستة وراقين ينسخون له دائماً، وكان قد رتب لهم علي ذلك راتباً معلوماً.
وكثيراً ما كان الوراقون يلجاون إلي اطلاب وغيرهم للمساعدة في عمليات الاستنساخ حين تضطرهم الظروف لتعجيل عمليات النسخ.
ومهما يكن من أمر فإن حركة الوراقة بلغت مجدها في القرنين الثالث والرابع الهجريين وهي صورة مشرفة تدعو إلي الفخر والإعجاب لأنها تعكس نشاط فكري رائع وتمثل جانباً مضيئاً ليس فقط في تاريخ الثقافة العربية وإنما في تاريخ الحضارة الإنسانية كلها.
وقد كانت عاصمة العباسيين في ذلك الوقت تتمتع بثراء فكري وكانت سوق الوراقين مركزاً للنشاط العقلي، وكانت حوانيتهم مستودعاً لما أنتجه العرب في شتي فروع المعرفة. وكانت كثرة هذه الحوانيت ورواج سوقها دليلاً واضحا علي خصوبة الفكر العربي.
(1/94)
وإن كان هذا هو الجانب المضي المشع فلا يخلو من جانب مظلم، فلم يكن كل الوراقين من الثقات وأهل العلم والفضل وإنما كان من بينهم من يتصف بالمبالغة والكذب والاختلاق في بعض الأحوال.
ففي حقيقة المر كان بعض الوراقين لا يلتزمون الأمانة العلمية فيما يصنعون، ولا يتحرجون أن يضيفوا إلي الناس ما ليس فيهم، ومن أجل ذلك فقدوا ثقة الناس فيما يكتبون.
ولقد وجدت هذه الفئة مجالاً واسعاً للكسب في كتب الأسحار والخرافات كما يقول أبن النديم.
وليت الأمر يقف عند هذا الحد من الافتعال والتلفيق للقصص والأساطير فقد كان بعض الوراقين لا يتورعون من أن يختلقوا الكتب ويضيفوها إلي العلماء.
هذا هو الجانب المعتم في الصورة المضيئة وهو جانب لا يمس جلالها إلا مساً دقيقاً لأنه يمثل قطاعاً صغيراً ومحدوداًُ لا يكاد يذكر إذا قيس إلي الصورة الكبيرة المشرقة.
المحاضرة السادسة عشر
تطور كتابة المصحف الشريف وطباعته
المحاضرة السادسة عشر
تطور كتابة المصحف الشريف وطباعته
فقد أنزل الله القرآن الكريم على قلب محمد صلى الله عليه وسلم بلسان عربي مبين، فحفظه ووعاه، وأداه كما أوحاه الله إليه وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ .
وكان العرب أمّة أمية لا تكتب ولا تحسب، وكان اعتمادهم على الحفظ في صدورهم.
وكان القرآن يكتب في حياته صلى الله عليه وسلم وبأمره فيما تيسر من الوسائل المتاحة للكتابة في ذلك الزمن كاللخاف والعسب ونحوها.
(1/95)
ولما توفي عليه الصلاة والسلام وتولى أبو بكر رضي الله عنه الخلافة، وقتل كثير من القراء في حروب الردة أشار عمر رضي الله عنه على أبي بكر بجمع القرآن مخافة عليه من الضياع، فتم جمعه في صحف مجموعة بقيت عند أبي بكر مدة خلافته، ثم عند عمر حتى توفاه الله، ثم آلت إلى حفصة - رضي الله عنها -، وهذه الصحف هي التي نسخت منها في عهد عثمان - رضي الله عنه - المصاحف، وبعث بها إلى الأمصار؛ لما ظهرت بوادر الاختلاف في القراءة؛ حماية للنص القرآني الكريم من أي تحريف .
ثم تنوعت مظاهر العناية بالقرآن الكريم- بعد الصدر الأول -، وبخاصة من ناحية كتابته وتجويدها، وتحسينها، ثم إعجام الحروف. ومهر جمهرة من الخطاطين على مرّ العصور ببراعة الخط وجماله، وكتبوا المصاحف الخاصة والعامة، وكان الغالب في كتابة المصاحف الخط الكوفي حتى القرن الخامس الهجري، ثم كتبت بخط الثلث حتى القرن التاسع الهجري، ثم استقرت كتابتها بخط النسخ إلى وقتنا الحالي.
ومع ظهور الطباعة برزت عدة طبعات مبكرة للقرآن الكريم في أوربا، اكتنفتها دوافع مريبة ، ولم تلق الذيوع ولا القبول عند المسلمين؛ لما فيها من أخطاء شنيعة، ولمخالفتها قواعد الرسم العثماني.
كما صدرت بعد ذلك طبعات للقرآن الكريم في بلدان أخرى، إلا أنها لم يلتزم فيها الرسم العثماني.
وبقي الأمر على ذلك حتى طبع المصحف الذي كتبه الشيخ المقرئ أبو عيد رضوان بن محمد المخللاتي عام (1308 هـ) في المطبعة البهية بالقاهرة، وراعى فيه أصول الرسم والضبط، ووضع له ستة أنواع من علامات الوقف والابتداء.
ثم توالت طبعات المصحف الشريف في مصر، وغيرها من أقطار العالم الإسلامي.
(1/96)
فقد بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمة لا تعرف القراءة والكتابة إلا نزرًا يسيرًا، فشجع أصحابه رضوان الله عليهم على تعلم القراءة والكتابة، وسلك في ذلك وسائل كثيرة، فراجت الكتابةُ في عصره، حتى بلغ كتَّاب الوحي أكثر من أربعين كاتبًا، وزادت الكتابة انتشارًا مع توسع الفتوح ودخول أمم جديدة في الإسلام.
وكتب الصحابة رضوان الله عليهم الوحي بالخط السائد في الحجاز المعروف بـ (( الجَزْم )) وهو مأخوذ من الخط الأنباري أو الحيري، وكذلك كتبت به صحف أبي بكر ومصاحف عثمان رضي الله عنهما.
ومع انتشار الفتوح، ودخول بلاد جديدة في الإسلام تحسّن الخط، وظهر ما يعرف بالخط المنسوب على يد رواد الخط العربي أمثال: قُطْبَة المحرِّر المتوفى سنة 131هـ، وأبي علي محمد بن مُقْلَة المتوفى سنة 328هـ، وأبي الحسن علي بن هلال المعروف بابن البواب المتوفى سنة 413هـ أو 423هـ، وياقوت بن عبدالله المستَعْصِمي المتوفى سنة 698هـ، وغيرهم.
وكان الغالب في كتابة المصاحف الخط الكوفي حتى القرن الخامس الهجري، ثم كُتبت بخط الثلث حتى القرن التاسع الهجري، ثم كتبت بخط النسخ حتى وقتنا الحاضر.
وعندما عُرفت المطابع الحديثة في بعض البلاد الإسلامية والعربية كتركيا، ومصر، والشام، كان المصحف الشريف في مقدمة اهتماماتها، فطبع بأحجام مختلفة، إلا أنها سارت في ذلك على قواعد الرسم الإملائي الحديث حتى جاء العلامة الشيخ ((رضوان بن محمد المخَلَّلاتي )) المتوفى سنة 1311هـ، فكتب مصحفه الشهير الذي نسب إليه وطبع سنة 1308هـ ، على قواعد الرسم العثماني.
وذلك من خلال الفقرات التالية:
تطور الكتابة العربية.
كتابة القرآن الكريم.
نقط المصحف الشريف.
تجويد الخط العرب.
أدوات الكتابة العربية.
الزخرفة والتذهيب.
تاريخ الطباعة.
الطبعات المبكرة للمصحف الشريف.
عناية المملكة العربية السعودية بطبع المصحف الشريف ونشره، وترجمة معانيه.
تطور الكتابة العربية
(1/97)
عرفت العرب الكتابة في جاهليتها ، وعدَّتها شرطًا في كمال الرجل العربي، مثل معرفة السباحة والرماية وركوب الخيل، وتعود معرفتهم بالكتابة إلى اتصالهم بالأمم المتحضرة في بلاد اليمن وتخوم الشام، فأنشؤوا ممالكهم على أطراف تلك البلاد، وكانت مملكة النَّبَط إحدى هذه الممالك التي قامت على أطراف بلاد الشام في الناحية الشمالية الغربية من شبه الجزيرة العربية (169ق م - 106م) واتخذت البتراء ((سلع )) عاصمة لها، وكانت لهم صِلات بالآراميين؛ فتأثروا بهم، وتحدَّثوا لغتهم، واستنبطوا لأنفسهم خطًا خاصًا بهم عُرف بالخط النبطي، اشتق منه عرب الشمال خطهم الأول، فعرف الخط الأنباري، والخط الحيري، أو الخط المدوّر، والخط المثلث .
وفي الحجاز، حيث كان يحتكر أهل الذِّمة معرفة الكتابة عُرف خط التئم ، أو الجَزْم . وعندما ظهر الإسلام أصبحت الكتابة وسيلة هامة من وسائل نشر الدين، وضرورة من ضرورات الحكم.
وبُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمة أمّيَة، لا تكاد تعرف القراءة والكتابة إلا نزرًا يسيرًا. قال تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ .
فشجع صلى الله عليه وسلم أصحابه على تعلم الكتابة، وسلك في ذلك وسائل مختلفة، حتى إنه اشترط لفكاك الأسير من قريش في بدر تعليم عشرة من صبيان المدينة الكتابة ؛ فراجت الكتابةُ في عصره صلى الله عليه وسلم، حتى بلغ عدد كتّاب الوحي أكثر من أربعين كاتبًا، ومن هؤلاء: عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب. فإذا غابا كتب أُبَيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، فإن لم يحضر أحدهما كتب غيرهما.
هذا عدا من كان يكتب بين يديه صلى الله عليه وسلم فيما يعرض له من أمور دينه وحوائجه، ومن هؤلاء: خالد بن سعيد بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان.
(1/98)
أو يكتب للناس مدايناتهم وعقودهم ومعاملاتهم، ومن هؤلاء: المغيرة بن شعبة، والحصين بن نُمير، وكانا ينوبان عن خالد ومعاوية إذا لم يحضرا.
أو يكتب أموال الصدقات، وقبائل الناس ومياههم ، ومن هؤلاء: عبدالله بن الأرقم بن عبد يغوث، والعلاء بن عقبة.
أو يكتب خَرْص ثمار الحجاز، ومن هؤلاء: حذيفة بن اليمان، أو مغانم الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن هؤلاء: مُعَيْقيب بن أبي فاطمة، حليف بني أسد ، أو يكتب إلى الملوك، ويجيب عن رسائلهم، ويترجم إلى الفارسية والرومية والقبطية والحبشية، ومن هؤلاء: زيد بن ثابت.
وتعد الحجاز أول بلاد العرب معرفة للكتابة، وكانت قريش في مكة، وثقيف في الطائف أكثر القبائل شهرة بها، ومن أبنائهما اختير كتَّاب صحف أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول، كما روى جابر بن سمرة: " لا يُمْلِيَن في مصاحفنا هذه إلا غلمان ثقيف ". وعندما جمع عثمان بن عفان رضي الله عنه مصاحفه قال: اجعلوا المُمْلِي من هذيل، والكاتب من ثقيف.
كتابة القرآن الكريم
كان القرآن الكريم يتنزل منجمًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيحفظه ويبلغه للناس، ويأمر بكتابته، فيقول: ضعوا هذه السورة بجانب تلك السورة، وضعوا هذه الآية بإزاء تلك الآية، فيُحفظ ما كُتب في منزله صلى الله عليه وسلم، بعد أن ينسخ منه كتّاب الوحي نسخًا لأنفسهم.
وكُتب القرآن الكريم في العسب واللخاف، والرّقاع، وقطع الأديم، وعظام الأكتاف، والأضلاع.
ومن الصحابة من اكتفى بسماعه مِنْ فيه صلى الله عليه وسلم فحفظه كله، أو حفظ معظمه، أو بعضًا منه، ومنهم من كتب الآيات، ومنهم من كتب السورة، ومنهم من كتب السور، ومنهم من كتبه كله. فحُفظ القرآن في عهده صلى الله عليه وسلم في الصدور وفي السطور.
ومن أشهر كتَّاب الوحي في عهد النبوة: الخلفاء الراشدون، ومعاوية بن أبي سفيان، وخالد بن الوليد، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وقد شهد العرضة الأخيرة.
(1/99)
وكُتب القرآن الكريم كاملا في عهد النبوة إلا أنه لم يُجمع في مصحف واحد لأسباب منها: ما كان يترقبه صلى الله عليه وسلم من زيادة فيه، أو نسخ منه، ولأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يعتنون بحفظه واستظهاره أكثر من عنايتهم بكتابته.
وفي السنة الحادية عشرة من الهجرة وقعت معركة اليمامة المشهورة بين المرتدين بقيادة مسيلمة الكذاب، والمسلمين بقيادة خالد بن الوليد، واستحرَّ القتل في المسلمين، واستشهد منهم سبعون من القرَّاء؛ فارتاع عمر بن الخطاب، وخاف ذهاب القرآن بذهاب هؤلاء القرَّاء، ففزع إلى أبي بكر الصديق، وأشار عليه بجمع القرآن، فخاف أبوبكر أن يضع نفسه في منزلة من يزيد احتياطه للدين على احتياط رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما زال مترددًا حتى شرح الله صدره، واطمأن إلى أن عمله مستمد من تشريع رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتابة القرآن.
وكان زيد بن ثابت مداومًا على كتابة الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد العرضة الأخيرة للقرآن، وكان ذا عقل راجح وعدالة ورويَّة، مشهودًا له بأنه أكثر الصحابة إتقانًا لحفظ القرآن، ووعاء لحروفه، وأداء لقراءته، وضبطًا لإعرابه ولغاته؛ فوقع عليه الاختيار رغم وجود من هو أكبر منه سنًا، وأقدم إسلامًا، وأكثر فضلا.
يقول زيد: ((فوالله لو كلَّفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليَّ مما أمرني به من جمع القرآن )) . فشرح الله صدر زيد كما شرح صدر أبي بكر، ورغم حفظه وإتقانه، إلا أنه أخذ يتتبع القرآن، ويجمعه من العسب واللخاف والرقاع وغيرها مما كان مكتوبًا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن صدور الرجال، وكان لا يكتب شيئًا حتى يشهد شاهدان على كتابته وسماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فرتّبه على حسب العرضة الأخيرة التي شهدها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(1/100)
وبقيت هذه الصحف في رعاية أبي بكر، ثم في رعاية عمر، ثم عند أم المؤمنين حفصة، حتى أُحرقت بعد وفاتها رضي الله عنها .
اتسعت الفتوح، وانتشر الصحابة في الأمصار، وأصبح أهل كل مصر يقرؤون بقراءة الصحابي الذي نزل في مصرهم؛ ففي الشام بقراءة أُبي بن كعب، وفي الكوفة بقراءة عبدالله بن مسعود، وفي البصرة بقراءة أبي موسى الأشعري.
وكان مِن الصحابة الذين استقروا في البلاد المفتوحة مَن لم يشهد العرضة الأخيرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقف على ما نُسخ من أحرفٍ وقراءات في هذه العرضة، بينما وقف صحابة آخرون على ذلك، وكان كل صحابي يقرأ بما وقف عليه من القرآن، فتلقى الناس عنهم ذلك، فاختلفت قراءاتهم، وخطَّأ بعضُهم بعضا.
وفي فتح أذربيجان وأرمينية، في السنة الخامسة والعشرين من الهجرة اجتمع أهلُ الشام والعراق، فتذاكروا القرآن، واختلفوا فيه، حتى كادت الفتنة تقع بينهم، فكان حذيفة بن اليمان مشاركًا في هذا الفتح؛ فذعر ذعرًا شديدًا، وركب إلى عثمان في المدينة، ولم يدخل داره حتى أتى عثمان، فقال له: ((يا أمير المؤمنين أدرك الناس. قال: وما ذاك؟! قال: غزوت مَرْج أرمينية، فإذا أهل الشام يقرؤون بقراءة أبي بن كعب، فيأتون بما لم يسمع أهل العراق، وإذا أهل العراق يقرؤون بقراءة عبدالله بن مسعود، فيأتون بما لم يسمع به أهل الشام، فيكفر بعضهم بعضًا)).
وكان عثمان قد وقع له مثل ذلك، حتى إنه خطب في الناس، وقال لهم: أنتم عندي تختلفون فيه وتلحنون، فمن نأى عني من أهل الأمصار أشد فيه اختلافًا، وأشد لحنًا، اجتمعوا يا أصحاب محمد، واكتبوا للناس إمامًا.
وكتب عثمان إلى حفصة: أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف، ثم نردها إليك، فأرسلت بها.
يقول زيد بن ثابت: فأمرني عثمان بن عفان أن أكتب مصحفًا، وقال: إني مُدْخل معك رجلا لبيبًا فصيحًا، فما اجتمعتما عليه فاكتباه، وما اختلفتما فيه فارفعاه إليّ.
(1/101)
وفي رواية عن مصعب بن سعد: فقال عثمان: من أكتب الناس؟ قالوا: كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت. قال: فأي الناس أعرب -وفي رواية أفصح-؟ قالوا: سعيد بن العاص. قال: فَلْيُمْلِ سعيد، وليكتب زيد.
يقول زيد بن ثابت: فلما بلغنا: إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت قال زيد: فقلت ((التابوه )) ، وقال سعيد: ((التابوت )) . فرفعناه إلى عثمان، فكتب ((التابوت )) ؛ لأنها من لغة قريش التي نزل القرآن بلسانها.
فرغ زيد من كتابة المصحف، فعرضه عَرْضة فلم يجد فيه قوله تعالى: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا فلم يجدها عند المهاجرين، ولم يجدها عند الأنصار، فوجدها عند خزيمة بن ثابت. ثم عرضه عرضة أخرى، فلم يجد قوله تعالى: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ . فاستعرض المهاجرين فلم يجدها عندهم، واستعرض الأنصار فلم يجدها عندهم، حتى وجدها مع رجل آخر يدعى خزيمة أيضًا، فأثبتها، ثم عرضه عرضة ثالثة فلم يجد فيه شيئًا، فعرض عثمان المصحف على صحف حفصة، فلم يختلفا في شيء، فقرّت نفسه رضي الله عنه.
وفي رواية لمحمد بن سيرين: أن عثمان جمع لكتابة المصحف اثني عشر رجلا من المهاجرين والأنصار، منهم زيد بن ثابت، وفي روايات متفرقة منهم: مالك بن أبي عامر (جدّ مالك بن أنس) وكثير بن أفلح، وأبي بن كعب، وأنس بن مالك، وعبدالله بن عباس، وعبدالله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبدالرحمن بن الحارث بن هشام.
(1/102)
يقول ابن حجر: ((وكأن ابتداء الأمر كان لزيد وسعيد للمعنى المذكور فيهما في رواية مصعب، ثم احتاجوا إلى من يساعد في الكتابة بحسب الحاجة إلى عدد المصاحف التي ترسل للآفاق، فأضافوا إلى زيد من ذُكر، ثم استظهروا بأبي بن كعب في الإملاء)).
اختلفت الروايات في عدد المصاحف التي كتبها عثمان، فالمشهور أنها خمسة، وورد أنها أربعة، وورد أنها سبعة، بعث بها إلى مكة، والشام، واليمن، والبحرين، والبصرة، والكوفة، وأبقى واحدًا بالمدينة سُمي ((المصحف الإمام )).
أمر عثمان بما سوى المصحف الذي كتبه والمصاحف التي استكتبها منه أن تحرق، أو تخرق (أي تدفن).
وهكذا كان الجمع الثاني للقرآن الكريم في عهد عثمان رضي الله عنه، أشرف عليه بنفسه، بمشاركة كبار الصحابة رضوان الله عليهم وموافقتهم وإجماعهم ، فجمع بهذا العمل الجليل كلمة المسلمين، وحسم ما ظهر بينهم من خلاف.
تجويد الخط
جاء في الفهرست: أنَّ أول مَن كتب المصاحف في الصدر الأول، ووصف بحسن الخط ((خالد بن أبي الهياج))، وكان كاتباً للوليد بن عبدالملك (86-89 هـ/705-708م)، كتب له المصاحف والأشعارَ والأخبار، وهو الذي كتب في قِبلة المسجد النبوي بالذهب من (والشمس وضحاها) إلى آخر القرآن، وكان عمر بن عبدالعزيز مِمن اطّلع على خطّه وأعجب به، وطلب منه أن يكتب له مصحفًا تفنّن في خطه، فقلَّبه عمر واستحسنه إلا أنه استكثر ثمنه فرده عليه.
ثم جاء بعده ((مالك بن دينار))، وهو مولى لأسامة بن لؤي بن غالب ، ويكنّى بأبي يحيى، واشتهر بتجويد الخط، وكتب المصاحف مقابل أجر كان يتقاضاه.
وممن اشتهر بتجويد الخط في العصر الأموي أيضًا ((قطبة المحرِّر)) وهو من كتَّاب الدولة، يقول عنه ابن النديم: ((استخرج الأقلام الأربعة ، واشتق بعضها من بعض، وكان قطبة من أكتب الناس على الأرض بالعربية )). وإليه ينسب تحويل الخط العربي من الكوفي إلى الخط الذي هو عليه الآن .
(1/103)
أما في العصر العباسي، وفي خلافة أبي العباس السفاح (132-136 هـ/ 749-754م) فقد انتهت جودة الخط إلى ((الضحاك بن عجلان )) يقول ابن النديم: ((فزاد على قطبة، فكان بعده أكتب الخلق )). وممن جوَّد الخطَ في عهدي المنصور (136-158 هـ / 754-775م) والمهدي (158- 169 هـ/775-785م) ((إسحاق بن حمَّاد )) الذي زاد في تجويده على ((الضحاك بن عجلان )).
وظل الخط العربي يرقى ويتنوع حتى وصل إلى عشرين نوعًا على رأس المائة الثالثة من الهجرة عندما انتهت رئاسة الخط إلى الوزير أبي علي محمد بن علي بن مقلة ، وأخيه أبي عبدالله الحسن بن علي. يقول ابن النديم: ((وهذان رجلان لم يُرَ مثلهما في الماضي إلى وقتنا هذا ، وعلى خط أبيهما مقلة كتبا.. وقد كتب في زمانهما جماعة، وبعدهما من أهلهما وأولادهما، فلم يقاربوهما، وإنما يندر للواحد منهما الحرف بعد الحرف، والكلمة بعد الكلمة، وإنما الكمال كان لأبي علي وأبي عبدالله.. ورأيت مصحفًا بخط جدهما مقلة )).
قام الوزير ابن مقلة بحصر الأنواع التي وصل إليها الخطُّ العربي في عصره إلى ستة أنواع هي: الثلث، والنسخ، والتوقيع، والريحان، والمحقق، والرقاع. وهو الذي أكمل ما بدأه قطبة المحرِّر من تحويل الخط الكوفي إلى الشكل الذي هو عليه الآن. وأول من قدَّر مقاييس وأبعاد النقط، وأحكم ضبطها وهندسها.
ومع نهاية القرن الرابع الهجري، وبداية القرن الخامس الهجري انتقلت رئاسة الخط العربي إلى أبي الحسن علي بن هلال الكاتب البغدادي المعروف بابن البواب، أو بابن الستري ، وكان حافظًا للقرآن، و كان يقال له: الناقل الأول ؛ لأنه هذب وعظَّم وصحَّح خطوط ابن مقلة في النسخ والثلث اللذين قلبهما من الخط الكوفي ، واخترع ابن البواب عدَّة أقلام، وبلغ في جودة الخط مبلغًا عظيمًا، لم يبلغه أحد مثله.
(1/104)
وفي القرن السابع الهجري انتهت رئاسة الخط إلى عدد من الخطاطين منهم: ياقوت بن عبدالله الموصلي أمين الدين الملكي، المتوفى سنة 618 هـ، كاتب السلطان ملكشاه (465-485 هـ/ 1072-1092م)، وقد أخذ الخط عن الشيخة المحدِّثة الكاتبة ((شهدة بنت أحمد الإبَري الدينوري))، المتوفاة ببغداد سنة 574 هـ، وهي ممن أخذ الخط عن ابن البواب، وكان ياقوت الموصلي مولعًا بنسخ معجم " الصحاح "، للجوهري، وكتب منه نسخًا كثيرة، باع النسخة بمائة دينار.
ومنهم ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي، شهاب الدين، المتوفى سنة 626هـ، صاحب كتاب ((معجم البلدان))، وكتاب ((معجم الأدباء )).
ومنهم ياقوت بن عبدالله الرومي المُستَعْصِمي ، المتوفى ببغداد سنة 698 هـ، وهو من أشهر من جوَّد الخط في ذلك الزمن، قلَّد ابن مقلة، وابن البواب، وكان أديبًا شاعرًا خازنًا بدار الكتب المستنصرية. يقول عنه طاش كبري زاده: ((وهو الذي طبق الأرض شرقًا وغربًا اسمه، وسار ذكره مسير الأمطار في الأمصار، وأذعن لصنعته الكل، واعترفوا بالعجز عن مداناة رتبته فضلا عن الوصول إليها؛ لأنه سحر في الكتابة سحرًا لو رآه السامري لقال: إن هذا سحر حلال)).
وكان ياقوت المستعصمي يمثل نهاية الاحتكار العراقي للخط المجوَّد المنسوب، حيث أخذت المراكز الثقافية الأخرى في العالم الإسلامي تنافس بغداد في الاهتمام بالخط وتجويده.
