تصدير بقلم الدكتور / عبد الستار فتح الله سعيد الأستاذ بكلية أصول الدين الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد... فقد تعهد الله تعالى بحفظ كتابه ودينه، وصار ذلك قدراً مقدوراً، وقضاءً مبرماً ماضياً في الأحياء والأشياء لا يزيده مر الليالي والأيام إلا ثباتاً وتحقيقاً، وقد هيأ الله عز وجل لذلك أسباباً منها: 1- (القيمة الذاتية) لكتابه ودينه، لاشتمالها على موافقة الفطرة ومطابقة الحق والإبتناء على الحكمة والعدل والإحسان، وإلى ذلك يشير قوله تعالي : وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم
ص_008
2- ( الرجال الكبار ) الذين حملوا هذا الدين وتعاقبوا علي تجلية حقائقه في كل العصور، وكشف ما تراكم عليها من غبار حتى تعود في كل جيل بيضاء للناظرين.
ولقد امتاز تاريخ الإسلام بهذه الكثرة الكاثرة من الدعاة والمجددين الذين يحرسون أصوله وينفون عنه التحريف والتزييف، ويتجلى لنا هذا الفضل الإلهي حين نقارن ذلك بما وقع لأهل الكتاب قبلنا، فقد تمر قرون ولا يظفرون بمصلح يجدد لهم أمر الدين، فيتأصل الانحراف بمرور السنين، ويغدو من المستحيل أن يقبل الناس المراجعة والتصحيح فضلاً عن أن يرجعوا إلى المسار الصحيح!!
وتاريخ بني إسرائيل أبلغ شاهد على هذا، فقد ضلوا بعد انقطاع النبوة فيهم حين كفروا بعيسى عليه السلام، وحرفوا التوراة، واخترعوا ( التلمود )، وصارت بينهم وبين الوحي الإلهي فجوة هائلة لا سبيل إلى إصلاحها!! وحين قامت حركات ( الإصلاح الديني ) في أوروبا على يد ( مارتن لوثر ) وأمثاله لم تقترب من الأصول المحرفة في النصرانية كالتثليث والصلب والفداء، لأنها كانت قد رسخت منذ قرون بعيدة، لذلك دارت محاولات الإصلاح حول بعض الوسائل والفروع.. !!(1/1)
أما الإسلام العظيم فقد ظلت أصوله وفروعه علي غاية السلامة والاستقامة رغم أن المسلمين قد فرطوا في التطبيق واجتاح الكفار بلادهم ، وأسقطوا دولتهم ، وأوقعوا خللاً هائلاً في عقائد المسلمين وأخلاقهم !!
ولقد هب رجال مؤمنون ونساء مؤمنات يقارعون الطوفان الغازي ، ويذودون عن دينهم العظيم ، وينازلون الضلالات والشبهات الوافدة حتى ردوها علي أعقابها ،
ص_009
وخرج الإسلام من غبار المحنة أنصع وأجلى ، وبذلك حفظ الله تعالي دينه وكتابه ، وتأكد الوعي الحق أمام الناس كشأنه في كل جيل إلى الدرجة التي أدهشت الغزاة أنفسهم ، فكان كبار المفكرين والعلماء منهم يدخلون في دين الله تعالى رغم سقوط دولته وأمته !! ولا ينسى تاريخ الإسلام ما قام به الأئمة الأعلام من جهاد ناصب لرد الغارة الجاهلية العارمة وحشد الأمة حول معالم الإسلام الشامل الذي لا يقبل التجزئة والتفريق . وعلي سبيل المثال لا الحصر : كان الشيخ عبد الحميد بن باديس وجمعية علماء الجزائر يقومون بهذا الجهاد المضني في (غرب) العالم الإسلامي . وكان شاعر الإسلام محمد إقبال وعلماء الهند الكبار يقومون بهذا في ( شرق ) العالم الإسلامي . ثم في ( قلب ) هذه الأمة قامت أفواج متلاحقة تزود عن معالم الوحي والحق كالشيخ محمد عبده ، ورشيد رضا ، ومحب الدين الخطيب ، وشيخ الإسلام مصطفي صبري ( المهاجر من تركيا إلي مصر فراراً بدينه ) ، والشيخ حسن البنا ، وغيرهم كثير رضي الله عنهم أجمعين . وفي ظلال هذه المدرسة الربانية المجاهدة تربي شيخنا محمد الغزالى ، وحمل أعباء الدعوة مع رجالها الكبار ، ثم صار بفضل الله علماً من أعلامها ، ومضي يرفع لوائها شامخاً في وجه الاستبداد والإلحاد ، ويزود عن شرف الإسلام بقلمه ولسانه ، ويجلي حقائق الوحي الأعلى ، ويقارع الجاهلية الطامسة يوم ضرب الطغيان في أمتنا ليلاً بهيماً ، وحين ظن عميان الإلحاد أن جذوة الإسلام قد خبت إلي الأبد(1/2)
علي يد الطاغية الغشوم ، انطلق صوت ص_010
الداعي عالياً مجلجلاً بكلمات لا تتعالى ، فأنبت الله بها نبتاً جديداً رشيداً ، وهو الذي ينطلق الآن بقافلة الإسلام على الطريق الوعر ، وستنقشع بإذن الله على أصداء تكبيره ظلمات المادية والإلحاد .
وهنا عبرة عظيمة للدعاة :
فالكلمة الصادقة المخلصة لها أكبر الخطر والأثر حين تنطلق ممزوجة بذوب النفس ، وعصارة الفكر ، ونبض القلب ، وإخلاص الوجهة والقصد ، ولذلك تسري فيها روح تحيي الموات ، وأنوار تضئ الظلمات ، ويكون لها صولة تعصف بالزيف والدجل ، ووهج هائل يحرق الباطل الكاذوب !!
وهذا فارق بين كلام مثقل بهموم أمته ودينه ، وكلام بارد الأنفاس يتطاير في الهواء ، ويتلاشي في الفضاء كطنين أجنحة الذباب !!
لقد كنت شديد الإعجاب والسرور بذلك الجهد المشكور الذي قام به أخونا الشيخ قطب عبد الحميد ، حين تتبع ( خطب ) الشيخ الغزالي واستخرجها من بطون الأشرطة المتناثرة ، وجمعها لنا في كتب مقروءة ولقد كانت كنوزاً مطوية مخبوءة ، لا تصل إليها أيدي أكثر الناس ، فقربها للجميع ، وكان بذلك كالصائغ الماهر الذي يجمع اللؤلؤ المنثور ، أو ينظم الدر المكنون ليكون قلادة نفسية مباركة تعتز بها الدعوة الإسلامية المعاصرة ، ولتكون نبراساً في أيدي الدعاة ، وزاد روحياً لأجيالنا الإسلامية في صراعها المرير مع أعداء الحق والإسلام !!
ص_011(1/3)
ولقد ازددت سروراً حين جاءني أخونا الشيخ قطب يبشرني بخطوته الجديدة وهي : جمع ( محاضرات ) الشيخ محمد الغزالي المتناثرة في أرجاء العالم الإسلامي والتي تعطي بعداً وعمقاً دينياً وثقافياً جليلاً ربما فاق غيره من فنون الدعوة والخطابة . ذلك لأن خطيب الجمعة يراعي أن يخاطب جمهوراً متفاوت العلم والثقافة ، فيلجأ إلى شئ من البسط والتقريب مع المحافظة على جمال العرض ، وجلال اللفظ ، وسمو الغرض والموضوع ، وملاحظة الوقت ، وهذه مهمة شاقة لا يستطيعها إلا أفذاذ الدعاة !! أما المحاضرات فجمهور أكثر تجانساً وتقارباً في ثقافته ، وأقدر على تلقي المعاني العلمية والفكرية الدقيقة ، وربما يكون الوقت فيها أوسع ، ولذلك تأخذ شكلاً أعمق في النظر والفكر والتقسيم والترتيب والتأصيل والاستدلال والموازنة والرد على الشبهات ونحو ذلك. وفي الحالين كان للشيخ الغزالي ملكة مشهورة يملك بها ناصية الموقف ، وينزل المقام على ما يناسب المقام ، وما البلاغة في ذروتها إلا مراعاة مقتضى الحال . وبهذه الخطوة الجديدة يكتمل لنا من آثار شيخنا الغزالي ما لم يكتمل لغيرة من الدعاة ، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء ، وهي بإيجاز : الكتب المطبوعة الذائعة والتي غطت معظم جوانب المعرفة الإسلامية . المقالات المنشورة في الصحف والمجلات على مدار أربعين سنة تقريباً في أنحاء العالم الإسلامي ، وهذه ص_012(1/4)
تحتاج إلى أن تجمع في كتب أيضاً ، وعسي أن ينشط لها أخونا الشيخ قطب بإذن الله . 3- الخطب المنبرية ( وقد صدر منها جزءان ) . 4- المحاضرات والندوات ، وباكورتها في هذا الكتاب . ونسأل الله أن يوفق أخونا الشيخ قطب لإتمام ما بدأ وأن يجزيه بذلك خيراً كثيراً . ولقد يكفي للتدليل على عظمة هذا العمل أن نتذكر آثار الدعاة المعاصرين من الخطب والمحاضرات والندوات والأحاديث ، وكيف تفرقت حتى صارت في حكم المفقود مع الأسف الشديد !! وإذا كان الشيخ أحمد عيسي عاشور ـ بارك الله في عمله وجهاده ـ له فضل السبق والريادة في جمع كثير من آثار الشيخ الإمام حسن البنا في وقت لم تكن قد شاعت فيه أجهزة التسجيل فأين بقية آثاره وقد قضي حياته داعياً مرشداً رحمه الله ؟! وأين آثار الأستاذ سيد قطب ، والأستاذ عبد القادر عودة ، والشيخ محمد فرغلى ، والشيخ أحمد شريت ، وغيرهم من شهداء الدعوة وأئمتها رضي الله عنهم وتقبل جهادهم أجمعين؟! ولعل هذه مناسبة طيبة ننتهزها لدعوة طلاب العلم أن ينشطوا في هذا الجانب ، وأن يجمعوا آثار الدعاة المجاهدين ص_013
فإن في ذلك خيراً كبيراً للدعوة وللدعاة وللشباب الإسلامي في كل مكان . وإننا لنرجو أيضاً كل من لديه شئ من آثار هؤلاء المجاهدين الراحلين أن يسعى إلى نشره وإذاعته وفاء وثوابا وخدمة للإسلام ، ووصلاً لحاضر الدعوة المعاصرة بماضيها القريب ، والذكرى تنفع المؤمنين . وفقنا الله جميعاً لخير ما يحبه و يرضاه ، والحمد لله رب العالمين . كتبه الفقير إلي عفو الله تعالي عبد الستار فتح الله سعيد القاهرة في شعبان 1409 هـ مارس 1989 م ص_015
مقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام علي من لا نبي بعده .
أما بعد
فهذا الكتاب الذي بين يدى القارئ الكريم هو مجموع محاضرات ألقيت في أمكنه مختلفة .(1/5)
وجميع هذه المحضرات تتسم بالقوة والوضوح ، والصراحة الواقعية ، وتحدث عن واقع العالم الإسلامي وأزمة المسلمين الحقيقية ، وتصارح بالداء والدواء ، وتكتشف عن الأصدقاء والأعداء ..
" ولا ينبئك مثل خبير "
وهذه الحقائق التي يبعثرها شيخنا الغزالي على الطريق تلفت النظر ، وتدق ناقوس الخطر ..
" ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة "
وفي هذا الكتاب أحداث وتجارب ، وأحكام وحقائق ، ووصايا اقتراحات ، يسوقها شيخنا الغزالي بأسلوبه الفذ الذي يجمع بين التحليل الفكري الهادي الدقيق ، والغرض الأدبي الحار الرشيق !!
ص_016
وفضيلة الإمام الغزالي غني عن التعريف فهو بالنسبة إلى قراء العربية بمثابة الذهب في عالم المعادن لا يكاد يجهله أحد !! إنه صوت لإسلام الصافي الفذ الحنون الذي يعرف كيف يحرق الأفئدة ويضيئها في الوقت نفسه !! إنه المحب العاشق الذي تري في عينيه بريق الحب ، وتقرأ في وجهه نور الإيمان ، وتحس في كلماته حرارة تنفذ إلى قرارة النفوس كما ينفذ البرق في الأسلاك !! ويكفيه شرفاً أن تقر له الدعوة الإسلامية بالجهاد المتواصل في سبيلها طول نصف قرن في حياته المجيدة المديدة إن شاء الله . فمنذ نصف قرن وهو يجاهد في سبيل الله بالكلمة الرائدة ، والفكرة الراشدة ، حتى أصبح بحق معلماً من معالم الدعوة الإسلامية في هذا العصر ، وحتى أصبحت كتبه ومؤلفاته تحتل جانبا هاماً وكبيراً من مكتبه الدعوة الإسلامية . فجزاه الله عنا وعن الإسلام والمسلمين خير الجزاء .. آمين . وختاماً فإني أشكر الله أن وفقني لجمع هذه المحاضرات وإعدادها ليعلم نفعها ويظهر نورها . وأسال الله جلت قدرته أن ينفع بها جماهير المسلين ، وأن يجعلها لنا ولشيخنا وسيلة يوم الدين .. " يوم لا ينفع مال ولا بنون * إلا من أتى الله بقلب سليم " وصلي الله على سيدنا محمد وآله . قطب عبد الحميد قطب ص_017(1/6)
الشيخ محمد الغزالي السقا بقلم الأستاذ الكبير محمد المجذوب لقد اشتهر في الأوساط الإسلامية بقلب الغزالي ، ويفسر لنا سبب هذا اللقب بأن والده كان شديد الإعجاب بالإمام أبي حامد الغزالي مؤلف " الإحياء " متأثراً بنزعته الصوفية ، وأن هذا تراءى له ذات ليلة فأخبره أنه سيتزوج وينجب غلاماً ، ويشير عليه بأن يسميه الغزالي ! . ولد في 22 / 9 / 1917 للميلاد في قرية " تكلا العنب " من " إيتاى البارود " من أعمال البحيرة ، وقد سبق لهذا البلد أن أنجب العديد من كبار أهل الأدب والعلم ، الذين خلفوا شهرة واسعة في مصر والعالم الإسلامي ، منهم الشاعر المجدد محمود سامي البارودى ، ثم منشئ ص_018(1/7)
كبرى الحركات الإسلامية في العصر الحديث الإمام الشهيد حسن البنا . وقد قدم هذا الإقليم كذلك ثلاثة من أئمة الأزهر هم : الشيخ سليم البشرى ، والشيخ إبراهيم حمروش ، والشيخ محمود شلتوت . الأسرة والدراسة : أما أسرته فيغلب عليها العمل بالتجارة ، وكان والده من حفظة القرآن ، يتعهده بالتلاوة المثبتة ، وقد نشأ ولده على ذلك ، إذ أدخله كتاب القرية ليتعلم الخط والحساب ، وليحفظ القرآن ، فكان يحفظ حصته المقررة على الشيخ ويضيف إليها حصة أخرى على والده ، فما إن بلغ العاشرة حتى كان قد حفظة كله . ويقول فضيلة الشيخ : إن حفظ القرآن والتنافس في دراسة العلوم الإسلامية كان أثناءئذ من طوابع هذه البيئة ، ولابد أن يكون لهذا أثره العميق في تركيبة النفسي والعقلي ، ولا يستبعد أن يكون كذلك من الحوافز الباعثة على الطموح إلي مثل المكانة التي سبق إليها أولئك المقدمون . في الأزهر : ومن كتاب القرية إلى المعهد الديني المخصص لمحافظة البحيرة في الإسكندرية ، حيث قضي سنواته الأربع في دراسة المرحلة الابتدائية ذات المقررات القوية ، ومن ثم واصل دراسته حتى نال الكفاءة بعد ثلاث سنوات ثم الشهادة الثانوية بعد سنتين . ومن هناك انتقل إلى القاهرة ليبدأ دراسته الجامعية في كلية أصول الدين ، وبعد أربع سنوات نال شهادتها العالية ، ليتحول إلى التخصص في الدعوة والإرشاد ، وقد نال إجازته ـ الماجستير بلغة اليوم ـ بعد تمام السنين . ص_019
موحيات لا تُنسى :
ويسمي فضيلته من مشايخه الأكبر تأثيراً في نفسه أثناء الدراسة:
الشيخ محمد عبد العزيز بلال ، والشيخ إبراهيم الغرباوى ، والشيخ محمد الريان.. ويعلل ذلك التأثير بما تميز به هؤلاء ـ ومن في طبقتهم أيامئذ ـ من السلوك العالي ، والإخلاص الذي يريهم العلم والتعليم وسيلتهم المفضلة إلى مرضاة الله ، وبذلك كانوا المعلمين والأسوة في آن واحد.(1/8)
ومن أمثلة ذلك التي لا ينساها ما يرويه من أن شيخه الريان قد كلفه ذات يوم إعراب الجملة التالية : "عبدت الله " ، وعلى دأب ذلك الجيل الملتزم أجاب أن اسم الجلالة منصوب على العظيم ، فما تمالك الشيخ أن بكي.. وحق لإنسان مشغول القلب بحب الله أن يبكي وهو يستمع إلى ذكر مولاه معظماً على لسان تلميذه. ولا جرم أن مجرد اختزان الشيخ لهذه الذكرى منذ ذلك العهد إنما يصور مدى تأثيره بموحيات ذلك الجو المتوهج بالإشراق.
ولعلي لا أذيع سراً إذا قلت أن عارفي الشيخ الغزالى يحسون استغراقه في تلك الخاصة ، ولا سيما حين ينطلق على سجيته في كلام عن الله جل وعلا ، وعن رسوله صلوات الله وسلامه عليه ، حتى ليفضحه الدمع فلا يستطيع له رداً.
مع الإمام البنا:
وتحدث فضيلته عن لقائه بالإمام حسن البنا لأول مرة ، وذلك أثناء دراسته الثانوية بالإسكندرية ، وكان من عاداته ليزوم مسجد عبد الرحمن بن هرمز في منطقة رأس التين بعد المغرب من كل يوم حيث يقوم بمذاكرة دروسه.. وذات مساء ـ يقول ـ ينهض شاب لا يعرفه ليلقي على الناس موعظة قصيرة شرحاً للحديث الشريف:
" اتق الله حيثما
ص_020(1/9)
كنت ، وأتبع السيئة الحسنة تمحها ، وخالق الناس بخلق حسن " . وكان حديثاً مؤثراً يتصل بأعماق القلب ، فما إن فرغ منه حتى وجدت نفسي مشدود القلب إليه . ومنذ تلك الساعة توثقت علاقتي به ، ومضيت معه عقب صلاة العشاء إلى مجلس يضم بعض رجال الدعوة ، ثم استمر عملي في ميدان الكفاح الإسلامي مع هذا الداعية العملاق إلى أن استشهد سنة 1948 م . ويعلل فضيلته تأثير إمامه الشهيد بقدرته على معالجة الوقائع الحية بالحقائق الإسلامية ، وبديهي أنه يريد بهذا التعبير المكثف الإشارة إلى استيعابه لمشكلات عصرة ، وإدراكه الدقيق لموقف الإسلام بازاء كل منها ، ومن هنا كان له ذلك الامتياز العجيب الذي يستقطب حوله الرجال ، ويجعل لكلمته فاعليتها الساحرة في القلوب . العلوم التي يؤثر : والمطالع لآثار الشيخ الغزالي ، مؤلفات ومقالات ومحاضرات وأحاديث ، يستشعر بقوة سعة الأفق ، الذي يطل به على مختلف فروع العلم .. وأول ما يطالعه من خلالها جميعاً تلك الموهبة الفنية التي تفرغ على تعابيره ألق البيان العفوي الجميل . فالقارئ المتذوق لهذا الضرب من البلاغة لا يسعه أن يمر بكتاباته دون أن يتوقف بين الحين والآخر ليمتع وجدانه بتلك الصياغة الموفقة . وطبيعي أن يكون لهذه الأساليب الجذابة ص_021(1/10)
أثرها في تثبيت الفكرة التي يعالجها . وقد أجمع علماء البلاغة ، منذ الجرجاني والجاحظ ، على أن سر الجمال في كل نص ممتاز عائد بالدرجة الأولي إلى صياغته المحكمة ، وهكذا يتعاون الشكل الباهر مع المضمون القاهر في أدب الشيخ ، فيجعل له ذلك القبول في القلوب والعقول. ولهذا لم نفاجأ بجوابه عند استطلاعنا إياه عن أحب العلوم إليه ، إذ بدأ بذكر الأدب أولاً . والأدب عند الشيخ ـ كما نفهمه من خلال آثاره ـ ليس ذلك الذي يقوم على الدراسات المجردة ، بل هو كل عمل فني تتوافر فيه عناصر الجمال ، وتتفاعل به المشاعر على الصورة التي يسميها العرب بالسحر الحلال . وأحسبني قد أشرت فيما أسلفت من التراجم إلى قيمة هذا التفاعل الوجداني في تذوق الجملة القرآنية ، وقديماً اعتبر العالم المفسر الأديب أبو حيان تعاطي الشعر ، والقدرة على تذوقه من الأسباب المساعدة على فهم القرآن والنفاذ إلى إعجازه البلاغي . ولعل من أبرز الملامح الدالة على خصائص المترجم الأدبية تلك الشواهد الرائقة من الشعر ، التي تستجيب له في عفوية بالغة ، لتحل من كلامه في المواضع المناسبة كتناسب العضو الحي في مكانه من الجسد الحي . والشيخ الصديق يعتبر الأدب ـ من أجل ذلك ـ هو الوسيلة المحققة في الإنسان خاصته الأولى التي أكرمه بها الخالق حين ( علمه البيان ) . ويلي الأدب في إيثاره ( الدراسات النفسية ) وهي التي عني بها أصحاب القلوب من الأئمة الذين جمعوا بين العلم والعبادة والزهد ، وخلفوا من ذلك كله تراثاً للأجيال ، لا يستغني عنه في معرفة النفس البشرية وما انطوت عليه من الأسرار العجيبة ، وما يعتورها من الأمراض والأعراض . ويشير من ذلك التراث إلي بعض المؤلفات المميزة مثل " صيد الخاطر " للإمام ابن الجوزى ، و " مدارج السالكين .. " ص_022(1/11)
للإمام ابن القيم ، و" إحياء علوم الدين " للإمام الغزالي ، بعد تجريدة من الأخبار الضعيفة والشواذ الأخرى . ويري أن ثمة خاصة مشتركة بين الإمامين الغزالي وحسن البنا ، تتجلى في قدرة كل منهما علي هضم العلوم والخبرات ، وتحويلها جميعاً في منهجهما العقلي إلى تيار فكري يعمل عمله في العقول والقلوب بمنتهى اللطف والسهولة ، كمثل النحلة تمتص ضروب الأزاهير فتستخلص منها الرحيق الذي فيه شفاء للناس . وبالنسبة إلي صلته بأفكار الإمام الغزالي بخاصة ، يقص علينا فضيلته ذلك الخبر الطريف التالي : يقول : أثناء عمله في كلية " الدراسات العربية والإسلامية " بالجامع الأزهر عهد إليه بتدريس كتاب " ميزان العلوم " لذلك الإمام .. ولكنه سرعان ما ضاق به صدراً .. وقدم تقريراً عن المسئولين عن الكلية يبين فيه مآخذه عليه ، ويقترح رفعه وإحلال " مدارج السالكين .." لابن القيم مكانه .. علي أن ما إن فعل ذلك حتى ساوره بعض القلق إذ جعل يتساءل : أليس من المفارقات الغريبة أن يحمل اسمه ـ وهو الذي تراءى لأبيه يشير به عليه ـ ثم يعم الآن إلى هذا الموقف من كتابه ؟ .. بيد أن تصرفه هذا لم يصرفه عن تقريره الذي لم يكتبه إلا إيثاراً للتي هي أحسن . في غمرة الصراع : وعن أهم الأحداث تأثيراً في تكوينه الفكري والروحي يردنا فضيلته إلى خصائص تلك الفترة التي عاشها منذ التحق بالقسم الثانوي ، والتي شحنت بالتيارات المتصارعة في كل جانب من حياة مصر والشرق العربي ، فالاحتلال الإنجليزي كان مصدراً لا ينفد لنشاط الطلاب ورجال السياسة ، وقد شارك فيه بحظ أدي به إلى الفصل من الدراسة ص_023(1/12)
الثانوية لمدة عام ، وإلى السجن الذى لم يغادره إلا بكفالة مالية . ولما انتقل للدراسة الجامعية بالقاهرة كان أكثر تماساً بمركز الأحداث ، فهناك أمواج الفتنة التي قدحت زنادها مغامرات طه حسين في نطاق النقد ، الذى أراد أن يسلطه على القرآن كأي أدبى من صنع الناس !. وفى دار الأوبرا تُعرض مسرحية وقحة تتطاول للنيل من مقام صاحب الرسالة إلى جانب الأزمات السياسية التى لا تتورع عن استغلال هذا الواقع القلق بمختلف الوسائل .. وقد بلغ الصراع أوجه بين التيارات الهدامة التي تستهدف الإجهاز على بقايا الحصانة الإسلامية فى أوساط الجيل الجديد ، وبين الانتفاضات الكبيرة التى انطلقت فى وجه ذلك الزحف المدمر .. يمثلها عمالقة من رجال الفكر والعلم كمحمد الخضر حسين صاحب الرد الشهير على كتاب "الإسلام وأصول الحكم" للشيخ على عبد الرازق ، الذى يعتبره المترجم من أهم الخدمات التي قدمها مسلم للكافرين ، كيفما كانت نية مؤلفه والدوافع الحافزة عليه .. ويسمى من كتيبة الدفاع عن الإسلام فى تلك المرحلة عبد الحميد سعيد صاحب الصوت الإسلامي المدوي تحت قبة البرلمان ، وأحمد زكى باشا ، المعروف بشيخ العروبة ، ومصطفى صادق الرافعي ، الذى يصفه المرحوم عبد العزيز البشرى بأنه خلاق المعاني ، والشيخ محمد رشيد رضا حامل لواء السنة وممثل المدرسة التجديدية المنسوبة إلى الشيخ محمد عبده . وإلى جانب هؤلاء تنهض حركة الإمام البنا ، لتؤلف من العناصر المؤمنة غير المنسقة ، تنظيماً محكماً لا يلبث أن يهز ضمير العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه . ولا جرم أن فتى في مثل مواهب الغزالى ، وفى مثل نشأته الجادة ، لا مندوحة له عن التفاعل الحار مع موحيات هذا الجو . وهكذا تتضافر العوامل المختلفة والمتصارعة لتدفع بمترجمنا الفاضل إلى ص_024(1/13)
ميدان العمل الإسلامي ، الذي بدأ صغيراً ثم مضي به صُعداً ، لم يفارقه يوماً واحداً من عمره الذي نيف اليوم على الستين .. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء . محن حملت مِنحَا : على أن ما تقدم ذكره من المؤثرات لم يكن أكثر من تمهيد تهيأ به الشيخ لمواجهة المرحلة التي كانت أحفل حقول حياته بالتجارب . لقد خَضَّتْ حركة الإخوان طاقات الشعب المصري لتفتح أعينه علي طريق جديد من الجهاد والعمل لم يكن له بمثله عهد منذ حروب الصليبيين والتتار .. وكانت زحوف مجاهديهم لتحرير فلسطين صدمة هائلة لعملاء الغرب ، أدخلت الخلل على خططهم الموجهة للقضاء على حيوية الإسلام ، وقدراته التي لا تنتهي على تحريك الخامد من همم المسلمين . وما هي إلا أيام مشحونة بالجد والصبر حتى زلزلت الأرض بأقدام اليهود ، وحتى بات الأخوان المسلمين هم البلاء الأكبر الذي لا يقف في وجهه شئ .. ولم يكن بد من تدخل أمريكا وروسيا ودول أوربا ، لتدارك المصير المحتوم الذي سينسف إسرائيل من أساسها إذا استمرت دفقات الإيمان في طريقها المنظور . وتحركت ( مراكز التخذيل ) لإنقاذ اليهود .. فكانت الهدنة الأولي ، التي فرضها النقراشى على حكومات العرب في اجتماع ( عالية ) . ويحدثنا صديق حدثه ممثل اليمن في ذلك المؤتمر ـ أيامئذ ـ قائلاً : لقد أعلن النقراشي رغبة مصر في إعلان الهدنة ، ليتاح لوسطاء الخير أن يقوموا بمهمة التسوية في جو مساعد . وحاول أكثر الأعضاء مناقشة تلك الرغبة الخطرة على ضوء منطق الأحداث ، فرفض النقراشي الدخول في ص_025(1/14)
أي مناقشة، وصرح بأن مصر قررت الانسحاب من المعركة منفردة إذا أصدرت الحكومات العربية على متابعة الحرب ! .. وبذلك أكره الجميع علي قبول العرض الذي أضاع الفرصة على كل عمل صحيح لمصلحة فلسطين . ثم جاء الخطي التالية لتجريد مجاهدي الأخوان من سلاحهم الذي اشتروه بثمن أمتعتهم ، وأعقب ذلك تجميعهم في معتقل محاط بالأسلاك الشائكة ، ليمنعوهم من أي حركة لا يريدها أعداء الإسلام .. وأتموا ذلك التطويق بمصادرة الحركة في مصر كلها . وكان مستحيلاً أن تمر العاصفة بسلام .. وهكذا أقدم بعض شباب الدعوة على اغتيال النقراشي ، جزاء وفاقاً علي ما قدمته يداه ـ بأمر فاروق ـ لقضية فلسطين وللحملة الإسلامية .. وما لبث أن جاء الرد على مقتل النقراشي باغتيال الأمام الشهيد بعد أن جرد من كل وسيلة يستطيع بها الدفاع عن نفسه . وكان طبيعياً أن تتخذ سلطات فاروق من هذا الجو فرصة لتحطيم بناء الأخوان كله ، فساقت الآلاف منهم إلى منفي الطور وفي مقدمتهم أعضاء مكتب الإرشاد ،وفيهم المترجم ، الذي حجز أولاً في سجن الدرب الأحمر لعدة أسابيع ، ثم أخذ إلى معتقل الطور ليقضي مع إخوانه سنه كان لابد منها لتدريب الجماعة على ممارسة أنواع البلاء " سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا " . ويصف الشيخ تلك السنة بأنها كانت حافلة بالآلام والبركات معاً ، فعلى الرغم من ضخامة المحنة التي شملت أسراً بأجمعها من الآباء والأبناء الأصهار ، وما رافق ذلك من فنون الإذلال والنكال التي صبت على الجميع بمختلف الوسائل ، فقد كانت فرصة ضرورية أتاحت للجماعة لوناً من التربية الروحية هم أشد ما يكونون حاجة إليها . يقول فضيلته : لقد غذت هذه التجربة طاقة الاحتمال في النفوس ص_026(1/15)
وارتفعت بروحانيتها إلى مستوى عال ، فلا تذمر ولا تململ ، بل الصبر الجميل والرضى بالقدر الحكيم ، حتي لتسمع في هدآت السحر مثل هذه الضراعة السعيدة من أفواه لا تستبين أصحابها : " تجل علينا بالرضى يا رب " . وكان المترجم يؤم الأخوان بالصلوات ، لا يتخلف عنها إلا ممزق الثياب لا يجد الستر الكامل لعورته . ومن هنا ، من هذه الفترة التدريبية ، عاد الأخوان إلى العمل ـ عهد النحاس ـ وهم أعلى ما عهدوا في أنفسهم من المعنويات . زوابع الرعب : وكانت الطامة الكبرى في العهد الذي أحال مصر كلها سجناً كبيراً ، ومصنعاً للتعذيب لا يضارع حتى وراء الستار الحديدي . ويصف فضيلته ذلك العهد .. بأنه كان يسلب الرجال رجولتهم بما أطلق من زوابع الرعب ، التي ألقت في روع كل حر في مصر أنه محاط بالأعين والحراب والسياط . في أحد السجون سيق أهل العلم , وكل من توهم المتسلطون أن له صلة بالدعوة الإسلامية ، إلى الباستيل الذي لم يخل قط من الأبرياء . وبعد سنوات من الفتنة التي شوهت وحطمت ، أفرجوا عن أحد المشايخ ممن لم يستطيعوا مواصلة الاحتمال ، بعد أن كتب لهم التعهد الذي شاءوا .. بعد ما أوهموه أن في مكان ما في جوفه جهاز تسجيل ينقل إلى هم كل كلمة يقولها ، وكل حرة يأتيها . وبذلك أصبح وهو بخارج السجن في جحيم لا يخمد من الخوف ، أحال وجوده سجناً لا يطيق معه حراكاً . تلك أدق صور للجو الذي فرضه زبانية ( ... ) علي الشعب ص_027(1/16)
المصري وبخاصة جماعة الأخوان منذ إلى وم الذي قلب لهم فيه ظهر المجن . ويقول الشيخ : ظللت في مطالع المحنة مدة ألقى الدرس في المسجد أو في الجامع فلا أدري في أعقابه أين أبيت .. ويوم أعلن الطاغية من موسكو نيته في إيقاع المذبحة الجديدة في الأخوان ، استدراراً لعطف طواغيت الكرملين ، جاءه ـ أي الغزإلى ـ توجيه الزبانية بوجوب التجريح في الجماعة لتسويغ ما يراد بهم . ولما رفض الخضوع للأمر زج في السجن طره ، حيث قضي هذه المدة في جو من المهانة والتحقير لا يملك القدرة على وصفه . ولكنها مع ذلك كله كانت فرصة أخرى للخلو من القرآن الذي لم يكن له سلوه سواه . ويشير إلى واحدة من هذه المناسبات الروحية قائلاً : كنت ذات ليلة مضجعاً في ثياب السجن فوق الأسفلت ، فجعلت أتلو في نفسي سورة المائدة ، وألاحظ أثناء ذلك مضامينها واحداً تلو الآخر ، فأحس بينها من التناغم ما لم أنتبه إلى ه من قبل .. وهكذا هديت في ظلمات هذه المحنه إلى أنوار من المعرفة أضاءت لي سبيلاً جديدة إلى أفق جديد من الفهم القرآني . ومما يتصل بهذا الضرب من الأحداث ما تناقلته الألسن عن موقف أحد المنافقين حين عرض للشيخ ، وهو يلقي خطبته الثانية من علي منبر جامع الأزهر ، فيذكر ويعظ ويسأل الله للمؤمنين دون تعيين .. فنهض هذا ليصيح : "ألا ترون ؟ .. إن عصبيته للإخوان المسلمين تمنع أن يدعو للرئيس ... " إلا أن الله أعان المصلين فجرأهم عليه بما أخرسه . وقد كرر هذا المنافق فعلته مع الشيخ في مسجد الحسين .. فكان نصيبه هذه المرة طائفة من الصفعات المناسبة من جمهور المصلين . وبقليل من التأمل يدرك المفكر بعض أحوال النفوس التي تعيش تلك ص_028(1/17)
الغمرة من الإرهاب ، فعلى الرغم من ضجيج الدعاية التي سخرت لها الأقلام والأفلام والأغاني ، ومئات الوسائل التي حاولت أن تجعل من الظلمة نوراً ، ومن الباطل حقاً ، ومن الأقزام عمالقة .. على الرغم من كل ذلك لم يجد المهرج من المصلين في كلا المسجدين سوى الازدراء والرد والمذل . وليس ذلك في الواقع إلا رداً على عهد الطغيان كله لا على ذلك المنافق وحده . ويؤكد لنا هذه الحقيقة تصرف المسئولين عن إدارة مسجد الأزهر مع الشيخ ، إذ كانوا ينحونه عن الخطبة في كل جمعه يعتزم الرئيس شهودها ، ويقدمون لها غيره ممن يحسنون الملق للظالمين . في مسجد عمرو : هذا المسجد الذي يحمل إلي قلوب العارفين ، نفحات المد العظيم ، الذي أضاء مصر بنور الإسلام على أيدي الطليعة المباركة من تلاميذ النبوة ، كان قد استحال أو كاد خلاء كالخراب يوشك ألا يجتمع فيه نصاب الجمعة على المذهب الشافعي . وكأني بالدكتور عبد الحليم محمود ، وكان يومئذ وزيراً للأوقاف ، قد شاء إحياء الغابر من جلال هذا المسجد ، فدعا الشيخ الغزالي ليبلغه رغبته في أن يتولى خطابته .. وكان هذا بنظر الغزالي أشبه بالنفي له عن أوساط التوجيه ، لذلك راجع الوزير يطلب إعادته إلي خطابة الجامع الأزهر الذي ألفه وألفه رواده مدى عشر سنوات . ولكن الوزير أصر على تكليفه وقال له اذهب إلى مسجد عمرو ، وستجدني بين المستمعين إليك . وكانت هذه لفته طيبة أقنعت الشيخ بقبول التكليف . وما إن ذاع خبر هذا التوجيه حتى استبشر الناس ، الذين أحزنهم أن يفتقدوا هذا الصوت المؤثر ، وأقبلوا على المسجد منذ الجمعة الأولي فملئوه وصحنه . ثم مضي الأمر على التزايد جمعة بعد الأخرى ، حتى قفز العدد عن الألف ص_029(1/18)
إلى ما يقارب الثلاثين ألفاً ، يتوافدون إليه من مختلف أنحاء القطر . وتراءى للشيخ من خلال ذلك الإقبال عظم المسئولية فاستخار الله وتوجه إليه بالدعاء أن يوفقه إلي إعلاء كلمته وتثبيت حقائق الإسلام في هاتيك القلوب المتلهفة إلي قولة الحق . ورأى أنفع شئ لهذه الآلاف المؤمنة أن يعالجها بالقرآن ، وعلي المنهج الذي أفاده من تأملاته الخلوية في ليمان طرة .. وهكذا مضي بها في حدائق " الأنعام " و " الواقعة " و " محمد " صلي الله عليه وسلم. وقادته حكمة الله أن يبدأ بسورة النساء في الوقت نفيسة الذي اختاره وزارة الشئون الاجتماعية لآثاره موضوع قانون الأسرة ، و ما يراد له من التغيير. قضية الساعة : وتتصاعد موجه البحث، و يكون من ردود الفعل الطبيعة لمحاولات أنصار القانون المرد، أن اتجه أولو الفكر في مسجد عمرو إلى الدعوة لمؤتمر يعقد في الأزهر، و يضم المشغلين بالقضايا الإسلامية لمعالجة القضية على نطاق أكثر موضوعية.. و كذلك كان، و قد حضر ذلك المؤتمر كثيرون يمثلون مختلف الأوساط العلمية والسياسية ، فعلماء من كبار الأزهريين، و أعضاء من مجلس الشعب، وأساتذة و طلاب من مختلف الكليات، إلى آخرين من العاملين في الجماعات الإسلامية. و شارك في الاجتماع سفير نيجيريا، حتى بلغ الحضور قرابة خمسة عشر ألفا يمكن القول بأنهم يعكسون بمجموعهم رأى الكثير الغالبة من الشعب المصرى . وطرحت قضية الساعة في جو من الصراحة الواجبة ، و كان الصديق ص_030(1/19)
المترجم في بحثه الموضوع بمثابة المرافع القضائي الذي يدعم أفكاره بالحجج الدمغة , والوثائق الحاسمة و انتهى النقاش أخيراً بإجماع الحضور و دون معارض إلى المقررات التالية : لا يجوز النظر في قانون الأسرة قبل تعديل قوانين العقوبات كلها لتتفق مع مبادئ الشريعة . يضع قوانين الأسرة علماء الأزهر فقط .. لا الوزارة . استنكار و رفض كل تهجم تقوم به أجهزة الأعلام على التعاليم الإسلامية وأوضاع المسلمين. و عقب ذلك خرج جمهور المؤتمرين، و معهم الطلاب, في مظاهرة ما زالت تزداد بالمنضمين إليها حتى أحاطت بمجلس الشعب إحاطة السيل بجزيرة معزولة . وكان هذا كافياً لإقناع المسئولين بأن الشعب المصري غير مستعد للسماح بتمرير هذا العدوان لجديد علي بقايا الشريعة الإسلامية ، فوقفوا التفكير في مشروعهم ولو إلي حين . وكان طبيعياً بعد همود العاصفة ، أن يتحرك القوم للبحث عن مسببيها ، فانتهي بهم المطاف إلي مسجد عمرو وخطيبه ، وأعقب ذلك تنحية الشيخ عن منبره .. ثم جاء التدبير الآخر بنقله من وظيفة مدير عام للدعوة الإسلامية بوزارة الأوقاف ، إلي منصب مستشار فيها . ونشرت بعض الصحف يومئذ أن الدافع إلي هذا الإجراء صلة الشيخ بقضية الكلية العسكرية الفنية. ولا حاجه إلي القول بأنها تهمه لفقها الخراصون ، وكذبها القارئون .. هذا فضلاً عن أن ما نشر عن قضية الكلية حتى اليوم لا يزال ينتظر الأقلام النظيفة التي تكشف عن أسرارها ومفاجآتها الأستار . ص_031(1/20)
حوار معقول : ويذكرني مضمون الفقرة الثانية من مقررات المؤتمر حواراً دار قبل أيام بيني وبين المفكر الدكتور مصطفي محمود ، لقد ناقشته في إنكاره حكم الرجل للزانيين المحصنين ، والذي سبق له التصريح به في إحدى الصحف ، فكان قصارى ما احتج به أمران: الأول ـ أن الحكم لم يرد في القرآن ، ومجرد وروده في الحديث لا يقوم دليلاً على صحته لما أحاط بالحديث مطلقاً في مفارقات تبعث على الشك. والثاني ـ أن الزنا أصبح من المسلمات التي تحميها الدولة ، وتزين للشباب أسبابها بمختلف وسائل الإغراء ، وللعوامل الاجتماعية آثارها البعيدة في صرفهم عن سبيل الزواج المشروع.. فلو دعونا إلى إقامة حد الرجم في هذه الأحوال لكنا بالعصر الذي نعايشه ، وبالمجتمع الذي نريد تطهيره من هذه الآفة . ولم يكن عسيراً تصحيح الشق الأول من كلامة الذي لابد قد تسلل إلي فكرة عن طريق أبي ريه من ورائه من المبشرين والمستشرقين ، إذ يكفي لدحض هذه الشبه تذكير طالب الحق مثله بقوله تعالي : " وما ينطق عن الهوى " و " وما آتاكم الرسول فخذوه " وأن تعهد الله على حفظ كتابه لا يمكن أن يتحقق إلا عن طريق حفظ السنة التي جاءت تفصيلاً لمجملة ، وإيضاحاً لغامضة ، وتحديداً لمقاصده .. ولولاها لاستحال على المؤمنين التثبت من هيئة الصلاة ، وأحكام الصوم ، وشعائر الحج ، ونسب الزكوات في الأموال المختلفة . فإذا وجد في نطاق المرويات عن الرسول صلي الله عليه وسلم الضعيف والمنحول ، فلنتذكر القدرة الخارقة التي أتاحها الله لسنة نبيه فأنقذتها من كل دخيل لم يثبت صدوره عن صلوات الله وسلامه عليه . وأما الرجم فهو جزء من ص_032(1/21)
قضية كاملة لا يمكن تفتيتها . ونعلم استحالة تنفيذه في المجتمع الذي تأخذ الفاحشة عليه السبل ، لذلك نريد تثبيت الإيمان أولاً بشريعة الله ، وأنها وحدها صاحبة الحق في ضبط تصرفات البشر ، فإذا تحقق ذلك كان من أسهل الأمور تطهير المجتمع من أسباب الفاحشة ، وتيسير السبيل إلي التلاقي المشروع بالزواج النظيف ، ويومئذ يصبح الرجم ضرورة يتطلبها المجتمع نفسه لحماية وجوده من نكسات الشيطان .. مثله في ذلك كمثل حد السرقة ، لابد قبل تنفيذه من تحقيق العدالة الاجتماعية بتوفير العمل الشريف للقادر ، والمعونة الأخوية للعاجز ، فإذا أقدم امرؤ علي السرقة في مثل هذا الجو كان حقيقاً بالقطع ليكون عبرة رادعة لكل من يحمل مثل خطره علي أمن المجتمع . ويسرني أن الأخ الدكتور لم يتردد في قبول هذه الحقيقة ، حتى وعد بأن يتدارك ما سلف منه في أول فرصة ، جزاه الله خيراً وزاده هدى علي هدى . كلمة للمسئولين : وشيء آخر أيضاً يسيره في خاطري هذه المناسبة ، وهو اتهام المسؤولين للعاملين للإسلام ، بالنشاط السياسي والعمل لإقامة زعامة دينية. وقصارى ما يواجه به دعاة الإسلام هذه التهمة هو تبرؤهم منها ، وإعلان رفضهم لكل مطمح سياسي ! وأنا لا أرى لأي من السياسيين المتهمين ، والدعاة المتبرئين سندا ًمن المنطق نفسه ، رجاء أن نصل به إلي الحكم المعقول ، الذي من حقه أن يصحح أوضاع كل من الفريقين في هذا المضمار. ص_033(1/22)
إن الدستور الذي يحكم به في معظم البلاد الإسلامية التي تكافح دعاة الإسلام هو الدين الرسمي للدولة ، وحين نستنطق هذا الكلام لا نجد له مفهوماً صحيحاً سوى هيمنة النظام الإسلامي على شئون الدولة كلها ، بحيث لا يعتبر أي عمل هناك مشروعاً ما لم ينسجم مع أصول هذا النظام. ذلك هو المفهوم المعقول لمضمون ذلك النص ، وإن انحرف به الحاكمون في مختلف أقطار المسلمين ، حتى كاد ينحصر في بعض المظاهر السطحية ، التي لا تتجاوز مع شهود المسئولين لبعض المناسبات الإسلامية كصلاة العيدين مثلاً ثم يمضي كل شيء في الخط المنافي لمقاصد الإسلام . وقد ألف الناس هذا التناقص حتى كادوا لا يحسبون به .. فإذا ارتفع صوت بالتنبيه إليه و التحذير من أخطاره وعواقبه ، جوبه بالإنكار ونبذ بالاتهام، و صب عليه العذاب صبا. و المؤلف العجيب في هذا الوضع أن الذين يستكبرون قيام الزعامة الإسلامية ، في بلد حياة أهله كلها قائمه على الإسلام ، وفي ظل قانون أساسي يعلن إسلامية الدولة ، هم أنفسهم يبيحون لأعداء الإسلام و غير الإسلام من الأديان التي تؤمن بالله و اليوم الأخر، حق العمل للوصول إلى زعامة البلد كله باسم الديمقراطية .. دون أن يلمحوا ما فى إباحتهم هذه، و منعهم ذاك من المفارقات التي لا مفهوم لها في لغة القانون و لا المنطق. كيف يكون من حق الشيوعية مثلا أن تدعو لنحلتها، وتسعى بكل حولها و أضاليلها للهيمنة على أزمة المجتمع ، وهي التي يعتبر مجرد وجودها منافيا للهوية الإسلامية التي تحدد شخصية الدولة ، ثم يعتبر مجرد الدعوة إلى تنفيذ مضمون تلك الهوية ، بتحكيم شرعية الإسلام في مسيرة المجتمع ص_034
عملا مستنكرا مرفوضا, يستحق دعاته المطاردة والتشهير والتحقير !؟
وكلمة لدعاة الإسلام:(1/23)
و لماذا يتهرب دعاة الحكم الإسلامي من تهمه السعي للوصول إلى الحكم كأنها وصمه عار يدفعونها عن أنفسهم بكل ما يملكون من قوة !.. حتى لقد أوقع موقفهم هذا في أخلاد العامة أن مجرد العمل في مجال السياسة مخالف لروح الإسلام ! و ما أحسب أن ثمة إساءة للإسلام أكبر من هذه النتيجة .
إذا كان الإسلام هو النظام الذي أراده الله دستورا مهيمناً على مسيرة الحياة البشرية , وكان واجب المؤمنين به في كل مكان و زمان هو تحقيق هذه الهيمنة في كل وجودهم, والسهر الدائب لحمايتها من كل عدو يريد بها شرا أو إيهاناً .. فأول مقتضيات هذا المبدأ ، وبخاصة في مثل ظروفنا التي عزلت فيها الشريعة الإسلامية عن ميادين الحكم أن تتجه مساعي العاملين لإيصال النخبة المجربة من المؤمنين بهذه الحقيقة إلي مراكز المسئوليات العليا في الدولة.
وذلك هو الطريق الطبيعي في ظل الديمقراطية ، التي تعطي كل فرد حق العمل لتصحيح الأوضاع الاقتصادية ضمن نطاق القانون ، وكما أن المفروض في كل منظمة حزبية ذات مبادئ ، ملتزمة ألا تأتمن علي تنفيذها إلا المؤمنين بها ، فمن باب أولي ألا يأتمن العاملون للإسلام علي مبادئه إلا من ثبت إيمانه بها وتفانيه لتحقيقها .
ولنستعرض هنا بعض كلمات الشيخ لتوكيد ما نذهب إليه في هذا الصدد .
