دروس وعبر مستخلصة من الهجرة النبوية.
ها هو ذا عام هجري يودعنا، وهي فرصة سانحة لنتدبر معاني هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، ونتخذ منها دروساً وعبر لتكون نورًا يُستضاء به وهدى للسائرين.
من معاني الهجرة النبوية الشريفة:
رضي الله عن عمر بن الخطاب، فقد كان عبقريًّا مُلهمًا حين جعل الهجرةَ من مكةَ إلى المدينة مفتتحًا للتأريخ عند المسلمين، بكل ما تعنيه الهجرة من مغزى، حيث مثلت نقلةً هائلة لدعوة الإسلام من حالٍ تُحارَب فيه ويُطارَد رجالُها إلى دولةٍ راسخةٍ، وحقيقةٍ كبرى من حقائق العالم، يُقدِّم للبشرية نموذجًا غير مسبوقٍ لدولةِ الرحمةِ والهداية والانفتاح الإنساني واستشراف المثل الأعلى.
لقد كانت الهجرةُ تعبيرًا عن إيمانٍ عميقٍ بالفكرةِ يستعلي على جواذبِ الأرض والعشيرة والأموال، ينصهر فيه الفرد- وكل فرد هاجر كانت خلفه قصة بطولة وفداء- وتتمثله الأسرةُ المسلمة، وما نموذج أُسرتي أبي سلمة وأبي بكر الصديق منا ببعيد، ويقوم عليه مجتمعٌ إيماني توحَّد فيه المهاجرون والأنصار في إيثارٍ معجبٍ وتآخٍ فريد.. وتجلَّت في الهجرة- مع كل ذلك- معاني التخطيط الملزم الذي لا يترك شاردةً بغير نظر، والتوكل المطلق على الله تعالى الذي لا يركن إلى جهدٍ مبذولٍ وتدبيرٍ قويم، فلا حولَ ولا قوةَ- في الحقيقةِ الصحيحة- إلا بالله وحده.
بعض الدروس والعظات:**
1-إن المؤمن إذا كان واثقا من قوته لا يستخفي في عمله، بل يجاهر فيه، ولا يبالي بأعداء دعوته ما دام واثقا من التغلب عليهم، كما فعل عمر رضي الله عنه حين هاجر، وفي ذلك دليل أيضا على أن موقف القوة يرهب أعداء الله، ويلقي الجزع في نفوسهم، ولا شك أنهم لو أرادوا أن يجتمعوا على قتل عمر لاستطاعوا، ولكن موقف عمر الجريء ألقى الرعب في نفس كل واحد منهم، فخشي إن تعرض له أن تثكله أمه، وأهل الشر ضنينون [بخلاء] بحياتهم حريصون عليها.
2-حين ييأس المبطلون من إيقاف دعوة الحق والإصلاح، وحين يفلت المؤمنون من أيديهم ويصبحون في منجى من عدوانهم، يلجئون آخر الأمر إلى قتل الداعية المصلح، ظنا منهم أنهم إن قتلوه تخلصوا منه، وقضوا على دعوته، وهذا هو تفكير الأشرار أعداء الإصلاح في كل عصر.
3-إن الجندي الصادق المخلص لدعوة الإصلاح، يفدي قائده بحياته، ففي سلامة القائد سلامة للدعوة، وفي هلاكه خذلانها ووهنها، فما فعله علي رضي الله عنه ليلة الهجرة من بياته على فراش الرسول - صلى الله عليه وسلم - تضحية بحياته في سبيل الإبقاء على حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ كان من المحتمل أن تهوي سيوف فتيان قريش على رأس علي رضي الله عنه انتقاما منه، لأنه سهل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - النجاة، ولكن عليا رضي الله عنه لم يبال بذلك، فحسبه أن يسلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نبي الأمة وقائد الدعوة.
4-وفي إيداع المشركين ودائعهم عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع محاربتهم له وتصميمهم على قتله، دليل على أن أعداء الإصلاح يوقنون في قرارة نفوسهم باستقامة الداعية وأمانته ونزاهته، وأنه خير منهم سيرة، وأنقى سريرة، ولكن العماية واللجاجة والجمود على العادات والعقائد الضالة، هو الذي يحملهم على محاربته، ونصب الكيد له، والتآمر على قتله إن استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
5-إن تفكير قائد الدعوة، أو رئيس الدولة، أو زعيم حركة الإصلاح في النجاة من تآمر المتربصين والمغتالين، وعمله لنجاح خطة النجاة ليستأنف حركته أشد قوة ومراسا في ميدان آخر، لا يعتبر جبنا ولا فرارا من الموت، ولا ضنا بالتضحية بالنفس والروح.
6- في موقف عبد الله بن أبي بكر ما يثبت أثر الشباب في نجاح الدعوات، فهم عماد كل دعوة إصلاحية، وباندفاعهم للتضحية الفداء، تتقدم الدعوات سريعا نحو النصر والغلبة. ونحن نرى في المؤمنين السابقين إلى الإسلام كلهم شبابا، فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان عمره أربعين سنة عند البعثة، وأبو بكر رضي الله عنه كان أصغر منه بثلاث سنين، وعمر رضي الله عنه أصغر منهما، وعلي رضي الله عنه أصغر الجميع، وعثمان رضي الله عنه كان أصغر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا كان عبد الله بن مسعود، وعبد الرحمن بن عوف، والأرقم بن أبي الأرقم، وسعيد بن زيد، وبلال بن رباح، وعمار بن ياسر، رضي الله عنهم، وغيرهم، كل هؤلاء كانوا شبابا، حملوا أعباء الدعوة على كواهلهم، فتحملوا في سبيلها التضحيات، واستعذبوا من أجلها العذاب والألم والموت، وبهؤلاء انتصر الإسلام، وعلى جهودهم وجهود إخوانهم قامت دولة الخلفاء الراشدين، وتمت الفتوحات الإسلامية الرائعة، وبفضلهم وصل إلينا الإسلام الذي حررنا الله به من الجهالة والضلالة والوثنية والكفر والفسوق.
7- وفي موقف عائشة وأسماء رضي الله عنهما أثناء هجرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما يثبت حاجة الدعوات الإصلاحية إلى النساء، فهن أرق عاطفة، وأكثر اندفاعا، وأسمح نفسا، وأطيب قلبا، والمرأة إذا آمنت بشيء لم تبال بنشره والدعوة إليه بكل صعوبة، وعملت على إقناع زوجها وأخوتها وأبنائها به، ولجهاد المرأة في سبيل الإسلام في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - صفحات بيضاء مشرقة، تؤكد لنا اليوم أن حركات الإصلاح الإسلامي ستظل وئيدة الخطأ، قليلة الأثر في المجتمع حتى تشترك فيها المرأة، فتنشئ جيلا من الفتيات على الإيمان والخلق والعفة والطهارة، هؤلاء أقدر على نشر القيم التي يحتاج إليها مجتمعنا اليوم في أوساط النساء من الرجال، عدا أنهن سيكن زوجات وأمهات، وأن الفضل الكبير في تربية كبار الصحابة ثم التابعين من بعدهم يعود إلى نساء الإسلام اللاتي أنشأن هذه الأجيال على أخلاق الإسلام وآدابه، وحب الإسلام ورسوله، فكانت أكرم الأجيال التي عرفها التاريخ في علو الهمة، واستقامة السيرة، وصلاح الدين والدنيا.
8- وفي عمى أبصار المشركين عن رؤية رسول الله وصاحبه في «غار ثور» وهم عنده مثل تخشع له القلوب من أمثلة العناية الإلهية برسله ودعاته وأحبابه، فما كان الله في رحمته لعباده ليسمح أن يقع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في قبضة المشركين فيقضوا عليه وعلى دعوته وهو الذي أرسله رحمة للعالمين، وكذلك يعود الله عباده الدعاة المخلصين أن يلطف بهم في ساعات الشدة، وينقذهم من المآزق الحرجة، ويعمي عنهم - في كثير من الأحيان- أبصار المتربصين لهم بالشر والغدر، وليس في نجاة الرسول وصاحبه بعد أن أحاط بهما المشركون في «غار ثور» إلا تصديق قول الله تبارك وتعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر:51] وقول الله تبارك وتعالى:{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38].
9- وفي خوف أبي بكر وهو في الغار من أن يراهما المشركون مثل لما يجب أن يكون عليه جندي الدعوة الصادق مع قائده الأمين حين يحدق به الخطر من خوف وإشفاق على حياته، فما كان أبو بكر عندئذ بالذي يخشى على نفسه من الموت، ولو كان كذلك، لما رافق الرسول - صلى الله عليه وسلم - في هذه الهجرة الخطيرة وهو يعلم أن أقل جزائه القتل إن أمسكه المشركون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه كان يخشى على حياة الرسول الكريم، وعلى مستقبل الإسلام إن وقع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في قبضة المشركين.
10- وفي جواب الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر على قلقه « يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما» مثل من أمثلة الصدق في الثقة بالله والاطمئنان إلى نصره، والاتكال عليه عند الشدائد، وهو دليل واضح على صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - في دعوى النبوة، فهو في أشد المآزق حرجا ومع ذلك تبدو عليه أمارات الاطمئنان إلى أن الله الذي بعثه هدى ورحمة للناس لن يتخلى عنه في تلك الساعات، فهل مثل هذا الاطمئنان يصدر عن مدع للنبوة، منتحل صفة الرسالة؟ وفي مثل هذه الحالات يبدو الفرق واضحا بين دعاة الإصلاح وبين المدعين له والمنتحلين لاسمه، أولئك تفيض قلوبهم دائما وأبدا بالرضى عن الله، والثقة بنصره، وهؤلاء يتهاوون عند المخاوف، وينهارون عند الشدائد، ثم لا تجد لهم من دون الله وليا ولا نصيرا.
11- ويبدو لنا من موقف سراقة حين أدرك الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعجزه عن الوصول إليه دليل على نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد كانت قوائم فرسه تسيخ في الرمل وهي متجهة صوب الرسول، حتى إذا نزل عنها ووجهها شطر مكة نشطت من كبوتها، فإذا أراد أن يعيدها كرة في اتجاه الرسول - صلى الله عليه وسلم - عادت إلى عجزها وكعِّها [ضعفها]، أفترى هذا يقع إلا لنبي مرسل مؤيد من الله بالنصر والعون؟ كلا، وهذا ما أدركه سراقة، فنادى الرسول بالأمان، وأدرك أن للرسول - صلى الله عليه وسلم - من العناية الإلهية ما تعجز عن إدراكه قوى البشر، فرضي أن يخسر الجائزة ويفوز بالوعد.
12- وفي وعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - لسراقة بسواري كسرى معجزة أخرى، فالإنسان الذي يبدو هاربا من وجه قومه لا يؤمل في فتح الفرس والاستيلاء على كنوز كسرى، إلا أن يكون نبيا مرسلا، ولقد تحقق وعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - له، وطالب كسرى عمر بن الخطاب بإنفاذ وعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - له حين رأى سواري كسرى في الغنائم، فألبسهما عمر سراقة على ملأ من الصحابة، وقال: «الحمد لله الذي سلب كسرى سواريه وألبسهما سراقة بن جعشم الأعرابي» وهكذا تتوالى المعجزات في هذه الهجرة واحدة بعد أخرى ليزداد المؤمنون ويستيقن الذين أوتوا الكتاب من المترددين والجاحدين أنه رسول من رب العالمين.
13- كانت فرحة المؤمنين من سكان يثرب من أنصار ومهاجرين بقدوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووصوله إليهم سالما فرحة أخرجت النساء من بيوتهن، وحملت الرجال على ترك أعمالهم، وكان موقف يهود المدينة موقف المشارك في الفرحة ظاهرا، والمتألم من منافسة الزعامة الجديدة باطنا، أما فرحة المؤمنين بلقاء رسولهم، فلا عجب فيها وهو الذي أنقذهم من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد، وأما موقف اليهود فلا غرابة فيه وهم الذين عرفوا بالملق والنفاق للمجتمع الذي فقدوا السيطرة عليه، وبالغيظ والحقد الأسود ممن يسلبهم زعامتهم على الشعوب، ويحول بينهم وبين سلب أموالها باسم القروض، وسفك دمائها باسم النصح والمشورة، وما زال اليهود يحقدون على كل من يخلص الشعوب من سيطرتهم، وينتهون من الحقد إلى الدس والمؤامرات، ثم إلى الاغتيال إن استطاعوا، ذلك ديدنهم، وتلك جبلتهم، وقد فعلوا مثل ذلك برسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد استقراره بالمدينة، برغم ما أمضاه بينه وبينهم على التعاون والتعايش بسلام ولكن اليهود قوم يشعلون نار الحروب دائما وأبدا، و{كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ} [المائدة:64].
14- من وقائع الهجرة إلى المدينة تبين لنا أنه - صلى الله عليه وسلم - ما أقام بمكان إلا كان أول ما يفعله بناء مسجد يجتمع فيه المؤمنون فقد أقام مسجد قباء حين أقام فيها أربعة أيام، وبنى مسجدا في منتصف الطريق بين قباء والمدينة لما أدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن الوادي « وادي رانوناء». ولما وصل إلى المدينة، كان أول عمل عمله بناء مسجد فيها.
وهذا يدلنا على أهمية المسجد في الإسلام، وعبادات الإسلام كلها تطهير للنفس، وتزكية للأخلاق، وتقوية لأواصر التعاون بين المسلمين، وصلاة الجماعة والجمعة والعيدين، مظهر قوي من مظاهر اجتماع المسلمين، ووحدة كلمتهم، وأهدافهم، وتعاونهم على البر والتقوى، لا جرم أن كان للمسجد رسالة اجتماعية وروحية عظيمة الشأن في حياة المسلمين، فهو الذي يوحد صفوفهم، ويهذب نفوسهم، ويوقظ قلوبهم وعقولهم، ويحل مشاكلهم، وتظهر فيه قوتهم وتماسكهم.
ولقد أثبت تاريخ المسجد في الإسلام أن منه انطلقت جحافل الجيوش الإسلامية لغمر الأرض بهداية الله، ومنه انبعثت أشعة النور والهداية للمسلمين وغيرهم، وفيه ترعرعت بذور الحضارة الإسلامية ونمت، وهل كان أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وخالد، وسعد، وأبو عبيدة وأمثالهم من عظماء التاريخ الإسلامي إلا تلامذة المدرسة المحمدية التي كان مقرها المسجد النبوي.
وميزة أخرى للمسجد في الإسلام أنه تنبعث منه في كل أسبوع كلمة الحق مدوية مجلجلة على لسان خطيبه، في إنكار منكر أو أمر بمعروف، أو دعوة إلى خير أو إيقاظ من غفلة، أو دعوة إلى تجمع، أو احتجاج على ظالم، أو تحذير لطاغية.
15- في مؤخاة الرسول بين المهاجرين والأنصار أقوى مظهر من مظاهر عدالة الإسلام الإنسانية الأخلاقية البناءة، فالمهاجرون قوم تركوا في سبيل الله أموالهم وأراضيهم، فجاءوا المدينة لا يملكون من حطام الدنيا شيئا، والأنصار قوم أغنياء بزرعهم وأموالهم وصناعتهم، فليحمل الأخ أخاه، وليقتسم معه سراء الحياة وضراءها، ولينزله في بيته مادام فيه متسع لهما، وليعطه نصف ماله ما دام غنيا عنه، موفرا له، فأية عدالة اجتماعية في الدنيا تعدل هذه الأخوة؟.
إن الذين ينكرون أن يكون الإسلام عدالة اجتماعية، قوم لا يريدون أن يبهر نور الإسلام أبصار الناس ويستولي على قلوبهم، أو قوم جامدون يكرهون كل لفظ جديد ولو أحبه الناس وكان في الإسلام مدلوله، وإلا فكيف تنكر العدالة الاجتماعية في الإسلام وفي تاريخه هذه المؤاخاة الفذة في التاريخ، وهي التي عقدها صاحب الشريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - بنفسه، وطبقها بإشرافه، وأقام على أساسها أول مجتمع ينشؤه، وأول دولة يبنيها؟
سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم..
16- وفي الكتاب الذي عقد فيه الرسول الأخوة بين المهاجرين والأنصار، والتعاون بين المسلمين وغيرهم جملة من الأدلة التي لا ترَدُّ على أن أساس الدولة الإسلامية قائم على العدالة الاجتماعية، وأن أساس العلائق بين المسلمين وغيرهم هو السلم ما سالموا، وأن مبدأ الحق والعدل والتعاون على البر والتقوى والعمل لخير الناس، ودفع أذى الأشرار عن المجتمع، هو أبرز الشعارات التي تنادي بها دولة الإسلام، وبذلك تكون الدولة الإسلامية أينما قامت، وفي أي عصر نشأت قائمة على أقوم المبادئ وأعدلها، وهي تنطبق اليوم على أكرم المبادئ التي تقوم عليها الدول، وتعيش في ظلها الشعوب، وإن العمل في عصرنا هذا لإقامة دولة في مجتمعنا الإسلامي تركز قواعدها على مبادئ الإسلام عمل يتفق مع تطور الفكر الإنساني في مفهوم الدولة، عدا أنه يحقق للمسلمين بناء مجتمع من أقوى المجتمعات وأكملها وأسعدها وأرقاها.
وأياً ما كان فإن من مصلحة كل مسلم أن تبنى الدولة على أساس الإسلام، وفي ترك ذلك خرابنا ودمارنا، والإسلام لا يؤذي غير المسلمين في الوطن الإسلامي، ولا يضطهد عقائدهم، ولا ينتقص من حقوقهم، ففيم الخوف من إلزام الدول في البلاد الإسلامية بتنفيذ شرائع الإسلام، وإقامة أحكامه وهي كلها عدل وحق وقوة وإخاء وتكافل اجتماعي شامل على أساس من الإخاء والحب والتعاون الكريم؟ إننا لن نخلص من الاستعمار، إلا بالمناداة بالإسلام، وفي سبيل ذلك فليعمل العاملون {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ} [الأعراف: 96] {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا }[الطلاق: 2] {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا}[الطلاق: 4] {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْعَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا}[الطلاق: 5].
ــــــــــــ(1/101)
بمناسبة ذكرى الهجرة النبوية ورأس السنة الهجرية 1426
نشرت في ( 10-02-2005 )
فهلا ّجعلنا من هجرتنا في سبيل الله منطلقاً لمرحلةٍ جديدة، تستوعبُ دروسَ الهجرة الأولى وعِبَرَها، نخلصُ النية لله عز وجل، ونبذلُ قُصارى جهدنا للأخذ بالأسباب المادية والمعنوية، مقتدين بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، في الإعداد والتخطيط واستفراغ الوسع، وبذل الطاقة والجهد، مع صدق التوكّل على الله عز وجل، صابرين، محتسبين ما أصابنا ويصيبُنا من شدّةٍ وبلاءٍ عند الله عز وجل، واثقين بنصره،
منالمراقب العام للإخوان المسلمين في سورية، إلى إخوته وأخواته أبناء الجماعة وأنصارها وأصدقائها.. داخل البلد الحبيب وخارجه.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وكلّ
عامٍ وأنتم بخير، وأسأل الله عز وجل أن يعيد علينا ذكرى الهجرة النبوية، وقد فرّج عن أمتنا همومَها، وأذهب عنها أحزانها، وأعادها سيرتها الأولى، سيرةَ العزّ والمجد والفخار.. إنه سميع مجيب.
أما بعد أيها الإخوة الأحبة والأخوات: فإني أحمد الله إليكم، وأصلي وأسلم على سيدنا وقدوتنا محمدٍ وعلى آله وأصحابه، وأوصيكم ونفسي بتقوى الله عزّ وجلّ في السرّ والعلن، فإنها خيرُ الزاد، كما أذكّركم ونفسي بما تواصينا عليه في الرسائل السابقة، من مجاهدة النفس للارتقاء بالمستوى الروحيّ، وتعميق الوحدة القلبية بين الإخوة، والتحقّق بأركان البيعة، والقيام بواجب الدعوة إلى الله عزّ وجلّ بالحكمة والموعظة الحسنة، والتعاون والتكافل في مواجهة التحدّيات المالية، والعمل الجادّ الدؤوب للنهوض بجماعتنا، والقيام بواجباتنا تجاه وطننا وأمتنا..
أيها الإخوة الأحبة والأخوات: إن سيرةَ المصطفى صلى الله عليه وسلم، مدرسةٌ للدعاة، فالله عز وجل يقول: "لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً"، ويقول أيضاً: "قل إن كنتم تحبون الله فاتّبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم، والله غفور رحيم". ولقد كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتدارسون سيرته، كما يتدارسون السورة من القرآن، ذلك أن هذه السيرة الشريفة، هي التطبيقُ العمليّ للقرآن، والتجسيدُ الحيّ لرسالة الإسلام، ولقد أخبرت السيدة عائشة رضي الله عنها عندما سُئِلَتْ عن خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: "كان خلقُه القرآن".
أيها الإخوة الأحبة والأخوات:
إن ذكرى هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، مناسبةٌ عظيمة، حريّ بنا أن نستوعبَ دروسَها ونحن نعيش مرحلة الهجرة ونواجه تحدّياتها، وما أكثر دروسَ الهجرة، وما أعظم العبرَ المستخلصة منها!. أذكرُ منها على سبيل المثال لا الحصر:
1 - الصبر على الشدّة والبلاء في سبيل
الله: فلقد لاقى سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في مكة المكرمة، من الشدّة والأذى وهم يبلّغون دعوة الله، ما يصعب على البشر احتمالُه، مما اضطرّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - للتوجه إلى الطائف لالتماس النصرة، ثم عاد إلى مكة في جوار (المطعِم بن عديّ)، كما اضطرّ أصحابه للهجرة إلى الحبشة أولاً، ثم إلى المدينة بعد ذلك، ثم أُذِنَ للرسول - صلى الله عليه وسلم - بالهجرة إلى المدينة.
ثم إن الهجرةَ نفسَها نوعٌ من الابتلاء، فالله عز
وجل يقول: "ولو أنّا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسَكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليلٌ منهم.." والرسول - صلى الله عليه وسلم - يخاطب مكة فيقول: "والله إنك لأحبّ بلاد الله إليّ، ولولا أنّ أهلكِ أخرجوني ما خرجت".
لقد كان في صبر
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، على ما لا قَوْه من الأذى في مكة، ثم في اضطرارهم إلى الهجرة إلى الحبشة والمدينة، دروساً رائعةً ما أحوجنا إلى استيعابها ونحن في هجرتنا، لتكون هذه الهجرة مرحلةً جديدةً من مراحل العمل في سبيل الله والدعوة إليه، بدلاً من أن تكون مدعاةً للإحباط واليأس، شريطةَ أن نستحضرَ دائماً الإخلاصَ لله عز وجل في هذه الهجرة، متذكّرين قولَ الرسول صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمالُ بالنيات، وإنما لكلّ امرئٍ ما نوى، فمن كانت هجرتُه إلى الله ورسوله، فهجرتُه إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرتُه لدنيا يصيبها أو امرأةٍ ينكحها، فهجرتُه إلى ما هاجر إليه".
2 - الإعداد الجيد والتخطيط المحكم والأخذ
بالأسباب: إن من يقرأ قصة هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - مع صاحبه الصدّيق، لينبهرُ من حسن الإعداد وإحكام الخطة، والأخذ بجميع الأسباب المادية التي يمكن أن يهتديَ إليها العقل البشريّ، كلّ ذلك مع أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مؤيَّدٌ بالوحي، وأن الله عز وجل قادرٌ على أن ينقلَه وأصحابَه إلى المدينة دون أيّ عناء، ولكنه التشريعُ للأمة، والمثلُ للدعاة. ولنستعرضْ معاً بعضَ مظاهر هذا الإعداد وذلك التخطيط:
إعدادُ الراحلتين، وتعهّدهما بالرعاية أربعة أشهر، ثم تجهيزهما على أحسن وجه.
الاستعانةُ بأهل الخبرة والاختصاص، واستئجارُ خبيرٍ بالطرق وهو على الشرك (عبد الله بن أُرَيْقِط) .
التزوّد بالمال والطعام، حيث كانت أسماءُ بنت أبي بكرٍ تحمل إليهما الطعام كلّ مساء، وكان عامرُ بن فهيرة يأتيهما باللبن في الليل، وكان أبو بكرٍ الصدّيق قد احتمل معه ماله كلّه (ستة آلاف درهم) .
الاحتياطُ الأمنيّ المتمثّل في كتمانِ أمر الهجرة، والتمويهِ على الأعداء، وتحسّسِ أخبارهم، فلم يعلمْ بأمر الهجرة إلا المجموعةُ الصغيرةُ التي كان لها دورٌ في التنفيذ، وبقي عليٌ كرّم الله وجهه لينامَ في فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويدّثرَ بلحافه، كذلك فقد كان التوجّه إلى الجنوب باتجاه اليمن، بدلاً من الوجهة الحقيقية إلى الشمال باتجاه المدينة، ثم التربّصُ في الغار ثلاثة أيام، ريثما يخفّ الطلب ويهدأ البحث، وكذلك إعفاءُ آثار الأقدام حتى لا يستدلّ المشركون على الجهة والمكان..
3 - التوكّل على الله والثقة المطلقة به
بعد الأخذ بالأسباب: فالقلب لا ينبغي أن يتعلّق بالأسباب المادية، بل يبقى متعلّقاً بالله عز وجل وحدَه، مسبّبِ الأسباب، القادرِ على كلّ شيء، والذي بيده ملكوتُ كلّ شيء. ولنستمع إلى هذا الحوار المعبّر:
يا رسولَ الله!. لو نظر أحدُهم إلى موطئ قدمه لأبصرَنا!." - "يا أبا بكر!. ما ظنّك باثنين الله ثالثهما؟."
ثقة ٌ بالله مطلقة، وتوكّلٌ على الله حقّ ، مع حسن الإعداد والتخطيط والأخذ بالأسباب.. فكانت العنايةُ الإلهية، وكان الحفظُ والتسديد، ثمرةً عاجلةً لذلك كله.
4 - محبّة الصدّيق للرسول صلى الله عليه
وسلم وافتداؤه بنفسه: نلمسُها في رحلة الهجرة بأروع صورها، لنستمعْ إلى أبي بكرٍ رضي الله عنه وهو يقول: "والله لا تدخلْه (الغار) حتى أدخلَه قبلك، فإن كان به شيءٌ أصابني دونك.." وعندما بقي ثقبان في الغار لم يتمكّنْ من سدّهما ألقمَهما رجليه، ثم نام الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حِجْره، فلُدِغ أبو بكرٍ في رجله، لكنه لم يتحركْ مخافةَ أن ينتبهَ الرسول - صلى الله عليه وسلم - من نومه، حتى سقطت دموعُه على وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم..
وفي الطريق إلى المدينة، كان الصدّيقُ رضي الله عنه يمشي ساعةً بين يدَي الرسول صلى الله عليه وسلم، وساعةً خلفَه، ففطن إلى ذلك الرسولُ صلى الله عليه وسلم، وسأله فأجاب: "يا رسول الله!. أذكرُ الطلبَ فأمشي خلفَك، وأذكرُ الرفد فأمشي بين يديك"، فقال الرسولُ صلى الله عليه وسلم: "يا أبا بكر!. لو كان شيءٌ لأحببتَ أن يكون بك دوني؟" قال: "نعم، إن قُتِلتُ فإنما أنا رجلٌ واحد، وإن قُتِلتَ أنت هلكت الأمة!."
5 - دور المرأة المسلمة والشباب:
إن المهماتِ التي كانت تؤدّيها أسماءُ بنتُ أبي بكر، وعائشةُ رضي الله عنهما، لتؤكّدُ أهميةَ الدور الذي يمكن أن تقومَ به المرأة في العمل الإسلامي إلى جانب الرجل. كما أن المهمةَ التي كان يؤدّيها عبدُ الله بن أبي بكر، من تسقّط أخبار قريش في مكة نهاراً، ونقلها إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه في المساء، لتؤكّدُ دورَ الشباب، وأهميةَ الاستفادة من طاقاتهم الفاعلة.
6 - الأخوّة بين المهاجرين والأنصار:
هذه الأخوّة التي ضربت أروع الأمثلة في المحبة والبذل والإيثار، جديرٌ أن تكون مثلاً يُحتذَى للأخوّة الحقيقية في الله.
أيها الإخوة الأحبة والأخوات:
لقد كانت هجرةُ الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة المنورة، بدايةً لمرحلةٍ جديدة، انتصرت فيها دعوة الله، بعد مرحلةٍ قاسيةٍ من المعاناة والصبر على البلاء، والأخذ بجميع الأسباب الممكنة، وحسن الإعداد والتخطيط، والتوكّل على الله عز وجل، والثقة المطلقة به، والتفاني بمحبة الرسول صلى الله عليه وسلم، والتأسّي به، والاستفادة من كلّ الطاقات، والأخوّة الحقيقية التي ربطت بين قلوب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضربوا فيها أروع الأمثلة.
فهلا ّجعلنا من هجرتنا في سبيل الله منطلقاً لمرحلةٍ جديدة، تستوعبُ دروسَ الهجرة الأولى وعِبَرَها، نخلصُ النية لله عز وجل، ونبذلُ قُصارى جهدنا للأخذ بالأسباب المادية والمعنوية، مقتدين بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، في الإعداد والتخطيط واستفراغ الوسع، وبذل الطاقة والجهد، مع صدق التوكّل على الله عز وجل، صابرين، محتسبين ما أصابنا ويصيبُنا من شدّةٍ وبلاءٍ عند الله عز وجل، واثقين بنصره، مؤكّدين محبتَنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بحسن اتّباعه، والاقتداء به، والعمل بهديه، مستفيدين من طاقات إخواننا وأخواتنا، متحققين بمقتضيات أخوّتنا، ووحدة قلوبنا، واجتماع كلمتنا، متمثّلين في ذلك كلّه قولَ الله عز وجلّ: "الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح، للذين أحسنوا منهم واتّقوا أجرٌ عظيم، الذين قال لهم الناسُ: إن الناسَ قد جمعوا لكم فاخشوهم، فزادهم إيماناً، وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، فانقلبوا بنعمةٍ من الله وفضلٍ، لم يمسسهم سوء، واتّبعوا رضوان الله، والله ذو فضل عظيم. إنما ذلكم الشيطان يخوّف أولياءَه، فلا تخافوهم وخافونِ إن كنتم مؤمني"ن.
وإلى أن نلتقيَ ثانيةً في رسالةٍ قادمة، أستودعُكم الله أيها الأحبة، وكلّ عامٍ وأنتم بخير. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. والله أكبر ولله الحمد.
الأول من محرم الحرام 1426 الموافق للعاشر من شباط 2005
أخوكم : أبو أنس
ذكرى الهجرة النبوية
ذ.المصطفى سنكي ...
ــــــــــــ(1/102)
قيمة الهجرة النبوية:
كانت الهجرة النبوية من مكة إلى الهجرة حدثا محوريا في تاريخ الدعوة الإسلامية، وستبقى كذلك لما تحمله من دلالات في حياة المسلمين أفرادا وجماعة.
لقد فتحت الهجرة -أستغفر الله تعالى- بل فتح الحق سبحانه بها آفاقا واسعة ومستقبلا رحبا لدعوته لما انسدت السبل والطرق برفض قريش الاستجابة والانخراط في مشروع الإسلام، وفي هذا تنبيه للمسلمين اليوم الذين يتقاعسون ويترددون في نصرة دينه فيأتي سبحانه بمن يحبب لهم الإيمان وينصر بهم دعوته: "يا أيها الذين آمنوا من يرتدد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المومنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله واسع عليم" (المائدة: 56).
لقد جاءت الهجرة النبوية ملأى بالعبر والدروس للعاملين في حقل الدعوة سواء في مجال التخطيط والأخذ بالأسباب والمناورة، أو على مستوى توزيع المهام وإشراك كل من يفيد في إنجاح المشروع، أو سواء على مستوى توظيف الإمكانيات المتاحة، أو على مستوى الاستعانة بذوي المروءات والكفاءات، ومع هذا وقبله وأثناءه اليقين في نصر الله تعالى لدعوته وحسن الظن به في أحرج الظروف وأخطرها... هذه وغيرها الفوائد والعبر التي تحملها الهجرة والتي يمكن أن تفيد المسلمين اليوم أفرادا وجماعة، سلوكا إلى الله تعالى ونشرا لدعوة الإسلام وتدافعا مع قوى الباطل التي لا تقل مكرا عما كان عليه العدوان القرشي ظاهرا ووراءه التآمر اليهودي باطنا.
دلالات الهجرة:
ولكن ما هي دلالات الهجرة في حياة كل مسلم؟ وكيف تكون الهجرة بهذه الدلالات باعثا على العمل اجتهادا في طاعة الله تعالى؟
الهجرة باقية مستمرة لا تنقطع حتى قيام الساعة، كما حديث مسلم وأبي داود يقول صلى الله عليه وسلم: "لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها". الهجرة قلب لدولة عادات النفس؛ الهجرة إذن سلوك مستمر متجدد في حياة المسلم، وفرار إلى الله تعالى بالمسارعة والتسابق إلى الخير وكل عمل صالح يجلب مرضاته سبحانه؛ الهجرة هروب مما يغضبه وينزل مقته، "والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه" كما في حديث البخاري.
المهاجر من وفق -بتوفيق منه سبحانه- لهجر عاداته وترك مألوفاته مأكلا ومشربا وملبسا وقولا وسلوكا بنية التقرب إليه عز سلطانه، وطوع نفسه لتحب محاب الله ورسوله، حتى يكون هواه تبعا لما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما في الحديث، وخرج من سلطان شهواته:
1. المهاجر من هجر لذة النوم وتجافى جنبه عن وثيرالفراش ودفئه لما سمع -أو قبل أن يسمع بسويعة- نداء الفلاح: "الصلاة خير من النوم".
2. المهاجر من هجر الإسراف في الأكل والشرب ليبقى نشيط القلب قبل البدن على الطاعة وعمل الخيرلما بلغه الزجر النبوي: "حسبك لقيمات يقمن صلبك".
3. المهاجر من هجر الغفلة والغافلين وانتظم في سلك الراجين وجهه سبحانه لما وقع في سمع قلبه نداء رب العالمين يأمره أن يصبر نفسه مع الذاكرين الله بالغدو والعشي، وينهاه عن صحبة المنفرط أمرهم المشتت شملهم في سورة الكهف: "واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا، ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا وكان أمره فرطا" (28).
4. المهاجر من هجر النفاق وأهله، لما دعاه ربه ليكون مع الصادقين ويحبهم ويعمل عملهم استجابة لأمره تعالى في سورة التوبة: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين" (120).
5. المهاجر من هجر سيء الأخلاق وفظاظة الطبع وغلظة القلب في التعامل مع الزوج والأولاد والجيران والناس أجمعين لما علم أن المؤمن ينال بحسن الخلق عظيم درجات الآخرة كما أخبر بذلك الصادق الأمين: "إن العبد ليبلغ بحسن خلقه عظيم درجات الآخرة وشرف المنازل وإنه لضعيف العبادة" (الطبراني).
6. المهاجر من هجر الدنيا وإغراءها وتحرر من تأثيرها، وابتغى بها وجه الله تعالى لما قرأ التقريع القرآني في سورة لقمان يذم الدنيا وغوايتها، ويحذر من فتنتها: "فلا تغرنكم الحياة الدنيا، ولا يغرنكم بالله الغرور".(32)
7. المهاجر من هجر عادة الكسل وأرقه واقع جهل المسلمين لدينهم وقرآنهم فعقد العزم على حفظ كلام ربه وتعليمه لغيره، لما سمع ثناء النبي صلى الله عليه وسلم:"خيركم من تعلم القرآن وعلمه".(رواه الشيخان وأصحاب السنن وغيرهم).
8. المهاجر من هجر البطالة وشمر على ساعده يعمل ويعلم الناس أسباب الكسب الحلال صونا لماء وجه المؤمن وعزة الأمة لما بلغه حب الله تعالى للعامل كما في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله يحب العبد المحترف". (رواه الطبراني والبيهقي).
9. المهاجر من تهمم بحال المسلمين وواقع القصعة تتداعى عليهم الأمم للنيل من كبريائهم قبل ثرواتهم المادية فسار فيهم بالحسنى والكلمة الطيبة تأليفا للقلوب وجمعا لما انفرط من عقد الأمة، وانبرى يرفع يده في جوف الليل وفي كل سجود يرفع شكوى المسلمين إلى الباري جل وعلا ليكشف الغمة ويقرب الشقة وينصر دينه وعباده، حتى لا يرد عليه انتسابه للمسلمين لأنه لم يهتم بأمرهم، وفي الحديث: "من أصبح لا يهتم بأمر المسلمين فليس منهم".
10. المهاجرمن أخلص القصد واكتسب الخبرة والمهارة التي تؤهل المسلمين لمستقبل التمكين في الأرض أخذا بالأسباب التي أمروا بها في سورة الأنفال: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم."(61)
هذه بعض منارات حقيقة هجرتنا لله ولرسوله في زماننا، بها نسلك طريق السابقين عسى أن ننتظم في سربهم ونكون ممن اتبعهم بإحسان، يقول تبارك وتعالى في سورة التوبة: "والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصاروالذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه، وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهارخالدين فيها أبدا، ذلك الفوز العظيم"(101)، بشرط واحد هو تصحيح النية وإخلاص القصد كما في الحديث المفتاح: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امريء ما نوى.." فلنحرص على أن تكون الهجرة إلى الله تعالى لا لدنيا نصيبها وكل ما دونه سبحانه فهو دنيا
ــــــــــــ(1/103)
ذكرى الهجرة
أنورٌ تجلى في فؤادك مزهرا ؟ أم الروح تسمو في علاء تنورا
و هل هذه الأطياف مرت بناظري شعاعًا مضيئًا ؟ أم تُراها تذكُّرا؟
تذكرت فجر النور هجرة أحمدٍ فهاج لدي الشوق نبعًا تفجّرا
فصرت أناجي مهبط الوحي هائمًا وطيف الرسول شمته متنوِّرًا
أغار حراء كيف أرقى إلى الذرا ؟ أم الأنور الميمون يدنو تحدُّرًا؟
أغار حراء قد شهدت رسالة كضوء صباحٍ عاد أبلج نيرا
فصارت رمال (اللات) تغلي حميةً وذا (هبلٌ) ، في النور قد صار مُنكَرا
وقد عَمِد الأصنام للنور في الضحى أرادوا له وأدًا طريا منضرًا
تعالوا لظهر الغار والغار ممسك بأنفاسه الحرى وقد كان كبّرا
فهذا هو الصديق تهمي شؤونه عليك رسولَ الله لهفانَ أن تُترى
وإني لفرد .أنت أمة دعوة سلمت وأضحى كوكب الحق مزهرا
وضاقت قريش فالزمان معتب فنادت ببطحاء الحطيم تجبُّرا
ألا من يهادينا برأس محمد ؟ فكل كميٍّ قد غدا متنمرِّا
وكان بتلك البيد سيف ( سراقة) يضيء الضياء يمنح الموت أحمرا
ويهمس في أذن الزمان: ألا اكتمنْ فإني أريد النوق فردًا مُنكَّرا
أرود الفيافي سوف أقريه حده ظفرت فذاك الركب يمشي تعذُّرا
وهذا جوادي في العتاق مقدمٌ كان به بركان طَوْدٍ تفجَّرا
بعرف كنسج الدرع ضافٍ محجلٌ أغُّر تراهُ تحسب الليل مسفرا
وقد بز دهم الخيل أيْدًا بمتنه كما بز شقر الجرد سبقًا مضمرًا
هَبوبٌ كعاصفة الزئير إذا عدا سبوح كومض البرق لاح مع السُّري
كريمة من أبغي بسيفي قطافها فهيا جوادي كي أنال وأظفرا
وعاد الفؤاد الصخر نبعًا وروضة به الشوك أضحى هدب زهر تنورا
ويمشي الوجود في ركاب محمد على مَهَل خطوًا وئيدًا مبصرًا
وهاجرت في الأملاك تسمو إلى السنا وفوق الوجود قد سموت منورا
ولما تهادى الركب تلقاء " طيبةٍ " فقلب وجودي ظل يهمي تأثرا
رسول طريد أن حباهم نفوسهم تسامى بهم حبًا فأجلَوه مُجبرا
دعوت فلم تيأس يقينك راسخ وعلمتنا أن الرسالة في الذرا
وعلمتنا أن الظلام إذا طغى فإن له من ومضة الحق مزجرا
وحطمت أصنام الرجال مؤزرا وحطمت أصنام الحجارة في الورى
وحررت في (الإنسان) جوهر ذاته نشرت سلامًا فالوجود تنورا
وقد أدرك (الإنسان) معنى وجوده وليل الدياجي عاد لألاء مقمرا
يندي الندى البسامَ نورُ صفاته عفوت كريمًا حين عدت مظفرا
ظلالٌ مندةٌ وأيكٌ بروضهِ ونبعٌ بفياض المحبة قد جرى
ومن حول هذا الروض بيداءُ تُلتظى فكل دعيٍّ قام يهذي مخدّرا
أيا ابن " الحُقَيقِ " تزعم السلم ضِلةً وخترك في " الأحزاب " كان مسعرا
ومن خلفك الأحفادُ تُصلي بسمهم شعوبٌ صحت فالليل ولّى وأدبرا
وأصنامُ هذا الشرق زال قناعهم فوجههمُ في النور يبدو مزوَّرا
وإني بإحيائي لهجرة أحمدٍ أليس على الأصنام أن تتكسرا؟
ــــــــــــ(1/104)
رجال الهجرة النبوية
تمهيد
السيرة لغة هي الطريقة والهيأة المعتادة التي يكون عليها الإنسان وغيره، والسيرة النبوية مأخوذة من السيرة بمعنى الطريقة، وهي تبحث في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - منذ مولده حتى انتقاله إلى الرفيق الأعلى، وفي حياة صحابته الكرام الذين ضحوا في سبيل إعلاء كلمة الله في الأرض، وتبحث أيضا في الظروف الاجتماعية والسياسية التي انتشر فيها الدين الإسلامي، الذي ابتدأ بكلمة "اقرأ" في غار حراء، إلى أن دانت الجزيرة العربية به ودخل الناس في دين الله أفواجا.
فعندما ندرس السيرة النبوية المطهرة، نكون بصدد دراسة سيرة خير نبي اصطفاه الله ، وندرس سيرة خير أمة أخرجت للناس، وندرس سيرة خير رسالة أنزلت للناس، ودراستها قبل كل شيء عبادة: يقول تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا) " الأحزاب 21" ، فالأمة الإسلامية مأمورة بالاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولن تتمكن من التأسي به ما لم تفقه سيرته وتدرسها وتتعرف عليها.
وقد اخترت في بحثي هذا المتواضع موضوع الهجرة النبوية ورجالاتها لما لهذا الحدث العظيم من أهمية في التاريخ الإسلامي، حيث سأحاول ذكر الأحداث الرئيسية التي سجلها هذا الحدث العظيم، مع التركيز على سير بعض الرجال الذين أعطوا الدليل والبرهان على صدق نصرتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، عبرة لنا ولأجيالنا المستقبلية، عسى أن تتيقظ هممنا وتنبعث عزائمنا متأسية بحياة هؤلاء الرجال، الذين جاهدوا بأموالهم وأنفسهم. والله نسأل أن يجعلنا على نهجهم القويم، وأن يحشرنا في زمرتهم غدا يوم لقاء الله سبحانه وتعالى.
الهجرة النبوية
روى الإمام أحمد عن جابر رضي الله عنه قال: مكث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة عشر سنين يتبع الناس في منازلهم يقول: "من يؤويني، من ينصرني؟ حتى أبلغ رسالة ربي، وله الجنة" فلم يجد أحدا يؤويه ولا ينصره... حتى إن الرجل ليخرج من اليمن أو من مضر فيأتيه قومه، وذو رحمه فيقولون له: احذر غلام قريش لا يفتنك، ويمضي بين رجالهم وهم يشيرون إليه بالأصابع، حتى بعثنا الله إليه من يثرب فآويناه وصدقناه. فيخرج الرجل منا فيؤمن به ويقرؤه القرآن، فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه، حتى لم تبق من دور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين يظهرون الإسلام، ثم ائتمروا جميعا فقلنا: حتى متى نترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطوف ويطرد في جبال مكة ويخاف؟ فرحل إليه منا سبعون رجلان حتى قدموا عليه الموسم، فواعدناه العقبة، فاجتمعنا عندها من رجل أو رجلين حتى توافينا، فقلنا يا رسول الله، علام نبايعك قال: "تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في اليسر والعسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقولوا في الله لا تخافون في الله لومة لائم وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم، مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة"، فقمنا إليه فبايعناه، وأخذ بيده أسعد بن زرارة وهو من أصغرهم فقال: "رويدا يا أهل يثرب، فإنا لم نضرب إليه أكباد الإبل، إلا ونحن نعلم أنه لرسول الله، وان إخراجه اليوم منا وأن العرب كافة، وقتل خياركم، وأن تعضكم السيوف، فإما أنتم قوم تصبرون على ذلك فخذوه، وأجركم على الله، وإما أنتم قوم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه، فبينوا ذلك فهو أعذر لكم عند الله، قالوا: أمط عنا يا أسعد، فوالله لا ندع هذه البيعة، ولا نسلبها أبدا، قال فقمنا إليه، فبايعناه، وأخذ علينا وشرط، ويعطينا على ذلك الجنة".
من خلال هذه الرواية، يتضح أن الدعوة بمكة وصلت إلى الطريق المسدود، فقد أصبح المسلمون يتعرضون إلى كل أنواع العذاب و الحصار والاضطهاد النفسي والبدني، خصوصا بعد وفاة خديجة رضي الله عنها، وأبي طالب عم النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي كانت تهابه قريش. فأخذ يعرض - صلى الله عليه وسلم - نفسه على القبائل، إلى أن استجاب أهل يثرب، وأبدوا استعدادهم لنصرته في السراء والضراء.
رجالات الهجرة النبوية
الرجل هنا بالمفهوم القرآني، يدخل فيه الذكر والأنثى، إذا تحققت فيهم الصفات التي أرادها الله لهم: "رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة"، وذكرتها الآية هنا بالجمع كناية على أن الهجرة ساهم فيها كثير من المسلمين، منهم من دونتهم كتب السيرة ، ومنهم من لم يذكروا.
1- أبو بكر الصديق رضي الله علنه:
كان هذا الصحابي الجليل من الذين سبقوا في إعلان إسلامهم، وكان لا يفارق رسول الله عليه وسلم، وكان رضي الله عنه يصدقه في كل ما يقول دون تردد، وقد وُضع في كفة والأمة في كفة فرجح بها، نال هذا كله بالتصديق المطلق لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
أراد هذا الصحابي الجليل أن يهاجر، فجاء يستأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، فقال رسول الله عليه وسلم: "على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي" فقال أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال: "نعم" فحبس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده أربعة أشهر .لقد اختاره - صلى الله عليه وسلم - أن يكون رفيقه في هجرته، واختياره هذا دليل على مكانته وحبه للنبي صلى الله عليه وسلم.
قال ابن شهاب: قال عروة: قالت عائشة: فبينما نحن يوما جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة، قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متقنعا في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر: فدى له أبي وأمي، والله ما جاء به هذه الساعة إلا أمر. قالت: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستأذن فأذن له، فدخل فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر: "أخرج من عندك" فقال أبو بكر: إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله، قال: "فإني قد أذن لي في الخروج". قال أبو بكر: الصحبة بأبي أنت يا رسول الله؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم". قال أبو بكر: فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتيّ هاتين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بالثمن".
كان بيت أبي بكر رضي الله عنه بيت الدعوة والجهاد في سبيل الله، منه بدأت الهجرة وانطلق الإعداد لها. وكلام سيدنا أبي بكر مع نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - كله فداء وتعظيم لرسول الله. وخرجا من بيت أبي بكر خفية، وذهبا إلى غار ثور حيث اختبآ من أن تلحق بهم قريش فتدركهما فتغتال دعوة الله.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن أبا بكر الصديق حدثهم قال: نظرت إلى أقدام المشركين فوق رؤوسنا ونحن في الغار، فقلت: يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر تحت قدميه أبصرنا فقال: "يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما".
2- عبد الله بن أبي بكر:
هذا الصحابي كان له دور كبير ودقيق في نجاح هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى يثرب، فقد كان يقضي يومه في مكة يخالط قريشا ويستمع إلى ما يقوله أعداء الدعوة وما يعتزمون القيام به قصد القضاء على نبي الله الكريم، وكان ينقل هذه الأخبار إلى غار ثور حيث كان يختبئ النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أبى بكر الصديق رضي الله عنه وكان يبيت معهم، وحتى لا يعرف أثره الذي يخلفه في الطريق عندما كان ينتقل من مكة إلى الغار، كان يمر وراءه عامر بن فهيرة ليتلف أثر قدميه حتى لا تصل إليه قريش.
3- علي بن أبي طالب كرم الله وجهه:
لقد ضحى بنفسه هذا الصحابي الجليل ليلة كان يأتمر الشيطان مع قريش في دار الندوة ، حيث قرروا أن يضربوه ضربة واحدة فيتفرق دمه بين القبائل ويتخلصون من "دعوة محمد". فأطلع الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، فخرج هو وأبو بكر على غار في الجبل، ونام علي على فراش النبي صلى الله عليه وسلم، وباتوا يحرسونه يحسبونه أنه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أصبحوا، قام علي لصلاة الصبح، بادروا إليه فإذا هم بعلي، فقالوا أين صاحبك؟ قال: لا أدري فاقتصوا أثره.
بات وهو يدرك أن مصيره في خطر. إلا أن قوة الإيمان جعلته ينام مطمئنا، ليقوم في الصباح برد ودائع قريش التي كانوا يضعونها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
4- أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها:
جاء في صحيح البخاري ، مناقب الأنصار، باب هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أسماء رضي الله عنها قالت: صنعت سفرة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر حين أرادا المدينة، فقلت لأبي: ما أجد شيئا أربطه إلا نطاقي، قال: فشقيه، ففعلت، فسميت ذات النطاقين.
وعن أسماء رضي الله عنها قالت: لما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخرج أبو بكر معه، احتمل أبو بكر معه ماله كله خمسة آلاف درهم أو ستة آلاف درهم، فانطلق بها معه. قالت: فدخل علينا جدي أبو قحافة وقد ذهب بصره، فقال: إني والله لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه. قلت كلا يا أبت، قد ترك لنا خيرا كثيرا، قالت: فأخذت أحجارا فجعلتها في كوة في البيت كان أبي يجعل فيها ماله، تم جعلت عليها ثوبا، ثم أخذت يده، فقلت يا أبت، ضع يدك على هذا المال، قالت: فوضع يده عليه، فقال لا بأس، إن كان ترك لكم هذا لقد أحسن، وفي هذا لكم بلاغ. قالت: لا والله ما ترك لنا شيئا، ولكن أردت أن أسكن الشيخ بذلك.
هؤلاء الرجال كان لهم فضل كبير في انتقال الدعوة من مكة إلى يثرب حيث سيقيم - صلى الله عليه وسلم - إلى جانب كل من الأنصار والمهاجرين دولة إسلامية تكون منطلقا لنشر الإسلام إلى كل بقاع العالم.
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وحزبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
المراجع:
- القرآن الكريم.
- صحيح البخاري.
- مسند الإمام أحمد.
- مجمع الزوائد.
ـــــــــــ
شرعية الأعمال الفدائية
ليست الشجاعة التي سبق وأن تحدثنا عنها في الدرس السابق : كلاما نظريا .
بل هي واقع عملي ، يتحلى به ، ويشرف باكتسابه أصحاب الدعوات .
ولهذه الشجاعة من الصور : الكثير والكثير .
ومن أعلى هذه الصور وأشرفها : الأعمال الفدائية ، التي تتطلبها الدعوات ، وتقتضيها الضرورات ، ويأذن بها الشارع ، ويعد بالثواب عليها .
وبيان ذلك :
أنه لو لم يكن هناك سبيل لحماية : الدين ، أو العرض ، أو النسل ، أو المال ، أو الدفاع عن ذلك ، إلا بافتدائه بذات النفس : كان ذلك عملا مشروعا .
وهذا ما فعل بعضه سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، حينما بات ليلته راقدا في فراش الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وهو يعلم يقينا _ أو يغلب على ظنه ظنا راجحا _ أنهم سوف يقتلونه ، اعتقادا منهم أنهم يقتلون محمدا صلى الله عليه وسلم
لا يشك أحد في أن عليا كان يعلم بالظروف التي تمر بها الدعوة ، وبالشر الذي يبيته الكفار للنبي - صلى الله عليه وسلم - بصفة عامة .
كما أنه لا يشك أحد في أنه كان يعلم أنهم سوف يهجمون عليه هجمة رجل واحد ، فيقتلونه ، إما بسبب غرابة التصرف وهو نومه _ على غير العادة _ في فراش النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإما انتقاما منه ، لما فعل .
ومع ذلك : نام في هذا المكان الخطير ، وفي هذه الظروف العصيبة ، وبين يدي هؤلاء الأعداء الأشداء . . ! !
نام . . ليفتدي الرسول عليه الصلاة والسلام بنفسه . . ! !
نام . . ليفتدي هذه الدعوة بروحه . . ! !
نام . . ليقدم القدوة لشباب الإسلام في البطولة ، والشجاعة والفدائية .
نعم . . نام بإقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - وموافقته ، بل بطلبه - صلى الله عليه وسلم - منه ذلك .
نام . . ليصير الفداء شرعيا .
ولذا . . لا مجال لأحد في إنكار شرعية الأعمال الفدائية ، للدفاع عن النفس أو حمايتها ، للدفاع عن الدين أو حمايته ، للدفاع عن العرض أو حمايته ، للدفاع عن الأهل أو حمايتهم ، للدفاع عن المال أو حمايته ، للدفاع عن الأوطان أو حمايتها .
وهؤلاء الفدائيون _ على هذا النحو _ شهداء إن قتلوا في هذه الحالة .
يقول عليه الصلاة والسلام : " فيما رواه الإمام أحمد في مسنده _ عن عبد الله بن عمرو بن العاص " ما من مسلم يظلم بمظلمة ، فيقاتل فيقتل : إلا قتل شهيدا " "87
ولا ينبغي أن يقال عن هؤلاء الفدائيين : إنهم انتحاريون . . فهذا تحريف للكلم عن مواضعه ، وتزييف على العقول ، وفرق كبير بين الأعمال الفدائية التي تكون للإحياء ، أي إحياء النفس عند الله تعالى بحفاظها على الدين أو العرض ، أو غير ذلك مما ناضلت من أجله ، ودفعت روحها ثمنا لإبقائه وإحيائه ، مرضاة لله تعالى ، وبين الأعمال الانتحارية التي تكون تخلصا من الحياة ، وإهلاكا لنفس خلقها الله تعالى دون موافقة لشرعه ، وإذن منه سبحانه .
ومن هنا : لا ينبغي السكوت على حق يستلب ، أو على عرض يغتصب ، أو أرض تحتل ، أو دين تنتهك حرماته . بل لابد من الدفاع عن كل ذلك ، بل _ من البدء _ حماية كل ذلك .
وقد افترض الله على عباده المؤمنين هذا ، بما يحقق الغرض ، ويؤدي إلى النجاح فيه ، ولو كان بالأعمال الفدائية التي تهلك فيها النفس ، وتضيع فيها الروح .
( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم ) "88 "
( يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ) "89 "
وقد امتثل النبي - صلى الله عليه وسلم - لهذا الأمر ، وقدم القدوة الحسنة الشجاعة الفدائية بنفسه ، في حضوره الغزوات ، وجهاده فيها ، وهو يعلم يقينا أن الكفار يقصدونه قصدا ، ولا يريدون سواه .
كما إمتثل على رضى الله عنه ، لهذا الأمر الإلهي ، التكليفى ، التشريفى ، النبوي ، له ، بهذا العمل الفدائي ليلة خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - من بيته للهجرة .
وهو درس من دروس الهجرة النبوية : يجب أن يكون ماثلا في الأذهان ، لمن أراد حماية الدين والأوطان .
شعر أبي أحمد بن جحش في هجرة بني أسد
وقال أبو أحمد بن جحش بن رئاب، وهو يذكر هجرة بني أسد بن خزيمة من قومه إلى الله تعالى وإلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - وإيعابهم في ذلك حين دعوا إلى الهجرة :
ولو حلفت بين الصفا أم أحمد *** ومروتها بالله برت يمينها
لنحن الألى كنا بها ثم لم نزل *** بمكة حتى عاد غثا سمينها
بها خيمت غنم بن دودان وابتنت *** وما إن غدت غنم وخف قطينها
إلى الله تغدو بين مثنى وواحد *** ودين رسول الله بالحق دينها
وقال أبو أحمد بن جحش أيضا :
لما رأتني أم أحمد غاديا *** بذمة من أخشى بغيب وأرهب
تقول فإما كنت لا بد فاعلا *** فيمم بنا البلدان ولتنأ يثرب
فقلت لها : بل يثرب اليوم وجهنا *** وما يشإ الرحمن فالعبد يركب
إلى الله وجهي والرسول ومن يقم *** إلى الله يوما وجهه لا يخيب
فكم قد تركنا من حميم مناصح *** وناصحة تبكي بدمع وتندب
ترى أن وترا نأينا عن بلادنا *** ونحن نرى أن الرغائب نطلب
دعوت بني غنم لحقن دمائهم *** وللحق لما لاح للناس ملحب
أجابوا بحمد الله لما دعاهم *** إلى الحق داع والنجاح فأوعبوا
وكنا وأصحابا لنا فارقوا الهدى *** أعانوا علينا بالسلاح وأجلبوا
كفوجين أما منهما فموفق *** على الحق مهدي، وفوج معذب
طغوا وتمنوا كذبة وأزلهم *** عن الحق إبليس فخابوا وخيبوا
ورعنا إلى قول النبي محمد *** فطاب ولاة الحق منا وطيبوا
نمت بأرحام إليهم قريبة *** ولا قرب بالأرحام إذ لا نقرب
فأي ابن أخت بعدنا يأمننكم *** وأية صهر بعد صهري ترقب
ستعلم يوما أينا إذ تزايلوا *** وزيل أمر الناس للحق أصوب
قال ابن هشام : قوله "ولتنأ يثرب"، وقوله "إذ لا نقرب"، عن غير ابن إسحاق.
قال ابن هشام : يريد بقوله "إذ" إذا، كقول الله عز وجل (إذ الظالمون موقوفون عند ربهم) قال أبو النجم العجلي :
ثم جزاه الله عنا إذ جزى *** جنات عدن في العلالي والعل
ضرورة البحث عن البيئة الصالحة للدعوة
على الداعية الذي يجد البيئة غير صالحة لدعوته ، والجو ليس مناسبا لها ، والأفراد لا يتقبلونها : أن يبحث _ بشرط صلاحيته هو _ عن بيئة أخرى لهذه الدعوة ، وجو آخر لها ، وأناس يتقبلونها ، مستعينا بالله ، معتمدا عليه ، ممتثلا لقوله تعالى ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ) "34 " دون أن يكف عن نشر دعوته ، وإقناع الآخرين بها ، وتحبيبهم في التعرض لفضل الله ورضوانه عن طريقها ، وكذلك دون أن ييأس من النجاح في ذلك ، أو من نتيجة دعوته ، خاصة وأنه لا يعرف بيقين . . أين البيئة الصالحة لدعوته ؟ ولا متى يكون الجو مناسبا لها ؟ ولا من هم الأفراد الذين سيشرح الله صدورهم لقبولها ؟ حتى يخصهم _ في هذه الحالة _ بدعوته ، ويتفرغ لهم دون غيرهم ، ويحبس نفسه عليهم ؛ رجاء النجاح معهم ، والإفادة بهم ولهم .
حيث إن مرد الأمر في ذلك كله _ كما هو في غيره _ لله تعالى ، أولا وأخرا .
ولو كان الأمر على غير ذلك : لما بحث النبي - صلى الله عليه وسلم - لهذه الدعوة عن بيئات أخرى غير مجتمع مكة ، الذي كان يتطلع لهدايته ، ويتشوق لإيمانه ، ويتحسر لكفره وعناده ( فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا )" 35 " في الوقت الذي كانوا فيه يقولون لبعضهم البعض ( لا تسمعوا لهذا القرآن ألغو فيه لعلكم تغلبون ) " 36 "
وذلك يتمثل في :
أمره - صلى الله عليه وسلم - لصحابته الكرام بالهجرة إلى الحبشة ؛ بحثا عن مجتمع لهذه الدعوة غير هذا المجتمع .
في ذهابه - صلى الله عليه وسلم - بنفسه إلى الطائف بحثا عن مجتمع لهذه الدعوة غير هذا المجتمع .
وهكذا كان يفعل - صلى الله عليه وسلم - في الظروف والمناسبات .
وثالثا : مع الأفراد والقبائل الذين كان يعرض عليهم دعوته دون كلل أو ملل أو يأس ، حتى استجاب الله لدعائه الذي قال فيه ( رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا ) " 37 "
وكان هذا المجتمع : هو مجتمع المدينة ، بجوه ، وظروفه ، وأفراده ، وجماعاته ، والذي كان بعد طول بحث وعناء .
وحتى نستفيد من هذا الدرس : علينا _ نحن المسلمين _ أن نكون جادين نشيطين في نشر الإسلام ومبادئه بكل الوسائل الممكنة ، _ وهي كثيرة ومتنوعة _ وبكل اللغات ، وفي كل البيئات ، وعلى كل الأفراد من باب عرض مباهج هذا الدين وروائعه ووسائله في إنقاذ العالم ، من الظلم والضياع والدمار ، الذي يسير فيه وإليه ، وليس من باب الدفاع عنه فقط ، والاكتفاء برد الشبهات التي تصنع ضده صنعا ، وتزرع زرعا ، لينشغل الدعاة بها ، وينصرف الناس عنه بسببها ، وتظل مبادؤه مطمورة ، وتعاليمه مهجورة .
وينبغي : أن لا يقعدنا عن ذلك ، ما يقال : من أن الفساد قد عم ، واتسع الخرق على الراقع ، و ( ظهر الفساد في البحر) " 38 " ولن تجدي محاولتنا في الدعوة والإصلاح .
إذ لو كان الأمر كذلك _ وهو ليس كذلك _ لما كانت الدعوة لإبراء الذمة وإنقاذ النفس في قوله تعالى ( وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون * فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون ) " 39
وأيضا . . فإن الداعية لا يدري متى هداية الله ؟ ولا لمن تكون ؟ كل ما عليه : أن يبلغ ، وأن ينشر ، وأن يكون قدوة صالحة بأقواله وأفعاله ، وأما مسألة الهداية ومكانها وأشخاصها . . فليدع ذلك لله سبحانه وتعالى ( إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ) " 48 "
وللعلم . . ليست قلوب الناس كلهم قاسية كالحجارة ، ولكن تحتاج - فقط -إلى من يعرف مفاتيحها ، وإذا فتحت هذه القلوب ، ومست شغافها أنوار الدعوة : سرعان ما تتحول منقلبة على جهلها وجاهليتها ، وعلى معصيتها وعصيانها ، وفاعلة في بيئتها ومحيطها ، ليصبح ذلك خيرا لها ، ولمجتمعها ، وللدعوة .
كما أن كثيرا من أهل الباطل وأنصاره : يعادون الدعوة جهلا بها ، وبغضا لبعض أهلها ، ولو جاء الداعية الماهر : وأزاح هذه الغشاوة من الجهل عن العقول والقلوب ، وعالج هذا البغض من النفوس ، وزرع بدلا منه العلم السهل الواضح بهذه الدعوة وأهدافها ، وملأ هذه النفوس بالتسامح والمحبة ، والقدرة على التماس المعاذير للغير .
لو فعل ذلك ، ووفقه الله فيه : لتحول هؤلاء ، أو كثير منهم ، أو بعضهم . . إلى أنصار للدعوة بدل العداء لها ، ومحبين لهذا التيار بدل العداء لأهله .
ولو تم ذلك ..!!
لكسبت الدعوة بهم خيرا كثيرا .
ولكسبوا هم _ كذلك _ بالدعوة _ خيرا كثيرا .
ضرورة التخطيط
التخطيط لكل شئ : هو تحديد الهدف ، وتوضيح الوسائل والسبل الموصلة إليه ، والإعداد الجيد لبلوغه .
والذي يخطط جيدا : يدرس إلى جانب ذلك القدرات المطلوبة ، والإمكانات المتاحة ، للوصول إلى هذه الغاية ، وكذلك معرفة العقبات المتوقعة للحيلولة دون هذا الوصول ، ووضع الحلول والعلاجات لهذه العقبات .
ويختلف التخطيط لموضوع أو مشروع عنه لموضوع أو مشروع آخر ، كما يختلف التخطيط لموضوع يعني به فرد واحد عن موضوع تعني به جماعة ، عن موضوع تعني به دولة ؛ إذ لكل من هذه الثلاثة أهميته ودراساته وأهدافه .
ولكن . . لا يختلف أحد على أن كل موضوع أو مشروع لابد له من تخطيط جيد
وهذا ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - في مشروع الهجرة النبوية .
فهي لم تتم ارتجالا ، ولا بين عشية أو ضحاها ، ولا بدون دراسة جادة ، وتخطيط دقيق . بل كانت الدراسة الواعية ، والتخطيط الجيد ، والإعداد المسبق لها ، بما يعد صورة من أرقى مستويات التخطيط ، والذي ينبغي أن تعيه الحركة الإسلامية ، وأن تدرسه جيدا ، وأن تتخذه نبراسا في تحقيق أهدافها .
ولبيان بعض جوانب هذا التخطيط نقول :
1 _ كان لابد من ترك الأمانات التي كان يأتمن كفار مكة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليها، وعدم أخذها معه ، إلى المدينة ، بل كان لابد من ردها إليهم .
وكان القرار : تكليف علي بن أبي طالب بالبقاء في مكة ؛ ليقوم برد هذه الأمانات إلى أصحابها ، بعد اختفاء النبي - صلى الله عليه وسلم - عنهم . وإخبار على وحده بذلك .
2 _ كان لابد من رفيق في هذه الرحلة الطويلة الشاقة إلى المدينة .
وكان هذا الرفيق : هو الصاحب والصديق ، والصديق أبو بكر رضي الله عنه ، وإخباره وحده ليستعد لذلك .
3 _ كان لابد من رواحل للركوب في هذه الفرة الطويلة .
ولذلك : تم شراء الراحلتين ، وقد دفع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثمن إحداهما .(1/105)
4 _ كان لابد من دليل يقودهما في الطرق الوعرة التي سيسلكانها خلال هذه الرحلة المطاردة .
ولم يكن هناك أدرى وأخبر بهذا الطريق غير رجل من المشركين ، وجد النبي - صلى الله عليه وسلم - عنده - بجانب خبرته - الأمانة على حفظ وكتمان هذا السر
فتم الاتفاق معه على استئجاره أولا .
ودفع النبي - صلى الله عليه وسلم - الراحلتين ، وسلمهما له قبل موعد الخروج .
وحدد له : الزمان ، والمكان الذي يلتقيان فيه .
5 _ كان لابد من أن ينام أحد مكان النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وفي فراشه ، ويتغطى ببردته ، خداعا للقوم الذين يقفون على أهبة الاستعداد لقتل النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإيهاما لهم بأنه لا يزال راقدا في فراشه .
وكان هذا الفدائي الشجاع البطل : علي بن أبي طالب رضى الله عنه وأرضاه .
6 _ بعد الخروج من مكة . . لابد من معرفة أخبار القوم ، وماذا يفكرون فيه ؟ وماذا يخططون له ؟ حتى يتم تنفيذ الخطة ، أو التعديل فيها ، بناء على ذلك ، للنجاة من شرورهم ، والنجاح في بلوغ الهدف .
وكان صاحب هذا الدور ، لابد أن يتصف بالذكاء ، وحضور البديهة ، والقدرة على مخالطة القوم ، وفهم ما يدور بينهم ، ومن يتصف بهذا الدور ؟ إنه ابن أبي بكر .
وتم تكليفه بذلك .
7 _ كان لابد من طريقة تمحو أثار الأقدام ، حتى لا يتتبعهما القوم ، وهم خبراء في ذلك ،
ولكن كيف يتم هذا . . ؟
إنها الأغنام . . أقوى الوسائل في إخفاء المعالم ، ومحو الآثار .
ومن لهذه الأغنام . . ؟
إنه عامر بن فهيرة .
وتم تكليفه بهذه المهمة .
8 _ المدينة في جهة الشمال من مكة ، والمسافر من مكة إلى المدينة يأخذ الطريق في اتجاه الشمال ، وهذا ما سوف يخطر ببال الكفار ، عندما يكتشفون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد خرج مهاجرا ، ويطاردونه .
ولذا . . لابد من مخالفة هذا المعهود لديهم ، والمعروف إليهم ، تمويها عليهم .
فكان الاتجاه جنوبا . . ناحية اليمن ، وثم الاختفاء بغار ثور ، جنوب مكة .
9 _ لابد لهم ، وهم في الغار ، من طعام يتناولونه ، كما لابد لهم في السفر من زاد يحملونه ، فمن الذي يعد لهم الطعام ، ويهيئ لهم الزاد ، وهم رجال ، لا يجيدون ذلك
وكانت أسماء بنت أبي بكر لهذا الدور ، الذي قامت به خير قيام .
10 _ الكفار في مكة : سيجن جنونهم ، وستثور ثائرتهم عندما لا يجدون محمدا - صلى الله عليه وسلم - في فراشه ، ليلة الاتفاق على قتله ، بل سيزدادون جنونا حينما يعلمون فراره منهم ، ونجاته من بين أيديهم ، وسيقلبون جبال مكة وشعابها وطرقها رأسا على عقب .
ولذلك : لابد من فترة كمون وسكون ، حتى ينقطع من البحث نفسهم ، وتهدأ من التعب ثائرتهم .
وكان القرار : المكوث بالغار ثلاثة أيام .
إلى غير ذلك من التفاصيل الدقيقة ، والخطط المحكمة ، والقرارات الرشيدة .
وفي هذا المذكور الكفاية لنخلص إلى الدرس الذي ينبغي أن يستفاد من هذا التخطيط الدقيق في الهجرة النبوية .
والحركة الإسلامية في مشروعها حول سيادة شرع الله في بلاد المسلمين ، دون إقصاء لها ، أو مزاحمة بمشاركة من قوانين البشر وتشريعاتهم ، إلا أن يكون ذلك القانون أو التشريع مستمدا من كتاب الله تعالى أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -
ووسائلها إلى الوصول لتحقيق هذا المشروع هي الدعوة إلى الله تعالى على بصيرة ، واتباع منهج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذه الدعوة .
( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني ) يوسف " 108 "
( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ) " 34 "
أقول : والحركة الإسلامية في مشروعها هذا لابد أنها تحتاج إلى تخطيط جيد للوصول إلى هذه الغاية ، بل تحتاج إلى تجديد دائم ومراجعات شاملة لهذا التخطيط ، ودراسات له ، واستعداد جيد بموجب ذلك ، لتحقيق غرضها : استفادة من هذا الدرس النبوي الحركي في التخطيط للهجرة النبوية وخلال تنفيذها .
ولكن . . قد يقال : إذا كان هدف الحركة الإسلامية معروفا ،والوسيلة واضحة ومحددة ،فماذا يمنع من وجود التخطيط؟
ونقول : التخطيط موجود ، ولكن الذي يمنع من التنفيذ ، هو المعوقات الكثيرة ، التي تحول بين التخطيط والتنفيذ من جهة ، وتفصل التواصل بين الوسيلة والغاية من جهة أخرى ، فتتسع _ تبعا لذلك _ الوسيلة وتمتد ، دون أن تصل بصاحبها إلى هدفه ، وإن اقتربت به منه في بعض الأحيان وبعض البلدان .
ولقد أصبح من المسلمات : أن كثيرا من الأنظمة في الشرق أو الغرب تعمل على وأد الحركات الإسلامية ، مما جعل كثيرا من الضربات المتتالية الموجعة ، تنزل بهذه الحركات ، وتعصف برجالها ، دون آن تتمكن الحركة آو رجالها من تفادي هذه الضربات .
وإلا .. فكيف يمكن للمسجونين أو المضطهدين ، آو المعذبين أن يخططوا وهم ليسوا أحرارا في أقوالهم ، وتحصى عليهم حركاتهم وتصرفاتهم ، ويعتقلون سنين عددا ، وتثار بينهم الفتن عن طريق بعض الذين يضعفون عن التبعات ، أو يأملون في مغنم ، أو يهربون من مغرم ، وكل ذنب جناه هؤلاء : انهم آمنوا بالله العزيز الحميد ، وسعوا مطالبين بان تكون كلمة الله هي العليا في بلاد المسلمين .
وإذا كنا نقول ذلك لمن يسألون عن التخطيط لأنهم لا يرون آثاره بأعينهم : فإننا نؤكد في ذات الوقت على أننا لا نتخذ ذلك مبررا لغياب التخطيط عن ساحة العمل ، أو بروز الارتجال والسير على غير هدى وسط الأشواك التي تلقى _ وبسببها _ هنا وهناك ، كما نؤكد _ ثانيا _ على وجود التخطيط ، وضرورة استمراره حتى مع هذه الأشواك التي تلقى هنا وهناك ، كما نؤيد _ ثالثا _ العاملين المخلصين الذين يطالبون بضرورة الدراسة والتخطيط في كل أمر من أمور الحركة الإسلامية ، إفادة من هذا الدرس النبوي .
على أن يكون هذا التخطيط مبنيا على أسس علمية يضعها أصحاب الخبرات المشهود لهم بالكفاءة والمعرفة ، لتتضح معالم الطريق بين الوسيلة والغاية ؛ حتى لا يتباطأ أحد أو يبتعد عن الطريق التي ينبغي أن تقطع فيه كل يوم خطوات .
ولن يتحقق ذلك كاملا في غياب تخطيط مرحلي ، تراعى فيه : طبيعة وظروف كل مكان في بلاد المسلمين ، بحيث لا تغيب الموائمة بين هذا التخطيط وبين البيئة التي يطبق فيها تطبيقا واقعيا عمليا .
ثم يمتد هذا التخطيط المرحلي ، ليعطي صورة متكاملة لدور الحركة الإسلامية في بلاد المسلمين ، في الحاضر والمستقبل ، وبيان مدى ما يمكن أن تقدمه للناس في : معاشهم الذي ينبغي أن يقوم على النصفة والعدل والحق والعلم والعمل ، وكذلك في معادهم الذي يتوقف ثوابهم فيه على طاعة الله وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، والتمسك بهذا الدين بإخلاص ، والجهاد في سبيل أن تكون كلمة الله هي العليا .
وهذه المهمة ، أي التخطيط _ كما يقول الشيخ جاسم بن محمد بن مهلهل الياسين _ منوطة بأصحاب البصائر النافذة ، والهمم العالية من أبناء الحركة الإسلامية ، الغيورين على دين الله ، وعلى مصالح المسلمين . " 62 "
فهل يتقدمون لأداء هذه الأمانة ؟
وهل يبدؤون فيها . . ؟ _ وبسرعة _ إفادة مما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - في التخطيط لنجاح الهجرة ؟
ضرورة الدعوة الفردية
على كل مسلم ، غيور على دينه ، حريص على نشر مبادئه ، وهداية الناس بها : أن يمارس الدعوة إلى الله تعالى ، بكل الوسائل المتاحة له ، والمؤدية إلى النجاح في مهمته ، وفي كل الظروف الممكنة ، وفي كل البيئات التي يرى _ أو يأمل _ فيها القبول لدعوته ، ومع كل الناس الذين تجمعه بهم الأقدار ويلمح فيهم ولو أدنى بارقة أمل في أن يشرح الله صدورهم حتى ولو للاستماع إليه فيما يعرضه عليهم
يقول تعالى ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ) " 34 "
ويقول سبحانه ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ) " 41 "
ويقول - صلى الله عليه وسلم - " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان "42 "
ويكون ذلك : بالقدوة الحسنة سلوكا ، والكلمة الطيبة قولا ، المنبثقة _هذه وتلك _ من الفهم الجيد ، المبنية على الإخلاص لله تعالى ، والرغبة الجادة الصادقة في نوال مرضاته سبحانه وتعالى ، ورفع راية هذا الدين ، وإعلاء كلمته ، وإعزاز أهله .
وممارسة الدعوة على هذا النحو : فريضة ، واجبة على المسلم _ رجلا أو امرأة _ في كل حال ، وفي كل بيئة ، ومع كل الناس ، ما دامت الظروف مهيئة ، والوسائل متاحة ، لا يحجبه عن ذلك شواغل ، ولا يصرفه عنه صوارف .
وإذا كان ذلك بصفة عامة : فإن الذي نستفيده من دروس الهجرة الحركية _ بجانب فريضة الدعوة العامة _ أنه على المسلم _ كذلك _ أن يمارس الدعوة الفردية إلى الله تعالى _ بصفة خاصة _ مع كل من ييسر الله تعالى له لقاءهم أو الاتصال بهم ، دون أن يدفعه إلى ذلك تكليف ، أو يطمع بذلك في تشريف ، أو ينتظر من ذلك أية مكاسب
خاصة : وأن الدعوة الفردية من أهم روافد العاملين للإسلام ، وازديادهم في حقل الحركة الإسلامية ، وهي الأسلوب الأول الذي مارسه محمد - صلى الله عليه وسلم - في الدعوة إلى الله تعالى ، وستظل _ كذلك _ أسلوبا فاعلا قويا ناجحا في أداء هذا الغرض ، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .
وهذا ما فعله - صلى الله عليه وسلم - بجانب أساليبه الكثيرة _ في الدعوة إلى الله ، قبل الهجرة ، وفي التمهيد لها ، فقد فعل ذلك مع الوليد بن المغيرة ، كما فعل ذلك مع عداس النينوي بالطائف ، ومع الأفراد والوفود بمنى أيام الحج ، حتى كان الرهط من الخزرج الذين أراد الله بهم خيرا ، وأراد للدعوة عن طريقهم خيرا .
وهو ما فعله هؤلاء النفر ، الحديثوا عهد بالإسلام ، الذين قدموا في موسم الحج من المدينة ، لمبايعة النبي - صلى الله عليه وسلم - .
يقول كعب بن مالك : " . . فلما فرغنا من الحج : وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لها ، ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام _ سيد من ساداتنا ، وشريف أشرافنا _ أخذناه معنا ، وكنا نكتم من معنا من قومنا من المشركين أمرنا ، فكلمناه ، وقلنا له : يا أبا جابر . . إنك سيد من ساداتنا ، وشريف من أشرافنا ، وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطبا للنار غدا ، ثم دعوناه إلى الإسلام ، وأخبرناه بميعاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العقبة ،
قال : فأسلم ، وشهد معنا العقبة ، وكان نقيبا " 43 "
وفي هذا الدرس من الأنصار _ في الدعوة الفردية _ الذي تعلموه مبكرا من النبي - صلى الله عليه وسلم - ، نرى : حسن الاختيار ، ودقة التوقيت ، وبلاغة العرض ، والمسارعة في نشر الدعوة ، وعدم تضييع الفرصة ، ولذلك كان التوفيق حليفهم .
وواجبنا _ على هذا _ أن لا نستهين بهذه الطريقة في الدعوة إلى الله تعالى ، ففيها _ وعن طريقها ، بإذن الله ، يكون _ الخير الكثير .
فكم من أفراد فطرتهم سليمة ، ولكن ما عرضت الدعوة عليهم عرضا حسنا ، أو شغلتهم الحياة ، بهمومها أو بزخارفها ، ولا يحتاجون سوى التذكير بالله ، مع حسن العرض ، وأدب الحديث ، ووضوح الفكرة ، وجمال الصحبة إن أمكن ، مع الاهتمام بهم ، والسؤال عنهم . . الخ ؟ وستجدهم جنودا مخلصين لهذه الدعوة ، يسعدون بها ، ويرضون الله تعالى بالانضواء تحت لوائها ، ومن الطبيعي : أن يقوى بهم الصف ، ويزداد بهم العدد ، ويكثر ويتحقق بهم _ لهذه الدعوة _ النفع .
وكم من أفراد حجبهم الخوف عن فهم الإسلام فهما شاملا ، واكتفوا بما يعرفون من قشوره ، ويمارسون من رسومه ، ووقعوا في براثن الجهل به عن غير قصد ، وصاروا في عداء له بسبب هذا الجهل ، ومن جهل شيئا كما يقولون عاداه . ؟
وهؤلاء لا عذر لنا في عدم تلمس الوسائل لتفهيمهم ، وعرض الدين الشامل عرضا جيدا عليهم ، مع بيان الثواب والإنعام الإلهي لمن اتبع والتزم ، والإيذاء _ مع الغضب _ الإلهي لمن خالف وتقاعس وانحرف .
ومع تلمس الوسائل ، وحسن العرض : ستنقشع الغشاوة عن العيون بإذن الله ، وينزاح كابوس الخوف عن القلوب ، لا أقول من كلهم ، بل من بعضهم .
بل كم من أفرادا يبحثون عن الطريق ، ولا يحتاجون إلا إلى من يمد لهم يده ، وينير أمامهم الطريق ؟
ومما ينبغي أن يلاحظ جيدا : أنه ليس من الضروري ، أن تكون صفات الكمال متوافرة ، أو أغلبها فيمن ندعوهم إلى الله تعالى ، والانضمام إلى صفوف العاملين للإسلام . . وإلا فما مجال عملنا نحن معهم ؟ وما دورنا في الأخذ بأيديهم إلى الله تعالى ؟ . . هذا فضلا عن نسياننا لأمرين هامين : الأول : أن هؤلاء من الندرة _ في عالم اليوم _ بمكان ، الثاني : أننا نحن لا نتمتع بهذه الصفات أو أغلبها ، بل نعمل لها ، ونطمع في إنعام الله تعالى بها علينا .
كما ينبغي أن يلاحظ جيدا : أن الحركة الإسلامية في حاجة لأن تضم بين صفوفها أصحاب كل الكفاءات مهما قلت ، وكل الطاقات مهما ضعفت ، وكل الصفات مهما تنوعت ، إذ هي حركة ، وإن كانت تهدف إلى قيادة المجتمع ، فهي تمثله بفئاته وطوائفه .
فضلا عن أن تعدد المهام في العمل للإسلام : يحتاج إلى : من يصلح للقيادة ، ومن يصلح للجندية ، من يصلح للتخطيط ، ومن يصلح للتنفيذ ، من يصلح للتفكير ، ر ومن يصلح للعمل ، ومن يصلح للإبداع ، ومن يصلح للتقليد .
ومن هنا كان وجوب عمومية الدعوة ، في قوله تعالى ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة . . ) الآية "34 " حيث حذف المفعول ، وهو المدعو ؛ ليفيد العموم ، ويحتم على الدعاة _ بالطرق العامة أو الدعوة الفردية _ دعوة الجميع .
وليعلم الداعية : أن هذه الجهود لن تضيع أبدا .
فإما أن يتحول المدعو إلى الله تعالى ، وينخرط في صفوف العاملين في حقل الدعوة
وهنا : ينال مثل الداعي مثل ثواب المدعو ، دون أن ينقص ذلك من أجره شيئا " لئن يهدي الله بك رجلا واحدا : خير لك من أن يكون لك حمر النعم " " 44 "
وإما أن يفهم المدعو الدعوة وغايتها ، ويفهم ما أنت عليه ، دون أن ينخرط معك ، لآي سبب خاص به ، ولن تعدم في هذه الحالة أن يتعاطف معك ، وأن يكون لسانه ، أو قلمه ، أو سلاحه ، أو لسان حاله ، معك ، لا عليك .
وهذا مكسب _ في ذاته _ كبير .
وإما أن تتركه حائرا غير ثابت في موقعه الأول ، مترددا بين ما هو عليه وبين ما تدعوه أنت إليه ، غير مستقر على حال.
فما عليك في هذه الحالة : إلا تتعهده بالدعاء والابتهال إلى الله تعالى أن ينير طريقه ، وأن يشرح صدره لنور الدعوة ، على أن لا تبتعد عنه إهمالا له ، أو يأسا من إقناعه ، وأن لا تثقل عليه ، وتلح في الإمساك به .
وإما أن يكون معاندا مجادلا ، أو معاندا متحاملا ، أو معاندا معاديا .
فهذا : دعك من تضييع الوقت معه ، وتبديد الجهد في إقناعه ، لعل الله تعالى يهيئ له غيرك فيستجيب له ، أو يشرح صدره في وقت _ أو ظرف _ آخر ، أو لعل الله يريد له أمرا غير ما تدعوه إليه ، وما عليك إلا أن تدعو له بالهداية ، فلا تعاده ، أو تنفعل عليه .
ويكفيك أنك بلغت أمانة الدعوة ، وأبرأت ذمتك .
والله تعالى _ قبل ذلك ، وبعد ذلك ، وفوق ذلك _ كفيل بحماية الدعوة من كيد أعدائها ، وجهل أبنائها .
فلا تقصر في واجب الدعوة الفردية إلى الله تعالى بحال من الأحوال ، ومهما كانت النتائج
ضرورة الشجاعة في مواجهة الظلم والظالمين
طريق الدعوة : ليس مفروشا بالورود ، وليست بالضرورة كلها أشواك .
ولكن على من يسير فيها : أن يتوقع _ وأن يتحمل _ أشواكها ، أملا في التمتع بورودها ورياحينها في الدنيا ، أو في الآخرة ، أو فيهما .
وعلى قدر الغاية : تهون الوسائل ، وتخف المشاق ؛ بل تستعذب الآلام . . ! !
ولذلك : " حفت الجنة بالمكاره ، وحفت النار بالشهوات " "85 "
ومرضاة الله تعالى : أغلى الغايات ، وأعلى المقاصد ، ويهون في سبيلها كل غال ونفيس .
وقد فهم ذلك المسلمون الأوائل ، حتى النساء منهم ، فتحملوا المشاق ، واستهانوا بالآلام ، بل واجهوها بشجاعة فائقة .
وهذا واضح في الكثير من تفاصيل أحداث الهجرة النبوية . . ! !
ولكن نأخذ مثالا واحدا من هذه الأحداث .
" قالت أسماء رضي الله عنها : لما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر ، أتانا نفر من قريش ، فيهم أبو جهل بن هشام . . فوقفوا على باب أبي بكر ، فخرجت إليهم ، فقالوا : أين أبوك يا بنت أبي بكر . . ؟ فقلت : لا أدري _ والله _ أين أبي ؟ فرفع أبو جهل يده _ وكان فاحشا خبيثا _ فلطم خدي ، لطمة ، طرح منها قرطي . "33 "
فرعون عصره : أبو جهل ، وسط حاشية من الطغاة والزبانية ، يذهبون _ في ثورتهم العارمة ، وغضبهم الجارف _ إلى امرأة وحيدة ، حامل ، يهددونها ، ويرهبونها ، ويحاولون معرفة مكان النبي - صلى الله عليه وسلم - منها ، دون سؤال عنه _ في خبث _ صراحة ، بل السؤال عن أبيها ، ولكنها كانت أذكى منهم ، بل كانت على مستوى المسئولية ، وإدراك الأحداث ، وتتداعياتها ، وخطورة التهاون في أية معلومة تعرفها . . ولذلك : لم ترتجف ، ولم تخف ، ولم تتلجلج ، ولم تثرثر ، بل كانت دقيقة في إجابتها ، موجزة في حديثها ، مما دفع الطاغية لأن يستعمل _ شأن الطغاة حينما يعجزون أمام الحق ، ويتصاغرون أمام أهله _ بطشه ، وجبروته ، وتعذيبه ، حيث رفع يده ، وهو يرغي ويزبد ، ويسب ويلعن _ لعنه الله _ ولطم خدها ، بيده الآثمة ، لطمة قاسية ، أطاحت _ من شدتها _ قرط هذه السيدة الشجاعة المجاهدة .
وكان فعل هذا الفرعون : دليلا لكل من أتى بعده على مر العصور من الفراعين ، الذين صاروا يعذبون المسلمات القانتات التائبات العابدات وقد يأخذونهن _ مع أطفالهن الصغار _ رهائن ، كالأسيرات .
بل كان فعله ، وأضرابه من الطغاة ، مع المسلمين الأوائل : هو المنهاج الذي سار عليه كل من عذب _ ويعذب _ من يعملون لرفع راية الإسلام ، وإعلاء شأنه ، وإسعاد أهله ، في كل عصر ، وفي أي مصر .
ولكن . . ! !
من فضل الله تعالى على أصحاب الحق ، وحماة الإسلام : أن من على الكثير منهم بالقدرة على مواجهة الباطل ، ومقارعة أهله ، ومواجهة الطغاة ، وتحمل أذاهم ، دونما جزع ، أو نكوص عن مبادئهم التي آمنوا بها .
وعلى أبناء الحركة الإسلامية ، رجالا ونساء : أن يدركوا جيدا :
أن الابتلاء . . سنة الله تعالى لأصحاب الدعوات ( ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون)50
وأن هذا الابتلاء . . قد يصل إلى أقصى درجاته ، مع بعض الناس ، أو في بعض البيئات ، أو في بعض العصور ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ) "86 "
وأن الحرب بين أهل الحق وأهل الباطل لن يهدأ لها أوار ، ما دام للحق أنصار يؤمنون به ، ويدافعون عنه .
وأن المؤمن في مواجهته للباطل وأهله : يثق في نوال واحدة من اثنتين ، النصر أو الشهادة .
وأن المؤمن يعتقد جازما : أنه لكل أجل كتاب ، وأن كل ما يحدث له ، قدره الله تعالى .
ولذلك : فهو يواجه الطغاة _ بهذا الرصيد الإيماني وغيره _ ليرفع راية الدعوة ، ويعلي كلمة الحق .
وعلى أبناء الحركة الإسلامية ، رجالا ونساء ، بناء على هذا : أن يكونوا أقوياء بما معهم من الحق ، في مواجهة الظلم ، وكبح جماح الظالمين ، بثباتهم أولا على الحق ، واستمرارهم في العمل به ، والدعوة بالحسنى إليه ، والتذرع والتسلح بالصبر الجميل ، فيما قد يتعرضون له _ بعلم الله _ من صور هذا الظلم .
وليكن معلوما : أن الباطل ضعيف ، وأن أهله جبناء ، سرعان ما يتصاغرون أمام الحق وأهله ، ولو لم يظهر منهم ذلك
وهذا واضح في موقف أبي جهل من شجاعة السيدة أسماء وثباتها .
وهو واضح _ كذلك _ في أضرابه ، وكل من أتى بعده ، أمام شجاعة أهل الدعوة ، وصبرهم على ما يتعرضون له وثباتهم على مبادئهم التي يؤمنون بها ، ويعملون لها
ضوابط التصعيد
الحركة : من سنن الحياة ، ومن طبيعة الأحياء ، والجماعة : كائن حي ، بدون حركة تتجمد ، ومن ثم تموت ، ولا تحقق غرضها ، ولا تصل لأهدافها .
والحركة في الجماعة ، والتصعيد لأبنائها في صفوفها ، هي الدماء الجديدة الحارة الدافقة ، التي تجري في شرايينها ، وتساعد على تمديد حياتها ، والحفاظ عليها .
ولكن لهذه الحركة نظام . ! !
ولهذا التصعيد ضوابط . ! !
ولهؤلاء الذين يصعدون شروط ومواصفات . ! !
ولذلك :
فعلى العاملين في حقل الدعوة الإسلامية بعامة ، وقادة الحركة الإسلامية بخاصة : أن يعوا جيدا أن التصعيد في صفوف الدعوة ، وحمل مهامها ، والقيام بواجباتها ، لا يكون إلا من بين من اقتنعوا بها ، وتفاعلوا معها ، وخالط حبها شغاف قلوبهم وتولد الإحساس بمتطلباتها ، وشئون إصلاحها ، وسبل إنجاحها لديهم . فهؤلاء هم الذين تنجح بهم الدعوة ، وترتقي بهم الحركة ، وليس بغيرهم يكون ذلك
بشرط فهمهم السليم لهذا الدين ، ووعيهم الجيد بالواقع الذين يعيشون فيه ، وقدرتهم على قراءة الأحداث وإرهاصاتها ، واستعدادهم الدائم لبذل الجهد ، وأداء الأمانة ، وفوق ذلك كله ، وغيره : صلاح أنفسهم ، وطهارة وجدانهم ، وتزكية أرواحهم ، وصدق التزامهم ، وكامل ولائهم .
فهؤلاء هم الأنصار الذين بايعهم النبي - صلى الله عليه وسلم - على " بيعة النساء " في العقبة الأولى ، لما عادوا إلى المدينة ، ما شغلتهم أيامهم وشئونهم عن هذه الدعوة ، بل إنه حينما طهرت نفوسهم ، وصدقوا مع الله في بيعتهم ، أنعم الله عليهم بميلاد الإحساس بمتطلبات هذه الدعوة لديهم ، ولذلك بحثوا بأنفسهم عن مصلحة الدعوة ، دون طلب أو إيعاز لهم بذلك من غيرهم .
يقول جابر بن عبد الله : " لم تبق دار من دور الأنصار ، إلا وفيها رجال ونساء مسلمون ، ثم ائتمروا جميعا ، فقلنا حتى متى نترك رسول الله ، - صلى الله عليه وسلم - ، يطوف ، ويطرد ، في جبال مكة ، ويخاف . . ؟ فرحل إليه منا سبعون رجلا . . " "33"
هؤلاء . . ما دفعهم إلى ذلك سوى الحب لهذه الدعوة والتفاعل معها ، والرغبة الصادقة في إعلاء شأنها ، ورفع رايتها ، وحماية قائدها .
ولذلك : كان بقاؤهم _ لو حدث _ في مكانهم الذي بايعهم عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - أولا . . تجميد للطاقات ، وتبديد للإمكانات ، وتضييع للجهود ، وحرمان للدعوة من أن تحمل هذه الأرواح الطاهرة ، والنفوس الذكية رايتها ، وأن تؤدي أمانتها .(1/106)
وقد علمنا أفضل وأشرف قادة الدنيا بأسرها - صلى الله عليه وسلم - أن نقتنص الفرصة ، ونصعد أمثال هؤلاء في صفوف الحركة ، حينما انتقل بهم - صلى الله عليه وسلم - إلى بيعة أخرى ، تضعهم في موقع _ من الدعوة_ آخر ، وتحملهم من واجباتها ما هم له بأهل، ثقلا ونفعا.
وينبغي أن يكون معلوما أن التقدم للمسئولين بما ينفع الدعوة من اقتراح ، أو نصيحة ، أو تنبيه ، أو تحذير ، ليس تطفلا ، أو تدخلا فيما لا يعنينا ، بشرط أن لا يكون حبا في مغنم ، أو هروبا من مغرم .
بل هو النصيحة ، و " الدين النصيحة : قلنا : لمن يا رسول الله ؟ قال : لله ، ولكتابه ، ولرسوله ، ولأئمة المسلمين وعامتهم " " 60 "
وقد بين القرآن الكريم صورا من ذلك ، فيها التعليم لذلك ، ولفت الأنظار إليه .
من هذه الصور : رجل ينصح إماما من أئمة المسلمين وأنبيائهم . . بدافع من نفسه ، وأداء للأمانة ( وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين ) " 61 "
وهذا رجل آخر ينصح عامة الناس ، بدافع من نفسه ، وأداء للأمانة ( وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين * اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون * وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون * أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون * إني إذا لفي ضلال مبين * إني آمنت بربكم فاسمعون * قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون * بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين ) " 62 "
ولذلك : فعلى كل مسلم أن يبذل النصح ، الصادق ، الخالص ، المهذب ، لله ، ولكتابه ، ولرسوله ، ولأئمة المسلمين وعامتهم ، كلما وجد أمرا يحتاج ذلك ، وكلما وجد الفرصة والظروف مهيئة لذلك .
وعلى القادة والمسئولين : البحث الدائم في الصفوف ، عمن استوى عوده ، وتكاملت مؤهلات نقله وتصعيده ، لوضع آخر ، ومكان مختلف ، ومهام جديدة ، خوفا من : تجميد الكفاءات وإهدار الطاقات ، وتفويت الفرصة على الدعوة من حسن الإفادة من أبنائها ، والوصول بهم سريعا إلى أهدافها .
هذا . .وليكن معلوما أنه لكل مرحلة من مراحل الدعوة شروطها التي ينبغي أن تتوافر فيمن يتم توثيقه للتصعيد إليها .
وتختلف هذه الشروط باختلاف المراحل .
كما ينبغي أن يعلم جيدا ، أن وضع إنسان في مسئولية أكبر من قدراته : يؤدي إلى عرقلة العمل ، وفتور من يقوم به معه ، فضلا عن زعزعة الثقة به .
وكذلك : فإن وضع إنسان في مسئولية أقل من قدراته : يحرم الدعوة من الإفادة به ، وهي في أشد الحاجة إلى كل أخ قادر على العمل والعطاء .
كل ذلك _ وغيره _ أخذا من تصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وحركته الواعية الهادفة مع أبناء الحركة ، وجنود الصف ، الذين علمهم ، وعلم بهم ، ولا يزال يعلم _ بهذا الدرس الحركي من دروس الهجرة _ أهل الدنيا كلها ، إلى آخر الزمان .
ــــــــــــ(1/107)
طلع البدر علينا عام هجري جديد
ابراهيم سيف السيف
جاءت الهجرة النبوية من مكة المكرمة الى المدينة المنورة بتلك الموعظة القيمة (فمن كانت هجرته الى الله ورسوله فهجرته الى الله و رسوله. ومن كانت هجرته الى دنيا يصيبها او امرأة ينكحها فهجرته الى ماهاجر اليه).
مثل من واقع الحياة. هو رجل من المسلمين هاجر من أجل امرأة يريد الزواج منها تدعى (أم قيس) فكانت نيته الى غير الله.
حفاظا على الدين
لقد هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن معه من الاصحاب في وقت حالك، حيث تآلب الكفار عليهم فهاجروا حفاظا على الدين. وربطا للقلوب في نشر سماحة الاسلام هذا الدين الحق. اما ذلك الرجل فقد اتخذ الرسول عليه السلام من واقع حاله نصيحة للمسلمين فقال: "ومن كانت هجرته الى دنيا يصيبها او امرأة ينكحها فهجرته الى ماهاجر اليه".
وهذا ارشاد كريم من نبي عظيم في ان الاعمال التي تكون لله هي التي تكون مقبولة. وتظهر آثارها على النفوس. وفي الواقع.
مهاجرو أم قيس
وهنا اشير الى مهاجري (أم قيس) ان يصلحوا نياتهم ـ وما اكثرهم ـ يتظاهرون امام الناس بالتقوى والورع وهم يخوضون في اعراض الناس بالغيبة والنميمة والسب والشتم، يتسترون بالطاعات ويأكلون اموال الناس بالباطل والحرام. الى هؤلاء اوجه نصيحتي فان الله لايقبل الا ماكان خالصا له. الصلاة، والصيام، والصدقات، والحج على هذا الاساس يجب ان تكون هذه العبادات كلها لله في سبيل مرضاته.
حدث عظيم
واشير هنا الى ان حدث الهجرة النبوية حدث عظيم نكتب به التاريخ ونعتز به، لانه كان بداية تحول في الامة المسلمة الى الخير:
1ـ فقد آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الهجرة بين الانصار والمهاجرين.
2ـ ووثق العهود بينه وبين جيرانه من اليهود ليعيشوا في سلام ورخاء.
3ـ واصبح المجتمع المسلم مجتمعا مترابطا. يواجه الاحداث بالصبر والعزيمة و الحكمة.
4ـ بعد الهجرة استقرت رحال النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة فبنى المواطن الصالح الذي يحمل الشهامة والمروءة. ويتصف بالولاء لهذه الدولة الجديدة.لقد هذب عليه السلام النفوس من الانحرافات في العقيدة. ونقاها من الخرافات. وطهرها من الامراض النفسية كالحسد وسوء الظن والحقد والتشاؤم. فيجب ان نستفيد من دروس الهجرة.
عدم تعجل النصر
على المسلم بعامة ، وشباب الحركة الإسلامية خاصة : عدم استبطاء النصر ، أو التعجل في تحقيق النتائج ، وقطف الثمار .
فذلك آفة خطيرة . . تؤدي إلى الفشل الذريع ، وتنبئ عن الجهل بسنن الله تعالى ، وعدم سلامة التكوين وصحة التربية .
ومراعاة هذا الدرس : أمر ضروري في إعداد الجيل الذي يحمل الأمانة ، ويعمل على تبليغ الدعوة ، وإقامة النظام .
وهو درس : جد واضح بين الدروس الحركية التي تؤخذ من هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - .
فهذه الهجرة مثلا . . قد تأخرت بعد البعثة النبوية ثلاثة عشر عاما ، كلها مصاعب ومتاعب .
وحتى خلال التمهيد للهجرة . . هؤلاء الأنصار كانوا في أول لقاء مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ستة أفراد فقط ،
وبعد عام كامل _ ياه . . ؟ عام كامل ! ! ؟ _ نعم عام كامل ، جاء إليه - صلى الله عليه وسلم - اثنا عشر رجلا فقط ، وهم الذين بايعوه بيعة العقبة الأولى .
وبعد عام كامل كذلك _ ياه . . ! ! عام كامل . . ! ! ؟_ نعم عام كامل ، جاء إليه ثلاثة وسبعون رجلا وامرأتان . . وهم الذين بايعوه بيعة العقبة الثانية .
بهذا النمو العددي البطيء ، والبطء العددي العجيب ، ومع من . . ؟ مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يتعجل النتائج أو يستبطئ هذا النمو العددي .
والجواب على ذلك كله : أن الهجرة لم تتأخر ، بل إنها لو جاءت قبل ذلك _ ولم تكن لتجئ _ لخالفت سنة الله وحكمته في بناء النفوس قبل بناء الدولة ، فدولة دون أفراد تم بناء نفوسهم : سرعان ما تنهار ، وأفراد تم بناء نفوسهم دون دولة : سرعان ما قد يقيمون الدولة .
ولذلك لم تأت الهجرة ، إلا بعد بناء الأفراد الذين يقيمون الدولة وتربيتهم ، وتمحيصهم .
والنمو العددي البطيء فيما نرى : صاحبه أمر في غاية الأهمية ، هو النمو الكيفي العظيم الهائل .
ولذلك : ما رأينا من النبي - صلى الله عليه وسلم - استخفافا بهذا العدد ، ولا استبطاء لنموه العددي .
خاصة : وأن أعمار الدعوات ونجاح مراحلها . . أمر يقدره الله سبحانه وتعالى بعلمه وحكمته ومشيئته ( إنا كل شئ خلقناه بقدر ) " 45 "
كما أن النتائج كلها بيد الله تعالى ( وما النصر إلا من عند الله ) " 46 "
وما علينا إلا أن نأخذ في الأسباب . فنعمل ، ونعمل ، ونحسن العمل ( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبؤكم بما كنتم تعملون ) " 47 "
فضلا عن أنه _ أي أعمار الدعوات _ أمر لا يقاس بالسنين وعددها ، ولا يقاس بأعمار الأفراد وقصرها ، بل بأمور هي من تدبير الله وصنعه ، وتحديده وتقديره
ولا ينبغي : أن نخضع ما يقدره الله من نجاح ، أو ما يدبره الله لنجاح : إلى موازيننا ، ولا أن نضبط إيقاعه بحسابات أعمارنا .
ومراعاة هذه الفائدة : أمر ضروري وهام . . ! !
وإلا فإننا بتعجلنا : قد نحفر قبر فشلنا بأيدينا ، ونستجلب للدعوة وأهلها الصعاب والعقبات ، وننسف جهود السابقين ، ونضطر إلى البدء _ من جديد ، بلا فائدة _ من أول الطريق الذي قطع فيه من سبقنا أشواطا بعيدة .
وعلى ذلك : فالتعجل ضد طبائع الأشياء أولا ، وضد السنن الإلهية في الدعوات ، وتكوين أفرادها بما يجعلهم مؤهلين للنجاح في حمل أمانتها ، وحسن أداء متطلباتها .