ففي مصر عُرف تجويد الخط منذ عصر الدولة الطولونية (254-292 هـ/868-905م)، وفي العصر الفاطمي (358-567 هـ/968-1171م) وصلت إلى مستوى المنافسة مع بغداد عاصمة العباسيين، واستمرت كذلك في عصر الأيوبيين (569-650 هـ/ 1174-1252م) إلى أن جاء العصر المملوكي (648-932 هـ/1220-1517م)، حيث بلغت مركز الصدارة، وظهرت فيها كتبٌ تناولت نظريات فن الخط وتعليمه، مثل: مقدمة ابن خلدون، وصبح الأعشى للقلقشندي.
(1/105)
وفي شمال الشام تطور فنُّ الخط منذ أواخر القرن الخامس الهجري، وأجاد السوريون الشماليون خط النسخ، وخطَّ الطومار ومشتقاته.
وفي تركيا، حيث قامت الدولة العثمانية (699-1341 هـ/1299-1922م) بلغت العناية بتجويد الخط حدًّا بعيدًا، وأنشئت في الآستانة سنة 1326 هـأول مدرسة خاصة لتعليم الخط والنقش والتذهيب ، وطوَّروا ما أخذوه من مدارس سبقتهم في تجويد الخط؛ مثل: قلم الثلث والثلثين اللذين أخذوهما من المدرسة المصرية، وخط النسخ من السلاجقة، بل وزادوا على ذلك أقلامًا جديدة لأول مرة؛ مثل الرقعة، والديواني، وجلي الديواني، وتفردوا أيضًا بخط الطغراء، وهو في أصله توقيع سلطاني، وخط الإجازة وهو يجمع بين النسخ والثلث، والهمايوني، وهو خط مُوَلّد عن الديواني.
لم يتفوق الأتراك العثمانيون في الخط فقط، بل وفي تذهيب المصاحف وزخرفتها.
ولم يزل الأتراك ممسكين بزمام التفوق في تطور الخط العربي حتى سنة 1342 هـعندما استبدلوا بالحرف العربي الحرفَ اللاتيني، حيث انتقل قياد التفوق الخطي إلى مصر مرة أخرى.
فقد استقدم الملك فؤاد (1335-1355 هـ/ 1917-1936م) في سنة 1921م أشهر الخطاطين في الآستانة، وهو الشيخ محمد عبدالعزيز الرفاعي ، فكتب له مصحفًا في ستة شهور، وذهّبه وزخرفه في ثمانية شهور.
وفي منتصف شهر أكتوبر سنة 1922م فُتحت مدرسةٌ لتعليم الخطوط العربية، وكان في مقدمة أساتذتها الشيخ محمد عبدالعزيز الرفاعي، وقد تخرجت أول دفعة في هذه المدرسة في يونيه سنة 1925م، وبعد فترة ألحق بها قسم في فن الزخرفة والتذهيب.
استقطبت مصر عددًا من الخطاطين الأتراك منهم: عبدالله بك الزهدي (خطاط المسجد النبوي، المتوفى بمصر سنة 1296 هـ)، ومحمد عبدالعزيز الرفاعي، وأحمد كامل، تخرج على أيديهم عدد من الخطاطين المصريين، وغيرهم من مختلف البلاد الإسلامية.
(1/106)
وفي إيران لم تكن العناية بالخط العربي، وكتابة المصاحف أقل منها في تركيا، ونبغ الإيرانيون في مجال التذهيب، حتى تفوقوا على الأتراك في هذا الفن، كما عرفوا خطوطًا خاصة بهم منها: خط الشكسته، وهو أقدم خط عرفه الفرس، وخط التعليق، وهو خط فارسي ظهر في أواخر القرن السابع الهجري، وخط النسخ تعليق الذي يجمع بين خطي النسخ والتعليق، الذي ظهر في القرن التاسع الهجري. وفي الوقت الذي أخذ فيه الأتراك عن الفرس خط التعليق وبرعوا فيه، فإن الفرس لم ينجحوا في إجادة الخط الديواني الذي أخذوه من الأتراك.أما شمال إفريقية فقد انتقل الخط إليها عن طريق المدينة، ثم الشام ، فعُرف الخط المغربي ، وانتشر في شمال إفريقية ووسطها وغربها وفي الأندلس. ومن الخطوط التي ظهرت في هذا الجزء من العالم الإسلامي خط القيروان الذي اتخذ الخط الكوفي أساسًا له، وخط المهدية، وخط الأندلس الذي احتل المكانة الأولى في كل شمال إفريقية في أواخر عهد الموحدين (524-668 هـ/1130-1269م)، ثم ظهر الخط الفاسي، ثم ظهر الخط السوداني الذي عرف اعتبارًا من القرن السابع الهجري.وفي الجناح الشرقي من البلاد الإسلامية كان الغزنويون، والسلاجقة العظام لا يقلون اهتمامًا بالخط عن نظرائهم في البلاد الإسلامية الأخرى، ومثلهم في ذلك الإيلخانيون، والتيموريون، والجلائرون في القرنين السابع والثامن الهجريين.
نَقْط المصحف الشريف
كُتبت مصاحف عثمان خالية من النقط والشكل؛ حتى تحتمل قراءتُها الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن الكريم، وعندما أرسلها إلى الأمصار رضي بها الجميع، ونسخوا على غرارها مصاحف كثيرة خالية من النقط والشكل. واستمروا على ذلك أكثر من أربعين سنة.
(1/107)
وخلال هذه الفترة توسعت الفتوح، ودخلت أممٌ كثيرة لا تتكلم العربية في الإسلام؛ فتفشت العجمة بين الناس، وكثر اللحن، حتى بين العرب أنفسهم؛ بسبب كثرة اختلاطهم ومصاهرتهم للعجم، ولما كان المصحف الشريف غير منقوط خشي ولاة أمر المسلمين عليه أن يتطرق له اللحن والتحريف.
وكان أول من التفت إلى نقط المصحف الشريف هو زياد بن أبيه؛ ولذلك قصة، وهي: أن معاوية بن أبي سفيان كتب إلى زياد عندما كان واليًا على البصرة (45-53هـ) أن يبعث إليه ابنه عبيدالله، ولما دخل عليه وجده يلحن في كلامه، فكتب إلى زياد يلومه على وقوع ابنه في اللحن، فبعث زياد إلى أبي الأسود الدؤلي يقول له: ((إن هذه الحمراء قد كثرت وأفسدت مِن ألسنة العرب، فلو وضعت شيئًا يُصلح به الناسُ كلامَهم، ويعربون به كتاب الله )). فاعتذر أبو الأسود فلجأ زياد إلى حيلة؛ بأن وضع في طريقه رجلا وقال له: إذا مرّ بك أبو الأسود فاقرأ شيئًا من القرآن، وتعمد اللحن فيه. فلما مرّ به قرأ قوله تعالى: أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ، بجرّ لام رسوله، فشق ذلك على أبي الأسود، وقال: ((عزّ وجه الله أن يتبرأ من رسوله)). وقال لزياد: ((قد أجبتك إلى ما طلبت، ورأيت أن أبدأ بإعراب القرآن ))، واختار رجلا من عبدالقيس، وقال له: ((خذ المصحف، وصِبغًا يخالف لون المداد، فإذا رأيتني فتحت شفتي بالحرف فانقط واحدة فوقه، وإذا كسرتها فانقط واحدة أسفله، وإذا ضممتها فاجعل النقطة إلى جانب الحرف (أي أمامه)، فإذا أتبعت شيئًا من هذه الحركات غنة (أي تنوينًا)، فانقط نقطتين )).
فأخذ أبو الأسود يقرأ المصحف بالتأني، والكاتب يضع النقط، واستمر على ذلك حتى أعرب المصحف كله، وكان كلما أتم الكاتب صحيفة، أعاد أبو الأسود نظره فيها.
(1/108)
وجاء تلاميذ أبي الأسود بعده، وتفننوا في شكل النقطة؛ فمنهم مَن جعلها مربعة، ومنهم من جعلها مدورة مطموسة الوسط، ومنهم من جعلها مدورة خالية الوسط. وكانوا لا يضعون شيئًا أمام الحرف الساكن، أما إذا كان منونًا فيضعون نقطتين فوقه، أو تحته، أو عن شماله؛ واحدة للدلالة على أن النون مدغمة أو مخفاة، وفي تطور لاحق وضعوا للسكون جرة أفقية فوق الحرف منفصلة عنه، وجعلوا علامة الحرف المشدد كالقوس، ولألف الوصل جرة متصلة بها في أعلاها، إذا كان قبلها فتحة، وفي أسفلها إذا كان قبلها كسرة، وفي وسطها إذا كان قبلها ضمة هكذا ، وذلك باللون الأحمر.
وكان هذا النقط يُسمى شكلا أو ضبطًا؛ لأنه يدل على شكل الحرف وصورته، وما يعرض له من حركة، أو سكون، أو شد، أو مد، ونحو ذلك.
وكانت الآراء مختلفة في أول من وضع هذا النقط، إلا أن أكثر هذه الآراء يذهب إلى أن المخترع الأول لهذا النوع من النقط هو أبو الأسود الدؤلي.
كما كانت الآراء مختلفة بين جوازه والأخذ به، وكراهته والرغبة عنه؛ جوازه لما فيه من البيان والضبط والتقييد، وكراهته؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم عندما جمعوا القرآن، وكتبوا المصاحف جردوها من النقط والشكل، فلو كان مطلوبًا لما جردوها، يقول القلقشندي: ((وأما أهل التوقيع في زماننا فإنهم يرغبون عنه (أي النقط)؛ خشية الإظلام بالنقط والشكل، إلا ما فيه إلباس على ما مر، وأهل الدَّيْونة لا يرون بشيء من ذلك أصلا ويعدون ذلك من عيوب الكتابة، وإن دعت الحاجة إليه )).
(1/109)
أما نقط الإعجام، فهو ما يدل على ذات الحرف، ويميز المتشابه منه؛ لمنع العجمة، أو اللبس. كحروف الباء والتاء والثاء والياء، والجيم والحاء والخاء، والراء والزاي، والسين والشين، والعين والغين، والفاء والقاف، ونحوها مما يتفق في الرسم ويختلف في النطق، فقد دعت الحاجة إليه عندما كثر الداخلون في الإسلام من الأعاجم، وكثر التصحيف في لغة العرب، وخيف على القرآن أن تمتد له يد العبث.
واختلفت الآراء في أول من أخذ بهذا النقط، وأرجحها في ذلك ما ذهب إلى أن أول من قام به هما: نصر بن عاصم ، ويحيى بن يَعْمَر ؛ وذلك عندما أمر الخليفة الأموي عبدُالملك بن مروان الحجاج بن يوسف الثقفي والي العراق (75-95هـ) أن يضع علاجًا لمشكلة تفشي العجمة، وكثرة التصحيف، فاختار كلا من نصر بن عاصم، ويحيى بن يَعْمَر لهذه المهمة؛ لأنهما أعرف أهل عصرهما بعلوم العربية وأسرارها، وفنون القراءات وتوجيهها.
وبعد البحث والتروي، قررا إحياء نقط الإعجام ، وقررا الأخذ بالإهمال والإعجام، مثلا الدال والذال، تهمل الأولى وتعجم الثانية بنقطة واحدة فوقية، وكذلك الراء والزاي، والصاد والضاد، والطاء والظاء، والعين والغين. أما السين والشين، فأهملت الأولى وأعجمت الثانية بثلاث نقط فوقية؛ لأنها ثلاث أسنان، فلو أعجمت الثانية واحدة لتوهم متوهم أن الحرف الذي تحت النقطة نون والباقي حرفان مثل الباء والتاء تسوهل في إعجامهما.
أما الباء والتاء والثاء والنون والياء، فأعجمت كلها، والجيم والحاء والخاء، أعجمت الجيم والخاء، وأهملت الحاء، أما الفاء والقاف، فإن القياس أن تهمل الأولى وتعجم الثانية، إلا أن المشارقة نقطوا الفاء بواحدة فوقية، والقاف باثنتين فوقيتين أيضًا، أما المغاربة فذهبوا إلى نقط الفاء بواحدة تحتية، والقاف بواحدة فوقية.. وهكذا كان نقط الإعجام في بقية الأحرف.
(1/110)
وقد أخذ نقط الإعجام في بدايته شكل التدوير، ثم تطور بعد ذلك وأخذ شكل المربع، وشكل المدور المطموس الوسط، كما استخدمت الجرة الصغيرة فوق الحرف وتحته.
وكتب هذا النوع من النقط بلون مداد المصحف؛ حتى لا يشتبه بنقط الإعراب، واستمر الوضع على ذلك حتى نهاية الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية سنة 132هـ، حيث تفنن الناس خلال هذه الفترة في اتخاذ الألوان في نقط مصاحفهم، ففي المدينة استخدموا السواد للحروف ونقط الإعجام، والحمرة للحركات والسكون والتشديد والتخفيف، والصفرة للهمزات، وفي الأندلس استخدموا أربعة ألوان: السواد للحروف، والحمرة لنقط الإعراب، والصفرة للهمزات، والخضرة لألِفات الوصل، أما في العراق فاستخدموا السواد لكتابة حروف المصحف ونُقط الإعجام، والحمرة لنقط الإعراب (الحركات والهمزات)، واستخدم في بعض المصاحف الخاصة الحمرة للرفع والخفض والنصب، والخضرة للهمزة المجردة، والصفرة للهمزة المشدَّدة.
فاستخدام السواد كان عند الجميع لحروف المصحف ونقط الإعجام، والألوان الأخرى لغيرهما .
امتلأت المصاحف بالألوان المتعددة ((التي أصبحت عبئًا على عقل القارئ، وصعوبة على قلم الكاتب )) ، وكان النقط جميعه مدورًا سواء نقط الإعراب أو الإعجام، فوقع الناس في الخلط بين الحروف.
واتفقت الآراء على أن يجعل نقط الإعراب (الشكل) بمداد الكتابة نفسه تيسيرًا على الناس، فأخذ إمام اللغة: الخليل بن أحمد الفراهيدي على عاتقه القيام بهذا العمل؛ فجعل الفتحة ألفًا صغيرة مضطجعة فوق الحرف، والكسرة ياء صغيرة تحته، والضمة واوًا صغيرة فوقه. وإن كان الحرف منوّنًا كرر الحرف ، وجعل ما فيه إدغام من السكون الشديد رأس شين بغير نقط (سـ)، وما ليس فيه إدغام من السكون الخفيف رأس خاء بلا نقط (حـ) والهمزة رأس عين (عـ)، وفوق ألف الوصل رأس صاد (صـ)، وللمد الواجب ميمًا صغيرة مع جزء من الدال (مد).
(1/111)
يقول الدالي: ((وبهذا وضع الخليل ثماني علامات: الفتحة، والضمة، والكسرة، والسكون، والشدة، والمدة، والصلة، والهمزة، وبهذه الطريقة أمكن أن يجمع بين الكتابة والإعجام والشكل بلون واحد )).
أدوات الكتابة
كانت أدوات الكتابة قبل ظهور المطابع ووسائل التقنية الحديثة، تتكون من:
المِقْلَمة: وهي المكان الذي توضع فيه الأقلام. ... 1-
الأقلام، أو المِزْبَر: وكانت تؤخذ من لب الجريد الأخضر، ثم أخذت من القصب الفارسي، وشاع استخدام القصب والحبر الأسود حتى سنة 1330هـ، عندما عرف الناس استخدام الريشة المصنوعة من المعادن، فكتبوا بها بالحبر الأزرق، ثم شاع استخدام أقلام الجيب (الحبر والجاف). وتميزت أقلام القصب عن غيرها بسهولة استعمالها، وقدرتها على إظهار قواعد الخط، يقطعها الكاتب كما يشاء بحسب نوع الكتابة وحجم الخط، أما أقلام المعدن فلا تؤدي قواعد الخط كما ينبغي، وإن كانت في كتابة الحروف الإفرنجية أفضل من أقلام القصب؛ لأن أحد جانبي الحرف الإفرنجي أغلظ من الآخر، فبإمكان الكاتب أن يضغط على أقلام المعدن فينفرج سن المعدن، فيغلظ المكان الذي يريده من الحرف، وهذا لا يتأتى مع أقلام القصب إلا بصعوبة، وربما تلف القلم. ... 2-
المُدْيَة: وهي السكين التي يُبرى بها القلم ويُقَطّ. ... 3-
المِقَطُّ: عود صلب، وسطح تقط رؤوس الأقلام عليه. ... 4-
المِحْبَرة: وهي التي يوضع فيها الحبر. ... 5-
المِلْوَاق: وهو عود -يفضل أن يكون من الأبنوس- يحرك به الحبر في الدواة، ويفضل أن يكون مستديرًا مخروطًا، عريض الرأس ثخينه. ... 6-
المَرْمَلة: اسمها القديم المِتْرَبَة، وهي علبة يوضع فيها الرمل الأصفر، أو الأحمر، أو ما هو بين الحمرة والصفرة، لرش الكتابة بعد كتابتها، فيزيدها جمالا. ... 7-
المِنْشأة: علبة يوضع فيها النشا بعد طبخه، حيث يكوِّن مادة لاصقة مثل الغِراء. ... 8-
المِنْفَذُ: وهي آلة تشبه المخرز؛ لحزم الورق. ... 9-
(1/112)
المِلْزَم : خشبتان يشدّ وسطهما بحديدة؛ لتمنع الورق من الانزلاق حال الكتابة، وتحبسه بالمحبس وهو ما يعرف اليوم بماسك الورق. ... 10-
المِفْرَشة: وهي خرقة من الكتان، أو الصوف ونحوه، تفرش تحت الأقلام. ... 11-
المِمْسحة: وتُسمى الدفتر، وهي خِرقة متراكبة من صوف، أو حرير، يُمسح القلم بباطنها عند الفراغ من الكتابة؛ لئلا يجف عليه الحبرُ فيفسد، وغالباً ما تكون مدورة مخرومة الوسط، أو مستطيلة. ... 12-
المسقاة: وهي إناء لطيف يصب الماء، أو ماء الورد في المِحْبَرةِ، وتسمى الماوَرْديّة. ... 13-
المِسْطَرة: وهي آلة من خشب مستقيمة الجنبين، يسطر عليها ما يُحتاج إلى تسطيره من الكتابة ومتعلّقاتها، وهي المسطرة المعروفة حاليًا، وأكثر ما يحتاج إليها المذَهِّب. ... 14-
المِصْقَلة: وهي التي يُصْقَلُ بها الذهب بعد كتابته. ... 15-
المِهْرَق: وهو القرطاس الذي يكتب فيه. ... 16-
المِسَنُّ: وهو آلة تتخذ لإحداد السكين. ... 17-
المِداد والحبر: سمى المداد؛ لأنه يمدُّ القلم، أيْ يعينه، وسُمي الزيت مداداً؛ لأن السراج يُمدّ به، أما الحبر فأصله اللون، وأجوده ما اتّخذ من سُخَام النِّفط، ومنه ما يُناسب الكاغِد (الورق)، وهو حبر الدّخان، ومنه ما يناسب الرّق ويسمى الحبر الرأس، ولا دخان فيه. ... 18-
الجلد: ومنه الرَّق، وهو ما يرقق من الجلود ليُكتب فيه، وتؤخذ من صغار العجول والحِمْلان والجدَاء والغزلان. يقول القلقشندي: ((وقد أجمع الصحابة -رضي الله عنهم- على كتابة القرآن في الرق؛ لطول بقائه، أو لأنه الموجود عندهم حينئذٍ)). وقد سمي رقاً؛ لجمْعه بين الرقة والمتانة وطول البقاء. وكان أهل الأندلس ممن اشتهروا بكتابة مصاحفهم في رقوق.
والأديم: وهو جلد أحمر مدبوغ، عُرف في الجاهلية، وكُتب عليه الوحي في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم.
والقضيم: وهو جلد أبيض كُتب عليه الوحي في عصر الرسالة. ... 19-
(1/113)
كما كان من أدوات الكتابة في عصر الرسالة: الحجارة، واللخاف وهي الحجارة الرقاق البيض، والعظام (عظم الكتف، والأضلاع)، والخشب، والعسيب، وهو السعفة أو جريدة النخل إذا يبست وكشط خوصها. ... 20-
الزخرفة والتذهيب
لم تكن المصاحف التي كتبت في عهد عثمان بن عفان خالية من النقط والشكل فقط، بل كانت أيضًا خالية من التحلية والتذهيب، والتعشير، وعلامات الفصل بين السور، ولم تعرف الزخرفة وتحلية المصاحف إلا في العصر العباسي، وكانت الصفحات الأولى والأخيرة وعناوين السور تحظى بعناية أكثر في تذهيبها وزخرفتها، وربما اشترك أكثر من واحد في زخرفة آيات المصحف الشريف وتذهيبها وكتابتها، وربما استغرقوا في ذلك أكثر من عام.
وكانت المصاحف في الصدر الأول من الإسلام على هيئة سجل، أو لفافة قد تشتمل الواحدة منها على سورة أو أكثر، ثم أخذت الشكل الأفقي، أو العمودي في فترة العصر الأموي وما بعده.
وكانت تجلد تجليدًا فنيًا حسب إمكانات ذلك العصر.
تاريخ الطباعة
في أوروبا:
يوحنا جوتنبرج (1397-1468م) اسم لمع في مدينة ((ماينز )) بألمانيا، وارتبط باختراع فن المطابع، وذلك عام 840هـ/1436م، وكان هذا الاكتشاف إيذانًا بعصر جديد في انتشار العلم والتقاء الحضارات، وتبادل الثقافات.
وظهر أول كتاب مطبوع في أوروبا -على الأرجح- ما بين (844-854هـ / 1440-1450م) وذلك بالحروف اللاتينية المتحركة.
ورغم السرية التي أحاط بها جوتنبرج اختراعه إلا أن الطباعة انتشرت انتشارًا سريعًا في البلاد الأوروبية الأخرى؛ حيث ظهرت الطباعة في روما سنة 870هـ/1465م، وفي البندقية سنة 874هـ/1469م، وفي باريس سنة 875هـ/1470م، وفي برشلونة سنة 876هـ/1471م، وفي إنجلترا سنة 879هـ/1474م.
(1/114)
وفي عام 1486م عُرفت الطباعة بالحروف العربية، وطبع في عام 1505م في مدينة غرناطة كتابان بالعربية هما: وسائل تعلُّم قراءة اللغة العربية ومعرفتها، ومعجم عربي بحروف قشتالية، بتوجيه من الملك فردينان وزوجته إيزابيلا.
في تركيا:
تاريخ دخول المطابع الحديثة إلى تركيا مضطرب، لم تتفق المصادر على تحديد بدايته؛ حيث ورد أن بداية معرفة الأتراك للمطابع الحديثة كان مع دخول المهاجرين اليهود إلى الأراضي العثمانية، عندما حملوا معهم مطبعة تطبع الكتب بعدة لغات هي: العبرية، واليونانية، واللاتينية، والإسبانية، فطُبعت التوراة مع تفسيرها في عام 1494م، وطبع كتابٌ في قواعد اللغة العبرية عام 1495م، وطبعت كتب أخرى بعدة لغات في عهد السلطان بايزيد الثاني (886-918هـ/1481-1512م) بلغت تسعة عشر كتابًا.
ويؤكد بعضُ الباحثين أن الآستانة عاصمة الأتراك العثمانيين هي أول بلد شرقي يعرف المطابع الحديثة، ويرجع ذلك إلى عام 1551م، في عهد السلطان سليمان الأول القانوني (926-974هـ/ 1520-1566م)، وكانت ترجمة التوراة إلى اللغة العربية، والتي قام بها سعيد الفيومي هي أول كتاب يطبع في تركيا في ذلك العام، وقد طبعت بحروف عبرية.
ويذكر موريس ميخائيل أن أول مطبعة تطبع بحروف عربية في اسطنبول هي التي أسسها إبراهيم الهنغاري عام 1727م (1139هـ)، وسمح له بطباعة الكتب عدا القرآن الكريم، ويبدو أن أول كتاب يظهر في هذه المطبعة هو كتاب ((قاموس وان لي )) في مجلدين، بين عامي 1729-1730م، وهو ترجمة تركية لقاموس (( الصحاح)) للجوهري، ويقترب معه إلى حد كبير الدكتور سهيل صابان في تحديد تاريخ أول مطبعة بالحروف العربية تظهر في تركيا لصاحبيها سعيد حلبي، وإبراهيم متفرقة، وذلك عام 1139هـ(1726م).
وفي رأي آخر أن كتب الحكمة والتاريخ والطب والفلك طبعت مع بداية عام 1716م، عندما صدرت فتوى من شيخ الإسلام عبدالله أفندي بجواز طبعها.
(1/115)
ولعل هذا الاضطراب في تحديد بداية تاريخ دخول المطابع إلى تركيا لا يحجب بعض الأمور الواضحة حول معرفة الأتراك العثمانيين للمطابع الحديثة، وهي:
أن تركيا العثمانية أول البلاد الشرقية معرفة للمطابع. ... 1-
تأخر الطباعة بالحروف العربية عنها بالحروف الأخرى. ... 2-
تردد الأتراك في طباعة كتبهم، حتى صدور فتوى بجواز ذلك. ... 3-
أن العلماء الأتراك حرَّموا طباعة المصحف الشريف؛ خوفًا عليه من التحريف. ... 4-
أن الإذن بطباعة الكتب بالحروف العربية جاء متدرجًا، ففي البداية سمح بطباعة الكتب في مجال الطب والفلك والحكمة والتاريخ، ثم أُذن بطباعة الكتب الأخرى. ... 5-
في بلاد الشام:
عرف لبنان الطباعة في وقت مبكر ، وهذا يعود إلى سنة 1610م (1018هـ)، عندما أنشئت المطبعة المارونية على يد رهبان دير قزحيا (قزوحية)، وكان أول كتاب يطبع فيها هو كتاب ((سفر المزامير )) الذي طبع بعمودين، أحدهما بالسريانية، والآخر بالعربية، إلا أن هذه المطبعة واجهت صعوبات لم تمكنها من الاستمرار في عملها.