في كتابه " قذائف الحق " صفحة 127 يعدد مهام العاملين للإسلام في نقاط محددة ، ثم يقول : " وبديهي أن ذلك لن يتحقق كلاً
ص_035(1/24)
أو جزءاً إلا في ظل حكومات تحترم الإسلام ، وتري نفسها مسئولية أمام الله عن القيام بحقوقه " . ثم يردف ذلك ببيان التفاوت بين مواقف الحكومات العربية بالنسبة إلي الإسلام مع تلاقيها علي استبعاده عن نطاق الحكم ، مما يجعل العبء قاصراً علي كواهل الشعوب وحدها ، ( فعلي الشعوب أن تتحرك وإلا تعرضت للفناء عقوبة من رب السماء ) . ونحن نقول : ما دام الأمر كذلك ، ففيم الفرار من صفة السعي إلي الحكم في حدود الأنظمة المشروعة ؟ .. لماذا لا نقول للحاكمين وللمحكومين : إن الأساليب التي تحكم بها الدولة قد أثبتت إفلاسها وعجزها عن أي عمل مأمون العواقب علي المدى البعيد ، ومن أجل ذلك نتقدم بمبادئنا الربانية لإقامة قواعد الحكم الصالح ، الذي يضمن للأمة العدالة والعزة والقوة، فدعوا لنا حقنا الطبيعي في عرض ما عندنا لأمتنا أسوة بالآخرين ممن يعملون لتدمير هذه المبادئ ، بل لتحطيم عنصر الأمن والعدالة في هذه الأمة ؟ وإذا بعد ذلك في المسئولين من يرفضون هذا العرض بغير حق ، سألناهم بالله أن يقوموا لله مثني وفرادى ثم يتفكروا في تجرد من كل هوي شخصي ، وباستقلال عن كل غرض غير مصلحة الأمة، ثم واصلنا مسيرتنا إلي الهدف الأعلى غير عابئين بالتهديد والوعيد ، حتى يحقق الله وعده بالنصر للذين قال في وصفهم : " الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر .." أو يحكم الله بيننا وبين قومنا بالحق ، وهو أحكم الحاكمين . في خدمة العلم : وعن نشاط الشيخ في خدمة العلم وطلابه ، يؤكد لنا ما يعرفه عنه من خلال آثاره كل قارئ وسامع ، فحبه للعلم هوى يتزايد مع لحظات ص_036(1/25)
الحياة ، ولا يكاد ينقطع عن جانب منه ، وإذا تفاوتت صلته بفنونه وفق مقتضيات العمل والحاجة . وذلك أمر بديهي بالنسبة إلي داعية تتعدد ميادين نشاطه العلمي ، وكل منها يتطلب المزيد من الثراء الفكري الحي . فهو خطيب مسج ولكن من الضرب الذي يستشعر في عمق قيمة الكلمة وحق المستمعين عليه ، ومسئوليته عن ذلك أمام الله .. ولقد عرفته كليتا أصول الدين والشريعة بالأزهر مدرساً يخاطب العقول فيثيرها ، والقلوب فيستهويها ، وفي معسكرات الطلاب والجماعات الإسلامية عن نشاطه الفعال آثار تذكر فتشكر . ولقد شاء الله أن يمتد عمله الشخصي إلي أبعد من محيطه الوطني ، فيسر أسباب نقلته إلي مكة المكرمة ، ليكون رئيساً لقسم الدعوة في كلية الشريعة بجامعة الملك عبد العزيز ، من ثم ليكون علي صلة بالآلاف من قرائه الذين يتوافدون علي البيت الحرام من أنحاء العالم الإسلامي . مما كان ليتاح له ولا لهم ولا لنا مثل هذا التلاقي ، لولا أن أكرمنا الله وإياه بالهجرة إلي حرميه المباركين . وفي التأليف : وبشأن مؤلفاته يذكر فضيلة الشيخ أنها بلغت حتى الآن واحداً وثلاثين كتاباً وقد أعيد طبع بعضها عشر مرات ، وهو لا يكاد يؤثر بعضها علي بعض ، ومرد ذلك فيما نرى ما تمتاز به جميعاً من صدق التصوير لأعمق أفكاره ، وأحر عواطفه . ولكنه مع ذلك لا يخفي نظرته الخاصة لكتاب " فقه السيرة " لصلته بأحب الناس إلي قلبه، ولا يلي ذلك آخر كتاب له صدر باسم " قذائف ص_037(1/26)
الحق " لما ضمنه من ردود قاهرة علي مفتريات يريد بها أعداء الإسلام تدويخ العالم الإسلامي ، علي حد تعبيره . والحق يقال إن الحديث عن مؤلفات الشيخ الغزالي لا تفي به العبارة العجلى ، لأن فيها من الخصائص المنهجية والأدبية ما يجعلها نسيجاً وحدها بين الكتب ، وهي بذلك تقتضي الوقوف علي كل منها بالتحليل الطويل . وحسبنا في هذه المناسبة المحدودة أن نذكر القارئ بأسلوبها المميز الذي من المتعذر أن يختلط بغيره من أساليب الكتاب ، ولو توجوا ما يكتبون بالعنوانات نفسها التي يتخيرها لمصنفاته . العناية العليا : يقول فضيلة الأخ ، في الإجابة علي الاستطلاع الخاص بمستقبل الجيل الإسلامي ، إنه أميل إلي التفاؤل بشأنه ، ويعلل ذلك بما يحسه في كل مكان من مخاض يبشر بخير عميم . ويمثل بأقرب مشاهداته ، وهو أن ثمة شباباً ولدوا بعد تواري دعوة الأخوان ، يحملون في صدورهم طاقات حركية لا حدود لها ، تدفعهم إلي العمل ، وتحبب إليهم حتى الاستشهاد في سبيل الإسلام . وشد ما يلومون الدعاة علي مسلكهم القائم علي الأناة . ويقول : إني لأتساءل من الذي أعد هؤلاء الجنود وجدد بهم شباب الدعوة علي حين فترة من الدعاة وطغيان من الأحوال ، فلا أجد جواباً إلا في قول الله عز وجل " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " ، فالله يخفي حكمته هو الذي أراد استبقاء الإسلام بهذا الشباب المنتشر في بقاع العالم الإسلامي جميعاً .. وأغرب ما في هذا التدبير الإلهي أن كثرتهم تكاد تكون مقصورة علي الكليات العملية من الجامعات ، حتى ليتقاصر عنهم أبناء الكليات النظرية وحتى الدينية منها عدداً وحماسة . ص_038(1/27)
ولذلك يصر الشيخ علي أن الإسلام محفوف بالعناية العليا ، وهي التي تتولى حمايته وتجديد زحوفه ، كما توهم الباغون والجاهلون أنه استنفذ طاقته . بيد أن يقينه هذا لا يعني الاستنامة ، ولا يسوغ التوقف علي طريقة " اذهب أنت وربك فقاتلا " بل يجد فيه الباعث الحثيث علي مضاعفة الجهد بما يبثه في قلوب العاملين من توقعات النصر المضمون من حيث لا يحتسبون . الكرامة والعدالة والأمن : ويأتي جوابه الأخير ، حول مهام علماء الإسلام في هذه المرحلة الدقيقة من حياة الجيل ، مؤكداً لما تقدم ، ويمكن تلخيص أفكاره هنا بما يلي : أول هذه المهام بالنسبة لأهل العلم مضاعفة الحرص علي فضائل الإسلام والتشبث بحقائقه لتتوافر فيهم القدوة الصالحة للجيل الذي يريدون توجيهه . إن تفتيت الطاقات العاملة للإسلام هو أهم مرتكزات العدو الذي يريد لكل منهم أن يموت وحده لذلك كان أول واجباتهم أن يتجمعوا ويتعاونوا ويوثقوا مع شعوبهم . ومن أجل التغلب علي التيارات الغازية ، لا مندوحة للعلماء من دراستها علي الطبيعة، لمعرفة الوسائل الكفيلة بصدها ، وتحصين المسلمين باللقاح الواقي من سمومها . والسبيل إلي ذلك إبراز الحلول الإسلامية لكل مشكلة عامة تريد استغلالها تلك التيارات. السعي الدائب لتأمين حق كل مسلم بالكرامة والعدالة والأمن علي الصورة العملية الملموسة ، فقد شبع الناس من هذا الكلام عن فضائل الإسلام ، وأصبحوا متلهفين لمواجهتها علي أرض الواقع ص_039
وحسبنا هنا التذكير بقول الفاروق العظيم عليه رضوان الله لعماله في مختلف ديار الإسلام : " لا تضربوا المسلمين فتذلوهم ولا تجيعوهم فتكفروهم " . ص_041
الجبهات المعادية للإسلام
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستعيذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ونسأله التوفيق والسداد .
وبعد ..(1/28)
يتملكني شعور في هذه الأيام أن كل عمل لتوهين قوي الإسلام وإضعاف العلاقة به وجعل الأمة مضطربة في الأخذ من الكتاب والسنة ، يتملكني شعور بأن هذا العمل خيانة عظمي، ومشاركة لأعداء كثيرين يلتفون حولنا ويتربصون بنا .
إن قارب النجاة الوحيد وسط الطوفان من البلايا التي تهب علي العالم الإسلامي من يمين ويسار هو الإسلام . ولذلك فإن كل ثقب يحاول البعض إحداثه في هذا القارب هو مؤامرة لاقتراف جريمة قتل ، لا قتل فرد أو أفراد بل قتل عالم بأسرة , ومؤامرة علي جعل الظلام يحتوي علي مستقبل الدنيا .
ص_042(1/29)
لقد تأكد لنا ـ كما نحس وجودنا ـ أن الإسلام ـ هو الآن ـ سياج حياتنا . هناك صيحات قد تكون جهيرة ، وقد تكون وساوس في الصدور تقول .. يجب لي هذه الأمة أن ترتد عن دينها ، وأن تتنازل عن أرضها ، كفاها ما عاشته من قرون مضت هذه هي النية في قلوب أعدائنا ، وما الذي ينجينا من هذه النيات الغادرة الخسيسة ؟ إنه الإسلام وحده إنه معاشنا ومعادنا ، ويومنا وغدنا . ولذلك أقرر بأن كل محاولة لتشويه معالم الإسلام برأي يذكر أو مقال ينشر أو خيانة تسر أو تعلن فهي مؤامرة علي مستقبل أمة كاملة لكي تهلك . هذه مقدمة أولي ، ومقدمة ثانية تتصل بمعرفة الأعداء من هم ؟ وما خطبهم ؟ أعجبني تعبير لأحد الأدباء يقول فيه : إذا كنا نعرف سبيل الاستقامة فبجب أن نعرف سبيل المجرمين ، وقد قال تعالي : (وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين) ويجب أن نعرف أن آبائنا كانوا يدرسون الملل والنحل الشائعة في الدنيا ، لماذا ؟ يريدون أن يردوا علي ما بها من شبهات وأن يعرفوا ما فيها من علل ، وأن يبصروا أبنائهم بالباطل ليدمغوه بما أتوا من حق . كان هذا – قديماً – الهدف الأول من دراسة الملل والنحل ، أو ما يسمي في عصرنا مقارنة الأديان . لكن الأمر تحول – فيما أعتقد – فأصبحت دراسة سبيل المجرمين ، أو دراسة الجبهات الأخرى شيئاً لابد منه لنعرف مكامن الخطر ، من أين يجيئنا ؟ وكيف نتقي هذا الخطر ؟ أصبحت دراسة سبيل المجرمين وجبهات المعادين فرضاً . ص_043(1/30)
ولذلك سأجعل هذه المحاضرة من جزأين ، الجزء الأول : استعراض سريع للجبهات التي يهب الخطر منها علينا ومظهر هذا الخطر ، والجزء الثاني : كيف نتقي تلك الأخطار ونحصن أنفسنا ضدها ؟ فأما النصف الأول فابدأ فأقول : هناك خمس جبهات تقاتل الإسلام الآن .. لابد أن نعرفها وأن نعرفها أولادنا ، لابد في مجالسنا أن نتحدث عما يحدث فيها . أبدأ بالجبهة الأولى : وهي جبهة الفاتيكان أو الكاثوليك هذه الجبهة تتكون من الفاتيكان كدولة تمثل الخلافة المسيحية . وأحب أن ألفت نظركم إلي أن الحلفاء في الحرب العالمية الأولي أوعزوا إلي عميل لهم هو مصطفي كمال أتاتورك فرمي بالخلافة التركية في البحر ، نعم كانت خلافة شبحاً ولكنها كانت رمزاً ، وكانت تمثل أبوة ثقافية وروحية للمسلمين ، فإذا أصبحت الأمة يتيمة لا أبوة لها فإن العبث بثقافتها يسهل ، والإغارة علي مخلفاتها تتيسر . لقد رموا بالخلافة الإسلامية في البحر ـ بواسطة جواسيسهم عندنا ـ ثم أكدوا وجودهم بن جعلوا للمسيحية خلافة . والخلافة في المسيحية لها وزنها ، ولتعلموا كيف لها وزنها أذكر لكم هذه الحادثة : اصدر بابا من الباباوات ـ من عشرين سنة ـ قرار حرمان ضد جنرال "بيرون" في الأرجنتين فأسقطه علي بعد عشرة آلاف كيلو مترات من الفاتيكان !! هذه الخلافة التي تمثل هذه القوة لها شعبتان ، شعبة سياسية ، وشعبة اقتصادية . أما الشعبة السياسية فإن أمريكا الجنوبية فيها عشرين دولة كلها تدين بالكاثوليكية وتتبع البابا وتنطق بلغة واحدة وهي اللغة الأسبانية . ص_044(1/31)
الفلبين – الآن – يتبنى النشاط التبشيرى فيها الكاثوليك ، ينشرون النصرانية ومعها اللغة الأسبانية ، ويجتهدون في أن يجعلوا من الفقراء والأيتام والضعاف ميداناً خصباً لتبشيرهم . ومن دراسة التاريخ علي نحو كاذب أنكم تقرأون أن " ماجلان " كان مستكشفاً جغرافياً ، وهذا كذب فـ ( مجلان ) مبشر مسيحي ، وقد حاول أن يعرف علم الصليبية علي الفليبين فقتله أحد المسلمين . المهم أن الجبهة الكاثوليكية جبهة قوية ، ففرنسا أم الكثلكة مع الفاتيكان مع إيطاليا مع عدد كبير من الجبهات التي تنتشر فيها الكثلكة في العالم الشيوعي مع الكاثوليك في ألمانيا مع خمسة ملايين في إنجلترا مع خمسين مليون في الولايات المتحدة ، كل هؤلاء يجمعهم نظام دقيق . قال لي طالب عربي يدرس في إحدى جامعات النمسا : سألت صديقاً لي لماذا لا تكون معنا في حلفنا يوم الأحد ؟ فقال لي : القس الكاثوليكي يتصل بأبي يبلغه إذا غبت عن الكنيسة !! والجبهة الكاثوليكية في العالم تملك إمكانات هائلة ، ولا تستغربوا إذا قلت لكم : إنها من الناحية الاقتصادية تلي القوتين العظمتين ، فالبابا يملك مالاً ضخماً يوجهه لخدمة التبشير يعادل في ضخامته ما تملكه روسيا أو أمريكا !! وقد أشرت إلي أن راهبة كاثوليكية تدعي ( تريستا ) اقترح ( كيندي ) أن تعطي جائزة نوبل العالمية ، فأعطيت الجائزة ، لماذا ؟ إنها تملك عشرات المؤسسات التبشيرية في الهند لنشر الكثلكة . الكثلكة تعمل عملها في صمت ، وآخر ما أثبته في بعض ما كتبت أنها وضعت خطتها حتى يتقلص الإسلام في إفريقيا ، والمقال الذي ص_045(1/32)
يتضمن هذا نشر في مجلة الفاتيكان وأخذته من رابطة العالم الإسلامي وأودعته كتابي " الدعوة الإسلامية تستقبل القرن الخامس عشر " . الجبهة الثانية : وهي جبهة العالم البروتستانتي ،ويقودها مجلس الكنائس العالمي ، وهذه الجبهة من وراء مجيء اليهود إلي فلسطين ، والذين قرأوا مذكرات " وايزمن " ـ وهو يحدث قومه بني إسرائيل ـ يعلمون أن الرجل قال لقومه : إن لورد "بلفور " عندما أعطانا تعهداً بجعل فلسطين وطناً قومياً لليهود ما كان يخدمنا بقدر ما كان ينفس عن عاطفة دينية تملكه !! نعم كان ينفس عن عاطفة دينية فإن البروتستانت لها علاقة وثيقة بالعهد القديم ، ولذلك نجد الكنائس البروتستانتينية ليست بها تماثيل ، أما الكنائس الكاثوليكية فإن صنم القديس بطرس في كنيسة القديس بطرس في روما تقبل قدمه فتنبري من كثرة المقبلين لها !! لكن الكنائس البروتستانتينية ليست بها أصنام ، والسبب أنهم يرون أن الأصنام ممنوعة بنص العهد القديم عندهم . البروتستانت هم الكثرة الكاثرة في إنجلترا ، والكثرة العظمي في الولايات المتحدة ، وأثر هؤلاء في قيام إسرائيل معروف ، لأن العهد القديم يؤكد ضرورة إعادة إسرائيل وإقامتها علي أنقاض فلسطين . ومن هنا فإن النزعة الدينية التي قامت عليها إسرائيل نزعة معروفة ويؤيدها في ذلك البروتستانت . هذه هي الجبهة البروتستانتينية وهي جبهة خطيرة لأن البروتستانت يكونون المبشرين علي نحو غريب فهم لا يعترفون بالسلك الكهنوتي وإنما يشغلون رؤساء بنوك ، أطباء ، صيادلة ، مهندسين ، يشغلونهم في جميع المشروعات العالمية التي تباشرها الدول العظمي ، وعن طريق هذه المؤسسات المدنية تخدم المسيحية . ص_046(1/33)
الجبهة الثالثة: هي الجبهة اليهودية قد يستغرب الإنسان إذا سمع أن عدد اليهود في العالم ستة عشر مليونا !! ولكن هؤلاء الستة عشر مليون لهم قدرات علمية ومالية وفنية ودعائية تجعلهم يصنعون الأعاجيب وهم بقوتهم يستطيعون تحريك أجهزة كثيرة في العالم اليهود قلة في العالم وقد استطاعوا بقلتهم أن يصنعوا الكثير لأنفسهم ويجب أن نعرف أنهم يجاهرون بتدينهم فاليهودي في نيويورك يلبس قلنسوة الصلاة ويمشي في كبر ذاهبا إلي الكنيسة في الوقت الذي نرى فيه بعض المسلمين يرى الذهاب إلى المسجد رجعية ثم نرى زعيمهم يتحدث فيقول حدودنا التوارتيه أي أن الحدود عندهم رسمها الوحي . الجبهة الرابعة : هي الجبهة الشيوعية وهي جبهة – أولاً - ورثت الأملاك التي كسبتها روسيا القيصرية وروسيا القيصرية كسبت نصف العالم الإسلامي الشرقي والعرب في غفلة وكأنهم يبلعون حشيشاً أو بنجاً . ذهبت سيبيريا وهى قطر كان الإسلام له فيه مكان وذهبت الأورال وذهبت القرم ، وذهبت التركستان وذهب نصف مساحة روسيا وثلاثة أرباع خيراتها من عالمنا الإسلامي أين البلاد التي أنجبت الإمام البخاري والإمام مسلم والإمام النسفي و السكاكي والزمخشرى وعلماء السنة والفقه واللغة والأدب أين هذه البلاد أخذتها الشيوعية ولما رأت المسلمين سكوتاً ضربت ضربتها الأخيرة و احتلت أفغانستان . ص_047(1/34)
الجبهة الخامسة هي الجبهة الوثنية ، جبهة عباد الصنم ، وعباد الصنم لهم قتلى كل سنة بالمئات في الهند ، وفى أيام التقسيم إلى باكستان وهند قتل نحو مليون مسلم والعجيب في هذا أن المسلمين الذين قتل لهم هذا العدد يتثاءبون في كسل ويتمطون في استرخاء ، وينبعثون لطلب الملذات والملاهي . ولازال عباد الصنم بالمئات والألوف في الهند لا يدرون شيئاً أنهم حملة أحقاد ، وأرباب ضغائن ، ولذلك فانهم يقتلون الأطفال والنساء ، ويتشفون من أعماق قلوبهم بهذا المنظر. ولا يزال كل شيء في دنيا الناس يسوق مع اختلاف الليل والنهار دليلا بعد دليل على صدق قولة : (لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا) هذه جبهات خمس ذكرتها على عجل لكي أسأل نفسي بعد ذلك : فما العمل إذا كان المسلمون في هذا العالم هدفا لتلك الجبهات كلها .؟ أقول : إنني أذكر موقفاً مثل هذا الموقف أو حالا مثل تلك الحال في القرن السابع الهجري ، في هذا القرن انهزمت الخلافة العباسية ودخل التتار مدينة بغداد، وكان سقوط بغداد في أيدى التتار له دوى رهيب في العالم لأن بغداد يومئذ كانت أفخم وأضخم من واشنطن أو من موسكو ! وكان المسلمون الدولة الأولي في العالم كله ، فسقوط عاصمتهم كان له صدى يتردد في كل أفق بالفزع والرهبة . عندما أحلل تحليلاً عمليا ـ كداعية مسلم ـ أقول : كان يجب أن تسقط هذه الدولة ، أن العدل الإلهي نفذ فيها ، لقد ص_048(1/35)
ظلت هذه الدولة نحو أكثر من خمسمائة سنة فماذا قدمت للإسلام ؟ الحكام كانوا يبحثون عن شهواتهم ، ويهتمون بملذاتهم ، هاجم الأوربيون في زحف متتابع طوال مائتي سنة العالم الإسلامي ، فماذا صنعت الخلافة العباسية في بغداد ؟ تم تصنع شيئا . استطاع القرامطة أن يخطفوا الحجر الأسود وظل بأيديهم نحو ربع قرن فما صنع العباسيون شيئا ، فالدولة كانت لاهية ، وكما قال الشاعر : وطني كم صنم مجدته لم يكن يحمل طهر الصنم لا تلوموا الذئب في عدوانه إن يك الراعي عدو الغنم القصة أن الدولة انتهت وقتل الخليفة إلى حيث ألقت. من معجزات الإسلام : هناك ملحظ يعرفه كل دارس للإسلام ، ولعله من معجزات هذا الدين ، ومن خصائص الصدق فيه أنه دين كتب الله له الخلود ، وأنه إذا فقد سلطته التنفيذية على نحو ما فإن جماعات فدائية من الفقهاء والمربين والعباد والعلماء والدعاة ينصحون للأمة، ويتولون قيادها ، ويربطونها بدينها ، وينبعثون في نواحي المجتمع يرعون الأمة التي كان يمكن أن تحصد وأن يذهب بعقائدها ومعالمها لولا أن الله استبقى أولئك العلماء فكانوا – هم من الناحية الشعبية – أولى الأمر الذين استبقوا الأمة الإسلامية صامدة ولها صلابة وجلد فى مواجهة الأحداث. فماذا حدث ؟ الذي حدث أن شيئا من قوانين الله الاجتماعية فرض نفسه وهو أن التتر دخلوا في الإسلام ، وذابوا فيه . وكما يقال في عالم المادة : البقاء للأصلح ، وكما عرفنا ربنا في كتابنا (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض) وهذا - ص_049
فعلا ـ ما حدث ، فإن فقهاء المسلمين ودعاتهم ومربيهم استبقوا تقاليد الشرف وأصول العقيدة والعبادة ومكارم الأخلاق ، استبقوا النضارة الثقافية لأمتنا فإذا هذه الأمة تبدو أرجح فكراً وأحسن عقلاً وأضبط نظاماً من التتر ، وبعد أن كان يقال : المغلوب يدخل في دين الغالب ، وقع العكس فدخل الغالب في دين المغلوب !!(1/36)
والسبب أن المغلوبين عسكرياً ، المهزومين حربياً ، لم ينهزموا أنفسهم على هازميهم وأدخلوهم في دينهم .
هذه هي الحقيقة التي حدثت في السابع الهجري ثم بعد ذلك وفي تلك البيئة بدأت الدولة العثمانية تتكون في الثامن ثم جال الإسلام جولة أخرى غسل بها ارض الشرق الأوسط من كل بقايا الصليبية ثم دخل القسطنطينية التي عجز الصحابة رضوان الله عليهم عن فتحها دخلها محمد الفاتح وكان مسلماً صواماً قواماً خادماً للسنة وكان يوصى جيوشه وقواعده بان يكونوا على طاعة الله !!
عود على بدء :
بعد هذا الاستعراض التاريخي أعود إلى يومنا هذا . إن الأمة الإسلامية الآن مهزومة لماذا أولا هي أمة مكونة من نحو ألف مليون شخص نصفهم في نحو أربعين دولة ودويلة لهم استقلال حقيقي أو شبة حقيقى الدول المستقلة تمثل أقل من نصف المسلمين أما النصف الآخر فهو موزع على نحو أربعين جنسية أخرى .
في كل دولة مستقلة أو محتلة وفدت جراثيم قارضة لتأكل هذا الدين ، لتجهز على هذه الأمة حتى لا تعود إلى دينها . لكنني أقول للمسلمين : ما صنعه أجدادكم أيام الهزيمة يمكن أن يصنع الآن لكنه لا يصنع بين عشية وضحاها .
ص_050(1/37)
الإصلاح يحتاج إلي أمور كثيرة ، ولذلك سأعرض الآن عدة أمور لكي يراجع المسلمون أنفسهم ويستعيدوا أمجادهم ويمكن أن يقع لهم ما وقع لأجدادهم من دخول التتار في دينهم فهم علي الأقل سيبقون علي الإسلام ، وعلي مر الأيام يمكن أن يرفعوا رايته مرة أخري ويستعيدوا له ما فقد من أمجاده . قصة القوميات : يجب أن يراجع المسلمون أنفسهم في قضية القوميات .. مصر لها قومية خاصة ، العراق لها قومية خاصة !! كل بلد إسلامي – الآن – صنع الاستعمار له قومية خاصة ، فأصبح له علم خاص يقاتل تحته وأصبحت له حدود يتحرك داخلها وينظر إلي الآخرين نظرة أنهم جيران أو غرباء عنه أو مصالحهم ثانوية بالنسبة إلي مصالحه الداخلية . هذه القصة هي أول أسباب الخراب في العالم الإسلامي ، يجب أن نعيد النظر في هذه القوميات التي مزقتنا ، يجب أن يتصدر الشعور الإسلامي كل شعور أخر يجب أن يتصدر الولاء الإسلامي كل ولاء آخر ، يجب أن تسبق الأخوة لإسلامية أي أخوة من العرق ، أو من الدم أو من الجنس أو من اللون أو من الرحم الماسة . لابد أن تعود الجماعة الإسلامية مرة أخرى ، قد تقول : هذا صعب وأقول لك لماذا يكون صعباً علي المسلمين ،سهلاً علي اليهود الذي أحرق المسجد الأقصى أول مرة من استراليا ، والذي أطلق الرصاص في المرة الثانية علي القبة حتى كادت تسقط من أمريكا ، الشعور الديني جمع الأمريكاني علي الأسترالي فما الذي يفرق بين مسلم في فلسطين ومسلم في مصر أو في أي مكان أخر ؟ ص_051(1/38)
المسلم الآن في الهند وهو مسلم وموحد يتجه إلي قبلتنا ويصلي صلاتنا ولكن الشعور بارد بإزاء ما ينزل من كوارث ، لماذا ؟ ألأنه هندي ؟ إنه مسلم وأقرب إليّ من النصراني العربي ، وأحسن من ملك علي رأسه التاج ليس بمسلم . (ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم) قصة القوميات التي صنعها الاستعمار لكي يقضموا الرغيف لقمة لقمة ويسهل الابتلاع والهضم إذا استبقيناها فالدائرة ستدور علينا ، والمصير إلي الهاوية . اللغة العربية : الشيء الثاني : القرآن هو الذي يربطنا ، خلد الله هذا الكتاب وشرف العرب بأن أنزله بلغتهم . بداهة اللغة العربية عدو للإنجليز والفرنسيين ، عدو لليهودية والصليبية في العالم كله !! كيف استحيا اليهود لغة ميتة هي اللغة العبرية ؟ ما كان ينطق بها أحد ، كيف جعلوها الآن لغة الطب والهندسة والعلوم والأحياء والفيزياء والكيمياء ؟ كيف أحيوا لغة ميتة ؟ وكيف نميت نحن لغة حية ؟!! أعجب ما أدهش له أن يجيء إنسان يعرف الإنكليزية فقط ليأكل عيشاً في الخليج أو في المملكة العربية السعودية ، هذا القادم بلغة إنجليزية يريد أن يفرض علي أهل البلد أن ينتقلوا إلي لغته لأنه لا يتصور – هو - أن ينتقل إلي لغة الحيوانات ، هذه منزلتنا عند هؤلاء الخلق !! علينا أن نحتقر اللغة العربية وأن نتركها كلغة تخاطب ، كلغة مكاتبات ، حتى كتحية عابرة في الشارع !! ص_052
اللغة العربية لغة غريبة ، اللغة العربية ضيف ثقيل الدم يراد أن يذهب إلي حيث ألقت !!
أما اللغة المحترمة فهي رطانة الإنجليز ورطانة الفرنسيين ، أما لغة القران فلا احترام لها فلتذهب إلى حيث ألقت. هذا كفر، الأمة تكفر رويدا رويداً بتطليقها اللغة العربية و انسلاخها عنها .(1/39)
خدعنا الاستعمار العالي ، كنت و أنا طالب في الثانوي أقرأ "الأهرام" فأجد المحاولات الجادة من كل ناحية لجعل اللغة العربية تنتشر ، فجأة اختراع الإعلاميون ما يسمى ب "الفلكلور"ما الفلكلور إحياء لغة الرعاع و الشوارع و الأزقة و الحارات المنتنة .
لماذا ؟ لكي يزحم اللغة العربية و ينتهي بها .
لا بد من التعصب للغة العربية و إعادتها لغة رسميه و شعبيه و لغة التخاطب و لغة الإعلام و العلوم في كل ناحية.
الحكم والمال :
الشيء الثالث : أريد أن أسأل نفسي و أسألكم : ما مسافة التخلف بيننا و بين العلم في الأمور الإنسانية العامة ؟
العالم الآن يحكم بالشورى ، هناك مجالس لوردات ، و مجالس عموم ، و مجالس كونجرس ، و مجالس نواب ، وهؤلاء لهم في الشورى أنظمه يضبطون بها أمورهم ، و يحكمون بها سياستهم ، و يوقفون نزوات الحاكم من أن تمضى في طريقها .
في هذا الوقت يخرج مرتزق في عالمنا يقول : الشورى غير ملزمة !!
لحساب من تقال هذه الكلمة ؟ لحساب من يقال : إن الشورى في الإسلام صوره ؟
إن الرسول (صلى الله عليه وسلم) التزم بها في جميع غزواته ، و رأينا أول خليفة
ص_053
للمسلمين يأتي عن طريق بيعة عامة من الجمهور ، و رأينا أول ميثاق بينه و بين الناس يقول فيه :
"أيها الناس إني وليت عليكم و لست بخيركم ، إن أحسنت فأعينوني و إن أسأت فقوموني ، الصدق أمنه و الكذب خيانة ، و الضعيف فيكم قوى عندي حتى أرجع عليه حقه إن شاء الله ، و القوى فيكم ضعيف حتى اخذ الحق منه إن شاء الله ، أطيعوني ما أطعت الله و رسوله فإذا عصيت الله و رسوله فلا طاعة لي عليكم " .
أسمع هذا من أبى بكر رضى الله عنه ، ثم أفاجأ بإنسان يقول عن الحاكم : لا يسأل عما يفعل !! لماذا ؟ إله ؟
المال :
الأوربيون يسخرون منا و يقولون : المال العربي يراق في الشهوات و علب الليل و أندية القمار و لا يذهب إلى المصالح العامة !!
أريد أن أقف وقفه أحاسب فيها نفسي و قومي :(1/40)
ما تصنعون في الشورى ؟ و ما تصنعون في المال العالم ؟ هذا شيء لابد من مدارسته و أن نكون فيه على مستوى لا يسمح لأحد أن يسخر منا .
رجل إيطالي في الصومال تبنى ثلاثين ألف طفل مسلم ينشئهم على النصرانية !! رجل لديه مال وظفه في خدمة دينه00 في إندونيسيا استطاعت حركات التبشير أن تصنع الكثير 00 محاولات الانقلاب الشيوعي في إندونيسيا خلفت نحو مائة ألف طفل لا عائل لهم ، تحركت أجهزة الكنيسة على عجل ، و بنت الملاجئ و المحاضن و الأماكن التي تجعل هؤلاء يتربون في أحضان الكنيسة!!
ص_054
أين نحن ؟ لا أعرف ، نحن قوم نحسن الفتك بالثروات الضخمة أرخص الأغراض .
كيف نخدم ديننا :
الشيء الرابع : أين نحن من القدرة على خدمة مبادئنا بالإمكانات الصحيحة ؟
بمعني : حزب " تودا " في إيران يستعد – الآن – للاستيلاء على الحكم ، كيف يستعد ؟ بالتعبير الشيوعي يقول : نجهز كوادر ، لديه ناس في التعليم العالي والمتوسط ، لديه ناس في الجيش ، لديه ناس في الصحافة ، لديه ناس في الطب ، لديه ناس في كل مكان .
بهذا يخدمون إفكهم وضلالهم ، فهل يخدم الإسلام بالجدل البيزنطي واللغو الفارغ الذي يحسنه بعض التافهين ؟
نريد أن يتوزع المسلمون من أصحاب الحمية والغيرة و النشاط على المجتمع كله ليكون للإسلام في كل ديوان ناس ينصرونه ، بحيث إذا تحرك الجهاز الإسلامي يوماً تحركت ميادين وشوارع ومصالح وأجهزة كثيرة .
التجديد والتصحيح :
الشيء الخامس : ألفت النظر أخيراً إلي ما لا بد من النظر إليه ، نحن نريد أن نجدد أنفسنا وأن نجدد ديننا ، وأقصد بالتجديد أن نمنع كل درن لحق بجوهر هذا الدين وشأنه ، التجديد في الإسلام أن أعيد الدين سماوياً كما نزل من عند الله ليس فيه غبار ولا عكار .(1/41)
عندما أجدد في الإسلام لن ألغي نصاً فهذا مستحيل ، لن آتي بعندي من شيء ، ولكن أبذل جهدي في أن أعود إلي ما كان عليه سلفنا الأول ، وسلفنا الأول كانوا رجالاً عقلاء ذوي أدب وقدرة ، فهموا دينهم فهماً عامراً بالحكمة بالدقة ، واستطاعوا أن يحملوه للناس فدخل فيه الناس أفواجاً .
ص_055
وسأضرب لكم مثلاً واحداً لفهم سلفنا للإسلام : سيدنا ربعي بن عامر رضي الله عنه رجل بدوي ، رفع الإسلام مستواه وجعله أحسن من أحسن فيلسوف في أوروبا ، ذهب إلي فارس ، فلماذا يقول في البلاط الفارسي ليعرض الإسلام ؟ إنه يري أمة أكلها الذل ، يري أن الكسروية هناك أرهقت الشعب بترفها وطغيانها ، فوقف – في هذا الجو – يعرض الإسلام نظام حياة وأمل جماهير ، بدأ يعرض هذا الدين فقال : " إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلي عبادة الله ، ومن ضيق الدنيا إلي سعتها ، ومن جور الأديان إلي عدل الإسلام " . كلمات تدل على الوعي ، وسياسة راشدة تخامر الأفئدة ، هل أطمع أن يتحول المسلمون في أخلاقهم وتقاليدهم ومعاملاتهم وصلتهم بربهم وأدائهم لنسكهم ، هل أطمع أن يكونوا صورة تغرى الآخرين ولو بمجرد التأمل في هذا الدين لعلهم يدخلون فيه ، أو لعلنا بتوبتنا إلي الله يعطف علينا ربنا وينقذنا من براثن الظلمة والفتاكين ؟ الأمر لا يحتاج إلي عبقرية ، يدخل المسلمون في الإسلام ، هذا هو المطلوب ، فإن المسلمين الآن عبء على الإسلام أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم . وصلي الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ص_057(1/42)
الإسلام والشيوعية الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد.. الشيوعية انتشرت فى العالم ، واسمحوا لى أن أقول : إننى أعذر كثيراً من الناس ممن انتسبوا للشيوعية ، لماذا؟ أين انتشرت الشيوعية؟ الدولة الأولى لها روسيا ، الدولة الثانية لها الصين ، الدولة الأولى ـ التى هى روسيا ـ إذا استيقظ العقل الأوروبى فيها وجد نفسه محاطا بأمرين : الأمر الأول : فكرة عن العقيدة لا يهضمها فكر، ولا يقبلها عقل. أنا أعذر من يرفض قضية التثليث ، ربما انتقل منها إلى الجحود ، ولم ينتقل إلى التوحيد، والعيب هنا على من يحمل فكرة التوحيد، لِمَ لمْ يعرِّف الناس بها؟ هات البديل إذا أردت أن تغير وضعا خطأ ، ويعجبنى قول أحد شعراء المهجر: لا تقل عن عمل ذا ناقصٌ جيء بأوفى ثم قُل ذا أكملُ ص_058(1/43)
الأمر الثانى : إذا استيقظ العقل الأوروبى ونظر إلى رجال الدين فى أرجاء العالم الغربى فوجدهم يكملِّون الطبقة الأرستقراطية ، وهى طبقة مترفة تعيش على كدح الآخرين ، على عرق العاملين، فإذا تألم الكادحون يوما وضاقوا ونظروا يلتمسون العون من أرض أو سماء فوجدوا رجال الدين هم الجناح الثانى للرأسمالية، فتكون الصيحة الطبيعية : اشنقوا أخر ملك بأمعاء أخر قسيس !! اعتبروا الدين مسئولا مع الحكم عن الظلام والظلم اللذين وقع فيهما العالم ، وبهذا انتشرت الشيوعية هناك. لا عذر لنا : إذا كانت الشيوعية ـ لهذه الأسباب ـ مستساغة فى أوروبا ، فهل كان هذا مستساغا بالنسبة لنا نحن العرب أو نحن المسلمين؟ إذا كان هناك عذر لمن كفر بالتثليث فما عذر من يعيش فى جو التوحيد؟ وإذا كان هناك عذر لمن كفر برجال الدين الذين فرضوا أنفسهم يكملون الاستبداد السياسى ، فما عذرنا نحن وعلماء الدين عندنا من الطبقات المتوسطة فما تحت ؟ ومع هذا فإن الشيوعية وجدت فى بلادنا من يدفع عنها ويُزوِّر عرضها ، والسبب : ضعف الذين تبنْوا الدعوة الإسلامية فلم يحسنوا تكميل البديل عند هؤلاء الذين ظنوا أنهم وجدوا فى الشيوعية ما يكفل لهم شيئاً من الحرية الاقتصادية ، ولو عقلوا لعرفوا أنهم مغشوشون عشاً هائلاً . هذا ديننا : يجب أن نعرف أن الإسلام دين وسّع دائرة العقيدة والشريعة ، فالدين عندنا إيمان ونظام ، وعبادة ومعاملة ، وشريعة وعقيدة ، ودين ودولة .. هذا الدين له امتدادات وآفاق لابد أن تُعرف ، وكان جهدنا ص_059(1/44)
كبيراً عندما كتبنا فى توضيح النواحى الاقتصادية والاجتماعية فى الإسلام حتى ظن بعض الناس ـ لحماقتهم ـ أننى شيوعي !! وأنا عندما كتبت " الإسلام والأوضاع الاقتصادية " و " الإسلام والمناهج الاشتراكية " و " الإسلام المفترى عليه بين الشيوعيين والرأسماليين " كنت بهذا أُسُدُّ الطريق على الشيوعية حتى يعلم الناس أن فى الإسلام عِوضاً عن كل ما يفكرون فيه ، وهنا أحب أن أشرح للناس هذا العِوض . أسس الشيوعية : تقوم الشيوعية على أمرين : على عقيدة فلسفية ، وعلى منهج اقتصادى .. العقيدة الفلسفية تتلخص فى أن الحياة مادة ، وأن ما وراء المادة وهم ، وأن عالم الروح مزاعم وخرافات ، وبالتالى فكل كلام عن الله والدين والإيمان بالغيب واليوم الآخر مرفوض ، هذه هى العقيدة الشيوعية كما تحدث عنها أصحابها . الأمر الثاني : المنهج الاقتصادى يتلخص فى قيام المجتمع على الشيوع ، ومن كلِ حسب قدرته إلى كلِ حسب حاجته ، ورفض حق التملك ، إلى أخر ما هو معروف عند القوم . تقول لى ما الدليل على ما قلت ؟ الدليل : سأقرأه عليكم من كتاب لى صدر فى الخمسينات ، اسمعوا منه هذا الكلام هل يتصور أن يعيش فى ظل السلطة الشيوعية إسلام ؟ إن الذين يجيزون ذلك إما أنهم لا يفهمون الإسلام ، وإما إنهم لا يفهمون الشيوعية !! فلنستمع إلى كلمات رؤساء الشيوعية فى الدين كله ، حتى يستبين ص_060(1/45)
الأمر . إن "كارل ماركس " و "فريدريك أنجلز " – و هما الفلاسفة الأول للشيوعية , وواضعو جرثومتها في الأرض – يقولان بالمادية المحضة و يصرحان بأن العالم شيء واحد لم يخلقه أي إله أو أي إنسان , و أنه كان و لا يزال وسيظل شعلة حيه إلى الأبد تشتعل و تنطفئ تبعا لقوانين معينه.. !! و يقول "لينين" : الدين أفيون الشعوب , و رجل الدين يعمل على تخدير أعصاب المظلومين و الفقراء و جعلهم يستكينون للذل والبؤس !! و يقول أيضاً : ليس صحيحا أن الله هو الذي ينظم الأكوان , إنما الصحيح أن الله فكرة خرافية , اختلقها الإنسان ليستر عجزه , و كل شخص يدافع عن هذه الفكرة فهو جاهل ضعيف!! ويقول " ستالين " سنة 1944 : نحن ملحدون , نعتقد أن الدين يعرقل تقدمنا , و نحن لا نحب أن يسيطر الدين علينا لأننا نكره أن نعيش سكارى . هل هذه الأفكار آراء شخصيه لأصحابه ؟ لا ...أنها أسس التوجيه الذي يجب أن يسود كل الأرجاء التي وقعت في براثن الشيوعية .. فمنذ سنة 1928 م و : " ستالين " يقول : يجب أن تقوم التربية في المدارس علي مبدأ إنكار الدين وجحد الألوهية .. وفي سنة 1933 م صرح الرئيس الشيوعي بأن الثقافة النافعة هي التي تحرر عقول الناس من استبداد الدين ، والتعليم النافع هو الذي يشيع الإلحاد ، والرأي العام الصالح هو الذي لا يؤمن بأي أفكار سوي الأفكار الماركسية . ويستحيل أن ينتسب إلي الحزب الشيوعي إلا شخص موغل في الكفر بالله وكتبه ، ليس لتعاليم السماء من أي مله ظل في نفسه أو سلطان علي قلبه .. !! فإذا ظهرت عليه أعراض تدين ما طرد من الحزب فوراً .. ومن الخيانات أو الجرائم أن يري موظف شيوعي في بيت للعبادة !! ص_061(1/46)
ونترك ماركس ، ولينين ، وستالين .. ونستمع إلي " خرشوف " – وكان لا يزال حاكما عندما صدر هذا الكتاب – أتحسبه خيراً من أسلافه في هذا المضمار ؟ كلا .. إن كفره بالله واليوم الآخر لا يقل ذرة عن كفرهم إن لم يزد ، ففي الأخبار التي نشرتها صحيفة " التيمس أوف إينديا " الصادرة في " بومباي " 10/9/1961 م جاءت هذه العناوين : خرشوف يؤمن بجنة الأرض فقط ، أمل في التقدم ولا خوف من الحرب ، ثم قالت الصحيفة وأيدتها في ذلك " نيويورك تايمس " نقلاً عن مراسلها في موسكو : " لا توجد جنه سوي ما يمكن أن نوجده نحن علي الأرض . هذا لي أي حال ما يؤمن به مستر خرشوف الرئيس السوفيتي ، فقد أرسل إلي الفضاء الميجور " جاجارين " والميجور " تيتوف " لتحقيق هذا الأمر وقد قرر ذلك !! أبدي الرئيس السوفيتي هذه الملاحظة المضحكة خلال إحدى مراحل حديثنا يوم الثلاثاء الماضي ، وقد كان ذلك جزءاً من مناقشة شبه فلسفية تتأرجح بين الجد والهزل بسب السؤال التالي الذي وجه إليه : ألا تعتقد أن الشيوعيين الملحدين الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر يجب أن يخافوا الحرب أكثر من المؤمنين الذين يعتقدون في الحياة الآخرة بعد الموت ؟ المؤمنون !! ؟؟ كان مستر خرشوف بادي السرور من التحول المفاجئ في الحديث عن تحليل مشكلات الأرض المعقدة ، فخلع نظارته وصمت لحظة ثم قال : سؤال لطيف جداً ، ويسرني أن أجيب عليه .. لقد عشت كثيراً ، ورأيت كثيراً ، رأيت الحرب ورأيت الموت ، ولكن لم أر أي شخص – حتى من رجال الدين الذين يعتبرون أنفسهم أقرب إلي الله ، ص_0 ص(1/47)
ويعرفون عن الحياة الأخرى أكثر من غيرهم – يتعجل ترك هذه الحياة !! وأضاف قائلاً : إن الإستعماريين والإحتكاريين والاستغلايين الذين يقولون أنهم أيضاً يؤمنوا بالله – علي الرغم أنهم أقرب إلي الشياطين – لا يتعجلون مع ذلك دخول الحياة الأخرى !! وهم يعملون علي إرسال جنونهم للحروب وأعدن إياهم بالجنة بعد الموت بينما هم أنفسهم طول البقاء علي هذه الأرض بجوار ممتلكاتهم وصنادقهم من الذهب والدولارات!! حتى المؤمنين لم ألاحظ قط أي رغبة خاصة بينهم للموت حالاً !! وانفجر سكرتير الرئيس ضاحكاً بصوت مرتفع .. بينما استطرد خرشوف قائلاً في مرح : إن كثرة الشعب السوفيتي غير المؤمن – علي الرغم من وجود المؤمنين والمتدينين فيما بيننا – يفضلون الحياة الدنيا وليست لديهم الرغبة في الذهاب إلي الجنة ، إنهم يريدون جنة علي الأرض ، أما عن الجنة التي في السماء فقد سمعنا عنها كثيراً من القساوسة .. ثم قال في سخرية : ولقد قرننا البحث بأنفسنا عنها ، فبعثنا في البداية إلي الفضاء الخارجي مكتشفنا الأول " يوري جاجارين " الذي طاف حول العالم ولم يجد شيئاً في الفضاء الخارجي ، بل قال : إن هناك ظلاماً شديداً وليس هناك جنة عدن أو ما يشبه تلك الجنة !! ولذا قررنا إرسال مكتشف آخر فأرسلنا " جرمان تيتو " وأمرناه أن يطير يوماً كاملاً حيث أن جاجارين لم يمكث هناك في الفضاء سوي ساعة ونصف فقط مما جعلنا نشك في أن يكون قد ضل الطريق إلي الجنة ، وأخبرناه أن يلقي نظر فاحصة فقام بذلك التكليف وجاء مؤكداً نتيجة جاجارين وقرر أنه لا يوجد شئ هنالك علي الإطلاق !! ص_063(1/48)
وأضاف مستر خرشوف : إن هذا لا يعني أن الشعب السوفيتي لا يقاتل لأنه لا يعتقد بوجود الحياة الأخرى ، إن شعبنا شجاع ، كما قال أيضاً وبقوة : إن " هتلر " قد اكنشف ذلك ولكن قد ذهب الآن هو وأعوانه . وأنهي مستر خرشوف حديثه بهذه الملاحظة ، إذ قال : نحن الشيوعيين لا نؤمن بالحياة الأخرى ، ونريد أن نعيش هنا ونتقدم في سلام . هذا هو ما قاله زعماء الشيوعية ، وقد نقلت نصوصاً لبعض قوانين العقوبات التي يعاقب بها من يجرؤ علي تعليم ابنه الدين وهذه النصوص موجوده في كتابي " الإسلام في وجه الزحف الأحمر " والكتاب طبع أربع طبعات في الخارج ، وكان ممنوعاً دخوله هنا ، ثم أبيح دخوله منذ شهر . لا .. للشيوعية : أريد بعد أن وضحت أن الشيوعية لا صلة لها بالدين أن أقول : إننا نحن المسلميين نؤمن بالله إيماناً راسخاً ، ونشعر أنه هو الذي يطعمنا ويسقينا ، ونشعر بأن الكسوة التي تستر أبداننا هي من فضله ، ونشغر بأن ما في أبصارنا من نور ، أو ما في أذاننا من سمع ، أو ما في افكارنا من رشد ، أو ما في أجسدانا من طاقه ، ذلك كله هبه من الله – جل جلاله – علينا ، فلا نحن ولا أمهاتنا ولا أبائنا صنعنا عيناً ولا أذناً ولا فكراً .. والنبي صلي الله عليه وسلم كان يحس هذا الإحساس عندما يضع جبهته وهو ساجد لله يقول : " سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره تبارك الله أحسن الخالقين " . ص_064(1/49)
الألوهية عندنا واضحة ، الله واحد ، ليس قطاعاً عاماً ،ولا شركة مساهمة : (إنما الله إله واحد) . كيف نعرف وجوده ؟ كيف نعرف صفاته ؟ قال لنا : لكم عقول فكروا ، لكم عيون انظروا إلي المملكة الكبيرة التي أنشأها ، أنظروا إلي الأرض التي تحيون فوق أديمها ، إلي السماء التي تظلكم بما فيها من كواكب وهواء وفراغ وآشعة معروفة وغير معروفة ، انظروا إلي كل هذا : (أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء) . الإسلام بني التوحيد والإيمان علي العقل حتى صياغة رسالة نوح – في كتابنا – صياغة عقليه ، فنوح يقول لعبدة الأصنام : (ما لكم لا ترجون لله وقارا * وقد خلقكم أطوارا * ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا * وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا * والله أنبتكم من الأرض نباتا * ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا * والله جعل لكم الأرض بساطا * لتسلكوا منها سبلا فجاجا ) . بني الإسلام قضية الإيمان علي العقل الذي ينظر ويفكر ، وعندما بين أن إبراهيم عرف ربه قال : (ولقد آتينا إبراهيم رشده) عرفه بالرشد ، ولما فكر إبراهيم في الملكوت ، قال جل جلاله : (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين) . فلإسلام دين بني الإيمان علي النظرات العقلية والفكر السليم ، وقال : (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب * الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار ) ص_065(1/50)
ليس في ديننا ما يرفضه العقل ، وأدلة العقيدة عندنا أدلة سخية ، والإيمان عندنا متجاموب مع الفطرة البشرية . منهج الإسلام في الحياة الاجتماعية : نجئ الآن ـ بعد العقيدة ـ إلي منهج الإسلام في الحياة الاجتماعية . اعترف الإسلام بمبدأ التملك ، وأعطي المبدأ حق الحياة وشجعه ونشطه ، لماذا أقر مبدأ التملك ؟ أولاً : إقرار الإسلام لمبدأ التملك جزء من الفطرة الإنسانية ، لأن الإنسان يجب أن يملك . ثانياً : أقر الإسلام مبدأ التملك تنشيطاً للعمران ، وبناء للحضارة ، ودفعاً للنشاط الإنساني بأعظم طاقه ممكنه لأن الإنسان أفضل شخص يثمر ماله ، ورأينا هذا ، فمع انعدام الحافز، وضعف الضمير ، وقلة الحيلة خسر القطاع العام كثيراً ، وتخلفت الدول الشيوعية كلها . حق التملك في الإسلام : والدليل علي احترام الإسلام لمبدأ التملك ، نقرأ في القرآن : (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما) ويقول جل شأنه (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) ويقول : (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم) . فالإسلام اعترف بحق التملك وبني عليه – قرآنياً – المواريث والبيوع والتجارات والإجارت وما إلي ذلك . ص_066
أما التملك في السنة المطهرة ، فقد احترم الرسول صلي الله عليه وسلم حق التملك وحض كل ماله أن يرفض البغي والعدوان علي ما يملك ، وفي هذا يروي مسلم في صحيحه أن رجلاً جاء إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم فقال له : " أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي ؟ قال : فلا تعطه مالك ، قال : أرأيت إن قاتلني ؟ قال : قاتله ، قال : أرأيت إن قتلني ؟ قال : فأنت شهيد ، قال : أرأيت إن قتلته ؟ قال : هو في النار " .