وفهم هذه الفائدة ، وحسن الإفادة منها ، وجدية الالتزام بها : يعين على عدم الوقوع بين براثن اليأس والإحباط ، ويساعد في هدوء الأعصاب ، وشمولية النظرة ، ودقة الأداء ، والإجادة فيه ، وتجنب الأخطاء ، وتحقيق المكاسب ، وضمان الوصول إلى الغايات بتوفيق الله تعالى .فصل في الهجرة الى رسول الله صلى الله عليه وسلم
واما الهجرة الى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعلم لم يبق منه سوى اسمه ومنهج لم تترك بنيات الطريق سوى رسمه ومحجة سفت عليها السوافي فطمست رسومها وغارت عليها الاعادي فغورت مناهلها وعيونها فسالكها غريب بين العباد فريد بين كل حي وناد بعيد على قرب المكان وحيد على كثرة الجيران مستوحش مما به يستانسون مستانس مما به يستوحشون مقيم اذا ظعنوا ظاعن اذا قطنوا منفرد في طريق طلبة لايقر قراره حتى يظفر به فهو الكائن معهم بجسده البائن منهم بمقصده نامت في طلب الهدى اعينهم وما ليل مطيته بنائم وقعدوا عن الهجرة النبوية وهو في طلبها مشمر قائم يعيبونه بمخالفة ارائهم ويزرون عليه ازراءه على جهالاتهم واهوائهم قد رجموا فيه الظنون واحدقوا فيه العيون وتربصوا به ريب المنون فتربصوا انا معكم متربصون قال رب احكم بالحق وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون * نحن واياكم نموت فما افلح عند الحساب من ندما *
والمقصود ان هذه الهجرة النبوية شانها شديد وطريقها على غير المعتاد بعيد بعيد على كسلان او ذي ملالة * اما على المشتاق فهو قريب
ولعمر الله ما هي الا نور يتلالا ولكن انت ظلامة وبدر اضاء مشارق الارض ومغاربها ولكن انت غيمة وقتامة ومنهل عذب صاف وانت كدرة ومبتدا لخير عظيم ولكن ليس عندك خبره
فاسمع الآن شان هذه الهجرة والدلالة عليها وحاسب ما بينك وبين الله هل انت من الهاجرين لها او المهاجرين اليها
تعريف الهجرة الى الرسول صلى الله عليه وسلم
فجد هذه الهجرة : سفر النفس في كل مسالة من مسائل الايمان ومنزل من منازل القلوب وحادثة من حوادث الاحكام الى معدن الهدى ومنبع النور الملتقى من فم الصادق المصدوق الذي وما ينطق عن الهوى ان هو الا وحي يوحى فكل مسالة طلعت عليها شمس رسالته والا فاقذف بها في بحر الظلمات وكل شاهد عدله هذا المزكي والا فعده من اهل الريب والتهمات فهذا حد هذه الهجرة
فما للمقيم في مدينة طبعه وعوائده القاطن في دار مرباه ومولده القائل : انا على طريقة آبائنا سالكون وانا بحبلهم متمسكون وانا على آثارهم مقتدون ولهذه الهجرة التي كلت عليهم واستند في طريقة نجاحه وفلاحه اليهم معتذرا بان رأيهم خير من رايه لنفسه وان ظنونهم وآراءهم اوثق من ظنه وحدسه .
ولو فتشت عن مصدر مقصود هذه الكلمة لوجدتها صادرة عن الاخلاد الى ارض البطالة متولدة بين الكسل وزوجه الملالة
هجرتان
والمقصود : ان هذه الهجرة فرض على كل مسلم وهي مقتضى شهادة ان محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم
كما ان الهجرة الاولى مقتضى شهادة ان لااله الاالله
وعن هاتين الهجرتين يسال كل عبد يوم القيامة وفي البرزخ ويطالب بها في الدنيا ودار البرزخ ودار القرار
قال قتاده : كلمتان يسال عنهما الاولون والاخرون : ماذا كنتم تعبدون وماذا اجبتم المرسلين
وهاتان الكلمتان هما مضمون الشهادتين وقد قال تعالى فلا وربك لايؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لايجدوا في انفسهم حرجا مما قضيت ويسملوا تسليما
فاقسم سبحانه باجل مقسم به وهو نفسه عز وجل على انه لايثبت لهم الايمان ولايكونون من اهله حتى يحكموا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جميع موارد النزاع في جميع ابواب الدين
فإن لفظة ما من صيغ العموم فانها موصلة تقتضي نفي الايمان او يوجد تحكيمه في جميع ما شجر بينهم .
ولم يقتصر على هذا حتى ضم اليه انشراح صدورهم بحكمه حيث لايجدون في انفسهم حرجا وهو الضيق والحصر من حكمه بل يقبلوا حكمه بالانشراح ويقابلوه بالتسليم لا انهم ياخدونه على اغماض ويشربونه على قذى فان هذا مناف للايمان بل لابد ان يكون اخذه بقبول ورضا وانشراح صدر .
ومتى اراد العبد ان يعلم هذا فلينظر في حاله ويطالع قلبه عند ورود حكمه على خلاف هواه وغرضه او على خلاف ما قلد فيه اسلافه من المسائل الكبار وما دونها بل الانسان على نفسه بصيرة ولو القى معاذيره .
فسبحان الله كم من حزازة في نفوس كثير من الناس من كثير من النصوص وبودهم ان لو لم ترد وكم من حرارة في اكبادهم منها وكم من شجى في حلوقهم منها ومن موردها ستبدو لهم تلك السرائر بالذي يسوء ويخزي يوم تبلى السرائر ثم لم يقتصر سبحانه على ذلك حتى ضم اليه قوله تعالى ويسلموا تسليما فذكر الفعل مؤكدا بمصدره القائم مقام ذكره مرتين وهو التسليم والخضوع له والانقياد لما حكم به طوعا ورضا وتسليما لاقهرا ومصابرة كما يسلم المقهور لمن قهره كرها بل تسليم عبد مطيع لمولاه وسيده الذي هو احب شئ اليه يعلم ان سعادته وفلاحه في تسليمه اليه ويعلم بانه اولى به من نفسه وابر به منها واقدر على تخليصها .
فمتى علم العبد هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واستسلم له وسلم اليه انقادت له كل علة في قلبه ورأى ان لاسعادة له الا بهذا التسليم والانقياد .
وليس هذا مما يحصل معناه بالعبارة بل هو امر انشق القلب واستقر في سويدائه لاتفي العبارة بمعناه ولا مطمع في حصوله بالدعوى والاماني وكل يدعى وصلا لليلى * وليلى لاتقر لهم بذلك
الحب بين العلم والحال
وفرق بين علم الحب وحال الحب فكثيرا ما بشتبه على العبد علم الشئ بحاله ووجوده وفرق بين المريض العارف بالصحة والاعتدال وهو مثخن بالمرض وبين الصحيح السليم وان لم يحسن وصف الصحة والعبارة عنها وكذلك فرق بين وصف الخوف والعلم به وبين حاله ووجوده
ما في الاية من تاكيد اتباع الرسول
وتامل تاكيده سبحانه لهدا المعنى المذكور في الآية بوجوه عديدة من التاكيد :
اولها : تصديرها بتضمن المقسم عليه للنفي وهو قوله لايؤمنون وهذا منهج معروف في كلام العرب اذا اقسموا على شئ منفى صدروا جملة القسم باداة نفي مثل هذه الاية ومثل مافي قول الصديق عمر رضي الله عنه لاها الله لايعمد الى اسد الله يقاتل عن الله ورسوله فيعطيك سلبه
وقول الشاعر : فلا وابيك ابنه العامري * لايدعى القوم اني افر
وقال الاخر * فلا والله لايلقي لما بي ولا لما بهم ابدا دواء * وهذا في كلامهم اكثر من ان يذكر
وتامل جمل القسم التي في القران المصدرة بحرف النفي كيف تجد المقسم عليه منفيا ومتضمنا للنفي ولايحزم هذا قوله تعالى فلا اقسم بمواقع النجوم وانه لقسم لو تعلمون عظيم انه لقران كريم
فانه لما كان المقصود بهذا القسم نفي ما قاله الكفار في القران : من انه شعر او كهانه او اساطير الاولين صدر القول باداة النفي ثم اثبت له ما قالوه فتضمنت الاية ان ليس الامر كما يزعمون ولكنه قران كريم
ولهذا صرح بالامرين : النفي والاثبات مثل قوله تعالى فلا اقسم بالخنس الجوار الكنس والليل اذا عسعس والصبح اذا تنفس انه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم امين وما صاحبكم بمجنون ولقد رآه بالافق المبين وما هو على الغيب بضنين وما هو بقول شيطان رجيموكذلك قوله لا اقسم بيوم القيامة ولا اقسم بالنفس اللوامة ايحسب الانسان الن نجمع عظامه بلى قادرين على ان نسوي بنانه
والمقصود : ان افتتاح هذا القسم باداة النفي يقتضي تقوية المقسم عليه وتاكيده وشدة انتقائه
وثانيها : تاكيده بنفس القسم
وثالثها : تاكيده بالمقسم به وهو اقسامه بنفسه لا بشئ من مخلوقاته وهو سبحانه يقسم بنفسه تارة وبمخلوقاته تارة
ورابعها : تاكيده بانتفاء الحرج وهو وجود التسليم
وخامسها : تاكيد الفعل بالمصدر وما هذا التاكيد الا لشدة الحاجة الى هذا الامر العظيم وانه مما يعتني به ويقرر في نفوس العباد بما هو من ابلغ انواع التقرير
حب الرسول صلى الله عليه وسلم
وقال تعالى النبي اولى بالمؤمنين من انفسهم وهو دليل على ان من لم يكن الرسول اولى به من نفسه فليس من المؤمنين وهذه الاولوية تتضمن امورا
منها : ان يكون احب الى العبد من نفسه لان الاولوية اصلها الحب ونفس العبد احب له من غيره ومع هذا يجب ان يكون الرسول اولى به منها واحب اليه منها فبذلك يحصل له اسم الايمان
ويلزم من هذه الاولوية والمحبة كمال الانقياد والطاعة والرضا والتسليم وسائر لوازم المحبة من الرضا بحكمه والتسليم لامره وايثاره على ما سواه .
ومنها ان لا يكون للعبد حكم على نفسه اصلا بل الحكم على نفسه للرسول - صلى الله عليه وسلم - يحكم عليها اعظم من حكم السيد على عبده او الوالد على ولده فليس له في نفسه تصرف قط الا ما تصرف فيه الرسول الذي هو اولى به منها .
فيا عجبا كيف تحصل هذه الاولوية لعبد قد عزل ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن منصب التحكيم ورضي بحكم غيره واطمان اليه اعظم .
من اطمئنانه الى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وزعم ان الهدى لايلتقي من مشكاته وانما يتلقى من دلالة العقول وان الذي جاء به لايفيد اليقين الى غير ذلك من الاقوال التي تتضمن الاعراض عنه وعما جاء به والحوالة في العلم النافع الى غيره ذلك هو الضلال البعيد ولا سبيل الى ثبوت هده الاولوية الا بعزل كل ماسواه وتوليته في كل شئ وعرض ما قاله كل احد سواه على ماجاء به فان شهد له بالصحة قبله وان شهد له بالبطلان رده وان لم تتبين شهادته له لابصحة ولا ببطلان جعله بمنزلة احاديث اهل الكتاب ووقفه حتى يتبين أي الامرين اولى به .
فمن سلك هذه الطريقة استقام له سفر الهجرة واستقام له علمه وعمله واقبلت وجوه الحق اليه من كل جهة
ادعياء المحبة
ومن العجب ان يدعي حصول هذه الاولوية والمحبة التامة من كان سعيه واجتهاده ونصبه في الاشتغال باقوال غيره وتقريرها والغضب والمحبة لها والرضا بها والتحاكم اليها وعرض ما قاله الرسول عليها فان وافقها قبله وان خالفها التمس وجوه الحيل وبالغ في رده ليا واعراضا
الاعراض عن الرسول
كما قال تعالى وان تلووا او تعرضوا فان الله كان بما تعملون خبيرا
وقد اشتملت هده الاية على اسرار عظيمة يجب التنبيه على بعضها لشدة الحاجة اليها
قال تعالى يا ايها الذين امنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على انفسكم او الوالدين والاقربين ان يكن غنيا او فقيرا فالله اولى بهما فلا تتبعوا الهوى ان تعدلوا وان تلووا او تعرضوا فان الله كان بما تعملون خبيرا .
فامر سبحانه بالقيام بالقسط وهو العدل في هذه الاية وهذا امر بالقيام به في حق كل احد عدوا كان او وليا واحق ما قام له العبد بقصد الاقوال والاراء والمذاهب اذ هي متعلقة بامر الله وخبره
فالقيام فيها بالهوى والمعصية مضاد لامر الله مناف لما بعث به رسوله
والقيام فيها بالقسط وظيفة خلفاء الرسول في امته وامنائه بين اتباعه ولايستحق اسم الامانة الا من قام فيها بالعدل المحض نصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولعباده واولئك هم الوارثون حقا
لامن يجعل اصحابه ونحلته ومذهبه معيارا على الحق وميزانا له يعادي من خالفه ويوالي من وافقه بمجرد موافقته ومخالفته فأين هذا من القيام بالقسط الذي فرضه الله على كل احد وهو في هدا الباب اعظم فرضا واكبر وجوبا .
شهداء الله
ثم قال شهداء الله الشاهد هو المخبر فان اخبر بحق فهو شاهد عدل مقبول وان اخبر بباطل فهو شاهد زور
وامر تعالى ان يكون شهيدا له مع القيام بالقسط وهذا يتضمن ان تكون الشهادة بالقسط وان تكون لله لا لغيره
وقال في الاية الاخرى كونوا قوامين لله شهداء بالقسط فتضمنت الآيتان امورا اربعة
احدهما : القيام بالقسط
الثاني : ان يكون لله
الثالث : الشهادة بالقسط
الرابع : ان تكون لله
واحتضنت آية النساء بالقسط والشهادة لله
وآية المائدة بالقيام لله والشهادة بالقسط لسر عجيب من اسرار القران ليس هذا موضع ذكره
ثم قال تعالى ولو على انفسكم او الوالدين او الاقربين فامر سبحانه ان يقام بالقسط ويشهد على كل احد ولو كان احب الناس الى العبد فيقوم بالقسط على نفسه ووالديه الذين هما اصله واقاربه الذين هم اخص به والصديق من سائر الناس فان كان ما في العبد من محبة لنفسه ولوالديه واقربيه يمنعه من القيام عليهم بالحق ولاسيما اذا كان الحق لمن يبغضه ويعاديه قبلهم فانه لا يقوم به في هذا الحال الا من كان الله ورسوله احب اليه من كل ما سواهما .
وهذا يمتحن به العبد ايمانه فيعرف منزلة الايمان من قلبه ومحله منه وعكس هذا عدل العبد في اعدائه ومن يجفوه فانه لاينبغي ان يحمله بغضه لهم ان يحيف عليهم كما لا ينبغي ان يحمله حبه لنفسه ووالديه واقاربه على ان يترك القيام عليهم بالقسط فلا يدخله ذلك البغض في باطل ولا يقصر به هذا الحب عن الحق كما قال السلف : العادل هو الذي ذا غضب لم يدخله غضبه في باطل واذا رضي لم يخرجه رضاه عن الحق .
اشتملت الايتان على هذين الحكمين وهما القيام بالقسط والشهادة به على الاولياء والاعداء
ثم قال تعالى ان يكن غنيا وفقيرا فالله اولى بهما منكم هو ربهما ومولاهما وهما عبيده كما انكم عبيده فلا تحابوا غنيا لغناه ولا فقيرا لفقره فان الله اولى بهما منكم
وقد يقال فيه معنى اخر احسن من هذا وهو انهم ربما خافوا من القيام بالقسط واداء الشهادة على الغني والفقير
اما الغني فخوفا على ماله واما الفقير فلا عدامه وانه لاشئ له فتتساهل النفوس في القيام عليه بالحق فقيل لهم : والله اولى بالغني والفقير منكم اعلم بهذا وارحم بهذا فلا تتركوا اداء الحق والشهادة على غني ولا فقير
ثم قال تعالى فلا تتبعوا الهوى ان تعدلوا نهاهم عن اتباع الهوى الحامل على ترك العدل
وقوله تعالى ان تعدلوا منصوب الموضع لانه مفعول لاجله وتقديره عند البصريين كراهية ان تعدلوا او حذر ان تعدلوا فيكون اتباعكم للهوى كراهية العدل او فرارا منه وعلى قول الكوفيين التقدير ان لا تعدلوا وقول البصريين احسن واظهر اللي والاعراض
ثم قال تعالى وان تلووا او تعرضوا فان الله كان بما تعملون خبيرا ذكر سبحانه السببين الموجبين لكتمان الحق محذرا منهما ومتوعدا عليهما
احدهما : اللي
والاخر : الاعراض
فإن الحق اذا ظهرت حجته ولم يجد من يروم دفعها طريقا الى دفعها اعرض عنها وامسك عن ذكرها فكان شيطانا اخرس وتارة يلويها ويحرفها
اللي مثال الفتل وهو التحريف وهو نوعان : لي في اللفظ ولي في المعنى
فاللي في اللفظ ان يلفظ بها على وجه لايستلزم الحق اما بزيادة لفظه اونقصانها او ابدالها بغيرها ولي في كيفية ادائها وايهام السامع لفظا وارادة غيره كما كان اليهود يلوون السنتهم بالسلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيره فهذا احد نوعي اللي
والنوع الثاني منه : لي المعنى وهو تحريفه وتاويل اللفظ على خلاف مراد المتكلم وبجهالة مالم يرده أو يسقط منه لبعض المراد به ونحو هذا من لي المعاني فقال تعالى : وان تلووا او تعرضوا فان الله كان بما تعملون خبيرا
ولما كان الشاهد مطالبا باداء الشهادة على وجهها فلا يكتمها ولا يغيرها كان الاعراض نظير الكتمان واللي نظير تغييرها وتبديلها
فتأمل ما تحت هذه الاية من كنوز العلم
والمقصود : ان الواجب الذي لايتم الايمان بل لايحصل مسمى الايمان الابه مقابلة النصوص بالتلقي والقبول والاظهار لها ودعوة الخلق اليها ولا تقابل بالاعتراض تارة وباللي اخرى
الخيرة لله
وقال تعالى وما كان لمؤمن ولا مؤمنة اذا قضى الله ورسوله امرا ان يكون لهم الخيرة من امرهم فدل هذا على انه إذا ثبت لله ورسوله في كل مسالة من المسائل حكم طلبي او خبري فانه ليس لاحد ان يتخير لنفسه غير ذلك الحكم فيذهب اليه وان ذلك ليس لمؤمن ولامؤمنة اصلا فدل على ان ذلك مناف للايمان
موقف الائمة من السنة
وقد حكى الشافعي رضي الله تعالى عنه اجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم على ان من استبانت له سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن له ان يدعها لقول احد ولم يسترب احد من ائمة الاسلام في صحة ماقاله الشافعي رضي الله تعالى عنه .
فان الحجة الواجب اتباعها على الخلق كافة انما هو قول المعصوم الذي لاينطق عن الهوى واما اقوال غيره فغايتها ان تكون سائغة الاتباع فضلا عن ان يعارض بها النصوص وتقدم عليها عياذا بالله من الخذلان وقال تعالى : واطيعوا الله واطيعوا الرسول واحذروا فان توليتم فاعلموا انما على رسولنا البلاغ المبين .
فاخبر سبحانه ان الهداية في طاعة الرسول لا في غيرها فانه معلق بالشرط فينتفي بانتفائه وليس هذا من باب دلالة المفهوم كما يغلط فيه كثير من الناس ويظن انه محتاج في تقريره الدلالة منه لاتقرير كون المفهوم حجة بل هذا من الاحكام التي ترتبت على شروط وعلقت فلا وجود لها بدون شروطها اذ ما علق على الشرط فهو عدم عند عدمه والا لم يكن شرطا له اذا ثبت هذا : فالاية نص على انتفاء الهداية عند عدم طاعته.(1/108)
وفي اعادة الفعل في قوله تعالى : واطيعوا الله واطيعوا الرسول دون الاكتفاء بالفعل الاول سر لطيف وفائدة جليلة سنذكرها عن قريب ان شاء الله تعالى
وقوله تعالى فإن تولوا فانما عليه ما حمل
الفعل للمخاطبين واصله فان تتولوا فحذفت احدى التاءين تخفيفا
والمعنى : انه قد حمل اداء الرسالة وتبليغها وحملتم طاعته والانقياد له والتسليم
كما ذكره البخاري في صحيحة عن الزهري قال : من الله البيان وعلى الرسول البلاغ وعلينا التسليم
فان تركتم انتم ما حملتموه من الايمان والطاعة فعليكم لا عليه
فانه لم يحمل ايمانكم وانما حمل تبليغكم
وانما حمل اداء الرسالة اليكم وان تطيعوه تهتدوا وما على الرسول الا البلاغ المبين ليس عليه هداهم وتوفيقهم
وقال تعالى يا ايها الذين امنوا اطيعوا الله واطيعوا الرسول واولي الامر منكم فان تنازعتم في شئ فردوه الى الله والرسول ان كنتم تؤمنون بالله واليوم الاخر ذلك خير واحسن تاويلا
النداء بالايمان
فامر سبحانه بطاعته وطاعة رسوله
وافتتح الاية بالنداء باسم الايمان المشعر بان المطلوب منهم من موجبات الاسم الذي نودوا به وخوطبوا به كما يقال : يا من انعم الله عليه واغناه من فضله احسن كما احسن الله اليك : ويا ايها العالم علم الناس ما ينفعهم ويا ايها الحاكم احكم بالحق ونظائره
ولهذا كثيرا ما يقع الخطاب في القران بالشرائع كقوله تعالى ياايها الذين امنوا كتب عليكم الصيام * يا ايها الذين امنوا اذا نودي للصلاة يا ايها الذين امنوا اوفوا بالعقود
ففي هذا اشارة الى انكم إن كنتم مؤمنين فالايمان يقتضي منكم كذا وكذا فانه من موجبات الايمان وتمامه ثم قال تعالى : يا ايها الذين امنوا اطيعوا الله واطيعوا الرسول واولي الامر منكم فقرن بين طاعة الله والرسول وطاعة اولي الامر وسلط عليهما عاملا واحدا وقد كان ربما يسبق الى الوهم ان الامر يقتضي عكس هذا فانه من يطع الرسول فقد اطاع الله ولكن الواقع هنا في الاية المناسب
وتحته سر لطيف وهو دلالته على ان ما يأمر به رسوله يجب طاعته فيه وان لم يكن مامورا به بعينه في القران طاعة الرسول مفردة ومقرونة فلا يتوهم متوهم ان ما يامر به الرسول ان لم يكن في القران والا فلا تجب طاعته فيه
كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - يوشك رجل شبعان متكئ على اريكته ياتيه الامر من امري فيقول بيننا وبينكم كتاب الله تعالى ما وجدنا فيه من شئ اتبعناه الا واني اوتيت الكتاب ومثله معه
ــــــــــــ(1/109)
في ذكرى الهجرتين الأولى والثانية
زاد المهاجر لابن القيم
لما كثر المسلمون وخاف منهم الكفار اشتد أذاهم له - صلى الله عليه وسلم - وفتنتهم إياهم فأذن لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الهجرة إلى الحبشة وقال (إن بها ملكا لا يظلم الناس عنده) فهاجر من المسلمين اثنا عشر رجلا وأربع نسوة منهم عثمان بن عفان وهو أول من خرج ومعه زوجته رقية بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأقاموا في الحبشة في أحسن جوار فبلغهم أن قريشا أسلمت وكان هذا الخبر كذبا فرجعوا إلى مكة فلما بلغهم أن الأمر أشد مما كان رجع منهم من رجع ودخل جماعة فلقوا من قريش أذى شديدا وكان ممن دخل عبد الله بن مسعود.
الحصر في الشعب ثم وفاة خديجة فعمه فخروجه للطائف
ثم أذن لهم في الهجرة ثانيا إلى الحبشة فهاجر من الرجال ثلاثة وثمانون رجلا إن كان فيهم عمار فإنه يشك فيه ومن النساء ثمان عشرة امرأة فأقاموا عند النجاشي على أحسن حال فبلغ ذلك قريشا فأرسلوا عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة في جماعة ليكيدوهم عند النجاشي فرد الله كيدهم في نحورهم فاشتد أذاهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحصروه وأهل بيته في الشعب شعب أبي طالب ثلاث سنين وقيل سنتين وخرج من الحصر وله تسع وأربعون سنة وقيل ثمان وأربعون سنة وبعد ذلك بأشهر مات عمه أبو طالب وله سبع وثمانون سنة وفي الشعب ولد عبد الله بن عباس فنال الكفار منه أذى شديدا ثم ماتت خديجة بعد ذلك بيسير فاشتد أذى الكفار له فخرج إلى الطائف هو وزيد بن حارثة يدعو إلى الله تعالى وأقام به أياما فلم يجيبوه وآذوه وأخرجوه وقاموا له سماطين فرجموه بالحجارة حتى أدموا كعبيه فانصرف عنهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - راجعا إلى مكة وفي طريقه لقي عداسا النصراني فآمن به وصدقه وفي طريقه أيضا بنخلة صرف إليه نفر من الجن سبعة من أهل نصيبين فاستمعوا القرآن وأسلموا وفي طريقه تلك أرسل الله إليه ملك الجبال يأمره بطاعته وأن يطبق على قومه أخشبي مكة وهما جبلاها إن أراد فقال: (لا بل أستأني بهم لعل الله يخرج من أصلابهم من يعبده لا يشرك به شيئا).
الإسراء
وفي طريقه دعا بذلك الدعاء المشهور (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي) الحديث ثم دخل مكة في جوار المطعم بن عدي ثم أسري بروحه وجسده إلى المسجد الأقصى ثم عرج به إلى فوق السموات بجسده وروحه إلى الله عز وجل فخاطبه وفرض عليه الصلوات وكان ذلك مرة واحدة هذا أصح الأقوال.
وقيل كان ذلك مناما وقيل بل يقال أسري به ولا يقال يقظة ولا مناما.
وقيل كان الإسراء إلى بيت المقدس يقظة وإلى السماء مناما. وقيل : كان الإسراء مرتين مرة يقظة ومرة مناما.
وقيل بل أسري به ثلاث مرات وكان ذلك بعد المبعث بالاتفاق.
وأما ما وقع في حديث شريك أن ذلك كان قبل أن يوحى إليه فهذا مما عد من أغلاط شريك الثمانية وسوء حفظه لحديث الإسراء. وقيل إن هذا كان إسراء المنام قبل الوحي. وأما إسراء اليقظة فبعد النبوة وقيل بل الوحي هاهنا مقيد وليس بالوحي المطلق الذي هو مبدأ النبوة والمراد قبل أن يوحى إليه في شأن الإسرار فأسري به فجأة من غير تقدم إعلام والله أعلم.
دعوة القبائل والهجرة إلى المدينة
فأقام - صلى الله عليه وسلم - بمكة ما أقام يدعو القبائل إلى الله تعالى ويعرض نفسه عليهم في كل موسم أن يؤووه حتى يبلغ رسالة ربه ولهم الجنة فلم تستجب له قبيلة وادخر الله ذلك كرامة للأنصار فلما أراد الله تعالى إظهار دينه وإنجاز وعده ونصر نبيه وإعلاء كلمته والانتقام من أعدائه ساقه إلى الأنصار لما أراد بهم من الكرامة فانتهى إلى نفر منهم ستة وقيل ثمانية وهم يحلقون رءوسهم عند عقبة منى في الموسم فجلس إليهم ودعاهم إلى الله وقرأ عليهم القرآن فاستجابوا لله ورسوله ورجعوا إلى المدينة فدعوا قومهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم ولم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأول مسجد قرئ فيه القرآن بالمدينة مسجد بني زريق ثم قدم مكة في العام القابل اثنا عشر رجلا من الأنصار منهم خمسة من الستة الأولين فبايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بيعة النساء عند العقبة ثم انصرفوا إلى المدينة فقدم عليه في العام القابل منهم ثلاثة وسبعون رجلا وامرأتان وهم أهل العقبة الأخيرة فبايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم وأنفسهم فترحل هو وأصحابه إليهم واختار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم اثني عشر نقيبا وأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه في الهجرة إلى المدينة فخرجوا أرسالا متسللين أولهم فيما قيل : أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي وقيل مصعب بن عمير فقدموا على الأنصار في دورهم فآووهم ونصروهم وفشا الإسلام بالمدينة ثم أذن الله لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الهجرة فخرج من مكة يوم الاثنين في شهر ربيع الأول وقيل في صفر وله إذ ذاك ثلاث وخمسون سنة ومعه أبو بكر الصديق وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر ودليلهم عبد الله بن الأريقط الليثي فدخل غار ثور هو وأبو بكر فأقاما فيه ثلاثا ثم أخذا على طريق الساحل فلما انتهوا إلى المدينة وذلك يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول وقيل غير ذلك نزل بقباء في أعلى المدينة على بني عمرو بن عوف.
وقيل نزل على كلثوم بن الهدم. وقيل على سعد بن خيثمة والأول أشهر فأقام عندهم أربعة عشر يوما وأسس مسجد قباء ثم خرج يوم الجمعة فأدركته الجمعة في بني سالم فجمع بهم بمن كان معه من المسلمين وهم مائة ثم ركب ناقته وسار وجعل الناس يكلمونه في النزول عليهم ويأخذون بخطام الناقة فيقول (خلوا سبيلها فإنها مأمورة) فبركت عند مسجده اليوم وكان مربدا لسهل وسهيل غلامين من بني النجار فنزل عنها على أبي أيوب الأنصاري ثم بنى مسجده موضع المربد بيده هو وأصحابه بالجريد واللبن ثم بنى مسكنه ومساكن أزواجه إلى جنبه وأقربها إليه مسكن عائشة ثم تحول بعد سبعة أشهر من دار أبي أيوب إليها وبلغ أصحابه بالحبشة هجرته إلى المدينة فرجع منهم ثلاثة وثلاثون رجلا فحبس منهم بمكة سبعة وانتهى بقيتهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة ثم هاجر بقيتهم في السفينة عام خيبر سنة سبع.
ــــــــــــ(1/110)
فوائد ودروس وعبر من هجرة سيد البشر
1 ـ الهجرة من سنن الرسل الكرام :
إن الهجرة في سبيل الله سنة قديمة ، ولم تكن هجرة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - بدعاً في حياة الرسل لنصرة عقائدهم ، فلئن كان قد هاجر من وطنه ومسقط رأسه من أجل الدعوة حفاظاً عليها وإيجاد بيئة خصبة تتقبلها وتستجيب لها وتذود عنها ، فقد هاجر عدد من إخوانه من الأنبياء قبله من أوطانهم لنفس الأسباب التي دعت نبينا للهجرة .
وذلك أن بقاء الدعوة في أرض قاحلة لا يخدمها بل يعوق مسارها ويشل حركتها ، وقد يعرضها للانكماش داخل أضيق الدوائر ، وقد قص علينا القرآن الكريم نماذج من هجرات الرسل وأتباعهم من الأمم الماضية لتبدو لنا في وضوح سنة من سنن الله في شأن الدعوات يأخذ بها كل مؤمن من بعدهم إذا حيل بينه وبين إيمانه وعزته، واستخف بكيانه ووجوده واعتدي على مروءته وكرامته(1).
2 ـ الصراع بين الحق والباطل صراع قديم وممتد :
وهو سنة إلهية نافذة ، قال عز وجل : ? الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولوا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ? (سورة الحج ، الآية:40).
ولكن هذا الصراع معلوم العاقبة : ? كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز ? (المجادلة: الآية21) .
3ـ مكر خصوم الدعوة بالداعية أمر مستمر متكرر :
سواء عن طريق الحبس أو القتل أو النفي والإخراج من الأرض ، وعلى الداعية أن يلجأ إلى ربه وأن يثق به ويتوكل عليه ويعلم أن المكر السيء لا يحيق إلا بأهله(2)، كما قال عز وجل: ? وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين? (سورة الأنفال: الآية 30) .
ومن مكر أهل الباطل وخصوم الدعوة استخدام سلاح المال لإغراء النفوس الضعيفة للقضاء على الدعوة والدعاة ولذلك رصدوا مائة ناقة لمن يأتي بأحد المهاجرين حياً أو ميتاً، فتحرك الطامعون ومنهم سراقة ، الذي عاد بعد هذه المغامرة الخاسرة مادياً بأوفر ربح وأطيب رزق، وهو رزق الإيمان، وأخذ يعمي الطريق على الطامعين الآخرين الذين اجتهدوا في الطلب، وهكذا يرد الله عن أوليائه والدعاة(3) ، قال تعالى: ? إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون ? (الأنفال : الآية 36) .
4ـ الإيمان بالمعجزات الحسية :
وفي هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وقعت معجزات حسية، وهي دلائل ملموسة على حفظ الله ورعايته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ومن ذلك ـ على ما روي ـ نسيج العنكبوت على فم الغار ، ومنها ما جرى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أم معبد ، وما جرى له مع سراقة، ووعده إياه بأن يلبس سواري كسرى، فعلى الدعاة أن لا يتنصلوا من هذه الخوارق، بل يذكروها ما دامت ثابتة بالسنة النبوية، على أن ينبهوا الناس على أن هذه الخوارق هي من جملة دلائل نبوته ورسالته عليه السلام(4).
5 ـ جواز الاستعانة بالكافر المأمون :
ويجوز للدعاة أن يستعينوا بمن لا يؤمن بدعوتهم ما داموا يثقون بهم ويأتمنوهم على ما يستعينون به معهم ، فقد رأينا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر استأجرا مشركاً ليدلهم على طريق الهجرة ودفعا إليه راحلتيهما وواعداه عند غار ثور، وهذه أمور خطيرة أطلعاه عليها ، ولا شك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه وثقا به وأمناه ، مما يدل على أن الكافر أو العاصي أو غير المنتسب إلى الدعاة قد يوجد عند هؤلاء ما يستدعي وثوق الدعاة بهم ، كأن تربطهم رابطة القرابة أو المعرفة القديمة أو الجوار أو عمل معروف كان قد قدمه الداعية لهم . أو لأن هؤلاء عندهم نوع جيد من الأخلاق الأساسية مثل الأمانة وحب عمل الخير إلى غير ذلك من الأسباب ، والمسألة تقديرية يترك تقديرها إلى فطنة الداعي ومعرفته بالشخص(5).
6 ـ دور المرأة في الهجرة :
وقد لمعت في سماء الهجرة أسماء كثيرة كان لها فضل كبير ونصيب وافر من الجهاد : منها عائشة بنت أبي بكر الصديق التي حفظت لنا القصة ووعتها وبلغتها للأمة ، وأم سلمة المهاجرة الصبور ، وأسماء ذات النطاقين(6) التي ساهمت في تموين الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه في الغار بالماء والغذاء، وكيف تحملت الأذى في سبيل الله ؟ فقد حدثتنا عن ذلك فقالت : لما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر رضي الله عنه أتانا نفر من قريش ، فيهم أبو جهل بن هشام ، فوقفوا على باب أبي بكر ، فخرجت إليهم فقالوا: أين أبوك يا بنت أبي بكر؟ قالت: قلت: لا أدري والله أين أبي؟ قالت: فرفع أبو جهل يده ـ وكان فاحشاً خبيثاً ـ فلطم خدي لطمة طرح منها قرطي قالت: ثم انصرفوا)(7).
فهذا درس من أسماء رضي الله عنها تعلمه لنساء المسلمين جيلاً بعد جيل كيف تخفي أسرار المسلمين من الأعداء ، وكيف تقف صامدة شامخة أمام قوى البغي والظلم؟ وأما درسها الثاني البليغ ، فعندما دخل عليها جدها أبو قحافة ، وقد ذهب بصره، فقال : والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه ، قالت : كلا يا أبت، ضع يدك على هذا المال. قالت: فوضع يده عليه ، فقال: لا بأس ، إذا كان ترك لكم هذا فقد أحسن، وفي هذا بلاغ لكم . ولا والله ما ترك لنا شيئاً ، ولكني أردت أن أسكن الشيخ بذلك)(8).
وبهذه الفطنة والحكمة سترت أسماء أباها ، وسكنت قلب جدها الضرير ، من غير أن تكذب ، فإن أباها قد ترك لهم حقاً هذه الأحجار التي كومتها لتطمئن لها نفس الشيخ! إلا أنه قد ترك لهم معها إيماناً بالله لا تزلزله الجبال، ولا تحركه العواصف الهوج ، ولا يتأثر بقلة أو كثرة في المال ، وورثهم يقيناً وثقه به لا حد لها، وغرس فيهم همة تتعلق بمعالي الأمور ، ولا تلتفت إلى سفاسفها ، فضرب بهم للبيت المسلم مثالاً عز أن يتكرر ، وقل أن يوجد نظيره.
لقد ضربت أسماء رضي الله عنها بهذه المواقف لنساء وبنات المسلمين مثلاً هن في أمس الحاجة إلى الاقتداء به، والنسج على منواله .
وظلت أسماء مع إخوتها في مكة ، لا تشكو ضيقاً ، ولا تظهر حاجة ، حتى بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - زيد بن حارثة وأبا رافع مولاه ، وأعطاهما بعيرين وخمسمائة درهم إلى مكة فقدما عليه بفاطمة وأم كلثوم ابنتيه ، وسودة بنت زمعة زوجه، وأسامة بن زيد ، وأم بركة المكناة بأم أيمن ، وخرج معهما عبدالله بن أبي بكر بعيال أبي بكر ، فيهم عائشة وأسماء ، فقدموا المدينة ، فأنزلهم في بيت حارثة بن النعمان(9).
7 ـ أد الأمانة إلى من ائتمنك :
كانت أمانات المشركين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم:
وفي إيداع المشركين ودائعهم عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع محاربتهم له وتصميمهم على قتله دليل باهر على تناقضهم العجيب الذي كانوا واقعين فيه، ففي الوقت الذي كانوا يكذبونه ويزعمون أنه ساحر أو مجنون أو كذاب لم يكونوا يجدون فيمن حولهم من هو خير منه أمانة وصدقاً ، فكانوا لا يضعون حوائجهم ولا أموالهم التي يخافون عليها إلا عنده! وهذا يدل على أن كفرانهم لم يكن بسبب الشك لديهم في صدقه ، وإنما بسبب تكبرهم واستعلائهم على الحق الذي جاء به ، وخوفاً على زعامتهم وطغيانهم(10) ، وصدق الله العظيم : ? قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ? (سورة الأنعام: الآية33).
وفي أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - لعلي رضي الله عنه بتأدية هذه الأمانات لأصحابها في مكة ، رغم هذه الظروف الشديدة التي كان من المفروض أن يكتنفها الاضطراب ، بحيث لا يتجه التفكير إلا إلى إنجاح خطة هجرته فقط، رغم ذلك فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما كان لينسى أو ينشغل عن رد الأمانات إلى أهلها، حتى ولو كان في أصعب الظروف التي تنسي الإنسان نفسه فضلاً عن غيره(11).
8 ـ اليد العليا في الدعوة خير من اليد السفلى :
لم يقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يركب الراحلة حتى أخذها بثمنها من أبي بكر رضي الله عنه واستقر الثمن ديناً بذمته ، وهذا درس واضح بأن حملة الدعوة ما ينبغي أن يكونوا عالة على أحد في وقت من الأوقات ، فهم مصدر العطاء في كل شيء .
إن يدهم إن لم تكن العليا فلن تكن السفلى ، وهكذا يصر عليه السلام أن يأخذها بالثمن وسلوكه ذلك هو الترجمة الحقة لقوله تعالى: ? وما أسالكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين ? (سورة الشعراء: الآية109) .
إن الذين يحملون العقيدة والإيمان ويبشرون بهما ما ينبغي أن تمتد أيديهم إلى أحد ـ إلا الله ـ لأن هذا يتناقض مع ما يدعون إليه وقد تعود الناس أن يعوا لغة الحال لأنها أبلغ من لغة المقال ، وما تأخر المسلمون وأصابهم ما أصابهم من الهوان إلا يوم أصبحت وسائل الدعوة والعاملين بها خاضعة للغة المادة ، ينتظر الواحد منهم مرتبة ، ويومها تحول العمل إلى عمل مادي فقد الروح والحيوية والوضاءة ، وأصبح للأمر بالمعروف موظفون ، وأصبح الخطباء موظفين ، وأصبح الأئمة موظفين .
إن الصوت الذي ينبعث من حنجرة وراءها الخوف من الله والأمل في رضاه غير الصوت الذي ينبعث ليتلقى دراهم معدودة ، فإذا توقفت توقف الصوت، وقديماً قالوا: ليست النائحة كالثكلى ولهذا قلَّ التأثيرُ وبعدَ الناسُ عن جادَّةِ الصوابِ(12).
9 ـ عفة الداعية عن أموال الناس :
لما عفا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن سراقة عرض عليه سراقة المساعدة فقال: (وهذه كنانتي فخذ منها سهماً فإنك ستمر بإبلي وغنمي في موضع كذا وكذا فخذ منها حاجتك فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا حاجة لي فيها)(13).
وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ ، قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا أَنَا عَمِلْتُهُ أَحَبَّنِي اللَّهُ ، وَأَحَبَّنِي النَّاسُ ، قَالَ : ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبُّكَ اللَّهُ ، وَازْهَدْ فِيمَا عِنْدَ النَّاسِ يُحِبُّكَ النَّاسُ "رواه ابن مجاة وغيره وهو حديث صحيح لغيره
فحين يزهد الدعاة فيما عند الناس يحبهم الناس ، وحين يطمعون في أموال الناس ينفر الناس عنهم ، وهذا درس بليغ للدعاة إلى الله تعالى(14).
10 ـ جندية منقطعة النظير:
تظهر أثر التربية النبوية في جندية أبي بكر الصديق وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما ، فأبو بكر رضي الله عنه عندما أراد أن يهاجر إلى المدينة وقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحباً) فقد بدأ في الإعداد والتخطيط للهجرة (فابتاع راحلتين واحتبسهما في داره يعلفهما إعداداً لذلك) وفي رواية البخاري، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر ـ وهو الخبط ـ أربعة أشهر) . لقد كان يدرك بثاقب بصره رضي الله عنه وهو الذي تربى ليكون قائداً ، أن لحظة الهجرة صعبة قد تأتي فجأة ولذلك هيأ وسيلة الهجرة ، ورتب تموينها ، وسخر أسرته لخدمة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وعندما جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخبره أن الله قد أذن له في الخروج والهجرة، بكا من شدة الفرح وتقول عائشة رضي الله عنها في هذا الشأن : فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحداً يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ , إنها قمة الفرح البشري؛ أن يتحول الفرح إلى بكاء ، كما قال الشاعر عن هذا :
ورد الكتاب من الحبيب بأنه سيزورني فاستعبرت أجفاني
غلب السرور علي حتى إنني من فرط ما قد سرني أبكاني
يا عين صار الدمع عندك عادة تبكين من فرح ومن أحزاني
فالصديق رضي الله عنه يعلم أن معنى هذه الصحبة ، أنه سيكون وحده برفقة رسول رب العالمين بضعة عشر يوماً على الأقل وهو الذي سيقدم حياته لسيده وقائده وحبيبه المصطفى - صلى الله عليه وسلم - فأي فوز في هذا الوجود يفوق هذا الفوز : أن يتفرد الصديق وحده من دون أهل الأرض ومن دون الصحب جميعاً برفقة سيد الخلق وصحبته كل هذه المدة(15)، وتظهر معاني الحب في الله في خوف أبي بكر وهو في الغار من أن يراهما المشركون ليكون الصديق مثلاً لما ينبغي أن يكون عليه جندي الدعوة الصادق مع قائده الأمين حين يحدق به الخطر من خوف وإشفاق على حياته؛ فما كان أبو بكر ساعتئذ بالذي يخشى على نفسه الموت، ولو كان كذلك لما رافق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذه الهجرة الخطيرة وهو يعلم أن أقل جزائه القتل إن أمسكه المشركون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكنه كان يخشى على حياة الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - ، وعلى مستقبل الإسلام إن وقع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في قبضة المشركين(16) ، ويظهر الحس الأمني الرفيع للصديق في هجرته مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في مواقف كثيرة منها؛ حين أجاب السائل : من هذا الرجل الذي بين يديك؟ فقال: هذا هاد يهديني السبيل ، فظن السائل بأن الصديق يقصد الطريق، وإنما كان يقصد سبيل الخير ، وهذا يدل على حسن استخدام أبي بكر للمعاريض فراراً من الحرج أو الكذب(17) وفي إجابته للسائل تورية وتنفيذ للتربية الأمنية التي تلقاها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لأن الهجرة كانت سراً وقد أقره الرسول - صلى الله عليه وسلم - على ذلك(18) ، وفي موقف علي بن أبي طالب مثال للجندي الصادق المخلص لدعوة الإسلام ، حيث فدى قائده بحياته ، ففي سلامة القائد سلامة للدعوة، وفي هلاكه خذلانها ووهنها ، فما فعله علي رضي الله عنه ليلة الهجرة من بياته على فراش الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، إذ كان من المحتمل أن تهوي سيوف فتيان قريش على رأس علي رضي الله عنه ولكن علياً رضي الله عنه لم يبال بذلك, فحسبه أن يسلم رسول الله صلى الله - صلى الله عليه وسلم - نبي الأمة وقائد الدعوة(19).
11 ـ حسن القيادة والرفق في التعامل :
يظهر الحب العميق الذي سيطر على قلب أبي بكر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الهجرة ، كما يظهر حب سائر الصحابة أجمعين في سيرة الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وهذا الحب الرباني كان نابعاً من القلب، وبإخلاص ، لم يكن حب نفاق أو نابعاً من مصلحة دنيوية ، أو رغبة في منفعة أو رهبة لمكروه قد يقع ، ومن أسباب هذا الحب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - صفاته القيادية الرشيدة ، فهو يسهر ليناموا ، ويتعب ليستريحوا، ويجوع ليشبعوا ، كان يفرح لفرحهم ويحزن لحزنهم ، فمن سلك سنن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع صحابته ، في حياته الخاصة والعامة ، وشارك الناس في أفراحهم وأتراحهم وكان عمله لوجه الله أصابه من هذا الحب إن كان من الزعماء أو القادة أو المسئولين في أمة الإسلام(20).
وصدق الشاعر الليبي عندما قال :
فإذا أحب الله باطن عبده ظهرت عليه مواهب الفتاح
وإذا صفت لله نية مصلح مال العباد عليه بالأرواح(21)
إن القيادة الصحيحة هي التي تستطيع أن تقود الأرواح قبل كل شيء وتستطيع أن تتعامل مع النفوس قبل غيرها ، وعلى قدر إحسان القيادة يكون إحسان الجنود وعلى قدر البذل من القيادة يكون الحب من الجنود ، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - رحيماً وشفوقاً بجنوده وأتباعه ، فهو لم يهاجر إلا بعد أن هاجر معظم أصحابه، ولم يبق إلا المستضعفين والمفتونين ومن كانت له مهمات خاصة بالهجرة(22).
12 ـ استمرار الدعوة في أحلك الظروف :
أ ـ في الطريق أسلم بريدة الأسلمي رضي الله عنه في ركب من قومه :
إن المسلم الذي تغلغلت الدعوة في شغاف قلبه لا يفتر لحظة واحدة عن دعوة الناس إلى دين الله تعالى ، مهما كانت الظروف قاسية والأحوال مضطربة ، والأمن مفقود ، بل ينتهز كل فرصة مناسبة لتبليغ دعوة الله تعالى ، هذا نبي الله تعالى يوسف عليه السلام حينما زج به في السجن ظلماً ، واجتمع بالسجناء في السجن، فلم يندب حظه ، ولم تشغله هذه الحياة المظلمة عن دعوة التوحيد وتبليغها للناس ومحاربة الشرك وعبادة غير الله والخضوع لأي مخلوق قال تعالى : ? قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون يا صاحبي السجن ءأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وءاباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ? (سورة يوسف: الآيات37-40) .
وسورة يوسف عليه السلام مكية ، وقد أمر الله تعالى رسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم - أن يقتدي بالأنبياء والمرسلين في دعوته إلى الله ولذلك نجده - صلى الله عليه وسلم - في هجرته من مكة إلى المدينة وقد كان مطارداً من المشركين قد أهدروا دمه وأغروا المجرمين منهم بالأموال الوفيرة ليأتوا برأسه حياً أو ميتاً ، ومع هذا فلم ينس مهمته ورسالته ، فقد لقي - صلى الله عليه وسلم - في طريقه رجلاً يقال له بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله عنه في ركب من قومه ، فدعاهم إلى الإسلام فآمنوا وأسلموا(23).
وذكر ابن حجر العسقلاني ـ رحمه الله ـ : ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في طريق هجرته إلى المدينة لقي بريدة بن الحصيب بن عبدالله بن الحارث الأسلمي، فدعاه إلى الإسلام، وقد غزا مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - ست عشرة(24) غزوة وأصبح بريدة بعد ذلك من الدعاة إلى الإسلام وفتح الله لقومه أسلم على يديه أبواب الهداية* ، واندفعوا إلى الإسلام وفازوا بالوسام النبوي الذي نتعلم منه منهجاً فريداً في فقه النفوس(25) قال صلى الله عليه وسلم: (أسلم سالمها الله ، وغفار غفر الله لها ، أما والله ما أنا قلته ولكن الله قال)(26) .
ب ـ وفي طريق الهجرة أسلم لصان على يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
كان في طريقه - صلى الله عليه وسلم - بالقرب من المدينة لصان من أسلم يقال لهما المهانان ، فقصدهم - صلى الله عليه وسلم - وعرض عليهما الإسلام فأسلما ثم سألهما عن أسمائهما فقالا نحن المهانان ، فقال : بل المكرمان ، وأمرهما أن يقدما عليه المدينة(27) ، وفي هذا الخبر يظهر اهتمامه - صلى الله عليه وسلم - بالدعوة إلى الله حيث اغتنم فرصة في طريقه ودعا اللصين إلى الإسلام ، فأسلما ، وفي إسلام هذين اللصين مع ما ألفاه من حياة البطش والسلب والنهب دليل على سرعة إقبال النفوس على اتباع الحق إذا وجد من يمثله بصدق وإخلاص ، وتجردت نفس السامع من الهوى المنحرف ، وفي اهتمام الرسول - صلى الله عليه وسلم - بتغيير اسمي هذين اللصين من المهانين إلى المكرمين دليل على اهتمامه - صلى الله عليه وسلم - بسمعة المسلمين ومراعاته مشاعرهم إكراماً لهم ورفعاً لمعنوياتهم .
وإن في رفع معنوية الإنسان تقوية لشخصيته ودفعاً له إلى الأمام ليبذل كل طاقته في سبيل الخير والفلاح(28).
13 ـ أهمية العقيدة والدين في إزالة العداوة والضغائن :
إن العقيدة الصحيحة السليمة والدين الإسلامي العظيم لهم أهمية كبرى في إزالة العداوات والضغائن ، وفي التأليف بين القلوب والأرواح ، وهو دور لا يمكن لغير العقيدة الصحيحة أن تقدم به وها قد رأينا كيف جمعت العقيدة الإسلامية بين الأوس والخزرج ، وأزالت آثار معارك استمرت عقوداً من الزمن ، وأغلقت ملف العقيدة في نفوس الأنصار ، فاستقبلوا المهاجرين بصدور مفتوحة ، وتآخوا معهم في مثالية نادرة ، لا تزال مثار الدهشة ومضرب المثل ، ولا توجد في الدنيا فكرة أو شعار آخر فعل مثلما فعلت عقيدة الإسلام الصافية في النفوس .
ومن هنا ندرك السر في سعي الأعداء الدائب إلى إضعاف هذه العقيدة وتقليل تأثيرها على نفوس المسلمين ، واندفاعهم المستمر نحو تذكية النعرات العصبية والوطنية والقومية وغيرها ، وتقديمها كبديل للعقيدة الصحيحة(29).
14 ـ الحفاوة بالدعوة وحاملها :
كانت فرحة المؤمنين من سكان يثرب من أنصار ومهاجرين بقدوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووصوله إليهم سالماً فرحة أخرجت النساء من بيوتهن والولائد، وحملت الرجال على ترك أعمالهم ، وكان موقف يهود المدينة موقف المشارك لسكانها في الفرحة ظاهراً ، والمتألم من منافسة الزعامة الجديدة باطناً ، أما فرحة المؤمنين بلقاء رسولهم ، فلا عجب فيها ، وهو الذي أنقذهم من الظلمات إلى النور ، بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد ، وأما موقف اليهود فلا غرابة فيه ، وهم الذين عرفوا بالملق والنفاق للمجتمع الذي فقدوا السيطرة عليه ، وبالغيظ والحقد الأسود على من يسلبهم زعامتهم من الشعوب ، ويحول بينهم وبين سلب آمالهم باسم القروض ، وسفك دمائها باسم النصح والمشورة ، وما زال اليهود يحقدون على كل من يخلص الشعوب من سيطرتهم ، وينتهون من الحقد إلى الدس والمؤامرات ، ثم إلى الاغتيال إن استطاعوا ، ذلك دينهم ، وتلك جبلتهم(30).
ويستفاد من استقبال المهاجرين والأنصار لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مشروعية استقبال الأمراء والعلماء ، عند مقدمهم بالحفاوة والإكرام ، فقد حدث ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكان هذا الإكرام وهذه الحفاوة نابعين من حب للرسول بخلاف ما نراه من استقبال الزعماء والحكماء في عالمنا المعاصر، ويستفاد كذلك التنافس في الخير وإكرام ذوي العلم والشرف ، فقد كانت كل قبيلة تحرص أن تستضيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وتعرض أن يكون رجاله حراساً له ، ويؤخذ من هذا إكرام العلماء والصالحين ، واحترامهم وخدمتهم(31).
15 ـ بين القدوة في الهجرة والتشريف في المعراج :(1/111)
كانت الهجرة النبوية الشريفة على النحو الذي كانت عليه ، وسارت على الوضع الذي يسلكه كل مهاجر ، حتى توجد القدوة ، وتتحقق الأسوة ، ويسير المسلمون على نهج مألوف ، وسبيل معروف ، ولذلك ، فلم يرسل الله ـ عز وجل ـ له - صلى الله عليه وسلم - البراق ليهاجر عليه كما حدث في ليلة الإسراء ، مع أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في يوم هجرته أحوج إلى البراق منه في أي وقت آخر؛ لأن القوم يتربصون به هنا ولم يكن هناك تربص في ليلة الإسراء ، ولو ظفروا به في هجرته لشفوا نفوسهم منه بقتله ، والحكمة في ذلك ـ والله أعلم ـ أن الهجرة كانت مرحلة طبيعية من مراحل تطور الدعوة ووسيلة من أهم وسائل نشرها وتبليغها ، ولم تكن خاصة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - بل كان غيره من المؤمنين مكلفين بها ، حين قطع الإسلام الولاية(32) ، بين المهاجرين وغير المهاجرين القادرين على الهجرة ، قال تعالى: ? إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل اله والذين ءاووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير ? (سورة الأنفال : الآية 72) .
أما رحلة الإسراء والمعراج فقد كانت رحلة تشريف وتقدير ، كما كانت إكراماً من الله ـ عز وجل ـ لنبيه ليطلعه على علم الغيب ويريه من آياته الكبرى ، فالرحلة من أولها إلى آخرها خوارق ومعجزات ومشاهد للغيبيات، فناسب أن تكون وسيلتها مشابهة لغايتها .
زد على ذلك أن رحلة الإسراء خصوصية للرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وليس لأحد من الناس أن يتطلع لمثلها ، ولسنا مطالبين بالاقتداء به فيها ، ولذا فإن حصولها على النحو الذي كانت عليه هو أنسب الأوضاع لحدوثها(33).
16 ـ وضوح سنة التدرج :
حيث نلاحظ : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما تقابل مع طلائع الأنصار الأولى لم يفعل سوى ترغيبهم في الإسلام وتلاوة القرآن عليهم ، فلما جاءوا في العام التالي بايعهم بيعة النساء على العبادات والأخلاق والفضائل ، فلما جاءوا في العام التالي كانت بيعة العقبة الثانية على الجهاد والنصر والإيواء(34).
وجدير بالملاحظة أن بيعة الحرب لم تتم إلا بعد عامين كاملين ، أي بعد تأهيل وإعداد استمر عامين كاملين ، وهكذا تم الأمر على تدرج ينسجم مع المنهج التربوي الذي نهجت عليه الدعوة من أول يوم(35).
إنه المنهج الذي هدى الله نبيه إلى التزامه ، ففي البيعة الأولى بايعه هؤلاء الأنصار الجدد على الإسلام عقيدة ومنهاجاً وتربية ، وفي البيعة الثانية بايعه الأنصار على حماية الدعوة ، واحتضان المجتمع الإسلامي الذي نضجت ثماره، واشتدت قواعده قوة وصلابة .
إن هاتين البيعتين أمران متكاملان ضمن المنهج التربوي للدعوة الإسلامية وإن الأمر الأول هو المضمون ، والأمر الثاني وهو بيعة الحرب هو السياج الذي يحمي ذلك المضمون ، نعم كانت بيعة الحرب بعد عامين من إعلان القوم الإسلام وليس فور إعلانهم .
بعد عامين إذ تم إعدادهم حتى غدوا موقع ثقة وأهلاً لهذه البيعة ، ويلاحظ أن بيعة الحرب لم يسبق أن تمت قبل اليوم مع أي مسلم ، إنما حصلت عندما وجدت الدعوة في هؤلاء الأنصار وفي الأرض التي يقيمون فيها المعقل الملائم الذي ينطلق منه المحاربون ، لأن مكة لوضعها عندئذ لم تكن تصلح للحرب(36).
وقد اقتضت رحمة الله بعباده (أن لا يحملهم واجب القتال ، إلى أن توجد لهم دار الإسلام ، تكون لهم بمثابة معقل يأوون إليه ، ويلوذون به ، وقد كانت المدينة المنورة أول دار الإسلام(37).
لقد كانت البيعة الأولى قائمة على الإيمان بالله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - والبيعة الثانية على الهجرة والجهاد ، وبهذه العناصر الثلاثة : الإيمان بالله ، والهجرة ، والجهاد ، يتحقق وجود الإسلام في واقع جماعي ممكن والهجرة لم تكن لتتم لولا وجود الفئة المستعدة للإيواء ولهذا قال تعالى : ? إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير? (سورة الأنفال : الآية 72) ، وقال تعالى : ? والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم ? (سورة الأنفال:75).
وقد كانت بيعة الحرب هي التمهيد الأخير لهجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة ، وبذلك وجد الإسلام موطنه الذي ينطلق منه دعاة الحق بالحكمة والموعظة (الحسنة) وتنطلق منه جحافل الحق المجاهدة أول مرة ، وقامت الدولة الإسلامية المحكمة لشرع الله(38).
17 ـ التضحية في الهجرة :
كانت هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه عن البلد الأمين تضحية عظيمة عبر عنها النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله : (والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت)(39) .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة قدمها وهي أوبأ أرض الله في الحمى ، وكان واديها يجري نجلاً ـ يعني ماء آجناً ـ فأصاب أصحابه منها بلاء وسقم وصرف الله ذلك عن نبيه ، قال : فكان أبوبكر، وعامر بن فهيرة ، وبلال في بيت واحد ، فأصابتهم الحمى ، فاستأذنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عيادتهم فأذن، فدخلت إليهم أعودهم وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب وبهما ما لا يعلمه إلا الله من شدة الوعك(40)، فدنوت من أبي بكر فقلت : يا أبت كيف تجدك؟ فقال:
كل امرئ مصبح في أهله والموت أدنى من شراك نعله
قالت : فقلت والله ما يدري أبي ما يقول : ثم دنوت من عامر بن فهيرة فقلت : كيف تجدك يا عامر؟ فقال :
لقد وجدت الموت قبل ذوقه إن الجبان حتفه من فوقه
كل امرئ مجاهد بطوقه(41) كالثور يحمي جلده بروقه(42)
قالت : فقلت : والله ما يدري عامر ما يقول . قالت : وكان بلال إذا أقلع عنه الحمى اضطجع بفناء البيت ثم يرفع عقيرته(43) ويقول :
ألا ليت شعري هل أبيتنَّ ليلةً بواد وحولي إذخر(44) وجليل
وهل أُرِدَن يوماً مياه مَجِنَة وهل يبدون لي شامة وطفيل(45)
قالت : فأخبرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك فقال : (اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة ، أو أشد ، اللهم وصححها وبارك لنا في مدها وصاعها وانقل حماها واجعلها بالجحفة)(46).
ولا يخفى دور أم معبد رضي الله عنها في الهجرة، فكانت مكافأتها منه - صلى الله عليه وسلم - جزيلة. فقد استجاب الله دعاء نبيه - صلى الله عليه وسلم - وعوفي المسلمون بعدها من هذه الحمى، وغدت المدينة موطناً ممتازاً لكل الوافدين والمهاجرين إليها من المسلمين على تنوع بيئاتهم ومواطنهم(47) .
18 ـ حسن المكافأة :
وقد روي أنها كثرت غنمها ونمت حتى جلبت منها جلباً إلى المدينة ، فمر أبو بكر ، فرآه ابنها فعرفه ، فقال : يا أمه هذا الرجل الذي كان مع المبارك ، فقامت إليه فقالت: يا عبدالله من الرجل الذي كان معك؟ قال : أو ما تدرين من هو؟ قالت: لا، قال : هو نبي الله ، فأدخلها عليه ، فأطعمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأعطاها ـ وفي رواية : فانطلقت معي وأهدت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً من أقط ومتاع الأعراب ، فكساها وأعطاها ، قال : ولا أعلمه إلا قال : وأسلمت ، وذكر صاحب (الوفاء) أنها هاجرت هي وزوجها ، وأسلم أخوها حبيش، واستشهد يوم الفتح(48).
19 ـ هكذا يكون الأتباع :
قال أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه : ( ولما نزل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيتي نزل في السفل وأنا وأم أيوب في العلو ، فقلت له : يا نبي الله ـ بأبي أنت وأمي ـ إني لأكره وأعظم أن أكون فوقك ، وتكون تحتي ، فأظهر أنت فكن في العلو ، وننزل نحن فنكون في السفل . فقال : يا أبا أيوب: إن أرفق بنا وبمن يغشانا أن نكون في سفل البيت قال : فلقد انكسر جب لنا فيه ماء ، فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة لنا ما لنا لحاف غيرها ننشف بها الماء تخوفاً أن يقطر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منه شيء يؤذيه(49).
20 ـ الهجرة النبوية نقطة تحول في تاريخ الحياة :
كانت الهجرة النبوية من مكة المشرفة إلى المدينة المنورة أعظم حدث حول مجرى التاريخ ، وغير مسير الحياة ومناهجها التي كانت تحياها ، وتعيش محكومة بها في صورة قوانين ونظم وأعراف وعادات وأخلاق وسلوك للأفراد والجماعات وعقائد و تعبدات وعلم ، ومعرفة ، وجهالة وسفه ، وضلال وهدى ، وعدل وظلم(50) .
______________________
(1) - انظر : الهجرة في القرآن الكريم ، ص175 .
(2) - انظر : الهجرة النبوية المباركة ، ص199 .
(3) - نفس المصدر السابق ، ص200 .
(4) - انظر : المستفاد من قصص القرآن (2/108) .
(5) - انظر : الهجرة النبوية المباركة ، ص206 .
(6) - انظر : الهجرة النبوية المباركة ، ص206 .
(7) - انظر : الهجرة النبوية المباركة ، ص126 .
(8) - انظر : السيرة البنوية لابن هشام (2/102) إسناده صحيح .
(9) - انظر : الهجرة النبوية المباركة ، ص128 .
(10) - انظر : فقه السيرة للدكتور محمد سعيد رمضان ص193 .
(11) - انظر : الهجرة في القرآن الكريم : ص364 .
(12) - انظر : معين السيرة : ص148 ، 149 .
(13) - المسند (1/3) تحقيق : أحمد محمد شاكر .
(14) - انظر : في ظلال الهجرة النبوية : ص58 .
(15) - انظر : التربية القيادية (2/191، 192) .
(16) - السيرة النبوية دروس وعبر للسباعي ، ص71 .
(17) - انظر : الهجرة النبوية المباركة ، ص204 .
(18) - انظر : السيرة النبوية لأبي فارس ، ص254 .
(19) - انظر : السيرة النبوية للسباعي ، ص68 .
(20) - انظر : الهجرة النبوية لأبي فارس ، ص54 .
(21) - انظر : الحركة السنوسية في ليبيا للصلابي (2/7) والشاعر هو أحدم رفيق المهدوي .
(22) - انظر : الهجرة النبوية المباركة ، ص205 .
(23) - انظر : الهجرة النبوية لأبي فارس ، ص59 . شرح المواهب (1/405)
(24) - انظر : الإصابة (1/146) .
* - وفتح الله لقوم أسلم أبواب الهداية على يديه . لعل العبارة هكذا أوضح مما هي عليه .
(25) - انظر : المستدرك على الصحيحين (4/92) رقم 6981 صحيح الإسناد .
(26) - صحيح الجامع الصغير (1/338) رقم 986 .
(27) - الفتح الرباني للساعاتي (20/289) .
(28) - انظر : التاريخ الإسلامي للحميدي (3/178) .
(29) - انظر : السيرة النبوية المباركة ، ص205 ..
(30) - انظر : السيرة النبوية للسباعي ، ص43 ، الهجرة في القرآن الكريم ، ص367 .
(31) - انظر : السيرة النبوية لأبي فارس ، ص358 ، 359 .
(32) - انظر : الهجرة في القرآن الكريم ، ص365 .
(33) - انظر : تأملات في سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، محمد سيد الوكيل ، ص103 ، 104 بتصرف .
(34) - انظر : الهجرة النبوية المباركة ، ص202 .
(35) - انظر : بناء المجتمع الإسلامي في عصر النبوة ، محمد توفيق ، ص119 .
(36) - نفس المصدر ، ص122 ، 123 .(37) - انظر : فقه السيرة للبوطي ، ص172 .(38) - انظر : الغرباء الأولون ، ص198، 199 .
(39) - الترمذي ، كتاب المناقب ، باب فضل مكة (5/722) رقم 3925 .
(40) - الوعك : الحمى . (41) - بطوقه : بطاقته .(42) - بروقه : بقرنه .
(43) - عقيرته : صوته ، قال الأصمعي : إن رجلاً عقرت بجله فرفعها على الأخرى وجعل يصيح ، فصار كل من رفع صوته يقال له : رفع عقيرتهن وإن لم يرفع رجله .
(44) - الإذخر : نبات طيب الرائحة .
(45) - شامة وطفيل : جبلان مشرفان على مجنة على بريد مكة .
(46) - البخاري ، كتاب الدعوات ، باب الدعاء يرفع الوباء والوجع ، رقم 6372 .
(47) - انظر : التربية القيادية (2/310) .
(48) - انظر السيرة النبوية لأبي شهبة (1/489 ، 490) .
(49) - انظر : السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/220) .
(50) - انظر : محمد رسول الله ، محمد الصادق عرجون (2/423) .
ــــــــــــ(1/112)
فى ظلال الهجرة النبوية
بعد أن نجحت بيعت العقبة الثانية، وأصبح الأنصار يمثلون عددًا لا بأس به في المدينة المنورة وَقبِل الأنصار أن يستقبلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يحموه مما يحمون منه نساءهم وأبناءهم وأموالهم.. بعد كل هذه الأمور العظيمة، والتي حدثت في فترة وجيزة جدًّا.. جاء الوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأذن له بفتح باب الهجرة لأصحابه إلى المدينة المنورة..
كل من يستطيع أن يهاجر فليهاجر.. بل يجب أن يهاجر..
يستوي في ذلك الضعفاء والأقوياء.. الفقراء والأغنياء.. الرجال والنساء.. الأحرار والعبيد..
الكل يجب أن يهاجر إلى المدينة.. فهناك مشروع ضخم سيُبنى على أرض المدينة.. وهو مشروع يحتاج إلى كل طاقات المسلمين.. هذا هو مشروع إقامة الأمة الإسلامية!..
ولن يسمح لمسلم صادق بالقعود عن المشاركة في بناء هذا الصرح العظيم..
انظروا إلى الآيات تتحدث عن الهجرة:
{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا * إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوًّا غَفُورًا * وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا}.
الهجرة لم تكن أمراً سهلاً ميسوراً.. الهجرة لم تكن ترك بلد ما إلى بلد ظروفه أفضل، وأمواله أكثر، الهجرة كانت تعني ترك الديار.. وترك الأموال.. وترك الأعمال.. وترك الذكريات.. الهجرة كانت ذهابًا للمجهول.. لحياة جديدة.. لا شك أنها ستكون شاقة.. وشاقة جدًّا.. الهجرة كانت تعني الاستعداد لحرب هائلة.. حرب شاملة.. ضد كل المشركين في جزيرة العرب.. بل ضد كل العالمين.. الحرب التي صوّرها الصحابي الجليل العباس بن عبادة الأنصاري رضي الله عنه على أنها الاستعداد لحرب الأحمر والأسود من الناس.
هذه هي الهجرة.. ليست هروباً ولا فراراً، بل كانت استعداداً ليوم عظيم.. أو لأيام عظيمة..
لذلك عظّم الله جدًّا من أجر المهاجرين.. {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * لَيُدْخِلَنَّهُم مُّدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ}.
صدر الأمر النبوي لجميع المسلمين القادرين على الهجرة أن يهاجروا، لكن لم يبدأ هو - صلى الله عليه وسلم - في الهجرة إلا بعد أن هاجر الجميع إلى المدينة.. فلم يكن من همه - صلى الله عليه وسلم - أن ينجو بنفسه، وأن يُؤَمِّنَ حاله، وأن يحافظ على أمواله.. إنما كان كل همه - صلى الله عليه وسلم - أن يطمئن على حال المسلمين المهاجرين.. كان - صلى الله عليه وسلم - يتصرف كالربّان الذي لا يخرج من سفينته إلا بعد اطمئنانه على كل الركاب أنهم في أمان.. فالقيادة عنده ليست نوعًا من الترف أو الرفاهية.. إنما القيادة مسئولية وتضحية وأمانة.
ونستطيع أن نلاحظ بعض الملامح الهامة لهجرة المسلمين من مكة إلى المدينة:
(1) الاهتمام بقضية النية:
لماذا تهاجر؟
روى البخاري عن عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أن رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ".
ومع أن الهجرة للزواج ليست محرمة.. ومع أن الهجرة لإصابة الدنيا الحلال ليست محرمة.. لكن هذه هجرة ليست كالهجرة لبناء أمة إسلامية.
وهيهات أن يكون الذي ترك كل ما يملك ابتغاء مرضات الله وسعيًا لإنشاء أمة إسلامية ورغبةً في تطبيق شرع الله عز وجل في الأرض.. كالذي عاش لحياته فقط.. وإن كانت حياتُه حلالاً.
(2) الهجرة الكاملة لكل المسلمين لم تكن إلا بعد أن أُغلقت أبواب الدعوة تمامًا في مكة.. وقد أغلقت أبواب الدعوة منذ ثلاث سنوات.. بعد موت أبي طالب والسيدة خديجة رضي الله عنها.. ومنذ ذلك التاريخ، والرسول - صلى الله عليه وسلم - يخطط للهجرة.. وكان من الممكن أن يكون مكان الهجرة مختلفًا عن المدينة لو آمن وفد من الوفود التي دعاها الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الإسلام مثل بني شيبان أو بني حنيفة أو بني عامر، ولكن الله عز وجل أراد أن تكون الهجرة إلى المدينة المنورة.. فليس المهم هو المكان، ولكن المهم هنا ملاحظة أن الهجرة لم تكن نوعًا من الكسل عن الدعوة في مكة، أو "الزهق" من الدعوة في مكة.. أبدًا.. الدعوة في مكة من أول يوم وهي صعبة، ولكن ما ترك المسلمون بكاملهم البلد إلا بعد أن أُغلقت تمامًا أبواب الدعوة.. أما إذا كانت السبل للدعوة مفتوحة -ولو بصعوبة- فالأولى البقاء لسد الثغرة التي وضعك الله عز وجل عليها.
(3) الهجرة كانت للجميع، وذلك على خلاف الهجرة إلى الحبشة والتي كانت لبعض الأفراد دون الآخرين.. والسبب أن طبيعة المكان وظروفه تختلف من الحبشة إلى المدينة.. فالمسلمون الذين هاجروا إلى الحبشة كانوا يريدون حفظ أنفسهم في مكان آمن حتى لا يستأصل الإسلام بالكلية إذا تعرض المسلمون في مكة للإبادة.. ولم يكن الغرض هو إقامة حكومة إسلامية في الحبشة، بل كان المسلمون مجرد لاجئين إلى ملك عادل.. أما الهجرة إلى المدينة فكان الغرض منها إقامة دولة إسلامية تكون المدينة هي المركز الرئيسي لها.
ولماذا تصلح المدينة لإقامة الأمة الإسلامية ولا تصلح الحبشة؟ إن هذا ليس راجعاً إلى عامل البُعْد عن مكة واختلاف اللغة واختلاف التقاليد فقط، وإن كانت هذه عوامل هامة، ولكن الاختلاف الرئيسي -في نظري- هو أن الاعتماد في الحبشة كان على رجل واحد هو النجاشي -ملك لا يظلم عنده أحد- فإذا مات هذا الرجل أو خلع، فإن المسلمين سيصبحون في خطر عظيم.. وقد كاد أن يحدث ذلك، ودارت حرب أهلية كاد النجاشي فيها أن يفقد ملكه، فما كان من النجاشي إلا أن يسر سبيل الهروب للمسلمين المهاجرين عنده.. فهو لا يملك لهم إلا هذا.. هذا كان الوضع في الحبشة.. أما في المدينة المنورة فالهجرة لم تكن تعتمد على رجل معين.. بل تعتمد على شعب المدينة.. والجو العام في المدينة أصبح محبًّا للإسلام.. أو على الأقل أصبح قابلاً للفكرة الإسلامية، ومن ثَم كانت الهجرة إلى هناك هجرة جماعية كاملة..
(4) الهجرة لم تكن عشوائية، بل كانت بأمر القيادة إلى مكان معين.. وهذا الذي أدى إلى نجاح الهجرة، وقيام الأمة.. أما أن يهاجر فلان إلى مكان كذا، ويهاجر آخر إلى مكان كذا.. ويتفرق المسلمون.. فهذا وإن كان يكتب نجاة مؤقتة للأفراد، إلا أنه لا يقيم أمة.. وعلى المسلمين الفارين بدينهم من ظلم ما أن يفقهوا هذا الأمر جيدًا..
الهجرة النبوية إلى المدينة كانت هجرة منظمة مرتبة.. أُعد لها بصبر وبحكمة وبسياسة وفقه.. فالعشوائية ليست من أساليب التغيير في الإسلام.
(5) بهذه الهجرة الناجحة تمت مرحلة هامة -بل هامة جدًّا- من مراحل السيرة النبوية.. وهي المرحلة المكية..
لقد تمت هذه المرحلة بكل أحداثها وآلامها ومشاكلها..
وهي مرحلة ذات طابع خاص جدًّا..
بدأ الإسلام فيها غريباً.. واستمر غريباً إلى قرب نهايتها.. إلى أن آمن الأنصار.. رضي الله عنهم ورضي الله عن المهاجرين.. وعن صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجمعين..
كان الاهتمام الرئيسي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذه المرحلة أن يبني الجانب العقائدي عند الصحابة.. فلا يؤمنون بإله غير الله.. ولا يتوجهون بعبادة لأحد سواه.. ولا يطيعون أحداً يخالف أمره.. وهم يتوكلون عليه.. وينيبون إليه.. ويخافون عذابه.. ويرجون رحمته..
إيمان عميق برب العالمين.. وإيمان برسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وبإخوانه من الأنبياء و المرسلين..
واعتقاد جازم بأن هناك يوماً سيبعث فيه الخلائق أجمعون.. سيقوم فيه الناس لرب العالمين يحاسبون على ما يعملون.. لن يُظلم في ذلك اليوم أحد.. لن تُغفل الذرة والقطمير.. إنها والله إما الجنة أبداً أو النار أبداً..
وإلى جانب العقيدة الراسخة فقد تعلم المؤمنون في هذه المرحلة الأخلاق الحميدة، والخصال الرفيعة.. هذبت نفوسهم.. وسمت بأرواحهم.. وارتفعوا عن قيم الأرض وأخلاق الأرض وطبائع الأرض.. إلى قيم السماء وأخلاق السماء وطبائع السماء.. لقد نزل الميزان الحق الذي يستطيع الناس به أن يقيموا أعمالهم بصورة صحيحة..
وعرف المؤمنون في هذه المرحلة أن الطريق الطبيعي للجنة طريق شاق صعب.. مليء بالابتلاءات والاختبارات.. ما تنتهي من امتحان إلا وهناك امتحان آخر.. تعب كلها الحياة.. والله يراقب العباد في صبرهم ومصابرتهم وجهادهم.. ولن يُستثنى أحد من الاختبار.. ويُبتلى المرء على حسب دينه.
لقد كانت الفترة المكية يا إخواني بمثابة الأساس المتين للصرح الإسلامي الهائل.
ومن المستحيل أن يجتاز المسلمون خطوات كبَدْر وكالأحزاب وكخَيْبر وكتَبوك، دون المرور على فترة مكة..
ومن المستحيل أن تبنى أمة صالحة.. أو تنشأ دولةً قوية.. أو تخوض جهاداً ناجحاً.. أو تثبت في قتال ضار.. إلا بعد أن تعيش في فترة مكة بكل أبعادها..
وعلى الدعاة المخلصين أن يدرسوا هذه المرحلة بعمق.. وعليهم أن يقفوا أمام كل حدث ـ وإن قصر وقته أو صغر حجمه، وقوفاً طويلاً طويلاً..
فهنا البداية التي لا بد منها..
وبغير مكة لن تكون هناك المدينة..
وبغير المهاجرين لن يكون هناك أنصار..
وبغير الإيمان والأخلاق والصبر على البلاء لن تكون هناك أمة ودولة وسيادة وتمكين..
(6) الهجرة - وإن كانت حدثاً تاريخياً مر منذ مئات السنين، ولا يستطيع أحد بعد جيل المهاجرين أن يحققه، وذلك كما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما: "لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ" - إلا أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فتح باب العمل للمسلمين الذين يأتون بعد ذلك، فقال في نفس الحديث: "وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا"، فالجهاد والبذل والحركة والعمل في سبيل الله لن يتوقف أبداً في الدنيا، والسعيد حقاً هو من انشغل بعمله عن قوله، وبنفسه عن غيره، وبآخرته عن دنياه.
(7) أول مراحل الهجرة هي ترك المعاصي، والبُعْد عن مواطن الشبهات، ولن ينصر الدين رجل غرق في شهواته، والمعروف أن ترك المعاصي مقدم على فعل فضائل الأعمال، والإنسان قد يُعذر في ترك قيام أو صيام نفل أو صدقة تطوع، لكنه لا يُعذر في فعل معصية، وذلك كما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: "إِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ"؛ ولذلك عرف الرسول - صلى الله عليه وسلم - المهاجر الحقيقي بتعريف عميق من جوامع كلمه - صلى الله عليه وسلم - فقال فيما رواه أحمد عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما: "إِنَّ الْمُهَاجِرَ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ".
---------------
2005/02/13 ... * الدكتور راغب السرجاني
بعد أن نجحت بيعت العقبة الثانية، وأصبح الأنصار يمثلون عددًا لا بأس به في المدينة المنورة وَقبِل الأنصار أن يستقبلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يحموه مما يحمون منه نساءهم وأبناءهم وأموالهم.. بعد كل هذه الأمور العظيمة، والتي حدثت في فترة وجيزة جدًّا.. جاء الوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأذن له بفتح باب الهجرة لأصحابه إلى المدينة المنورة..
كل من يستطيع أن يهاجر فليهاجر.. بل يجب أن يهاجر..
يستوي في ذلك الضعفاء والأقوياء.. الفقراء والأغنياء.. الرجال والنساء.. الأحرار والعبيد..
الكل يجب أن يهاجر إلى المدينة.. فهناك مشروع ضخم سيُبنى على أرض المدينة.. وهو مشروع يحتاج إلى كل طاقات المسلمين.. هذا هو مشروع إقامة الأمة الإسلامية!..
ولن يسمح لمسلم صادق بالقعود عن المشاركة في بناء هذا الصرح العظيم..
انظروا إلى الآيات تتحدث عن الهجرة:
{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا * إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوًّا غَفُورًا * وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا}.
الهجرة لم تكن أمراً سهلاً ميسوراً.. الهجرة لم تكن ترك بلد ما إلى بلد ظروفه أفضل، وأمواله أكثر، (ليست عقد عمل بأجر أعلى).. الهجرة كانت تعني ترك الديار.. وترك الأموال.. وترك الأعمال.. وترك الذكريات.. الهجرة كانت ذهابًا للمجهول.. لحياة جديدة.. لا شك أنها ستكون شاقة.. وشاقة جدًّا.. الهجرة كانت تعني الاستعداد لحرب هائلة.. حرب شاملة.. ضد كل المشركين في جزيرة العرب.. بل ضد كل العالمين.. الحرب التي صوّرها الصحابي الجليل العباس بن عبادة الأنصاري رضي الله عنه على أنها الاستعداد لحرب الأحمر والأسود من الناس.
هذه هي الهجرة.. ليست هروباً ولا فراراً، بل كانت استعداداً ليوم عظيم.. أو لأيام عظيمة..
لذلك عظّم الله جدًّا من أجر المهاجرين.. {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * لَيُدْخِلَنَّهُم مُّدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ}.
صدر الأمر النبوي لجميع المسلمين القادرين على الهجرة أن يهاجروا، لكن لم يبدأ هو - صلى الله عليه وسلم - في الهجرة إلا بعد أن هاجر الجميع إلى المدينة.. فلم يكن من همه - صلى الله عليه وسلم - أن ينجو بنفسه، وأن يُؤَمِّنَ حاله، وأن يحافظ على أمواله.. إنما كان كل همه - صلى الله عليه وسلم - أن يطمئن على حال المسلمين المهاجرين.. كان - صلى الله عليه وسلم - يتصرف كالربّان الذي لا يخرج من سفينته إلا بعد اطمئنانه على كل الركاب أنهم في أمان.. فالقيادة عنده ليست نوعًا من الترف أو الرفاهية.. إنما القيادة مسئولية وتضحية وأمانة.
ونستطيع أن نلاحظ بعض الملامح الهامة لهجرة المسلمين من مكة إلى المدينة:
(1) الاهتمام بقضية النية:
لماذا تهاجر؟
روى البخاري عن عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أن رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ".
ومع أن الهجرة للزواج ليست محرمة.. ومع أن الهجرة لإصابة الدنيا الحلال ليست محرمة.. لكن هذه هجرة ليست كالهجرة لبناء أمة إسلامية.
وهيهات أن يكون الذي ترك كل ما يملك ابتغاء مرضات الله وسعيًا لإنشاء أمة إسلامية ورغبةً في تطبيق شرع الله عز وجل في الأرض.. كالذي عاش لحياته فقط.. وإن كانت حياتُه حلالاً.
(2) الهجرة الكاملة لكل المسلمين لم تكن إلا بعد أن أُغلقت أبواب الدعوة تمامًا في مكة.. وقد أغلقت أبواب الدعوة منذ ثلاث سنوات.. بعد موت أبي طالب والسيدة خديجة رضي الله عنها.. ومنذ ذلك التاريخ، والرسول - صلى الله عليه وسلم - يخطط للهجرة.. وكان من الممكن أن يكون مكان الهجرة مختلفًا عن المدينة لو آمن وفد من الوفود التي دعاها الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الإسلام مثل بني شيبان أو بني حنيفة أو بني عامر، ولكن الله عز وجل أراد أن تكون الهجرة إلى المدينة المنورة.. فليس المهم هو المكان، ولكن المهم هنا ملاحظة أن الهجرة لم تكن نوعًا من الكسل عن الدعوة في مكة، أو "الزهق" من الدعوة في مكة.. أبدًا.. الدعوة في مكة من أول يوم وهي صعبة، ولكن ما ترك المسلمون بكاملهم البلد إلا بعد أن أُغلقت تمامًا أبواب الدعوة.. أما إذا كانت السبل للدعوة مفتوحة -ولو بصعوبة- فالأولى البقاء لسد الثغرة التي وضعك الله عز وجل عليها.
(3) الهجرة كانت للجميع، وذلك على خلاف الهجرة إلى الحبشة والتي كانت لبعض الأفراد دون الآخرين.. والسبب أن طبيعة المكان وظروفه تختلف من الحبشة إلى المدينة.. فالمسلمون الذين هاجروا إلى الحبشة كانوا يريدون حفظ أنفسهم في مكان آمن حتى لا يستأصل الإسلام بالكلية إذا تعرض المسلمون في مكة للإبادة.. ولم يكن الغرض هو إقامة حكومة إسلامية في الحبشة، بل كان المسلمون مجرد لاجئين إلى ملك عادل.. أما الهجرة إلى المدينة فكان الغرض منها إقامة دولة إسلامية تكون المدينة هي المركز الرئيسي لها.
ولماذا تصلح المدينة لإقامة الأمة الإسلامية ولا تصلح الحبشة؟ إن هذا ليس راجعاً إلى عامل البُعْد عن مكة واختلاف اللغة واختلاف التقاليد فقط، وإن كانت هذه عوامل هامة، ولكن الاختلاف الرئيسي -في نظري- هو أن الاعتماد في الحبشة كان على رجل واحد هو النجاشي -ملك لا يظلم عنده أحد- فإذا مات هذا الرجل أو خلع، فإن المسلمين سيصبحون في خطر عظيم.. وقد كاد أن يحدث ذلك، ودارت حرب أهلية كاد النجاشي فيها أن يفقد ملكه، فما كان من النجاشي إلا أن يسر سبيل الهروب للمسلمين المهاجرين عنده.. فهو لا يملك لهم إلا هذا.. هذا كان الوضع في الحبشة.. أما في المدينة المنورة فالهجرة لم تكن تعتمد على رجل معين.. بل تعتمد على شعب المدينة.. والجو العام في المدينة أصبح محبًّا للإسلام.. أو على الأقل أصبح قابلاً للفكرة الإسلامية، ومن ثَم كانت الهجرة إلى هناك هجرة جماعية كاملة..
(4) الهجرة لم تكن عشوائية، بل كانت بأمر القيادة إلى مكان معين.. وهذا الذي أدى إلى نجاح الهجرة، وقيام الأمة.. أما أن يهاجر فلان إلى مكان كذا، ويهاجر آخر إلى مكان كذا.. ويتفرق المسلمون.. فهذا وإن كان يكتب نجاة مؤقتة للأفراد، إلا أنه لا يقيم أمة.. وعلى المسلمين الفارين بدينهم من ظلم ما أن يفقهوا هذا الأمر جيدًا..
الهجرة النبوية إلى المدينة كانت هجرة منظمة مرتبة.. أُعد لها بصبر وبحكمة وبسياسة وفقه.. فالعشوائية ليست من أساليب التغيير في الإسلام.
(5) بهذه الهجرة الناجحة تمت مرحلة هامة -بل هامة جدًّا- من مراحل السيرة النبوية.. وهي المرحلة المكية..
لقد تمت هذه المرحلة بكل أحداثها وآلامها ومشاكلها..
وهي مرحلة ذات طابع خاص جدًّا..
بدأ الإسلام فيها غريباً.. واستمر غريباً إلى قرب نهايتها.. إلى أن آمن الأنصار.. رضي الله عنهم ورضي الله عن المهاجرين.. وعن صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجمعين..
كان الاهتمام الرئيسي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذه المرحلة أن يبني الجانب العقائدي عند الصحابة.. فلا يؤمنون بإله غير الله.. ولا يتوجهون بعبادة لأحد سواه.. ولا يطيعون أحداً يخالف أمره.. وهم يتوكلون عليه.. وينيبون إليه.. ويخافون عذابه.. ويرجون رحمته..
إيمان عميق برب العالمين.. وإيمان برسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وبإخوانه من الأنبياء و المرسلين..
واعتقاد جازم بأن هناك يوماً سيبعث فيه الخلائق أجمعون.. سيقوم فيه الناس لرب العالمين يحاسبون على ما يعملون.. لن يُظلم في ذلك اليوم أحد.. لن تُغفل الذرة والقطمير.. إنها والله إما الجنة أبداً أو النار أبداً..
وإلى جانب العقيدة الراسخة فقد تعلم المؤمنون في هذه المرحلة الأخلاق الحميدة، والخصال الرفيعة.. هذبت نفوسهم.. وسمت بأرواحهم.. وارتفعوا عن قيم الأرض وأخلاق الأرض وطبائع الأرض.. إلى قيم السماء وأخلاق السماء وطبائع السماء.. لقد نزل الميزان الحق الذي يستطيع الناس به أن يقيموا أعمالهم بصورة صحيحة..
وعرف المؤمنون في هذه المرحلة أن الطريق الطبيعي للجنة طريق شاق صعب.. مليء بالابتلاءات والاختبارات.. ما تنتهي من امتحان إلا وهناك امتحان آخر.. تعب كلها الحياة.. والله يراقب العباد في صبرهم ومصابرتهم وجهادهم.. ولن يُستثنى أحد من الاختبار.. ويُبتلى المرء على حسب دينه.
لقد كانت الفترة المكية يا إخواني بمثابة الأساس المتين للصرح الإسلامي الهائل.
ومن المستحيل أن يجتاز المسلمون خطوات كبَدْر وكالأحزاب وكخَيْبر وكتَبوك، دون المرور على فترة مكة..
ومن المستحيل أن تبنى أمة صالحة.. أو تنشأ دولةً قوية.. أو تخوض جهاداً ناجحاً.. أو تثبت في قتال ضار.. إلا بعد أن تعيش في فترة مكة بكل أبعادها..
وعلى الدعاة المخلصين أن يدرسوا هذه المرحلة بعمق.. وعليهم أن يقفوا أمام كل حدث ـ وإن قصر وقته أو صغر حجمه، وقوفاً طويلاً طويلاً..
فهنا البداية التي لا بد منها..
وبغير مكة لن تكون هناك المدينة..
وبغير المهاجرين لن يكون هناك أنصار..
وبغير الإيمان والأخلاق والصبر على البلاء لن تكون هناك أمة ودولة وسيادة وتمكين..
((1/113)
6) الهجرة - وإن كانت حدثاً تاريخياً مر منذ مئات السنين، ولا يستطيع أحد بعد جيل المهاجرين أن يحققه، وذلك كما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما: "لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ" - إلا أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فتح باب العمل للمسلمين الذين يأتون بعد ذلك، فقال في نفس الحديث: "وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا"، فالجهاد والبذل والحركة والعمل في سبيل الله لن يتوقف أبداً في الدنيا، والسعيد حقاً هو من انشغل بعمله عن قوله، وبنفسه عن غيره، وبآخرته عن دنياه.
(7) أول مراحل الهجرة هي ترك المعاصي، والبُعْد عن مواطن الشبهات، ولن ينصر الدين رجل غرق في شهواته، والمعروف أن ترك المعاصي مقدم على فعل فضائل الأعمال، والإنسان قد يُعذر في ترك قيام أو صيام نفل أو صدقة تطوع، لكنه لا يُعذر في فعل معصية، وذلك كما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: "إِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ"؛ ولذلك عرف الرسول - صلى الله عليه وسلم - المهاجر الحقيقي بتعريف عميق من جوامع كلمه - صلى الله عليه وسلم - فقال فيما رواه أحمد عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما: "إِنَّ الْمُهَاجِرَ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ".
________________
* داعية مصري، وأستاذ مساعد جراحة المسالك البولية بكلية طب القصر العيني بالقاهرة.
ــــــــــــ(1/114)
كيف نهاجر إلى الله ورسوله؟
أحمد الفراك Elfarrak@maktoob.com ...
1- معنى الهجرة
الهجرة لغة من الهجر وهو الفصل، ضد الوصل، هجره بمعنى فارقه وانفصل عنه، ووردت مادة "هجر" في القرآن الكريم أكثر من عشرين مرة، تفيد معنى الزيال والمفارقة والانفصال، والانتقال من حال إلى حال، والابتعاد عن الشيء وتركه.وتكون الهجرة حسية مثلما تكون معنوية، فهي حسية بمعنى هجر الحيز المكاني إلى حيز آخر يفضله، قال الله تعالى:" ومن يهاجر في سبيل الله يجد مراغما كثيرا وسعة"النساء100، ومعنوية بالانتقال الروحي الإيماني القلبي من حال إلى حال يفضله، قال الله تعالى:" واهجرهم هجرا جميلا" المزمل 10، وقال أيضا:" والرجز فاهجر" المدثر5.وقد جمعت الهجرة النبوية بين المعنيين معا.
الهجرة سلوك إيماني جهادي اختياري حسي ومعنوي، شامل لكلية المؤمن وممتد في الزمان، يستجيب لأمر الله، ولا يريد إلا وجهه "إني مهاجر إلى ربي" فهي هجرة إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم.هي استجابة لنداء الله تعالى لرسوله وللمومنين معه. استجابة لا يعبأ بها إلا "الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم"، الذين سبق لهم من الله التوفيق والهداية وبرهنوا على صدقهم بالبذل والاستقامة. حتى تكون هوية الهجرة هي العبودية لله تعالى.
الهجرة معالجة ربانية نبوية لواقع التكذيب والسخرية والظلم.
2- الهجرة منهاج ومجموع
لم يكن حدث الهجرة النبوية من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة حدثا منفصلا معزولا عن مجموعة الأحداث والمعاني الإيمانية التي سبقته وأسست له ونظمته في سياق تعبدي جهادي، إذ ليس فعل الهجرة الحسي المتمثل في الانتقال من مكان إلى مكان، إلا وجه واحد من أوجه الهجرة الشاملة، ومرحلة واحدة من مراحل الدعوة الدائمة التي تتداخل فيها جملة من الأعمال القلبية والجوارحية والتنظيمية الأخرى كالصحبة والجماعة والتوبة والنية واليقين والاقتحام والجهاد. فالهجرة هي هذا المجموع المنهاجي الذي لا يتجزأ.
1. الهجرة توبة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها"، فهي هجرة مستمرة لا تنقطع إلى يوم القيامة، مقام بعد مقام ومرحلة بعد أخرى، في بداية السير وفي وسطه وفي نهايته، ولا ينتهي السير إلا بالموت في حق الفرد، وبالقيامة في حق الجماعة. الهجرة فرار إلى الله ولجوء إليه، هجرة قلبية إلى حماه من كل صنوف الشرك والغفلة والنفاق والقعود. قال صلى الله عليه وسلم:" المهاجر من هجر ما نهى الله عنه"، فلا يستحق صفة المهاجر بحق إلا الذي تاب إلى الله توبة نصوحا، وقطع مع حبال الجاهلية: ظنها وحميتها وتبرجها وحكمها.وأحب في الله وأبغض فيه.
2. الهجرة معية
في دار الأرقم بن أبي الأرقم تربت الجماعة الأولى بصحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الصدق والمحبة والجهاد ، حتى تخرج ذلك الجيل القرآني الفريد الذي لا تنتهي ذلته على المونين ولا تنثني عزته على الكافرين، وصفهم الذي كلأهم بعنايته ورعايته فقال:"محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم" ، معه، معه، معه كانوا أشداء رحماء.نسبة إليه لا إلى أنفسهم.لما أذن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الهجرة، قال له سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه: " الصحبة يا رسول الله"، قال له: الصحبة.وما سمي الصحابة صحابة إلا لصحبتهم خير الخلق صلى الله عليه وسلم. ومن كان في معية الحبيب الطبيب فهو بلا شك في معية الحسيب الرقيب، قال سبحانه لموسى وهارون:"إنني معكما أسمع وأرى"، وعلى لسان موسى:" كلا إن معي ربي سيهدين"."لا تحزن إن الله معنا"، الأمن من الله ومع الله.
3. الهجرة جماعة
لم يأذن الله تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم - في الهجرة حتى ألف جماعة المسلمين الأولى ورباها ونظمها، فربط قلوب المؤمنين برباط التقوى والمحبة في الله "وألف بين قلوبهم، ولو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم، ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم" الأنفال 64 ، فجاء فعل الهجرة تتويجا لعمل تأسيسي سابق هو تربية جند الله وتنظيمهم لاستقبال النصر والفتح والتمكين .أما الذين نافقوا وتربصوا وقعدوا ونكصوا وارتابت أيمانهم وظنوا بالله الظنون وترددوا وقعدوا، فلا يستحقون ولاية المومنين ، قال الله تعالى:" والذين لم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شيء" الأنفال 73
4. الهجرة نية
في الحديث "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية"رواه الدارمي عن ابن عباس، فنية الهجرة من الهجرة، وبحسب طبيعة النية تكون نوعية الهجرة، وعلى قدر همة ونية المهاجر يعطى، وفي الحديث:"إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته لما هاجر إليه"رواه البخاري، لا يستوي من يريد وجه الله مع من يريد فتات الدنيا.فقد يكون الحدث واحدا لكن بحسب النية تتفاضل الأعمال "منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة".
وقد هاجر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من كان يريد امرأة.
5. الهجرة يقين
قال الله تعالى :" وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون"السجدة 240، فلا يمكن لقوم أن يحملوا سراج الهداية للخلق إن لم يكونوا على يقين بما هم فيه، لذلك استمر - صلى الله عليه وسلم - مع الصحابة رضي الله عنهم" يزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة" ويعرفهم علم اليقين. ومنذ أن قال - صلى الله عليه وسلم - :" رأيت في المنام أني مهاجر من مكة إلى أرض بها نخل فذهب ظني إلى أنها اليمامة أو هجر فإذا هي يثرب" والصحابة يعدون لذلك اليوم بكل صدق ويقين، وها هو - صلى الله عليه وسلم - يلقن أبا بكر درسا من اليقين في الله لما كانا في الغار" إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه، وأيده بجنود لم تروها، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى، وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم"".فأبو بكر لا يخاف في الله لومة لائم ، ولكنه يخشى أن يلحق بالمصحوب الأعظم أذى، فأجابه سيد الموقنين والمتوكلين:"ما ظنك باثنين الله ثالثهما". فالله تعالى يؤيد عباده الصادقين بما لا عين رأت ولا أذن سمعت، فهم ثابتون كالجبال، لا تنكسر عزيمتهم ولا تلين قناتهم أمام التهديد والتخويف والاستضعاف. لأن الله معهم " إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون"(النحل 128)و" إن الله مع الصابرين" و"إن الله لمع المحسنين".أما الذين لا يوقنون فهم معرضون على الدوام للشك والتقاعس والتردد.
6. الهجرة اقتحام
قال صلى الله عليه وسلم:" العبادة في الهرج كهجرة إلي"رواه مسلم عن معقل بن يسار، والهرج هو القتل بغير الحق، "والفتنة أشد من القتل". والهجرة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تتم إلا باقتحام عقبات النفس والمال والناس وممانعة عوارض الطباع والأهواء والإغراء، والتسلح بإرادة الجهاد، بالتحمل والصبر والتؤدة والقطع مع الحضوض النفسية والاجتماعية والمالية التي تعارض السلوك إلى الله وتعطل الدعوة إليه.معية الرسول تصح بالتلمذة والمحبة والخدمة والإتباع والتعزير والتوقير، في الشدة والرخاء، في المنشط والمكره، في الأخذ والعطاء. البيعة النبوية بيعة على تحدي الواقع العنيد ومقاومته وتغييره، وليست انبطاحا وتمسكنا وتثاقلا.
7. الهجرة جهاد
الهجرة النبوية جهاد ومجاهدة وتدافع ومقاومة ومقارعة لقوى الباطل والظلم والكفر، وإعداد واستعداد واستمداد، وبذل سخي للمال والنفس لإعلاء كلمة الله تعالى في أرضه ونصر دعوته في خلقه. فقد تحمل الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومعه الصحابة الكرام رضي الله عنهم أذى الكفار وتآمر المنافقين، وتعرضوا منهم للسخرية والاستهزاء والتكذيب، بل للضرب والحصار والسجن والتعذيب والقتل، "فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله و ما ضعفوا وما استكانوا و الله يحب الصابرين "(آل عمران 146 ) وما أعطوا الدنية في دينهم ولا اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا. حتى نصرهم الله وأعز دينه وأتم نعمته ورضي عن المجاهدين المخلصين الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه.وخاب المشركون وخسروا، ولا منتهى لخيبتهم. قال العليم الخبير: "وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين"(الأنفال30)
3- أسئلة مؤسسة
لماذا هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هل خوفا ؟ هل طمعا؟ومتى هاجر؟ ومن اقترح عليه فعل الهجرة؟ ومن دله على الوقت المناسب ؟ ماذا كان ينتظر تلك المدة الطويلة؟ وهل الهجرة بداية أم نهاية؟ وهل الهجرة في ذاتها نصر أم هزيمة؟ وهل بانتهاء الهجرة انتهت المحنة والبلوى أم تضاعفت البلايا وتعددت المحن؟ ثم هل بقيت هجرة اليوم؟ و ماهي ؟ ومع من؟ و من ماذا؟ وما هي موانعها؟...
لقد هاجر - صلى الله عليه وسلم - لابتغاء مرضاة الله تعالى، لا خوفا من الناس، ولا يأسا من التبليغ، هاجر لينشر دعوة الله في جميع أرض الله، بما آتاه الله. فقد تعرض عليه الصلاة والسلام لمختلف فنون المساومة والمداهنة فضلا عن التخويف والتجويع والحصار.وهو محتسب وصابر وموقن بالفتح والنصر والتمكين، لكنه لم يهاجر إلا بعد أن أذن الله له بالهجرة، ورأى في منامه أنه سيخرج من مكة وقالها لصحابته فاستبشروا بها خيرا وشمروا لإعداد العدة والخطة ليستقبلوا القدر-البشرى(الهجرة)،آخذين بالأسباب ومتوكلين على رب الأسباب، وهم على ذلك صامدين غير مستعجلين. حتى طلع عليهم - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم بالخبر:"لقد أخبرت بدار هجرتكم وهي يثرب".
تضاعف الحمل بمفارقة الأصحاب والأحباب والبلد والعشيرة، والخروج عن العوائد والمألوفات لمعانقة القدر الإلهي، لا لإنهاء فترة الدعوة - فالدعوة لا تعرف النهاية- وتقديم الإستقالة، وإنما للإنطلاق من جديد في رحلة مفتوحة على الزمان والمكان، بدأت كي لا تنتهي، ولن تنتهي حتى تطلع الشمس من مغربها.
يرى المعياريون والماديون أن الهجرة النبوية هروب ويأس وقنوط ، ينظرون إليها كظاهرة اجتماعية معزولة صانعها بشر في بشر، أنتجتها ظروف "سوسيو اقتصادية" و"سوسيوثقافية" ، وليست خبرا من السماء ولا رؤيا ولا تأييد ولا فتح ولا سنة لله في نصرة رسله وأنبيائه وأوليائه. وهم بذلك يحرمون التوفيق في الفهم فيوكلون إلى ظنونهم وتخميناتهم.
كيف نهاجر اليوم؟
قال الله عز وجل:" وكان حقا علينا نصر المومنين" الروم47،وقال أيضا:" إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور"الحج38. فنصر الله للمومنين ودفاعه عنهم، بل ومجالستهم وذكرهم، (ففي الحديث القدسي:" أنا جليس من ذكرني") مستمر إلى أن يرث سبحانه الأرض ومن عليها. وما على المومنين إلا أن يتوبوا إلى الله توبة صادقة وينكسروا بين يديه خشوعا وتذللا، وينهضوا متعاونين لمعانقة وعده، ووعده الحق، موقنين بالفتح والنصر لهذه الأمة إن شاء الله . مهاجرين أوضاعهم السيئة على جميع الأصعدة، التربوية والأخلاقية والاقتصادية والسياسية.
إن التاريخ اليوم يستقبل الخلافة على منهاج النبوة، فماذا أعددنا من أوعية لاستقبال هذا القدر؟ والإقبال على القادر المقدر؟ وهل استخرنا الله وسألناه في نياتنا وأعمالنا؟ أم أننا نخوض معتدين بحولنا وقوتنا وعقلنا وسادتنا وكبرائنا؟ وهل ألححنا في دعائنا على الله كي يجعلنا من عباده الصادقين ومع الصادقين المتحابين المتزاورين المتبادلين المتواصلين المتناظرين؟ أم طلبنا الدنيا؟
فسينجز الله وعده وينصر عباده ويهزم عدوه ويعلي كلمته ويمضي سنته. لكن هل تجاوزنا عقبات وموانع الهجرة من أنانيات معجبة بذاتها وشرك ومعصية وغفلة وسوء ظن وقعود ويأس وبلادة وتنطع وحب للدنيا والجاه وعافية الجبناء؟ هل انخرطنا فعلا في مشروع تجديد ديننا، كل ديننا، إيمان وحكم واقتصاد وأخلاق؟
هواء في هواء ونفخ في الرماد إن لم نتب إلى الله توبة كلية وندعو الناس للتوبة توبة جماعية "يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله جميعا لعلكم تفلحون".وإن لم نهجر الظلم ونقاطعه ونبني على غير أساسه....
روح الهجرة النبوية والهجرة على منهاج النبوة هي: صحبة صالحة، ونية صادقة، وتوبة نصوحة، ويقين عازم، واقتحام دائم، وجهاد شامل.
اللهم إنا نسألك النية واليقين.
ــــــــــــ(1/115)
الهجرة الشريفة
إنَّ الحمدَ للهِ نحمَدُهُ ونستغفِرُهُ ونستعينُهُ ونستهديهِ، من يَهْدِ اللهُ فلا مُضِلَّ له ومن يُضْلِلْ فلا هاديَ لهُ والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى كلّ رسولٍ أرسلَه.
أما بعدُ عبادَ اللهِ أوصيكم ونفسيَ بتقوى اللهِ العليِّ العظيمِ. يقولُ اللهُ تعالى في كتابهِ العزيز {إلاّ تنصرُوه فقد نصرَهُ اللهُ إذْ أخرجَه الذين كفروا ثانِيَ اثنينِ إذْ هُما في الغارِ إذْ يقولُ لصاحِبِهِ لا تحْزَنْ إنَّ اللهَ معنَا}.