ثم ظهرت مطبعة دير ماريوحنا الصايغ عام 1734م، أنشأها عبدالله بن زخريا (الزاخر) المتوفى عام 1748م، وكان أول كتاب يطبع فيها ((ميزان الزمان )).
وفي عام 1753م ظهرت في بيروت مطبعة القديس جاورجيوس، وفي عام 1834م نقلت المطبعة الأمريكية للمبعوثين الأمريكان -التي أنشئت في مالطا عام 1822م- إلى بيروت، وطبعت فيها كتب كثيرة في الأدب والتاريخ.
وتعد المطبعة الكاثوليكية للآباء اليسوعيين التي ظهرت عام 1854م أول مطبعة تخرج عن الصبغة المسيحية، وتقوم بنشر العديد من كتب اللغة والأدب.
وفي عام 1867م أنشأ بطرس البستاني مطبعة المعارف.
(1/116)
أما سوريا، فهي أيضًا من أوائل البلاد العربية معرفة بالطباعة، وتعد مطبعة حلب من أقدم المطابع العربية، حيث ظهرت عام 1706م وبعد أكثر من مائة عام على ظهور هذه المطبعة ظهرت مطبعة أخرى حجرية في حلب أيضًا، هي مطبعة بلفنطي وذلك عام 1841م، ثم مطبعة الطائفة المارونية بحلب أيضًا عام 1857م، وفي حلب أيضًا ظهرت مطبعة جريدة فرات عام 1867م، أما دمشق فقد ظهرت فيها مطبعة الروماني عام 1855م، ومطبعة ولاية دمشق عام 1864م.
أما فلسطين والأردن، فيرجع ظهور المطابع فيها إلى عام 1830م عندما أنشئت مطبعة في فلسطين تطبع بالعبرية، ثم ظهرت مطبعة أخرى في القدس عام 1846م، تطبع بالعربية، ولم تعرف الأردن المطابع إلا بعد الحرب العالمية الأولى، عندما أنشئت مطبعة خليل نصر في عمَّان عام 1922م، ثم ظهرت مطبعة الحكومة عام 1925.
وأمّا في العراق، فرغم أنها عرفت أول مطبعة حجرية عام 1830م إلا أن أهم مطبعة ظهرت فيها كانت عام 1856م، في مدينة الموصل، على يد الرهبان الدومنيكان.
وفي مصر:
ارتبط ظهور الطباعة بحملة نابليون بونابرت على مصر عام 1798م، الذي حمل معه ثلاث مطابع مجهزة بحروف عربية ويونانية وفرنسية، وكان الهدف الأساس لهذه المطابع هو طباعة المنشورات والأوامر، وكانت تقوم بعملها في عرض البحر، حتى دخلت الحملة القاهرة، فنقلت إليها، وعرفت بالمطبعة الأهلية، وتوقفت هذه المطبعة بانتهاء الحملة الفرنسية عام 1801م، ولم يُعرف مصيرها.
(1/117)
وبعد حوالي عشرين عامًا، وفي عام 1819م، أو 1821م أنشأ والي مصر محمد علي باشا (1184-1265هـ / 1770-1849م) مطبعة على أنقاض المطبعة الأهلية، عُرفت بالمطبعة الأهلية أيضًا، ثم نُقلت إلى بولاق، فعرفت بمطبعة بولاق، أو المطبعة الأميرية، وكانت هذه المطبعة ثورة في عالم المعرفة، طبع فيها في مدة وجيزة من عام 1289هـ إلى عام 1295هـ أكثر من نصف مليون نسخة، ولم تتوقف خلال تسعين سنة من عملها المتواصل غير فترة يسيرة بين عامي 1861 و 1862م بين عهدي محمد علي والخديوي إسماعيل (1245-1312هـ/ 1830-1895م).
إثر انهيار إمبراطورية محمد علي باشا، ظهرت قيادات ضعيفة لم تستطع مواصلة مسيرة البناء المعرفي الذي شيد أساسه محمد علي باشا.
وبعد أربعين سنة من إنشاء مطبعة بولاق (الأميرية) التي أسهمت إسهامًا كبيرًا في إثراء المعرفة الإنسانية بطبع روائع التراث الإسلامي ونشرها، توالى ظهور بعض المطابع الأهلية مثل: مطبعة الوطن عام 1860م، ومطبعة وادي النيل عام 1866م، ومطبعة جمعية المعارف عام 1868م، والمطبعة الخيرية بالجمالية، والمطبعة العثمانية، والمطبعة الأزهرية، والمطبعة الشرفية أو الكاستلية، والمطبعة الرحمانية، وغيرها من المطابع.
وفي شبه الجزيرة العربية :
رجَّح الدكتور يحيى محمود جنيد أن عام 1297هـ (1879م) هو العام الذي ظهرت فيه الطباعة في اليمن، وذلك بعد مناقشته لمختلف الروايات التي أشارت إلى تواريخ متعددة عن بداية الطباعة في اليمن هي: 1289هـ(1872م) ، و 1292هـ(1875م) ، و 1294هـ(1877م) ، و1297هـ(1879م).
(1/118)
وكانت الدولة العثمانية هي التي قامت بإنشاء هذه المطبعة، وخصصتها لما يخدم مصالحها، ولم يُطبع فيها أي كتاب بالعربية ، وعرفت هذه المطبعة بمطبعة صنعاء، أو مطبعة الولاية، أو مطبعة ولاية اليمن، ويصفها الدكتور يحيى بأنها مطبعة يدوية هزيلة، لا تطبع أكثر من صفحتين. وعلى يد والي الحجاز من قبل الأتراك، الوزير عثمان نوري باشا أنشئت أول مطبعة في الحجاز في مكة المكرمة عام 1300 هـ(1882م)، وصفت بأنها يدوية، وأن وسائلها كانت محدودة، ولم تكن في مستوى المطابع الكبرى التي ظهرت في مصر، والتي اتجه إليها علماء الحجاز لطبع مؤلفاتهم. وسميت هذه المطبعة بالمطبعة الميرية، أو مطبعة الولاية، أو مطبعة ولاية الحجاز. وكانت موضع عناية الدولة العثمانية حتى آلت إلى الحكومة الهاشمية، فامتدت لها يد الإهمال إلى أن دخلت الحجاز في حكم الملك عبدالعزيز -رحمه الله تعالى-، فدبَّتْ فيها الحياة مرة أخرى، وسميت بمطبعة أم القرى.
كما ظهر في الحجاز العديد من المطابع الأخرى، مثل مطبعة شمس الحقيقة بمكة، التي ظهرت عام 1327هـ (1909م)، ومطبعة الترقي الماجدية بمكة عام 1327هـ، ومطبعة الإصلاح في جدة عام 1327هـ أيضًا، فانتشرت المطابع في المملكة العربية السعودية، وزاد عدد المطبوعات، وأرسلت أول بعثة إلى مطبعة بولاق بمصر للتخصص في فن الطباعة وفروعه عام 1375هـ .
الطبعات المبكرة للمصحف الشريف
في أوروبا:
تحدث الدكتور يحيى محمود جنيد عن طبعات ثلاث للمصحف الشريف في أوربا في القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلاديين، هي: طبعة البندقية عام 1537م أو 1538م، وطبعة هامبورج عام 1694م، وطبعة بتافيا عام 1698م.
(1/119)
وكانت الطبعة الأولى يلفها الغموض في تحديد تاريخها، ومكانها والجهة المشرفة عليها ومصيرها، فقيل في تاريخ طبعها: إنه كان في عام 1499م، وقيل: عام 1508م، وقيل: عام 1518م، وقيل:عام 1530م، وقيل: عام 1538م، أي أن هذه النسخة طبعت في الفترة ما بين 1499م و 1538م، دون الاتفاق على تاريخ محدَّد.
أما مكان الطبع فاختلف فيه أيضُا: فقيل: في البندقية. وقيل: في روما. وكذلك المشرف على طبعه قيل: باغنين، وقيل: بافاني، وقيل: باجانيني، ورغم ما يتردد من شك حول اكتشاف نسخة من هذه الطبعة في مكتبة الدير الفرنسسكاني القديس ميخائيل بالبندقية على يد أنجيلا نيوفو Angela Novo ، إلا أن هناك اتفاقًا على أن هذه الطبعة أتلفت بأمر من البابا، وإذا كان هناك من الباحثين من يرجع سبب إتلافها إلى رداءة طباعتها، وعدم تقيدها بالرسم الصحيح للمصحف، حسب ما اتفق عليه علماء المسلمين، مما جعل المسلمين يحجمون عن اقتنائها، إلا أن تدخل البابا وأمره بإتلافها يوحي بأن هناك دافعًا دينيًا أيضًا وراء إتلاف هذه الطبعة.
أما طبعة هامبورج Hamburgh في عام 1125 هـ (1694م)، فقد قام بها مستشرق ألماني ينتمي إلى الطائفة البروتستنتية، هو إبراهام هنكلمان Ebrahami Hincklmani ، وقد حدَّد أن هدفه من هذه الطبعة ليس نشر الإسلام بين البروتستانت، وإنما التعرف على العربية والإسلام.
استغرق نص القرآن في هذه الطبعة خمسمائة وستين صفحة، كل صفحة تتكون من سبعة عشر إلى تسعة عشر سطرًا، وطبعت بحروف مقطعة، وبحبر أسود ثخين، على ورق كاغد أوربي، يعود إلى القرن الحادي عشر الهجري (السابع عشر الميلادي)، وامتلأت بأخطاء كثيرة، بعضها ناتج عن تبديل حرف مكان حرف، وبعضها بسبب سقوط حرف من كلمة غيَّر المعنى المراد منها، وأخطاء أخرى تتعلق بأسماء السور، ويبدو أن عدم إتقان القائم على الطبعة للعربية، إضافة إلى محاولة تشويه النص القرآني الكريم وراء هذه الأخطاء.
(1/120)
ويذكر الدكتور يحيى: أن بعض المكتبات في العالم تضم نسخًا من هذه الطبعة، منها نسخة في دار الكتب المصرية برقم 176 مصاحف، ونسخة في مكتبة جامعة الملك سعود بالرياض.
طبعة بتافيا: صدرت هذه الطبعة من مطبعة السمناريين عام 1698م، وهي على قسمين: القسم الأول يضم نص القرآن الكريم، وترجمته، وتعليقات، وقد قام بإعداد هذا القسم الراهب الإيطالي لود فيكو مراشي Ludvico marracei Lucersi، وتمتاز هذه الطبعة بتطور حروفها قياسًا بالطبعتين السابقتين.
وفي روسيا طبع المصحف الشريف في ((سانت بترسبورغ )) عام 1787م، وأشرف على هذه الطبعة مولاي عثمان، وفي عام 1848م ظهرت طبعة أخرى في ((قازان )) أشرف عليها محمد شاكر مرتضى أوغلي، وتقع في 466 صفحة، بمقاس 351×189مم، التزم فيها بالرسم العثماني، ولم يلتزم بذكر أرقام الآيات، وكتبت علامات الوقف فوق السطور، وقد ألحق بهذه الطبعة قائمة بما فيها من الأخطاء وبيان الصواب فيها.
وفي عام 1834م ظهرت طبعة خاصة للمصحف الشريف في مدينة ((ليبزيغ )) أشرف عليها ((فلوجل )) Flügel، ورغم اهتمام الأوربيين بها، وإقبالهم عليها، إلا أنها لم تحظ بعناية المسلمين ؛ لمخالفتها قواعد الرسم العثماني الصحيح.
وفي إيران طبع المصحف طبعتين حجريتين في كل من طهران عام 1244هـ (1828م)، وتبريز عام 1248هـ (1833م).
كما ظهرت طبعات أخرى في الهند وفي الآستانه اعتبارًا من عام 1887م.
إلا أن الملاحظ على جميع تلك الطبعات عدم التزامها بقواعد الرسم العثماني، الذي حظي بإجماع صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وجرت على قواعد الرسم الإملائي الحديث إلا في نزرٍ يسير من الكلمات كتبت بالرسم العثماني.
(1/121)
واستمر الوضع على ذلك حتى عام 1308هـ (1890م) عندما قامت المطبعة البهية بالقاهرة، لصاحبها ((محمد أبو زيد )) بطبع المصحف الذي كتبه الشيخ المحقق ."رضوان بن محمد" الشهير بالمخللاتي ، والتزم فيه بخصائص الرسم العثماني، واعتنى بأماكن الوقوف مميزًا كل وقف بعلامة دالة عليه، التاء للوقف التام، والكاف للكافي، والحاء للحسن، والصاد للصالح، والجيم للجائز، والميم للمفهوم، كما قدّم له بمقدمة ذكر فيها أنه حرر رسمه وضبطه على ما في كتاب "المقنع " للإمام الداني ، وكتاب "التنزيل " لأبي داود ، ولخص فيها تاريخ كتابة القرآن في العهد النبوي، وجمْعه في عهدَي أبي بكر وعثمان -رضي الله عنهما-، كما لخص فيها مباحث الرسم والضبط...
عُرف هذا المصحف بمصحف المخللاتي، وكان المقدم على غيره من المصاحف، إلا أن رداءة ورقه، وسوء طباعته الحجرية، دفع مشيخة الأزهر إلى تكوين لجنة تضم: الشيخ محمد علي خلف الحسيني، الشهير بالحداد، والأساتذة: حفني ناصف، ومصطفى عناني، وأحمد الإسكندري؛ للنظر فيه، وفي ما ظهر من هنات في رسمه وضبطه، فكُتب مصحف بخط الشيخ محمد علي خلف الحسيني، على قواعد الرسم العثماني، وضُبط على ما يوافق رواية حفص عن عاصم، على حسب ما ورد في كتاب ((الطراز على ضبط الخراز)) للتَّنَسي ، مع إبدال علامات الأندلسيين والمغاربة، بعلامات الخليل بن أحمد وتلاميذه من المشارقة، وظهرت الطبعة الأولى منه عام 1342هـ (1923م)، فتلقاها العالم الإسلامي بالرضا والقبول.
وبعد نفاذ هذه الطبعة كوِّنت لجنة بإشراف شيخ الأزهر، وعضوية عدد من علمائه: الشيخ عبدالفتاح القاضي، والشيخ محمد علي النجار، والشيخ علي محمد الضبّاع، والشيخ عبدالحليم بسيوني، راجعت المصحف على أمهات كتب القراءات والرسم والضبط والتفسير وعلوم القرآن، وصححت ما في الطبعة الأولى من هنات في الرسم والضبط، وطبع طبعة ثانية مدققة ومحققة.
(1/122)
ثم توالت طبعات المصحف الشريف في مدن مختلفة من العالم الإسلامي مع تطور آلات الطباعة وانتشارها، بما فيها المغرب العربي، الذي لم يتأخر كثيرًا في طباعة المصحف الشريف عن المشرق، وإن لم يُعرف على وجه الدقة تاريخ بدء الطباعة فيها، إلا أنها التزمت في علامات الضبط بما جاء عند الخراز.
نبراساً يسيرون على ضوئه في تربية أبنائهم.
المحاضرة السابعة عشر
المطابع الفلسطينية وأثرها الثقافي في العهد التركي
المحاضرة السابعة عشر
المطابع الفلسطينية وأثرها الثقافي في العهد التركي
عاشت فلسطين نفس الظروف التي عاشتها أقاليم الدولة التركية؛ وأثرت في حياة مجتمعها منظومة القوانين والأنظمة التي كانت إدارات الولايات تحكم بموجبها، فكان من الطبيعي أن تغدو مدن ولاياتها بالحالة التي كانت عليها من التخلف أسوة بباقي مدن ولايات الأقاليم العربية الأخرى. وإذا كانت قد ظهرت بعض المظاهر الاستثنائية في المجال الثقافي (مجازاً) في بعض السنين؛ فمرد ذلك يعود للوفادات الدينية من مؤمني الديانات السماوية الثلاث التي كانت تحج إلى فلسطين وتقيم فيها وفق تقليد يعرف بوصف المجاورة "أي الإقامة إلى جوار المقدسات"، حيث تنقل هذه الوفادات بعض قيم الحضارة في بلدانها وعادات شعوبها وعاداتها وطقوس حياتها ومفاهيم عيشها، والتي ربما كان من بينها حمل الكتب واقتناؤها، وما يعنيه ذلك من احتمال وصول بعض الكتب الدينية المطبوعة مع أولئك الحجيج ووضعها في الاستعمال العام للمصلين بما وفر فرصة خاصة للمواطنين (العثمانيين) في ولاية القدس مثلاً للاطلاع على كتاب مطبوع والتمتع بسهولة قراءته قبل غيرهم من المواطنين (العثمانيين) في ولاية عربية أخرى.
(1/123)
ومع أنه لم يستدل على وقائع موثقة على هذا الصعيد بعد، إلا أن الافتراضات المنطقية حول هذا الموضوع تتمتع بدرجة من القوه تبلغ حد أهلية التأكيد على ذلك؛ خصوصاً وأن الحجيج المسيحي واليهودي إلى فلسطين متواصل، وأن القوانين العثمانية أجازت لأتباع الديانة اليهودية من الرعايا العثمانيين إنشاء المطابع وطباعة الكتب التي يرغبون فيها.
وفي هذا السياق يجدر القول إنه كانت إنتاجية "المطبعة العربية الأولى" التي صنعت في براشوفا في رومانيا عام 1700؛ وشغلت لأول مرة في البلاد العربية في مدينة حلب عام 1706، مقتصرة تماماً على الكتب الدينية. وكذلك الحال كانت إنتاجية "المطبعة العبرية الأولى" التي أنشأها في استنبول الرابي إسحق جرسون في أواخر القرن الخامس عشر؛ وطبعت أول كتاب عام 1490، مقتصرة على الكتب الدينية أيضاً.
ويذكر بعض رجال الدين المسيحيين معطيات هامة في هذا الاتجاه؛ فيشيرون إلى "أن واجبات النسخ التي كانت تشكل أحد أهم بنود أجندة الخدمة اليومية للرهبان في الأديرة والكنائس غالباً ما كانت تتم نقلاً عن مخطوط منسوخ باليد؛ ولكنها في بعض الأحيان القليلة كانت تتم نقلاً عن كتاب مطبوع أيضاً. وغالباً ما احتوت مكتبة البطريرك أو المطران أو رئيس الدير مهما كانت درجته الدينية على أجمل وأهم المخطوطات الأصلية أو المنسوخة، وكذلك أفخم وأندر الكتب بما فيها الكتب المطبوعة باللغة العربية. وفي مناسبات عديدة كانت الفعاليات الروحية المسيحية تشير إلى أن الكتب الدينية باللغة العربية وصلت إلى البلاد منذ أكثر من 400 سنة بواسطة بعض الحجاج كتقدمة شخصية أو كتقدمة رسمية من بعض الكنائس الأوروبية؛ وخصوصاً الإيطالية، وأن هذه الكتب المطبوعة كانت مرجعية النص المنسوخ بواسطة الرهبان، وخزانة تزويد رجال الدعوة بما يحتاجون من معارف في أصول دينهم وحال دنياهم".
(1/124)
وما يمكن الاقتناع به بدون حاجة لإيراد الأدلة وتقديم البراهين هو أن الناس من أتباع الديانة الموسوية في فلسطين قد عرفوا الكتاب المطبوع (باللغة العبرية طبعاً) في وقت مبكر من عمر الطباعة باللغة العبرية، وأن أول الكتب التي عرفوها مكتوبة بواسطة أسلوب الطباعة هو كتاب التوراة، وربما تلته بعد ذلك معرفة كراريس وكتيبات صلوات وأدعية مطبوعة في المطبعة العبرية الأولى في استنبول، وذلك لحاجة السكان الفلسطينيين اليهود لهذه الكتب؛ وما يترتب على استشعار هذه المسؤولية إزاء توفير هذه الحاجة من ناحية، ونظراً لإمكانية الاتصال والتواصل بين القدس واستنبول فكلاهما في نطاق الدولة العثمانية.
وما هو مؤكد أيضا أن الكتب المطبوعة التي عرفها الفلسطينيون اليهود كانت دينية محضة؛ وذلك لأن الفلسطينيين اليهود كانوا على غرار أترابهم من اتباع هذه الديانة في الولايات العربية الأخرى في الدولة العثمانية، لا يعرفون من اللغة العبرية إلا نصوص التوراة وأدعية الصلوات. وكانت امتلاكاتهم من مفردات اللغة العبرية دينية ولا تلبي أي شرط من شروط التخاطب الحياتي الدنيوي، ولم يكن لهم من لغة سوى اللغة العربية باعتبارها لغتهم القومية.
(1/125)
ويذكر الأب إبراهيم عياد أن نظام الخدمة الرعوية المعمول به في كنائس الشرق والذي تجري بموجبه عمليات انتقال المراتب الدينية المسؤولة من كنيسة الطائفة في مدينة ما إلى أخرى في إطار البلد الواحد، وكذلك من بلد عربي لآخر بهدف الحرص على خدمة الرعية والارتقاء بأوضاعها، كان يجيز للمراتب العليا خصوصاً، أن ينقلوا معهم أشياءهم بما فيها الكتب الخاصة بهم، أو تلك التي يرون أن حملها معهم ضرورة لأغراض الخدمة الرعوية. وهذا الأمر يجيز موجبات الاستنتاج بأن فرصاً ما كانت قد وفرتها الكنيسة لتعرّف بعض الفلسطينيين على الكتب المطبوعة قبل دخول الطباعة إلى فلسطين. كما أن تحمل الأديرة والكنائس؛ وخصوصاً منذ أواسط القرن التاسع عشر مسؤوليات تعليمية واسعة في فلسطين أسوة بباقي الديار الشامية الأخرى، مكّن الفلسطينيين من التعرف المبكر نسبياً على الكتاب المطبوع، وعلى الفرق بينه وبين الكتاب المخطوط أو الكتاب المنسوخ. وقد شكّل هذا التعّرف في مراحله اللاحقة عناصر اهتمام بالطباعة مهّدت في تسريع دخولها إلى البلاد.
بدايات ملتبسة :
(1/126)
كانت فلسطين تتمتع بمكانة دينية رفيعة أهلتها على مر العصور لأن تضطلع بدور حضاري متميز؛ إلا أنها لم تكسب شرف السبق في انطلاقة الطباعة من أرضيها لأسباب موضوعية؛ وذلك رغم إثارة بعض المصادر بشكل عابر وغير موثق إلى أن الطباعة قد دخلت إلى فلسطين منذ منتصف القرن السادس عشر الميلادي. ولكن المَقر به تاريخياً أن فلسطين سجلت لنفسها مأثرة ولادة الطباعة الثانية في الديار الشامية؛ وذلك بعد أن كانت قد توقفت في تلك الديار بدءاً من عام 1789 على أثر وفاة السيد نيقولا زيادة الجبيلي المشهور باسم "أبو عسكر"، وإغلاق مطبعته المعروفة باسم "مطبعة القديس جاورجيوس للروم الأرثوذكس" الكائنة في بيروت بسبب ذلك؛ برغم أنها كانت حينذاك المطبعة الوحيدة في الديار الشامية وبسبب هذا التوقف ظلت ولايات سوريه جميعها بدون مطابع، وعاد أمر الحصول على الكتب مقتصراً على ما تسمح به الظروف من فرص لاستيراد بعض الكتب والمطبوعات من الخارج.
ظل الوضع قائماً هكذا في الديار الشامية حتى عام 1830 حيث تأسست أول مطبعة في القدس؛ وكانت مطبعة يهودية يملكها نسيم باق، وقد عرفت باسمه. وقد اقتصرت بواكير أعمالها الطباعية الأولى على طباعة الكتب الدينية. ولم يستدل من المعطيات التاريخية على أنها قامت بطباعة أية كتب أو مطبوعات دنيوية، كما لم يعرف ما إذا كانت تلك المطبعة قد قامت بطباعة أية مطبوعات باللغة العربية.
(1/127)
ويذكر شاهين مكاريوس في مقاله بعنوان "المعارف في سوريه" المنشور في مجلة المقتطف (ج8، السنة السابعة، آذار 1883) أن مطبوعات مطبعة نسيم باق لاقت رواجاً واسعاً ونجاحاً كبيراً على الرغم من المنافسة الشديدة التي واجهتها من الناسخين الذين رفضوا مبدأ الكتابة بأسلوب الطباعة وشهّروا به وطعنوا في دقة نصوصه، واستمروا على عناد موقفهم المعارض للطباعة في القدس لفترة طويلة، ولكنهم رضخوا أخيراً للأمر الواقع بعد أن قامت مطبعة أخرى وأسست مع من سبقتها لرسوخ الطباعة في فلسطين.
وما يمكن استنتاجه من الوقائع التاريخية أن ملكية الطباعة في فلسطين ظلت حتى عام 1846 مقتصرة على الفلسطينيين اليهود دون غيرهم من أتباع الديانات الأخرى من الفلسطينيين. وبسبب ما عرفوه من أهمية للطباعة على الصعيدين التجاري والثقافي فقد امتلكوا 5 مطابع من إجمالي عدد المطابع التي كانت قائمة في الديار الشامية والذي كان يبلغ 30 مطبعة في السنوات الأولى من النصف الثاني للقرن التاسع عشر. وقد أهلت هذه الملكية الفلسطينيين اليهود للريادة في العمل الصحافي أيضاً في فلسطين؛ حيث صدرت أول صحيفة في القدس عام 1862 وكانت صحيفة عبرية يملكها يحائيل برويل، وقد عرفت باسم هالبانون، وكانت تهتم بنشر بعض المواضيع الدينية إضافة لمواضيع أخرى.