الدفاع عن المال شهادة ، فمبدأ التملك قائم في دين الله ، والنصوص في هذا متواترة تبلغ حد القطع الجازم .
قيود لابد منها :(1/51)
هل الإسلام إذا احترم مبدأ الملكية تركه حراً في الحياة يتصرف كيف يشاء ؟ لا .. أحاطه بقيود كثيرة .
لعل أول قيد نلفت النظر إليه : أنه أهدر كل تملك من باطل ، فإذا سرق أحد أو غش أو نهب أو قامر أو خدع أو احتقر فكل هذا حرام ، وفي الحديث : " لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت ، النار أولي به " .
فأول ما قيد به الإسلام مبدأ التملك رفض العدوان علي حقوق الآخرين .
ص_067
ولو أن كل إنسان اجتهد في أن يحرر كسبه من الباطل لا تشكو الدنيا من شئ . فالسحت لا كرامة له ، والظلم لا يؤدي إلا إلي النار ، وخصوصاً في الأرض الزراعية ، ففي الحديث " من ظلم قيد شبراً من الأرض طوقه من سبع أرضين " القيد الثاني : فرضنا أنك ملكت من حلال محض فما الذي يقيد به مالك إذا ملك من حلال محض ؟ لابد أن تنظر إلي المجتمع وتنفق في مطالبه .. بعض الناس يظن أن الحق الوحيد في هذا هو الزكاة ، لا .. صحيح أن الإسلام فرض زكوات كثيرة ، فرض في المال ، وفرض في الأملاك ، وفرض في عروض التجارة ، وفرض في الزروع والثمار ، وفرض في الركاز .. ومع كل هذا فإن نصوص القرآن و السنة اعتبرت الزكاة الحق الأول لا الحق الوحيد . قال تعالى : (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون) فالآية ذكرت حقين لله في المال ، الأول : " وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب.... " والثاني : " وأقام الصلاة وآتى الزكاة " . فالترتيب هنا أن إيتاء الزكاة جاء متأخراً بعد إيتاء المال للأصناف المذكورة في الآية . ص_068(1/52)
إذا كان إبلك تشرب وجاء محتاج أو مسكين فأعطه من ألبانها يشرب ، ففي البخاري عن النبي صلي الله عليه وسلم : " من حق الأبل أن تحلب علي الماء " . وجاء في الحديث : " ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلي جنبه وهو يعلم به " . وجاء أيضاً : " من احتكر طعاماً أربعين يوماً فقد برئ من الله تبارك وتعالي وبرئ الله تبارك وتعالي منه وأيما أهل عرصة أصبح فيهم امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة الله تبارك وتعالي منهم " . إذاً قبل الإسلام الغني ، لكنه أوجب علي الأغنياء بذلاً ربما كلفهم كل ما زاد عندهم إذا احتاج المجتمع ، وفي القرآن الكريم : (ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو) أي ما زاد . في أيام الهجرة وحاجة المجتمع إلي التكافل كان النبي صلي الله علي وسلم يقول بقوة : " من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث وإن أربع فخامس أو سادس " . وهذا حق ، فأغلب الناس يأكل أكثر مما يحتاج بدنه ، ولو ما أكله زائداً ذهب إلي غيره لكان خيراً له ، وقد رأى النبي صلي الله عليه وسلم رجلاً . ص_069(1/53)
سميناً فجعل النبي صلي الله عليه وسلم يومئ إلي بطنه : " لو كان هذا في غير هذا لكان خيراً لك " . وفي الحديث عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : " من كان معه فضل ظهر فليعد به علي من لا ظهر له ، ومن كان له فضل من زاد فليعد به علي من لا زاد له ، قال : فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل " . الإسلام ـ فعلاً ـ قام علي هذا التكافل الغريب ، وجعل الأمة متماسكة . يقول ابن حزم الظاهري في كتابه المحلي : ( وفرض علي الأغنياء من أهل كل بلد أن يقوموا بفقرائهم ، ويجبرهم السلطان علي ذلك ، إن لم تقم الزكوات بهم ، ولا في سائر أموال المسلمين بهم ، فيقام لهم بما يأكلون من القوت الذي لابد منه ، ومن اللباس للشتاء والصيف بمثل ذلك ، وبمسكن يكنهم من المطر والصيف والشمس وعيون المارة ) . هذا هو الإسلام ، ولا أعرف في الأولين والآخرين دولة سيرت جيشها لاستخراج الزكاة وإعطاء الفقراء حقهم إلا الدولة الإسلامية الأولي . اعتراض ورد عليه : ربما قال بعض الناس : تريدون تكوين مجتمع من الصدقات ؟ تريدون أن تقوم المجتمعات علي ما يرمي إليها من فضلات الأغنياء ؟ ! ص_070(1/54)
والجواب : لقد رددت علي هذا الكلام في كتابي " من هنا نعلم " وأقول : هذا التفكير خطأ ، فإن الصدقة التي يخرجها الإسلام إنما تكون في طوارئ المرض أو العطل .. إنسان عاجز يعان ، إنسان تعطل فجأة يعان ، أما العامل القوي أو الغني فم يجوز لهما أن يأخذا من الزكاة . وفي هذا يقول النبي صلي الله عليه وسلم : " لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي " ذي مرة : يعني قوي ، فالمرة : هي القوة ، سوي : يعني سليم الحواس والعضلات والأعضاء . فإذا كان قوياً سليماً فلا يأخذ من الصدقة ، أنت مكلف بتقديم عمل له ، أنت من ؟ الدولة ، الدولة مكلفة بتقديم عمل له ، وهذا ما فعله النبي صلي الله عليه وسلم . فقد ورد أن رجلاً من الأنصار أتي النبي صلي الله عليه وسلم يسأله ، فقال : أما في بيتك شئ ؟ قال : بلي : حلس – كساء يفرش في البيت – نلبس بعضه ونبسط بعضه ، وقعب إناء – نشرب فيه الماء ، قال : ائتني بهما ، فأتاه بهما ، فأخذهما رسول الله صلي الله عليه وسلم وقال : من يشتري هذين ؟ - يعني أجري مزاداً عليهما – قال رجل : أنا آخذهما بدرهم ، قال : من يزيد علي درهم ؟ مرتين أو ثلاثاً ، قال رجل أنا آخذهما بدرهمين فأعطاهما إياه وأخذ الدرهمين ، وأعطاهما الأنصاري وقال : اشتر بأحدهما طعاماً وانبذه إلي أهلك ، واشتر بالآخر قدوماً فآتني به ، فشد رسول الله صلي الله عليه وسلم عوداً بيده ثم قال له : اذهب فاحتطب وبع ولا أرينك خمسة عشر يوماً ، فذهب الرجل يحتطب ويبيع، فجاء وقد أصاب عشرة دراهم ، فاشترى ببعضها ثوباً وببعضها طعاماً ، وقال رسول الله صلي الله عليه وسلم : ص_071(1/55)
هذا خير لك من أن تجيء المسالة نكتة في وجهك يوم القيامة ، إن المسالة لا تصلح إلا لثلاث : لذي فقر مدقع – الفقر الشديد الذي يفضي به إلي التراب ، أو لذي غرم مفظع – الدية الفظيعة الفادحة – أو لذي دم موجع – الدية يتحملها فترهقه وتوجعه . معني هذه القصة أن الإسلام حرم تحريما باتا التسول . وفي الحديث : ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر . وفي الحديث أيضاً : " من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته ومن نزلت به فاقة فأنزلها بالله فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل " فالتسول لا يجوز ، والذين احترفوا التسول قال فيهم : " من سأل وله ما يغنيه جاءت خموشًا أو كدحاً في وجهة يوم القيامة " فالإسلام طارد التسول ، وعلي المجتمع أن يبحث له عن عمل ، وقد جاء في الحديث " كلكم راع فمسئول عن رعيته " ، فالأمير الذي علي الناس راع وهو مسئول عنهم . ص_072(1/56)
نظر أحد العلماء في الموسم الجامع ـ يوم عرفة ـ إلى الجموع المحتشدة ، وكان قريباً من هارون الرشيد ، فقال له : يا هارون انظر إلي هؤلاء ، فنظر ، فقال له :ماذا رأيت ؟ قال: ناس تحج ، فقال له : يا أمير المؤمنين : كل واحد من هؤلاء مسئول عن نفسه أما أنت فمسئول عن هؤلاء جميعا !! لا يجوز ترك واحد منهم يتسول وهو قادر علي العمل ، جهز فرص العمل لهؤلاء . حساسية الحاكم الأول بهذا هي التي جعلت عمر بن الخطاب رضي الله عنة يقول : لو عثرت بغلة بالشام لحسبت عمر مسئولاً عنها لم تسو الطريق لهل يا عمر ؟ !! فإذا كان مسئولاً عن تسوية الطريق لبغله أفلا يسأل عن كفالة الحياة لكل مسلم ؟ لكل .. بل أكثر من هذا لقد اعتبر نفسه مسئولا عن كفالة الحياة ليهودي وجدة يتسول لأنه عاجز ، قال له ما أنصفناك وأمر له بمرتب من بيت المال!! بين العامل وصاحب العمل : يجئ شئ آخر وهو : العلاقة بين العامل وصاحب العمل . إن التظالم قد يقع بينهما ، وهذا هو المدخل للشيوعية ، فان الشيوعية تقول : العامل ـ مثلاً ـ يستحق جنيهاً فيعطيه صاحب العمل نصف جنيه ، وينتفع هو بالنصف الآخر ، وهذا هو الظلم والفساد . ص_073(1/57)
الإسلام لم يترك هذه الناحية ، وألفت النظر ـ هنا ـ إلي ما كتبة ابن تيميه وابن القيم في السياسة الشرعية في هذا الموضوع ، وألفت النظر أيضا إلى ما كتبه ابن حزم الظاهري في المحلى فيما يتصل بهذا الموضوع . فالفقه الإسلامي يضع تسعيراً للملكات والمواهب والخدمات العامة ، وهو ما صنعته الدول حديثاً يعنى إذا اختلفت جماعة من الحمالين أو الخبازين في أمر فأن الحاكم يتدخل لمعرفة الثمن العادل الذي تقوم به هذه الخدمة ,ثم يفرضه ويحمل علية الطرفين .هذا ما تصنعه إنجلترا ـ الآن ـ فإذا حدث خلاف بين نقابات العمال وأصحاب رؤوس الأموال فأن المحكمة تتدخل بطريقة قضائية وتزن الموضوع بدقة ، لماذا ؟ أولا : لرفع المستوى المعيشي ، وهذا حق العامل . ثانيا : لا يريد تضخماً في الدولة ، وهذا حق الدولة . ثالثا : لا يريد ظلم صاحب المال ، وهذا حق صاحب المال . وهذا ما أفتي به ابن تنمية وابن القيم في كتب السياسة الشريعة عندنا من قديم . أحكام المزارعة : فيما يتصل بأجور الزراعة حدث خلاف كبير بين فقهاء المسلمين : فابن حزم يرفض إجارة الأرض رفضاً باتا لأنها تشتمل علي ظلم ، ويستدل بحديث " من كانت له أرض فليزرعها فأن لم يستطع أن يزرعها وعجز عنها فليمنحها أخاه المسلم ولا يؤاجرها إياه " ص_074(1/58)
ومر النبي صلى الله عليه وسلم علي أرض تهتز زرعاً فقال : " لمن هذه ؟ فقالوا اكتراها فلن فقال : أما انه لو منحها إياه كان خيراً له من أن يأخذ عليها أجراً معلوماً " السنن ـ في الحقيقة ـ تجيء بأشياء كثيرة , وقد فسر العلماء هذه الأحاديث , فقد قال صاحب سبل السلام : " في النهي عن المزارعة أحاديث ثابتة ، وقد جمع بينها وبين الأحاديث الدالة علي جوازها بوجوه : أحسنها أن النهي كان في أول الأمر لحاجة الناس وكون المهاجرين ليس لهم أرض فأمر الأنصار بالتكرم بالمواساة ثم بعد توسع حال المسلمين زال الاحتياج فأبيح لهم المزارعة وتصرف المالك في ملكة بما ساء من إجارة وغيرها ومعنى هذا التشريع أن المقنن يستطيع أن ينظر لحاجة المجتمع ويتصرف . والمعني الذي قيل في المزارعة قيل في الأضاحي ، فقد روي أن النبي صلي الله عليه وسلم نهي عن ادخار لحوم الأضاحي ، ثم ـ بعد ذلك ـ أباح الادخار ، لماذا نهي ، ولماذا أباح ؟ والجواب : نهي عندما كانت هناك أزمة وحاجة فلما زالت الأزمة والحاجة أباح الادخار . ففي الحديث : (من ضحى منكم فلا يصبحن بعد ثالثة وفي بيته منه شيء) فلما كان العام المقبل قالوا : يا رسول الله نفعل كما فعلنا عام الماضي ؟ قال : كلوا و أطعموا و ادخروا ، فان ذلك العام كان بالناس ص_075(1/59)
جهد فأردت أن تعينوا فيها ) . بعض الفقهاء قالوا : نسخ الأمر بالادخار النهى عن الادخار .. هذا غير صحيح ، و الفقه الصحيح أن يقال : لا نسخ هنا ، إنما الأمر يتبع المجتمع . وهكذا نجد التشريع الإسلامي يقوم على رفع الحرج و منع المشقات . إذاً النظام الإسلامي اعترف بحق الملكية و لكنه أثقله بالحقوق التي تجعل هذا الحق نافعا لأصحابه و للمجتمع . لقد استعرضت النظم الاشتراكية في العالم فوجدت أن هذه النظم ليس فيها من التعاليم ما في ديننا من ضمانات لرعاية الطبقات كلها . تطبيقات عملية : ـ هل كان العهد الأول عند مستوى هذه التعليمات ؟ نعم . كان عند مستوى هذه التعليمات ، فدون أن توجد مصلحة ضرائب ، ودون أن يوجد تجنيد إجباري ، كان بمجرد أن يقال : نريد الزحف على ( تبوك ) لتأديب الرومان الذين يريدون الهجوم علينا أو الذين قتلوا رجالنا ، بمجرد أن يقال هذا يتقدم ثلاثون ألف شخص متطوعين !! بمجرد أن يقال : نريد المال ، يجيء الأغنياء وفي طليعتهم الرجل النبيل عثمان بن عفان رضى الله عنه فيفتح خزائنه كلها لله ، لقد جهز ـ الرجل ـ جيشا من ماله الخاص !! ص_076
نجيء إلى الخليفة الخامس عمر بن عبد العزيز رضى الله فنجد أن الرجل راقب المجتمع الإسلامي على عهده ، وراقب إخراج الزكاة ، حتى جاء الأغنياء بزكواتهم إليه يقولون :لم نجد من يأخذ الزكاة .
وسع عدل عمر الناس جميعا فأصبحوا في عافية ورحمة وغنى وسماحة .
فلما وجد عمر أنه لا يوجد فقير يأخذ الزكاة أمر أن يشترى بها عبيد و يحرروا .
هذا ما صنعه السلف الأول عندما كانت الضمائر تحل محل القوانين .
أنني أقول : كلما كثرت القوانين في مجتمع دل هذا على الهبوط الاجتماعي والأخلاقي في المجتمع ، لأن المجتمع الرفيع تحكمه التقاليد .(1/60)
هذه صورة حيه للإسلام وأملى أن يجيء اليوم القريب الذي يطبق فيه الإسلام فيكون ـ في بلادنا ـ دينا ودولة ، عقيدة و شريعة ، إيماناً ونظاماً ، وبهذا نسعد الآخرين .
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم .
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله .
والسلام عليكم ورحمة الله و بركاته ،،،
ص_077
الإسلام والعلمانية السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .عرفنا من كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله علية وسلم أن الإسلام عقيدة وشريعة ،عبادات ومعاملات ،أيمان ونظام ، دين ودولة . وعرفنا من كتاب ربنا وسنة نبينا صلي الله علية وسلم أن الإسلام عقيدة وشريعة ، عبادات ومعاملات ، إيمان ونظام ، دين ودولة. وعرفنا من دراساتنا ومن التطبيقات الواعية التي ورثناها أن الدولة التي يقيمها الإسلام لا توصف بأنها علمانية ........ ولا توصف بأنها دينية على النحو الذي يفهمه الناس من كلمة دين ، ومن الإيحاءات المحيطة بالحكومة الدينية كما عرفت في القرن الوسطى في أوربا .لا توصف الحكومة التي يقيمها الإسلام بأنها علمانية ، لماذا؟ لأنها لا توصف الحكومة التي يقيمها الإسلام بأنها علمانية ، لماذا ؟ لأنها ص_078(1/61)
حكومة ليس اهتمامها منصبا علي توفير (الخبز) للناس ، بل هي كما تهتم بتوفير الخبز تهتم بإقامة الصلاة .ليست الحكومة التي يقيمها الإسلام حكومة معنية برفع مستوى المعيشة للأمة وتوفير أنواع من المرفهات تجعل الحياة رطبة أو حسنة ، وينتهي واجب الحكومة ورسالتها عند هذا الحد ، بل تهتم الحكومة في الإسلام بدقة وبوضوح عندما قال : (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور) فإذا كانت بعض الدول الآن ، أو إذا كانت الدول الأوربية بشقيها الشيوعي والصليبي ترى أن هدفها الأسمى هو رفع مستوى المعيشة أو توفير مقادير كبيرة من المرفهات تجعل حياة الأمة أنضر وأنعم فإن هذا المعنى يتجاوزه الإسلام .لأنة يتجاوز الدنيا إلى الآخرة ، ويتجاوز الجسد إلى الروح ،ويتجاوز عالمنا المادي إلى ما يرضى رب الناس الذي أبدع المادة والروح معاً، وله حقوق لابد أن نؤديها ،وله معالم لابد أن نتعرف عليها ونقف عندها .إن الحكومة في نظر الإسلام حكومة ولاؤها لله ،وانتماؤها لهذه العقيدة ،وعملها أن تتبين هدايات الله في النفس والمجتمع والدولة ،ثم تمشى في ضوء هذه الهدايات كي ترضى ربها وتحقيق بذلك سعادتها في الدنيا والآخرة .. فهى من هذه الناحية ليست دوله علمانية . الإسلام يرفض الهدف أو الغاية التي تحددت في الحضارة الغربية بشقيها الصليبي والشيوعي ، والتي تجعل الأرض الأمل و الهدف و الغاية .. ونحن لنا رسالة أخرى نقيمها إلى جانب إقامة أبداننا ، وإلى جانب إقامة حياتنا المادية . ص_079(1/62)
هل نحن أمة تقيم حكومة دينية ؟ هذا موضوع أريد أن أقف عنده وقفه فيها شيء من التأمل ، فإن كلمة " حكومة دينية " كلمة مزعجة ومخيفة ، لأن الحكم الديني في التاريخ الذي عرف به حكم كالح ، ومن حق الإنسانية أن تنفر منه ، لأن الحكم الديني عرف بأنه حكم متعصب ، والتعصب إستغلاق في الذهن يجعل الإنسان لا يفهم إلا نفسه ولا يرى غيره شيئاً ، وهذا التعصب له في مسيرة الحياة اتجاهات ووصايا يرفضها العقلاء ويرفضها ديننا نفسه . إنني ألفت النظر إلي أن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو من هو عندما طعن وعرف أنه منتقل إلي الله أخذ يكتب ويسجل وصيته لمن حوله ، فجاء في هذه الوصية : " أوصي الخليفة من بعدي بأهل الذمة " !! لقد استغربت ، وغيري يستغرب ، أي رجل دين أو حاكم دين في القارات الخمس أثر عنه أو عرف أنه أوصي وهو في آخر مراحل الدنيا وأوائل مراحل الآخرة بالشيء الذي يعز عليه ، ويهتم به ويكترث له ؟ هل نجد هذا في فلسفة من الفلسفات ، أو في دين من الأديان ، أو في نظام من الأنظمة ؟ ! ما عرف هذا ، ولكنه الوفاء والشرف في معاملة من لا يدين ديننا . هذا شيء تميز به تاريخنا ـ كما تميز به تراثنا النظرى ، مما يجعلنى أقول : إن الحرية الدينية ابتداع إسلامى ، فما عرفت الحرية الدينية على هذا النحو إلا فى تراثنا نظريه و تطبيقيا على الأعم الأغلب فى تاريخنا كله ، ولا يخلو تاريخ من هنات ، لكن تاريخنا لا يعرف له نظير . ص_080(1/63)
إن كلمة : (لكم دينكم ولي دين ) ما عرفت إلا عندنا ، إن كلمة : (لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون ) ما عرفت إلا عندنا . فكلمة "دوله دينية " بمعنى التعصب ، أو بمعنى الضن بالكرامة المادية والأدبية على الآخرين لم يعرف في تاريخنا ، و لذلك أرفض أن أصف حكومتنا التي يقيمها الإسلام بأنها حكومة دينيه بهذا المعنى الذي يثب إلى أذهان الأوربيين ، والذي نقله الاستعمار الثقافي إلى أعداد كبيره من الغوغاء التي قرأت كثيرا من الكتب ، ولكن لا تحقيق لها ولا علم ، وظنت أن الإسلام حينما يقيم دولته الدينية يصنع ما صنعه الذين أقاموا ( محاكم التفتيش ) في أسبانيا. وقد دخلنا أسبانيا ، وكلكم يعرف كيف دخلناها فعشنا وعاشت الأديان الأخرى معنا ، بل قيل : إنه لولا ظهور الإسلام لفنيت اليهودية !! ثم استولي الأسبان مرة أخرى علي الأرض فما بقي فيها إسلام ، وكما قال الشاعر : ملكنا فكان العفو منا سجية فلما ملكتم سال بالدم أبطح فحسبكم هذا التفاوت بيننا وكل إناء بالذي فيه ينضح وقامت الدولة الإسلامية وكما قال الأستاذ العقاد : " التفكير فريضة إسلامية " يوم يكون التفكير معصية في بعض الفلسفات أو في بعض الأديان فالتفكير عندنا فريضة ، وعمل العقل عندنا لابد منه لصنع الإيمان ، وديننا هو الدين الذي يقول ـ وما سمعت في ديانة أخرى مثل هذا القول : (هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) . القرآن يناقش : (أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) . ص_081(1/64)
ومع الإله الذي نظر إلي ملكوته الرحب ، وإلي إتقانه هذا الملكوت ، وإلي ما أودع في صفحاته من صور وأسرار وعجائب ، ومع تعجيبه العباد لما صنع : (ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا) .. (انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه ) . في كتاب " التفكير فريضة إسلامية " للأستاذ العقاد ، ذكر بين يدي بحثه نحو ثلاثمائة آية تحدثت عن العقل الإنساني ووظائفه وطرائق فكره والسداد الذي يصل إليه .. علي هذا المنهج قامت حضارة إسلامية ، ما أحب أن أتحدث عنها ـ الآن ـ حديثاً موسعاً ، بل سأكتفي بنصين أقرأهما عليكم ، وقبل أن أقرأ أقول : إن المسلمين الآن ـ للأسف ـ أصبحوا العالم الثالث ، ولكني سأذكر لكم شيئاً يوم كان آباؤكم العالم الأول ، لقد بقيتم العالم الأول نحو ألف سنة ، إن فردتم عدة قرون بالأولية ، ما شارككم فيها أحد ، ربما شارككم بعد ذلك في الأولية أجناس أخرى ، لكننا انفردنا بالأولية عدة قرون ، حوالي ألف سنة كنا العالم الأول . وأمامي الآن كتاب " القرآن والمنهج العلمي المعاصر " للمستشار عبد الحليم الجندي ، سأقرأ منه خطاباً أرسله ملك إنجلترا إلي الخليفة هشام . يقول المؤلف : حسب القارئ بياناً لسعة مدى الانتفاع بعلوم الأندلس في عالم الظلمات الأوربي خطاب صادر إلي الخليفة هشام الثالث الذي حكم في القرن الحادي عشر الميلادي ، وفي نصه غني عن التفصيل في شأن أوربا وأهلها ، وشأوا الأندلس وعلومها ، هذا نصه : ص_082(1/65)
" من جورج الثاني ملك إنجلترا وفرنسا والنرويج إلي الخليفة هشام الثالث : بعد التعظيم والتوقير ، سمعنا عن الرقي العظيم الذي تتمتع بفيضه الصافي معاهد العلم في بلادكم العامرة فأردنا لبلادنا إقتباس هذه الفضائل لنشر أضواء العلم في بلادنا التي يحيطها الجهلمن أركانها الأربعة ، وقد وضعنا ابنة شقيقتنا الأميرة دوبانت علي راس بعثه من بنات الأشراف الإنجليز " من خادمكم المطيع جورج !! وجاء في الهامش أن هذا الخطاب ورد في كتاب " العرب عنصر السيادة في القرون الوسطي " وأورد المؤرخ التركي عبد الرحمن شرف ، في كتاب " التاريخ العام " أن هذا الخطاب ألحقت به هدية شمعدانان من الذهب الخالص طول كل منهما ذراعان مع 22 قطعة ذهبية من أواني المائدة !! " انظر كتاب الأزهر في عيده الألفي ص 189 " هذا أول خطاب ، أما الخطاب الثاني ، فقد أقيم عن ابن خلدون ملتقى في الجزائر ، وتكلم في هذا الملتقى علماء مصريون ومغاربة وغيرهم ، وتكلم المؤرخ المغربي عبد الهادي التازي عن ابن خلدون وقال : هناك مآخذ علي ابن خلدون ، هذه المآخذ تتلخص في أنه لم يهتم كثيراً بالمكاتبات التي كانت بين ملوك المغرب وملوك أوربا ، وذكر علي سبيل المثال العرض الذي تقدم به جوهان ملك إنجلترا إلي الخليفة الناصر بواسطة السفارة التي بعثت به إلي البلاط الموحدي سنة 608 هـ - 1212 م ولما يمضي علي بناء جامع حسان أكثر من بضع سنوات . ولقد جاءت البعثة تطلب المساعدة العسكرية من الموحدين ضد النبلاء ورجال الدين وسائر الأهالي ، وكدليل علي الامتنان عرض الملك ص_083(1/66)
جوهان كلك إنجلترا علي الخليفة الناصر أن يعتنق الإسلام هو وسائر أفراد رعيته . يقول الدكتور عبد الهادي التازى : مثل هذه اللقطة في التاريخ الدولي للمغرب كان عليه ألا يغفلها أو يهملها ، سفارة في مثل هذه الأهمية ، رددتها المصادر الإنجليزية بإسهاب وذكرت أفرادها واحداً واحداً ، كان ينبغي أن يقف عندها . ما يعنيني هنا هو ما وصلت إليه الحضارة الإسلامية خلال ألف سنة ، وكنت أود لو أن الذين يشتغلون بالثقافة المعاصرة بدلاً من أن يصيبوا أجيالنا الحاضرة بالقنوط أو اليأس أو بعقد النقص أن يعرفونا حضارتنا القديمة وأثرها علي المعرفة العالمية بدلاً من أن نطعن في ديننا وفي حضارتنا وفي تاريخنا ، ونظهر في العالم كأننا ما عشنا ولا كنا ولا بقينا إلا ونحن علي هامش الدنيا ، وهذا كذب كبير وافتراء وتضليل . وقد ذكرت – أنا – في كتابي ( سر تأخر العرب والمسلمين ) : أنه من قرنين فقط أرسل جورج واشنطن إلي " الداي حسن " الذي بني مسجد " كينشاوة " الذي حولته فرنسا إلي كنيسة عندما احتلت الجزائر ثم عاد إلي مسجد بعد حرب التحرير ، هذا الداي حسن المسلم أرسل إليه واشنطن رئيس الولايات المتحدة يتحدث إليه بتلطف كي يسمح أو يؤمن الطرق البحرية للسفن الأمريكية ، وكان الأسطول الجزائري سيد هذه المناطق كلها ، هذا شيء . شيء آخر أن الداي حسن انتصر علي أسبانيا عسكرياً وأرغمها علي أن ترسل وفداً إلي الأستانة كي يلقي الخليفة حاملاً معه جرتين من الماء ، وذلك لأن القائد الأسباني كان قد هزم المسلمين قبل ذلك وحمل ص_084(1/67)
معه جرتين من ماء مدينه وهران إلي ملك أسبانيا علي أن الصليبيين سوف يرثون القطر كله !! فلما انهزموا ألزمهم الداى حسن بحمل جرتين أخريين وتقديمهما إلي خليفة المسلمين رمزاً لانهزامهم أمام المسلمين!! المهم أن الأمة الإسلامية في كبوة الآن ـ يقيناً في كبوة ـ لكن ليس هذا من الإسلام ، لقد كنا سادة العالم دهراً ، والكبوة التي عرضت لنا كبوة عارضة ، ويمكن أن نعود إلي أمجادنا وأكثر منها ، وهذا شيء طبيعي ، ويقع هذا عندما ندرس أسباب هزائمنا . وأسباب هزائمنا ـ كما أراها علي عجل ـ قسمان : أسباب أصلية : يعني مواريث فاسدة عرضت لنا من الناحية السياسية والثقافية والاجتماعية والفلسفية ، نعم ، لنا أغلاط ، هذه الأغلاط يجب أن تدرس ، والذين يدرسونها ليسوا رجال الشوارع ، وإنما يدرسها علماء متخصصون يعرفون لماذا وقعت الأمة فريسة هذه الأخطاء والخطايا والمبتدعات والخرافات المثيرة التي التصقت بنا من كل ناحية ، ولا أتحدث الآن عن هذا لأنه موضوع طويل ، وأوضحناه في كتابنا " سر تأخر العرب والمسلمين " وهناك أسباب خارجية أثرت تأثيراً مباشراُ في كبوة المسلمين ، فالمسلمون الآن يعانون من رافدين ، كلاهما رافد شر ، موارثنا البالية التي آلت إلينا من أيام الدخن والغش في ثقافتنا . والاستعمار الذي هجم علينا بأحقاده وأطماعه ونال منا ، هذا الاستعمار كما قال الشيخ جمال الدين الأفغاني : ما زال يحمل بين أضلاعه قلب بطرس الناسك ، حاقد علي الإسلام ، حاقد علي الأمة ، يريد أن يحقر ديننا ، واشتغل بهذا التحقيق عدد كبير ص_085(1/68)
من المستشرقين والمبشرين وعدد كبير ممن تأثر بهم وأمسك بأذيالهم وعاش لا يدري إلا ما يلقنه من خرفاتهم وأهوائهم . هذا النوع من المثقفين الدخلاء على علمنا وعلى ديننا وتاريخنا ، هؤلاء عرضونا لبلاء هائل ، وأفقدوا الأمة ثقتها في دينها وفي نفسها وفي تاريخها وفي حضارتها ، وهذا النوع من الناس أريد أن انظر في دخيلته بإنصاف أو بشيء من العدالة التي تعلمتها من لإسلام . هناك ناس معذورون ، لأنه كما قال الشاعر : ومن دعا الناس إلى ذمة ذموه بالحق وبالباطل وأنا دعوت الناس إلي ذمي ، خرافات كثيرة ما أحسنت إبعادها عني ولا ردها عن ديني ولا تبرئة نفسي منه ، فإذا أساء البعض الظن بي فهو معذور . ومن هنا ، فأنا أنظر إلي العلمانيين علي أنهم قسمين ، قسم له مقترحات حسنه في الإصلاح ، لكنه لا يعرف الشريعة الإسلامية ولا حقيقة الدين الذي ينتمي إليه ، فهو يظن أن ما يقترحه ليس من الإسلام ، أو بعيد عن الإسلام ، أو أن الإسلام قد يضيق به ، ولو كان واسع الأفق ، واسع الإطلاع لأدرك أن ما يقترحه هو من الإسلام ، لكنه ما فكر ، أو غلبه التيار الثقافي الاستعماري ، فهو مع هذا التيار يقتبس أشياء غير صحيحة ، ولو أنه أنصف لاصطلح مع دينه ورجا الخير في كنفه . هذا نوع من العلمانيين ، وهناك نوع آخر لا يدري – فعلاً – أي شيء عن الإسلام ، وقد تقابلت مع أحد هؤلاء –وهو من الخليج - ص_086(1/69)
فقال لي : هل يجوز أن تكون رئاسة الحاكم ست سنوات أو عشر سنوات ؟ فقلت له : وما المانع من هذا ؟ فوجده لا يعرف لا مصلحه مرسله ، ولا يدري شيئاً عن أصول الفقه ، ولم يدرس التاريخ ،مسكين ، له عقليه قبلية وبعض دراسات فاسدة جعلته يتقوقع في بعض الأحكام التافهة ، فهو لا يعرف شيئاً .. وأيضاً هناك من الذين تبعوا الخواجات من لا يعرف الإسلام إلا علي هذا النحو . لكن هناك صنفاً آخر ، وجدته جريئاً علي الله ، كارهاً للإسلام ، ضائقاً بالكتاب والسنة : (ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم * فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم * ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم) . هذا النوع من الناس لابد أن أقف منه موقفاً فيه يقظة ، فيه صرامة ، لماذا ؟ لأن الأمة الإسلامية الآن في فترة عصيبة من تاريخها ، طمع فيها من لا يدفع عن نفسه ، تربص بها كل عدو كان يخافها قديماً ، فإذا تركت ديني تعبث به الأهوال ، وتركنا أمتنا تلعب بها عصابات لا تعرف شيئاً من دين الله ولا دنيا الناس فإنني أكون خائناً لهذا الدين ، وخائناً لهذه الأمة . ولذلك فنحن نرفض رفضاً باتاً كل من يقف بعيداً ينبح قافلة الإسلام ، ويؤذي الله ورسوله ، ويتحدث بصفاقة غريبة عن الحكم الإسلامي وعن رجعيته وعن تأخره إلي آخر هذا الموضوع ، نحن في فترة من فترات الدفاع عن النفس، وعن الكيان . بقي شيء أخير ، وهو أنني أنظر بشيء من الأسى وأقول : يعني العلمانية لم تجد ( هفية ) لها إلا الإسلام ؟ !! كلنا يعرف أن ألمانيا ص_087(1/70)
مثلاً ـ يحكمها الحزب الديمقراطي المسيحي ، إيطاليا يحكمها الحزب الديمقراطي المسيحي ، فرنسا يحكمها اليمينيون وهم الآن يطاردون الاشتراكيين ، المحافظون في إنجلترا حكمهم معروف ، بل إن ملكة إنجلترا هي رئيسة الكنيسة البرتستانتينيية . فهناك إذا قلت : الديمقراطي المسيحي فلا حرج , لكن لو قلت : الديمقراطي الإسلامي – هنا لقالوا لك : اخرس !! مع أنهم يتسولون العلمانية من ألمانيا و إيطاليا , و هم هناك يقولون : ديمقراطية مسيحية , و هنا . لا .. لماذا ؟ أليس عندكم إلا الإسلام لتحاربوه وتحاولوا محوه ؟ شيء آخر .. إسرائيل ، من هو ؟ فيلسوف ؟ أديب ؟ لا .. إنه نبي من الأنبياء ، فإذا كان الإسرائيليون جعلوا نبياً من الأنبياء عنوان دولتهم ، وأقاموا الدولة الدينية فأنا أريد من العلمانيين أن يتعلموا من إسرائيل ، فاليهود الذين يحكمون فلسطين باسم نبي من الأنبياء احتقروا العلمانية ورفضوا ألا ينضووا إلا تحت مظلة الدين .. مع أنهم يغتصبون الأرض ويقتلون أصحابها !! كذلك الرجل المسمي " بوتا " في جنوب أفريقيا يقول أنا مسيحي ، ويعتبر الزنوج إرهابيين ، وهو قاتلهم ، فأصبحنا نحن المسلمين وزنوج أفريقيا المحكوم علينا بالبعد عن الدين وعن الفكر !! أريد أن أفهم هل أصبح الإسلام ( هفية ) العالم كله ؟ ! إنني أوصي الأجيال الناشئة بأن تعلن كل من يحقر لها دينها ، وأن تتشبث بهذا الدين ، وأن تعتمد علي الله وتمضي في الطريق وستنتصر يوماً إن شاء الله . والله ولي التوفيق والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته . ص_089
الصهيونية عقيدة دينية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علي أشرف المرسلين سيدنا محمد وآله .
أما بعد ..
فهل المسلمون الآن أضعف من اليهود يوم حملوا حملتهم علينا ؟ .(1/71)
لقد بدأت معركتهم ضدنا دعاية وتخطيطاً في السنتين الأخيرتين من القرن التاسع عشر في مؤتمر بال في سويسرا ، وبدأت عملياً عندما صدر وعد بلفور في نوفمبر 1917 .
فهل كان اليهود يومئذ أقوي من المسلمين الآن ؟
الجواب : لا .. كان اليهود يومئذ أضعف من المسلمين الآن ، لأن اليهود لم تكن لهم دولة لا في الشرق ولا في الغرب ، ولم تكن دول العالم تنظر إليهم إلا علي أنهم جنس جر علي نفسه الخصومات بسبب العزلة التي فرضها علي نفسه والمسلك الاقتصادي والاجتماعي الذي آثره علي امتداد التاريخ .