عبادَ اللهِ، لما بُعِثَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أُمِرَ بالتبليغِ والإنذارِ بلا قتالٍ فظَلَّ أربعةَ عشرَ عاماً يدعو الناسَ إلى الإسلامِ من غيرِ قتالٍ فآمنَ بهِ بعضُ الناسِ كأبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعليٍ وبلالٍ وغيرِهم، وبقِيَ على الكُفرِ أكثرُ الناسِ وصاروا يؤذونَهُ وأصحابَهُ، فلمّا اشتَدَّ عليهِمُ الأذى هاجرَ بعضُ أصحابِ النَّبِيّ إلى الحبشةِ وكانوا نحوَ ثمانينَ منهم عثمانُ بنُ عفان وجعفرُ بنُ أبي طالب.
ولما كثُرَ أنصارُ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بيثربَ أمرَ اللهُ المسلمينَ بالهجرةِ إليها فخرجوا أرسالاً، ثم هاجَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - من مكةَ محلّ ولادَتِه مع أبي بكرٍ الصدّيقِ بعد أن أقامَ في مكّةَ منذُ البِعثةِ ثلاثَ عشرةَ سنةً يدعو إلى التوحيدِ ونبذِ الشّرْكِ. ولم تكنْ هجرةُ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - حُبّاً في الشُهرةِ والجاهِ والسلطانِ فقد ذهبَ إليهِ أشرافُ مكّةَ وقالوا له: إن كنتُ تريدُ بما جئتَ بهِ مالاً جمَعْنا لكَ من أموالِنا حتى تكونَ أكثرَنا مالاً، وإن كنتَ تريدُ مُلْكاً ملَّكناكَ إيّاه ولكنَّ النبيَّ العظيمَ أسمى وأشرفُ من أنْ يكونَ مقصودُه الدنيا. ولهذا كان يقولُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لعمّهِ أبي طالب حين أتاهُ يطلبُ منه الكفَّ عن التعرُّضِ لِقَوْمِهِ وما يعبُدُون: "واللهِ يا عمّ لو وضَعُوا الشمسَ في يميني والقمرَ في يَساري على أن أَتْرُكَ هذا الأمرَ ما تركتُهُ حتى يُظهِرَه اللهُ سبحانه وتعالى أو أهْلِكَ دونه".
وبالنبيّ - صلى الله عليه وسلم - اقتدى الصحابةُ الأجلاّءُ فقد خرَجَ عمرُ بنُ الخطابِ رضي الله عنه من مكةَ مع أربعينَ من المستضعَفينَ في وضَحِ النَّهارِ ممتشِقاً سيفَهُ قائِلاً لصنادِيدِ قريشٍ بصوتٍ جهيرٍ: "يا معشرَ قريش من أرادَ منكم أن تُفصَل رأسُه أو تَثْكُلَهُ أمُّهُ أو تترمَّلَ امرأَتُهُ أو يُيَتَّمَ ولدُه أو تذهبَ نفسُهُ فَلْيَتْبَعْنِي وراءَ هذا الوادي فإِني مهاجِرٌ إلى يثرب".
فما تجرأَ أحدٌ منهم أن يحولَ دونَهُ ودونَ الهِجرةِ. ثم إنَّ المشركينَ كانوا قد أجمعوا أمرَهم على قتلِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فجَمَعوا من كلّ قبيلةٍ رجلاً جلداً نسيباً وسيطاً ليضرِبوهُ ضربةَ رجلٍ واحدٍ حتى يتفرَّقَ دمُهُ في القبائِلِ، فأتى جبريلُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فأمرَه أن لا يبيتَ في مضجَعِهِ الذي كانَ يبيتُ فيه وأخبَرَهُ بمَكْرِ القومِ وأنزل اللهُ تعالى {وإذْ يمكرُ بكَ الذين كفروا ليُثْبِتُوكَ أو يَقتلُوكَ أو يُخرجُوكَ ويمكرونَ ويمكرُ اللهُ واللهُ خيرُ الماكرين}.فدعا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عليَّ بنَ أبي طالب فأمرَهُ أن يبيتَ على فِراشِه ويتسَجّى ببُرْدٍ له أخضرَ ففعل، ثمّ خرجَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - على القومِ وهم على بابِه ومعه حُفنةُ ترابٍ فجعل يذرُّها على رُؤوسِهم، وأخذَ اللهُ عز وجلّ بأبصارِهم عنْ نَبِيّه، وهو يقرأُ {يس والقرءانِ الحكيم} إلى قولِه {فأغشيناهم فهم لا يُبصرون} فلمّا أصبَحوا فإذا هم بعليّ بنِ أبي طالبٍ فسألوهُ عن النبيّ فأخبرَهُم أنّهُ خرجَ فركِبوا في كلّ وجهٍ يطلُبونَهُ وكانَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قد سارَ مع أبي بكرٍ رضيَ اللهُ عنه حتى وصلا إلى غارِ ثورٍ فدخلاهُ، وجاءتِ العنكبوتُ فنَسَجَتْ على بابِه، وجاءَتْ حَمامةٌ فباضَتْ ورَقَدَتْ، فلما وصلَ رجالُ قريشٍ إلى الغارِ قال أبو بكر: يا رسولَ اللهِ لو أن أحدَهم ينظُرُ إلى قدميهِ لأبصرَنا تحتَ قدميه. فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "يا أبا بكر ما ظنُّكَ باثنينِ اللهُ ثالثُهما".
عبادَ اللهِ، لقد سلَّمَ اللهُ نبيَّهُ الكريمَ من شرّ المشركينَ فوصلَ إلى المدينةِ المُنَورةِ ومعه صاحبُه فاستقبَلَهُ المؤمنونَ بالفرحِ واستبشروا بقدومِه، وسمَّى الرسولُ يثربَ بالمدينَةِ المنورةِ وءاخى بينَ أهلِها والمهاجِرين، وسمّاهم الأنصارَ، وبنى مسجِدَه ومساكِنَه. وقد استقبلَ الأنصارُ إخوانَهُمُ المهاجرينَ ومدُّوا لهم يدَ المساعَدةِ والعونِ حتى كان الأنصاريُّ يقسِمُ مالَهُ ومتاعَهُ بينه وبين أخيهِ المهاجِر. فحَرِيٌّ بنا أن نقتديَ بهؤلاءِ الأفذاذِ من الناسِ الذين عرفوا معنى الأخوَّةِ الحقيقيَّ فأيَّدهم اللهُ بنصرِه.
أقول قولي هذا وأستغفرُ الله العظيمَ لي ولكم.
ــــــــــــ(1/116)
الهجرة النبوية وقفات وتأملات
يبدأ اليوم عام جديد من السنة الهجرية، التي دأب المسلمون على التأريخ بها منذ عهد سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ فقد أجمع المسلمون بقيادة الفاروق على جعل الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة بداية تاريخ المسلمين، لما لهذا الحدث العظيم من دلالة عميقة حولت تاريخ البشرية، حيث تأسست الدولة الإسلامية المستقلة بسيادتها ودستورها ومؤسساتها وقوانينها.
وتأتي هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة بعد 13 سنة من الدعوة إلى الله عز وجل سرا وعلانية، في الأقربين والأبعدين في قريش والطائف والحبشة والمدينة.
استجاب أهل المدينة لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعاهدوه -ممثلين في 73 رجل وامرأتين- على السمع والطاعة والنفقة والنصرة.
بدأ الصحابة، بإذن من النبي صلى الله عليه وسلم، بالهجرة تسللا من قريش إلى أن أذن له ربه بالخروج صحبة أبي بكر الصديق رضي الله عنه في الليلة التي خططت قريش أن تضرب محمدا - صلى الله عليه وسلم - ضربة واحدة ليتفرق دمه في القبائل ولا تقدر عشيرته على الثأر منهم جميعا وترضى بالدية.
خرج عليه الصلاة والسلام بعد أن أوصى عليا رضي الله عنه برد الودائع التي استأمنه عليها أهلها لما عرف من صدقه وأمانته. خرج عليه الصلاة والسلام متوكلا على ربه وقد اتخذ كل ما استطاع من وسائل وأسباب تقطع على قريش الوصول إليه.
فكان التأييد الرباني الذي أعمى أبصار القوم وهو يمر أمامهم وأغشى أبصارهم عن رؤيته وهو يختبئ موضع أقدامهم وتحركت نواميس الكون بالقدرة الإلهية لتنسج العنكبوت خيوطها على الغار وتصنع الحمامة عشها بقربه، وينقذ الله نبيه من سراقة الذي لحق به ظانا أنه أدرك الجائزة التي خصصتها قريش لمن يمسك بالنبي وصحبه. وأراد الله أن تكون جائزته من نوع خاص تزيد الناس يقينا أن هذا الدين سينتشر وتكون له العزة والأمنة؛ كتب له - صلى الله عليه وسلم - كتاب أمان ووعده بسواري كسرى الذي حصل عليه عهد سيدنا عمر عندما تم فتح فارس.
ولدى وصول النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة كان أول عمل قام به لإرساء دعائم البنيان الإسلامي هو إنشاء مؤسسة المسجد فكان عليه الصلاة والسلام يشارك بيديه الشريفتين في حمل الحجارة على كتفه الشريف وهو يردد: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فارحم الأنصار والمهاجرين.
بني المسجد النبوي الشريف، فكان مؤسسة جامعة، مدرسة دينية وسياسية وثقافية واقتصادية واجتماعية. ولعل أهم تحول أحدثه هذا الإنجاز العظيم هو دخول المرأة التي لم تكن تعد شيئا إلى رحاب بيت الله، تحضر الصلوات وتشهد مجالس العلم والإيمان، وتساهم في المشاورات... فكان المسجد المحمدي مدرسة للدعوة ودارا للدولة.
"فكان المسجد المحمدي مدرسة للدعوة وكان كذلك دار الدولة فيه يهيء النبي العمل للعاطل والعلم للجاهل والمعونة للفقير ويرشد إلى الأمور الصحية الاجتماعية ويذيع الأنباء التي تهم الأمة ويلتقي بسفراء الدول ويرتب جنود المعارك في الحرب ويبعث الدعاة والمندوبين في السلم. هكذا كان المسجد في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وظل كذلك في عهد أصحابه ومن تبعهم بإحسان" يوسف القرضاوي، العبادة في الإسلام ص 225.
ولتنظيم العلاقات بين ساكنة المدينة، قام عليه الصلاة والسلام بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار أخوين أخوين حتى صاروا يتوارثون كما يتوارث الإخوة في النسب. وكتب لليهود معاهدة تضمن لهم دينهم ويتعهدون بالدفاع عن سلامة وأمن المدينة وأن يردوا أي خلاف إلى الله ورسوله.
إنها فعلا ذكرى غالية يتجدد فيها الحنين إلى العهد النبوي الزاهر، لكن هذا الحنين لا ينبغي أن ينقلب إلى إحباط عندما ننظر إلى الواقع المفتون، بقدر ما ينبغي أن يكون حاديا للقلوب المؤمنة المتطلعة إلى غد مشرق، إلى الخلافة على منهاج النبوة التي وعد بها الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلى الوعد والنصر الذي وعده الله عباده المتقين. المهم في كل ذلك هو أن يسائل كل واحد نفسه وهو يعيش هذه الذكرى ما قدم لنفسه لتبرأ ذمته أمام ربه؟ وهل ساهم في البناء للموعود الإلهي أم هو مجرد متفرج على الأحداث؟
الرياض - وائل الظواهر
ــــــــــــ(1/117)
السيرة النبوية دروس وعبر
في بداية العام الهجري الجديد يحسن بنا أن نقف وقفات سريعة مع سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، تلك السيرة العطرة التي لا يمل الإنسان من قراءتها والاطلاع عليها ، ولعل من المناسب الوقوف قليلاً مع هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة المنورة، لعلنا نأخذ بعض العبر والدروس من هذه الهجرة المباركة التي لا يعي كثير من الناس ما فيها من عبر وعظات.
إن الهجرة النبوية في حد ذاتها بغض النظر عن أحداثها تستحق الوقفة المتأنية، فهي ليست نزهة برية ولا و سياحة للتفرج والاطلاع، وليست سفراً لتحصيل متع الدنيا وملذاتها، وإنما هي انتقال من أجل الحفاظ على العقيدة وتضحية بالنفس والمال والأهل والولد من أجل العقيدة، فهي تبدأ من أجل العقيدة وغايتها العقيدة.
الهجرة النبوية ليست أحداثا تروى، بل هي منهج متكامل لمن أحسن الاستفادة منها وأخذ العبر والعظات على أحسن وجه وأجمله، فهي منهج النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مؤيد فيه من قبل المولى جل وعلا، وهي ليست حدثا عادياً، بل أمر جليل يستحق الاهتمام، ولا نستطيع هنا الوقوف على كل ما في الهجرة النبوية من عبر وعظات، وإنما نقف عند البعض ونترك البعض الآخر ليستخرجه القارئ.
دعوة مستمرة وصبر عظيم
النبي - صلى الله عليه وسلم - كما نعلم ظل في مكة ثلاث عشرة سنة يدعو إلى الله جل وعلا ليل نهار متعرضا في ذلك إلى الأذى الشديد والاضطهاد المستمر من كفار قريش الذين لا يريدون للخير أن ينتشر، ولكنه لم ييئس مع كل هذا العنت وقلة من آمن معه خلال هذه المدة، وحاول أن يتجه إلى بيئة أخرى لعله يستطيع من خلالها نشر دين ا لله جل وعلا، فاتجه إلى الطائف، ولكنه فوجئ بالسفهاء يردونه ردا منكرا، ولم يكتفوا بذلك، بل رجموه بالحجارة حتى سال الدم من قدميه، ويأتيه جبريل عليه السلام ليقول له إن معه ملك الجبال، وإن الله أمره أن يمتثل لأمره، فإذا أراد أن يطبق عليهم الجبلين ليهلكهم فعل. فقال عليه الصلاة والسلام لا بل أرفق بهم لعله الله يخرج من أصلابهم من يعبده" أو نحو ذلك. وهذه هي الوقفة الأولى وهي: ماذا قدمنا نحن من أجل هذا الدين، وكم تحملنا من الأذى في سبيل نشره بين الناس، وهل صبرنا كما صبر عليه الصلاة والسلام، أم أننا استسلمنا من أول الأمر، وبمجرد أن نواجه أذى أو معارضة قمنا بالتوقف عن الدعوة إليه سبحانه، فهل هذه هي القدوة بالنبي المصطفى الأمين!
الشباب وتحمل المسؤولية
لما أذن الله للنبي - صلى الله عليه وسلم - بالهجرة أمر عليا رضي الله عنه أن ينام في فراشه ليوهم المشركين بأنه هو، وامتثل علي أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنام في الفراش حتى أصبح، وواجه على صغر سنه كفار قريش بأسلحتهم وعتوهم وجبروتهم، واستطاع الرد عليهم حين سألوه دون خوف أو وجل. والسؤال الآن: كم ربينا من أبنائنا وشباب هذه الأمة على هذه التضحية الجسيمة، بل على مجرد تحمل المسؤولية! كم من الشباب الآن يستطيع أن يسير في خضم هذه الحياة معتمدا على ربه واثقا في نفسه، أم لا بد من الاتكالية تارة على الأهل وتارة على الآخرين، حتى أصبح ما كان يفعله الصبيان في القديم لا يستطيع كثير من الشباب أن يفعله الآن.
التوكل على الله من أعظم أسباب النصر، في غار ثور تظهر قوة الإيمان بجلاء والثقة في الله بكل معانيها، وذلك عندما يقول أبو بكر للنبي - صلى الله عليه وسلم - لو نظر أحدهم إلى موضع قدميه لرآنا، فيقول له عليه الصلاة والسلام يا أبا بكر: ما ظنك باثنين الله ثالثهما، وعندما يلحق بهما سراقة بن مالك وأبو بكر يكثر الالتفات بينما عليه الصلاة والسلام لا يلتفت، ثم يدعو عليه فتسيخ قوائم فرسه في الأرض، إنه التفويض الكامل وتسليم الأمر لله رب العالمين ، هذا مع عدم إهمال الأسباب فيما يستطيعه الإنسان، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - خطط فأحسن التخطيط، وبذل جهده في إخفاء نفسه ومن معه عن كفار قريش ومطارداتهم، وأعد العدة لهذا السفر الطويل، من راجلة وزاد، ثم ترك بعد ذلك أمره إلى الله وأوكل نفسه إليه، ولذا كان النصر من الله حليفه، وهذا يذكرنا بقيمة قوله صلى الله عليه وسلم: "لو أنكم تتوكلون على الله حق التوكل لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا"
المسجد والدور الحقيقي
ويواصل النبي - صلى الله عليه وسلم - سيره حتى يصل إلى المدينة، فيبدأ ببناء المسجد وعمارته لعلمه أن المسجد لم يوجد في الإسلام لأداء الصلاة فقط، وإنما هو مدرسة المجتمع الحقيقة وهو نقطة الانطلاق لتبليغ دين الله، وهو مركز الدولة الإسلامية السائرة على نهج الله، فأين أغنياء المسلمين عن هذه الحقيقة، وأين العلماء والمسؤولون عن هذا الأمر المهم في حياة المجتمعات، لماذا أصبحت المساجد مهملة، وإذا اعتني بها فمن أجل الصلوات فقط، ولا دور لها بعد ذلك في حياة المسلمين.
تلك وقفات سريعة ينبغي التريث عندها والنظر فيها بعين البصيرة ، ومحاولة تطبيقها على واقعنا لنحاول إصلاح ما يمكن إصلاحه من حالنا وحال أمتنا.
لهجرة النبوية.. عطاء بلا حدود وعزيمة لا تعرف اليأس
تمهيد
لمشاهدة الصورة بحجم اكبر إضغط علي الصورة
ونحن نستقبل عاماً هجرياً جديداً تطالعنا الآمال في نهوض الأمة الإسلامية من كبوتها وعثراتها لتقوي علي التصدي للتحديات والأزمات التي تواجهها وما أكثرها في عالم اليوم المليء بالصراعات.
ولقد ضرب صحابة المصطفي صلي الله عليه وسلم الذين هاجروا معه أروع المثل في صنع تاريخ الأمة وكيانها ومكانتها من خلال عطائهم بلا حدود وشجاعتهم وصمودهم بعزيمة لاتلين ولاتعرف اليأس.. فواجهوا بكل ثبات وقوة كل التحديات وانتصروا عليها.. وحققوا بطولات رائعة سجلها لهم التاريخ بأحرف من نور.. فهل تستفيد الأمة الإسلامية من بطولات هؤلاء الرجال ومن دروس هؤلاء العظماء!!
الهجرة الآن ليست مجرد نقله من مكان إلي مكان.. لأن النبي صلي الله عليه وسلم قال: "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية".. والهجرة المطلوبة الآن.. هي نقلة بالنفس الإنسانية من طبيعة النفس الأمَّارة بالسوء إلي مرتبة النفس اللوَّامة التي تفتش في مسيرة حياتها لتتجنب عوامل الضعف وأسباب الانحراف حتي ترقي إلي مرتبة النفس المطمئنة التي تنادي من قبل الحق تبارك وتعالي "يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلي ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي".
المنهج الإلهي
أضاف أن الهجرة علي المستوي الاجتماعي اليوم تعني النقلة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية إلي آفاق المنهج الالهي الذي أنزل الله عز وجل ليقوم الناس بالقسط وكلا النوعين النقلة النفسية والنقلة الاجتماعية هي التطبيق العملي لقول الله تبارك وتعالي "ففروا إلي الله إني لكم منه نذير مبين".
أوضح أن الفرار إلي الله عز وجل لايكون إلا بنصرة دينه والالتزام بمنهجه والدفاع عن الحق وصون المقدسات وحماية كرامة الإنسان.. ومن هنا كان الجهاد فريضة إسلامية ماضية إلي يوم القيامة لردع المعتدين ورد الظالمين وتحطيم هيمنة الاستكبار الشيطاني علي البشر.. وإن هذه هي رسالتنا في عالم اليوم ونحن نستشرف العام الهجري الجديد.
الصحوة الإسلامية
تأتي ذكري الهجرة هذا العام. في وقت ساءت فيه أوضاع الأمة إلي درجة لم يسبق لها مثيل في تاريخها الطويل. هذا علي المستوي الرسمي. أما علي المستوي الشعبي. أو السواد الأعظم في حياة الشعوب الإسلامية وتبوأ الإسلام سمعة مدوية تحطم كل السدود والقيود والعقبات الموضوعة في طريق الدعوة ففيها عزاء جميل. ونهضة مبشرة بانتصار عزيز.. فالصحوة الإسلامية المعاصرة آخذة في النمو. وبخاصة في أروقة الشباب المتطلع إلي فجر جديد. يكتسح كل الظلمات. وهي أملنا الوحيد في انقاذ الأمة من الهاوية التي جرها فيها أعداؤها بعد أن أحكموا قبضتهم عليها بعوامل التخويف أو التزييف. فأفقدوا أمراءها الإرادة ووضعوا في أعناقهم القلادة. لا ليتزينوا بها. ولكن ليسهل علي الأعداء خنقهم في أية لحظة أرادوا.
أضاف أن هجرة الرسول وصحبه من مكة إلي المدينة تذكرنا بأن تحقيق النصر لابد فيه من الأخذ بالأسباب التي وضعها الله في أيدي البشر. ومحال أن يهب الله نصراً لخامل أو كسول أو جبان. لم ينفض غبار الذل والهوان والضعف عن نفسه. ولم يخط خطوة واحدة نحو كسب المعالي والذود عن العزة والكرامة بإعداد القوة للأعداء. والتدريب الجيد مادياً ومعنوياً وهو المشار إليه من قوله تعالي:
"وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة. ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم. وآخرين من دونهم لاتعلمونهم الله يعلمهم".
أن الإعداد المادي يكون بإعداد السلاح المناسب لردع كل عدوان. والقدرة الماهرة علي استعماله والإعداد المعنوي يكون بقوة الإيمان. وإخلاص العمل لله. وإيثار الآخرة الباقية. علي الدنيا الفانية ثم يأتي بعد ذلك نصر الله مكافأة لمستحقي النصر "وكان حقاً علينا نصر المؤمنين" ينصر الله المؤمنين الذين أخذوا بالأسباب. علي النحو الذي تقدم وإن اجتمعت عليهم الدنيا بأقطارها ومهما قل المؤمنون ومهما كثر خصومهم. فالله وحده هو الغالب علي أمره: "إن ينصركم الله فلا غالب لكم" "إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم".
أشار إلي أن هذا ما صنعته الأمة في أول عهدها بقيادة رسولها الكريم. من الهجرة. وفي غير الهجرة. فتساقطت أمامها عروش. وهوت تحت أقدامها التيجان كما تتساقط وتتهاوي حبات العقد النظيم إذا انفرط نظامها.
الأخذ بالأسباب
قال إنه في الهجرة ضرب الرسول وأصحابه أروع الأمثال في الأخذ بالأسباب. والتضحية بكل غال ونفيس فمكنهم الله في الأرض. ورد عنهم كيد أعدائهم فأقاموا دولة شامخة في الأرض أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.. والأمة في هذا العصر لن تفك أسرها من أيدي أعدائها إلا بالسير علي الدروب التي ساروا فيها بأن توحد صفها وتجمع أمرها علي قلب رجل واحد وتمحو عوامل التفرق التي فرقتها وشتتتها وهونتها علي أعدائهم.. تأخذ جادة بالأسباب في فقه الدنيا وطرق استثمار الطاقات. وفي فقه الدين. فتقيمه وتعمل به. كما أراد الله.. لا كما أراد منهم أعداء الله المعاصرون.
وأن يكون ولاؤها الخالص لله تبغي رضاه. وتخشي سخطه. رغم أنف أعداء الله مهما كانت مواقعهم. فهم أمام الله إذا أصلحنا علاقاتنا به تراب فوق التراب.
أشار إلي أنه لابد. وبكل حزم وعزم. من إحلال وتجديد في حياتنا. فقد جدَّ الأمر وأحدقت بها الأخطار. ولابد لنا من تغيير ما بأنفسنا نحو الصلاح والاصلاح. حتي يغير الله مابنا من ضعف وهوان.. ليستخلفنا الله في الأرض كما استخلف الذين من قبلنا.. وليمكننَّ الله لنا ديننا الذي ارتضاه لنا.
وليبدلننَّا من بعد خوفنا آمناً.
حركة ونهوض
الهجرة انطلاق لبناء أمة وتكوين مجتمع وتشكيل حضارة وصياغة قيم وإعداد أجيال وإنارة طريق وتخطيط لمستقبل وإنجاز لإيجاد مباديء ومثل.. كل هذا وذاك يجعلنا في مقدمة الصف مواجهين تحديات كثيرة متعددة ومتنوعة لأن الهجرة حركة ونهوض ويقظة وصحوة ولأن الهجرة لم تأت خبط عشوائي ولم تكن مجرد مصادفة.. بل من أول يوم من أيام الوحي كان للهجرة وجود كبير وأثر عظيم.
أضاف أن ذلك الأثر صنع للأمة تاريخها وكيانها ومكانها ومكانتها من خلال صحابة رسول الله الذين شرف بهم الزمن.. قوة وسخاء كرماً وبذلاً وعطاء..
أوضح أن الهجرة علمتنا كيف نواجه التحديات بثبات ونحن كالجبال الشمم العالية والرواسي الشامخات.. والهجرة دواء قوي يعالج أدواء المجتمع من فرقة وتمزق وضعف وفقر ومرض وجهل وأمية ثقافية تستشري في المجتمع.. وهي أيضاً باب فسيح ونافذة مستنيرة من أجل أن تكون لنا ثقافة واعية ووعي ثقافي.. قال: إنه مما لاشك فيه أن الهجرة واجهت تحديات حولت العالم من جمود إلي حركة ومن فوضي إلي نظام ومن مهانة حيوانية إلي كرامة إنسانية.. نعم أيها إنسانية الكرامة وحركة العالم الذي هو مليء بالأحقاد والكراهية وسفك الدماء والصراعات اللامتناهية والدمار والأطماع البشرية.. هذه تحديات لابد وأن نقف أمامها بقوة وشجاعة وصلابة رأي في غير تطرف أو عصبية أو دمار لمن حولنا.
أوضح أن الهجرة دروس وعبر وقيم ومباديء ومثل.
* جريدة المساء
ليس الإسلام مذهبا فكريا
ديننا دين عملي ، يقود لعمارة الكون ، وامتلاك ناصيته ، وإسعاد أهله ، في ظل الحق والعدل والسلام ( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ) "9 "
وليس دينا يهدف إلى أن يكون مذهبا فكريا ، أو عقديا ، يناطح الأفكار والنظريات فقط.
لا . . إن الهدف من ديننا ، هو : إقامة الإسلام عمليا ، وتطبيقه في دنيا الواقع ، وهيمنة مبادئه وتعاليمه على سلوك الناس وحياتهم ومعاملاتهم ، و . . ، و . . الخ من خلال الدولة وسلطانها ، والنظام وقوانينه .
ولو لم يكن الأمر كذلك : لظل النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة حيث كان يحب ، دون تعرض لمشقات الهجرة ، وآلام فراق الوطن ، خاصة وأن أهل مكة ما كانوا يتعرضون له ولأصحابه - صلى الله عليه وسلم - بالإيذاء والاضطهاد ، لو كانوا يعلمون أنه مذهب فكري يدعو إليه محمد - صلى الله عليه وسلم - دون تعرض به ومن خلال مبادئه لتغيير سلوك الناس ، ونظام حياتهم ، وقوانين مجتمعاتهم .
وهو نفس الهدف ، ونفس الدرس ، الذي يستجلب لأبناء الحركة الإسلامية _ في عالم اليوم _ المتاعب والمصاعب والمحن .
فليس الذي يعانون بسبب اعتناقهم الإسلام ، أو تنفيذهم لشعائره وعباداته ، إنما السبب الحقيقي فيما يعانونه : هو أنهم يريدون الإسلام نظاما وقوانينا ، يريدون الإسلام مهيمنا على كل جنبات حياتهم ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له ) "20 "
ولن نستفيد من هذا الدرس . . ! !
ولن ننتفع بهذا الدين . . ! !
إلا إذا أصبح الإسلام _ كما يقول الإمام حسن البنا _ نظاما شاملا ، يتناول مظاهر الحياة جميعا ، بحيث يصير : دولة ووطنا ، أو حكومة وأمة ، كما أنه خلق وقوة أو رحمة وعدالة ، وثقافة وقانون ، أو علم وقضاء ، كما أنه مادة وثروة أو كسب وغنى ، وهو جهاد ودعوة أو جيش وفكرة ، كما هو عقيدة صادقة وعبادة صحيحة ، سواء بسواء . " 21 "
ومن الواجب أن ننبه هنا : على أن هذا الكلام لا يوجه فقط للقادة والمسئولين والحكام ، بل هو موجه _ كذلك _ لأفراد الناس وجماعاتهم ، عامهم وخاصهم ، مع الحكام والمسئولين ، سواء بسواء ، كل على قدر موقعه ، وحجم مسئوليته ، ودائرة اختصاصه .
فلا ينبغي أن يكون تقاعس الحكام عن تطبيق شرع الله مندوحة لشعوبهم في أن تعيث في الأرض والدنيا لهوا وفجورا وفسادا ، بحجة آن " الناس على دين ملوكهم " .
كلا . . وألف كلا . . ! !
ففي الحديث الشريف : عن حذيفة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا تكونوا إمعة ، تقولون : إن أحسن الناس . . أحسنا ، وإن ظلموا . . ظلمنا ، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا ، وإن أساؤا فلا تظلموا " " 22 "
كما أن تعاليم الإسلام ، لا يهيمن عليها _ كلها _ ويقدر على تعطيلها الحكام ، حيث إن الكثير من أحكام الإسلام ، وآدابه ، ونظمه ، وقواعده ، وتعاليمه ، ترتبط القدرة على تنفيذها _ فقط _ بالمرء نفسه ، دون تصريح أو تمكين من غيره .
ولو عرض كل امرئ حاله على شرع الله لوجد الكثير مما هو مسئول عنه ويستطيع _ لو صدق _ تنفيذه : قد ألقى كسلا ، أو إهمالا ، أو هروبا من التبعات ، على شماعة تقاعس الحكام عن تطبيق شرع الله . . ! !
كما لا ينبغي أن يكون فساد الشعوب ، وإهمالها _ أو جهلها _ لشرع الله مندوحة لحكامهم في أن يعيثوا في الأرض والدنيا والناس إيذاء وقهرا وإفسادا ، بحجة أنه لا يصلحهم _ أو يصلح معهم _ إلا هذا ، أو بحجة من كان يقول ( . . يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون * أم أنا خير من هذا الذي هو مهيمن ولا يكاد يبين ) "23 "
كلا . . وألف كلا . . ! !
ففي الحديث الشريف . . " سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : الإمام العادل ، وشاب نشأ بعبادة الله . . ) الحديث "24"
لاحظ أن أولهم : هو الإمام العادل ، الذي يصلح البلاد ، ويعدل بين العباد .
وفي الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم في صحيحه : عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أنه قال : " إن المقسطين ، عند الله ، على منابر من نور ، عن يمين الرحمن عز وجل _ وكلتا يديه يمين _ الذين : يعدلون في حكمهم ، وأهليهم ، وما ولوا " "25 "
ولذا . . فالأولى بالحكام : أن يعدلوا ، وأن يصلحوا ، حتى لا يحرمون من هذا الفضل ، الذي لا يدانيه فضل ، وحتى لا يصيبهم ما أصاب من ( استخف قومه فأطاعوه ) وسكتوا له ، فاغتر ، وقال : ( أليس لي ملك مصر ) ؟ إذ يخبرنا القرآن الكريم عنه وعنهم ، بقوله ( فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين ) .
ولو لم يتم ذلك في الدنيا : فإنهم سيقفون أمام الله تعالى يوم القيامة ، وسيحاسبهم ربهم عن أنفسهم وعن رعاياهم .
ودعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ، مستجاب فيهم ، الذي يقول فيه : " اللهم . . من ولي من أمر أمتي شيئا ، فرفق بهم : فارفق به " "25 "
وسيحاسبهم عما هو أكثر وأعم من ذلك .
فسيحاسبهم عن : صيانة الأمن ، وإنفاذ القانون ، ونشر التعليم ، وإعداد القوة ، وحفظ الصحة ، ورعاية المنافع العامة ، وتنمية الثروة ، وحراسة المال ، وتقوية الأخلاق ، ونشر الدعوة . "21 "ولذا فبالراعي والرعية : يصير الدين واقعا ، والسلوك عبادة ، فلا انفصام بين الدين وحياة الناس ، ولا خصومة بين حياتهم وتعاليمه .
ــــــــــــ(1/118)
ما أروع دروس الهجرة النبوية الشريفة
ما أروع ان نقف لحظات ننظر في دروس الهجرة النبوية الشريفة من مكة المكرمة الى المدينة المنورة وننظر بعمق في فصول الهجرة ودروسها، ونتعلم منها جوانب مضيئة من حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم.. هذا النبي الكريم، والرسول العظيم الذي لم يخرج من مكة مهاجرا الى المدينة المنورة إلا بعد أن أذن له الله عز وجل بذلك، وبعد أن صبر وتحمل واحتسب وعانى ماعاناه من البلايا والرزايا والأذى من أهله وذويه، ثم ممن حوله من الذين كرهوا ان تظهر كلمة الله عز وجل، وان تكون كلمته سبحانه وتعالى هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى.
والعقلاء من الناس هم الذين يحرصون على اغتنام فرص المناسبات الاسلامية ليقفوا عندها ويتدبروا في اسرارها ومعانيها، ثم ليستفيدوا من كل تلك الجوانب العطرة في السيرة النبوية الشريفة في هذا المجال، وذلك لأن هذه الدروس تساعد على تتبع جوانب السيرة النبوية العطرة، وأخذ الدروس منها والتعرف عليها وتعلمها ومتابعة احداثها وبالتالي تعليم أولادنا وتلاميذنا ومن حولنا جوانب من تلك الاسرار في مثل هذه المناسبات العظيمة.
ومن ينظر في قضية الهجرة النبوية الشريفة يلاحظ ان الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان متعلقا بمكة المكرمة، هذه المدينة الطيبة الطاهرة، وقد احبها وولد فيها، وعاش ونشأ وترعرع فيها، وتنزل عليه الوحي من الله عز وجل في غار حراء بهذه المدينة الطيبة، فقد قال - صلى الله عليه وسلم - وهو يخرج منها مهاجرا قولته المشهورة: «اللهم وقد اخرجتني من احب البقاع الي فاسكني في أحب البقاع اليك» وهذا ابن عمر رضي الله عنه يقول حدثني الضحاك بن عثمان، أخبرني عبد الله بن عبيد عن عمير قال سمعت عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن أبيه قال: «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجته وهو واقف على راحلته وهو يقول: «والله انك لخير الأرض، وأحب الأرض الى الله، ولولا اني أخرجت منك ما خرجت». قال فقلت ياليتنا نفعل فأرجع اليها فانها منبتك ومولدك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اني سألت ربي عز وجل فقلت: اللهم انك اخرجتني من احب أرضك الي، فانزلني أحب الأرض اليك، فأنزلني المدينة». فكانت الهجرة الى المدينة بأمر الله وباختيار الله، وهو سبحانه الذي أكرمه وحماه وحفظه من المكاره التي احاطت به، والمؤامرات التي حاكها أعداء الله له وأخذوا يتربصون به.
ولا شك ان الحبيب - صلى الله عليه وسلم - قد أكرمه الله بالهجرة من حرم الى حرم، وكلا المدينتين ذات فضل وبركة وهما احب المدن الى الله تعالى، ثم الى رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ففي الأولى كانت نشأته، والثانية كانت اليها الهجرة وفيها مضجعه الأخير.
وقد اختار الله تعالى الأولى لمكان بيته، واختار الثانية لمسجد رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فحددهما وعينهما، أمر الناس بالحج إلى الأولى، وبالهجرة إلى الثانية، فكانت في حياته صلى الله عليه وآله وسلم قبل الفتح واجبة، وصارت بعده مندوبة، دعا للأولى إبراهيم عليه السلام، وللثانية أكرم ولده صلى الله عليه وآله وسلم، وجعل القلوب تهوي إليهما.
مدينتان اضطربت الجبال فيهما تحت قدمي رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وصديقه الصديق وحن في الثانية الجذع شوقاً إليه، وسلم الحجر والشجر والجبل في الأولى عليه، صلى الله عليه وآله وسلم، وأشبع العدد الكثير فيهما القليل من طعامهما.
مدينتان ضوعف أجر الصلاة فيهما، وشد الرحل إليهما، وفي ماء الأولى وتراب الثانية وتمرها الشفاء، وبعض أجزائها من الجنة، ويئس الشيطان أن يعبد فيهما، وجعل رزقهما من ثمرات الأرض، وحرم دخول الكفار إليهما، ومنع الدجال منهما.
مدينتان تشرفتا وأهلهما برسوله صلى الله عليه وآله وسلم، خرج من الأولى إلى الثانية مهاجراً، ثم عاد إليها فاتحاً، وقد حث على الموت فيهما، وقد علمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن من مات فيهما بعث من الآمنين، وأهلهما أول من يحشر مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأول من يشفع لهم صلى الله عليه وآله وسلم.
مدينتان جعلهما الله تعالى حرماً آمناً، فحرم الصيد وتنفيره فيهما، وحرم قطع الشجر والكلأ فيهما، وحرم التقاط لقطتهما، وحرم حمل السلاح للقتال، وسفك الدماء فيهما، لا يختلي خلاهما، ولا ينفر صيدهما، ولا تلتقط لقطتهما.
للملحد فيهما أشد العقوبة، ولمن آذى أهلهما النكال، فأهل الأولى هم أهل الله تعالى، وأهل الثانية جيران رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وحق على الأمة: إكرام جيرانه صلى الله عليه وآله وسلم.
هما آخر البلاد، حرم على غير المسلمين غزوهما، ومنعهما من الجبابرة، فتناثر أصحاب الفيل بالطير الأبابيل، وغرقت الحملات الصليبية في البحر الأحمر قبل وصولهما، وسيخسف بالجيش الغازي في آخر الزمان.
وجعل المدينة مدخل صدق، وهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول وهو يخرج من مكة مهاجرا: وقل ربي ادخلني مدخل صدق واخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا.
ولا شك ان الهجرة النبوية الشريفة لم تكن تحركا عشوائيا، ولم تكن هروبا، ولكنها كانت بأمر الله وتوفيقه نقلة استراتيجية عظيمة اراد المولى عز وجل بها حماية الدعوة بعد ان اشتد الضغط، وكثر الأذى، وازدادت المؤامرات على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى اتباعه في مكة المكرمة، وأمعنت قريش في الظلم والتعدي والتعرض له صلى الله عليه وسلم، ولصحابته الكرام، فجاء الاذن بالهجرة.
ولا شك ان الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد فرح باختيار الله عز وجل لهذه المدينة المنورة وان تكون هي مقر الهجرة، وتحول اسمها من يثرب الى المدينة المنورة، ومن عوامل فرحه - صلى الله عليه وسلم - انه قد أحب اهل هذه المدينة عندما لقي بعضهم قبل الهجرة، وكذلك في المدينة أخواله من جده من بني النجار، وهذا مازاد ارتياحه وجعله يأنس للذهاب الى هذه المدينة الطيبة الطاهرة، ويلقى اولئك الرجال والنساء الذين استقبلوه فرحين بقدومه وعوضوه عن قسوة الأهل في مكة (وظلم ذوي القربي أشد غضاضة). وكف الله عنه بهذه الهجرة تسلط قريش وغطرستهم وكبرياءهم وأذاهم.
ومن القضايا المهمة التي لابد ان نتدبرها في قضية الهجرة ان الرجال الذين هاجروا معه والنساء الذين تبعوهم على الرغم من انهم كانوا قلة وضعفاء الا انهم كانوا اقوياء بايمانهم وصبرهم واحتسابهم، وقد اعانهم الله وأكرمهم وكرمهم ورفع من شأنهم.
ولا شك أن العامل الآخر هو أن المدينة المنورة كانت قد بدأت تستقبل الإسلام ودخل في دين الإسلام عدد من أهل المدينة وكان هذا الأمر مهما وشجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على التوجه إلى المدينة المنورة. أضف إلى ذلك أنه في ذلك الوقت كان لها دور أساسي باعتبارها مركزا حضاريا من الناحية التجارية ومن الناحية الزراعية، وكانت مدينة تعج بالحركة والنشاط بالإضافة لكونها ملتقى القوافل التي كانت تمر من الشام إلى اليمن ومن اليمن إلى الشام وهذا أيضا جعلها مؤهلة أن تلعب دوراً أساسيا بالنسبة لانتشار الدعوة الإسلامية.
ومن العوامل الأخرى المهمة ما اتسم به أهل المدينة من مروءة ومن رجولة حتى ان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال قولته المشهورة: «لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار».
ولا شك ان من حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهذه المدينة ان دعا لها وحرم ما بين لابتيها. عندما قال صلى الله عليه وسلم:
ا ـ «اللهم إن إبراهيم حرم مكة ودعا لأهلها وإني حرمت المدينة كما حرم ابراهيم مكة» (متفق عليه من حديث عبد الله بن زيد رفي الله عنه).
2 ـ «المدينة حرم ما بين عير الى ثور» (متفق عليه من حديث علي رضي الله عنه).
3 ـ «ان ابراهيم حرم مكة واني حرمت المدينة وما بين لابتيها» رواه مسلم من حديث حاصر في الله عنه).
4 ـ «اللهم اني احرم ما بين جبليها مثل ما حرم ابراهيم مكة» (متفق عليه. من حديث أنس رضي الله عنه).
5 ـ «اللهم ان ابراهيم حرم مكة فجعلها حرما واني حرمت المدينة حراما ما بين مأزميها» (رواه مسلم. من حديث ابي سعيد رضي الله عنه). الى غير ذلك من النصوص.
ودعا - صلى الله عليه وسلم - للمدينة بمثلي او بضعفي ما دعا ابراهيم عليه السلام لمكة، وأن يكون فيها من البركة ضعف ما بمكة أيضا من البركة. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان الناس اذا رأوا أول الثمر جاءوا به الى النبي - صلى الله عليه وسلم - فاذا اخذه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «اللهم بارك لنا في ثمرنا» (الحديث) وفي آخره: «اللهم ان إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك، وإني عبدك ونبيك وانه دعاك لمكة وأنا أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ومثله معه» (اللفظ لمسلم). ومن حبه - صلى الله عليه وسلم - للمدينة المنورة أنه اضافها الى نفسه فسميت مدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمدينة النبوية ومدينة المصطفى بعد كان اسمها في الجاهلية يثرب. وهكذا دخلت التاريخ من أوسع ابوابه.
ومن ينظر في قصة الهجرة وترتيباتها يحس بابعاد ذلك التخطيط الدقيق الذي سبقه التوكل والعزيمة والامتثال لأمر الله عز وجل ثم تلاه الأخذ بالأسباب، فهذا أبو بكر الصديق رضى الله عنه يتشوق للهجرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يدعوه إلى التريث حتى جاءت اللحظات الحاسمة التي أدرك فيها أبو بكر الصديق أن الوقت قد حان وأن الصحبة حاصلة وأن الهجرة قد أذن بها الله عز وجل.
وجاء اليوم المشهود، وجاء - صلى الله عليه وسلم - إلى دار أبي بكر في وقت لم يكن من المألوف أن يزورهم فيه، فقد كان يلم بدارهم كل يوم صباحا أو في العشي، ولكنه لم يكن يزورهم أبدا في الهجرة، واشتداد الحر في مكة كما حدث في ذلك اليوم، فقال الصديق رضي الله عنه: ما جاء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أمر عظيم، وربما توقع أنه هذا الأمر وأنها الساعة التي كان ينتظرها. وكانت القصة فقد اخبره عليه الصلاة والسلام انه قد اذن له في الهجرة، وعليه ان يعد العدة ويستعد للخروج معه رفيقا ومؤنسا معينا في هذه الرحلة الخالدة بخلود كتاب الله المجيد، فبكى أبو بكر من شدة الفرح، ومنذ الساعة تزايد إحساسه بالمسؤولية عن سلامة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن نجاح هذه الرحلة الميمونة، فاستأجر دليلا خبيرا ماهراً مؤتمنا، من بني عبد بن عدي، تسلم الراحلتين يعتني بهما ويعلفهما حتى تأتي الساعة الموعودة، ثم رتب مع عامر بن فهيرة مولاه أن يرقبهما حتى إذا استقرا في الغار ويروح عليهما بمنيحة أبي بكر أي بأغنام أبي بكر كل يوم ليشربا لبنها ولتختفي آثار أقدامهما تحت أرجل الغنم، وكلف ابنه عبد الله أن يأتيهما كل ليلة ـ حين تهدأ الرجل ـ محاذرا ـ ليخبرهما بما سمع من حديث المشركين وظنونهم وتدبيرهم، وكلف اسماء بنت أبي بكر أن تعد سفرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما سيحملانه في هذه الرحلة من زاد وماء.
وصل الركب الشريف إلى غار ثور، ووجدا فيه مكانا صالحا للاختفاء فترة من الزمن حتى يهدأ الطلب، فأسرع الرائد الأمين يتقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرتاد المكان يتفحصه ويؤمنه حتى يطمئن إلى خلوه من عدو أو خطر أو دواب أو حشرات، ودخل الغار يصلح من شأنه قدر طاقته حتى يكون صالحا لإقامة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشق رداءه قطعا يسد بها شقوق الغار خشية أن يكون بأحدها حية أو هامة من هوام الأرض تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أن حل الرسول الكريم بالغار حتى أسرعت الحمامة تصلح عشها وتبيض على بابه، وجاءت عنكبوت فنسجت نسيجها الواهي تسد به مدخل الغار، وقد تم كل ذلك بأمر الله وتدبيره عز وجل.
وظل الفتية من قريش الذين يتربصون برسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمام داره فغشيتهم الغاشية، فلم يحسوا به يتسلل من بين أيديهم، وما لبثوا أن علموا بخروجه، فأصابهم ما يشبه الجنون، وانطلقوا يبحثون عنه في كل اتجاه ويبذلون الوعود بالمكافأة السخية لمن يدلهم على محمد أو يأتيهم بأخباره وصاحبه، وأخذوا يهددون آل أبي بكر وصغاره عسى أن يفوزوا منهم بكلمة تدلهم على مكانه فلم يصلوا إلى شيء.
انطلقوا يبحثون في كل شبر بمكة وشعابها وما حولها حتى وصلوا إلى الغار وتقدم دليلهم وهو يتوقع في ما يشبه اليقين انه سيجدهما في هذا الغار المحفور في الصخر، لكنه فوجئ بما خيب أمله فقد وجد على باب الغار حمامة ترقد على بيض وعنكبوتا نسجت فسدت مدخل الغار، فقال للقوم انه غار لم يدخله أحد منذ شهور عدة، ارتجف قلب أبي بكر حين رآهم فوقه خوفا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: يا رسول الله لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا، فأجابه: «يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما». وخلد القرآن هذا المشهد الرائع بقول الحق تبارك وتعالى: «الا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لاتحزن إن الله معنا فانزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها». ومكثا في الغار يومين أو ثلاثة، وكان عبد الله بن أبي بكر يأتيهما بالأخبار، لقد هدأ الطلب، وجاءهما الدليل بالرواحل، وجاءت أسماء بالزاد ولما لم تجد ما تعلق به الطعام والماء في الرحل شقت نطاقها فجعلت منه حبلا ومنذ يومها سميت ذات النطاقين. وبدأت الرحلة في طرق وعرة بعيدة عن طرق القوافل اتقاء لمقابلة أحد من أهل مكة وتجلى أثناء الرحلة استعداد الصديق للتضحية والفداء والحرص على سلامة الدين بسلامة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو يمشي أمام الرسول ليتلقى عنه ما قد يأتي من الأمام، ثم يتذكر الطلب فيمشي خلفه، ثم يمشي عن يمينه، ثم يمشي عن يساره، وهكذا طول الطريق يمهد له الظل ليستريح، ويأتيه بالطعام والشراب، لا يدخر وسعا ولا يألو جهدا في خدمته وتهيئة أسباب الراحة ما أمكنه ذلك، يخفق قلبه عند أية بادرة أو نبوة خوفا عليه - صلى الله عليه وسلم - وعلى مصير الإسلام والمسلمين إن حدث له شيء.
هذه اذا ملامح من الهجرة النبوية توضح الصمود والصبر والرغبة فيما عند الله عز وجل ولكنها في الوقت نفسه توضح لنا أن الهجرة النبوية لم تكن قضية مفاجأة ولا أمراً عفوياً، بل كان فيها الإعداد والتنظيم والتخطيط الذي سبقه التمهيد لهذه الهجرة سواء بعقد بيعة العقبة الأولى أو الثانية أو الثالثة يوم كان ينتهز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مواسم الحج فيلتقي بأهل يثرب ويدعوهم ويهيئهم، ثم ما فعله مع الخزرج في العام التالي واخذ - صلى الله عليه وسلم - يتدرج في البيعة، ثم عندما أرسل مصعب بن عمير إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخبره بالرجال والنساء الذين دخلوا في الإسلام حرص الرسول - صلى الله عليه وسلم - على لقائهم في موسم الحج التالي وتمت البيعة والرسول - صلى الله عليه وسلم - يحادثهم: ابايعكم على ان تمنعوني فيما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم فردوا عليه: نعم، والذي بعثك بالحق نبيا يارسول الله فنحن والله أبناء الحروب وأهل الدروع ورثناها كابراً عن كابر.
هكذا اذاً مهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهذه الهجرة ثم خطط لها يوم همس في أذن أبي بكر بأن الإذن قد جاء بالهجرة وما تبع ذلك من تخطيط في اختيار الوقت الملائم والمناسب للخروج من مكة وفي تهيئة الأسباب الرئيسية للرحلة، ثم في خداع المشركين عندما طلب من سيدنا علي بن أبي طالب البطل المغوار أن ينام في فراشه، فهذه التنظيمات من كتمان تام لخبر الهجرة، واختيار ملائم للتوقيت والخروج في وقت الهجيع الأخير من الليل وسلوكه طريقاً غير الطريق الذي تألفه قريش، كل هذه الأمور تعلم الأمة أهمية التخطيط في حياتها وأهمية التنظيم وأهمية الشورى وأهمية التعاون، ثم العزم والتوكل على الله والصمود في سبيل مرضاة الله عز وجل مهما كانت الصعاب ومهما كانت الكوارث ومهما كانت التحديات.
إنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا الدروس ولذلك فقد حرص عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح أن يؤكد على قضية هامة: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي» لأنه القدوة ولأنه الأسوة ولأن هؤلاء الرجال أخذوا عنه، وهذا رب العالمين يأمرنا بطاعته «من يطع الرسول فقد أطاع الله» ويقول عز وجل «أطيعوا الله وأطيعوا الرسول» ثم يجعله القدوة والأسوة «لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر».
هذه إذاً لمحات من الهجرة ولا شك إن من الواجب أن نحرص كل الحرص على أن نستفيد من هذه المناسبة ونعود إلى الله ونتوب توبة نصوحا، فهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غمار المعارك يتوب إلى الله ويستغفر الله ويجأر إلى الله بالدعاء ويعلمنا أن نعود إلى الله عز وجل، وفي الحديث الصحيح الذي يروى عنه - صلى الله عليه وسلم - انه يتوب إلى الله بين اليوم والليلة اكثر من سبعين مرة، ويعلمنا ان التائب من الذنب كمن لا ذنب له، كل هذا لنتعلم العبودية الخالصة لله عز وجل، وأن نعلم أن الأخذ بالأسباب شيء، ولكن الأساس في الأمر هو العزيمة والتوكل على الله عز وجل حق التوكل ومن الواجب الأخذ بالأسباب في كل عمل نقوم به وفي كل معركة تنوي الأمة الإسلامية القيام بها، ولا بد في كل الأمور أن نعود بين وقت وآخر إلى مثل هذه الأحداث لنتعلم من معلم هذه الأمة كيف تصرف وكيف فعل وكيف خطط وكيف نظم، ومع ذلك فإنه في كل الأمور كان يلجأ إلى الله ويخاف رغم ما وعده الله سبحانه وتعالى به من نصر ويحرص على أن يكون قريبا من الله عز وجل، ويعلمنا أبعاد التوبة وأهمية التوبة وإخلاص العبادة لله عز وجل.
والعودة الى الله والتوكل عليه والإيمان الكامل والصادق بأن الأمور كلها بيد الله، وأن نتعلم ونحن نتابع هذه الدروس والأحداث أن الحب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبدأ من الاتباع والالتزام بكل ما جاء به - صلى الله عليه وسلم - من ربه عز وجل وهذا التوجيه الرباني الواضح في أن حب الله عز وجل يبدأ ويتحقق باتباع الرسول الكريم والنبي العظيم صلى الله عليه وسلم: «قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله» الآية.
والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل
* وزير الاعلام السعودي الأسبق ورئيس مجلس ادارة جمعية إقرأ
ــــــــــــ(1/119)
مصدر عزة المسلم
إن عزة المسلم : في التزامه بشرع الله تعالى ، ومرضاته الدائمة الواعية له سبحانه ، وإحساسه الصادق بمعيته عز وجل ، وثقته في نصره سبحانه لأوليائه . وحمايته لهم من كيد أعدائهم .
فهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الهجرة _ وهو يعلم جيدا أن القوم يريدون الفتك به ، ويخططون للخلاص منه ، ولكنه - كان رابط الجأش ، ثابت الفؤاد ، ثاقب النظر ، جيد التخطيط ، هادئ التفكير ، حسن الإعداد والاستعداد . . وما ذلك وغيره : إلا لأنه كان يستصحب معونة الله ، ويستعين بقدرته سبحانه ، ويشعر ، بل تغمره - صلى الله عليه وسلم - معية الله ، حتى لكأنه لا يرى القوم ، ولا يشعر بهم ، بل صار لا يعبأ بمكرهم ، ولا يهتز لغليانهم وهياجهم .
( إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها ) "13 "
وفي صحيح البخاري . . عن أبي بكر قال : " كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الغار ، فرفعت رأسي ، فإذا أنا بأقدام القوم ، فقلت : يا نبي الله . . !! لو أن بعضهم طأطأ بصره : رآنا ، قال : اسكت يا أبا بكر ، اثنان الله ثالثهما " "14 "
طمأنينة لا حدود لها ، نابعة من دوام ذكر الله ، مبنية على ثقة مطلقة في معية الله ونصره .
وكان فزع أبي بكر _ لا على نفسه ، بل _ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، بسبب أن الكفار _ من هول صدمتهم من هذا الخروج العجيب ، من بين أيديهم ، وسيوف فتيانهم ، وشدة بحثهم ، وكثرة انتشارهم _ وصل بعضهم إلى المكان الذي اختبأ فيه ، منهم ، النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه .
ولكن الله تعالى : يحمي من يحتمي به ، ويعين من يستعين به ، ويستجيب لمن يدعوه ، ويطمئن من يذكره ، ويعز من يعتز به .
في رواية للإمام أحمد "15 " . . عن أسماء بنت أبي بكر ، رضي الله عنهما ، قالت : فهيأنا لهم سفرة . . . وخرجوا يطوفون في جبال مكة ، حتى انتهوا إلى الجبل الذي هما فيه ، فقال أبو بكر لرجل مواجه الغار : يا رسول الله ، إنه ليرانا ، فقال : كلا إن الملائكة تسترنا بأجنحتها ، فجلس ذلك الرجل ، فبال مواجهة الغار ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لو كان يرانا ما فعل هذا .
ولذلك : فما على المسلمين بعامة ، والحركة الإسلامية بخاصة _ إذا أحسنوا الالتزام بشرع الله ، فهما وسلوكا ، وأجادوا الإتباع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأتقنوا التخطيط ، وأجادوا الاستعداد ، وبذلوا كل ما في وسعهم ، وأخلصوا في الاستعانة بالله تعالى ، وصدقوا في التوكل عليه _ أن لا يخافوا من مكر أهل الأرض جميعا ، وأن لا يخشوا تفوق أسلحتهم ، ولا كثرة عددهم ، ولا حداثة آلاتهم ، ولا تنوع آلياتهم ؛ لأن الله تعالى يكون معهم . . بتأييده ، وطمأنينته ، ونصره ، وإعزازه .
يقول تعالى ( إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ) "16
ويقول سبحانه ( ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون ) "17 "
ولهذا : فلا مجال لليأس عند من يستنصر بالله ، ولا مجال للهوان أو الذل عند من يعتز بالله سبحانه وتعالى .
وما رأينا إنسانا اعتز بغير الله تعالى ، إلا أذله الله عز وجل ، وألقى به إلى غير مبتغاه .
وما رأينا شعبا اعتز بغير شرع الله وقانونه إلا ألبسه الله ثياب الجوع والخوف ، بعد الصغار والهوان والتبعية .
ومن هنا : لا يمكن أن تهتز ثقة المؤمن بنصر الله لبريق تفوق الأعداء ، إذا هو صدق في الاستعانة بالله عز وجل ، وجد في الاستعداد ، وبذل ما في الوسع ، وتسلح بالصبر البناء ( فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم آلف يغلبوا آلفين بإذن الله والله مع الصابرين ) الأنفال 66
وليست هذه دعوة للتواكل والسلبية ، بل هي التنبيه على ضرورة ترجمة الاعتزاز بالله تعالى إلى عمل بناء ، يرفع الهامة ، ويشحذ الهمة ، ويجدد الثقة ، ويبني النفوس ، ويعين على المواجهة .
خاصة : في هذا العصر الذي هرع فيه كثير من المنتسبين للإسلام إلى الشرق وإلى الغرب بحثا عن مصادر للعزة والقوة ، وعميت أبصارهم ، لا . . ( إنها لا تعمي الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور ) "18 " عن الاعتزاز بالله تعالى .
وصدق الله إذ يمن علينا في هذا التنبيه ( أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا ) "19 " لا يملكها سواه ، ولا ينعم على أحد بها إلا هو سبحانه وتعالى .
وإذا كان هذا المفهوم الإسلامي الواضح جيدا في دروس الهجرة ، قد غاب عن جموع المسلمين عامة : فإنه لا ينبغي أن يغيب عن الحركة الإسلامية بخاصة ، وعلى دعاة الحركة وقادتها أن تولي هذا المبدأ التربوي عناية كبيرة في نفسها أولا ، وفي تربية أبناء الحركة عليه ثانيا ، بغرض تكوين هذا الجيل الذي لا تهزه الصوارف ، ولا تصرفه الزخارف ؛ بسبب اعتزازه بالله تعالى ، ورغبته في مرضاته .
ويوم يوجد هذا الجيل : شيوخا وشبابا ، نساء ورجالا ، سيملك القوة ، ويزهو بعزة الله ، ويحسن القيادة ، وينشر العدل ، ويوجه العلم لخير أهل الأرض ، و. . ، و. . الخ .
وساعتها : ستنقاد لهم الدنيا ، ويتصاغر أمامهم الطغاة ، وتعنوا لهم وجوه الجبابرة
ــــــــــــ(1/120)
معاني الهجرة لا تنضب
31/1/2006 ...
عبد الرحيم بن آشو
الهجرة النبوية من أعظم المناسبات التي أحدثت نقلة نوعية ومنعطفا كبيرا في تاريخ المسلمين وأسست لدولة إسلامية حضارية. هذه المناسبة التي ينبغي أن نستحضر دوما معانيها ودلالاتها في حركتنا نحو الله تعالى، وأن نعي الدروس والعبر المستخلصة منها وأن لا تبقى مجرد مناسبة عابرة نحتفل بها كما يحتفل النصارى برأس السنة الميلادية.
معاني الهجرة النبوية
- لم تكن هجرة النبي (صلى الله عليه وسلم) انتقالا ماديا من بلد إلى آخر فحسب، ولكن أيضا انتقالا معنويا من حال إلى حال، انتقالا من حال الضعف إلى القوة، ومن القلة إلى الكثرة، ومن التفرقة إلى الوحدة، ومن الخوف إلى الأمن، ومن القيد إلى الحركة.
- الهجرة كانت فيصلا بين مرحلتين من مراحل الدعوة، مرحلة الاستضعاف (المرحلة المكية) ومرحلة إعداد القوة وبناء الدولة (المرحلة المدنية).
- الهجرة كانت بحثا عن مركز آمن تنطلق منه الدعوة بحرية من أجل بناء المجتمع المسلم والدولة الإسلامية التي ستحمل مشعل الرسالة والهدى إلى كل الناس في العالم، ولم تكن الهجرة فرارا من البطش والأذى ونجاة بالنفس من كيد المشركين.
الهجرة نوعان:
أولا: هجرة مكانية واجبة على المسلم حسب الأحوال والشروط. يقول تعالى متوعدا الذين فضلوا أموالهم وديارهم ومصالحهم على الهجرة: (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيما كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا)، (والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق).
أما قوله (صلى الله عليه وسلم): "لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية" فالمراد بها أن لا هجرة واجبة بعد الفتح. وقد زاد مسلم: "وإذا استنفرتم فانفروا"
ثانيا: هجرة نفسية شعورية واجبة في كل الأحوال، وهي رديفة للتزكية، وتعني هجرة المعاصي، واجتناب ما لا يرضي الله في القول والفعل وإنكار المنكر بالقلب، والحب في الله والبغض في الله. ورد في صحيح مسلم أن مجاشع بن مسعود السلمي جاء بأخيه إلى رسول الله ليبايعه على الهجرة. فقال (صلى الله عليه وسلم): قد مضت الهجرة بأهلها. قال مجاشع: فبأي شيء تبايعه؟ فقال (صلى الله عليه وسلم): على الإسلام والجهاد والخير)، وقال (صلى الله عليه وسلم): " لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها". ويقول عليه الصلاة والسلام فيما رواه البخاري: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه"، وفي رواية ابن حبان: "المهاجر من هجر السيئات، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده"، وبمعنى آخر، فالهجرة النفسية هي انتقال بالنفس الإنسانية من النفس الأمارة بالسوء إلى النفس اللوامة ثم إلى النفس المطمئنة.
والتلازم بين المعنى الحسي والنفسي لا يزال قائما ما دام المؤمنون مستضعفون في الأرض. ويقول (صلى الله عليه وسلم): "الهجرة خصلتان، إحداهما أن تهجر السيئات، والأخرى أن تهاجر إلى الله ورسوله، ولا تنقطع الهجرة ما تقبلت التوبة".
ــــــــــــ(1/121)
الهجرة النبوية، دروس وعبر
1- أهمية التربية الإيمانية في إعداد النفوس المضحية والواثقة في الله وفي وعده والتي لا يسري إليها الارتياب والهون إن لم يتحقق الوعد في حياة المؤمنين. إسمعوا إلى قوله تعالى للذين يستعجلون نتائج المعركة بين الحق والباطل من الذين يريدون أن يروا ثمار جهودهم يانعة ليقطفوها: "فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون، فاستمسك بالذي أوحي إليك، إنك على صراط مستقيم".
2- أهمية المسجد في الإسلام، فأول عمل قام به (ص) في المدينة هو بناء أول مسجد في الإسلام كتعبير عن مضمون الهجرة ووجهتها ولربط المسلمين بالرسالة باعتبار المسجد منطلقا لهذا الارتباط الخالد وقبلة جامعة للمسلمين وموحدة لصفوفهم على أساس من العقيدة.
3- أهمية الأخوة كعامل وحدة وقوة: فأحداث الهجرة أظهرت أهمية العلاقات الأخوية بين المسلمين في التخفيف من معاناة بعضهم البعض وفي التعاون فيما بينهم أثناء الهجرة وقبلها وبعدها، الأخوة أصل في الدين فلا يجوز التفريط في الأصول من أجل الفروع فتلك جريمة في حق دين الله والأخوة لها حقيقة ومظهر، وحقيقتها أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك فيفرحك ما يفرحه ويسيئك ما يسيئه، ومظهرها الإحسان إلى أخيك فتتعامل معه بخلق حسن وتعينه على نوائب الدنيا وتنصح له.
4- النية أساس العمل: فالهجرة لم تكرم لكونها سفرا وإنما لدوافعها وبواعثها. ففي الهجرة نفسها خرج رجل يريد امرأة يهواها، فشتان بين هجرته وهجرة غيره من الصحابة، "إنما الأعمال بالنيات"، فكل عمل أريد به غير وجه الله فهو مردود.
5- الهجرة سبيل إلى التوبة، قال (ص):" لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة". رجل يقتل تسعة وتسعين نفسا، فأفتاه أعبد أهل الأرض ألا توبة له، فأضله وأكمل به المئة. ثم استفتى أعلم أهل الأرض، فدله على الهجرة سبيلا للتوبة، فهاجر ثم مات في الطريق، فتخاصم ملائكة الرحمة وملائكة العذاب بشأنه، فرحم بسبب سلوكه طريق الهجرة. وفي هذا المثال أيضا ضرورة التلازم بين العلم والإيمان.
6- الهجرة مثال في تفضيل حب الله ورسوله على ما سواهما: (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره، والله لا يهدي القوم الفاسقين). فهذا صهيب الرومي، كان ذا مال وتجارة، فأراد الهجرة إلى المدينة فساومه الكفار عليهما، فترك لهم دنياه لينال رضا الله، ففرح بذلك رسول الله (ص) قائلا: "ربح البيع أبا يحيى".
7- العقيدة أغلى من الأرض ومن مكاسب الدنيا المغرية: فقد هاجر المسلمون تاركين وراءهم أموالهم وديارهم وأحبابهم وتجارتهم غير مترددين.
8- كمال اليقين بمعية الله الموجبة للنصر: تجلى ذلك في واقعة الغار. يقول تعالى: "إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا، فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها).
9- الهجرة درس في التنظيم والتخطيط والأخذ بالأسباب في كل عمل: فالنصر لا يأتي إلا بعد استنفاد كل الإمكانات وبذل الوسع، وهذا ما فعله رسول الله (ص) وهو يمهد لهذه الهجرة سواء بعقد بيعة العقبة الأولى والثانية، أو بإرساله مصعب بن عمير إلى المدينة للدعوة إلى الإسلام وإيجاد رأي عام مؤيد وقاعدة ارتكاز صلبة، وهذا ما قام به أيضا (ص) وهو يضلل أعداءه عن مطاردته ويختبئ في الغار، "إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم"، "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة".
10- التقوى والصبر من شروط النصر: "وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا"، "وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون".
11- حركية المنهج الإسلامي التي تضع المسلم في تدافعه مع الباطل أمام خيارات متعددة، وللواقع أثره في تفضيل خيار على آخر، فالهجرة من مكة إلى المدينة كانت اختيارا مناسبا في الزمان والمكان.
المطلوب منا اعتبار واتعاظ بهذا الحدث الجليل: هجرة المعاصي بكل أنواعها، هجرة الرذائل في أخلاقنا وسلوكنا، هجرة الجدال الذي لا يراد به الحق، هجرة الإساءة إلى غيرنا بلساننا أو يدنا أو سلوكنا، هجرة التواكل والتقاعس والسلبية في حياتنا، هجرة تضييع الوقت فيما لا ينفع، هجرة العشوائية في تسيير أمورنا
ــــــــــــ(1/122)
معجزات على طريق الهجرة
(الشبكة الإسلامية) أ.د/ أكرم ضياء العمري ( خاص بالشبكة )
بعث الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالهدي ودين الحق، ووعده بالنصر والتأييد، وكان تأييده تعالى لرسوله بأمور كثيرة منها المعجزات والتي هي خوارق العادات، فقد وقعت له معجزات كثيرة ، ومنها ما كان على طريق الهجرة ، وهو ما سنقف عليه في هذه الكلمات.
وقعت معجزة للنبي - صلى الله عليه وسلم - في طريق الهجرة , ولنقرأ ما سجله الصديق رضي الله عنه عن بداية الرحلة قال: (أسرينا ليلتنا كلها حتى قام قائم الظهيرة , وخلا الطريق فلا يمر فيه أحد , حتى رفعت لنا صخرة طويلة لها ظل , لم تأت عليه الشمس بعد , فنزلنا عندها فأتيت الصخرة فسويت بيدي مكاناً ينام فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - في ظلها ثم بسطت عليه فروة . ثم قلت : نم يا رسول الله وأنا أنفض لك ما حولك , فنام) . ثم حكى أبو بكر خبر مرور راع بهما , فطلب منه لبناً , وصادف استيقاظ الرسول - صلى الله عليه وسلم - فشرب ثم قال : ( ألم يأن للرحيل ) قلت : بلى . قال : فارتحلنا بعدما زالت الشمس , وأتبعنا سراقة بن مالك ونحن في جلد من الأرض .
معجزة في خيمة أم معبد :
وقد اشتهر في كتب السيرة والحديث خبر نزول الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بخيمة أم معبد بقديد طالبين القرى , فاعتذرت لهم لعدم وجود طعام عندها إلا شاة هزيلة لا تدرّ لبناً , فأخذ الشاة فمسح ضرعها بيده , ودعا الله , وحلب في إناء حتى علت الرغوة , وشرب الجميع , ولكن هذه الرواية طرقها ما بين ضعيفة وواهية . إلا طريقاً واحدة يرويها الصحابي قيس بن النعمان السكوني ونصها (لما انطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و أبو بكر يستخفيان نزلا بأبي معبد فقال : والله مالنا شاة , وإن شاءنا لحوامل فما بقي لنا لبن . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أحسبه - فما تلك الشاة ؟ فأتى بها . فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالبركة عليها , ثم حلب عسّاً فسقاه , ثم شربوا , فقال : أنت الذي يزعم قريش أنك صابيء ؟ قال : إنهم ليقولون . قال : أشهد أن ما جئت به حق . ثم قال : أتبعك . قال : لا حتى تسمع أناّ قد ظهرنا . فاتّبعه بعد) . وهذا الخبر فيه معجزة حسية للرسول - صلى الله عليه وسلم - شاهدها أبو معبد فأسلم .
قصة سراقة بن معبد :
ولندع رواية سراقة بن مالك تكمل الخبر التاريخي ففيها تفاصيل تكشف عن المعجزة النبوية . قال سراقة : " لما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة مهاجراً إلى المدينة جعلت قريش فيه مائة ناقة لمن رده عليهم . قال : فبينا أنا جالس في نادي قومي إذ أقبل رجل منا حتى وقف علينا فقال : والله لقد رأيت ركبة ثلاثة مروا عليّ آنفاً إني لأراهم محمداً وأصحابه . قال : فأومأت إليه بعيني أن اسكت . ثم قلت : إنما هم بنو فلان يبتغون ضالة لهم , قال : لعلّه , ثم سكت ".
ثم ذكر سراقة خروجه في أثرهم , وأن فرسه ساخت به حتى طلب الدعاء له من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر : ( قل له وما تبتغي منا ) ؟ فقال لي ذلك أبو بكر . قال قلت: تكتب لي كتاباً يكون آية بيني وبينك . قال : اكتب له يا أبا بكر ، فكتب لي كتاباً في عظم أو في رقعة أو في خزفة , ثم ألقاه إلي , فأخذته فجعلته في كنانتي , ثم رجعت فسكت , فلم أذكر شيئاً مما كان)) . ثم حكى خبر لقائه برسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد فتح مكة وإسلامه .
وقد ذكر سراقة في رواية صحيحة أنه اقترب من الاثنين حتى سمع قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو لا يلتفت , و أبو بكر يكثر الالتفات , كما ذكر أنه عرض عليهما الزاد والمتاع فلم يأخذا منه شيئاً , وأن وصيته كانت : اخف عنا .
وتذكر رواية صحيحة أنه صار آخر النهار مسلمة للنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن كان جاهداً عليه أوله . وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الذي دعا عليه فصرعه الفرس . وقد احتاط الاثنان في الكلام مع الناس الذين يقابلونهم في الطريق , فإذا سئل أبو بكر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : هذا الرجل يهديني السبيل , فيحسب الحاسب إنه إنما يعني الطريق , وإنما يعني سبيل الخير . وقد صح أن الدليل أخذ بهم طريق السواحل.
وبالجملة: فإن المعجزات جند من جنود الله تعالى أيد بها رسوله صلى الله عليه وسلم، وأكرمه بها ، وكان لها الأثر الفاعل في إرساء دعائم دعوته المباركة ، والله الموفّق .
ــــــــــــ(1/123)
مقدمات الهجرة ونتائجها
الرسول - صلى الله عليه وسلم - في موسم الحج
جاء موسم الحج في السنة العاشرة من البعثة، فاجتمعت القبائل من كل مكان وبدأ الرسول - صلى الله عليه وسلم - يدعوهم قائلا: (يا أيها الناس، قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، وتملكوا بها العرب، وتذل لكم العجم، وإذا آمنتم كنتم ملوكًا في الجنة) _[الطبراني وابن سعد] ووجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ستة رجال من (يثرب) يتحدثون، فاقترب منهم، وقال لهم: (من أنتم؟)
قالوا: نفر من الخزرج.
قال: أَمِنْ موالى يهود (أي من حلفائهم)؟
قالوا: نعم.
قال: أفلا تجلسون أكلمكم؟. قالوا: بلى.
فجلس معهم وحدثهم عن الإسلام، وتلا عليهم القرآن، فانشرحت له صدورهم، وظهرت علامات القبول على وجوههم، وكانت بينهم وبين اليهود عداوة، فكان اليهود يهددونهم بظهور نبي، وسوف يؤيدونه ويقاتلونهم معه، فلما سمعوا كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - نظر بعضهم لبعض وقالوا: تعلمون والله إنه النبي الذي توعدكم به اليهود فلا يسبقُنَّكُم إليه .. فأجابوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما دعاهم إليه، ووعدوه بأن يقابلوه في العام المقبل، ثم انصرفوا إلى قومهم وحدثوهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانتشرت أخباره في يثرب. _[ابن إسحاق].بيعة العقبة الأولى:
وفي شهر ذي الحجة سنة إحدى عشرة من البعثة، قدم إلى مكة اثنا عشر رجلا من أهل يثرب من بينهم خمسة من الستة الذين كلموا الرسول - صلى الله عليه وسلم - في العام الماضي، واجتمع معهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مكان اسمه العقبة؛ فآمنوا به صلى الله عليه وسلم، وبايعوه على ألا يشركوا بالله
شيئًا، ولا يسرقوا، ولا يرتكبوا الفواحش والمنكرات، ولا يقتلوا أولادهم، ولا يعصوه - صلى الله عليه وسلم - في معروف يأمرهم به.
وكانت هذه هي بيعة العقبة الأولى، وعندما عادوا إلى يثرب أرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معهم مصعب بن عمير -رضي الله عنه- ليعلمهم أمور الدين ويقرأ عليهم القرآن، فأسلم على يديه كثير من أهل يثرب.
بيعة العقبة الثانية:
وفي شهر ذي الحجة من العام الثاني عشر من البعثة، ذهب ثلاثة وسبعون رجلا وامرأتان من أهل يثرب إلى الحج، ليبايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الإسلام، وفي ليلة الحادي عشر من ذي الحجة تسلل الرجال والمرأتان وذهبوا إلى العقبة، وجاء إليهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومعه عمه العباس بن عبدالمطلب، ولم يكن قد آمن وقتئذ، ولكنه جاء ليطمئن على اتفاق ابن أخيه مع أهل يثرب، وليبين لهم أنه قادر على حمايته في مكة إن لم يكونوا قادرين على حمايته في المدينة.
وتمت بيعة العقبة الثانية، وفيها عاهد الأنصار النبي - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة، وقال لهم : (تبايعوني على السمع والطاعة، في النشاط
والكسل، وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن تقولوا في الله لا تأخذكم لومة لائم، وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم، وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم
ولكم الجنة) _[أحمد].
وأصبح لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتباع أقوياء مستعدون لنصرته، والقتال من أجل الإسلام، حتى إن أحدهم وهو العباس بن عبادة -رضي الله عنه- قام وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: والله الذي بعثك بالحق، إن شئت لنميلن على أهل منى غدًا بأسيافنا، ولكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يفعل إلا ما يأمره الله به، فقال له : (لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم)
[ابن إسحاق] واختار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم اثني عشر رجلا؛ ليكونوا أمراء عليهم حتى يهاجر إليهم.
وفي الصباح، تسلل الخبر إلى كفار قريش، فاكتشفوا أمر ذلك الاجتماع
الخطير، وخرجت قريش تطلب المسلمين من أهل يثرب فأدركوا (سعد بن عبادة) وأسروه وأخذوا يعذبونه ويَجُرُّونه حتى أدخلوه مكة، وكان سعد يجير ويحمي تجارة اثنين من كبار مكة إذا مرا ببلده، وهما جبير بن مطعم بن عدي والحارث بن حرب بن أمية، فنادى باسميهما فجاءا وخلصاه من أيدي المشركين، وعاد سعد بن عبادة -رضي الله عنه- إلى يثرب.
ــــــــــــ(1/124)
عرض الدعوة الإسلامية على القبائل
(الشبكة الإسلامية)
بعد مضي سنوات من دعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأهل مكة وملاقاته منهم العنت والصدود ، وصبره على مواقفهم السلبية وأذاهم له، صبراً لا تتحمله الجبال الراسيات، أراد نقل الدعوة إلى القبائل خارج مكة لعله يجد بينهم آذاناً صاغية وقلوباً واعية ، فيؤمن به بعض وجهاء القبائل ، فينشر هدايته ، ويضمن ملاذاً لأتباعه من المستضعفين والمساكين ، لذلك ركَّز الرسول - صلى الله عليه وسلم - في دعوته على القبائل ورؤسائها .
فبدأ - صلى الله عليه وسلم - بعرض نفسه على القبائل في السنة الرابعة للبعثة ، واستمر في عرض الدعوة على القبائل في مواسم الحج مستفيداً من تجمعهم ، حيث تأتي القبائل إلى مكة للحج وتحصيل المنافع من تجارة وغيرها ، وفي كل موسم يجدد الدعوة لهم ، فكان يأتيهم قبيلة قبيلة يعرض عليهم الإسلام ، ويقول : (يا بني فلان ، إني رسول الله إليكم ، يأمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً ، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد ، وأن تؤمنوا بي ، وتصدقوا بي ، وتمنعوني ، حتى أبين عن الله ما بعثني به)
ولم يكن - صلى الله عليه وسلم - يسمع بقادم إلى مكة من العرب ، له اسم وشرف ، إلا تصدى له ، فدعاه إلى الله ، وعرض عليه ما عنده .
و كانت قريش تستقبل القبائل والقادمين بسب رسول الله وتوهين أمره حتى لا يقبلوا دعوته للإسلام ، وكان عمه أبو لهب يتبعه ويلاحقه ويرد عليه ويصرف الناس عنه .
ومن تلك القبائل التي دعاها النبي - صلى الله عليه وسلم - : بنو عامر بن صعصعة ، ومحارب بن خصفة ، وفزارة ، وغسان ، ومرة ، وحنيفة ، وسليم ، وعبس ، وبنو نصر ، وكندة ، وكلب، والحارث بن كعب ، وعذرة .
وكان - صلى الله عليه وسلم - حكيما يخرج إلى القبائل في ظلام الليل ، بعيداً عن عيون مشركي مكة المعادين للدعوة ، رائعاً في عرضه للدعوة ، حيث يمهد لذلك كما فعل مع بني كلب فبدأ بقوله : ( يا بني عبدالله ، إن الله قد أحسن اسم أبيكم) .
ومع أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يجد الصدود والإعراض ، إلا أنه يصبر ويحتسب الأجر والثواب عند الله ، ويحمل لذلك هماً عظيماً وقلباً رحيماً يظهر من خلال ما روته أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - (يا رسول الله هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد فقال لقد لقيت من قومك وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا بقرن الثعالب فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل ، فناداني فقال إن الله عز وجل قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك ، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم ، قال فناداني ملك الجبال ، وسلم علي ، ثم قال يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك وأنا ملك الجبال ، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك ، فما شئت؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا ) رواه البخاري و مسلم .
وفي موسم حج عام أحد عشر للبعثة التقى الرسول - صلى الله عليه وسلم - بنفر من شباب يثرب من قبيلة الخزرج ، وكانوا من العقلاء فاستجابوا لدعوته ودخلوا في الإسلام ، وحملوه معهم إلى المدينة.
واستجاب له بعض الأفراد ممن دعاهم أمثال: طفيل بن عمرو الدوسي ، و ضماد الأزدي من أهل اليمن ، ممن رجعوا بالدعوة إلى أقوامهم .
وهكذا يجد الإسلام دين الحق طريقه إلى القلوب السليمة ، ويبقى أصحاب القلوب المظلمة على ضلالهم وكفرهم وعنادهم ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
ــــــــــــ(1/125)
المستجيبون للدعوة من غير أهل مكة
(الشبكة الإسلامية)
بدأت دعوة الإسلام المباركة - التي جاء بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مكة ، ثم أخذت تنتشر خارجها ، وأخذ عدد الذين دخل الإسلام قلوبهم من غير أهل مكة يزداد يوماً بعد آخر ، وكان من أوائل من استجاب لهذه الدعوة المباركة من خارج مكة :
1- سويد بن الصامت
وكان من أهل يثرب ، ومن شعرائها البارزين ، صاحب شرف ونسب ، جاء إلى مكة حاجّاً أو معتمراً ، فالتقى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وعرض عليه الإسلام فأسلم ، وكان إسلامه في أوائل السنة الحادية عشرة من البعثة .
2- إياس بن معاذ
وقد جاء مع وفد الأوس لمحالفة قريش على الخزرج ، وكان غلاماً حدثاً ، وعندما التقى بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، دعاهم إلى الإسلام ، فوجدت كلماته طريقها إلى قلب إياس ، الذي مات بيثرب وهو يوحد الله عز وجل ، وكان ذلك أوائل سنة 11 من البعثة .
3- أبو ذر الغفاري
كان من سكان نواحي يثرب ، ولما سمع بمبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أرسل أخاه ينظر الخبر ، ثم رحل بنفسه إلى مكة حتى أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وطلب منه عرض الإسلام عليه ، فأسلم ، وأشار عليه النبي بكتم إسلامه ، لكنه فضّل الجهر به وإعلانه على الملأ من قريش ، ولقي بسبب ذلك إيذاءً في قومه ، كما جاء في صحيح البخاري
4- الطُفيل بن عمرو الدَّوسي
سيد قبيلة دوس ، كان شريفاً في قومه ، وشاعراً لبيباً أريباً، قدم مكة في سنة 11 من البعثة ، فاستقبله أهل مكة وحذروه من محمد - صلى الله عليه وسلم - ودعوته ، حتى عزم على عدم كلامه ، ولا سماعه ، إلا أنه سرعان ما تراجع ، وأتى النبي وطلب منه عرض الإسلام عليه ، فأسلم ، وعاد إلى قومه داعياً إلى الله ، وما زال بهم حتى جاء بسبعين أو ثمانين بيتاً كلهم قد دخل الإسلام قلبه ، وقد استشهد يوم اليمامة رحمه الله ورضي عنه .
5- ضِماد الأزدي
من أزد شنوءة باليمن ، قدم مكة ، وسمع ما كانت قريش تصف به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أنه شاعر أو مجنون ، وكان يُرقي المرضى والمصابين ، فأتى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعرض عليه أن يرقيه ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إن الحمد لله نحمده ونستعينه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله أما بعد ) رواه مسلم .
وكان لتلك الكلمات وقْعٌ في نفسه ، فطلب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعيدها عليه ثانية ، ثم قال: " لقد سمعت قول الكهنة ، وقول السحرة ، وقول الشعراء ، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء ...هات يدك أبايعك على الإسلام ".
وكان من الذين وجد الإسلام طريقاً إلى قلوبهم غير ما تقدم ، نفرٌ لقيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في موسم الحج سنة 11من البعثة ، وكانوا من شباب الخزرج بالمدينة ، فدعاهم إلى الإسلام ، فاستجابوا له ، وكانوا ستة نفر، هم: أسعد بن زرارة ، و عوف بن الحارث ، و رافع بن مالك بن العجلان ، و قطبة بن عامر ، و عقبة بن عامر ، و جابر بن عبدالله .
وقد رجع هؤلاء إلى المدينة بالدعوة إلى الله ، حتى لم يبق بيت من بيوت الأنصار إلا وفيها ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وهكذا أخذ الإسلام - الدين الخاتم - يشق طريقه في ربوع المعمورة حتى عمَ جزيرة العرب زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم واصل الخلفاء الراشدون العمل على نشره خارج الجزيرة ، وكذلك فعل من جاء بعدهم ، حتى بلغ الإسلام أغلب بقاع الأرض ، وصدق الله إذ يقول : { والله متم نوره ولو كره الكافرون } .
ــــــــــــ(1/126)
الأنصار وبيعة العقبة الأولى
(الشبكة الإسلامية)
بعد سنين طويلة قضاها النبي - صلى الله عليه وسلم- في جهاد دائم ، وعمل متواصل لا يعرف الكلل ولا الملل ، وهو يطوف على القبائل ، مبلغاًُ دعوة ربه ، ملتمساً الحليف والنصير ، ملاقياً في سبيل ذلك صنوف الأذى والصد والإعراض ، أراد الله إتمام أمره ، ونصر دينه ، وإعزاز نبيه ، فكانت البداية ، ونقطة التحول الحاسمة ، وبصيص النور الذي أطلَّ من بين ركام الظلمات ، عندما قيض الله أولئك النفر الستة من أهل المدينة ، فالتقى بهم - صلى الله عليه وسلم - في موسم الحج من السنة الحادية عشرة للبعثة ، وعرض عليهم الإسلام ، فاستجابوا لدعوته ، وأسلموا - ، وكان هذا الموكب أولَ مواكب الخير التي هيأت للإسلام أرضاً جديدة ، وملاذاً أميناً ، حيث لم يكتف هؤلاء النفر بالإيمان ، وإنما أخذوا العهد على أنفسهم بدعوة أهليهم وأقوامهم ، ورجعوا إلى المدينة وهم يحملون رسالة الإسلام ، حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم- .
فلما كان موسم الحج من العام التالي جاء إلى الموسم اثنا عشر رجلًا من المؤمنين ( عشرة من الخزرج واثنان من الأوس ) فالتقوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم- عند العقبة بمنى ، وبايعوه البيعة التي سميت " بيعة العقبة الأولى " ، وكانت بنود هذه البيعة نفس البنود التي بايع الرسول - صلى الله عليه وسلم- عليها النساء فيما بعد ، ولذلك عرفت أيضاً باسم " بيعة النساء " ، وقد روى البخاري في صحيحه نص هذه البيعة وبنودها في حديث عبادة بن الصامت الخزرجي رضي الله عنه - وكان ممن حضر البيعة - وفيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال لهم : ( تعالوا بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئًا ، ولا تسرقوا ، ولا تزنوا ، ولا تقتلوا أولادكم ، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ، ولا تعصوني في معروف ، فمن وفي منكم فأجره على الله ، ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به في الدنيا فهو له كفارة ، ومن أصاب من ذلك شيئًا فستره الله فأمره إلى الله ، إن شاء عاقبه ، وإن شاء عفا عنه ) ،قال : " فبايعته " ، وفي رواية " فبايعناه على ذلك " .
ثم بعث النبي - صلى الله عليه وسلم- معهم مصعب بن عمير ، يعلمهم شرائع الإسلام ، ويفقههم في الدين ، ويقرؤهم القرآن ، وينشر الإسلام في ربوع المدينة ، فأقام رضي الله عنه في بيت أسعد بن زرارة يعلم الناس ، ويدعوهم إلى الله ، وتمكن خلال أشهر معدودة من أن ينشر الإسلام في سائر بيوت المدينة ، وأن يكسب للإسلام أنصارًا من كبار زعمائها ، كسعد بن معاذ ، و أسيد بن الحضير ، وقد أسلم بإسلامهما خلق كثير من قومهم ، ولم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون .
وعاد مصعب رضي الله عنه إلى مكة قبيل الموسم التالي ، يحمل بشائر الخير ، ويخبر النبي - صلى الله عليه وسلم- بما لقيه الإسلام في المدينة من قبول حسن ، وأنه سوف يرى في هذا الموسم ما تقر به عينه ، ويسر به فؤاده، فكانت هذه البيعة من أهم المنعطفات التاريخية في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم- وصحبه الكرام .
ومن خلال أحداث هذه المرحلة وما سبقها من عرض الإسلام على القبائل يمكن استخلاص العديد من الدلالات والمعاني المهمة ومنها :
الحكمة الربانية والتدبير الإلهي لهذا الدين في أن يكون الذين يستجيبون للرسول - صلى الله عليه وسلم- ويدافعون عنه وعن دينه ، من خارج قريش ، ومن غير أهله وعشيرته ، من أجل أن تقطع كل الشكوك حول طبيعة هذا الدعوة الجديدة ومصدرها وأهدافها ، ولئلا يقع أي التباس بينها وبين غيرها من الدعوات والمطامع الدنيوية .
ومن الدلالات أيضاً : أهمية وجود أرضية خصبة ، وسند قوي يحمي الدعوة ويحوطها ، ويحفظها من أن توأد في مهدها ، ولذا كان - صلى الله عليه وسلم- حريصاً على البحث عن قبيلة تسمح بنشر الدعوة بين ظهرانيها ، وتعلن حمايتها لها ، لأن الذين آمنوا به في مكة كانوا غرباء بين أقوامهم ، وكانوا نُزَّاعًا متفرقين في القبائل ، فكانوا بحاجة إلى ملاذ يفيؤون إليه ، وقبيلة تدفع عنهم وتحميهم ، وتمكنهم من نشر رسالتهم في العالمين ، وهو ما فعله - صلى الله عليه وسلم- .
ومن دلالات هذه البيعة ودروسها أن اختيار الرسول - صلى الله عليه وسلم- للمدينة وأهلها ، لحمل الرسالة ، ونيل شرف النصرة ، لم يكن اعتباطاً ، وإنما وقع الاختيار عليها لأن المدينة كانت تعيش ظروفًا خاصة رشحتها لاحتضان دعوة الإسلام ، فقد كان التطاحن والتشاحن بين الأوس والخزرج على أشده حتى قامت بينهم الحروب الطاحنة ، التي أنهكت قواهم ، وأوهنت عزائمهم ، كيوم بعاث وغيره ، مما جعلهم يتطلعون إلى أي دعوة جديدة تكون سببًا لوضع الحروب والمشاكل فيما بينهم ، ويمكن أن نلحظ ذلك من خلال قول أولئك النفر الستة : " إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم ، فعسى أن يجمعهم الله بك ، فسنقدم عليهم ، فندعوهم إلى أمرك ، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين ، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك " .
كما أن هذا الحروب كانت قد أفنت كبار زعمائهم وقادتهم ، ممن كان نظراؤهم في مكة والطائف وغيرهما حجر عثرة في سبيل الدعوة ، ولم يبق إلا القيادات الجديدة الشابة المستعدة لقبول الحق ، أضف إلى ذلك عدم وجود قيادة بارزة معروفة يتواضع الجميع على التسليم لها ، فكانوا بحاجة إلى من يأتلفون عليه ، ويلتئم شملهم تحت ظله
ومن المعروف أن اليهود كانوا يسكنون المدينة مما جعل الأوس والخزرج على اطلاع بأمر الرسالات السماوية- بحكم الجوار- ، فكانوا اليهود يهددونهم بنبي قد أظل زمانه ، ويزعمون أنهم سيتبعونه ، ويقتلونهم به قتل عاد وإرم ، ولذا فبمجرد أن وصلت الدعوة إليهم ، قال بعضهم لبعض : " تعلمون والله يا قوم ، إنه للنبى الذي توعدكم به يهود ، فلا تسبقنكم إليه " .
ومن الدلالات أيضاً : أهمية معرفة الداعية والمربي لخصائص الناس وشخصياتهم ، ومن يصلح منهم لهذه المهمة أو تلك ، ندرك ذلك من خلال حسن اختياره - صلى الله عليه وسلم- لمصعب بن عمير للقيام بمهمة الدعوة ، ونشر الإسلام في المدينة ، لما كان يمتاز به رضي الله عنه - بجانب حفظه لما نزل من القرآن - من لباقة ، وهدوء ، وحكمة وحسن خلق ، فضلاً عن قوة إيمانه ، وشدة حماسه للدين ، ولذلك نجح أيما نجاح في دعوته ، واستطاع أن يتخطى الصعاب والعقبات الكثيرة التي واجهته باعتباره أولاً نازحاً وغريباً ، وثانياً يحمل رسالة جديدة تخالف ما عليه الناس ، وتريد أن تنقلهم من موروثاتهم التي ألِِفُوها ، وألْفَوا عليها آباءهم وأجدادهم ، ولعل في قصة إسلام سعد بن معاذ ، و أسيد بن حضير ما يبين ذلك بجلاء .
وهكذا مهدت هذه البيعة لما بعدها من الأحداث التي غيرت مجرى التاريخ ، وكانت إيذاناً بأن عهد الذل والاستضعاف قد ولى إلى غير رجعة ، وسيكون بعدها للإسلام قوته ومنعته ، ، وستتوالى على مكة مواكب الخير ، وطلائع الهدى والنور التي هيأها الله لحمل رسالته ، وتبيلغ دعوته ، والعاقبة للمتقين .
ــــــــــــ(1/127)
الأنصار وبيعة العقبة الثانية
(الشبكة الإسلامية)
بعد أن أنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - اللقاء المبارك مع وفد المدينة المنورة في بيعة العقبة الأولى ، ورجع الوفد إلى ديارهم وأهليهم، بعث - صلى الله عليه وسلم - مصعب بن عمير سفيراً له في المدينة يعلم أهلها الإسلام ، ويدعوا من لم يدخل في هذا الدين إلى الدخول فيه .وكانت بعثته - صلى الله عليه وسلم - مصعباً أمراً غاية في الأهمية ، إذ سرعان ما آتت دعوة مصعب رضي الله عنها ثمارها ، فلم يمض إلا عام واحد حتى دخل أكثر أهل المدينة في الإسلام ، وهنا شعر المسلمون الجدد بمعاناة إخوانهم في مكة ، وهم في مدينتهم سادة ممتنعون عن الأذى والضيم ، ومع ذلك يؤذى رسولهم ، ويلاحق في جبال مكة وشعابها، ويهان أصحابه ، فرحل إلى مكة سبعون رجلا من أهل المدينة ، حتى قدموا في موسم الحج ، وواعدوا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يلتقوا به في شعب العقبة ، ولندع أحد النقباء يحدثنا عن هذه البيعة المباركة ، وما وقع فيها من مواقف عظيمة ، حقها أن تكتب بماء الذهب .
يقول كعب بن مالك رضي الله عنه ، فيما رواه الإمام أحمد في مسنده وحسنه الشيخ الأرناؤوط : ( فنمنا تلك الليلة - الليلة التي واعدوا فيها النبي ، وهي الليلة الثانية من أيام التشريق - مع قومنا في رحالنا حتى إذا مضى ثلث الليل ، خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نتسلل مستخفين تسلل القطا - طائر - حتى اجتمعنا في الشعب - الطريق في الجبل - عند العقبة ونحن سبعون رجلا ، ومعنا امرأتان من نسائهم نسيبة بنت كعب أم عمارة ، و أسماء بنت عمرو بن عدي بن ثابت ، قال : فاجتمعنا بالشِّعب ننتظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى جاءنا ومعه يومئذ عمه العباس بن عبد المطلب - وهو يومئذ على دين قومه إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق له - فلما جلسنا كان العباس بن عبد المطلب أول متكلم ، فقال : يا معشر الخزرج : إن محمداً منا حيث قد علمتم ، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه ، وهو في عزِّ من قومه ، ومنعة في بلده ،قال : فقلنا قد سمعنا ما قلت ، فتكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ، ولربك ما أحببت ، فتكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فتلا ، ودعا إلى الله عز وجل ، ورغب في الإسلام ، وقال : أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم ، وأبناءكم ، فأخذ البراء بن معرور بيده ،ثم قال : نعم ، والذي بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا - جمع إزار ويكنى به عن المرأة - ، فبايعنا يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنحن أهل الحروب ، وأهل الحَلَقَة - السلاح - ورثناها كابراً عن كابر ، فاعترض قول البراء وهو يكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو الهيثم بن التيهان حليف بني عبد الأشهل ، فقال : يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال - يعني اليهود - حبالاً وإنا قاطعوها ، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله ، أن ترجع إلى قومك وتدعنا ، قال : فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم قال : بل الدم الدم ، والهدم الهدم ، أنا منكم ، وأنتم مني ، أحارب من حاربتم ، وأسالم من سالمتم ، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيباً يكونون على قومهم ، فأخرجوا منهم اثني عشر نقيباً منهم تسعة من الخزرج ، وثلاثة من الأوس ، ... وكان أول من أخذ بيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البراء بن معرور ، ثم تتابع القوم - يعني على المبايعة - ، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ارفعوا إلى رحالكم ، قال : فقال له العباس بن عبادة بن نضلة : والذي بعثك بالحق لئن شئت لنميلن على أهل منى غداً بأسيافنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لم أؤمر بذلك ، فرجعنا فنمنا حتى أصبحنا ، فلما أصبحنا غدت علينا جلة قريش - أي عظماؤها - حتى جاؤنا في منازلنا ، فقالوا يا معشر الخزرج إنه قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا وتبايعونه على حربنا ، والله إنه ما من العرب أحد أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينه منكم ، فانبعث من هنالك من مشركي قومنا يحلفون لهم بالله ما كان من هذا شيء وما علمناه وقد صدقوا لم يعلموا ما كان منا ) .
هذه هي بيعة العقبة وتلك هي أحداثها ، تكاد تتفجر بأمثلة الشجاعة والبطولة ، ولو ذهبنا نتأمل بعض المواقف فيها لأصابنا العجب من عظمتها وجلالتها ، ولنبدأ بموقف النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكيف عرض دعوته بكلمات موجزة صافية صريحة من غير لبس أو غموض ، ومن غير أن يقدم على قبولها أي عرض دنيوي ، فلم يعدهم بملك أو سلطان ، أو حتى مال يخفف به عنهم ضخامة الحمل الذي سيحملونه ، بل ربطهم بالآخرة عندما سألوه ما لنا ؟ قال :الجنة - كما في رواية ابن إسحاق -، حتى يتحقق فيهم كمال التجرد في قبول هذه الدعوة ، وتحمل تبعاتها ، وفهم الصحابة رضوان الله عليهم هذا الدرس جيداً ، وأن في قبولهم هذه الدعوة معاداة العرب والعجم ، وسخط الأحمر والأسود من الناس ، وقطع علائقهم ، وعلاقاتهم ، ومع ذلك أقدموا - وهنا تتجلى البطولة في الثبات على المبادئ - رغم عظم الضريبة التي سيدفعونها - ، فقبلوا هذه البيعة لله عز وجل صافية نقية، فلله درها من بيعة ، ولله درهم من رجال .
ــــــــــــ(1/128)
الهجرة من مكة إلى المدينة
أصبح كفار مكة في غيظ شديد، بعدما صار لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنصار في يثرب، وهم أهل حرب يجيدون القتال، وسوف ينصرون
الإسلام، فشعر كفار مكة أن الأمر سيخرج من أيديهم، فانقضوا على المسلمين بالتعذيب والأذى، والتف المسلمون حول نبيهم الكريم - صلى الله عليه وسلم - يطلبون منه الإذن في ترك مكة كلها، ويهاجرون بدينهم، حتى يستطيعوا أن يعبدوا الله تعالى وهم آمنون، فأذن لهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالهجرة إلى المدينة. فبدأ المسلمون يتسللون سرًّا إلى المدينة، تاركين ديارهم وأموالهم من أجل دينهم.
وجاء أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - يستأذنه في الهجرة، فطلب منه الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن ينتظر لعل الله يجعل له صاحبًا، ففهم أبو بكر أنه سيظفر بالهجرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانتظر مسرورًا، وأخذ يُعِدُّ للرحلة المباركة، فجهزَّ ناقتين ليركبهما هو ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة.
المؤامرة:
اجتمع زعماء مكة في دار الندوة -ذلك البيت الكبير الواسع الذي كان
لقصي بن كلاب- وعلى وجوههم الغضب؛ للتشاور في أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد شعروا أنه يعد نفسه للهجرة إلى المدينة، وإذا تم له ذلك فسوف تصبح المدينة مركزًا كبيرًا يتجمع فيه المسلمون من كل مكان حول النبي صلى الله عليه وسلم، وبذلك يشكلون خطرًا على تجارة أهل مكة عندما تمر بالمدينة في طريقها إلى الشام ذهابًا وإيابًا، وبدأ النقاش، فقال بعضهم: نُخرج محمدًا من بلادنا فنستريح منه، وقال آخرون: نحبسه حتى يموت.
وقال أبو جهل: نأخذ من كل قبيلة شابًّا قويًّا، ونعطي كلا منهم سيفًا صارمًا قاطعًا، لينقضوا على محمد، ويضربوه ضربة قاتلة، وهكذا لا يستطيع عبد مناف -قوم محمد- محاربة القبائل كلها، فيقتنعون بأخذ ما يريدون من مال تعويضًا عن قتل محمد، وكان الشيطان اللعين يجلس بينهم في صورة شيخ نجدي وهم لا يعرفونه، فلما سمع ذلك الرأي قال في حماس: القول ما قال الرجل، وهذا الرأي لا رأى غيره، فاتفقوا جميعًا عليه.
وسجل القرآن الكريم ما دار في اجتماع المشركين ذلك، فقال تعالى: {إذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} _[الأنفال: 30] وتدخلت عناية الله؛ فجاء جبريل إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - يأمره ألا يبيت هذه الليلة في فراشه وأن يستعد للهجرة، قالت عائشة -رضي الله عنها-: فبينما نحن يومًا جلوس في بيت أبي بكر في حَرِّ الظهيرة، قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن يأتينا في مثل هذه الساعة، فقال أبو بكر -رضي الله عنه-: فداءً له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر.
فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستأذن، فأذن له، فدخل، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر: (أخرج مَنْ عندك) فقال أبو بكر: إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله، قال: (فإني قد أذن لي في الخروج) فقال أبو بكر: الصحبة بأبي أنت يا رسول الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نعم).
أحداث الهجرة:
كان الله -سبحانه- قادرًا على أن يرسل ملكًا من السماء يحمل رسوله إلى المدينة كما أسرى به ليلا من مكة إلى المسجد الأقصى وعرج به السماء، ولكن جعل الهجرة فرصة كبيرة لنتعلم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دروسًا عظيمة في كيفية التفكير والتخطيط والأخذ بالأسباب التي توصل إلى النجاح.
ولنبدأ بأول هذه الدروس، فكيف يخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - هو وصاحبه أبو بكر -رضي الله عنه- من بين هؤلاء الكفار دون أن يلحقوا بهما؟ فلو خرجا من مكة سالمين فإن المسافة طويلة بين مكة والمدينة وسوف يخرج وراءهما الكفار ويدركونهما، لابد إذن من الاختباء في مكان ما؛ حتى ييأس الكفار من البحث عنهما، ومن هنا وضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطة محكمة لتتم الهجرة بسلام.
فأمام بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقف مجموعة من شباب قريش في الليل، ينتظرون حتى يخرج الرسول صلى الله عليه وسلم، فينقضوا عليه
ويقتلوه، وكان هؤلاء الكفار يتطلعون بين الحين والحين إلى فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليطمئنوا على وجوده، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم
عليَّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- بالنوم في فراشه، وأن يتغطى ببردته، وطمأنه بأن المشركين لن يؤذوه بإذن الله.
واستجاب عليٌّ -رضي الله عنه- بكل شجاعة وحماس، ونفذ ما أمره الرسول - صلى الله عليه وسلم - به، وأراد الرسول - صلى الله عليه وسلم - من ذلك تضليل المشركين، فإذا نظروا إليه من الباب ووجدوه في فراشه، ظنوا أنه - صلى الله عليه وسلم - ما زال نائمًا، وقد كانت عند الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمانات كثيرة تركها المشركون عنده، فأراد الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يردها إلى أصحابها، فأمر عليًّا أن ينتظر في مكة لأداء هذه المهمة، رغم أنهم أخرجوا المسلمين من ديارهم، وآذوهم، ونهبوا أموالهم ولكن المسلم يجب أن
يكون أمينًا.
وكان أبو جهل يقول لأصحابه متهكمًا برسول الله صلى الله عليه وسلم: إن محمدًا يزعم أنكم إن تابعتموه أصبحتم ملوك العرب والعجم، ثم بعثتم من بعد موتكم، فدخلتم الجنة، وإن لم تفعلوا ذبحكم ثم بعثتم من بعد موتكم فتدخلون النار تحرقون فيها.
ونام علي -رضي الله عنه- في فراش الرسول صلى الله عليه وسلم، وتوجه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الباب، وخرج وفي قبضته حفنة من التراب فنثرها على رءوس المشركين، وهو يقرأ سورة يس إلى قوله تعالى: {وجعلنا من بين أيديهم سدًّا ومن خلفهم سدًّا فأغشيناهم فهم لا يبصرون} _[يس: 9] وإذا برجل يمر عليهم فرأى التراب على رءوسهم، فقال لهم: خيبكم الله، قد خرج عليكم محمد، ثم ما ترك منكم رجلا إلا وقد وضع على رأسه ترابًا، أفما ترون ما بكم؟ فوضع كل رجل منهم يده على رأسه فإذا عليه التراب.