ويذكر الأب لويس شيخو في مقالة له بعنوان "تاريخ الطباعة في الشرق" نشرت في "مجلة المشرق" البيروتية بتاريخ 1900/2/15أن المطابع في الديار الشامية قامت بموجب فتوى شيخ الإسلام عبد الله أفندي الصادرة عام 1716 ولكن المعطيات أشارت إلى وجودها قبل ذلك بشكل رسمي أو غير رسمي؛ حيث أن محدودية إنتاجيتها وضيق مساحة تداول الكتب التي تطبعها، جعلها بعيدة عن اهتمامات رقابة الولاة وعدم اكتراثهم بمشروعية عملها أم عدمها.
(1/128)
وإذا كان هذا الأمر يضفي مزيداً من الالتباس على حقيقة تاريخ ميلاد الطباعة الفعلي، فإنه في فلسطين يزداد غموضاً، خصوصاً وأن هناك منطقاً في الافتراض بأن الفلسطينيين اليهود ربما حاكوا اهتمامات أخوتهم في العقيدة من الأتراك اليهود في استنبول فسعوا إلى إقامة مطبعة دينية لهم قبل نسيم باق، وذلك بالاستناد إلى فرمان السلطان بايزيد الثاني لعام 1485 الذي يجيز للرعايا العثمانيين من أتباع الديانة اليهودية إقامة مطابع لهم. ولكن هذا الالتباس الذي يبلغ درجة الغموض لجهة تحديد تاريخ بدء الطباعة في فلسطين واحتمال قيامها قبل عام 1830، يمكن رؤيته من جانب آخر وقد تمتع بملامح إيجابية مثلت في حدها الأدنى عدم إعاقة ظهور الطباعة في الوقت المناسب؛ ووفر للطباعة وللقائمين عليها الأسلحة التي واجهوا بها النزعة المحافظة عند الُنسّاخ، فرسّخوا أسلوب الطباعة كحقيقة في فلسطين.
المطابع الأولى :
(1/129)
تخلف ظهور الطباعة في فلسطين أربعة قرون تقريباً على اكتشافها، ولم يكن لمعرفتها ولاستعمالها وحتى انتشارها في بعض البلدان العربية صدى سريعاً، ولا حتى قوياً في فلسطين مثل غيرها من الأقاليم المجاورة (باستثناء ولاية دمشق التي كان واقع الطباعة فيها أدنى كثيراً مما هو عليه في ولاية القدس). ومع أن الأسباب التي منعت السلطات العثمانية من الاستجابة لاستحقاق اكتشاف الطباعة كحدث حضاري تاريخي، كانت في الأساس دينية إسلامية؛ فإن الأسباب التي وقفت وراء ظهورها في فلسطين كما تشير إليه المراجع التاريخية حتى الآن هي دينية يهودية ودينية مسيحية. وتشير هذه المراجع إلى أن المطابع الأولى كانت معنية في الأساس بطباعة الكتب الدينية، وإن تلك المطابع قد أنشأت بمبادرات من المسؤولين في الكنائس والأديرة المسيحية. وأنشأت المطابع العبرية باهتمامات من الفعاليات اليهودية لأغراض دينية. ومع ذلك يمكننا القول أن تلك المطابع قد أسهمت بشكل رئيس في ترسيخ الطباعة في فلسطين وبتطوير الكتاب العربي؛ وذلك نظراً للعناية التي أولتها المستويات الإدارية لتلك المطابع من اهتمام إضافي بتطويرها وبالتبشير للطباعة ولأهميتها في الثقافة وفي تحضير المجتمع وتوفير سبل تطوره في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
ومع أن تلك المبادرات والاهتمامات قد أعطت المطابع ألواناً طائفية أو هوية دينية، فإنها قد شجعت على أن يقوم بجانبها وبمنافستها مطابع ذات صفة ملكية شخصية. وهذا الأمر أمكن ملاحظته بسهولة من متابعة ما أوردته المراجع التاريخية من معلومات عن نشوء المطابع وتزايد عددها الذي يبدو حتى الآن لغزاً محيراً لم تتمكن المتابعات من فكّه والوقوف على حقيقته.
(1/130)
إن المعلومات على هذا الصعيد تركز على نشوء المطابع في القدس وتزايد أعدادها وتطورها إبان النصف الثاني من القرن التاسع عشر؛ ولكن دون أن تحددها بشكل حصري، وتغفل من جانب آخر حتى الآن وجود مطابع أخرى في مدن أخرى، خصوصاً وأن بعض المعطيات تشير إلى مثل ذلك. وبهذا الخصوص فقد ورد في الجزء الأول من كتابنا "تاريخ الصحافة الفلسطينية" أن سلنامة معارف لسنة 1316 هجرية الموافق لسنة 1314 مالية والمنشور باللغة التركية قد تضمنت جداول المطابع في لواء القدس الشريف؛ وفيها أنه كان إلى جانب مطابع الإرساليات والرهبانيات يوجد في الأزقة الضيقة التي في القدس القديمة، وفي حيفا، وفي يافا، مطابع عربية خصوصية. ولكن منذ صدور ذلك الكتاب في عام 1987 وحتى اليوم لم تمكنني المتابعات وجميع أشكال التنبيش والتفتيش من العثور على شيء يذكر على هذا الصعيد. وكل ما أمكن الحصول عليه من هذه الأبحاث والتحريات والمتابعات يتمحور حول (نتف) قليلة من الوقائع الصغيرة والمعلومات المحدودة عن المطابع التي كانت قائمة في القدس دون غيرها. ولكن هذه المعلومات القليلة والمحدودة لعبت دوراً مهماً في التأكيد على أن مطابع البدايات كانت مؤهلة لأن تؤسس لنشوء حركة الطباعة في فلسطين؛ خصوصاً وأن قيام تلك المطابع وتمكنها من توفير عوامل استمرارها قد ترافق في التزامن مع تنشط الحركة الإرسالية التبشيرية في فلسطين وفي غيرها من الأقاليم الشامية، وتزايد اهتمام مختلف الكنائس الأوروبية بالمشاركة في هذا النشاط الدعووي والتبشيري للمذاهب المسيحية. لقد واجهت الإرساليات التبشيرية مصاعب كبيرة كانت قدرتها على عرقلة عمل تلك الإرساليات قد فاقت توقعاتها بكثير، وذلك لأسباب تتصل بمدى الجهل والتخلف الذي كانت ترزح تحت وطأته البلاد، خصوصاً في مجالات الثقافة العامة والصحة والتعليم وندرة وجود الكتب، وعدم وجود المطابع. وقد رأى الرهبان الفرانسيسكانيون أن رسالتهم لن يكتب لها
(1/131)
النجاح؛ ولن يتمكنوا من بث تعاليمهم بين المسيحيين المنتشرين في فلسطين والبلاد العربية المجاورة لها؛ بسبب وجود هذه المصاعب.
وكان أول ما توافق عليه الرهبان الفرانسيسكانيون لمواجهة هذه المشاكل هو البدء باستيراد كتب التدريس من الخارج والشروع بإقامة مطبعة في القدس مكرّسة لخدمة أغراض الإرسالية. وفعلاً أقام الراهب النمساوي سبستيان فروتخنر بتشجيع ودعم من الإمبراطور جوزيف الأول المطبعة في القدس عام 1846، وذلك بعد أن أستوردها ومعداتها وحروفها من النمسا. وكانت باكورة أعمال هذه المطبعة طباعة كتاب "التعليم المسيحي" الذي صدر باللغتين العربية والإيطالية. وبعد فترة من العمل تبين للمشرفين على المطبعة أن الحروف التي يستعملونها ليست جيدة، فقرروا استبدالها بالحرف الاستنبولي الذي استوردوه من بيروت؛ بمقاسات مختلفة لجميع الحروف المسبوكة في المطبعة الكاثوليكية ببيروت، وتوقفوا عن استيراد الحروف من النمسا. وكان الرهبان الفرانسيسكانيون يزودون مطبعتهم بين حين وآخر بأدوات الطباعة الحديثة، خصوصاً وأنه كان فيها قسم للطباعة الحجرية. ولما توسعت أعمال المطبعة رأى المشرفون عليها أن ينشئوا فيها قسماً لسبك الحروف ليستغنوا عن الحروف التي اخذوا يستوردونها من مصانع سبك الحروف في بيروت، كما اخذوا في الوقت نفسه يزودون مطابع فلسطين بما تحتاجه من الحروف التي يسبكونها في مطبعتهم في القدس. وفي مرحلة لاحقة أضيف للمطبعة قسم للتجليد زود بأحدث الآلات. كما طورت المطبعة نفسها بإدخال المحركات التجارية في التشغيل بدلاً من اليد أو القدم، ثم استبدلت هذه المحركات بأخرى تعمل بالبترول، ولاحقاً حلت محلها محركات تدار بواسطة الكهرباء.
وجددت المطبعة آلاتها عام 1900 وذلك عندما تولى إدارتها الأب الألماني هنري كرتسمان الذي استورد من أوروبة 14 آلة جديدة، وهو الأمر الذي مكّنه من إدخال الطريقة الجديدة في سبك الحروف.
(1/132)
وكانت المطبعة تنشر كتباً باللغات العربية والتركية والأرمنية والعبرية واليونانية والفرنسية والإيطالية، واعتباراً من هذه السنة 1900 أصبحت هذه المطبعة من أكبر المطابع الشرقية التي تماثل المطابع الأوروبية من كل الوجوه بدءاً من أدوات طبع الحروف والحجر والمسابك؛ مروراً بماكينات التحريك، وانتهاء بالمقاطع وآلات التنحيس والصقل والتذهيب والتجليد وغيرها. وكما ذكرنا سابقاً فقد أدار المطبعة في البداية رهبان نمساويون ثم أدارها بعدهم ثلاثة من الرهبان الإيطاليين ثم أدارها الأب دومينيك البلجيكي، ثم تسلم الإدارة من بعده الأب هنري كريتسمان الذي عرفت المطبعة في عهده معنى الحداثة والتطوير. وقد طبع في هذه المطبعة كتب كثيرة من اختصاصات مختلفة بلغ عددها حتى عام 1883 حوالي 103 كتب البعض منها مجلدات. وكانت موضوعات معظم هذه الكتب تتمحور حول القضايا الدينية والمسائل التبشيرية بالدرجة الأول، ثم حول الموضوعات المدرسية واللغوية في الدرجة الثانية، ثم حول الموضوعات الأدبية بالمدلول القديم لكلمة الأدب في الدرجة الثالثة.
وأقامت إحدى المؤسسات الإنجليزية التي كانت قد وفدت إلى فلسطين بهدف التبشير مطبعة لها في القدس عام 1848 وأسمتها "مطبعة لندن". وقد كرست هذه المطبعة اهتمامها لطباعة الكتب الدينية وخصوصاً الإنجيل، بهدف نشره بين اليهود الفلسطينيين. وكانت تطبع بمعدل كراس شهري ديني، إضافة إلى عدد من الإعلانات الدينية. ومن أهم الكتب التي طبعتها عام 1892 كتاب "تاريخ الكنيسة".
أقام الأرمن الغريغوريون عام 1848 المطبعة الأرمنية ووضعوها في دير الأرمن المجاور لجبل صهيون. وكانت هذه المطبعة تطبع الكتب وكراريس الصلوات باللغتين الأرمنية بالحرف الأرمني؛ والتركية المكتوبة بالحرف الأرمني. وقد عاشت هذه المطبعة أكثر من 40 عاماً، وقد طبعت خلالها أكثر من 115 كتاباً بكميات مختلفة وبلغات مختلفة.
(1/133)
وفي أواخر عام 1849 أوعز البطريرك الأرثوذكسي كيرلس الثاني إلى "جمعية القبر المقدس" اليونانية بإقامة مطبعة للكنيسة في مقر البطريركية الأرثوذكسية في القدس. وذكرت صحيفة المشرق البيروتية في عددها رقم 2 السنة 5 عام 1903 في مقال بعنوان "تاريخ الطباعة في الشرق"، أن المطبعة الأرثوذكسية عاشت حتى بلغت القرن العشرين ونشرت عدداً من الكتب المدرسية والكنسية وباللغتين العربية واليونانية. وبشكل محدد فقد طبع في هذه المطبعة منذ تأسيسها وحتى عام 1883 ما يقارب 36 كتاباً باللغة العربية و29 كتاباً باللغة اليونانية.
وفي النصف الثاني من القرن 19 أنشأت Church Missionary Society البروتستانتية في القدس مطبعة صغيرة لها، وكانت تقوم بطباعة الكراريس والإعلانات الدينية.
وفي عام 1879 أنشأت جمعية المرسلين الكنائسية الإنجليزية مطبعة لها في القدس، وكانت تعتني بطباعة الكتب الدينية. وتشير بعض المراجع التاريخية إلى أن هذه المطبعة قد طبعت منذ قيامها وحتى عام 1883 حوالي 22 كتاباً.
وأشارت المعطيات التاريخية إلى أن الفلسطينيين اليهود دخلوا حلبة الصراع التنافسي في حقل الطباعة باعتبارها مجالاً تجارياً جديداً، فإضافة إلى مطبعة نسيم باق التي كانت قائمة منذ عام 1830 باعتبارها أولى المطابع وأمها في فلسطين، فقد أقام داويد ساسون مطبعة في القدس عام 1850، وقد كانت مطبعة بدائية ذكر أن إنتاجها كان رديئاً وأن عدد عمالها لم يتجاوز ثلاثة عمال على أكثر تقدير طيلة فترة عملها.
وخلال تلك الفترة أنشأ موسى شولمن مطبعة لطبع صحيفة بالعبرية تدعى "باتسال"، وكانت هذه الصحيفة دينية تعبر عن رأي اليهود التلموديين. وقد قامت هذه المطبعة بطباعة عدد من الكراريس والإعلانات الدينية بالإضافة إلى تلك الصحيفة. وقد ظلت تعمل حتى عام 1885.
(1/134)
وتذكر المصادر التاريخية أن إسحق كوشينا أسس في عام 1865 صحيفة عبرية عرفت باسم "شعار تسيون"؛ وكان قد استورد مطبعة خاصة وأقامها في القدس لطباعة هذه الصحيفة، ويبدو أن هذه المطبعة توقفت عن العمل عام 1902.
وفي سنة غير معلومة في أواسط النصف الثاني من القرن التاسع عشر أسس أحد اليهود الروس المعروف باسم لنكنر مطبعة في القدس لطباعة الكتب الدينية اليهودية، كما أخذ يطبع فيها مجلة أورشليم.
وفي عام 1870 أسس فرمكن مطبعة صغيرة في القدس ليتمكن بواسطتها من طباعة ونشر صحيفة "هاباسيليت". ويشار إلى أن هذه المطبعة لم تستمر في العمل طويلاً؛ مثلها في ذلك مثل المطبعة التي كان قد أقامها عاي جاجين في القدس عام 1882 لطباعة الكتب العبرية.
(1/135)
وتعتبر مطبعة بن يهوذا التي أسسها اليهودي الروسي بن يهوذا في القدس عام 1890 لطباعة جريدته المعروفة باسم "ها أور"؛ المطبعة العبرية الأهم والأبرز بين المطابع الأولى في فلسطين، حيث تساوت في أهميتها المهنية وقدرتها الإنتاجية ودورها الطباعي مع مطبعة الآباء الفرنسيسكان العربية. وقد أراد بن يهوذا من إصدار صحيفته اطلاع أبناء ملّته على مفاهيمه وعلى التطورات الفكرية الجديدة التي حدثت في العالم المتمدن. وبسبب مواقفه المتحررة من المفاهيم الدينية العتيقة تخوف منه رجال الدين اليهودي وتحسبوا من خطورة أفكاره فسعوا به لدى الحكومة التركية حتى عطلت صحيفته. ولكن بن يهوذا لم يستسلم واستمر في صموده دفاعاً عن قناعاته وأفكاره، وفي مواصلة مساعيه للحصول على ترخيص لإصدار جريدة بدلاً من تلك المعطلة، فكان له ما أراد. وقد أطلق على تلك الصحيفة اسم "توفوت". وقد نشرت مطبعته عدداً كبيراً من الكتب المدرسية لتعليم أبناء اليهود القراءة والتاريخ والجغرافيا. كما قام بن يهوذا بتأليف معجم كبير باللغة العبرية وطبعه في مطبعته.وجاء في الوقائع التاريخية انه قد أسس إلى جانب مطابع الطوائف الدينية وبتأثير منها وربما كمنافس لها مطابع أخرى تجارية كانت تقوم بالطباعة العربية وبغيرها من اللغات الأخرى. "ويؤخذ على الحكومة التركية في هذا المجال أنها لم تكن معنية بإنشاء مطبعة رسمية في فلسطين أسوة بما كانت قد فعلته في بعض مدن الولايات العربية الأخرى الواقعة تحت حكمها. وذكر في هذا السياق أنه كان يقوم في القدس في عام 1876 مطبعة تسمى "المطبعة المأمونية"؛ والمؤسف أنه لم يتوفر في المصادر التاريخية أية معلومات عن مؤسسها وسنة تأسيسها وأنواع طباعتها وماكيناتها، إلا أن صحيفة "القدس الشريف" الرسمية التي أسستها الحكومة عام 1876 وكانت تصدر بالعربية وبالتركية قد طبعت في تلك المطبعة.
(1/136)
وتذكر المراجع أنه تأسس إضافة إلى هذه المطابع في القدس مطبعة مبارك لاسفو التي أنشأها مارتين لاسفو عام 1892 وكانت حروفها عربية وتركية وفرنسية.
وفي عام 1892 أيضا كان قد أسس شخص من عائلة دومياني في مدينة القدس "مطبعة دومياني" وكانت حروفها عربية وتركية وفرنسية.
وخلال الفترة 1892 ـ 1894 أسس ألفونس أنطون ألونصو مطبعة في القدس أطلق عليها "المطبعة الوطنية" وكانت حروفها عربية وتركية وفرنسية وروسية.
وقرب باب الجديد في القدس تأسست عام 1894 "مطبعة جورجي حبيب" وكان صاحبها جورجي حبيب حنانيا وكان قد شغلها قبل الحصول على الرخصة الرسمية نظراً لتيقنه من عدم رغبة الحكومة بمنحه ذلك الترخيص. وكانت تطبع بلغات مختلفة، وأطقم حروفها العربية والتركية والروسية كانت حديثة نسبياً .
وإذا كان المؤرخون يعيدون أسباب التزايد الملحوظ لعدد مطابع أتباع الديانة الموسوية لهجرة اليهود من أوروبة إلى فلسطين هرباً من الاضطهاد الذي كانوا يتعرضون له في تلك البلدان، واهتمام قيادة الحركة الصهيونية ببعث اللغة العبرية كلغة لليهود من خلال تنشيط الطباعة، فان ازدهار مطابع أتباع الديانة المسيحية تعود لسبب ملكية الكنائس لها واهتمامها بالكتب الدينية التي لا ترى السلطة التركية أي خطر عليها من صدورها.
(1/137)
وأما هذه الأسباب بالنسبة للمطابع الخاصة فقد كانت مقلوبة. فالتقدم إلى دوائر الحكومة بطلبات للحصول على مطابع خاصة لمواطنين أو لشركات مساهمة كانت بحد ذاتها شبهة للمتقدمين بها يسألون حولها من تلك الدوائر نفسها. وفي هذا السياق يسجل جورجي حبيب حنانيا في افتتاحية العدد الأول من جريدته القدس الصادر بتاريخ 1908/9/18-5 شهادة معّمقة حول ما حدث معه عندما تقدم للسلطات الحكومية في القدس عام 1894 بطلب للحصول على رخصة لمطبعة جورجي حبيب، ويقول فيها: "لما كانت بلدتنا القدس مثل غيرها متعطشة إلى العلوم والمعارف التي نضب معينها منذ أجيال طوال، وكانت هذه لا تنتشر وتعمم إلا بواسطة المطابع. فحيث كانت كل مطابع القدس دينية محضة، تشتغل كل واحدة منها لطائفتها، فقد مسّت الحاجة إلى تأسيس مطبعة تزرع بذور الإخاء وتعامل الجميع على السواء، غايتها خدمة الوطن؛ ولا تختص بفريق دون الآخر. ولكن هذا الأمر كان صعباً لما كان يحول دونه من الموانع والعثرات التي كان يقف الاستبداد في سبيل تذليلها وإزالتها. ولما كنت ممن مارسوا هذه الصناعة، دفعتني النفس أن أجرب القيام بهذا الواجب على ثقله وصعوبته ووعورة مسلكه. ولكن الطلب لم يجد آذاناً صاغية وظل حبيساً في أدراج موظفي الحكومة يتراكم عليه الغبار يوماً إثر يوم حتى يقضى الله أمراً كان مفعولاً."
وبانتظار صدور الرخصة استحضرت حروفاً إفرنجية تمهيداً لإقامة المطبعة، وأخذت استعملها لطباعة مطبوعات كنت أنجزها خفية لأغراض السياحة، وكان هذا الأمر يشغلني مدة ثلاثة أشهر فقط. وقد وشي بي أحد العيون إلى السلطان فوضعت تحت الأرصاد (الرقابة) المشددة، وتوقفت عن العمل.
(1/138)
وإذ لم أفقد الأمل رغم كل هذه التقييدات والإرجاءات، لأنني أحسست شخصياً بانفراج في مدى شدة ملاحقتي، استحضرت حروفاً عربية وبدأت أتعامل مع مطابع يجهل أصحابها اللغة العربية، فوصل خبر ما فعلت إلى السلطات، فعملت هذه بدورها على إيقافي عن العمل. ولكن من حسن طالعي أن قرار المنع جاء في الوقت الذي كنت اشتغل فيه بطباعة كتاب لأحد أصحاب الوجاهة والنفوذ فأجارني بنفوذه وقوته، وحيث كنت أقوم بتوفير الخدمات المكتبية لجميع مكاتب الحكومة فإن ذلك مكنني من الاستمرار في العمل ثلاث سنوات أخرى. وخلال هذه السنوات كنت أشتغل نهاراً في إحدى المطابع، وأشتغل في مطبعتي في بيتي ليلاً. هكذا بدأت وهكذا ظللت حتى تيسر لي الحصول على رخصة رسمية للمطبعة في شهر شباط 1906"
وتقول السيدة المرحومة كاترين جورجي سكسك إبنة المرحوم جورجي حنانيا إن السبب الذي منع السلطات التركية من إعطائه رخصة لاستحضار مطبعة، كان خوفهم من أن تكون المطبعة (ماكنة بومبات).
(1/139)
وتذكر المراجع التاريخية أنه "من المطابع التي تطورت تطوراً كبيراً وأصبحت ذات شأن في فلسطين" مطبعة دار الأيتام السورية" التي امتازت بما تؤديه للمعارف والآداب من الخدمات الجليلة وكانت تطبع فيها مجلة "النفائس العصرية" التي كان يحررها الأديب خليل بيدس. وقد جهزت المطبعة تجهيزاً "يجاري أحسن المطابع في بيروت بأدواتها ومعداتها؛ وحروفها الإفرنجية والعربية؛ وأدوات التجليد والخياطة، والكبس والقطع. وكان فيها طابعتان كبيرتان؛ وثلاث طابعات صغيرة، وكلها تدار بالبخار. وقد اشتهرت بحسن الطبع والإتقان والتفنن. ويشهد بذلك كثرة الطلبات التي كانت ترد إليها من جهات خارجية عديدة كمصر وحلب وبيروت ودمشق وطرابلس الشام، ومن جهات داخلية كحيفا والناصرة ويافا فضلاً عن القدس نفسها وجهاتها. وفيها كانت تطبع عدة مجلات وجرائد ألمانية؛ فضلاً عن الكتب والأوراق التجارية التي لا تحصى، وكانت على درجة من الإتقان وحسن الصفة لا يباريها إلا مطبعة أو مطبعتان في بيروت".
وبجمع المؤرخون على أهمية مطابع تلك المرحلة في السياق التاريخي لتطور عملية الطباعة في فلسطين من جهة، ولما تعنيه من قدرة، تأشيرة على اتجاهات التطور العام والدرجة التي كان قد بلغها إبان تلك المرحلة في فلسطين. ويكفي أن نذكر هنا وعلى سبيل المثال فقط أن عدد المطابع التي أنشأت في القدس في الربع الأخير من القرن التاسع عشر كان قد بلغ 11 مطبعة، وأن ضغط الطلب على تلك المطابع؛ وأنواع الكتب التي طبعتها والكمية التي وزعت منها؛ كان يشير لانفتاح آفاق جديدة في البرنامج الثقافي لحركة النهضة القومية في فلسطين، ولقوة موقعها في بنية حركة الإصلاح والتحديث في ولايات الدولة التركية جميعها.