ص_090(1/72)
إلي جانب الأحقاد الدينية التي كانوا يبؤون بها لأنهم عند نصارى العالم مسئولون عن قتل عيسي بن مريم ، مسئولون أمام النصارى عن الوشاية به وحمل الدولة الرومانية علي قتله كما يقولون . فكان اليهود شعباً ممزعاً وكانت آماله تشبه أحلام السكارى لا يصدقها أحد ، ومع ذلك استطاعوا أن يصلوا إلي ما وصلوا إليه الآن . وما وصلوا إليه الآن خطير ، فقد حازوا فلسطين إلا بقايا لا وزن لها ، واستطاعوا أن يضموا إلي أرض فلسطين أرض الجولان وأرض سيناء ، وأنكي من هذا وأقسى أنهم في موقف المتحدي الذي يملي شروطه ، الجريء الذي ينظر إلي عدوه شزراً ، صاحب الحق ـ بحكم الأمر الواقع ـ الذي إلي أصحاب الحقوق الأصلاء وكأنهم أدعياء أو متسولون يطلبون ما لا يصح لهم ولا ينبغي منهم !! ما الذي وصل بالأمر في هذا الصراع الغريب إلي هذه النهاية المحزنة ؟ . أريد أن أكون واقعياً في استعراضي للأمور لأنني أكره الكذب والصورية في تناول القضايا . هؤلاء الأعداء كانوا من ستين سنة صفراً في ميزان القوى العالمية فما الذي جعلهم الآن يستطيعوا أن يقولوا للمؤتمرات العالمية : قولي ما تقولين فليس لما تقولين وزن ؟ السبب في نفس الطريقة التي مشوا بها ، فهؤلاء عرفوا دور العقيدة في تكوين المناهضات فقرروا أن يجعلوا هذه العقيدة طاقة يتحملون بها المتاعب ويستهينون في سبيلها بالتضحيات الجسيمة . حول اليهود العقيدة إلي طاقة تجعل الغني يعطي بالملايين ، فأحد اليهود الأغنياء عندما بدأت الصهيونية تتحرك نزل عن خمسة ملايين من ص_091(1/73)
الجنيهات من ماله ، وبدافع العقيدة يذهب جامعوا التبرعات إلي يهود فرنسا وإنجلترا وأمريكا وغيرها ويأخذون ومئات الملايين من الدولارات . هذا بالنسبة إلي بذل المال ، أما بذل الدم ، فإن اليهود تركوا الجبن التقليدي الذي عرفوا به وبدأوا بدافع العقائد يصنعون العجائب . ينزل الواحد منهم عن شهواته في معيشة المدينة حيث الأنوار والليل البهيج والراحة والترف ويجيء إلي صحراء فلسطين ، يجيء إلي بلاد أقرب إلي البداوة ثم يبدأ العمل لبناء الوطن القومي لليهود !! عندما كانت سلطات الانتداب البريطاني تجيء باليهود أعداداً كان اليهود يطلبون إلي النساء الحبالى أن يذهبن على أن المرأة شخص واحد ثم بعد شهور ستكون شخصين !! العقيدة جعلتهم يحرقون في أفران هتلر ، ومع ذلك فإن الآلام لم تجعلهم ينكصون إلي الخلف بل حملتهم على الاندفاع إلى الأمام . وأحب ـ هنا ـ أن أقرر أن الصهيونية عقيدة دينية وأن كلمة اليهودية والصهيونية كلمتان مترادفتان . ومن شك في هذا فليرجع إلي العهد القديم كي يقرأ بعينيه هذه الحقائق . فالصهيونية دعوة دينية مائة في المائة ، وما لحق بها من أطماع استعمارية ، أو ما التصق بها من أهواء سياسية إنما هو شيء كاللفافات التي توضع على السلعة ، أما السلعة الحقيقة فتدين محض . ما تقولون ـ أيها الأخوة ـ في إنسان يجيء فيقول : إن مكانة مكة في الدين الإسلامي مكانة سياسية أو اقتصادية وارتباطها بالعقيدة أو العبادة ارتباط شكلي ؟ ماذا تقولون في إنسان يزعم هذا الزعم ؟ لا شك سيقال : إنه كذاب ، لأن مكة قبلة المسلمين في صلواتهم . ما رأيكم في أن فلسطين بالنسبة لليهودية أهم من مكة بالنسبة للمسلمين ؟ !! ص_092(1/74)
لقد استمعنا طويلاً إلي ناس ـ إما جهلاء أو علماء ـ يقولون : إن الصهيونية نزعة سياسية وليست عقيدة دينية !! ، وأنا بلوت هؤلاء ورأيتهم وعاصرت قادة الاتحاد الاشتراكي سنة 1967 ، 1968 ، 1969 وهم يشيعون هذه الأكاذيب في الأمة ، ويسممون الفكر العربي والإسلامي ، ويشيعون أكبر خدعة في التاريخ العالمي وهي أن الصهيونية شيء واليهودية شيء آخر ؟؟ . قلت لهؤلاء : أولو جئت لكم من الإصحاحات والأسفار والصحائف المقدسة عند القوم ما يجعل العودة لفلسطين ديناً ، وما يجعل التشبث بها عقيدة ، وما يجعل القتال من أجلها عبادة وجهاداً وتضحية ؟ !! يقولون : أهذا في العهد القديم ؟ نعم في العهد القديم . وبالأمس كنت في " المعادي " وجاءني بعض الناس بالعهد القديم وقرأت منه صفحات من سفر حزقيال وسطوراً من سفر أشعيا ، واكتفيت بهذا ، ولم أقرأ ما ورد في هذا الموضوع في أسفار ميخا وزكريا وغيرهما . لقد بلغ من التوسع في المكانة الدينية لفلسطين أن حزقيال يجيء بقصبة ويقول لليهود : يبني الهيكل علي النحو الآتي : ثلاث قصبات وتبني بناء ، سبع قصبات وتبني مذبحاً !! وهكذا في صفحتين وضع التصميم الهندسي للهيكل ، وبداهة يقوم الهيكل علي أنقاض المسجد الأقصى . ص_093(1/75)
وبلغ من الترف أن سفر أشعياء قال : لبنان ستصدر اللبان لنساء إسرائيل عندما تقام ، والعالم كله سيرسل ذهبه وفضته لمملكة يهوه التي يحكم بنو إسرائيل العالم منها . وقال لهم : إذا كانت الأم تترك رضيعها فإن الرب لا يترك إسرائيل ، غضب عليكم قليلاً لكنه سيعيدكم إليه إلي أرض إسرائيل !! هذا كلام يتلى علي أنه وحي ،هذه عقيدة دينيه تثير النشوة في العروق ، تثير الحماس في الأعصاب ، تثير التضحية باسم الرب . وكتب " وايزمن " في مذكراته السياسية يقول : إن اللورد بلفور ولويد جورج وغيرهم من قادة إنجلترا أعطوني الوعد بمشاعر دينية !! فالقول بأن إسرائيل دولة علمانية أو دولة إمبريالية قول ساقط والحقيقة الكبرى أن إسرائيل دولة دينية ، والأساس عندها أن اليهودية وحدها هي الدين ، وأن اليهود هم شعب الله المختار وأحق الناس بحكم العالم . وعلى هذا أخذ الدين في البناء اليهودي المعنوي والمادي مجالات شتى ، فهناك حاخامات مسئوله عن تربية الأطفال ، كما أن الجيش الإسرائيلي يقوم على جعل رجال الدين جزءا من الأسلحة ، فكما أن هناك جنرالات للدفاع الجوى أو المدفعية فهناك جنرالات حاخامات. فالتنظيم العسكري وضع للدين سلاحا ، بل الدين هو السلاح الأول ، والذي يصدر الأمر بالقتال الحاخام الأكبر بوصف أن الدولة دينية والحرب دينية !! هذا المعني وهذا البناء وهذا الأساس وجد في الصف المقابل لي ، وفي الجانب المناوئ لي ، هذا المعني وجد عند اليهود . ص_094(1/76)
أما الصف العربي فعن طريق العمالة أو عن طريق الجهالة قرر سحب الإسلام بعيداً عن القضية !! المجتمع العربي من خمسين سنة والجهل فيه يتقدم والعلم يتأخر ، وكما قلت بالأمس في جامع عمرو بن العاص : إذا مشي " شكوكو " في الشارع احتفي الجمهور به !! وإذا مشي أستاذ الهندسة الحاصل علي جائزة الدولة التقديرية أنكره الناس !! من يعرفه ؟ لا أحد يعرفه !! . في سوريا ـ أخيراً ـ وقعت اشتباكات وكان السبب أن حزب البعث قدم دستوراً لم يجعل الإسلام فيه ديناً للدولة!! وكان تعليق الكتاب عندنا أن نزعات رجعية تحركت باسم الدستور التقدمي !! هل التقدم أن تطلق الدين وأن تبتعد عنه ؟ اليهود لم يطلقوا الدين ، و " جولدا مائير " قالت سنة 1967 م : لقد نصرنا السبت فنصرنا السبت !! تقصد أن أجدادهم لم يحترموا شعائر دينهم ، وكما قال الله : ( واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت) . فالعدوان في السبت جريمة ، وقد قرروا أن لا يعتدوا في السبت ، دينهم يقول : العمل يوم السبت لا يجوز وإيقاد النار يوم السبت لا يجوز ، ولذلك لما ذهب " بن غوريون " ومعه رئيس الدولة لتشيع جنازة " تشرشل " وافق ذلك يوم السبت ، وكانت المسافة بين البيت والمقبرة الآلاف الأمتار ، فقرر المشيعون ركوب السيارات . أما " بن غوريون " ورئيس الدولة فقررا المشي علي الأقدام ، لماذا ؟ لأن إيقاد النار لا يجوز ، وتحريك السيارة إيقاد للنار !! ص_095(1/77)
هكذا يحترمون دينهم هذه المسافة وهم بين السبعين والثمانين من العمر !! لو أن إقامة شعيرة دينية تكلف بعض الزعماء العرب أن يمشوا مسافة نصف الكيلو فلن تقام هذه الشعيرة !! لما انتصر اليهود علينا نشرت مجلة " الوعي الإسلامي " تصريحاً لـ "بن غوريون " يقول : إن أنبيائنا قالوا لنا : لابد من مضاعفة الاستعداد لأننا قلة وأعدائنا كثرة ويجب أن نصعد إلي مستواهم العددى في مضاعفة إنتاجنا حتى يصل إلي إنتاجهم !! الرجل يقول : أنبياؤنا قالوا لنا ، بينما كثير من قادة العرب لا تجرى علي لسانه كلمة قال النبى كذا !! لماذا ؟ لأنه ليس من التقدمية أن يقول : قال النبى كذا !! التقدمية أن يقول : قال فلان كذا ، أما أن يقول : قال النبى، أو قال أبو هريرة أو قال ابن حزم فهذه رجعية !! لابد من إعادة العقيدة إلي المقاتل العربي ، ولو أن الإسلام دخل المعركة من أول قتال دار بيننا في سنة 1948 م ما وصلت إسرائيل إلي امتدادها الحالي أبداً . في معركة الجزائر مع الفرنسيين كان الثوار الجزائريون يسمون صحيفتهم الجهاد ، وكان قائد الجهاد الشيخ عبد الحميد بن باديس الذي قال شعب الجزائر مسلم وإلي العروبة ينتسب نشأ عن العقيدة اليهودية الوحدة ، فإن اليهود في العالم اتفقوا جميعاً ، اليهودى الروسى في نظام شيوعى اتفق مع اليهودى الأمريكى في نظام رأسمالي مع اليهودى الفرنسى مع اليهودى اليمني مع اليهودى المصرى اتفقوا جميعاً علي أن يقيموا إسرائيل بالدم والمال والعرق والجهد . ص_096(1/78)
لقد رويت لزملائكم في مكان آخر قصة مدير تعليم من القاهرة وانتدب في أواخر الثلاثينات وأوائل الأربعينات إلي فلسطين مسئولاً عن التعليم هناك ، قال لي : كنت حريصاً علي ألا أركب سيارة إلا إذا كانت عربية ، فخدعت يوماً فركبت سيارة ، ومضت بي في الطريق من خان يونس إلي بيت المقدس ونظرت إلي السائق في الطريق وبدأت أتأمله وشعرت أني خدعت لكني سكت ، ونظرت إليه بكبرياء . وكأن السائق أحس بأني أنظر إليه بكبرياء فأدار بصره إليّ وقال لي : من أنت ؟ فقلت له : أنا رجل عربي ، فقال : يبدو أنك مثقف ، قلت : نعم ، أنا حاصل علي إجازة كذا من سويسرا ، فلعبت أصابعه في الدرج الذي أمامه وأخرج نفس الإجازة العلمية وأراني إياها . فقلت له : أنت حاصل علي هذه الإجازة ؟ قال : نعم !! قلت : فما الذي جعلك تشتغل سائق سيارة ؟ قال : أنا أشتغل سباكاً أو نجاراً أو حمالاً أو سائقاً من أجل إقامة إسرائيل !! مدير التعليم الذي روى لي هذا قال : كان هذا حديث يرن في أذني وله صدى في نفسي مشوب بالأسى لأني وجدت بعض أبناء العرب الذين كانوا يتعلمون كانوا يرفضون أن يعملوا إلا رؤساء !! يريد الواحد منهم أن يحصل علي شهادة عالية أو متوسطة يجلس على مكتب يصدر أوامره ، أما أن يتعرض للغبار ومتاعب فهذا ما لا يخطر بباله !! لقد جمعت الوحدة الدينية صفوف اليهود و جعلتهم يتحملون المتاعب , أما العرب فقد أبعدوا الدين ، و إبعاد الدين جعل الوحدة العربية مظهرا لا جوهرا . شىء آخر : فى كل جنس توجد عناصر بشريه نفسية ، فإذا أراد الله ص_097(1/79)
خيراً بأمه ووفقها إلى أن تجعل العناصر النفيسة هي التي تقودها ، وإذا أراد الله شراً بأمة جعل عناصرها التافهة هي التي تقودها !! ويقول النبي صلي الله عليه وسلم : ( من استعمل رجلاً من عصابة وفيهم من هو أرضي لله منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين ) . القيادة تكون في الأيدي المدربة اللبقة ، كان أعدائنا ينتفعون بالقيادات المدربة الماهرة ، بينما كنا نحن نرمي بالكفايات .. رجل كعبد المنعم رياض سئل ـ فيما أعلم ـ عن إسرائيل فقال : حاملة طيران ثابتة ، فكان هذا الجواب سبباً في الغضب عليه !! لماذا ؟ هل مهمتي أن أقول كلاماً يرضيك ؟ هذا بحث علمي ، لكن جنون العظمة يريد شيئاً آخر !! الأمة اليهودية بحثت عن الرجال فيها وأسلمتهم القيادة ، رجل كموسى ديان حمل أعباء المعركة شرقاً وغرباً ، ومشى مع الجنرال الإنجليزى في حرب " العلمين " ومشى إلي تونس والجزائر وعاد مرة أخرى وذهب إلي كوريا وتعلم الحرب الحديثة ، يعني الرجل تخرج في الميادين ، ومع هذا فلو دخل الكشف الطبي عندنا لسقط !! العالم العربي عالم غريب الأطوار ، أنا لم أر " السلال " لكن يوم إن أخذ رتبة مشير أو مارشال استغربت وقلت : " إيزنهاور " كسب الحرب العالمية الثانية ومات وهو جنرال !! و " ديجول " مات وهو جنرال !! لو جئت بكاتب عمومى وجعلته رئيس محكمة النقض فماذا تكون النتيجة ؟ تكون خراباً ودماراً !! ص_098(1/80)
ولذلك يوم أن دخلنا حرب سنة 1967 م لم تكن لدينا خطط قادة ، كانت الخطط خطط عيال ، ونكبنا في سنة 1967م .. إننا لم نحارب و إنما انتحرنا!! إنني أقول و بكل قوة : عزل العقيدة عن المعركة جريمة ، محاولة تجميع العرب بعيدا عن الطابع الديني مهزلة ، فالأمة عندها تتعرض للمخاطر و الأهوال لا يعزيها عندما ترى الهول ، و لا يشجعها عندما تكلف باقتحام الصعاب إلا الإيمان بالله . لقد فعل أعداؤنا هذا ،استعانوا بالتجميع ، استعانوا بالكفايات ، فلم نبعد هذا ؟إنني أشعر بأن الحرب قد اقتربت ، وستفرض علينا طوعاً أو كرهاً . و إذا عدنا إلى ديننا بهذا الوصف و بهذا التفصيل فإن النصر سيكون لنا ، إذا عدنا في الصباح فإن النصر سيكون في المساء أو صبيحة الغد إن تأخر . (ألا إن نصر الله قريب ) . وصلي الله علي سيدنا محمد وآله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته . ص_099
فلسطين إسلامية
أيها الأخوة : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..
قضية فلسطين من بدء التاريخ إلي يوم الناس هذا قضية دينية .. قد تسمعوا كلاماً أو بغاما ً
لبعض الناس يصورها قضية عنصرية أو قضية إمبريالية أو أي عنوان من هذه العناوين التي يتيه الناس في فهمها وينسوا الحقيقة التي لا تنفصل أبداً عن هذه القضية وهي أنها قضية دينية .
وأنا أؤكد أن حل مشكلة فلسطين لا يمكن أن يتم مع تجاهل التاريخ الذي مضي ، ومع معرفة طبيعة القضية وما حل بها من هبوط أحياناً أو صعود أحياناً أخرى . إذا لم نعرف طبيعة القضية في مراحل التاريخ فلن نحل مشكلتها ـ المعاصرة ـ أبداً .
وأنا أستميحكم العذر في أن أعود بكم إلي تاريخ مضى ، ولكن هذا التاريخ سيكون في ظل القرآن حيناً ، وفي ظل تاريخنا الإسلامي حيناً آخر .
ص_100(1/81)
لقد كان سكان فلسطين من أربعين قرناً ـ تقريباًـ عرباً يسمون الكنعانيين ـ وكنعان وقحطان وعدنان أسماء عربية لقبائل انتشرت في الجزيرة وفوقها وتحتها . المهم أن هذه القبائل في تاريخها المبكر استعصت علي أمر الله،وأساءت إلي نفسها ، ولقي الأنبياء العرب هزائم متتابعة من قومهم .. انهزم هود في عاد ،وانهزم صالح في ثمود،وانهزم شعيب في مدين ،وانهزم لوط في قري المؤتفكة . فكانت النتيجة أن دمر الله علي هذه القبائل كلها وجعلها خبراً كان وكذلك أصاب الكنعانيين في فلسطين ، فعندما تجبروا في أرضهم ، ونسوا ربهم سلط عليهم من كان أحق منهم يومئذ بأن يسكن الأرض ، وهو ما عبر عنه القرآن الكريم علي لسان موسي عليه السلام : (يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين * قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون) لقد كان اليهود جبناء علي عهد موسي وأقل وأذل من أن يدخلوا علي العرب أرضهم ، فقد كانوا جبابرة ، علي نحو ما حكي القرآن عن عاد التي قالت : (من أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون) ومات موسي ، ومات هارون ، وشاء الله أن يدخل يوشع ـ فتي موسي ـ الأرض المقدسة وأن يدخل اليهود معه في هذه الأرض ..فهل كان اليهود بعد ما سكنوا الأرض عباداً صالحين لله أم سرت إليهم عدوى المجرمين من قبل وتحولوا أيضاً إلي جبابرة ؟ ص_101(1/82)
يقول التاريخ : سرعان ما تحولوا إلي جبابرة ، أكثروا في الأرض الفساد ، وبدا منهم ما لا يليق ، وأغضبوا رب العالمين لقد كان سيدنا موسى عليه السلام يشعر بأن قومه فيهم عوج غالب وأنهم ـ كما قال عيسى فيهم ـ قوم غلاظ الرقبة وعندما قالوا لموسى وهم في مصر : (أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون ) وفي الكلمة رنين اتهام غامض ، كأن موسى يشعر بأن قومه عندما يلون الأمر سيكونون فراعنة ، سيكونون أخبث من غيرهم ولقد كان المسلك المستحب لبني إسرائيل تحقير هذه الأجناس والنيل منها بأسلوب غريب ،فقد وصفوا الكنعانيين العرب بأنهم كلاب، وكان عيسي - عليه السلام - مشهورا بأنه يشفي المرضي، وجاءته امرأة كنعانية - كما يقول إنجيل متى - وقالت له : يا سيد يا ابن داود، بنتي مريضة جداً ، وطلبت منه شفاءها ،فقال لها : اذهبي يا امرأة فإن طعام البنين لا يرمي للكلاب يعني بالبنين : بني إسرائيل ، وبالكلاب : الكنعانيين ومع أن عيسي عليه السلام إنسان نبيل ، وأستبعد كل البعد أن تجري علي لسانه هذه الكلمة إلا أن هذا ما ورد في الأناجيل ، والويل للمغلوب كما يقول الأوربيون . لقد تحول الشعب الذي كان جباراً إلي شعب يوصف بأنه كلاب .ونعود إلي الرواية السابقة تقول المرأة ـ وهي حريصة علي شفاء ابنتها ـ ص_102(1/83)
والكلاب أيضاً تأكل تحت أقدام السادة !! فيقول لها : عظيم إيمانك يا امرأة ,ويشفي لها ابنتها !! أياً ما كان الأمر فإن اليهود بقوا ما بقوا في فلسطين ثم ازداد فسادهم , وازداد ظلمهم ، وكثر بلاؤهم ، فشاء الله سبحانه وتعالي أن يسلط عليهم من يجتث ملكهم ن ويدمر هيكلهم ، ويسوقهم أمامهم أسرى وهو بُخْتَنصَّر !! والقرآن عندما يحكي لا يذكر التواريخ والأمكنة , وإنما يعنيه العبرة ، والعبرة التي ذكرت في صدر سورة الإسراء أن الأمم تحكمها سُنَّة كونية واحدة هي : أنها إذا اختل أمرها احتلها الغرباء عليها !! الاختلال الداخلي يسبب الاستعمار الخارجي !! وقد قلت هذا في أول كتاب لي : الحاكم الذي يُذِل شعبه يوطئ ظهورهم ليكونوا قنطرة يعبر عليها الإذلال الخارجي !! وسماه "مالك ابن نبي " قابلية الأمم للاستعمار !! فإن للاستعمار قابلية تصنعها ظروف معينة , لخصت في كلمة سريعة في قوله تعالي : ( وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا * فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا ) وفعلاً احتلت الأرض المقدسة وسيق بنو إسرائيل إلي السجن . ص_103(1/84)
البابلي ، وضرب عليهم ذُل غريب ، ثم عفا الله عنهم ،ورجعوا إلي فلسطين مرة أخري فماذا صنعوا ؟ يقول القرآن الكريم : (لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون * وحسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا كثير منهم والله بصير بما يعملون) فكانت الإفسادة الثانية أن انساح الرومان في الأرض المقدسة ودمروا الهيكل مرة أخري وشتتوا اليهود ن بل الصحيح تاريخياً أنهم منعوا بقاءهم في فلسطين خصوصاً بعد أن اعتنق اليهود النصرانية . ونمضي مع التاريخ قليلاً لننظر كيف تمضي الأيام ..أصبح بيت المقدس في أيدي الرومان ، ولكن جاءت البعثة المحمدية تشير إلي أمر لابد أن يعرف ، وهو أن بعثة محمد صلي الله عليه وسلم تغيير حاسم للقيادة الروحية للأرض ،كانت هذه القيادة لبني إسرائيل قديماً ،لكن الرسول صلي الله عليه وسلم عندما جاء أُسري به إلي بيت المقدس ، لماذا ؟ إشعاراً بالنقلة التي حدثت في القيادة العالمية لوحي الله سبحانه وتعالي ، هذه القيادة جعلت الدين من نصيب العرب لا من نصيب العبريين ، فانتقل الوحي من أولاد إسرائيل إلي أولاد إسماعيل ، وانتقلت القيادة من بيت إلي بيت ،ومن عاصمة إلي عاصمة ، ومن حركة إلي حركة . شيء جديد ، لأنه لا يمكن أن يُؤمَّن اليهود علي التربية الإنسانية أبداً !! فاختير هذا العنصر الجديد حتى يكون الأمان للبشرية . والذين يقرءون سورة الإسراء ، ويعلمون أن السورة تسمي في كثير من المصاحف سورة بني إسرائيل ، ولا تذكر الإسراء إلا في آية وحيدة هل سألوا أنفسهم لماذا ؟. ص_104(1/85)
تقول السورة : (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير ) ثم ماذا ؟ ثم عودة إلي التاريخ الذي مضى , لقد جيء بك هنا لتُلْحِق هذا المسجد بالمسجدين الكبيرين في جزيرة العرب ، ولكى تصلى بالنبيين كلهم فأنت إمامهم وأنت خاتمهم وقد انتقل إرشاد السماء بعيدا عن هؤلاء القوم ، وأصبحت أنت وقومك المسئولين عن هذا . والسبب : أن القوم فسدوا ولم يصلحوا : (وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا ) لو كنا أهل تدبر فى القرآن لوقفنا طويلا أمام هذه الآيات ، ما هذه الوثبة من تاريخ الإسراء إلى تاريخ بنى إسرائيل ؟ إنما هذه الوثبة للمعنى الذى ذكرت . كان بيت المقدس فى أيدى الرومان ، أى فى أيدى الصليبيين ، وقد أكدنا ـ فيما كتبنا ـ أن الرومان عندما دخلوا النصرانية لم يدخلوها فعلا ، وهناك سؤال قاله علماء الملل والنحل عندنا : هل تنصر الرومان أم ترومت النصرانية ؟ والواقع أن النصرانية ترومت ولم يتنصر الرومان بل فرضوا على النصرانية تقاليدهم وعقائدهم وكثيرا من أخلاقهم . المهم خضع بيت المقدس للصليبية ثم جاء الفتح العمرى ـ أيام عمر بن الخطاب ـ وألفت النظر هنا إلى أننا سنتحدث فى ثلاثة مواقف فقط فى الفتح الإسلامى . دخل عمر إلى بيت المقدس ، هل دخل فى موكب فاتحين ؟ لا .. ما خطر بباله هذا ، بل الذى يقوله التاريخ ، ويضعه علماء السنة فى باب التواضع ، ولو أنصف الذين يفهرسون كتب السنة لجعلوا للقضية عنوانا آخر ، لكن الذى حدث هو هذا . ص_105(1/86)
المهم يحكي التاريخ : أن بركة اعترضت ناقة عمر رضي الله تعالى عنه فنزل الخليفة وحمل نعليه إلى عنقه ومضى بناقته يخوضان البركة فقال أبو عبيدة رضي الله تعالى عنه:ما يسرني أن أهل المدينة يستشرفونك على هذا النحو فقال له عمر: ويحك يا أبا عبيدة ..لو غيرك قالها لجعلته نكالا لأمة محمد لقد كنا ـ معشر العرب ـ أذل الناس حتى أعزنا الله بالإسلام ، فمهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله تعالى ودخل عمر إلى بيت المقدس ، وقابل الأساقفة ، وأمضى معهم المعاهدة ، ونودي بصلاة الظهر فخرج عمر ليصلي ، فقال له البطريق : صلِّ مكانك قال له : لا ..لو صليت في مكاني لوثب المسلمون على المكان من بعدى وقالوا : هنا صلى عمر وأخذوا منكم الكنيسة !! كأن عمر يريد أن يستبقي حرية التدين ، وأن يحفظ للمعاهدين حقهم في إقامة شعائرهم ، وأن يعطي مثلا للتاريخ الإسلامي من مسلك رجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم . وأتجاوز أربعة قرون سريعا لأنظر إلى فتح ثانٍ لبيت المقدس ، فإن المسلمين تبعوا اليهود في أخلاقهم وأحوالهم ، المهم في يوم ما وثبت الصليبية العالمية تجري في أفئدتها عواطف مشبوبة من حقد لا آخر له ،وذهبت مخترقة جنوب أوروبا وشمال آسيا ، وجاءت إلى فلسطين في أيام تشبه أيامنا هذه . قال التاريخ : لو أن المسلمين تحرك لهم جيش يحمل الحجارة ، لو أن النساء ألفت جيشاً لهزمت الصليبين لأنهم كانوا قد أكلوا الجيف من عجزهم وجوعهم ، ولكن قال التاريخ : سقط بيت المقدس ، ما تحركت ص_106(1/87)
القاهرة ، ما تحركت بغداد ، ما تحركت دمشق ، ما تحركت مكة ولا المدينة ، ما تحرك أحد !! هذه طبيعة العرب إذا نسوا الإسلام ، وذُبح سبعون ألف مسلم في بيت المقدس !! وكانت نكبة هائلة ، لا أقول : صنعها الصليبيون بنا , ولكن أقول صنعناها نحن بأنفسنا ! وجاء صلاح الدين الأيوبي ,والناس تتصور أن صلاح الدين الأيوبي كان في نزهة عندما حرر بيت المقدس !! جاء صلاح الدين , فماذا صنع ؟ طلب من العلماء أن يعلموا الجماهير العقائد الدينية ، وأن بينهم الأخلاق ، وأن يبتعدوا عن البدع والمخالفات ، وكان الفاطميون قد نشروا بدعاً كثيرة في الأرض الإسلامية. كان صلاح الدين لا ينتهي له سعى إلى الصلوات ، كان مدمناً للجماعة في المسجد إلا في الثلاثة أيام الأخيرة من حياته والتي مرض فيها مرض الموت !! وكان مدمناً للجهاد في سبيل الله !! وكان عادلاً اشتكت له امرأة من ابن أخيه ـ وكان يحب أقاربه ـ فنصر المرأة وأهان ابن أخيه !! وكان رجلاً معروفاً بأنه يحمل هموم المسلمين ، ويبذل جهوده كلها لاستنقاذ الأرض التي لوَّثها الصليبيون بأقدامهم . وفي معركة حطين وقف علي فرسه يصدر أوامره ويتابع المعركة .. يقول ابنه عن المعركة : رأيت فرسان المسلمين تتساقط عند أقدام أبي ، ويوشك الصليبيون علي أن يُنزلوا بنا هزيمة ماحقة ، فيصرخ أبي يقول : كذب الشيطان !! فيرجع المسلمون مرة أخرى وأقول : انتصرنا ، فيقول لي : اسكت ، ما ننتصر حتى تسقط هذه الراية ، وتُطوى تلك الخيمة . ص_107(1/88)
وما كاد ينتهى حتى كانت خيمة قائد الصليبييين قد انفضت والراية قد سقطت ، واجتاح جيش التوحيد الميدان كله !! يقول ابن صلاح الدين : ورأيت أبى يهوى من فرسه ساجدا لله على الأرض !! الرجل يشكر الله ، طبعا الرجل كان مؤمنا صنع هذا لله ، ولم يكن ينتظر أن يرجع إلى القاهرة ليقال له : بالروح بالدم نفديك يا صلاح !! أبدا ، الرجل كان يعمل لله ، ويريد أن يقول : بالروح بالدم أفديك يا دين الله !! هذا هو الرجل ، وهذا هو الإسلام ، وما انتصر صلاح الدين إلا بهذا ، وما ننتصر إلا بهذا . ومضت قرون وقرون ثم سقط بيت المقدس مرة أخرى فى حرب صليبية جديدة ، قال مارشال "اللنبى" الانكليزى وهو يدخل بيت المقدس : الآن انتهت الحروب الصليبية !! وقال جنرال "جيرو " الفرنسى وهو يقف أمام قبر صلاح الدين فى دمشق : ها نحن قد عدنا يا صلاح الدين!! والقصة كما قلت : قصة تاريخ : كان العرب هنا قديما ثم طردوا ، لماذا ؟ لأنهم نسوا الله ، ودخلوا فلسطين بالإسلام ، ثم لما خانوا الإسلام أخذت منهم فلسطين ، ثم تابوا إلى الله ، وجاء رجل كردى ـ صلاح الدين ـ واستطاع بالإسلام أن يستنقذ فلسطين بالإسلام . وأحب ـ هنا ـ أن أشير إلى طبيعة الشعب المصرى ، الشعب المصرى له طبائع فيها تناقضات ، إذا فجر فيهم ذو السلطة قال : (أنا ربكم الأعلى) وإذا آمن أحد منهم كان إيمانه فى القمة ، فسحرة فرعون كانوا كفرة فجرة ، عاشوا طلاب دنيا ، فلما شرح الله بالإيمان صدورهم قالوا لفرعون بعد أن هددهم : (قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا * إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى) ص_108(1/89)
هذه هى طبيعة الشعب المصرى ، أنكر ذاته ، وسلم مقاليد الحكم للمماليك لأنهم مؤمنون ، ولم يفكر الشعب فى عنصرية ، ولم يسع إليها . وهل المماليك خانوا هذا الشعب ؟ لا والله فـ (قطز ) المملوك كان أشرف من خلفاء بنى العباس القرشيين كلهم !! لماذا ؟ لأنه فى وقت المحنة وهو يواجه التتر فى زحف رهيب ، التتر الذين داسوا بغداد وضربوا الخليفة بالنعل ، فاهتز " قطز " وصاح : واإسلاماه !! فاجتمع الناس وألحقوا بالتتر هزيمة نكراء ، ودخلوا بعدها الإسلام !! هذه طبيعة الشعب المصرى ، مفتاح شخصيته الإيمان ، وكل من حاول غير هذا فهو فاشل ، نحن أمة مؤمنة . أين قضية فلسطين ؟ متى كانت قضية عنصرية أو امبريالية ؟ هذا كلام فارغ ، الذى حدث أن القضية كانت إسلامية ، وكانت عمامة ( أمين الحسينى ) هى التى تمثل الإسلام . إننى أؤكد أن قضية فلسطين لا تزال بعيدة عن الحل ، لماذا ؟ لأن المسئولين رفعوا شعار العلمانية ، وهو شعار الهزيمة ، العلمانية شعار الهزيمة لكل شعب مسلم فضلا عن الشعب الفلسطينى ، لقد حاول ناس أن يضللوا الصحوة الفلسطينية ، ولكن جذوة الإيمان عصفت بما فوقها من تراب ، وتحرك الإسلام فى قلوب الشباب . ص_109(1/90)
ومنذ ثلاثة شهور والمعركة الإسلامية مشتعلة ، وحاول العلمانيون أن يلتحقوا بالركب ، وحاول كثيرون أن يقولوا : إن الحركة غير إسلامية ، وهو نوع من الكذب الخسيس . ولكن الله شاء أن نعرف الوقائع كلها ، وبدأ المسلمون يشعرون بصحوة إخوانهم فى فلسطين باسم الإسلام . الذى أريد أن أقوله : إن اليهود لهم فكرة وحيدة لا تتغير هى : أنهم الشعب المختار ، وأنهم سادة العالم ، وأن ما فى العالم من مال هو لهم يجب أن يستردوه ، وأنهم يجب أن يهدموا المسجد الأقصى ليبنوا على أنقاضه هيكل سليمان وسوف ينزل الرب ليحل فى الهيكل ويحكم العالم عن طريقه شعبه المختار ـ شعب بنى إسرائيل !! هذا ليس قضاء على الإيمان العام بل هو قضاء على الإسلام وحده ، وسكوت المسلمين فى أى بلد على هذا المخطط معناه ارتداد عن الإسلام . وبعد أيها الأخوة : هذه حقائق ، لكن طبيعة أمتنا كما قال شوقى : نسيت روعته فى بلد كل شئ فيه ينسى بعد حين وأرجو ألا ننسى ..... والله ولى التوفيق . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ص_111(1/91)
تربية الشباب فى الإسلام موضوعنا الذى نستعين الله تعالى إذ نتحدث فيه الليلة موضوع مهم لأنه عن تربية الشباب ، والحقيقة أن أمتنا أحوج أمم الأرض إلى أن تربى شبابها ، فإن الاستعمار العالمى عندما استولى على البلاد الإسلامية خلال القرن الماضى ، وعندما استمكنت يده منها خلال القرن الحاضر اجتهد أن يربى أجيالا على طريقته الخاصة ، يفرِّغ قلبها من العقائد ، ويملأ الجو حولها بالمثيرات ، ويتركها تتخبط فى بيداء الحياة دون هاد تستمع إليه ، ودون هدف تسعى إليه . ولذلك فإن هذه الأمة ربما وجد فيها المتعلمون ، وربما وجد فيها الأغنياء ، وربما وجد فيها أصحاب القوة ، ولكنهم ما يغنون بعلمهم ولا بمالهم ولا بقوتهم شيئا عن أمتهم المحتاجة إليهم .. والسبب أنهم لم يربوا تربية ينتفعون بها وتبصرهم بحسن استغلال المواهب التى أفاءها الله عليهم .. ولذلك تراق أموالهم ومواهبهم وقواهم على التراب . ص_112(1/92)
إن أمتنا موفور لديها كل أسباب المجد والنصر ولكنها قصيرة الباع فى استغلال هذا الذى يسره الله لها ..والسبب أنها مشت فى الاتجاه الذى دفعها الاستعمار إليه ، وقد دفعها الاستعمار إلى اتجاه خطير . من أربعة عشر قرنا والأمة الإسلامية لا تعرف التعليم إلا تعليما يبدأ بالدين واللغة ، شئ لم تنفك عنه أمتنا فى القرون الأولى وفى القرون الوسطى ، حتى جاء العصر الحديث ووجدت بدعة فصل التعليم الدينى عن التعليم المدنى ، أى وجد ناس يتعلمون الدين ولا يعرفون شيئا عن الدنيا ، ووجد ناس يتعلمون الدنيا ولا يعرفون شيئا عن الدين . فلا الذين عرفوا الدين وجهلوا الدنيا انتفعوا بدينهم ، ولا الذين عرفوا الدنيا وجهلوا الدين انتفعوا بدنياهم .. وأصبحت الأمة العربية ـ كما وصفت ـ تمشى فى طريق مسدود ، لأنه لا يمكن لإنسان تعلم الدين فقط ولم يتعلم الدنيا أن ينفعه دينه بشئ . ولا يمكن لإنسان تعلم فنون الطب والهندسة والمحاماة والقوة والضبط والربط دون أن يتعلم الدين أن يحسن الاتجاه فى الميادين التى تعلمها دون هدى الدين ، ودون سداد الإيمان ، ودون رعاية السماء له . ولو أننا تدبرنا القرآن الذى نسمعه لعلمنا أن رسالة نبينا عليه الصلاة والسلام تعتمد على العنصرين معا : التعليم والتربية ، دون تفريق بينهما . قال تعالى (هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) ( كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون ) ص_113(1/93)
فهذا النص وأمثاله فى القرآن الكريم يبين أن الرسالة الإسلامية كما حملها خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم تقوم على ثلاثة عناصر : العنصر الأول : تلاوة آيات الحق على الناس ، الحق الذى لا باطل فيه ، الوحى الذى لا ريب فيه ، كلمات السماء التى لم يندس بينها باطل من لغو الأرض أو إفك الناس ، الوحى المصفى دون تزييف أو تزوير ، وهذا معنى قوله ( يتلو عليكم آياتنا ) العنصر الثانى :التزكية ( ويزكيكم ) أى يربيكم ، هذه الكلمة ـ كلمة الزكاة أو كلمة التزكية ـ معناها فى عصرنا هذا : التربية ، فإن التزكية تعنى : تهذيب النفس ، وضبط الشهوات ، وحكم العقل للهوى ، وجعل الإنسان قديرا على أن يسير طبعه وفق مراد الله منه . وهذا معنى قوله جل جلاله : (ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها ) زكاها : أى : رباها .. يعنى جعلها مهذبة ، وجعل أهواءها مضبوطة ومحكمة ، فإن الإنسان إذا تركت نفسه على هواها ، واسترسلت وفق رغباتها فإنها ما تقوده إلا إلى كل مرعى وبئ ، وما استطاع أحد بعد أن ترك نفسه على هواها أن يصنع خيرا لنفسه أو لغيره أبدا ، لأنه كما قال البوصيرى : والنفس كالطفل إن أهملته شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم ويقول شاعر آخر والنفس راغبة إذا رغبتها وإذا ترد إلى قليل تقنع ص_114(1/94)
النفس البشرية طيعة للتربية ، يمكن أن تمتد ويمكن أن تنكمش ، ومعنى تزكيتها : جعلها تسير وفق مراد الله منها ، أى تسير مضبوطة الغرائز ، محكومة الطباع . وفى آية أخرى يوضح جل شأنه معنى التزكية فيقول : (إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا * ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلا * جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى ) تزكى ـ هنا ـ تعنى أنه آمن وعمل الصالحات .. وهذا ما يطلبه الله من الناس ليكونوا فعلا على درجة من الزكاة ـ أى الطيبة ـ يصلحون بها ويلقون ربهم بصفائها وسنائها . العنصر الثالث : التعليم ( ويعلمكم الكتاب والحكمة )ومعنى تعليم الكتاب والحكمة : تعليم الحقائق التى تنظم المجتمع ، والتى تجعل الناس يعرفون طبيعة الدنيا التى يعيشون فيها ، ثم طبيعة الدار التى سوف ينتقلون إليها ، فإذا تركوا الدنيا بعد حياة زكية بصيرة واعية فإنهم يستقبلون الآخرة ولهم فيها مكان رحب ، وفى هذا يقول الله جل شأنه (الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون ) هذه العناصر الثلاثة لا يمكن أن يصلح مجتمع إلا بها .. انظر الآن إلى أى شاب واسأله : كم عنده من معرفة آيات الحق ؟ كم عنده من أسباب التربية ومظاهرها وأصولها وفروعها؟ كم عنده من معانى العلم والحكمة ؟ أى ما رباطه بالنبى صلى الله عليه وسلم ؟ ص_115(1/95)
فمن كان محروما من الآيات المتلوة لا يدرى عنها شيئا ، ومن كان محروما من الزكاة النفسية ، ومن كان محروما من العلم والحكمة فلا صلة له بمحمد عليه الصلاة والسلام وإن ادعى النسبة إليه !! التربية صعبة ، لماذا ؟ لأنها تجئ إلى غرائز وميول وتريد أن تحكمها وتقيد جماحها ، فهى صعبة من هذه الناحية ، الإنسان فى طبيعته حب المال ، ولو كان الإنسان مالكا لكنوز الأرض فإن شح نفسه سوف يظهر فى سلوكه حتما : (قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا) أى بخيلا ، فلكى تهذب نفسك ، وتكبح جماحها ، وترغمها على العطاء إذا هى رغبت فى الشح فهذا يحتاج إلى تربية .. النفس فيها طمع ، قد يكفيها القليل ولكنها تتطلع إلى الكثير ، ومع مضى السن وذهاب الإنسان إلى الشيخوخة يقول عليه الصلاة والسلام : " يكبر ابن آدم ويكبر معه اثنان : حب المال وطول العمر " وورد أيضا : " لو أن لابن آدم واديا من ذهب أحب أن يكون له واديان ، ولن يملأ فاه إلا التراب ، ويتوب الله على من تاب " ووصف القرآن الإنسان فقال : (إن الإنسان خلق هلوعا * إذا مسه الشر جزوعا * وإذا مسه الخير منوعا ) ص_116(1/96)
هذه طبيعة الإنسان ، فكيف يهذب هذه الطبيعة ؟ لابد من تربية ، هناك عادات رديئة ، كالتدخين ، والثرثرة ، وإضاعة الأوقات فى المقاهى ، وبسط اللسان فيما تعلم وفيما لا تعلم ، فهذه عادات رديئة تحتاج إلى تهذيب ، والتهذيب أو التربية أو التزكية ، كل هذا يحتاج إلى زمن ، والزمن جزء من العلاج . وتعبير القرآن يحتاج إلى تأمل ، فنحن نقرأ قوله تعالى (الذين تتوفاهم الملائكة طيبين ) هذا التعبير يحتاج إلى تأمل ، لأن اللغة العربية تقول : طاب الطعام : أى نضج ، بعد أن مكث على النار وقتا ، وتقول طاب الزرع : أى نضج بعد أن مكث فى الأرض زمنا ، إننا نولد وفينا أشياء تحتاج إلى تهذيب ، ففينا نقص ، وفينا عجز ، وفينا بخل ، وفينا نزق ، وفينا تهور ، وفينا هلع ، وفينا جزع ، فينا هذا فهل نلقى الله بهذا ؟ إذا لقيناه بها ضيعنا ، فما العمل؟ لابد من إزالة هذه الرذائل من نفسك ومحوها من طباعك ، والعبادات التى شرعها الله إنما هى مدارج للكمال الإنسانى ، فإن الذى قال (إن الإنسان لفي خسر) قال : ( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) والذى قال (إن الإنسان خلق هلوعا * إذا مسه الشر جزوعا * وإذا مسه الخير منوعا ) قال : (إلا المصلين * الذين هم على صلاتهم دائمون * والذين في أموالهم حق معلوم * للسائل والمحروم * والذين يصدقون بيوم الدين * والذين هم من عذاب ربهم مشفقون * إن عذاب ربهم غير مأمون * والذين هم لفروجهم حافظون) ص_117(1/97)
( إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين * فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون * والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون * والذين هم بشهاداتهم قائمون * والذين هم على صلاتهم يحافظون * أولئك في جنات مكرمون ) وهكذا نجد أن الطيبة تتكون على مر الزمان بالمسالك والأخلاق التى شرحها القرآن الكريم . هنا ألفت النظر إلى أمور خطيرة : ففترة الشباب لها عند الله حساب خاص ، فالعمر كله له حساب ، وفترة الشباب لها وحدها حساب .. وفى الحديث : " لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن خمس : عن عمره فيما أفناه ، وعن شبابه فيما أبلاه ، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ، وماذا عمل فيما علم " لماذا يسأل الإنسان عن فترة الشباب خاصة ؟ لأن فترة الشباب فترة يقظة وصحوة وقوة بين مرحلتى ضعف تسبق إحداهما وتعقب الأخرى .. الشباب فترة قوة بين ضعف الطفولة وقصورها وعجزها الذهنى والبدنى ، وضعف الشيخوخة وعجزها وعدم مواتاة الأسباب البدنية والعافية الجسمانية لتحقيق ما يصبو إليه ، وهذا معنى قول الله جل شأنه (الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير ) ص_118(1/98)
فترة الشباب لها خطورتها ، وينبغى أن تعد لها إعدادا خاصا .. والأمم ـ فى الإجمال ـ تعول على الشباب فى تجنيدهم للمعارك ، وتعول على الشباب فى تجنيدهم للتعلم والمعرفة ، وتعول على قواهم فى أشياء كثيرة .. يقول المتنبى : وإذا الشيخ قال أف فما مل حياة وإنما الضعف ملا آلة العيش صحة وشباب فإذا وليا عن المرء ولى وهذا صحيح ، وفى الحديث الصحيح : " نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس : الصحة والفراغ " والواقع أن الإسلام يكره للشباب الفراغ ، لأن الفراغ هو المعين الطبيعى على التحركات السيئة ، وأحسن ما قيل فى هذا قول الإمام الشافعى : نفسك إذا لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل !! هذه قاعدة فى علم التربية ، ما دمت تركت لنفسك الفراغ ولم تشحن أوقاتها بعلم أو بجهد أو بعمل أو بأى فريضة للمعاش أو للمعاد فإن نفسك ستستغل الفراغ فى باطل .. وهذا ما حرص الاستعمار العالمى عليه ، كم أمر فى الطريق فأجد عيالا يلعبون الكرة فى الشارع ، وأوقات الصلاة تجئ ، طبعا لا صلاة ، ووالله رأيتهم فى " الدقى " حيث أسكن كادوا يدخلون مسجدا ، فوقفت أتأمل كما يتأمل القائد جيشه المكسور ، قلت فى نفسى ص_119(1/99)
هذا الشباب الضائع هل تعلم أن هناك صلوات تؤدى ؟ لا .. هل تعلم أن للمساجد حرمة؟ لا .. غيره تعلم أن لبيوت العبادة حرمة ، لكن الاستعمار العالمى خلق شبابا فى بلادنا لا يحترم المساجد ، ولا يحترم شيئا ، فهو يعيش كأى حيوان ليس له صاحب ، هذه ثروة مهملة ، هذه ثروة ضائعة ، هذا الشباب المهمل كان يجب أن يساق إلى معسكرات عمل ، ليس أخطر على البلاد من شباب فارغ ، فالفراغ هنا باب التسول الجنسى ، باب الانتهاك لحرمات الله ، باب التتبع للوساوس ، باب للجدل الذى لا يفيد ، باب للمهارشات التى قد تنتهى بالسجون. على العلماء وهم يتحدثون فى التربية أن يقولوا : إن النفس البشرية لها ميول ، تميل إلى الشيئ ، فهل إذا ربيت نفسك على الصدق أو على الوفاء ،وبدأ هذا التوجيه النفسى ميلا نفسيا إلى الصدق ، أو ميلا نفسيا إلى الوفاء ، هل تعتبر صادقا أو وفيا بهذا الميل ؟ لا .... ربما قوى الميل وأصبح رغبة ، فهل رغبتك فى الصدق والوفاء تجعلك صادقا أو وفيا ؟ لا . فإذا قويت هذه الرغبة وتحولت إلى إرادة جازمة أصبحت ـ بها ـ تريد الصدق والوفاء ، فهل تكون ـ بهذا ـ صادقا وفيا ؟ قال العلماء : بالإرادة القوية تقترب ، لكنك لن تكون صادقا ولن تكون وفيا إلا إذا أصبح الصدق عادة لإرادتك ، إنك إذا كذبت والكذب ليس عادتك أو ليس خلقك فإنك تتلعثم ، ويضطرب لسانك ، ويحمر وجهك لأنك ما تألف الكذب ولا تعرفه ، إنما الصدق عادة الإرادة عندما تخون أو تغدر فإنك تضطرب وتشعر بأنك ستذبح لأن هذا ليس خلقك . الأمة الإسلامية ـ للأسف ـ من الفراغ الذى كثر فيها أصبح لا يعرف المسلم من غيره بسلوك ما .. دخل جاسوس يهودى سوريا ص_120(1/100)
ووصل إلى أعلى المراتب ،حتى قيل : رشح للوزارة !! ولم يكشف أنه جاسوس إلا لأن المصريين كانوا قد التقطوا له صورا عرفوه بها ، وحكم عليه بالإعدام .. لما سألت نفسى : كيف لم يعرف هذا ؟! كان الجواب : كيف يعرف فى بيئة ليس للإسلام فيها خصال معينة ولا تقاليد معينة تحدد سيرة الرجل المسلم ومسلك الرجل المسلم؟ لاصلاة ، لاصيام ، فى رمضان فطور ، فى أحفال الخمر يشرب .. إننى أعرف أن المسلم عندما يرفع الإذان يشعر أن الوقت قد دخل ، ويشعر بقلق من يريد أداء فريضة فى ذمته ، فى رمضان يستعد للشهر قبل أن يدخل بالنية وبما يحتاج إليه الشهر ، فى أحفال الخمر يرفض أن يحضر .. فإذا كان يدعى الإسلام ولا يصلى ولا يزكى ولا يصوم ، وفى أحفال الخمر يشرب فكيف يعرف المسلم من المجوسى ؟ لقد ضاعت كل السمات أو الخواص أو المعالم التي تميز سلوك المسلم من غيره . أما إذا كان المسلك الذى يظهر من المسلم هو هو المسلك الذى يظهر من مجوسى أو يهودى فكيف يفرق بينهما ؟ بشهادة الميلاد . شهادة الميلاد لاتنفع فى كشف حساب الله . الإسلام فى أيامه الأولى نهض بشباب كان لهم مع الله جانب ، وكانت لهم عبادات ، وكان لهم جهاد وكانت لهم قدرة على إحقاق الحق وإبطال الباطل . ص_121(1/101)
وإبطال الباطل وهل نصر الأوائل هذا الدين إلا فى إبان شبابهم ؟ إبراهيم عليه السلام عندما قرر أن يهدم الأصنام كان شابا جياش العاطفة ، موفور الحماس ، صادقا مع ربه ، غيورا على عقيدته ، فأخذ يتناول الأصنام بالاحتقار والغمز ، وفى يوم ما هدمها ، وعندما بحث عن الفاعل (قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم ) فتى : شاب قوى . أهل الكهف الذين كابروا الضلال وقاوموا الباطل ، وتمردوا على مجتمع منحرف ، وأبوا إلا أن يعيشوا مؤمنين بربهم ، ما صفاتهم ؟ (إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى ) هؤلاء عندما استيقظوا فأول ما حرصوا عليه أمر دينهم ، ولذلك لما شعروا بالجوع قالوا لمن أرسلوه يجئ بالطعام : احذر ، فإننا إن وقعنا مرة أخرى فى أيدى القوم أضاعونا (إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا) إذا هذه العاطفة واضحة فى خلق ناس لهم إيمانهم ، ولهم شبابهم الذى نحرص عليه ونحبه ... الذين تجمعوا حول نبينا عليه الصلاة والسلام كانوا شبابا ... سيدنا موسى عليه السلام عندما وصف الله أتباعه عندما حارب الفرعونية الحاكمة قال (فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم ) ص_122(1/102)
ومعنى " ذرية من قومه " أن الأجيال الجديدة ، أو الشباب الناشئ ، أو أن أصحاب القلوب النظيفة هم الذين أبوا أن يستمرئوا ما استمرأه آباؤهم من ذل وخنوع ، ومشوا مع فطرتهم فى رفض الدنية والمطالبة بالحرية ، ولذلك آمنوا بموسى وانقادوا إلى دعوته . الشباب عنصر خطير ، ولذلك نريد أن نوفر له الجو النقى الذى يحسن فيه الاتصال بدينه وأداء ما عليه لربه ، فترة الشباب خطيرة ، ولخطورتها فإن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " سبعة يظلهم الله تعالى فى ظله يوم لا ظل إلا ظله ، إمام عادل ، وشاب نشأ فى عبادة الله تعالى ، ورجل قلبه معلق بالمساجد ، ورجلان تحابا فى الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال : إنى أخاف الله ، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه " الشباب هم الذين كانوا وقود المعارك فى مجتمع الإسلام الأول .. وقد استغربت وأنا أتابع النشاط الإسلامى الأول ، وأرى كيف أن العيال فى المدينة ـ الشباب الناشئ فى مستقبل عمره ـ عندما رجع جيش ( مؤته ) دون أن يحقق نصرا قالوا لجنود هذا الجيش : " يافرار! فررتم فى سبيل الله " فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليسوا بالفرار ، ولكنهم الكرار إن شاء الله تعالى " الشباب الذى لم يبلغ درجة القتال والقدرة على مواجهة الأعداء شباب يقظان ، ينتظر الوقت الذى يؤدى فيه واجبه ، ص_123(1/103)
ولذلك ظل المسلمون نحو مائة سنة يحاربون فما انكسر لهم جيش ، ولا نكس لهم لواء ، حتى فتحوا المعروف من أرض الله . أنا كذبت الصحف التى طلعت فى أوائل يونيو سنة 1967 م تقول : إن سبب الهزيمة ضعفنا فى التكنولوجيا !! الذين قالوا هذا الكلام كانوا شيوعيين كذبة ، الفراغ هو الذى صنع الهزيمة ، السلاح فى أيدى المؤمنين ولو كان قاصرا يصنع العجائب ، يقول رجل قصير : إلا يكن عظمى طويلا فإننى له بالخصال الصالحات وصول إذا كنت فى القوم الطوال علوتهم بعارفة حتى يقال طويل المسألة إذا نفسية ، والحالة النفسية يصنعها الإيمان ، وكما يقول البوصيرى : إذا حلت الهداية قلبا نشطت فى العبادة الأعضاء لا تزال محنتنا الأولى أخلاقنا .. إننا بحاجة ملحة إلى ربط الأخلاق بالإيمان ، وإلى ربط المجتمع بالإيمان ، فإن الإيمان هو الذى يصنع اليوم والغد ، وهو الذى يصون حياتنا ومستقبلنا . إذا كان الإسلام ـ كما نعتقد ـ سبب النجاة عند الله فى الدار الآخرة فالإسلام ـ قبل ذلك ـ هو ضمان بقائنا على ظهر الأرض . شبابنا يجب أن يتعلم كيف يتمشى مع تعاليم الإسلام وكيف يؤدى حقوق الله عليه ص_124
يؤدى حقوق الله عليه، وكيف يصون قوته وعافيته بتقاليد الإسلام وعباداته ، بتعاليم الدين الحنيف وتوجيهاته (ويومئذ يفرح المؤمنون * بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم ) أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ،،،،،،،،، ص_125
المنقذ من الضلال
أيها الأخوة :
هل كان العالم محتاجا إلى هذه الرسالة ؟ وما مدى هذه الحاجة ؟ هذا ما أحب أن ألقى الضوء عليه . يقول رب العالمين
(تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم * وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون )(1/104)
لقد كان العالم قبل البعثة الإسلامية يخوض فى الأوحال ، وكان الناس قسمين : قسما لا يدرى عن رسالات السماء شيئا وهم الأميون أيا كانوا عربا أو غير عرب ، وقسما يدري شيئا من رسالات السماء يهودا كانوا أو نصارى . فلنعلم أن الأميين والكتابيين جميعا كانوا حيارى تائهين عن الحق .