فنظروا من الباب، فوجدوا رجلا نائمًا في مكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعليه غطاؤه، فقالوا: هذا محمد في فراشه، وعليه بردة، ثم اقتحموا دار النبي صلى الله عليه وسلم، فوجدوا عليًّا في فراشه، فخرجوا يبحثون عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في كل مكان، وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - خلال هذه الفترة قد وصل إلى بيت صاحبه أبي بكر -رضي الله عنه- وعزما على الذهاب إلى غار ثور ليختبئا فيه.
وحمل أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- كل ماله، وخرج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من باب صغير في نهاية المنزل حتى لا يراهما أحد، وانطلقا حتى وصلا الغار، وهناك وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودخل أبوبكر
أولا؛ ليطمئن على خلوِّ الغار من الحيَّات والعقارب، ثم سدَّ ما فيه من فتحات حتى لا يخرج منها شيء، وبعد ذلك دخل الرسول صلى الله عليه وسلم.
وها هي ذي أسماء بنت أبي بكر يدخل عليها جدها أبو قحافة بعد أن علم بخروج ولده أبي بكر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رجلا كبيرًا قد عَمِىَ، يسألها عما تركه أبو بكر في بيته ويقول: والله إني لأراه فجعكم بماله مع نفسه، قالت: كلا يا أبتِ! إنه قد ترك لنا خيرًا كثيرًا، وأخذت أحجارًا فوضعتها في المكان الذي كان أبوها يضع ماله فيه، ثم وضعت عليها ثوبًا، ثم أخذت بيده وقالت: يا أبت، ضع يدك على هذا، فوضع يده عليه فقال: لا بأس ، فإن كان ترك لكم هذا فقد أحسن، وفي هذا بلاغ لكم.
أما كفار مكة فإنهم حيارى، يبحثون عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه ويضربون كفًّا بكف من الحيرة والعجب، فالصحراء على اتساعها مكشوفة أمامهم، ولكن لا أثر فيها لأحد ولا خيال لإنسان، فتتبعوا آثار الأقدام، فقادتهم إلى غار ثور، فوقفوا أمام الغار، وليس بينهم وبين الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه سوى أمتار قليلة، حتى إن أبا بكر رأى أرجلهم فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا، فقال له الرسول - صلى الله عليه وسلم - : (يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما)[متفق عليه].
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد انصرف القوم، ولم يفكر أحدهم أن ينظر في الغار، وسجل القرآن هذا، فقال تعالى: {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم} [التوبة: 40].
ومكث الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه في الغار ثلاثة أيام، وكان
عبدالله بن أبي بكر يذهب إليهما بأخبار الكفار ليلا، وأخته أسماء تحمل لهما الطعام، أما عامر بن فهيرة راعي غنم أبي بكر فقد كان يسير بالأغنام فوق آثار أقدام عبدالله وأسماء حتى لا يترك أثرًا يوصل إلى الغار، وبعد انتهاء الأيام
الثلاثة، خف طلب المشركين للرسول - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه، فخرجا من الغار، والتقيا بعبد الله بن أريقط، وقد اتفقا معه على أن يكون دليلهما في هذه الرحلة مقابل أجر.
تحرك الركب بسلام، وأبو بكر لا يكف عن الالتفات والدوران حول النبي - صلى الله عليه وسلم - خوفًا عليه، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ القرآن، ولا يلتفت حوله فهو واثق من نصر الله -تعالى- له، ولا يخشى أحدًا، وبينما أبو بكر يلتفت خلفه إذا بفارس يقبل نحوهما من بعيد، كان الفارس هو سراقة بن مالك وقد دفعه إلى ذلك أن قريشًا لما يئست من العثور على الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه، جعلوا مائة ناقة جائزة لمن يرده إليهم حيًّا أو ميتًا.
فانطلق سراقة بن مالك بفرسه وسلاحه في الصحراء طمعًا في الجائزة، فغاصت أقدام فرسه في الرمال مرتين حين رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل سراقة مسرعًا عن الفرس، حتى نزعت أقدامها من الرمال، فأيقن سراقة أن الله تعالى يحرس رسوله صلى الله عليه وسلم، ولن يستطيع إنسان مهما فعل أن ينال منه، فطلب من رسول الله أن يعفو عنه، وعرض عليه الزاد فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لا حاجة لنا، ولكن عمِّ عنا الخبر) فوعده سراقة ألا يخبر
أحدًا، وعاد إلى مكة، وهكذا خرج سراقة يريد قتلهما وعاد وهو يحرسهما ويبعد الناس عنهما، فسار النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه إلى المدينة تحرسهما عناية الله.
وأثناء رحلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر إلى المدينة مرَّا بمنازل خزاعة ودخلا خيمة أم معبد الخزاعية، وكانت سيدة كريمة، تطعم وتسقي من مرَّ بها، فسألاها: عما إذا كان عندها شيء من طعام؟ فأخبرتهما أنها لا تملك شيئًا في ذلك الوقت، فقد كانت السنة شديدة القحط، فنظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى شاة في جانب الخيمة فقال: ما هذه الشاة يا أم معبد؟
فأخبرته أنها شاة منعها المرض عن الخروج إلى المراعي مع بقية الغنم، فقال: هل بها من لبن؟ قالت: هي أجهد من ذلك، فقال: أتأذنين لي أن أحلبها؟ قالت: نعم إن رأيت بها حلبًا فاحلبها.
فمسح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده ضرعها، وسمى الله ودعا، وطلب إناء فحلب فيه حتى علته الرغوة، فسقاها فشربت حتى شبعت، وسقى رفيقيه أبا بكر وعبد الله بن أريقط حتى شبعا، ثم شرب، وحلب فيه ثانية حتى ملأ الإناء، ثم تركه - صلى الله عليه وسلم - وانصرف.
الرسول - صلى الله عليه وسلم - في قباء:
علم أهل المدينة بهجرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إليهم، فكانوا يخرجون كل يوم بعد صلاة الصبح إلى مشارف المدينة، وعيونهم تتطلع إلى الطريق، وتشتاق لمقدم الرسول - صلى الله عليه وسلم - إليهم، ولا يعودون إلى بيوتهم إلا إذا اشتد حر الظهيرة، ولم يجدوا ظلا يقفون فيه.
وفي يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول انتظر أهل يثرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كعادتهم، حتى اشتد الحر عليهم، فانصرفوا لبيوتهم، وبعد قليل أقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه، فأبصرهما رجل يهودي كان يقف على نخلة، فصاح بأعلى صوته: يا بني قيلة، هذا صاحبكم قد جاء، فأسرع المسلمون لاستقبال نبيهم وصاحبه أبي بكر الذي كان يُظل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بردائه من حر الشمس.
وبينما الرسول - صلى الله عليه وسلم - في قُبَاء، في بيت سعد بن خيثمة يستقبل الوافدين عليه، أقبل عليُّ بن أبي طالب من مكة بعد أن ظل فيها ثلاثة أيام بعد خروج الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ليرد الأمانات إلى أهلها، وقد ظل الرسول - صلى الله عليه وسلم - في قباء أربعة أيام يستقبل أهل المدينة، وعندما أقبل يوم الجمعة ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قباء متوجهًا للمدينة بعد أن أسس مسجد قباء، وهو أول مسجد بني في الإسلام، وقال الله -عز وجل- عنه: {لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين} _[التوبة: 108].
وكانت الهجرة حدثًا فاصلا بين عهدين، فقد أعز الله المسلمين بعد أن كانوا مضطهدين، وصارت لهم دار آمنة يقيمون فيها، ومسجد يصلون فيه، ويؤدون فيه شعائرهم، ويتشاورون في أمورهم، لهذا كله اتفق الصحابة على جعل الهجرة بداية للتاريخ الإسلامي، فقد تحول المسلمون من الضعف والحصار والاضطهاد إلى القوة والانتشار ورد العدوان.
ــــــــــــ(1/129)
تأملات في واقع المدينة قبل الهجرة
(الشبكة الإسلامية)
بعد أن اضطهدت قريشٌ المسلمين في مكّة ، وأصبحت الهجرة أمراً ضروريّاً لا مفرّ منه ، تمّ اختيار المدينة النبويّة مكاناً مناسباً لإقامة الدولة الإسلامية ، وقاعدةً تنطلق منها قوافل الدعوة إلى الله في أنحاء الجزيرة .
ولمعرفة الأسباب التي جعلت من المدينة المكان الأنسب للهجرة دون غيرها من البلدان ، من المهم جدا استعراض واقع المدينة قبل الهجرة وجذورها التاريخيّة ، والعقائد التي سادت في مجتمعها ، وطبيعة العلاقات التي كانت تحكم القبائل المقيمة فيها .
الواقع التاريخيّ والاجتماعي
ينقسم المجتمع المدني بشكلٍ رئيسيٍّ إلى ثلاثة أقسام : الأوس ، والخزرج ، واليهود ، إضافةً إلى البدو الذين وفدوا إلى المدينة وسكنوها بشكل مؤقت لأغراضٍ اجتماعيةٍ أو تجاريةٍ .
أما اليهود فهم أقدم من استوطن المدينة ، ويبدأ تاريخهم فيها بعد خرجوهم من بلاد الشام عقب الاضطهاد الروماني ، حيث ظلّوا يبحثون عن أرضٍ مناسبة ، حتى استقرّ بهم المقام في يثرب ، واستطاعوا تأسيس مجتمعهم من الناحية الفكريّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة .
ويتكوّن المجتمع اليهودي من ثلاث قبائل هي : بنو قينقاع ، الذين سكنوا داخل المدينة بعد خلافات وقعت بينهم وبين بقيّة اليهود ، وبنو النضير وقد استوطنوا وادياً خارج المدينة ، وبنو قريظة ، وكانوا يسكنون جنوب المدينة على بعد أميال منها .
ومع ذلك فقد أشار القرآن الكريم إلى وجود عداوات بين هذه القبائل الثلاثة ، الأمر الذي لم يمكّنهم من التعايش فيما بينهم ، وكانت سبباً في تفرّقهم في نواحي المدينة ، ولجوء كل قبيلة إلى من جاورها من العرب بحثاً عن النصرة والحماية .
أما فيما يتعلّق بالأوس والخزرج ، فإن أصولهما ترجع إلى قبائل الأزد التي هاجرت من اليمن بعد خراب سدّ مأرب ، وقد اختار الأوس شرق وجنوب المدينة للإقامة ، بينما فضّل الخزرج البقاء في وسطها .
وقد نشأت بين بني هاشم ، وبين بني عدي بن النجار - من الخزرج - علاقة رحم ومصاهرة ، حيث تزوّج هاشم من نسائهم فولدت له عبد المطلب ، وبذلك يكون بنو عدي أخوالا للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقد أوجدت هذه المصاهرة نوعاً من التقارب بين أهل المدينة وبينه عليه الصلاة والسلام .
وتاريخ الأوس والخزرج مليئ بالحروب التي ظلّت قائمةً بينهم زماناً طويلاً ، ولا تكاد تهدأ حتى تعود مرّة أخرى ، وكان لليهود دورٌ بارزٌ في إبقاء نار العداوات مشتعلةً بين الفريقين ، من أجل ضمان السيطرة على مجريات الأمور في المدينة .
وكان آخر تلك الحروب " يوم بعاث " ، الذي انتصر فيه الأوس على الخزرج، وقُتل فيه أيضاً عددٌ من زعماء الفريقين ممن طُبعوا على معاني الكبر والاستعلاء ، وبقيت القيادات الشابّة الجديدة التي كان لديها الاستعداد لتلقّي الحق وقبوله ، فكان يوم " بعاث " تهيئةً لقبول أهل المدينة دعوة الرسول - - صلى الله عليه وسلم - .
الواقع الديني
يتبيّن مما سبق أن المدينةكانت تسيطر عليها الوثنية من جهة ، واليهوديّة من جهة أخرى ، وإن كانت المظاهر الوثنيّة هي السمة الأغلب على المجتمع .
ويرجع السبب في ذلك إلى طبيعة اليهود العنصريّة ، التي لا تشجّع غيرها في الدخول تحت لوائها ، حيث كانوا ينظرون إلى الشعوب الأخرى نظرة احتقار وترفّع ، ويعتبرون أنفسهم شعباً مقدّساً اختاره الله من بين العالمين .
ولارتباط اليهود بالكتب السماوية ، كانت لهم مدارسٌ يتداولون فيها أخبارهم ، ويتعلّمون فيها أحكام دينهم ، وإن كان الكثير من معالم شريعتهم قد ضاع بسبب تحريف الأحبار وعلماء السوء .
ومن الأمور التي ظلّت محفوظة في دينهم ، البشارة بالنبي الذي سيُبعث آخر الزمان ، وذكر صفته وأحواله ، ويشير القرآن إلى ذلك في قوله تعالى : { الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم } ( الأعراف : 157 ) ، وكان اليهود يهدّدون العرب باتّباعه ويقولون : " تقارب زمان نبي يُبعث ، الآن نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم " ، فشاع ذكر النبي - - صلى الله عليه وسلم - - وعلم الناس قُرب بعثته ؛ ولذلك لمّا ذهب الأنصار إلى مكّة والتقوا بالنبي - - صلى الله عليه وسلم - - لم يتردّدوا فيه تصديقه وقبول دعوته ، وقال بعضهم لبعض : " تعلمون والله إنه للنبي الذي توعّدكم به يهود ، فلا يسبقنكم إليه " .
أما ما يتعلّق بالوضع الديني لعرب المدينة فقد كان خاضعاً لسلطان الوثنيّة السائد في المنطقة ، حيث انتشرت مظاهر الشرك المختلفة من عبادة الأصنام وتعظيمها .
وكان لعرب المدينة أصنامهم الخاصّة بهم - ومن أشهرها : صنم مناة - ، وكانوا يقدّمون لها القرابين والنذور المختلفة ، ويطوفون بها كطوافهم بالبيت ، إلى غير ذلك مظاهر الشرك والضلال .
الواقع الجغرافي
تُعتبر المدينة النبوية ذات موقع هام ومتميّز ، بسبب وقوعها في طريق القوافل التجاريّة المتّجهة إلى الشام ، مما يتيح لأهلها إمكانيّة التعرّض لتلك القوافل ، وممارسة الضغوط الاقتصاديّة على أصحابها ، وقد استفاد المسلمون من هذا السلاح الهامّ في محاربة قريشٍ واستنزاف مواردها .
إضافةً إلى أنّ المدينة كانت محاطةً بعدد من الحواجز الطبيعية التي وفّرت لها نوعاً من التحصين والمنعة ، ولم تكن مكشوفة سوى من الجهة الشمالية التي بنى فيها النبي - - صلى الله عليه وسلم - - الخندق لاحقاً ، وهي صفات لم تكن موجودة في غيرها من المدن .
الواقع الاقتصادي
يأتي النشاط الزراعي على قائمة النشاطات التي اشتهر بها أهل المدينة ، ساعدهم في ذلك خصوبة الأرض ، وكثرة وديانها ، ووفرة المياه في باطنها.
وإلى جانب ذلك ، كان هناك النشاط الصناعي الذي اشتهر به اليهود ، ويشمل ذلك بطبيعة الحال : الصناعات الحربية المختلفة ، وأعمال النجارة ، وصياغة الحلي والذهب .
وعلى الرغم من التفوّق العددي للعرب آنذاك إلا أن السيطرة الاقتصادية كانت بيد اليهود، حيث استغلّوا حاجة العرب إلى المال لشراء البذور وأدوات الزراعة ، ولتغطية نفقات الحرب القائمة بين الأوس والخزرج ، فكان اليهود يقرضونهم بالرّبا ، ويغالون في الفوائد أضعافاً مضاعفة ، مستغلّين في ذلك نقص الموارد وقلة ذات اليد ، مما أوقع الكثير من العرب في الديون الثقيلة ، وجعلهم أسرى لمصّاصي الدماء وتجّار الحروب .
وأمام هذه السيطرة المحكمة أراد العرب أن يخرجوا من تلك الأزمة الخانقة التي صنعها اليهود ، فانطلقوا يبحثون عن المخرج من هذا الوضع الصعب ، ليجدوا مُرادهم في مكّة المكرّمة ، حيث الرسالة الرّبانية التي عاش الجميع تحتها في أمنٍ وأمان .
ــــــــــــ(1/130)
الهجرة النبوية ومنعطف التاريخ
(الشبكة الإسلامية) أ.د/ أكرم ضياء العمري
تطلق "الهجرة" على الترك والتخلي عن الشيء , فالمهاجر من هجر ما نهى الله عنه - كما في الحديث الشريف - ، وهي بهذا المعنى مطلقة من قيود الزمان والمكان ، إذ بوسع كل مسلم أن يكون مهاجراً بالالتزام بأوامر الله والهجر للمعاصي .
لكن الهجرة النبوية تتعلق بترك الموطن والانخلاع عن المكان بالتحول عنه الى موطن آخر ابتغاء مرضاة الله رغم شدة تعلق الانسان بموطنه وألفته للبيئة الطبيعية والاجتماعية فيه ، وقد عبّر المهاجرون عن الحنين الى مكة بقوة وخاصة في أيامهم الأولى حيث تشتد لوعتهم .
وتحتاج الهجرة الى القدرة على التكيف مع الوسط الجديد "المدينة المنورة" حيث يختلف مناخها عن مناخ مكة فأصيب بعض المهاجرين بالحمى ، كما يختلف اقتصادها الزراعي عن اقتصاد مكة التجاري ، فضلاً عن ترك المهاجرين لأموالهم ومساكنهم بمكة . لكن الاستجابة للهجرة كانت أمراً إلهياً لابد من طاعته ، واحتمال المشاق من أجل تنفيذه . فقد اختار الله مكان الهجرة ، كما في الحديث الشريف "رأيت في المنام أني أهاجر من مكة الى أرض بها نخل ، فذهب وهلي الى أنها اليمامة أو هجر , فاذا هي المدينة يثرب" .
وما أن بدأ التنفيذ حتى مضت مواكب المهاجرين تترى نحو الموطن الجديد .. دار الهجرة .. وقد شاركت المرأة في حدث الهجرة المبارك منهن أم سلمة هند بنت أبي أمية التي تعرضت لأذى بالغ من المشركين الذين أرادوا منعها من الهجرة ثم استلوا ابنها الرضيع منها حتى خلعوا يده ..
لكنها صممت على الهجرة ونجحت في ذلك رغم الاخطار والمصاعب . وخلدت أسماء بنت أبي بكر ذكرها في التأريخ وحازت لقب ذات النطاقين عندما شقت نطاقها نصفين لتشد طعام المهاجرَين ، رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و أبي بكر رضي الله عنه وقد تتابعت هجرة النساء في الاسلام حتى شرعت في القرآن { إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن} - الممتحنة 10 - ونزلت الآيات الكريمة تأمر بالهجرة وتوضح فضلها منذ السنة التي وقعت فيها لغاية سنة 8هـ عند أوقفت الهجرة بعد فتح مكة واعلان النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك بقوله ( لاهجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونيّة وإذا استنفرتم فانفروا ) .
والأمر بالهجرة الى المدينة لأنها صارت مأرز الايمان وموطن الاسلام ، وشرع فيها الجهاد لمواجهة الاعداء المتربصين بها من قريش واليهود والأعراب ، فكان لابد من إمدادها بالطاقة البشرية الكافية مما يفسر سبب نزول القرآن بهذه الآيات الواعدة للمهاجرين : { إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله} - البقرة 218 - {والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة} - النحل 41 - {ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة} - النساء 100 - .
وقد حاز المهاجرون شرفاً عظيماً في الدنيا فضلاً عن ثواب الله ووعده الكريم ، فقد اعتبروا اهل السبق في تأسيس دولة الاسلام فنالوا رضى الله والقربى منه {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم باحسان رضي الله عنهم } - التوبة 100 - . وهكذا خلد الله ذكرهم في القرآن الذي يتعبد المسلمون بتلاوته الى آخر الزمان .
ــــــــــــ(1/131)
الهجرة من سنن الأنبياء عليهم السلام
لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - أول نبي يهاجر في سبيل الله بل مرّ بهذا الامتحان كثير من الانبياء .. وقد أخبرنا الله تعالى بأن ابراهيم عليه السلام هاجر من موطنه الى مصر وغيرها داعياً الى التوحيد ، وأن يعقوب و يوسف عليهما السلام هاجرا من فلسطين الى مصر وأن لوطاً هجر قريته لفسادها وعدم استجابتها لدعوته . وأن موسى عليه السلام هاجر بقومه من مصر الى سيناء فراراً بدينه من طغيان فرعون .
وهكذا فان الهجرة من سنن النبيين ، وقد كانت هجرة نبينا عليه الصلاة والسلام خاتمة لهجرات النبيين . وكانت نتائجها عميقة شكلت منعطفاً تاريخياً حاسماً .
المنعطف الحاسم
لقد أدت الهجرة الى قيام دولة الاسلام في المدينة ، والتي أرست ركائز المجتمع الاسلامي على أساس من الوحدة والمحبة والتكافل والتآخي والحرية والمساواة وضمان الحقوق ، وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو رئيس هذه الدولة وقائد جيوشها وكبير قضاتها ومعلمها الأول . وقد طبق الرسول - صلى الله عليه وسلم - شريعة الاسلام ، وكان القرآن ينزل بها منجماً ، فكان الصحابة يدرسون ما ينزل ويطبقونه على أنفسهم ، ويتعلمون تفسيره وبيانه من النبي - صلى الله عليه وسلم - فتكون جيل رباني تمكن من الجمع بين عبادة الله وعمران الحياة وعمل تحت شعار : اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا .
وفي خلال عقد واحد توحد معظم الجزيرة العربية في ظل الإسلام ، ثم انتشر في خلال عقود قليلة تالية ليعم منطقة واسعة امتدت من السند شرقاً الى المحيط الأطلسي غرباً حيث آمن الناس بالاسلام ، واستظلوا بشريعته العادلة واقاموا حضارة زاهرة آتت أكلها قروناً طويلة في حقول التشريع والتربية وعلوم الكون والطبيعة.
ــــــــــــ(1/132)
أوائل المهاجرين من الصحابة
(الشبكة الإسلامية) الدكتور /أكرم ضيار العمري
اشتد الأذى بالمؤمنين في مكة حتي صارت جحيماً لايطاق ، فأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - للمسلمين بالهجرة إلى المدينة حتي يأمنوا على أنفسهم ، ويقيموا شعائر دينهم ، فاستجاب المؤمنون لله ورسوله فهاجروا ، وكان منهم سابقون إلى الهجرة، فمن أول من هاجر من الصحابة ؟ هذا ما سنستعرضه في مقالنا التالي
يتفق موسى بن عقبة و ابن إسحاق على أن أبا سلمة بن عبد الأسد هو أول من هاجر من مكة إلى المدينة بعد أن آذته قريش إثر عودته من هجرة الحبشة ، فتوجه إلى المدينة قبل بيعة العقبة بسنة .
وكذلك فإن مصعب بن عمير و ابن مكتوم كانا من أوائل المهاجرين حيث كانا يقرئان الناس القرآن .
وقد تتابع المهاجرون فقدم المدينة بلال بن رباح و سعد ابن أبي وقاص و عمار بن ياسر ثم عمر بن الخطاب في عشرين من الصحابة .
وقد سعت قريش بشتى الطرق إلى عرقلة الهجرة إلى المدينة ، وإثارة المشاكل أمام المهاجرين ، مرة بحجز أموالهم ومنعهم من حملها ، ومرة بحجز زوجاتهم وأطفالهم ، وثالثة بالاحتيال لإعادتهم إلى مكة ، لكن شيئاً من ذلك كله لم يعق موكب الهجرة ، فالمهاجرون كانوا على أتم الاستعداد للانخلاع عن أموالهم وأهليهم ودنياهم كلها تلبية لداعي العقيدة .
قالت أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها: لما أجمع أبو سلمة الخروج إلى المدينة رحل لي بعيره ، ثم حملني عليه ، وحمل معي ابني سلمة بن أبي سلمة في حجري ، ثم خرج بي يقود بعيره ، فلما رأته رجال بني المغيرة بن عبد الله بن عمرو ابن مخزوم قاموا إليه فقالوا : هذه نفسك غلبتنا عليها ، أرأيت صاحبتنا هذه علام نتركك تسير بها في البلاد ؟ قالت : فنزعوا خطام البعير من يده فأخذوني منه ، قالت : وغضب عند ذلك بنو عبد الأسد رهط أبي سلمة . قالوا : لا والله لاتترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا ، قالت : فتجاذبوا ابني سلمة بينهم حتى خلعوا يده ، وانطلق به بنو عبد الأسد وحبسني بنو المغيرة عندهم ، وانطلق زوجي أبو سلمة إلى المدينة ، قالت : ففرق بيني وبين زوجي وبين ابني ، قالت : فكنت أخرج كل غداة فأجلس بالأبطح ، فما أزال أبكي حتى أمسي ، سنة أو قريباً منها ، حتى مرّ بي رجل من بني عمي - أحد بني المغيرة - فرأى مابي ، فرحمني , فقال لبني المغيرة : ألا تخرجون هذه المسكينة فرّقتم بينها وبين زوجها وبين ولدها ؟ قالت : فقالوا لي : الحقي بزوجك إن شئت ، قالت : وردّ بنو عبد الأسد إليّ عند ذلك ابني .
قالت : فارتحلت بعيري ، ثم أخذت ابني فوضعته في حجري ، ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة ، وما معي أحد من خلق الله . قالت : فقلت : أتبلغ بمن لقيت حتى أقدم على زوجي . حتى إذا كنت بالتنعيم لقيت عثمان بن طلحة بن أبي طلحة أخا بني عبد الدار , فقال لي : إلى أين يا بنت أبي أمية ؟ قالت : فقلت : أريد زوجي بالمدينة . قال : أو معك أحد ؟ قالت : فقلت : لا والله إلا الله وبنيّ هذا . قال : والله مالك من مترك فأخذ بخطام البعير . فانطلق معي يهوي بي ، فوالله ماصحبت رجلاً من العرب قط أرى أنه كان أكرم منه ، كان إذا بلغ المنزل أناخ بي ، ثم استأخر عني ، حتى إذا نزلت عنه استأخر ببعيري فحط عنه ، ثم قيده في الشجرة ، ثم تنحّى إلى الشجرة فاضطجع تحتها ، فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري فقدّمه فرحّله ، ثم استأخر عني فقال : اركبي ، فإذا ركبت فاستويت على بعيري أتى فأخذ بخطامه ، فقاد بي حتى ينزل بي ، فلم يزل يصنع ذلك بي حتى أقدمني المدينة ، فلما نظر إلى قرية بني عمرو بن عوف بقباء قال : زوجك في هذه القرية - وكان أبوسلمة بها نازلاً - فادخليها على بركة الله ، ثم انصرف راجعاً إلى مكة . قال فكانت تقول : والله ما أعلم أهل بيت في الإسلام أصابهم ما أصاب آل أبي سلمة . وما رأيت صاحباً قط أكرم من عثمان بن طلحة ).
وقد سقت الخبر بطوله لما فيه من دلالة على الصعوبات التي واجهها المهاجرون وهي تشير إلى أصر العصبية في اتخاذ العشائر القرشية مواقفها من الأحداث ، فقد انحاز قوم أبي سلمة إليه رغم مخالفتهم له في العقيدة ، ثم إن الخبر يكشف عن صورة من صور المروءة التي عرفها المجتمع القرشي قبل الإسلام تتمثل في موقف عثمان بن طلحة وتطوعه في مصاحبة المرأة وإحسان معاملتها مما يدل على سلامة الفطرة التي قادته أخيراً إلى الإسلام بعد صلح الحديبية ، ولعل إضاءة قلبه بدأت منذ تلك الرحلة مع المرأة المسلمة .
وثمة صورة تاريخية لحدث آخر هو هجرة عمر بن الخطاب كما حدّث بها بنفسه قال : ( اتعدت - لما أردنا الهجرة إلى المدينة - أنا و عياش بن أبي ربيعة ، و هشام بن العاص بن وائل السهمي التناضب - موضع - من أضاءة بني غفار فوق سرف ، وقلنا أينا لا يصبح عندها فقد حبس ، فليمض صاحباه .قال : فأصبحت أنا و عياش بن أبي ربيعة التناضب ، وحبس عنها هشام ، وفتن فافتتن .
فلما قدمنا المدينة نزلنا في بني عمرو بن عوف بقباء ، وخرج أبو جهل بن هشام ، و الحارث بن هشام إلى عياش ابن أبي ربيعة - وكان ابن عمهما وأخاهما لأمهما - حتى قدما علينا المدينة - ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة - فكلماه وقالا : إن أمك قد نذرت ألا يمسّ رأسها مشط حتى تراك ، فرقّ لها . فقلت له : يا عياش إنه والله إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك فاحذرهم .فقال : أبرّ قسم أمي ، ولي هناك مال فآخذه .
فقلت : والله إنك لتعلم أني لمن أكثر قريش مالاً , فلك نصف مالي ولا تذهب معهما . فأبى عليّ إلا أن يخرج معهما . فلما أبى إلا ذلك قلت : أما إذ قد فعلت ما فعلت فخذ ناقتي هذه فإنها ناقة نجيبة ذلول ، فالزم ظهرها ، فإن رابك من القوم ريب فانج عليها ، فخرج عليها معهما . حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال له أبو جهل : والله يا أخي لقد استغلظت بعيري هذا , أفلا تعقبني على ناقتك هذه ؟ قال : بلى . قال : فأناخ وأناخ ليتحول عليها ، فلما استووا بالأرض عدوا عليه فأوثقاه وربطاه ، ثم دخلا به مكة وفتناه فافتتن .قال : فكنا نقول : ما الله بقابل ممن افتتن صرفاً ولا عدلاً ولا توبةً ؛ قوم عرفوا الله ثم رجعوا إلى الكفر لبلاء أصابهم .
قال : وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة أنزل الله تعالى فيهم وفي قولنا وقولهم لأنفسهم { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم ، وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون . واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتةً وأنتم لا تشعرون } ( الزمر 53-55) .
قال عمر بن الخطاب : فكتبتها بيدي في صحيفة ، وبعثت بها إلى هشام بن العاص .
قال فقال هشام : فلما أتتني جعلت أقرؤها بذي طوى أصعد بها فيه وأصوّب ولا أفهمها . حتى قلت : اللهم فهمنيها . قال : فألقى الله تعالى في قلبي أنها إنما أنزلت فينا وفيما كنا نقول لأنفسنا ويقال فينا . قال : فرجعت إلى بعيري فجلست عليه فلحقت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وأما ما روي من إعلان عمر لهجرته وتهديده من يلحق به بثكل أمه فلم يصح .
وهكذا وصلت طلائع الهجرة إلى المدينة المنورة ، ووجدوا الأمن والأمان ، والأخوة الصادقة من الأنصار، وأقاموا شعائر دينهم ، فلله الحمد والمنة.
ــــــــــــ(1/133)
معجزات على طريق الهجرة
(الشبكة الإسلامية) أ.د/ أكرم ضياء العمري
بعث الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالهدي ودين الحق، ووعده بالنصر والتأييد، وكان تأييده تعالى لرسوله بأمور كثيرة منها المعجزات والتي هي خوارق العادات، فقد وقعت له معجزات كثيرة ، ومنها ما كان على طريق الهجرة ، وهو ما سنقف عليه في هذه الكلمات.
وقعت معجزة للنبي - صلى الله عليه وسلم - في طريق الهجرة , ولنقرأ ما سجله الصديق رضي الله عنه عن بداية الرحلة قال: (أسرينا ليلتنا كلها حتى قام قائم الظهيرة , وخلا الطريق فلا يمر فيه أحد , حتى رفعت لنا صخرة طويلة لها ظل , لم تأت عليه الشمس بعد , فنزلنا عندها فأتيت الصخرة فسويت بيدي مكاناً ينام فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - في ظلها ثم بسطت عليه فروة . ثم قلت : نم يا رسول الله وأنا أنفض لك ما حولك , فنام) . ثم حكى أبو بكر خبر مرور راع بهما , فطلب منه لبناً , وصادف استيقاظ الرسول - صلى الله عليه وسلم - فشرب ثم قال : ( ألم يأن للرحيل ) قلت : بلى . قال : فارتحلنا بعدما زالت الشمس , وأتبعنا سراقة بن مالك ونحن في جلد من الأرض .
معجزة في خيمة أم معبد :
وقد اشتهر في كتب السيرة والحديث خبر نزول الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بخيمة أم معبد بقديد طالبين القرى , فاعتذرت لهم لعدم وجود طعام عندها إلا شاة هزيلة لا تدرّ لبناً , فأخذ الشاة فمسح ضرعها بيده , ودعا الله , وحلب في إناء حتى علت الرغوة , وشرب الجميع , ولكن هذه الرواية طرقها ما بين ضعيفة وواهية . إلا طريقاً واحدة يرويها الصحابي قيس بن النعمان السكوني ونصها (لما انطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و أبو بكر يستخفيان نزلا بأبي معبد فقال : والله مالنا شاة , وإن شاءنا لحوامل فما بقي لنا لبن . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أحسبه - فما تلك الشاة ؟ فأتى بها . فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالبركة عليها , ثم حلب عسّاً فسقاه , ثم شربوا , فقال : أنت الذي يزعم قريش أنك صابيء ؟ قال : إنهم ليقولون . قال : أشهد أن ما جئت به حق . ثم قال : أتبعك . قال : لا حتى تسمع أناّ قد ظهرنا . فاتّبعه بعد) . وهذا الخبر فيه معجزة حسية للرسول - صلى الله عليه وسلم - شاهدها أبو معبد فأسلم .
قصة سراقة بن معبد :
ولندع رواية سراقة بن مالك تكمل الخبر التاريخي ففيها تفاصيل تكشف عن المعجزة النبوية . قال سراقة : " لما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة مهاجراً إلى المدينة جعلت قريش فيه مائة ناقة لمن رده عليهم . قال : فبينا أنا جالس في نادي قومي إذ أقبل رجل منا حتى وقف علينا فقال : والله لقد رأيت ركبة ثلاثة مروا عليّ آنفاً إني لأراهم محمداً وأصحابه . قال : فأومأت إليه بعيني أن اسكت . ثم قلت : إنما هم بنو فلان يبتغون ضالة لهم , قال : لعلّه , ثم سكت ".
ثم ذكر سراقة خروجه في أثرهم , وأن فرسه ساخت به حتى طلب الدعاء له من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر : ( قل له وما تبتغي منا ) ؟ فقال لي ذلك أبو بكر . قال قلت: تكتب لي كتاباً يكون آية بيني وبينك . قال : اكتب له يا أبا بكر ، فكتب لي كتاباً في عظم أو في رقعة أو في خزفة , ثم ألقاه إلي , فأخذته فجعلته في كنانتي , ثم رجعت فسكت , فلم أذكر شيئاً مما كان)) . ثم حكى خبر لقائه برسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد فتح مكة وإسلامه .
وقد ذكر سراقة في رواية صحيحة أنه اقترب من الاثنين حتى سمع قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو لا يلتفت , و أبو بكر يكثر الالتفات , كما ذكر أنه عرض عليهما الزاد والمتاع فلم يأخذا منه شيئاً , وأن وصيته كانت : اخف عنا .
وتذكر رواية صحيحة أنه صار آخر النهار مسلمة للنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن كان جاهداً عليه أوله . وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الذي دعا عليه فصرعه الفرس . وقد احتاط الاثنان في الكلام مع الناس الذين يقابلونهم في الطريق , فإذا سئل أبو بكر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : هذا الرجل يهديني السبيل , فيحسب الحاسب إنه إنما يعني الطريق , وإنما يعني سبيل الخير . وقد صح أن الدليل أخذ بهم طريق السواحل.
وبالجملة: فإن المعجزات جند من جنود الله تعالى أيد بها رسوله صلى الله عليه وسلم، وأكرمه بها ، وكان لها الأثر الفاعل في إرساء دعائم دعوته المباركة ، والله الموفّق .
ــــــــــــ(1/134)
الهجرة النبوية إلى المدينة
(الشبكة الإسلامية)
بينما ينظر البعض إلى الهجرة كذكريات عطرة تتجدّد كل عام ، يرى الحكماء وأصحاب العقول الراجحة في هذا الحدث نصراً يُضاف إلى رصيد الجماعة المؤمنة ، وهروباً من حياة الظلم والاستعباد ، إلى الحياة الحرّة الكريمة ، وبداية مرحلةٍ جديدة من الصراع بين الإسلام والكفر ، والحق والباطل ، حتى صار تاريخاً للمسلمين يؤرّخون به أحداثهم .
وللوقوف على أهمّية الحدث ، واستشعار أبعاده ، يجدر بنا أن نعود إلى الوراء بضعة عشر قرناً من الزمان ، وتحديداً في العام الثالث عشر من البعثة ، حين نجحت جموع المؤمنين في الخروج من مكة ، واستطاعت أن تتغلّب على المصاعب والعقبات التي زرعتها قريشٌ للحيلولة دون وصولهم إلى أرض يثرب ، ليجدوا إخوانهم الأنصار قد استقبلوهم ببشاشة وجهٍ ورحابة صدر ، وفتحوا لهم قلوبهم قبل بيوتهم ، مما كان له أعظم الأثر في نفوسهم ، ولم يبق في مكّة سوى نفرٍ قليل من المؤمنين ما بين مستضعفٍ ومفتونٍ ومأسورٍ .
وهنا أحسّت قريشٌ بالمخاطر التي تنتظرهم ، وأدركت أنها لن تستطيع تدارك الموقف وإعادة الأمور إلى نصابها إلا بالوقوف بأيّ وسيلة دون إتمام هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - .
ونتيجةً لذلك ، كانت المؤامرات تدور في الخفاء للقضاء على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ففي يوم الخميس من شهر صفر اجتمع المشركون في دار الندوة وتشاوروا في الطريقة المُثلى لتحقيق مقصودهم ، فمن قائلٍ بضرورةِ قتله عليه الصلاة والسلام والتخلّص منه ، وآخر بحبسه وإحكام وثاقه ، وثالثٍ بنفيه وطرده ، حتى اتفقت الآراء على قتله ، ولكن بطريقة تَعْجَز بنو هاشم معها عن أخذ الثأر ، وذلك بأن تختار قريش صفوة فتيانها من جميع القبائل فيقوموا على النبي - صلى الله عليه وسلم - قومة رجلٍ واحد ويقتلوه ، ليتفرّق دمه بين القبائل ، وفي هذه الحالة لن تستطيع بنو هاشم أن تقاتل سائر الناس ، ولن يبقى أمامها سوى خيارٍ واحد هو قبول الدية ، وصدق الله عزوجل إذ يقول : { وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين } ( الأنفال : 30 ) .
ولم تكن قريش لتعلم أن الله سبحانه وتعالى أذن لنبيه بالهجرة إلى المدينة ، فبينما هم يبرمون خطّتهم ويحيكون مؤامرتهم كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد استعدّ للسفر ، وانطلق إلى بيت أبي بكر رضي الله عنه في وقت الظهيرة متخفّياً على غير عادته ، ليخبره بأمر الخروج
وخشي أبو بكر رضي الله عنه أن يُحرم شرف هذه الرحلة المباركة ، فاستأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - في صحبته فأذن له ، فبكى رضي الله عنه من شدّة الفرح، وكان قد جهّز راحلتين استعداداً للهجرة ، فلما أعلمه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقرب الرحيل قام من فوره واستأجر رجلاً مشركاً من بني الديل يُقال له عبد الله بن أُريقط ، ودفع إليه الراحلتين ليرعاهما ، واتفقا على اللقاء في غار ثورٍ بعد ثلاث ليالٍ ، في حين قامت عائشة وأختها أسماء رضي الله عنهما بتجهيز المتاع والمؤن ، ووضعا السفرة في وعاء ، وشقّت أسماء نطاقها نصفين لتربط السُفرة بنصفه وقربة الماء بالنصف الآخر ، فسمّيت من يومها بذات النطاقين .
وتسارعت الأحداث ، وحانت اللحظة المرتقبة ، وانطلق النبي - صلى الله عليه وسلم - متخفّياً إلى بيت أبي بكر رضي الله عنه ، وكان الميعاد بينهما ليلاً ، فخرجا من فتحةٍ خلفيةٍ في البيت ، وفي الوقت ذاته أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب رضي الله عنه بأن يتخلّف عن السفر ليؤدي عنه ودائع الناس وأماناتهم ، وأن يلبس بردته ويبيت في فراشه تلك الليلة ؛ من أجل إيهام قريشٍ .
ونجح النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه في الفرار من بين أيديهم ، ولم يكشتفوا الأمر إلا عندما أصبح الصباح وخرج عليهم عليٌ رضي الله عنه وهو لابسٌ بردة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فجُنّ جنونهم ، وأحاطوا به يسألونه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يتظاهر بالدهشة وعدم معرفته بمكانه ، وانطلقت قريشٌ مسرعةً إلى بيت أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه ، لأنّهم يعلمون أنه صاحبه ورفيق دربه ، ولابد أن يصلوا من خلاله إلى معلومة تقودهم إلى وجهته ، إلا أنهم فوجئوا برحيله هو الآخر ، فساءلوا أسماء عن والدها ، فأبدت جهلها ، فغضب أبو جهل لعنه الله ولطمها لطمة أسقطت الحليّ من أذنها .
وبدأت محاولات المطاردة للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقاموا بمراقبة جميع منافذ مكّة مراقبة دقيقة ، وأعلنوا بين أفراد القبائل جائزة ثمينة لمن يأتي به حيّاً أو ميّتاً ، وأرسلوا كلّ من له خبرة بتتبّع الآثار ، وانطلقت جموعهم شمالاً علّهم يقفوا له على أثر .
وخالف النبي - صلى الله عليه وسلم - بذكائه وحنكته كل توقعاتهم ، فلم يتجه صوب المدينة مباشرة ، بل ذهب إلى جهة الجنوب حتى بلغ جبلاً وعراً يُقال له " جبل ثور " ، يوجد في أعلاه غار يصعب الوصول إليه ، ويمكنهم المكوث فيه إلى أن يهدأ الطلب .
وقادت الجهود قريشاً إلى غار ثورٍ ، وصعدوا إلى باب الغار ، وبات الخطر وشيكاً ، وبلغت أصواتهم سمع أبي بكر فقال رضي الله عنه : " يا رسول الله ، لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا " ، فأجابه الرسول - صلى الله عليه وسلم - إجابة الواثق المطمئنّ بموعود الله : ( يا أبا بكر ، ما ظنّك باثنين الله ثالثهما ؟ ) ، وصدق ظنّه بربه ، فإن قريشاً استبعدت وجود النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا المكان ، و انصرفت تجرّ أذيال الخيبة .
وأقام النبي - صلى الله عليه وسلم - في الغار ثلاث ليالٍ ، وكان عبدالله بن أبي بكر رضي الله عنهما يأتي كل يوم ليبلغهما أخبار قريش ، و عامر بن فهيرة يأتي بالأغنام ليشربا من لبنها ، ويخفي آثار عبدالله بن أبي بكر ، حتى جاء عبدالله بن أريقط في الموعد المنتظر ، ومعه رواحل السفر .
وفي ليلة الإثنين من شهر ربيع الأوّل انطلق الركب إلى المدينة متّخذاً طريق الساحل ، وظلوا يسيرون طيلة يومهم ، و أبو بكر رضي الله عنه يمشي مرّة أمام النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومرّة خلفه ، ومرّة عن يمينه ، ومرّة عن يساره ، خوفاً عليه من قريش ، حتى توسّطت الشمس كبد السماء ، فنزلوا عند صخرةٍ عظيمةٍ واستظلّوا بظلّها ، وبسط أبو بكر رضي الله عنه المكان للنبي - صلى الله عليه وسلم - وسوّاه بيده لينام ، وبينما هم كذلك إذ أقبل غلام يسوق غنمه قاصداً تلك الصخرة ، فلما اقترب قال له أبوبكر رضي الله عنه : لمن أنت يا غلام ؟ ، فقال : لرجل من أهل مكة ، فقال له : أفي غنمك لبن ؟ ، فقال : نعم ، فحلب للنبي - صلى الله عليه وسلم - في إناء ، فشرب منه حتى ارتوى .
وفي هذه الأثناء استطاع أحد المشركين أن يلمح النبي - صلى الله عليه وسلم - من بعيد ، فانطلق مسرعاً إلى سراقة بن مالك وقال له : يا سراقة ، إني قد رأيت أناساً بالساحل ، وإني لأظنّهم محمداً وأصحابه ، فعرف سراقة أنهم هُم ، ولكنّه أراد أن يُقنع الرجل بأنّه واهم حتى يفوز بالجائزة وحده ، ولبث سراقة في المجلس ساعة حتى لا يثير انتباه من معه ، ثم تسلّل من بينهم وأخذ فرسه ورمحه وانطلق مسرعاً ، فلما دنا منهم عثرت به فرسه حتى سقط ، فتشاءم من سقوطه ، وعاد مرة أخرى وامتطى فرسه وانطلق ، فسقط مرة ثانيةً وتعاظم شؤمه ، لكن رغبته في الفوز بالجائزة أنسته هواجسه ومخاوفه ، ولما اقترب من النبي - صلى الله عليه وسلم - غاصت قدما فرسه في الأرض إلى الركبتين ، وتصاعد الدخان من بينهما ، فعلم أنهم محفوظون بحفظ الله ، فطلب منهم الأمان وعاهدهم أن يخفي عنهم ، وكتب له النبي - صلى الله عليه وسلم - كتاب أمان ووعده بسواريْ كسرى ، وأوفى سراقة بوعده فكان لا يلقى أحداً يبحث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أمره بالرجوع ، وكتم خبرهم حتى وصلوا إلى المدينة .
وفي طريقهم إلى المدينة نزل الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه بخيمة أم معبد ، فسألاها إن كان عندها شيء من طعامٍ ونحوه ، فاعتذرت بعدم وجود شيء سوى شاة هزيلة لا تدرّ اللبن ، فأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - الشاة فمسح ضرعها بيده ودعا الله أن يبارك فيها ، ثم حلب في إناء ، وشرب منه الجميع ، وكانت هذه المعجزة سبباً في إسلامها هي وزوجها .
وانتهت هذه الرحلة بما فيها من مصاعب وأحداثٍ ، ليصل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أرض المدينة ، يستقبله فيها أصحابه الذين سبقوه بالهجرة ، وإخوانه الذين أعدّوا العدة لضيافته في بلدهم ، وتلك وقفة أخرى .
ــــــــــــ(1/135)
وصول رسول الله إلى المدينة
(الشبكة الإسلامية) أ.د/ أكرم ضياء العمري
كان المسلمون في المدينة قد سمعوا بخروج النبي - صلى الله عليه وسلم - من مكة ، فكانوا يغدون كل غداة إلى ظاهر المدينة ينتظرونه ، حتى إذا اشتد الحر عليهم عادوا إلى بيوتهم ، حتى إذا كان اليوم الذي قدم فيه انتظروه حتى لم يبق ظل يستظلون به فعادوا ، وقدم الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقد دخلوا بيوتهم ، فبصر به يهودي فناداهم ، فخرجوا فاستقبلوه ، وكانت فرحتهم به غامرة ، فقد حملوا أسلحتهم وتقدموا نحو ظاهر الحرة فاستقبلوه .
وقد نزل الرسول - صلى الله عليه وسلم - في قباء في بني عمرو بن عوف أربع عشرة ليلة وأسس مسجد قباء .
ولما عزم رسول الله صلى عليه وسلم أن يدخل المدينة أرسل إلى زعماء بني النجار فجاءوا متقلدين سيوفهم .
وقد سجلت رواية أن عدد الذين استقبلوه خمسمائة من الأنصار ، فأحاطوا بالرسول - صلى الله عليه وسلم - و بأبي بكر وهما راكبان ، ومضى الموكب داخل المدينة ، ( وقيل في المدينة : جاء نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ) . وقد صعد الرجال والنساء فوق البيوت ، وتفرق الغلمان في الطرق ينادون : يا محمد يا رسول الله , يا رسول الله .
قال الصحابي البراء بن عازب - وهو شاهد عيان - : " ما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - "
أما تلك الروايات التي تفيد استقباله بنشيد ( طلع البدر علينا من ثنيات الوداع ) فلم ترد بها رواية صحيحة .
وأقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسير حتى نزل جانب دار أبي أيوب الأنصاري فتساءل : أي بيوت أهلنا أقرب ؟ فقال أبو أيوب : أنا يا نبي الله ، هذه داري وهذا بابي . فنزل في داره .
وقد ورد في كتب السيرة أن زعماء الأنصار تطلعوا إلى استضافة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فكلما مر بأحدهم دعاه للنزول عنده ، فكان يقول لهم : دعوا الناقة فإنها مأمورة فبركت على باب أبي أيوب ، وكان داره طابقين , قال أبو أيوب الأنصاري : " لما نزل عليّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيتي نزل في السّفل وأنا و أم أيوب في العلو , فقلت له : يا نبي الله - بأبي أنت وأمي - إني لأكره وأعظم أن أكون فوقك ، وتكون تحتي ، فاظهر أنت في العلو ، وننزل نحن فنكون في السفل . فقال : يا أبا أيوب : إن أرفق بنا وبمن يغشانا أن نكون في سفل البيت . قال : فلقد انكسر حبّ لنا فيه ماء , فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة لنا مالنا لحاف غيرها ننشف بها الماء تخوفاً أن يقطر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منه شيء يؤذيه " .
وقد أفادت رواية ابن سعد أن مقامه - صلى الله عليه وسلم - بدار أبي أيوب سبعة أشهر .
وقد اقترعت الأنصار على سكنى المهاجرين ، وآثروهم على أنفسهم , فنالوا من الثناء العظيم الذي خلّد ذكرهم على مرّ الدهور وتتالي الأجيال ، إذ ذكر الله مأثرتهم في قرآن يتلوه الناس : { والذين تبوّأوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فألئك هم المفلحون} ( الحشر9) .
وقد أثنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الأنصار ثناء عظيماً فقال : ( لولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار) و ( لو سلكت الأنصار وادياً أو شعباً لسلكت وادي الأنصار أو شعبهم)
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي حيث أدركته الصلاة ، ثم أمر ببناء المسجد في أرض كان فيها نخل لغلامين يتيمين من بني النجار .
وقد اشتراها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقام المسلمون بتسويتها وقطع نخيلها وصفوا الحجارة في قبلة المسجد ، وما أعظم سرورهم وهم يعملون في بنائه ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعمل معهم وهم يرتجزون :
اللهم إنه لا خير إلا خير الآخرة فانصر الأنصار والمهاجرة
وقد بناه أولاً بالجريد ثم بناه باللبن بعد الهجرة بأربع سنين ، وقد واجه المهاجرون من مكة صعوبة اختلاف المناخ ، فالمدينة بلدة زراعية ، تغطي أراضيها بساتين النخيل ، ونسبة الرطوبة في جوها أعلى من مكة ، وقد أصيب العديد من المهاجرين بالحمى منهم أبو بكر و بلال .فأخبرت عائشة رضي الله عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : ( اللهم حبّب إلينا المدينة كحبّنا مكة أو أشدّ ، وصححها ، وبارك لنا في صاعها ومدّها ، وانقل حمّاها فاجعلها بالجحفة) . وقال : (اللهم امض لأصحابي هجرتهم ، ولا تردهم على أعقابهم ) .
لقد تغلب المهاجرون على المشكلات العديدة ، واستقروا في الأرض الجديدة مغلبين مصالح العقيدة ومتطلبات الدعوة ، بل صارت الهجرة واجبة على كل مسلم لنصرة النبي عليه الصلاة والسلام ومواساته بالنفس ، حتى كان فتح مكة فأوقفت الهجرة لأن سبب الهجرة ومشروعيتها نصرة الدين وخوف الفتنة من الكافرين . والحكم يدور مع علته ، ومقتضاه أن من قدر على عبادة الله في أي موضع اتفق لم تجب عليه الهجرة منه ، وإلا وجبت . ومن ثم قال الماوردي : إذا قدر على إظهار الدين في بلد من بلاد الكفر ، فقد صارت البلد به دار إسلام ، فالإقامة فيها أفضل من الرحلة منها لما يترجى من دخول غيره في الإسلام .
وعندما دون التاريخ في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه اتخذت مناسبة الهجرة بداية التاريخ الإسلامي ، لكنهم أخروا ذلك من ربيع الأول الى المحرم لأن ابتداء العزم على الهجرة كان في المحرم ، إذ بيعة العقبة الثانية وقعت في أثناء ذي الحجة ، وهي مقدمة الهجرة . فكان أول هلال استهل بعد البيعة والعزم على الهجرة هلال المحرم ، فناسب أن يجعل مبتدأ التاريخ الإسلامي. والله الموفق والهادي الى سواء السبيل.
ــــــــــــ(1/136)
دروس من الهجرة
الحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هادِيَ لَهُ، وأشْهَدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ، وأشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ?يا أيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها، وَبَثَّ مِنْهُما رِجَالاً كَثِيراً وَنِساءً، واتَّقُوا اللَّهَ الذي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ إنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً?[ النساء:1]. ?يا أيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وأَنْتُمْ مُسْلِمُون? [آل عمران:102]. ? يا أيُّهَا الَّذين آمَنوا اتَّقُوا اللَّه وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أعْمالَكُمْ، ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيماً? [الأحزاب:71].
أيها المؤمنون في توديع عام واستقبال عام تتزاحم الذكريات والعبر، وتتجلى في النفس اللوامة الحقائق والصور، حين تنظر إلى الماضي وتستشرف المستقبل.
أيها الناس: اتقوا الله تعالى وانظروا وتدبروا في هذه الأيام والليالي، فإنها مراحل تقطعونها إلى الدار الآخرة، وكل يوم يمر بكم، فإنه يبعدكم من الدنيا ويقربكم من الآخرة، فطوبى لعبد اغتنم فرصة العمر الذي يقربه من ربه وخالقه في فعل الطاعات والقربات واجتناب المعاصي والآثام.
طوبى لعبد اتعظ بما في الأيام والليالي من تقلبات الأمور والأحوال، طوبى لعبد استدل بتقلبها على أيام لله فيها من الحكم البالغة والأسرار واستدل بتلك الأحداث والأحوال على محدثها ومقلبها ومصرفها ? يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ?[النور:44].
أيها المسلمون: ألم تروا إلى هذه الشمس كيف تطلع كل يوم من مشرقها وتغيب في مغربها. وفي ذلك أعظم العظمة والاعتبار، فإن طلوعها ثم غيابها إيذان بأن هذه الدنيا ليست دار قرار ، وإنما هي ظهور ثم اختفاء وزوال ، ألم تروا إلى الشهور كيف تهل علينا يبدوا فيها الهلال صغيراً ثم ينموا رويداً رويداً، حتى إذا تكامل نموه، أخذ بالنقص والاضمحلال ، وهكذا عمر الإنسان سواء ، فاعتبروا يا أولي الأبصار: إذا تم شيء بدا نقصه .. ترقب زوالاً إذا قيل تم .
ألم تروا إلى هذه السنين والأعوام كيف تنتهي وتتجدد فإذا دخل عام جديد نظر الإنسان إلى آخره نظر البعيد، ثم تمر به الأيام سراعاً فينصرم العام كلمح البصر، فإذا هو في آخر العام، وهكذا عمر الإنسان يتطلع إلى آخره تطلع البعيد وينظر إلى الموت نظر الشاك المريب يؤمل الإنسان بطول العمر، ويتسلى بالأماني، فإذا بحبل الأمل قد انصرم وإذا بالموت قد هجم عليه ونزل وتحقق ما أخبر الله به ? وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ?[ق:19].
أيها المسلمون لقد ودعنا عاماً مضى وارتحل عنا بما فيه واستقبلنا عاماً جديداً فليحاسب كل منا نفسه ماذا قدم في العام الماضي؟ وبماذا سيستقبل العام الجديد؟ لنتدارك ما فات من الزلل والتقصير بالتوبة والاستغفار ولنعزم في بقية أعمارنا على الإيمان الصادق والعمل الصالح والإنابة إلى الله فإننا في زمن الإمكان، وقد أوصى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً بقوله: "اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك"()
أيها المؤمنون يحتفل بعض الناس في بداية العام الهجري الجديد ويقيمون الخطب والمناسبات واكتفوا من سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالخفيف من المظاهر والرسوم ولا شك أن سيرة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - بكل ما فيها من مواقف ووقائع جديرة بكل تدبر وتأمل يزيد في الإيمان ويزكي الخلق ويقوم السلوك.
إن الحب الصادق للرسول الحبيب محمد - صلى الله عليه وسلم - يستدعي عزماً صادقاً في الاستمساك بالأصول والحقائق التي جاء بها من عند الله والعض عليها بالنواجذ. إن الحب رخيصاً حين يكون زعماً وكلاماً ولكنه غال حين يكون عملاً وجهاداً وإقداماً ? قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ?[آل عمران:31 ].
أيها المؤمنون إن هجرة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم معلم بارز في سيرته المباركة المليئة بالعظات والدروس والعبر.
وإن من الدروس العظيمة التي ينبغي أن يعيها المسلمون وهم يمرون بأخطر هجمة يهودية صليبية حيث يجندون العالم كله لاستئصال الإسلام والقضاء على المسلمين ومطاردتهم في كل أرض. هذا الدرس هو أن هذا الدين الذي أكرمنا الله به ورضيه لنا ديناً هو السياج الحامي لكل حق في الأنفس والأموال والأرض والحرية والكرامة، إذا حفظ الدين حفظت النفس وحفظ المال والثروات ، بصدق العقيدة تحفظ الأرض ويحفظ الأهل.
أيها المؤمنون: تهجر الأوطان ويضحى بالنفوس والمهج والثروات من أجل الحفاظ على الإيمان بالله ورسوله. إن درس الهجرة ليؤكد لنا بكل وضوح وجلاء أن التفريط في العقيدة مآله هلاك النفوس وخراب الديار. إذا فقد الدين فلن يغني من بعده وطن، ولا مال، ولا أرض. وإن من سنن الله الثابتة أن القوى المعنوية هي الحافظة للقوى المادية. العقيدة والأخلاق والتربية القويمة هي الوسائل الصحيحة للحصول على المكاسب العليا والحفاظ عليها. إن الهجرة في غايتها فرار بالدين وتلمس لطرق النصر وأمل في حصول الفرج وسعي إليه. إن ترك الديار والأوطان وهجرها والخروج منها فيه مشقة على النفس، إن ترك الدُّور والإخراج منها قريبة من القتل كما قال تعالى: ? وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ?[النساء: 66].
ولكن الله تعالى وعد المجاهدين في ذاته والمهاجرين في سبيله بالنصر والظفر في الدنيا والفوز والفلاح في الآخرة كما قال تعالى: ? وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ?[النساء: 100].
وقال عن المرتد عن دينه الذين الذي لا يصمدون أمام المحن والفتن. ? لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرونَ ?[النحل: 109] وأثنى سبحانه وتعالى على الثابتين على دينهم والقابضين عليه على الرغم من كل أجواء الفتن والمحن فقال: ? ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ?[النحل:110] وقال: ? وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ?[العنكبوت:69 ].
وإن من دروس هذه الهجرة المباركة كذلك التي ينبغي أن يعيها المسلمون جيداً هو أن الظلم والطغيان مهما اشتد وتناهى فإنه إلى انتهاء واندحار ، فلا يحل لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يستسلم للباطل أو أن يدب اليأس والقنوط إلى نفسه. وإنما عليه أن يصبر ويصابر وأن يأخذ بالأسباب المتاحة أمامه معتمداً في ذلك كله على ربه وخالقه لاجئاً إليه متوكلاً عليه مفوضاً الأمور كلها إليه جل وعلا. فإن من توكل على الله كفاه، ومن لاذ به حماه، ومن استنصر به نصره ووقاه وإن خذله أهل الأرض أو كادوا به وفي هذه المعاني يقول الله عز وجل منوهاً بهجرة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وبصاحبه وخليله أبو بكر: ? إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ?[التوبة:40 ].
أيها الناس : بادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تشغلوا، فإن فتناً كقطع الليل المظلم تدع الحليم حيراناً، يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً ، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً يبيع دينه بعرض من الدنيا ، لقد رأينا والله في زمننا من يبيع دينه وعرضه ووطنه وبلاده لليهود والنصارى بثمن بخس حقير قليل.
فعلى المسلم أن يتقي الله وأن يصبر ويثبت على دينه حتى يلقى الله.. واعلموا أن أمامكم أياماً فاضلة كان نبيكم - صلى الله عليه وسلم - يخصها بصيام ويحث على صيامها ، إنها عاشوراء ويوم قبله أو يوم بعده مخالفة لليهود، وفي هذا اليوم الأغر العاشر من محرم أهلك الله فيه طاغية من أعظم الطواغيت الذين ظهروا على مسرح الحياة إنه فرعون وجنده وأنجى الله بني إسرائيل من العذاب المهين الذي عاشوه ردحاً من الزمن ، وفي القرآن الكريم بسط لقصة موسى عليه السلام مع فرعون وملئه.. ثم كانت النهاية التي تنتظر كل جبار عنيد يستعلي في الأرض ويضطهد المستضعفين.
وحين أراد الله أن يهلك الطغاة الجبابرة من فرعون وقومه أمر نبيه موسى أن يخرج ببني إسرائيل ليلاً كما قال سبحانه: ? وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ إِنَّ هَؤُلَاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ?[الشعراء:52-68] إنه يوم مشهود صامه نبي الله موسى ومن معه شكراً لله تعالى على هذه النعمة العظيمة نعمة إهلاك المجرمين ونصر المستضعفين، وصامه محمد - صلى الله عليه وسلم - وأمر بصيامه شكراً لله فصوموه أيها المؤمنون. وأنيبوا إلى ربكم وسلوه أن يهلك فراعنة العصر من اليهود والصليبيين والمنافقين المندسين في صفوف المسلمين الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد، وكونوا أنتم مؤهلين للنصر والاستجابة بالاستقامة على أمر الله واجتناب الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
واعلموا أن الأبواب كلها موصدة ولا نجاة للمسلمين اليوم إلا بالرجوع إلى الله وطرق بابه وصدق اللجوء إليه والضراعة والإخلاص هذا هو طريق الخلاص لا طريق غيره أبداً.
راجعه/ عبد الحميد أحمد مرشد.
( المسندرك 4/ 341، حديث رقم: 7846، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وقال الذهبي في التلخيص: على شرط البخاري ومسلم.
ــــــــــــ(1/137)
دروس تربوية من الهجرة النبوية
إعداد : معاوية محمد هيكل
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
ففي تاريخ الأفراد والأمم والجماعات أحداث لها أثرها ودورها البالغ في تغيير دفة الحياة وتاريخ أمتنا- التي نعتز بها ونفتخر- يزخر بالأحداث العظام التي غيرت وجه التاريخ، ولعل من أبرزها وأعظمها أثرًا على الإطلاق في حياة الأمة حادث الهجرة المباركة، فالهجرة لم تكن حدثًا عاديًا ولا عابرًا كغيره من أحداث التاريخ، بل كانت بمثابة محور الارتكاز ونقطة الانطلاق والتحول، والحد الفاصل في مصير هذا الدين العظيم ومساره، وإيذانًا بميلاد فجر جديد لدولة التوحيد، أشرق على الكون نوره بعد مخاض ليل طال على الأتباع معاناته وآلامه.
ونظرًا لهذه المكانة السامية التي تبوأتها الهجرة النبوية واحتلتها كأعظم حدث في تاريخ الدعوة الإسلامية، فقد اعتبره المسلمون الأوائل معلمًا بارزًا من أهم معالم حضارتهم، فأرخوا به لأحداثهم ووقائعهم، ولم يؤرخوا بتأريخ غيرهم، حفاظًا على هويتهم واستقلالهم وتميزهم.
وحَدَثٌ هذا شأنه حري بنا وجدير أن نقف على معانيه، نستلهم منه الدروس والعظات والعبر.
أولاً: الهجرة سنة ماضية:
فبهذه الهجرة تمت لرسولنا - صلى الله عليه وسلم - سنة إخوانه من الأنبياء، فما من نبي منهم إلا نَبَتْ به بلاد نشأته وأخرجه أهلها فهاجر عنها من لدن إبراهيم عليه السلام أبي الأنبياء وخليل الله، إلى عيسى كلمة الله وروحه، كلهم على عظيم درجاتهم ورفعة مقامهم- أهينوا من عشائرهم، فصبروا ليكونوا مثالاً لمن يأتي بعدهم من متبعيهم في الثبات والصبر على المكاره ما دام ذلك في ذات الله.
قال تعالى: وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا {إبراهيم: 13}، وقال تعالى عن قوم لوط: فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون {النمل: 56}، وقال تعالى عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - : وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين {الأنفال: 30}.
ولذلك قال ورقة بن نوفل للنبي - صلى الله عليه وسلم - : "ليتني فيها جذع ليتني أكون حيّا إذ يخرجك قومك". فقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - : "أَوَ مخرجي هم؟" قال: نعم؛ لم يأت رجلٌ قط بمثل ما جئت به إلا عودي".
{الحديث رواه البخاري (1-30، 31)}
ثانيًا: في الهجرة تأمين للدعوة وحماية للدين:
فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يخرج من بين قومه إلا بعد أن تمالأ المشركون على قتله، منعًا له من الدعوة إلى الحق، كما أوصلوا إليه ما لا يحتمله غيره من الأذى، وفي هذا عبرة لمن دعا إلى دينه أن يصبر على أذى المدعوين، حتى يخشى على نفسه الهلاك فيفر بدينه إلى حيث يرجو أن تثمر دعوته.
فحيثما كان العبد في مكان لا يتمكن فيه من إظهار دينه، فإن له متسعًا وفسحة من الأرض يتمكن فيها من عبادة الله.
هجرة الموحدين المضطهدين.. جهاد لا فرار:
فهجرة الموحدين المضطهدين بدينهم في كل زمان ومكان ليست هروبًا ولا نكوصًا ولا هزيمة، إنما هو تربص بأمر الله، حتى يأتي أمر الله.
فقد خرج أصحاب الكهف من الدنيا على رحابتها إلى كهف ضيق فرارًا بدينهم، واعتزالاً للشر وأهله، وخروجًا من الواقع السيئ، وطلبًا للسلامة، فكانت هجرتهم محمودة ومشروعة، وكذلك فعل الصحابة رضوان الله عليهم هاجروا من مكة إلى الحبشة مرتين، ثم هاجروا إلى المدينة تاركين أوطانهم وأرضهم وديارهم وأهاليهم، رجاء السلامة بالدين والنجاة من فتنة الكافرين.
دروس للدعاة
لذلك فإن الهجرة تعلمنا درسًا هامًا، وهو كيف أن على الدعاة إلى الله أن يبحثوا دائمًا عن أماكن خصبة للدعوة.
ثالثًا: العقيدة هي الدافع والأساس:
أثبتت الهجرة النبوية أن الدعوة والعقيدة يتنازل لهما عن كل حبيب وعزيز وأليف وأنيس، وعن كل ما جبلت الطباع السليمة على حبه وإيثاره والتمسك به والتزامه، ولا يتنازل عنهما لشيء.
وقد كانت مكة- فضلاً عن كونها مولدًا ومنشأ للرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه- مهوى الأفئدة والقلوب ففيها الكعبة البيت الحرام الذي جرى حبه منهم مجرى الروح والدم، ولكن شيئًا من ذلك لم يمنعه وأصحابه من مغادرة الوطن ومفارقة الأهل والسكن حين ضاقت الأرض على هذه الدعوة والعقيدة وتنكر لها أهلها، وقد تجلت هذه العاطفة المزدوجة عاطفة الحنين الإنساني وعاطفة الحب الإيماني في كلمته التي قالها مخاطبًا مكة: "والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله ولولا أني أخرجت منك ما خرجت". {صحيح الترمذي: 3082}. وذلك عملاً بقوله تعالى: يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون {العنكبوت: 56}.
رابعًا: معية الله وحفظه وتأييده لأنبيائه وأوليائه:
قال الله تعالى: إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم {التوبة: 40}، فالله عز وجل أرحم بنبيه وصاحبه من أن يجعلهما نهبًا لعدوهما، كما تؤكد الآية كذلك حماية الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ونصره وتأييده حين تخلت عنه قوة الأرض، والجنود التي يخذل بها الباطل وينصر بها الحق ليست مقصورة على نوع معين من السلاح ولا صورة خاصة من الخوارق، إنها أعم من أن تكون مادية أو معنوية، وإن كانت مادية فإن خطرها لا يتمثل في فخامتها، فقد تفتك جرثومة لا تراها العين بجيش عظيم، وما يعلم جنود ربك إلا هو {المدثر: 31}.
فتعمية أبصار المشركين عن رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه في غار "ثور" وهم عنده، مثل تخشع له القلوب من أمثلة عناية الله بأنبيائه ورسله ودعاته وأحبائه، فما كان الله ليوقع رسوله - صلى الله عليه وسلم - في قبضة المشركين، فيقضوا عليه وعلى دعوته، وهو الذي أرسله الله رحمة للعالمين، وليس في نجاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه بعد أن أحاط بهما المشركون في غار ثور إلا تصديق قوله تعالى: إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد {غافر: 51}، وقوله تعالى: إن الله يدافع عن الذين آمنوا {الحج 38}.
فالدعاة إلى الله بحاجة دائمًا إلى أن يكون راسخًا في أعماقهم عون الله لهم حين تعجز قوتهم البشرية عن إدراك ما يخطط لهم العدو بعد استنفاد الطاقة واستفراغ الوسع، وأن تكون لديهم القناعة التامة، أن النصر أولاً وأخيرًا من عند الله. قال تعالى: وما النصر إلا من عند الله {آل عمران:126}.
خامسًا: يتجلى في الهجرة بروز عنصر التخطيط وأهميته في حياة المسلمين:
فكان الهدف محددًا والوسائل كذلك والعقبات مأخوذة بالحسبان واختيار الطريق والمكان والتموين ومن يحمل الأخبار والدليل، كل ذلك مُؤَمَّنٌ مع إحاطة ذلك بالسرية والحيطة والحذر، وكل ذلك ينبئ عن تخطيط وتنظيم وترتيب لا مثيل له.
الأخذ بالأسباب والتوكل على الله
فالأخذ بالأسباب مطلوب ومشروع ولا ينافي ذلك الإيمان والتوكل على الله، فعدم الأخذ بالأسباب قدح في التشريع، والاعتماد على الأسباب قدح في التوحيد، لذلك فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أحكم خطة هجرته وأعد عدته، فأعد الراحلتين وترك عليًا مكانه، وسلك الطريق الجنوبي للتغرير بالمشركين، واستأجر ماهرًا خبيرًا يدله على الطريق، وكانت أسماء رضي الله عنها تأتيهما بالطعام، ودخل غار ثور، فعل ذلك وهو النبي المؤيد من ربه.
فشأن المؤمن مع الأسباب المعتادة أن يقوم بها كأنها كل شيء في الحياة، ثم يتوكل بعد ذلك على الله، لأن كل شيء لا قيام له إلا بإذن الله، فإذا استفرغ المرء جهده في أداء واجبه فأخفق بعد ذلك، فإن الله لا يعاقبه على هزيمة بلي بها، وكثيرًا ما يرتب الإنسان مقدمات النصر ترتيبًا حسنًا، ثم يجيء عون الله أعلى فيجعل هذا النصر مضاعف الثمار.
سادسًا: التضحية والفداء:
ومن دروس الهجرة: أن الجندي الصادق المخلص لدعوة الإصلاح يفدي قائده بحياته، ففي سلامة القائد سلامة للدعوة، وفي هلاكه خذلانها ووهنها، فما فعله علي رضي الله عنه ليلة الهجرة في بياته على فراش رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - تضحية بحياته في سبيل الإبقاء على حياة رسول اللَّه #؛ إذ كان من المحتمل أن تهوي سيوف فتيان قريش على رأس علي رضي الله عنه انتقامًا منه، لأنه سهل للرسول - صلى الله عليه وسلم - النجاة، ولكن عليا لم يبال بذلك، فحسبه أن يسلم رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - نبي الأمة وقائد الدعوة.
وكذلك موقف أبي بكر رضي الله عنه، فقد تجلى من معاملته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحب الصادق والتضحية بالنفس، وتجلى هذا في دخول الغار وعند الخروج منه وفي الطريق حينما كان يمشي تارة خلفه، وتارة أمامه، وتارة عن يمينه.
وهذه أمثلة في التضحية والفداء يندر أن نرى لها في الدنيا نظيرًا، ولكنه الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب.
سابعًا: مظاهر محبة النبي - صلى الله عليه وسلم - واستقبال أهل المدينة له:
تكشف لنا الصورة التي استقبلت بها المدينة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - عن مدى المحبة الشديدة التي كانت تفيض بها أفئدة الأنصار من أهل المدينة رجالاً ونساءً وأطفالاً.
قال ابن القيم رحمه الله واصفًا هذه المشاعر النبيلة: وبلغ الأنصار مخرج رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - من مكة، وقصده المدينة، وكانوا يخرجون كل يوم إلى الحرة ينتظرونه أول النهار، فإذا اشتد حر الشمس، رجعوا على عادتهم إلى منازلهم، فلما كان يوم الاثنين ثاني عشر ربيع الأول على رأس ثلاث عشرة سنة من النبوة، خرجوا على عادتهم، فلما حمي حر الشمس رجعوا، وصعد رجلٌ من اليهود على أطم من آطام المدينة لبعض شانه فرأى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، مُبيَّضين، يزول بهم السراب، فصرخ بأعلى صوته: يا بني قيلة، هذا صاحبكم قد جاء، هذا جدكم الذي تنتظرونه، فبادر الأنصار إلى السلاح ليتلقوا رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ، وسُمعت الرجة والتكبير في بني عمرو بن عوف، وكبّر المسلمون فرحًا بقدومه، وخرجوا للقائه، فتلقوه وحيوه بتحية النبوة، فأحدقوا به مُطيفين حوله، والسكينة تغشاه، والوحي ينزل عليه: فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير {التحريم: 4}. {زاد المعاد 3-52}
ثامنًا: الأخوة الصادقة وأمثلة نادرة:
قال تعالى: والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون {الحشر: 9}.
ففي مؤاخاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بين المهاجرين والأنصار أقوى مظهر من مظاهر عدالة الإسلام الإنسانية والأخلاقية البناءة، فالمهاجرون قوم تركوا في سبيل الله أموالهم وأراضيهم، فجاءوا إلى المدينة لا يملكون من حطام الدنيا شيئًا، والأنصار قوم أغنياء بزروعهم وأموالهم وصناعتهم، فكان أن حمل الأخ أخاه، واقتسم معه سراء الحياة وضراءها، وأنزله في بيته، وأعطاه شطر ماله، فأية أخوة في الدنيا تعدل هذه الأخوة.
لذلك أثنى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - على الأنصار ثناءً عظيمًا بعد ثناء الله عليهم فقال: "لولا الهجرة لكنت امرءًا من الأنصار". {البخاري: 3779}، وقال أيضًا: "لو سلكت الأنصار واديًا أو شعبًا لسلكت وادي الأنصار أو شعبهم". {البخاري: 3778}.
تاسعًا: الهجرة والإصلاح المنشود:
قال العلامة محب الدين الخطيب: لو أننا فهمنا الحكمة التي انطوت عليها حادثة الهجرة، وعلمنا أن كتاب الله الذي نتلوه قد أنحى باللائمة على جماعة من أصحاب رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - كانوا في مكة يصلون ويصومون ولكنهم ارتضوا البقاء تحت جناح أنظمة تخالف الإسلام، فلا قوة لهم على تغييرها، ولم يهاجروا إلى قلعة الإسلام ليكونوا من جنوده، لعلمنا أن الإسلام لا يكتفي من أهله بالصلاة
والصوم، بل يريد منهم مع ذلك أن يقيموا شرائعه وآدابه في بيوتهم وأسواقهم وأنديتهم، ومجامعهم ودواوين حكمهم، وأن عليهم أن يتوسلوا بجميع الوسائل المشروعة لتحقيق هذا الغرض الإسلامي بادئين به من البيت وملاحظين ذلك في تربية من تحت أمانتهم من بنين وبنات، ومتعاونين عليه مع من ينشد للإسلام الرفعة والازدهار من إخوانهم، حتى إذا عم هذا الإصلاح أرجاء واسعة تلاشت تحت أشعته ظلمات الباطل، فكان لهذا الأسلوب من أساليب الهجرة مثل هذه الآثار التي كانت لهجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الأولين.
روى مسلم في كتاب الإمارة من صحيحه عن أبي عثمان النهدي أن مجاشع بن مسعود السلمي قال: جئت بأخي أبي معبد إلى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بعد الفتح فقلت: يا رسول الله، بايعه على الهجرة، فقال عليه الصلاة والسلام: "قد مضت الهجرة بأهلها". قال مجاشع: فبأي شيء تبايعه؟ قال: على الإسلام والجهاد والخير. قال أبو عثمان النهدي: فلقيت أبا معبد فأخبرته بقول مجاشع فقال: صدق.
وفي كتب السنة وبعضه في الصحيحين عن عبد الله بن عمرو بن العاص وفضالة بن عبيد بن ناقد الأنصاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "المهاجر من هجر السيئات". فإلى الهجرة أيها المسلمون، إلى هجر الخطايا والذنوب إلى هجر ما يخالف تعاليم الإسلام في بيوتنا، وما نقوم به من أعمالنا، إلى هجر الضعف والبطالة والإهمال والترف والكذب والرياء ووضع الأشياء في غير موضعها. {من إلهامات الهجرة: ص11- 14}
فهل تأخذ الأمة من دروس الهجرة زادًا إيمانيًا تستعيد به مجدها المفقود، وهل نسترد دور الهجرة في حياتنا لنستأنف دورنا المنشود في قيادة البشرية من جديد، هذا ما نأمله ونرجوه.
نسأل الله أن يوفقنا لسلوك سبيل المؤمنين، وأن يعز الله بنا الدين كما أعزه بالسابقين الأولين من الأنصار والمهاجرين، وأن يجمعنا بهم مع سيد الأولين والآخرين يوم يقوم الناس لرب العالمين.
ــــــــــــ(1/138)
الرسول - صلى الله عليه وسلم - في المدينة
كانت يثرب قبل الهجرة تموج بالصراعات والحروب والدسائس، فنار العداوة مشتعلة بين قبيلتي الأوس والخزرج، والحرب بينهما سجال، فإذا انتصر أحدهما عمل الآخر بكل طاقته على إلحاق الهزيمة به، حتى فني الرجال، وترملت النساء وتيتم الأبناء، وكان اليهود يقفون خلف الستار، يزيدون النار اشتعالا، فيمدون الطرفين بالسلاح، ويثيرون بينهما العداوات والفتن؛ آملين أن يقضي بعضهم على بعض، حتى تكون لليهود السيادة والكلمة الأولى في المدينة.
واجتمع أهل يثرب على (عبدالله بن أبي بن سلول) لتكون له الكلمة العليا في إدارة المدينة، ولكن الله أراد السلامة للمدينة؛ وأراد لها أن تكون مركز الدولة الإسلامية، فأقبل موكب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المدينة، فاستقبله أهلها استقبالا عظيمًا؛ وكان أمل كل واحد منهم أن يستضيف الرسول - صلى الله عليه وسلم - في بيته، فكلما مرت الناقة التي تحمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببيت، خرج أهل ذلك البيت، وتعلقوا بزمامها، وهم يرجون أن ينزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندهم، فكان يقول لهم: (دعوا الناقة فإنها مأمورة) أي اتركوا الناقة فإنها ستقف وحدها حيث أمرها الله تعالى.
وفي مكان يملكه يتيمان من بني النجار أمام دار أبي أيوب الأنصاري بركت الناقة، فقال صلى الله عليه وسلم: (هذا إن شاء الله المنزل) فحمل أبو أيوب رحل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى بيته. [ابن إسحاق] وإذا بفتيات صغيرات من بني النجار، يخرجن فرحات بمقدم الرسول - صلى الله عليه وسلم - وينشدن:
نَحْنُ جَوارٍ مِن بني النَّجَّار يا حبَّذَا محمدٌ من جَارِ وفي بيت أبي أيوب الأنصاري المكون من طابقين، نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الطابق السفلي، فقال له أبو أيوب: يا نبي الله، بأبي أنت وأمي، إني لأكره وأعظِّم أن أكون فوقك، وتكون تحتي، فاظهر (اصعد) أنت فكن في الأعلى، وننزل نحن فنكون في السفل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(يا أبا أيوب، إنه لأرفق بنا وبمن يغشانا أن نكون في أسفل البيت) _[أحمد].
وهكذا كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يثقل على أهل البيت، وكان الصحابي أبو أيوب الأنصاري كريمًا في ضيافته، فإن صنع طعامًا لا يأكل هو زوجته إلا بعد أن يأكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منه أولا، ثم يأكلان من موضع أصابعه حبًّا فيه وطلبًا لبركته.
بناء المسجد:
عاش المسلمون في المدينة حياة آمنة مطمئنة، يغشاها الهدوء والسكينة، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهم في وطنهم الجديد، لقد أصبحت لهم دولة دينها الإسلام، وقائدها الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان أول ما فكر فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو بناء مسجد يجتمعون فيه، فيؤدون فيه صلاتهم، ويقضون أمورهم، ويتشاورون فيما يخصهم، فاشترى - صلى الله عليه وسلم - الموضع الذي بركت فيه الناقة؛ ليبني فيه المسجد.
وتجمع المسلمون لبناء المسجد، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - معهم، ينظف المكان، ويحمل معهم الطوب، ويشارك في البناء، فهذا يقطع النخيل، وهذا يحفر أماكن الأعمدة، وذاك يقيم الجدار، وآخر يعد الطين، وهذا يحمل الطوب، كلهم ينشدون:
لَئِنْ قَعَدنا والنبي يَعمَل لَذَاك منَّا العملُ المضَلَّلُ وينشدون أيضًا::
لا عَيْشَ إلا عيشُ الآخِرَة اللَّهُمَّ فارحَمِ الأنْصَارَ والمهاجِرَة
ومن المسجد بدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينظم دولته، وكان أهم شيء في هذه الدولة هم الأفراد الذين يعيشون فيها؛ لأنها تنهض بهم وتعتمد عليهم، فكان المسلمون في المدينة عندئذ قسمين:
-المهاجرون، وهم أهل مكة الذين هاجروا بدينهم إلى المدينة.
-الأنصار، وهم أهل المدينة الأصليون، الذين اعتنقوا الإسلام، واستضافوا المسلمين في بلدهم، ونصروا الرسول صلى الله عليه وسلم.
وفي بداية الهجرة كان المهاجرون في المدينة يعانون من الوحشة والإحساس بالغربة، فحياة المدينة وجَوُّها يختلفان عن مكة، مما جعل أكثرهم يتعرض للمرض، فتوجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ربه ودعاه أن يحبب المدينة إلى قلوب المهاجرين، وأن يزيل مرض الحمى عنهم، فاستجاب الله تعالى لنبيه وحبَّبَ إلى المهاجرين العيش في المدينة، وصاروا يتحركون في شوارعها، وسوقها بحماس ومرح كأنهم ولدوا ونشئوا فيها.
الصلح بن الأوس والخزرج:
وكان الأنصار قبيلتين كبيرتين: الأوس، والخزرج، وكانت الحروب لا تنقطع بينهما قبل أن يعتنقوا الإسلام، فصالح الرسول - صلى الله عليه وسلم - بينهما، ونزع الله من قلوبهم العداوة والكراهية، وحل محلها الحب والمودة والوئام.
المؤاخاة:
والآن بعد أن استقر المهاجرون، وصلح حال الأنصار، بقي أن يندمجوا سويًّا فيصبحوا أخوة مسلمين، فلا فرق بين مهاجر وأنصاري، لذلك آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهم فجعل لكل مهاجر أخًا من الأنصار، فأبو بكر الصديق أخ لخارجة بن زهير، وعمر بن الخطاب أخ لعتبان بن مالك، وعبد الرحمن بن عوف أخ لسعد بن الربيع، ولم تكن الأخوة مجرد كلمة تقال، بل طبقها المسلمون تطبيقًا فعليًّا فهذا سعد بن الربيع الأنصاري يأخذ أخاه
عبد الرحمن بن عوف، ويعرض عليه أن يعطيه نصف ما يملك، ولكن عبد الرحمن بن عوف يشكره ويقول له: بارك الله لك في أهلك ومالك، ولكن دُلَّني على السوق، وذهب عبدالرحمن إليه فربح وأكل من عمل يده. _[البخاري].
ولم يقتصر ذلك على سعد بن الربيع بل فعله كثير من الصحابة حتى إنه كان يرث بعضهم بعضًا بناءً على هذه الإخوة، فيرث المهاجر أخاه الأنصاري، ويرث الأنصاري أخاه المهاجر، وظلوا على ذلك حتى جعل الله التوارث بين ذوي الأرحام، وقد أثنى الله -عز وجل- على المهاجرين والأنصار، فقال تعالى: {للفقراء والمهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضوانًا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون . والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} _[الحشر: 8-9].
وجمعهم الله سبحانه في آية واحدة، فقال تعالى: {والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقًّا لهم مغفرة ورزق كريم} [الأنفال: 74] وفي هذا المجتمع الآمن المستقر، حيث يحب كل مسلم أخاه، أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلم أصحابه أمور دينهم فيدعوهم إلى كل خير، وينهاهم عن كل شر، وهم ينفذون ذلك راضين سعداء بهداية الله لهم، ووجود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهم، وبدأ الناس يتوافدون إلى المدينة، معلنين إسلامهم وانضمامهم لهذه الدولة المنظمة.
اليهود في المدينة:
وكان يسكن مع المسلمين في المدينة اليهود وبعض المشركين الذين يحقدون على الإسلام، ويكرهون قيام دولته، لذلك وضع الرسول - صلى الله عليه وسلم - معاهدة تنظم العلاقة بين المسلمين وغيرهم حتى يأمن مكر الكفار، وهذه بعض المبادئ التي احتوتها المعاهدة:
1-المهاجرون والأنصار أمة من دون الناس يتعاونون فيما بينهم، وهم يد واحدة على من عاداهم.
2-دماؤهم محفوظة، فلا يقتل مؤمن مؤمنًا، ولا ينصر مؤمن كافرًا على أخيه المؤمن.
3-لليهود حريتهم الدينية فلا يُجبرون على الإسلام.
4-اليهود الذين يسكنون المدينة يشاركون في الدفاع عنها، ولا يعينون أعداء الإسلام، ولا ينصرونهم.
5-كل ظالم أو آثم أو متهاون خائن لا ينفذ ما في هذا العهد عليه اللعنة والغضب، ويقوم الآخرون بحربه.
6-إذا حدث خلاف في أي أمر، فإن الحكم هو كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
وهكذا وضَّح الرسول - صلى الله عليه وسلم - حقوق كل طائفة في المدينة وواجباتها، ورسم المنهج الذي يتعاملون به بكل أمانة وعدل، فلم يظلم اليهود بل حفظ لهم حقوقهم، ورغم ذلك أظهر اليهود وجههم القبيح، وكراهيتهم للرسول - صلى الله عليه وسلم - رغم علمهم أنه صادق، واتضح ذلك في موقفهم من عبدالله بن سلام عندما أسلم.
فقد كان عبد الله بن سلام من علماء اليهود، ومن ساداتهم، فلما أسلم كتم إسلامه، ولم يخبر اليهود، وطلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يسألهم عنه أولاً، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم فقال: (أي رجل فيكم ابن سلام؟) قالوا: ذاك سيدنا وابن سيدنا، وأعلمنا وابن أعلمنا، فقال: (أفرأيتم إن أسلم؟) فقالوا: حاشا لله، ما كان ليسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يابن سلام، اخرج عليهم) فخرج فقال لهم: (يا معشر يهود، اتقوا الله، فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله، وأنه جاء بالحق) فقالوا: كذبت. [البخاري].
وهكذا كانت عداوة اليهود للنبي - صلى الله عليه وسلم - وللمسلمين واضحة منذ أول يوم في المدينة رغم أنهم يعرفون أنه رسول الله حقًّا وصدقًا، وقد اشتدوا في تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإظهار حقدهم عليه عند تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، وظهرت سفاهة عقولهم واضحة حين تشاوروا فيما بينهم، واتفقوا أن يؤمنوا بدين الله أول النهار، ويكفروا في آخره حتى يسعى الناس إلى تقليدهم، والسير على خطاهم، ولكن الله فضحهم بكفرهم في كتابه الحكيم، وأظهر حقدهم على المسلمين بعد تآلف قلوب أهل المدينة من الأوس والخزرج، وسعيهم إلى الوقيعة فيما بينهم، ولكنهم لم يفلحوا في ذلك.
زواج الرسول - صلى الله عليه وسلم - من السيدة عائشة:
وبعد ثمانية أشهر من الهجرة كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد أنهى بناء المسجد، واستقر المسلمون في المدينة، فأتم الرسول - صلى الله عليه وسلم - زواجه بالسيدة عائشة ودخل بها، وكان قد عقد عليها قبل الهجرة، وكان الرسول
- صلى الله عليه وسلم - بعد زواجه منها يقدرها، ويفضلها، فعن عمرو بن العاص قال: قلت يا رسول الله، أي الناس أحب إليك؟ قال: (عائشة) قلت: ومن الرجال؟ قال: (أبوها) _[الترمذي].
ــــــــــــ(1/139)
بناء المسجد النبوي
(الشبكة الإسلامية) الدكتور / أكرم ضياء العمري
إن المساجد في الإسلام لها شأن عظيم، ومكانة رفيعة، ففيها يعبد الله تعالى ويذكر فيها اسمه، { في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح لها فيها بالغدو والآصال رجال...} ( النور : 36 )، ولم يكن هديه - صلى الله عليه وسلم - في المسجد قاصرا على الصلاة فحسب، بل كما كان مكان للعبادة فهو مكان للحكم والقضاء، وإدارة الدولة وسياستها، وتجييش الجيوش وغير ذلك من المهام . ولما كان المسجد بهذه المكانة فأول أمر بدأ به النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد وصوله المدينة بناء المسجد وهذا ما سنقف عليه في المقال التالي:
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند وصوله إلى المدينة المنورة يصلي حيث أدركته الصلاة ، ثم أمر ببناء المسجد في أرض كان فيها نخل لغلامين يتيمين ، من بني النجار ، وقد أشترها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقام المسلمون بتسويتها ، وقطع نخيلها ، وصفوا الحجارة في قبلة المسجد التي كانت تتجه نحو بيت المقدس آنذاك ، وما أعظم سرورهم وهم يعملون في بنائه ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعمل معهم ، وهم يرتجزون .
وكانت سواريه من جذوع النخل وأعلاه مظلل بجريد النخل ، ثم بناه باللبن بعد الهجرة بأربع سنين . ثم أعيد بناء المسجد سنة 7هـ حيث اشترك في بنائه أبو هريرة ، و طلق بن علي الحنفي ـ أسلما سنة 7هـ وقد جرت توسعة المسجد عند إعادة بنائه هذه.
وقد حدد النبي - صلى الله عليه وسلم - موقع المنبر : وبنى بيوت أزواجه بحيث تحد المسجد من جهة الشمال والشرق والجنوب ،وتحدد موقع مصلاه بدقة حيث اتخذ محرابا من بعده ، وكانت ثمة اسطوانة تحدد موقعه ، وصارت تمسى باسطوانة المخلفَّة والقرعة ، وهي الآن في ظهر المحراب القديم ، وقد وضع المصحف في صندوق عند هذه الاسطوانة في جيل الصحابة ، وعرف المكان ما بين بيت عائشة رضي الله عنها والمنبر باسم " الروضة ". و تحددت في زمنه - صلى الله عليه وسلم - اسطوانة التوبة داخل الروضة ، وهي الاسطوانة الرابعة شرق المنبر ، وكان مصلى العيد في زمنه - صلى الله عليه وسلم - في موقع مسجد الغمامة اليوم ، وكان ما بينه وبين المسجد النبوي مبلطا بالحجارة ويعرف بالبلاط حيث بنى كثير من المهاجرين بيوتهم في جهته. ولم يوقد في حياته - صلى الله عليه وسلم - في المسجد قنديل ، ولا بسط فيه حصير .
وللمسجد أهمية عظيمة في المجتمع الإسلامي ، فهم يجتمعون فيه للصلاة خمس أوقات كل يوم يتقربون إلى الله بالعبادة ، ويتعرفون على أحوال إخوانهم ويتعاونون على البر والتقوى . ثم إن المسجد كان مركزا للقضاء بين الناس ومنطلقا لقوافل الجهاد حيث يعلن فيه النفير .
وقد احتل المسجد مكاناً هاماً في تعليم المسلمين وتثقيفهم ، وتلاوة ما ينزل من قرآن ، وقد جلس فيه معلمون لتعليم أبناء المسلمين القراءة والكتابة .
وهكذا تنوع النشاط الذي احتضنه المسجد النبوي ما بين عبادة وعلم وخدمة اجتماعية وثقافية وعسكرية ، كما صار المسجد النبوي بالمدينة مناراً ومرشدا ومعلما بارزا في الحياة الإسلامية ، وتابعته المساجد الأخرى التي بنيت في المدن والأمصار الإسلامية على مر العصور.
ــــــــــــ(1/140)
من نتائج الهجرة قيام الدولة الإسلامية
(الشبكة الإسلامية) الدكتور / أكرم ضياء العمري
لقد تغلب المهاجرون إلى المشكلات العديدة , واستقروا في الأرض الجديدة ، مغلبين مصالح العقيدة ومتطلبات الدعوة، بل صارت الهجرة واجبة على كل مسلم لنصرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومواساته بالنفس، حتى كان فتح مكة فأوقفت الهجرة، لأن سبب الهجرة ومشروعيتها نصرة الدين وخوف الفتنة من الكافرين . وأبرز نتائج الهجرة تتمثل في قيام الدولة الإسلامية الأولى، وهي أول دولة أقامها نبي في الأرض ، وذلك لأن دين الإسلام يجمع ما بين العبادة والتشريع والحكم .
وقد هيأت الهجرة الأمة والأرض لإقامة دولة نموذجية تهدف إلى إيجاد ظروف ملائمة لتحقيق العبودية الخالصة لله وحده ، ولبناء مجتمع تسوده الأخوة الدينية وينأى عن العصبية الجاهلية ، وكانت طاعة الله ورسوله هي الوسيلة لبناء المجتمع والدولة على أسس جديدة . وفيما يلي توضيح لنتائج الهجرة وقيام الدولة الإسلامية.
من أسس الدولة :
أ- تحقيق العبودية الخالصة لله وحده .
أحدث الإسلام نقلة عميقة وشاملة في عالم العقيدة ، فلم يعد ثمة مجال لعبادة الأصنام والكواكب والأوهام ، ولا لممارسة السحر والكهانة ، ولا للتشبث بالتمائم والرقى ، بل اتجه سكان الدولة الإسلامية إلى توحيد الله في التصور والعبادة والسلوك ، فالله واحد { وإلهكم إله واحد } (البقرة: من الآية163) وهو { لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار } (الأنعام: من الآية103) ولا يشبه شيئاً من المخلوقات ، وقد وصف نفسه بصفات السمع والبصر والعلم والحياة وغيرها من الصفات التي وردت في القرآن والسنة ؛ لكن هذه الصفات لا تماثل صفات المخلوقين{ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } (الشورى: من الآية11) .
وأحدث الإسلام انقلاباً جذرياً في حياة الفرد والجماعة ، بحيث تغيّر سلوك الأفراد اليومي وعاداتهم المتأصلة تغيراً كلياً ، كما تغيرت مقاييسهم وأحكامهم ونظرتهم إلى الكون والحياة . وكذلك تغيرت بنية المجتمع بصورة واضحة ، فاختلفت مظاهر وصور ، وبرزت معالم وظواهر جديدة . فالنقلة كبيرة بين ما كان عليه الإنسان في جاهليته ، وما صار إليه في إسلامه . إذ لم يعد العربي متفلتاً من الضوابط في معاملاته وعلاقاته الاجتماعية ، بل صار منضبطاً بضوابط الشريعة الإسلامية في جزئيات حياته من أخلاق وعادات كالنوم والاستيقاظ ، والطعام والشراب ، والزواج والطلاق ، والبيع والشراء ، ولا شك أن العادات تتحكم في الإنسان ، ويصعب عليه التخلص منها واكتساب عادات وصفات جديدة ، ولكن ما ولّده الإسلام في أنفسهم من إيمان عميق مكّنهم من الانخلاع من الشخصية الجاهلية بكل ملامحها واكتساب الشخصية الإسلامية بكل مقوماتها ، فاعتادوا على عبادة الله تعالى وحده ، بالصلاة والصوم والحج والزكاة والجهاد ، وقصده بكل أعمال الخير الأخرى ، والتقرب إليه بالذكر والشكر ، والصبر على البلوى ، والإنابة إليه ، والدعاء إليه ، والرغبة في فضله ورحمته ، وامتلاء القلب بالتوحيد والإخلاص والرجاء .
واعتادوا أيضاً على استحضار النية لله في نشاطهم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي ؛ لان العبادة في الإسلام مفهومها واسع يمتد لكل عمل يقوم به الإنسان إذا قصد به وجه الله وطاعته . وإلى جانب الاعتياد على الطاعات ، فإن المسلمين تخلصوا من العادات المتأصلة التي نهى عنها الإسلام كشرب الخمر و الأنكحة الجاهلية والربا ومنكرات الأخلاق من الكذب والخيانة والغش والغيبة والحسد والكبر والظلم ... وهكذا فإن الدولة الإسلامية التي أقامها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المدينة كونت مجتمعاً ربانياً يسعى أفراده في العمران الأدبي والمادي للأرض ويتطلعون إلى ما عند الله من النعيم المقيم .
ب- الأخوة ووحدة الصف :
إن الأساس الذي بنيت عليه العلاقات في مجتمع الدولة الإسلامية هو الاخوة الإيمانية التي حددتها الآية الكريمة { إنما المؤمنون إخوة } (الحجرات: من الآية10) ,
فالأخوة الصادقة لا تكون إلا بين المؤمنين ، وهم يقفون صفاً واحداً للجهاد في سبيل الله ولبناء قوة الدولة العسكرية والاقتصادية والاجتماعية ، وذلك برص صفوفهم ، والتعاون فيما بينهم ، وشيوع المحبة والألفة في مجتمعهم . قال تعالى: { إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص } (الصف:4)
ج- الطاعة بالمعروف في المنشط والمكره :
اتسم جيل الصحابة رضوان الله عليهم بالطاعة الكاملة لأوامر الله تعالى وأوامر رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، فقد كانوا يقرؤون القرآن وكأنه ينزل على كل واحد منهم - رجلاً كان أم امرأة - غضاً طرياً ، وكانت لغة التخاطب بينهم هي الفصحى التي نزل بها القرآن ، وقد أعانهم ذلك على فهم الخطاب الإلهي بسهولة ويسر ، كما ولّد الأثر القوي في نفوسهم ، وسرعة الاستجابة التامة لتعاليمه وأحكامه . فكان جيل الصحابة قادراًُ على التخلص من عادات الجاهلية وتقاليدها وأعرافها ، حتى لو كانت العادات قد استقرت منذ قرون , وصارت عرفاً مشروعاً وتقليداً مقبولاً . فمن ذلك أنه لما نزل قول الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون } (المائدة:90).
خرجت الأنصار بدنان الخمر إلى الأزقة وأراقوها وقالوا : انتهينا ربنا انتهينا ربنا . وشرب الخمر الذي أقلعوا عنه كان عادة متأصلة في حياة الفرد والمجتمع ، والخمر الذي أراقوه كان مالاً ضحوا به تسليما لله رب العالمين .
ومن ذلك أن قوماً من المسلمين وفدوا على رسول الله صلى الله عيه وسلم في أول النهار , فإذا هم عراة حفاة يلبسون أكسية الصوف وعليهم السيوف ,
فتغيّر وجه الرسول - صلى الله عليه وسلم - إشفاقا عليهم ، وجمع الناس ، وحثّهم على الصدقة ، وقرأ عليهم الآيات في ذلك ومنها { اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد } (الحشر: من الآية18) فتتابع الناس حتى جمعوا كومين من طعام وثياب ، فتهلّل وجه الرسول - صلى الله عليه وسلم - فرحاً بمبادرة الصحابة إلى معونة إخوانهم وطاعة ربهم وكذلك بادرت الصحابيات إلى طاعة أمر الله تعالى ، قالت عائشة رضي الله عنها : "يرحم الله نساء المهاجرات الأول ، لما أنزل الله { وليضربن بخمرهن على جيوبهن } ( النور 31) شققن مروطهنّ فاختمرن به" رواه البخاري .لقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يلتزمون بالبيعة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم للخلفاء الراشدين من بعده ، وكان للبيعة قيمة عالية ، فهي التزام حرّ ، وتعاقد بين الطرفين ، وقد دللّوا دائما على صدق التزامهم فلبّوا داعي الجهاد ، وخاضوا غمار المعارك في أماكن نائية عن ديارهم ، ودفن كثير منهم في أطراف الأرض ، وما عرفوا القعود عن الجهاد ، والحفاظ على الكرامة ' والذود عن العقيدة . فجزاهم الله عن هذه الامة وهذا الدين خير الجزاء، وسلك بنا سبيلهم، وحشرنا في زمرتهم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين
ــــــــــــ(1/141)
المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار
(الشبكة الإسلامية)
لو لم يُشر القرآن الكريم إلى قصّة المؤاخاة التي تمّت بين المهاجرين والأنصار ، ولو لم تأتِ النصوص النبويّة الصحيحة والشواهد التاريخيّة الموثّقة لتؤكّد هذه الحادثة ، لقلنا إنها قصّةٌ من نسج الخيال ، وذلك لأن مشاهدها وأحداثها فاقت كلّ تصوّر ، وانتقلت بعالم المثال والنظريات إلى أرض الواقع والتطبيق ، وفي ظلّها قدّم الصحابة الكثير من صور التفاني والتضحية على نحوٍ لم يحدث في تاريخ أمّةٍ من الأمم ، مما يجعلنا بحاجة إلى أن نقف أمام هذا الحدث نتأمّل دروسه ، ونستلهم عبره .
تبدأ القصّة عندما خرج المهاجرون من مكّة المكرّمة ، ليصلوا إلى أرضٍ جديدة وواقعٍ مختلف ، وكان من أثر هذه الرحلة نشوء عدد من المشكلات الجديدة ، ليس أقلّها : الشعور بالغربة ومفارقة الأهل والديار ، وترك معظم الأموال والممتلكات في مكّة ، وطبيعة الوضع المعيشي والاقتصادي الجديد ، أضف إلى ذلك الآثار الصحيّة والبدنيّة التي أحدثها الانتقال المفاجيء إلى بيئةٍ أخرى ، مما أدّى إلى ظهور الأمراض في صفوفهم كالحمّى وغيرها .
كل هذه الظروف تجمّعت لتشكّل ضغوطاً نفسية كبيرة ، كان لا بدّ معها من حلولٍ عمليّةٍ سريعةٍ تعوّضهم ما فقدوه في غربتهم ، وتعيد لهم كرامتهم ، وتُشعرهم بأنّهم لن يكونوا عبأً على إخوانهم الأنصار .
فكان أوّل عملٍ قام به النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد بناء المسجد تشريع نظام المؤاخاة ، والتي تمّ إعلانها في دار أنس بن مالك رضي الله عنه ، وهي رابطة تجمع بين المهاجريّ والأنصاريّ ، تقوم على أساس العقيدة ، وتوثّق مشاعر الحب والمودّة ، والنصرة والحماية ، والمواساة بالمال والمتاع .
وهذه المؤاخاة أخصّ من الأخوّة العامة بين المؤمنين جميعاً ، وذلك لأنها أعطت للمتآخييْن الحقّ في التوارث دون أن يكون بينهما صلةٍ من قرابة أو رحم ، كما في قوله تعالى : { ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم } ( النساء : 33 )
وقد استمرّ العمل بقضيّة التوارث زمناً ، حتى استطاع المهاجرون أن يألفوا المدينة ويندمجوا في المجتمع ، وفتح الله لهم أبواب الخير من غنائم الحرب وغيرها ما أغناهم عن الآخرين ، فنسخ الله تعالى العمل بهذا الحكم ، وأرجع نظام الإرث إلى ما كان عليه ، وذلك في قوله تعالى : { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } ( الأنفال : 75 ) ، مع بقاء العمل بالنصرة ، وتبادل العطايا ، وإسداء المشورة والنصيحة ، وغيرها من معاني الأخوة .
وتذكر لنا مصادر السيرة أسماء بعض الذين آخى بينهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقد آخى بين أبي بكر و خارجة بن زهير ، وآخى بين عمر بن الخطاب و عتبان بن مالك ، وبين أبي عبيدة بن الجراح و سعد بن معاذ ، وبين الزبير بن العوام و سلامة بن سلامة بن وقش ، وبين طلحة بن عبيد الله و كعب بن مالك ، وبين مصعب بن عمير و أبو أيوب خالد بن زيد رضي الله عنهم أجمعين ، وأسماء أخرى بلغت تسعين صحابيّاً .