مؤشرات نهضة ثقافية:
(1/140)
عرفت الطباعة في فلسطين جموداً ومراوحة في نفس المستوى على مدى أكثر من ربع قرن بعد دخولها إليها عام 1830، فعدد المطابع فيها ظل محدوداً وشبه مقتصر على مدينة القدس بصفتها عاصمة الولاية والمركز الروحي لأديان البلاد الفلسطينية الثلاث: الإسلام والمسيحية واليهودية. وظلت في الوقت نفسه إنتاجية المطابع من الكتب محدودة وتكاد تنحصر في الكتب الدينية، وكانت معرفة الناس بالقراءة وعلاقتها بالكتاب شبه معدومة. ويمكن القول على هذا الصعيد إن الطباعة لم تتجاوز الدائرة التي كانت تراوح حولها إلا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وذلك كاستجابة موضوعية لاتساع أنشطة لجان المطالبة بالإصلاح؛ وتبلور رؤيتها للتغييرات المنشودة في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية لإرغام الحكومة على القبول بمفهوم تحديث النظام، وكتفاعل موضوعي مع حقائق التطور الملحوظ في مسيرة حركة النهضة القومية العربية وتوضح أهدافها السياسية واتضاح غاياتها الاجتماعية والثقافية.
كانت البلاد العربية في هذه الفترة التي تمتد من بداية النصف الثاني من القرن التاسع عشر وحتى إعلان الدستور عام 1908، تطفح بالفصاحة في مواجهة التتريك، وتسقط عن كواهلها بشكل تدريجي كوابيس ثقافة مرحلة الانحطاط. وكانت فلسطين تحاول أن تكون متماثلة معها كذلك؛ ولكن ضمن ظروفها وإمكاناتها الذاتية والموضوعية؛ وبما يساعدها على حمل نصيبها من المسؤولية القومية في حفظ بذور الحياة العربية؛ واختيار الجو الملائم لإنمائها ورعاية شجراتها، والعناية بها حتى تعطي الثمار المرجوة.
(1/141)
كان النظام الإقطاعي يحيط بفلسطين سواراً اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، وبارتباطه العضوي بسلطة الأستانة يبلغ درجة تؤهله بكفاءة لأن يكون استبدادياً بجدارة. وكان المحتوى الديني لكيفية الحكم وصوغ علاقات الناس مع بعضها البعض وكذلك طريقة حياتها؛ يتشكل بأشكال هذا النظام فيصوغ ثقافة المجتمع على مدى اتساعه وبمواصفاته.
في هذه الفترة كان رجال الدين هم المرجعية التعليمية للبلاد، ولم يكن من عمل لهم إلا إمامة الناس والتعليم تقريباً.. ولم يكن للدولة في البلاد مدارس تهيئ لنهضة أدبية، وأنى لها أن يكون لها في الولايات العربية مدارس راقية، ومدارسها في عاصمتها لا تحمل من مميزات المدارس الراقية ألا القشرة والألياف.. وحتى المدارس الأجنبية التي ابتدأت حياتها في البلاد لم تكن تقوم إلا على رجال الدين الأجانب. وهل كان ينتظر من رؤساء الدين؛ وكلهم أجانب لا يعرفون حاجات البلاد ولم يجيئوا إليها إلا لغرض ديني؛ أن يؤسسوا في بلادنا مدارس مثل مدارسهم في بلادهم تتلقى حاجاتنا بقضائها، إن أمر التعليم كان محصوراً في يد الحكومة والمدارس الطائفية. وعلى الأمة أن ترضى بها وتكون من القانعين الشاكرين.
وفي هذا السياق يذكر خليل السكاكيني في كتابه (ما تيسّر) "إن التربية في المدارس الحكومية والطائفية كانت تربية دينية يتعلم فيها الطلاب سلوك الولاء والطاعة لذوي السلطان الديني والدنيوي، وكلما كان التلميذ ناكس البصر، مطأطأ الهامة، كاسف البال، نادماً، خائفاً، كان أقرب إلى الدين، مما يمكنه من نيل رضى رؤسائه. ولا تزال الآثار الثقافية لتلك الفترة ماثلة حتى الآن، إذ لا يزال رجال الدين بشكل عام يلبسون السواد ويطلقون لحاهم وكأنهم في حداد دائم. ولا يمشون إلا وئيداً، وعلى وجهوهم علائم القلق والهم والكآبة، كان الضحك والسرور والنشاط وسرعة الحركة وعلو الهمة وسعة الآمال والتشبث بالحياة والإقبال عليها، والاغتباط بها من الكبائر"
(1/142)
وكان هذا الأسلوب التربوي تدميرياً لو قيض له الاستمرار كعامل رئيس لتحديد مسار التوجه التربوي في البلاد بمعزل عن توفر عوامل أخرى أسهمت بشكل حيوي في درء مثل هذا الخطر على السياسة التعليمية؛ مثل انفتاح سكان البلاد (شأنهم في ذلك شأن سكان المشرق العربي) على معارف ومفاهيم جديدة وفّرها التغلغل الأوروبي في الأقاليم العربية بعد افتتاح قناة السويس عام 1869، حيث ساعد على تنشيط التجارة والاقتصاد في المدن الفلسطينية وبينها، بعد أن كانت خطوط السكك الحديدية وشبكة الطرق التي شقت في الأقاليم الشامية قد أسست لذلك، كما مهدت لاتساع حركة التجارة الخارجية وتنوع تجارة الاستيراد والتصدير خصوصاً بعد أن سهل لها ذلك استخدام الأسلاك البرقية إلى جانب سبل الاتصال الأخرى السابقة التي شهدت تطوراً ملحوظاً في عهد السلطان عبد الحميد 1876 ـ 1909. وقد أدى هذا الاتصال والتواصل الاقتصادي والثقافي والديني الغربي بين فلسطين والبلدان العربية الأخرى، وبينها وبين دول أوروبة إلى حدوث انقلاب في حياة الناس ظهرت بصماته على مختلف جوانب حياتهم، تمثل في ظهور الطبقة المتوسطة وتعرف الناس على مفاهيمها وأفكارها وقيمها الناشئة بشكل تدريجي بواسطة الكتب والمطبوعات والخطب في اللقاءات والاجتماعات، كذلك عبر الاتصال الحياتي اليومي المباشر.
(1/143)
وكان لهذا التطور تأثيراته الإيجابية المباشرة على قطاع التعليم سواء لجهة الأساليب التربوية أم لجهة المواد التدريسية للمنهاج التعليمي، خصوصاً وأن بذور الدعوة للإصلاح ولحركة النهضة القومية قد انطلقت من المؤسسات التعليمية، حيث انخرط العديد من رجالات النهضة ومؤيدي الإصلاح في حقل التعليم من خلال العمل في المدارس التي كانت قائمة كمدرسين، أو من خلال إقامة المدارس والمعاهد الخاصة والعمل على إدارتها بشكل يستوعب المثقفين والمتعلمين من الشباب النهضويين والقوميين. وبهذا الأسلوب تحقق لرجالات حركة النهضة القومية فرصة فحص الأهداف الحقيقية لنشاط مؤسسات الإرساليات الأجنبية وخصوصاً في مجال التعليم، وكذلك المساهمة في صياغة مناهج تعليمية جديدة ولو بشكل جزئي تستهدف توعية الطلاب بثقافتهم العربية وبانتمائهم القومي، وتعرفهم بمعاني الوطنية والتحرر والاستقلال.
وكانت النتيجة المباشرة لذلك قيام نهضة تعليمية شاملة ساعدت على تطوير الحياة الثقافية والفكرية في البلاد تدريجياً، خصوصاً وأن النهضة التعليمية كانت واسعة ومنتشرة في كل تكوينات المدى الجغرافي الفلسطيني. ووفق ما تشير إليه المصادر التاريخية فانه كان في القدس خلال الفترة 1880 - 1850 مدارس للحكومة ولجميع الطوائف الدينية في البلاد يبلغ مجموعها 35 مدرسة منها مدرستان فقط للحكومة، وكان عدد المعلمين فيها أكثر من 211 معلماً، وعدد تلاميذها 3854 من الذكور والإناث. وكان في نابلس خلال تلك الفترة 11 مدرسة يبلغ عدد تلاميذها 763 تلميذاً وتلميذة ويعلم فيها 28 معلماً ومعلمة.
(1/144)
أما في جنين فكانت توجد مدرسة واحدة يدرس فيها معلمان ويدرس فيها 80 تلميذاً. ويذكر شاهين مكاريوس في مقالة له نشرها في صحيفة المقتطف جزء 8 و9 من السنة 7 عام 1883 إضافة للمعطيات الإحصائية السابقة، أنه إلى جانب المدرسة الحكومية والكتاتيب التي بدئ في تأسيسها في مدينة عكا منذ عام 1876 أقيمت في المدينة عام 1879 من قبل الجمعية الأدبية الخيرية مدرسة للذكور. وبعد حين ألحقتها بإقامة أخرى للإناث، وثالثة بعد ذلك هي مدرسة الراهبات اليسوعيات. وهذا الاهتمام شجع الطوائف المسيحية الأخرى على المشاركة في إنشاء المدارس فكان لها بعد أقل من سنتين 4 مدارس للذكور يدرس فيها أكثر من 200 تلميذ ويعلمهم 7 معلمين. وبشكل عام فقد كان يقوم في عكا حتى عام 1883 إضافة إلى الكتاتيب المنتشرة في مختلف أنحاء المدينة أكثر من 7 مدارس للذكور والإناث؛ يبلغ عدد معلميها 22 معلماً وأكثر؛ يساعدهم عدد من الرهبان والراهبات، وعدد المتعلمين فيها أكثر من 200 تلميذ وتلميذة.
وبلغ عدد المدارس في طبرية 6 مدارس يعلم فيها 8 معلمين، وعدد الدارسين أكثر من 200 تلميذ.
وفي صفد بدأت المدارس تتكاثر منذ عام 1860 وقد بلغ عدد مدارسها حتى عام 1883 نحو 10 مدارس، فيها أكثر من 15 معلماً و300 تلميذ.
وفي حيفا وجوارها أشير إلى وجود أكثر من 20 مدرسة يدرِّس فيها أكثر من 20 معلماً، وفيها أكثر من 400 تلميذ.
أجملت الإحصائية الواقع التعليمي بشكل أكثر تكثيفاً وأضيق تحديداً عبر تناولها معطياته في المتصرفيات الثلاث التي كانت تتوزع فيها المناطق الفلسطينية إداريا، وهي القدس وعكا ونابلس. وذكرت تلك الإحصائية أن عدد المدارس في متصرفية القدس خلال الفترة المذكورة هو 81 مدرسة منها 67 مدرسة للذكور و14 مدرسة للإناث. ويدرّس فيها 258 معلماً ومعلمة من بينهم 171 من الذكور و57 من الإناث، وعدد تلاميذ تلك المدارس هو 3868 من بينهم 1086 من الإناث و2782 من الذكور.
(1/145)
وعدد المدارس في متصرفية عكا بلغ 24 مدرسة منها 3 مدارس للإناث و21 مدرسة للذكور، وعدد المعلمين والمعلمات في تلك المدارس بلغ 37 من بينهم 30 من الذكور و7 من الإناث، وأما عدد التلاميذ فكان 650 من بينهم 150 من الإناث و500 من الذكور.
وعدد مدارس متصرفية نابلس بلغ 23 مدرسة منها 3 مدارس للإناث و20 للذكور، وبلغ عدد المعلمين فيها 40 بينهم 4 من الإناث و36 من الذكور، وعدد التلاميذ فيها 1223 بينهم 1081 من الذكور و142 من الإناث.
وجاء في كتاب "تاريخ الجمعية الإمبراطورية الأرثوذكسية الفلسطينية" أنه كان للجمعية 25 مدرسة في جميع أنحاء البلاد، وفي عام 1907 بلغ عدد تلاميذها من الصبيان 801 تلميذ. وقد كان في فلسطين مدارس أجنبية كثيرة منها مدارس أمريكية؛ وأخرى: ألمانية وإنجليزية وفرنسية وإيطالية وروسية، وكانت هذه المدارس تابعة في معظمها للإرساليات الدينية. وكان من بين هذه المدارس عدة معاهد ثانوية تدرس التعليم العالي ومن أبرزها مدرسة للمعلمين، وأخرى للمعلمات يديرهما الروس، ومدرسة للمعلمين يديرها الألمان. ولم تكن هذه المدارس خاضعة لوزارة المعارف أو ملتزمة بمناهجها التعليمية، وذلك لأنها تتمتع بالامتيازات التي تتمتع بها الجمعيات والإرساليات الدينية؛ وهي مرجعيتها وبالتشاور معها تضع إدارات المدارس والمعاهد مناهجها التعليمية وبرامج تدريس هذه المناهج.
(1/146)
ومع أن اللغة التركية هي لغة التعليم في المدارس الحكومية بما في ذلك المدارس في الولايات العربية، إلا أن اللغة العربية كانت هي لغة التعليم الرئيسة في مدارس الطوائف غير المسلمة، واللغة العربية ولغات أوروبية أخرى كالفرنسية أو الإنجليزية أو الألمانية أو الإيطالية..الخ كانت لغة التعليم في أكثر المدارس الأجنبية. وكانت المدارس الروسية تهتم بتدريس اللغة العربية أكثر من غيرها، وذلك لأنها كانت لغة التعليم في تلك المدارس. وكانت اللغة الروسية وآدابها أحد مواد المنهاج التدريسي ليس إلا. ولهذه الأسباب أنشأت الإرسالية الروسية مدرسة للمعلمين ومدرسة للمعلمات في الناصرة وبيت جالا، وذلك لإعداد المعلمين لتعليم اللغة العربية.
وكانت دراسة معطيات المراحل التي مرت بها الحركة التعليمية في فلسطين قد أشارت إلى أن اتجاهات التعليم في مدارس الحكومة والمدارس الإسلامية قبل النصف الثاني من القرن التاسع عشر (محافظة)، كما هو الحال في المدارس الدينية المسيحية، وإلى أن مؤسسات التعليم يمكن تصنيفها كمدارس دينية تقليدية (كتاتيب) لتعليم الدين والقرآن، والعلوم الدينية والشريعة؛ مع ما تحتاج إليه تلك العلوم من مواد أخرى، وكانت هذه المدارس ملحقة بالمساجد والجوامع العامة.
(1/147)
وبدءاً من مطلع النصف الثاني من القرن التاسع عشر؛ ولأسباب تتعلق بصدور تشريعات التنظيمات في السلطنة العثمانية والاحتكاك بين الشرق والغرب وتزايد ضغط سياسة التتريك في ميدان التعليم، قامت مدارس جديدة مستقلة عن المدارس القديمة منهجاً وأسلوبا. وتدريجياً بدأت تظهر تشكيلات المدارس الحديثة، وهو الأمر الذي أجبر الحكومة التركية على مجاراة تلك المدارس بنسبة أو بأخرى، فاكتسبت المدارس الحكومية مواصفات المدارس المدنية التي أخذت تستقر مراحلها التعليمية تدريجياً، وأصبح هناك المرحلة الابتدائية ومدتها 3 سنوات، والمرحلة الرشدية ومدتها 3 سنوات؛ والمرحلة الإعدادية التي كانت الدراسة فيها تتراوح بين 5 ـ 7سنوات لاندماج المرحلة الرشدية فيها. ثم أقامت الحكومة مدارس صناعية وزراعية ودوراً للمعلمين. كما أسست المدارس العالية للطب والحقوق، ثم أقامت المدرسة الشاهانية لدراسة الإدارة والسياسة؛ ومدرسة القضاء، ومدرسة التجارة العليا، ومدرسة الزراعة العليا؛ ودار المعلمين العالية، ومدرسة البيطرة؛ ومدرسة الهندسة؛ ومدرسة الصنائع النفيسة (أي الفنون الجميلة) وغيرها. وما كان يحل عام 1900 حتى كان التعليم قد بلغ ذرى عالية من التطور والتقدم في المدارس الإرسالية وفي المدارس الحكومية أيضاً وإن بنسب متفاوتة، وهو الأمر الذي كان له تأثيره الإيجابي التلقائي المباشر على مستوى الوعي المجتمعي العام بجميع اتجاهاته. وبسبب ذلك فقد قلت نسبة الأمية عما كانت عليه، وازداد عدد المتعلمين، وارتفع عدد المؤهلين علمياً بشكل ملحوظ، فنشطت الحركة الثقافية في البلاد، وظهرت في مدنها الصحف السياسية والاجتماعية والثقافية، وازداد الإقبال على التأليف والترجمة من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية، وتوفرت مقومات حقيقية للنهضة الفكرية الوطنية بشكل تماثلي مع النهضة الفكرية التي سطعت شمسها مشرقة في الديار العربية الأخرى. وقد ساعد في تسريع خطوات تلك النهضة
(1/148)
تطور الطباعة الذي أملته الاستجابة لتوفير متطلبات المدارس من كتب وقرطاسية، وإعادة طباعة الكتب القديمة والمخطوطات، وطبع الكتب الأدبية والعلمية، وبذلك تيسر وصول الإنتاج الفكري إلى كل جهة، ففتح بذلك صفحة جديدة في حياة المجتمع الفلسطيني، بدأت تجسدها الفعلي بإعلان الدستور عام 1908، الذي استقبله الشعب بفرح غامر رغم ما فيه من ثغرات وسلبيات وما عليه من مآخذ، فقد تضمن أحكاماً ونصوصاً كثيرة تضمن للعثمانيين على اختلاف إثنياتهم وأديانهم وأجناسهم المساواة والحرية والمشاركة في سن القوانين، والإشراف على شؤون الدولة، وتوسيع نطاق التعليم، وإجازة النشاط الاجتماعي والسياسي، والقضاء على الاستبداد والتعسف والقهر القومي والتتريك، وتحريم الاعتداء على الحريات الشخصية والأموال والممتلكات الخاصة. وبمعنى آخر بدأ الشعب عهداً جديداً من حياته هو عهد الإصلاح والنهضة والتقدم. وقد كثف الكاتب والمربي خليل السكاكيني مضامين العهد الجديد: "الآن أستطيع أن أخدم بلادي، الآن أستطيع أن أنشئ مدرسة وجريدة وجمعية للشبان، الآن نستطيع أن نرفع أصواتنا بدون حرج".
(1/149)
وكانت أبرز مؤشرات العهد الجديد ظهور المؤسسات الحكومية وكأنها في مبارزة تسابق مع المؤسسات الأهلية على الاهتمام بالتعليم وتطويره باعتباره العامل الأفضل في مجال الإصلاح والنهضة، فساعد ذلك على الاهتمام باللغة العربية في المدارس مما شجع تزايد الطلب على الكتب الأدبية والثقافية المطبوعة باللغة العربية، وتوزيعها في هذه المدارس للدراسة والمطالعة. وكانت النتيجة المباشرة لذلك بلورة الشعور القومي وتعزز الانتماء الوطني ونهضة الأدب العربي، ويقظة اللغة العربية من سباتها العميق والطويل، وكانت إعادة دفق الدم النظيف لروح الحياة الثقافية العربية متمثلاً في ازدياد نشاط إقامة المنتديات الأدبية والثقافية، وتضاعف الاهتمام بتأسيس الجمعيات العلمية والأدبية والعناية بالترجمة وتحديث اللغة العربية، ودعم تيار الحركة القومية العربية في فلسطين.
ولقد وقف المثقفون الفلسطينيون وراء ظهور هذه الحركة وانخرطوا في تشكيلاتها، وكانوا هم قادتها ومفكريها ووقود نارها المشتعلة أيضاً. وقد كان على رأس اهتماماتها توفير سبل العمل لاستمرارية هذه النهضة وتطوير أشكال حركتها، فكانت الصحافة واحداً من الأسلحة الرئيسة الأكثر فعالية التي لجأوا إليها مباشرة بعد إعلان الدستور في 24 تموز 1908، إلى الحد الذي بدا فيه كما لو أن الفلسطينيين يريدون اختبار مصداقية وجدية الحكومة العثمانية في الاقتناع بما تضمنه الدستور حول الحريات وجاهزيتها للعمل استناداً إليه.
(1/150)
لقد اعتبر أهل فلسطين الدستور بداية عهد جديد، تتاح فيه حرية القول والعمل والنقد، خصوصاً وأن الدستور أتاح للمواطن الذي يعتزم إصدار صحيفة أن يبلغ المدعي العمومي عن عزمه على ذلك قبل يوم واحد من إصدارها، فينال الإذن لإصدار الصحيفة بصورة آلية. وفي ظل التسهيلات التي وفرتها القوانين والأنظمة المتصلة بإعلان الدستور، صدر في فلسطين خلال أسابيع بعد إعلان الدستور 9 صحف في القدس، وصحيفتان ومجلة في حيفا، ومجلة في يافا. وقد استقطبت هذه الصحف كبار الأدباء والشعراء والمفكرين حيث أخذوا يشاركون فيها بعد أن كانوا يساهمون في الصحف والمجلات التي كانت تصدر في مصر ولبنان، وواصلوا في الوقت نفسه الكتابة في صحافة هذه البلدان كتأكيد على أن الأدباء الفلسطينيين كانوا في حالة تواصل مع نظرائهم العرب. وقد أفاد هذا الأمر صحافة فلسطين بعد ظهورها، حيث أخذت الأقلام العربية تنشر على صفحات الجرائد والمجلات الفلسطينية المقالات السياسية والقصائد الشعرية والمواضيع الأدبية والفكرية التي تدعو إلى الإصلاح والتغيير. وقد ساعدت هذه المساهمات مع الموضوعات الأخرى التي تنشرها الصحف على تنشيط الحركة الأدبية، ونهضت بلغة الكتابة، وطورت الصور الكتابية بعد أن حررت النثر من السجع المتكلف، خصوصاً وأن الصحف أخذت تتناول موضوعات شتى تمس الحياة العامة؛ فتضيء بعض جوانبها، كما تنقل إلى الجمهور الفلسطيني مشكلات شعوب العالم الأخرى لتوفر مقومات التواصل والاتصال بين الشعوب.
(1/151)
وإذ تجمع المراجع التاريخية على أن إطلالة القرن العشرين ترافقت بانطلاقة نهضة الطباعة في فلسطين وخصوصاً بعد إعلان الدستور، إلا أن مراجع متخصصة ذكرت أن القدرات الإنتاجية للمطابع التي كانت قائمة حينذاك ليست في مستوى تلبية المطالب الطباعية في المجالات التعليمية والثقافية؛ وخصوصاُ الصحافة التي اقتضتها استحقاقات ما بعد إعلان الدستور، وهو الأمر الذي دفع بالكثيرين من المتقدمين للحصول على تراخيص إصدار صحف أن يحصلوا على تراخيص لإنشاء مطابع تكون مهمتها الرئيسة طباعة الصحيفة التي يملكها صاحب المطبعة، وكذلك طباعة ما يعتبره صاحب المطبعة ضروريا وهاماً وله أولوية. وبقدر ما أغنى هذا الأسلوب قطاع الطباعة وأسهم في تطورها، فان السمة العامة التي غدت للكثير من المطابع هي أنها أصبحت مطابع صحف وتحمل أسماءها أيضاً.
مطابع النهضة:
ليس سهلاً على أحد إنكار الدور الريادي والطلائعي الذي قامت به المطابع الأولى في فلسطين، إلا أن المؤرخين يغفلون في اهتمامهم اعتبار المطابع التي أقيمت في مرحلة الاستعمار التركي على أنها المطابع التي شقت درب الطباعة في مراحلها المختلفة منذ ذلك الحين وحتى يومنا هذا.
كان عدد المطابع الفلسطينية في مرحلة النهضة أواخر الحكم التركي كبيراً، وكان تخصصها ملتبساً حتى وإن بدا متنوعاً، وكان حجم إنتاجها متفاوتا في كميته ومستوياته. وكان من بين المطابع من احتفظ لنفسه بمواصفات أهلته لأن يظل نموذجاً يمكن تقديمه عند الحديث عن تاريخ الطباعة وشؤون الثقافة في تلك المرحلة، إلى الحد الذي يعفى من الحرج إذا لم يكن بالإمكان الإتيان على كافة المعلومات التفصيلية عن جميع المطابع التي كانت قائمة في العهد التركي.
(1/152)
وفي كل الأحوال فإن المطابع الأولى أياً كان مستوى تطورها التقني وقدراتها الإنتاجية تظل هي أمهات المطابع في فلسطين التي حافظت على رسالة انتشار الطباعة، ووفرت الدفيئة الصحية المناسبة لميلاد العديد من المطابع الكبيرة والصغيرة بدءاً من القرن العشرين، وعبدت طريق القطاع الطباعي منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم، حيث قامت في البلاد المئات من المطابع التي توقف بعضها، وتواصل بعضها الثاني وتحدّث وتجدد وتوسع، واستمر الكثير من أبناء هذه المطابع وأحفادها. وإذ لا تسعفنا معلومات المصادر المتوفرة في تقديم تعريف تفصيلي لها، إلا أنه يمكننا القول إن المطابع التي أمكن التعرف عليها تشكل قاعدة توصيف متينة لدور المطابع وأثرها على النهضة الثقافية في فلسطين في المراحل اللاحقة.
التأسيس لثقافة تنويرية :
ولدت الطباعة في فلسطين وأقاليم أخرى من الدولة التركية متأخرة قروناً على اختراع الطباعة؛ وذلك لأسباب دينية إسلامية تستمد مسوغاتها من مخاوف غير مبررة تتعلق بالتسهيلات التي يوفرها هذا الأسلوب في الكتابة، من احتمالات "تزوير القرآن" أو "تحريف بعض آيات الذكر" أو خلافها.
وكان المناخ الثقافي الذي ولدت وترعرعت فيه الطباعة في فلسطين دينياً محافظا؛ً يتمتع فيه المسجد الأقصى في مدينة القدس بالمكانة العلمية والتعليمية الرئيسة داخل البلاد وخارجها، وكان الأزهر في مصر يمد هذا المركز الديني بالشيوخ ويهيئ أبناءه ليعودوا إليه مدرسين ومعيدين وقراء.