ص_126
عقيدة التوحيد هى أساس الرسالات السماوية كما قال الله تعالى : (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) تحولت هذه العقيدة فى التراث اليهودي والنصراني – كما نقرؤه الآن- إلى شئ يستحق التأمل . ففى العهد القديم تقرأ أن الله دخل فى ملاكمة مع يعقوب ظلت طول الليل !! الله بديع السماوات والأرض الذى ليس كمثله شئ المحيط بالعرش والفرش والأفلاك علوها وسفلها هذا الإله الذى يعجز الناس عن إدراك كنهه ويسجدون فى ساحته وهم معترفون بالعجز الأزلى الأبدى إلا عن هذا الوضع من إدراك حقه وهو السجود له يدخل فى ملاكمة ويظل يلاكم طول الليل ؟ !! نعم هذا ما جاء فى سفر التكوين ، وفى السفر نفسه أن هذا الإله جاء مع ملكين ودخلوا بيت إبراهيم وأكلوا وشربوا جميعا !! وفى السفر نفسه تجد أن الله كان يتمشى فى الجنة فسمع صوتا فقال : من ؟ ، أين أنت يا آدم ؟ مختبئ هنا ، لماذا ؟ لأنى عريان ، هل أكلت من الشجرة ؟ نعم !! أهذا تصوير للعليم بكل شئ ؟ أهذا تصوير للخبير بكل خَلْجة قلب ؟ أما بالنسبة للديانة النصرانية فإن الأقانيم الثلاثة أفهمت الناس أن الله ص_127(1/105)
ليس واحدا على ما ينبغى أن تفهم الوحدانية . هذا شئ ، شئ آخر : سقطت المسئولية الإنسانية عن ضمائر الناس وكواهلهم لأنه قيل لهم : إن الابن الوحيد لله قتل وضُحِّى به كي يكون فداء عن خطايا الخليقة !! هل قال الأنبياء هذا ؟ ما قال الأنبياء هذا منذ بعثوا إلى يومنا هذا ، ففى وحيهم الخاتم يقول الله تعالى : ( أم لم ينبأ بما في صحف موسى * وإبراهيم الذي وفى * ألا تزر وازرة وزر أخرى * وأن ليس للإنسان إلا ما سعى * وأن سعيه سوف يرى * ثم يجزاه الجزاء الأوفى ) إن رسالة محمد صلى الله عليه مسلم كانت بالنسبة إلى العقيدة تصحيحا لابد منه ، ولو لم تجئ هذه الرسالة لظل الناس طول أربعة عشر قرنا تائهين فى صحراء طامسة موحشة لا مَعْلم فيها ولا هُدى . لو لم تجئ هذه الرسالة لظل التاريخ الإنسانى يتدحرج من درك إلى درك فى صلته بالله وتهوينه فى آفاق الخرافة حتى لا يمكن أن يكون لهذا التاريخ كرامة ولا لهذا الإنسان مكانة ولا لهذا الكوكب الضال بمن عليه وما فيه أىُّ استحقاق للبقاء !! إذا كانت الإنسانية قد بقيت واستحقت الوجود فإنما بقيت واستحقت الوجود لأن الإنسان الكبير الذى تجسد الهدى فيه وأرسله الله للناس يستخرجهم من الظلمات ويستنقذهم من الضلالات هو الذى فعل بالناس هذا !! ص_128(1/106)
فنحن في أعناقنا دَيْنٌ له ، ونحن نشعر بأننا لولا هذا النبي الكريم صلي الله عليه وسلم لكنا عبيد خرافة لا ندري شيئا عن الحقيقة الوحيدة الواحدة التي قامت بها الأرض والسماوات !! هذا في مجال العقيدة ، فماذا عن مجال الإنسانية ؟ الإنسانية الآن نزعة تسود أقطاراً كثيرة ، بل لعلها الآن العنوان المختار لأغلب الأنظمة السياسية والفلسفات البشرية . لقد تتبعت هذه النزعة فوجدتها تزويراً أحياناً وغشاً ودخناً أحياناً أخري . الإنسانية في نسقها الأعلي وجوهرها الصافي ما تكون الإنسانية إلا إذا وفَّت أولا لمن أبرزها إلي هذا الوجود وشعرت بحقه . العالم ـ الآن ـ يستحب أن يكون العنوان الذى يعمل تحته أو الشارة التى تظلل قافلته هى الإنسانية . والإنسانية عنوان ـ فى حقيقته ـ مرغوب ، ولكنه كما درسته فى الهتافات والصيحات المعاصرة مزور ومغشوش . ولذلك فإنى أحب أن ألفت النظر إلى الإنسانية كما يعرفها الإسلام وكما قدمها للناس محمد عليه الصلاة والسلام . الإنسان عقل وقلب ، والرسالة التى جاء بها محمد عليه الصلاة والسلام كان هدفها الأول تحرير العقل الإنسانى ورد اعتباره إليه وجعله القائد لصاحبه بل إن الإسلام تميز بحقيقة ينبغى أن نعلنها فى هذا العصر . وهى أن ربط الإيمان بالمنطق العقلى ، وأمر أمرا مشددا بأن يمزق الإنسان الحجب عن عينيه ، وأن يتأمل فى الكون ، وعن طريق هذا التأمل يعرف ربه ويدرك عظمته !! عن طريق التأمل ينبنى الإيمان ، فبين الإيمان الراسى فى القلب وبين ص_129(1/107)
الكون الذى نعيش فيه علاقة قوية ، عبر عنها الأستاذ العقاد بقوله : " التفكير فريضة إسلامية" وهذا صحيح فالقرآن الكريم يقول : (أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة إن هو إلا نذير مبين * أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء ) هذا شئ قام الإسلام عليه ، ومن هنا فإن الإنسانية إذا قررت ألا تمشى وراء عقلها فهى تتمرد على منطق الإسلام . وقد كنت أتابع فى هذه الأيام بعض الكتاب ـ وأنا أتابعهم من قديم ـ فوجدت أن عددا من الكتاب ـ تقليدا لأوربا ـ يحاول أن يقسم الكيان المعنوى للإنسان قسمين ، فيجعل العقل والعلوم التجريبية التى يستقل العقل بالبحث فيها نوعا من اليقينيات المسلمة ، ويربط بين العقل والعلم على هذا الأساس ، ثم يجعل الدين قسيما للعقل والعلوم الأخرى ، وكأنه يقول : إن الدين نوع من الانطباعات النفسية أو نوع من السكينة القلبية أو نوع من المخدرات الاجتماعية أو نوع من العلاقة الخاصة بين العبد وربه . وهذه العلاقة لا بأس بها أن تأخذ ألوانا معينة فى شرق وفى غرب فإن الدين كالفن أو كالغناء ، وكما توجد موسيقى شرقية وموسيقى غربية فلا بأس أن يتنوع الدين وأن يجمع بين الهندوكية والبوذية والشنتوية واليهودية والنصرانية !! وأنا ألفت النظر إلى أن ما يقوله أولئك عن الدين نوع من الارتداد عن الإسلام ، ونوع من القطيعة بين تاريخنا المعاصر وماضينا العريق ، ونوع من التدليس يراد به خداع الأجيال الناشئة وجعلها تقبل الدين على أنه نوع من الفن أو مرادف له ، أما أن الدين حقيقة عقلية فلا!! نعم .. الدين يستحيل أن يكون حقيقة عقلية فيما عدا الإسلام ص_130(1/108)
كيف تعتبر تقديس الحيوان دينا فى الهندوكية ؟ كيف تعتبر عبادة الأجداد دينا فى الشنتوية ؟ كيف تعتبر ملاكمة بين الله وبين عبده دينا فى اليهودية ؟ لما وجد هؤلاء أن الدين شئ والعقل شئ آخر جعلوا الدين نوعا من الصلة الخاصة وعزلوه عن الفكر والعلم ، والمراد فى العصر الحاضر أن يساق الإسلام مع بقية التركة الدينية التى جاء الإسلام للقضاء على بعضها وإصلاح ما وقع من خطأ فى بعضها الآخر الإنسانية ـ فى نظرنا ـ عقل تحرر من الخرافة ، وأول الخرافات جعل الدين بعيدا عن العقل . وباسم أن الدين شئ والعقل شئ آخر يمكن تنويم العقل الإنسانى ليقبل الخرافة فى الدنيا هنا أو هنا !! من منن محمد عليه الصلاة والسلام فى أعناق الخلائق إلى قيام الساعة أنه جاء إليهم وقال لهم : احترموا أنفسكم ، احترموا عقولكم ، احترموا سمعكم وبصركم ، احترموا نسبكم السماوى إلى الله ، احترموا وجودكم الأعلى والجانب الأزكى والأتقى فى حياتكم وتفكيركم !! ديننا دين العلم والعقل ، وهو أيضا مبعث لتراث عاطفى محترم ، ولكن على أساس من العقل اليقظ ، والفكر الحارس ، والفقه الدقيق ، والأوهام المطاردة ، والظنون التى لا يقبل لها أن تستقر ، لأن الأقدمين أخذ عليهم أنهم يتبعون الأوهام والتخامين ولا يتبعون الفكر واليقين : (وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا إن الله عليم بما يفعلون) إذا كان الإسلام على لسان الإنسان الكبير الضخم الذى جاء به قد رد للعقل الإنسانى احترامه فإنه ـ أيضا ـ قد أعطى القلب الإنسانى مكانه . ص_131(1/109)
العقل الإنسانى قد يخدم الخير وقد يخدم الشر فإذا لم يتحرك القلب ، وإذا لم ينتفض انتفاضة تسقط ما علق به من أدران الهوى فإن الذكاء العلمى قد يكون وسيلة طيعة لخدمة الشيطان ، وهو ما يقع فى عصرنا هذا !! الذكاء مطلوب ، لكن ليخدم قلبا نبيلا ، ليخدم غرضا شريفا ، ولذلك فإن الإسلام قال مرارا عديدة وفى أماكن كثيرة : (إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ) واعتبر أن العقل هو الإنسانية إلا أنه بين أنه لابد للإنسانية ـ كى تستقيم على الطريق ـ من قلب يشرف على هذا العقل . ففى الحديث الشريف يقول الرسول صلي الله عليه وسلم : " ألا وإن في الجسد مُضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب ولا يقصد بالقلب ـ بداهة ـ العضلة أو المضخَّة ـ بتعبير الأطباء ـ التي تدفع الدماء في العروق وتقوم بدورها في صيانة الحياة المادية ، لا .. القلب ـ هنا ـ يقصد به ما يسمي في عصرنا بالضمير ..الضمير الذي يشرف علي الكيان المعنوي للإنسان : (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ) (يوم لا ينفع مال ولا بنون * إلا من أتى الله بقلب سليم ) ص_132(1/110)
لقد حارب الإسلام الهوى فى سبيل إقامة قلب سليم ... أحيانا أنظر إلى قوانين كثيرة وتشريعات لا حصر لها وأنواع شتى من الرقابة الموضوعة ، ولكننى أحس كأن هذه الشبكة التى نسجت دقيقة محكمة لكى تضبط السلوك البشرى لا تساوى شيئا ، يستطيع الإنسان بذكائه أن يتغلب عليها وأن ينتصر فى معركة الشر . والسبب : أنه لاقلب له ، لا ضمير له ، والأهواء قد سيطرت عليه . إن الله قال لداود: (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب ) الهوى هو آفة القلب ، وعندما يطلب الإنسان ضميرا لا تعلق به شهوة أو قلبا يحكم الهوى ولا يحكمه الهوى فهو يطلب للإنسانية المجال الصحيح الذى تعمل فيه والأداة الطيعة التى تنتصر بها . أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم . وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ص_133
معالم الرسالة الإسلامية
أيها الأخوة : حياكم الله ، ونضر وجوهكم ، وربط بالإيمان على قلوبكم ، وقوى صفوفكم وثبتكم على الصراط المستقيم ، إننى أشعر بشئ من السعادة وأنا أتفرس فى الوجوه ، وأستحيى ذكريات ، وأمضى مع كثيرين من أهل الإيمان على الدرب الذى شرفنا الله بأن نمضى فيه وأن نثبت عليه .
موضوعنا الذى نتحدث فيه الليلة ـ إن شاء الله ـ هو : معالم الرسالة الإسلامية فى صنع الإنسان .. هذه المعالم ـ فيما أذكر ـ تكررت أربع مرات فى القرآن الكريم ..
الموضع الأول : فى قوله تعالى على لسان إبراهيم وإسماعيل :
(ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم )
ص_134(1/111)
الموضع الثانى : فى السورة نفسها عند الحديث عن تغيير القبلة (كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون ) الموضع الثالث : فى سورة آل عمران : ( لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) الموضع الرابع : فى سورة الجمعة : (هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) لوحظ أنه فى الموضع الأول وحده تأخرت التزكية ، أما فى المواضع الثلاثة الأخرى فإن التزكية توسطت التلاوة والتعليم . قد يقال لم هذا ؟ والجواب : إن العطف بالواو لا يفيد لا ترتيبا ولا تعقيبا وإنما يفيد التشريك فى الحكم ، والقرآن الكريم مرة يقول : موسى وهارون ، ومرة أخرى يقول : هارون وموسى ، فلا ضرر أن تتعاطف هذه الحقائق على نحو ما ، وقد يكون هناك معنى آخر ليس هنا مجال توضيحه . ص_135(1/112)
سأختار الموضع الثانى وأبدأ الحديث عنه ، والموضع الثانى يبدأ من قوله تعالى (ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون * كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون ) عندما كنت أقرأ السورة وقفت طويلا عند قوله تعالى : (كما أرسلنا فيكم رسولا منكم) وقلت فى نفسى : ما معنى " كما " هنا ؟ ما الرباط الذى يربط بينها وبين ما قبلها ؟ بدأت أتدبر الآيات جيدا ثم اتضح المعنى كله ، ومعنى هذه الآيات أن الله تعالى يقول للعرب : إننى وجهت الناس إلى قبلتكم ، هذه نعمة منى عليكم معشر العرب ، لكنها ليست النعمة الأولى عليكم ، إنها منَّة مسبوقة بمنة أخرى وهى إرسال محمد صلى الله عليه وسلم فيكم وابتعاثه منكم : (ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون * كما أرسلنا فيكم رسولا منكم ) بدا لى من دراسة التاريخ ، ومن دراسة الإنسان العربى بالذات أن الأمة العربية تفقد إنسانيتها يوم تفقد الإسلام اكتشف هذا المعنى فيلسوف عربى اجتماعى هو ابن خلدون عندما قال : لا يقوم للعرب ملك إلا على أساس نبوة . ص_136(1/113)
وبتعبير العصر الحديث لا تقوم للعرب دولة إلا على أساس دين ، ومهما بذل الناس من أسباب اقتصادية ، ومهما أنفقوا من أموال لكى يجمعوا قلبا على قلب وصفا إلى صف فإن هذا يتعذر عليهم كما قال تعالى (هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين * وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم ) خيل إلى أن الطبيعة العربية كطبيعة هذه المصابيح التى أمامنا الآن ، هذه المصابيح صممت على أساس أنها لا تضئ إلا بتيار ينساب فى أسلاكها من خارج ، فإذا لم يجئ هذا التيار بقى المصباح مظلما لا يصلح بزيت أو شمعة ، لا يمكن أن يضاء إلا إذا جاء التيار الذى يتألق به!! كذلك النفس العربية إذا انقطع تيار الإسلام عنها رسبت فلم تعل أبدا حتى يجئ الإسلام فيرفع خسيستها ويزكى سيرتها ويعيدها لكى تكون أستاذا للناس وموجها للعالم وقيادة روحية للخلق !! ليس للعرب وجود مادى أو أدبى أو إنسانى إلا بهذا الدين ، ربما نجحت أجناس أخرى ـ كاليونان مثلا ـ بفلسفة من الفلسفات ، ربما نجحت أجيال أخرى بفكرة من الفكر ، لكن يوم يفقد العرب الإسلام يعودون جاهلية وقبائل متناثرة متهالكة لا يمسكها شئ !! إن التاريخ بتجاربه الطويلة يؤكد هذه الحقيقة ، فما كان للعرب وجود مادى أو أدبى له حرمة وكرامة إلا يوم اصطبغوا بهذا الدين وأسلموا ص_137(1/114)
لله وجوههم ، وأخلصوا قلوبهم ، وحملوا الرسالة التي شرفوا بها وفهموا قوله تعالي : (كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون ) ولذلك فإنني واثق من أن أمجاد العرب ستظل وهما بعيداً حتي يعودوا إلي الإسلام , وتكون هذه العودة علي النحو الذي شرحته الآيات القرآنية في أربعة مواضع .. تلاوة وتزكية وحكمة وتعليم . وأريد الآن أن أشرح هذه الكلمات . " يتلو عليكم آياتنا " ما معني يتلو ؟ هل التلاوة كلمات منغومة نبدأ بها مجالسنا كما حدث الآن ؟ هل التلاوة أن نسمع كلمات منغومة بصوت عذب ؟ لا.. لا .. نحن نضحك من أنفسنا ونخون الحقائق الإنسانية والتاريخية يوم نتصور التلاوة علي هذا النحو !! الذي فهمته بعدما تتبعت كلمة " يتلو " في أماكن كثيرة من القرآن الكريم أن التلاوة تعني شرح مراحل الطريق أو ما يسمي فى عصرنا إعلان المبادئ. التلاوة هي معرفة المنطلقات التي نبدأ منها والأهداف التي نصل إليها . تأمل معي قوله تعالي : (كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب ) التلاوة هنا بعد المقارنة أو التذكير بالرسالات السابقة تعني أن الرسالة الجديدة تعرض جملة مبادئها , كما تعرض أي نهضة الأصول التي تنطلق منها ص_138(1/115)
وكما تعرض أي جماعة الأهداف والأركان التي تبني عليها وتحدو الأمة إليها . تأمل معي قوله تعالى : (واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحدا ) تأمل قوله تعالى : (إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين * وأن أتلو القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين ) التلاوة هنا : قراءة تدبر ، قراءة وعي لما يراد ، قراءة بناء لما يراد إنشاؤه من حضارة!! وأحب ان ألفت النظر إلي أن التلاوة لها معني أوسع وأعمق وأشرف من التلاوة بالمعني الشائع في عصرنا هذا . لابد أن نحفظ القرآن ، لابد أن نقرأه ، لكن هذا ليس هو المقصود ، المقصود أن نعرف أن الكتاب الكريم دليل عمل . وأن التلاوة تعطي فكرة عامة عن الإسلام . لابد من تلاوة عامة يعرف بها الكيان الأدبي كله للدين الذي أنت مقبل علي دراسته . " ويزكيهم " ما معني التزكية ؟ التزكية هي التربية ، المصطلح الحديث لكلمة التربية لا يدل عليه شيء إلا هذه الكلمة ـ كلمة التزكية . استعمل القرآن كلمة " التزكية " وقد استعمل الصوفية كلمة "التخلية والتحلية " والكلمة الدقيقة الجامعة لكل من هذه المعاني هي كلمة " التزكية " ص_139(1/116)
ماذا تعنى كلمة التزكية ؟ تعنى أن يستجمع الإنسان الفضائل التى لابد منها للكمال الإنسانى . هل ـ نحن ـ ولدنا مطهرين بلا عيوب وبلا غرائز تهبط بنا ؟ الإنسان يولد ويولد معه ما يدعو للاختبار ،والاختبار يلخص فى كلمات سريعة : (ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها ) " أفلح من زكاها " بالصدق ، بالوفاء ، بالأمانة ، بالرأفة ، بالرفق ، بالرحمة ، بالشرف ، بأمور كثيرة . " خاب من دساها " بأضداد ما ذكرنا من صفات . تأمل فى قوله تعالى (إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا * ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلا * جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى) لابد من أن أتزكى ، لابد من أن أترفع ، لابد من أن أتطهر ، معنى التزكية : أن يقهر البخيل بخله ليكون كريما ، معنى التزكية : أن يقهر الجبان جبنه ليكون شجاعا ، معنى التزكية : أن يقهر الإنسان الرذائل التى تجعله يمد عينيه طامعا جشعا ويعيش عفيفا ولو فى مستوى دون العادة . لابد أن تتكون الأمة الإسلامية أو تصب فى قالب جديد . يقول الشيخ محمد عبده : الفساد يهبط من أعلى إلى أدنى ، والإصلاح يصعد من أدنى إلى أعلى !! وهذا صحيح ، هذا طريق الأنبياء ، فإن الأنبياء بدأوا يتحركون بين جماهير الناس . ص_140(1/117)
التزكية : هى البحث عن كل عيب فى النفس الإنسانية ووقفه واجتثاث جذوره ، ثم يجئ بعد هذا تكميل النفس الإنسانية بالكمالات الإنسانية . ( ويعلمكم الكتاب والحكمة ) كثير من المفسرين ظن أن الحكمة هى السنة ، وهذا تفسير يصح فى بعض المواضع التى ذكرت فيها الحكمة فى القرآن الكريم . إن كلمة " الحكمة " ذكرت فى القرآن الكريم أكثر من عشر مرات ، وهى تفيد أن العمل الصالح المتقبل إنما يتم بصدق النظر وحسن الفقه ، وأنه مع الجهل لاتقوم حكمة ، إنما تقوم الحكمة مع الحكم الدقيق والنظر الصائب فى الأمور . وقد ذكرت كلمة " الحكمة " فى مواضع شتى .. منها قوله تعالى : (ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد) نحن محتاجون إلى أن نتعرف كيف نقيم العناصر الثلاثة لرسالتنا . إن الأمة الإسلامية فى الحقيقة اكتملت تعاليمها فى كتاب الله وفى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولكن ظهر من انحرف بهذه التعاليم وابتعد عنها أو أساء إليها فماذا كانت النتيجة ؟ بدأنا ننحدر عن المكانة التى بلغ إليها آباؤنا !! كان آباؤنا العالم الأول خلال ألف سنة تقريبا .. من علمنا أضاءت ص_141
الدنيا .. ومن خلال أخلاقنا انقمعت شهوات !! إن الأمة الإسلامية نسق وحده فلا تصحيح الأفكار ، وفى صيانة الأعراض ، وفى ضبط السلوك ، وفى ذكر الله وتحرى رضاه والاستعداد للقائه !! وهذه هى العناصر التى يمكن أن نؤدى باستكمالها واجباتنا . والله ولى التوفيق .. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ص_143
الحقائق والنظريات بين العلم والدين
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وآله . وبعد(1/118)
فإن الإنسان مريض بالغرور ، وقد يحسب نفسه ويحسب الأرض التى يعيش عليها الكون الكبير فى آماده وأبعاده ، وربما جره هذا إلى ألا يحسن معرفة ربه ، ولو أنه استمع إلى قول الله تعالى (لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون)
أو استمع إلى قول الله تعالى : (تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض )
لو أنه استمع إلى هذا لعلم أن الكون الكبير الذى نعيش فيه أكبر من خيالنا مهما كان جامحا . وقد قلت يوما : إن الأرض بمن عليها وما عليها لو أنها ذهبت بددا فى الفضاء وفنيت فإن الملكوت الإلهى لا ينقص شيئا ذا بال !!
ص_144(1/119)
وهذا ما جعلنى أفهم بدقة ما ورد فى الحديث القدسى : " .. يا عبادى لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد ما زاد ذلك فى ملكى شيئا ، يا عبادى لو أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكى شيئا ، يا عبادى لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا فى صعيد واحد فسألونى فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندى إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر"!! ولو أن الأرض غلت بالإثم غليانا وفاضت بالشر فيضانا فإن هذا لا يخدش شيئا من كبرياء الله ولا من عظمته !! فإن الذين يسبحون بحمده خلال ما سمعتم من ملايين السنين الضوئية تكفى : (وله من في السماوات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون * يسبحون الليل والنهار لا يفترون) لا يستحسرون : أى لا يمتنعون ، لا يفترون ، أى لا يتعبون الكون ضخم ، وقد قلت يوما لأحد الناس : هل تتصور أن رجلا يبنى عمارة من خمسة آلاف دور ثم يسكن غرفة فى الدور الأرضى ويدع بقية الآلاف من الأدوار تصفر فيها الرياح؟ فلم بناها ؟ الكون مشحون بالمخلوقات التى تعبد ربها وتؤدى حقه ، ونحن البشر فى كوكب تافه ، نحن البشر أتفه من أن نكون شيئا خطيرا فى الكون !! هذا شئ ، الشئ الثانى : أن القرآن الكريم قسم والكون كله قسم ص_145(1/120)
آخر ، وقد وجدت أن الله عز وجل يقسم بعظمة الكون على عظمة القرآن (فلا أقسم بمواقع النجوم * وإنه لقسم لو تعلمون عظيم * إنه لقرآن كريم * في كتاب مكنون * لا يمسه إلا المطهرون * تنزيل من رب العالمين) أى أنه يقسم بعظمة عمله على عظمة قوله ، وقد تكرر هذا القسم فى مواضع أخرى من القرآن الكريم ، ففى سورة الحاقة يقول : (فلا أقسم بما تبصرون * وما لا تبصرون * إنه لقول رسول كريم * وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون * ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون * تنزيل من رب العالمين ) وفى سورة التكوير يقول : (فلا أقسم بالخنس * الجوار الكنس * والليل إذا عسعس * والصبح إذا تنفس * إنه لقول رسول كريم ) فى هذه الآيات يصف رب العالمين الفترة قبل بزوغ الشمس وقبل مطلع الفجر ، والكون فى حالة ترقب لليوم الجديد الذى يطل على الناس ليفتتحوا معه صفحة جديدة ، إنه يقسم بهذه الحالة لكي يلفت النظر إلى أن من أراد الهدى ففى القرآن هداه !! إن الله جل شأنه جعل الكتاب موازيا أو مساويا للكون الذى نعيش فيه ، فعندما وصف نفسه رأيت أنه وصف نفسه بأمرين : أمر يقول فيه : أنا خالق الكون ، وأمر يقول فيه : أنا منزل الكتاب ، فجعل خلق الكون وإنزال الكتاب صفتين كلتاهما تعادل الأخرى !! قال تعالى : (تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير ) ص_146(1/121)
وقال تعالى : ( تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ) فمرة : تبارك من بيده الملك ، ومرة : تبارك من أنزل الفرقان !! وعندما حمد ربنا نفسه قال مرة : ( الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور) وقال مرة أخرى : ( الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا ) فبين أنه أهل الحمد لأنه خلق الكون وأنزل الكتاب !! بديهي أنه يستحيل أن يختلف قول العاقل وعمله ، فكون العلم يصف الكون بما يخالف كلام الله فهذا شئ غريب !! ولهذا أحب أن أحدد الحقيقة التى درسناها واستقر رأينا عليها ولا أري لا عنتا ولا حرجا في ترديدها . هذه الحقيقة ـ باختصار ـ هي : كل متيقن في العلم يوافق كل متيقن في الدين ، وكل متيقن في الدين يوافق كل متيقن في العلم !! فالمقطوع به في العلم يوافق المقطوع به في الدين ، والمقطوع به في الدين يوافق المقطوع به في العلم !! فإذا قيل : هناك خلاف بين العلم والدين ، فأحد أمرين : إما أن ما وصف بأنه علم هو جهل وقيل إنه علم ، وإما أن ما وصف بأنه دين هو جهل وقيل إنه دين . ما كان دينا حقا يستحيل أن يصطدم بعلم ، وما كان علما حقا يستحيل أن يصطدم بدين. يقول الله عن القرآن : ( وبالحق أنزلناه وبالحق نزل ) ص_147(1/122)
ويقول عن الكون : (ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق ) فكلاهما حق ، فكيف يختلف حق وحق ؟ أريد أن أشرح كلمة " متيقن به في العلم " وكلمة " متيقن به في الدين " هل هناك حقائق علمية ونظريات علمية ؟ نعم . هل هناك حقائق دينية وظنيات دينية ؟ نعم . هناك حقائق دينية وظنيات دينية ، وهناك حقائق علمية ونظريات علمية ، فإذا قيل : إن الحقائق العلمية والدينية لا تختلف فالكلام مطلق لا تقييد فيه . وإذا قيل : قد تختلف نظريات علمية مع حقائق دينية أو ظنون دينية فالكلام صحيح لأن النظريات العلمية لم تستقر بعد والظنون الدينية آراء . خذ مثالا للحقائق الدينية (قل هو الله أحد ) هذه حقيقة لا كلام فيها فهل أثبت العلم أن الله ثلاثة ؟ لا .. مثال آخر : أثبت القرآن أن الماء مصدر للحياة (وجعلنا من الماء كل شيء حي) فهل أثبت العلم خلاف هذا ؟ لا .. نأتي إلي الظن الديني : الظن الديني له مصدران .. المصدر الأول : الآية القرآنية التي ثبتت يقينا من ناحية السند ولكن اختلف العلماء في دلالتها .. واختلاف العلماء في دلالتها يجعل هذه الدلالة ظنية .. أقرب مثل إلي جمهور المسلمين قوله تعالى : (وامسحوا برءوسكم) ص_148(1/123)
فالآية ـ يقينا ـ ثابتة ، لكن هل معناها متيقن ؟ لا .. الشافعية قالوا : الباء للتبعيض والمفروض مسح بعض الرأس . الحنفية قالوا : الباء للإلصاق ، والمفروض مسح ربع الرأس . المالكية قالوا : الباء زائدة ، والمفروض مسح جميع الرأس . هل المعنى – هنا – متيقن ؟ لا .. المعنى هنا ظني . المهم إذا اختلف ظني ديني مع ظني علمي فلا حرج ، لماذا ؟ لأن المعنى لم يتحدد . نأتي إلى حقائق العلم .. هناك ـ يقينا ـ حقائق علمية .. فالهندسة تقول : مجموع زوايا المثلث يساوي قائمتين ، فهذه حقيقة ليس عندي ما يردها . تبقي الظنون العلمية ، ما الظنون العلمية ؟ نظريات ، هذه النظريات موجودة في العلوم الإنسانية وفي العلوم الكونية . النظريات في العلوم الإنسانية كثيرة ، وأمثلة ذلك كثيرة فـ " فرويد " يري أن الجنس هو أساس كل الدوافع الإنسانية هذه نظرية قد يكون فيها صادقا وقد يكون فيها منحرفا . " ماركس " يدير التاريخ كله حول نظرية القيمة ويفسر بها كل الأحداث هذه نظرية . النظريات في ميدان العلوم الإنسانية أفكار قد ترجح بالقرائن التي تحفها لكنها لا تتحول إلي حقيقة علمية إلا إذا ثبتت بأدلة حاسمة لا تقبل المناقشة وبطل نقيضها بأدلة حاسمة لا تقبل المناقشة . هناك نظريات علمية ، افرض أن " داروين " رأي أن التطور أو النشوء والارتقاء أصل في الكون ، فهل هذه حقيقة ؟ لا .. هذه نظرية ، بعض العلماء يصدقها ، وبعض العلماء يكذبها ، وللأسف هذه النظرية تدرس عندنا في علوم الأحياء علي أنها حقيقة علمية . ص_149(1/124)
تدرس عندنا فى علوم الأحياء على أنها حقيقة علمية ، وهذا غلط . حاول بعض المشايخ وبعض علماء الطبيعة والكيمياء والأحياء أن يفسروا القرآن علي ضوء نظرية داروين فقالوا : داروين يقول بالتطور والقرآن يقول (وقد خلقكم أطوارا ) ويقول : (الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين * ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين * ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون ) قلت لمن يستدل بهذه الآيات علي نظرية داروين : قد تتحمل الآيات ما تقول وربما رفضت ما تقول ، لكني أكره أن أفسر القرآن بنظريات علمية قد تبطل . عندما يستقر العلم علي حقيقة لا خلاف فيها فأنا أفسر بها القرآن ، أما النظريات العلمية الرجراجة المائعة التى لم تستقر علميا فلا تحرجني بها ولا تورطني فيها ، وإذا كانت لم تستقر بعد عند أصحابها فكيف تلزمني بقبولها وتكلفني أن أفسر الوحي علي أساسها ؟ هذا لا يقوله عاقل !! نظرية تمدد الكون لـ " أينشتين " من الجائز أن تكون صحيحة ، لكن هل تحولت النظرية إلى حقيقة علمية ؟ لا أدري هذا ، ويوم تتحول إلى يقين علمي فأنا مستعد أن أفسر قوله تعالى : (والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون) علي أساس نظرية التمدد الكوني ، لكنها إذا بقيت نظرية علمية ولم تتحول إلي حقيقة علمية فأنا أرفض أن أفسر القرآن بها . هذا بالنسبة إلي القرآن الكريم ، أما بالنسبة إلي السنة المطهرة فأغلب ما ورد في السنن من أحاديث آحاد فهو مصدر للظنيات وليس مصدرا للقطعيات المتيقن منها . ص_150
ولذلك فإن جمهور المسلمين يأخذ العقائد من المتواتر لا من أحاديث الآحاد ، إنما تؤخذ آحاديث الآحاد ويعمل بها في الأحكام الشرعية الفرعية التي لا شك فيها . أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وصلي الله علي سيدنا محمد وآله وسلم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ص_151(1/125)
العلم يدعو للإيمان أيها الأخوة والأبناء : يسرني أن أشرف بلقائكم لأول مرة في هذا المعهد ، إنني مسرور إذ يوفقني الله جل شأنه لأن ألتقي بطلاب الجامعات المصرية في الإسكندرية والقاهرة والزقازيق والمنصورة وأسيوط والمنيا وقنا . إن الأجيال الجديدة التي تحمل راية الثقافة العصرية ينبغي أن نتصل بها – فعلاً – لنمنع عنها بعض التزوير الذي تلبسه ثقافات ليس لها نصيب من الفكر الصحيح ، وليس لها رصيد من العقل السليم ، وليس لها كذلك ما يجعلها تلقي حفاوة من أمتنا لأنها ثقافة قد تهدد حاضرنا ومستقبلنا علي سواء . ولذلك فإن ثقتي في أن الأجيال الجديدة تحترم عقلها تجعلني أتحدث إلي المتعلمين وإلي طلاب الجامعات وأنا مستريح الضمير هادئ النفس . ص_152(1/126)
كل ما أطلبه هو ما يطلبه الإسلام وهو :احترام الدليل ،تحريك العقل الهاجع الغافل ،البحث عن الحق بنزاهة وشرف نفس . سمعت كلمة " للعقاد" في أحد كتبه يقول : هناك مقلدون في كراهية التقليد !! ربما يكون التقليد معيباً يوم يكون إلغاء للعقل وانسياقاً وراء الآخرين . وعندما يكون الإنسان حر الفكر ، صاحي العقل ثم يكره التقليد فمن حقه هذا .. ولكن مقلدين في كراهية التقليد ، كراهيتهم ليست عن حركة عقلية واعية ، ولا عن صحو نفسي محترم . ويوجد بين المثقفين ناس ربما انساقوا وراء تيارات تصف نفسها بالتقدمية .. والتقدمية صفة مستحبة ، ونحن نرى أننا تقدميون ، ونرى أن كثيراً من الذين يدعون التقدمية يحتاجون إلى أن يحركوا عقولهم وإلى أن يوقظوا ضمائرهم لأنهم كما قال القرآن الكريم : (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ) . حديثنا ـ اليوم ـ عن الله ، وهو حديث أستحبه لأنني مؤمن ، وقد يستغربه من لا إيمان له . أنا أستحبه لأني مؤمن أرى أن الله ولي أمري وولي نعمتي وصاحب فضل علي . عرفت ربي بعقلي أولاً ثم عرفته بحسي بعد ذلك فحديثي عنه حديث من يأنس ويألف . إنني أكلف كل عاقل أن يحترم عقله ، وأكلف كل مفكر أن يحترم تفكيره ، لأن الإيمان ـ كما تعلمناه في كتابنا ـ نتيجة عمل عقلي سليم ، والذي أنزل القرآن هو الذي أودع فيه هذا التساؤل : (أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين). ص_153(1/127)
إن القرآن يطلب الدليل لأنه يقيم تعاليمه علي الدليل ، وهو إذ يعيب المشركين قديماً علي تقديسهم للخرافات وسيرهم وراء الأوهام فإنه يقول في شأنهم : (ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون ) . كأنما جاء حسابه من أنه لا برهان له في ما زعم ، ولا دليل له فيما ادعي . إننا قوم نحترم الدليل ، ونكرم البرهان ، ونمشي وراء العقل . إن وراء العقل الإنساني أن يفكر ، وأن يفكر بأصالة ، وأن يتحرى الصواب . وجمهور كبير من الناس يزعم أنه عاقل أو أنه يتحرى الصواب أو أنه يبني منطقة علي مقدمات مرتبة ونتائج مستفادة ، ولكن عندما نناقش لا تري شيئاً من ذلك كله : (ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون * ونزعنا من كل أمة شهيدا فقلنا هاتوا برهانكم فعلموا أن الحق لله وضل عنهم ما كانوا يفترون) . بعض الناس يحلو لهم أن يتصوروا الإيمان وكأنه نتيجة تعصب للقديم أو نتيجة دراسات تلقينية ، ويحلو لهم أن يصوروا الإلحاد وكأنه منطق العالم المتحضر ، وكأنه منطق البحث الحر !! هذا هو الكذب ، هذا هو التزوير ، هذا هو اللعب بالألفاظ . إن الإيمان يوم يكون نتيجة تعصب وثقافة تلقينية لا فكر لها فأنا أول من يدوسه بقدمي وأول من يتمرد علي مطالبه ، لأنني أحترم عقلي ، أحترم المنطق ، أحترم العلم ، وأرى أن كل ما يناقض العقل والمنطق والعلم يجب أن يداس وأن يطرح وألا يلتفت إليه . من الإشاعات الكاذبة ـ التي انتشرت في مصر ونشرها ناس لهم غرض ـ أن أكثر الفلاسفة والعلماء ملحدون ، وأن أكثر العظماء والقادة لا خلق لهم !! ص_154(1/128)
هذا نوع من الدجل ، هذا نوع من الإشاعات الحقيرة ، يجب أن يحارب هذا الدجل بصرامة لأن أغلب الفلاسفة مؤمنون .. نعم قد يكونون غير مسلمون لكنهم مؤمنون .. فأنا أعلم أن " أرسطو " مؤمن ، وأن " سقراط " مؤمن ، وأن " أفلاطون " مؤمن . وهؤلاء لم يعرفوا الإسلام لأنهم ما اتصلوا لا بموسى ولا بعيسى ولا بمحمد ، ربما كانوا في أقطار أخرى لم تظهر فيها هذه الديانات . ولكن الفلاسفة الثلاثة بعقولهم المتحررة وصلوا إلي أن الله حق . ومع ذلك فإن بعض الناس إذا ذكر الفلسفة القديمة كره أن يذكر أرسطو وسقراط وأفلاطون وغيرهم من الفلاسفة المؤمنين ، واكتفي بفيلسوف منفعي كـ ( أبيقور ) أو فيلسوف لَذِىٍّ كـ ( أرستيوس ) وكأن الفلسفة هي الإلحاد .. هذا نوع من السفه أن نلتفت إليه وألا نتورط فيه . إن الإسلام دين يقوم علي تحريك العقل البشري ، وكما قلت لكم : أريد أن نحرك عقولنا حتى لا نعصي ربنا .. قد يقول قائل : سبحان الله : تحريك العقل عبادة وعدم تحريك العقل معصية ؟! نعم . هذا هو الدين ، إن الله يقول ـ علي لسان أهل النار : (وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير * فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير) . كأن عدم العقل ذنب !! فأنا أريد العقل ، أريد التفكير . في أثناء قراءتي العادية للقرآن الكريم ـ دون تعمد ـ لفت نظري فجأة أن القرآن خلال عشرين سطراً فقط في سورة الزمر لفت النظر ثلاث مرات إلي العلم والعقل وضرورة احترام العلم والعقل . الموضوع الأول هو قول الله تعالى : ص_155(1/129)
(أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب) وبعد عدة سطور قرأت قوله تعالى ـ وهو يوازن بين أصحاب الفكرة الجامدة وبين من يوازنون ويرجحون ويتخيرون ـ : ( والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عباد * الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب ) . وبعد عدة سطور يلفت العقل البشري إلى ظاهرة تستحق أن تعرف : (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب ) . إن أولي الألباب ذكروا في عشرات السور في القرآن الكريم ، والتفكير احترم في مئات السور . رجل مدني كـ ( عباس محمود العقاد ) لم يدخل الأزهر ولم يعرف الثقافات التقليدية ، ومع ذلك فقد ألف كتاباً عنوانه " التفكير فريضة إسلامية " وبدأ الكتاب بأن ذكر قريباً من ثلاثمائة آية تحدثت جميعاً عن العقل البشري وعن وظائفه وعن خصائصه وعن ضرورة الاهتمام به والانقياد له والتعويل عليه فيما يكون من أحكام وفيما ينبغي أن نتواصى به من مسالك وأعمال . أضحكني أن هناك خلافاً وقع بين علماء العقيدة المسلمين حول إيمان المقلد ، هل إيمان المقلد له قيمة ؟ الجمهور علي أن له قيمة باعتبار أن بعض الدهماء وبعض العوام لا طاقة لهم علي التفكير، فهم يقلدون من هم أرقي منهم عقلاً ومن هم أنضج منهم رأياً . ص_156(1/130)
أضحكني وأنا أتتبع المناقشات بين الفريقين أن الفريق الذي يرفض إيمان المقلد كان من ضمن أدلته قوله جل شأنه : (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ). قال هؤلاء : وإيمان المقلد ليس من سعيه إنما هو من سعي الآخرين وجهدهم العقلي ، والإيمان مسئول عن سعيه الخاص ومثاب أو معاقب عن جهده الذي يبذله من مواهبه وخصائصه !! فالمقلد لأنه لم يبذل من نقسه شيئاً فليس له عند الله شيء ينال به درجة ما . بعض الناس تصور أن العلماء لا يؤمنون ، وقد قرأت في كتاب فلسفي نقلاً أثبته في كتابه الدكتور التفتازاني أستاذ الفلسفة في كلية آداب القاهرة ، أثبت الدكتور النقل ، وأنا أحكيه الآن بشيء من التجوز وهو أن صحفياً أمريكياً جاء إلي " أينتشين " ـ صاحب نظرية النسبية ـ فقال له : هل أنت مؤمن بالله ؟ فقال " أينتشين " : نعم ، فقال الصحفي مندهشاً : صف لنا الله الذي تؤمن به . فقال " أينتشين " : لا أستطيع !! فقال الصحفي : ولم وأنت العالم الذي لخص الطاقة الذرية في معادلة جبرية فهل تعجز عن وصف الله ؟! فضحك " أينتشين " قال له : أنا أعجز وغيري من العلماء يعجزون ، أرأيت لو دخل طفل مكتبة مليئة من سطحها إلي سقفها بالمجلدات في جميع أنواع المعرفة وبجميع لغات الأرض أيعي الطفل منها شيئاً ؟ قال له : لا .. قال : نحن في هذا العالم لا نستطيع أن نعرف الله أو نعرف كنهه كما ص_157(1/131)
تريد أن تطلب مني وصفه إلا كما يعي هذا الطفل شيئاً في هذه المكتبة !! فقال الصحفي : وما الذي عرفك به ؟ قال : الحكمة !! نحن في تتبعنا للخصائص والقوانين التي تحكم حركة الكون مضطرون للإيمان بالله لأننا نجد حكمة فيما نري ، وجدنا أن مادة الكون دقيقة مرتبة وعندما نتتبعها يقودنا مجهول إلي معلوم وفق خطة منسقة بارعة ، وعندما نصل إلي هذا المعلوم نتبين أننا أمام مجهولات تالية فنسير في سراديبها أو دهاليزها وما نكاد نصل إلي معلوم حتى يدلنا علي مجهول آخر !! فاستيقنا من الحكمة التي أمامنا ، وهي أن أشرافاً أعلي فوقها ويستحيل أن تكون وليدة عمى أو جهل أو اضطراب أو خلط !! لقد عرفنا الله بهذه الحكمة التي تجعلنا نسجد أحياناً لجلاله !! هذا رجل عالم ، ما أزعم أنه مسلم عرف الكتاب والسنة ، ولكن الذي أزعمه أنه رجل عالم برئ من العلل النفسية. قد تقول لي : وما معني البراءة من العلل النفسية ؟ أقول لك : لقد تبين لي ـ فعلاً ـ أن بعض الملحدين يجيء إلحادهم من علل نفسية لا من حركة عقلية . وعندما يكون الإلحاد وليد علل نفسية فإن له علاجاً آخر غير العلاج العقلي الذي يحتاج إليه العلماء في بحثهم المنطقي . يحكي تاريخنا أن ابن الرواندي ـ وهو رجل معروف بالإلحاد ـ ظهر ص_158(1/132)
في بغداد وحفظ عنه بيتان من الشعر قيل : إنهما أساس الحكم بكفره وإلحاده . هذان البيتان هما : كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه وجاهل جاهل تلقاه مرزوقاً هذا الذي ترك الألباب حائرةً وصير العالم النحرير زنديقاً هذا رجل غضبان لأن العلماء ـ فيما يري أو في تجاربه في مجتمعه ـ جياع ، وأن الجهلة ـ في تجاربه أو في مجتمعه ـ شبعانون !! وقيل أن السبب في نطقه بهذين البيتين أنه كان جائعاً وأنه وقف علي جسر في بغداد فإذا خيل الخليفة تمر به ، وهو رجل ذكي وأضاعته الأوضاع التي عاصرته فقال هذين البيتين !! أنا عندما أري ابن الرواندي متعب النفس ظاهر الكفر لهذا السبب أشعر أنه مصيب في اعتراضه ولكنه مخطئ في الجهة التي يعترض عليها . هو مصيب في أنه لا يجوز أن يكون العاقل أو العالم جائعاً والجاهل أو الغبي مترفاً . ولكن الذي يجعلك ترمي علي القدر أو علي الله الأخطاء الاجتماعية التي وقعت بين الناس ، والله جل شأنه أمر بغير هذا ؟ (قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون * قل أمر ربي بالقسط ) . إن الله أمر بالعدالة ، أمر بالعدالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعدالة في كل شئ . وإذا كان الله أمر بالقسط والناس عصوا فما دخل الله في هذا ؟ إذا وجدت انقلاباً في المجتمع جعل الذكي يتأخر والغبي يتقدم فصحح هذا المجتمع باسم الله وقل : إن الله أمر بالقسط . ص_159(1/133)
أما أن ترفض الإيمان بالله لأنك تنسب إليه أنه أراد هذا وأمر به وبني المجتمع طبقياً علي هذا النحو فهذا هو الضلال ، هذا هو العمى ، هذا هو الجهل . الإلحاد هنا له علة نفيسة وليست عقلية لأن الأنبياء لم يجيئوا لاستبعاد الجماهير وتدليل بعض الفئات ، يقول الله ـ مبيناً الهدف من رسالات سبقت ولحقت ـ : (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين * ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون) . وقد بين القرآن هدف رسالات السماء عندما قال : (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) . فقيام الناس بالعدل هدف رسالات السماء !! فابن الرواندي جاهل لأنه ظن أن رسالات السماء هي التي جعلت الخليفة يشبع وجعلت هذا يجوع . وأعقل منه زكي مبارك الذي قال يصف نبينا صلي الله عليه وسلم : محمد الذي عاش فقيراً وباسمه حكم ملوك وسلاطين !! تناقض يلحظه أديب كـ : زكي مبارك ، لا بأس أن يلحظ التناقض لكن ليس علي طريقة من قال : لما رأيت الحظ حظ الجاهل ولم أر المغبون غير العاقل شربت عشراً من كؤوس بابل فصرت من عقلي علي مراحل هذا نوع من العبث والضياع ، هذا نوع من الأمراض النفسية . واعتقادي أن صراخ المعد الجائعة إذا أوحي بكفر أو إلحاد فإن هذا الصراخ يجب أن يشبع أولاً ثم بعد الشبع يمكن أن نجر الناس من أفكارهم ص_160
لنقول لهم : الجوع كافر ، وربما أخرجكم الجوع عن وعيكم لكنه باسم الإيمان تطعمون من جوع وتأمنون من خوف !! إن الله عز وجل عندما أمتن علي مجتمع مكة امتن عليه بالشبع والأمان : (فليعبدوا رب هذا البيت * الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف) . أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم . وصلي الله علي سيدنا محمد وآله وسلم . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته . ص_161
القرآن معجزة عقلية خالدة(1/134)
أيها الأخوة أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو ، وأصلي وأسلم علي محمد وآله .. وبعد .
تميزت الرسالة الإسلامية بأنها إنسانية عامة خالدة ، وأن المعاني التي جاءت بها والأهداف التي سعت إليها تكررت في كتاب هو دليل النبوة وبرهان صدقها ، وهو في الوقت نفسه وعاء الهدي وكنز الخيرات التي جاء بها هذا الدين.
ولم يقع هذا لنبوة مضت ، فإن النبوات التي مضت كانت الرسالات فيها وصايا حسنة ، و كلمات طيبة ، وعظات مقبولة ، وتوجيهات لا ريب فيها ..