وعند مراجعة أسماء هؤلاء الصحابة ، نجد أن تلك المؤاخاة لم تُقم وزناً للاعتبارات القبلية أو الفوارق الطبقية ، حيث جمعت بين القوي والضعيف ، والغني والفقير ، والأبيض والأسود ، والحرّ والعبد ، وبذلك استطاعت هذه الأخوّة أن تنتصر على العصبيّة للقبيلة أو الجنس أو الأرض ، لتحلّ محلّها الرابطة الإيمانيّة ، والأخوّة الدينيّة
وقد سجّل التاريخ العديد من المواقف المشرقة التي نشأت في ظلّ هذه الأخوة ، ومن ذلك ما حصل بين عبدالرحمن بن عوف و سعد بن الربيع رضي الله عنهما ، حيث عرض سعد على أخيه نصف ماله ليأخذه ، بل خيّره بين إحدى زوجتيه كي يطلّقها لأجله ، فشكر له عبد الرحمن صنيعه وأثنى على كرمه ، ثم طلب منه أن يدلّه على أسواق المدينة ، ولم يمرّ وقتٌ قصير حتى استطاع عبدالرحمن بن عوف أن يكون من أصحاب المال والثراء .
ولم يقف الأمر عند هذا الحدّ ، بل إن كثيراً من الأنصار عرضوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقسم الأراضي الزراعيّة بينهم وبين إخوانهم من المهاجرين ، ولكنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد أن تقوم هذه المواساة دونما إضرارٍ بأملاكهم ، فأشار عليهم بأن يحتفظوا بأراضيهم مع إشراك إخوانهم المهاجرين في الحصاد ، وقد أورث صنيعهم هذا مشاعر الإعجاب في نفوس المهاجرين ، حتى إنهم قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - : يا رسول الله ما رأينا قوما قدمنا عليهم أحسن مواساة في قليل ، ولا أحسن بذلا في كثير منهم ، لقد حسبنا أن يذهبوا بالأجر كلّه " ، كما كانت تضحياتهم ومواقفهم النبيلة سبباً في مدح الله لهم بقوله : { والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } ( الحشر : 9 ) .
وقد حفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الفضل للأنصار ، فمدحهم بقوله : ( لو أن الأنصار سلكوا وادياً أو شعباً ، لسلكت في وادي الأنصار ) رواه البخاري ، وبيّن حبه لهم بقوله ( الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن ، ولا يبغضهم إلا منافق ؛ فمن أحبهم أحبه الله ، ومن أبغضهم أبغضه الله ) رواه البخاري ، ودعا لأولادهم وذرياتهم بالصلاح فقال : ( اللهم اغفر للأنصار ، ولأبناء الأنصار، ولأزواج الأنصار ، ولذراري الأنصار ) رواه أحمد ، وآثر الجلوس بينهم طيلة حياته فقال : ( لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار ) رواه البخاري .
وبهذا نستطيع أن نلمس عظمة هذا الجيل الذي تربّى على يد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، عندما كانت الأخوة الإيمانيّة هي الأساس لعلاقاتهم ، فما أحوجنا إلى أن نتّخذ هذا المجتمع الفريد قدوة لنا في تعاملنا وعلاقاتنا .
ــــــــــــ(1/142)
صحيفة المدينة
(الشبكة الإسلامية)
بعد هجرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، وإقامة قواعد المجتمع الإسلامي، كان من الضروري تنظيم العلاقة بين المسلمين وغيرهم من أهل المدينة، من أجل توفير الأمن والسلام للناس جميعا، لذا كانت هذه الوثيقة لتنظيم العلاقة بين المسلمين من جهة، وتنظيمها كذلك مع من جاورهم من القبائل من جهة أخرى، وبما أن قبائل اليهود كانت أكثر القبائل حضوراً في المدينة فقد جاءت أغلب بنود تلك الوثيقة متعلقة بتنظيم العلاقة معهم.
وبتتبع بنود الوثيقة نجد أنها تضمنت بنوداً خاصة للمؤمنين بين المهاجرين والأنصار، وبنوداً خاصة لليهود تتعلق فيما بينهم وبين والمؤمنين، وبنوداً عامة تشمل الجميع:
أولاً: ما جاء من البنود في حق المؤمنين :-
1- ( المؤمنون أمة واحدة من دون الناس ) وهذا البند يشمل المؤمنين جميعهم مهاجريهم وأنصارهم، ومن تبعهم ممن لحق بهم وجاهد معهم، وأنهم أمة واحدة من دون الناس قد جمعتهم رابطة العقيدة، فاتحدت قبلتهم ووجهتهم وولاءهم مما يعني إلغاء الروابط والعصبيات وذوبان جميع الفوارق التي تحول دون تحقيق هذه الوحدة الشاملة.
2- (كل فريق من المؤمنين على ربعتهم -أي الحال التي جاء الإسلام وهم عليها- يتعاقلون بينهم وهم يفدون عانيهم -أسيرهم- بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وإن المؤمنين لا يتركون مفرحا -المثقل بالديون- بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل). وهذا البند يقرر مبدأ التكافل الاجتماعي بين المؤمنين بأن يعينوا الضعفاء ويساعدوا المحتاجين.
3- ومن البنود الهامة: (أن المؤمنين المتقين أيديهم على كل من بغى منهم، أو ابتغى دسيعة ظلم أو إثماً أو عدوناً أو فساداً بين المؤمنين، وإن أيديهم عليه جميعاً، ولو كان ولد أحدهم). وهذا البند يحتم على المؤمنين نصرة المظلومين والأخذ على يد البغاة والمفسدين، ومعنى قوله (دسيعة ظلم) أي طلب عطية من دون حق، وجاء تخصيص المتقين في هذا البند لأنهم أحرص الناس على تنفيذ الشريعة من غيرهم.
4- (لا يقتل مؤمن مؤمناً في كافر، ولا ينصر كافراً على مؤمن). وفي هذا البند تأكيد على الترابط بين المؤمنين وموالاة بعضهم لبعض، وفيه دليل على أن دم الكافر لا يكافئ دم المؤمن.
ثانيا: البنود المتعلقة باليهود فيما بينهم وبين المؤمنين :-
5- ( ينفق اليهود مع المؤمنين ما داموا محاربين). وهو يتعلق بدفع قسط من نفقات الحرب الدفاعية عن المدينة.
6- ( أن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، وأن لبقية اليهود من بني النجار وغيرهم ماليهود بني عوف، إلا من ظلم نفسه وأثم فإنه لا يهلك إلا نفسه) .وهذا البند يحدد العلاقة بين اليهود وبين الفئة المؤمنة، ويعتبرهم جزءاً من مواطني الدولة الإسلامية، ويكفل لهم حريتهم الدينية ما داموا قائمين بالواجبات المترتبة عليهم.
7- ( لا تُجار قريش ولا من ناصرها ) وهو يختص بالتعامل بين اليهود والمشركين، وعدم السماح لهم بمخالفة قريش وغيرها من القبائل المعادية للإسلام.
8- ( لا يخرج من يهود أحد إلا بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم) وبموجب هذا البند يمنع اليهود من القيام بأي نشاط عسكري ضد المؤمنين، خارج عن نطاق وحدود المدينة، مما قد يؤثر على أمن المدينة واقتصادها.
9- ( إن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة وإن بينهم النصح والنصر للمظلوم).
ثالثاً: البنود العامة :
10- (أن ما يحدث بين أهل الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده، فإن مرده إلى الله جل وعلا وإلى محمد صلى الله عليه وسلم) وهذا البند يقرر المرجعية العليا في الأمور والقضايا بالمدينة، منعاً لقيام أي اضطرابات في الداخل.
11- (إن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة ) والحرم هو ما لا يحل انتهاكه، فلا يقطع شجره ولا يقتل صيدها، فهذا البند يحدد حرم المدينة، ويضمن الأمن فيها، ويضع حداً للاضطرابات والمشاكل التي تهدد السلم والأمان.
وبنود هذه الصحيفة مبنية على نصوص ثابتة، وقواعد شرعية، ومصالح معتبرة، منها قوله تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين } (الممتحنة:8). وقوله صلى الله عليه وسلم: ( المؤمنون تتكافأ دماؤهم ، ويسعى بذمتهم أدناهم ، وهم يد على من سواهم ، لا يقتل مؤمن بكافر ، ولا ذو عهد في عهده ) رواه الإمام أحمد و أبو داود وصححه الألباني .
والمتأمل في بنود هذه الوثيقة يدرك مدى العدالة التي اتسمت بها معاملة النبي - صلى الله عليه وسلم - لليهود، وإسقاط كل الاعتبارات الطبقية والجاهلية، وترسيخ المبادئ الإسلامية، كما أنها اشتملت جميع ما تحتاجه الدولة، من مقوماتها الدستورية والإدارية، وعلاقة الأفراد بالدولة، وعلاقة بعضهم ببعض.
ولقد كان بالإمكان أن تؤتي هذه الوثيقة ثمارها مع اليهود لولا طبيعة الغدر والخيانة فيهم، حيث سلك اليهود وسائل عدة ومتنوعة للكيد برسول الله - صلى الله عليه وسلم - والذين آمنوا معه، وهدم دعائم الدين الإسلامي، إلا أن وسائلهم التي اتخذوها باءت بالفشل، والسبب يرجع إلى حكمة النبي صلى الله عليه وسلم، وحنكته في إدارة شؤون الدولة.
ــــــــــــ(1/143)
مقدمة الهجرة من مكة إلى المدينة
حرم مشركو مكة الخير كله منذ جحدوا الرسالة، وقعدوا بكل صراط يوعدون، ويصدون عن سبيل الله من آمن به، ويبغونها عوجا.
ولئن نجحت دعايتهم الكاذبة في منع قبائل كثيرة من دخول الإسلام، فإن الحق لابدّ أن يعلو، وأن يثوب إليه المضلَّلون والمخدوعون على شرط أن يظل أهله أوفياء له، حراصاً عليه، صابرين محتسبين.
وقد قيض الله للإسلام من استنقذه من البيئة التي صادرته، فأنس بعد وحشة، واستوطن بعد غربة، وشق طريقه في الحياة، بعد أن زالت الجلامد الصلدة الملقاة في مجراه.
وبدأ هذا التحول على أيدي الوفود القادمة من "يثرب" إلى مكة في موسم الحج..
كان أهل يثرب يمتازون عن سائر العرب بجوارهم لليهود، وإلفهم عقيدة التوحيد. وربما حاورهم اليهود في شؤون الأديان، ونَعوا عليهم عبادة الأوثان فإذا اشتد الجدل وطالت اللجاجة قال لهم اليهود: يوشك أن يبعث الله نبياً فنتبعه؛ ونقتلكم معه قتل عاد وإرم...!!
والغريب أن اليهود كانوا أول من كفر بهذا النبي يوم ظهر فيهم واقترب منهم، ولذلك ندَّد القرآن بمسلكهم المتناقض:
{وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ}.
أما العرب الأميون الذين هُدِّدوا بمبعثه، فقد فتحوا مسامعهم له!
فعندما وافى الموسم وقدمت قبائل "يثرب" ورأوا الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) يدعو الناس إلى الله، قال بعضهم لبعض: تعلمون والله يا قوم أن هذا الذي تَوَعدكم به يهود، فلا يسبقنكم إليه..
وأخذ ذكر الإسلام يشيع في المدينة رويداً رويداً؛ فإن لم يستقبل بترحيب لم يستقبل بالسباب والحراب.
إن عناصر النفور والمقاومة التي عهدها في "مكة" تحولت -هنا- إلى عناصر احترام وإقبال، ولم تمض ثلاثة أعوام على تسامع الأنصار الجدد بالإسلام حتى أصبحوا كهفه الحصين، وموئله القريب..
2.4 فروق بين البلدين مكة والمدينة من الناحية الاقتصادية:
عاشت مكة في بحبوحة من الحياة أمداً طويلاً، آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان، وترجع هذه السعة إلى عاملين: 1-مهارة أهلها التجارية 2-ومكانة الحرم الدينية، كلا الأمرين أدرَّ عليها أخلاف الخير، فأثرت حتى بطرت، وشبعت حتى أتخمت. ثم عراها ما يعرو كل جماعة تواتيها الحظوظ ويصبغها الترف، من: تكبر، وقسوة، وجحود، فلما ظهر فيها الإسلام، ودعا محمد (صلَّى الله عليه وسلم) إلى الحق، ردت يده في فمه، وأحدقت به وبمن معه، وملكها العناد من أول يوم، وأعلنت أن مركزها -عاصمة للوثنية، ومجمعاً للأصنام. ومثابة للحجيج- سيزول إن هي استمعت إلى هذا الدين، وأمكنته من البقاء.
وحاول الرسول عليه الصلاة والسلام -جاهداً- أن يقنع أهل مكة بأن قبولهم للحق لن يحرمهم ذرة من الخير الذي متعوا به، فأبى الظالمون إلا كفوراً.
{وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعْ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}.
ومن هنا اشتبك سادة مكة في حرب مع الإسلام، اعتبروها دفاعاً عن كيانهم المادي ووضعهم الإقتصادي، إلى جانب ما هنالك من عوامل أخرى. وهذه الحروب معروفة النتائج:
{وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ}.
أما الأمر في "يثرب" فكان على النقيض، إن الشحناء المتأصلة بين أهليها استنزفت دماءهم، وقطعت شملهم، وشغلت بعضهم بالبعض، حتى أوصلتهم الحروب الدائمة إلى درك أسف له العقلاء، وتمنّوا الإنقاذ منه. كان "الأوس" و"الخزرج" -وهم في الأصل قرابة واحدة- يعانون في "يثرب" آثار هذا الخصام العنيف، ويورثونه أبناءهم؛ حتى يشبوا -وهم في مهادهم- أعداء! والذي وضع جرثومة هذا الشقاق هم اليهود.
3.4 صنع اليهود في المدينة وفتنهم فيها:
واليهود الذين استقروا في المدينة وأرباضها هبطوا صحراء الجزيرة فارين بدينهم من الاضطهاد الصليبي الذي عمل -من قديم- على تنصيرهم أو إفنائهم، ذلك لأن رأي اليهود في عيسى وأمه شنيع.
والنصارى يعتقدون أن اليهود هم قتلة عيسى، والموعزون بصلبه!!.
ولا شك أن اليهود شعب نشيط، وأنهم -حيث حلّوا- يبذلون جهوداً مذكورة للسيطرة على زمام التوجيه المالي، ولا يبالون بأساليب الختل والمكر لبلوغ أهدافهم، وقد ألْفَوا أنفسهم قلة بين أصحاب البلاد، وخشوا أن يفنوا إذا اشتبكوا معهم في صراع سافر. فاحتالوا حتى زرعوا الضغائن بين الأقرباء، وما زالوا بها حتى آتت ثمرها المر ، فأخذ العرب يأكل بعضهم بعضاً في سلسلة متصلة من المعارك التي لا مبرر لها، على حين قوي اليهود وتكاثروا، ونمت ثرواتهم، واستحكمت حصونهم، وخيف سطوهم.
وقبل الهجرة ببضع سنين وقعت بين الأوس والخزرج معركة "بُعاث" كان النصر فيها للخزرج ثم عاد للأوس، وبلغ من حدة الخصام بين الفريقين أن كليهما فكر في استئصال الآخر وإبادة خضرائه، لولا أن تدخل أولو النهى بالنصح أن يبقوا على أنفسهم وإخوانهم، فجوارهم أفضل من جوار الثعالب -يعني اليهود-!.
وهذه الفتن المتلاحقة جعلت أهل المدينة عندما ترامت إليهم أنباء الإسلام يؤملون من ورائه الخير. من يدري؟ لعله يجدد حياتهم فيعيد السلام إلى صفوفهم ويهب لهم حياة روحية ترجح بكفتهم على اليهود...
قال ابن إسحاق: فلما أراد الله إظهار دينه، وإعزاز نبيه، وإنجاز موعده له خرج رسول الله في الموسم الذي لقيه فيه النفر من الأنصار، فعرض نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع في كل موسم، فبينما هو عند العقبة لقي رهطاً من الخزرج أراد الله بهم خيراً، فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن أشياخ من قومه قالوا: لما لقيهم رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) قال لهم: من أنتم؟ قالوا: نفر من الخزرج . قال: من موالي يهود؟ قالوا نعم. قال: أفلا تجلسون أكلمكم؟ قالوا: بلى ! فجلسوا معه فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن...
قال: فأجابوه فيما دعاهم إليه بأن صدقوه، وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام، وقالوا له: إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، وعسى أن يجمعهم الله بك. فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك!!ثم انصرفوا راجعين إلى بلادهم، قد آمنوا وصدقوا.
كان أولئك النفر، طليعة الدعاية الموفقة للإسلام في يثرب، وقد أثمرت جهودهم على عجل، فلم تبق دار إلاَّ دخلها الإسلام.
حتى إذا استدار العام، وأقبل موسم الحج، خرج من المدينة اثنا عشر رجلاً من الذين أسلموا -فيهم الستة الذين كلمهم النبي (صلَّى الله عليه وسلم) في الموسم السابق- وعزموا على الاجتماع برسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) ليوثقوا معه إسلامهم.
4.4 بيعة العقبة الأولى بين رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) ونفر من مسلمي المدينة:
وقد لقيهم النبي بالعقبة، وعقد معهم بيعة على الإيمان بالله وحده، والاستمساك بفضائل الأعمال والبعد عن مناكرها.
عن عبادة بن الصامت قال: بايعنا رسول الله ليلة العقبة الأولى "أن لا نشرك بالله شيئاً، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف".
قال: "فإن وفيتم فلكم الجنة وإن غشيتم من ذلك شيئاً فأخذتم بحده في الدنيا فهو كفارة له. وإن سترتم عليه إلى يوم القيامة، فأمركم إلى الله. إن شاء عذب، وإن شاء غفر".
هذا ما كان محمد (صلَّى الله عليه وسلم) يدعو إليه، وكانت الجاهلية تنكره عليه.
أيكره هذه العهود إلا مجرم يحب للناس الريبة ويود للأرض الفساد؟؟
أتم وفد الأنصار هذه البيعة ثم قفل عائداً إلى "يثرب"، فرأى النبي أن يبعث معهم أحد الثقات من رجاله، ليتعهد نماء الإسلام في المدينة ، ويقرأ على أهلها القرآن، ويفقههم في الدين، ووقع اختياره على "مصعب بن عمير" ليكون هذا المعلِّم الأمين.
ونجح "مصعب" أيّما نجاح في نشر الإسلام وجمع الناس عليه، واستطاع أن يتخطى الصعاب التي توجد -دائماً- في طريق كل نازح غريب، يحاول أن ينقل الناس من موروثات ألفوها إلى نظام جديد، يشمل الحاضر والمستقبل، ويعم الإيمان والعمل، والخلق والسلوك...
ولا تحسبنَّ "مصعباً" كأولئك المرتزقة من المبشرين الذين دسهم الإستعمار الغربي بين يدي زحفه على الشرق، فترى الواحد منهم يقبع تحت سرير مريض ليقول له: هذه القارورة تقدمها لك العذراء! وهذا الرغيف يهديه إليك المسيح!
وربما فتح مدرسة ظاهرها الثقافة المجردة، أو ملجأ ظاهره البر الخالص، ثم لوى زمام الناشئة من حيث لا يدرون، ومال بهم حيث يريد...!!
هذا ضرب من التلصص الروحي يتوارى تحت اسم الدعوة إلى الدين. والذين يمثلون هذه المساخر يجدون الجرأة على عملهم من الدول التي تبعث بهم، فإذا رأيت إصرارهم ومغامراتهم فلا تنس القوى التي تساند ظهورهم في البر والبحر والجو.
أما مصعب فكان من ورائه نبيٌّ مضطهد ورسالة معتبرة ضد القانون السائد، وما كان يملك من وسائل الإغراء ما يطمع طلاب الدنيا ونهازي الفرص، كل ما لديه ثروة من الكياسة والفطنة، قبسها من محمد (صلَّى الله عليه وسلم)، وإخلاص لله، جعله يضحي بمال أسرته وجاهها في سبيل عقيدته.. ثم هذا القرآن الذي يتأنق في تلاوته، ويتخير من روائعه ما يغزو به الألباب، فإذا الأفئدة ترق له، وتتفتح للدين الجديد.
وعاد "مصعب" إلى رسول الله بمكة قبيل الموسم الحافل، يخبره بما لقي الإسلام من قبول حسن في "يثرب"، ويبشره بأن جموعاً غفيرة دخلت فيه عن اقتناع مسَّ شغافهم، وبصر أنار أفكارهم، وسوف يرى من وفودهم بهذا الموسم ما تقر به العين.
5.4 بيعة العقبة الكبرى بين محمد (صلَّى الله عليه وسلم) ورجال من الأنصار:
إن الرجال الذين اعتنقوا الإسلام عرفوا-دون شك-تاريخه القريب، والصعاب الهائلة التي لقيها، وحز في نفوسهم أن يستضعف إخوانهم في مكة وأن يخرج نبيهم وهو يدعو إلى الله فلا يجيبه إلا آثم أو كفور!.
ولذلك تساءلوا -وهم خارجون من المدينة قاصدين البيت العتيق- حتى متى نترك رسول الله يطوّف ويطرد في جبال مكة ويَخاف؟
لقد بلغ الإيمان أوْجهُ في هذه القلوب الفتية، وآن لها أن تنفِّس عن حماسها، وأن تفك هذا الحصار الخانق المضروب حول الدعوة والداعية.
قال جابر بن عبدالله: فرحل إليه منا سبعون رجلاً حتى قدموا عليه في الموسم، فواعدناه شعب العقبة، فاجتمعنا عندها من رجل ورجلين، حتى توافينا، فقلنا: يا رسول الله، علام نبايعك؟ قال (صلَّى الله عليه وسلم) تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقوموا في الله لا تخافون لومة لائم، وعلى أن تنصروني فتمنعوني -إذا قدمت عليكم- مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة.
فقمنا إليه، وأخذ بيده "أسعد بن زرارة" -وهو أصغر السبعين بعدي، فقال رويداً يا أهل يثرب، فإنا لم نضرب إليه أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله، وإن إخراجه اليوم مناوأة للعرب كافة، وقتل خياركم، وأن تعضكم السيوف.
فإما أنتم قوم تصبرون على ذلك فخذوه وأجركم على الله، وإما أنتم قوم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه، فبينوا ذلك فهو أعذر لكم عند الله!
فقالوا يا "أسعد" أمِطْ عنا يدك، فوالله لا نذر هذه البيعة ولا نستقيلها، فقمنا إليه رجلاً رجلاً فبايعناه.
وعن كعب بن مالك: نمنا تلك الليلة -ليلة العقبة - مع قومنا في رحالنا، حتى إذا مضى ثلث الليل، خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم)، نتسلل تسلل القطا مستخفين، حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة ، ونحن ثلاثة وسبعون رجلاً، ومعنا امرأتان من نسائنا، نسيبة بنت كعب وأسماء بنت عمرو بن عدي.
فلما اجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم)، جاءنا ومعه العباس بن عبد المطلب، وهو يومئذ على دين قومه، إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويستوثق له، فلما جلس كان أول متكلم، قال: يا معشر الخزرج إن محمداً منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو في عزة من قومه ومنعة في بلده، وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك!! وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج إليكم، فمن الآن فدعوه فإنه في عزة ومنعة من قومه وبلده...
قال كعب: فقلنا له: قد سمعنا ما قلت فتكلم يا رسول الله، فخذ لنفسك وربك ما أحببت، فتكلم رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم)، فتلا القرآن، ودعا إلى الله، ورغَّب في الإسلام، ثم قال: أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم.
قال كعب: فأخذ البراء بن معرور بيده وقال: نعم، فوالذي بعثك بالحق لنمنعنّك مما نمنع منه أزرنا، فبايعنا يا رسول الله، فنحن -والله- أبناء الحروب، ورثناها كابراً عن كابر، فاعترض هذا القول -والبراء يكلم رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) أبو الهيثم بن التيهان فقال: يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال -يعني اليهود- حبالاً وإنا قاطعوها، فهل عسيت إن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا قال: فتبسم رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم)، ثم قال: بل الدم الدم والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم...
وأمرهم رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) أن يخرجوا منهم اثني عشر نقيباً يكونون على قومهم بما فيهم، فأخرجوا منهم النقباء، تسعة من (الخزرج) وثلاثة من (الأوس)، فقال لهم رسول الله عليه الصلاة والسلام: أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم وأنا كفيل على قومي.
تلكم بيعة العقبة، وما أبرم فيها من مواثيق، وما دار فيها من محاورات...
إن روح اليقين والفداء والاستبسال سادت هذا الجمع وتمشت في كل كلمة قيلت، وبدا أن العواطف الفائرة ليست وحدها التي توجه الحديث أو تملي العهود كلا، فإن حساب المستقبل روجع مع حساب اليوم، والمغارم المتوقعة نظر إليها قبل المغانم الموهومة.
مغانم؟ أين موضوع المغانم في هذه البيعة؟ لقد قام الأمر كله على التجرد المحض والبذل الخالص.
هؤلاء السبعون مُثُلٌ لانتشار الإسلام، عن طريق الفكر الحر والاقتناع الخالص...
فقد جاءوا من "يثرب" مؤمنين أشد الإيمان، وملبين داعي التضحية، مع أن معرفتهم بالنبي كانت لمحة عابرة؛ غبرت عليها الأيام؛ وكان الظن بها أن تزول.
لكننا لا يجوز أن ننسى مصدر هذه الطاقة المتأججة من الشجاعة والثقة؛ إنه القرآن!! لئن كان الأنصار قبل بيعتهم الكبرى لم يصحبوا الرسول إلا لماماً فإن الوحي المشع من السماء أضاء لهم الطريق، وأوضح الغاية..
لقد نزل بمكة قريب من نصف القرآن، سال على ألسنة الحفاظ وتداولته صحائف السفرة الكرام البررة، والقرآن النازل بمكة صوَّر جزاء الآخرة رأي العين، فأنت توشك أن تمد يدك تقطف من أثمار الجنة، ويستطيع الأعرابي المتعشق للحق أن ينتقل في لحظة فداء من رمضاء الجزيرة إلى أنهار النعيم والرحيق المختوم!
وحكى القرآن أخبار الأولين وكيف أخلص المؤمنين لله فنجوا مع رسلهم، وكيف طغى الكفار وأسكرهم الإمهال فتعنتوا وتجبروا، ثم حل العدل الإلهي، فذهب الظالمون بدداً، وتركوا وراءهم دنيا مدبرة، ودوراً خربة.
فأدبروا ووجوه الأرض تلعنهم كباطل من جلال الحق منهزم...!!
ثم إن الرسول جعل من هذا الإيمان بالحق رباطاً يعقد من تلقاء نفسه صلة الحب والتناصر بين أشتات المؤمنين في المشرق والمغرب.
فالمسلم في المدينة -وإن لم يرَ أخاه المستضعف في مكة - يحنو عليه، ويتعصب له، ويغضب من ظالمه، ويقاتل دونه، وذلك ما استقدم الأنصار من يثرب تجيش في حناياهم مشاعر الولاء لمن أحبوهم بالغيب في ذات الله.
عن أبي مالك الأشعري أن رسول الله قال: يا أيها الناس اسمعوا واعقلوا، واعلموا أن لله عباداً ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم النبيون والشهداء على منازلهم وقربهم من الله. فجثا رجل من الأعراب من قاصية الناس وألوى بيده إلى النبي (صلَّى الله عليه وسلم)، فقال يا رسول الله: ناس من الناس ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء على مجالسهم وقربهم من الله!! انعتهم لنا، حلِّهم لنا -يعني صفهم لنا- فسر وجه النبي بسؤال الأعرابي وقال: هم ناس من أفناء الناس، ونوازع القبائل، لم تصل بينهم أرحام متقاربة، تحابوا في الله وتصافوا، يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور، فيجلسون عليها، فيجعل وجوههم نوراً، وثيابهم نوراً، يفزع الناس يوم القيامة ولا يفزعون، وهم أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
الإيمان بالله، والحب فيه، والأخوة في دينه، والتناصر باسمه، ذلك كله كان يتدافع في النفوس المجتمعة في ظلام الليل بجوار مكة السادرة في غيها، يتدافع ليعلن أن أنصار الله سوف يحمون رسوله كما يحمون أعراضهم، وسوف يمنعونه بأرواحهم فلا يخلص إليه أذى وهم أحياء.
إن مشركي مكة حسبوا أنهم حصروا الإسلام في نطاق لا يعدوه، وأرهقوا المسلمين حتى شغلوهم بأنفسهم، فناموا نومة المجرم الذي اغترف الإثم وأمن القصاص.
حسنّت ظنك بالأيام إذ حسنت ولم تخف سوء ما يأتي به القدر
وسالمتك الليالي فاغتررت بها وعند صفو الليالي يحدث الكدر
أجل، ففي هذه الليلة تحالف جند الحق أن يقصموا ظهر الوثنية، وأن ينتهوا بالجاهلية ورجالها إلى الفناء.
واستمع شيطان من المشركين كان يجول في مضارب الخيام ومنازل الحجيج إلى الضجة المنبعثة قريباً من العقبة ، واستطاع أن يقف على جلية الخبر، فصرخ ينذر أهل مكة : "إن محمداً والصباء معه قد اجتمعوا على حربكم.."!!
وكان صوته جهيراً يوقظ النيام.
وشعر المبايعون كأن ائتمارهم بالمشركين قد انكشف، فلم يكترثوا للنتائج.
وقال "ابن عبادة": يا رسول الله والذي بعثك بالحق إن شئت لنميلنَّ على أهل "منى" غداً بأسيافنا، فقال رسول الله: لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم.
قال كعب: فلما أصبحنا غدت علينا جلّة قريش حتى جاؤونا في منازلنا فقالوا: يا معشر الخزرج، إنه قد بلغنا أنكم جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا، وتبايعونه على حربنا، وإنه -والله- ما من حي من العرب أبغض أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم، قال: فانبعث مَنْ هناك من مشركي قومنا يحلفون، ما كان من هذا شيء وما علمناه، وصَدَقوا لم يعلموا. قال كعب وبعضنا ينظر إلى بعض.
بيد أن القرائن تجمعت على أن ما قيل حق، فخرجت قريش تطلب الأنصار ففاتوهم، ولم يدركوا غير سعد بن عبادة.
فعادوا به مغلولة يداه إلى عنقه، وأخذوا يجذبونه من شعره ويلكزونه، فأنقذه منهم جبير بن مطعم، والحارث بن حرب، إذ كان "سعد" يجير لهما قوافلهما المارة بالمدينة.
6.4 طلائع هجرة المسلمين من مكة إلى المدينة:
إن نجاح الإسلام في تأسيس وطن له، وسط صحراء تموج بالكفر والجهالة هو أخطر كسب حصل عليه منذ بدأت الدعوة له، وقد تنادى المسلمون من كل مكان: هلمّوا إلى يثرب.. فلم تكن الهجرة تخلصاً فقط من الفتنة والاستهزاء، بل كانت تعاوناً عاماً على إقامة مجتمع جديد في بلد آمن.
وأصبح فرضاً على كل مسلم قادر أن يسهم في بناء هذا الوطن الجديد، وأن يبذل جهده في تحصينه ورفع شأنه، وأصبح ترك المدينة -بعد الهجرة إليها- نكوصاً عن تكاليف الحق، وعن نصر الله ورسوله، فالحياة بها دين لأن قيام الدين يعتمد على إعزازها.
وفي عصرنا هذا أعجب اليهود بأنفسهم، وعانق بعضهم بعضاً مهنئاً لأنهم استطاعوا تأسيس وطن قومي لهم، بعد أن عاشوا -مشردين- قروناً طوالا.
ونحن لا ننكر جهد اليهود في إقامة هذا الوطن، ولا حماس المهاجرين من كل فج للعيش به، ومحاولة إحيائه وإعلائه.
ولكن ما أبعد البون بين ما صنع اليهود اليوم -أو بتعبير أدق، ما صُنع لليهود اليوم- وبين ما صنع الإسلام وبنوه لأنفسهم، يوم هاجروا إلى يثرب نجاة بدعوتهم، وإقامة لدولتهم.
إن اليهود جاؤوا على حين فرقة من العرب وغفلة وضعف، وحاكوا مؤامراتهم في ميدان السياسة الغربية الناقمة على الإسلام وأهله. فإذا بالعالم كله يهجم على فلسطين بالمال والسلاح والنساء والدهاء، فلم يستطع مليون عربي حصرتهم الخيانات في مآزق ضيقة أن يصنعوا شيئاً، فهاموا على وجوههم في الأرض، نتيجة اتفاق "أمريكا وروسيا وانكلترا وفرنسا" و..ملوك العرب على خذلان أولئك العرب التعساء، وبذلك قام الوطن القومي لليهود، وبثّت الدعاية لتشجيع الهجرة إليه، وإسداء العون له من دهاقين السياسة والمال في أنحاء الدنيا !!
أين هذا الحضيض من رجال أخلصوا لله طواياهم، وترفعت عن المآرب هممهم، وذهلوا عن المتاع المبذول والأمان المتاح، واستهوتهم المثل العليا وحدها في عالم يعج بالصم البكم، وربطوا مستقبلهم بمستقبل الرسالة المبرأة التي اعتنقوها، وتبعوا صاحبها المتجرد المكافح، وهو لا يني يقول:
{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ}!!
إن المدينة الفاضلة التي تعشَّقها الفلاسفة، وتخيلوا فيها الكمال، وجاءت في سطور الكتب، دون ما صنع المهاجرون الأولون، وأثبتوا به أن الإيمان الناضج يحيل البشر إلى خلائق تباهي الملائكة سناء ونضارة.
إن المسلمين -باذن رسول الله- هرعوا من مكة وغيرها إلى "يثرب" يحدوهم اليقين، وترفع رؤوسهم الثقة.
ليست الهجرة انتقال موظف من بلد قريب إلى بلدٍ ناءٍ، ولا ارتحال طالب قوت من أرض مجدبة إلى أرض مخصبة.
إنها إكراه رجل آمنٍ في سربه، ممتد الجذور في مكانه على إهدار مصالحه، وتضحية أمواله والنجاة بشخصه فحسب، وإشعاره -وهو يصفِّي مركزه- بأنه مستباح منهوب، قد يهلك في أوائل الطريق أو نهايتها. وبأنه يسير نحو مستقبل مبهم، لا يدري ما يتمخض عنه من قلاقل وأحزان، ولو كان الأمر مغامرة فرد بنفسه لقيل: مغامر طياش، فكيف وهو ينطلق في طول البلاد وعرضها، يحمل أهله وولده؟ وكيف وهو بذلك رضيَّ الضمير، وضّاء الوجه ؟!
إنه الإيمان الذي يزن الجبال ولا يطيش! وإيمان بمن؟ بالله الذي له ما في السموات وما في الأرض، وله الحمد في الأولى والآخرة، وهو الحكيم الخبير.(1/144)
هذه الصعاب لا يطيقها إلا مؤمن، أما الهيّاب الخوار القلق، فما يستطيع شيئاً من ذلك، إنه من أولئك الذين قال الله فيهم: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوْ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ..}.
أما الرجال الذين التقوا بمحمد (صلَّى الله عليه وسلم) في مكة ، وقبسوا منه أنوار الهدى، وتواصوا بالحق والصبر، فإنهم نفروا خفافاً ساعة قيل لهم: هاجروا إلى حيث تعزون الإسلام وتؤمنون مستقبله.
ونظر المشركون، فإذا ديار بـ (مكة) كانت عامرة بأهلها قد أقفرت، ومحال مؤنسة قد أمحلت.
مر عتبة، والعباس، وأبو جهل على دار بني جحش بعدما غُلِّقت، فقد هاجر رب الدار، وزوجه وأخوه أبو أحمد -وكان رجلاً ضرير البصر- ونظر عتبة إلى الدار تخفق أبوابها يباباً، ليس بها ساكن! فلما رآها تصفر الريح في جنباتها قال:
وكل دار وإن طالت سلامتها يوماً، ستدركها النكباء والحوب
ثم قال: أصبحت الدار خلاء من أهلها، فقال أبو جهل للعباس هذا من عمل ابن أخيك، فرق جماعتنا، وشتت أمرنا، وقطع بيننا...
وأبو جهل بهذا الكلام تبرز فيه طبائع الطغاة كاملة.
فهم يجرمون ويرمون الوزر على أكتاف غيرهم، ويقهرون المستضعفين، فإذا أبَوا الاستكانة، فإباؤهم علّة المشكلات ومصدر القلاقل..!!
وكان من أول المهاجرين "أبو سلمة: وزوجه، وابنه" فلما أجمع على الخروج قال له أصهاره: هذه نفسك غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتنا هذه؟ علام نتركك تسير بها في البلاد؟ وأخذوا منه زوجته. فغضب آل أبي سلمة لرجلهم، وقالوا: لا نترك ابننا معها إذ نزعتموها من صاحبنا، وتجاذبوا الغلام بينهم، فخلعوا يده وذهبوا به وانطلق أبو سلمة وحده إلى المدينة، فكانت أم سلمة -بعد ذهاب زوجها وضياع ابنها- تخرج كل غداة بالأبطح، تبكي حتى تمسي، نحو سنة، فرقّ لها أحد ذويها وقال: ألا تخرجون هذه المسكينة؟ فرقتم بينها وبين زوجها وولدها، فقالوا لها: الحقي بزوجك إن شئت، فاسترجعت ابنها من عصبته، وهاجرت إلى المدينة ..
ولما أراد "صهيب" الهجرة قال له كفار قريش : أتيتنا صعلوكاً حقيراً، فكثر مالك عندنا، وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك، والله لا يكون ذلك، فقال لهم صهيب: أرأيتم إن جعلت لكم مالي أتخلُّون سبيلي؟ قالوا: نعم، قال: فإني قد جعلت لكم مالي. فبلغ ذلك رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) فقال: ربح صهيب!
وهكذا أخذ المهاجرون يتركون مكة زرافات ووحداناً، حتى كادت مكة تخلو من المسلمين. وشعرت قريش بأن الإسلام أضحت له دار يأرز إليها وحصن يحتمي به، وتوجست خيفة من عواقب هذه المرحلة الخطيرة في دعوة محمد، وهاجت في دمائها غرائز السبع المفترس حين يخاف على حياته.
إن محمداً (صلَّى الله عليه وسلم) لا يزال في مكة، وهو -لابد- مدرك أصحابه اليوم أو غداً، فلتعجل به قبل أن يستدير إليها..
7.4 اجتماع طواغيت الكفر في دار الندوة للقضاء على محمد (صلَّى الله عليه وسلم) ودعوته التوحيدية:
واجتمع طواغيت مكة في دار الندوة ليتخذوا قراراً حاسماً في هذا الأمر.
فرأى بعضهم أن توضع القيود في يد محمد (صلَّى الله عليه وسلم) ويشد وثاقه، ويرمى به في السجن لا يصله منه إلا الطعام، ويترك على ذلك حتى يموت..
ورأى آخر أن ينفى من مكة فلا يدخلها، تنفض قريش يديها من أمره.
وقد استُبعد هذان الاقتراحان لعدم جدواهما واستقر الرأي على الاقتراح الذي أبداه "أبو جهل". قال أبو جهل: أرى أن تأخذوا من كل بطن من قريش شاباً نسيباً وسطاً فتياً، ثم نعطي كل فتى سيفاً صارماً، ثم يضربونه -جميعاً- ضربة رجل واحد، فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل كلها، ولا أظن بني هاشم يقوَوْن على حرب قريش كافة، فإذا لم يبق أمامهم إلا الدية أديناها.
ورضي المؤتمرون بهذا الحل للمشكلة التي حيرتهم وانصرفوا ليقوموا على إنفاذه، وقد أشار القرآن إلى تدبير هذه الجريمة بقوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}.
إن هذا الحكم لم يتخذ في مجلس سر، بل في اجتماع عام.
ومن الطبيعي أن يعلم به رسول الله؛ وأن يعرف حقيقة وضعه في مكة، إنهم لا ينتظرون به إلا موعد التنفيذ، ثم يقدمه الطغام قرباناً للأصنام!!.
على أن رسول الله لم يكن ليوعز إلى أصحابه بالهجرة ويتخلف عنهم.
لقد رسم الخطة التي يذهب بها إلى "يثرب" حين ندب المسلمين للهجرة إليها.
روى الزهري عن عروة عن عائشة قالت: قال رسول الله -وهو يومئذ بمكة- للمسلمين: "قد أريت دار هجرتكم؛ أريت سبخة ذات نخل بين لابتين" فهاجر من هاجر قِبَل المدينة حين ذكر ذلك رسول الله، ورجع إلى المدينة من كان هاجر إلى أرض الحبشة من المسلمين.
8.4 هجرة الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) إلى المدينة:
حين عزم رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) على ترك مكة إلى المدينة؛ ألقى الوحي الكريم في قلبه وعلى لسانه هذا الدعاء الجميل: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا}.
ولا نعرف بشراً أحق بنصر الله وأجدر بتأييده مثل هذا الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) الذي لاقى في جنب الله ما لاقى. ومع ذلك فإن استحقاق التأييد الأعلى لا يعني التفريط قيد أنملة في استجماع أسبابه، وتوفير وسائله.
ومن ثَمَّ فإن رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) أحكم خطة هجرته، وأعدَّ لكل فرض عدته، ولم يدع في حسبانه مكاناً للحظوظ العمياء.
وشأن المؤمن مع الأسباب المعتادة، أن يقوم بها كأنها كل شيء في النجاح، ثم يتوكل -بعد ذلك- على الله، لأن كل شيء لا قيام له إلا بالله.
فإذا استفرغ المرء جهوده في أداء واجبه فأخفق بعد ذلك، فإن الله لا يلومه على هزيمة بلي بها، وقلّما يحدث ذلك إلا عن قَدَر قاهر يعذر المرء فيه!!
وكثيراً ما يرتب الإنسان مقدمات النصر ترتيباً حسناً، ثم يجيء عون أعلى يجعل هذا النصر مضاعف الثمار.
كالسفينة التي يشق عباب الماء بها ربّان ماهر، فإذا التيار يساعدها والريح تهب إلى وجهتها، فلا تمكث غير بعيد حتى تنتهي إلى غايتها في أقصر من وقتها المقرر.
وهجرة رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) من مكة إلى المدينة جرت على هذا الغرار، فقد استبقى رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) معه علياً وأبا بكر ، وأذن لسائر المؤمنين بتقدمه إلى المدينة .
فأما أبو بكر فإن الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) قال له حين استأذنه ليهاجر: لا تعجل، لعل الله أن يجعل لك صاحبا. وأحس أبو بكر كأن الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) يعني نفسه بهذا الرد.
فابتاع راحلتين فحبسهما في داره، يعلفهما إعداداً لذلك.
وأما علي فإن الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) هيأه لدور خاص، يؤديه في هذه المغامرة المحفوفة بالأخطار.
قال ابن إسحاق: فحدثني من لا أتهم عن عروة بن الزبير، عن عائشة، أنها قالت: كان لا يخطئ رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) أن يأتي بيت أبي بكر أحد طرفي النهار: إما بكرة، وإما عشياً، حتى إذا كان اليوم الذي أذن الله فيه لرسوله في الهجرة والخروج من مكة من بين ظهري قومه، أتانا رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) بالهاجرة في ساعة كان لا يأتي فيها. قالت: فلما رآه أبو بكر قال: ما جاء رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) في هذه الساعة إلا لأمر حدث. فلما دخل تأخر له أبو بكر عن سريره، فجلس رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) وليس عند رسول الله أحد إلا أنا وأختي أسماء، فقال رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم): أخرج عني من عندك، قال: يا رسول الله، إنما هما ابنتاي.
وما ذاك -فداك أبي وأمي-؟.
قال: إن الله أذن لي بالخروج والهجرة. فقال أبو بكر : الصحبةَ يا رسول الله؟ قال: الصحبة.
قالت عائشة: فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحداً يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يومئذ يبكي.
ثم قال: يا نبي الله إنَّ هاتين الراحلتين كنت أعددتهما لهذا، فاستأجرا عبدالله بن أريقط -وهو مشرك- يدلهما على الطريق. ودفعا إليه راحلتيهما فكانتا عنده يرعاهما لميعادهما..
قال ابن إسحاق: ولم يعلم -فيما بلغني- بخروج رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) أحد حين خرج -يقصد نوى الخروج- إلا علي وأبو بكر وآله. أما علي فإن رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) أمره أن يتخلف حتى يؤدي عنه الودائع التي كانت عنده للناس. وكان رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم)؛ ليس بمكة أحد عنده شيء يخشى عليه إلا وضعه عنده، لما يعلم من صدقه وأمانته..
9.4 درس في سياسة الأمور حول موضوع هجرة الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) من مكة إلى المدينة:
ويلاحظ أن النبي عليه الصلاة والسلام كتم أسرار مسيره، فلم يطلع عليها إلا من لهم صلة ماسة، ولم يتوسع في إطلاعهم إلا بقدر العمل المنوط بهم.
وقد استأجر دليلاً خبيراً بطريق الصحراء ليستعين بخبرته على مغالبة المطاردين ونظر في هذا الاختيار إلى الكفاية وحدها. فإذا اكتملت في أحد -ولو مشركاً- استخدمه وانتفع بموهبته.
ومع هذه المرونة في وضع الخطة فإن النبي عليه الصلاة والسلام أصر أن يدفع ثمن راحلته، وأبى أن يتطوع أبوبكر به، لأن البذل في هذه الهجرة ضرب من العبادة ينبغي الحرص عليه وتستبعد النيابة فيه.
واتفق الرسول عليه الصلاة والسلام مع أبي بكر على تفاصيل الخروج، وتخيروا الغار الذي يأوون إليه، تخيروه جنوباً في اتجاه اليمن لتضليل المطاردين، وحددوا الأشخاص الذين يتصلون بهم في أثناء اللجأ إليه، ومهمة كل شخص.
ثم عاد الرسول عليه الصلاة والسلام إلى بيته، فوجد قريشاً بدأت تضرب الحصار حوله، وبعثت بالفتيان الذين وكل إليهم اغتيال محمد عليه الصلاة والسلام وتفريق دمه بين القبائل.
وأوعز الرسول عليه الصلاة والسلام إلى علي بن أبي طالب في هذه الليلة الرهيبة أن يرتدي برده الذي ينام فيه، وأن يتسجى به على سريره. وفي هجعة الليل وغفلة من الحرس، نَسَلَ الرسول عليه الصلاة والسلام من بيته إلى دار أبي بكر، ثم خرج الرجلان من خوخة في ظهرها إلى غار ثور.. إلى الغار الذي استودعته العناية مصير الرسالة الخاتمة، ومستقبل حضارة كاملة، وتركته في حراسة الصمت والوحشة والانقطاع..
10.4 اختباء الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) مع أبي بكر في الغار أثناء هجرته من مكة إلى المدينة:
وسارت الأمور على ما قدّرا، وكان أبو بكر قد أمر ابنه عبدالله أن يتسمع لهما ما يقول الناس فيهما، ثم يأتيهما إذا أمسى بما يكون في ذلك من أخبار. وأمر عامر بن فهيرة مولاه أن يرعى غنمه نهاره ثم يريحها عليهما إذا أمسى في الغار. فكان عبدالله بن أبي بكر في قريش يسمع ما يأتمرون به وما يقولون في شأن رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) وأبي بكر، ثم يأتيهما إذا أمسى فيقص عليهما ما علم، وكان عامر في رعيان أهل مكة، فإذا أمسى أراح عليهما غنم أبي بكر فاحتلبا وذبحا، فإذا غدا عبدالله من عندهما إلى مكة، أتبع عامر بن فهيرة أثره بالغنم يعفِّي عليه. وتلك هي الحيطة البالغة كما تفرضها الضرورات المعتادة على أي إنسان..
وانطلق مشركو مكة في آثار المهاجرين يرصدون الطرق ويفتشون كل مهرب، وراحوا ينقِّبون في جبال مكة، وكهوفها، حتى وصلوا -في دأبهم- قريباً من غار ثور، وأنصت الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) وصاحبه إلى أقدام المطاردين تخفق إلى جوارهم، فأخذ الروع أبا بكر، وهمس يحدث رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم): "لو نظر أحدهم تحت قدمه لرآنا" فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: "يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما".
ويظهر أن المطاردين داخلهم القنوط من العثور عليهما في هذا الفج، فتراكضوا عائدين، وروى أحمد: "أن المشركين اقتفوا الأثر حتى إذا بلغوا الجبل -جبل ثور- اختلط عليهم، فصعدوا الجبل فمروا بالغار، فرأوا على بابه نسج العنكبوت. فقالوا: لو دخل هاهنا أحد لم يكن نسج العنكبوت على بابه. فمكث فيه ثلاث ليال".
ورواية أحمد حسنة، وإن لم ترد بها السنن الصحاح، ولم يرد كذلك ذكر لحمائم باضت على فم الغار أو غير ذلك.
قال الله تعالى في ذكر الهجرة:
{إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
والجنود التي يخذل بها الباطل وينصر بها الحق ليست مقصورة على نوع معين من السلاح ولا صورة خاصة من الخوارق، إنها أعم من أن تكون مادية أو معنوية، وإذا كانت مادية فإن خطرها لا يتمثل في ضخامتها، فقد تفتك جرثومة لا تراها العين بجيش ذي لجب {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ}.
ومن صنع الله لنبيه أن تعمى عنه عيون عداته وهو منهم على مد الطرف، ولم يكن ذلك محاباة من القدر لقوم فرَّطوا في استكمال أسباب النجاة، بل هو مكافأة من القدر لقوم لم يدعوا وسيلة من وسائل الحذر إلا اتخذوها، وكم من خطة يضعها أصحابها فيبلغون بها نهاية الإتقان تمر بها فترات عصيبة لأمور فوق الإرادة أو وراء الحسبان، ثم تستقر أخيراً وفق مقتضيات الحكمة العليا وفي حدود قوله تعالى:
{وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}.
11.4 ما حدث مع رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) في الطريق إلى المدينة:
مرت ثلاث ليال على مبيت الرسول عليه الصلاة والسلام في الغار، وخمد حماس المشركين في الطلب، وتأهب المهاجران لاستئناف رحلتهما الصعبة.
وجاء "عبدالله بن أريقط" في موعده ومعه رواحله قد أعلفها لاستقبال سفر بعيد، وتزود الركب ثم سار على اسم الله.
غير أن قريشاً ساءها أن تخفق في استرجاع محمد عليه الصلاة والسلام وصاحبه، فجعلت دية كل واحد منهما جائزة لمن يجيء بهما أحياء أو أمواتاً.
ومائتان أو مائة من الإبل في الصحراء ثروة تغري بركوب المخاطر وتحمل المشاق.
وقد قدَّر رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) أن المشركين لن يألوا جهداً في الإساءة إليه، فالتزم في سيره جانب المحاذرة، وأعانتهم مهارة الدليل على سلوك دروب لم تعتدها القوافل، ثم أطلق الزمام للرواحل فمضت تصل النهار بالليل.
رمى بصدور العيس منخرق الصَّبا فلم يدر خلقٌ بعدها أين يمما؟
فلما مروا بحي بني مدلج مُصْعدين، بَصُر بهم رجل من الحي فقال: لقد رأيت آنفاً أسْوِدَة بالساحل، ما أظنها إلا محمداً وأصحابه؛ ففطن إلى الأمر سراقة بن مالك ورغب أن تكون الجائزة له خاصة فقال: بل هم فلان وفلان قد خرجوا لحاجة لهم..ومكث قليلاً ثم قام فدخل خباءه وقال لخادمه: اخرج بالفرس من وراء الخباء وموعدك خلف الأكمة.
قال سراقة: فأخذت رمحي وخرجت من ظهر البيت وأنا أخط بزجه الأرض، حتى أتيت فرسي فركبتها فدفعتها ففرت بي حتى دنوت منهم فعثرت بي فرسي فخررت عنها! فقمت..
وامتطى سراقة فرسه مرة أخرى وزجرها فانطلقت حتى قرب من الرسول عليه الصلاة والسلام وصاحبه، وكان أبو بكر يكثر الالتفات يتبين هذا العدو الجسور؟ فلما دنا عرفه فقال لرسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) وكان ماضياً إلى غايته-: هذا سراقة بن مالك قد رهقنا! وما أتم كلامه حتى هوت الفرس مرة أخرى ملقية سراقة من على ظهرها، فقام معفراً ينادي بالأمان!!
وقع في نفس سراقة أن الرسول عليه الصلاة والسلام حق فاعتذر إليه وسأله أن يدعو الله له وعرض عليهما الزاد والمتاع، فقالا: لا حاجة لنا، ولكن عَمِّ عنا الطلب، فقال: قد كفيتم، ثم رجع فوجد الناس جادين في البحث عن محمد عليه الصلاة والسلام وصاحبه، فجعل لا يلقى أحداً من الطلَّب إلا ردَّه وهو يقول: كفيتم هذا الوجه !
أصبح أول النهار جاهداً عليهما، وأمسى آخره حارساً لهما...!!
12.4 دعاء رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) عند خروجه من مكة مهاجراً:
إن أسفار الصحراء توهي العمالقة الآمنين. فكيف بركب مهدر الدم مستباح الحق؟.
ما يحس هذه المتاعب إلا من صلي نارها، لقد برزنا لوهج الظهيرة يوماً فكادت الأشعة البيضاء المنعكسة على الرمال تخطف أبصارنا، فعدنا مغمضين نستبقي من عيوننا ما خفنا ضياعه.
وعندما تصبح وتمسي وسط وهاد ونجاد لا تنتهي حتى تبدأ، تخال العالم كله مهامه مغبرة الأرجاء داكنة الأرض والسماء.
وجرت عادة المسافرين أن يأووا في القيلولة إلى أي ظل في بطاح ينتعل كل شيء فيها ظله، حتى إذا جنحت الشمس للمغيب تحركت المطايا اللاغبة تغالب الجفاف والكرى.
وللعرب طاقةٌ على احتمال هذا الشظف مع قلة الزاد والري.
وقد مر بك أن الرسول -وهو طفل- قطع هذه الطريق، ذهب مع أمه لزيارة قبر أبيه ثم عاد وحده!.
وإنه الآن ليقطعها وقد بلغ الثالثة والخمسين، لا لزيارة أبويه اللذين ماتا بالمدينة؛ بل لرعاية رسالته التي تشبثت بأرض يثرب جذورها، بعد ما تبرمت مكة بها وبصاحبها وبمن حوله...
إنه أرسخ أهل الأرض يقيناً بأن الله ناصره ومظهر دينه، بيد أنه أسيف للفظاظة التي قوبل بها، وللجحود الذي لاحقه من بدء رسالته حتى اضطره إلى الهجرة على هذا النحو العنيف، ها هو ذا يخرج من مكة وقد أعلن سادتها عن الجوائز المغرية لمن يغتاله...
روى أبو نعيم أن رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) لما خرج من مكة مهاجراً إلى الله قال: الحمد لله الذي خلقني ولم أك شيئاً. اللهم أعنِّي على هول الدنيا وبوائق الدهر ومصائب الليالي والأيام. اللهم اصحبني في سفري، واخلفني في أهلي، وبارك لي فيما رزقتني، ولك فذلِّلني، وعلى صالح خُلُقي فقوِّمني، وإليك ربِّ فحببني، وإلى الناس فلا تكلني. رب المستضعفين وأنت ربي. أعوذ بوجهك الكريم الذي أشرقت له السموات والأرض، وكشفت به الظلمات، وصلح عليه أمر الأولين والآخرين أن تحل علي غضبك، وتُنزل بي سخطك. وأعوذ بك من زوال نعمتك، وفجأة نقمتك، وتحوّل عافيتك، وجميع سخطك. لك العتبى عندي خير ما استطعت. ولا حول ولا قوة إلا بك.
ومما يلفت النظر أن انطلاق الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) من مكة شاع في جوانب الصحراء، وكأن أسلاك البرق طيرته إلى أقصى البقاع. فعلم به البدو والحضر على طول الطريق حتى يثرب، بل إن المحال التي عرج بها وصل نبؤها إلى أهل مكة بعد أن انصرف عنها.
والناس يعجبون بقصص البطولة، وتستثيرهم ألوان التحدي، وهم يتناقلون الأخبار السيالة على الألسن، فيضفون عليها ثياب الأساطير، وقد سُرَّت قلوب كثيرة بغلب محمد عليه الصلاة والسلام على من تبعوه، وترجمت عواطفها هذه شعراً يتغنى به ولا يعرف قائله!!..
من ذلك ما روي عن أسماء بنت أبي بكر قالت: مكثنا ثلاث ليال ما ندري أين وجه رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) حتى أقبل رجل من أسفل مكة يتغنى بأبيات من الشعر:
جزى الله رب الناس خير جزائه رفيقين حلاَّ خيمتي أم معبد
هما نزلا بالبر ثم تروَّحا..! فأفلح من أمسى رفيق محمد
ليَهْنِ بني كعب مكان فَتاتِهمْ ومقعدها للمؤمنين بمرصد!
قالت أسماء: فلما سمعنا قوله عرفنا حيث توجه رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم)، وأن وجهه إلى المدينة !
من القائل؟ تذكر الرواية أنه من الجن! وتلك عادة العرب في نسبة شعرها فلكل شاعر عندهم شيطان..!
والراجح أن الأبيات المذكورة من إنشاد مؤمن يكتم إيمانه بمكة ويتسمع أخبار المهاجرين، فيبدي فرحته بما يلقَون من توفيق، ويجد متنفساً لمشاعره المتوارية في هذا الغناء المرسل.
والأبيات تشير إلى واقعة عرضت للرسول عليه الصلاة والسلام في أثناء رحلته، فقد مرَّ على منازل خزاعة ، ودخل خيمة أم معبد، فاستراح بها قليلا، وشرب من لبن شاتها.
3.4 وصول رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) إلى المدينة عند هجرته إليها:
وكذلك ترامت أخبار المهاجر العظيم وصاحبه إلى المدينة ، فكان أهلها يخرجون كل صباح يمدون أبصارهم إلى الأفق البعيد، ويتشوفون إلى مقدمه بلهفة. فإذا اشتد عليهم الحر عادوا إلى بيوتهم يتواعدون الغد، وملء جوانحهم الترقب، والقلق، والرجاء.
وفي اليوم الثاني عشر من ربيع الأول لثلاث عشرة سنة من البعثة برز الأنصار على عادتهم منذ سمعوا بمخرج الرسول عليه الصلاة والسلام إليهم، ووقفوا بظاهر المدينة ينتظرون طلعته ويودون رؤيته. فلما حميت الظهيرة وكادوا ييأسون من مجيئه وينقلبون إلى بيوتهم؛ صعد رجل من اليهود على أطم من آطامهم لبعض شأنه، فرأى الرسول عليه الصلاة والسلام وصحبه يتقاذفهم السراب، وتدنو بهم الرواحل رويداً رويداً إلى المدينة إلى وطن الإسلام الجديد، فصرخ اليهودي بأعلى صوته: يا بني قَيْلة، هذا صاحبكم قد جاء، هذا جدكم الذي تنتظرون...
فأسرع الأنصار إلى السلاح يستقبلون به رسولهم، وسمع التكبير يرُج أنحاء المدينة ، ولبست "يثرب" حلة العيد ومباهجه.
قال البراء: أول من قدم علينا من أصحاب رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) مصعب بن عمير، وابن أم مكتوم. فجعلا يقرئان الناس القرآن، ثم جاء عمار، وبلال، وسعد، ثمَّ جاء عمر بن الخطاب في عشرين راكباً. ثم جاء رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم)، فما رأيت الناس فرحوا بشيء كفرحهم به، حتى رأيت النساء والصبيان والإماء يقولون: هذا رسول الله قد جاء.
يا عجباً لنقائض الحياة واختلاف الناس! إن الذي شهرت مكة سلاحها لتقتله، ولم ترجع عنه إلا مقهورة؛ استقبلته المدينة وهي جَذْلانة طروب، وتنافس رجالها يعرضون عليه المنعة والعدة والعدد...
ومن الطريف أن كثيراً من أهل المدينة لم يكن رأى رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم)، فلما قدم الركب لم يعرفوه من أبي بكر لأول وهلة، حتى إن العواتق كنَّ يتراءينه فوق البيوت يقلن: أيهم هو؟.
ونزل النبي (صلَّى الله عليه وسلم) في بني عمرو بن عوف، فأقام فيهم أربع عشرة ليلة أسس خلالها مسجد قباء . وهو أول مسجد أسس في الإسلام. وفيه نزل قوله تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا}.
14.4 استقرار المدينة بوصول سيد الخلق إليها: رجل العقيدة يسير طوعاً لها، ويجد طمأنينته حيث تقر عقيدته وتلقى الرحب والسعة.
والناس ينشدون سعادتهم فيما تعلقت به هممهم وجاشت به أمانيهم، وهم ينظرون إلى الدنيا وحظوظهم منها على ضوء ما رسب في نفوسهم من عواطف وأفكار..(1/145)
فطالب الزعامة يرضى أو ينقم، وينشط أو يكسل بمقدار قربه أو بعده من أمله الحبيب.
انظر المتنبي كم مدح وهجا؟ وكيف انتقل من الشام إلى مصر، ومن مصر إلى غيرها، وانظر إلى ذكره أحاديث الناس عنه وعن بغيته.
يقولون لي: ما أنت في كل بلدة وما تبتغي؟ ما أبتغي جَلَّ أن يُسْمى
والذي جلَّ أن يسمى صرح به في مكان آخر، فطلب أن تناط به ضيعة أو ولاية!! أي بعض ما وضعته الحظوظ في أيدي الملوك والملاك؛ وإنه ليتعجل هذا الأمل من كافور فيقول: أبا المسك هل في الكأس فضل أنا له؟ فإني أغنِّي منذ حين وتشرب!
والمتنبي في نظري أهل -بكفايته- للمناصب الرفيعة. ولكن التطلع إلى الدنيا بهذا النزق والإلحاح، محكوم بالمشيئة التي ذكرتها الآية الكريمة:
{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ...}.
ومن الناس من يتعشق الجمال ويجري وراء النساء ويجد في المتعة بهن نهمته التي يسكن بعدها ويستكين ويقول:
لا أرى الدنيا على نور الضحى بل أرى الدنيا على نور العيون
ومنهم من يبحث عن المال ويقضي سحابة نهاره وشطر ليله يتتبع الأرقام في دفاتره، يحصي ما وقع في يده ويتربص بما لم يقع، وربما ذهل عن طعامه ولباسه في غريزة الاقتناء التي سدّت عليه المنافذ.
إلى جانب هذه الأصناف تجد فريقاً آخر من البشر لا يطيق الكف عن إسداء الجميل، وبذل النصيحة، ورعاية الصالح العام، وإفناء ذاته في سبيل الفضائل التي ملكت لبه وعمرت قلبه...
إنه يبيت مسهَّداً لو فرَّط في واجب... راحته الكبرى في نشدان الكمال وسعادته القصوى يوم يدرك منه سهماً...
وأصحاب الرسالات رهناء ما تحملوا من أمانات ضخمة، فمغانمهم ومغارمهم وحلهم وترحالهم وصداقتهم وخصومتهم ترجع كلها إلى المعاني التي ارتبطوا بها وحَيُوا لأجلها...
وصاحب الرسالة العظمى محمد بن عبدالله ضرب من نفسه المثل الفذ للمكافحين، فمنذ أخذ على عاتقه تمزيق الأسداف التي ألقت على العالم ليلا كثيفاً من الشرك والخرافة؛ لم يفلح أحد في ثنيه عن عزمه أو تعويق مسيره أو ترضيته برغبة أو ردعه برهبة، وفنيت أمام عينيه فوارق الزمان والمكان، فالغريب عنه إذا عرف الحق قريب، ووطنه إذا تنكر للهدى فهو منه بريء، والمؤمنون به آخر الدهر هم إخوانه وإن لم يشاهدوه.
ولقد عاش في مكة ثلاثة وخمسين عاماً حتى ألفها وألفته، لكنه اليوم يخرج منها إلى وطن جديد يرى فيه امتداد قلبه وثمار غرسه.
والرجال الذين تنبع سعادتهم من قلوبهم ويرتبطون أمام ضمائرهم بمبادئهم لا يكرمون بيئة بعينها إلا أن تكون صدى لما يرون.
فلا غرو إذا دخل محمد (صلَّى الله عليه وسلم) المدينة دخول الوامق المعتز..واستبشر بما آتاه الله فيها من فتح، وتوسم من وراء هذه الهجرة بشائر الخير والنصر.
ثَوَى في قريش بضع عشرة حجة يذكِّر لو يلقى حبيباً مواتياً
ويعرض في أهل المواسم نفسه فلم ير من يؤوي ولم ير واعياً
فلما أتانا واستقرت به النوى وأصبح مسروراً بطيبة راضياً
وأصبح لا يخشى ظلامة ظالم بعيد ولا يخشى من الناس باغياً
بذلنا له الأموال من جل مالنا وأنفسنا عند الوغى والتآسيا
نعادي الذي عادى من الناس كلهم جميعاً وإن كان الحبيب المصافيا
ونعلم أن الله لا رب غيره وأن كتاب الله أصبح هاديا
إن تنظيم الهجرة واستقبال اللاجئين الفارين بدينهم من شتى البقاع ليس بالعمل الهين، وفي عصرنا الحاضر تعتبر هذه الحال مشكلة تحتاج إلى الحل السريع؟
ومتى خلت حياة الرجل العظيم من المشكلات؟
وصادف إبان الهجرة أن كانت المدينة موبوءة (بحمّى) الملاريا، فلم تمض أيام حتى مرض بها أبو بكر، وبلال.
واستوخم الصحابة جو المهجر الذي آواهم، ثم أخذت تستيقظ غرائز الحنين إلى الوطن المفقود.
وكان النبي (صلَّى الله عليه وسلم) يصبِّر الصحابة على احتمال الشدائد، ويطالبهم بالمزيد من الجهد والتضحية لنصرة الإسلام، وقال: "لا يصبر على لأواء المدينة وشدتها أحد من أمتي إلا كنت له شفيعاً وشهيداً يوم القيامة، ولا يدعها أحد رغبة عنها إلا أبدل الله فيها من هو خير منه".
وهذا ضرب من جمع القلوب على المهجر الجديد حتى تطيب به وتنفر من مغادرته.
وعن عائشة قالت: لما قدم النبي عليه الصلاة والسلام المدينة وعك أبو بكر وبلال، فدخلت عليهما فقلت: يا أبت كيف تجدك؟ ويا بلال كيف تجدك؟ وكان أبو بكر إذا أخذته الحمّى يقول:
كل امرىء مصبّح في أهله والموت أدنى من شراك نعله
وكان بلال إذا أقلع عنه يرفع عقيرته ويقول:
ألا ليت شعري هل أبيتنَّ ليلة بوادٍ، وحولي إذخر وجليل
وهل أرِدَنْ يوماً مياه مجنّة وهل يبدوَنْ لي شامة وطفيل؟
قالت: فأخبرت رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) بذلك فقال: "اللهم حبِّب إلينا المدينة كحبنا مكة، أو أشد، اللهم وصحِّحها وبارك لنا في مدِّها وصاعها، وانقل حمّاها واجعلها بالجحفة".
وعن أنس قال رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم): "اللهم اجعل بالمدينة ضِعْفَي ما جعلت بمكة من البركة".
وعن أبي هريرة قال: "كان رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) إذا أتي بأول الثمر قال: "اللهم بارك لنا في مدينتنا وفي ثمارنا وفي مدِّنا وفي صاعنا، بركة مع بركة، اللهم إنَّ إبراهيم عبدك ونبيك وخليلك، وإني عبدك ونبيك، وإنه دعاك لمكة، وأنا أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ومثله معه" ثم يعطيه أصغر من يحضر من الولدان..."
بهذا التشويق والإقبال ارتفع الروح المعنوي بين المسلمين، واتجهت القوى الفتية إلى البناء، متناسية الماضي وما يضم من ذكريات. إن الهجرة الخالصة لا تعود في هِبَة ولا ترجع عن تضحية، ولا تبكي على فائت، بل هي كما قال الشاعر:
إذا انصرفت نفسي عن الشيء لم تكد إليه بوجه آخر الدهر تقبل...!!
5 - أُسُسُ البنَاءِ للمُجتمَع الجَديد في المدينة بعد هجرة المسلمين إليها
1.5 مقدمة أسس البناء للمجتمع الجديد:
ليست الأمة الإسلامية جماعة من الناس همها أن تعيش بأي أسلوب، أو تخط طريقها في الحياة إلى أي وجهة، وما دامت تجد القوت واللذة فقد أراحت واستراحت.
كلا كلا، فالمسلمون أصحاب عقيدة تحدد صلتهم بالله، وتوضح نظرتهم إلى الحياة، وتنظم شئونهم في الداخل على أنحاء خاصة، وتسوق صلاتهم بالخارج إلى غايات معينة.
وفرق بين امرىء يقول لك: همي في الدنيا أن أحيا فحسب! وآخر يقول لك إذا لم أحرس الشرف، وأصن الحقوق، وأرضَ لله وأغضب من أجله، فلا سعت بي قدم، ولا طرفت لي عين...
والمهاجرون إلى المدينة لم يتحولوا عن بلدهم ابتغاء ثراء أو استعلاء.
والأنصار الذين استقبلوهم وناصبوا قومهم العداء. وأهدفوا أعناقهم للقاصي والداني، لم يفعلوا ذلك ليعيشوا كيفما اتفق...
إنهم -جميعاً- يريدون أن يستضيئوا بالوحي، وأن يحصلوا على رضوان الله وأن يحققوا الحكمة العليا التي من أجلها خلق الناس، وقامت الحياة...
وهل الإنسان إذا جحد ربه، واتبع هواه، إلا حيوان ذميم، أو شيطان رجيم؟؟.
ومن هنا شغل رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) أول مستقره- بالمدينة بوضع الدعائم التي لابد منها لقيام رسالته، وتبين معالمها في الشؤون الآتية:
1- صلة الأمة بالله.
2- صلة الأمة بعضها بالبعض الآخر.
3- صلة الأمة بالأجانب عنها، ممن لا يدينون دينها.
2.5 بناء المسجد النبوي في المدينة:
ففي الأمر الأول بادر الرسول عليه الصلاة والسلام إلى بناء المسجد، لتظهر فيه شعائر الإسلام التي طالما حوربت، ولتقام فيه الصلوات التي تربط المرء برب العالمين، وتنقي القلب من أدران الأرض، ودسائس الحياة الدنيا .
والمروي أن الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) بنى مسجده الجامع حيث بركت ناقته، في مربد لغلامين يكفلهما "أسعد بن زرارة" وكان الغلامان يريدان النزول عنه لله، فأبى الرسول عليه الصلاة والسلام إلا ابتياعه بثمنه، وكان المربد قبل أن يتخذ مصلّى كهذه المصليات التي تنتشر في ريفنا. كانت تنبت فيه نخيل وشجر غرقد، ويختفي في ترابه بعض قبور للمشركين.
فأمر الرسول بالنخل فقطع، وبالقبور فنبشت، وبالخرب فسُويَت، وصفّوا النخل قبلة للمسجد -والقبلة يومئذ بيت المقدس- وجعل طوله مما يلي القبلة إلى المؤخرة مائة ذراع، والجانبان مثل ذلك تقريباً، وجعلت عضادتاه من الحجارة، وحفر الأساس ثلاثة أذرع، ثم بني باللبن، واشترك الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) وأصحابه في حمل اللبنات والأحجار على كواهلهم.
وكانوا يروِّحون عن أنفسهم عناء الحمل والنقل والبناء.. بهذا الغناء:
اللهمَّ لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجره!!
وقد ضاعف حماس الصحابة في العمل رؤيتهم النبي عليه الصلاة والسلام يجهد كأحدهم، ويكره أن يتميز عليهم، فارتجز بعضهم هذا البيت:
لئن قعدنا والرسول يعمل لذاك منّا العمل المضلَّل!!
وتم المسجد في حدود البساطة، فراشه الرمال والحصباء وسقفه الجريد، وأعمدته الجذوع، وربما أمطرت السماء فأوحلت أرضه، وقد تفلت الكلاب إليه فتغدو وتروح.
هذا البناء المتواضع الساذج، هو الذي ربَّى ملائكة البشر، ومؤدبي الجبابرة وملوك الدار الآخرة. في هذا المسجد أذن الرحمن لنبيٍّ يؤم بالقرآن خيرة من آمن به، أن يتعهدهم بأدب السماء من غبش الفجر إلى غسق الليل.
إن مكانة المسجد في المجتمع الإسلامي، تجعله مصدر التوجيه الروحي والمادي فهو ساحة للعبادة، ومدرسة للعلم؛ وندوة للأدب، وقد ارتبطت بفريضة الصلاة وصفوفها أخلاق وتقاليد هي لباب الإسلام، لكن الناس -لما أعياهم بناء النفوس على الأخلاق الجليلة- استعاضوا عن ذلك ببناء المساجد السامقة، تضم مصلين أقزاماً!!.
أما الأسلاف الكبار فقد انصرفوا عن زخرفة المساجد وتشييدها إلى تزكية أنفسهم وتقويمها، فكانوا أمثلة صحيحة للإسلام....
والمسجد الذي وجه الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) همته إلى بنائه قبل أي عمل آخر بالمدينة، ليس أرضاً تحتكر العبادة فوقها؛ فالأرض كلها مسجد، والمسلم لا يتقيد في عبادته بمكان.
إنما هو رمز لما يكترث له الإسلام أعظم اكتراث، ويتشبث به أشد تشبث؛ وهو وصل العباد بربهم وصلاً يتجدد مع الزمن، ويتكرر مع آناء الليل والنهار، فلا قيمة لحضارة تذهل عن الإله الواحد، وتجهل اليوم الآخر، وتخلط المعروف بالمنكر!.
والحضارة التي جاء بها الإسلام تذكِّر أبداً بالله وبلقائه، وتمسك بالمعروف، وتبغض في المنكر، وتقف على حدود الله...
ولقد شاهد يهود المدينة ومشركوها هذا الرسول الجديد يحتشد مع صحبه في إقامة المسجد، يمهده للصلاة؛ فهل رأوا سيرة تريب أو مسلكاً يغمز؟؟
روى البيهقي عن عبد الرحمن بن عوف قال: كانت أول خطبة خطبها رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) بالمدينة أن قام فيهم فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: أما بعد: أيها الناس، فقدِّموا لأنفسكم، تعلمنَّ والله ليصعقنَّ أحدكم، ثم ليدعنَّ غنمه ليس لها راع، ثم ليقولنَّ له ربه -ليس له ترجمان ولا حاجب يحجبه دونه-: ألم يأتك رسولي فبلَّغك؟ وآتيتك مالاً وأفضلت عليك؟ فما قدمت لنفسك؟ فينظر يميناً وشمالاً فلا يرى شيئاً، ثم ينظر قدامه فلا يرى غير جهنم، فمن استطاع أن يقي نفسه من النار ولو بشق تمرة فليفعل، ومن لم يجد فبكلمة طيبة، فإن بها تجزى الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والسلام عليكم وعلى رسول الله..!!
3.5 الأخوة بين المهاجرين والأنصار في المدينة:
أما عن الأمر الثاني -وهو صلة الأمة بعضها بالبعض الآخر- فقد أقامه الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) على الإخاء الكامل. الإخاء الذي تمحى فيه كلمة "أنا" ويتحرك الفرد فيه بروح الجماعة ومصلحتها وآمالها، فلا يرى لنفسه كياناً دونها، ولا امتداداً إلا فيها...
ومعنى هذا الإخاء أن تذوب عصبيات الجاهلية، فلا حمية إلا للإسلام.
وأن تسقط فوارق النسب واللون والوطن، فلا يتأخر أحد أو يتقدم إلا بمروءته وتقواه.
وقد جعل الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) هذه الأخوة عقداً نافذاً؛ لا لفظاً فارغاً، وعملا يرتبط بالدماء والأموال؛ لا تحية تثرثر بها الألسنة ولا يقوم لها أثر..!!
وكانت عواطف الإيثار والمواساة والمؤانسة تمتزج في هذه الأخوة، وتملأ المجتمع الجديد بأروع الأمثال...
حرص الأنصار على الحفاوة بإخوانهم المهاجرين، فما نزل مهاجري على أنصاري إلا بقرعة!! وقدر المهاجرون هذا البذل الخالص فما استغلُّوه، ولا نالوا منه إلا بقدر ما يتوجهون إلى العمل الحر الشريف.
روى البخاري أنهم لما قدموا المدينة آخى رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع، فقال سعد لعبد الرحمن: إني أكثر الأنصار مالا، فأقسم مالي نصفين، ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك، فسمِّها لي أطلقها، فإذا انقضت عدتها فتزوجها، قال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك، أين سوقكم؟؟
فدلوه على سوق بني قينقاع، فما انقلب إلا ومعه فضل من أقط وسمن!! ثم تابع الغدُوَ..ثم جاء يوماً وبه أثر صفرة، فقال النبي (صلَّى الله عليه وسلم): "مَهْيَمْ"؟ قال: تزوجتُ. قال: "كم سقتَ إليها". قال: نواة من ذهب!
وإعجاب المرء بسماحة "سعد" لا يعدله إلا إعجابه بنبل عبد الرحمن، هذا الذي زاحم اليهود في سوقهم، وبزَّهم في ميدانهم، واستطاع-بعد أيام-أن يكسب ما يعف به نفسه ويحصن به فرجه!! إن علو الهمة من خلائق الإيمان؛ وقبح الله وجوه أقوام انتسبوا للإسلام فأكلوه، وأكلوا به حتى أضاعوا كرامة الحق في هذا العالم.
وكان رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) الأخ الأكبر لهذه الجماعة المؤمنة. لم يتميز عنهم بلقب إعظام خاص، وفي الحديث: "لو كنت متخذاً من أمتي خليلا لاتخذته -يعني أبا بكر- خليلا، ولكن إخوة الإسلام أفضل".
والإخاء الحق لا ينبت في البيئات الخسيسة، فحيث يشيع الجهل والغش والجبن والبخل والجشع، لا يمكن أن يصح إخاء، أو تترعرع محبة، ولولا أن أصحاب رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) جبلوا على شمائل نقية، واجتمعوا على مبادىء رضية، ما سجلت لهم الدنيا هذا التآخي الوثيق في ذات الله.
فسموّ الغاية التي التقوا عليها وجلال الأسوة التي قادتهم إليها، نمَّيا فيهم خلال الفضل والشرف، ولم يدعا مكاناً لنجوم خلة رديئة.
ذلك، ثم إن محمداً عليه الصلاة والسلام كان إنساناً تجمَّع فيه ما تفرق في عالم الإنسان كله من أمجاد ومواهب وخيرات، فكان صورة لأعلى قمة من الكمال يمكن أن يبلغها بشر، فلا غرو إذا كان الذين قبسوا منه، وداروا في فلكه رجالاً يحيون بالنجدة والوفاء والسخاء.
إن الحب كالنبع الدافق يسيل وحده، ولا يتكلف استخراجه بالآلات والأثقال، والأخوة لا تفرض بقوانين ومراسيم، وإنما هي أثر من تخلِّص الناس من نوازع الأثرة والشح والضِّعة.
وقد تبودلت الأخوة بين المسلمين الأولين لأنهم ارتقوا -بالإسلام- في نواحي حياتهم كلها، فكانوا عباد الله إخوانا. ولو كانوا عبيد أنفسهم ما أبقى بعضهم على بعض!!
على أن تنويهنا بقيمة التسامي النفساني في تأسيس الإخاء، لا يمنع الحاكم من فرضه على الناس نظاماً يؤخذون بحقوقه أخذاً، فإذا لم يؤدوها طوعاً أدوها كرهاً، وذلك كما يجبرون على العلم، والجندية، وأداء الضرائب وغير ذلك.
وقد ظلَّت عقود الإخاء مقدمة على حقوق القرابة في توارث التركات إلى موقعة "بدر" حتى نزل قوله تعالى:
{وَأُوْلُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.
فألغي التوارث بعقد الأخوة، ورجع إلى ذوي الرحم. وروى البخاري عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى:
{وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ...}.
قال: كان المهاجرون -لما قدموا المدينة- يرث المهاجري الأنصاري دون ذوي رحمه، للأخوة التي آخى النبي عليه الصلاة والسلام بينهم. فلما نزلت: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ...} نسخت ذلك ثم قال: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} من النصر والرفادة والنصيحة وقد ذهب الميراث، ويوصي له.
وروي في تفصيل هذا الإخاء أن النبي (صلَّى الله عليه وسلم) تآخى مع علي، وتآخى حمزة مع زيد، وأبو بكر مع خارجة، وعمر مع عتبان بن مالك...الخ.
ومن العلماء من يشك في أخوة الرسول عليه الصلاة والسلام مع علي.
ولكن ما صح أن رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) جعل عليا منه بمنزلة هارون من موسى يؤيد هذه الرواية، وليس يخدش هذا من منزلة أبي بكر ولا استحقاقه الصدارة.
4.5 علاقة المسلمين بغير المسلمين في مجتمع المدينة الجديد بعد الهجرة إليها:
أما الأمر الثالث، وهو صلة الأمة بالأجانب عنها الذين لا يدينون بدينها، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام قد سنَّ في ذلك قوانين السماح والتجاوز التي لم تعهد في عالم مليء بالتعصب والتغالي، والذي يظن أن الإسلام دين لا يقبل جوار دين آخر، وأن المسلمين قوم لا يستريحون إلا إذا انفردوا في العالم بالبقاء والتسلط هو رجل مخطىء بل متحامل جريء!.
عندما جاء النبي عليه الصلاة والسلام إلى المدينة، وجد بها يهود، توطنوا ومشركين مستقرين.
فلم يتجه فكره إلى رسم سياسة للإبعاد أو المصادرة والخصام، بل قبل -عن طيب خاطر- وجود اليهود والوثنية، وعرض على الفريقين أن يعاهدهم معاهدة الند للند، على أن لهم دينهم وله دينه.
ونحن نقتطف فقرات من نصوص المعاهدة التي أبرمها مع اليهود دليلاً على اتجاه الإسلام في هذا الشأن.
جاء في هذه المعاهدة: أن المسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم أمة واحدة.
وأن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيعة ظلم، أو إثم، أو عدوان، أو فساد بين المؤمنين، وأن أيديهم عليه جميعاً ولو كان ولد أحدهم!!
وأنه لا يجيرُ مشركٌ مالاً لقريش ولا نفساً، ولا يحول دونه على مؤمن...
وأنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة، وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثاً ولا يؤويه، وأنه من نصره أو آواه، فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل.
وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.
وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين.
لليهود دينهم وللمسلمين دينهم.
وأن ليهود بني النجار والحارث وساعدة وبني جشم وبني الأوس الخ، مثل ما ليهود بني عوف.
وأن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة.
وأن بينهم النصح والنصيحة والبر، دون الإثم.
وأنه لم يأثم امرؤ بحليفه، وأن النصر للمظلوم، وأن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم.
وأن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره...
وأن بينهم النصر على من دهم يثرب.
وأن من خرج آمن، ومن قعد بالمدينة آمن، إلا من ظلم وأثم..
وأن الله جار لمن بر واتقى..".
وهذه الوثيقة تنطق برغبة المسلمين في التعاون الخالص مع يهود المدينة لنشر السكينة في ربوعها، والضرب على أيدي العادين ومدبري الفتن أياً كان دينهم.
وقد نصت بوضوح على أن حرية الدين مكفولة.
فليس هناك أدنى تفكير في محاربة طائفة أو إكراه مستضعف. بل تكاتفت العبارات في هذه المعاهدة على نصرة المظلوم، وحماية الجار، ورعاية الحقوق الخاصة والعامة، واستنزل تأييد الله على أبر ما فيها وأنقاه، كما استنزل غضبه على من يخون ويغش..
واتفق المسلمون واليهود على الدفاع عن يثرب إذا هاجمها عدو، وأقرت حرية الخروج من المدينة لمن يبتغي تركها، والقعود فيها لمن يحفظ حرمتها.
ويلاحظ أن الرسول عليه الصلاة والسلام في هذه المعاهدة أشار إلى العداوة القائمة بين المسلمين ومشركي مكة وأعلن رفضه الحاسم لموالاتهم، وحرّم إسداء أي عون لهم، وهل ينتظر إلا هذا الموقف من قوم لا تزال جروحهم تقطر دماً لبغي قريش وأحلافها عليهم؟
أكان اليهود صادقين في موافقتهم على هذا العهد؟.
أغلب الظن أنهم لم يكونوا جادِّين حين ارتضوه وقبلوا إنفاذه.
وآفة العهود أن يرتبط الوفاء بها بمدى المنفعة المرجوة منها، فإذا بدا أن المعاهدة المبرمة لا تحقق المطامع المبتغاة، قلَّ التمسك بها والتمست الفرص للتحلل منها.
وقد كان اليهود يبنون عظمتهم المادية والسياسية على تفرق العرب، قبائل متناحرة، فلما دخل العرب في الإسلام وأخذت الحزازات القديمة تتلاشى وتتابعت تؤكد أن الإسلام سوف يصنع من العرب أمة واحدة..استشعر اليهود القلق وساورتهم الهموم، وشرعوا يفكرون في الكيد لهذا الدين والتربص بأتباعه.
ثم إن اليهود في المدينة يكوِّنون البيئة التي تتوافر فيها سوءات التدين المصنوع، والاحتراف السمج بمبادىء السماء، وأبرز خلال هذه البيئات الحقد والنفاق والتمسك بالقشور والولع بالجدل، ومن وراء ذلك قلوب خربة، ونفوس معوجَّة.
وربما اقتبسوا من جوارهم للعرب بعض فضائل الصحراء كالكرم والشجاعة، بيد أن انطواءهم العنصري غلب على سيرتهم، فالتصقت هذه الفضائل بنفوسهم كما تلتصق أوراق الزينة بالجدران المشوهة...
وكان المتوقع أن يرحب اليهود بالإسلام، فإذا لم يرحبوا به فليكونوا أبطأ من الوثنيين في مخاصمته، فإن محمداً (صلَّى الله عليه وسلم) يدعو إلى توحيد الله، وإصلاح العمل، والاستعداد لحياة أرقى في الدار الآخرة، والدين الذي جاء به وقّر موسى وأعلى شأنه، ونوّه بكتابه، وطلب من اليهود أن ينفِّذوا أحكامه، ويلزموا حدوده.
لكن اليهود صمتوا -أولاً- صمت المستريب، ثم بدا لهم فقرروا المعالنة بالجحود.
وهذا الترحيب المتوقع تلمح دلائله في كثير من الآيات، فإن عبدة الأصنام إذا أنكروا النبوة فأهل الكتاب يجب أن يشهدوا بها.
{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ}.
وعبدة الأصنام إذا رفضوا التذكير بالله فأهل الكتاب أحق بأن يخشعوا إذا وجدوا من يذكرهم به {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمْ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ}.
غير أنك تدهش، إذ تجد الجرأة على الله، والنفور من أحكامه، ووصفه بما لا يليق شائعة بين اليهود، شيوعها بين المشركين!
فإذا غضب الإسلام على من ينسب إلى الله ولداً، بشراً أو حجراً، فماذا ترى فيمن يصف رب السموات والأرض بالفقر والبخل؟.
{وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا...}.
{(1/146)
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمْ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ}.
على أن الإسلام يدع أولئك الجحدة في ضلالهم، فلا يستأصل كفرهم بالسيف، ويكتفي بأن يعلن دعوته، ويكشف حقيقته، ويملأ الجو بآياته ومعالمه.
فمن استراح إليها فدخل فيها؛ فبها ونعْمَتْ، وإلا فهو وشأنه، ولا يطالبه الإسلام بشيء إلا الأدب والمسالمة، وترك الحق يسير من غير عائق أو نكير.
ولقد جاء رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) إلى المدينة فمد يده إلى اليهود مصافحاً، وتحمل الأذى مسامحاً، حتى إذا رآهم مجمعين على التنكيل به ومحو دينه، استدار إليهم، وجرت بينه وبينهم من الوقائع ما سنقص أخباره في موضعه...
بتقوى الله والإخلاص له دعمت الناحية الروحية في هذا المجتمع الجديد.
وبالإخاء الحق، تماسك بنيانه وتوثقت أركانه..
وبالعدل والمساواة، والتعاون، رُسمت سياسة الأجانب، وعومل أتباع الأديان الأخرى.
ومن ثم استقرت الأوضاع، ووجد المسلمون متسعاً لتجديد قواهم وترتيب شؤونهم.
5.5 المصطفون الأخيار من صحابة رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) وخبر الأذان للاجتماع للصلاة:
إن المؤمنين الذين صحبوا الأنبياء واقتربوا من حياتهم أتيح لهم ما لم يتح لغيرهم من منابع الصفاء، ووسائل الارتقاء.
إن مشاعرك ترق عندما تسمع النغم العذب، وعواطفك تسمو عندما تقرأ البطولة الرائعة، بل إنَّ الذين يحضرون تمثيل بعض الروايات المثيرة يصبغهم جو القصة المفتعلة، فيضحكون ويبكون، ويهدأون ويضجون.. فما ظنك بقوم يتبعون رجلاً تكلِّمه السماء، ويتفجر من جوانبه الكمال، ويسكب على من حوله آيات الطهر؟ فإذا ثقلت نفوسهم عن خير، دفع بها إلى الأمام، وإذا علقت بمسالكهم شهوة، نقّاها فرد عليها سناءها. إن للعظماء إشعاعاً يغمر البيئة التي يظهرون فيها، وكما يقترب المصباح الخامد من المصباح المشتعل فيضيء منه، تقترب النفوس المعتادة من الفرد الممتاز، فتنطوي في مجاله وتمشي في آثاره!!
وقد التف بمحمد (صلَّى الله عليه وسلم) فريق من الربانيين الأتقياء، كانوا له تلاميذ مخلصين، فزكت -بصحبته- نفوسهم، وشفت طباعهم، حتى أشرق عليها من أنوار الإلهام ما جعلها تنطق بالحكمة وفصل الخطاب.
ولا تحسبن العقل الجبار -مهما أوتي من نفاذ- يستطيع إدراك الكمال بقوته الخاصة، فإذا لم تسدده عناية عليا فإنه سيجوب كل أفق دون أن يبصر غاية أو يهتدي طريقاً، كالطيار الذي يضل في الجو عندما يتكاثر أمام عينيه الضباب. إنه يحكم القيادة، ويضبط الآلات، ويرسل أنوار مصابيحه في أحشاء الغيوم المتراكمة فإذا لم يتلق إرشاداً يحدد له مكانه وبعده وكيف يهبط.. فإنه سيظل يحلق عبثاً..ثم تهوي به الريح في مكان سحيق.
وكم من فلاسفة عالجوا شؤون الكون والحياة. فمنهم من ضل عن الحق على طول بحثه عنه، فلم يصل إليه قط. ومنهم من استغرق في الوصول إليه أعواماً طوالاً، ولو مشى وراء الرسل لانتهى إليه في أيام قصار، وهو في مأمن من الشرود والعثار
ثم إن الإنسان ليس عقلاً فحسب، إنه -قبل ذلك- قلب ينبغي أن يسلم من الأهواء والآثام، وأن ينجو من الشقاوة والظلام، وأن يكون في حنايا صاحبه قوة تسوق إلى الخير والحب، وحادياً يهفو إلى الجمال والرحمة..
والمرسلون الكرام يتعهدون ضمائر البشر بالتعليم والتربية.
وأشبه الناس بهم من اقتفى آثارهم وأخذ في طريقهم، وأول أولئك قاطبة من صحبوهم في حياتهم، وقاسموهم أعباء دعوتهم ومغارم جهادهم..
قال عبدالله بن مسعود: "من كان مستناً فليستنّ بمن مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة. أولئك أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام. كانوا أفضل هذه الأمة، أبرّها قلوباً وأعمقها علماً وأقلها تكلفاً. اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم على أثرهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم..".
ولا شك أن أصحاب محمد يرجحون أصحاب موسى وعيسى.
فإن تاريخهم في الإيمان والجهاد وإبلاغ الدعوة إلى الأخلاف كاملة مضبوطة غير منقوصة ولا محرفة، لا يشبه أي تاريخ آخر..
ونحن نسوق هذه المقدمة بين يدي الكلام عن الأذان، وكيف شرع؟ فإن ميلاد هذه الشعيرة العظيمة، يحمل معه آيات بيِّنة عن عظمة النفوس إذا صفت فنضحت بالحق، وسكن إليها الإلهام..
قال ابن إسحاق: وقد كان رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) حين قدم المدينة إنما يجتمع الناس إليه للصلاة لحين مواقيتها بغير دعوة، فهمَّ رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) أن يجعل بوقاً كبوق اليهود الذين يدعون به لصلاتهم، ثم كرهه، ثم أمر بالناقوس، فنحت ليضرب به للمسلمين للصلاة. فبينما هم على ذلك رأى عبدالله بن زيد بن ثعلبة أخو بني الحارث النداء، فأتى رسول الله فقال: يا رسول الله، إنه طاف بي هذه الليلة طائف، مر بي رجل عليه ثوبان أخضران يحمل ناقوساً في يده، فقلت: يا عبدالله، أتبيع هذا الناقوس؟ فقال: وما تصنع به؟ قال: قلت ندعو به إلى الصلاة. قال: ألا أدلك على خير من ذلك؟ قلت ما هو؟ قال: تقول الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر. أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله. أشهد أن محمداً رسول الله أشهد أن محمداً رسول الله. حيَّ على الصلاة حيَّ على الصلاة. حيَّ على الفلاح حيَّ على الفلاح. الله أكبر الله أكبر. لا إله إلا الله. فلما أخبر بها الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) قال: إنها لرؤيا حق إن شاء الله! فقم مع بلال فألقها عليه فليؤذن بها، فإنه أندى صوتاً منك. فلما أذن بها بلال سمعه عمر وهو في بيته فخرج إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام وهو يجر رداءه يقول: يا نبي الله، والذي بعثك بالحق، لقد رأيت مثل الذي رأى!! فقال رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم): فلله الحمد. وفي رواية: فأمر رسول الله بلالاً فأذن به. قال الزهري: وزاد بلال في نداء صلاة الغداة: الصلاة خير من النوم مرتين. فأقرها رسول الله.
وفي رواية أخرى رأى عمر في المنام: لا تجعلوا الناقوس، بل أذِّنوا للصلاة، فذهب عمر إلى النبي (صلَّى الله عليه وسلم) ليخبره بما رأى وقد جاء النبي عليه الصلاة والسلام الوحي بذلك.
فما راع عمر إلا بلال يؤذن فقال رسول الله حين أخبره بذلك: قد سبقك بذلك الوحي.
وهذا يدل على أن الوحي قد جاء بتقرير ما رآه عبدالله بن زيد..
هذه الكلمات الطيبة التي ترتفع بين الحين والحين تقرع الآذان، وتوقظ القلوب، وتصيح بالناس: هلموا إلى الله..وعاها في رؤيا صالحة ذهن نيِّر، فأسرع بها إلى رسول الله يرويها كما ألقيت في روعه، لتكون نداء المسلمين إلى الصلاة ما أقيمت على ظهر الأرض صلاة..
وتجاوب النفوس مع الوحي هو غاية التألق وقمة الحق، وهو أمارة على أن الهدى أصبح غريزة فيها، فهي تستقيم عليه في اليقظة والنوم، وتتجه إليه على البديهة وبعد التروي، وكان رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) يربط أصحابه بالوحي النازل عليه من السماء ربطاً موثقاً، يقرؤه عليهم ويقرأونه عليه، لتكون هذه المدارسة إشعاراً بما على الصحاب من حقوق الدعوة وتبعات الرسالة، فضلاً عن ضرورة الفهم والتدبر!!
عن عبدالله بن مسعود قال رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم): اقرأ علي القرآن!! فقلت يا رسول الله: أقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال: إني أحب أن أسمعه من غيري! قال: فقرأت عليه سورة النساء حتى جئت إلى هذه الآية: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} قال حسبك الآن، فالتفت إليه، فإذا عيناه تذرفان..
زاد في رواية (شهيداً ما كنت فيهم..).
وإذا كان الاهتداء إلى ألفاظ الأذان قد ترشحت له سريرة مصفّاة، مشغوفة بالعبادة، مشغولة بالحق، فإن من أصحاب محمد (صلَّى الله عليه وسلم) كذلك من اندمجوا في معاني الإيمان، وخلصوا لمعين الرسالة؛ حتى إن الله أمر رسوله أن يقرأ عليهم بعض سور القرآن، تنويهاً بمكانهم عند الله ورسوخهم في آياته.
عن أنس بن مالك قال رسول الله لأبيِّ بن كعب: "إن الله أمرني أن أقرأ عليك": {لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ..} قال أبيِّ: وسمّاني؟ قال: نعم، وفي رواية آلله سماني لك؟ قال: نعم. قال: وقد ذكرت عند رب العالمين؟ قال: نعم، قال: فذرفت عيناه...
6.5 الارتقاء الروحي والجماعي الذي أدركه الصحابة لمعنى العبادة:
وسر الارتقاء الروحي والجماعي الذي أدركه صحابة محمد أنهم كانوا موصولين بالله على أساس صحيح، فلم يشعروا في العمل له بما يشعر به الكثيرون من عنت وتكلف، ولا بما يعانون من شرود وحيرة.
هناك طبيعتان في الإنسان غير منكورتين: الإعجاب بالعظمة، والعرفان بالجميل، فعندما ترى آلة دقيقة أو جهازاً عجيباً أو صورة رائعة أو مقالاً بليغاً فإنك لا تنتهي من تبين حسنه حتى تنطوي جوانحك على الإعجاب بصاحبه، فإن الذكاء العميق والاقتدار البارز يجعلانك تهتز من تلقاء نفسك احتراماً للرجل الذكي القدير!.
وكذلك عندما يسدى إليك معروف أو تمتد يد إليك بنعمة إنك تذكر هذا الصنيع لمن تطوع به، وعلى ضخامة ما نلت من خير يلهج لسانك بالثناء ويمتلىء فؤادك بالحمد، كما قال الشاعر:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة يدي، ولساني، والضمير المحجبا!!
ورسول الإسلام جاء يثير هاتين الطبيعتين نحو أحق شيء بهما، ألست تعجب بالعظمة وتحتفي بصاحبها! ألست تقدر النعمة وتشكر مسديها!
إنك ترمق بإجلال مخترع الطيارة، وكلما رأيتها تشق الفضاء زدت إشادة بعبقريته! فما رأيك فيمن يدفع الألوف المؤلفة من الكواكب تطير في جو السماء من غير توقف ولا عوج! وما رأيك فيمن خلق عقل هذا المخترع، وأودع في تلافيف مخه الذكاء الذي وصل به إلى ما راعك واستثار إعجابك؟
أليس ربك ورب كل شيء أحق بأن تعرف عظمته وتفتح عيونك على آثار قدرته...؟
فإذا عرفت عظمته من عظمة الوجود الذي يحيط بك خجلت من التهجم عليه ونسبة مالا يليق إليه!! وقلت مع العارفين: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}.
إنك لو استضافك شخص كريم ورأيت البشاشة في وجهه والسماحة في قراه حفظت له -ما حييت- هذه المنة، وسعيت جهدك كي تكافئه عليها، وحدثت من تعرف بسجايا هذا المضياف الكريم، فما رأيك فيمن تولى أمرك بنعمائه من المهد إلى اللحد؟ فأنت لا تطعم إلا من رزقه، ولا تكسى إلا من ستره، ولا تأوي إلا إلى كنفه، ولا تنجو من شدة إلاّ بإنقاذه...!!
إن محمداً (صلَّى الله عليه وسلم) وصل الناس بربهم على ومضات لطاف من تقدير العظمة ورعاية النعمة، فهم إذا انبعثوا لطاعته كانوا مدفوعين إلى أداء هذه الطاعات بأشواق من نفوسهم ورغبات كامنة تجيش بتوقير العظيم وحمد المنعم...
والعبادة ليست طاعة القهر والسخط، ولكنها طاعة الرضا والحب!
والعبادة ليست طاعة الجهل والغفلة، ولكنها طاعة المعرفة والحصافة!
قد تصدر الحكومة أمراً بتسعير البضائع فيقبل التجار كارهين؛ أو أمراً بخفض الرواتب فيقبل الموظفون ساخطين.
وقد تشير إلى البهيمة العجماء فتنقاد إليك لا تدري إلى مرتعها تسير أم إلى مصرعها.
تلك أنواع من الطاعات بعيدة عن معنى العبادة التي شرع الله للناس، فالعبادة التي أجراها الله على الألسنة في الآية الكريمة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} والتي جعلها حكمة الوجود وغاية الأحياء في قوله:
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِي}.
تعني الخضوع المقرون بالمعرفة والمحبة، أي الناشىء عن الإعجاب بالعظمة والعرفان للجميل..
وقد اطَّردت آيات القرآن تبني سلوك المؤمنين على هذه العمد الراسية.
فهي -إذ تعرِّف الناس بالله- تريهم صحائف مشرقة من خلقه البديع، وفضله الجزيل، تمزق ما نسجته الغفلة على الأعين من جهالة وجحود.
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمْ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمْ الْأَنهَارَ. وَسَخَّرَ لَكُمْ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ. وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}.
إن الرجل لا يقوم بالعمل العظيم وهو منساق إليه بالسياط الكاوية، إنما تولد الإجادة ويبلغ الشيء درجة الإحسان بما يقارنه من رغبة ورضا.
فإذا أقبل المرء بفكره وقلبه على معتقد وهب له نفسه وحسه، وعاش يحلم به في منامه، وينشط له في يقظته، فذلك يرقى به صعداً في فهم مبدئه وإجادة خدمته.
ومن ثَمَّ فإن الإسلام لا يحفل بالإيمان النظري البحت ولا يقبله إلا ليكون سُلّماً إلى ما بعده، وهو الإيمان بالعقل والعاطفة معاً.
لابد من تلوين الوجدان في قضايا الإيمان، ليس بمسلم من يعرف الله ويكرهه، ولا قيمة لمسلم يعرف الله ووجدانه خال باهت، فلا إعجاب فيه ولا شكران، كما أنه لا غمط فيه ولا جحود.
والمسلم كل المسلم هو الذي يعرف الله معرفة اليقين، ويضم إلى هذه المعرفة إحساساً يعترف بمجادة المجيد ونعماء المنعم، تباركت أسماؤه!
والإيمان بهذه المثابة هو الإيمان المنتج، وهو صانع العجائب، وباني الدول، ومقيم الحضارات السنية، هو الذي يجعل الفرد يستحلي التكاليف المنوطة بعنقه، فيقبل على أدائها وكأنها رغبات نفس لا واجبات دين..
أتظن أن رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) عندما قام يصلي حتى تورمت أقدامه كان يغالب الألم الناتج في بدنه كما يغالبه التلميذ المذنب، عندما يوقف الساعات الطوال معذباً مهاناً؟
كلا..كلا..إن استعذابه للمناجاة واستغراقه في الخشوع أذهلاه عما به، وغلبا على بوادر الألم الناشىء من طول الوقوف.
والرجل الموفور الحماس، الفائر العاطفة، قد يظل يعمل ويدأب حتى يصل في عمله ودأبه إلى درجة يصعب منالها على القاعدين الباردين.
ووزن الأمور عند أصحاب الإيمان والهمم غير وزنها عند أصحاب الريبة والعجز، ألا ترى حذيفة بن اليمان عندما انطلق يتعرف أحوال المشركين في غزوة الخندق، في ليلة باردة قارصة الجو لافحة السبرات:
لا ينبح الكلب فيها غير واحدة حتى يلف على خيشومه الذنبا!
لقد انطلق وهو يقول عن نفسه: كأنما أسير في حَمّام..
هذه حرارة الإيمان غمرت -بدفئها- الرجل، وجعلته ينفذ في كبد الليل البارد وكأنه سهم مسدد.
هذا الإيمان المرتكز على العواطف المتقدة، هو الذي أشعل المعارك الطاحنة، وقاد إلى النصر المظفر، وهو الذي هدم ما تركز قروناً طويلة في سلطان الظلم والبغي، بعدما ظن أنه لن يطيح أبداً.
وأساسه ما علمت من تغلغل الإيمان في العقل والعاطفة معاً، يغذو شجرته الباسقة مزيد من معرفة الله والشعور بعظمته ونعمته.
ذلكم أسلوب القرآن في تعريف الناس بالله. إنه أسلوب يقيمهم على عبودية الحب والتفاني، لا على عبودية التحقير والهوان، عبودية الإعجاب بالعظمة والإقرار بالإحسان، لا العبودية المبهمة التي تصادر الإرادة وتزري بالإنسان.