وخلال هذه الفترة كان يغلب على التعليم الطابع الديني، وكان يقوم به رجال الدين الذين كان عملهم يكاد يقتصر عليه. وحتى المدارس الأجنبية التي كانت قد بدأت العمل في فلسطين؛ كان المعلمون فيها من رجال الدين العرب والأجانب. وكان المناخ الثقافي الذي تخرجه تلك المدارس دينياً، في حين أنه لم يكن للدولة أية مدارس تهيئ لنهضة أدبية وفكرية عصرية.
(1/153)
وكانت هذه الثقافة الدينية البدائية المحافظة مطوقة بأسوار النظام الإقطاعي التي تعتبر واحدة من تكويناته؛ إلى جانب عوامل تكوين أخرى اقتصادية واجتماعية وسياسية. وإن مراجعة سريعة لأنواع الكتب التي صدرت خلال فترة 1830 ـ 1908 وأصناف تخصصاتها واتجاهات مضامينها تؤكد ذلك، وتشير في الوقت نفسه إلى أن دخول الطباعة إلى فلسطين كان عاملاً حاسماً في تطوير هذا الواقع الثقافي؛ وما يتصل به من تكوينات أخرى للمجتمع الفلسطيني. وإن استقراءً مدققاَ لمعطيات تطوير القطاع الطباعي في فلسطين خلال الفترة 1914-1908 والتي كانت الثمرة الطبيعية لجهود ومساعي النشاط الإصلاحي والتحديثي؛ وصنع أدواته ووسائله التي أعطت أكلها في وقت مبكر، خصوصاً لجهة ولادة الصحافة؛ وتكاثر عدد الصحف في تلك الفترة بوتائر تصاعد عالية، وارتفاع القدرة الإنتاجية للمطابع بما يساعد على تلبية حاجة المدارس ويستجيب لازدياد عددها؛ واتساع رقعة تواجدها الجغرافي، وتزايد عدد الطلاب فيها، وما يعنيه ذلك من دلالات تعبير ملحوظ في فترة زمنية قياسية. إن هذا الأمر يدل على أن النواة الطليعية الأولى لحركة النهضة القومية في فلسطين قد بذرت بذوراً مخصّبة، بعد أن أمنت لها التربة الصالحة للنمو، متأثرة ومستفيدة من تجارب الشقيقات العربيات المجاورات. وكانت النتيجة هي تبوء الثقافة بشكل تدريجي مكانه بارزة في اهتمام المجتمع الفلسطيني، أمكن تجسيدها في تطور مفاهيم التدريس في المدارس الدينية، فتحولت معها وظيفة هذه المدارس من تخريج دعاة للتدين والسلفية؛ ومبشرين باللاهوت وبالمذاهب الدينية؛ إلى تخريج دعاة للوطنية والعلم والحضارة والقومية. وقد مثلت "مدرسة المرسلين الإنجليز" في القدس؛ والمشهورة باسم "مدرسة الشبان" واحدة من أبرز النماذج في هذا الاتجاه، خصوصاً عندما أنيطت إدارتها بالعلامة الجليل نخلة زريق؛ ابن مدينة عكا الذي استطاع بنفوذه وشخصيته الراقية أن يجعل من تلك
(1/154)
المدرسة الأجنبية مدرسة وطنية، تخرج مبشرين بالوطنية، كما كانت تخرج مبشرين بالدين. وكما يقول الأديب خليل السكاكيني في كتابه "ما تيسّر"، إن نخلة زريق قد استطاع أن يبث في تلاميذه روحاً عالية أعطت أكلها" المفيد بشكل تأسيسي في مواجهة الثقافة الإقطاعية ذات المحتوى الديني. لقد كانت البنية الأساسية لثقافة تلك المرحلة تتجسد بشكل رئيس في الإسهامات الثقافية للأديب جورجي عطية الأستاذ في السيمنار العلمي الروسي في بيت جالا، والأديب القس إلياس مرمورة، ولويس عبده السمعاني، والأديب الشيخ علي الريماوي، والأديب الشيخ يوسف النبهاني ابن قرية اجزم قرب حيفا، والشيخ أبي حسن حلاوة الغزّي، والشيخ عباس الخماش من نابلس، والشيخ الشاعر يوسف أسعد ابن القدس الذي سبق وأن تبادل الرسائل شعراً مع أحمد فارس الشدياق، والشيخ سليم أبو الإقبال اليعقوبي. وإن مطالعة تحليلية لهذه الإسهامات تشير بكل وضوح إلى أنها نماذج صارخة لثقافة الإقطاع الديني، التي أسست طباعتها مرتكزاً لاهتمام المطابع في السنين الأخيرة من عمر الاستعمار التركي. وقد مثّل وجود هذه الإسهامات في التداول عامل تحفيز للمطابع على الاعتناء بطباعة الكتب الثقافية التي أنتجت في مرحلة الإصلاح والنهضة (1908 ـ 1914) وكانت نماذجها تعبر عن التطلعات الجديدة، التي كان من أبرز تجلياتها نتاجات خليل السكاكيني، وروحي الخالدي، ويندلي الجوزي، وكلثوم عودة، وإسكندر الخوري البيتجالي، وعادل جبر، وبندلي مشحور، ويوسف العيسى، وأوغستين مرمرحي الدومينيكي، وخليل بيدس، وأنطوان بلان، وجبران مطر، وفارس مدور، وإبراهيم حنا، وغيرهم، وإن هذه النتاجات تعتبر الركيزة الأساس التي أسست لثقافة جديده حلت تدريجياً في وعي المجتمع كبديل لثقافة عصر الانحطاط.
(1/155)
وهناك عامل آخر أسهم بشكل رئيس في تعزيز مكانة الثقافة الحديثة في المجتمع الفلسطيني، وجعلها واحدة من اهتمامات القطاع الطباعي في فلسطين؛ وهو ميلاد الصحافة وتزايد عدد الصحف والمجلات، وما يعينه ذلك من تزايد في عدد المطابع واتساع عملها واهتمام أصحابها بتطويرها ورفع سويتها المهنية والفنية.
لقد وفر تزايد عدد الصحف وتنوع اختصاصاتها إلى إحداث تغييرات جوهرية في وعي المجتمع ليس لجهة خلق عادة القراءة والمطالعة وتوفير الكتب فحسب، وإنما لجهة الاهتمام بترجمة كتب المعارف والآداب العالمية، وما يعنيه ذلك من توفير فرص أوسع للإطلاع على الثقافة الأجنبية؛ واستلهام مضامينها بما يحقق تنوير الوعي والاستفادة من آفاق رحبة جديدة مؤهلة لإحداث نقله جدية كان المجتمع الفلسطيني بحاجة ماسة لها للخروج من ربقات آثار الاستعمار التركي.
(1/156)
لقد عرفت الصحافة الفلسطينية من هذا الاتصال الثقافي مع الخارج ضرورة تطوير مرتكزات مفهوم العمل الصحافي التقليدية المقتصرة على "أدب المقالة" و"أدب القصة"، فعرفت الصحف والمجلات "القصة" و"الأقصوصة" و"الحكاية" و"الرواية" كأساليب جديدة في العمل الصحافي، إضافة إلى الخبر والتقرير الإخباري، والمقابلة، والاستطلاع وغيرها، ومعرفة قدرة هذه الأساليب الجديدة العالية في التوصيل أيضاً. وكان الأستاذ خليل بيدس من أوائل الروّاد على هذا الصعيد، حيث استخدم هذه الأساليب والأنواع الكتابية في مجلة "النفائس" التي أصدرها في الأول من تشرين الثاني 1908. وقد رأى بيدس أنه باستعمال مثل هذه الأساليب فقط يمكن تسليط الأضواء على القيم الجديدة وعوامل تشكيلها في المجتمع. كذلك أمكن وبمثل هذه الطرائق الجديدة الإمساك بمعاني المفاهيم الجديدة لانقسامات المجتمع. وتعيين مواصفات الطبقة البورجوازية التي تشكلت حديثاً في رحم الإقطاع الديني ورؤيتها وهي تتوثب للانطلاق لصوغ ثقافة المجتمع الفلسطيني بشكل جديد ومختلف، وعلى هدي مضامينها المتناقضة مع مفاهيم الوعي الإقطاعي، وتوفير ما تتطلبه هذه الصياغة من مفردات وتعبيرات جديدة لم يسمع بها من قبل.
(1/157)
ومع أن هذا المخاض كان عسيراً؛ والولادة كانت صعبة، إلا أنها كانت طبيعية وليست قيصرية. وهذا يوجب بالضرورة رفع آيات التقدير والاحترام للروح الكفاحية العالية التي تمتع بها الرواد الأوائل أمثال خليل السكاكيني وخليل بيدس ورشيد الدجاني ويوحنا دكرت أحد صاحبي مجلة "بيت لحم"، الذين كانوا في مواجهات متصلة مع رموز الإقطاع الاقتصادي ورجال الدين. وعلى سبيل المثال لا الحصر يمكن أن نذكر ما حصل للسيد يوحنا دكرت عندما أصدر روايته "أصل الشقاء" حيث ثارت عليه ضجة واسعة بين الأوساط الدينية والاجتماعية لأنها تنسب أسباب الشقاء إلى رجال الدين. وازدادت الحملة ضراوة عندما أعلن في مجلته بأن الرواية ستكون هدية لمشتركي مجلة بيت لحم، وما أن بلغ بعض رجال الدين الخبر حتى قاموا يطالبون بمصادرتها. وقد رفع البطريرك دعوى قضائية على مؤلفها إلى المحاكم، فحكمت عليه المحكمة الابتدائية بغرامة مالية. وبعد أن استأنف يوحنا دكرت (نقلت) الدعوى إلى محكمة الاستئناف العليا.
لقد تبلورت في هذه الفترة مواصفات الطبقة الوسطى، وأخذت تحقق ذاتها وتتلمس كيانيتها؛ وتتبين علاقاتها، وتخطو بشكل متسارع على طريق تحسين أوضاعها وتوفير عوامل القوة التي تتطلبها مشاركتها في صنع القرار وتوجيهه بشكل مباشر أو غير مباشر.
(1/158)
وكان ظهور الصحف واتساعها وتزايد عدد المطابع كما أشرنا سابقاً؛ أحد تجليات التعبير عن ظهور هذه الطبقة، حيث صاغت وعممت من خلالها مفردات وتعابير ومضامين ثقافتها الجديدة، والأشكال الأدبية لهذه الثقافة، وخصوصاً تلك المشتمل عليها في تغطيات الصحف اليومية، حيث اتسعت هذه الأشكال لتشمل جميع أنواع المضامين التي خلقتها ظروف الحياة الجديدة في هذه الفترة، وأصبح الناس يعرفون ويتداولون مفردات جديدة ومضامين جديدة أيضاً مثل: العمل، والكد، والكدح، ومشكلة العامل، وتوزيع الإنتاج، ودور الشعوب والحكومات في علاقات الأمم، والعلاقات الإنتاجية، والطبقات والبناء الاجتماعي، والعامل ورب العمل، وطبقات المجتمع وصراع الطبقات، والثورة، والحروب، والسلم، والسياسية، وصلة اللغة بحياة الناس، والتقاليد، والأوهام، والقيم المجتمعية، وأبحاث علوم الطبيعة، وأبحاث النشوء والارتقاء، ونظريات العلوم..الخ
(1/159)
لقد أهّل التطور في اللغة الذي أحدثه ظهور الطبقة البورجوازية صحافة فلسطين للنمو والارتقاء لدرجة أعلى، وقد بشر في الوقت نفسه بمستقبل مشرق للثقافة وبمستوى أرقى للطباعة في فلسطين. ولكن تحقق مثل ذلك بشكل طبيعي كان ضرباً من المحال حيث اندلعت شرارة الحرب العالمية الأولى عام 1914، وقد توقفت الصحف عن الصدور وتعطل قطاع الطباعة أسوة بباقي القطاعات الأخرى إبان الحرب. وتساوقاً مع ذلك توقفت المطابع عن العمل وتحولت بشكل تدريجي إلى عنابر مملوءة بحديد يبدو عليه الصدأ، ويتناثر بين قطعه وحولها أسمال من ورق رطب ومغبر. وقد ازدادت وطأة هذا الواقع ثقلاً بامتداد سني الحرب حيث تعطلت المطابع الصغيرة؛ ولم يبق في البلاد من مطابع صالحة للعمل سوى تلك المطابع القائمة في الأديرة والكنائس والمؤسسات المسيحية. وبانتهاء الحرب وهزيمة تركيا انتقلت فلسطين إلى عهد جديد، ولثقافة جديدة سرّعت في عودة الحياة الصحافية والطباعية وفق معطيات الواقع الجديدة، وأسّست للنهضة الثقافية الفلسطينية المعاصرة.
المحاضرة الثامنة عشر
البدايات الأولى للطباعة في المغرب
المحاضرة الثامنة عشر
البدايات الأولى للطباعة في المغرب
مما لا شك فيه أن تطور شعب من الشعوب يقاس، من ضمن ما يقاس به، بمدى إحرازه على تقدم تقنولوجي في عدة ميادين. ولعل صناعة الكتاب وما يرتبط بها من إنتاج فكري وأدبي وتسويق وأرباح مؤشر دال على نماء بلد أو تخلفه عن المسار الحضاري الكوني. ففي الوقت الذي كانت فيه أوربا قد قطعت أشواطا في ميدان الطباعة والنشر منذ اختراع غوتنبرغ في أربعينات القرن الخامس عشر، وأضحى تداول المطبوعات داخل أوسع فئات المجتمع الأوروبية شيئا مألوفا، نلاحظ أن المغرب لم يعرف آلة الطباعة إلا في غضون سنة 1864، وبالضبط حين أقدم فقيه سوسي، وهو محمد بن الطيب الروداني على جلب آلة للطباعة مرفوقا بخبير مصري عرف باسم القباني.
(1/160)
قد يكون هذا التأخر في اقتناء آلات للطباعة وتشغيلها مرتبطا بموقف علماء المغرب المالكي المذهب من المستجدات التقنية الغربية كما أنه قد يفسر بغياب الحاجة الملحة إلى الخدمات التي تقدمها تقنولوجية الطباعة، هذا مع العلم أن الدعوة إلى تبني هذه الأخيرة وردت، وإن بشكل محتشم، عند بعض رجالات المخزن وخاصة عند الوزير إدريس العمراني في عهد السلطان سيدي محمد بن عبد الرحمان وفي رحلة الصفار.
ومن الثابت أنه قبل سنة 1964 كانت النساخة كنمط لإنتاج الكتاب، مهنة محتكرة من طرف أفراد ينتمون إلى المخزن والزوايا وبعض الأسر العريقة، وكانت تشكل وسيلة للارتقاء في السلم الاجتماعي والاستئثار بالوظائف المخزنية. وبعض المخطوطات والمنسوخات التي توافرت قبل إدخال آلة الطباعة تبين أن مجمل المواضيع التي تم تداولها آنذاك همت الحديث والفقه والتصوف وأصنافا من علوم الشريعة كما أن النظام التعليمي القائم لم يكن ليختلف، ولو بشكل ضئيل، عن نمط التمدرس الذي ساد في العصر الوسيط المغربي. ويبدو أن "مختصر" الشيخ خليل وما رافقه من حواشي وشروحات ومنظومات شعرية ونصوص صوفية وأوراد شكل العمود الفقري في ثقافة العلماء والطلبة وبعض الحرفيين والتجار.
(1/161)
يتجلى، إذن، أن المغرب لم يدرك، باكرا، كل المنافع الممكن استخلاصها من تبني تقنولوجية الطباعة. وعلى عكس ذلك، كانت الإمبراطورية العثمانية سباقة، داخل العالم الإسلامي، إلى تبني الطباعة بعد أن تم الحصول على فتاوي العلماء بإجازة إدخالها إلى أرضها. ولقد كان للأفكار الإصلاحية لحاجي خليفة المشهور باسم كتاب جلبي دور في الالتفات إلى أهمية الطباعة. وازدادت الرغبة في جلب هذه الأخيرة من بلاد الغرب في العشرينات من القرن الثامن عشر في أعقاب السفارة التي أرسلها إبراهيم باشا، الصدر الأعظم، إلى لويس الخامس عشر. لكن الطباعة لم تحظ بالقبول التام إلا مع حلول القرن التاسع عشر. ويعتبر العالم العثماني المستعرب محمد حقي من الأوائل الذين أبرزوا فضائل الطباعة ومزاياها. ومن قبله، استطاع إبراهيم متفرقة، وكان يدين سابقا بدين المسيحية، أن يقنع العلماء والسلطان العثماني بأهمية التقنولوجية للطباعة، وألف في هذا الشأن رسالة مشهورة تحت عنوان "وسيلة الطباعة".
فيما يتصل بالمغرب، ربما تعود بداية الطباعة إلى السنوات الأولى من القرن السادس عشر حينما أقدم يهودي مغربي، وهو صمويل إسحاق، مع والده، على إنشاء دار عبرية للطباعة بفاس. لكن ما هو مؤكد، كما سبق ذكر ذلك، هو أن الفقيه السوسي محمد بن الطيب الروداني، أول من استجلب آلة الطباعة. إلا أن المخزن سيصادر هذه الآلة ويوجهها إلى مكناس قبل أن يستقر بها المطاف بفاس. وبهذه المدينة، سيشرف الخبير المصري -القباني- على تدريب مغاربة وتمرينهم على تقنيات الطباعة. واشتهر من هؤلاء المتدربين الطيب الأزرق ومحمد الهفروكي المراكشي. ولقد تسنى للبعض منهم إتقان هذا الفن. وبرز من ضمنهم عبد القادر الشفشاوني الذي أرسله السلطان سيدي محمد بن عبد الرحمان لمصر لمعاينة مؤسسة الطباعة التابعة للحكومة المصرية.
(1/162)
فيما بين سنة 1865 وسنة 1871 أمكن للمغرب إصدار ستة عناوين بمعدل 300 نسخة من كل عنوان. ويبدو أن المخزن تنبه باكرا إلى أهمية هذه الآلة المجلوبة، فلم يتوان عن الاعتناء بتنظيم تسييرها وضبط منتوجاتها. وقد وظف المخزن الإمكانيات التي تتيحها الطباعة في مجال الدعاية. فالسلطان مولاي الحسن، على سبيل المثال، أمر بطبع كتاب "إتحاف السادة المتقين" وتوزيع نسخ منه بالمجان على علماء المسلمين في كل من القاهرة ومكة والمدينة وإستنبول. وبهدف تقنين وتنظيم الطباعة، أصدر مولاي عبد العزيز ظهيرا لسنة 1897 تضمن، بالأساس، تفعيل الرقابة على المطبوعات الحجرية. ومن جانبه أولى السلطان مولاي عبد الحفيظ عناية فائقة لتقنولوجية الطباعة تماشيا مع طموحاته الإصلاحية، "ويبدو، يلاحظ فوزي عبد الرزاق، أنه حقق مشروعين في ميدان الطباعة الحجرية في زنقة جزاء برقوقة (…) بالإضافة إلى دار للطباعة التيبوغرافية كان مقرها القصر السلطاني".
وإن كان المخزن لم يتردد في تشجيع حركة الطباعة بالمغرب، مع مراقبتها طبعا، والسعى إلى توظيف مزاياها، فالعلماء أنفسهم -باستثناء واحد منهم وهو محمد السباعي الذي حذر، في رسالة مشهورة، من الكتب المطبوعة- انخرطوا في سيرورة إنتاج الكتاب فخلال الفترة الممتدة ما بين 1865 و 1912، ساهم هؤلاء العلماء في تنشيط إنتاج الكتاب بالتأليف والتصحيح والنشر. وكان من أكثر المؤلفين شهرة وقتئذ علماء أمثال أحمد البلغيثي، وأحمد السكيرج، وعبد الله بن خضرا وأحمد أكنسوس وأحمد الناصري وكنون وماء العينين. وتعتبر حياة هذا الأخير ونشاطاتها المتعددة نموذجا دالا على التحولات التي طرأت على علاقة العلماء بالطباعة، ذلك أن جزءا هاما من الكتب التي طبعت في المغرب ما بين سنة 1891 وسنة 1900 كانت من مؤلفاته. ويبدو أن للوزير أحمد بن موسى دورا كبيرا في ذلك.
(1/163)
ومن الأهمية بمكان الإقرار أن إدخال آلة الطباعة والتوافق حول مزاياها شجع العلماء على الخوض في قضايا كانت غير حاضرة بقوة في انشغالاتهم من قبل. فأمام التحولات السياسية والدولية التي أخذت تهدد الكيان التقليدي للمغرب، برزت أدبيات سياسة تدعو المغاربة إلى مواجهة الزحف الأوروبي. ويعد كتاب محمد جعفر الكتاني "نصيحة أهل الإسلام" من أهم هذه الأدبيات التي حثت رجالات المخزن على استعادة هيبة المغرب ومجابهة التهديدات الخارجية.
ومثلت أدبيات الإصلاح ولا سيما في العشرية الأولى من القرن العشرين منحى جديدا في المنظومة الفكرية-الثقافية عند بعض العلماء المتنورين. وفي هذا السياق ندرك إرهاصات القطيعة مع النمط التقليدي في تدبير أحوال المغاربة. ولنا في نموذج أحمد بن محمد السلاوي الصبيحي أحسن دليل على ذلك. فبإصداره رسالته الموجهة إلى أهل المغرب الأقصى والمعنونة بـ"أصول أسباب الرقي الحقيقي"، سعى الصبيحي إلى إبراز الخطوط العامة لإصلاح قوامه تحديث النظام التعليمي واقتباس النظريات والأساليب الجديدة من الفضاء الحضاري الأوروبي.
إن اعتناء المخزن ورجالاته بآلة الطباعة، وعيا منه بكل ما قد تقدمه من منافع، وإقدام العلماء على نشر منتوجاتهم الفكرية أثّرا بشكل من الأشكال، في قيام سوق للكتاب لتلبية حاجيات الطلبة وبعض التجار الكبار وزعماء الزوايا وبعض الأسر الشريفة. ولعل أبرز تحول عرفته صناعة الكتاب، هو تعاطي بعض الأفراد لهذه المهنة لما تذره من أرباح. وفي هذا الإطار، يذكر فوزي عبد الرزاق أنه كان في المغرب، خلال العقود الممتدة ما بين ستينات القرن التاسع عشر وعشرينات القرن العشرين، حوالي تسعة طابع ما بين مغاربة وأجانب وكذا حوالي عشرين فردا اهتموا بميدان النشر.
(1/164)
ويعتبر الطيب الأزرق من رواد الطباعة بالمغرب بعد رحيل الخبير المصري سنة 1871، وأمكن له ولوج مغامرة الطباعة بعد أن وجد في تاجر فاسي -الحسين الدباغ- شريكا ماليا. ولعل ما شجع الطيب الأزرق في مهنته هو حصوله على تجديد السلطان الحسن الأول لظهير التوقير والاحترام لفائدته. ومما امتاز به هذا الطابع عن معاصريه إدخاله لتقنيات جديدة لصناعة الكتاب وسعيه إلى تخفيض تكاليف الإنتاج بهدف توسيع رقعة القراءة. واستطاع هذا الطابع إصدار سبعة وعشرين عملا. ولأول مرة في تاريخ المغرب، أقدم الطيب الأزرق على طبع القرآن في سنة 1879، دون أن يثير ذلك حفيظة الأوساط الدينية داخل البلاد. ولقد تمكن أخوه، وهو العربي الأزرق، من أن يجعل من نفسه أكبر طابع على الإطلاق في تلك الفترة، حيث أصدر أزيد من مائة عنوان أو أكثر من بين سنة 1876 و 1914.
ومن الأجانب الذين ساهموا بقسط وافر في عملية الطبع والنشر، سورى يدعى أحمد يمني الذي ما زال الغموض يلف شخصه. ومن الاحتمالات التي يوردها فوزي عبد الرزاق في شأنه، هو أن يكون أحمد يمني مبعوثا من العثمانيين إلى فاس قصد الدعاية للجامعة العربية والتأثير على التوجهات السياسية للبلاد، مستعينا في ذلك بالعناصر المغربية المتعاطفة مع الإمبراطورية العثمانية، ومن بينها أفراد الأسرة الكتانية الذين أثروا الثقافة المغربية بالكتابة والتنظير أمثال محمد وعبد الحي وابن عمومتهم محمد بن جعفر.
(1/165)
وقبل الانتهاء من هذا العرض الذي توخى تقديم نتف وشذرات مما يزخر به مؤلف، هو في الأصل موضوع الأطروحة التي أنجزها فوزي عبد الرزاق بجامعة هارفارد، يكون من المناسب التأكيد، حسب ما سجله كملاحظة خالد بن الصغير في مقدمته، أنه لحد الآن لا توجد بالمغرب مؤسسة تضم " ضمن محتويات مكتباتها المجموعة الكاملة للمطبوعات الحجرية المغربية التي نشرت ما بين 1865 و 1912، بالمطبعة الفاسية (…) هذا مع العلم أن أكبر مجموعة لهذه المطبوعات ليست موجودة في فاس (…) ولا في أي من المدن المغربية العتيقة، بل هي موجودة اليوم بخزانة جامعة هارفارد الأمريكية".