وربما كان الدليل الذي يساق دعماً لصاحبها وبياناً لأنه موفد من عند الله جل شأنه ربما كان خارقاً من خوارق العادات أو معجزة من المعجزات الحسية التي ترغم الناس علي التصديق ..
ص_1 ص(1/135)
لكننا قلنا : إن الله ربي محمد ليربي العرب به وربي العرب بمحمد ليربي بهم الناس جميعاً !!! فهل خوارق العادات عندما تقع تكن سنداً له وتصلح تربية لأمة وصقلاً لمعدنها ورفعاً لخسيستها وبلوغاً بها إلي مستويات أزكي في الخلق وفي المسلك وإلي برامج أدق في الاقتصاد والاجتماع والسياسة ؟ لا .. خوارق العادات لا تؤدي هذه الرسالة . طلب العرب من النبي الخاتم عليه الصلاة والسلام أن تقع علي يديه هذه الخوارق : (وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا * أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا * أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا * أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه ) هذه مقترحات القوم ، فيها شئ من آمال الصحراء ، ينبوع يتفجر بالماء وسط الجد ، أو بساتين ناضرة فيها العنب والبلح تكون طعاماً مبذولاً ميسراً ، ورجل يركب فرساً من أفراس الخيال ليصعد إلي السماء ويعود كما تصور لنا الأساطير في ألف ليلة وليلة !! هذه مقترحاتهم ، لكن الله عز وجل رفض هذه المقترحات كلها وأجري علي لسان نبيه هذا الجواب : (قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا ) . أنا بشر رسول لا أملك إلا ما يملكني الله ، أنا ألتقي الوحي وأبلغ ما أتلقاه : (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد) . ص_163(1/136)
رسالتي أن أحرك عقولكم ، رسالتي أن أنقي قلوبكم ، رسالتي أن أوحد صفوفكم ، رسالتي أن أهز هذا المجتمع الراكد ليتحرك وينطلق !! وبم يهز المجتمع ؟ بهذا القرآن الذي يتلوه علي الناس !! إن هذا المجتمع لابد لكي يربي من أن يكون علي أخلاق أخرى ، كتابي هذا الذي شرفني الله به وأنزله علي قلبي هو المنهاج الذي حوى من القيم ما يزكي الخلق ، ومن البرامج والأنظمة ما يدعم المجتمع ويجعل هذه الأمة – فعلاً – طليعة عالمية تقدم للناس الأفكار التي تنعشهم من خمول ، وتحطم القيود التي كبلتهم وكبلت الإنسانية معهم دهراً ، وتمحو الخرافات . معجزتي : كتاب يغير النفس الإنسانية ، كتاب يرقي المجتمع البشري ، كتاب يترجم عن أشواق الفطرة الإنسانية إلي الكمال وإلي السمو . يقول ابن رشد : إن الأدلة علي القضايا نوعان : أدلة من جنس القضايا ، وأدلة من خارجها ، وضرب المثل علي ذلك .. وسأضرب أنا المثل من شركة المقاولين العرب التي نتحدث فيها الآن : رجل يدعي أنه مهندس ، نقول له : ما دليلك ؟ يقول لك : أمشي علي الماء ، ويمشي – فعلاً – علي الماء !! يقول ابن رشد : الواقع أن الرجل أتي بدليل يخدعني أنه مشي علي الماء ، وهذا خارق للعادة ، ولكنه دليل من خارج القضية .. وهذا صحيح ، لأنه لا صلة بين الماء والهندسة .. لكن لو قال .. دليلي علي أني مهندس أني أبني لك قصراً منيف الشرفات واسع الردهات ويبنيه فعلاً ، أو يقول لك : أبني لك جسراً تعبر عليه المارة والسيارات ، ويبنيه فعلاً .. فهو بهذا الدليل العملي الذي هو من جنس القضية قد أثبت أنه مهندس . ص_164(1/137)
لو جاءني رجل و قال لي : أنا طبيب ، و دليلي طبي أنى أطير في الهواء فهل هذا دليل ؟ لكن لو قال لي : دليل طبي أنى أداويك إذا مرضت ، و فعلا يجاء له بالمرضى فيشفى سقامهم و يكتب لهم الدواء فيزيح عللهم !! فأي الدليلين أقرب إلى نفسك و أدل على صحة القضية التي انتصب لإثباتها ؟ بداهة الدليل الثاني لأنه من جنس القضية . يقول ابن رشد : إن دلالة القرآن على نبوة محمد صلى الله عليه و سلم ليست كدلالة انقلاب العصا حية و لا إحياء الموتى المرضى . فإن تلك و إن كانت أفعالا لا تظهر إلا على أيدي الأنبياء إلا أنها مقطوعة الصلة بوظيفة النبوة .... أما القرآن فدلالته على صفة النبوة مثل دلالة الإبراء على الطب . يكفى أن رجلا جاء و قال للناس : اسمعوا لي ، انتفعوا بي ، سيروا ورائي ، ما أطلب ملكا و لا مالا و لا لذة ، سأكون طليعتكم ، يوم أطلب شيئا سأكون قبلكم منفذه , يوم أكلفكم غرما سأكون قبلكم دافعه ، اتصلوا بي ، و سيروا ورائي ، و انظروا ماذا سيكون . فأنظر فأجد الأصنام المعبودة تهشمت ، و كيف تهشمت ؟ قلت في كتابي "فقه السيرة" : مشكلة الوثنية ليست في تحطيم الأصنام ، لأن الوثني غبي ويوم تأكل الإله الذي يعبده ـ إن كان يعبد إلهاً من العجوة ـ فسوف يذهب ليصنع إلهاً آخر ويعبده !! لماذا ؟ لأن العيب في نفسه ، كالخائف بالليل عندما يصور له الفزع أن الظلمة مليئة بالأشباح وأن جذع الشجرة عفريت متربص به !! وكل هذه خيالات نابعة من نفسه ، فالدواء ليس في هدم الأصنام ، لا .. الدواء أن تجئ بهذا الإنسان فتصحح ل عقله ، وتغسل قلبه من الأدران وتعيد إليه وعيه الصحيح . ص_165(1/138)
إذا فعلت هذا معه فسيذهب بنفسه إلي الصنم ويحطمه !! هذه هي رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وهذا ما صنعه محمد صلى الله عليه وسلم . رسالة محمد صلى الله عليه وسلم أنه جاء للناس وقال لهم : أنتم لستم عيالاً صغاراً تحتاجون إلي من يمشي بكم في الطريق ،لا .. لقد كبرتم ، سأرسم لكم خريطة تبين لكم الطريق وما فيه من عقبات ، والمتاعب التي قد تلقاكم ، والأعداء الذين يتربصون بكم فانظروا فيها واقرأوها جيداً وسأمشي معكم عشرين سنة أدربكم علي السير !! هذا هو الفارق بين الرسالة الخاتمة وبين غيرها من الرسالات هذا هو الفارق بين الإعجاز في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وبين الإعجاز في غيرة من الرسالات . لو كانت معجزة محمد صلى الله عليه وسلم عصا قلبت جبل أحد إلى بستان لآمن بها من رآها ، لكن من لم يرى هذا سيقول : أنا لم أر هذا . لكن عندما أسمع آية في القرآن تقول : (قل من رب السماوات والأرض قل الله قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار ) . عندما أسمع هذا الكلام يحركني وأنا في القرن الرابع عشر للهجرة !! القرآن يخاطبني وأنا في القرن الرابع عشر للهجرة ويحرك عقلي بهذه التساؤلات : (قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون * أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون * أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون ) . ص_166(1/139)
(أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلا ما تذكرون * أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته أإله مع الله تعالى الله عما يشركون * أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ) القرآن بهذا التخاطب العقلي اشتبك مع دماغي وأن في القرن الرابع عشر للهجرة وكأن صاحب الرسالة يقول " هاتوا برهانكم " !! هذا منطق جديد يقول لي : اتبع الدليل العقلي ، احتكم إلي البرهان ، انظر في الكون ، انظر في نفسك ، وازن بين الأفكار والمبادئ ، قلب وجوه النظر في كل شئ !! إننا أمام كتاب عمله الأصلي أن يدخل إلي الأجهزة المعنوية في الكيان الإنساني ثم يدير مفتاح هذا الكيان فيضئ ، كما تدخل مكان مظلماً فتضئ مصباحاً لإنارته . هذا القرآن كتاب يحرك العقل الإنساني ، وتحريكه للعقل الإنساني يكون بوضع ضمانات حسنه لسير هذا العقل . يقول العقل الإنساني : احترم نفسك ، لا تتبع الأوهام ، لا تتبع الظنون ، لا تتبع التخمين ، ابحث عن اليقينيات . إن أمماً سبقت ضلت لأنها اتبعت التخمين والوهم : (وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا إن الله عليم بما يفعلون) . ويقول القرآن في ناس ضلوا : (وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا) . ص_167
نحن نبحث عن اليقين ، ولذل يقول القرآن للإنسان : (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا ) .
لا تتبع ما تجهل ، ابحث فيما يعرض لك ، كن طالب يقين ، إن الظنون لا تليق أن تحرك الناس .(1/140)
والغريب أمن الناس في كثير من الأزمنة والأمكنة تحركهم إشاعات باطلة ، وكلمات طائرة لا ترتكز علي يقينيات ! هذا المعني في الرسالة الإسلامية هو الذي جعل نبينا صلي الله عليه وسلم يقارن بين دليل الإعجاز كما خصه القدر به ودليل الإعجاز كما في النبوات الأولي فيقول : " ما من الأنبياء من نبي إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيت وحياً أوحي الله إليّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة " .
لم يكون أكثر الأنبياء تابعاً يوم القيامة ؟ لأن الكتاب الذي جاء به يجدد الإيمان في كل عصر !!
افرض أني وجدت نسخة من القرآن في أي قارة ، في أي بلد ، في أي زمن ، وأخذت أتأمل في هذا الكتاب ، إنني سأجد الحديث في هذا الكتاب كتاباً إنسانياً ، حديثاً عن الله رب العالمين لا حديثاً عن الله
ص_168(1/141)
رب إسرائيل فقط كما جاء في العهد القديم ، لا ، سأجد حديثاً عن الله بديع السماوات والأرض ، سأجد رب العالمين يعرف نفسه للناس فيقول : ( الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشركون ) . ( الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون ) هذا التعريف بالله فيه لفتٌ لنظرى إلي الكون ، بل لفت لنظري إلي نفسي : ( وفي أنفسكم أفلا تبصرون ) ( فلينظر الإنسان مم خلق ) وهناك أسئلة تعطي دفعة علمية ، تأمل في قوله تعالى : ( أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ) كيف هذا سؤال علمى يجعل العقل البشرى يبحث. لكن ـ للأسف ـ الأمة العربية التي قلت في صدر حديثي : إن الله رباها بمحمد صلي الله عليه وسلم ليربي بها الناس ، هذه الأمة لم تحسن أن تتجاوب مع التراث الغالي الذي شرفها الله به ، ولم ترفع مستواها الفكري لتكون عند حسن الظن بها . ومن باب الإنصاف أقول :أن هذا التخلف العربي طارئ وما هو بأصيل في تاريخنا . والحقيقة أن العرب يوم ظهروا كانوا ـ بتعبير العصر الحديث ـ طليعة تقدمية فكرية واجتماعية طفرت بالمجتمع العالمي - علي عهدها – طفرة رحيبة ، كان العرب يمثلون يومئذ أرقي أطوار الفكر البشري والتقدم الاجتماعي ، ويعجبني أن مؤرخين منصفين تحدثوا عن دور العرب في هذا ص_169(1/142)
الموضوع . كنت أقرأ كتاب " معالم تاريخ الإنسانية " لـ " ولز " وهو يتحدث عن تاريخ الإنسانية فقال ما خلاصته إنه من الغبن للحق أن نتصور الفتح العربي غزواً عسكرياً فهذا غير صحيح ، لقد كان الفتح العربي يمثل انفجارات فكرية واجتماعية صاحبت تقدمه علي أنقاض الاستعمار الروماني الذي شغل الناس بجدل بيزنطي وبحث لاهوتي مرهق عن العلاقة بين التثليث والأقانيم وما إلي ذلك . فكان مجيء الإسلام بسهولته في تصور العقيدة ، وبالعدل الاجتماعي الذي وفره للجماهير الكادحة ، وبالحريات والكرامات الإنسانية التي نشرها بين الناس كان ذلك هو الذي وطد أركانه ، وجعل العرب لا يعتمدون علي القوة العسكرية في بقائهم ، إنما يعتمدون علي المبادئ والمثل في إقبال الناس عليهم وترحيبهم بهم !! هذا هو الكلام ـ تقريباً ـ الذي قاله المؤرخ الإنجليزي " ولز " في كتابه " معالم تاريخ الإنسانية " . والواقع أني تصورت العرب يومئذ بالقاطرة التي تشد ورائها سبعين عربة !! العربات ـ وحدها ـ كانت موجودة جاثمة في مكانها لا تتحرك محتاجة إلي جهاز قوي يشد ، من الذي صنع الجهاز ؟ من الذي صنع الأمة التي شدت هذا القطار من العربات ؟ إنه القرآن ، القرآن هو الذي كون هذا كله !! القرآن هو الذي ضبط سلوكهم وأحكم أمورهم ورقي مستواهم وجعلهم يمسكون بالقلم الأحمر لينظروا في فلسفات الإغريق والسريان والهنود وآداب الفرس وغيرها ثم ما رأوه صحيحاً استبقوه ونموه ، وما رأوه خطأ شطبوه !! وكل هذا يعطيك فكرة عن المستوي العلمي الهائل الذي صنعه القرآن ص_170(1/143)
للأمة العربية وجعلها طليعة عالمية بالحق ل بالإدعاء، بالقدرة لا بالتصنع. القرآن لا يزال بين أيدينا ما ارتفع، السنة لا تزال بين أيدينا ما اختفت ، أسباب النهوض موجودة فى الأمة الإسلامية، والأمة الإسلامية تستطيع أن تؤدى دورها التاريخى للعالم أجمع يوم ترجع إلى القرآن الذى شرفها الله به وجعلها أرقى أمم الأرض على الإطلاق. أقول قولى هذا واستغفر الله لى ولكم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ص_171
هذا ديننا
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم .. بسم الله الرحمن الرحيم
أيها الأخوة
إن مطالعة وجوهكم تشرح الصدر ,وتملأ الفؤاد طمأنينة علي مستقبل هذا الدين .
إن النظر في تلك الصفوف المتراصة يكشف عن معجزة من معجزات الإسلام تحدث أعداؤه عنها .
هذه المعجزة أساسها : القدرة الخارقة المودعة في تعاليم هذا الدين التي تجعله علي امتداد الزمان والمكان يصنع الرجال , وينشئ الأجيال , ويمد معني الإيمان به من عصر إلي عصر, ومن قطر إلي قطر .
إن هذه المعجزة لفت نظري إليها صديق من أعضاء هيئة التدريس في كلية الشريعة بمكة المكرمة , قال لي : أحب أن أترجم لك مقالاً نشرته صحيفة أمريكية , ووجدت هذه الصحيفة تتحدث في مقال لها عن الطبيعة .
ص_172(1/144)
التي تميز بها هذا الدين ، بعد أن أجرت حديثاً مع بعض الشباب الذين تصورت فيهم انهم نسوا دينهم ، لأن بعضهم ما كان يؤدي الصلاة مثلاً أو لأنه انقطع عن قومه أمداً . أجرت معهم علي اختلاف أفكارهم وأمزجتهم أحاديث شتى خلصت في نهايتها إلي أن كل واحد كان غيوراً علي دينه ، متشبثا به ، وإن شده الشيطان بعيدا عنه فهو يحن إلي العودة إليه ، ويأبى أن يألف المهاد النجس الذي هيأته له الحضارة الحديثة بما يسرت من ملذات وبما أتاحت من متع . ولفتت الصحيفة النظر إلى أن هذه الخاصة في الإسلام خاصة غريبة لأنها تجعل أتباعه سرعان ما يجيب أحدهم الآخر إذا ناداه أو استنجد به قائلاً له لبيك إنني أريد أن أنوه بأن للإسلام فضلاً علينا ، ليس لأحد فضل علي الإسلام ، الفضل للإسلام في أنه زودنا بشخصية صلبة أبت أن تذوب أمام الميوعة والإباحية التي وفد بها سماسرة الغزو الثقافي من كل ناحية . إن الإسلام يتعرض في عصرنا لحرب طاحنة من جهتين معروفتين ـ الآن ـ في العالم : جهة تنكر الدين من أساسه ، تحب أن تبعثر الشُّبهة في تاريخنا وفي حضارتنا وفي يومنا وفي غدنا على أساس من تفسيرها المادى للتاريخ ، وعلى أساس من الإلحاد الذي تبشر به . وهناك جهة أخرى ترى أن لها ثأراً عند الإسلام وأن هذا الثأر لا يمكن أن ينسي . إن الأوروبيين قبل أربعة عشر قرناً كانوا يحكمون مصر والشام والشمال الإفريقي كله ، وكانت سيطرتهم علي هذه الأرض تنضج بشيء من الأفكار التي تدين بها . ص_173(1/145)
من الذي أَجْلى هذه القوى عن مصر وعن الشام وجعل مَدَّها ينحسر ويتراجع إلى روما أو إلى القسطنطينية أو إلى البلاد التي جاءت منها ؟ إنه الإسلام ولذا يشعر الاستعمار الغربي ـ وهو يضرب بلادنا بشتى القوى ـ أنه يريد أن يسترد أرضاً كانت له قديماً هذا المعنى يجعلنا ندرك طبيعة القوى التي نواجهها ، وهذا الإدراك لا بد منه . ولذا فأنا أقول لكم : إن خدمة الإسلام لا يقدر عليها كل أحد ، خدمة الإسلام تحتاج إلى رجل يجمع بين عنصرين لا يُغني أحدهم عن الآخر : العنًصر الأول : الإخلاص العميق لله . العنصر الثاني : الذكاء العميق في رؤية الأشياء علي طبيعتها . كلا العنصرين لا يغني أحدهما عن الآخر ،قد تكون مخلصاً جداً ولكنك عديم الفقه ، أو قليل الذكاء ، أو ضعيف البصر بالأوضاع والحقائق ، فأنت تسئ إلى دينك ، وربما أصابه منك ما أصاب صاحب الدُّبة منها ولذلك قال علماؤنا : إن العمل لا يُقْبَل إلا بأمرين : النية الصحيحة ، والعمل الصحيح ، وهو أن يجئ وفق ما رسم الله . ص_174(1/146)
فلو أن أحدا ابتدع شيئا ليس له فى الدين أساس فنيته الطيبة لا تغنى عنه ، ولو أنه أتى بشئ صالح في الدين ولكنه كان مضطرب النية مغشوش الإخلاص فإن عمله لا يقبل منه . فلنجتهد في أن نجمع بين الأمرين : صدق النية وفهم ناضج لحقائق الإسلام . لقد تابعت أعداء الإسلام فوجدتهم صنفين ، وذكرني بالصنفين القارئ وهو يقرأ ـ اليوم ـ الآيات الأولى من سورة البقرة . هناك صنف يكفر بالحق وهو يعرفه ، ويجحد اليقين وهو يعرفه ، ويحارب المؤمنين ويظلمهم وهو يعرف ذلك ، لماذا ؟ لأنه فرعوني المزاج ، فرعوني المذهب والوجهة ، وفرعون كان يدري أنه ليس بإله ، وكان يدري أن موسى علي الحق ، ومن مع فرعون كانوا يعرفون هذا ، ولكنهم كما قال رب العالمين : (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا) وهؤلاء عاقبتهم مشئومة (فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ) هذا النوع هو الذي تقال فيه الآية الكريمة : (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة) هذا نوع من الناس ، هناك نوع آخر ، وهو الذي سمعتم وصفه في الآيات العزيزة من سورة البقرة وهي تصور وجهة نظر المنافقين . المنافق لا يدرى أنه خسيس ، ولا يحب أن يعرف بأنه خداع ، بل عندما يناقش يدافع عن نفسه باتهام الآخرين ، وتأمل معي في هذه الآيات ( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون * ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون * وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون) ص_175
هذا النوع من الناس صورته الآية الأخرى :
(قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا * الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا * أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا * ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا )(1/147)
وأنا لا أنقب عما في القلوب من أسباب الكفر هل هي أسباب حقيقية أو مفتعلة ، هل هذا الكافر يدري أني صالح مصلح أو أني ضال مضل ؟
أنا لا أنقب عن هذا فإن هذا يعلمه الله ويحاسب على أساسه عباده أجمعين .
لكن الذي أشرحه بشيء من الوضوح والمصارحة ، بشيء من الإصرار والمكاشفة ، الذي أريده هو أن يعلم من يجهل أو من يعلم أن الإسلام لا يتطلب إلا بيئة تسودها حرية الكلمة ، وأنه لا يتوسل إلى بلوغ أغراضه بعنف أو إكراه أو إرهاب ، وأنه الدين الفذ الذي يرى الحرية ظهيرا له ، ويرى أن النور والشعاع هما وحدهما المسار الطبيعي لانطلاقه .
ديننا يكره الظلام ، ويكره الإرهاب ، ويكره الاستبداد . وأنا أقول باسم الدعوة الإسلامية : إننا نحن الدعاة إذا فشلنا في خدمة ديننا ، وفي تحقيق أهدافه في جو تسوده حرية الكلمة فلسنا جديرين بالحياة ، بل ننسحب من الميدان وحق علينا خزي الدنيا والآخرة.
إنني باسم الدعوة الإسلامية أقول : إننا ما ندعو للإسلام أبدا ولدينا تفكير في اضطهاد مخالف أو اغتيال عدو لأننا نملك ثروة هائلة طائلة من
ص_176(1/148)
الأدلة التي تجعلنا نعرض ديننا وصوتنا جهير وفمنا ضليع وصفحتنا نقية . إننا ما نخاف الحرية ، إن الذي يخاف الحرية هو الإلحاد ، والإلحاد في روسيا ظل ستين سنة إلى الآن يخشى الجو الحر ، لأنه يعلم أن حرية الكلمة سوف تجهز عليه ، وأن فطرة الله في الأنفس سوف تنطلق وتمتد . إن الخرافات والأوهام هي التي تعيش في الظلام ، أما الحق فهو يعيش في النور . نحن أتباع دين جاء في كتابه العزيز : (وبالحق أنزلناه وبالحق نزل ) نحن لا نخاف الضوء ، نحن نكره الظلام ، ونكره الظلم ، نحن نريد الجو الحر ، لأن الجو الحر هو الذي يتيح لنا عرض ديننا ، ويوم نعرض ديننا في الجو الحر فنحن واثقون من أن سلامة المقدمات ستنتهي بالنتيجة الصحيحة ، وأن ما لدينا من حقائق يهواها العقل البشري ، وتستريح إليها الطبيعة المستقيمة أقول هذا لا عن الإسلام كما بلغه في صورته النهائية محمد عليه الصلاة والسلام ولكن أقول هذا عن الإسلام كما بدأ بتبليغ عقائده وفضائله وقيمه ومثله أول الرسل العظام نوح عليه السلام . قد تستغرب ، ما دخل نوح في قضية الدعوة ؟ وأقول لك : دخله واضح ، فإن أبا البشر الثاني نوحا عليه السلام قال لخصومه في وضوح : أنا ما أفكر في إكراه أحد ، أنا أعرف ربي بوضوح : (قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ) ص_177(1/149)
هذه طبيعة الدين منذ حمل لواء الدين نوح ، نوح ما كان يشكو من عجز في أدلته ، أو ضعف في بيانه ، إنما كان يشكو كما تشكو الأنبياء جميعا من أنهم يقولون : الله واحد ، يجدون أيديا وضعت في أفواههم ترد الكلمات في حلوقهم وتمنعهم من أن يتموا بيانهم . (ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم) الشكوى من هؤلاء ، ما شكا الأنبياء إطلاقا إلا من أنهم يطلبون الجو الحر ويبرأون من الإكراه . ولنقرأ من سورة الأعراف هذه الآيات : (وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين) هذا ما عرض به شعيب رسالته ، ثم وجد أن خصومه يسلكون مسلكا فيه شطط ، وفيه لدد ، فقال لهم : (ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجا واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين) قد يطول الأخذ والرد ، قد يطول الزمن الذي تعرض فيه الدعوة ، قد تطول الأيام التي يبقى فيها المعوج على عوجه والمنحرف على انحرافه ، وبالتالي تطول الأيام التي نشرح فيها أصول دعوتنا وأسس رسالتنا ، وحقائق القيم التي جاء بها وبلغناها عنه . ص_178(1/150)
قد تطول الأيام ، فماذا نصنع ؟ نفس رسالة شعيب تتحدث : (وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين ) فماذا كانت الإجابة ؟ كانت الإجابة : (قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أولو كنا كارهين) من أين جاء الضغط ؟ من أين جاء الاستبداد ؟ هل جاء من قبل شعيب أم من قبل أعدائه؟ كان رد شعيب على هذا الاستبداد والإكراه : (قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علما على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين) إن ديننا يفخر بأنه دين تفكير ، وبأنه يعرض الحق على الناس ويقول لهم : (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ) ولذلك يغيظني أشد الغيظ أن تكون أعظم فضائل هذا الدين منكورة عليه ، وأن تكون أبعد الرذائل عن مسلكه شبهة يتهم بها ثم من الذي يتهمه ؟ يتهمه الذين لطخوا وجه الحياة بالقذى ، والذين سجنوا الآراء وحولوا الأوطان إلى سجون كبيرة من الذي يتهم الإسلام بأنه دين يتعسف في دعوته ؟ أعداؤه من المبشرين والمستشرقين الذين ملأوا الدين اضطهادا وآلاما. إنني لم أعرف في دراستي للأديان كلها وللفلسفات كلها دينا يعمل في حرية ولو كانت الحرية ضده كهذا الدين الذي ننتسب إليه ص_179(1/151)
هذا الدين ينظر إلى العقل البشري ، من أين تجئ الأفكار إلى هذا العقل ؟ هناك أفكار تتسلل إلى العقل الإنساني كما يتسلل اللص ليدخل خفية أو ليدخل دون إذن ودون رضا . هذه الأفكار ربما تجئ من تيارات موروثة أو من تقاليد متبعة . فالإسلام يجئ لهذا الإنسان ويقول له : فكرك هذا من أين جاء ؟ وكيف رضيت بأن يكون هذا الفكر ضيفا ثقيلا على عقلك ، وكيف دخل رأسك ؟ يصف القرآن الكافرين والجهلة والمتعصبين فيقول : (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ) إذا تفكير التقليد والتبعية مرفوض . ربما أخذنا الأفكار عن طريق الإشاعة أو التخمين أو النقل الذي لا ندرى بالضبط ما سنده أو عن طريق الظنون ، يرفض القرآن الكريم هذه الطرق كلها ، ويأبى أن يسكن عقلنا إلا اليقين القائم على أدلة محترمة أما الظنون فقد قال في الكافرين : (وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا إن الله عليم بما يفعلون ) يجب أن تقوم على منافذ الفكر والحكم في الكيان الإنساني حراسة أساسها الوحي الإلهي ، يقول جل شأنه : (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا ) وعندما قال أهل الأديان نحن أهل الجنة وأصحابها : (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين * بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) ص_180(1/152)
كان الرد على هذا الزعم ( هاتوا برهانكم ) ويتساءل القرآن الكريم ليحرك العقل البشري هذا التساؤل : (أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ) هذا دين لايلطم وجوه المعارضين ولكنه يقول : ( هاتوا برهانكم ) والذي يقول ( هاتوا برهانكم ) هو الذي يكره الكفر لأنه لا برهان له : (ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون ) إن ديننا يرى أن غزارة الثقافة الإنسانية عون له في انطلاقه ، فكلما ازدادت الثقافة الإنسانية فإن هذا الدين يجد المهاد الصالح لانتشاره وتقبله . ليس هناك إلا عيب واحد هو أن الأمة التي تتبع هذا الدين لا تحسن فهمه ولا العمل به !! وقد رأيت في عواصم كثيرة أن أمراض المسلمين متشابهة . وكما قلت في أحد كتبي : كما تحتاج الصحراء إلى أنهار تحمل الري إلى جنباتها وأكنافها كي تخصب وتثمر ، تحتاج الأمة الإسلامية إلى أنهار من المعرفة والتثقيف والتربية كي تعرف دينها وتحسن خدمته . إن أمتنا الإسلامية ـ للأسف البالغ ـ عبء على دينها وعائق أمام انطلاقه كيف نردها إلى الإسلام ؟ هذا ما تحتاج مدارسته إلى محاضرات مطولة ، لماذا ؟ لأن الأمراض معقدة ، ولأن العلل التي تعانيها أمتنا علل متشابكة ومتداخلة ، وتحتاج إلى إنسان فيه بصر وحنو على أمته. ص_181(1/153)
إنني أحيانا أرى البدعة أمامي وأريد أن أجهز عليها ، ولكني أراها مشتبكة مع سنة من السنن أو مع بقية من تعاليم الإسلام فأترك الأمرين معا على أمل أن أستطيع فصل السنة عن البدعة حتى إذا ضربت ضربتي ضربت الضلال وحده بدل أن أخبط خبط عشواء . إن الأمر يحتاج إلى البصراء ، ولذلك أكرر في أماكن كثيرة أن دين الله أشرف من أن يؤخذ عن أفواه الحمقى !! لقد قلت في كتابي " فقه السيرة " : إن محاربة الوثنية لا تكون بتهشيم الآلهة الباطلة ، فلو أني في الهند وذبحت العجول التي يعبدها الهندوك فهل ستنتهي الهندوكية في الهند ؟ لا.. العبيد المسحورون سيجيئون بعجل آخر بدل العجل المذبوح ولذلك فإن المسلمين هناك كانوا في بلاهة يوم كانوا يستحبون أكل الأبقار وذبح العجول إن الآفة في العقل الإنساني ، في النفس الإنسانية . هؤلاء أشبه بالخائف الذي يسير في الظلام فيتصور أن جذع الشجرة في الطريق عفريت متربص به ، يتصور أن الظلمة السائدة مليئة بالأشباح التي تريد أن تقتله ، يتصور أن همس الريح أو حفيف الأوراق نوع من الأرواح المجنونة التي تريد الهجوم عليه لأن هذا كله نابع من قلبه . إن التغيير الحقيقي يكون في النفس الإنسانية ، وهذا ما فعله محمد عليه الصلاة والسلام ، بهذا بدأ عليه الصلاة والسلام دعوته ، ولهذا شحن الإسلام بألوف من الأدلة التي تجعل العقل الإسلامي أنضج العقول بإطلاق . ولقد أعجبني أن الأستاذ العقاد ألف كتابه " التفكير فريضة إسلامية " ووضع بين يدي الكتاب بين مائتين وثلاثمائة آية تشرح وظائف العقل الإنساني وطرقه في التصور والاستدلال ، وهذا كلام صحيح ، وتلك طبيعة امتاز بها ديننا . ص_182(1/154)
أعود مرة أخرى بعد الطبيعة العقلية التي امتاز بها ديننا إلى الطبيعة الروحية في ديننا ، والتي تجعل المسلم أخا للمسلم يحبه وإن كانت بينهما ألوف الأميال . لقد ذهبت إلى مكة المكرمة فوجدت ناسا من أقصى الهند ، وجاءني مسلم من تايلاند يحيني ويسلم علي وكأني قريب له يراه بعد غياب طويل . إن الإسلام وحده هو الذي ألف بين قلوبنا ، وجمع أشتاتنا ، وجعلنا نتحاب بروح الله فيما بيننا ، وجعل غائبنا يشتاق لحاضرنا وحاضرنا يشتاق لغائبنا . هذه الخصلة من الخصال التي أودعها الله – جل جلاله – في هذا الدين ، احرصوا عليها واستمسكوا بها لأنه لا أمان لقوى الشر في العالم ، فإن قوى الشر في العالم تملك الكثير ، لا أقول تملك القنبلة الذرية ، فإن القنبلة الذرية يوم تنطلق تريحنا ، ولكنهم يملكون من أسباب الخداع والختل والغش والفتنة وتزيين الضلال وبث الهوى ونشر الإشاعات وتلمس العيوب للأبرياء ونفث الدخان في أفق النشاط الإسلامي والشباب الإسلامي ، إنهم يملكون من هذا الكثير .. ولن تتغلبوا على هذه القوى إلا بتماسككم وتحابكم بروح الله فيما بينكم وتواصيكم بالحق والصبر . أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ص_183
الإسلام و الحرية
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
إن الإنسان ـ كما رسم القدر له ـ كريم ، لم لا يكون كريما وهو في أصل تكوينه نفخة من روح الله الأعلى وقبس من نوره الأسنى ؟ صحيح أنه وضع في غلاف من الطين ، لكنه وضع هكذا ليختبر وليمضي في طريقه كي ينضج هذا الغلاف أو يزكو أو يطهر الروح الذي حل فيه ، ولذلك يعجبني قول القائل :
قد هيؤوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
إن الإنسان خلق ليكون كريما ، وليكون وسيما ، إن الإنسان خلق لكي يأخذ طريقه إلى الخير ، وكرم الإنسان كما سمعتم في كتاب الله تعالى :(1/155)
(ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا )
ص_184
صحيح أن بعض الناس بدل أن يرفع بدنه إلى مستواه الروحي ارتكس أو أسف وارتكب من الدنايا ما جعله يهبط : وصحيح أن المجتمعات البشرية بدل أن تتعاون على تكريم الإنسان كثر فيها التظالم ، وكثر فيها التغابن ، وهذا شئ يؤخذ على التاريخ الإنساني . وقد لخصه أبو الطيب المتنبي في قوله : كلما أنبت الزمان قناة ركب المرء في القناة سنانا وبذلك تظالم البشر ، وأساء بعضهم إلى البعض الآخر ، لو أن الناس بدل أن يبحثوا عن الحقوق بحثوا عن الواجبات وأدوها لتوفرت الحقوق تلقائيا : فلو أننا أقمنا سياجا دقيقا حول الدماء والأموال والأعراض والكرامات المادية والأدبية ، وأدى كل إنسان ما سجله الحديث الشريف : " إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا .." أكان إنسان يشكو ضيما أو يتوجع ألما ؟ إننا نريد أن نتحدث عن حريات هي حقوق أولى للإنسان : وهذه الحريات – كما شرحناها وكتبناها – أربعة ، وسأتحدث الآن عن ثنتين منها وأدع الباقي لإخوتي الذين يتحدثون من بعدي . أولا الحرية الدينية : الإيمان الصحيح المقبول يجئ نتيجة يقظة عقلية واقتناع قلبي ، إنه استبانة الإنسان العاقل للحق ، ثم اعتناقه عن رضا ورغبة وقد عرض الإسلام نفسه على الناس على هذا الأساس . ص_185(1/156)
ونوح عليه السلام وهو أول رسول على الأرض – على القول الصحيح – يرى أن إكراه الآخرين على العقائد مرفوض ، وأن المنطق السليم هو أن يملأ أفئدة الآخرين بالإقناع الحر ، فليس هناك إكراه على الدين ، الرجل عرض دعوته على قومه فرفضوها ، فماذا كان جوابه ؟ (قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ) لا .. لاإكراه ، هذا المعنى الذي قاله نوح لقومه وسجله القرآن الكريم هو المعنى نفسه الذي قاله الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ) ومشت حرية التدين في القرآن الكريم فأحصيت ـ فى بحث أكتبه الآن ـ أكثر من مائة آية قرآنية تترك حرية التدين للضمير الإنساني ، فالإسلام يعرض عرضا حرا ، ويمكن كل ذي لب من أن يتبين معالمه ، وبعد ذلك يقال له : قبلت أم لا ؟ إن قبل فبها ، وإن رفض قلنا له : لا تعمل على تكميم أفواهنا ، واعتراض طريقنا ، والنيل من ضعافنا ، والسخرية ممن شرح الله صدره بالإيمان من أتباعنا . هذا ما نطلبه منك وأنت حر : (قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ ) إن صيحة : (لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون ) هذه الصيحة لم تعرف إلا في كتابنا الأقدس العظيم ، إن صيحة (لكم دينكم ولي دين) ص_186(1/157)
هذه الصيحة لم تعرف ـ إطلاقا ـ فى ملة أخرى . كانت أوربا قبل القرآن وبعده ، وكان العالم كله يعيش في برك من الدم ، وصراع آثم حول إكراه الناس على العقائد حتى جاء القرآن الكريم يقول للناس : (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) هذه فترة ، لكن الذي حدث أن العالم ـ الآن ـ يعامل الإسلام وحده معاملة شاذة ، ويخصه بمزيد من المقت والترويع .. فعندما عرض رئيس الولايات المتحدة العون على باكستان اشترط عليهم ألا يصنعوا القنبلة الذرية ، لماذا ؟ !! أنت تعلم أن الهندوكية عابدة الوثن ومقدسة البقر وعدو باكستان الأول صنعت القنبلة الذرية ، فلم تريد أن تجعل كفة باكستان مرجوحة ، وجانبها أذل وسلاحها أقل ؟! لماذا تريد أن تجعلها ضعيفة أمام الوثنية ؟ ألأنها مسلمة ؟ نعم هذا هو السبب الحقيقي! لماذا يكون الميزان الدولي الآن أن جميع الدول العربية يجب أن يكون سلاحها ـ إذا اجتمعت ـ أقل من سلاح إسرائيل وحدها ؟ لماذا ؟ ألأننا مسلمون وهم يهود ؟ نعم !! هناك حقد على الإسلام وحده، وجدنا هذا الحقد يصلح بين الكاثوليك والبروتستانت ، ومحيت قرون من العداوة بين الفريقين ، ثم انضم إليهم الأرثوذوكس فمحيت عشرات القرون من تاريخ العداوة ، واجتمعت الكنائس الثلاث : ثم وجدنا الصهيونية ـ وهي اليهودية ـ تتفق مع المسيحية ضدنا ، ثم وجدنا العالم كله ـ قاصيه ودانيه ـ يشتغلون ضد الإسلام ، أين حرية التدين ؟ إنني أشعر بهوان وسواد في وجهي عندما أسمع القائد الشيوعي المتمرد في جنوب السودان وهو يقول : لا نصلح إلا إذا ألغي التشريع ص_187(1/158)
الإسلامي في الشمال !! هذا بلاء ، إنني كمسلم أؤمن بحرية التدين ، وأقول : دين وسع رجلا وامرأة في بيت ـ الرجل مسلم والمرأة كتابية ـ ألا يسع ألوفا من الناس ـ يتعارفون أو يتجاورون ـ في الأرض الفضاء ؟!! إن التعصب للإسلام أصبح منقصة ، والتعصب لأي نحلة شاردة أو بدعة فاسدة لا حرج فيه : وقد قلت للأخ ياسر عرفات ـ وأنا في الجزائر ـ لماذا رفعتم شعار العلمانية ؟ إذا كان اللص الذي سطا على البيت يرفع شعار اليهودية فما معنى أن يسلح المهاجم بعقيدة دينية وأن المدافع يحرم من سلطان هذه العقيدة ؟ ألا تعلم أن صاحب البيت يوم يكون مزلزل الأركان سقيم الوجدان فإن اللص سيستولي على البيت ولن تكون له حرمة لا عند الله ولا عند الناس؟!! لماذا رفعتم شعار العلمانية ؟ ارفعوا شعار الإسلام ، إن الذين لا شرف لهم لو كانوا بغايا لرفعوا راية البغاء على حوانيتهم وهم يواقعون الدنايا !! فلماذا يكون صاحب المحراب الطهور خجلان من محرابه يتوارى بدينه وحقائقه عن الأعين ولا يتكلم ؟ لماذا لا تقول بملء فمك : أنا مسلم أتبع صاحب الرسالة الخاتمة وصاحب الرحمة العامة ؟ لماذا لا تقول هذا وقد قال غيرك ما لا ينبغي أن يقال ؟ . إننا نؤمن بالحرية الدينية لكننا لا نؤمن بالهوان الديني للإسلام وحده ونرفض هذا رفضا باتا . ثانيا : الحرية السياسية : أتحدث على عجل عن الحرية السياسية ، الحرية السياسية لها شقان : أولا : يقرر الإسلام أن أكفأ رجل في الأمة الإسلامية يقودها ، ص_188(1/159)
والمناصب كبراها وصغراها ليست حكرا على أحد ، لا على طائفة مدنية أو عسكرية ، ولا على أسرة ، ولا على حزب ، ولا على هيئة . الأمة لها وظائف إدارية واجتماعية ينبغي أن يختار أكفأ الناس لها . هذا هو الإسلام ، لكن الذي حدث أننا توارثنا الفرعنة ، وكلمة الخديوي توفيق لأحمد عرابي : هل أنتم إلا عبيد إحساناتنا ، هذه الكلمة ترجمة حرفية لكلمة فرعون : ( أنا ربكم الأعلى ) والعرب عرفوا أن الطبيعة البشرية هي الطبيعة البشرية ، ولذلك أدخلوا كلمة " فرعون" في بنية اللغة واشتقوا منها فعلا ، يقال : فرعن ، يتفرعن ، تفرعنا ، فرعنة ، فالكلمة أصبحت من كيان اللغة لأن الفرعنة أصبحت من كيان البشر . لماذا تفرعن البشر ؟ أحسن جواب على هذا السؤال المثل العامي : لِمَ تفرعنت يا فرعون ؟ قال : لم أجد من يردني !! هذا المعنى أخذه الأستاذ العقاد ووضعه في بيتين من الشعر : أنصفت مظلوما فأنصف ظالما في ذلة المظلوم عذر الظالم من يرض عدوانا عليه يضيره شر من العادي عليه الغاشم والقرآن الكريم قسم الظلم قسمين : ظلم النفس وظلم الغير . في ظلم النفس يقول القرآن الكريم : (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا ) اعتبرهم ظلمة لأنهم ظلموا أنفسهم . أما ظلم الغير فهو السطو على حقوق الآخرين ، السطو على الدماء والأعراض والأموال ، وقد تحدث القرآن في كثير من الآيات عن هذا النوع من الظلم . ص_189(1/160)
ما يعنيني الآن ، أنه قد تبين لي أن الإصلاح الحقيقي يتجه إلى الشعوب ، أولا ، فإن الفساد كما قال محمد عبده :يهبط من أعلى إلى أسفل ، والإصلاح يصعد من أدنى إلى أعلى!! وقد تأكدت بعد دراسات طويلة أن الحكومات إفراز طبيعي للشعوب التي تنبت فيها .. ومعنى هذا أن الشعب الذليل يحكمه حاكم ظالم ، إذا وجد الحيوان الذي يركبه يمتطيه !! لقد قلت : إن الشعوب الأوربية أرقى من الشعوب الإسلامية ، وقلت إن الشعوب الأوربية لا تنتشر فيها معاصي القلوب ، وإنما تنتشر فيها معاصي الجوارح . معاصي القلوب هي : الكبر والحقد والحسد والرياء والتذلل والنفاق وحب الظهور والفخر ، هذه هي معاصي القلوب ، لا تجدها في أوربا إلا ندرة . معاصي الجوارح هي : السرقة ، الزنا ، وهي أمور تنشأ عن هيجان بعض الغدد أو بعض الأجهزة البشرية .. هذه المعاصي في نظر المربين تجئ في المرتبة الثانية بعد معاصي القلوب . ومعصية آدم كانت معصية جوارح ، ومعصية إبليس كانت معصية قلوب . لقد وجدت كل معاصي القلوب من كبر وحقد وفخر ورياء وتقاتل على الدنيا ، وجدت كل هذه المعاصي عند العرب .. كنت أشك أن اللبنانيين عرب فلما وجدت القتال احتدم بينهم عشر سنين قلت : الآن عرفت أنهم عرب !! ص_190(1/161)
العرب لا يمكن أن يصلح طبيعتهم إلا دين كما قال ابن خلدون : لا يقوم للعرب ملك إلا على أساس نبوة . إنني كلما وجدت صوت الإسلام خافتا ، ووجدت البعد عنه ظاهرا أيقنت أنه لا مكان للعرب في العالم الأول ، بل سيكونون ـ هم ـ الجمهور الذي يزحم العالم الثالث أو العالم الرابع إن وجد !! ولن تختفي الفرعونية الحاكمة من بيننا إلا بهذا الدين ، الأوربيون لا يعرفون هذه الفرعنة .. لو قال ( تشرشل ) للإنجليز : أنا حاكم عليكم إلى الأبد ، والله لا يستمر في مكانه أربعا وعشرين ساعة !! لو أن ( ديجول ) عندما قيل له : ارحل ، قال : لا .. أنا الذى صنعت لكم هذه الحرية وأنا ولي نعمتكم ، لو قال هذا ما خرج من مكتبه هذه شعوب أخرى ، ولذلك فإن التربية الحقيقية تتجه إلى الشعوب ، إنني أريد أناسا لهم إيمان ، لهم حرية ، لهم كرامة ، وفي الحديث : " إذا رأيت أمتي تهاب الظالم أن تقول له : أنت الظالم فقد تودع منهم " لا قيمة لها ، أصبحت أمة لا كرامة لها ، انتظر أن تدفن وينتهي أمرها . هذه حقائق دينية ، عند التطبيق يحتاج الأمر إلى رجل له عقل يعرف كيف ينزل الآيات على الوقائع : كيف ؟ أقول لك : لو أن صاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام تعجل العراك مع الظلمة وهو غير مستعد لدفن الإسلام في بطحاء مكة لو أن صاحب الرسالة ـ وهو الذي جاء بتدمير الأصنام ـ فكر في تدميرها حول الكعبة قبل أن يخلي النفوس من قداستها ومن توقيرها لما قامت للإسلام قائمة !! ص_191(1/162)
لكن صاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام ترك الأصنام حول الكعبة في مكة ، وتركها ثماني سنين بعد الهجرة ، وشاء الله أن يطوف في عمرة القضاء – في السنة السابعة – والأصنام بالمئات على جوانبها وما كسر صنما . لكنه في السنة الثامنة في مكة أمر صلى الله عليه وسلم بتكسيرها ، والذين عبدوا الأصنام هم الذين كسروها ، ومنهم خالد بن الوليد رضي الله عنه الذي أسلم بعد عشرين سنة من بدء الدعوة ، خالد هذا – الذي قال أبو سفيان في ظله : أعل هبل – هو الذي كسر الأصنام وهو يقول لها : يا عُزَّى كُفرانك لا سبحانك إنى رأيت الله قد أهانك لا بد مع الإخلاص من ذكاء ، لا بد مع العاطفة من عقل ، لا بد للدين من فقهاء يعرفون كيف يطبقون الشريعة ، وكيف يزاحمون المبادئ الباطلة ، وكيف يحتفظون بجذوة الإيمان في قلوب الشباب إلى أن تجئ الساعة التي يقرر رب العالمين فيها أن الإسلام ترتفع رايته . أنا ـ يا إخواني والله ـ موقن بأن الإسلام قادم ، وأنا أعرف أن الإسلام في طريقه إلى النصر لكنني نظرت إلى الأمة الإسلامية من شواطئ المغرب ـ وأنا هناك ـ إلى شواطئ الهندي ـ وقد كنت في سيلان ـ فوجدت الصحوة الإسلامية لما تكتمل ، وأن الشباب لما ينضج ، وأن حماسه محتاج إلى فقه . وأنه لا بد من ضبط دقيق لكي يعلم الشباب ما هي الساحة التي ينطلق فيها وهو حر ، وما هي الساعة التي يسكت فيها وهو راغم . لا بد أن نعيد النظر في طريقتنا لجعل شعوبنا ترتبط بالإيمان وتتحرك بقواه ، ولست أقول هذا تخذيلا ، لا .. والله ما أقول هذا إلا لأني أحب ص_192
الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وأحب الشباب المؤمن الذي أرى وجوههم النضرة أمامي الآن . وبالله التوفيق . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ص_193
الإسلام لا يعرف هذه الحروب
أيها الأخوة والأبناء :(1/163)
عندما بدأ الإسلام دعوته بدأها على أساس وفرة الحريات للبشر ، فلكل إنسان أن يعتنق ما يحب ، وأن يترك ما يكره ، وليس لي ولا لغيري أن أفرض ديني أو معتقدي على من يضيق بهذا الدين أو يأبى الدخول فيه ..
ومع أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ دعوته بين مشركين يعبدون الأوثان ويتعصبون لها ، ومع أن الوثنية سقوط بالكرامة الإنسانية وهوان بالفكر البشري ، ووجهة نظر ليست جديرة بأن تحترم ولا أن يترك لها حق الحياة ، ولكن نُبِّه على النبي صلى الله عليه وسلم ألا يضيق بما يرى ، وألا يجمح إلى عنف فيما يواجه .