{قل: الحمدُ لله وسلامٌ على عبادِهِ الذين اصطفى؛ آللهُ خيرٌ أمّا يشركون؟ أمَّنْ خلق السموات والأرضَ، وأنزلَ لكم من السماءِ ماءً، فأنبتنا به حدائق ذاتَ بهجةٍ ما كان لكم أن تنبتوا شَجَرها؛ أإلهٌ مع اللهِ؛ بل هم قومٌ يَعدِلون!. أَمَّنْ جَعل الأرضَ قراراً، وجعل خلالها أنهاراً، وجعلَ لها رَواسيَ، وجعل بين البحرين حاجزاً؟ أإِلهٌ مع اللهِ، بل أكثرهم لا يعلمون!. أمَّنْ يجيب المضطر إذا دعاه، ويكشفُ السوءَ، ويجعلكم خلفاءَ الأرضِ؛ أَإِلهٌ مع اللهِ! قليلاً ما تذكَّرون! أمَّنْ يهديكم في ظُلماتِ البرِّ والبحر، ومنْ يُرسلُ الرِّياح بُشْراً بين يدَي رحمته؛ أإلهٌ مع الله! تعالى عما يشركون!. أَمَّنْ يبدأ الخلق ثم يعيده، ومن يرزُقكم مِنَ السماءِ والأرضِ؛ أإلهٌ مع الله! قل هاتوا بُرهانكم إن كنتم صادقين}.
إن هذا التساؤل المتواصل السريع يفتح على النفس آفاقاً بعيدة من الإيمان الذكي، ويجعلها تهرع إلى الله متجردة، تنفر من شوائب الشرك نفور الرجال الكبار من عبث الصبية.
وآيات النظر والتفكير يدور -أغلبها- على هذا المحور الثابت.
وربما احتاجت النفس -في ساعات غرورها- إلى لون من أدب القمع والتوعد يكبح جماحها، وهذا لا يتنافى -البتة- مع الأصل الذي قررناه آنفاً، فإن قسوة الأب مع ولده -حيناً- لا تغير من طبيعة الحنان فيه.
والقرآن إذ يحرك المواهب السامية في الإنسان -بعرض آثار القدرة العليا عليه- قد يردف ذلك بوخزات الإحساس المخدر، ليلتفت ويعقل، لا لينكمش ويجبن.
قال تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ}.
ويقول بعد ذلك: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}.
وقد سلك رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) المنهج نفسه في غرس الإيمان ورعاية ثماره.
وكانت سيرته في الإقبال على الله درساً حياً، يفعم الأفئدة بإجلال الله وإعظامه والمسارعة إلى طاعته، والنفور من عصيانه.
وكانت القلوب تتفتّح على هدى الله ورسوله، فما تسع بعده شيئاً.
عن جُبير بن مُطعم سمعت النبي عليه الصلاة والسلام يقرأ في المغرب بالطور فلما بلغ الآية: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَأَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمْ الْمُسَيْطِرُونَ}.
كاد قلبي أن يطير..!!.
ومد الإيمان من فكرة في الرأس إلى عاطفة في القلب تجعل الرجل ينبض باليقين والإخلاص هو من صميم السنة. وهو مهاد الخلال الفاضلة التي سادت المسلمين وأعلت شأنهم، وهو معنى الحديث المشهور "ثلاث من كنَّ فيه وجد بهن طعم الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن أحب عبداً لا يحبه إلا لله، ومن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار".
ومن ذلك أيضاً أن يتغلغل الإيمان بالرسالة والمغالاة بصاحبها إلى حد ينسى الإنسان معه نفسه فهو -عن حب واندفاع، لا عن تكليف ورهبة- يفدي الرسالة وصاحبها بالنفس والنفيس.
عن عبدالله بن هشام: قال: كنا مع النبي عليه الصلاة والسلام وهو آخذ بيد عمر، فقال عمر: يا رسول الله، لأنت أحب إليَّ من كل شيء إلا نفسي! فقال الرسول (صلَّى الله عليه وسلم): لا -والذي نفسي بيده- حتى أكون أحبّ إليك من نفسك، فقال عمر: فإنه الآن لأنت أحبُّ إلي من نفسي! فقال رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم): الآن يا عمر.."، أي الآن فقط تم إيمانك.
وهذا الحديث يحتاج إلى إيضاح. إن الفضائل لا يجوز أن تطيش بها كفة.
وقد احترم الناس خلق الوفاء في السموأل لمّا ترك ابنه يذبح، مؤثراً أن تسلم ذمته، ويرد إلى من ائتمنه وديعته.
والمرء إذا ضحى بنفسه فداء شرفه، فقد أدى واجبه.
ومحمد (صلَّى الله عليه وسلم) لم يطلب من الناس أن يقدسوا فيه صورة اللحم والدم، ولا أن يرغبوا بنفسه عن أنفسهم ليموتوا كي يحيا أو ليهونوا كي يعظم، أو ليفتدوا أمجاده الخاصة بأرواحهم وأموالهم، أو ليتأله فوقهم كما تأله فرعون وأمثاله من الجبارين.
كلا كلا، فمحمد يريد من المؤمنين أن يقدسوا فيه معنى الرسالة وأن يقتدوا فيه مثلها العالية، وأن يصونوا -في شخصه- معالم الحق المنزل ومآثر الرحمة العامة.
إن الأنبياء لم يحيَوا لأنفسهم، والمصيبة فيهم لا تنزل بهم أو بأهلهم خاصة.
إنهم يحيون للعالم كله. أليسوا مناط هدايته التامة وسعادته العامة؟
فلا غرو إذ كانت تفديتهم من أصول الإيمان ومعاقد الكمال.
وقد كان محمد (صلَّى الله عليه وسلم) أهلاً لأن يحب؛ وما تعرف الدنيا رجلاً فاضت القلوب بإجلاله، وتفانى الرجال في حياطته وإكباره مثل ما يعرف ذلك لصاحب الرسالة العظمى محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام.
7.5 قيادة الرسول في المدينة التي تهوي إليها الأفئدة:
عن عبدالله بن سلام قال: أول ما قدم رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) المدينة انجفل الناس إليه، فكنت فيمن جاءه، فلما تأملت وجهه واستثبتّه علمت أن وجهه ليس بوجه كذاب! قال: وكان أول ما سمعت من كلامه أن قال:
أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلُّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام.
إن أضواء الباطن تنضح على الوجه فتقرأ في أساريره آيات الطهر، وقد ذهب عبدالله يستطلع أخبار هذا الزعيم المهاجر، فنظر إليه يحاول استكشاف حقيقته، فكان أول ما اطمأن إليه بعد التثبّت من أحواله أن هذا ليس بكاذب، والملامح العقلية والخلقية لشخص ما لا تعرف بنظرة خاطفة، ولكن الطابع المادي الذي يضفي على الروح الكبير كثيراً ما يكون عنواناً صادقاً على ما وراءه.
على أن الذين عاشروا محمداً (صلَّى الله عليه وسلم) أحبوه إلى حد الهيام، وما يبالون أن تندق أعناقهم ولا يخدش له ظفر.
وما أحبوه كذلك إلا لأن أنصبته من الكمال الذي يعشق عادة لم يُرزق بمثلها بشر.
كان ثوبان مولى رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) شديد الحب له، قليل الصبر عنه، فأتاه ذات يوم وقد تغيّر لونه، يعرف الحزن في وجهه، فقال له رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم): ما غيَّر لونك؟ فقال: يا رسول الله، ما بي مرض ولا وجع؛ غير أني إذا لم أرك استوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك، ثم إني إذا ذكرت الآخرة أخاف ألا أراك لأنك ترفع إلى عليين مع النبيين؛ وإني إن دخلت الجنة كنت في منزلة أدنى من منزلتك، وإن لم أدخلها لم أرك أبداً، فنزل قوله تعالى:
{ومن يُطع الله والرسول فأولئكَ معَ الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدِّيقين والشهداء والصالحين، وحسُن أولئك رفيقاً}.
وفي الحديث "المرء مع من أحب" والمقصود حب الأسوة لا حب الهوس، فإن الرجل إذا أحب من هو مثله أو أعلى منه، فأساس هذا الحب تفتح قلبه لخلال النبل التي خصوا بها، وعظمة المواهب التي ميزهم بها القدر.(1/147)
وآثار الشجاعة والكرم لا يرحب بها الجبان الشحيح، إنما يحييها في أصحابها من أوتي حظاً منها، وهو بسبيله إلى استكمال ما فاته من تمامها.
فمن نعمة الله أن يلحق بالعظماء من يعشق فيهم جمال العظمة، ولذلك قال بعد الآية السابقة: {...ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنْ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا}.
والحق أن التابع المحب شخص فاضل.
ففي الدنيا كثيرٌ من الأخسّاء الذين إن عَلَوا حقَّروا من دونهم، وإن دنَوا كرهوا من فوقهم! فما تدري متى تخلو نفوسهم من أحاسيس البغضاء والضَّعَة؟
أما عشاق المبادىء المجردة، فما أن يجدوا رجلها المنشود حتى يحيطوا به، وتلمع عيونهم حباً له، أي حباً للمبادىء التي حييت فيه وانتصرت به.
وما كان ربك ليضيع هذا اليقين ولا أصحابه الأبرار.
عن أنس قال: لما كان اليوم الذي دخل النبي (صلَّى الله عليه وسلم) فيه المدينة أضاء منها كل شيء. فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء، وما نفضنا أيدينا من دفنه حتى أنكرنا قلوبنا.
فانظر إلى بشاشة العاطفة الغامرة كيف صبغت الآفاق بألوانها الزاهية، وانظر إلى حسرة الفقد كيف تخلِّف سوادها الكابي على كل شيء!!
هكذا كانت دار الهجرة، لقد أحبت الله وأحبت رسوله.
فكان هذا الحب المكين سر انتصارها الرائع للإسلام، ومبعث التضحية عن طيب نفس بكل مرتخص وغال.
وقوم يربطهم بقائدهم هذا الإعزاز الهائل، تندكُّ أمام عزائمهم الأطواد الراسية.
سأل الحسن بن علي هند بن أبي هالة عن أوصاف رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) فوصف له بدنه فكان مما قال: "...يمشي هوناً، ذريع المشية -واسع الخطو-. إذا مشى كأنما ينحط من صبب -يهبط بقوة- وإذا التفت التفت جميعاً. خافض الطرف.نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، جلُّ نظره الملاحظة -أي لا يحدِّق- يسوق أصحابه، ويبدأ من لقيه بالسلام".
قلت: صف لي منطقه. قال: كان رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) متواصل الأحزان، دائم الفكرة، ليست له راحة، ولا يتكلم في غير حاجة، طويل السكوت، يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه -لا بأطراف فمه- ويتكلم بجوامع الكلم، فصلاً، لا فضول فيه ولا تقصير، دمثاً، ليس بالجافي ولا المهين. يعظم النعمة وإن دقت. لا يذم شيئاً، ولم يكن يذم ذواقاً -ما يطعم- ولا يمدحه. ولا يُقام لغضبه إذا تُعرِّض للحق بشيء حتى ينتصر له. ولا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها -سماحة- إذا أشار أشار بكفه كلها. وإذا تعجب قلبها. وإذا غضب أعرض وأشاح. وإذا فرح غض طرفه. جلُّ ضحكه التبسُّم، ويفترُّ عن مثل حَبِّ الغمام.
وقال ابن أبي هالة يصف مخرجه -على الناس-: كان رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) يخزن لسانه إلا عمّا يعنيه، يؤلِّف أصحابه ولا يفرقهم، يكرم كريم كل قوم ويولِّيه عليهم، ويحذر الناس ويحترس منهم، من غيرأن يطوي عن أحد منهم بِشْره.
يتفقد أصحابه ويسأل الناس عما في الناس، ويحسِّن الحسن ويصوبه، ويقبح القبيح ويوهنه، معتدل الأمر غير مختلف، لا يغفل مخافة أن يغفلوا أو يملُّوا.
لكل حال-عنده عتاد، لا يقصر عن الحق ولا يجاوزه إلى غيره.. الذين يلونه من الناس خيارهم، وأفضلهم عنده أعمهم نصيحة، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة ومؤازرة.
ثم قال -يصف مجلسه-: كان رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر، ولا يوطن الأماكن -لا يميز لنفسه مكاناً- إذا انتهى إلى القوم جلس حيث ينتهي به المجلس ويأمر بذلك، ويعطي كل جلسائه نصيبه حتى لا يحسب جليسه أن أحداً أكرم عليه منه، مَنْ جالسه أو قاومه لحاجة صابره حتى يكون هو المنصرف عنه، ومن سأله حاجة لم يرده إلا بها أو بميسور من القول، قد وسع الناس بسطه وخلقه، فصار لهم أباً وصاروا عنده في الحق متقاربين، يتفاضلون عنده بالتقوى، مجلسه مجلس حلم وحياء، وصبر وأمانة، لا ترفع فيه الأصوات، ولا تؤبن فيه الحرم -لا تخشى فلتاته- يتعاطفون بالتقوى. ويوقرون الكبير ويرحمون الصغير، ويرفدون ذا الحاجة، ويؤنسون الغريب.
وقال يصف سيرته: كان دائم البشر -سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخّاب، ولا فحاش، ولا عتّاب، ولا مدّاح، يتغافل عما لا يشتهي ولا يقنط منه، قد ترك نفسه من ثلاث: الرياء، والإكثار، وما لا يعنيه. وترك الناس من ثلاث: لا يذم أحداً، ولا يعيِّره، ولا يطلب عورته، ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه. إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطير، وإذا سكت -تكلموا. لا يتنازعون عنده الحديث، من تكلم عنده أنصتوا له حتى يفرغ، حديثهم حديث أولهم، يضحك مما يضحكون منه، ويعجب مما يعجبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة في المنطق ويقول: إذا رأيتم صاحب الحاجة يطلبها فأرفدوه. ولا يطلب الثناء إلاّ من مكافىء.
هذه خطوط قصار لما يراه الناس من مظاهر الكمال في سيرة النبي "المحمد".
أما حقيقة ما بني عليه هذا الرسول الكريم من أمجاد وشمائل فأمر لا يدرك كنهه، ومعرفة العظماء لا يطيقها كل أحد، فكيف بعظيم خلائقه القرآن؟ إن الأمة التي أخرجت للناس في المدينة بلغت الأوج.
كانت تعمل وتجاهد لله وحده، وتسعى إلى غايتها المرموقة في جذل وثقة.
التفت حول نبيها التفاف التلامذة بالمعلم، والجند بالقائد، والأبناء بالوالد الحنون.
وتساندت فيما بينها بالأخوة المتبادلة المتناصرة، فهم نفس واحدة في أجسام متعددة، ولبنات مشدودة في بناء متسق صلب.
وأدارت علاقاتها بالآخرين على العدل والبر، فليس يظلم في جوارهم بريء. أو يحرم من ألطافهم عان.
وبرغم ما وقع عليها من بغي قديم، فقد جعلت الإسلام يجبُّ ما قبله.
فمن تطهر من جاهليته وتاب إلى ربه فلا نظر إلى ماضيه، بل ينضم إلى الأمة المسلمة عضواً كريماً فيها، تغفر سيئاته ليستقبل -بصالح عمله- كتابه الجديد.
أما الذين بقوا يكفرون ويصدّون، فلابد من الإعداد لهم، حتى تخلص الأرض من كفرهم وصدهم.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا. إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا}.
كانت هذه الأمة تكدح لله وتصل مساءها بصباحها في عبادته، وقد حزمت أمرها على واحد من اثنين: إما أن تحيا لله، وإما أن تموت فيه!.
ولو ذهبت توازن بين المسلمين يومئذ وبين سائر العالم، لرأيت عناصر الغلب والامتياز تتجمع -لديهم- صاعدة، على حين تفور -في كيان الملل الأخرى- زلازل حاطمة؛ فلا غرو إذا صاروا بعد سنين معدودات دولة فتية، تقضي لربها ولنفسها ما تشاء.
ثم إن الشرائع المفصّلة أخذت تنزل في المدينة منظمة أحوال المسلمين الخاصة والعامة، ومبينة قواعد الحلال والحرام على تدرج، إلى أن وصلت إلى وضعها الأخير كما سجلها تاريخ التشريع.
فقامت الحدود، وفرضت الزكاة والصيام، وزيدت ركعات الصلاة لأول العهد بيثرب.
عن عائشة: فرضت الصلاة أول ما فرضت ركعتين فأقرت صلاة السفر وزِيدَ في صلاة الحضر.
( من كتاب فقه السيرة للغزالي )
ــــــــــــ(1/148)
من تراث رجالات الدعوة في مناسبة الهجرة
القيادات التاريخية للإخوان المسلمين
- الإمام البنا: الهجرة درس في حب الله
- الهضيبي: الدعوة تضحية بالوقت والجهد والمال
- التلمساني: المسلمون حياتهم كلها هجرة
تمثل الهجرة النبوية الشريفة مناسبةً يحتفل بها المسلمون كل عام، تتبارى في الاحتفاء بها الأقلام وألسُن الخطباء، ويحفظ التاريخ مقالاتٍ وخطبًا لرجالات الدعوة، ومن هؤلاء الأئمة حسن البنا وحسن الهضيبي وعمر التلمساني رحمهم الله جميعًا، وفيما يلي ننشر جانبًا من تراث هؤلاء الأعلام:
1- فضيلة المرشد العام الأستاذ حسن البنا يتحدث عن الهجرة:
نظرات في الهجرة
نحمد الله تبارك وتعالى، ونصلي ونسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.. أما بعد!!
أيها الإخوان الفضلاء.. أحييكم بتحية الإسلام تحيةً من عند الله مباركةً طيبةً، فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
إنكم أيها الإخوان في حفل تكريم الآن، وفي ذكرى رسول كريم؛ لأنكم اجتمعتم في تاريخ هجرته المباركة التي جاءت فاصلاً بين الحق والباطل، بل ظهر الحق وغاب الباطل ?وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ? (الحج: من الآية 40).
أيها الإخوة برغم هذا أعتذر إليكم إن لم يتسع لكم المكان، فقد وسعتكم صدورنا، فلا تضيق صدوركم من زحام شديد، فإن به الرحمةَ تتنزل والخير يفيض، أفسحوا لهذه الذكرى من صدوركم ومشاعركم، فإنها- بكل الحق- فيها العبرة والعظة ?لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا? (الأحزاب: الآية 21).
أيها الإخوة.. ونشكر لكم تلبيتكم هذه الدعوة، ونهنئكم بهذه الذكرى، ونسأل الله- تبارك وتعالى- أن يُعيدها على الأمة الإسلامية بالأمن والإيمان والطمأنينة والسلام، وإنه أكرم مسئول وأفضل مأمول.
أيها الإخوان.. إن الحديث عن الهجرة حديث يطول، ولكن سأستلهم من هذا الشعور الفياض وذلك التطور الجديد ذلك المعنى السامي الذي أحدثته الهجرة في النفوس.
لا شك أيها الإخوة أنَّ القلب الإسلامي والعقل الإسلامي والأمة الإسلامية في تطور جديدٍ وشعور جديد، أشرقت أنواره، وبدت مطالعه في هذه المظاهر البهيجة، وفي هذه العاطفة الروحية التي تزداد بها الأرواح إشراقًا، وتزداد بها الوحدة تماسكًا، تحسُّ أثرَه يا أخي في المساجد والجمعيات والجماعات، ففي كل مكانٍ يوجد مظهر، وفي كل ناحية من نواحي الخير تجد قلوبًا تتطلَّع إلى المستقبل المليء بالخير.
سأستلهم أيها الإخوة هذا المعنى الذي أتحدث إليكم فيه عن الهجرة ومعانيها السامية في كلمة رئيس الدولة في رسالته التي يخاطب بها شعبه، ويستنهض بها الأمةَ الإسلاميةَ، والتي قال فيها: "أذكر مع الذاكرين فيه الأماني، وتمتلئ القلوب قوةً وأملاً وإيمانًا بالله، تعالت قدرته، وعلت مشيئته.
إن هجرة الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- قد أودعت ضمير الزمان مبادئَ شرفت بها الإنسانية، وسما بها قدر الإنسان، ومن حق الذين يحتفلون بذكرى الهجرة أن يهنأوا، فإليكم حقكم من هذه التهنئة الخاصة، وإلى المسلمين جميعًا في كل مكان تحياتي مشفوعة بأماني المجد لهم.
إنَّ رئيسَ الحكومة يهيب بالمسلمين في حديث الهجرة فيقول: "لقد هانت الحياة حين عزت العقيدة، وصغرت الدنيا حين كبر المقصد وسمت الغاية، فما قيمة الحياة بغير لبابها؟ بل ما غناء الدنيا بدون شرفها؟ وإن لباب الحياة لهو العقيدة، فإذا خلت منها فهي ذلٌّ وصَغار، وإنَّ شرف الدنيا أن يعمل الإنسان على إقالة العثار، ويعين على نوائب الحق، فإذا استنام للباطل، فليس له من الدنيا نصيب إلا ليل ونهار، والمرء بينهما خيالٌ سارٍ".
وإنَّ فضيلة شيخ الأزهر في حديثه عن الهجرة يقول: "إنه إذ يذكر مزاياها، إنما ننشر للناس ما يجب أن يعلموه من معاني الصبر والتضحية والثبات على المبدأ والحياة الشريفة أو الموت في سبيل المبدأ".
أيها الإخوان.. هذا تطور جديد في الشعور الإسلامي والقلب الإسلامي، والذي كانت قلوبنا تهتف به؛ لأنها لم تكن تقيدها القيود والرسوم، ولم تكن الأحوال الشكلية تحولُ بينها وبينه، وما كنا نطمع أن يهتف به عليةُ القوم وجلة الناس وأهل النفوذ فيهم، بل كنا نعتبر هذا أمنيةً، فإذا أحلام الأمس حقائق اليوم ?وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ* بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ? (الروم: 4، 5).
وإذا كان رئيس الدولة يقول إن هجرة الرسول- صلوات الله عليه وسلامه- قد أودعت ضمير الزمان مبادئَ شرفت بها الإنسانية، وسما بها قدر الإنسان، فإني أحب أن أتناول شيئًا من البيان لهذه المبادئ.. هذه المبادئ العليا- أيها الإخوان- قد أنتجتها هجرةُ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأودعتها ضمير الزمان وشرفت بها الإنسانية، وأثَّرت في حياة الأمة الروحية، فليست حياة الأمة في الإصلاحات الاقتصادية ولا في نهضاتها الإدارية، ولا في أعمالها الشكلية، فإن هذا في حياة الأمم لا يساوي فيضَ الله- تبارك و تعالى- على القلوب والأرواح متى عرفت ربَّها وخالط الإيمانُ بشاشةَ قلوبها، تعالَوا- أيها الإخوان- نتلمَّس هذا الفيضَ من هجرةِ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى المدينة نجده واضحًا في تلك المبادئ التي أشرقت بها الدنيا وعلا بها قدر الإنسان، والتي امتحن بها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أصحابَه من المهاجرين والأنصار، بعد أن درس هذه المبادئ في دار الأرقم بن أبي الأرقم، فجاءت تلك الهجرة نتيجةً لتلك الدارسات العميقة وانطباعها بتلك المبادئ القويمة، وكان من حظ الدنيا أن استجاب لها المسلمون واستحقوا بها الشهادة شهادةَ الله جلَّت قدرتُهُ ?كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ?(آل عمران: من الآية 110).
تعالَوا أيها الإخوة نتدارس تلك المبادئ؛ لعلنا نستطيع أن نصيبها بنحو ما أصابها أسلافنا من عدة قرون.
أيها الإخوة إن المبادئ التي جاء بها النبي- صلى الله عليه وسلم- والتي ركَّز لها كفاحه في مكة قد أُحيطت بقلوب رجالٍ صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فإذا نحن حاولنا أن ننجح كما نجحوا فعلينا أن ننتهج بنهجهم، ونسلك مسلكهم، وإنهم باعوا أرواحهم لله، وضحَّوا بأنفسهم في سبيل الله ?إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ? (التوبة: الآية 111)، واسمحوا لي أيها الإخوة أن أبيِّن لكم مبلغ ذلك العبء الذي احتمله رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في صقل النفوس وفي غرس المبادئ.
ومضى - صلى الله عليه وسلم - ثلاثةَ عشرَ عامًا يغرس في النفوس مبادئه القويمة وتعاليمه النافعة، ويكرِّر ذلك حتى تعيَه القلوب وتمتزج به الأرواح، وهو بعد هذا يعتقد أن الله أقرب إليه من كل ما عداه، فإذا دعا فلله، وإذا تكلم فلله، وإذا أحسن عملاً فلوجه الله ?أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا? (المجادلة: من الآية 7).
يؤمن الرسول- صلى الله عليه وسلم- حق الإيمان بذلك، ويعلم علم اليقين أن أهل السماء والأرض لو اجتمعوا على أن ينفعوا أحدًا أو يضروه ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً ?قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ? (آل عمران: من الآية 154) ?لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ? (الروم: من الآية 4).. هذا المبدأ يا أخي، وهذه الفكرة استقرت في قلوب طلبة مدرسته الأولية صلى الله عليه وسلم، واستولت على صميم قلوبهم، يعتزون بها ويعملون لها، وما كان لصاحب العقيدة السليمة أن يُفتَن في عقيدته ?وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ? (العنكبوت: من الآية 2).
استقر هذا المبدأ وتمكَّنت هذه العقيدة في نفوس المؤمنين الأُوَل، ثم جاءت الهجرة وأصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على ما هم عليه من العزم والقوة، يتأهبون لها ويسارعون لنيل شرفها، وما كان لهم من قوة يستنصرون بها إلا اعتزازهم بالله واعتمادهم على الله.. ها هو ذا عمر- رضى الله عنه- يتنكَّب قوسه ويطوف بالكعبة، ويمر بالملأ من قريش ثم يقول: من أراد أن تثكله أمه أو ييتَّم ولده فليتبعني، وها هو ذا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يستعد للهجرة وفي صحبته أبو بكر الصديق ثم يخرج ليلاً تاركًا وطنَه وحب قلبه، وأي ألمٍ للنفس وأي شدة لها من أن يترك الإنسانُ بلده ومسقط رأسه، ولكنه في طاعة الله وابتغاء مرضاة الله!!
والهجرة أخت القتل ?وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوْ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ? (النساء: 66) وما كانت مكة بالبلد البغيض، بل هي أعز البلاد إليه، فها هو ذا- صلى الله عليه وسلم- يخاطبها عند فراقه لها فيقول: "يا مكة.. إنك لأحب البلاد إليَّ، ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت".
أيها الإخوة.. ذلك كان حبهم لمكة ولكن الله أحب إليهم من كل شيء ?قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ? (التوبة: الآية 24).
أيها الإخوة.. ويخرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فارًّا بدينه من القرية الظالمِ أهلها، متوخيًا كيدَ أعدائه، فيختبئ في غار ثور، ثم يقول له الصديق أبو بكر رضي الله عنه: والله يا رسول الله لو نظروا تحت أقدامهم لرأَونا، فيقول صلى الله عليه وسلم: "ما بالك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما.. لا تحزن إن الله معنا" ?إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا? (التوبة: الآية 40).
أيها الإخوة.. لقد امتُحن الذين سبقوا من المهاجرين فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا، وامتحن الأنصار بالوفاء والنصرة لهؤلاء، فنجحوا نجاحًا سجَّله الله عز وجل في كتابه: ?وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ? (الأعراف: من الآية 157).
وتمضي الأيام فإذا بهم يكونون له نماذجَ الوفاء، ما تردَّدوا وما تلكأوا، حتى في أحرج المواقف، فها هو ذا سعد بن عبادة- رضى الله عنه- يقول في إحدى الغزوات: إنا صُبُرٌ في الحق، فلا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: "فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون" ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون.. عاشوا على الحق وماتوا على الحق، فنالوا الدرجةَ العليا في سجل الدرجات ?مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً? (الأحزاب: الآية 23).
أيها الإخوة.. ولقد كان من مفاخرهم أنهم كانوا يقاسمون المهاجرين أموالَهم وإن كانت محدودةً، ولكنَّ قلوبَهم كانت عامةً وغير محدودة وسِعَت كلَّ من وفد عليها، وهكذا تحققت معنى الوحدة الوحدة الحقيقية من معرفةٍ إلى صداقةٍ، ومن صداقةٍ إلى حبٍّ، ومن حبٍّ إلى إيثارٍ، ولا عجبَ أن سجَّل القرآنُ الكريم هذه المواقفَ في قوله تعالى: ?وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ? (الحشر: الآية 9).
هكذا يا أخي امتُحِن المهاجرون بالإيمان القوي والصبر، وامتُحِن الأنصارُ بالحب الكامل فنجحوا جميعًا، واستقر المجتمع بتلك المبادئ السامية التي علا بها قدرُ الإنسان وشرفت بها قيمة الإنسان.
أيها الإخوة.. هذه المبادئ التي توحيها الهجرة ها أنتم درستموها وقرأتموها، ولكني أصارحكم أنَّ الدرسَ شيء والعمل بها شيء آخر، كما أنَّ الأخلاق شيء والعمل بها شيء آخر، وعِلم الدين شيء والعمل بالدين شيء آخر، فقد نرى مستشرقًا عالمًا بالدين، وهو على فكرته وعقيدته، وعالمًا يؤلّف في الأخلاق وليس عنده من الأخلاق شيء، وقد لا ينطق الرجلُ بكلمةٍ ولا بجملةٍ من العلم، لكنَّ نفسه دَيِّنةٌ مشرقةٌ منيرةٌ، ولسان الهجرة يفيض كل عام، ويذكرها المسلمون، فهل المسلمون يعتبرون بهذا اللسان ويستمعون لهذا اللسان؟!
إنَّ القلوب لم تتَّجه بعد ولا تريد أن تؤدِّيَ الامتحانَ، وإذا كان هذا حالها فيا ضيعة العمر!! لهذا أهيب بالإخوان المسلمين إذا عرضوا لاحتمال شيءٍ عظيمٍ أهيب بهم إذا عزَّ ذلك على الأمة أن يكونوا نماذج للدعوة الحقة، فإذا رآهم الناس قد تحمَّسوا واعتزُّوا بالإيمان، وتحلوا بالصبر والوفاء والحب والتآخي والبذل والاستعداد والتضحية في سبيل الحق، فسيعملون بعملهم ويتحمسون بحماسهم، فإن الحقوقَ تُطلَب ويُكَافَح في سبيلها.
فسيروا أيها الإخوان على بركة الله، عاملين على إعلاء كلمة الحق، التي يجب أن تتجه إليها قلوبكم اتجاهًا قويًّا ?وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ? (آل عمران: الآية 139).. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
2- فضيلة الأستاذ المرشد حسن الهضيبي يتحدث عن الهجرة في الاحتفال بذكرى الهجرة بالمنصورة- المحرم 1373 سبتمبر 1953، تحدث فضيلة الأستاذ المرشد حسن الهضيبي فقال:
بِسمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أيها الإخوان.. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الأستاذ سيد قطب كان يقول في كلمته: إننا لا يجب أن نهتم كثيرًا بالخطب، ولا ننشر الدين بالخطب، ولهذا فسأكلمكم وأنا جالس؛ لأني لا أريد أن أكون خطيبًا، ولا أحب أن أكون خطيبًا.
يا إخوان..
كنا زمانًا في المدرسة الثانوية، وحيث لم تكن هناك وقتها احتفالاتٌ بالعام الهجري بدرت عندنا فكرةٌ من الغيظ من الاحتلال.. فكرة نتنفس بها في جانبٍ من جوانب الحياة.. فقلنا نحتفل بالعام الهجري، وبعد تعبٍ أجبنا إلى أن نحتفل بهذا العيد، ثم مرت أيام وأنا فكرت: ما الذي استفدناه من الاحتفال بالعام الهجري؟! وجدت أولاً أنه لا فائدةَ لهذا الاحتفال بالمرة.. ندخل الاحتفال عُصاةً ونخرج منه عُصاةً، يعني مثلاً كنَّا ندخل بغير صلاة المغرب ونخرج ولم نصلِّ العشاءَ، وكنا ندخل ولا عِلْمَ لنا بآيةٍ واحدةٍ من القرآن، ونخرج بنفس الحال ولا نعرف آيةً واحدةً من القرآن.
كنا ندرس القانونَ في مدرسة الحقوق ولا نشعر بأنه ينقصنا شيء، وما كنا نشعر بأنَّ هناك دينًا اسمه الإسلام يستوجب علينا أن ندرسَ شريعةَ الإسلام على اعتبار أنَّها قانونٌ حيٌّ، على اعتبار أنها قانون لازم للحياة.. فما فائدة هذه الاحتفالات؟! وبقينا على هذه الحال، وكلما مرَّ الوقت قلَّ أملي في هذه الاحتفالات؛ لأنَّ الكلام الذي يُقال فيها "يدخل من أُذن ويخرج من أُذن"، ولا نتقدَّم به شيئًا.
أليس هذا هو الحق؟! نعم هو الحق وهو الواقع، وجاءت أحداث بالبلد أمَّلنا فيها خيرًا فلم ينتج عنها خير، إلى أن وقعتُ على دعوة الإخوان المسلمين، فعلمت أنَّ هذا قبسٌ من نور، وأنَّ هذا النور يوشك أن يهدي الناسَ كما هداهم أوَّل الأمر.
يا إخوان..
إنَّ دعوةَ الإخوان المسلمين ليست شيئًا جديدًا.. إنها الدين الخالص.. الدين الذي ليس فيه كتب لمطالعتها ليلاً ونهارًا ونرجع إليها.. إنها قولٌ بسيطٌ جدًّا: لا إله إلا الله محمد رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة.. إنها الأخلاق.. إنها الفطرة السليمة.. إنها شيء عملي نعمله كل يوم.
وقد نظرنا حولنا فوجدنا أنَّ الإخوانَ المسلمين أوجدوا في البلد حياةً.. أوجدوا في البلد طائفةً من الشباب استعدَّت بالروح وبالجسم وبالمال لافتداء الدين والوطن، ووجدنا أنَّ هذه الفئةَ ثابتةٌ لا تتكلَّم، لا تهتف باسم أحد، ولا تعظِّم شخصًا ولا تحيِّي إنسانًا، إنما تحيِّي الله سبحانه وتعالى، تحيتهم هتاف لله سبحانه وتعالى، عاملين منيبين طيبين يتوجهون لله بالعمل الطيب، ويعملون في صمت وسكون، إلى أن أتت الأحداث فأثبتت أنهم جنود الله حقًّا.
الدعوة الإسلامية دعوةٌ تشمل الحياةَ كلَّها.. تدخل على الإنسان.. تغيِّر من عقيدته كما غيَّرت عقيدة عبدة الأوثان وعبدة الناس.. تدخل في قلوب الناس فتنير بصائرهم.. تدخل في قلوب الناس فتريهم الحقَّ حقًّا والباطلَ باطلاً.. تريهم الحق فيتبعونه وتريهم الباطل فيجتنبونه، هذه هي دعوة الإخوان المسلمين التي نتحدث عنها، ونقيم هذا الاحتفالَ في الحقيقة لا لنقول لهم العام الهجري فحسب، إنما لنُبيِّن شيئًا من حقيقة دعوة الإخوان المسلمين، ولا أريد أن أطيل في هذا الأمر، إنما أريد أن نرجع إلى يوم الهجرة فقط لأعرض بعض اعتباراتٍ نستفيدها من الهجرة.
يا إخوان..
الحاجة الأولى التي نستفيدها من كلام أخي عبد المعز وكلام أخي سيد.. استفدنا أنَّ الرسول- صلى الله عليه وسلم- منح الدعوةَ كلَّ وقتِهِ وكلَّ روحِهِ وكلَّ جسمِهِ وكلَّ مالِهِ إن كان عنده مال.
فيا أيها الإخوان.. لا تظنُّوا أنَّ كلامي لكم تملقٌ، إنَّ أمامكم الشيء الكثير الذي يجب أن تفعلوه، ولا تظنوا أنَّ مَن انتسب إلى دعوة الإخوان المسلمين قد بلغ منها حظه حقًّا، يجب على من يدخل الدعوةَ أن يهبَهَا ويمنحَهَا كلَّ وقتِهِ وكلَّ جهدِهِ وكلَّ مالِهِ وكلَّ نفسِهِ، فلا نكتفي بالحضور إلى الشعبة فيمكث الواحد فيها طول النهار، إنما يجب أن يمنحَ الدعوةَ كل وقته، وليس معنى كلامي الواحد يدور في الشوارع ينادي بدعوة الإخوان المسلمين، ولا أن ينصرف عن أعماله ولا يجعل له من سبيل إلا الكلام عن دعوة الإخوان المسلمين، ولكن أقول مع ذلك إنه يجب أن يمنحَ دعوةَ الإخوان كلَّ وقته وكلَّ جهده وكلَّ ماله وكلَّ نفسه، وذلك بأن يحقق في نفسه وفي عمله وفي سائر النشاط الذي يعمله في يومه معاني القرآن العظيم.
يجب أن يمنح الواحد هذه الدعوة يمنح هذا الدين كلَّ الوقت ليحققَ المثلَ الأعلى الذي بيَّنه القرآن، ونحن في هذا الطريق لنا مثل أعلى، وفينا من هو مثل أعلى، وفينا من يصلح، وفينا من لا يطيق، ولكن كلنا يريد الوصولَ لله سبحانه وتعالى، وكلنا يريد الصعودَ إلى جبلٍ.. فمنا من يصل إلى القمة، ومنا من يصل إلى منتصف الجبل، ومنا من يظل في السفح، ومنا من يبدأ، لكننا جميعًا لنا وجهةٌ واحدةٌ هي وجهة الله ?أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ? (الزمر: من الآية 3).
فيا أيها الإخوان..
الدين الخالص يقتضينا في التجارة وفي الزراعة وفي معاملتنا للناس، التلميذ في مدرسته، الزارع في زرعه يعبد الله بإتقان عمله ويعبد الله بأن يفكر دائمًا في الله حين يعمل العمل، فيعمله لوجههِ تعالى.. إذن نكون قد منحنا الدعوةَ كلَّ وقتنا وكلَّ جهدنا وكلَّ مالنا، فلا يدخل على الحياة زَيف منها، ولا يدخل علينا الغرور من أي جانب من جوانب أنفسنا، فيجب علينا دائمًا أن نكون مستغرقين في دعوة الله سبحانه وتعالى كما كان رسول الله- عليه السلام- مانحًا كلَّ وقتِهِ بالليلِ والنهارِ، كل حاجة.. كل عمل من أعماله كان خالصًا لوجهه تعالى في تجارته.. في نشاطه.. في كل عمل من أعماله.. كان خالصًا لوجهه تعالى، وكان يؤدِّي هذا الواجبَ عن طيب خاطرٍ وهو شغوفٌ به، فيجب كذلك أن يكونَ لنا في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ، وأن نتَّجه إلى الله العلي العظيم بكلِّ أنفسنا وكل قلوبنا وبكل أرواحنا وبكل ما نملك ونعمل لهذه الدعوة، وبذلك يمكن أن نقول إننا أدَّينا شيئًا نلقى الله به بوجهٍ حسنٍ.
يا أيها الإخوان..
الدعوة كما سمعتم يا إخواني لا تزال كما كانت في أول الأمر، تحفُّها العقبات وتحفها الصعاب، وأراكم حين تشمون طعمَ العافيةِ تطمعون في هذا وتفكرون أنكم وصلتم إلى شيءٍ كبيرٍ.. فأنا أتمنى لكم الشدائد حتى تستحقوا أن تكونوا الإخوان المسلمين.(1/149)
فنسأل الله أن يُديمَ علينا الشدائدَ حتى يُدِيم علينا الإيمانَ الكاملَ، فلا نستطيع أن نمضي في دعوتنا إلى الله إلا إذا أيقنَّا أننا أمام عقباتٍ كثيرةٍ وصعوباتٍ جمَّةٍ ويجب أن نجتازها.. والصعوبات والعقبات تتجدَّد كل يوم، ليس فقط اليوم، وليس فقط صعوبات وعقبات إبراهيم عبد الهادي، إنما ما زال أمامنا الكثير من هذه الصعوبات والعقبات، فيجب علينا أن نفكِّرَ في ذلك، ويجب علينا أن نكونَ مستعدِّين لذلك، ودعوة الإخوان المسلمين لا تحتاج إلا إلى يقظتهم، ولا تحتاج إلا إلى عنايتهم بعد عناية الله بطبيعة الحال؛ لأنَّ دعوةَ الإخوانِ المسلمين أصبحت من الدعوات العالميةِ التي لا يمكن لشخصٍ من الأشخاص أن ينالَ منها. إنَّ دعوة الإخوان لم تَعُدْ دعوةَ جماعةٍ أو جمعيةٍ في مصر يقال لها الإخوان المسلمون؛ إنما أصبحت دعوةً عالميةً.. دعوةً يعرفها المشرق والمغرب، دعوةً ينتظرها الناس جميعًا شرقيهم وغربيهم.. دعوةً ينتظرها المسلمون لإنقاذهم من كل ما هم فيه من بلاء.. ينتظرونها في مراكش وفي تونس وفي المغرب الأقصى وفي ليبيا وفي خليج العرب وفي إندونيسيا وفي تركيا وفي باكستان وفي كل مكان ينتظرون دعوة الإخوان المسلمين.. ويعتقدون أنه لا سبيل لإنقاذهم إلا بالإخوان المسلمين، فإذا كان هذا هو اعتقاد الناس فيكم، وإذا كان هذا أمل الناس فيكم فيجب أن تحققوا أمل الناس، ويجب أن تحققوا رجاء الناس، ويجب أن تهتموا بالدعوة وتتفانَوا فيها، وحينئذ لا يستطيع أن يمسكم أحد.
إنَّ دعوة الإخوان المسلمين ليست شُعَبًا وليست مكاتبَ إداريةً، وليست مكتبَ إرشادٍ، وليست حاجةً اسمها جماعة الإخوان المسلمين، إنما هي دعوةٌ أصبحت في القلوب، لا يمكن أن يحلّها إلا الله، قد تكفَّل لا بحلها ولكن بصيانتها، إنكم إن فعلتم كنتم مجاهدين في سبيل الله، والله تعالى وعد المجاهدين بالخير الكثير فقال ?وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ? (العنكبوت: الآية 69) فإن فعلتم ذلك فلينصركم الله والله قد تكفَّل بالنصر؛ لأنَّ النصرَ ليس بالكثرةِ ولا بالقلةِ، وليس بيد مخلوق وإنَّما هو بيد الله تعالى في آيات القرآن الكريم جميعًا.
إنه اختصَّ نفسه بالنصر فلا يمنحه إلا لعباده العاملين إلا لعباده المتقين إلا لعباده الذين ينصرونه وينصرون دينه ?وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ(41)? (الحج)، فدعوة الإخوان المسلمين لم تصبح لعبةً في يد الناس، وإنما أصبحت حقيقةً في هذا البلد وحقيقةً في بلاد العالم الإسلامي، ولا بد من أن ننتصر ولا بد من أن ننال حقنا وواجبنا بتطبيق كتاب الله تعالى إن عاجلاً أو آجلاً.
يا أيها الإخوان..
لا أريد أن أطيل عليكم، وأرجو أن أراكم بخير وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
3- فضيلة الأستاذ المرشد عمر التلمساني يكتب عن الهجرة
1- المسلمون حياتهم كلها هجرة:
تطلع علينا شمس أول محرم ويومها يهيب بالمسلمين "يا ابن آدم: أنا خلق جديدٌ، وعلى عملك شهيدٌ، فاغتنمني فإني لا أعود إلى يوم القيامة" فماذا أعددنا لعامنا الجديد بعد هذا النداء الصادق من ناصح مخلص وفيّ؟ لم تكن هجرة المصطفى- صلوات الله وسلامه عليه- نتيجةً لفساد المجتمع الذي قامت دعوةُ الإسلامِ فيه، فالدعوة الإسلامية على لسان نبي مرسلٍ لا تكون إلا لمجتمعٍ فسدت أوضاعُهُ، وتضاعفت شروره؛ رغبةً في إصلاحه، وإقامةَ معالم كل خير فيه، حتى يستقيمَ حالُهُ، ويسعد أهله بنوره، فإن لم تكن هذه هي الغاية المقصودة لَمَا كان هناك للرسل والأنبياء برسالاتهم ودعواتهم من مبرر ولا داعٍ.
تتعدَّد الآلهة عندهم فتطالبهم دعوةُ الإسلام بعبادة الواحد الديان، ويشيع الظلم فيأمرهم ربهم على لسان رسوله بعدم التظالم وإشاعة الحرية وبسط المساواة، ويتعالَى البعض على البعض معتزِّين بالمال والجاه والمكانة، فيحذِّرهم رسولهم من التنابز بالألقاب، ويبين لهم أنه لا تفاضلَ إلا بالعمل الطيبِ، ويقدِّم الإنسان الخيرَ لأخيه الإنسان بعيدًا عن الاستغلال والاستعباد، فالداعية لا يقوم إذن بدعوته إلا في وسط سادة العسف والفساد، فكيف إذًا يجوز للداعية أن يهجر موطنه لفساده وسوء حاله، بل الصبر على تأدية الرسالة حتى تؤتي ثمارها مهما قامت في طريقه العقبات، وانهالت عليه الويلات، وتنكَّر له أولئك الذين جاء لهدايتهم وإشاعة كل صور التعاون والحب والتكافل بينهم، فهل يسوغ لنا بعد ذلك أن نهجر موطننا لما شاع فيه من شر وسوء؟! لا أظن.
ولقد كان من أسباب الهجرة اشتداد الأذى بالداعية والمؤمنين معه، وضِيق مكة بالدعوة، فلا بدَّ لهم من موطن يبلغون فيه ومنه ما كلِّفوا به من رب العالمين، ولزامًا أن نراعي هذا المعنى تمامًا مُفرِّقين بين فساد المجتمع وبين الإمعان في الأذى الذي يلحق الداعيةَ ومَن معه من المؤمنين الذين آمنوا بدعوته.
الدعاة والمجتمعات
إنَّ الهجرةَ إذا تمت لا تكون لينعزل الداعيةُ ومن معه عن المجتمع الذي ارتحلوا إليه ثم حلوا فيه مستطيعين فيه أن يؤدُّوا واجبَهم وهم على شيءٍ من الأمن والاطمئنان، على المهاجر أن يعلم علم اليقين- اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم- أنَّه هاجر ليواصِلَ العمل وليبلّغ الرسالةَ وإلا فما بلَّغ الرسالة، أليس هذا أمر الله لرسوله عليه الصلاة والسلام؟! ?يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ? (المائدة: من الآية 67).. فأي مسلم بعد هذا الأمر الواضح الصريح يبتعد عن تبليغ دعوته، خاصةً إذا أتاح الله له من الظروف ما يستطيع معه أن يبلِّغ الرسالةَ على أي صورةٍ من الصور؟!
والهجرة كما يدل اللفظ انتقالٌ من حالٍ لحالٍ، ومن مكان إلى مكان، فهي بهذه المثابة حركة، والحركة عنصر من عناصر الدعوة الإسلامية لا تتم إلا به، فإذا كانت الهجرة حركةً فهي ليست فرارًا بمعنى كلمة الفرار، بل هي عملٌ، والإسلام قول وعمل لا ينفصل فيه أحدهما عن الآخر، فمن لم يقل كلمةَ الشهادتين فلن يُقبَل منه صرفٌ ولا عدلٌ، ومن قال بغير عمل فما ذلك بالإسلام؛ لأنه ما وقر في القلب وصدَّقه العمل.
لم تكن الهجرة على التحقيق فرارًا ولا هزيمةً ولا قعودًا عن الإرشاد إلى الله ودينه، إنما كانت الهجرة قيامَ دولةٍ سادت الدنيا بأسرها وانتشارَ دعوةٍ شملت الكونَ كلَّه، واتساعَ حركةٍ ماجَ بها الوجود.. حياةً وحضارةً وعزةً ورفعةً وعلوَ شأنٍ.
الهجرة وليدةُ تفكيرٍ طالَ به العهد وأعدت له العدة، ونُظِّمَت له الطرق، ولم تكن فرارًا من شقاءٍ إلى نعيم، ولم تكن تركَ جهدٍ إخلادًا إلى راحة، لم تكن سببًا من ذلك على الإطلاق، بل إنَّ جهود المسلمين بعد الهجرة تضاعفت، ومسئولياتهم كبرت واتسعت، وعلموا أنهم دعاة الناس جميعًا إلى الهدى والرشاد.
إن الهجرة لجوء إلى كل حركة تخدم الدعوة، وهجرة من أسلوب إلى أسلوب ومن خطةٍ إلى خطةٍ، وتفتيح لمسالك التحرك المثمر، فالداعية الواعي إذا تعثَّرت به خطة لجأ إلى غيرها؛ سعيًا إلى الله وحرصًا على رضاه واستجلابًا للنتائج الطيبة، هذا مع الالتزام الكامل بأصول دعوته وفروعها، غير مبدل بحجة التطوير ولا مغيِّر بحجة التجديد، فما في هذا الدين من قصور يصلحه التطور، وليس فيه ما يبلى فيحتاج إلى تجديد.
الإسلام أصول وفروع، وكلها واجبة الالتزام والاتباع، أما محاولة النَّيل من العقيدة بحجة المحافظة على الأصول والتغيير في الفروع فهذا لا يكون في الإسلام أبدًا؛ لأنه من يوم أن نزل على هذه الأرض فهو صالح للناس جميعًا على مختلف أوضاعهم وصفاتهم ولهجاتهم وأجناسهم؛ لأنَّ محمدًا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- رسول الله إلى الناس جميعًا، ويوم أن هتف بدعوته في قلب الجزيرة العربية لم يُنَادِ بها العربَ أو العجمَ، وإنما خاطبَ بها كلَّ إنسانٍ على وجه الأرض ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا? (الأعراف: من الآية 158).
بين العزة والهوان
وكما أنَّ الإسلام جاء ليصلح القرون الأولى، فقد جاءَ ليصلح القرون كلها حتى تقوم الساعة، فالقول إنه ما عاد يصلح لزماننا هذا هو غباء في العقول، وضلال في متاهات لا أوَّل لها ولا آخر.. إنَّ الهجرةَ درس وعَاه أسلافنا الأمجاد كما وعوا كل الدروس، فسادوا وعزُّوا وقادوا الدنيا ولم يُقَادوا، ولم نَهُن على الناس إلا يوم أن ضللنا عن هذا الدرس وغيره من دوس النبوة، فتناوشنا الأعداء، وتطاولوا علينا حتى من لا يستطيع الدفع عن نفسه، فعلينا باستظهار الدرسِ والدروسِ بعيدين عن الطنطنة الفارغة والحماس في دنيا الأقوال، فإنَّ الأشد إسراعًا إلى القتال هو أقلهم حياءً من الفرار.
وعلى الشباب ألا يدع الهجرةَ أو أي درس من دروس النبوة يمر به ساهيًا ساهمًا مفرطًا مضيعًا، بل لينتهز شبابه قبل أن يعمر فينتكس في الخلق، وليستعن بحيويته على دفع دماء الدعوة النقية الطاهرة في شرايين المجتمع الذي يعيش فيه ليسموَ به فوق الضياع والتمزق، ويتجه به إلى النصر الصحيح والعزة والكرامة ويمسح من صفحات تاريخه كل بقعة سوداء لوَّثها بها كل عدوٍ غاصبٍ أو دخيل.
إنَّ الطريقَ رسمه الإسلام وحدَّد معالمه، والهجرة درسٌ على الطريق وما أكثر الدروس، وشبابنا مطمع الآمال فليمضوا في الطريق مجاهدين ومثابرين رافعين لواء الدعوة عاليًا خفاقًا عزيزَ الجانبِِِِِِِِ منيعَ الرحابِِِِِِِ، وليقوُّوا سواعدَهم ويرسِّخوا إيمانَهم تخضع الدنيا لهم وليعملوا منتظرين النصر من الله ?إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ(7)? (محمد).
إنَّ الهجرة ماديةً كانت أو معنويةً تأتي بالخير والفتح المبين ?وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)? (النساء).
2- طريق الهجرة والدعوة ليس مفروشًا بالحرير:
هذه الهجرة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة- على ساكنها أفضل صلاة وأكمل تسليم- كانت مقررةً منذ الأزل في سابق علم العليم الخبير، فكان لا بد أن تكون صورةً وزمنًا ومكانًا ليقترن العلم بالعمل.
آذى المشركون أولوا الجاه والنفوذ في مكة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه الأوائل- عليهم رضوان الله- إيذاءً بالغًا في النفس والأهل والمال والولد إيذاءً عصفَ بقلب فاطمة الزهراء- رضي الله عنها- عصفًا أبكاها يوم أن رأت آثارَ الإيذاءِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِ دمًا وجروحًا على وجه أبيها عليه الصلاة والسلام، ورأى الأب الرحيم دموعَ الألم والأسى تنحدر على الوجنات الطاهرة، فما زاد على أن قال: "أتبكين يا فاطمة؟! والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى عمان لا يخشى على نفسه إلا الله والذئب على غنمه" أو كما قال.
الإيمان بصدق وعد لله
لم يكن طريق الرسالات والدعوات مفروشًا بالدمقس والحرير، ولكنه كان- وسيظل- مميزًا بالأهوال والأعاصير، ولأن كان القائمون على الرسالات قد حل بهم طوفان الأذى رغم مكانتهم عند ربهم، فكذلك قد لحق بصحابتهم وتابعيهم من هذا الضرِّ ما لحق بهم، فهذا أبو بكر الصديق آمن الناسُ بصحبتِه لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- يُضرَب حتى تختلط معالمُ وجهِهِ، وهو يذود عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو يصيح فى وجه المعتدين: "أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله" واضحًا غيرَ مستخفٍ بما يؤمن به.
وأبدى الصحابة- رضوان الله عليهم- من التمسك بالدعوة والاستبسال في الذود عنها والتفاني في سبيل الإعلام بها إلى مستوى التعرض لأفدح الأخطار راضين سعداء صابرين ومصابرين.
فهذا عبد الله بن مسعود (وهو أول من جهر بالقرآن في مكة بعد رسول الله- صلى الله عليه وسلم) يجهر بالقرآن على ملأ من المشركين، فينهالون عليه ضاربين حتى تسيل دماؤه، ولما رأى أصحابه ما عليه من إيذاء قالوا له: ما كان أغناك عن ذلك؟! فكان رده المفحم الباهر: "والله لأغادينهم به الغداة" لم يفزع لما أصابه ولم يأسَ عليه، ولكنه يصمِّم ويعالن المشركين بالقرآن، لا يوهن الإرهابُ من عزيمته، ولا يقللُ من تصميمه على تبليغ دعوته.
إنه مؤمن، والمؤمن الوثيق الصلة بربه لا يرهب الشدائدَ، ولا يبالي على أي جنب كان في الله مصرعه، ألم تقرأوا أنَّ عثمانَ بنَ مظعون كان داخلاً في جوار الوليد بن المغيرة، فسلِم من أذى المشركين تقديرًا لذلك الجوار، فلما رأى ما عليه من الأمن والسلامة، ورأى ما عليه رسول الله- عليه الصلاة والسلام- وإخوانه من الإساءة والاعتداء قال يحدِّث نفسه الأبيةَ: "أروح وأغدو في جوار مشرك، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- وصحابته يعذَّبون، والله ما هذا من الإيمان في شيء؟ "وانطلق إلى الوليد يرد عليه جواره الحامي المنيع، وعلِم المشركون أنه لم يعد ممتَّعًا بذلك الحِمى، فانهالوا عليه ركلاً وصفعًا حتى فقد إحدى عينيه، فلما عُتب عليه، قال الرجل المؤمن الصادق المخلص المحب المضحِّي في سبيل الدعوة بكل شيء: "والله إن عيني السليمة في حاجة لما أصاب أختَها ابتغاءَ وجه الله".
ثم يتعرض لفتنة الأمن والسلامة مرةً أخرى؛ إذ جاءه الوليد يعرض عليه العودةَ إلى جواره، ولكنه كان هو الرجلَ الكاملَ الرجولة، المُعِرض عن كل مغريات الحياة سعيًا في سبيل الله، حتى ولو راحت حياته، وهي أغلى على الناس من كل شيء.. كان ردُّه الرائع الذي سُجِّل له في صفحات الخلود: "لا حاجة لي بجوارك، جوار الله خيرٌ لي من جوارك".
وهكذا أنجاه إيمانه من فتنة الأمن والسلامة التي ينشدها الغافلون مهما دفعوا لها ثمنًا، هؤلاء الغافلون المدَّعون، الذين تراهم في الرخاء أسود الشرى، أعلى الناس صوتًا، وأبينهم خطابًا وأشدهم حماسًا، حتى إذا ما أبدى الشرُّ ناجذه، وكشرت المحنة عن أنيابها الداكنة، طارت قلوبهم شعاعًا، وساخت أقدامهم في خزي الانزواء، على مثل هذه الرجولة وهذه التضحية وهذا اليقين تقوم عزة الدعوات، وتنتصر وتسود، أما لو طلب كل مسلم السلامة لنفسه، ولم يبادل خصوم الدعوة النزال لخلا الميدان للطغاة الظالمين يصولون فيه ويجولون، لا رادعَ ولا مناضلَ ولا منكِرَ ولا حسيبَ، قد يكون من جراء الوقفة في وجه الظالم تعذيب وتشريد وتنكيل بل واغتيال كذلك، فما أثَّر ذلك على صاحب العقيدة الرجل وهو يكافح من أجل أشرف غاية وأسمى هدف؛ طلبًا لبالغ المثوبة التي لا تُحصى ولا تُعد ?إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ? (الزمر: من الآية 10).
إنَّ طلب السلامة في مواقف الروع إن لم يقدرها صاحب الملك والملكوت رب العزة والجبروت لن يحصل عليها طالبها، حتى ولو تمرَّغ في قذارة المداهنة والنفاق، وقد حدث في العهد القريب غير البعيد أَنْ آثرَ بعضُ الدعاة السلامةَ على الفداء بالسير في ركاب الظالمين فلم يُغنهم ذلك الهوان من الله شيئًا، فنالهم من السجن والاعتقال ما نال غيرهم من الأُباة النافرين من الذلة المنكِرين للابتذال ?وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ (43)? (العنكبوت).
اشتد الأذى بالمسلمين في مكة، وطال مداه، واستحكمت حلقاته، فكان لا بد من حركة، والحركة حياة الدعوات، وقبس نورها، وقوام أمرها، وسر نجاحها، وجوهر بقائها وسيرها واستمرارها جيلاً بعد جيلٍ، فكانت أول حركة من الحركات في سبيل الدعوة، هذه الهجرة المباركة، والهجرة: ترك الأهل والمال والولد.. المال.. يبسطه الرازق لمن يشاء، ويقبضه عمن يشاء، وقد مات عبد الرحمن بن عوف وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وعبد الله بن مسعود.. ماتوا وهم أثرياء الألوف والملايين وهم قد خرجوا من مكةَ لا يملكون شروى نقير ?وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)? (النساء).
الأهل.. إن أُخوَّة الدين خير من أخوة الدم والنسب، وقد آخى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بين المهاجرين من مكة والأنصار من المدينة، وصار لهم من الزوجات المؤمنات الصالحات ما قرَّت به عيونهم، وطابت به نفوسهم ?وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ? (التوبة: من الآية 71).
الولد.. إنَّ في الله عوضًا عن كلِّ فائتٍٍ، ولقد وُلد للزبير بن العوام في المدينة عبد الله وعروة ومصعب، ولعلي بن أبي طالب الحسن والحسين وابن الحنفية وغيرهم، ولأبي بكر وعمر وغيرهم كثير ?يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ(49)? (الشورى).. المسكن.. لقد اغتنى المهاجرون في المدينة، وبنَوا البيوت، واحتازوا المزارع ?وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48)? (النجم).
الوطن.. وكل مكان ينبت العز طيب، ثم أي وطن هذا الذي يأسى عليه الإنسان إذا ظُلم فيه واضطُّهد وحورب وعُذِّب ودِيسَت فيه حرماته، وهُضمت فيه حقوقه.
لقد أصبحت المدينة وطنَ المهاجرين، فيها قامت لهم دولة، وارتفعت لهم راية، وقويت شوكة، ومن بين دروبها انسالوا انسيال السيل الغدق، ينشرون الإسلامَ أعزةً كرامًا فاتحين.
الإمام الشهيد حسن البنا
إنَّ الأهوالَ والصعابَ سمةٌ من سمات الدعوات الخيرة، وقد كان الإمام الشهيد حسن البنا- مرشد الإخوان المسلمين الأسبق- فاقهًا لهذا المعنى تمامًا حين قال: "ستعذَّبون وتشرَّدون وتحاربون وتحبسون وتُقتَلُون، ويومئذ فقط تكونون قد بدأتم تسلكون طريق أصحاب الدعوات".. وقد صدَّقه الواقع، فقد حُلَّت جماعة الإخوان مرارًا، وسُجِن رجالُهَا وعُذِّبوا، ثم اغتيل هو نفسه، فماذا كانت النتيجة؟!
عادت الجماعة في كل مرة أقوى مما كانت ساعة الحل، واشتاقها الشباب للتفتح على إشراقة دعوة الله، يستوضحون أمرها، ويؤمنون بتعاليمها، ويتَّجِهون نحوها، ويتحدَّثون عن شهدائها في حب وإكبار، وبلغ صوتها مشارق الأرض ومغاربها، في غير ما عنف ولا تخريب ولا إرهاب، ولكن عن طريق الأثر الطيب، والأسوة المجيدة والقدوة اللامعة المضيئة، عن طريقٍٍ واحد ?ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ? (النحل: من الآية 127).
أُخرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من مكة فذهب إلى المدينة، وأُخرج المؤمنون منذ عهد غير بعيد من ديارهم وأموالهم وأهليهم إلى السجون والمعتقلات، فاعتبروها هجرةً إلى الله، لم يضيقوا بها، ولم ييأسوا على ما أصابهم، أخذوا لأواءَها وشدائدها أخذَ المؤمنِ الصابر الفاقه، إنها فترةٌ من فترات حياتهم، قضى الله في سابق علمه أن تكون على هذه الصورة، فأحسنوا استقبالها، وادَّخروا رصيدَها، وصبروا وصابروا معها، لم تتزعزع العقيدة في وجدانهم ولم تهتز، فبهم ثقةٌ، ولم يتبدل فيهم يقين، ثم كان ما كان.
إننا ما ذكرنا هنا أنَّ من المسلمين من تعرض لما تعرض له صحابة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حين الهجرة، لا نمنُّ فالفضل من الله وإليه، ولا ندلّ فإننا لا نبتغي من أحد جزاءً ولا شكورًا ، ولكننا نعرض الواقع الماثل، الذي ما يزال شهوده أحياءً، حتى يعلم شباب الجيل المؤمن أنَّ دينه حقٌّ يجب الثبات عليه.
إن الدعوة الإسلامية لو تعرَّض غيرُها من الدعوات لِما تعرَّضت له، ولو دُبِّر لغيرها من المكائد ما دُبِّر لها، ولو تحالف من القوى الطاغية على غيرها من الدعوات ما تحوَّلت عليها وضدها لكانت أخبارًا تُروى في صحائف التاريخ، ولكن دعوة الله باقية خالدة، لا تفنى ولا تتبدل، ولا تزول ولا تبلَى إلى يوم الدين?وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (21)? (يوسف).
ستظل المحاولات الضارية ٍتذهب وتجيء ضد الإسلام، وستظل قوى الشرِّ تحاول وتضغط على المسلمين في كل مكان على الأرض فيه مسلمون ليصرفوهم عن دينهم، ولكنَّ الزمانَ يسري في بطون التاريخ قرنًا بعد قرن حافلاً بما يُدَبَّر فيه للمسلمين، ومع ذلك سيظل المسلمون مسلمين رغم أنف الدنيا ومن فيها ?وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا? (البقرة من الآية 217).
فليقرأ المسلمون صحائفَ الهجرةِ مفكِّرين متعظين متدبرين عِبَرها، متفهِّمين دروسَهَا، ثم اجعلوها هاديًا لكم في كفاحكم إذا ألَمَّ بكم حدث، أو نزل بكم ظلم، أو نابتكم نائبةٌ، أو لاحقكم طغيانٌ، لا ضعفَ ولكن قوة، لا تتردد ولكن امضِ إلى الأمام ?وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ? (محمد: من الآية 35) ?إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ(140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ(141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ(142)? (آل عمران) ثم بعد هذا كله ?لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى? (آل عمران: من الآية 111).
إذا ألموا كما تألمون فميزتكم عليهم أنكم ترجون من الله رضاءً وافرًا وأجرًا عظيمًا، وهم ليس لهم من هذا الخير الوفير حظٌّ ولا نصيبٌ، آراؤهم وأعمالهم ومكائدهم ?كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ? (آل عمران: من الآية 117).
اقرأوا صحائفَ الهجرة ومثلها ومثاليتها، وتشبَّهوا برجالها، فذلك أعود عليكم بالنفع، اقرأوا تاريخَكم أولاً قبل أن تقرأوا تاريخ خصومكم، إنكم لو فعلتم حصَّنتم أنفسكم ضدَّ كل دخل قد يتسرب إلى أذهانكم.(1/150)
والعام.. هذا العام، والعالم يموج بالأحداث الضخام، وقد أسفرت محاولات أعدائكم عن نواياهم السود، ووجهها الأصفر الكالح، هل تمرُّ ذكرى الهجرةِ كما مرَّت مثيلاتها من قبل.. كلمات تُرصُّ، وصفحات تُسطر، وأقوالٌ تُعاد وتُكرر، ثم صمت عميقٌ ولا شيء؟! أما آن للذين يؤمنون بنبي الهجرة- عليه الصلاة والسلام- أن يشعر العالم بوجودهم وبحرصهم على دينهم، وأن يُثبتوا للذين يستهينون بشأنهم ولا يأبهون بهم أنهم اليوم ليسوا كما كانوا بالأمس وأنهم استيقظوا ووعوا، وما عاد الوعيد والجبروت بالذي يثنيهم عن انطلاقهم.
اللهم إنك تعلم أنَّ الداعين إليك أبعد الناس عن التفكير في دنيا يصيبونها، أو التطلع إلى متعة يأملونها، إنهم لا يطلبون حكمًا، ولا يقصدون سلطانًا ولا مغنمًا.. اللهم إنك تعلم أنهم يريدون لدينك سيادةً، ولكتابك تحكيمًا، وللإسلام عزًّا، وللعالم أمنًا واستقرارًا ?وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)? (الأنعام).
اللهم منك العون وبك الصون وإليك الوجهة وعليك المعتمد، والنصرة قدرتك، والهداية مشيئتك ?وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ? (آل عمران: من الآية 126)، وعن طريق إرادتك وحدها السداد والتوفيق ?وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ? (هود: من الآية 88).
عام مضى لا قدرةَ لنا على تغيير أحداثه، وعام بدأ، عهدنا فيه مع الله عمل متواصل وصبر متأصل، وإحسان متقبل ?وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا? (الشورى: من الآية 23) وعلى الله قصد السبيل.تراني قد وفيت للهجرة حقَّها؟ أبدًا وربِّ الهجرة، كلما ظننتني انتهيت، رأيتني وكأنني ابتديت، يتزاحم الفكر، وتنهمر العبر.اللهم ربنا.. وَجهَكَ أردنَا، ودينَكَ أحببنَا، ورسولَكَ اتَّبعنَا، وبقرآنك اهتدينا، وفي سبيلك جاهدنا، وإليك أنبنا، وإليك المصير ?وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ(41)? (الحج).
ــــــــــــ(1/151)
من دروس الهجرة النبوية
محمد بن إبراهيم الحمد
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد:
لقد بعث الله نبينا محمداً بدعوة تملأ القلوب نوراً، وتشرف بها العقول رشداً؛ فسابق إلى قبولها رجال عقلاء، ونساء فاضلات، وصبيان لا زالوا على فطرة الله. وبقيت تلك الدعوة على شيء من الخفاء، وكفار قريش لا يلقون لها بالاً؛ فلما صدع بها رسول الله أغاظ المشركين، وحفزهم على مناوأة الدعوة والصد عن سبيلها؛ فوجدوا في أيديهم وسيلة هي أن يفتنوا المؤمنين، ويسومونهم سوء العذاب، حتى يعودوا إلى ظلمات الشرك، وحتى يرهبوا غيرهم ممن تحدثهم نفوسهم بالدخول في دين القيّمة.
أما المسلمون فمنهم من كانت له قوة من نحو عشيرة، أو حلفاء يكفون عنه كل يد تمتد إليه بأذى، ومنهم المستضعفون، وهؤلاء هم الذين وصلت إليهم أيدي المشركين، وبلغوا في تعذيبهم كل مبلغ.
ولما رأى الرسول ما يقاسيه أصحابه من البلاء، وليس في استطاعته حينئذ حمايتهم، أذن لهم في الهجرة إلى الحبشة، ثم إلى المدينة، ثم لحق بهم في المدينة.
والناظر في الهجرة النبوية يلحظ فيها حكماً باهرة، ويستفيد دروساً عظيمة، ويستخلص فوائد جمة يفيد منها الأفراد، وتفيد منها الأمة بعامة. فمن ذلك على سبيل الإجمال ما يلي:
1 - ضرورة الجمع بين الأخذ بالأسباب والتوكل على الله:
ويتجلى ذلك من خلال استبقاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي وأبي بكر معه؛ حيث لم يهاجرا إلى المدينة مع المسلمين، فعليّ بات في فراش النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر صحبه في الرحلة.
ويتجلى كذلك في استعانته بعبدالله بن أريقط الليثي وكان خبيراً ماهراً بالطريق.
ويتجلى كذلك في كتم أسرار مسيره إلا من لهم صلة ماسّة، ومع ذلك فلم يتوسع في إطلاعهم إلا بقدر العمل المنوط بهم، ومع أخذه بتلك الأسباب وغيرها لم يكن ملتفتاً إليها بل كان قلبه مطوياً على التوكل على الله عز وجل.
2 - ضرورة الإخلاص والسلامة من الأغراض الشخصية:
فما كان عليه الصلاة والسلام خاملاً، فيطلب بهذه الدعوة نباهة شأن، وما كان مقلاً حريصاً على بسطة العيش؛ فيبغي بهذه الدعوة ثراء؛ فإن عيشه يوم كان الذهب يصبّ في مسجده ركاماً كعيشه يوم يلاقي في سبيل الدعوة أذىً كثيراً.
3 - الاعتدال حال السراء والضراء:
فيوم خرج عليه الصلاة والسلام من مكة مكرهاً لم يخنع، ولم يذل، ولم يفقد ثقته بربه، ولما فتح الله عليه ما فتح وأقر عينه بعز الإسلام وظهور المسلمين لم يطش زهواً، ولم يتعاظم تيهاً؛ فعيشته يوم أخرج من مكة كارهاً كعيشته يوم دخلها فاتحاً ظافراً، وعيشته يوم كان في مكة يلاقي الأذى من سفهاء الأحلام كعيشته يوم أطلت رايته البلاد العربية، وأطلت على ممالك قيصر ناحية تبوك.
4 - اليقين بأن العاقبة للتقوى وللمتقين:
فالذي ينظر في الهجرة بادئ الرأي يظن أن الدعوة إلى زوال واضمحلال.
ولكن الهجرة في حقيقتها تعطي درساً واضحاً في أن العاقبة للتقوى وللمتقين. فالنبي - صلى الله عليه وسلم - يعلّم بسيرته المجاهد في سبيل الله الحق أن يثبت في وجه أشياع الباطل، ولا يهن في دفاعهم وتقويم عوجهم، ولا يهوله أن تقبل الأيام عليهم، فيشتد بأسهم، ويجلبوا بخيلهم ورجالهم؛ فقد يكون للباطل جولة، ولأشياعه صولة، أما العاقبة فإنما هي للذين صبروا والذين هم مصلحون.
5 - ثبات أهل الإيمان في المواقف الحرجة:
ذلك في جواب النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر لمّا كان في الغار.
وذلك لما قال أبو بكر: والله يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى موقع قدمه لأبصرنا.
فأجابه النبي - صلى الله عليه وسلم - مطمئناً له: { ما ظنّك باثنين الله ثالثهما }.
فهذا مثل من أمثلة الصدق والثبات، والثقة بالله، والاتكال عليه عند الشدائد، واليقين بأن الله لن يتخلى عنه في تلك الساعات الحرجة.
هذه حال أهل الإيمان، بخلاف أهل الكذب والنفاق؛ فهم سرعان ما يتهاونون عند المخاوف وينهارون عند الشدائد، ثم لا نجد لهم من دون الله ولياً ولا نصيراً.
6 - أن من حفظ الله حفظه الله:
ويؤخذ هذا المعنى من حال النبي - صلى الله عليه وسلم - لما ائتمر به زعماء قريش ليعتقلوه، أو يقتلوه، أو يخرجوه، فأنجاه الله منهم بعد أن حثا في وجوههم التراب، وخرج من بينهم سليماً معافى.
وهذه سنة ماضية، فمن حفظ الله حفظه الله، وأعظم ما يحفظ به أن يحفظ في دينه، وهذا الحفظ شامل لحفظ البدن، وليس بالضرورة أن يعصم الإنسان؛ فلا يخلص إليه البتة؛ فقد يصاب لترفع درجاته، وتقال عثراته، ولكن الشأن كل الشأن في حفظ الدين والدعوة.
7 - أن النصر مع الصبر:
فقد كان هيناً على الله عز وجل أن يصرف الأذى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - جملة، ولكنها سنة الابتلاء يؤخذ بها النبي الأكرم - صلى الله عليه وسلم - ؛ ليستبين صبره، ويعظم عند الله أجره، وليعلم دعاة الإصلاح كيف يقتحمون الشدائد، ويصبرون على ما يلاقون من الأذى صغيراً كان أم كبيراً.
8 - الحاجة إلى الحلم، وملاقاة الإساءة بالإحسان:
فلقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يلقى في مكة قبل الهجرة من الطغاة والطغام أذىً كثيراً، فيضرب عنها صفحاً أو عفواً، ولما عاد إلى مكة فاتحاً ظافراً عفا وصفح عمن أذاه.
9 - استبانة أثر الإيمان:
حيث رفع المسلمون رؤوسهم به، وصبروا على ما واجهوه من الشدائد، فصارت مظاهر أولئك الطغاة حقيرة في نفوسهم.
10 - انتشار الإسلام وقوته:
وهذه من فوائد الهجرة، فلقد كان الإسلام بمكة مغموراً بشخب الباطل، وكان أهل الحق في بلاء شديد؛ فجاءت الهجرة ورفعت صوت الحق على صخب الباطل، وخلصت أهل الحق من ذلك الجائر، وأورثتهم حياة عزيزة ومقاماً كريماً.
11 - أن من ترك شيئاً لله عوّضه الله خيراً منه:
فلما ترك المهاجرون ديارهم، وأهليهم، وأموالهم التي هي أحب شيء إليهم، لما تركوا ذلك كله لله، أعاضهم الله بأن فتح عليهم الدنيا، وملّكهم شرقها وغربها.
12 - قيام الحكومة الإسلامية والمجتمع المسلم.
13 - اجتماع كلمة العرب وارتفاع شأنهم.
14 - التنبيه على فضل المهاجرين والأنصار.
15 - ظهور مزية المدينة:
فالمدينة لم تكن معروفة قبل الإسلام بشيء من الفضل على غيرها من البلاد، وإنما أحرزت فضلها بهجرة المصطفى عليه الصلاة والسلام أصحابه إليها، وبهجرة الوحي إلى ربوعها حتى أكمل الله الدين، وأتم النعمة، وبهذا ظهرت مزايا المدينة، وأفردت المصنفات لذكر فضائلها ومزاياها.
16 - سلامة التربية النبوية:
فقد دلّت الهجرة على ذلك؛ فقد صار الصحابة مؤهلين للاستخلاف، وتحكيم شرع الله، والقيام بأمره، والجهاد في سبيله.
17 - التنبيه على عظم دور المسجد في الأمة:
ويتجلى ذلك في أول عمل قام به النبي - صلى الله عليه وسلم - فور وصوله المدينة، حيث بنى المسجد؛ لتظهر فيه شعائر الإسلام التي طالما حوربت، ولتقام فيه الصلوات التي تربط المسلم برب العالمين، وليكون منطلقاً لجيوش العلم، والدعوة والجهاد.
18 - التنبيه على عظم دور المرأة:
ويتجلى ذلك من خلال الدور الذي قامت به عائشة وأختها أسماء رضي الله عنهما حيث كانتا نعم الناصر والمعين في أمر الهجرة؛ فلم يخذلا أباهما أبا بكر مع علمهما بخطر المغامرة، ولم يفشيا سرّ الرحلة لأحد، ولم يتوانيا في تجهيز الراحلة تجهيزاً كاملاً، إلى غير ذلك مما قامتا به.
19 - عظم دور الشباب في نصرة الحق:
ويتجلى ذلك في الدور الذي قام به علي بن أبي طالب حين نام في فراش النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الهجرة.
ويتجلى من خلال ما قام به عبدالله بن أبي بكر؛ حيث كان يستمع أخبار قريش، ويزود بها النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر.
20 - حصول الأخوة وذوبان العصبيات.
هذه بعض الدروس والفوائد من الهجرة في سبيل الإجمال.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
ــــــــــــ(1/152)
من نفحات الهجرة
محمد منار ...
نشأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مكة، وترعرع فيها، واستنبئ على رأس الأربعين من سنه، وغبر ثلاث عشرة سنة يدعو إلى الله قبل أن يهاجر إلى المدينة.
لقي - صلى الله عليه وسلم - ومعه أصحابه الكرام رضوان الله عليهم من المشركين أذى كثيرا، كُذبوا وأُهينوا ونُبذوا، وانصفق عنهم عامة الناس، وهم المستضعفون لا عدد لهم ولا عدة.
لا عدد لهم ولا عدة، بالميزان المادي الصرف، أما بميزان الإيمان واليقين، فعددهم أكثر وعدتهم أكبر. والله أكبر.
كلمات أذكر بها في هذه المناسبة الغالية؛ مناسبة الهجرة النبوية. والهجرة ليست حدثا عابرا، ولكنها نقلة شعورية؛ فردية وجماعية.
ليست فقط هجر مكة، ولكنها هجر الشك والشرك والفتن والأدران. وليست فقط هجرة إلى المدينة، ولكنها هجرة إلى اليقين والتوحيد والإيمان؛هجرة إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
كلمات سامية، وتسمو الكلمات بقائلها، كما تسمو بسياقها ودلالاتها. كلمات من قلب الهجرة عن الهجرة.
"لا تحزن إن الله معنا"
اشتد حزن سيدنا أبي بكر رضي الله عنه عندما رأى القافة (الذين يقفون الأثر) قد انتهوا إلى باب الغار الذي يقيمان فيه؛ هو و رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، في انتظار مناسبة الظرف، لتتمة هجرتهما إلى المدينة.
اشتد حزنه رضي الله عنه لما رآه من حال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد اعتراه النصب، ودميت قدماه الشريفتان. روت كتب السيرة أنه رضي الله عنه قال: "نظرت إلى قدمي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الغار وقد تقطرتا دما فاستبكيت، وعلمت أنه عليه السلام لم يكن تعود الحفاء والجفوة".
ما أعظمها من رقة لا تليق إلا بصاحب قد أدرك حقيقة مصحوبه. قال رضي الله عنه: "إن قتلت فإنما أنا رجل واحد وإن قتلت أنت هلكت الأمة" عندها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحزن إن الله معنا" وقال "ما ظنك باثنين الله ثالثهما".
ثبات وتثبيت ويقين مسلكه الصحبة، ومعية الله ثمن ذلك التصديق، وجزاء تلك المحبة، التي لم تكن ادعاء، ولكن كانت حقيقة ماثلة، قدم الصديق رضي الله عنه دليلها في أكثر من مناسبة. فها هو رضي الله عنه يدخل قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الغار, ويتلمس هل فيه من حية أو سبع، يقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهما بنفسه.
"لا تحزن إن الله معنا" حزن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس خوف على النفس أو المال أو الولد. ما أعظمه من إيمان وتصديق أوصل صاحبه لتلك المرتبة الرفيعة؛ معية الله.
يقول الله عز وجل: "إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل لله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم" التوبة40.
"إذ يقول لصاحبه" تنبيه وإرشاد لمفتاح لا محيذ عنه لكل من أراد أن يتحقق بكمال الإيمان وكمال التصديق، حتى يفوز بمعية الله وسكينته ونصر من عنده وتمكين؛ إنه مفتاح الصحبة.
نال سيدنا أبو بكر ما ناله بصحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومحبته "إذ يقول لصاحبه" "لصاحبه"..
"إن الله عز وجل قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون بها"
هذا ما قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه الكرام عندما أذن لهم بالخروج من مكة إلى المدينة.
الأخوة في الله امتزاج روح بروح، وتعلق قلب بقلب، تنسي من تنسم بعبيرها، وسار في رياضها، كل أصناف الأذى والوحشة.
أخوة جعلها الله، يقول الله عز وجل: " و ألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم، ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم" الأنفال64. أخوة في الله، وما كان لله دام واتصل، وما كان لغير الله انقطع وانفصل.
هي هجرة إلى مجتمع الأخوة إذن؛ مجتمع الحب في الله والبذل والإيثار. يقول الله عز وجل في حق الأنصار رضوان الله عليهم: "والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أتو ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون" الحشر/9.
الأخوة لا الفرقة، المحبة لا الصراع، البذل لا الشح، الإيثار لا الأنانية؛ هي الأسس التي بني عليها مجتمع الأمن والإيمان. "الدار والإيمان" "دارا تأمنون بها".
أمن في الدنيا، للتدرج على مراتب العبودية، تحقيقا لأمن الآخرة وأمانها "فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف" قريش3-5.
"ربح صهيب ، ربح صهيب"
ورد في سيرة بن هشام أن صهيبا حين أراد الهجرة قال له كفار قريش: أتيتنا صعلوكا حقيرا، فكثر مالك عندنا، وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أن تذهب بمالك ونفسك، والله لا يكون ذلك، فقال لهم صهيب: آرأيتم إن جعلت لكم مالي أتخلون سبيلي؟ قالوا: نعم. قال فإني جعلت لكم مالي، قال فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "ربح صهيب، ربح صهيب".
ربح لأنه قدم برهان صدقه. وأي برهان هو أوضح وأجلى من تنازل المرء عن ماله الذي أفنى عمره في جمعه.
إنها هجرة حب المال إلى مآل الحب؛ حب الله ورسوله والمؤمنين.
"هل أنت إلا أصبع دميت *** وفي سبيل الله ما لقيت"
قال ابن هشام: ".. أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال وهو بالمدينة: "من لي بعياش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاصي؟" فقال الوليد بن الوليد بن المغيرة: أنا لك يا رسول الله بهما، فخرج إلى مكة، فقدمها مستخفيا. فلقي امرأة تحمل طعاما. فقال لها: أين تريدين يا أمة الله؟ قالت أريد هذين المحبوسين -تعنيهما- فتبعها حتى عرف موضعهما، وكان محبوسين في بيت لا سقف له فلما أمسى تسور عليهما .. ثم حملهما على بعيره وساق بهما، فعثر فدميت أصبعه فقال:
"هل أنت إلا أصبع دميت *** وفي سبيل الله ما لقيت"
معاناة شديدة للصحابيين الجليلين، وتعذيب وأذى من قبل قومهما، لصدها عن الهجرة إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وحرص من المصحوب الأعظم، عليه أفضل الصلاة والسلام، واستجابة سريعة لندائه.وهبة لإنقاذ الأخوين، دون اكتراث بما يمكن أن يكون من أذى. إنه هجر التردد والخوف والاستكانة.
والمهاجر إلى الله ورسوله، كل عمله لله، "قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين"الأنعام163، وما تصيبه من مصيبة صغيرة أو كبيرة إلا يحتسبها عند الله عز وجل.فاللهم اجعلنا من المهاجرين إليك وإلى رسولك الكريم.
منازل المهاجرين بالمدينة
قال ابن إسحاق : ونزل عمر بن الخطاب حين قدم المدينة، ومن لحق به من أهله وقومه وأخوه زيد بن الخطاب، وعمرو وعبد الله ابنا سراقة بن المعتمر وخنيس بن حذافة السهمي - وكان صهره على ابنته حفصة بنت عمر فخلف عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعده - وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وواقد بن عبد الله التميمي، حليف لهم وخولي بن أبي خولي ومالك بن أبي خولي حليفان لهم.
قال ابن هشام : أبو خولي من بني عجل بن لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل.
قال ابن إسحاق : وبنو البكير أربعة هم إياس بن البكير، وعاقل بن البكير، وعامر بن البكير، وخالد بن البكير وحلفاؤهم من بني سعد بن ليث على رفاعة بن عبد المنذر بن زنبر، في بني عمرو بن عوف بقباء وقد كان منزل عياش بن أبي ربيعة معه عليه حين قدما المدينة .
ثم تتابع المهاجرون، فنزل طلحة بن عبيد الله بن عثمان، وصهيب بن سنان على خبيب بن إساف أخي بلحارث بن الخزرج بالسنح.
قال ابن هشام : ويقال يساف فيما أخبرني عنه ابن إسحاق. ويقال بل نزل طلحة بن عبيد الله على أسعد بن زرارة أخي بني النجار.
قال ابن هشام : وذكر لي عن أبي عثمان النهدي أنه قال: بلغني أن صهيبا حين أراد الهجرة قال له كفار قريش : أتيتنا صعلوكا حقيرا، فكثر مالك عندنا، وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك، والله لا يكون ذلك، فقال لهم صهيب أرأيتم إن جعلت لكم مالي أتخلون سبيلي ؟ قالوا : نعم. قال فإني جعلت لكم مالي. قال فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال " ربح صهيب ربح صهيب ".
نزول طلحة وصهيب على خبيب بن إساف
فصل وذكر نزول طلحة وصهيب على خبيب بن إساف ويقال فيه يساف بياء مفتوحة في غير رواية الكتاب وهو إساف بن عنبة ولم يكن حين نزول المهاجرين عليه مسلما في قول الواقدي بل تأخر إسلامه حتى خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بدر قال خبيب فخرجت معه أنا ورجل من قومي، وقلنا له نكره أن يشهد قومنا مشهدا لا نشهده معهم فقال أسلمتما ؟ فقلنا : لا، فقال ارجعا، فإنا لا نستعين بمشرك.
وخبيب هو الذي خلف على بنت خارجة بعد أبي بكر الصديق واسمها : حبيبة وهي التي يقول فيها أبو بكر عند وفاته ذو بطن بنت خارجة أراها جارية وهي بنت خارجة بن أبي زهير والجارية أم كلثوم بنت أبي بكر مات خبيب في خلافة عثمان وهو جد خبيب بن عبد الرحمن الذي يروي عنه مالك في موطئه.
منزل حمزة وزيد وأبي مرثد وابنه وأنسة وأبي كبشة
قال ابن إسحاق : ونزل حمزة بن عبد المطلب، وزيد بن حارثة، وأبو مرثد كناز بن حصن.
قال ابن هشام : ويقال ابن حصين - وابنه مرثد الغنويان حليفا حمزة بن عبد المطلب، وأنسة وأبو كبشة، موليا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على كلثوم بن هدم أخي بني عمرو بن عوف بقباء ويقال بل نزلوا على سعد بن خيثمة ; ويقال بل نزل حمزة بن عبد المطلب على أسعد بن زرارة أخي بني النجار. كل ذلك يقال ونزل عبيدة بن الحارث بن المطلب، وأخوه الطفيل بن الحارث، والحصين بن الحارث ومسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب وسويبط بن سعد بن حريملة أخو بني عبد الدار وطليب بن عمير أخو بني عبد بن قصي، وخباب مولى عتبة بن غزوان، على عبد الله بن سلمة، أخي بلعجلان بقباء.
ونزل عبد الرحمن بن عوف في رجال من المهاجرين على سعد بن الربيع أخي بلحارث بن الخزرج، في دار بلحارث بن الخزرج.
ونزل الزبير بن العوام، وأبو سبرة بن أبي رهم بن عبد العزى، على منذر بن محمد بن عقبة بن أحيحة بن الجلاح بالعصبة دار بني جحجبى.
ونزل مصعب بن عمير بن هاشم، أخو بني عبد الدار على سعد بن معاذ بن النعمام أخي بني عبد الأشهل في دار بني عبد الأشهل.
ونزل أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وسالم مولى أبي حذيفة.
قال ابن هشام : سالم مولى أبي حذيفة سائبة لثبيتة [ أو نبيتة ] بنت يعار بن زيد بن عبيد بن زيد بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس، سيبته فانقطع إلى أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة فتبناه فقيل سالم مولى أبي حذيفة ويقال كانت ثبيتة بنت يعار تحت أبي حذيفة بن عتبة فأعتقت سالما سائبة. فقيل سالم مولى أبي حذيفة.
قال ابن إسحاق : ونزل عتبة بن غزوان بن جابر على عباد بن بشر بن وقش أخي بني عبد الأشهل في دار عبد الأشهل.
ونزل عثمان بن عفان على أوس بن ثابت بن المنذر أخي حسان بن ثابت في دار بني النجار، فلذلك كان حسان يحب عثمان ويبكيه حين قتل.
وكان يقال نزل الأعزاب من المهاجرين على سعد بن خيثمة، وذلك أنه كان عزبا، فالله أعلم أي ذلك كان.
أبو كبشة
وذكر أنسة وأبا كبشة في الذين نزلوا على كلثوم بن الهدم، فأما أنسة مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو من مولدي السراة، ويكنى : أبا مسروح، وقيل أبا مشرح شهد بدرا، والمشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومات في خلافة أبي بكر، وأبو كبشة اسمه سليم يقال إنه من فارس، ويقال من مولدي أرض دوس، شهد بدرا والمشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومات في خلافة عمر في اليوم الذي ولد فيه عروة بن الزبير، وأما الذي كانت كفار قريش تذكره وتنسب النبي عليه السلام إليه وتقول قال ابن أبي كبشة وفعل ابن أبي كبشة، فقيل فيه أقوال قيل إنها كنية أبيه لأمه وهب بن عبد مناف، وقيل كنية أبيه من الرضاعة الحارث بن عبد العزى، وقيل إن سلمى أخت عبد المطلب كان يكنى أبوها أبا كبشة، وهو عمرو بن لبيد وأشهر من هذه الأقوال كلها عند الناس أنهم شبهوه برجل كان يعبد الشعرى وحده دون العرب، فنسبوه إليه لخروجه عن دين قومه. وذكر الدارقطني اسم أبي كبشة هذا في المؤتلف والمختلف فقال اسمه وجز بن غالب وهو خزاعي، وهو من بني غبشان.
وذكر نزولهم بقباء وهو مسكن بني عمرو بن عوف وهو على فرسخ من المدينة ، وهو يمد ويقصر ويؤنث ويذكر ويصرف ولا يصرف وأنشد أبو حاتم في صرفه
ولأبغينكم قبا [ و] عوارضا *** ولأقبلن الخيل لابة ضرغد
وكذلك أنشده قاسم بن ثابت في الدلائل قبا بضم القاف و[ فتح ] الباء وهو عند أهل العربية تصحيف منهما جميعا، وإنما هو كما أنشده سيبويه :
قنا وعوارضا، لأن قنا جبل عند عوارض يقال له ولجبل آخر معه قنوان وبينهما وبين قباء مسافات وبلاد فلا يصح أن يقرن قباء الذي عند المدينة مع عوارض وقنوين وكذا قال البكري في معجم ما استعجم وأنشد [ لمعقل بن ضرار بن سنان الملقب بالشماخ ].
كأنها لما بدا عوارض *** والليل بين قنوين رابض
وقباء: مأخوذ من القبو وهو الضم والجمع قاله أبو حنيفة وقال القوابي : هن اللواتي يجمعن العصفر واحدتهن قابية. قال وأهل العربية يسمون الضمة من الحركات قبوا، وأما قولهم لا والذي أخرج قوبا من قابية يعنون الفرخ من البيضة فمن قال فيه
قابية بتقديم الباء فهو القبو الذي يقدم ومن قال فيه قابية فهو من لفظ القوب لأنها تتقوب عنه أي تتقشر قال الكميت يصف النساء :
لهن وللمشيب ومن علاه *** من الأمثال قابية وقوب
وفي حديث عمر فكانت قابية قوب عامها، يعني : العمرة في أشهر الحج وقد ذكر أن قباء اسم بئر عرفت القرية بها.
سالم مولى أبي حذيفة
فصل وذكر سالما مولى أبي حذيفة الذي كان أبو حذيفة قد تبناه كما تبنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زيدا، وكان سائبة أي لا ولاء عليه لأحد وذكر المرأة التي أعتقته سائبة وهي ثبيتة بنت يعار وقد قيل في اسمها بثينة ذكره أبو عمر وذكر عن الزهري أنه كان يقول فيها : بنت تعار وقال ابن شيبة في المعارف اسمها سلمى [ وقال ابن حبان : يقال لها : ليلمة ] ويقال في اسمها أيضا : عمرة وقد أبطل التسبيب في العتق كثير من العلماء وجعلوا الولاء لكل من أعتق أخذا بحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك وحملا له على العموم ولما روي أيضا عن ابن مسعود أنه قال (لا سائبة في الإسلام) ورأى مالك ميراث السائبة لجماعة المسلمين ولم ير ولاءه لمن سيبه فكان للتسييب والعتق عنده حكمان مختلفان وسالم هذا هو الذي أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سهلة بنت سهيل أن ترضعه ليحرم عليها، فأرضعته وهو ذو لحية. فإن قيل كيف جاز له أن ينظر إلى ثديها، فقد روي في ذلك أنها حلبت له في مسعط وشرب اللبن ذكر ذلك محمد بن حبيب.
موقفنا من الغير
ليكن معلوما أن الناس عندنا _ نحن العاملين في حقل الدعوة _ إما غير مسلم ، وإما مسلم
فأما غير المسلم : فيقام فيه الإنصاف في حدود الشرع ، وقد بيناه بوضوح في الدرس السابق .
وأما المسلم :
أ _ فإما أنه يحمل الوجهة الإسلامية الصحيحة ، وينعم بالفهم السليم ، وينخرط في صف الحركة والدعوة إلى الله بقوله وعمله .
وهذا الصنف : هو المكسب الحقيقي للدعوة ، والدعامة القوية للحركة .
ب _ وإما أنه يحمل الوجهة الإسلامية ، ولكن على غير الفهم الصحيح الشامل للدين
وهذا الصنف : يجب التعاون معه ، بقدر ما فيه من خير وصلاح ، مع التأكيد عليه في بيان المنهج الصحيح ، والفهم الشامل ، الواجب الإتباع ، دون تجريح للغير من الأشخاص أو الأفكار .
ج _ وإما أنه لا يحمل الوجهة الإسلامية بالمرة ، ويحمل غيرها ، وقد يكون معاديا للوجهة الإسلامية ، أو غير معاد .
وهذا الصنف : يحتاج معاملة خاصة ، يشوبها الحذر ، ويدفع إليها الأمل .
وإذا كان الصنف الثاني ، يشجعنا بوضعه على أن نتعامل معه ، أملا في توضيح الصورة ، ونوال النتيجة الطيبة لهم وللدعوة : فإنه لا ينبغي أن يترك الصنف الثالث نهائيا ، حيث إن كل أعداء الدعوة والمناوؤن لها ، ليس محكوما عليهم أزلا بدوام عدائهم لها ولأصحابها ، فسبحان مقلب القلوب .
ولذلك : علينا ونحن نتعامل مع هؤلاء أن يكون في حساباتنا وتوقعاتنا ، أن الله تعالى قد يصرف قلوبهم ، ويحول اتجاههم لمناصرة الدعوة بدلا من العداء لها ، أو على الأقل التعاطف مع أصحابها بدل التحامل عليهم .
وهذا يقتضينا : أن لا نقطع الأمل في رحمة الله ، وأن لا نسد الطريق أمام من تلمس قيادة الحركة الإسلامية الأمل فيهم أو الخير لديهم من هؤلاء .
وليس ذلك ببعيد على فضل الله تعالى فهؤلاء سحرة فرعون ، الذين كانوا من أعدي أعداء موسى عليه الصلاة والسلام
كانوا كفارا في صدر اليوم ، وهم الذين قال لهم فرعون ، استعداء ( إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى * فاجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا وقد أفلح اليوم من استعلى ) وقد استجابوا للعداء ، و ( قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى ) .
هم هم الذين صاروا في وسط اليوم مسلمين ، و ( قالوا آمنا برب هارون وموسى ) وصمدوا أمام التهديد والوعيد _ حينما قال لهم فرعون ( فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن آينا أشد عذابا وأبقى ) _ ولم يكونوا في صمودهم صامتين أو خائفين ، بل كانوا شجعانا فدائيين ( قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا ) .
هم هم الذين أصبحوا في آخر اليوم _ لا تابعين لموسى ودعوته فقط _ بل تحولوا إلى دعاة معه لهذا الدين الذي كانوا يكفرون به في صدر يوم الزينة هذا ، اسمعهم وهم يدعون إلى الله تعالى ، حيث يقولون ( إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى * إنه من يأت مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى * ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلي * جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى ) "83 "
سبحان مقلب القلوب . . ! !
هو خالقها ، ومالكها ، ومقلبها . . ! !
وفي الحديث : " عن أنس قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، يكثر أن يقول : يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ، فقلت : يا رسول الله ! آمنا بك ، وبما جئت به ، فهل تخاف علينا ؟ قال : نعم . . إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء " "84 "
ولذلك : لا يستطيع أحد أن يحكم بدوام فساد أحد أو صلاحه ؛ لأن ذلك في علم الله فقط .
وما دام الأمر كذلك : فلا داعي لأن نفقد الأمل _ في الإفادة للدعوة أو بالدعوة _ من أي أحد ، كل ما علينا : أن نعمل ما علينا بإتقان وإخلاص لما هو مطلوب منا ، وأن ندع النتائج ومدى الاستجابة ، وتصريف القلوب لله تعالى .
وهذا ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الدرس العظيم من دروس الهجرة _ مع سراقة بن مالك .
وقصته مشهورة في كتب السنة وكتب السيرة .
ومعلوم فيها ملاحقته ولحوقه برسول الله - صلى الله عليه وسلم - طمعا في الجائزة ، التي رصدتها قريش لمن يقتل مجمدا - صلى الله عليه وسلم - ، قبل أن يصل إلى غايته .
وفيها : " . . . فدنوت منهما ، حتى إني لأسمع قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو لا يلتفت ، وأبو بكر يكثر الالتفات ، ثم ركضت الفرس ، فوقعت بمنخريها ، فأخرجت قداحي من كنانتي ، فضربت بها : أضره أم لا أضره ؟ فخرج لا تضره ، فأبت نفسي حتى أتبعه ، فأتيت ذلك الموضع ، فوقعت الفرس ، فاستخرجت يديه مرة أخرى ، فضربت بالقداح _ أي مرة ثانية _ أضره أم لا ؟ فخرج لا تضره ، فأبت نفسي ، حتى إذا كنت منه بذلك الموضع : خشيت أن يصيبني ما أصابني بأذيته ، فقلت إني أرى سيكون لك شأن فقف أكلمك ، فوقف النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فسأله أن يكتب له أمانا ، فكتب له أمانا "
وفي رواية البخاري : " فناديتهم بالأمان ، فوقفوا ، فركبت فرسي ، حتى جئتهم ، ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم : أن سيظهر أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقلت له : إن قومك قد جعلوا فيك الدية ، وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم ، وعرضت عليهم الزاد والمتاع ، فلم يرزآني ولم يسألاني ، إلا أن قال : أخف عنا ، فسألته أن يكتب لي كتاب أمان ، فأمر عامر بن فهيرة فكتب لي في رقعة من أدم ، ثم مضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
ورجع سراقة ، فجد في الطلب ، فجعل يقول : قد استبرأت لكم الخبر ، قد كفيتم ما ها هنا "
" وكان أول النهار : جاهدا عليهما ، وآخره : حارسا لهما " "14 "
وفي رواية ثالثة : فالتفت أبو بكر ، فإذا هو بفارس قد لحقهم ، فقال : يا رسول الله ، هذا فارس قد لحق بنا ، فالتفت نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : اللهم اصرعه ؛ فصرعه الفرس ، ثم قامت تحمحم ، فقال : يا نبي الله مرني بما شئت ، فقال : قف مكانك ، لا تتركن أحدا يلحق بنا .
قال : فكان أول النهار جاهدا على نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكان آخر النهار مسلحة له " "14 "
إن سراقة قد تغير ، وغير خطته .
وما ذلك : إلا لأنه اقتنع أن هذا الرجل - صلى الله عليه وسلم - صادق في دعوته ، مؤيد من أجلها ، منصور بسببها .
ولذلك : رضي أن يذود عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آخر النهار _ بعد أن كان يطارده في أوله _ وصار يصرف الناس عن ملاحقته في هذا الطريق الذي يسير فيه .
واللافت للنظر : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقتله ، وكان يستطيع للعجز الذي أصاب سراقة وفرسه _ بل لم ينهره أو يعنفه ، أو يكذبه في صدق تحوله ، أو يرفض الإفادة منه وبه : إنما كان الأمر عكس ذلك تماما ، حيث اطمأن إليه ، وطلب منه أن يخف عنهما ، وذلك : بإتمام خطته في البحث عنهما من باب التعمية والتضليل على الكفار
والملاحظ : أنه إذا كان سحرة فرعون قد أسلموا في يومهم وأفادت منهم وبهم الدعوة : فإن سراقة لم يسلم في يومه _ بل ظل على شركه _ ومع ذلك أفادت منه وبه الدعوة .
وهذا الدرس العظيم من دروس الهجرة : يقتضينا أن نقف عنده بعض الشيء لنعي هذه الأمور : "59 "
أولا : بإمكان الحركة الإسلامية _ إفادة من هذا الدرس _ أن تأخذ من صفوف أعدائها من تتوافر القناعة عنده بانتصارها ، ليتعامل معها ، ويناصرها ، بشرط :
أ _ توافر القدرة على تحديد الصديق من العدو في صفوف الكفار ، والقدرة على تحديد من يرجى منه النفع في صفوف الأعداء .(1/153)
ب _ أن يكون تقدير الأمر _ في ذلك _ للقيادة ، من خلال تعاملها ، أو فهمها لهذا أو ذاك ، أو من خلال من ترشحه القيادة للقيام بهذه المهمة .
إن المنطق الظاهري يقتضي قتل سراقة بن مالك لأنه قد يدل عليهما ، خاصة وأنه لم يسلم بعد ، ولكن تقدير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لشخصه : أنه صادق الولاء لهما ، وأنه تخلى عن عدائه لهذه الحركة ، أمام هذه المعجزات .
ثانيا : لا ينبغي أن يكون الحكم على الرجل أو الفئة من الناس من خلال الماضي القريب أو البعيد في عدائهم للإسلام .
فمناط الأمر : هو الثقة بتغير هذا الرجل ، أو هذه الفئة ، مهما كان ماضيه في الحرب ضد الإسلام .
ولأن هذا الحكم للقيادة : فلها _ من خلال تعاملها ، آو فهمها مع هؤلاء الناس _ الاجتهاد الأوفى في هذا الموضوع .
وإذا كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا الحكم بموجب الوحي ؛ ولذا لا يخطئ ، لأنه لا ينطق عن الهوى : فليس أمام قيادة الحركة الإسلامية سوى الاجتهاد في هذا الأمر .
ولذا : قد تخطئ القيادة في هذا الأمر وقد تصيب .
فإذا أصابت : فبها ونعمت .
وإذا أخطأت _ مثلا _ فلا غضاضة في ذلك ، ولا داعي لأن تقيم القاعدة الدنيا عليها لهذا الخطأ ، وحسبها أنها اجتهدت قدر طاقتها لصالح الدعوة .
إذ ينبغي أن يكون واضحا : أن الحركة الإسلامية في مسيرتها لإقامة دولة الإسلام ، قد تضطر إلى أن تتحالف مع عدو قريب ، وتتعاون معه ، بل تطلب منه جزءا من المناصرة جليلا أو يسيرا ، إذا اطمأنت إليه ، دون تفويت شئ من الدين ، أو ترخص في وسيلة : غير مشروعة .
وميزان هذا الاطمئنان : هو مدى ثقة هذا العدو بقوة الحركة الإسلامية .
ولذلك : فما على القيادة إلا أن تبذل الجهد في التأكد من هذه الثقة ، ولا شئ عليها بعد ذلك ، أصابت التقدير أو أخطأته .
ثالثا : إن سلوك الأعداء ، ومواقفهم من الحركة الإسلامية يجعل لدى الحركة حرية التعامل معهم من خلال المواقف ، بحيث يكون الأمر في النهاية لصالح الإسلام ودولته .
فهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أعطى الأمان لسراقة بناء على : فهمه له ، وتقديره لموقفه ، وثقته في تغيره ، وقد أعلن سراقة مناصرته وولاءه ، ونفذ ما أعلنه والتزم به بناء على هذا الأمان .
ولذا : فالقيادة تستطيع أن تهادن وتؤمن وتستفيد بمن تشاء وممن تشاء ، بناء على تقديرها لهؤلاء الناس ، دون قيد لها ، أو حجر عليها .
وكم نتمنى للقاعدة الإسلامية الصلبة أن تكون عونا لقيادتها على هذا التحرك _ إفادة من هذا الدرس _ لا أن توجه لها سهام النقد والتجريح ، والاتهام في وعيها وحسن قيادتها على أقل الأحوال ، وقد يصل الاتهام إلى دينها في أغلب الأحوال .