المحاضرة التاسعة عشر
المكتبة الإلكترونية في البيئة التكنولوجية الجديدة
المحاضرة التاسعة عشر
المكتبة الإلكترونية في البيئة التكنولوجية الجديدة
غني عن القول أن المكتبات ودور الوثائق والأرشيف عبر انبثاقها وتواجدها في حضارات وادي الرافدين والنيل وسائر الحضارات القديمة قد مرت بتطورات متلاحقة من حيث مبانيها، وأشكال مقتنياتها، وخدماتها، ووظائفها المتمثلة في حفظ النتاج الفكري والحضاري وتنظيمه، وتسهيل مهمة استرجاعه ووضعه في خدمة المستفيدين.
(1/166)
وقد حتمت التطورات التقنية والعلمية، والتقدم الحضاري، وانتشار التعليم، وظهور المبادئ الديمقراطية، والتغيرات المتواصلة في مهنة المكتبات والمعلومات إلى تطور هذه المؤسسات الثقافية التعليمية الاجتماعية لتصبح شبكات معلومات متطورة قادرة على التعامل والتفاعل مع التطورات والاتجاهات المعاصرة، وتلبية احتياجات الباحثين والدارسين في شتى الموضوعات والمجالات محققة بذلك قفزة كبرى في استخدام تقنيات المعلومات والاتصالات، وطبيعة الخدمات والبرامج المكتبية والمعلوماتية ونشرها على نطاق واسع، متخطية بذلك الحواجز المكانية والزمانية بين بلدان العالم في البيئة التكنولوجية الجديدة، وفي عصر النظم البارعة في نقل المعلومات والشبكات، مما مهد لظهور المكتبات الإلكترونية، وتطور مهام أمين المكتبة وتحوله إلى خبير أو استشاري معلومات، أو أمين مراجع وموجه أبحاث للعمل فيها مسخراً بذلك خبراته ومهاراته في تقديم معلومات دقيقة وفورية لأنواع مختلفة من المستفيدين، وتأمين فرص أوفر لتدريبهم، وإكسابهم المهارات في مجال استخدام التقنيات واستثمار شبكات المعلومات في رحلة الكشف عن كنوز المعلومات والمعارف المتاحة بأشكالها الإلكترونية، والاستغلال الأمثل لها بما يتفق والاحتياجات البحثية والمعلوماتية.
وكان لهذه التوجهات المستقبلية للاهتمام بالمكتبات الرقمية، وتطوير مهنة المكتبات واختصاصيّ المعلومات والمراجع الاندفاع نحو إرساء مناهج جديدة لتدريس كل ما يتعلق بهذا النوع من المكتبات ، فعلى سبيل المثال، قدم عميد جامعة ميشغان (Daniel Atkins) صورة واضحة للمكتبة الجديدة بعد تحليله وعرضه للمشروعات والنشاطات التي وضعها في الجامعة، ويتوقع أن تتضمن النشاطات والبرامج الخاصة باختصاصيّ المعرفة المعلوماتيين والمهارات المطلوبة في البيئة الرقمية الديناميكية الآتي :
1- تسهيلات الوسائط المتكاملة وشبكات الحواسيب.
(1/167)
2- فهم أو إدراك للمعرفة الاستكشافية في عالم الشبكات المتطورة.
3- ألفة باقتصاديات المعلومات المحلية والعالمية، والسياسية، والقانون، والسياسات المختلفة.
4- التحكم في بناء وتصميم الوثائق.
5- إحاطة شاملة بموضوعات التداخل الآلي البشري.
فضلاً عن ذلك فقد أسست جامعة كاليفورنيا في بيركلي (Berkely) مدرسة نظم المعلومات (SIMS)، وكانت رسالتها تتعلق بتكوين أمناء المعلومات الذين تتصل مهامهم بتنظيم ومعالجة وتنقيح وعرض المعلومات، ولا تقتصر وظيفتهم على إدارة التكنولوجيا فحسب، وإنما إدارة المعلومات والناس معاً(1).
وقد جاء هذا البحث لتحقيق الأهداف الآتية :
1- التعريف بالمكتبة الإلكترونية والتسميات الأخرى التي أفرزتها بيئة الشبكات ونظم المعلومات المتطورة.
2- تحديد مراحل التحول نحو المكتبة الرقمية.
3- تسليط الضوء على خصائص المكتبة الإلكترونية.
4- تقديم أمثلة لهذا النوع من المكتبات وبعض المشروعات الريادية لبناء مكتبات رقمية في مختلف أنحاء العالم.
5- عرض نموذج تصوري للمكتبة الإلكترونية.
6- التعرف إلى الوظائف الأساسية لأمين المكتبة الإلكترونية.
7- تبيان معوقات إدخال التقنية الرقمية للمكتبات وسبل التطوير.
8- التطرق إلى الإجراءات التي يمكن من خلالها بناء مكتبات إلكترونية عربية وتطويرها.
أولاً - المكتبة الإلكترونية والمصطلحات ذات العلاقة :
(1/168)
هناك العديد من المفردات العصرية والمصطلحات التي ترد في أحاديث ومؤلفات ودراسات الباحثين المتخصصين في مجال المكتبات والمعلومات والتي تطلق على المكتبات التي تتميز بالاستخدام المكثف لتقنيات المعلومات والاتصالات وأعمال الحوسبة، واستخدام النظم المتطورة في اختزان المعلومات واسترجاعها وبثها إلى الباحثين والجهات المستفيدة منها ، ومن هذه التسميات والمصطلحات، المكتبة الإلكترونية (Electronic Library) ، ومكتبة المستقبل (Library of future) ، والمكتبة الرقمية (Digital Library) ، والمكتبة المهيبرة أو المهجنة (Hybrid Library) ، والمكتبة الافتراضية (Virtual Library)، وغير ذلك.
ومن خلال مسح بعض الدراسات والنتاج الفكري الخاص بهذا الموضوع يمكن توضيح دلالات ومعاني هذه المصطلحات بشكل موجز (2):
1- المكتبة المهيبرة أو المهجنة :
هي المكتبة التي تحتوي على مصادر معلومات بأشكال مختلفة منها التقليدية والإلكترونية.
2- المكتبة الإلكترونية :
هي المكتبة التي تتكوّن مقتنياتها من مصادر المعلومات الإلكترونية المختزنة على الأقراص المرنة (Floppy) أو المتراصة (CD-Rom) أو المتوافرة من خلال البحث بالاتصال المباشر (Online) أو عبر الشبكات كالإنترنت.
3- المكتبة الافتراضية :
يشير هذا المصطلح إلى المكتبات التي توفر مداخل أو نقاط وصول (Access) إلى المعلومات الرقمية وذلك باستخدام العديد من الشبكات، ومنها شبكة الإنترنت العالمية، وهذا المصطلح قد يكون مرادفاً للمكتبات الرقمية وفقاً لما تراه المؤسسة الوطنية للعلوم (National Science Foundation) وجمعية المكتبات البحثية (Association of Research Libraries) في الولايات المتحدة الأمريكية.
4- المكتبة الرقمية :
هي المكتبة التي تشكل المصادر الإلكترونية الرقمية كل محتوياتها ، ولا تحتاج إلى مبنى، وإنما لمجموعة من الخوادم (Servers) وشبكة تربطها بالنهايات الطرفية للاستخدام.
(1/169)
ويظهر من خلال استعراض هذه التعريفات أن بعضها قد يستخدم تبادلياً كما هو الحال بالنسبة للمكتبات الإلكترونية، والافتراضية، وكذلك مكتبات بلا جدران، من حيث توفير نصوص الوثائق في أشكالها الإلكترونية المختزنة على الأقراص الليزرية المتراصة، أو المرنة، أو الصلبة، أو من خلال البحث بالاتصال المباشر، فضلاً عن دورها في تمكين المستفيدين من الوصول إلى المعلومات والبيانات المختزنة إلكترونياً عبر نظم وشبكات المعلومات وهم في بيوتهم أو مؤسساتهم ومكاتبهم الخاصة.
أما المكتبة الرقمية فتمثل الوجه المتطور للمكتبة الإلكترونية من حيث تعاملها مع المعلومات كأرقام ليسهل تخزينها وتناقلها في تقنيات المعلومات والاتصالات واستثمارها وتداولها إلكترونياً بأشكال رقمية، ونصوص ورسوم وصور متحركة بقدر عالٍ من الدقة والاستخدام عبر مختلف مدارات العالم. وتكمن أهمية توافر مثل هذا النوع من المكتبات في مواجهة تحديات ثورة المعلومات والاتصالات الحديثة في عالمنا المعاصر، وتنوع احتياجات الباحثين والدارسين ورغبتهم في الحصول على معلومات سريعة وحديثة، وعجز نظم استرجاع المعلومات التقليدية عن تلبية مثل هذه الاحتياجات، كما أن هذه المكتبات تجعل المستفيد على اتصال مباشر بقواعد ونظم المعلومات المتطورة من خلال الاستخدام الأفضل للإمكانات والتسهيلات التي يقدمها هذا النموذج العصري للمكتبة بمبانيها وخدماتها وتقنياتها وبرامجها المتنوعة المتجددة دائماً.
(1/170)
ورغم الاتجاهات والتطورات الحاصلة في مختلف المؤسسات المعلوماتية باستخدام الأساليب الرقمية في تخزين البيانات ومعالجتها. إلا أن هناك عقبات تقنية تحتاج مصادر المعلومات الإلكترونية إلى التغلب عليها قبل تمكنها من منافسة الطبع على الورق بنجاح، ومنها على سبيل المثال، ضرورة تأسيس تقنيات مناسبة موحدة لتشفير الرسوم والمخططات والأشكال، ومثل هذه المقاييس الموحدة لا بد أن يتبناها المختصون بتطوير البرامج والأجهزة، ولا بد للأنظمة الناتجة من أن تحقق القدرة العالية والكفؤة لنقل المعلومات، والاستخدام الفعال لها، وتسهيل إتاحتها للمستفيدين عبر نظم المعلومات وشبكاتها المختلفة(3). فضلاً عن الصعوبات المتعلقة بالتصميم التقني والجهود والتكاليف الباهظة.
وفي ظل البيئة التكنولوجية المتطورة والنمو المتسارع في نشر مصادر المعلومات الإلكترونية ولدت المكتبات الإلكترونية على اعتبارها مكتبات تمثل واجهات تخاطب متعددة الأشكال للوصول إلى المعلومات عبر أجهزة الحواسيب للقيام بعمليات وإجراءات البحث، والاستعراض لانتقاء المعلومات المطلوبة، كما أنها مؤسسات تمكننا من البحث عن ينابيع الثقافة عبر سلسلة من عمليات اكتشاف المعرفة وإجراء عمليات التنظيم والبث والأرشفة والاختيار، وإعادة الاستخدام، وعادة ما تربطنا هذه المكتبات بطيف واسع من أدوات البحث والتطوير والتطبيقات التي تهدف إلى مساعدة المستفيدين للحصول على كم هائل من المعلومات، وبذلك تحولت المكتبات في ظل تكنولوجيا المعلومات والاتصالات إلى مكتبات بلا جدران من خلال هذا النسيج العنكبوتي العالمي الذي يربط الكون كله عبر شبكة هائلة من الحواسيب في خدمات الإنترنت التي مثلت اختراقاً للحدود الجغرافية والسياسية للدول والأقاليم وحولت العالم إلى (قرية كونية صغيرة). وكان لها دورها في التثقيف ونشر المعلومات وكسر حواجز الأمية المعلوماتية(4).
(1/171)
وتتنوع مصادر المعلومات الإلكترونية في هذه المكتبات كاستخدام البحث بالاتصال المباشر (Online) وأقراص الليزر المتراصة (CD-Rom) والإنترنت، والوسائط المتعددة (Multimedia) ، والدوريات الإلكترونية، وأقراص الـ (D. V. D) الرقمية ... وسواها.
ثانياً - مراحل التحول إلى المكتبة الرقمية :
عادة ما يتم التحول من المكتبة الورقية إلى المكتبة الرقمية عبر ثلاث مراحل(5):
1- في المرحلة الأولى تكثف الجهود والطاقات لإعداد شبكة قادرة على تغطية أنشطة المكتبة مكونة من حاسبات آلية ينظم التعامل معها خادم شبكة عالي الأداء يتم تشغيلها ببرامجيات منتقاة تربط لاحقاً بالوظائف الأساسية للمكتبة من إعارة وتزويد وفهرس آلي للاتصال المباشر والتعامل مع قواعد المعلومات داخل المكتبة وخارجها إلى جانب تدريب كفؤ للمكتبيين الفنيين والارتقاء بمستويات أدائهم، والتزود بنخبة من مصادر المعلومات الإلكترونية للتحقق من فاعلية أداء النظام في مرحلته التجريبية.
2- في المرحلة الثانية يتم التركيز على علاج مواطن الضعف التي قد تبرز خلال تطبيق إنجازات المرحلة الأولى فضلاً عن التزود بعدد إضافي من مصادر المعلومات الإلكترونية المقرر تزويد المكتبة بها خلال هذه الفترة، ومن ثم التقييم الدوري الدقيق للخدمة من جميع جوانبها.
3- تضطلع المرحلة الثالثة بربط المكتبة بالمكتبات ومراكز المعلومات المناظرة على المستوى المحلي وما يتبع ذلك من اتصال بقواعد المعلومات الدولية. ومن المفترض أن تعنى المرحلة الثالثة بتطوير شامل للنظام يضم العناصر الآتية :
أ – البدء في تقديم خدمات المكتبة الرقمية.
جـ- الحفظ الآلي للأوعية الرقمية وحماية محتوياتها.
د - استثمار إمكانات الشبكة في تلبية الاحتياجات المتنوعة وتوسيع منافذ الاتصال مع الشبكات ونظم المعلومات الإلكترونية العالمية.
(1/172)
إن التغييرات الدراماتيكية التي أحدثتها ثورة الاتصالات الحديثة والشبكات المتطورة ومنها الإنترنت في إبهار المستفيد وإثارته وتزويده بالمعلومات المتنوعة الغزيرة جعلت المكتبات تسعى إلى التحول نحو نمط المكتبة العملية الحديثة، والتي هي مكتبة رقمية تملك تواجداً على النسيج العالمي، وتتيح نفاذاً مقنناً ومدروساً إلى كنوز المعلومات(6).
وهذه المواصفات هي التي أوجدت هذا النمط الحديث من المكتبات بعد النمط التقليدي للمكتبات، ثم المؤتمت، والهجين، وصولاً إلى المكتبات الرقمية.
ثالثاً - خصائص المكتبة الإلكترونية :
يظهر من خلال تنبؤات المتخصصين في مجال المعلومات والمكتبات أن دور المكتبة الإلكترونية سيتسع، وعلى المكتبات أن تغامر للدخول في هذا الاتجاه، وكان (ولفرد لانكستر) في مجمل كتاباته يؤكد على تسارع الزحف الإلكتروني وظهور نظم المعلومات غير الورقية، ويعمل على تحفيز المكتبيين على إعادة النظر في تقييم دور المكتبة ودور المكتبيين كاختصاصيّ معلومات، ويشير إلى أننا نقترب من اليوم الذي يمكن أن تكون فيه مكتبة عظيمة للعلوم داخل مجال مساحته أقل من (10) أقدام مربعة(9)، لا تضم سوى منافذ إلكترونية ومعدات توصيل أخرى.
ويؤكد كذلك بأننا نتحرك الآن بسرعة وفي مد لا ينحسر نحو مجتمع بلا ورق، وتكفل لنا التطورات الهائلة في علوم الحاسوب وتقنية الاتصال القدرة على تصور نظام عالمي يتم فيه تنفيذ تقارير البحوث ونشرها وبثها والإفادة منها في جو إلكتروني خالص، ولن تكون هناك حاجة إلى الورق في هذا المجتمع، ونحن الآن في مرحلة انتقالية في حلقة التطور الطبيعي من الطباعة على الورق إلى الإلكترونيات(10).
وتتنبأ ماري وولف (M. Wolff) بتطورات حديثة في موضوعات مختلفة مثل المؤتمرات الإلكترونية، والبريد الإلكتروني، والنشر الإلكتروني، والتي سيكون لها تأثيرها الملموس على تنفيذ وظائف المكتبة في المستقبل(11).
(1/173)
ويرى جيمس طومسون (J. Thompson) أن المكتبات لها دور حيوي في العصر الإلكتروني، وأن رسالتها في اختيار وتخزين وتنظيم ونشر المعلومات سوف تبقى ذات أهمية عالية، وأن طريقة تنفيذ هذه الرسالة أو المهمة يجب أن تتغير بصورة فعلية إذا ما أريد لهذه المكتبات مواصلة الحياة(12). وتشير بعض الدراسات إلى أن ما بين (25? - 50?) وحتى (90?) من بعض أنواع المطبوعات سوف ينشر إلكترونياً في عام 2000م، وترى شبكة (OCLC) أن مستقبل المعلومات سيكون بقولبتها بأشكال جديدة (مصغرة أو إلكترونية) وتوزيعها في الزمان والمكان المناسبين(13).
فضلاً عن ذلك سوف تتضاعف مصادر المعلومات بأشكالها الإلكترونية وخاصة الأوعية المتعددة (Multi-media) .
ويورد حشمت قاسم (14) عرضاً وتحليلاً لمجموعة مقالات حول المكتبة في القرن الحادي والعشرين نقتطف منها بعض تصورات الباحثين وتوقعاتهم لمكتبة المستقبل.
إذ يرى ديفيد بنيمان (W. David Penniman) رئيس مجلس الموارد المكتبية في الولايات المتحدة الأمريكية في بحثه عن (تشكيل مستقبل المكتبات من خلال القيادة والبحث) أن مفتاح استعداد المكتبات للمستقبل هو الرغبة في التغيير,
وضرورة تركيز المكتبات على الإمداد بالمعلومات لا مجرد اختزان المعلومات، كما ينبغي أن يكون تقييم المكتبات بناءً على ما تقدمه من خدمات لا على ما تملكه من مقتنيات.
ويقدم كينث داولين (Kinneth E. Dowlin) تصوراته من خلال خبرته في إدارة مكتبة سان فرانسيسكو في بدايتها المبكرة، ويتساءل هل ستظل المكتبات قائمة عام 2020م ؟ ويعتقد أن المكتبات ستشغل مبنى ذكياً يحتوي على وحدات للبث السمعي والمرئي قادرة على إيصال خدمات المكتبات إلى المنازل.
(1/174)
وعن تقنيات المعلومات الحديثة وكيفية الإفادة منها في المكتبات ومراكز المعلومات يسجل ديفيد رايت (David Raitt) تأملاته عن مكتبة المستقبل ويسجل تطور استخدام الحواسيب في المكتبات وصولاً إلى المشابكة على اختلاف مستوياتها، والمقر الذكي الذي تدار جميع عناصره وعملياته من خلال الحواسيب والذي يطلق عليه ميناء المعلومات (Infoport) ويذكر تقنيات مكتبة المستقبل مثل الكتب الإلكترونية، والحواسيب، والأسطوانات الضوئية المتراصة، والبرمجيات التي تستثمر إمكانات النظم الخبيرة والذكاء الاصطناعي، والشبكات العصبية وغيرها.
ويقدم باحثون آخرون في دراستهم عن (مركز المعلومات الفعلي، العلماء والمعلومات في القرن الحادي والعشرين) تصوراتهم المستندة إلى ثلاث مسلمات هي :
1- إن مكتبات المصادر الورقية في سبيلها للانقراض.
2- إن المعلومات ما دامت متوافرة فإن المستفيد لا يحفل بمصدرها أو بكيفية تقديمها.
3- أن احتياجات المستفيدين من المعلومات لا حدود لها، إلا أنه يمكن التعرف إلى معالمها.
ويتضح من خلال هذا العرض لمجمل هذه الآراء والتصورات ووجهات النظر المختلفة أن أغلبية الآراء تتفق على ضرورة تقييم المكتبات بناء ما تقدمه من خدمات لا على ما تضم من مقتنيات، كذلك فإن دور هذه المكتبات سوف يتغير، فقد لا تصبح المكان الذي يرتاده المستفيدون وإنما المصدر الذي يمكن الإفادة منه عن بعد، فضلاً عن التغيرات في مهن المكتبيين ووظائفهم في ظل هذه التطورات التكنولوجية المتلاحقة والتحديات التي تواجهها المكتبات ومراكز المعلومات.
ولا بد من مواجهة حقيقية واضحة وهي أن المكتبات بأنواعها المختلفة قد تأثرت بالتكنولوجيا الحديثة، وأصبحت وسيطاً بين المستفيد ومصادر المعلومات الإلكترونية.
(1/175)
فالحواسيب وتقنيات الاتصال عن بعد المتاحة في هذه المكتبات أصبح بإمكان المستفيد استخدامها للحصول على ما يريده من المصادر المتوافرة في قواعد بيانات إلكترونية أغلبها في مواقع بعيدة ومتفرقة خارج المكتبة.
وقد وفرت مصادر المعلومات الإلكترونية للفرد إمكانية الاتصال وهو في بيته، أو محل عمله للحصول على ما يحتاجه من المعلومات لقضاء حاجاته كإيجاد فرص للعمل، أو للحصول على أحدث الأخبار، أو الشراء، أو التسلية، وكذلك لمعرفة الأحوال الجوية وأسواق العملة، وما إلى ذلك(15).
ومن خلال ذلك يمكن القول إن مكتبة المستقبل هي المكتبة التي تحقق الوصول السريع والفوري للمعلومات عبر شبكات الاتصال بغض النظر عن مكان الوجود المادي للمصادر والمعلومات.
كما أنها لا تشغل حيزاً مكانياً واسعاً ولا تضم سوى التقنيات والأجهزة ومنافذ ومعدات التوصيل المختلفة لربط المستفيد بقواعد وشبكات المعلومات أينما كانت. لا سيما أن إدخال المزيد من التكنولوجيا لأتمتة وظائف المكتبة سيجعلها في النهاية مركزاً مفتوحاً في عصر بدأ يتجه نحو النشر الإلكتروني للإنتاج الفكري في مختلف حقول المعرفة مع وجود تسهيلات أكبر للوصول إلى شبكات المعلومات.
ونتيجة لهذه التطورات المتلاحقة في تكنولوجيا المعلومات والاتصال، فإن المكتبات ستواجه تغيرات حتمية فيما يتعلق بدورها في المجتمع، وبطريقة عملها في المستقبل، وسيكون تركيزها بالنسبة للتزويد والتخزين، على سبيل المثال، منصباً على استراتيجية الوصول إلى المعلومات بدلاً من سياسة الاقتناء وتجميع مصادر المعلومات.
وبذلك فإن مثل هذه المكتبات ستنفق رؤوس الأموال على الأجهزة والتقنيات التي تحقق الوصول السريع للمعلومات بدلاً من شراء مصادر المعلومات نفسها.
ويرى بعض المتخصصين أن إحدى مواصفات المكتبات الإلكترونية هي قدرتها على خزن وتنظيم وبث المعلومات إلى المستفيدين من خلال قنوات ومصادر المعلومات الإلكترونية.
(1/176)
ويحدد بعض الباحثين أربع سمات أساسية للمكتبة الإلكترونية وهي(16) :
1- قدرة النظام المؤتمت (الآلي) على إدارة مصادر المعلومات.
2- القدرة على ربط متعهد المعلومات بالباحث (المستفيد) من خلال القنوات الإلكترونية.
3- قدرة العاملين على التدخل في التعامل الإلكتروني عندما يعلن المستفيد عن حاجته لذلك.
4- القدرة على تخزين المعلومات وتنظيمها ونقلها إلكترونياً، واستيعاب التقنيات الجديدة المتاحة في عصر الإلكترونيات لدعم قدرتها على تقديم خدمات جديدة متطورة.
وفيما يتعلق بالباحثين يذكر عاطف يوسف (17) المميزات الآتية للمكتبة الإلكترونية :
1- توفر للباحث كماً ضخماً من البيانات والمعلومات سواء من خلال الأقراص المتراصة، أو من خلال اتصالها بمجموعات المكتبات ومراكز المعلومات والمواقع الأخرى.
2- تكون السيطرة على أوعية المعلومات الإلكترونية سهلة وأكثر دقة وفاعلية من حيث تنظيم البيانات والمعلومات وتخزينها وحفظها وتحديثها مما سينعكس على استرجاع الباحث لهذه البيانات والمعلومات.
3- يستفيد الباحث من إمكانات المكتبة الإلكترونية عند استخدامه لبرمجيات معالجة النصوص، ولبرمجيات الترجمة الآلية عند توافرها، والبرامج الإحصائية، فضلاً عن الإفادة من إمكانات نظام النص المترابط، والوسائط المتعددة ((Multimedia.
4- تخطي الحواجز المكانية والحدود بين الدول والأقاليم واختصار الجهد والوقت في الحصول على المعلومات عن بعد، وبإمكان الباحث أن يحصل على كل ذلك وهو في مسكنه أو مكتبه الخاص.
5- تمكن من استخدام البريد الإلكتروني والاتصال بالزملاء في المهنة والباحثين الآخرين، وتبادل الرسائل والأفكار مع مجموعات الحوار (Discussion groups) وتوزيع الاستبانات واسترجاعها وغيرها.
6- تتيح هذه المكتبات للباحث فرصة كبيرة لنشر نتائج بحثه فور الانتهاء منها في زمن ضاقت فيه المساحات المخصصة للبحوث على أوراق الدوريات.
(1/177)
رابعاً - باتجاه التخزين الإلكتروني (تجارب عالمية) :
اهتمت مكتبات عديدة في مختلف أنحاء العالم بالتخزين الإلكتروني لمقتنياتها، وتطويرها، والإنفاق عليها لمواكبة التقدم التقني والحضاري.
ففي نيويورك على سبيل المثال، تم إنشاء مكتبة الأعمال والصناعة والعلوم التي بلغت كلفة إنشائها 100 مليون دولار.