قيل له : ( نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد )
ص_194(1/164)
" ما أنت عليهم بجبار " لست حاكما مستبدا تبسط سطوتك على الناس ، وتجعل مكانتك بينهم مبنية على قانون صارم أو أمر حاسم يغلبهم على إرادتهم : ( فذكر إنما أنت مذكر * لست عليهم بمسيطر ) والناس إن تبعوك بعد ذلك أو عصوك فهم أحرار : (قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ ) ويقول : (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) إن الدعوة في منطقنا الإسلامي تعني عرضا مجردا لمبادئنا وتصويرا نظريا لما لدينا ، وللناس بعد ذلك الحق في أن يقبلوا ما عرض عليهم أو يرفضوه . قال تعالى : ( فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير ) وعلى هذا الأساس انطلقت الدعوة الإسلامية ، بل أستطيع أن أقول بشئ من المصارحة: إن الدعوة الإسلامية يوم انطلقت ابتدعت حرية التدين في الأرض لأنه ما كان قبل ذلك معروفا في العلاقات العامة بين الناس ، حتى جاء الإسلام وأرسى قواعد هذه العلاقات العامة على أساس الحرية الشخصية والفكرية ، وأبى إباء صارما أن يكون للجبر والإكراه مجال في حرية العقل والضمير . ص_195(1/165)
اخترع الإسلام حرية التدين اختراعا ، لأن العالم على عهده كان يضن بهذه الحرية لا على المخالفين في الدين فحسب بل على أتباع المذهب الديني المخالف وإن كان الكل يتبع دينا واحدا !! أما المشركون فضنوا على النبي صلى الله عليه وسلم بحرية الدعوة إلى التوحيد وكرهوا أن يستمعوا إليه ، وإذا كانوا أبوا أن يستمعوا إليه فلا حرج ، ولكنهم كما قال الله : ( فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب ) بالنسبة إلى اليهود ، هرب اليهود من وجه الدولة الرومانية ، وأقاموا لهم مستعمرات أو احتلوا بعض الأماكن شمالي المدينة وفي جوف الصحراء حتى يكونوا بمنجى مما لحق بهم على يد أعدائهم . ولقد كانت العلاقات في الدولة الرومانية ـ وهي دولة مسيحية ـ علاقات تثير التساؤل والاستغراب ، لماذا ؟ لأن الدولة ضنت على من يعتنقون مذهبا غير مذهبها بحق الحياة الكريمة الهادئة .. يمكن أن يقال ـ بشئ من التجوز ـ إن الرومان كانوا كاثوليك ، وإن المصريين كانوا أرثوذكس ، وأبى " هرقل " أن يعطي المصريين الحق في أن يحيوا على مذهبهم هذا ، وصب عليهم جام غضبه عندما أصروا على أن يبقوا وفق تعاليمهم . ماذا حدث ؟ أصدر أوامر مشددة بالاضطهاد والعسف ، وهرب البطريرك المصرى من وجه السلطة الرومانية ، وأما أخوه ـ وكان رجلا بدينا ـ فقد حرق حتى قيل سال دهنه على جوانبه ، ثم أبى أن يترك معتقده فرموا به في البحر الأبيض ، فمات غريقا بعد أن حرق !! هذا ما فعله الرومان ، أما البطريرك " بنيامين " فقد هرب لأن جو الاضطهاد غير عادي، فماذا صنع العرب عندما دخلوا مصر ؟ أعلنوا ص_196(1/166)
منشورا يطلبون فيه إلى البطريرك الهارب أن يظهر وله الأمان كله فى أن يقود رعاياه، وأن يترأس أهل دينه ، وأن يحيا وفق ما يشاء من معتقد دون حرج ودون ضيق، بل جاءت بعض الروايات تقول : إنه ـ أى عمرو بن العاص ـ أعطى البطريرك ـ يومئذ أموالا تعينه على ترميم الكنائس التى تهدمت !! هل هذا المسلك مسلك ماكر من عمرو بن العاص؟ ننظر ، عندما ننظر نجد أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ الذى أرسل عمرو بن العاص ـ يرفض أن يصلى فى الكنيسة التى عرض عليه أسقف بيت المقدس أن يصلى فيها !! لماذا؟ حرصاً من عمر على بقاء الكنيسة لأصحابها، فقد قال للأسقف : لو صليت هنا لوثب المسلمون على المكان وقالوا : هنا صلى عمر وجعلوه مسجداً !! أكان عمر فى هذا ماكرا أو رجل سياسة يريد استمالة الناس؟ لا ننظر إلى سيده الذى رباه ـ محمد صلى الله عليه وسلم ـ ماذا صنع؟ لمَّا جاء "وفد نجران" إلى المدينة ليتكلم مع النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى أمور غيبية لاهوتية ـ بالتعبير الحديث ـ تكلم معهم ، وأدركت الصلاة الأساقفة الذين يجادلون فصلوا صلاتهم المسيحية فى المسجد النبوى ، تركهم النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصلون ما تعرض لهم بشئ ، لا اعترضهم ولا تعرض لهم. ثم وجدنا ا، النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى المدينة يواجه ـ فى صدر الهجرة ـ أقواما من اليهود ـ أصحاب منعة وقدرة ـ فماذا صنع معهم؟ عقد معاهدة حُسن جوار ـ بتعبيرنا الحديث ـ تنص على أن لكل ص_197(1/167)
امرئ دينه الذي يعتنقه ويعيش في شعائره ولا حرج عليه ، ويتعاون الكل على الدفاع عن المدينة إذا هاجمها معتد من الخارج . المعاهدة معاهدة لطيفة وعادلة ، ولا حرج فيها ، لكن اليهود أبوا الوفاء بها وظهر أنهم يريدون النيل من الإسلام وأصحابه ، ومع انكشاف نيتهم ، ومع أنهم رثوا قتلى قريش الذين هزموا في بدر ، ومع أنهم أخذوا ينالون من المسلمين بكلمات ترسل هنا وهنا تحقر من النصر الذي أحرزوه . مع كل هذا فإن الإسلام تحايل على ما يسمع ، وترك لليهود أن يقولوا فيه وفي نبيه وفي تعاليمه ما يقولون ، وما تحرك لقتال اليهود إلا لما اعتدوا على امرأة مسلمة في سوق " بني قينقاع " وكشفوا سوأتها كان لابد من القتال ، وقوتل اليهود ، وطرد بنو قينقاع من المدينة ، وبدأت الاشتباكات مع اليهود لأسباب هم أساسها ولعلل هم جرثومتها . واستطاع الإسلام أن يدمر العسكرية اليهودية تدميرا ، وأن ينال منها فلم يبق لهم أثرا ، فلما سقطت حصون اليهود ، وتلاشت قلاعهم ، وفقدوا النصير والعون ، ماذا حدث لهم في الجزيرة ؟ حدث في الجزيرة العربية ـ كما يروي البخاري ـ أن عبد الله بن عمرو ذبحت في بيته شاه فقال : أهديتم لجارنا اليهودي منها ؟ قالوا : لا .. قال : أهدوا إليه ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه " ومرت جنازة يهودي فقام النبي صلى الله عليه وسلم لها ، فقيل له : إنها جنازة يهودي فقال : " أليست نفسا " ص_198(1/168)
ثم وجدنا بعد ثلاث وعشرين سنة من بدء الإسلام أن الجزيرة العربية لم توحد تحت راية دين وتحت علم أحد إلا بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ، أصبح سيد الجزيرة ، وأصبح قائدها الأعلى ، تلاشت قوى اليهود في بني قينقاع وبني النضير وبني قريضة وخيبر . أما الرومان فقد أمكن مناوشتهم في " مؤتة " وأمكن تخويفهم في " تبوك " يعني أصبح محمد صلى الله عليه وسلم سيد الجزيرة غير منازع ، ومع هذا فقد ذهب إلى تاجر يهودي في المدينة يطلب منه قوتا لأولاده ، كان يريد أن يشتري منه بالنسيئة ، ليس معه ما يدفعه الآن ، فكان رد التاجر اليهودي لسيد الجزيرة : لا أعطيك حتى تأتي برهن !! فماذا قال له النبي صلى الله عليه وسلم ؟ أعطاه درعه رهنا هذا اليهودي هل كان يطلب الرهن أو يقول : لا .. وهو يشعر بقلق على حياته أو حاضره ؟ لا .. لقد قالها وهو راسخ القدم ، مطمئن النفس ، هادئ البال ، يعلم علم اليقين أنه موفور في دمه وماله وعرضه ، وأن أحدا لن يناله بسوء في هذا المجتمع . وعندما وجد عمر بن الخطاب يهوديا يتسول قال له : ما أنصفناك ، وأمر له بمرتب من بيت المال !! إذا هذا الذي حدث من النبي صلى الله عليه وسلم ، أو من عمر بن الخطاب ، أو من عمرو بن العاص ليس إلا نضج تعاليم الإسلام . التاريخ الإسلامي تاريخ نظيف ، ولا يعرف الحروب الدينية أبدا ، فأوربا هي التي عرفت الحروب الدينية ، وتاريخ العصور الوسطى شاهد على ذلك ، تاريخ العصور الوسطى تاريخ مشرف لنا ، ص_199(1/169)
فقد كنا نور العالم وأنضر شعوبه ، وأشرف من فيه !! أما دول أوربا فإن سطحها لم تجف الدماء فيه من كثرة الحروب التي وقعت بين أتباع المذاهب المختلفة لدين واحد !! الدين بداهة برئ ولكن التطبيق السيئ أو الفكر الجاف هو الذي سبب كل هذا ، لا يتصور أن عيسى بن مريم الرقيق النبيل تسفك الدماء باسمه ، وإن كان شوقي يقول : يا حامل الآلام عن هذا الورى كثرت عليه باسمك الآلام باسمه ارتكبت هذه المآسي ، وهو بداهة برئ من هذا كله ، لكن هذا ما حدث . تاريخ أوربا تاريخ كالح ، فإن الدماء التي سفكت كثيرة ، وتاريخ فرنسا في المذابح التي نصبها الكاثوليك للبروتستانت تاريخ أسود ، في ليلة من الليالي ذبح ما يقرب من أربعين ألفا من البروتستانت ، وصكت نقود في روما تخليدا لذكرى المذبحة !! التاريخ الإسلامي لا يعرف شيئا من هذا ، إنه تاريخ نظيف ، المسلمون في الفليبين ، وجودهم الأدبي صفر ، ووجودهم المادي مهدد ، فالذبح هناك منتشر . المسلمون في لبنان كثرة ، ومع هذا كنت أستمع إلى إذاعة لندن من عدة أيام فسمعت هذه الأضحوكة التي تقول : إن عدد المسلمين في لبنان 49 % وعدد المسيحيين 51 % ، وهذا كذب ، والذي صنع هذا الإحصاء هم الفرنسيون في سنة 1932 م ، ص_200(1/170)
وأنا أعلم أن الإحصاء الحقيقي غير هذا ، والمسلمون هناك لا يقلون عن 65 % وليس هناك إحصاء من سنة 1932 م إلى الآن . المسلمون في الحبشة كثرة ، واريتريا بالذات فيها 85 % من المسلمين ، ومع هذا فالضغط غير عادي . قصة أن الإسلام متعصب قصة على طريقة الإسقاط في علم النفس أو طريقة المثل العربي : رمتني بدائها وانسلت !! يقول " كونت هنري دي كاستريه " المؤرخ الفرنسوى المعروف : من أسباب انهيار الدولة الإسلامية فرط تسامحها !! نحن لا نحسن التعصب ، بلغ التسامح الإسلامي حد التغفيل . أنا أعلم أن إخواننا الأقباط يعيشون بيننا من أربعة عشر قرنا ، ولي ولوالدي أصدقاء ـ في بلدنا ـ من الأقباط ، وإلى الآن نحن نعيش في تسامح ، لكن الاستعمار العالمي الذي يعلم أن معركة مصر مع الصهيونية قريبة لا بد أن يصنع شيئا من الإثارات ، الإثارات تأتي من الخارج . بالنسبة لحوادث "الخانكة " هنا ـ في مصر ـ فقد سألني بعض الناس في هذا ، فقلت : ليس عندي ما أخفيه ولا ما أخجل من قوله ، أنا قلت ـ ولا أزال أقول : يوم يحتاج إخواننا الأقباط إلى كنيسة فأنا أسهم في بنائها إذا كانت لغرض العبادة ، لكن من حقي أن أسأل : إذا كانت كنيسة تكفي فلم تبن ثانية وثالثة ؟ القانون القائم ليس قانونا جائرا إنما هو قانون يقول : إذا كان هناك ما يستدعي البناء فلا بد من البناء ، ومنع البناء جريمة ، لكن إذا كان هناك ما يكفي فلا داعي لهذا ، أنا أحصيت في " مصر الجديدة " أربعين كنيسة وعشرين مسجدا !! فإذا منعت الدولة بناء كنيسة هناك لكثرة الكنائس فهل تعتبر الدولة متعصبة ؟ لا .. ص_201(1/171)
قصة وضع طابع معين على الأرض قصة معروفة ، ولبنان تفعل هذا الآن ، تريد أن تضع الطابع الصليبي على الأرض مراغمة للكثرة المسلمة .. فإذا كانت أمريكا تريد أن تسعى لهذا ـ هنا ـ فلا عقلاء المسلمين ولا عقلاء النصارى يرضون بهذا . هناك شئ آخر : إخواننا الأقباط في مصر يجب أن يعيشوا كالمسلمين سواء بسواء ، حقوق مشتركة وواجبات مشتركة ، ونبي الإسلام عليه الصلاة والسلام قال : : ألا من ظلم معاهدا ، أو كلفه فوق طاقته ، أو انتقصه حقه ، أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفسه فأنا حجيجه يوم القيامة " نبي الإسلام يقول لي : احذر أن تظلمه أو تنال منه ، فلماذا أظلمه ؟ فإذا أوعز إنسان إلي أن أظلمه أو يظلمني فهي فتنة خارجية يجب أن نطاردها وأن نضع السدود أمامها . أحب أن أقول لكم شيئا : الشعب المصري شعب متدين ، وهو يكره الإلحاد ، ويوم كانت الناس تبحث عن لقمة الخبز كان ـ هو ـ يتحدث عن فلسفة الثواب والعقاب وخلود الروح والجزاء الأخروي . وعلى هذا فمحاولة بث الإلحاد في هذا الشعب لا يمكن أن تنجح إلا بالسلاح . الشئ الثاني الذي أريد أن أقوله هو : الشعب المصري طيب ، يكره الفتن ، ويكره الإثارات ، ولذلك فإن أي محاولة لإغراء المسلمين بالأقباط أو الأقباط بالمسلمين يجب أن يقضى عليها ، وأن يعلم العقلاء من الطرفين أنه لا خير في هذه الفتن . ص_202
الشئ الثالث : قد نختلف ، والإخوة يختلفون ، مثل هذا الاختلاف لا يفسد الود ، ولا تنبني عليه أشياء خطيرة ، ويجب أن نفوت الفرصة على الغير حتى لا يتدخل . وأستطيع أن أجزم بأن الأقليات في مصر أسعد الأقليات على ظهر الأرض . كل محاولة للتشكيك في نيات المسلمين فهي وافدة من الخارج ، وكل محاولة لاستثارة الأقباط أو تحريضهم على إخوانهم فهي وافدة من الخارج ، وأرجو أن نكون أيقاظا ضد هذا كله . والله ولي التوفيق والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ،،، ص_203(1/172)
مسئولية الحاكم في الإسلام الكلام في مسئولية الحاكم في الإسلام له جوانب عديدة أحار في أى الجوانب أبدأ ، قد أبدأ بالحديث المشهور عندما طلب أبو ذر رضى الله عنه من النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يوليه عملاً من الأعمال أو منصباً من المناصب ـ بتعبيرنا الحديث ـ فقال : " يا أبا ذر إنك ضعيف ، وإنها أمانة ، وإنها يوم القيامة خزى وندامة ، إلا من أخذها بحقها وأدى الذى عليه فيها " . أخذها بحقها ، وأدى الذى عليه فيها .. يعنى أن يكون الإنسان كفؤاً للمنصب ، والكفاية للمنصب لا تكفى فيها شهادة الإنسان لنفسه ، وإنما الكفاية للمنصب تكون بشهادات الناس .. وعندما يُولَّى يؤدى الذى عليه ، أى ينهض بجميع الأعباء التى يفرضها المنصب عليه . ص_204(1/173)
والأعباء التى يفرضها المنصب تتفاوت ، ربما كان الإنسان رئيس عشرة من الناس ، وفى الحديث : " ما من أمير عشرة إلا يؤتى به مغلولاً يوم القيامة ، حتى يفكه العدل أو يُوبقه الجور " . هذا إذا كان أمير عشرة من الناس فإنه يأتى مقيداً ، إما فكه العدل ، أو أوبقه الجور !! هى مسئولية فعلاً . وأذكر أن أحد الصالحين كان فى موسم الحج ، وكان قريباً من أمير المؤمنين ، فقال له : يا أمير المؤمنين انظر ؟ قال : إلى ماذا ؟ قال : انظر إلى أهل الموسم ، فنظر إلى الحشود القادمة إلى البيت العتيق ، فقال له : يا أمير المؤمنين كل واحد من هؤلاء مسئول عن نفسه ، أما أنت فمسئول عنهم جميعاً !! وفى الحديث : " إن الله سائل كل راع عما استرعاه حفظ أم ضيع " فقد يطلب الإنسان المنصب لنفسه ، وفى الحديث : " إنا والله لا نولى على هذا العمل أحداً سأله ولا أحداً حرص عليه " لأنه عندما يطلب أو يحرص لا يكون مسارعاً فى مرضاة الله ، أو راغباً فى خدمة المسلمين ، أو مساهماً فى إحقاق حق وإبطال باطل . إنما هذه الرغبة قد تكون ناشئة عن جنون عظمة ، أو شهوة قيادة ، أو رغبة فى التطلع ، فمثل هذه الأمور لابد من قمعها حتى يبقى أصحابها فى أماكنهم فلا تُبلى الأمم بهم !! ص_205(1/174)
هناك شائعات فى ميدان العلم الدينى جرت على ألسنة ناس ليست لهم فى الفقه قدم راسخة ، جعلوا الإسلام مظلوماً فى موقفه على امتداد عصور كثيرة ، وأنا أريد أن أناقش عدة إشاعات علمية فى هذا المجال تجعل مسئوليات الحكام خفيفة ، أو تجعل من حقهم أن يمضوا وفق ما يريدون لا وفق ما يريد الإسلام . أنا أعلم الحديث المشهور أن عُرى الإسلام تنحل عُروة عُروة ، والحضارات دائماً يطرأ عليها ما يجعلها تتفكك أو تتفسخ ، والأمة الإسلامية ـ كأى أمة ظهرت فى التاريخ ، وسلخت من عمرها القرون ـ لابد أن يصيبها ما يصيب الأمم الأخرى من تفكك أو من اضطراب ، أو من زيغ عن الطريق .. ولاحظت أن الحكام على امتداد قرون كثيرة كانوا القشرة العفنة فى التاريخ الإسلامى ، أو فى الكيان الإسلامى .. ولاحظت ـ للأسف ـ أن ذلك أثَّر فى بعض الفتاوى أو بعض الكلمات التى جرت على الألسنة ، وهى تذكر موقف الفقه الإسلامى ممن تمردوا على قواعده ونصوصه ، وضعفوا عن حمل الأمانات التى ترتبط بهذا الحكم ، فكان هؤلاء ـ وهم كثيرون ـ سبباً فى أن ناساً كتبوا فى أيام انحلال عُرى الحكم ، وكانت كتاباتهم لا تصويراً لنظرات الإسلام بل كانت تصويراً للواقع الذى ينبغى أن يُحكم عليه لا أن يُحتكم إليه .. الفقه الإسلامى هو عمل العقل الإسلامى فى النصوص المعصومة ، النصوص معصومة لكن عمل الفقيه قد يختل ، وقد يستقيم ، فهو ليس معصوماً .. ص_206(1/175)
التاريخ الإسلامى ـ تاريخ الدول والملوك والحكام ـ هو عمل السلطة الإسلامية في تطبيق الإسلام ، وهو عمل قد يكون مخطئاً وقد يكون مصيباً ، فالنظر إلى هذا الواقع على أنه نموذج مثالى يؤخذ منه غلط وغير صحيح . ابتداءً من الدولة الأموية دخل أبو مسلم الخولانى على معاوية بن أبى سفيان ، فقال : السلام عليك أيها الأجير ، فقالت له الحاشية : قل : السلام عليك أيها الأمير ، فقال : السلام عليك أيها الأجير ، وكررها مرتين ، ومعاوية كان لبقاً وذكياً ، فقال : دعوا أبا مسلم فإنه أعلم بما يقول . فأفهمه أبو مسلم أنه أجير للمسلمين يعمل لمصلحتهم ، وما يستحق أجراً إلا إذا أخلص فى عمله ، وأدى ما عليه . أعنى أن ما حدث أيام الأمويين أو أيام العباسيين أو أيام العثمانيين هو واقع يُحكم عليه بنصوص الإسلام وقواعده ، وليس هو المصدر الذى تؤخذ منه نظم الإسلام فى الحكم . ومن هنا فقد أخطأ بعض الناس عندما قال : إن الشورى لا تُلزم الحاكم ، هل كانت الشورى عبثاً ؟ هل كانت لعباً ؟ هل كانت مسلاة مجالس ؟ هل كانت ترديداً لأحاديث يتسلى بها الفارغون ؟ هذا كلام عجيب !! فى العهد المكى نزلت سورة الشورى وفيها : (وأمرهم شورى بينهم) . ص_207(1/176)
وفى العهد المدنى نزل قوله تعالى : (وشاورهم في الأمر) ، وقال عليه الصلاة والسلام لأبى بكر وعمر " لو اجتمعتما فى مشورة ما خالفتكما " . والتزم النبى عليه الصلاة والسلام الخضوع للشورى فنزل على رأى الشباب فى " أُحد " وهو كاره . جاء بعضهم وذكر قصة " الحديبية " وكان مزوراً ، لأن قصة " الحديبية " فيها نص على أن السماء تدخلت ، فعندما توقفت الناقة وهو منطلق صوب البيت العتيق لأداء العمرة قال الناس : " خلأت القصواء " ، فقال النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل ، ثم قال : والذى نفسى بيده لا يسألوننى خُطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها " . ونزلت سورة الفتح تبين أن الله هو الذى كف : (وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم) . لماذا ؟ لأن هناك مؤمنين مجهولين فى البلد الظالم أهله ، اختفى إيمانهم فى صدورهم ، ولو دخل المسلمون لحدث قتال هلك فيه هؤلاء ، وكان ذلك بلاء شديداً ، عصم الله المسلمين منه ، فتدخُّل السماء هو الذى أوقف التصرف الإنسانى العادى . يقول فقيه مسلم ـ هو ابن القيم ـ إن أحكام الإسلام تدور على ثلاثة محاور : ص_208(1/177)
محور العقيدة ، والأساس فيه الإخبار ، ومحور العبادة ، والأساس فيه الإنشاء ، ومحور المعاملات ، والأساس فيه الإصلاح . ففى ميدان العقيدة : الدين مخبر ، يقول : (إن إلهكم لواحد) . (وإن الدين لواقع) هذه أخبار . فى ميدان العبادة : الدين منشئ ، يقول : (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) فهو ينشئ صورة مجمعة من أقوال وأعمال وبدايات ونهايات . فى ميدان المعاملات : الدين مصلح ، بمعنى أن الناس تتعامل بالبيوع قبل مجيء الدين وبعده ، فالدين لم يخترع البيع ، إنما دخل مصلحاً ، فرفض التغرير ، ورفض الاحتكار ، ورفض الربا ، الناس تتزاوج بطبيعتها ، والدين لم يخترع الزواج ، إنما دخل الدين مصلحاً ، لابد من عقد ، لابد من مهر ، لابد من شهود ، وهكذا . والسؤال الآن : هل الدين فى ميدان الشورى أو العدل جاء مخبراً أم منشئاً أم مصلحاً ؟ الحقيقة ـ كما يقول علماؤنا ـ إن الحُسن والقُبح العقليين تدركهما الفطرة البشرية بطبيعتها ، فالإسلام لم يخترع الشورى ، ولم يخترع العدل ، ولم يخترع العلم ، العدل موجود ، والعلم موجود ، والشورى موجودة . لكن فضل الإسلام أنه جعل هذه ديناً ، وجعل الأخذ بها وتنظيمها ديناً ، وجعل سهر الإنسان على تحصيل العلم أو تحقيق العدل عبادة يُتقرب بها إلى الله . وهنا نجد أن الإسلام حدد الصور فيما لابد منه فبين أن صلاة ص_209(1/178)
الصبح ركعتان ، لكن هناك عبادات ، وهناك أعمال تركها لنا ، فشئون الدنيا قال فيها : " أنتم أعلم بأمر دنياكم " هذه واحدة .. هناك الإجراءات ، كيف تقيم العدل ؟ كيف تقيم الشورى ؟ كيف تقىِ الأمة لوثات الحمقى والظلمة ؟ هذا شئ تركه لك ، كالجهاد كان قديماً بالسف والرمح ، أصبح الآن يحتاج إلى غزو الفضاء . هذه وسائل حرة ، كذلك التعليم ، كذلك تحصين الناس بالعدل ، كذلك الشورى. الاجتهاد بداهةً فى الإسلام حيث لا نص ، والشورى جُهد البشر حيث لا نص .. هناك أمور كثيرة جدت لم لا أدرسها ؟ ما كان من حكمة وخير لم لا أنتفع به ؟ ما وافق قواعدى أو أعان على بلوغ غايتى لم لا آخذه : " الكلمةُ الحكمةُ ضالةُ المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها " . ولذلك قلت للناس ـ اليوم فى خطبة الجمعة ـ إننى أحترم التفوق العلمى الأمريكى ، وأرى أن وصول الأمريكيين إلى القمر كان شيئاً عظيماً ، ولكن بقدر ما احترمت هذا العلم المتفوق احترمت مسلكاً حضارياً آخر وهو أن ساكن البيت الأبيض يرشح نفسه ، وأن رجلاً من الشارع يرشح نفسه ، وأن كِلا الرجلين يتقدمان للإذاعة يعرضان برامجهما فيأخذ هذا خمس دقائق ، ويأخذ هذا خمس دقائق ، ثم ينتهى ص_210(1/179)
الأمر بأن ينجح رجل الشارع ، وهو فى طريقه الآن إلى البيت الأبيض !! هذا ما فعله الأمريكيون ، هذا ما فعله " ديجول " ، هذا ما فعله " تشرشل " هذا ما يفعله الناس ، فهل الأمة الإسلامية صورة صادقة للإسلام فى فهمها فن الحكم ؟ إننى زُرتُ بلاداً إسلامية كثيرة جداً ـ من الأطلسى إلى الهادى ـ ويؤسفنى أن أقول : إن الأجيال الحاضرة ليست أبناء شرعية للجيل الأول الذى قال للحاكم : لو رأينا فيك اعوجاجاً لقوَّمناه بحد سيوفنا !! إنها أجيال غريبة على الإسلام لأنها ـ فعلاً ـ لا تفهم دينها فهماً صحيحاً ، وخدعها مرتزقة فى ميدان الفقه يريدون أن يتحاكموا على عصر الفاطميين أو إلى عصر المماليك ، وهى ـ كما قلت ـ عصور يُحكم عليها ولا يُحتكم إليها ، هى عصور تخطئ وتصيب ، وكما قال ابن حزم : لا يقبل قول أحد بعد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ورفض حكماً يفرق بين عورة الحرة والجارية ، وقال : وأما الفرق بين الحرة والأمة فدين الله تعالى واحد والخلقة والطبيعة واحدة ، كل ذلك فى الحرائر والإماء سواء !! لماذا لأن الرجل قال : لا يقبل قول أحد بعد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ . ومع ذلك ـ للأسف ـ فإن الأمة الإسلامية مريضة ، عندما قُتل الملك عبد الله ، وعندما قُتل النقراشى ـ كتبت فى كتاب لى صدر عام 1951م ـ قلت : هذا قد يدل على فورات حرية عند بعض الناس ولكنه لا يدل على شعوب كريمة وأمم تحترم نفسها ، كيف ؟ قلت : الأمم التى احترمت نفسها الأمة الفرنسية عندما أغضبها الملك ثارت عليه ص_211(1/180)
وقدمته للمحكمة وقطعت عنقه !! الأمة الإنكليزية ـ أيام كروميل ـ عندما أساء الملك قطعت عنقه !! فكانت النتيجة أن الحكم استقر . أما الأمة الإسلامية فإذا بقيت بين تزوير الفتوى والكذب على دين الله ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وأن كل مجنون عنده لوثة ورغبة فى التسلط ينطلق من هنا ومن هنا ليجد من يصفق له فأمتنا لا تستطيع أن تقوم بحقها ، وهى دون رسالة الإسلام بيقين . ورسالة الإسلام هى : ألا أحنى جبهتى ولا صُلبى ولا ضميرى إلا لله وحده !! وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ،،، ص_213
نظرات فى سورة القتال بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم . أما بعد .. فموضوعى الذى أتكلم فيه الليلة إن شاء الله : نظرة ـ قد تكون تكررت لكن لا بأس بها ـ على سورة القتال أو سورة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ .. لقد تكلمت فى هذا ، لكن لا بأس أن أُعيد الكلام فى الموضوع ، ولعل فى الإعادة زيادة وإفادة. تبدأ السورة بقوله تعالى : (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم) فى المقابل (والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم) . ص_214(1/181)
ما هو الكفر ؟ جحد الحق بعد ما تبين . ما هو الصد عن سبيل الله ؟ أو ما هو الفتنة ؟ استغلال السلطة لمنع حركة الإيمان على الأرض ، ولمنع انشراح الصدور به ، ولمنع أشعته من أن تتسلل إلى عقول أظلمت لأن الخرافة سيطرت عليها من قديم .. هؤلاء الذين جمعوا بين الكفر بالله والصد عن سبيله ، هؤلاء لا يبارك الله لهم فى عمل ، ولا يهديهم طريقاً ، ولا يصلح لهم بالاً ، هؤلاء مشئومون فى أعمالهم كلها . هذا المعنى تكرر فى السورة ثلاث مرات ، تكرر فى قوله تعالى : (إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئا وسيحبط أعمالهم) . هؤلاء شاقوا الرسول ، ومعنى المشاقة : أن يكونوا فى شِق وأن يكون هو فى شق آخر ، يعنى على طرفى نقيض ، هؤلاء أيضا أحبط الله أعمالهم . تكرر هذا المعنى فى قوله تعالى : (إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم) . يعنى تراخى بهم الأجل ، وطال بهم العمر ، وجاءهم النذير ، فما استفادوا من تجربة ، ولا انتفعوا بعبرة ، ولا كان لهم من ماضيهم أو ماضى الإنسانية درس يُصلح فسادهم أو يقيم عوجهم ، فتكون النتيجة (فلن يغفر الله لهم) . بدأت السورة بهذا المعنى ، كأنها تقول للناس : هناك شئ عاجل وهناك شئ آجل ، الناس تهوى العاجل ، هذه طبيعة النفس البشرية : ص_215(1/182)
إنى لأرجو منك خيراً عاجلاً * والنفسُ مُولعة بحبِّ العاجلِ الناس تريد فى الدنيا بوادر نصر ، بوارق خير ، فالله يقول للمؤمنين : لاحظوا أن (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم) . الشؤم مقرون بأحوالهم ، ونتيجة حتم لأعمالهم ، كيف يأتى الشؤم ؟ لا يتم عمل إلا بأمرين : أمر فى يدك ، وأمر فى يد الله ، يعنى أن أخرج من بيتى على نية المجئ هنا ، لكن كون الطريق يَسلم لى حتى أجئ ، كون صحتى تبقى معى حتى أجئ ، كون قلبى يبقى ينبض حتى أجئ ، كل هذا فى يد الله !! عندما أنظر إلى أحوال الناس أجد هذا المعنى . الشيوعية زعمت أنها ستضاعف الإنتاج وتحسن التوزيع ، فكانت النتيجة أنها حكمت العالم ، فماذا حدث ؟ لا ضاعفت الإنتاج ولا أحسنت التوزيع ، كيف وهى تجند ملايين العمال للعمل طول النهار ؟ ماذا يصنع العامل إذا بذر الحبة فى الأرض ثم أهبط الله درجة الحرارة إلى خمسين درجة تحت الصفر فماتت الحبوب داخل التربة ؟!! هؤلاء مشئومون (أضل أعمالهم) ولقد رأيت هذا الشؤم فيما أراه من أحوال العالم العربى ، بلد مثل " الصومال " ـ وأنا أهتم به لأنى أهتم بالمسلمين ، ولى معرفة بأحوال هذه البلاد ـ أحب ضابط شرطة اسمه " زياد برى " أن يكون حاكماً فضحك على جماعة من الضباط وعملوا انقلاباً عسكرياً شيوعياً وقتلوا النظام البرلمانى الدستورى ، وحَكم زياد برى . ص_216(1/183)
أنظر فأجد أنه ألغى الحروف العربية ، قطع صلته بالعرب ، وألغى الإسلام ، قطع صلته بالإسلام ، وأنظر فأجده عضواً فى الجامعة العربية ، لماذا ؟ لا عروبة ولا إسلام فما صلته بالجامعة العربية ؟!! تحرك أئمة المساجد ضد القوانين الجديدة ، فقُتل عشرة من الأئمة وأُحرقت جثثهم !! قُتلوا وأحرقوا بدون محاكمة !! كنت أدرِّس فخرجت من المحاضرة ووقفت وأنا أغلى ، نظر إلىّ العميد فقال لى : ما بك يا شيخ محمد ؟ فقلت له : لا أستطيع التدريس !! قال : لماذا : قلت ، قلبى يحترق ، عشرة من إخوانى قُتلوا فى الصومال والناس نائمون ما يتحرك أحد !! سكت الرجل ثم قال : هذا ليس اختصاصنا !! قلت : اختصاص من ؟ قال : اختصاص رابطة العالم الإسلامى ، قلت : اتصل بالرابطة ، وجاءت الرابطة ، وكلمتُ رئيس الرابطة ، وبعد عدة أيام بدأت حركة احتجاجات . المهم فى هذا أن الأنهار الجارية فى الصومال جَفَّت !! كأن الله يريد أن يُرِى عجائبه ، فبعد أيام جفاف أحرقت التراب تأتى الآن فيضانات لتكتسح البقية الباقية !! أما أنا فما شعرت بأسى وقلت : تأخذ الحكومة والشعب ، تأخذ الكل ، شعب ما تحرك فيه أحد ليقول لهؤلاء : قفوا مكانكم . وما يزال القانون الذى يحكم الصومال يُسوِّى بين الرجل والمرأة فى الميراث !! لأن زياد برى له فقه ، من أين جاء به ؟ لا أدرى ، وغيره ، وغيره من الجهلة الذين يحكمون .. على أى الحالات هذا شؤم ، الشيوعية الآن تتسول الحبوب لأن الأرض أضربت عن الإنتاج إلا قليلاً (أضل أعمالهم) . هؤلاء الذين جمعوا بين الكفر بالله والصد عن سبيله لابد من تطهير ص_217(1/184)
الأرض منهم ، لابد من الاشتباك معهم ، يأتى الاشتباك فى السورة على هذا النحو : أولاً : (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض) . هذا الجزء من الآية يقول : لابد من كفاح دامٍ تتعقبون فيه أولئك المهاجمين حتى تستأصلوا شأفتهم ، وهذا عدل ، افرض أننى تمكنت ـ بقدرة الله ـ أن أرسل جيشاً لـ " تركستان " أو "أفغانستان" التى تُجرَّبُ فيها حروب ميكروبية فكيف أعامل المعتدين ؟ أعاملهم بالشفقة ؟ بالإحسان ؟ افرض أن الله شد أزرى وقوى ساعدى وجعلنى أرسل جيشاً لمقاتلة الجنس الأبيض الحاكم فى جنوب أفريقيا فماذا أصنع مع الحكومة هناك ؟ الآية هنا تحكم (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها) ثم يقول لنا : (ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم) . يمكن أن يرسل الله ملائكة تقاتلهم ، يمكن أن يرسل الله صواعق تحرقهم ، يمكن أن يرسل زلازل تخسف بهم وتدمر عليهم .. لكنه جل جلاله جعل العالم ميدان اختبار ، وقال لنا : (وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا) . فلابد من أن نُختبر بهؤلاء ويختبرُون بنا ، يمكن أن يتدخل رب العالمين وكل شئ طوع أمره ولكنه جل جلاله يختبرنا ، أنؤمن ونكافح ونبذل ص_218(1/185)
ونؤدى ما علينا أم نجبن وننكص على أعقابنا ، ونستكثر تكاليف الجهاد ومغارم الكفاح ونولى الأدبار ؟ (ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض) . هذه الآية هى الآية الرابعة من سورة القتال ، خُتمت الآية بهذه الكلمة : (والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم) . أى الذين رُزقوا ـ فى هذا الجهاد ـ مصير الشهداء فقُتلوا فى سبيل الله فإن عملهم عند الله . وقد سمع النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ رجلاً يقول : " اللهم إنى أسألك أفضل ما تؤتى عبادك الصالحين ، فلما قضى النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ الصلاة قال : من المتكلم آنفاً ؟ فقال الرجل : أنا يا رسول الله ، قال : إذاً يُعقر جوادك وتُستشهد فى سبيل الله " . والشهادة فى سبيل الله ليست مصيبة يُعزَّى فيها ، ولكنها خاتمة صدق أو مكافأة سخية أو جائزة يختار الله لها من أراد من عباده ـ ونرجو أن يرزقنا الله هذه الجائزة ، وأن يختم لنا بهذا الختام العظيم إنه على ما يشاء قدير ورحيم بمن يرفع يديه يطلب ، وأنا شخصياً أطلب هذا الختام الطيب (والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم) . هل منكم أحد يشعر بغموض فى فهم هذه الآية ؟ قرأت كتاباً اسمه " الإسلام دين العقل " الكاتب منتسب لأسرة النور ص_219(1/186)
فى كلية الطب بجامعة القاهرة ومعه آخر سألت عنه فقالوا : شيخ طريقة ، ومعه رجل ثالث ، المهم قرأت الكتاب فوجدت هذا العاقل يقول : حتمية تأويل آيات الجهاد فى القرآن !! لماذا هذا الحتمية ؟ من أين جاءت هذه الحتمية ؟ استغربتُ فنظرت إلى ما كُتِب تحت هذا العنوان فوجدت أنه عندما بدأ التأويل بدأ بهذه الآية : (والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم) . أى قتلوا شهواتهم وأهواءهم وليس لهذه الآية علاقة لا من قُرب ولا من بُعد بسفك الدم !! يا رجل أنت قسمت الآية نصفين ، النصف الأول يقول : (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب) وآخرها : (والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم) . فما علاقة الشهوة والهوى بضرب الرقاب ؟ وكيف تقول : ليس لها علاقة بالحرب ؟ وفى نفس الآية يقول الله : (حتى تضع الحرب أوزارها) . كيف فكَّر هذا الرجل ؟ ثم كيف يقول : إن هذا عقل ؟ لقد قلت فى مكان آخر : هذا الكلام يمكن أن يكون إفرازاً لأى شئ فى الجسم إلا المخ ؟ وحضرة الكاتب أحب أن يستدل على أن المقصود هنا هو حرب الأهواء والشهوات فقال : والدليل على أن المقصود هو الأهواء والشهوات هو قوله تعالى بعد ذلك : (سيهديهم ويصلح بالهم) . فقال : " يهديهم " هذا لا يكون إلا فى الدنيا ، لأن الهداية تكليف ، والتكليف لا يكون إلا فى الدنيا !! ص_220(1/187)
هذا الكلام باطل ، ففى سورة الصافات يقول الله : (احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون * من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم) . وفى سورة الأعراف يقول الله عن أصحاب الجنة : (ونزعنا ما في صدورهم من غل تجري من تحتهم الأنهار وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون) . من قال : إن الهدى لا يكون إلا فى الدنيا ؟ هذا رجل يجمع بين الغباء والضلال . ثم قال : إن إصلاح البال لا يكون إلا فى الدنيا ؟ لماذا ؟ وهل الناس فى الآخرة يعكر الله بالهم؟ هل هذا كلام عقل ؟ هذا كلام فارغ ، والعجيب أن الكاتب ينتسب إلى أسرة النور ، أسرة نور ؟! هذه أسرة ظلام !! لحساب من يقال هذا الكلام ؟ رجل فى الهند اسمه " ميرزا غلام أحمد " ـ شيخ القاديانية ـ أول ما كلفه الإنجليز به إلغاء الجهاد ، وألغى الجهاد ، لمصلحة من ؟ لمصلحة الاستعمار الإنجليزى ، والمسلمون مستغفلون ، وحرب الفناء معلنة عليهم ، فلماذا تريد أنت أن تفنى آيات القتال ؟ وعندما أوَّل آية القتال فى سورة التوبة : (وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون) . قال : المقصود بمقاتلة أئمة الكفر مقاتلة الدليل بالدليل !! ص_221(1/188)
اتق الله يا رجل ، سورة براءة نزلت فى ناس قرروا أن يقتلوا الإسلام ، وعبثوا بجميع المعاهدات التى عُقدت معهم ، وما وجدوا فرصة إلا وحاولوا قتلنا ، فجاء الإسلام وقال : (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ونفصل الآيات لقوم يعلمون * وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون * ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة ..) بدأونا بالدليل والبرهان ؟ أخرجوا الرسول بالدليل والبرهان ؟ .. (أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين * قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين * ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم) . كل هذا يُلغى ويُقال : القتال هنا قتال على الورق أو قتال على المنبر ؟ الحيوان لا يفكر بهذه الطريقة !! لحساب مًن هذا التفسير ؟ أهذا كتاب للإسلام أم أنه عِمالة لجهات أجنبية تريد إماتة الدم المكافح فى نفوس المسلمين وجعل الأمة الإسلامية باردة العاطفة ، وتُقتل ثم تسمع من يقول لها : آيات القتال أُلغيت ؟!! على كل حال هذا نوع من الكلام عَرضَ لى وأنا أمضى فى سورة القتال : وبعد أن قال الله : (والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم * سيهديهم ويصلح بالهم * ويدخلهم الجنة عرفها لهم) . قال : (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم * والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعمالهم) . ص_222(1/189)
حكى لى بعض الناس قالوا : قمنا بدعوة إلى الجهاد من أجل تحرير البلد الفلانى فرفض المسلمون أن يشتركوا معنا وقالوا : هذه حرب قومية لا نشترك فيها !! أنا خطَّأت الذين رفضوا القتال ، وقلت : هذا فهم غير صحيح للإسلام ، صحيح أن القتال يوصف بأنه إسلامى والقتيل يوصف بأنه شهيد متى كان من أجل أن تكون كلمة الله هى العليا ، والأحاديث واردة فى هذا وكثيرة لكن وردت أيضا آيات وأحاديث بأنك عندما تنصر نفسك ، وتُعز شأنك ، وتحمى دمك ومالك وعرضك وتُقتل دون هذا فأنت أيضا شهيد ، لأن الظلم فى الإسلام نوعان : ظُلم الآخرين وهو إيقاع الغَبن بهم والافتيات على دمهم أو مالهم أو عرضهم ، هذا ظلم . وهناك ظلم آخر لا يقل عنه سوءاً وهو أن تظلم نفسك ، كيف نظلم نفسك ؟ ترضى بالدَّنية والهوان ، وفى هؤلاء نزل قوله تعالى : (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا) . قبلوا الدنية والظلم ، ويعجبنى من شعر العقاد قوله : ص_223(1/190)
أنصفت مظلوماً فأنصف ظالماً فى ذلة المظلوم عُذرُ الظالم من يرض عدواناً عليه يضيره شر من العادى عليه الغاشم والواقع أنه ما يعتدى معتدٍ ، وما يتجبر جبار ، وما يتفرعن متفرعن إلا إذا أمن العقوبة ، وأدرك أنه يمتد فى فراغ . أما الفراعنة فإنهم أجبن الناس عندما تُفحص طواياهم ، وتبحث خباياهم ، ولو علموا أنهم إذا لَطموا لُطموا لغلُّوا أيديهم فما امتدت بظلم لأحد !! ومن هنا فمن نصرة الله أن أدافع عن بلدى وعن بيتى وعن دمى وعن عرضى ، وليس فى هذا ما يجعل بعض الناس من أصحاب الفقه القصير يتأخر ، بلادة الفقه عند كثير من الناس ضيعت الإسلام . (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم * والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعمالهم) . لماذا ؟ . أعداء الإسلام يكرهون ما أنزل الله ؟ فى الجاهلية الأولى كان الكفر متغلغلاً فى نفوس كثيرة ، فهم يشمئزون من التوحيد ويرحبون بالشرك والوثنية : (وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون ) . ينتج هذا من فساد الطبيعة الإنسانية ، يعنى المفروض فى الطبيعة الإنسانية أن تحب الحق وتهفو إليه ، وكما قال الشاعر العربى : ولم أرَ كالمعروفِ أمَّا مذاقُهُ فحُلوٌ وأمَّا وجهُه فجميل المعروف جميل ، لكن هناك ناس كالخنازير تعيش على الوساخات ، هؤلاء يجب أن تُطهَّرَ الأرض منهم ، والذين يُطهَّرون الأرض هم المؤمنون : (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم) . الرغبة فى نصرة الله لا تتخلف ، حتى فى الساعات الكالحة تتنفس . فى غزوة أحد اضطر المسلمون بعد إشاعة موت الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يتركوا ص_224(1/191)
الإشاعة تمر ، لماذا ؟ حتى يسكت المشركون ، ويظنوا أنهم بلغوا مآربهم ويعودوا . لكن أبا سفيان أخذ ينادى : " أفى القوم محمد ؟ فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "لا تجيبوه" . حتى قالها ثلاثاً . ثم قال : أفى القوم ابن أبى قُحافة ؟ ثلاثاً . فقال النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " لا تجيبوه " ثم قال : أفى القوم عمر ؟ ثلاثاً . فقال النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ " لا تجيبوه " ثم التفت إلى أصحابه فقال : أمَّا هؤلاء فقد قُتلوا . فلم يملك عمر رضى الله عنه نفسه إلا أن قال : كذبت يا عدو الله قد أبقى لك من يخزيك به . فقال أبو سفيان : أُعل هُبل ، مرتين ، فقال النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " أجيبوه " قالوا: ما نقول يا رسول الله ؟ قال : " قولوا الله أعلى وأجل " ، قال أبو سفيان : لنا العُزَّى ولا عُزَّى لكم . فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " أجيبوه " قالوا : ما نقول يا رسول الله ؟ قال : " قولوا الله مولانا ولا مولى لكم وهذا ما قالته الآية ـ هنا فى سورة القتال ـ : (ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم) . ثم أجئ إلى شئ هنا فى هذه السورة ، بعض الناس يُنكتون ويقولون بشئ من السخرية : الإسلام فيه أنهار من لبن وخمر وعسل نعم الإسلام فيه هذا ، لأن الإسلام ذكر أن البشر بشر وليسو ملائكة ، وأن من حق الشاب الذى طوى غريزته الجنسية عن حرام أن يستمتع بالحور العِين ، ومن حق الذى أغلق فمه عن سُحت أن يستمتع بالحلال الطيب فى دار النعيم ، ومن حق الذى ظمأ لله فى يوم صائف أن يشرب من الرحيق المختوم ، فمن حق الجسد أن يستمتع . ص_225(1/192)
ومن قال : أن الأجساد ستبلى ؟ لا .. لن تَبلى وستعود كما كانت فى الدنيا وأحلى وأحسن وأنضر ، وتستمتع ، ولا شئ فى هذا ، وما الحرج فى هذا ؟ لا حرج ، قال تعالى : (مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم كمن هو خالد في النار وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم ) . لا شئ فى هذا ، وكون المؤمن يطلب ما عند الله من نعيم مادى لا شيء فيه ، ومن قال : إن النعيم المادى يغنى عن النعيم الروحى ؟ ما قال هذا أحد ، لأن الإنسان وهو مادة يستمتع فتستريح أعصابه ، ويمكن أن يستمتع بلذات مادية ولذات أدبية كثيرة ، وما أكثر اللذات المعنوية . يقول المأمون : حُبِّبَ إلىَّ فعل الخير حتى ظننت أنى لا أُوجر عليه !! وقيل لعالم : ما لذتك ؟ قال : فى حجة تتبختر اتضاحاً وشبهة تتضاءل افتضاحاً !! اللذات كثيرة ، والمؤمن فى الدنيا له ملذات مادية وملذات معنوية فما المانع أن يكون له هذا فى الآخرة ؟ فى سورة القتال ـ هنا ـ موقفان : موقف للمؤمنين ، وموقف للكافرين ، المؤمنون أهل حماس وأهل نشاط وأهل خير ، إذا نزلت سورة فيها تكليف يجرى المؤمنون إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ نحن معك ، نحن مستعدون ، وتجد هذا المعنى فى استعجالهم ما ينصر الإسلام : (ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة) . ص_226(1/193)