ــــــــــــ(1/154)
نسوة في طريق الهجرة
هجرة المرسلين ليست كهجرة البشر ، ذلك أنها هجرة هدفها التمكين لدين الله تعالى بإرساء قواعده في الأرض لإعلاء شعائره إلى السماء ، وهي هجرة لا يقدم عليها الرسول إلا بإذن ربه ، وكم فات هذا المعنى كثيراً من الباحثين فخلطوا حتى آذوا النبي - صلى الله عليه وسلم - بقولهم هاجر خوفاً أو فراراً من الأعداء ، يقولون هذا وموسوعات السيرة النبوية بين أيديهم تقص عليهم حث الصديق رضي الله عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يهاجر فيبين له الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه في انتظار أمر ربه . حتى أذن سبحانه فكانت الهجرة من أجل دين الله : فلم تكن لدنيا .. أو مال ...
واستوى - لهذا الأمر - رجال ونساء ، وما أكثر ما كان من حديث للرجال في الهجرة ربما كان سبباً في خفاء أمر نسوة كن على طريق الهجرة من قبل الهجرة ومن بعدها ، أديّن أدواراً غاية في الروعة والفداء والإيمان ، نسوة صَدقن أيضاً ما عاهدن الله عليه ، فلمعن في سماء الإسلام نجوماً باهرات لم يكن مثلهن في التاريخ ، ومن تلك النسوة :
1- (التمهيد للهجرة) نسيبة بنت كعب المازنية ، وأم منيع أسماء بنت عمرو السلمية :
بُعث النبي - صلى الله عليه وسلم - في مكة ، وأخذ يدعو قومه ، فأسلم منهم قليل ، وبسطت قريش أيديها وألسنتها بالسوء ، فأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - يعرض نفسه على القبائل عله يجد من بينها ناصراً ، فلم يجد منها جميعاً أذناً صاغية ولا قلباً واعياً حى لقي في موسم الحج نفراً من الخزرج فعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن فصدقوه وآمنوا به ، وقالوا : إنا تركنا قومنا ، ولا قوم بينهم من العدواة والشر ما بينهم ، وعسى أن يجمعهم الله بك فسنقدم عليهم وندعوهم إلى أمرك ، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين فإن يجمعهم الله إليه ، فلا رجل أعز منك ، ثم انصرفوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد بايعوه .
فلما عاد إلى المدينة المنورة أذاعوا بها الإسلام فأجاب داعيتهم خلق كثير ، حتى إذا كان موسم الحج من قابل ذلك العام ، خرج من المدينة ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليبايعوه ويؤتوه عهدهم وذمامهم أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وأهليهم ، فتوافدوا جميعاً إلى العقبة الثانية التي كانت النواة الأولى في لبنة الدولة الإسلامية ، وما يهمنا من أمر هذه البيعة هو ما كان من أمر المرأتين وهما :
? ... نسيبة بنت كعب بن عمرو بن عوف بن مبذول بن عمرو من بني النجار : وتكنى أم عمارة الأنصارية ، وهي زوج زيد بن عاصم الصحابي الجليل ، وكانت بطلة مجاهدة من أبطال الإسلام ، ويحفظ لها التاريخ وقفتها يوم أحد ، وهي تقاتل دون النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى قال : [ ما التفت يمينا وشمالاً إلا وأنا أراها تقاتل دوني] وقد جرحت ثلاثة عشر جرحاً ، والدم ينزف منها ، فنادى المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ابنها عمارة قائلاً : [ أمك أمك اعصب جرحها ، بارك الله عليكم من أهل بيت ، مقام أمك خير من مقام فلان وفلان ] فلما سمعت أمه قالت : ادع الله أن نرافقك في الجنة، فقال : [ اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة ] فقالت : ما أبالي ما أصابني من الدنيا .
ويحدث التاريخ عن موقفها في حروب الردة ومقاتلة مسيلمة الكذاب الذي قتل ابنها "حبيب" وقطعه قطعاً ، وشاركت في الحرب كأحد الأبطال الميامين حتى قطعت يدها ، فهذه المرأة وما اتصفت به من صفات تفوق الخيال كانت أولى المبايعات للنبي - صلى الله عليه وسلم - وامرأة بمثل هذه القوة والشجاعة لا بد أن يكون لها في قومها رأي ومكانة ، ولا بد أن يكون لها تأثير على نساء قومها ، الذين عرفوا فيما بعد الأنصار .
? ... أم منيع : أسماء بنت عمرو بن عدي بن نابي بن سواد بن سلمة ، وتعرف بأم منيع الأنصارية ، وهي أم معاذ بن جبل ، أحد الأئمة المعدودين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أسلمت حين تنفس صبح الإسلام بالمدينة المنورة ، قبل بيعة العقبة الثانية ، وجاءت مع وفد البيعة وكانت من أتم القوم عقلاً ، وأحكمهم رأياً ، ومن المشاركات في الجهاد في غزوة خيبر. كلتا المرأتين كانت مثالاً في قومها للرأي والحكمة والعقل والشجاعة ، ولا بد أن يكون لذلك تأثير على من سواهما من نساء يثرب ، فقامتا مع الرجال بتعبئة الجو العام اليثربي وتيهئته للإسلام حتى كانت الهجرة فكان المجتمع اليثربي مستعداً لتكوين وتشييد وإقامة الدولة الإسلامية التي تكونت نواتها الأولى ببيعة العقبة .
2- ( طليعة الهجرة ) ليلى بنت أبي حثمة العدوية :
هي ليلى بنت أبي حثمة بن حذيفة بن غانم بن عامر بن عبد الله بن كعب بن لؤي القرشية العدوية ، زوج عامر بن ربيعة العنبري .
قبل مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - كان زوجها مهيأ نفسياً لرؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - والإيمان بدينه ، وذلك لأن زيد بن عمرو بن نفيل قال لعامر زوجها ، أنا أنتظر نبياً من ولد إسماعيل ، ثم من بنى عبد المطلب ، ولا أراني أدركه ، وأنا أومن به وأصدقه وأشهد أنه نبي ، فإن طالت بك مدة - يا عامر - ورأيته فأقرئه مني السلام.
وهكذا كانت "ليلى" مهيأة لقبول الدين الجديد ، لأنه زوجها كان يردد كثيراً قول زيد بن عمرو بن نفيل فلما سرى في مكة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو إلى الله الواحد الأحد أقبل عامر وليلى وأسلما ، وكانا في طليعة المهاجرين إلى الحبشة لما اشتد أذى قريش ، وقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - : [ أخرجوا إلى أرض الحبشة فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد ، وهي أرض صدق ] تقول ليلى : كان عمر بن الخطاب من أشد الناس علينا في إسلامنا ، فلما تهيأنا للخروج إلى أرض الحبشة ، جاءني عُمر وأنا على بعيري نريد أن نتوجه ، فقال : أين يا أم عبد الله ؟ - وهي أم عبد الله بن عامر ، وبه كانت تكنى - فقلت آذيتمونيا في ديننا ، فنذهب في أرض الله حيث لا نؤذى في عبادة الله ، فقال : صحبكم الله ، ثم ذهب فجاءني زوجي عامر بن ربيعة ، فأخبرته بما رأيت من رقة عمر ، فقال : ترجين أن يسلم ؟ فقلت نعم .. وهاجرت وهي وزوجها إلى الحبشة ، ولما علم المهاجرون بإسلام عمر عادوا أملاً في أن يكون فيه المنعة والحماية ، فلما اشتد أذى الكفار ، هاجرت ليلى وزوجها "عامر" مرة أخرى عائدة إلى الحبشة ، وعندما أذن النبي - صلى الله عليه وسلم - للمسلمين بالهجرة إلى يثرب وقال : [ من أرد أن يخرج فليخرج إليها ] كانت ليلى بنت أبي حثمة ، هي أول امرأة هاجرت إلى المدينة ، فقد كان أول المهاجرين - أبو سلمة- ثم تبعه ، عامر بن ربيعة ، وزوجه ليلى وتعد أول ظعينة تهاجر إلى المدينة ، ويظن الكثير أن أول مهاجرة كانت أم سلمة ولكنها كانت "ليلى" وليست أم سلمة كما سيتضح من عرضنا لأم سلمة فيها بعد .
ولم تكن هجرة ليلى بنت أبي حثمة ، إلى يثرب -المدينة- مجرد انتقال من مكان إلى مكان ولكن كان لها دور إيجابي هي وباقي المهاجرات والمهاجرين في توطيد دعائم الدين الإسلامي في قلوب اليثربيات واليثربيين ، وليس أدل على ذلك مما رأيناه من خروج الأنصار والمهاجرين ونسائهم للقاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد علمهم بهجرته المباركة .
3. (بداية الهجرة) رقيقة بنت صيفي :
هي رقيقة بنت صيفى وقيل بنت أبي صيفي بن هاشم بن عبد مناف بن قصي ، عمها عبد المطلب بن هاشم وكان أسن منه ، وتتصل "رقيقة" برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هاشم بن عبد مناف فهو جدها وجد أبيه ، ولما أدركها الإسلام كانت قد تطاول عليها القدم ، وجاوزت حد الهرم ، والتاريخ الإسلامي يحفظ لها وقفة مع الإسلام ، كثيراً ما يغفلها المؤرخون ، فلقد كانت ترقب ما يدور على الساحة من حولها وترى أن عدد المسلمين في ازدياد ، وكذلك عذاب المشركين يحمي وطيسه كلما أسلم مشرك ، وقد اجتمع كبار المشركين ليلاً ومعهم إبليس اللعين في صورة شيخ نجدي وانتهى أمرهم إلى أن يقتلوا النبي - صلى الله عليه وسلم - في داره ، بيد فتية ، من كل قبيلة فتى ليتوزع دمه - صلى الله عليه وسلم - في القبائل ، تلك المرأة المسنة - رقيقة - هي التي استشفت خبر قريس يوم ائتمروا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فذهبت العجوز تجر أثقالها حتى أنهت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الخبر وحذرته من المبيت في داره وحدثته بحديث القوم الذي لا يعلمه إلا الله ثم هي ومن تآمروا عليه ، ذهبت العجوز التي أنافت على المائة ، لتنقل الخبر ولم تأمن على نقله ابنها مخرمة بن نوفل وهو من لحمة النبي - صلى الله عليه وسلم - وذوي صحبته ، ذلك لأن الشك فيها وهي العجوز المسنة مستبعد ، وما أطيب امرأة ، وأجل منزلتها أن ذهبت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمثل ما سبق به جبريل إليه على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام .
ولعل هناك من يقول : وأي عظمة تجدها امرأة سمعت خبراً فألقته كما سمعته ؟
ذلك قول من لم يستبطن الأمر ، ويتبين دخيلته ، فإن فئة قليلة العدد خطيرة الغرض ، من هامات القوم ، وأشداء فتيانهم ، بيتوا أمرهم واحتجزوا خبرهم عن بقيتهم ، والممالئين لهم ، وتعاهدوا وتعاقدوا ألا يذيعوه حتى يمضوه ، فئة ذلك شأنها وتلك غايتها ليس بالهين اليسير كشف أمرها والوقوف على ذوات نفوسها ، واستنقاذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من كيدها وشر غائلتها .
وتكون -رقيقة- مشاركة في أعظم حوادث الإسلام خطراً ، وأبقاها أثراً ، وأدومها على مر الدهور ذكراً ، وأقومها ببناء الإسلام ، وبنقلها خبر قريش يكون البدء الفعلي للهجرة .
4. (الفداء والبطولة) أسماء بنت أبي بكر :
هي أسماء بنت أبي بكر الصديق بن أبي قحافة القرشية التيمية ، وأمها قتيلة بنت عبد العزى بن أسد ، وهي شقيقة عبد الرحمن بن أبي بكر ، وأم عبد الله ابن الزبير ، وأخت عائشة أم المؤمنين لأبيهاا ، أسلمت بعد سبعة عشر مسلماً ، وأصبحت بطلة ضربت أروع الأمثلة في البطولة والفداء .
تنقلت العظائم من يد طاهرة إلى يد طاهرة ، فبعد أن دعمت العجوز -رقيقة بنت صيفي- أثرها أقامت الفتاة الحدثة "أسماء بنت أبي بكر" أثرها أيضاً ، لقد أعجل النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه عن ابتغاء الزاد ، وشغلهما الغرض الأسمى عن الغرض الأدنى ، فسارا خفيفين إلى غار الذورة العليا في جبل ثور إخفاء لأمرهما ، وإعياء للذاهبين في أثرهما .
قامت الفتاة بحمل أمانة يُشفق على الرجال من حملها ، فكانت تقطع ثلاثة أميال إلا قليلاً - وهي الصبية الناشئة- في جوف الليل ، ووحشة الطريق ، بين أسنة الصخر ، ومساحات الرمال ، تمشى متخفية حذرة مترقبة حتى تصعد إلى هامته ، ثم تنحدر في جوفه فتوافي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبة كل ليلة بالزاد والماء وبما عسى أن تكون قد سمعته ، أو رأته ، من حديث القوم وخبرهم.
قامت الصغيرة بدور فدائي وحملت أمانة الإمداد والتمويل للرحلة المباركة ، ونقل أخبار الكفار ، ولما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - الرحيل من الغار متجهاً إلى يثرب جهزت الزاد والماء ، ولم تجد ما تربطهما به ، فشقت نطاقها وربطتهما به ، وحين فعلت ذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : [ أبدلك الله بنطاقك هذا نطاقين في الجنة ] فقيل لها ذات النطاقين .
تلك هي الصبية التي تركت الولدان والولائد من لداتهها وأترابها يغدون إلى ملاعبهم ويأوون إلى صدور أمهاتهم ، وذهبت إلى حيث يعجز أشداء الرجال وأبطالهم ، فأي قوة تلك التي أمدها الله بها ، وأي قلب ذلك الذي أودعه الله بين ضلوعها ، وأية عزمة تلك التي خفقت في نفسها ؟ فلعمري لئن سلمت الفتاة "أسماء" من عثرات الطريق ووعثاء الصحراء تحت جنح الليل البهيم ، فلم تسلم من أذى قريش وكفارها ، فجاءها نفر واقتحموا عليها وداعتها وهدوءها وأحاط بها رجال القوم وهي فريدة بينهم لا يحمي ظهرها رجل ، وسألوها في عصبية : أين أبوك يا بنت أبي بكر ؟ فردت في صمود وشموخ وثقة وإباء : لا أدري أين أبي !! فرفع النذل أبو جهل -لعنه الله - يده ولطمها لطمة قاسية طار لها قطرها ، ولم يوهن ذلك شيئاً من عزيمتها ولا عبث بمكنون سرها. وتعد هذه الفتاة الفدائية مثلاً لتلك النفوس التي استخلصها الله لدينه ، واصطنعها لدعوته ، ونفث فيها من روحه ، فكانت مستقراً لفضائل الكمال ، ويحدثنا التاريخ بإسهاب لمواقفها البطولية بعد ذلك في مجال الجهاد والدعوة ، وليس أعظم من قولتها لابنها عبد الله بن الزبير حين خشي من التمثيل بجثته : يا بني إن الشاه لا يضيرها سلخها بعد ذبحها ، فامض واستعن بالله ، قالت هذا وهي تحذر مصير ابنها ، ولكنها تعلمت أن تضحي منذ الصغر ، ولا تبخل في سبيل الله بالجهد بالمال والولد
5. عاتكة بنت خالد الخزاعية " أم معبد " : ( الوصف الفذ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) :
هي عاتكة بنت خالد بن خليف بن منقذ بن ربيعة بن كعب بن عمرو من خزاعة ، وتعرف "بأم مَعْبَد الخزاعية" من ربات الفصاحة والبلاغة وكانت امرأة برزة جلدة تسقى وتطعم ، فمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - عليها في خيمتها ، هو وأبو بكر رضي الله عنه ، ومولاه عامر بن فهيرة والدليل عبد الله بن أريقط ، وسألوها لحماً وتمراً ليشتروه ، فلم يصيبوا عندها شيئاً ، وفي كسر الخيمة شاة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : [ يا أم معبد هل بها من لبن ] ؟ فقالت : هي أجهد من ذلك ، فقال : [ أتأذنين لي أن أحلبها ؟] قالت : نعم إن رأيت بها حلباً ، فمسح الرسول - صلى الله عليه وسلم - بيده ضرعها وسمى الله ، ودعا لها في شاتها ، فدرت ، واجترت فدعا بإناء فحلب فيه حتى علاه البهاء ثم سقاها حتى رويت ثم سقى أصحابه حتى رووا وشرب آخرهم ثم حلب فيه ثانياً ثم غادره عندها وارتحلوا عنها .
وما لبثت " أم معبد " حتى جاء زوجها يسوق أعنزاً عجافاً فلما رأى اللين قال في عجب : من أين لك اللبن يا أم معبد والشاه عازب حيال ، ولا حلوب في البيت ؟ قالت عاتكة : لا والله إنه مر بنا رجل مبارك كان من حديثه كيت وكيت . فقال : صفيه لي ، فوالله إني لأراه صاحب قريش الذي تطلب ، وخُلدت عاتكة في التاريخ بما قدمته من وصف للمصطفى - صلى الله عليه وسلم - فهو أدق وصف وصف به ، فلم يصفه الواصفون بمثل ما وصفته به أم معبد . قالت في وصفه : رأيت رجلاً ظاهر الوضاءة حسن الخلق مليح الوجه لم تعبه ثجلة ولم تزر به صُعلة ، قسيم ، وسيم في عينيه دَعَج ، وفي أشفاره وَطَف ، وفي صورته صَحَل ، أكحل أزج أقرن في عنقه سَطَع ، وفي لحيته كثاثة ، إذا صمت فعليه الوقار ، وإذا تكلم سما وعلاه البهاء ، حلو المنطق ، فصل لا نزر ولا هذر ، كأن منطقه خزرات نظم ينحدرن ، أبهى الناس ، وأجمله من بعيد ، وأحسنه من قريب ، ربعة لا تشنأه عين من طول ، ولا تقتحمه عين من قصر ، غصن بين غصنين ، فهو أنضر الثلاثة منظراً ، وأحسنهم قداً ، وإن أمر تبادروا لأمره ، محفود محشود ، لا عابس ولا مفند . فقال : - أي بعلها - هذا والله صاحب قريش الذي تطلب ، ولو صادفته لالتمست أن أصحبه ، ولأجهدن إن وجدت إلى ذلك سبيلاً .
وأي محدث يريد أن يصف النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يسعه إلا أن يعود إلى وصف أم معبد البليغ ، وقد كان لها دور أيضاً في الهجرة ، فخيمتها معروفة على الطريق من مكة إلى المدينة ، وبعد رحيل النبي - صلى الله عليه وسلم - من الغار انقطعت أخباره عن أصحابه في مكة فلم يعلموا الوجهة التي قصدها النبي صلى الله علهيه وسلم وبعد ما حل في خيمة أم معبد عرف كل من بمكة ذلك ، وعن هذا تحكى الفدائية "أسماء" فتقول : مكثنا ثلاث ليال ما ندري أين وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أصبح صوت بمكة عال بين السماء والأرض يتغنى بأبيات من شعر غناء العرب ، وإن الناس ليتبعونه ، يسمعون الصوت ولا يرون صاحبه ، حتى خرج من أعلى مكة وهو يقول :
جزى الله رب الناس خبر جزائه رفيقين حلاّ خيمتى أم معبد
هما نزلا بالبر وارتحلا به فأفلح من أمسى رفيق محمد
فيا لُقصي ما زوى الله عنكم به من فعال لا تجازى وسؤدد
سلوا أختكم عن شاتها وإنائها فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد
دعاها بشاة حائل فتحلبت له بصريح ، ضبرة الشاة مزبد
فغادرها رهناً لديها لحالب يدُر لها في مصدر ثم مورد
قالت أسماء : فلما سمعنا قوله عرفنا حيث وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأن وجهه إلى المدينة ، وأخذ المهاجرون على خيمتي أم معبد حتى لحقوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - .
وهكذا كانت خيمتا أم معبد حلقة الوصل لتصل ما انقطع من أخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المسلمين في مكة ، وفي الخيمة كانت الراحة للمهاجرين ، ثم الترحال للحاق بالنبي صلى الله عليه وسلم
نفحات من هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم
التأريخ الهجري:
رفع صك إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه محله في شعبان فقال عمر: أي شعبان؟ الذي هو آت أو الذي نحن فيه؟ ثم قال لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضعوا للناس شيئاً يعرفونه وقد أجمعت كلمة الصحابة على استبعاد تاريخ الروم والفرس ليكون للمسلمين تاريخهم المستقل الذي ابتدأ حقيقة برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما كانت الهجرة النبوية هي الحد الفاصل بين المرحلة المكية والمدنية للدعوة الإسلامية فقد اتفقت الآراء على أن يكتبوا التاريخ من مقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة وعلى أن يكون البدء من شهر الله المحرم فهو مصرف الناس من حجهم وهو شهر حرام.
آفاق جديدة:
فتحت هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة آفاقاً جديدة للدعوة الإسلامية التي تعتمد مبدأ الكلمة الواعية المستندة إلى توحيد الله عز وجل، ولقد دخلت المدينة (يثرب سابقاً) مرحلة جديدة بعد بيعة العقبة الثانية حيث بدأ فيها التاريخ، وبدأ فيها التحول والتطور نحو حياة أفضل، إذ تحولت نزاعات الأوس والخزرج إلى ألفة ومحبة، وتبدلت فرقتهم إلى عزة وتوحد، وانهارت وثنيتهم أمام نور توحيد الله وبدأ دور يهود يثرب يأفل ويغيب حيث كانوا يسيطرون على اقتصاد يثرب ويسعون جاهدين إلى تشتيت القبائل العربية وتمزيق وحدتها وإشعال نار الفتن والخصومات بين أهلها، ولما دخلت طلائع الدعوة الإسلامية تكشفت مؤامرات يهود وبدأ دورهم بالانهيار وقام سفير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مصعب بن عمير بنشاط دعوي كبير حيث دخل على يديه إلى الإسلام عدد كبير من زعماء بني عبد الأشهل والقبائل العربية الأخرى بحيث لم يبق بيت في المدينة إلا ودخل إليه نور الإسلام.
الدعوة بالتربية والقدوة:
هاجر إلى المدينة المنورة (79) مسلماً من المسلمين الأوائل الذين دخلوا مدرسة دار الأرقم بن أبي الأرقم بمكة المكرمة حيث كان محمداً - صلى الله عليه وسلم - يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، وكان كتابهم القرآن الكريم يتعلمون أحكامه وعلومه وأخلاقه وآدابه حتى تخرجوا من هذه المدرسة وقد تطهرت عقيدتهم من الشرك والوثنية، وتنظفت نفوسهم من الأمراض الأخلاقية، وخلت قلوبهم مما سوى الله، وأخذوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الدروس التربوية عن طريق القدوة الطيبة، والأسوة العملية الحسنة، وبموجب عقد التآخي بين المهاجرين والأنصار فقد دخل المهاحرون (79) بيتاً من بيوت الأنصار فنقلوا إليهم العقيدة الحقة والأخلاق الفاضلة والسلوك المستقيم عن طريق القدوة الحسنة، وهذا بدوره حول هذا المجتمع إلى مجتمع فاضل يعرف فيه كل فرد حقوقه وواجباته تحت ظلال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكم نحن بحاجة إلى اتباع أسلوب الدعوة العملية بالقدوة والأسوة الحسنة ليعشق الآخرون الإسلام من خلال التزامنا العملي به ولقد ضرب التجار المسلمون أروع المثل في البلاد التي سافروا إليها فرأى أهلها معاملات صادقة، وأخلاقاً فاضلة مما دعاهم إلى الدخول في دين التجار المسلمين هكذا فتحت أندونيسيا وماليزيا وجزر الأرخبيل في جنوب شرق آسيا. إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
المعية الإلهية:
وصل المشركون إلى غار ثور حيث انقطعت آثار أقدام النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه الصديق وخشي أبو بكر رضي الله عنه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: لو نظر أحدهم إلى موضع قدمه لرآنا فأجابه النبي - صلى الله عليه وسلم - ما ظنك باثنين الله ثالثهما لا تحزن إن الله معنا، ولقد سطر القرآن هذه الحادثة فقال "فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها" ولا بأس من إلقاء الضوء على التساؤل التالي: هل المعية الإلهية كانت خاصة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه الصديق في الغار؟ ولدى الرجوع إلى الحقائق القرآنية نجد ما يلي:
1- طلب الله من موسى وهارون القيام بواجب الدعوة والبلاغ إلى فرعون بقوله: اذهب إلى فرعون إنه طغى فاعتذر إلى الله بالخوف من استكبار فرعون وطغيانه "قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى" فطمأنهما الله بالمعية الإلهية الناصرة "قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى"
2- وظلت هذه المعية الإلهية مع نبيه موسى عليه السلام لما فر من فرعون وجنده مع المؤمنين خشي من معه بأن يظفر بهم فرعون "فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون" فطمأنهم موسى بالمعية الإلهية "قال كلا إن معي ربي سيهدين".
3- وقد طلب الله من بني إسرائيل القيام بعدة أمور لاستحقاق المعية الإلهية "وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضاً حسناً" وبإمكان كل مسلم أن يستحق شرف المعية الإلهية إذا قام بمتطلباتها، وهي:
أ- التقوى: "إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون" والتقوى هي امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه.
ب- الصبر: "إن الله مع الصابرين".
جـ - الإحسان: "وإن الله لمع المحسنين" ويشمل الإحسان تقديم الخير إلى الخلق، ومجاهدة النفس في العبادة حتى يصل الإنسان إلى مقام "أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك".
هجرة الصديق مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة(1/155)
اشتدت قريش في أذى المسلمين، والنيل منهم فمنهم من هاجر الى الحبشة مرة أو مرتين فراراً بدينه...ثم كانت الهجرة الى المدينة ومن المعلوم أن أبا بكر استأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الهجرة فقال له: (لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحباً)(1) فكان أبوبكر يطمع أن يكون في صحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذه السيدة عائشة رضي الله عنها تحدثنا عن هجرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبيها - رضي الله عنه - حيث قالت: (كان لايخطئ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأتي بيت أبي بكر أحد طرفي النهار، إما بكرة، وإما عشية، حتى إذا كان اليوم الذي أذن فيه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الهجرة، والخروج من مكة من بين ظهري قومه، أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالهاجرة(2)، في ساعة كان لايأتي فيها قالت: فلما رآه أبوبكر، قال: ماجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الساعة إلا لأمر حدث. قالت: فلما دخل، تأخر له أبوبكر عن سريره فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وليس عند أبي بكر إلا أنا وأختي أسماء بنت أبي بكر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخرج عني من عندك. فقال: يارسول الله، إنما هما إبنتاي، وماذاك فداك أبي وأمي! فقال: إنه قد أذن بي في الخروج والهجرة. قالت: فقال أبوبكر: الصحبة يارسول الله؟ قال: الصحبة. قالت: فوالله ماشعرت قط قبل ذلك اليوم أحد يبكي من الفرح، حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ، ثم قال: يانبي الله، إن هاتين راحلتان قد كنت أعددتهما لهذا فاستأجرا عبدالله بن أرقط رجلاً من بني الديل بن بكر، وكانت أمه امرأة من بني سهم بن عمرو، وكان مشركاً -يدلهما على الطريق، فدفعا إليه راحلتيهما فكانتا عنده يرعاهما لميعادهما(3).
وجاء في رواية البخاري عن عائشة في حديث طويل تفاصيل مهمة وفي ذلك الحديث : (......قالت عائشة: فبينما نحن يوماً جلوساً في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة قال قائل لأبي بكر هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متقنعاً(4)، في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر: أخرج من عندك، فقال أبوبكر: إنما هم أهلك. فقال: فإني قد أذن لي في الخروج فقال أبوبكر: الصحبة بأبي أنت يارسول الله قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : نعم، قال ابوبكر: فخذ بأبي أنت يارسول الله إحد راحلتي هاتين، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : بالثمن، قالت عائشة: فجهزناهما أحسن الجهاز، ووضعنا لهم سفرة في جراب، فقطمت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب، فبذلك سميت ذات النطاقين، ثم لحق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبوبكر بغار في جبل ثور، فكمنا(5) فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبدالله بن أبي بكر وهو غلام شاب ثقف(6)، لقن(7)، فيدلج(8) من عندهما بسحر، فيصبح مع قريش بمكة كبائت، فلا يسمع أمراً يكتادان(9) به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما حيث تذهب ساعة من العشاء فيبيتان في رسل -وهو لبن منحهما ورضيفهما(10) ينعق(11) بها عامر بن فهيرة بغلس(12) يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث، واستأجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبوبكر رجلاً من بني الديل وهو من بني عبد ابن عدي -هادياً خريتا- والخريت الماهر- قد غمس حلفاً(13) في آل العاص بن وائل السهمي، وهو على دين كفار قريش، فأمناه فدفعا إليه راحلتيهما، وواعده غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما صبح ثلاث، وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل فأخذ بهم طريق السواحل(14).
__________
(1) تاريخ الدعوة الى الاسلام، ص107.
(2) الهاجرة: نصف النهار عند زوال الشمس مع الظهر أو العصر.
(3) السيرة النبوية لابن كثير (2/233-234).
(4) متقنعاً: مغطياً رأسه.
(5) كمنا فيه: أي استترا واستخفيا ومنه الكمن في الحرب.
(6) ثقف: ذو فطن وذكاء والمراد ثابت المعرفة بما يحتاج إليه. (النهاية 1/216).
(7) لقن: فهم حسن التلقي لما يسمعه، (النهاية، 4/266).
(8) يدلج: أدلج إذا سار أول الليل وأدّلج بالتشديد إذا سار آخره.
(9) يكتادان: أي يطلب لهما فيه المكروه وهو من الكيد.
(10) الرضيف: اللبن المرضوف وهو الذي طرح فيه الحجارة المحماة.
(11) ينعق: نعق بغنمه، أي صاح بها وزجرها. (القاموس المحيط، 3/265).
(12) الغلس: ظلمة آخر الليل إذا اختلطت بضوء الصباح. (النهاية، 3/377).
(13) غمس حلفاً: أي أخذ بنصيب من عقدهم وحلفهم يأمن به.
(14) البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب هجرة النبي رقم 395.
لم يعلم بخروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحد حين خرج إلا علي بن أبي طالب، وأبوبكر الصديق، وآل أبي بكر، وجاء وقت الميعاد بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابي بكر - رضي الله عنه -، فخرجا من خوخة(1)، لأبي بكر في ظهر بيته، وذلك للإمعان في الاستخفاء حتى لاتتبعهما قريش، وتمنعهما من تلك الرحلة المباركة، وقد اتعدا مع الليل على أن يلقاهما عبدالله بن أريقط في غار ثور بعد ثلاث ليال(2)، وقد دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - عند خروجه من مكة الى المدينة(3)، ووقف عند خروجه بالحزورة في سوق مكة وقال: (والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله الى الله، ولولا أني أخرجت منك ماخرجت)(4).
ثم أنطلق رسول الله وأبوبكر والمشركون يحاولون أن يقتفوا آثارهم حتى بلغوا الجبل -جبل ثور- اختلط عليهم، فصعدوا الجبل فمروا بالغار، فرآوا على بابه نسيج العنكبوت، فقالوا: لو دخل هاهنا أحد لم يكن نسج العنكبوت على بابه(5)، وهذه من جنود الله عز وجل: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} (سورة المدثر، الآية:31).
وبالرغم من كل الأسباب التي اتخذها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه لم يرتكن إليها مطلقاً، وإنما كان كامل الثقة في الله، عظيم الرجاء في نصره وتأييده، دائم الدعاء بالصيغة التي علمه الله إياها(6)، قال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} (سورة الاسراء، الآية:80).
وفي هذه الآية الكريمة دعاء يُعلّمه الله عز وجل لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ليدعوه به، ولتتعلم أمته كيف تدعو الله وكيف تتجه إليه؟ دعاء بصدق المدخل وصدق المخرج، كناية عن صدق الرحلة كلها، بدئها وختامها، أولها وآخرها ومابين الأول والآخر، وللصدق هنا قيمته بمناسبة ماحاوله المشركون من فتنته عما أنزله الله عليه ليفترى على الله غيره، وللصدق كذلك ظلاله: ظلال الثبات، والاطمئنان والنظافة الاخلاص {وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} قوة وهيبة استعلى بهما على سلطان الأرض وقوة المشركين، وكلمة {مِنْ لَدُنْك} تصور القرب والاتصال بالله والاستمداد من عونه مباشرة واللجوء الى حماه.
وصاحب الدعوة لايمكن أن يستمد السلطان إلا من الله، ولا يمكن أن يهاب إلا بسلطان الله، لايمكن أن يستظل بحاكم أو ذى جاه فينصره ويمتعه مالم يكن أتجاهه قبل ذلك الى الله والدعوة قد تغزو قلوب ذوي السلطان والجاه، فيصبحون لها جنداً وخدماً فيفلحون، ولكنها هي لاتفلح إن كانت من جند السلطان وخدمه، فهي من أمر الله، وهي أعلى من ذوي السلطان والجاه(7).
وعندما أحاط المشركون بالغار، أصبح منهم رأي العين طمأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - الصديق بمعية الله لهما: فعن ابي بكر الصديق - رضي الله عنه - قال: قلت للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا في الغار: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا. فقال: ماظنك ياأبابكر باثنين الله ثالثهما(8)؟
وسجل الحق عز وجل ذلك في قوله تعالى: {إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (سورة التوبة، الآية:40).
__________
(1) الهجرة في القرآن الكريم، ص334.
(2) خاتم النبيين لأبي زهرة (1/659)؛ السيرة النبوية لابن كثير (2/234).
(3) السيرة النبوية لابن كثير (2/230-234).
(4) الترمذي، كتاب المناقب، باب فضل مكة (5/722).
(5) مسند الامام أحمد (1/348).
(6) الهجرة النبوية المباركة، ص72.
(7) في ظلال القرآن (4/2247).
(8) البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب المهاجرين رقم 3653؛ مسلم رقم 5381.
وبعد ثلاث ليال من دخول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الغار خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه من الغار، وقد هدأ الطلب، ويئس المشركون من الوصول الى رسول الله، وقد قلنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر قد استأجرا رجلاً من بني الديل يسمى عبدالله بن أريقط وكان مشركاً وقد أمِناهُ فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما وقد جاءها فعلاً في الموعد المحدد وسلك بهما طريقاً غير معهودة ليخفي أمرهما عمن يلحق بهم من كفار قريش(1)، وفي أثناء الطريق الى المدينة مرّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بأم معبد(2)، في قديد(3)، حيث مساكن خزاعة، وهي أخت حبيش بن خالد الخزاعي الذي روى قصتها، وهي قصة تناقلها الرواة وأصحاب السير، وقال عنها ابن كثر: (وقصتها مشهورة مروية من طرق يشد بعضها بعضاً)(4).
وقد أعلنت قريش في نوادي مكة بأنه من يأتي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - حياً أو ميتاً فله مائة ناقة وانتشر هذا الخبر عند قبائل العرب الذين في ضواحي مكة وطمع سراقة بن مالك بن جعشم في نيل الكسب الذي أعدته قريش لمن يأتي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأجهد نفسه لينال ذلك، ولكن الله بقدرته التي لايغلبها غالب، جعله يرجع مدافعاً عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أن كان جاهداً عليه(5).
ولما سمع المسلمون بالمدينة بمخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة، كانوا يفدون كل غداة الى الحرة، فينتظرون حتى يردهم حر الظهيرة، فانقلبوا يوماً بعد ماأطالوا انتظارهم فلما أووا الى بيوتهم أوفى رجل من يهود على أطم(6) من آطامهم لأمر ينظر إليه فبصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأصحابه مبيضين(7)، يزول بهم السراب(8)، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته، يامعشر العرب هذا جدكم(9)، الذي تنتظرون، فثار المسلمون الى السلاح فتلقوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بظهر الحرة فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عوف، وذلك يوم الخميس الأثنين(10) من شهر ربيع الأول(11)، فقام أبابكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرف الناس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك(12).
كان يوم وصول الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر الى المدينة يوم فرح وابتهاج لم تر المدينة يوماً مثله، ولبس الناس أحسن ملابسهم كأنهم في يوم عيد، ولقد كان حقاً يوم عيد، لأنه اليوم الذي انتقل فيه الاسلام من ذلك الحيز الضيق في مكة الى رحابة الانطلاق والانتشار بهذه البقعة المباركة المدينة، ومنها الى سائر بقائع الأرض لقد أحس أهل المدينة بالفضل الذي حباهم الله به، وبالشرف الذي اختصهم الله به، فقد صارت بلدتهم موطناً لإيواء رسول الله وصحابته المهاجرين ثم لنصرة الاسلام كما أصبحت موطناً للنظام الاسلامي العام التفصيلي بكل مقوماته ولذلك خرج أهل المدينة يهللون في فرح وابتهاج ويقولون يارسول الله يامحمد يارسول الله(13)، وبعد هذا الاستقبال الجماهيري العظيم الذي لم يرد مثله في تاريخ الانسانية سار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى نزل في دار أبي أيوب الانصاري - رضي الله عنه -(14)، ونزل الصديق على خارجة بن زيد الخزرجي الأنصاري.
__________
(1) المستفاد من قصص القرآن، زيدان (2/101).
(2) هي عاتكة بنت كعب الخزاعية.
(3) وادي قديد يبعد عن الطريق المعبد حوالي ثمانية كيلومترات.
(4) البداية والنهاية (3/188).
(5) السيرة النبوية، عرض لوقائع وتحليل لأحداثها للصّلابي، ج1، ص543).
(6) أطم: كالحصن.
(7) مبيضين: عليهم ثياب بيض.
(8) السراب: أي يزول بهم السراب عن النظر بسبب عروضهم له.
(9) جدكم: حظكم وصاحب دولتكم الذي تتوقعونه.
(10) قال الحافظ بن حجر: هذا هو المعتمد وشذ من قال الجمعة. (الفتح، 4/544).
(11) الهجرة في القرآن الكريم، ص351.
(12) نفس المصدر، ص352.
(13) المصدر السابق، ص353.
(14) الهجرة في القرآن الكريم، ص354.
وبدأت رحلة المتاعب والمصاعب والتحديات، فتغلب عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للوصول للمستقبل الباهر للأمة والدولة الاسلامية التي استطاعت أن تصنع حضارة إنسانية رائعة على أسس من الإيمان والتقوى والإحسان والعدل بعد أن تغلبت على اقوى دولتين كانتا تحكمان في العالم، وهما الفرس والروم(1)، وكان الصديق - رضي الله عنه - الساعد الأيمن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - منذ بزوغ الدعوة حتى وفاته - صلى الله عليه وسلم - ، وكان ابوبكر - رضي الله عنه - ينهل بصمت وعمق من ينابيع النبوة: حكمة وإيماناً، يقيناً وعزيمة، تقوى وإخلاصاً، فإذا هذه الصحبة تثمر: صلاحاً وصدِّيقية، ذكراً ويقظة، حُباً وصفاء، عزيمة وتصميماً، إخلاصاً وفهماً، فوقف مواقفه المشهودة بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، في سقيفة بني ساعدة وغيرها من المواقف وبعث جيش أسامة وحروب الردة، فأصلح مافسد، وبنى ماهُدم، وجمع ماتفرق، وقوّم ماانحرف(2)، إن حداثة هجرة الصديق مع رسول الله فيها دروس وعبر وفوائد منها:
أولاً: قال تعالى: {إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (سورة التوبة، الآية40).
ففي هذه الآية الكريمة دلالة على أفضلية الصديق من سبعة أوجه ففي الآية الكريمة من فضائل أبي بكر - رضي الله عنه -:
1- أن الكفار أخرجوه:
الكفار أخرجوا الرسول (ثاني أثنين) فلزم أن يكونوا أخرجوهما، وهذا هو الواقع.
2- أنه صاحبه الوحيد:
الذي كان معه حين نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا هو أبوبكر، وكان ثاني أثنين الله ثالثهما. قوله {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} ففي المواضع التي لايكون مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من أكابر الصحابة إلا و احد يكون هو ذلك الواحد مثل سفره في الهجرة ومقامه يوم بدر في العريش لم يكن معه فيه إلا أبوبكر، ومثل خروجه الى قبائل العرب يدعوهم الى الاسلام كان يكون معه من أكابر الصحابة أبوبكر، وهذا اختصاص في الصحبة لم يكن لغيره باتفاق أهل المعرفة بأحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - .
3- أنه صاحبه في الغار:
الفضيلة في الغار ظاهرة بنص القرآن وقد أخرجا في الصحيحين من حديث أنس، عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، قال: نظرت الى أقدام المشركين على رؤسنا ونحن في الغار، فقلت: يارسول الله لو أن أحدهم نظر الى قدميه لأبصرنا. فقال: ياأبابكر ماظنك باثنين الله ثالثهما(3). وهذا الحديث مع كونه مما اتفق أهل العلم على صحته وتلقيه بالقبول فلم يختلف في ذلك اثنان منهم فهو مما دل القرآن على معناه(4).
4- أنه صاحبه المطلق:
قوله: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ} لايختص بمصحابته في الغار، بل هو صاحبه المطلق الذي عمل في الصحبة كما لم يشركه فيه غيره -فصار مختصاً بالأكملية من الصحبة، وهذا مما لانزاع فيه بين أهل العلم باحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - ولهذا قال من قال من العلماء: إن فضائل الصديق خصائص لم يشركه فيها غيره(5).
5- أنه المشفق عليه:
قوله {لا تَحْزَنْ} يدل على أن صاحبه كان مشفقاً عليه محباً له ناصراً له حيث حزن، وإنما بحزن الإنسان حال الخوف على من يحبه، وكان حزنه على النبي - صلى الله عليه وسلم - لئلا يقتل ويذهب الاسلام، ولهذا لما كان معه في سفر الهجرة كان يمشي امامه تارة، ووراءه تارة، فسأله النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فقال: أذكر الرصد فأكون أمامك، وأذكر الطلب فأكون وراءك(6)، وفي رواية أحمد في كتاب فضائل الصحابة: ...فجعل أبوبكر يمشي خلفه ويمشي أمامه فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - مالك؟ قال: يارسول الله أخاف أن تؤتى من أمامك فأتقدم، قال: فلما انتهينا الى الغار قال أبوبكر: يارسول الله كما أنت حتى أيمه...فلما رأى أبوبكر حجراً في الغار فألقمها قدمه، وقال يارسول الله إن كانت لسعة أو لدغة كانت بي(7). فلم يكن يرضى بمساواة النبي؛ بل كان لايرضى بأن يقتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يعيش؛ بل كان يختار أن يفديه بنفسه وأهله وماله. وهذا واجب على كل مؤمن، والصديق أقوم المؤمنين بذلك(8).
6- المشارك له في معية الاختصاص:
__________
(1) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، أم محزون، ص355.
(2) في التاريخ الاسلامي، شوقي ابوخليل، ص226.
(3) البخاري، كتاب فضائل الصحابة، رقم 3653؛ مسلم رقم 1854.
(4) منهاج السنّة (4/240،241).
(5) منهاج السنّة (4/252،245).
(6) ابوبكر الصديق أفضل الصحابة وأحقهم بالخلافة، ص43.
(7) منهاج السنّة (4/262،263).
(8) نفس المصدر (4/263).
قوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} صريح في مشاركة الصديق للنبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه المعية التي اختص بها الصديق لم يشركه فيها أحد من الخلق... وهي تدل على أنه معهم بالنصر والتأييد والإعانة على عدوهم - فيكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر أن الله ينصرني وينصرك ياأبابكر، ويعيننا عليهم، نصر إكرام ومحبة كما قال الله تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} (سورة غافر، الآية 51). وهذا غاية المدح لأبي بكر؛ إذ دل على أنه ممن شهد له الرسول بالايمان المقتضي نصر الله له مع رسوله في مثل هذه الحال التي يخذل فيها عامة الخلق إلا من نصره الله(1).
وقال الدكتور عبدالكريم زيدان عن المعية في هذه الآية الكريمة وهذه المعية الربانية المستفادة من قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} أعلى من معيته للمتقين والمحسنين في قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} لأن المعية هنا لذات الرسول وذات صاحبه، غير مقيدة بوصف هو عمل لهما، كوصف التقوى والإحسان بل هي خاصة برسوله وصاحبه مكفولة هذه المعية بالتأييد بالآيات وخوارق العادات(2).
7- أنه صاحبه في حال إنزال السكينة والنصر:
قال تعالى {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا...} (سورة التوبة، الآية 40) فإن من كان صاحبه في حال الخوف الشديد فلأن يكون صاحبه في حضور النصر والتأييد أولى وأحرى، فلم يحتج أن يذكر صحبته له في هذه الحال لدلالة الكلام والحال عليها. وإذا علم أنه صاحبه في هذه الحال علم أنما حصل للرسول من إنزال السكينة والتأييد بالجنود التي لم يرها الناس لصاحبه فيها أعظم مما لسائر الناس. وهذا من بلاغة القرآن وحسن بيانه(3).
ثانياً: فقه النبي - صلى الله عليه وسلم - والصديق في التخطيط والأخذ بالأسباب:
إن من تأمل حادثة الهجرة رأى دقة التخطيط فيها ودقة الأخذ بالأسباب من ابتدائها ومن مقدماتها إلى ماجرى بعدها يدرك أن التخطيط المسدد بالوحي في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان قائماً وأن التخطيط جزء من السنة النبوية وهو جزء من التكليف الإلهي في كل ماطولب به المسلم وأن الذين يميلون إلى العفوية بحجة أن التخطيط وإحكام الأمور ليسا من السُّنة أمثال هؤلاء مخطئون ويجنون على أنفسهم وعلى المسلمين(4).
فعندما حان وقت الهجرة للنبي - صلى الله عليه وسلم - في التنفيذ نلاحظ الآتي:
أ-وجود التنظيم الدقيق للهجرة حتى نجحت رغم ماكان يكتنفها من صعاب وعقبات، وذلك أن كل أمر من أمور الهجرة كان مدروساً دراسة وافية، فمثلاً،
1-جاء - صلى الله عليه وسلم - إلى بيت أبي بكر في وقت شدة الحر -الوقت الذي لايخرج فيه أحد بل من عادته لم يكن يأتي له لماذا؟ حتى لايراه أحد.
2-إخفاء شخصيته - صلى الله عليه وسلم - أثناء مجيئة للصديق وجاء إلى بيت الصديق متلثماً، لأن التلثم يقلل من إمكانية التعرف على معالم الوجه المتلثم(5).
3-أمر - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر أن يخرج من عنده، ولما تكلم لم يبين إلا الأمر بالهجرة دون تحديد الإتجاه .
4-وكان الخروج ليلاً ومن باب خلفي في بيت أبي بكر(6).
5-بلغ الاحتياط مداه، باتخاذ طرق غير مألوفة للقوم، والاستعانة بذلك بخبير يعرف مسالك البادية، ومسارب الصحراء، وكان ذلك الخبير مشركاً مادام على خلق ورزانة وفيه دليل على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان لايحجم عن الاستعانة بالخبرات مهما يكن مصدرها(7)، وقد بين الشيخ عبدالكريم زيدان أن القاعدة والأصل عدم الاستعانة بغير المسلم في الأمور العامة، ولهذه القاعدة استثناء وهو جواز الاستعانة بغير المسلم بشروط معينة وهي: تحقق المصلحة أو رجحانها بهذه الاستعانة، وأن لايكون ذلك على حساب الدعوة ومعانيها، وأن يتحقق الوثوق الكافي بمن يستعان به، وأن لاتكون هذه الاستعانة مثار شبهة لأفراد المسلمين، وأن تكون هناك حاجة حقيقية لهذه الاستعانة على وجه الاستثناء، وإذا لم تتحقق لم تجز الاستعانة(8)، وقد كان الصديق - رضي الله عنه - قد دعا أولاده للإسلام ونجح بفضل الله في هذا الدور الكبير والخطير، وقام بتوظيف أسرته لخدمة الإسلام ونجاح هجرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فوزع بين أولاده المهام الخطيرة في مجال التنفيذ العملي لخطة الهجرة المباركة:
1-دور عبدالله بن أبي بكر-رضي الله عنهما-:
__________
(1) منهاج السنّة (4/242،243).
(2) المستفاد من قصص القرآن (2/100).
(3) منهاج السنّة (4/272).
(4) الأساس في السنّة، سعيد حوى (3578).
(5) السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحيطة، ص141.
(6) معين السيرة للشامي، ص147.
(7) الهجرة في القرآن الكريم، ص361.
((1/156)
8) المستفاد من قصص القرآن (2/144،145).
فقد قام بدور صاحب المخابرات الصادق وكشف تحركات العدو، لقد ربى عبدالله على حب دينه، والعمل لنصرته ببصيرة نافذة وفطنة كاملة وذكاء متوقد، يدل على العناية الفائقة التي اتبعها سيدنا أبو بكر في تربيته وقد رسم له أبوه دوره في الهجرة فقام به خير قيام، وكان يمتثل في التنقل بين مجالس أهل مكة يستمع أخبارهم، ومايقولونه في نهارهم ثم يأتي الغار إذا أمسى فيحكي للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولأبيه الصديق - رضي الله عنه - مايدور بعقول أهل مكة ومايدبرونه، وقد أتقن عبدالله هذا الواجب بطريقة رائعة فلم تأخذ واحداً من أهل مكة ريبة فيه، وكان يبيت عند الغار حارساً حتى إذا اقترب النهار عاد إلى مكة فما شعر به أحد(1).
2-دور عائشة وأسماء رضي الله عنهما:
كان لأسماء وعائشة دور عظيم أظهر فوائد التربية الصحيحة حيث قامتا عند قدوم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى بيت أبي بكر ليلة الهجرة بتجهيز طعام للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولأبيهما: تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فجهزناهما -تقصد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأباها- أحسن الجهاز فصنعنا لهما سفرة في جراب، فقطعت أسماء قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب فلذلك سميت ذات النطاقين(2).
3-دور أسماء في تحمل الأذى وإخفاء أسرار المسلمين:
أظهرت أسماء رضي الله عنها دور المسلمة الفاهمة لدينها، المحافظة على أسرار الدعوة المتحملة لتوابع ذلك من الأذى والتعنت فهذه أسماء تحدثنا بنفسها حيث تقول: لما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر - رضي الله عنه - أتانا نفر من قريش، فيهم أبو جهل بن هشام، فوقفوا على باب أبي بكر، فخرجت إليهم، فقالوا: أين أبوك يابنت أبي بكر؟ قلت: لا أدري والله أين أبي؟ قالت: فرفع أبو جهل يده -وكان فاحشاً خبيثاً- فلطم خدِّي لطمة طرح منها قرطي قالت: ثم انصرفوا...)(3).
فهذا درس من أسماء رضي الله عنها تعلمه لنساء المسلمين جيلاً بعد جيل كيف تخفي أسرار المسلمين عن الأعداء وكيف تقف صامدة شامخة أمام قوى البغي والظلم؟
4-دور أسماء رضي الله عنها في بث الأمان والطمأنينة في البيت:
خرج أبو بكر - رضي الله عنه - مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه ماله كله وهو ماتبقى من رأسماله -وكان خمسة آلاف أو ستة آلاف درهم- وجاء أبو قحافة ليتفقد بيت ابنه، ويطمئن على أولاده وقد ذهب بصره، فقال: والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه، قالت: كلا يا أبتِ، ضع يدك على هذا المال. قالت: فوضع يده عليه، فقال: لابأس، إذا كان ترك لكم هذا فقد أحسن، وفي هذا بلاغ لكم. لاوالله ماترك لنا شيئاً، ولكني أردت أن أسكّن الشيخ بذلك(4).
وبهذه الفطنة والحكمة سترت أسماء أباها، وسكنّت قلب جدها الضرير، من غير أن تكذب، فإن أباها قد ترك لهم حقاً هذه الأحجار التي كوّمتها لتطمئن لها نفس الشيخ إلا أنه قد ترك لهم معها إيماناً بالله لاتزلزله الجبال، ولاتحركه العواصف الهوج، ولايتأثر بقلة أو كثرة في المال، وورثهم يقيناً وثقة به لاحد لها، وغرس فيهم همة تتعلق بمعالي الأمور، ولاتلتفت إلى سفاسفها، فضرب بهم للبيت المسلم مثالاً عزّ أن يتكرر،وقلّ أن يوجد نظيره.
لقد ضربت أسماء رضي الله عنها بهذه المواقف لنساء وبنات المسلمين مثلاً هُنَّ في أمس الحاجة إلى الإقتداء به، والنسج على منواله وظلت أسماء مع أخواتها في مكة، لاتشكو ضيقاً، ولاتظهر حاجة، حتى بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - زيد بن حارثة وأبا رافع مولاه، وأعطاهما بعيرين وخمسمائة درهم إلى مكة فقدما عليه بفاطمة وأم كلثوم ابنتيه، وسودة بنت زمعة زوجه وأسامة بن زيد، وأمه بركة المكناة بأم أيمن، وخرج معهما عبدالله بن أبي بكر بعيال أبي بكر، حتى قدموا المدينة مصطحبين(5).
5-دور عامر بن فهيرة-مولى أبي بكر - رضي الله عنه -- :
من العادة عند كثير من الناس إهمال الخادم، وقلة الاكتراث بأمره، لكن الدعاة الربانيين لايفعلون ذلك، إنهم يبذلون جهدهم لهداية من يلاقوه لذا أدب الصديق - رضي الله عنه - عامر بن فهيرة مولاه وعلمه، فأضحى عامر جاهزاً لفداء الإسلام وخدمة الدين.
وقد رسم له سيدنا أبو بكر - رضي الله عنه - دوراً هاماً في الهجرة، فكان يرعى الغنم مع رعيان مكة لكن لايلفت الأنظار لشيء، حتى إذا أمسى أراح بغنم سيدنا أبي بكر على النبي - صلى الله عليه وسلم - فاحتلبا وذبحا ثم يكمل عامر دور عبدالله بن أبي بكر حين يغدو من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه عائداً إلى مكة فيتتبع آثار عبدالله ليعض عليها مما يعد ذكاء، وفطنة في الإعداد لنجاح الهجرة(6).
__________
(1) السيرة الحلبية (2/213)؛ البداية والنهاية (3/182).
(2) البداية والنهاية (3/184).
(3) الهجرة النبوية المباركة، ص126.
(4) السيرة النبوية لابن هشام (2/102) إسناده صحيح.
(5) تاريخ الطبري (2/100)؛ الهجرة النبوية المباركة، ص128.
(6) تاريخ الدعوة في عهد الخلفاء الراشدين، ص115.
وإن لدرس عظيم يستفاد من الصديق لكي يهتم المسلمون بالخدم الذين يأتونهم من مشارق الدنيا ومغاربها ويعاملونهم على كونهم بشراً أولاً ثم يعلمونهم الإسلام، فلعل الله يجعل منهم من يحمل هذا الدين كما ينبغي.
إن ماقام به الصديق من تجنيد أسرته لخدمة صاحب الدعوة عليه الصلاة والسلام في هجرته يدل على تدبير للأمور على نحو رائع دقيق، واحتياط للظروف بأسلوب حكيم، ووضع لكل شخص من أشخاص الهجرة في مكانه المناسب، وسد لجميع الثغرات، وتغطية بديعة لكل مطالب الرحلة، واقتصار على العدد اللازم من الأشخاص من غير زيادة ولا إسراف لقد أخذ الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالأسباب المعقولة أخذاً قوياً حسب استطاعته وقدرته ... ومن ثم باتت عناية الله متوقعة(1).
إن اتخاذ الأسباب أمر ضروري وواجب، ولكن لايعني ذلك دائماً حصول النتيجة، ذلك لأن هذا أمر يتعلق بأمر الله، ومشيئته ومن هنا كان التوكل أمراً ضرورياً وهو من باب استكمال اتخاذ الأسباب.
إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعد كل الأسباب واتخذ كل الوسائل ولكنه في الوقت نفسه مع الله يدعوه ويستنصره أن يكلل سعيه بالنجاح وهنا يستجاب الدعاء، ويكلل العمل بالنجاح(2).
ثالثاً: جندية الصديق الرفيعة وبكائه من الفرح:
تظهر أثر التربية النبوية في جندية أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، فأبو بكر - رضي الله عنه - عندما أراد أن يهاجر إلى المدينة وقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (لاتعجل لعل الله يجعل لك صاحباً) فقد بدأ في الإعداد والتخطيط للهجرة (فابتاع راحلتين واحتبسهما في داره يعلفهما إعداداً لذلك) وفي رواية البخاري، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر-وهو الخبط- أربعة أشهر). لقد كان يدرك بثاقب بصره - رضي الله عنه - وهو الذي تربى ليكون قائداً، أن لحظة الهجرة صعبة قد تأتي فجأة ولذلك هيأ وسيلة الهجرة، ورتب تموينها، وسخر أسرته لخدمة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وعندما جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخبره إن الله قد أذن له في الخروج والهجرة، بكا من شدة الفرح وتقول عائشة رضي الله عنها في هذا الشأن: فوالله ماشعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحداً يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ، إنها قمة الفرح البشري، أن يتحول الفرح إلى بكاء مما قال الشاعر عن هذا:
ورد الكتاب من الحبيب بأنه ... ... ... سيزورني فاستعبرت اجفاني
غلب السرور عليّ حتى إنني ... ... ... من فرط ماقد سرني أبكاني
ياعين صار الدمع عندك عادة ... ... ... تبكين من فرح ومن أحزاني
فالصديق - رضي الله عنه - يعلم أن معنى هذه الصحبة أنه سيكون وحده برفقة رسول رب العالمين بضعة عشرة يوماً على الأقل وهو الذي سيقدم حياته لسيده وقائده وحبيبه المصطفى - صلى الله عليه وسلم - فأي فوز في هذا الوجود يفوق هذا الفوز: أن يتفرد الصديق وحده من دون أهل الأرض ومن دون الصحب جميعاً برفقة سيد الخلق وصحبته كل هذه المدة(3)، وتظهر معاني الحب في الله في خوف أبي بكر وهو في الغار من أن يراهما المشركون ليكون الصديق مثلاً لما ينبغي أن يكون عليه جندي الدعوة الصادق مع قائده الأمين حين يحدق به الخطر من خوف وإشفاق على حياته، فما كان أبو بكر ساعتئذ بالذي يخشى على نفسه الموت، ولو كان كذلك لما رافق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذه الهجرة الخطيرة وهو يعلم أن أقل جزائه القتل إن أمسكه المشركون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولكنه كان يخشى على حياة الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - ، وعلى مستقبل الإسلام إن وقع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في قبضة المشركين(4)، ويظهر الحس الأمني الرفيع للصديق في هجرته مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في مواقف كثيرة منها، حين أجاب السائل: من هذا الرجل الذي بين يديك؟ فقال: هذا هادٍ يهديني السبيل، فظن السائل بأن الصديق يقصد الطريق، وإنما كان يقصد سبيل الخير وهذا يدل على حسن استخدام أبي بكر للمعاريض فراراً من الحرج أو الكذب(5)، وفي إجابته للسائل تورية وتنفيذاً للتربية الأمنية التي تلقاها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لأن الهجرة كانت سراً وقد أقره الرسول - صلى الله عليه وسلم - على ذلك(6).
رابعاً: فن قيادة الأرواح وفن التعامل مع النفوس:
__________
(1) أضواء على الهجرة، لتوفيق محمد، ص393-397.
(2) من معين السيرة، ص148.
(3) التربية القيادية (2/191،192).
(4) السيرة النبوية دروس وعبر للسباعي، ص71.
(5) الهجرة النبوية المباركة، ص204.
(6) السيرة النبوية للسباعي، ص68.
يظهر الحب العميق الذي سيطر على قلب ابي بكر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الهجرة، كما يظهر حب سائر الصحابة أجمعين في سيرة الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وهذا الحب الرباني كان نابعاً من القلب، وبإخلاص، لم يكن حب نفاق أو نابعاً من مصلحة دنيوية، أو رغبة في منفعة أو رهبة لمكروه قد يقع ومن أسباب هذا الحب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - صفاته القيادية الرشيدة، فهو يسهر ليناموا، ويتعب ليستريحوا، ويجوع ليشبعوا، كان يفرح لفرحهم ويحزن لحزنهم، فمن سلك سنن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع صحابته، في حياته الخاصة والعامة، وشارك الناس في أفراحهم وأتراحهم وكان عمله لوجه الله أصابه هذا الحب إن كان من الزعماء أو القادة أو المسؤولين في أمة الإسلام(1).
وصدق الشاعر الليبي أحمد رفيق المهدوي عندما قال:
... ... فإذا أحب الله باطن عبده
... ... ... ... ظهرت عليه مواهب الفتاح
... ... وإذا صفت لله نية مصلح
... ... ... ... مال العباد عليه بالأرواح(2)
إن القيادة الصحيحة هي التي تستطيع أن تقود الأرواح قبل كل شيء وتستطيع أن تتعامل مع النفوس قبل غيرها، وعلى قدر إحسان القيادة يكون إحسان الجنود وعلى قدر البذل من القيادة يكون الحب من الجنود، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - رحيماً، وشفوقاً بجنوده وأتباعه، فهو لم يهاجر إلا بعد أن هاجر معظم أصحابه، ولم يبقى إلا المستضعفين والمفتونين ومن كانت له مهمات خاصة بالهجرة(3).
والجدير بالذكر أن حب الصديق لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان لله ومما يبين الحب لله والحب لغير الله: أن ابا بكر كان يحب النبي - صلى الله عليه وسلم - مخلصاً لله، وأبوطالب عمه كان يحبه وينصره لهواه لا لله، فتقبل الله عمل أبي بكر وأنزل فيه قوله : {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى صدق الله العظيم الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى صدق الله العظيم وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى صدق الله العظيم إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى صدق الله العظيم وَلَسَوْفَ يَرْضَى صدق الله العظيم } (سورة الليل، الآيات:17-21)، وأما أبوطالب فلم يتقبل عمله، بل أدخله النار، لأنه كان مشركاً عاملاً لغير الله. وأبوبكر لم يطلب أجره من الخلق، لا من النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا من غيره، بل آمن به وأحبه وكلأه وأعانه من الله، متقرباً بذلك الى الله وطالباً الأجر من الله ويبلغ عن الله أمره ونهيه ووعده ووعيده(4).
خامساً: مرض أبي بكر الصديق بالمدينة في بداية الهجرة:
كانت هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه عن البلد الأمين تضحية عظيمة عبّر عنها النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله الى الله، ولولا أني أخرجت منك ماخرجت)(5).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: لما تقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة قدمها وهي أوبأ ارض الله من الحمى، وكان واديها يجري نجلاً -يعني ماءً آجناً- فأصاب أصحابه منها بلاءً وسقم وصرف الله ذلك عن نبيه. قالت: فكان أبوبكر، وعامر بن فهيرة وبلال في بيت واحد، فأصابتهم الحمى، فاستأذنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عيادتهم فأذن، فدخلت إليهم أعودهم وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب وبهم مالا يعلمه إلا الله من شدة الوعك(6)، فدنوت من أبي بكر فقلت:
ياأبت كيف تجدك؟ فقال:
... ... كل امرئ مصبح في أهله
... ... ... ... والموت أدنى من شراك نعله
قالت: فقلت والله مايدري أبي مايقول.ثم دنوت من عامر بن فهيرة فقلت: كيف تجدك ياعامر؟ فقال:
... ... لقد وجدت الموت قبل ذوقه
... ... ... ... إن الجبان حتفه من فوقه
... ... كل امرئ مجاهد بطوقه(7)
... ... ... ... كالثور يحمى جلده بروقه(8)
قالت: قلت: والله مايدري عامر مايقول. قالت: وكان بلال إذا أقلع عنه الحمى اضطجع بفناء البيت ثم يرفع عقيرته(9)، ويقول:
... ... ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
... ... ... ... بواد وحولي إذخر(10) وجليل
... ... وهل أُرِدَن يوماً مياه مَجِنَة
... ... ... ... وهل يبدون لي شامة وطفيل(11)
قالت: فأخبرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك فقال: (اللهم حبِّب إلينا المدينة كحبنا مكة، أو أشد، اللهم وصحّحها وبارك لنا في مدها وصاعها وانقل حمّاها وأجعلها بالجحفة)(12).
__________
(1) الهجرة النبوية لأبي فارس، ص54.
(2) الحركة السنوسية للصّلابي (2/7).
(3) الهجرة النبوية المباركة، ص205.
(4) الفتاوى لابن تيمية (11/286).
(5) الترمذي، كتاب المناقب، باب فضل مكة (5/722) رقم 3925.
(6) الوعك: الحمى.
(7) بطوقه: بطاقته.
(8) بروقه: بقرنه.
(9) عقيرته: صوته.
(10) إذخر: نبات طيب الرائحة.
(11) شامة وطفيل: جبلان مشرفان على مجنة على بريد مكة.
(12) البخاري، كتاب الدعوات، باب الدعاء يرفع الوباء والوجع رقم 6372.
وقد استجاب الله دعاء نبيه - صلى الله عليه وسلم - وعوفي المسلمون بعدها من هذه الحمى، وغدت المدينة موطناً ممتازاً لكل الوافدين والمهاجرين إليها من المسلمين على تنوع بيئاتهم ومواطنهم(1).
شرع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد استقراره بالمدينة في تثبيت دعائم الدولة الإسلامية، فآخى بين المهاجرين والأنصار، ثم أقام المسجد، وأبرم المعاهدة مع اليهود وبدأت حركة السرايا، واهتم بالبناء الاقتصادي والتعليمي والتربوي في المجتمع الجديد، وكان أبوبكر - رضي الله عنه - وزير صدق لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولازمه في كل أحواله ولم يغيب عن مشهد من المشاهد ولم يبخل بمشورة أو مال أو رأي(2).
(( من كتاب أبو بكر الصديق للصلابي))
__________
(1) التربية القيادية (2/310).
(2) تاريخ الدعوة الى الاسلام في عهد الخلفاء الراشدين، ص121.
ــــــــــــ(1/157)
المرأة في الهجرة .. صور من جهاد رائدات التضحية
أحلام علي
تطل علينا ذكرى الهجرة مع بداية العام الهجري الجديد فتغمرنا بعبق التضحيات وتجسم لنا أعظم صور الجود بالنفس والمال على مر التاريخ..
كان المقصود من الهجرة إلى المدينة إقامة الدولة الإسلامية التي تحمل الدعوة وكان التوجيه إلى المدينة من الله - تعالى - وروى البخاري في حديث طويل وفيه (... قالت عائشة: فبينما نحن يوماً جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة قال قائل لأبي: هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متقنعاً في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر: فداء له أبي وأمي والله ما جاء في هذه الساعة إلا لأمر، قالت: فقال رسول الله لأبي بكر: "أخرج من عندك " فقال أبو بكر: إنما هم أهلك، فقال "فإني قد ُُُأذن لي في الخروج" فقال أبو بكر: الصحبة بأبي أنت يا رسول الله، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "نعم"، قال أبو بكر: فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين، فقال رسول الله: "بثمنها"...... ).
ولقد سبق حادث الهجرة هذا هجرة بعض الصحابة وزوجاتهم وكان أول من قدم المدينة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو سلمة بن عبد الأسد الذي أخذ أصهاره منه زوجته عنوة ومنعوها من الهجرة معه فلم يجلس في مكة وينتظر موافقتهم على اصطحابها ولكنه استدار واتجه إلى الله.. وهي بدورها - رضي الله عنها - لم تتهمه بالتفريط في حقها ولم تطلب منه الطلاق لأنه تركها في رمضاء نفسية وحسية بين ظهراني المشركين في مكة، لقد تعالت على ذلك - رضي الله عنها - رغم الويلات التي عانتها بسبب حرمانها من وليدها الذي أخذه أهل زوجها بعد أن خلعوا كتفه.. وهكذا لم تكن الهجرة نزهة أو رحلة ترفيهية ولكنها مغادرة الأرض والأهل ووشائج القربى وعلاقات الصداقة والمودة وترك الأموال والتخلي عن كل ذلك من أجل العقيدة..
وما أحوجنا اليوم في مطلع عام جديد إلى إحياء ذكرى هذه النماذج الفذة علنا نفيق ونستفيق من غفلتنا التي طالت وطالت معها رقدة إيثار السلامة بداخلنا.. وغدونا نشدو ليل نهار "ماذا نفعل؟! ".. لنبرر لأنفسنا تقاعسنا وجبننا وركون أجسادنا إلى الأرض [أرضنا المسلوبة بمختلف أنواع السلب].. أجسادنا التي تخشى مفارقة الطعام اللذيذ والفراش الوثير.. كما أنها تخشى غضبة الذئاب!!..
نحن بحاجة إلى إحياء تضحية أسماء بنت أبي بكر.. الأنثى الحامل في شهرها الأخير.. لم تتعلل أسماء بظروفها الصحية وتعتذر عن هذه المهمة الشاقة!! لقد كانت جزءاً من عملية الهجرة، كان عليها أن تقطع شوارع مكة بين العيون الحاقدة والأنفس التي تتلمظ للثأر.. وتمضي أسماء بعيداً بعيداً جنوبي مكة في أعلى الجبل تنقل الزاد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. ما أعظم جهادك يا ابنة خليفة رسول الله وأنت حامل في شهرك الأخير وتصعدين جبلا يعجز الرجل العادي عن صعوده.. أتُراك أقوى بنية من غالبية رجال غثاء السيل؟!! أم أنك تحملين بين جنبيك نفساً عظيمة حملتها على كفك في سبيل الله وهي التي جعلتك تتعالين على الآلام والصعاب!!
ولكن هكذا أصحاب الدعوات في كل زمان؛ عندما يمتزج حب الدعوة بدماء قلوبهم يصبحون جنداً وخدماً لها فيفلحون.. و يرزقون معية الله لهم.. فلقد تجسدت في حادث الهجرة عبقرية التخطيط البشري الذي وضعه سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم - بتوفيق من ربه.. لقد اختير الأفراد المنوط بهم الأدوار بدقة وذكاء عجيب.. أفراد أهلٌ للمسؤولية.. ولم تكن المرأة المسلمة بمنأى عن هذه المسؤولية.. ومن الذي اختارها لتشارك في عملية الهجرة؟! إنه سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم - ، وفي هذا فخر يتلألأ به جبين المرأة المسلمة أبد الدهر، فهي لم تستبعد بدعوى أنها امرأة ضعيفة!! وهذا أحد أقوى الأدلة على نظرة الإسلام السامية للمرأة..
وكان تصرف أسماء في المواقف التي مرت بها في هذه الأثناء شاهدا على رجاحة عقلها وسرعة البديهة عندها وأنها بحق أهل لاختيار رسول الله لها.. فعندما لم تجد ما تجمع به زادها - على الفور - شقت نطاقها نصفين وربطت السفرة بأحدهما.. وغدا ذلك علماً لها أبد الدهر "ذات النطاقين".. !
الموقف الثاني والأكثر صعوبة يوم أن ُطرق عليها الباب بعنف وعندما فتحت وجدت أمامها أبا سفيان وفرعون الأمة أبا جهل يسأل عن أبيها.. متجهم الوجه يتطاير شرر الغضب من عينيه.. كان يمكن للرجال أن ينهاروا أمام هذا الموقف.. لكن أسماء لم تنهار وأجابت بثبات وصلابة: لا أدري.. وجمع عدو الله حقده وغيظه في صفعة لطم بها وجهها فأطارت قرطها من أذنها.. وبقيت في رزانة الجبال بينما مضى عدو الله يأكله الغيظ.. (الغريب هنا أن عدو الله أبا جهل بعد أن لطم أسماء قال لأبي سفيان: احفظها عني يا أبا سفيان حتى لا تقول العرب أني لطمت امرأة! هذا مَنْ وصفه رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم - بأنه فرعون الأمة.. ولكن يبدو أنه في عالمنا اليوم فرعون صغير جدا!).
الموقف الثالث من مواقف أسماء العظيمة في الهجرة يوم ثار جدها أبو قحافة على ابنه أبي بكر لأنه أخذ ماله كله، وفي ذكاء نادر جمعت كومة من الحصى وغطتها بثوب وقادت جدها الأعمى ليتحسس الحصى على أنه مال وجواهر فتهدأ ثائرته ويكف عن الكلام في خروج ابنه أبي بكر.. لقد نجحت في حفظها للسر حتى تموِّه على جدها الجواهر بالحصى.. ولم تكن شخصيتها بها من حب الاستطلاع (الذي كثيراً ما يكون في غير محله) ما يجعلها تسأل أباها، وهي تنقل لهما الزاد، إلى أين يتجها بعد الخروج من الغار.. كل ما كانت تعلمه من عملية الهجرة هي أنها مسؤولة عن نقل الزاد، وأن محمدا - صلى الله عليه وسلم - وأباها قد غادرا الغار.. أما إلى أين؟ فلا تدري، وبعد أن أنهت مهمتها كانت جاهلة تماماً بالخطوات اللاحقة، وها هي تؤكد ذلك قائلة:
(فمضى ثلاث ليالٍ ما ندري أين توجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، حتى أتى رجل من أسفل مكة يغني بأبيات والناس يسمعونه ولا يرونه وهو ينشد هذه الأبيات... فلما سمعنا قوله عرفنا أين توجه رسول الله)..
هكذا أثبتت أسماء - رضي الله عنها - وسجل التاريخ.. أن المرأة كفء وأهل للمسؤولية والثقة.. !
http://www.asyeh.com المصدر:
ــــــــــــ(1/158)
هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وخروجه إلى الغار
الهجرة لغة :
الهجرة: هي الاسم من الهجر أو الهجران ، وهي مأخوذة من مادة ( هـ ج ر ) التي تدل على معنيين:
الأول : القطيعة.
الثاني : شد شيء وربطه
فمن الأول : أخذ الهجر ضد الوصل وكذلك الهجران , وقولهم : هاجر القوم من دار إلى دار : أي تركوا الأولى إلى الثانية كما فعل المهاجرون حين هاجروا من مكة إلى المدينة .
قال ابن منظور : الهِجرةُ والهُجرة : الخروج من أرض إلى أرض والمهاجرون : الذين ذهبوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - مشتق منهم.
الهجرة في الشرع :
* هي ترك الوطن الذي بين الكفار ، والانتقال إلى دار الإسلام
قال الرَّاغبُ : الهجرة : الخروج من دار الكفر إلى دار الإيمان ، كمن هاجر من مكة إلى المدينة .
قال الكُفوي: الهجرة هجرتان :
الأولى: هجرة المسلمين في صدر الإسلام إلى الحبشة فراراً من أذى قريش
الثانية: هجرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين قبله وبعده ومعه إلى المدينة وقد كانت الهجرة من فرائض الإسلام بعد هجرته - صلى الله عليه وسلم - ثم نسخت بعد فتح مكة.
لقوله - صلى الله عليه وسلم - - (( لاهجرة بعد الفتح )) صحيح مسلم- كتاب الإمارة- باب المبايعة بعد فتح مكة على الإسلام والجهاد والخير برقم (2468).
لقد عاش نبينا - صلوات الله وسلامه عليه - محبوباً بين قومه وعشيرته ، محترماً عندهم غاية الاحترام ، والتقدير مما أدى بهم إلى أن حكَّموه في وضع الحجر الأسود ، حينما تنازعوا في وضعه ، ولقبوه بالصادق الأمين ، ولكن سرعان ما انقلب هذا الحب والتقدير إلى كُرهٍ وبغضاء , وحقدٍ ذميم ، وذلك حينما صدع - صلوات الله وسلامه عليه - بالدعوة إلى الله ، إلى إفراده سبحانه بالألوهية ، والربوبية ، والطاعة والإتباع ، عند ذلك ثارت ثائرة قريش بالتصدي له وتكذيبه فقالوا :
{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} (5) سورة ص )) ص : 5 . وقالوا :{أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} (8) سورة ص. وصاروا يقابلون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأشد أنواع الإيذاء ، من سخرية ومحاولة اغتيال ، وعروض دنيوية ، وغير ذلك ، من الوسائل التي يسلكها أعداء الله للقضاء على الإسلام ودعاته في كل زمانٍ ومكان . ولما كانت الهجرة أمراً مهماً لإعلاء شأن الدين ، ولحصول الحرية الكاملة لعبادة الله وطاعته ، ولأنها لا تحدث إلا عن حرب ومضايقة من أعداء الله لأوليائه . لذلك نوه الله بذكرها فأطلع بعض الأمم على أمرها فكان عندهم العلم اليقين بهجرة سيد المرسلين من البلد الأمين إلى المدينة النبوية . عن أبي موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال :
(( رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب وهلي إلى أنها اليمامة ، أو هجر ، فإذا هي المدينة يثرب.. )) البخاري- كتاب المناقب- باب علامات النبوة في الإسلام برقم (3352)
وعند البخاري : (( رأيت دار هجرتكم رأيت سبخة ذات نخل بين لابتين وهما الحرتان )) البخاري-كتاب الحوالات-باب جوار أبي بكر في عهد النبي وعقده برقم (2134).
وبعد ما علم - عليه الصلاة والسلام - مكان هجرته وبايع الأنصار على النصرة والتأييد, واطمأنت نفسه الشريفة على وجود بلد آمن يستطيع فيه هو وأصحابه - رضي الله عنهم- أن يعبدوا الله ويدعوا الناس إلى عبادته وتوحيده , وعند ذلك أذن - صلوات الله وسلامه عليه - لأصحابه بالهجرة - إلى طيبة الطيبة. فعن عروة وعائشة قالا : لما صدر السبعون من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم- طابت نفسه وقد جعل الله له منعة , وقوماً أهل حرب , وعدة ونجدة، وجعل البلاء يشتد على المسلمين من المشركين لما يعلمون من الخروج ، فضيقوا على أصحابه وتعبثوا بهم ، ونالوا منهم ما لم يكونوا ينالون من الشتم والأذى ،فشكا ذلك أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم- واستأذنوه في الهجرة فقال : (( قد رأيت دار هجرتكم ، رأيت سبخة ذات نخل بين لابتين وهما الحرتان ولو كانت السراة أرض نخل وسباخ لقلت هي هي )) ، ثم مكث أياماً فخرج إلى أصحابه مسروراً ، فقال : (( قد أخبرت بدار هجرتكم، وهي يثرب فمن أراد الخروج فليخرج إليها )). البخاري-كتاب الحوالات-باب جوار أبي بكر في عهد النبي وعقده برقم (2134)
فجعل القوم يتجهزون ويتوافقون ويتواسعون ويخرجون ويخفون ذلك، فكان أول من قدم المدينة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ، أبو سلمة بن عبد الأسد, ثم قدم بعده عامر بن ربيعة معه امرأته ليلى بنت أبي خيثمة ، فهي أول ظعينة قدمت المدينة ، ثم قدم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أرسالاً ، فنزلوا على الأنصار فآووهم ونصروهم وواسوهم .
ثم أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بمكة بعد أصحابه من المهاجرين ينتظر أن يؤذن له في الهجرة ، ولم يتخلف معه بمكة أحد من المهاجرين إلا من حبس أو فتن إلا علي بن أبي طالب, وأبو بكر بن أبي قحافة الصديق - رضي الله عنهما - وكان بقاء الصديق بإذن من رسول الله. وكان أبوبكر كثيراً ما يستأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الهجرة فيقول له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحباً فيطمع أبوبكر أن يكونه )). انظر سيرة ابن هشام 2/102.
ولما أزفت التراتيب التي قضاها الله ، بعد أن وقت لها أوقاتها ، ورأت قريش أن الفرصة سانحة للنيل من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أن خرج أصحابه من مكة ، وبقي وحيداً مع المستضعفين ، وحسبتها غنيمة سهلة المنال ، فاجتمع رجالها في دار الندوة ، يتشاورون فيما بينهم بشأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاقترح بعضهم حبسه في حديد وتجويعه حتى يموت ، لكنهم رفضوا ذلك مخافة أن يجتمع أصحابه وينقذوه. وأشار ربيعة بن عامر بأن يخرجوه من بين أظهرهم فيفرغون بذلك منه ، لكن هذا الرأي لم يجد موافقه عند القوم ، خشية أن يغلب النبي الناس بحديثه ، ثم يجمع منهم قوة تدحر قريشاً في يومٍ من الأيام. ورأى أبو جهل أخيراً أن يأخذوا من كل قبيلة فتىً شاباً جلداً ، شريفاً ، ثم يعطى كل فتى منهم سيفاً صارماً ، فيعمدون إليه فيضربونه ضربة رجل واحد ، وهكذا يتفرق دمه بين القبائل كلها. وحظي رأي أبو جهل بالقبول التام، وفيما كانت قريش تجمع فتيانها، نزل جبريل على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يعلمه بما يبيت ضده، ويأمره أن لا يلزم فراشه تلك الليلة قال الله - تعالى - :{وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (30) سورة الأنفال
وكان من عادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأتي بيت أبي بكر كل يومين : بكرة وعشية ، قالت عائشة : فبينما نحن جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة قال قائل لأبي بكر : هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم- متقنعاً - مغطياً رأسه - في ساعة لم يكن يأتينا فيها ، فقال أبو بكر : فداءً له أبي وأمي ، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فاستأذن له ، فدخل ، فاستأ خر أبو بكر عن السرير حتى جلس عليه ، فقال لأبي بكر : ( أخرِج مَنْ عِندَك ) فقال أبو بكر إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله. قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( فإني قد أُذن لي في الخروج ) فقال أبو بكر وهو يبكي من الفرح - الصحبة يا رسول الله اختر إحدى راحلتي هاتين فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( بالثمن ) واستأجر عبد الله بن أريقط ، وكان - مشركاً - يدلهما على الطريق ، ودفعا إليه الراحلتين اللتين أعدهما الصديق - رضي الله عنه - للهجرة فكانت عنده يرعاهما لميعاديهما الذي واعده بعد ثلاث. وقد اشتركت أسماء وعائشة ابنتا الصديق في تجهيز السفرة التي سيأخذها المهاجران ووضعتاها في جراب ، فلما أرادتا ربط فم الجراب لم تجد شيئاً فشقت السيدة أسماء نطاقها نصفين فربطت فم الجراب بنصفه ، وانطلقت بالآخر ، فلذلك سميت ( بذات النطاقين أو ذات النطاق.)
النبي - صلى الله عليه وسلم - - ينجو من كيد قريش :
عاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعدما أخبر أبا بكر بالإذن له في الهجرة ، وبعد أن أعد العدة للهجرة إلى بيته، وكان جبريل - عليه السلام - أمر النبي - صلى الله عليه وسلم- أن لا يبيت على فراشه ، فلما كانت عتمة الليل اجتمع فتيان من قريش على بابه ، وبيدهم السيوف المرهفة ، ويتطاير من عيونهم شر الغدر والمكيدة، فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- مكانهم قال لعلي بن أبي طالب: (( نم على فراشي ، وتسبَّح ببردي هذا الحضرمي الأخضر ، فإنه لن يخلص إليك منهم شيء تكرهه))
وفي هجعة من الليل خرج - صلى الله عليه وسلم - وقد أخذ الله على أبصارهم فلم يبصروا به ، وكان أخذ كفاً من تراب فصار ينثر منه على رؤوسهم زيادة في النكاية بهم ، وهو يتلوا قول الله - تبارك وتعالى-:{وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} (9) سورة يس ثم انصرف رسول الله لشأنه ، وبقي المشركون ينتظرون النائم حتى يخرج فيفعلوا به ما اتفقوا عليه ، لكن الله حارس لا ينام فقد أعمى أبصارهم عن رؤية رسوله فخرج رسول الله سالماً من بين أظهرهم يذر التراب على رؤوسهم.
ذهاب الرسول - صلى الله عليه وسلم- إلى بيت الصديق ونظره إلى البيت ودعاءه :
وذهب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من فوره إلى بيت الصديق - رضي الله عنه - وكان الصديق يترقب وصوله في أية ساعة بعد أن اتفقا على الصحبة في الهجرة وأعدا للسفر عدته.
ولما خرج من مكة توجه إلى البيت ، وقال : (( والله إنك لأحب الأرض إلي ، وإنك لأحب أرض الله إلى الله ، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ماخرجت )) رواه ابن ماجة أنظر صحيح ابن ماجه 2برقم 2523 الألباني البداية والنهاية (3 / 178)
ثم توجه إلى الله بهذا الدعاء :
(( الحمد لله الذي خلقني ولم أكُ شيئاً ،اللهم أعني على هول الدنيا ، وبوائق الدهر، ومصائب الليالي والأيام ,اللهم اصحبني في سفري ، واخلفني في أهلي ، وبارك لي فيما رزقتني ، ولك فذللني ، وعلى صالح خُلقي فقوني ، وإليك ربي فحببني ، وإلى الناس فلا تكلني.رب المستضعفين وأنت ربي ، أعوذ بوجهك الكريم الذي أشرقت له السماوات والأرض ، وكشفت به الظلمات، وصلح عليه أمر الأولين والآخرين، أن تحل علي غضبك، وتنزل بي سخطك.
أعوذ بك من زوال نعمتك، وفجأة نقمتك، وتحول عافيتك، وجميع سخطك، لك العتبى عندي خير ما استطعت، ولا حول ولا قوة إلا بالله ))1.
النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه في الغار:
خرج الرسول - صلى الله عليه وسلم- وصاحبه وقد تزودوا بالزاد والماء ليلاً من خوخة في ظهر بيت أبي بكر حتى لا يراهما أحد، وسلكا طريقاً غير معهودة، فبدلاً من أن يسيرا نحو الشمال ذهبا إلى الجنوب حيث يوجد (غار ثور) وكان خروجه كما قال ابن إسحاق لهلا ربيع الأول ، وقيل: في أواخر صفر.
ولما وصل النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه إلى الغار وأراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أن ينزل فيه قال له الصديق : مكانك حتى أستبرئ لك، فإن كان به أذى نزل بي قبلك، ثم نزل فتحسس الغار فلم يجد به شيئاً، فنزل رسول الله وقد بلغ منه الإعياء والتعب مبلغه فما أن دخلا حتى توسد الرسول قدم أبي بكر ونام ، وكان الصديق يأخذ من ثوبه ويسدُّ فم الأجحار خشية أن يكون شيء من الهوام فتؤذي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- , - رضي الله عن الصديق - ما أصدقه في الصحبة ، فبقي منها جحر فألقمه عقبه ، وكانت به حية فلدغته ، فمنعه مكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منه أن يتململ أي صدق في الصحبة بعد هذا وأي فداء يفدي بنفسه بعد هذا - رضي الله عنك - يا أبا بكر ولعن الله من يطعن فيك!!!
ولكن الألم لما اشتد به تحدرت دموعه ، فسقطت على وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فقال : ( ما لك يا أبا بكر؟ ) فأخبره بما حدث فتفل عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فبرئت بإذن الله تعالى).
حفظ الله - عز وجل - نبيه - صلى الله عليه وسلم - من كيد الأعداء :
روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- لما دخل هو وصاحبه الصديق بالغار أمر الله - سبحانه- شجرة فنبتت على فم الغار ، وانتشرت أغصانها على بابه ، وألهم العنكبوت فنسجت على أغصان الشجرة، وألهم حمامتين وحشيتين فعششتا وباضتا بين أغصان الشجرة، وقد كان لهذه الآيات الثلاث أثرها في تضليل المشركين وصدهم عن اقتحام الغار ودخوله كما سترى عن كثب , وهكذا وقى الله نبيه وصاحبه بأضعفه جنده.ولما تبينت قريش إفلات النبي منهم جن جنونهم ، وصاروا يهيمون على وجوههم طلباً له ، وجعلوا لمن يأتي به حياً أو ميتاً مائة ناقة ، وبعثوا القافة وهي (جمع قائف ، وهو الذي يتبع أثر الأقدام في الأرض حتى يعلم أين ذهب صاحبه) . إثرة في كل وجه ، منهم : كرز بن علقمة ، وسراقة بن جعشم ، فصاروا يتبعون الأثر حتى انتهوا إلى جبل ( ثور ) ثم صعدوا الجيل حتى وقفوا على فم الغار. وهنا وقفوا متحيرين ..!!
إذ لو كان دخل الغار فكيف لم يتهدم نسيج العنكبوت ..!! ، وكيف لم ينكسر بيض الحمام؟!
ووقفوا مترددين ، أيدخلون الغار أم لا؟ حتى إن أحدهم هم أن يدخل الغار فقال له الآخرون : إن هذا العنكبوت لمن قبل ميلاد محمد !! وهكذا نرى أن الله صرف المشركين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه ، وهذا من حفظ الله - عز وجل - لنبيه - صلى الله عليه وسلم - من كيد أعدائه وحساده .
لطيفة خرافية : سُئل بعضهم عن الحكمة في اختفائه - صلى الله عليه وسلم - في غار ثور دون غيره فأجاب بأنه - - صلى الله عليه وسلم - كان يحب الفأل الحسن ، وقد قيل إن الأرض مستقرة على قرن الثور فناسب استقراره - صلى الله عليه وسلم - في غار ثور تفاؤلاً بالطمأنينة والاستقرار فيما يقصده هو ورفيقه2 سبل الهدى والرشاد في هدي خير العباد 3 / 242.
يقول الشرف البوصيري:
ظنوا الحمامَ وظنُّوا العنكبوتَ على ... خيرِ البريّة لم تَنسِج ولم تَحُمِ
وقايةُ الله أغنتْ عن مُضاعفةٍ ... منَ الدُّروعِ وعن عالٍ منَ الأُطُمِ 3
أهم المراجع
1. زاد المعاد / 3.
2. السيرة النبوية في ضوء الكتاب والسنة / د محمد بن محمد أو شهبة ج /1 .
3. أحاديث الهجرة جمع وتحقيق ودراسة / الدكتور / سليمان بن علي السعود.
4. السيرة النبوية دروس وعبر / د / مصطفى السباعي.
5. قبسات تربوية من السيرة النبوية د / حس
6. هذا الحبيب يامحب / الجزائري .
_____________
1 - قال الشيخ الألباني - رحمه الله - في تحقيقه على " فقه السيرة" للغزالي (166-167) عزاه إليه ابن كثير (187) من طريق محمد بن إسحاق قال: بلغني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما خرج من مكة مهاجراً إلى الله يريد المدينة. قال: فذكر الدعاء قلت: وهذا إسناد ضعيف معضل.
2 ما ذكرناها إلا لبيان بطلانها ، فالقول بأن الأرض على قرن ثور من خرافات الناس ، والله ورسوله بريئان من الباطل والخرافة .
3 قد سبق تعليقنا بعدم صحة قصة العنكبوت والحمام ونقلنا كلام العلماء في ذلك ، فارجع إلية .
خروج النبي من الغار إلى المدينة
بعد ثلاث ليالٍ وقد هدأ الطلب ، ويئس المشركون من إدراكهما خرجا من الغار ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر استأجرا رجلاً من بني الديل وكانا قد دفعا راحلتهما ، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليالٍ براحلتيهما صبح ثلاث، وانطلق معهما عامر بن فهيرة يخدمهما ويعينهما، يردفه أبو بكر ويعقبه ، فكانوا ثلاثة والدليل.
طريق الهجرة :
فلما خرج بها عبد الله بن أريقط دليلهما سلك بهما أسفل مكة ، ثم مضى بهما على الساحل حتى عارض الطريق أسفل من ( عسفان )، ثم سلك بهما أسفل ( أمج )، ثم استجاز بهما حتى عارض بهما الطريق بعد أنأ جاز قديداً أجاز بهما من مكانه ذلك ، فسلك بهما ( الخرَّار ) ثم سلك بهما ثنية مرة ، ثم سلك بهما القفاء ، ثم أجاز بهما مدلجة لقف ، ثم استبطن بهما مدلجة فجاج، ويقال : فجاج فيما قال ابن هشام- ثم سلك بهما مرجح من ذي الغضون قال ابن هشام : ويقال: العضوين، ثم بطن ذي كثر، ثم أخذ بهما على الجداجد ثم على الأجرد ، ثم سلك بهما ذا سلم من بطن أعداء من لجة تعهن ، ثم على العبابيد ثم أجاز بهما الفاجة ثم هبط بهما العرج وقد أبطأ عليهما بعض ظهرهما ، فحمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - رجل من أسلم يقال له : أوس بن حجر على جمل له يقال له : ابن الرداء إلى المدينة، وبعث معه غلاماً له يقال له : سعود بن هنيدة ثم خرج بهما دليلهما من العرج فسلك بهما ثنية العائر عن يمين ركوبه، ويقال ثنية الغائر - فيما قال ابن هشام حتى هبط بهما بطن رئم ، ثم قدم بهما قباء على بني عمرو بن عوف لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول يوم الاثنين حين اشتد الضحاء وكادت الشمس تعتدل.
في خيمة أم معبد:
وفي الطريق إلى المدينة مرَّ النبيُّ بأم معبد، وإليك قصتها لما فيها من معجزة ظاهرة للنبي، ولما فيها من صورة واضحة لكثير من نساء الجاهلية في عفتها وشهامتها ، ومروءتها ، وبلاغتها وفصاحتها، فقد وصفت النبي- صلى الله عليه وسلم- بما يعجز عنه بيان غيرها.
روى الإمامُ البيهقي وغيره عن أخي أم معبد حبيش قال : لما خرج رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - ومعه أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - وعامربن فهيرة ، وابن أريقط يدلهم على الطريق فمروا بقديد على أم معبد :" عاتكة بنت خالد الخزاعية " ، وكانت برزة ، جلدة ، تحتبي بفناء القبة ، ثم تسقي وتطعم من يمر بها ، وكان القوم مرملين مسنين ، فسألوها : هل عندها لبن أو لحم يشترونه منها فلم يجدوا عندها شيئاً ، وقالت : والله لو كان عندنا شيء ما أعوزكم القرى فنظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى شاة في كسر الخيمة خلفها الجهد عن الغنم ، فسألها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( هل بها من لبنٍ؟ ) فقالت هي : أجهد من ذلك فقال : (( أتأذنين لي أن أحلبها؟ )) فقالت : نعم بأبي أنت وأمي إن رأيت حلباً فاحلبها ، فدعا بالشاة فاعتقلها ، ومسح ضرعها ، فتفاجَّت ودرت ودعا بإناءٍ يربض الرهط ، فحلب فيه ثجاً وسقى القوم حتى رووا ، وسقى أم معبد حتى رويت ، ثم شرب آخرهم وقال : (( ساقي القوم آخر هم شرباً )) ، ثم حلب فيه مرة أخرى فشربوا عللاً بعد نهل ، ثم حلب فيه آخراً وغادره عندها ، وفي رواية أنه قال لها أن (( ارفعي هذا لأبي معبد إذا جاءك )) ثم ركبوا وذهبوا في انتظار الرسول.
ولما بلغ المسلمين بالمدينة مخرج النبي - صلى الله عليه وسلم- من مكة هو وصاحبه الصديق -رضي الله عنه-كانوا يخرجون كل غداة إلى الحرة فينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة ، فعلوا ذلك مراراً ، فانقلبوا يوماً بعد ما أطالوا انتظارهم، فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من يهود على أطم من آطامهم لأمر ينظر إليه فبصر برسول الله - صلى الله عليه وسلم- وأصحابه مبيضين ، يزول بهم السراب ، فلم يملك اليهودي أن صاح بأعلى صوته : يا معشر العرب ، هذا جدكم الذي تنتظرون فثار المسلمون إلى السلاح ، فتلقوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - بظهر الحرة ، فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل في بني عمرو بن عوف.
وكانت منازل بني عمر وبن عوف في قباء ، وكان ذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الأول ، وقيل لهلال ربيع الأول ، وقيل : لليلتين خلتا منه وقيل لثامن يوم منه ، وقال ابن إسحاق لاثنتي عشرة ليلة خلتا من ربيع الأول ، وعند ابن سعد لثلاث عشرة منه
فقام أبو بكر للناس يتلقاه ، وجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم- صامتاً ، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يعرفه من قبل يحيى أبا بكر، حتى أصابت الشمس رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه ، فعرف الناس رسول الله - صلى الله عليه وسلم- عند ذلك. فأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم- في بني عمرو بن عوف أربعة أيام . الاثنين ، والثلاثاء ، والأربعاء ، والخميس ، وخرج يوم الجمعة قاصداً المدينة.
استقبال أهل المدينة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - -:
إنه ما إن ركب - صلى الله عليه وسلم - راحلته وسارت به من ديار بني سالم متجهة نحو المدينة ، وأهل كل دار من دور الأنصار يمر بها إلا ويستقبله رجالها قائلين هلم إلينا يا رسول الله إلى العدد والعدة وهم ممسكون بخطام ناقته وهو يقول : "دعوها فإنها مأمورة"
وخرج أهل المدينة لاستقبال الحبيب - - صلى الله عليه وسلم - - على بكرة أبيهم ، فامتلأت بهم الطرق ، وظهروا على سطوح المنازل نساءً وأطفالاً ورجالاً وهم يقولون ، الله أكبر جاء رسول الله ، الله أكبر جاء محمد الله أكبر جاء رسول الله ، والنساء والصبيان يضربون بالدفوف وينشدون :1
طلع البدر علينا ... **** ... من ثنيات الوداعْ
وجب الشكر علينا ... ... ما دعا لله داعْ
أيها المبعوث فينا ... ... جئت بالأمر المطاعْ
جئت شرفت المدينة ... ... مرحباً يا خير داعْ
وواصل الحبيبُ سيره في تلك الحشود الحاشدة ، والجموع المتجمعة في هذا اليوم التاريخي العظيم الذي قال فيه أنس بن مالكٍ : "لقد رأيت اليوم الذي دخل فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علينا واليوم الذي قبض فيه فلم أر يومين مثلهما قط " (هذا الحبيب يا محب - الجزائري - ص 163)
وبعد الجمعة دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة ومن ذلك اليوم سميت بلدة يثرب بمدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويعبر عنها بالمدينة إختصاراً وكان يوماً تاريخياً أغر فقد كانت البيوت والسكك ترتج بأصوات التحميد والتقديس ، والأنصار إن لم يكونوا أصحاب ثروات طائلة ؛ إلا أن كل واحد منهم كان يتمنى أن ينزل الرسول - صلى الله عليه وسلم - - عنده.
من فوائد الهجرة ما يلي:
1. دليل كمال الإيمان ، وحسن الإسلام.
2. إعلان العبودية الكاملة لله - عزوجل - والانقياد له .
3. دليل محبة الله ومحبة رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
4. دليل صلاح العبد واستقامته.
5. الوعد بالكرامة والفوز بالجنة.
6. تفريج الكربات وحصول الخيرات.
7. تمحيص للإيمان واختبار للإنسان.
موسوعة نظرة النعيم 8 / 3566(1/159)
والله أعلم ... وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
أهم المراجع
1. زاد المعاد / 3.
2. السيرة النبوية في ضوء الكتاب والسنة / د محمد بن محمد أو شهبة ج /1 .
3. أحاديث الهجرة جمع وتحقيق ودراسة / الدكتور / سليمان بن علي السعود.
4. السيرة النبوية دروس وعبر / د / مصطفى السباعي.
5. قبسات تربوية من السيرة النبوية د / حس
6. هذا الحبيب يامحب / الجزائري .
____________
1 قال الشيخ الألباني - رحمه الله - بأنها ضعيفة أنظر السلسلة الضعيفة 2 برقم 598 .
هجرة عامر وزوجه وهجرة بني جحش
قال ابن إسحاق: ثم كان أول من قدمها من المهاجرين بعد أبي سلمة عامر بن ربيعة، حليف بني عدي بن كعب، معه امرأته ليلى بنت أبي حثمة بن غانم بن عبد الله بن عوف بن عبيد بن عدي بن كعب. ثم عبد الله بن جحش بن رئاب بن يعمر بن صبرة بن مرة بن كثير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة، حليف بني أمية بن عبد شمس، احتمل بأهله وبأخيه عبد بن جحش وهو أبو أحمد - وكان أبو أحمد رجلا ضرير البصر وكان يطوف مكة، أعلاها وأسفلها، بغير قائد وكان شاعرا، وكانت عنده الفرعة ابنة أبي سفيان بن حرب وكانت أمه أميمة بنت عبد المطلب بن هاشم - فغلقت دار بني جحش هجرة فمر بها عتبة بن ربيعة. والعباس بن عبد المطلب، وأبو جهل بن هشام بن المغيرة، وهي دار أبان بن عثمان اليوم التي بالردم وهم مصعدون إلى أعلى مكة، فنظر إليها عتبة بن ربيعة تخفق أبوابها يبابا، ليس فيها ساكن فلما رآها كذلك تنفس الصعداء ثم قال
وكل دار وإن طالت سلامتها *** يوما ستدركها النكباء والحوب
قال ابن هشام : وهذا البيت لأبي داود الإيادي في قصيدة له. والحوب التوجع
( وهو في موضع آخر الحاجة ويقال الحوب الإثم ).
قال ابن إسحاق : ثم قال عتبة ( بن ربيعة ) : أصبحت دار بني جحش خلاء من أهلها فقال أبو جهل وما تبكي عليه من قل بن قل. قال ابن هشام : القل : الواحد. قال لبيد بن ربيعة :
كل بني حرة مصيرهم *** قل وإن أكثرت من العدد
قال ابن إسحاق : ثم قال هذا عمل ابن أخي هذا، فرق جماعتنا، وشتت أمرنا وقطع بيننا. فكان منزل أبي سلمة بن عبد الأسد وعامر بن ربيعة، وعبد الله بن جحش، وأخيه أبي أحمد بن جحش على مبشر بن عبد المنذر بن زنبر بقباء. في بني عمرو بن عوف ثم قدم المهاجرون أرسالا، وكان بنو غنم ابن دودان أهل إسلام قد أوعبوا إلى المدينة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هجرة رجالهم ونساؤهم عبد الله بن جحش، وأخوه أبو أحمد بن جحش، وعكاشة بن محصن، وشجاع وعقبة ابنا وهب وأربد بن حميرة.
قال ابن هشام : ويقال ابن حميرة.
هجرة عمر وقصة عياش معه
قال ابن إسحاق: ثم خرج عمر بن الخطاب، وعياش بن أبي ربيعة المخزومي، حتى قدما المدينة. فحدثني نافع مولى عبد الله بن عمر، عن عبد الله بن عمر، عن أبيه عمر بن الخطاب، قال (اتعدت لما أردنا الهجرة إلى المدينة، أنا وعياش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاصي بن وائل السهمي التناضب من أضاة بني غفار، فوق سرف، وقلنا : أينا لم يصبح عندها فقد حبس فليمض صاحباه. قال فأصبحت أنا وعياش بن أبي ربيعة عند التناضب، وحبس عنا هشام وفتن فافتتن).
تغرير أبي جهل والحارث بعياش
فلما قدمنا المدينة نزلنا في بني عمرو بن عوف بقباء وخرج أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام إلى عياش بن أبي ربيعة، وكان ابن عمهما وأخاهما لأمهما، حتى قدما علينا المدينة، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة فكلماه وقالا : إن أمك قد نذرت أن لا يمس رأسها مشط حتى تراك، ولا تستظل من شمس حتى تراك، فرق لها، فقلت له يا عياش إنه والله إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك فاحذرهم فوالله لو قد آذى أمك القمل لامتشطت ولو قد اشتد عليها حر مكة لاستظلت. قال فقال أبر قسم أمي، ولي هنالك مال فآخذه. قال فقلت : والله إنك لتعلم أني لمن أكثر قريش مالا، فلك نصف مالي ولا تذهب معهما. قال فأبى علي إلا أن يخرج معهما ; فلما أبى إلا ذلك قال قلت له أما إذ قد فعلت ما فعلت، فخذ ناقتي هذه فإنها ناقة نجيبة ذلول فالزم ظهرها، فإن رابك من القوم ريب فانج عليها. فخرج عليها معهما، حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال له أبو جهل يا ابن أخي، والله لقد استغلظت بعيري هذا، أفلا تعقبني على ناقتك هذه ؟ قال بلى. قال فأناخ وأناخا ليتحول عليها، فلما استووا بالأرض عدوا عليه فأوثقاه وربطاه ثم دخلا به مكة، وفتناه فافتتن.
قال ابن إسحاق : فحدثني به بعض آل عياش بن أبي ربيعة : أنهما حين دخلا به مكة دخلا به نهارا موثقا، ثم قالا : يا أهل مكة، هكذا فافعلوا بسفهائكم كما فعلنا بسفيهنا هذا.
كتاب عمر إلى هشام بن العاصي
قال ابن إسحاق : وحدثني نافع عن عبد الله بن عمر، عن عمر في حديثه قال (فكنا نقول ما الله بقابل ممن افتتن صرفا ولا عدلا ولا توبة قوم عرفوا الله ثم رجعوا إلى الكفر لبلاء أصابهم قال وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم. فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة ، أنزل الله تعالى فيهم وفي قولنا وقولهم لأنفسهم "قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون ").