وتحتوي على مركز للموارد الإلكترونية يرتبط بشبكة مؤلفة من 70 محطة عمل توفر النفاذ إلى أكثر من 100 قاعدة بيانات مختزنة على أقراص (CD-Rom) وإلى ملفات وصحف ونصوص كاملة في الإنترنت، فضلاً عن النفاذ إلى رابط الشبكة العالمية (WWW) وتوافر 110.000 عنوان دورية، ومجموعة شاملة من براءات الاختراع، وحوالي مليون مادة من المصغرات.
وفي سان فرانسيسكو بلغت كلفة إنشاء المكتبة العامة 140 مليون دولار
San Francisco Public Library (SFPL) .
وترتبط بشبكة حاسوبية كبيرة مؤلفة من 1100 محطة عمل تتيح النفاذ إلى شبكة الإنترنت، وتحتوي على أدلة منتجات الوسائط المتعددة، ومركز اكتشاف إلكتروني للأطفال، وتوفر النفاذ إلى قواعد البيانات النصية والرقمية، وتستقبل يومياً أكثر من 6000 من المستفيدين(18).
وفي أوربا يتعاون أمناء المكتبات العامة من أجل تطوير طرق قياسية لحفظ الدوريات العلمية التي تصدر إلكترونياً.
وفي فرنسا يتم تنفيذ مشروع لبناء مكتبة رقمية بالغة الحجم، ويعمل المكتبيون على رقمنة الأعمال الفرنسية ومنها الأعمال الأدبية بما في ذلك المؤلفات الكاملة لبلزاك ووثائق الثورة الفرنسية التي يتم حفظها في أسطوانات متراصة (CD-Rom) ويذكر (دانييل رينو) مساعد مدير المكتبة الوطنية الفرنسية أن في المكتبة الرقمية نحو 86 ألف عنوان لا تضم عيون الأدب الفرنسي فحسب، بل مختلف الموضوعات، وخرائط وصورًا فوتوغرافية نادرة وقديمة، ومعظم هذه المواد متوافر لزوار محطات الحاسوب في المكتبة.
(1/178)
ويزداد أيضاً عدد محتويات المكتبة الرقمية التي تجد طريقها إلى موقع المكتبة على شبكة الويب (WWW) .
ويقوم المكتبيون في ثماني دول أوروبية بتجميع مصادر المعلومات المنشورة إلكترونياً، ويبني هؤلاء المكتبيون (شبكة مكتبة المحفوظات الأوربية) والتي تدعى باختصار (NEDLIB) .
والهدف الحالي للمشروع هو البحث عن أفضل التقنيات والتطبيقات التي يمكن استخدامها لحفظ ما يطلقون عليه اسم (المواد المولودة رقمياً born - digital) وتشمل هذه المواد كل شيء من المجلات العلمية الإلكترونية إلى المنشورات على الويب (WWW) والأسطوانات الليزرية المتراصة (CD-Rom) وغير ذلك (19).
ومن الأمثلة الأخرى مكتبة جامعة كرانفلد (Granfield University Library) في المملكة المتحدة، وخدمات هذه المكتبة مؤتمتة ويتم استرجاع المعلومات وتقديم خدمة الإعارة بسرعة وسهولة، ويوفر نظام المكتبة خدمات للطلبة وأعضاء هيئة التدريس والباحثين ومن أهم الخدمات التي تقدمها المكتبة برامج تعليم المستفيدين من خلال الجولات التمهيدية والجولات الافتراضية عبر موقع المكتبة على شبكة الإنترنت وكذلك بإمكان المستفيد أن يتبع دورات محددة في المكتبة والعثور على المعلومات في شبكة الويب (WWW) . إضافة إلى الخدمات المرجعية والاستشارية التي يقدمها فريق متخصص من أمناء المعلومات والمراجع.
تشترك المكتبة في معظم المصادر المتخصصة في جميع المجالات التعليمية لجامعة كرانفلد، وتوفر المكتبة لروادها إمكانية النفاذ إلى 3000 قاعدة معلومات متخصصة حول العالم، ومعظم هذه القواعد مختزنة على أقراص الليزر المتراصة (CD-Rom) ومتاحة بواسطة الخط المباشر (Online) .
(1/179)
أما خدمة المكتبة البريطانية للمعلومات المؤتمتة The British Library's Automated Service (BLAISE) فتوفر النفاذ إلى 21 قاعدة بيانات تتضمن 19 مليون تسجيلة ببليوغرافية، وهي أيضاً خدمة لاسترجاع المعلومات المتوافرة على الإنترنت تتضمن نفاذاً إلى واجهة ذات سمات شخصية تتطابق مع توجهات المستفيد النهائي، ومساعدته في العثور على المعلومات المناسبة له عبر الإنترنت، كما توفر خدمة (BLAISE) اتصالاً مباشراً مع مركز المكتبة البريطانية للتزويد بالوثائق، وهو المركز الأول في العالم في مجال التزويد الوثائقي، أما ملف الدوريات الحديثة فيتضمن عناوين أكثر من 60.000 من هذه الدوريات التي تسلمها مركز التزويد الوثائقي في المكتبة البريطانية ومركز العلوم والتكنولوجيا والأعمال(20).
ومن أمثلة المكتبات الإلكترونية أيضاً مكتبة جامعة ولاية كاليفورنيا في الولايات المتحدة الأمريكية، وهي من أوائل المكتبات التي صممت لتكون مكتبة إلكترونية تحتوي على حواسيب، وطابعات، وأجهزة قراءة ومليزرات، وأجهزة Telefacsimiles وأجهزة Interactive two-way video Communication .
ومن مميزات هذه المكتبة أن القارئ يستطيع أن يحصل على المواد المطلوبة من الحاسوب مباشرة، أو تصور له عند الحاجة، وترسل إليه بالفاكس.
وقد صمم مبنى هذه المكتبة من دور واحد على هيئة مستطيل، وتتفرع منه أربعة أجنحة تبلغ الطاقة الاستيعابية لكل جناح 400 طرفية، وقد روعي استخدام ستائر خرسانية ثابتة، وأخرى خشبية متحركة للوقاية من أشعة الشمس، وتأثير انعكاساتها على شاشات الحواسيب(21).
ويمكن الحصول على مختلف أنواع المصادر الموجودة في المكتبة أو خارجها لدى المكتبات والمؤسسات الأخرى.
وتشمل وظيفة المعلومات كل البيانات والمعلومات والمعارف التي يمكن أن تستخدم، وتنقل في شكل إلكتروني.
وقد تكون على جهاز فيديو، أو محوسبة، أما الملفات الإلكترونية فهي :
(1/180)
أ - ملفات المعلومات الخاصة بالمجتمع والتي أنتجها نظام معلومات المجتمع.
ب - فهرس المقتنيات المتاح على الخط المباشر (Online Catalog) .
جـ- نظام التراسل الإلكتروني الذي يمكن المستفيد من طلب المعلومات وطرح الأسئلة المرجعية، والحصول على الإجابات.
د - دوائر معارف إلكترونية تتوافر من خلال الناشرين التجاريين.
هـ- دوائر معارف محلية على الخط (آلية) تعمل على تنظيم وتكشيف الأسئلة التي قدمت وأجيب عنها.
أما وظيفة الاتصال فتجعل المستفيد قادراً على الاتصال من خلال المكتبة بشبكة مكتبات إلكترونية أخرى، أو بمجهزي قواعد البيانات.
وتقوم المكتبة من خلال هذه الوظيفة بدور الدليل، ووظيفة الربط (Linking) ووظيفة الإرشاد من قبل اختصاصي المراجع والمعلومات.
أما الخدمات التي تتضمنها هذه الوظيفة فهي :
أ - الاتصال بمنتجي المعلومات من ناشرين، وجامعات، ومراكز بحوث ... إلخ.
ب- الاتصال بالتلفاز الكابلي المحلي، ويمكن للمكتبة أن تقيم محطة محلية أو أستوديو اتصال عام بنظام التلفاز الكابلي.
جـ- تسهيلات للاجتماعات عن بعد سواء كان ذلك للمكتبة أو لجماعات من الجمهور العام.
د - تسهيلات للربط بكل من الخدمات الببليوغرافية والمعلوماتية، وشبكات المكتبات المتاحة على الخط المباشر.
هـ- إصدار الصحف والدوريات المحلية على الخط المباشر من خلال نظام الاتصال الخاص بالمكتبة.
و - لوحة نشرات اجتماعية للمجتمع يتم إصدارها إلكترونياً.
ز - تراسل إلكتروني بين المكتبة والمستفيد وبين أعضاء المجتمع والجهات الحكومية الأخرى.
سادساً - مهام أمين المكتبة الإلكترونية :
(1/181)
تغيرت مهام ووظائف أمين المكتبة الإلكترونية من أداء الوظائف التقليدية إلى مهام استشاري معلومات، ومدير معلومات، وموجه أبحاث، ووسيط معلومات للقيام بعمليات معالجة المعلومات وتفسيرها وترجمتها وتحليلها, وإتقان مهارات الاتصال للإجابة عن أسِئلة المستفيدين، وكذلك الارتباط ببنوك وشبكات المعلومات وممارسة تدريب المستفيدين على استخدام النظم والشبكات المتطورة، وتسهيل مهمات الباحثين.
ويرى بعض الخبراء والباحثين أن المكتبة الإلكترونية ستزيد الطلب على اختصاصي المعلومات من أصحاب الخبرة والمعرفة الواسعة للقيام بالمهام الآتية(23) :
1- استشاري معلومات يعمل على مساعدة المستفيدين وتوجيههم إلى بنوك ومصادر معلومات أكثر استجابة لاحتياجاتهم.
2- تدريب المستفيدين على استخدام المصادر والنظم الإلكترونية.
3- تحليل المعلومات وتقديمها للمستفيدين.
4- إنشاء ملفات بحث وتقديمها عند الطلب للباحثين والدارسين.
5- إنشاء ملفات معلومات شخصية وتقديمها عند الحاجة.
6- البحث في مصادر غير معروفة للمستفيد وتقديم نتائج البحث.
7- مساعدة المستفيد في استثمار شبكة الإنترنت وقدراتها الضخمة في الحصول على المعلومات.
ومثل هذه المهام تتطلب إعداداً خاصاً لاكتساب مهارات معينة في مواجهة التطورات السريعة والمذهلة في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وتقديم خدمات شاملة ومتجددة تتماشى مع روح العصر وثورة المعلومات.
إن هذه التحديات الكبرى التي تواجهها المكتبات ومراكز المعلومات فرضت عليها إعادة النظر في برامجها وخدماتها، كما حتمت أيضاً على مدارس المكتبات والمعلومات تغيير وتطوير مناهجها لتواكب التطورات الحاصلة في عالم المعلومات نتيجة لاستخدام الحواسيب ووسائل الاتصال بعيدة المدى، ومن ثم العمل على إكساب خريجيها المهارات اللازمة لمواجهة هذه التحديات والتحكم في هذا الفيض الهائل من المعلومات.
(1/182)
وقد حدد لانكستر بعض المتطلبات التأهيلية للمكتبيين للتعامل مع التقنيات الجديدة مثل المعرفة التامة بمصادر المعلومات المقروءة آلياً، وكيفية استغلالها بأكبر قدر من الفعالية، ومعرفة جيدة بسياسات وإجراءات التكشيف وبناء المكانز، وصياغة استراتيجيات البحث، ومعرفة استخدام تقنيات الاتصال، وتحقيق أقصى قدر من التفاعل في تسهيل طلبات المستفيدين(24).
ويذهب سمير عثمان(25) إلى أن الوظيفة الأساسية التي يقوم بها أمين المكتبة الإلكترونية هي تحديد مكان المعلومة أو أماكنها، أو المعلومات المطلوبة منه سواء أكان طالب المعلومة رجل أعمال، أو شركة، أو باحثاً، وسواء أكانت المعلومة خاصة بمنافسة تجارية، أو تتعلق بدراسة موضوع علمي أو صناعي، أو تتعلق بتحديد خلفية بحثية لموضوع ما.
ولتحقيق ذلك يستخدم أمين هذه المكتبة جميع وسائل الاتصال الإلكترونية.
أما النسبة المئوية لما يجده في تعزيزات واستخدام الخط المباشر (Online) فيمكن القول إن ذلك يشكل حوالي 50? أو أكثر من الأعمال البحثية التي يقوم بها، فهو يقضي الكثير من وقته في تحديد نوعية الموضوع، أو الموضوعات المطلوبة منه داخل أدلة الموضوعات الموجودة على الخط المباشر أو الإنترنت.
ويبدأ عمله بإجراء عمل مبدئي لمعرفة ما إذا كانت هنالك موضوعات مشابهة وأماكن وجود هذه الموضوعات في داخل الأدلة والفهارس المختلفة، وبمجرد تحديد موقع الموضوع أو مكانه يقوم بتحرير نشرة أو إصدارة بالموضوع، وعرضها في مجموعة الأخبار أو القوائم البريدية (Mailing Lists) أو الآليات الباحثة (Search Engines) أو الأدلة الموضوعية (Subject Directories) لتيسير إتاحتها للباحثين.
(1/183)
ويفضل بعض أمناء هذه المكتبات استخدام الشبكة العنكبوتية World Wide Web. (WWW) لسهولة الملاحة فيها نسبياً للاستخدامات العامة، ولاعتبارها الشبكة الأسرع نماءً من غيرها، فضلاً عن استخدام مجموعات الأخبار والقوائم البريدية قبل الدخول في الشبكات الأخرى.
سابعاً - معوقات إدخال التقنية الرقمية للمكتبات وسبل التطوير :
من المشكلات التي تقف عاِئقًا أمام إدخال التقنية الرقمية للمكتبة على الوجه الأمثل المشكلات الناجمة عن قلة الخبرة في إدارة مثل هذه المشروعات، وعدم توافق برنامج المكتبة مع برنامج التشغيل، أو مع المواصفات الفنية لخادم الشبكة، فضلاً عن الصعوبات التي تكتنف نظم الاتصالات والانقطاعات المتكررة التي تسبب خسائر تلحق بكل من النظام والخدمات، ولغرض تقديم خدمات معلوماتية متكاملة، وتخطي مثل هذه المعوقات لا بد من العمل على تحقيق الآتي :
1- الاتفاق على بروتوكول موحد ومقنن يتيح مرونة الاتصال بين المكتبات ومراكز المعلومات على المستويين المحلي والعالمي.
2- إنشاء قطاع مركزي لتأمين أوعية المعلومات الرقمية والتنسيق بين المكتبات لاتباع الأسلوب الأمثل للمشاركة في استخدامها.
3- التأكيد على ضرورة التقييم الدوري خلال مراحل إنشاء النظام الرقمي.
4- الاهتمام بالتدريب الموجه للكفاءات، وإتقان الأساليب الحديثة في التخطيط والتقييم، ومعرفة استخدام تقنيات المعلومات والاتصالات الحديثة.
5- تأمين حماية رقمية شاملة للنظام.
6- زيادة دعم نظم الاتصالات بين المشروع والمكتبات والمراكز المناظرة.
7- تضمين خطط المشروعات والخدمات الجديدة بوقائع وأحداث معينة عن طريق خدمات الإحاطة الجارية وإعلام المستفيدين بمثل هذه التطورات(26).
ثامناً - نحو تطوير مكتبات إلكترونية عربية :
(1/184)
مما لا شك فيه أن واقع المكتبات ومراكز المعلومات في الوطن العربي يختلف عما هو سائد في الدول المتقدمة التي تحظى فيها مؤسسات المعلومات بالرعاية، والاهتمام، والدعم المتواصل لتطويرها وتحديثها، وبناء نظم معلومات وطنية شاملة إلا أنه يمكن القول إن هناك تقدماً ملحوظاً في العديد من المكتبات ومراكز المعلومات في التحول نحو حوسبة أعمالها وإجراءاتها المكتبية، وتطوير آفاق الخدمة المكتبية لتزويد المستفيدين بمهارات البحث عن المعلومات، وتلبية الاحتياجات البحثية المتنوعة، فضلاً عن وجود العديد من المشروعات الخاصة بتنمية مجموعات هذه المكتبات وبناء شبكات المعلومات الوطنية، والدخول في النظم والبرامج التعاونية على المستوى المحلي والدولي، واستخدام التكنولوجيا المعاصرة في عمليات اختزان المعلومات واسترجاعها وبثها لشرائح مختلفة من المستفيدين والباحثين العلميين.
إن نظام معلومات المكتبة العصرية يعتمد اعتماداً كبيراً على مؤهلات العاملين في المكتبة وخبراتهم، ومدى قدرتهم على التعامل مع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات.
وبذلك فإن نجاح مشاريع حوسبة المكتبات يعتمد على وجود مكتبيين على درجة عالية من التخصص، واستيعاب قدرات تكنولوجيا المعلومات.
ويتصور الكثير من صنّاع القرار أن عملية حوسبة أعمال المكتبات عملية بسيطة، وأن تزويد المكتبة بمجموعة من الحواسيب يكفي لنجاح مثل هذه المشروعات، غير أن ذلك ليس سوى جزء بسيط من نظام المعلومات الحديث، وهو نظام معقد نسبياً، ويعتمد بصورة أساسية على تدريب العاملين والمستفيدين، وعلى وجود برمجيات جيدة، وموارد مكتبية كافية.
فإذا كانت مكتباتنا العربية بمختلف أشكالها ليست بالمستوى المطلوب بشكل عام، فإن النهوض بها وتحديثها لكي تكون مكتبات حديثة متطورة على المستويات كافة يتطلب جملة من الإجراءات يمكن إيجازها بالآتي(28) :
(1/185)
1- تقديم تمويل حكومي مخصص لدعم وحوسبة هذه المكتبات ضمن أولويات وخطط متصلة لتحقيق أفضل النتائج.
2- إعداد البرمجيات المناسبة لحوسبة أعمال المكتبة ومقتنياتها.
3- بناء شبكات المعلومات الوطنية، وتطوير مجالات التعاون مع نظم وشبكات المعلومات العالمية في مختلف المجالات.
4- تدريب أمناء المكتبات والمعلومات لتحقيق استثمار أفضل لتكنولوجيا المعلومات وتطبيقاتها في مؤسسات المعلومات، وتطوير مهارات البحث عن المعلومات، والاتصال مع المستفيدين.
5- تدريس تكنولوجيا المعلومات ومهاراتها الأساسية على مستوى المدارس الثانوية والجامعات لبناء مجتمع متقدم علمياً وتقنياً، ومن ثم محو الأمية المعلوماتية في التعامل مع التكنولوجيا وتطبيقاتها.
6- تطوير قواعد البيانات المختزنة على الأقراص المتراصة (CD-Rom) ومنح المستفيدين فرص النفاذ إلى إمكانات شبكة الإنترنت العالمية.
7- تطوير المجموعات المكتبية باستخدام مصادر المعلومات الإلكترونية كالمراجع والدوريات الإلكترونية، وخدمات التكشيف والاستخلاص بما يتناسب مع الإمكانات المتاحة.
8- تأمين صيانة وتطوير البرمجيات والشبكات والتجهيزات الإلكترونية.
9- دعم الاتصال الدولي بشبكة الإنترنت.
10- عقد المؤتمرات والندوات والحلقات النقاشية، وإشراك العاملين في المكتبة فيها وذوي الاختصاصات العالية في حقل المعلوماتية لتطوير القدرات والكفاءات، وخلق بيئة تعليمية مناسبة.
الخاتمة :
(1/186)
ستشهد المكتبات ومراكز المعلومات في المستقبل القريب تحولاً كبيراً باتجاه التكشيف الرقمي للمعلومات، وتطوير تقنيات البث في المكتبات الإلكترونية، وإحداث تغييرات جوهرية في أنماط الخدمة المكتبية للحصول على المعلومات، وأن هناك العديد من المشروعات الريادية لمؤسسات المعلومات المختلفة لتطوير الركائز الأساسية لهذه المكتبات، وتعزيز مكانتها ودورها لدى مختلف فئات المستفيدين، وتلبية احتياجاتهم المعلوماتية في ظل التطورات المذهلة والسريعة لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات بعيدة المدى.
وهذه المكتبات التي فرضها التطور التقني بأبعاده ومعطياته وأدواته المختلفة هي التي تبدو أكثر جاذبية وواقعية لمختلف شرائح المستفيدين، ولذا فإن مبانيها ستتنوع بتنوع تبعيتها، وأهدافها، وجمهورها، وستكون مكتبة المستقبل هي المكتبة الرقمية التي قد لا تحتاج بالفعل لمكان محسوس يأتي إليه الباحثون والدارسون، وإنما لموقع إلكتروني وتجهيزات ومعدات تقنية يستخدمها المستفيدون من مختلف المواقع والأماكن، بل أن مثل هذه المكتبات قد لا تحتاج لأن يكون مستخدمها إنساناً، وإنما قد يستخدمها نظام معلومات آخر.
وهذا يعني أن هناك ظهوراً متطوراً للنظم الذكية، ومن هنا ستكون هذه المكتبات شبكة في نظم معلومات يتعاون فيها الإنسان والآلة(29).
ويعتمد الاستخدام الأمثل للمكتبة الإلكترونية على القدرة الاتصالية، وتوافر المقتنيات الإلكترونية، والقدرة الاستخدامية لتلبية احتياجات الباحث العلمية والاهتمام بإعداد أمناء المكتبات الإلكترونية لإنجاز المهام والوظائف الأساسية الملقاة على عاتقهم في مساعدة المستفيدين، وابتكار أساليب جديدة للارتقاء برسالة المكتبة، وحل المشكلات والإجابة عن استفسارات الباحثين.
وفي هذا الجانب شرع العديد من المكتبات الأكاديمية في الدول المتقدمة بإنشاء معاهد للتدريب على المكتبات الرقمية، وكيفية إنشائها
(1/187)
والربط فيما بينها بهدف تكامل الخدمات والبرامج المرتبطة باحتياجات المستفيدين.
ومن بين تلك المكتبات مكتبة جامعة كاليفورنيا – بيركلي، بولاية كاليفورنيا التي أنشأت معهداً في عام 1996م يتلقى فيه المتدربون برنامجاً للمكتبة الرقمية، وطبيعة مقتنياتها، والنصوص الفائقة، والتصوير الرقمي، والتعرف إلى التقنيات المتاحة واستخدامها وتقييم المشروعات المقدمة من المتدربين وتقييم فعاليات المعهد في مثل هذه النشاطات(30).
وتأسيساً على ما تقدم فإن المستقبل سيكون لمثل هذه المكتبات التي توظف التكنولوجيا وتطبيقاتها المختلفة، وتطور من خدماتها وبرامجها وموظفيها بما يواكب التطورات التقنية والعلمية، والتغيرات في مهنة المكتبات والمعلومات، والتكيف مع متطلبات مجتمع المعلومات، بعد أن أصبح استخدام المعلومات بأشكالها الإلكترونية واقعاً حتمياً يلج ويقتحم عالم مؤسسات المعلومات.
الملاحق
كتاب الاستيعاب للعمل بصدر الإوزة وجناح الغراب
رسالة فى تركيب الأدوية
المقالة الحسنية فى تدبير الصحة البدنية
فضائل شهر رمضان
مواهب الكريم المنان فى الكلام على أوائل سورة الدخان وفضائل ليلة النصف من شعبان
فضائل ليلة النصف من شعبان
قلادة الذهب فيما ورد فى شهر رجب
جزيل الأنفاس لفضائل شهر الأنفاس
التقييدات
القول الأنيس والدر النفيس على منظومة الشيخ الرئيس
التصوف التساعى
رسالة فى آداب المريد
فصل فى(المناسخات)
إحياء الفؤاد بمعرفة خواص الأعداء
اللمع فى الحساب
نزهة النظار فى علم الغبار
شرح كتاب اللمع(لابن الهائم)
رسالة فى الاسطرلاب(آلة فلكية)
رسالة المبشرات المنامية
رسالة فى الكيمياء السحرية
القواعد الأصولية فى الأشكال الرملية
مختصر علل رمى النشاب
رسالة فى علم الفلك
رسالة فى الفلك والتنجيم
طريق الاستقامة لمعرفة الإمامة
تنزيه الكون عن اعتقاد إسلام فرعون
رسالة فى جواز دوران الصوفية
كتاب المناظر
كتاب الاستيعاب للعمل بصدر الإوزة وجناح الغراب
(1/188)
رسالة فى تركيب الأدوية
المقالة الحسنية فى تدبير الصحة البدنية
فضائل شهر رمضان
مواهب الكريم المنان فى الكلام على أوائل سورة الدخان وفضائل ليلة النصف من شعبان
فضائل ليلة النصف من شعبان
قلادة الذهب فيما ورد فى شهر رجب
جزيل الأنفاس لفضائل شهر الأنفاس
التقييدات
القول الأنيس والدر النفيس على منظومة الشيخ الرئيس
التصوف التساعى
رسالة فى آداب المريد
فصل فى(المناسخات)
إحياء الفؤاد بمعرفة خواص الأعداء
اللمع فى الحساب
نزهة النظار فى علم الغبار
شرح كتاب اللمع(لابن الهائم)
رسالة فى الاسطرلاب(آلة فلكية)
رسالة المبشرات المنامية
رسالة فى الكيمياء السحرية
القواعد الأصولية فى الأشكال الرملية
مختصر علل رمى النشاب
رسالة فى علم الفلك
رسالة فى الفلك والتنجيم
طريق الاستقامة لمعرفة الإمامة
تنزيه الكون عن اعتقاد إسلام فرعون
رسالة فى جواز دوران الصوفية
كتاب المناظر
(1/189)