ينتظرون التوجيه ، ينتظرون الأمر . أما المنافقون فإذا نزلت آية فيها قتال ينظر أحدهم إلى الآخر هل يراكم من أحد ؟ اجرِ ، انصرف قبل أن تكلف بشيء ، قال تعالى : ( وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون) . هنا فى سورة القتال يصورهم تصويراً آخر : (فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم * طاعة وقول معروف فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم ) . وتمضى السورة تؤكد هذه الحقائق ، لابد من جهاد ، لابد من بذل ، لابد من مواجهة ناس كرهوا ما أنزل الله : (ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم) . لابد من مقاومتهم ، لابد من مجاهدتهم ، قال تعالى : (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم ) . أيها الإخوة : الحرب فى العالم ـ الآن ـ حرب دينية ، هناك محاولات لتغطية العنوان الدينى داخل الأمة العربية . لبنان بلد كان يأكل من فوق رأسه ومن تحت أرجله ، لكن أبى " الموازنة " إلا أن يقيموا حكماً نصرانياً ، استهانوا بالمسلمين وأرادوا أن يسحقوهم تحت النعال فكانت هذه الحرب التى لم تنته ولن تنتهى . الكاثوليك يريدون فرض الدولة المارونية على لبنان .. حرب دينية . ص_227(1/194)
الحرب التى تدور الآن فى أيرلندا حرب دينية .. الكاثوليك الذين يرتفعون عن طريق الجيش الأيرلندي كاثوليك يحكمهم الإنجليز البروتستانت مع جماعة من البروتستانت الأيرلنديين ، والحرب بين الكاثوليك والبروتستانت حرب واضحة . ولقد ذكرت فصول هذه الحرب فى الثلث الأخير من كتابى " التعصب والتسامح بين المسيحية والإسلام " الذى طبع فى سنة 1949 م ذكرت فيه ماذا كان يصنع البروتستانت بالكاثوليك ، بل نقلت أن البروتستانت كانوا يحكمون بأنه لا يجوز لكاثوليكي أن يمر راكباً فرساً إلا إذا كان الفرس بأقل من خمسة جنيهات !! الحرب دينية ، كما أن الرهبان البوذيين فى فيتنام يقاتلون حتى الموت من أجل البوذية .. الحرب دينية فى العالم . فالعالم الإسلامي ليس عليه من بأس من أن يكافح من أجل دينه ومن أجل إسلامه فى وجه كل المؤامرات التى تجتاح العالم الإسلامي بين الأطلسي والهادي .. المهم أنه لا حرج علينا من أن نكافح من أجل ديننا .. وضريبة الكفاح معروفة ، لكنى ما أزال أوصى بالحكمة والفقه وإعمال الرأى وفهم كلمة المتنبي : الرأي قبل شجاعة الشجعان هو أول وهى المحل الثاني أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم .. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ،،، ص_229
نظرات فى صدر سورة التوبة (سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم) . أيها الإخوة : مع موسم الحج أحببت أن أستعرض معكم صدر سورة براءة ، لأنها شرح وتعليق وإيضاح لأحوال الأمة الإسلامية عندما حج " أبو بكر " ـ رضى الله عنه ـ بالناس فى السنة التاسعة للهجرة ، وعندما قرأ " على بن أبى طالب " ـ رضى الله عنه ـ هذه السورة فى مضارب الخيام ومجامع الناس . أحببت أن أشرح صدر سورة براءة كى أربط المسلمين فى عصرنا هذا بواقعهم القرآني الذى يبين كيف يكون موسم الحج موسماً لوضع سياسات ، ورسم خطط ، وتوضيح مواقف ، وتحديد أمور قد تكون عائمة . ص_230(1/195)
وقبل أن أشرح صدر السورة أريد أن أقدم بين يديها بياناً صغيراً . نزلت هذه السورة فى السنة التاسعة من الهجرة ، أى أنه فى علم الله سبحانه وتعالى ـ وهو مُنزل الكتاب ومُجرى السحاب ـ أنه بعد عام ـ تقريباً ـ سوف يقبض بنيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويسترده ليلحق بالرفيق الأعلى .. أى أن هذا الركب المؤمن سيشق طريقه فى الحياة وحده ، إذن مُنزِّلُ الكتاب يريد أن يهيئ لهذه الأمة طريق امتدادها ، وأن يمهد لها السبيل حتى تحسن أن تسير وحدها ، وأن يترك النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ الأمة على مجتمع يسوده الحق والإخلاص والخلق . عندما ينظر إلى السنة التاسعة نجد أن الحال قبل نزول سورة براءة على النحو الآتي : فى الصراع السياسي مع الوثنية أمكن إسقاط جبروتها ، ومحق دولتها ، ودخل المسلمون مكة المكرمة ليكسروا الأصنام من حول الكعبة ويُعلوا راية التوحيد . فى السنة التاسعة من الهجرة أمكن تصفية الوجود العسكرى لليهودية فى جزيرة العرب بعد وقعات شداد كانت مُرة ، ولكن كسبها المسلمون ، وفعلاً محوا السلطة العسكرية والاقتصادية التى كان يتمتع بها اليهود فى أنحاء الجزيرة . فى هذه السنة ـ أيضاً ـ يمكن أن يقال : إن النصرانية فى الجنوب كانت قد تعاهدت مع النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى معاهدات شبه متوازنة ، وأمكن دعاة الإسلام أن يسيروا فى هذه الأرجاء يصدعون بكلمة الله ، ويبلِّغون رسالات الله .. لكن فى شمال الجزيرة كان هناك الاستعمار الروماني ، وكانت الصليبية هناك متحدية ، ترفض أن يتسلل بصيص من نور التوحيد فى هذه ص_231(1/196)
البقاع ، ولذلك قاتلت الإسلام بقدرة ، واشتبك الإسلام معها فى معركتين لم يحددا بتاتاً مستقبل العلاقة بين الإسلام والنصرانية .. فمعركة " مؤتة " فى السنة الثامنة ، ومعركة " تبوك " فى السنة التاسعة ، كلتا معركتين لم تُرس الأمور على وضع واضح بين العرب والرومان ، أو بين المسلمين والصليبية العالمية ، يمثلها الرومان فى هذه الآونة .. لكن الجزيرة ـ مع ذلك ـ تغيرت خلال ثنتين وعشرين سنة تغيراً واضحاً .. لكن مع التغير الذى انتصر به الإسلام فإن هناك أموراً ذات بال لا يمكن أن يواجه المجتمع الإسلامي خصومه فى الخارج وهذه الأمور باقية ، لا تزال جذور الوثنية ضاربة فى تراب الصحراء برغم الحصد المتتابع الذى اجتاح ظاهرها ، وقطَّع أغصانها وأشواكها . لا تزال جذور الوثنية غائرة فى التراب ، ولها وجود يظهر بين الحين والحين ، فارضاً نفسه بحكم أنه كثرة ، وفارضاً نفسه بحكم أنه ينبع من الشهوات الأرضية ، وذلك فى موسم الحج حيث يطوف المشركون عرايا ، ثم فى وجود طوائف من المنافقين تُعتبر بتعبير العصر الحديث طابوراً خامساً لليهودية العالمية والصليبية العالمية . فلكي يمكن بناء مجتمع سليم ومتماسك لابد من تصفية كاملة للوثنية ، لابد من ضربٍ لطوائف المنافقين واستئصال لها ، حتى يمكن أن يخلص المجتمع لعقيدة التوحيد ، وحتى يمكن أن يواجه بها العالمين دون جواذب من خلفه تهدده وهو ينطلق ، أو تعرقله وهو يتقدم . لذلك نزلت سورة براءة ، وحديثنا الليلة ليس عن السورة كلها ، وإنما عن صدر السورة . والسورة ـ كما قلت فى محاضرة قديمة ـ تُشبه أن تكون ثُلثا وثُلثين ، الثلث الأول وهو المتصل بتصفية الوثنية ، والثلثان الأخيران وهما تعليق على غزوة العُسرة أو غزوة تبوك ، وهما الثلثان اللذان صفيا النفاق فى الأرض العربية !! ص_232(1/197)
ثم بعد نزول السورة يمكن أن يقال : إن هذا المجتمع الذى ربَّاه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ على عينه ، ودمغ بالحق باطلاً ظل قروناً يُعربد ويتطاول ، هذا المجتمع يمكن أن يتركه النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد أن حج حجة الوداع ، فلا يبقى بعدها إلا ثمانين يوماً ثم يلحق بالرفيق الأعلى بعد أن ترك أمة مُحكمة البناء ، واضحة المعالم ، راسخة الدعائم ، والذى يتعهدها بهداياته هو رب العالمين ، والذى يُبقى معدنها ، ويمنع العوائق والأكدار من أن تشوب جوهرها هو القرآن الكريم . والآن نبدأ مع سورة براءة لنتتبع حج أبى بكر ـ رضى الله عنه ـ بالناس . وأول ما يلفت النظر أن الحشيد الضخم من قاصدى البيت الحرام لا يذهبون لعبادات فردية أو لشعائر جزئية ، إنما استُغل هذا التجمع فى علاج قضايا دولية ـ بتعبير عصرنا ـ وفى رسم السياسة الإسلامية التى ينبغي أن تُعرف من الموسم الجامع للمسلمين ، الحاشد لهم من المشارق والمغارب ، الحاشر لهم من أعماء القارات الخمس !! فى هذا المجتمع تُرسم الخطة الإسلامية ، هذا لو كان الحج إسلامياً ، وكان المسلمون على مستوى دينهم . فى هذا الموسم بدأت سورة براءة تنزل لتحدد سياسة دولية وعسكرية . تقول السورة : " براءة " صادرة مِن مَن ؟ " من الله ورسوله " متجهةُ إلى مَن ؟ " إلى الذين عاهدتم من المشركين " . ص_233(1/198)
براءة صدرت عن رب السماء والأرض تخص الذين عاهدتموهم من المشركين . ما مضمون هذه البراءة ؟ لديكم مُهلة أربعة أشهر ، سيحوا فى صحراء الجزيرة كما تريدون ، انطلقوا كما تحبون ، لكن اسمعوا : فكِّروا فى مستقبلكم ، لقد ضقتم بالإسلام طويلاً ، وتآمرتم عليه كثيراً ، وأكننتم له البغضاء فى خُبث ، ووضعتم العوائق فى طريقه عن قصد ، لن تُتركوا بعد اليوم ، لديكم أربعة أشهر تستطيعون فيها أن تفكروا ، فإما دخلتهم فى هذا الدين ، وتبتم من الفتنة والعدوان ، وإما ليس أمامكم إلا القتل . (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين * فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين ) . أشم من هذه الجملة الأخيرة أن القوم كانت لديهم من أسباب القوة ، ومن وساوس القدرة ما يجعلهم يظنون أنهم يُغالبون القدر ، ويعاجزون الله ، ويكسبون المعركة آخر الأمر !! لا .. (واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين) مرة أخرى يكرر الوحى البراءة والتهديد : (وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم) . براءة مكررة ، وعيدٌ مكرر ، إعلام مكرر ، ومهلة أربعة أشهر ، تبدأ من التاسع أو العاشر من ذى الحجة على خلاف بين العلماء . كيف تُلغى المعاهدات ، والمعاهدات لها قيمة ؟ يجئ الجواب سريعاً يقول لى : إن المعاهدات إنما أُلغيت مع الذين لا يحترمون المعاهدات ، إن المعاهدات لمَّا لعب بها من أمضوها معكم ، ص_234(1/199)
واستهانوا بكم ، واحتقروا شأنكم ، وتجرؤا عليكم رأينا إلغاءها ، وما نُلغى معاهدة أبداً احترمها الطرف الآخر ، واستمسك بالشروط التي وقع عليها ، ولذلك جاء الاستثناء مباشراً بعد هذه الآية .. (إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين) . إذن المعاهدات ألغيت مع ناس أساءوا إلينا وناصروا أعداءنا ، وظاهروهم على ضربنا ، ونقصونا حقوقنا ، أما الذين لم نقصونا ، ولم يبخسونا ، ولم يسيئوا إلينا ، ولم يفرطوا فى المعاهدات التي بيننا وبينهم فنحن نتقى الله فيهم ، لا يشملهم لا الإنذار ولا البراءة .. (إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين) . ( فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم) . الأشهر الحرم فى هذه الآية ليست هى الأشهر التى قال الله فيها : (منها أربعة حرم) وهى ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب ، وإنما هى أشهر مخصوصة سميت بذلك لتحريم القتال فيها ، وتبدأ من عشر من ذى الحجة إلى عشر يخلون من شهر ربيع الآخر . وهذا الرأى الذى ذكرته هو رأى بعض المفسرين . بعد هذه الآية تجيء آية تفتح حديثاً فى موضوع الدعوة ، وأسلوب عرضها ، ومعاملة الناس على ضوئها ، هذه الآية هى قول الله تعالى : (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون) . ص_235(1/200)
فى أثناء هذه الحملة العامة على المتلاعبين بالعهود صاح رجل وقال : ما أنتم ؟ أنا لا أدرى ما تريدون !! فماذا نصنع له ؟ لابد من تأمينه ، وإذهاب روعه ، ثم إشعاره بأن الإسلام دعوة تخاطب العقل ولا تُكره أحداً!! (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون) . هنا أرجع لأول السورة لأجيء بكلمة : " الناس " ، لماذا ؟ لأنى فى مجال الدعوة لاحظت أن عدداً من الذين يشتغلون بالحديث ليس لهم حق الاشتغال بالحديث وهم ليسوا فقهاء فى القرآن ، وليسوا مطلعين على طُرق الفقهاء فى الفهم والاستنباط. لماذا أقول هذا ؟ لأن أحد الناس ذكر حديث : " أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم منى نفسه وماله إلا بحقه ، وحسابه على الله " وفهم هذا الشخص أن كلمة " الناس " فى الحديث تشمل العالم !! . ومعنى هذا أن الإسلام ماسك العصا ، طائح فى القارات الخمس ، يقول للناس : الإسلام أو السيف !! هذا تفكير قُطَّاع طرق وليس تفكير دعاة ، وهذا جنون فى فهم السنة المطهرة !! قال لى محدثى : الحديث يُعمم ويقول : " أمرت أن أقاتل الناس " قلت له : فى علم النحو "أل" تكون للعهد ، وتكون للجنس ، ص_236(1/201)
و " أل " فى الحديث للعهد ، وأنت فهمتها للجنس . قال : أنا لا أعرف عهداً ولا جنساً !! قلت له : معنى " أل " للجنس يعنى للناس جميعاً ، ومعنى " أل " للعهد يعنى ناساً معهودين مخصوصين . فقال لى : وما المانع أن تكون " أل " هنا للجنس ؟ قلت له : يوم تجعلها للجنس ، أى للناس جميعاً ، فإنك تصطدم بالقرآن الكريم . قال : وكيف أصطدم به ؟ قلت : الغاية من القتال فى هذا الحديث تجعل القتال مشتعلاً مع الناس كلهم حتى يقولوا : "لا إله إلا الله " !! قال : نعم ، وهذا هو معنى الحديث !! قلت : لكن القرآن الكريم تحدث عن أهل الكتاب المعتدين الذين تحدَّوا وشاغبوا ، فقال : القتال معهم إلى أن يُعطوا الجزية ، فلا يُكرَهُون على أن يقولوا : لا إله إلا الله : (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) . فهذه الآية فى مقاتلة قوم من المعتدين المجرمين الغادرين ، حتى يقولوا لا إله إلا الله ؟ لا ، حتى يدفعوا نفقات الحرب التى يشتبك المسلمون فيها دفاعاً عن دينهم وعن أرضهم وعمَّن يعيش فى ظلهم . فأحس الرجل أن الحديث لا يشمل الناس جميعاً ، وأن أهل الكتاب مستثنون يقيناً . ص_237(1/202)
فقال : إذن أهل الكتاب مستثنون . قلت : وغيرهم قال : كيف ؟ قلت : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى المجوس ـ : " سنوا بهم سنة أهل الكتاب" . المجوس ناس وثنيون ، وليسوا أهل الكتاب . قال : والمجوس ـ أيضا ـ مستثنون !! قلت : هذا الحديث قيل فى العرب الوثنيين ، فالمقصود بكلمة " الناس " فى آية براءة ، وكلمة " الناس " فى هذا الحديث إنما هم العرب الوثنيون . وهناك عموم أريد به خصوص كما يقول علماء أصول الفقه ، ومثال ذلك قوله تعالى : (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم) . فـ " الناس " ـ الأولى ـ هم بعض المرجفين ، و " الناس " ـ الثانية ـ هم مشركو مكة . فهذا عموم أريد به خصوص . ص_238(1/203)
ومثال آخر ، قوله تعالى : (إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا ) . فـ " الناس " ـ هنا ـ هل هم سكان القارات ؟ لا .. هم سكان الجزيرة العربية . ولذلك فقد قلت : ما يشتغل بفقه السنة إلا فقيه فى القرآن الكريم . هذا اعتراض وأنا أفسر الآية صدر السورة ، ثم أعود إلى مكانى مرة أخرى لأقول : كأن القرآن الكريم أراد أن يشرح لماذا كان الإلغاء لمعاهدات لعب بها الطرف الآخر .. بدأ يشرح هذا فبين أموراً وأوجب أموراً .. الأمور التى بيَّنها وأوجبها أربعة .. الأمر الأول : أن الشرك أو الكفر مظنة الغدر والعبث . الأمر الثاني : أن بيئة الفتنة هى فى هذا الشرك المعتدى . الأمر الثالث : أوجب ضرورة التهيؤ لقتال أعدائهم دون خشية منهم أو خوف . الأمر الرابع : التأمين الاقتصادي عندما يخشى المسلمون الأزمات على مستقبلهم فى حرب شاملة أعلنها الإسلام على أعدائه . ونفصل هذه النقط الأربعة .. أما النقطة الأولى : فبدأ القرآن الكريم يقول : لماذا ننتظر من المشركين أن يكونوا أهل وفاء ؟ لقد غدروا بالله ، غدروا بعهده الذى أخذه عليهم فى فطرهم ، فإذا كانوا قد عبثوا بعهد الله الأعظم فَلِمَ لا يعبثون بالعهود معكم ؟ قال جل شأنه : كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله.." ؟ ثم يستثنى حتى لا يُتهم بأنه غدَّار ص_239(1/204)
(إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين * كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون) . الإل : العهد ، القرابة ، والذمة : العهد ، الأمان ، الحق .. المهم أن هؤلاء لو شعروا بالقوة فلن يعرفوكم ، سيجهزون عليكم ، ما يمنعهم من الإجهاز عليكم إلا الخوف من أن تكونوا أقوى منهم فتهزموهم !! فكيف أتعامل مع إنسان أو أرتبط معه على هذا الأساس ؟ وكيف تكون المعاهدة محترمة ؟ ثم بيَّن جل شأنه أنهم نهَّازوا فُرص ، ينظرون إلى المجتمع الإسلامي بعيون ماكرة ، ويوم يجدون فى هذا المجتمع ثُغرة فسينفذون منها إلى صميمه ويفتنون المسلمين عن عقائدهم !! قال جل شأنه : (اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا فصدوا عن سبيله إنهم ساء ما كانوا يعملون * لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون) . ثم قال للمسلمين : عليكم أمور : الأمر الأول : لا تخشوا أحداً ، استندوا إلى الله ثم أدوا حقه ولا تبالوا .. قال جل شأنه : (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ونفصل الآيات لقوم يعلمون * وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون * ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين) . ص_240(1/205)
أشم من هذه العبارات أن المسلمين ـ فعلاً ـ كانوا يُحسون خطورة المعركة التى كُلِّفوا بخوضها ، وأشم من العبارات ـ أيضاً ـ أن المشركين كانوا على درجة كبيرة من القوة تجعل المسلمين يُقدِّرون أن المعركة معهم ليست هينة !! لكن التحريض القرآنى فى موسم الحج يأخذ عموم الأمة الإسلامية بهذا التوجيه الحاسم (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين * ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم) . كلمة : (ويشف صدور قوم مؤمنين * ويذهب غيظ قلوبهم) ، هذه الكلمة تنضح بأن أعداء الإسلام تركوا فى نفوس المؤمنين جراحاتٍ عميقة أتعبتهم وأرهقتهم !! ولذلك وعدهم الله بأنهم إذا قاتلوهم فإن الله معهم ( قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين * ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم ) .. هنا أدب إسلامى ألفت النظر إليه .. إن الله لا يُقبل على قلب مشترك !! والقلب المشترك هو الذى يعمل لله ويعمل للناس !! إنسان يدخل فى الميدان الإسلامى ونفسه فيها جزع يقول : أتخذ صديقاً من الكفار ذا قوة ووجاهة ألجأ إليه إذا وقع لى شيء !! هذه هى البطانة أو بتعبير الآية ـ هنا ـ " الوليجة " (أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون) . ص_241(1/206)
لا .. كن رجلاً صريحاً فى حماية الحق ، كن رجلاً مخلصاً فى اعتناقه ، كن رجلاً واضحاً فى عاطفتك ضد أعداء الله ، وأعداء الدين والحق .. هذا الوضوح لابد منه ، ولذلك يستنكر رب العالمين من المؤمنين موقفاً فيه ريبة أو ضعف فيقول : (أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون ) . فلا يجوز أن نتخذ صديقاً خفياً نلجأ إليه فى وقت الشدة ، فهذا شُغل المنافقين (فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين) . صاحب الحق يربط حياته ومستقبله بالحق ، فإن هلك الحق فلا قيمة للحياة بعده !! ثم صدر الأمر الذى خوَّف المسلمين من الناحية الاقتصادية ، ففى حجة أبى بكر كان المشركون يحجون ، وأهل مكة تجار يسرهم أن تمتلئ البلد ، لماذا ؟ يكسبون من هذا ويربحون .. لكن صدر الأمر : " ألا لا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عُريان " . ص_242(1/207)
ليس للوثنيين مجال هنا ، ليس لهم مكان هنا .. (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون * إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين) . التفكير المالى عند أهل مكة كان فى حساب الوحى وهو يقول : ليس للمشركين أن يجيئوا بعد هذا العام ، ولذلك قال : (يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم ) . وكلمة " إن شاء " جاءت هنا حتى يلزم الناس مكان العبيد أمام الرزاق الكبير ، ليس لك حق عنده ، قف موقف العبد وتعلم قول الله فى الحديث القدسى : " يا عبادى كلكم ضال إلا من هديته فاستهدونى أهدكم ، يا عبادى كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعمونى أطعمكم ، يا عبادى كلكم عار إلا من كسوته فاستكسونى أكسكم " . من حق أى عبد ـ بحق العبودية وحدها ـ إذا جاع أن يقف بين يدى المُطعم الذى يُطعِم ولا يُطعَم ليقول له : أطعمنى !! من حق العبد إذا تعرى أن يقف بين يدى قيِّم السموات والأرض ليقول له : اكسنى !! إذن من الناحية الاقتصادية لا تخافوا فأنا سأرزقكم ، فماذا عن الناحية العسكرية ؟ لأننا سنتعرض بهذا إلى اشتباك مع سكان الجزيرة كلها ، مع من بقى منهم على الشرك وهم كثيرون !! ص_243(1/208)
ليكن ، ذكرهم رب العالمين بيوم قريب كان فى السنة الثامنة هو يوم " حنين " قال لهم : أنتم تظنون أن النصر بكثرة العَدد والعُدد ، لا .. النصر من عندى ، وقد كنتم قلة ووقفتم أمام أضعافكم عدداً وعُدة وكسبتم المعركة !! ثم فى السنة الماضية ـ السنة الثامنة ـ كنتم كثرة أعجبتكم ، وظننتم أنكم بكثرتكم منصورون فهزمتكم !! وهذا هو السر فى أن يقول فى صدر السورة : (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ) . فصدر السورة متماسك ، والكلام من أول السورة إلى قوله تعالى ـ فى الحديث عن غزوة "تبوك" ـ : (يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض) . الكلام إلى هنا فى صدر السورة ، وهو متماسك ، أو له تمهيد لآخره ، وآخره تصديق لأوله ، والقرآن ينبغى أن يُفهم على هذا النحو . أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته . ص_245
فقه الدعوة أعوذ بالله من الشيطان الرجيم . أيها الإخوة : أحمد الله إليكم وأصلى وأسلم على سيدنا محمد وآله . وبعد .. فإنه حبيب إلى نفسى أن أرى هذا الحشد من شباب أمتنا يحدوه إلى هذا المكان إيمانه بربه ، وحبه لنبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ورغبته فى أن يُعز الإسلام ، وأن يرفع لواءه ، وأن يعترض قُوى الشر التى تناوشه . إنه حبيب إلى نفسى أن أرى هذه الوجوه الناضرة بقوة الإيمان التى حثت الخُطا إلى هذا الجمع كى تُسهم بعواطفها وأفكارها فى جعل أمتنا باقية على الوفاء لدينها وتراثها وإن كره الكارهون ، وإن ضاق بذلك الذين : (يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون) . أيها الإخوة : ص_246(1/209)
حديثنا الذى رتبته إدارة المعسكر فى " فقه السيرة " . وكلمة " فقه " ـ هنا ـ تعنى الحقيقة اللغوية ، إنها لا تعنى مجموعة أحكام تتصل بشرائع العبادات والمعاملات ، ولكن كلمة " فقه " ـ هنا ـ يقصد بها معرفة سر الحادثة ، أو كُنه القضية ، أو ما وراء المشاهد القريبة . فالفقه ـ هنا ـ أن نغلغل البصر فيما نقرأ من سيرة نبينا عليه الصلاة والسلام ثم نعرف الأسباب والحقائق وراء ما نقرأ . وأمتنا محتاجة إلى هذا احتياجاً شديداً ، لأن عصور التخلف التى تنتاب الأمم المتدينة تجيء مِن تحول الدين إلى مراسم وأشكال وإلى صور ومظاهر ، تجيء مِن تجاوز الناس للُباب وتعلقهم بالقشور ، ولذلك فنحن نريد أن نعود إلى ديننا فى حقائقه ونفقه ما وراء الحوادث التى تُساق . العيب فى دراسة التاريخ أننا أحياناً نطالع صفحات التاريخ لنقرأ أنباء الانتصارات والهزائم وأخبار المواليد والوفيات ، ولكن التاريخ شيء آخر وراء هذا الظاهر ، وهو أن تعرف ما المقدمات التى انتظمت حتى انتهت بالنصر أو بالهزيمة ؟ ، وما هى العوامل التى تجمعت فجعلت فترة من فترات التاريخ تُزهر وتُثمر ، وفترة أخرى تُجدب وتقشعر ولا ترى فى جوانبها ما يشرح صدراً أو يسر عيناً !! إننا نريد أن ندرس سيرة نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ على هذا الأساس ، وأن نعرف أيضاً كيف ندعو إلى دينه . إن بعض الكُتَّاب الأجانب كان أقرب منا إلى فهم نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، " برنارد شو " ـ وهو أديب انكليزى ـ يقول : لو كان محمد موجودا لحل مشكلات العالم وهو يتناول فنجاناً من قهوة !! هذا التعبير من الأديب الإنكليزى أقرب إلى فهم محمد الإنسان الملهم الذى يحلل ص_247(1/210)
القضايا المعقدة إلى بسائطها الأولى ، ثم يستطيع عن طريق هذا الفهم الواعى الناضج لكل شيء أن يأخذ بنواصى الناس إلى الكمال ، وبأعناق المجتمعات إلى النجاح والصعود !! ولذلك فنحن نحب أن نعرف كيف دعا نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى دينه من خلال السيرة ، فإن مسلك الإنسان أدل شيء على سياسته ، إن حياة امرئ ما على نحو معين دليل على الأسلوب الذى اختاره فى حياته . ولذلك فنحن نتابع سفره وإقامته ، وصحته ومرضه ، نتابع حربه وسلمه ، صداقته وخصومته ، نومه ويقظته ، استجمامه وعمله . نتابع حياة هذا الإنسان العالى الزاكى كى نعرف من خلال النظر فيها كيف نجح فى تكوين أمة من الصفر !! كيف استطاع أن يجيء بكل ما آتاه الله من مواهب ، وأفاء عليه من أفضال مادية وأدبية ليقود هذه الأمة ويدفع بها إلى الأمام لتكون الأمة الأولى فى العالم ؟!! أعجبنى من بعض العلماء أنه قال : إن نبينا عليه الصلاة والسلام أُمِر أن يقتدى بالأنبياء قبله: (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) . وقالوا : إن تقليد نبى واحد قد يفيد أنه مفضول ، لأن المقلد أقل درجة من المقلد ، لكنه أُمر أن يقتدى بمجموعة الأنبياء بعد أن ذكر الله أسماء ثمانية عشر نبياً .. إذن فهو مكلف أن يجمع فى سيرته ما تفرق من ألوان الكمال الإنسانى فى سير أولئك الذين ذُكر أسماؤهم وأنسابهم . نعم ، ما تفرق من الكمالات البشرية فى الأنبياء السابقين جُمع فى ص_248(1/211)
خُلق نبينا عليه الصلاة والسلام وفى سيرته .. لكن مع تفاوت فى التطبيق ، كيف ؟ فى تطبيق إبراهيم لأمر الله له أن يدعو إلى التوحيد وأن يحارب الوثنية وجد أن الناس لم يحسنوا الاستماع إليه ، ولا تتبع الأدلة على النحو الذى شرحته سورة الأنعام عندما تدرج بهم فى فهم الألوهية من كوكب إلى قمر إلى شمس لم يُجد معهم هذا الأسلوب فذهب إلى الأصنام وهدمها وعلَّق الفأس فى رقبة الصنم الكبير وسخر منهم عندما جاءوا فوجدوا أصنامهم جُذاذات مقطعة : (قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين * قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم * قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون * قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم * قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون ) . أفلح إبراهيم فى هدم الأصنام ، وأفلح فى لفت نظرهم إلى أنها لا تملك أن تدفع عن نفسها ، لكن ما حدود هذا الفلاح ؟ (فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون) لكن هل تمت هذه الرجعة وامتدت ؟ لا .. كان الضمير ميتاً ، أدركته صحوة عابرة ثم عاد إليه موته ، كان الذهن خامداً تألق فيه شعاع ثم خَفَتَ الشعاع وعاد الظلمة : (فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون * ثم نكسوا على رءوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون * قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم * أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون * قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين) . انتهى الأمر برمى إبراهيم فى النار !! إذن الطريقة لم تُنتج ، لماذا ؟ لأن العلاج كان فى حدود هذا العصر العلاج الممكن . ص_249(1/212)
لقد أخذ التطبيق فى سيرة نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ جانباً آخر ، فنبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يحاول أن يكسر الصنم بيده وإنما ربَّى الأمة التى تستطيع أن تعقل ، وأن تفقه ، وأن تستيقظ ، وأن تبصر ، وأن تدرك الحق ، وأن تتعصب له ، وأن تكره الباطل ، وألا تطيق بقاءه ، وأن تجيء يوماً هى هى التى كانت تعبد الأصنام لتكسر بيدها الأصنام !! فـ : خالد بن الوليد الذى كان يعبد الأصنام فى مكة والذى ظل يحارب تحت راية الشرك حتى أسلم هو الذى أخذ ـ بنفسه ـ سيخاً من حديد يهدم به صنم العُزَّى ويقول : يا عُزَّى كُفرانك لا سبحانك إنى رأيت الله قد أهانك ما الذى صنع خالداً ؟ منهج الدعوة كما رسمه محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ !! إن هذا المنهج قام على أساس أن محاربة الشرك لا تكون بتحطيم مظاهره فى المجتمع ، فإن المجتمع الضال سوف يجيء بمظاهر أخرى . ومن خيبة المسلمين فى الهند أنهم كانوا يذبحون الأبقار التى يعبدها الهنود !! لم يُجد هذا فى نشر الدعوة الإسلامية هناك ، بل توقف سير الدعوة ، لأن سير الدعوة أن تجيء بعابد العجل لتغيره عقلياً ونفسياً ، وهذا يحتاج إلى أمد طويل . إن الأساس ليس أن يطول الطريق ، لكن هل يؤدى أو لا ؟ فإن كان مؤدياً فمن سار على الدرب وصل !! ومن خمس وعشرين سنة ـ تقريباً ـ قلت هذا الكلام فى كتابى : " فقه السيرة " الذى ألفته فى المدينة المنورة ـ قلت : " إن الوثنية هوانُ يأتى من داخل النفس لا من خارج الحياة ، فكما يفرض المحزون كآبته على ما حوله ، وكما يتخيل المرعوب الأجسام القائمة ص_250(1/213)
أشباحاً جاثمة ، كذلك يفرض المرء الممسوخ صَغَار نفسه وغباء عقله على البيئة التى يحيا فيها ، فيؤله من جمادها وحيوانها ما يشاء . ويوم ينفسح القلب الضيق ويشرق الفكر الخامد ، وتثوب إلى الإنسان معانيه الرفيعةُ فإن هذه الانعكسات الوثنية تنزاح من تلقاء نفسها . ومن ثم كان العمل الأول للدين داخل الإنسان نفسه ، فلو ذُبحت العجول المقدسة ، ونُكست الأصنام المرموقة ، وبقيت النفس على ظلامها القديم ، ما أجدى ذلك شيئاً فى حرب الوثنية .. سيبحث العُبَّاد المفجوعون عن آلهة أخرى غير ما فقدوا يوفضون إليها من جديد .. وما أكثر الوثنيين فى الدنيا وإن لم يلتفوا حول نُصب ، وما أسرع الناس إلى تجاهل الوجود الحق وربه الأعلى والجرى وراء وَهْمٍ بعيد ..!! هذا حق ، ربما تقدمت الإنسانية ـ الآن ـ ورفضت أن تعبد صنماً محفوراً من حجر أو منحوتاً من خشب ، ولكن هناك أصناماً أخرى ـ بيقيت ـ تُعبد الآن !! فحب الرئاسة صنم يعبده من يعبده ، ويُقدَّم له قرابين من الجماهير الجائعة الخائفة !! وحب المال صنم يقدم له صاحبه الفضائل والشرف والفتاوى الخاطئة والأحكام الكذب !! أشياء كثيرة جداً أصبحت أصناماً جديدة يعبدها الناس فى عصرنا !! وما كان هذا يوجد لو أنك بدأت ـ فعلاً ـ فملأت النفس الإنسانية بعقيدة التوحيد كما شرحها القرآن الكريم وكما بيَّنها النبى عليه الصلاة والسلام . إن نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ أول ما بُعث أخذ يوضح للناس معنى التوحيد الكامل ، جمع قومه وحمد الله وأثنى عليه ثم قال : ص_251(1/214)
" إن الرائد لا يكذب أهله ، والله الذى لا إله إلا هو إنى رسول الله إليكم خاصة وإلى الناس عامة ، والله لتموتن كما تنامون ، ولتبعثن كما تستيقظون ، ولتحاسبن بما تعملون ن وإنها الجنة أبداً والنار أبداً " . أبى أن يتمسك الناس بشركاء أو شفعاء أو وسطاء وقال : " يا معشر قريش : اشتروا أنفسكم لا أغنى عنكم من الله شيئاً ، يا بنى عبد مناف لا أغنى عنكم من الله شيئاً ، يا عباسُ بن عبد المطلب لا أغنى عنك من الله شيئاً ، ويا صفيةُ عمة رسول الله لا أغنى عنك من الله شيئاً ، ويا فاطمة بنت محمد سلينى ما شئت من مالى لا أغنى عنك من الله شيئاً " . وعن العلاقة بينه وبين الناس نقرأ أنه لما اشتد عليه المرض ذهب إلى المسجد فى صحوة من صحوات المرض ، لقد انهزمت العافية فى بدنه الجلد أما سطوة المرض العاتى ، إلا أنه أخذ يحدثهم ويُربِّيهم ـ على عهدهم به دائماً ـ وأنصتوا ، فإذا هم يسمعون منه عجباً ، إنه لما أحسَّ بدنو أجله أحب أن يلقى الله وليس هناك بشر يطلبه بتبعة ، إنه تحرى العدالة فى شئونه كلها ، لكن من يدرى ؟ ربما عرض له سهو مما يعرض لبنى آدم أو خطأ فجار ، وهو الذى يبرأ من الجور وذويه ، إذن ليخطب الناس فى هذا حتى يستريح ضميره ، قال : " أما بعد أيها الناس : إنه قد دنا منى خلوف من بين أظهركم ، ص_252(1/215)
ولن ترونى فى هذا المقام فيكم ، وقد كنت أرى أن هذا غير مُغنٍ عنى حتى أقوم فيكم مراراً ، ألا فمن كنت جلدتُ له ظهراً فهذا ظهرى فليستقد منه ، ومن كنت أخذت له مالاً فهذا مالى فليأخذ منه ، ومن كنت شتمت له عرضاً فهذا عرضى ليستقد منه ، ولا يقولن قائل : أخاف الشحناء من قبل رسول الله ، ألا وإن الشحناء ليست من شأنى ولا من خلقى ، وإن أحبكم إلى من أخذ منى حقاً إن كان له علىّ ، أو حللنى فلقيت الله عز وجل وليس لأحد عندى مظلمة . هذه سيرة فى عرض الدعوة ، وفى رسم وظيفة ولى الأمر ، وفى بيان كيف يعيش الحاكم بين الناس وكيف يعاملهم ، وكيف يحنو عليهم . هذا شيء ينبغى أن يُعرف فى سيرة نبينا عليه الصلاة والسلام . لقد كان فى شخصه ، وفى مسلكه ، وفى سيرته حقل التجارب ـ بتعبير العصر الحديث ـ الذى دارت فيه تعاليم الإسلام ، كى تُقاد الأمة عن طريقه إلى الكمال الفردى والاجتماعى . وهذا هو السر فى أن القرآن كان يُحِّدث النبى عليه الصلاة والسلام بأحاديث ـ هى فى حقيقتها وفى ظاهرها ـ ليست موجهة إليه ، إنها موجهة إلى الأمة فى شخصه كى تتعلم منه. لقد كان عليه الصلاة والسلام فى دعوته حسن النظر لطبائع الناس ، وهذا ـ كما قال ابن القيم ـ السر فى اختلاف إجاباته على سؤال واحد . ربما جاءه رجل وقال له : " أىُّ الأعمال أفضل ؟ قال : الصلاة على ص_253(1/216)
وقتها ، قال : ثم أى ؟ قال : بر الوالدين ، قال : ثم أى ؟ قال : الجهاد فى سبيل الله " . وجاءه رجل فسأله عن البر والإثم ، فقال : " البر حُسن الخُلق ، والإثم ما حاك فى نفسك وكرهت أن يَطَّلع عليه الناس " . وجاءه رجل فقال : " يا رسول الله قل لى فى الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك ، قال : قل : آمنت بالله ثم استقم " . وجاءه رجل آخر فقال : " يا رسول الله أىُّ المسلمين خير ؟ قال : من سلم المسلمون من لسانه ويده " . وجاءه رجل آخر فقال : " أوصنى ، قال : لا تغضب ، فردد مراراً ، قال : لا تغضب " . وجاءه رجل آخر فقال : " يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتى ؟ قال : أمك ، قال : ثم من ؟ قال : أمك ، قال : ثم من ؟ قال : أمك ، قال : ثم من ؟ قال : أبوك " . وجاءه رجل آخر فقال : " أى الأعمال أفضل ؟ قال : إيمان بالله ص_254(1/217)
ورسوله ، قيل : ثم ماذا ؟ قال : الجهاد فى سبيل الله ، قيل : ثم ماذا ؟ قال : حج مبرور " . سبب هذه الإجابات الكثيرة ـ كما شرح علم النفس الإسلامي ـ أن النفس الإنسانية تختلف فى هذا الشخص عن ذاك ، والأوضاع ـ أيضاً ـ تختلف فى هذا الشخص عن ذاك ، ولذلك قال العلماء : إن ما يكون عبادة من شخص قد لا تُقبل من شخص آخر !! ما معنى هذا ؟ سأضرب لكم أمثلة توضح هذا المعنى .. 1ـ أنا رجل تعلمت كيف أدعو ، وكيف أعرض الإسلام ، وكيف أُفتى فى جانب من قضاياه وشرائعه ، فلو أغلقتُ فمى وصمتُ الدهر لكنت عاصياً !! ما قيمة صيامي ؟ إننى عُلمتُ أن أبين للناس معالم الدين ، فريضتي فى الصيام شهر رمضان ، نافلتى التى تتشبث بى حياتى وتتحول إلى فريضة بعد ذلك هى الدعوة والتعليم ، ولو أنى اعتكفت أو اعتزلت فإنى أخونُ بذلك دينى !! 2ـ رجل أغناه الله وكثر له المال ، فوضعه فى خزائنه ووقف فى المسجد يصلى آناء الليل وأطراف النهار ، لا تُقبل منه الصلوات !! لماذا ؟ لأن عبادة مثل هذا الرجل ـ وقد وسع الله عليه فى المال ـ أن يدرس المجتمع ، وأن يتحسس الثُّغرات الكثيرة فيه ، ويعمل على سد كل ثغرة تبينت له من المال الذى آتاه الله إياه . وهكذا ، فإذا جاء رجل حج مرة ومرتين وثلاث وأراد أن يحج مرة أخرى قلنا له : لا .. ابحث عن فقراء المسلمين فى المدارس والمعاهد ص_255(1/218)
والجامعات أو فى أى مكان وأعطهم هذا المال الذى تريد أن تحج به فإن بذله ـ هنا ـ فريضة ، وبذله فى الحج نافلة بعد أن أديت الفريضة !! هذا ما ينبغى أن يعلمه الدعاة ، ينبغى أن يتعرفوا الأمور بدقة ، وأن يدرسوا طبائع النفوس وطبائع الأوضاع . الدعوة ليست كلاماً يُحفظ ويقال هنا وهنا بغباء ، لا .. لابد أن تعرف ما هنالك . أنا رجل أكره ـ جداً ـ أن أتعلق بضريح وأقول له : افعل لى كذا وكذا ، هذا كلام فارغ ، الفاعل هو الله !! لكننى غضبت ـ جداً ـ أن أحد الأشخاص ذهب إلى " واشنطن " يدعو إلى الله فأخذ يحارب الأضرحة !! هنا ناس ماديون يعبدون المال ، ويسيرون وراء الشهوات ، ولديهم ما يشغلهم عن الله والدار الآخرة ، هؤلاء نريد ربطهم وضبطهم على نحو آخر .. لكن هذا الشخص حفظ أشياء ويريد أن يقولها لأنه لا يعرف غيرها !! هذا داعية مُقصر ـ هذا داعية لا يدري ما أمامه ، لأنه لا وجود هناك للأضرحة ، هناك كفر ينبغي أن يحارب . الدعوة تحتاج إلى أن نعرف كيف كان نبينا عليه الصلاة والسلام يتصرف. عندما جاء أحد المفاوضين فى عمرة الحديبية نظر إليه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فعرف أنه رجل متدين ، فقال لأصحابه : " إن هذا من قوم يتألهون ، فابعثوا الهدى فى وجهه حتى يراه " !! ص_256(1/219)
لماذا هذا التصرف ؟ حتى إذا جاء الرجل وجد أمامه الذبائح التى ستقدم لرواد أو سكان الحرم فلا ينطق !! وفعلاً حدث هذا ، فخبرة الرسول عليه الصلاة والسلام بالنفوس جعلت الرجل يقتنع ، فلما رأى الهدى يسيل عليه من عرض الوادى ، عاد إلى قريش فقال لهم ذلك ، فقالوا له : اجلس إنما أنت أعرابى لا علم لك ، فاستشاط الرجل غضباً وصاح : يا معشر قريش ، والله ما على هذا حالفناكم ولا على هذا عاقدناكم ، أيصد عن بيت الله من جاء معظماً له ؟ والذى نفسى بيده لتخلن بين محمد وبين ما جاء له أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد !! فقالوا له : مه ، كف عنا حتى نأخذ لأنفسنا ما ترضى به !! لقد كان نبينا عليه الصلاة والسلام خبيراً بالنفوس ، ودعوته كانت على هذا النحو . فهناك أشياء يحتاج إليها الدعاة ، وأنا ـ هنا ـ أنبه إلى بعضها . أولاً : محبة الناس : أضرب مثلاً لمحبة الناس مع سوء السلوك من الطرف الآخر حتى نعرف ما هو الحب المطلوب .. فى " غزوة أحد " أصيب النبى عليه الصلاة والسلام إصابة بالغة ، ومع ذلك فإنه قال : " اللهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون " !! إنه إنسان كبير القلب ، والعدوان لا يجعله يخرج عن طبيعته : لقد كان إذا انصرف عنه إنسان حزن لأنه يرى إنساناً أظلم مستقبله ، وأن أبناً أو أخاً فى الإنسانية فشل فى حياته ، وابتعد عن طريق الخير . قد يلمح فى بعض الدعاة نوع من القسوة ، لماذا ؟ ص_257(1/220)
لقد كان النبى عليه الصلاة والسلام بالغ الرقة ، وفى الوقت نفسه كان بالغ الصرامة لقد رق قلبه حتى سأل عن عصفور لطفل صغير ، يقول أنس بن مالك رضى الله عنه : " إن كان النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليخاطبنا حتى يقول لأخ لى صغير ، يا أبا عُمير ما فعل النغير " الرقة التى تبلغ هذا الحد يصحبها أن يقول : " وأيم الله لو أن فاطمة ابنة محمد سرقت لقطعت يدها " فالداعية ينبغى أن يكون رحيماً فى مواضع الرحمة ، شديداً فى مواضع الشدة . إن الدعوة إلى الله تحتاج ـ أشد الاحتياج ـ إلى التلطف ، ماذا علينا لو أخذنا نوسع دائرة الذين يعملون للإسلام ، ويعطفون على قيمه وتراثه وتاريخه ؟! وماذا علينا لو قلنا ـ ببساطة ـ الحق دون أن يخرجنا الحماس عن وعينا ولا أن يوقعنا فى مصايد ينصبها لنا خصومنا ؟! قد يكون هناك ما يثير ، وأنا ـ فعلاً ـ تستثير فىَّ أشياء كثيرة ، ولكننى أكتفى فى التعليق عليها بقول الحق ! هناك حاكم فى الشمال الإفريقي قال : إن المرأة ستأخذ نصيبها فى الميراث مثل الرجل ، وما كنا نسمعه عن ص_258(1/221)
الثمن والربع والخمس والثلث وغير ذلك فلن يحدث بعد اليوم لأن المرأة على عهد نزول القرآن كانت جاهلة ، أما الآن فهى متعلمة !! هذا حاكم جهول ، لا يحسن شيئاً إلا هذه الجراءة على ديننا . ما واجبى ـ أنا ـ كداعية ؟ واجبي أن أذكر للناس أنَّ الرجل جاهل ودعىِّ ، وأن كلامه ـ هذا ـ إنما هو لخدمة القوى المناوئة للإسلام . واجبي أن أوسع دائرة العارفين بالإسلام المحبين لقيام حكمه ، حتى يكوِّنوا الرأى العام . وهذا ما فعله نبينا عليه الصلاة والسلام ، ونحن عندما ندرس سيرة نبينا عليه الصلاة والسلام ينبغى أن ندرسها فقهاً لسيرته ، وليس ترديداً لبعض الحوادث التى تلمع فى حياته . ينبغى أن ندرس السيرة لنعرف كيف كان يلقى الوفود ، كيف كان يعرض على الناس . لقد كان نبينا عليه الصلاة والسلام سوى البدن ، سوى المشاعر ، سوى الفكر ، سوى العاطفة ، ولذلك عرض الدين على الناس صحة عقلية ونفسية ، وبينما يوجد فى أديان أخرى من يعرض الدين على الناس كبتا لا أصل له ، أو عُقدا غير مقبولة . كان النبى عليه الصلاة والسلام فى فيضانه الروحى على الناس يملأ قلوبهم بالإيمان حتى لكأنما يرون عرش الرحمن بارزاً ، وكان فى نضارة جسده بين الناس يسير بينهم فيترك فى جو الشارع الذى مشى فيه أثراً من مِسك !! ما أجدرنا أن نتأسى بنبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأن نتعلم منه كيف ندعو . ص_259
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى أصحابه وأتباعه إلى يوم الدين . أقول قولى هذا وأستغفر الله لي ولكم . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ص_013(1/222)
فإن في ذلك خيراً كبيراً للدعوة وللدعاة وللشباب الإسلامي في كل مكان . وإننا لنرجو أيضاً كل من لديه شئ من آثار هؤلاء المجاهدين الراحلين أن يسعى إلى نشره وإذاعته وفاء وثوابا وخدمة للإسلام ، ووصلاً لحاضر الدعوة المعاصرة بماضيها القريب ، والذكرى تنفع المؤمنين . وفقنا الله جميعاً لخير ما يحبه و يرضاه ، والحمد لله رب العالمين . كتبه الفقير إلي عفو الله تعالي عبد الستار فتح الله سعيد القاهرة في شعبان 1409 هـ مارس 1989 م(1/223)