قال عمر بن الخطاب : فكتبتها بيدي في صحيفة وبعثت بها إلى هشام بن العاصي قال فقال هشام بن العاصي : فلما أتتني جعلت أقرؤها بذي طوى، أصعد بها فيه وأصوب ولا أفهمها، حتى قلت : اللهم فهمنيها. قال فألقى الله تعالى في قلبي أنها إنما أنزلت فينا، وفيما كنا نقول في أنفسنا ويقال فينا. قال فرجعت إلى بعيري، فجلست عليه فلحقت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بالمدينة.
خروج الوليد بن الوليد إلى مكة في أمر عياش وهشام
قال ابن هشام : فحدثني من أثق به أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال وهو بالمدينة (من لي بعياش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاصي ؟ فقال الوليد بن الوليد بن المغيرة : أنا لك يا رسول الله بهما، فخرج إلى مكة، فقدمها مستخفيا، فلقي امرأة تحمل طعاما، فقال لها : أين تريدين يا أمة الله ؟ قالت أريد هذين المحبوسين - تعنيهما - فتبعها حتى عرف موضعهما، وكانا محبوسين في بيت لا سقف له فلما أمسى تسور عليهما، ثم أخذ مروة فوضعها تحت قيديهما، ثم ضربهما بسيفه فقطعهما، فكان يقال لسيفه "ذو المروة" لذلك ثم حملهما على بعيره وساق بهما، فعثر فدميت أصبعه فقال:
هل أنت إلا أصبع دميت *** وفي سبيل الله ما لقيت
ثم قدم بهما على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة).
وصول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة
(الشبكة الإسلامية) أ.د/ أكرم ضياء العمري
كان المسلمون في المدينة قد سمعوا بخروج النبي - صلى الله عليه وسلم - من مكة ، فكانوا يغدون كل غداة إلى ظاهر المدينة ينتظرونه ، حتى إذا اشتد الحر عليهم عادوا إلى بيوتهم ، حتى إذا كان اليوم الذي قدم فيه انتظروه حتى لم يبق ظل يستظلون به فعادوا ، وقدم الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقد دخلوا بيوتهم ، فبصر به يهودي فناداهم ، فخرجوا فاستقبلوه ، وكانت فرحتهم به غامرة ، فقد حملوا أسلحتهم وتقدموا نحو ظاهر الحرة فاستقبلوه .
وقد نزل الرسول - صلى الله عليه وسلم - في قباء في بني عمرو بن عوف أربع عشرة ليلة وأسس مسجد قباء .
ولما عزم رسول الله صلى عليه وسلم أن يدخل المدينة أرسل إلى زعماء بني النجار فجاءوا متقلدين سيوفهم .
وقد سجلت رواية أن عدد الذين استقبلوه خمسمائة من الأنصار ، فأحاطوا بالرسول - صلى الله عليه وسلم - و بأبي بكر وهما راكبان ، ومضى الموكب داخل المدينة ، ( وقيل في المدينة : جاء نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ) . وقد صعد الرجال والنساء فوق البيوت ، وتفرق الغلمان في الطرق ينادون : يا محمد يا رسول الله , يا رسول الله .
قال الصحابي البراء بن عازب - وهو شاهد عيان - : " ما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - "
أما تلك الروايات التي تفيد استقباله بنشيد ( طلع البدر علينا من ثنيات الوداع ) فلم ترد بها رواية صحيحة .
وأقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسير حتى نزل جانب دار أبي أيوب الأنصاري فتساءل : أي بيوت أهلنا أقرب ؟ فقال أبو أيوب : أنا يا نبي الله ، هذه داري وهذا بابي . فنزل في داره .
وقد ورد في كتب السيرة أن زعماء الأنصار تطلعوا إلى استضافة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فكلما مر بأحدهم دعاه للنزول عنده ، فكان يقول لهم : دعوا الناقة فإنها مأمورة فبركت على باب أبي أيوب ، وكان داره طابقين , قال أبو أيوب الأنصاري : " لما نزل عليّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيتي نزل في السّفل وأنا و أم أيوب في العلو , فقلت له : يا نبي الله - بأبي أنت وأمي - إني لأكره وأعظم أن أكون فوقك ، وتكون تحتي ، فاظهر أنت في العلو ، وننزل نحن فنكون في السفل . فقال : يا أبا أيوب : إن أرفق بنا وبمن يغشانا أن نكون في سفل البيت . قال : فلقد انكسر حبّ لنا فيه ماء , فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة لنا مالنا لحاف غيرها ننشف بها الماء تخوفاً أن يقطر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منه شيء يؤذيه " .
وقد أفادت رواية ابن سعد أن مقامه - صلى الله عليه وسلم - بدار أبي أيوب سبعة أشهر .
وقد اقترعت الأنصار على سكنى المهاجرين ، وآثروهم على أنفسهم , فنالوا من الثناء العظيم الذي خلّد ذكرهم على مرّ الدهور وتتالي الأجيال ، إذ ذكر الله مأثرتهم في قرآن يتلوه الناس : { والذين تبوّأوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فألئك هم المفلحون} ( الحشر9) .
وقد أثنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الأنصار ثناء عظيماً فقال : ( لولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار) و ( لو سلكت الأنصار وادياً أو شعباً لسلكت وادي الأنصار أو شعبهم)
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي حيث أدركته الصلاة ، ثم أمر ببناء المسجد في أرض كان فيها نخل لغلامين يتيمين من بني النجار .
وقد اشتراها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقام المسلمون بتسويتها وقطع نخيلها وصفوا الحجارة في قبلة المسجد ، وما أعظم سرورهم وهم يعملون في بنائه ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعمل معهم وهم يرتجزون :
اللهم إنه لا خير إلا خير الآخرة فانصر الأنصار والمهاجرة
وقد بناه أولاً بالجريد ثم بناه باللبن بعد الهجرة بأربع سنين ، وقد واجه المهاجرون من مكة صعوبة اختلاف المناخ ، فالمدينة بلدة زراعية ، تغطي أراضيها بساتين النخيل ، ونسبة الرطوبة في جوها أعلى من مكة ، وقد أصيب العديد من المهاجرين بالحمى منهم أبو بكر و بلال .
فأخبرت عائشة رضي الله عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : ( اللهم حبّب إلينا المدينة كحبّنا مكة أو أشدّ ، وصححها ، وبارك لنا في صاعها ومدّها ، وانقل حمّاها فاجعلها بالجحفة) . وقال : (اللهم امض لأصحابي هجرتهم ، ولا تردهم على أعقابهم ) .
لقد تغلب المهاجرون على المشكلات العديدة ، واستقروا في الأرض الجديدة مغلبين مصالح العقيدة ومتطلبات الدعوة ، بل صارت الهجرة واجبة على كل مسلم لنصرة النبي عليه الصلاة والسلام ومواساته بالنفس ، حتى كان فتح مكة فأوقفت الهجرة لأن سبب الهجرة ومشروعيتها نصرة الدين وخوف الفتنة من الكافرين . والحكم يدور مع علته ، ومقتضاه أن من قدر على عبادة الله في أي موضع اتفق لم تجب عليه الهجرة منه ، وإلا وجبت . ومن ثم قال الماوردي : إذا قدر على إظهار الدين في بلد من بلاد الكفر ، فقد صارت البلد به دار إسلام ، فالإقامة فيها أفضل من الرحلة منها لما يترجى من دخول غيره في الإسلام .
وعندما دون التاريخ في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه اتخذت مناسبة الهجرة بداية التاريخ الإسلامي ، لكنهم أخروا ذلك من ربيع الأول الى المحرم لأن ابتداء العزم على الهجرة كان في المحرم ، إذ بيعة العقبة الثانية وقعت في أثناء ذي الحجة ، وهي مقدمة الهجرة . فكان أول هلال استهل بعد البيعة والعزم على الهجرة هلال المحرم ، فناسب أن يجعل مبتدأ التاريخ الإسلامي. والله الموفق والهادي الى سواء السبيل.
ــــــــــــ(1/160)
وقفات مع الهجرة النبوية
د. عبد الحليم محمد عصفور
مشرف قسم العلاقات العامة والأعلام التربوي بالمدارس السعودية بأنقرة
الحمد لله .. الحمد لله الذي أعزنا بالإسلام وأكرمنا بالإيمان ..الحمد لله الذي جعلنا من أتباع سيدنا
محمد عليه الصلاة والسلام .. اللهم ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك لك
الحمد آناء الليل وأطراف النهار لعلك ترضى ..
ما زلنا نعيش تطلعات الهجرة النبوية الشريفة ، ما زلنا نحلل أحداثها ، ونقطف ثمارها ونتفيء ظلالها؛ لندرك أيها الإخوة المؤمنون ، أن الإسلام سلسلة مستمرة ، حلقة شاملة منذ فجر تاريخ البشرية وإلى يوم اللقاء الأكبر مع الله .. فالمسلمون يعيشون ضمن تلك الدائرة الواسعة الشاملة ، وأن منهج الله لعباده منذ فجر التاريخ البشري وإلى يومنا هذا وإلى يوم اللقاء الأكبر مع الله .. يسير وفق وتيرة ثابتة واضحة معلنة ، وما نريد أن نتحدث عنه اليوم الهجرة أيها الإخوة المؤمنون ، بدايتها مع بداية الدعوة ، لأن من أراد أن يصل إلى الله لا بد إلا وأن يضحي في سبيله ، لأن الإنسان حينما يريد أن يحقق ذاته ، أن يحقق انتماءه ، هويته ، لا بد إلا وأن يهجر كل الخصال التي تتنافى مع تلك الهوية ، لذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: [ لا هجرة بعد الفتح ، ولكن جهاد ونية ] .
الهجرة : نية ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - حينما عبر عن حقيقة المؤمن والمسلم والمهاجر، قال [ والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه ] ، فالهجرة محطة تعبئة إلى الله عز وجل ، تكون بترك ما نهى الله عنه ، بالانتقال من مرحلة إلى مرحلة ، من مرحلة صراع إلى مرحلة استقرار ، من مرحلة اضطراب وعذاب إلى مرحلة استقرار وهناء ، الهجرة هي بداية تكوين المجتمع المسلم .. والهجرة أيها الإخوة دليل على مصداقية السير إلى الله عز وجل .
ذكرنا حين ذكرنا من منهج الهجرة النبوية الشريفة الطاهرة ، أنها عملية انتقال وعملية ترسيخ وتثبيت للمبادئ ، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - حينما خرج من داره وقد أحاط المشركون به ، وتلك قوة مادية لا يستهان بها ، من كل قبيلة أخذوا شاباً جلداً قوياً حتى إذا ما خرج رسول الله انهالوا عليه بضربة رجل واحد، فينهدر دمه في القبائل ، ولكن ربك بالمرصاد .. وتلك هي حقيقة الدعوة دائماً وأبداً ، تحيط بها دعاوى المكر، تحيط بها قوى التآمر في كل مكان وزمان .. يريدون أن يضربوه ضربة رجل واحد،
} يُرِيدُونَ ليطفئوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ { لا بالقوة الذاتية ، ولا بالقوة المادية ، إنما من خلال قوله تعالى } إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ {
على المؤمنين في كل مرحلة من مراحل حياتهم، وفي كل عقبة من عقبات هذه الحياة أن يضعوا هذه الحقيقة نصب أعينهم ، إن تخليتم أنتم فإن الله موجود ،
} هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ {
هذه حقيقة يجب أن نضعها نصب أعيننا ، انهزمنا أم انتصرنا، التزمنا أم انحرفنا ، فإن الله مظهر دينه ، ومعز نبيه ، مهما تآمر المتآمرون ومهما مكر الماكرون، وإنكم لترونه دليلاً واقعياً من خلال ما يعيشه المسلمون اليوم، ترون أن كل قوى العالم تتآمر على الإسلام ، والأغرب من ذلك أن المسلمين يتآمرون على أنفسهم ، فكل عوامل النخر والتهديم والضياع والتمزيق قائمة في المسلمين ، والإسلام ثابت قائم، لا يستطيع أحد أن ينال منه لأنه أمر الله } إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ { ، رغم أن كل الوسائل المادية التي أمرنا أن نأخذ بها وأن نعد العدة معها ، مفقودة في حياة المسلمين المعاصرين ، مع ذلك نجد أن الإسلام في انتشار وتطور واستمرار ...
حياة المسلمين وواقعهم ، يبعد غير المسلمين عن الإسلام .. ومع ذلك ما من شمس تشرق إلا وآلاف المعتنقين للدين من جديد .. من من؟ من العلماء .. من الباحثين ، من الخبراء .. من كل الدنيا على اختلاف أشكالهم وألوانهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ..ولا أكتمكم سراً إذا قلت لكم : ما من مستشرقاً ، باحثاً ، عالماً ، عاقلاً ، إلا وبذرة لا إله إلا الله مغروسة في قلبه .. إنما تنتظر الظهور ، تنتظر الانبثاق ، الخروج بعامل من عوامل الكون ..
حينما أحاط المشركون برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ماذا فعل رسول الله ، فتح باب الدار ، وأخذ حفنة من التراب وراح يقرأ سورة } يس* وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ * لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ* إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ { ، ووضع التراب على رؤوسهم ، وخرج من بينهم وهم لا يرونه .. } إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ
الجانب الإيماني في حياة المسلمين ، جانب يجب أن يكون نصب أعيننا ، نأخذ بالأسباب ولا نقف معها، نعد العدة ونعتقد أن النصر من عند الله ، لا تقصيرنا ولا إعدادنا به يكون النصر أو الفشل، إنما النصر يكون من عند الله ، إنما أنت يا مؤمن في هذه الدار ، في هذا الوجود مبتلى ، وهذا الاختبار والابتلاء ليميز الله الخبيث من الطيب ، فأعد نفسك وخذ بالأسباب ، وقف مع رب الأسباب .. فإذا ما تر سخت العقيدة الصحيحة في نفوس المسلمين ، كانوا أهلاً لإدراك معاني الهجرة ولقطف ثمارها ولتفيؤ ظلالها كما ذكر .
أسأل الله العظيم .. رب العرش العظيم .. أن ينور قلوبنا وعقولنا بنور محبته .. بنور محبة نبيه .. بالتزام منهجه .. بموالاة من والى ومعاداة من عادى .. أقول قولي هذا وأستغفر الله .
ــــــــــــ(1/161)
يا سيد السادات يا رسول الله
للشاعر : عبد الرحيم محمود
في ذكرى الهجرة النبوية الشريفة
يا سيد السادات فيك تسامى عطر الحروف تشوقا وخزامى
قلبي إليك ملوع ومشوق ماذا أقول إذا فؤادي هاما
في حب طه وهو أفضل مرسل من حبه نهوى الصلاة قياما
قد طبت أحمد خلقة وخليقة ووُضعت للقلب الجميل وساما
قد فقت في جودك ريحا مرسلا والغيث يرجى إذ نراه غماما
في يوم هجرتك العظيم تحنني كالبلبل الشادي أحب حماما
أوصتك أمك بالرجولة مرة فغدوت في وجه الظلام حساما
وغدوت نورا للخليقة مرشدا للحق هديك ترفع الإسلاما
فأزلت من عقل الأنام جهالة وصنعت من جهالها أعلاما
وأنرت للناس الطريق وعُبدت نهج الشريعة إذ رأيت ظلاما
ونقلت أمتك العظيمة للهدى وأزلت من آفاقها أوهاما
يا سيدي تُهنا ببحر ضياعنا ورأى العدو جميعنا أغناما
فالذبح فينا كل يوم عادة أطفالنا وشيوخنا تترامي
الفرس عادوا سيدي قد أشعلوا للنار معبدها فصار ضراما
والروم عادوا باغتصاب نسائنا وغدا الجميع بذلنا يتنامى
ما عاد قتل الناس غير محرم أمسى دماء العالمين حراما
إلا دماء المسلمين وعرضهم لجميع أوغاد الزناة مراما
يا سيد السادات جفت أدمعي وتركت عند جفافها الأقلاما
ماذا أقول وأنت تعرف حالنا أمست جميع حياتنا آلاما
قد عادت الأصنام تعبد سيدي يا من كسرت بنورك الأصناما
يا أمة الإسلام صونوا عهده كونوا له فوق الصلاة صياما
ولا تكونوا مثلما أنتم فما شاء النبي لعهده أقزاما
من خان عهدا للنبي مآله نار تكون مع الضرام ضراما
وتصير كل حياته ومماته ومصيره نارا تكون غراما
ــــــــــــ(1/162)
الهجرةُ النبوية.. خُطواتٌ من روائع الإدارة
د. محمد عمر دولة*
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على رسولِ الله الأمين، وعلى آله وصحبِه أجمعين. وبعد، فإنَّ في الهجرةِ دُروساً إداريةً عَديدةً وعِبَراً مُفيدةً، نُحاوِلُ بيانَها في هذه العُجالة:
1) الهِجرةُ منهجٌ واقعي:
فالهجرةُ النبوية تُعلِّمُنا أنَّ الإسلامَ الذي خاض النبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - من أجلِ تحقيقِه تلك الرحلةَ الشاقةَ والهجرةَ المباركَة ليس دِينَ جُمُودٍ وقُعُودٍ ورُكودٍ؛ ولكنه دِينُ إنجازٍ وإقْدامٍ وضَرْبٍ في مَناكِبِ الأرض:
يا هِجرةً طالَتْ مَسافتُها على مَن خُصَّ بالحرمانِ والخذلانِ!
يا هِجرةً طالَتْ مَسافتُها على كسلانَ مَنخُورِ الفؤادِ جبان![1]
والهجرةُ من أحسن الأدلةِ على أنَّ دِينَنا ليس دِينَ سَذاجةٍ وفوضى، بل دِينُ نِظامٍ وإدارةٍ وتخطِيطٍ مُحْكَم، وفِعلٍ مُثْمِر مَلمُوسٍ وجُهْدٍ واقِعيٍّ محسُوسٍ، وإنْ اقتضى الأمرُ مُغادَرةَ الأوطانِ ومُفارقةَ الإخوان.
فلا ريبَ "أنَّ الدِّينَ الإسلامي لم يَصِلْ إلينا بسهولةٍ، بل بعدَ جُهدٍ وبذلٍ للأنفُسِ والأموال، ومُفارَقةٍ للأهلِ والديار. ففي البيعة الأولى كان الإيمان بالله ورسوله، وفي البيعة الثانية كان العهد على الهجرة، والجهاد. وبهذه العناصرِ الثلاثة: الإيمان، والهجرة، والجهاد، يتحقق وُجودُ الإسلام في واقعٍ جَماعيٍّ مُمكِن. والهجرةُ لم تكنْ لِتَتِمَّ لولا وُجودُ الفئة المستعدة للإيواء؛ ولهذا قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)،[2] ولم تكن البيعةُ والهجرةُ والجهاد لِتَتِمَّ لولا انسلاخُ المؤمنين الجدَد مِن ولائهم القبلي والوَطنِي؛ للولاء الشرعي وتركِهم لقياداتِهم العشائرية إلى القيادة الإسلامية الواحدة...".[3]
2) الهجرة وثمرةُ التوكل:
ليست الهجرةُ مُجرَّدَ رِحلةٍ من مكانٍ إلى مكانٍ، أو انتِقالٍ في فترةِ محدَّدةٍ من الزمان. بل إنَّ أمرَ الهجرة أعظمُ نَظَراً وأكثرُ عِبَراً؛ ألا ترى أنَّ الله عزَّ وجلَّ قد حَثَّ عِبادَه على أنْ يضربوا في الأرضِ ويَمشُوا في مَناكبِها ويبتغُوا مِن فضلِ الله؟ فقال جلَّ جلاله: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُوْرُ)،[4] وقال تعالى: (وآخرون يَضرِبُون في الأرضِ يَبتَغُون مِن فَضلِ الله).[5] قال ابنُ كثير رحمه الله: "ومُسافرين في الأرضِ يبتغُون مِن فَضلِ الله في المكاسِب والمتاجر".[6] وقال البغوي رحمه الله: "يعني المسافرين للتجارة يطلبون من رزقِ الله".[7] وقال البيضاوي رحمه الله: "والضَّربُ في الأرضِ ابتغاءً للفضلِ: المسافرةُ للتجارةِ وتحصيلِ العلم".[8] وكذلك قال الألوسي رحمه الله.[9]
والفائدة التي نستخلِصُها من دُروسِ الهجرة: توكُّلُنا على الله ويقينُنا بنصرِ الله وتَمَسُّكُنا بشرعِ الله، ووُجوبُ الحفاظِ على مبادئنا وإنْ أُخْرِجْنا من دِيارِنا، ولُزومُ الثباتِ أمام ضُغوطِ الترغيبِ والترهيب. فاللهُ عزَّ وجلَّ وَلِيُّ المهاجِرِ إلى الله بالنصرِ والتأييد، كما قال تعالى في قصة الهجرة: (إلا تَنصُرُوه فقد نَصَرَه الله إذْ أخرَجَه الذين كفروا ثانِيَ اثنَيْن إذْ هما في الغارِ إذْ يقولُ لصاحبِه لا تحزَنْ إنَّ الله معنا فأنزلَ الله سَكِينتَه عليه وأيَّدَه بجنودٍ لم ترَوها وجعلَ كلمةَ الذين كفروا السُّفلَى وكلمةُ الله هي العُليا والله عزيزٌ حكيم).[10]
3) الهجرة حياةٌ جديدة:
وقد دَعا الله عزَّ وجلَّ عِبادَه إلى التوكُّلِ عليه ووَعَدَهم مُراغَماً كثيراً وسَعةً، فقال جلَّ جلاله: (ومَن يُهاجِرْ فى سَبيلِ الله يَجِدْ في الأرضِ مُراغَماً كثيراً وسَعَةً ومَن يَخرُجْ من بيتِه مُهاجِراً إلى الله ورسولِه ثم يُدْرِكْه الموتُ فقد وَقعَ أجرُه على الله وكان الله غفوراً رحيماً).[11] قال القرطبِي رحمه الله: "اختُلِفَ في تأويلِ الْمُراغَم: فقال مجاهد: المراغَم المتزَحزَحُ [عمَّا يكرَه]،[12] وقال ابن عباس والضحاك والربيع وغيرهم: المراغَم المتحوَّل والمذهَب، وقال ابنُ زيد: المراغَم المهاجَر، وقاله أبو عُبَيدة. قال النحاس:[13] فهذه الأقوالُ مُتفِقةُ المعاني؛ فالْمُراغَم: الْمَذهَبُ والْمُتحَوَّلُ في حالِ هِجرةٍ، وهو اسمُ الموضِع الذي يُراغَم فيه".[14] وقال السعدي رحمه الله: "هذا في بيانِ الحثِّ على الهجرةِ والترغيبِ وبيانِ ما فيها من المصالِح؛ فوَعَدَ الصادِقُ في وَعْدِه أنَّ مَن هاجرَ في سبيلِه ابتِغاءَ مَرضاتِه أنه يجدُ مُراغَماً في الأرضِ وسَعةً؛ فالْمُراغَمُ مُشْتَمِلٌ على مَصالِحِ الدِّينِ، والسَّعةُ على مصالِحِ الدنيا؛ وذلك أنَّ كثيراً مِن الناس يتوهَّمُ أنَّ في الهجرةِ شَتاتاً بعد الأُلفةِ وفَقراً بعد الغِنَى وذُلاًّ بعد العِزِّ وشِدةً بعد الرَّخاء. والأمر ليس كذلك".[15]
ورَحِمَ الله الصفدي حيث قال:
وما سافَرْتُ في الآفاقِ إلا ومِن جَدْواك راحِلَتِي وزادي!
مُقِيمَ الظنِّ عندك والأمانِي وإنْ قَلِقَتْ ركابِي في البلادِ![16]
4) الهِجرةُ مُراغَمٌ وسَعَة:
قال الرازي رحمه الله مُبيِّناً بعضَ الثمارِ الاجتماعية للسَّفر: "المشهورُ أنَّ هذه المراغَمة إنما حصلَتْ بسببِ أنهم فارقوا وخرجوا عن ديارِهم. وعندي فيه وجهٌ آخر: وهو أنْ يكون المعنَى: (ومَن يُهاجِرْ في سبيلِ الله) إلى بلدٍ آخر يَجِدْ في أرضِ ذلك البلدِ مِن الخيرِ والنعمةِ ما يكون سَبباً لِرَغْمِ أنفِ أعدائه الذين كانوا معه في بلدتِه الأصلية؛ وذلك لأنَّ مَن فارقَ وذهبَ إلى بلدةٍ أجنبيةٍ فإذا استقام أمرُه في تلك البلدة الأجنبية ووصلَ ذلك الخبرُ إلى أهلِ بلدتِه خَجِلُوا من سُوءِ مُعامَلَتِهم معه، ورغمَت أُنُوفُهم بسببِ ذلك. وحملُ اللفظِ على هذا أقربُ من حَملِه على ما قالوه والله أعلم. والحاصلُ كأنه قيل: يا أيها الإنسانُ إنك كنتَ إنما تكرهُ الهجرةَ عن وَطنِك خوفاً مِن أنْ تقعَ في المشقةِ والمحنةِ في السَّفرِ؛ فلا تخفْ؛ فإن الله تعالى يُعطِيك من النِّعَمِ الجليلةِ والمراتبِ العظيمة في مُهاجَرَتِك ما يَصيرُ سبَباً لرغمِ أُنُوفِ أعدائك؛ ويكون سَبباً لِسَعةِ عَيشِك! وإنما قُدِّم في الآية ذِكرُ رغمِ الأعداءِ على ذِكرِ سَعةِ العيشِ؛ لأنَّ ابتهاجَ الإنسانِ الذي يُهاجِرُ عن أهلِه وبلدِه بسببِ شِدةِ ظُلمِهم عليه بدَولَتِه؛ من حيث إنها تصِيرُ سَبباً لِرَغمِ أنوفِ الأعداءِ أشدُّ من ابتهاجِه بتلك الدولة من حيث إنها صارت سَبباً لِسَعةِ العيشِ عليه".[17]
5) الهِجرةُ عِزةٌ:
قال القرطبي رحمه الله: "قال ابنُ العربي: قسَمَ العلماءُ رضي الله عنهم الذهابَ في الأرض قسمين: هَرباً وطَلباً. فالأول: يَنقسِمُ إلى ستة أقسام: الأول الهجرة، وهي الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام... وهذه الهجرة باقيةٌ مفروضةٌ إلى يوم القيامة، والتي انقطعَتْ بالفتحِ هي القَصدُ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم...".[18]
ولا يخفى أنَّ في الهجرةِ عِزةَ نفسٍ ونجاةً من الذُّل. وقد حكى القرآنُ بأجملِ أسلُوبٍ همَّ المستضعَفِين وآمالَهم في الهجرةِ بالدين؛ فقال الله عزَّ وجل: (وما لكم لا تُقاتِلُون في سبيلِ الله والمستَضعَفِين من الرجالِ والنساءِ والوِلْدانِ الذين يقولُون ربَّنا أخْرِجْنا من هذه القريةِ الظالِمِ أهلُها واجْعَلْ لنا من لَدُنْك وَلِياًّ واجْعَلْ لنا مِن لَدُنْك نَصِيراً).[19]
قال ابنُ شبرين رحمه الله:[20]
لِي هِمَّةٌ كُلَّما حاوَلتُ أُمْسِكُها عَلى الْمَذَلَّةِ في أَوحالِ أَرضيها!
قالَت أَلَم تَكُ أَرضُ اللَهِ واسِعَةً حَتَّى يُهاجِرَ عَبدٌ مُؤمنٌ فيها؟
6) ذَمُّ مَن استُضعِفَ ولم يُهاجِر:
وقد ذمَّ القرآنُ مَن لم يُسافرْ إلى حيثُ يكونُ عزيزاً بدينِه حُراًّ في عقِيدتِه؛ فقال الله عزَّ وجل: (إنَّ الذين توفَّاهم الملائكةُ ظالِمي أنفُسِهم قالوا فيمَ كُنتم قالوا كنا مُستَضعَفِين في الأرضِ قالوا ألم تَكُنْ أرضُ الله واسِعةً فتُهاجِرُوا فيها فأولئك مأواهُم جَهَنمُ وساءَتْ مَصِيراً إلا المستَضعَفِين من الرجالِ والنساءِ والوِلْدانِ لا يستَطِيعُون حِيلةً ولا يَهتَدُون سبيلا فأولئك عسى اللهُ أن يعفُوَ عنهم وكان الله غفُوراً رحيماً).[21] وقد رثَى النبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لِسَعدِ بن خولة حينما توفِّيَ بمكة. فقال صلى الله عليه وسلم: (لكن البائسُ سعدُ بن خولة)،[22] قال ابنُ الأثير رحمه الله: "وكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يكرهُ أنْ يموتَ الرجلُ بالأرضِ التي هاجرَ منها؛ فمِن ثَمَّ قال: (لكن البائسُ سعدُ بن خولة؛ يرثي له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ مات بمكة)".[23]
وقد ذكر الأدباء أنَّ السفرَ يُنجي من الذُّلِّ، كما قال الحسن بن علي بن وكيع التنيسي:[24]
تَغَرَّبْ عَلى اِسمِ اللَهِ وَاِلتَمِسِ الغِنَى وَسافِرْ فَفي الأَسفارِ خَمسُ فَوائِدِ
تَفَرُّجُ نَفسٍ وَاِلتِماسُ مَعيشَةٍ وَعِلمٌ وَآدابٌ وَرُفقَةُ ماجِدِ!
فَإِن قيلَ في الأَسفارِ ذُلٌّ وَغُربَةٌ وَتَشتيتُ شَملٍ وَاِرتِكابُ شَدائِدِ
فَلَلْمَوتُ خَيرٌ لِلفَتَى مِن مُقامِهِ بِدارِ هَوانٍ بَينَ ضِدٍّ وَحاسِدِ[25]
7) تخطيط الهجرة:
لقد كان التخطِيطُ النبوي للهجرةِ في غايةِ الدقة، و"التخطيطُ يعنِي التفكيرَ والتدبِير، والتأمُّلَ العلمي في الأمور، ثم التبصُّرَ قبل اتخاذِ القَرار".[26] ومَنْ تدبَّرَ خطواتِ الهجرة النبوية أدركَ ما فيها من وضوحٍ الهدف، ودراسة البيئة المحيطة، واختيارِ أحسن الوسائل. وقد تقرَّرَ في علمِ (الإدارة) أنَّ "مراحلَ التخطيطِِ العلمي تتكوَّنُ من: مرحلةِ تحديد الأهداف، ومرحلة التنبؤ بالمناخ والبيئة المتوقع أن تتحقق الأهداف فيها؛ حتى لا تؤثر المتغيرات على الخطة، ومرحلة تقديرِ أفضلِ الطُّرقِ والوسائل التي يمكنُ بها تحقيقُ الأهدافِ المحددة".[27]
8) التمهيد للهجرة:
وقد مهَّد - صلى الله عليه وسلم - لنشرِ دعوةِ الإسلام وكلمة التوحيدِ، فبعث إلى المدينة مصعب بن عمير رضي الله عنه، "ولقد اختارَه الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - عن علمٍ بشخصيتِه من جهة، وعِلمٍ بالوضعِ القائم في المدينة من جهة أخرى، حيث كان رضي الله عنه - بجانب حفظه لما نزل من القرآن - يملك من اللباقة، والهدوء، وحُسنِ الخلق والحكمة، قدرًا كبيرًا، فضلاً عن قوة إيمانه، وشدة حماسِه للدين؛ ولذلك تمكن خلال أشهر أن ينشر الإسلام في سائر بيوتات المدينة، وأن يكسب للإسلام أنصارًا من كبار زعمائها، كسعد بن معاذ، وأسيد بن الحضير، وقد أسلم بإسلامهما خلق كثير من قومهم".[28]
ثم كان التمهيد الآخر في (بيعة العقبة الثانية) حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أُبايِعُكم على أنْ تَمنعُونِي مما تَمنعُون منه نساءكم وأبناءكم، قال: فأخذ البراءُ بن معرور بيده، ثم قال: نعم. والذي بَعَثَك بالحقِّ نبِيًا؛ فنحن والله أهل الحرب، ورثناها كابرًا عن كابر).[29] ثم اعتمدَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - منهم على اثنَيْ عشرَ نقيبًا؛ ليكونوا على قومِهم: تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس؛ فقد عاهد الأنصار في هذه البيعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الإيواءِ والحمايةِ والنُّصرةِ والمنعة.[30] وقد أحسن الشيخ سلمان العودة حين قال: "قد كانت هذه البيعةُ هي التمهيدَِ الأخيرَ لهجرةِ النبِي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة، وبعدها بدأ المهاجرون يغادرون أرض مكة".[31]
9) الهجرة تحوُّلٌ من الجماعة المصغَّرة إلى الدولة:
فقد كانت المرحلةُ المكيةُ فترةً تربويةً للإعدادِِ العقدي للرجالِ المخلصين، والبناءِ العلمي للمؤمنين، وهذا من أوجبِِ الواجبات لقيامِ الدولة الإسلامية على تقوى من الله ورضوان. وقد ظهرَتْ ثَمرةُ هذا البناءِ التربوي العظيم ـ لعقولِِ الصحابةِ بالعِلم ولِِقلُوبِهم بالإيمان ـ في بناءِ دولةٍ للإيمان والعلم والعدل والدعوة؛ فلا تقومُ دولةٌ للإسلام إلا على بناءٍ للرجالِ على الإيمانِ والعلم؛ لينهضوا بأمانة حملِ الدينِ وإقامتِه ونشرِه على بصيرة، كما جاء بيانُ ذلك صريحاً في حديثِ حذيفة رضي الله عنه: (إنَّ الأمانةَ نزلَتْ في جَذرِِِ قلوبِ الرجال، ثم علموا من القرآن، ثم علموا من السُّنة).[32]
وقد شَهِدَ المنصِفُون من علماءِ الغرب بأنَّ دينَنا دِِينُ عِلم![33] ولله درُّ الشيخ سلمان العودة حين قال: "لقد وَلَّى التاريخُ وَجْهَه شطرَ المدينةِِ المنوَّرَة يرقُبُ حركةَ بناءِ الدولة الإسلامية الأولى، ثم حركةَ جهادِ هذه الدولة لتثبيتِ أركانِها، وتوسيع نطاقِها، وإخضاعِ الناسِ لحكم الله عزَّ وجل؛ فالمدينة لم تكن مَهربًا يلوذُ به المسلمون من ظلم قريش وبطشها وتعذيبها إلى حيث الدعة والسكون! كلا؛ وأنَّى لأصحابِ العقائد الحية الدعة والسكون؟! ولكنها كانت تحوُّلاً إلى جبهةٍ أخرى مُهيَّأة لانطلاقِ الدعوةِ ومواجهة الأعداء، وإظهار الدين ولو كره الكافرون".[34]
10) فقه الحذر في خطة الهجرة:
وأما الترتِيباتُ والاحتِياطاتُ التي اتخذها النبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - للهجرة، فقد كانت دقيقةً جدا. وقد أحسن د. يحيَى اليحيَى في استِيعابِها بتفصيلٍ جامِعٍ، فقال: "لقد جاءت خُطةُ الهجرةِ والترتيبُ لها في غايةِ الإحكام والدقةِ في أخذِ الحيطة، وقد تَمثلَت في النقاطِ التالية: 1- اختِيارُ الصاحبِ المناسِب، وهو أبو بكر الصديق، اختارَه من بين جميعِ الصحابة كما في البخاري.
2- التعريض له بالخبر، فلم يقطَعْ له النبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بأمرِ الصُّحبةِ في الهجرة؛ وإنما قال: (لعلَّ الله يجعل لك صاحباً) كما في البخاري.
3- إعدادُ راحِلَتَيْن قبل مُدةٍ طويلةٍ من الهجرة؛ إذْ لو اشترى الراحِلتَين قُبَيلَ الهجرة فربما لَفَتَ أنظارَ قريشٍ إلى ذلك، وماذا يريد أبو بكر بهاتين الراحِلَتَين إلا لأمْرٍ بيَّتَه مع محمد؟ وبخاصة بعد تفاقُمِ الأزمةِ واشتِدادِ الوحشةِ بعد بيعةِ العقبةِ الثانية، وهذه رواية البخاري.
4- دفع الراحِلتَيْن إلى الدليلِ قبلَ الهجرة، كما في البخاري.
5- زيارة أبي بكر كلَّ يوم، فقد كان النبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لا يخطئه يومٌ أنْ يأتِيَ أبا بكر غدوةً وعشية، وعلى هذا لم يكن الأمر غريباً على قريش في مجيئه إليه وقتَ التخطيط للهجرة، كما في البخاري.
6- تغيير الوقت المعتاد للزيارة، ولعل ذلك بسبب الرَّصَد مِن قِبَلِ قريشٍ لزياراته في الوقت المعتاد، كما في البخاري.
7- اختِيارُ الوقتِ المناسِب للزيارة، وهو وقتُ الظهيرة؛ حيث يستظل الناس ويكونون في بُيوتِهم، كما في البخاري.
8- الخروجُ إلى أبي بكر مُتنكِّراً بالقناعِ؛ حتى لا يُعرَف، كما في البخاري.
9- الإسرار لأبي بكر بخبرِ الهجرة، وكتمان ذلك عن أهلِ بيتِه في بداية الأمر حيث قال له: (أخرج من عندك)، كما في البخاري.
10- الإسراع في إعداد الزاد وتجهيزه، كما في البخاري.
11- مَبِيتُ عَلِيٍّ على الفراش، كما في المسند لأحمد.
12- الخروجُ مِن خَوخَةٍ في ظهرِ بيتِ أبي بكر، ولم يخرجوا من البابِ المعتاد، كما في رواية ابن إسحاق.
13- الخروجُ من الطريق المعاكِس لطريقِ المدينة، فالأصلُ أن يخرجوا من جهةِ الشمال حيث طريق المدينة، فخرجوا جهة الجنوب، كما في البخاري.
14- اختيارُ الغارِ؛ حيث البُعدُ عن الأنظار للاختفاء فيه، كما في البخاري.
15- البقاءُ في الغارِ ثلاثةَ أيام؛ حتى يَسكُنَ الطلبُ عنهما، كما في البخاري.
16- التخطيطُ للتعرُّفِ على كيدِ العَدُو ومُتابَعتِه وإعطاءِ هذا الأمرِ أهميةً كبيرة.
17- اختِيارُ الرجلِ المناسِبِ لهذه المهمة في متابعة أخبارِ قريش وترتيباتِها للقبضِ عليهما، فقد اختاروا شاباً قد لا يلفتُ نظرهم، ويمتاز بالذكاءِ والفِطنةِ؛ فيلتقطُ كل خبرٍ ولا يفوته شيء، كما في البخاري.
18- مُتابَعةُ الأخبارِ أولاً بأولٍ حيث يأتِي بالخبرِ كلَّ يوم، فالحدثُ لا يستَحمِلُ التأخيرَ أكثر من هذا، كما في البخاري.
19- ترتيبُ مجيء الْمُخبِرِ وانصرافِه، سواء في وقتِ المجيء والانصراف، أو في طريقة الذهاب والإياب، كما في البخاري.
20- إسنادُ مُهمةِ الإتيانِ باللبن للرجلِ المناسِب، وهو الراعي عامر بن فُهَيْرة، كما في البخاري.
21- ترتيبُ حُضورِ عامرِ بن فُهَيْرة وانصرافِه، كما في البخاري.
22- اتباعُ عامرِ بن فُهَيْرة أثر عبد الله بن أبي بكر بالغنم حتى تُعَمِّيَ أثَرََه، كما هو عند ابن إسحاق.
23- اختيارُ الدليلِ ذي الكفاءة العالية، كما في البخاري.
24- الخروجُ من الغارِ آخرَ الليل، كما في البخاري وعند موسى بن عقبة.
25- سلوك طريقٍ غيرِ الطريقِ المعتادِ للمدينة، كما في البخاري.
26- اصطحابُ عامرٍ للخدمة.
27- مُواصَلةُ السيرِ بدون توقُّف، كما في البخاري.
28- تأخيرُ وقتِ الراحة، كما في البخاري.
29- حَملُ أبي بكر جميعَ مالِه، ومن فوائد ذلك أنَّ أبا بكر كان رجلاً غنِياً؛ فربما لَحِقَهم الطلب؛ فاستطاع أن يفدي أنفسهما بذلك المال، وكان مبلغاً كبيراً قدر بخمسة آلاف، كما عند ابن إسحاق، وتقدير المبلغ رواه أحمد والحاكم".[35]
فينبغي أنْ نتساءل: "هل نحن عندما نريدُ أن نُقْدِمَ على أيِّ أمرٍ من أُمورِ الدعوة؛ نستعدُّ لذلك؟ نُخَططُّ له؟ نُجِيدُ تحديدَ المراحِل؟ المؤسِفُ أنَّ الواحِدَ منا إذا أراد أن يَعْمُرَ بيتاً؛ جَلسَ يُخَطِّطُ عِدةَ أشهرٍ، نعم إذا أقبلَ على أمرٍ مِن أمُورِ الدنيا؛ خطَّطَ ورتَّبَ واستعدَّ، ولكنْ في أُمُورِ الدعوةِ يَخْبِطُ خَبطَ عشواء؛ ومن هنا جاءتِ النتائجُ السيئةُ لكثيرٍ من الدعواتِ والحركاتِ؛ لأنهم يتحركونَ بدونِ تخطيطِ، يتحركونَ بدونِ دراسةٍ للواقع، وبدونِ حسابٍ للمستقبل؛ حسبَ الأسبابِ التي شرعَها الله سبحانه وتعالى... فالمسلِمُ كَيِّسٌ فَطِنٌ، فلا يُقْدِمْ على أمرٍ إلا بعد أنْ يكونَ قد قلَّبَ جميعَ الأمور، وأخذَ بجميعِ الوسائلِ والأسباب، وهذا الدرسُ واضحٌ وجَلِيٌّ وعظيمٌ في سيرةِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم: تخطيطٌ مُحكَمٌ دقيقٌ، لا تَجِدُ فيه ثغرةً من الثغراتِ".[36]
نسألُ الله أنْ يجعلَنا من المنتَفِعِين بِدُرُوسِ الهجرةِ النبوية العَطِرَة، ومَعالِمِ السِّيرةِ المحمَّدية الشريفة. فقد أدركَ منها بعضُ الغربيِّين ما لم يُدْرِكْه بعضُ بنِي جِلْدَتِنا؛ حتى قال الفيلسوف والكاتب الإنجليزي المعروف برنارد شو: "إنَّ أوروبا الآن ابتدأتْ تحسُّ بحكمةِ محمد، وبدأت تعيشُ دِينَه... إنَّ بَوادِرَ العَصرِ الإسلامي الأوروبي قريبةٌ لا محالة، وإني أعتقدُ أنَّ رجلا كمُحمَّدٍ لو تسلَّمَ زِمامَ الحكمِ المطلَقِ في العالَم بأجْمَعِه اليوم؛ لَتَمَّ له النجاحُ في حُكمِه، ولقادَ العالَمَ إلى الخير، وحلَّ مَشاكِلَه على وجهٍ يُحَقِّقُ للعالَمِ كلِّه السلامَ والسعادةَ المنشُودة".[37]
والحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
----------------------
[1] البيتان لابن القيم رحمه الله.
[2] الأنفال 72.
[3] الهجرة ومقدماتها للشيخ يحيى اليحيى ص 35-36، والغرباء الأولون للشيخ سلمان العودة ص 491.
[4] الملك 15.
[5] المزمل 20.
[6] تفسير ابن كثير 4/440.
[7] تفسير البغوي 4/411.
[8] تفسير البيضاوي 5/408.
[9] في روح المعاني 29/114.
[10] التوبة 40.
[11] النساء 100.
[12] قال مجاهد رحمه الله: "(يجد في الأرض مراغما كثيرا): يعني متزحزحا عما يكره". تفسير مجاهد 1/171.
[13] قال النحاس رحمه الله: "المراغم عند أهل اللغة والمهاجر واحد، يقال: راغمت فلانا إذا هجرته وعاديته: كأنك لا تباليه وإن لصق أنفه بالرغام: وهو التراب". معاني القرآن للنحاس 2/174.
[14] تفسير القرطبي 5/347.
[15] تفسير السعدي 1/196.
[16] البيتان لخليل بن أيبك الصفدي.
[17] التفسير الكبير للرازي 11/13.
[18] تفسير القرطبي 5/349-351. وأحكام القرآن لابن العربي 1/610-613.
[19] النساء 75.
[20] قاض فاضل من أهل سبتة، وهي إحدى المدينتين المغربيَّتَين المحتلَّتَين من إسبانيا. توفي سنة 747 هـ.
[21] النساء 97-99.
[22] رواه البخاري ومسلم.
[23] النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 5/243.
[24] المتوفى سنة 393 هـ.
[25] وقد نُسِبَت إلى الشافعي بهذه الرواية:
تَغَرَّب عَنِ الأَوطانِ في طَلَبِ العُلا وَسافِر فَفي الأَسفارِ خَمسُ فَوائِدِ
تَفَرُّجُ هَمٍّ وَاِكتِسابُ مَعيشَةٍ وَعِلمٌ وَآدابٌ وَصُحبَةُ ماجِدِ
وَإِن قيلَ في الأَسفارِ ذُلٌّ وَمِحنَةٌ وَقَطعُ الفَيافي وَاِكتِسابُ الشَدائِدِ
فَمَوتُ الفَتى خَيرٌ لَهُ مِن حَياتِهِ بِدارِ هَوانٍ بَينَ واشٍ وَحاسِدِ
وقال ابن المقرب علي بن المقرب المتوفى سنة 629هـ.
قُمُ فَاِشدُدِ العِيسَ لِلتِرحالِ مُعتَزِماً وَارمِ الفِجاجَ بِها فَالخَطبُ قَد فَقِما
وَلا تَلَفَّت إِلى أَهلٍ وَلا وَطَنٍ فَالْحُرُّ يَرحَلُ عَن دارِ الأَذى كَرَما!
كَم رِحلَةٍ وَهَبَت عِزّاً تَدينُ لَهُ شُوسُ الرِجالِ وَكَم قَد أَورَثَت نِعَما!
[26] مفهوم التخطيط العلمي، دكتور زكريا حسين.
[27] مفهوم التخطيط العلمي، لدكتور زكريا حسين.
[28] الغرباء الأولون، الجزء الأول، الفصل الثالث، ص20.
[29] صحيح ابن حبان 15/471، حديث 7011. كتاب إخباره عن مناقب الصحابة، وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط: إسناده قوي.
[30] الغرباء الأولون، الجزء الأول، الفصل الثالث، ص24.
[31] الغرباء الأولون، الجزء الأول، الفصل الثالث، ص27.
[32] رواه البخاري ومسلم.
[(1/163)
33] فقال الدكتور موريس بوكاي رئيس قسم الجراحة في جامعة باريس: "لم أجِدْ التوافقَ بين الدينِ والعلم إلا يوم شَرَعتُ في دراسةِ القرآن الكريم؛ فالعِلمُ والدينُ في الإسلام شقيقان توأمان؛ لأنَّ القرآنَ الكريم والحديثَ النبوي الشريف يَدْعُوَان كلَّ مُسلمٍ إلى طلبِِ العلم، طبعاً إنما نجمَت إنجازات الحضارةِ الإسلامية العظيمة عن امتثالِ الأوامِرِ المفروضة على المسلمين منذ فجرِ الإسلام". القرآن الكريم والعلم المعاصر، د. موريس بوكاي ص123.وقد اعتنق بوكاي الإسلام عام1982م. يُعتبر كتابه (التوراة والقرآن والعلم) من أهم الكتب التي درست الكتب المقدسة على ضوء المعارف الحديثة. وله كتاب (القرآن الكريم والعلم العصري) منحته الأكاديمية الفرنسية عام 1988م جائزة في التاريخ. وهو القائل: "إنَّ أول ما يثير الدهشة في روح من يواجه نصوص القرآن لأول مرة هو ثراء الموضوعات العلمية المعالجة، وعلى حين نجد في التوراة الحالية أخطاء علمية ضخمة، لا نكتشف في القرآن أي خطأ! ولو كان قائل القرآن إنساناً فكيف يستطيع في القرن السابع أن يكتب حقائق لا تنتمي إلى عصره؟... ليس هناك تفسير وضعيّ لمصدر القرآن".
[34] الغرباء الأولون، الجزء الأول، الفصل الأول، ص 28.
[35] الهجرة ومقدماتها للدكتور يحيَى اليحيَى ص 55-57.
[36] الفوائد الجنية من الهجرة النبوية (9)، لسلمان بن يحي المالكي.
[37] النبي - صلى الله عليه وسلم - كما تحدث عنه المنصفون والعقلاء في الغرب، إدريس الكنبوري. ص 7.
ــــــــــــ(1/164)
فوائد معنوية من الهجرة النبوية
الهجرة تلك المفردة التي نكررها مرة في أول كل عام.حينما نجلس نتذاكر فضلها و أحيانا نعيد الأحداث التي حفظناها عن ظهر قلب.دعونا هذه المرة نتناول الهجرة من جهة أخرى هي أولى بالذكر من مجرد الترداد للأحداث.أبعاد الهجرة التي غابت عن أذهان الكثير.اليوم موعدنا مع "باقات البطولات" التي قدمها النبي و الصحابة لكي تصل "أمتنا" إلى وضعها المزدهر,ذلك الوضع الذي أذهل الكبراء و تعجبت منه العلياء.حيث صدق فيها قول عز من قائل "خير أمة". و بعد أن ضلت الركاب و حادت الخيول عن طريقها صدق فينا الشطر الأول من الآية " كنتم ".
لم تكن الهجرة حادث طارئ في حياة الصحابة فقد سبقه تمهيد مخطط له كالهجرة إلى الحبشة و بيعتي العقبة الأولى و الثانية.فلا بد للعمل الناجح أن يكون "مُهَيأ ً" له من قبل المسئولين الذين هم بدورهم يمثلون دور القائد الفذ.و حين يتجسد أمامنا قوله عليه الصلاة و السلام "رأيتُ في المنامِ أني أهاجرُ من مكةَ إلى أرضٍ بها نخلٌ ، فذهب ظني إلى أنها اليمامة أو هجر ، فإذا هي يثرب " نتيقن أن ثمة صدق باطن خالطة مصادقة ظاهر.فمن ذا الذي يود أن تثمر غراسة بلا جهد دؤوب و النبي صلى الله علية وسلم قد بين لنا "وضوح" هدفه الذي لم يتفان هو بتوفيق الله من تحصيله.فكان لا بد من جزاء يطابق العمل بل و يزيد.
الألم الذي تلقاه حبيبنا فداه آبائنا و أمهاتنا بعد وفاة عضديه (الزوج الحنون رضوان الله عليها)و عمه أبو طالب ذلك الذي كان رحيله سبباً في إكتمال حزن عام (الحزن) و ما تبعه من رحلة إلى الطائف انتهت بإيذاء الحبيب حتى جاءه جبريل عليه السلام بملك الجبال "عله يطبق عليهم الأخشبين".
هنا تظهر عزيمة الداعي و فضل المربي " بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا" .لله درك يا أبا القاسم أي مدرسة حلم هذه التي تخرجت منها.
تسفر الأيام عن مكنونها و تبرز الحاجة لتمهيد الدعوة فليست الإنجازات مصادفة كما أن الدعوة ليست إختراعا.الدعوة مخطط مرسوم بخريطة لها مفاتيح لتوضيح كل فعل كأنما جاء على قدر مقدور .
تستمر التهيئة النفسية للقبائل في مواسم الحج يتبعها بيعتين كان لهما الفضل في بسط رداء الإسلام في المدينة.
و مع تتابع الأحداث يرى المعلم و القائد ضرورة إرسال سفير "بمواصفات خاصة" يشرع في شرح تعاليم الإسلام , يسعى إلى إصلاح ٍٍ مبدئي لتلكم الأرض التي ستصير يوماً ما مأوى للإسلام و المسلمين كي يقول فيها عليه الصلاة و السلام "لولا الهجرة لكنت إمرء ً من الأنصار"
كأي عمل إنقلابي جبار لا يقوم على جهد رجل واحد و إن كان نبياً فلا بد من مؤازرة أتباعه الذين أحسن الله إختيارهم ليحملوا معه "شطراً " من همِّ الدعوة فيكونوا خير من يضحي لأجل هذا الدين الذي كأنما جائنا على أطباق فضة سائغة.و بتلك الجهود توضع أول حجرتين في بناء الدين ألا وهما "أول مسجد وضع في الإسلام" و المؤاخاة بين "صنفين" من الناس عاداتهم مختلفة و طبائعهم لا تتشابه لاسيما أن أحدهما "مطرود" بينما الآخر "يؤثرون عل أنفسهم و لو كان بهم خصاصة"
أين ستجد هكذا تربية في تأريخ العظماء..و ماذا تسمي نقلة نوعية كهذة في عالم البدو الذين لم يكونوا يفقهون شيئا حتى جاء ذلك الأمي ليخرجهم من الظلمات إلى النور؟!
أما وقد رأينا صورة الأوائل دعونا نستخدم مرآتنا التي عافت صورنا و نحن بدورنا عفناها (المرآة).أما ترى أنك بحاجة إلى هجرة تحس فيها بأنك تهجر الباطل و أوحالة و تترك المنكر و أهله ؟
لكن تذكر معي أن هذه الهجرة ليست وليدة قرار أو حتى فكرة تنتظر النور لتنمو.الهجرة التي نتحدث عنها ليست بمختلفة عن سابقتها.هي هجرة بالروح لا الجسد بالفكر لا الجثمان. و إن كنت قد هززت رأسك قبولا فدعني أخبرك عن بعض ما يجب "إعداده" كي تكون هجرتك ناجحة.
أنت تحتاج إلى دراسة "جادة" لهجرتك. "رأيتُ في المنامِ أني أهاجرُ من مكةَ إلى أرضٍ بها نخلٌ، فذهب ظني إلى أنها اليمامة أو هجر ، فإذا هي يثرب "
هل حددت مسار هجرتك بالضبط؟.وهل تعلم ما تلك القيود التي تحطمها و ماذا عن تلك الرفقة التي ستغادر ساحتهم ؟ هل حددت وجهتك و هل تعلمت تلك التعويذة التي لا بد لك منها للخلاص من كل ما يجعلك " تخلد إلى الأرض و تتبع هواك ".؟
أما المرحلة التالية هي "و اصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة و العشي". لن تدوم طويلا في طريق يقل السائرين فيه و أنت في أول ولوجك.كما أنه لا بد من شخص "ثقة" تتكأ عليه كلما أحلولكت الساعات أمامك " أو هكذا هُيأ لك" رجال هم بمثابة القناديل إن الشموس غابت .يرفعون همتك حينما تخبو, يزيلون عنك عقبات الطريق إن أشتد بك الحنين إلى الماضي .
قبل أن تقرر الهجرة عليك أن تبحث عن (رجال) بهم تشد أزرك و ترفع بهم هامتك.لا يضيقون ذرعا في التضحية من أجل خدمة الدين و السالكين فيه.
هنا نبدأ الخوض في المرحلة الأهم..هل ستنتظر (جبريلا) يخبرك أنك على صواب متى ما ضاقت السبل و أحسست أن الجميع قد تفرق إلا في مضايقتك قد توحد.عندما تسمع عبارات السخرية التي قد تصل إلى الإيذاء.!! هنا الوضع يختلف فلسنا في عصر المعجزات .لكن ثمة يقين عليه أن يتولد بداخلك كلما ساورك الشك في مصداقية ما تصنع .ثق بأن الصادق هو وحده القادر على إجتياز عقبات الطريق. عد إلى الكتاب و السنة لتطمئن أن ما تصنعه لا يخالف شرعا و لا يصير بدعا. عندها فقط أطبق الجبلان على كل من يخبرك أنك تسير خارج السرب و قل ( و إن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله)
أما و قد عزمت الهجرة ,لا بد ان تفكر عن (أول عمل ستقوم به). و لهذه الخطوة أهميتها الخاصة حيث أنك ( كأي مهاجر) ستراودك الحنين إلى موطنك الأول (والله انك لأحب بلاد الله إلى الله والى نفسي ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت).حتى تقتلع ذلك الحنين,عليك أن تصنع عملا به تشعر أنك مبدع في طريق الهجرة و أن ثمرتك ستؤدي أوكلها على خير ما يرام.هل ستبني مسجد قلبك؟ أقصد به (ذلك المكان الذي ستستأنس به في هجرتك و تلوذ به كلما أشتد قيظ الصيف أو زمهرير الشتاء ).مكان تجتمع به مع أحبة طرقوا الفؤاد و ملؤه بهجة و أمانا. تشعر معهم انكم و إن كنتم (كثر) فما أنتم إلا (جسد واحد إذا مرض عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر و الحمى)
بوح أخير...
معرفة الداء و الدواء لا تكفي لعلاج فعال . كما ان حسن الإستخدام لقوعد باطلة يزيد ال_طين_ بلة. إذا فلا بد من تواجد الثلاثة العوامل معا لعمل هجرة جادة من الظلام إلى النور.و لنتذكر موعظة من كلام عمر "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا فإنه أهون عليكم في الحساب أن تحاسبوا اليوم يومئذ تعرضون".
هكذا فقط تترك الهجرة أثرها في القلوب .لا تتردد في جمع المتاع متى ما كنت واثقا من وضوح هدفك.و تذكر قول الحبيب (عبادة في هرج كهجرة إلي). وهل هناك أكثر هرجاً من حال كهذا حيث نسفت المبادئ و ذل فيه أهل الطاعة و عُزَّ فيه أهل المعصية.
هاجر أخي فكلنا ذلك المهاجر حتى يقضي الله بأمره.
ــــــــــــ(1/165)
الهجرة وصناعة الأمل
من كان يظن أن يكون أولئك النفر الستة بداية مرحلة جديدة من العز والتمكين، والبذرة الأولى لشجرة باسقة ظلت تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها؟.
ومن كان يخطر بباله أن تشهد تلك الليلة من ليالي الموسم ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه أبو بكر يطوفان بمنى حتى إذا سمعا صوت رجال يتكلمون مالا إليهم فقالا وقالوا، وتحدثا وسمعوا، وبينا فأصغوا فانشرحت القلوب، ولانت الأفئدة ونطقت الألسنة بالشهادتين، وإذا بأولئك النفر من شباب يثرب يطلقون الشرارة الأولى من نار الإسلام العظيمة التي أحرقت الباطل فتركته هشيما تذروه الرياح. من كان يظن أن تلك الليلة كانت تشهد كتابة السطور الأولى لملحمة المجد والعزة؟.
إن نصر الله يأتي للمؤمن من حيث لا يحتسب ولا يقدر، لقد طاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمجتمعات القبائل وقصد الرؤساء وتوجه بالدعوة إلى الوجهاء وسار إلى الطائف، فعل ذلك كله عشر سنوات وهو يرجو أن يجد عند أصحاب الجاه والمنعة نصرة وتأييدا، كان يقول - صلى الله عليه وسلم - في كل موسم: "من يؤويني؟ من ينصرني؟ حتى أبلغ رسالة ربي"، ومع كل هذا لم يجد من يؤويه ولا من ينصره، بل لقد كان الرجل من أهل اليمن أو من مضر يخرج إلى مكة فيأتيه قومه فيقولون له: احذر غلام قريش لا يفتنك!.
لم تأت النصرة والحماية والتمكين من تلك القبائل العظيمة ذات المال والسلاح، وإنما جاءت من ستة نفر جاءوا على ضعف وقلة.
"إنها التقادير يوم يأذن الله بالفرج من عنده، ويأتي النصر من قلب المحنة، والنور من كبد الظلماء، والله تعالى هو المؤيد والناصر، والبشر عاجزون أمام موعود الله".
ستة نفر من أهل يثرب كلهم من الخزرج دعاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الإسلام ولم يكن يتوقع منهم نصرة وإنما أراد دعوتهم فآمنوا وأسلموا... ثم تتابعت الأحداث على نسق عجيب، قال جابر بن عبد الله رضي الله عنه، وكان أحد النفر الستة: حتى بعثنا الله إليه من يثرب فآويناه وصدقناه فيخرج الرجل منا فيؤمن به ويقرئه القرآن فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه، حتى لم تبق من دور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين يظهرون الإسلام، ثم ائتمروا جميعا فقلنا: حتى متى نترك رسول الله يطوف ويطرد في جبال مكة ويخاف؟ فرحل إليه منا سبعون رجلا حتى قدموا عليه الموسم، فواعدناه العقبة فاجتمعنا عندها من رجل ورجلين حتى توافينا، فقلنا: يا رسول الله علام نبايعك؟ قال: "على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقولوا في الله لا تخافون لومة لائم، وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم وأزواجكم، ولكم الجنة"، قال جابر: فقمنا إليه فبايعناه (مسند أحمد).
أرأيتم... يعرض الكبراء والزعماء ويستكبر الملأ وتتألب القبائل وتتآمر الوفود وتسد الأبواب... ثم تكون بداية الخلاص بعد ذلك كله في ستة نفر لا حول لهم ولا قوة.
فهل يدرك هذا المعنى المتعلقون بأذيال المادية الصارخة والنافضون أيديهم من قدرة الله وعظمته؟.
وهل يدرك هذا المعنى الغارقون في تشاؤمهم اليائسون من فرج قريب لهذه الأمة المنكوبة المغلوبة على أمرها؟.
إن الله ليضع نصره حيث شاء وبيد من شاء وعلينا أن نعمل حتى تصل دعوتنا إلى العالمين، وألا نحتقر أحدا ولا نستكبر على أحد، وعلينا أن نواصل سيرنا مهما يظلم الليل وتشتد الأحزان، فمن يدري لعل الله يصنع لنا في حلكات ليلنا الداجي خيوط فجر واعد؟ ومن يدري لعل آلامنا هذه مخاض العزة والتمكين؟.
أعظم دروس الهجرة!
إننا على أبواب عام هجري جديد يقبل محملا بما فيه، وعلى أعقاب عام هجري مودع يمضي بما استودعناه نقف متذكرين هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم... إنها ذكرى الاعتبار والاتعاظ لا ذكرى الاحتفال والابتداع. إنها وقفة نستقرئ فيها فصلا من فصول الحياة خطه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحبه. إنها رجعة إلى العقل في زمن طاشت فيه العقول. ووقفة مع الروح في زمن أسكرت الأرواح فيه مادية صخابة جرافة.
إن من أعظم دروس الهجرة وأجل عبراتها "صناعة الأمل" نعم. إن الهجرة تعلم المؤمنين فن صناعة الأمل. الأمل في موعود الله. الأمل في نصر الله. الأمل في مستقبل مشرق لـ "لا إله إلا الله". الأمل في الفرج بعد الشدة، والعزة بعد الذلة، والنصر بعد الهزيمة.
لقد رأيتم كيف صنع ستة نفر من يثرب أمل النصر والتمكين. وهاهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع الأمل مرة أخرى حين عزمت قريش على قتله.
قال ابن إسحاق: فلما كانت عتمة من الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه متى نام فيثبون عليه.
وعلى أن كل حساب مادي يقطع بهلاك رسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف لا وهو في الدار والقوم محيطون بها إحاطة السوار بالمعصم. مع ذلك صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأمل، وأوكل أمره إلى ربه وخرج يتلو قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} (يس:9). خرج الأسير المحصور يذر التراب على الرؤوس المستكبرة التي أرادت قتله! وكان هذا التراب المذرور رمز الفشل والخيبة اللذين لزما المشركين فيما استقبلوا من أمرهم. فانظر كيف انبلج فجر الأمل من قلب ظلمة سوداء.
ويمضي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في طريقه يحث الخطى حتى انتهى وصاحبه إلى جبل ثور، وهو جبل شامخ وعر الطريق صعب المرتقى، فحفيت قدما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يرتقيه فحمله أبو بكر وبلغ به غار ثور ومكثا هناك ثلاثة أيام.
مرة أخرى يصنع الأمل!!
ومرة أخرى يصنع الأمل في قلب المحنة، وتتغشى القلوب سكينة من الله وهي في أتون القلق والتوجس والخوف.. يصل المطاردون إلى باب الغار، ويسمع الرجلان وقع أقدامهم، ويهمس أبو بكر: يا رسول الله لو أن بعضهم طأطأ بصره لرآنا! فيقول صلى الله عليه وسلم: "يا أبا بكر. ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟".
وكان ما كان، ورجع المشركون بعد أن لم يكن بينهم وبين مطلوبهم إلا خطوات! فانظر مرة أخرى كيف تنقشع عتمة الليل عن صباح جميل. وكيف تتغشى عناية الله عباده المؤمنين {إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} (الحج:38).
وإذا العناية لاحظتك عيونها نم فالحوادث كلهن أمانُ
ويسير الصاحبان في طريق طويل موحش غير مأهول لا خفارة لهما من بشر، ولا سلاح عندهما يقيهما:
لا دروع سابغات لا قنا ** مشرعات لا سيوف منتضاه
قوة الإيمان تغني ربها ** عن غرار السيف أو سن القناة
ومن الإيمان أمن وارف ** ومن التقوى حصون للتقاة
يسير الصاحبان حتى إذا كانا في طريق الساحل لحق بهما سراقة بن مالك طامعا في جائزة قريش مؤملا أن ينال منهما ما عجزت عنه قريش كلها، فطفق يشتد حتى دنا منهما وسمع قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومرة ثالثة، وهذا الفارس على وشك أن يقبض عليهما ليقودهما أسيرين إلى قريش تذيقهما النكال، مرة ثالثة يصنع الأمل، ولا يلتفت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى سراقة ولا يبالي به وكأن شيئا لم يكن يقول له أبو بكر: يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا، فيقول له مقالته الأولى: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا} (التوبة:40).
لقد اصطنع الأمل في الله ونصره فنصره الله وساخت قدما فرس سراقة، فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها غبار ساطع في السماء كالدخان، فأدرك سراقة أنهم ممنوعون منه. ومرة ثالثة جاء النصر للرسول - صلى الله عليه وسلم - من حيث لا يحتسب. وعاد سراقة يقول لكل من قابله في طريقه ذاك: ارجع فقد كفيتكم ماههنا، فكان أول النهار جاهدا عليهما وآخره حارسا لهما!.
ويبلغ أهل المدينة خبر هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، الرجل الذي قدم لهم الحياة وصنع لهم الأمل. الرجل الذي أنقذهم من أن يكونوا حطبا لجهنم. يبلغهم الخبر فيخرجون كل غداة لاستقباله حتى تردهم الظهيرة. كيف لا وقد اقتربت اللحظة التي كانوا يحصون لها الأيام ويعدون الساعات؟ قال الزبير: فانقلبوا يوما بعدما أطالوا انتظاره فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من يهود أطما من آطامهم لينظر إليه فبصر برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معشر العرب هذا صاحبكم الذي تنتظرون.
فثار المسلمون إلى السلاح فتلقوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بظاهر الحرة. تلقوه بقلوب تفيض سعادة وفرحا... وتأمل مظاهر الفرحة الغامرة:
- قال أنس: "شهدت يوم دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة فلم أر يوما أحسن منه ولا أضوأ منه" (الحاكم).
- قال أبو بكر: "ومضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى قدم المدينة وخرج الناس حتى دخلنا في الطريق وصاح النساء والخدام والغلمان: جاء رسول الله، الله أكبر، جاء محمد، جاء رسول الله" (الحاكم).
- قال أنس: "لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة لعبت الحبشة لقدومه فرحا بذلك لعبوا بحرابهم" (أبو داود).
وصدق من قال:
أقبل فتلك ديار يثرب تقبل ** يكفيك من أشواقها ما تحمل
القوم مذ فارقت مكة ** أبى الكرى وجوانح تتململ
يتطلعون إلى الفجاج وقولهم ** أفما يطالعنا النبي المرسل
رفت نضارتها وطاب أريجها ** وتدفقت أنفاسها تتسلسل
فكأنما في كل دار روضة ** وكأنما في كل مغنى بلبل
وهكذا تعلمنا الهجرة في كل فصل من فصولها كيف نصنع الأمل، ونترقب ولادة النور من رحم الظلمة، وخروج الخير من قلب الشر، وانبثاق الفرج من كبد الأزمات.
ما أحوجنا في هذا الزمن!
ما أحوجنا ونحن في هذا الزمن، زمن الهزائم والانكسارات والجراحات إلى تعلم فن صناعة الأمل.
فمن يدري؟ ربما كانت هذه المصائب بابا إلى خير مجهول، ورب محنة في طيها منحة، أوليس قد قال الله: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ؟} (البقرة:216).
لقد ضاقت مكة برسول الله ومكرت به فجعل نصره وتمكينه في المدينة.
وأوجفت قبائل العرب على أبي بكر مرتدة، وظن الظانون أن الإسلام زائل لا محالة، فإذا به يمتد من بعد ليعم أرجاء الأرض.
وهاجت الفتن في الأمة بعد عثمان حتى قيل لا قرار لها ثم عادت المياه إلى مجراها.
وأطبق التتار على أمة الإسلام حتى أبادوا حاضرتها بغداد سرة الدنيا وقتلوا في بغداد وحدها مليوني مسلم وقيل: ذهبت ريح الإسلام فكسر الله أعداءه في عين جالوت وعاد للأمة مجدها.
وتمالأ الصليبيون وجيشوا جيوشهم وخاضت خيولهم في دماء المسلمين إلى ركبها حتى إذا استيئس ضعيف الإيمان نهض صلاح الدين فرجحت الكفة الطائشة وطاشت الراجحة، وابتسم بيت المقدس من جديد.
وقويت شوكة الرافضة حتى سيطر البويهيون على بغداد والفاطميون على مصر وكتبت مسبة الصحابة على المحاريب ثم انقشعت الغمة واستطلق وجه السنة ضاحكا.
وهكذا يعقب الفرج الشدة، ويتبع الهزيمة النصر، ويؤذن الفجر على أذيال ليل مهزوم... فلم اليأس والقنوط؟.
اشتدي أزمة تنفرجي ** قد آذن ليلك بالبلج
إن اليأس والقنوط ليسا من خلق المسلم، قال سبحانه: {وَلاَ تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} (يوسف:87).
قال ابن مسعود رضي الله عنه: "أكبر الكبائر الإشراك بالله والأمن من مكر الله والقنوط من رحمة الله واليأس من روح الله".
إذا اشتملت على اليأس القلوب ** وضاق لما به الصدر الرحيب
ولم تر لانكشاف الضر وجها ** ولا أغنى بحيلته الأريب
أتاك على قنوط منك غوث ** يمن به اللطيف المستجيب
وكل الحادثات وإن تناهت ** فموصول بها الفرج القريب
فيا أيها الغيورون على أمة الإسلام.. يا من احترقت قلوبهم لآلامها، نعمّا هذا الألم وما أصدقه على إيمانكم وحبكم لدينكم، ولكن لا يبلغن بكم اليأس مبلغه، فإن الذي أهلك فرعون وعادا وثمود وأصحاب الأيكة والذي رد التتار ودحر الصليبين قادر على أن يمزق شمل الروس ويبدد غطرسة الصهيونية ويحطم أصنام الوثنية المعاصرة.
وأنت.. يا من ابتلاك الله في رزقك أو صحتك أو ولدك.
أنت.. يا من جهدك الفقر وانتهكتك العلل وأخذ الموت أحبابك وعدت في أعين الناس كالدرهم الزائف لا يقبله أحد.
أنت.. يا من أصبحت في مزاولة الدنيا كعاصر الحجر يريد أن يشرب منه، ويا من سدت في وجهك منافذ الرزق وأبواب الحلال.
أنت.. هل نسيت رحمة الله وفضله؟
--------------
بقلم الدكتور عادل بن أحمد نقلا عن إسلام اونلاين
ــــــــــــ(1/166)
الهجرة.. دروس في التخطيط الحديث
في عالمنا اليوم يُعرّفون التخطيط بأنه يعني الإجابة على أسئلة ثلاثة، هي:
أين نحن؟ وإلى أين نريد أن نذهب؟ وكيف سنصل إلى هناك؟
ويقسمونه إلى تخطيط إستراتيجي طويل المدى يعنى بالعموميات، مثل: من نحن؟ وماذا نمثل؟ وكيف يمكننا الاستمرار؟ وتخطيط تكتيكي قصير المدى يدعم التخطيط الإستراتيجي، ويُعنى بالتفاصيل وآلية التنفيذ والوقت المتاح للإنجاز.
فهل هذه المعاني كانت حاضرة في ذهنه - صلى الله عليه وسلم - وهو يفكر في الهجرة؟
هذا ما نحاول التعرف عليه.
إستراتيجية الهجرة
لقد كان التخطيط الإستراتيجي واضحًا في فكر النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يترسم خطاه وسط الأمواج العاتية في جزيرة العرب، وملامح هذا التخطيط الإستراتيجي هي:
تحديد الرسالة:
من نحن؟ وما الهدف من وجودنا؟ وما المشكلات التي تواجهنا؟
كان الهدف واضحًا، وهو الحصول على بقعة أرض يُقام فيها مجتمع وتؤسس فيها دولة، وتنطلق منها الدعوة إلى الآفاق، وكانت العقبة الكئود أمام تحقيق هذا الأمر هو عناد واستكبار مشركي قريش وصدهم عن سبيل الله.
تقييم البيئة المحيطة:
كانت البيئة في مكة لا تصلح لإتمام هذا الأمر؛ فمقاومة المشركين للإسلام تزداد شراسة يومًا بعد يوم، وقلوبهم كالحجارة بل أشد قسوة؛ فهل تُغنِي مخاطبة الحجارة؟!
لقد وصل تقدم الدعوة في مكة إلى طريق مسدود، ولم تعد هناك فائدة من تكرار المحاولة.
وكان لا بد أن تكون الأرض المنشودة أرضًا عربية؛ لأنه لا يمكن أن يقوم لهذا الدين كيان إلا في ظل مجتمع عربي يتكلم العربية، ويفهم القرآن كتاب الله المعجز، خصوصًا حَمَلة الرسالة الأولين.
فنظر الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى مدينة الطائف راجيًا من أهلها الاستجابة وهم لهم مقام رفيع بين العرب، ولم يكن جوابهم أقل سوءًا من إخوانهم مشركي مكة.
وكان يغشى المواسم ويأتي الأسواق كعكاظ ومجنة وذي المجاز.
وكانت الاستفادة من وجوده في مكة وهي محج العرب يفدون إليها من كل مكان، ومحاولة الالتقاء بوفود القبائل، وعرض الإسلام عليهم، بل وكان يتبع منازلهم عسى أن يستجيب مستجيب؛ فينال الشرف العظيم.
وأدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - أن المشكلة في رفض القبائل له هو طلب النصرة والحماية لحرصها على رضاء قريش، ولما يعنيه ذلك من حرب الأسود والأحمر؛ فلم يطلبه من أهل يثرب في أول الأمر حتى أطلعه مصعب على نتيجة عمله.
استعراض الموارد:
وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الوقت الذي يبحث فيه عن مكان آخر يدرك أن في قريش من الإمكانات ما ينبغي الاستفادة منه لخدمة الدعوة، وهو يريد أن يدخر هذه الإمكانات والطاقات للمستقبل؛ لذلك عندما جاءه جبريل ومعه ملك الجبال -بعد خروجه من الطائف- يستأمره في أن يطبق على أهل مكة الأخشبين، قال: "بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبد الله عز وجل وحده لا يشرك به شيئا" (من حديث رواه البخاري).
وهذه قمة بُعد النظر، أن تدخر أعداءك للاستفادة منهم مستقبلاً، ولولا ذلك لما وُجد خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو... وغيرهم كثير، كما أن أهل الطائف أصبحوا بعد إسلامهم أشد القبائل العربية دفاعًا عن الإسلام، وجرت على أيديهم الفتوحات.
وكانت طاقات المسلمين وإمكاناتهم مبعثرة أو معطلة، وكانت الحاجة لمكان تتجمع فيه هذه الطاقات البشرية وتتفجر فتقوى شوكتهم ويكثر سوادهم؛ لذلك كان الأمر لجميع المسلمين بالهجرة -فيما بعد- لإمداد الدولة الوليدة بالطاقات البشرية والكفاءات الكفيلة بمواجهة أعداء الإسلام.
طرح البدائل وتحديد الخيار:
لقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يعرف ما الإسلام، وماذا يريد، ويدرك البيئة والصعوبات المحيطة به، ويطرح البدائل في ضوء الرؤية الإستراتيجية الواضحة.
إما المكوث بمكة وهو يعني النفخ في قِربة مثقوبة، وإما الخروج للبحث عن مكان جديد، واستمر في البحث عن البديل حتى جاءت نسمات يثرب.
التدرج في الخطوات:
لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتعجل خطواته، ولا يقطف الثمرة قبل أوانها؛ فقد كان القوم يلاقون الأهوال من بطش قريش، ومع هذا لم يأذن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهم بحمل السلاح؛ فهو يعلم أنه إن رفع سلاحًا فإن المشركين سيجتثون المسلمين عن بكرة أبيهم، وقد رأيناه كيف تدرج في خطواته مع أهل يثرب؛ فقد طلب منهم أولاً أن يُسْلموا ويصدقوا وينظروا في قومهم، وبعد سنة بايعهم على ما لا خلاف عليه من أخلاق وفضائل، وأجّل طلب حمايته ونصرته، وأرسل معهم مصعبًا ليتلو عليهم القرآن، وينظر في توقيت طلب النصرة منهم، وبعد سنتين طلب منهم البيعة على قدومه وحمايته، وجعل نقباءهم من أنفسهم، بعد أن أصبحت الأرضية جاهزة لبناء دولة الإسلام.
وضوح الرؤية:
وقد وضحت الرؤية باستجابة أهل يثرب، وبتأكد الرسول - صلى الله عليه وسلم - من إخلاصهم لربهم، واستعدادهم لحمايته، وحماسهم لإقامة دولة الإسلام.
فكانت يثرب هي الوجهة، وهي أنسب مكان لبناء الدولة، وأصبحت مأرز الإيمان وموطن الإسلام.
وهكذا فقد عرف محمد - صلى الله عليه وسلم - طريقه وأدرك غايته، بما أوتي من فكر ثاقب، وإستراتيجية واضحة، ومعرفة بالواقع، وخطوات محسوبة، وقبل كل ذلك تأييد من الله..
ولم يبقَ إلا العمل.
خطة الهجرة
كانت رؤية الرسول - صلى الله عليه وسلم - جلية، وإستراتيجيته واضحة، وهي الذهاب إلى المدينة لإقامة الدولة الإسلامية؛ لأنه بدون دولة لن يكون هناك إسلام، ولن تكون هناك دعوة.
وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - ينتظر الإذن بالتنفيذ، فجاءه الوحي بالإذن للخروج وبداية العمل، وكانت هذه هي اللحظة التي ينتظرها الرسول بفارغ الصبر.
جلس الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر رضي الله عنه ليرسما معالم خطة الهجرة، وما الخطة إلا هدف، ووسائل لتحقيقه، ووقت لتنفيذه؛ فكانت معالم الخطة كالتالي:
أما الهدف فواضح بيِّن، ولكن كيف السبيل والمشركون يتربصون؟
- وكان القرار بمبيت "علي" في فراشه - صلى الله عليه وسلم - لإيهامهم بأنه النبي، وإشغالهم بذلك ريثما يتمكن النبي وأبو بكر من الابتعاد عن مكة والوصول إلى غار ثور.
- ثم الخروج من دار أبي بكر باتجاه الجنوب؛ فقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يعلم أن أهل مكة سيقلبون الأرض بحثًا عنه، فاختار طريق اليمن جنوبًا، بدلاً من الطريق الشمالي إلى يثرب.
- وحددا غار ثور مكانًا للمكوث فيه 3 أيام حتى تخف حدة المطاردة، وواعدا الدليل أن يأتيهما هناك، ومعه الراحلتان اللتان جهزهما أبو بكر.
- وبعد ذلك يتم التوجه بصحبة الدليل الماهر عبر طريق وعر غير متوقع إلى المدينة.
هذه هي الخطوط العريضة للخطة التي رسمها الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع أبي بكر رضي الله عنه قبل خروجهما، وتم تشكيل فريق العمل، وتوزعت المهام كالتالي:
أبو بكر الصديق:
-الرفيق والصاحب والمستشار والمدير والمنفذ.
علي بن أبي طالب:
-التمويه: بأن ينام في فراش النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الهجرة ليوهم المتآمرين بأنه النبي.
-رد الأمانات: فنحن أصحاب رسالة، وهيهات أن ننسى مبادئنا في حمأة صراعنا مع أعدائنا.
عبد الله بن أبي بكر:
العين التي تعرف أخبار قريش، وتوصلها إلى الرفيقين في الغار، وكان يأتيهما بعد حلول الظلام، ويبيت عندهما، ثم يدلج بسحر.
عامر بن فهيرة:
- توفير الغذاء: بأن يأتي بالغنم، فيريحهما على مقربة من الغار، فيحلب منها الرفيقان.
- التغطية على آثار ابن أبي بكر: بأن يتبع بغنمه أثره.
أسماء بنت أبي بكر:
-إعداد سفرة الطعام التي سيقتات عليها المسافران في الطريق الطويل.
عبد الله بن أريقط:
الدليل الماهر الأمين الذي سيأتي في موعده بعد 3 أيام ومعه الراحلتان.
ويلاحظ في هذه التشكيلة مدى الدقة في الاختيار، والاعتماد على أصحاب الكفاءات والثقات؛ فقد اختير كل فرد بعناية، ووُضع في المكان المناسب له تمامًا؛ فالأمر ليس هينًا، إنه أمر بقاء الإسلام أو فنائه.
خطة ذكية، وتفصيل مدروس، وسرية تامة، وفريق عمل ماهر، وحماسة للعمل، وتنفيذ دقيق؛ فقد عرف كل شخص دوره، وأدى مهمته، وكان التنفيذ محكمًا، والأداء رائعًا، ولم يُترَك شيء للصدفة.. ولم يبقَ إلا أن تتنزل رحمات الله.
القدرة الإلهية والجهد البشري
لقد رأينا كيف خطط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونفذ واستفاد من كل الطاقات والإمكانات المتاحة حوله؛ ليعلمنا أن الإسلام دين العمل والجد والأخذ بالأسباب، وكيف تدخل الفعل الإلهي لنصرته؛ ليعلمنا الله أنه مهما أخذنا بأسباب القوة والنصر، فنحن ضعفاء بدونه لا حول لنا ولا قوة.
وهكذا تسير هذه الثنائية في حياتنا، بين التوكل على الله والأخذ بالأسباب، بين الإرادة الإلهية والإدارة البشرية، بين تدبير الإله وتفكير العبد؛ فإذا أهملنا الاعتماد على الله، وظننا أن قوتنا كفيلة بضمان تفوقنا خبنا وخسرنا، وإذا أهملنا الأخذ بالأسباب، وجلسنا في بيوتنا ندعو الله أن ينصرنا ويزلزل الأرض من تحت أعدائنا.. فلن يزيدنا الله إلا خسرانا.
"إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ظل قلبه يخفق بدعاء الله وهو يرسم الخطط، ويضع الضمانات، ويهيئ الموارد والإمكانات والدفوع الكفيلة بإيصاله إلى هدفه. لم يجئ هذا الدعاء قبل التخطيط فحسب، ولا جاء بعده فحسب؛ فليس في علاقة الإرادة البشرية بالمشيئة الإلهية خلال الحدث قبلية ولا بعدية، وإنما تسير الاثنتان في انسجام رائع؛ لأن هذه من تلك؛ ولأن الإنسان في أصغر جزئيات الحركة وفي أكبرها إنما ينفذ قَدَر الله وناموسه في الأرض في مدى الحرية التي أتيحت له.
أما أن يجيء الدعاء والتوجه قبل التخطيط فحسب، أو بعد التنفيذ فحسب؛ فهو من قبيل الثنائيات التي ترفضها مبادئ السماء أشد الرفض؛ لأنها تفصل بين الله والإنسان، وتقسم حظ الطرفين في حركة التاريخ بما لا يتفق أساسًا والسنن الكبرى.
إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - هيّأ الأسباب الكاملة لنجاح الحركة وهو ينظر إلى الله، ووضع خطواته الأولى على الدرب وهو يدعو الله، وما لبثت الأسباب أن آتت أُكُلها والخطوات أن انتهت إلى هدفها، وظل الرسول - صلى الله عليه وسلم - ينظر إلى الله ويدعوه، وما أحرانا في يوم هجرته أن نتمعن في هذه التعاليم في زمن طغت فيه التفاسير والأهواء، وكلٌّ قال ما عنده، شرقيًّا كان أو غربيًّا، لكن المسلمين لم يقولوا بعدُ كلَّ ما عندهم". (عماد الدين خليل: خطوات في طريق الهجرة).
فكيف بحال أمة هي خير أمة أخرجت للناس، آتاها الله أفضل كتاب وخير منهج فلم تتبعه، وآتاها أفضل الثروات وخير الإمكانات فأعطتها لأعدائها!
وأخيرًا:
هذه هي الهجرة، وهذه دروسها، وهذه نظرتنا إليها، لها انتسب التاريخ، ولها انتسب المسلمون، ولها انتسبت سور القرآن، ولها انتسب الصحابة، ولها انتسبت دولة الإسلام.
"فعفوًا رسول الله إن قصرنا أو أخطأنا ونحن نتحدث عنك في يوم هجرتك حديث المحبين الذين تحاصرهم القيود في كل مكان، وتسعى إلى سحق مطامحهم ظلمات بعضها فوق بعض؛ فيلجئون إليك مؤمِّلين أن تمنحهم المزيد من التعاليم، كسرًا ثوريًّا للقيد، واستعلاءً روحيًّا على الظلمات، وحركة إيجابية صوب المصير الفذ المتفرد.
وما أحرى الهجرة أن تكون هذا الدرس..(1)
----------
(1)نقلاً عن إسلام أون لاين بقلم علي البغدادي
ــــــــــــ(1/167)
وحي الهجرة
مصطفى صادق الرافعي
بدأ الإسلام في رجل "النبي" وامرأة "خديجة" وغلام "علي".. ثم زاد حرًّا "أبا بكر" وعبدًا.."بلال".
أليست هذه الخمس هي كل أطوار البشرية في وجودها.. مخلوقة في الإنسانية والطبيعة، ومصنوعة في السياسة والاجتماع؟!
فها هنا مطلع القصيدة، وأول الرمز في شعر التاريخ!
ولبث النبي - - صلى الله عليه وسلم - - ثلاث عشرة سنة.. لا يبغيه قومه إلا شرًّا، على أنه دائب يطلُب.. ثم لا يجِد، ويعرض.. ثم لا يُقبل منه! ويُخفِق.. ثم لا يعتريه اليأس!.. ويجهد.. ثم لا يتخونه الملل! ويستمر ماضيًا لا يتحرَّف، ومعتزمًا لا يتحوَّل.
أليست هذه هي أسمى معاني التربية الإنسانية.. أظهرها الله كلها في نبيه، فعمل بها، وثبُت عليها، وكانت ثلاثة عشرة سنة في هذا المعنى كعمر طفلٍ وُلد ونشأ وأحكم تهذيبه بالحوادث، حتى تسلمته الرجولة.
الكاملة.. بموانيها من الطفولة الكاملة بوسائلها..!
أفليس هذا فصلاً فلسفيًّا دقيقًا يُعلِّم المسلمين كيف يجب أن ينشأ المسلم: غناه في قلبه، وقوته في إيمانه، وموضعه في الحياة موضوع النافع قبل المنتفع، والمُصْلِح قبل المقلد.. وفي نفسه من قوة الحياة ما يموت به في هذه النفس أكثر ما في الأرض والناس من شهوات ومطامع!
ثم.. أليست تلك العوامل الأخلاقية هي هي التي ألقيت في منبع التاريخ الإسلامي ليَعُبَّ منها تياره، فتدفعه في مجراها بين الأمم، وتجعل من أخص الخصائص الإسلامية في هذه الدنيا الثبات على الخطوة المتقدمة.. وإن لم تتقدم، وعلى الحق وإن لم يتحقق، والتبرؤ من الأثرة.. وإن شحَّت عليها النفس، واحتقار الضعف وإن حكم وتسلط، ومقاومة الباطل وإن ساد وتغلب، وحمل الناس على محض الخيرة وإن ردوا بالشر، والعمل للعمل.. وإن لم يأت بشيء، والواجب للواجب.. وإن لم يكن فيه كبير فائدة، وبقاء الرجل رجلاً.. وإن حطَّمه كل ما حوله؟!
قالوا: إن عمه - صلى الله عليه وسلم- أبا طالب. بعث إليه حين كلمته قريش، فقال له: يا ابن أخي.. إن قومك قد جاءوني فقالوا لي كذا وكذا.. فأَبْعِد عليَّ وعلى نفسك، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق.
فظن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - أنه قد بدأ لعمله فيه بداء، وأنه خاذله ومُسلِمه، وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه.. فقال: يا عمَّاه.. لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري.. على أن أترك هذا الأمر؛ ما تركته.. حتى يُظهِره الله أو أهلك فيه ما تركته ثم استعبر - - صلى الله عليه وسلم - - فبكى!
يا دموع النبوة! لقد أثبت أن النفس العظيمة لن تتعزى عن شيء منها بشيء من غيرها.. كائنًا ما كان.. لا من ذهب الأرض وفضتها، ولا من ذهب السماء وفضتها، إذا وُضعت الشمس في يد، والقمر في الأخرى!
وكل حوادث المدة قبل الهجرة على طولها ليست إلا دليل ذلك الزمن على أنه زمن نبي، لا زمن ملك أو سياسي أو زعيم.. ودليل الحقيقة على أن هذا اليقين الثابت ليس يقين الإنسان الاجتماعي من جهة قوته، بل يقين الإنسان الإلهي من جهة قلبه. ودليل الحكمة على أن هذا الدين ليس من العقائد الموضوعة التي تنشرها عدوى النفس للنفس.. فها هو ذا لا يبلغ أهله في ثلاث عشرة سنة أكثر مما تبلغ أسرة تتوالد في هذه الحقبة. ودليل الإنسانية على أنه وحي الله بإيجاد الإخاء العالمي والوحدة الإنسانية. أفلم يكن خروجه عن موضوعه هو تحققه في العالم؟!
هذه هي حكمة الله في تدبيره لنبيه قبل الهجرة.. قبض عنه أطراف الزمن، وحصره من ثلاث عشرة سنة في مثل سنة واحدة.. لا تصدر به الأمور مصادرها كي تبث أنها لا تصدر به، ولا تستحق به الحقيقة لتدل على أنها ليست من قوته وعمله.
وكان - - صلى الله عليه وسلم - - على ذلك - وهو في حدود نفسه، وضيق مكانه - يتسع في الزمن من حيث لا يرى ذلك أحد ولا يعلمه، وكأنما كانت شمس اليوم الذي سينتصر فيه - قبل أن تُشرق على الدنيا بثلاث عشرة سنة - مشرقة في قلبه - صلى الله عليه وسلم-.
والفصل من السنة لا يقدمه الناس ولا يؤخرونه، لأنه من سير الكون كله.. والسحابة لا يُشعلون بَرْقها بالمصابيح! ومع النبي من مثل ذلك برهان الله على رسالته.. إلى أن نزل قوله - تعالى-: [وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كلُّهُ لله].. فحَلَّ الفصل.. وانطلقت الصاعقة.. وكانت الهجرة!
تلك هي المقدمة الإلهية للتاريخ..
وكان طبيعيًّا أن يَطَّرِد التاريخ بعدها، حتى قال الرشيد للسحابة وقد مرت به: أمطري حيث شئت.. فسيأتيني خراجُك!
ــــــــــــ(1/168)
المحرم والاحتفال بالسنة الهجرية
الشيخ الأمين الحاج محمد أحمد*
ورد في فضل المحرم عامة، وعاشره وتاسعه خاصة، عدد من الأحاديث والآثار، تحث على الإكثار من الصيام في شهر الله المحرم خاصة، ويومي تاسوعاء وعاشوراء، أي التاسع والعاشر، أو العاشر والحادي عشر؛ من ذلك :
قوله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله الذي تدعونه المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة قيام الليل".
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن يوم عاشوراء، فقال: "ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً يتحرى فضله على الأيام إلا هذا اليوم ـ يعني يوم عاشوراء ـ وهذا الشهر ـ يعني رمضان".
وعن أبي قتادة أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صيام عاشوراء، فقال: "أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله".
وصح عنه أنه قال: "لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع والعاشر".
هذا كل ما صح في هذا الشهر، أما الاحتفال في أوله بالهجرة، واتخاذ ذلك عيداً وعطلة، فهذا لم يرد فيه حديث صحيح، ولم يُؤثر عمل ذلك عن أحد ممن يقتدى بهم، من الصحابة، والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين؛ إذ لو صحَّ في ذلك حديث، أوأثر، أوفعل، لنقل إلينا، كما نقل إلينا الحث على إكثار الصيام فيه، سيما يومي عاشوراء وتاسوعاء، فإن الهمم متوفرة لنقل ذلك وحفظه والعمل به؛ وحيث لم يصلنا في ذلك خبر صحيح، ولا فعل موصول بالقرون الفاضلة، دل ذلك على عدم مشروعية الاحتفال في أول المحرم بالهجرة واتخاذ ذلك عيداً وعطلة عامة، لأن ما لم يكن في ذلك اليوم ديناً فلن يكون اليوم ديناً .
روى معمر عن ابن طاوس عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تتخذوا شهراً عيداً ولا يوماً عيداً"، يعني غير أعياد المسلمين الثلاثة المعلومة: الجمعة من كل أسبوع، وعيد الفطر وأيام التشريق، وعيد الأضحى .
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله: (وأصل هذا أنه لا يشرع أن يتخذ المسلمون عيداً إلا ما جاءت به الشريعة باتخاذه عيداً وهو يوم الفطر، ويوم الأضحى، وأيام التشريق، وهي أعياد العام؛ ويوم الجمعة وهو عيد الأسبوع؛ وما عدا ذلك فاتخاذه عيداً وموسماً بدعة لا أصل له في الشريعة).
أول من سن التأريخ بهجرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى المدينة الخليفة الراشد والإمام العادل عمر بن الخطاب، وكان ذلك في السنة السادسة عشرة من الهجرة في خلافته، وقد عمل ذلك بمشورة أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإجماعهم؛ ولو كان الاحتفال بالهجرة مشروعاً من قبلُ لما غفل عنه عمر، ولو كان سنة لفعله هو، إذ عمل الخلفاء الراشدين سنة؛ فلو كان خيراً لما غفل عنه هؤلاء الأخيار وانتبه إليه الخلوف من الأمة في القرون المتأخرة، ولو كان مشروعاً لما سبق إليه المتأخرون وتركه الأولون، فدلّ ذلك على أن الاحتفال بالهجرة واتخاذ ذلك عيداً وعطلة لا أصل له في الدين، ومن ثم فهو بدعة ومحدث، وقد أعلمنا رسولنا - صلى الله عليه وسلم - أن كل بدعة ضلالة، وأن من أحدث في الدين ما ليس منه فعمله مردود عليه، لا يقبل منه صرفاً ولا عدلاً، بل سيؤاخذ بابتداعه هذا، وبتقليد الناس له، بحكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :" من سنّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً ".
اعلم أخي المسلم أن هذا العلم دين فانظر ممن تتلقى دينك، ولا تكن إمعة تقول: إن أحسن الناس أحسنتُ وإن أساءوا أسأتُ، ولكن وطِّن نفسك على اتباع الحق، فالخير كل الخير في الاتباع، والشر كل الشر في الابتداع؛ اللهم هل بلغت، اللهم فاشهد.
ــــــــــــ(1/169)
ما ينبغي أن يستقبل به المسلمون عامهم الهجري
الشيخ الأمين الحاج محمد أحمد*
الحمد لله " الذي جعل الليل والنهار خِلفة لمن أراد أن يذَّكر أو أراد شكوراً"، وصلّى الله وسلم وبارك على محمد القائل :" كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل".
فإن في تعاقب الليل والنهار، وكرِّ السنين والشهور والأيام، وتقارب الزمان، والابتلاء بالنعم والمصائب العظام، لعبرة لأولي الألباب، وذكرى لأصحاب العقول الكبار، وفي التغافل عن ذلك حسرة وندامة، وشقاوة، وغباوة.
وبعد..
فإني أود أن أذكر نفسي أولاً وإخواني المسلمين بما ينبغي علينا أن نستقبل به العام الهجري الجديد، لأن الذكرى تنفع المؤمنين، وتنبه الغافلين، وتعين الذاكرين، فأقول :
أولاً : ينبغي على المسلمين أفراداً وجماعات، رعاة ورعية، علماء وعامة، نساءاً ورجالاً، أن يحاسبوا أنفسهم بأنفسهم حساباً شديداً صارماً قبل أن يحاسبوا، وعليهم أن يزنوا أعمالهم قبل أن توزن عليهم، وليتزينوا ليوم العرض الأكبر، على ما صدر منهم في العام المنصرم والأعوام السابقة، فإن وجد المرء خيراً فليحمد الله، وإن وجد غير ذلك فليعجل بالتوبة والإنابة قبل فوات الأوان واجتماع الحسرتين: حسرة الموت، وحسرة الفوت.
ثانياً : تجديد التوبة الصادقة النصوح من جميع الذنوب والآثام، وعدم التواني في ذلك أوالتسويف فيها.
ثالثاً : على المسلمين أفراداً وجماعات، حكاماً ومحكومين، شباباً ورجالاً، الانعتاق والتحرر من الولاء لغير الله، فلا يدعوا غير الله عز وجل، ولا يستغيثوا بغير الله، ولا يصرفوا شيئاً من العبادة لغير الله، فإن فعلوا شيئاً من ذلك فقد أشركوا مع الله غيره، وعليهم أن يجددوا إيمانهم.
رابعاً : الانعتاق والتحرر من تقليد الكفار والتشبه بهم، خاصة في نظام الحكم، والتحاكم إلى قوانينهم الوضعية، ومناهج التربية والتعليم، والتحدث برطاناتهم وتعلمها من غير ضرورة، والعيش في ديارهم، والتشبه بهم في المخبر والمظهر، في اللبس والأعياد ونحوها.
خامساً : التحرر والانعتاق من التأريخ بتواريخ الكفار، والعودة إلى العمل بتاريخنا الهجري، فهذا من أضعف الإيمان، فمن لم يقو على مخالفة الكفار ـ ومخالفتهم قربى ـ في هذه الأمور فلن يقوى على مخالفتهم في غيرها من الأمور الكبار .
سادساً : عدم العمل بالحساب في إثبات الأهلة، خاصة المتعلقة بها العبادات الشرعية، كالصيام، والحج، والزكاة، والعدّة، والكفارات، إلا في الصلاة لارتباطها بالتقويم الشمسي.
سابعاً : الاهتمام باللغة العربية ومنع تدريس غيرها من اللغات، سيما في مرحلتي الأساس والمرحلة الثانوية، وإعادة النظر في الوسائل والطرق التي تدرّس بها، وجعلها اللغة الرسمية في دواوين الحكومة، وفي المحافل، ووسائل الإعلام المختلفة، وعدم التحدث بغيرها في المحافل الدولية، ومع الزوار الأعاجم، والعمل على القضاء على اللهجات العامية فهي بلاء على العربية.
ثامناً : رفع راية الجهاد وإعانة المجاهدين بالمال، والعتاد، والدعاء، والعمل لإعداد القوة لإرهاب أعداء الله، فلن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
تاسعاً : العمل على بعث عقيدة الولاء والبراء في الأمة، فقد ضعفت هذه العقيدة، بل انعدمت لدى طائفة كبيرة من المسلمين، حيث أصبحوا يوالون أعداء الملة والدين، ويعادون إخوانهم المسلمين، وما خذلان المسلمين حكاماً ومحكومين لإخوانهم في العراق، وفلسطين، وأفغانستان، وكشمير، والشيشان، والفلبين، وغيرها عنا ببعيد.
عاشراً : بعث روح الأخوة الإيمانية بين المسلمين، فقد كان أول عمل قام به سيد الخلق بعد هجرته إلى المدينة، وبعد بناء مسجده، أن آخى بين المهاجرين الذين تركوا أموالهم وأهليهم، وبين الأنصار الذين آثروهم على أنفسهم وأهليهم، عن طريق التكافل، خاصة الفقراء منهم، وأن لا ندعهم للمنصرين الذين يحملون المساعدات إليهم بالشمال ويحملون الإنجيل باليمين.
أحد عشر : علينا أن نتذكر بهذه المناسبة حرمة الهجرة لغير ضرورة من ديار الإسلام إلى ديار الكفر التي فتن بها كثير من المسلمين، سيما الأطباء، والمهندسين، والشباب؛ حيث لا تحل الهجرة لديار الكفار ولو كانت بغرض الدعوة، كما وضّح ذلك كثير من أهل العلم القدامى والمحدثين، منهم الشيخ عثمان دانفوديو وغيره، كما لا يحل للمسلمين من أهلها البقاء فيها إلا لعدم وجود البديل.
الثاني عشر : علينا الاشتغال والاهتمام بالعلم الشرعي، فالعلم قائد والعمل تبع له، ومشكلة الإسلام الحقيقية تكمن بين جهل أبنائه وكيد أعدائه، فنشر العلم الشرعي من أجلِّ القربات بعد أداء الفرائض، إذ لا يدانيه شيء من العبادات.
الثالث عشر : العمل على إشاعة فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التي هي صمام الأمان لهذه الأمة من الانحراف والزيغ؛ فالنصيحة لله، ولرسوله، ولكتابه، ولأئمة المسلمين وعامتهم قدر الطاقة واجبة :" من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وليس وراء ذلك مثقال حبة من خردل من إيمان "، أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
الرابع عشر : ينبغي للمسلمين جميعاً أن يعلموا أن اليأس والقنوط من رحمة الله من الكبائر العظيمة، وعليهم أن يقاوموا ذلك في نفوسهم، وأن يعملوا على اجتثاث ذلك من نفوس غيرهم، خاصة الشباب، فالاستسلام لليأس، والقنوط، والرضا بالواقع من أقوى عوامل الهزيمة، ومن أخطر أسباب الضعف المهينة.
الخامس عشر : اعلم أخي المسلم أن العزة لله، ولرسوله، وللمؤمنين، ولكن المنافقين والمتخاذلين لا يعلمون؛ فلا خير في مؤمن لا يعتدُّ ويعتز بدينه؛ وتذكر خطاب الله عز وجل للفئة المؤمنة عقب انهزاهمهم في أحد :" ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون "؛ فالمؤمن هو الأعلى بإسلامه، وبتوكله على ربه، وبثقته بأن العاقبة للمتقين، وبأن النصر بيد العزيز الحكيم، لمن أخذ بأسبابه، وعمل بمقتضى شرعه وخطابه.
السادس عشر : علينا أن نوقن يقيناً صادقاً جازماً أن الله قد أعزنا بالإسلام، وأن من طلب العزة في غيره أذله الله، أو كما قال الخليفة الملهم عمر بن الخطاب.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين, ولا عدوان إلا على الظالمين، والسلام علينا وعلى جميع عباد الله الصالحين.
ــــــــــــ(1/170)
حول مدلولات الهجرة
التحرير
الهجرة في اللغة اسمٌ من هجر يهجُر هَجْرا وهِجرانا بمعنى الفطع والترك؛ قال ابن فارس: "الهاء والجيم والراء أصلان، يدل أحدهما على قطيعة وقطع، والآخر على شد شيء وربطه. فالأول الهَجْر: ضد الوصل، وكذلك الهِجْران، وهاجر القوم من دار إلى دار: تركوا الأولى للثانية، كما فعل المهاجرون حين هاجروا من مكة إلى المدينة".
أما الهجرة شرعاً فالمشهور في تعريفها أنها ترك دار الكفر والخروج منها إلى دار الإسلام، غير أن الحافظ ابن حجر عرفها تعريفاً أشمل وأعم فقال : "الهجرة في الشرع ترك ما نهى الله عنه،وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: ((المهاجر من هجر ما نهى الله عنه)) وهي تشمل الهجرة الباطنة والهجرة الظاهرة، فأما الهجرة الباطنة فهي ترك ما تدعو إليه النفس الأمارة بالسوء وما يزيّنه الشيطان، وأما الظاهرة فهي الفرار بالدين من الفتن، والأولى أصل للثانية.
ولما كانت الثانية أعظم أمارات الأولى وأكمل نتائجها، و لما كانت هجرته - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى المدينة أشرف الهجرات وأشهرها انصرف اللفظ عند الإطلاق إليها.
أما لفظ الهجرتين فهو عند الإطلاق يراد به الهجرة إلى الحبشة والهجرة إلى المدينة ، وقد يراد به معنى آخر كما بين الإمام ابن القيم في مقدمة كتابه طريق الهجرتين وباب السعادتين حيث بين مقصده بالهجرتين بقوله:" فله _أي المؤمن _ في كل وقت هجرتان:
هجرة إلى الله بالطلب والمحبة والعبودية، والتوكل والإنابة والتسليم، والتفويض والخوف والرجاء والإقبال عليه وصدق اللجإ والافتقار في كل نفس إليه.
وهجرة إلى رسوله في حركاته وسكناته الظاهرة والباطنة، بحيث تكون موافقة لشرعه الذي هو تفصيل محاب الله ومرضاته، ولا يقبل الله من أحد ديناً سواه، وكل عمل سواه فعيش النفس وحظها لا زاد المعاد، وقد قال شيخ الطريقة وإمام الطائفة الجنيد بن محمد قدس الله روحه: الطرق كلها مسدودة إلا طريق من اقتفى آثار النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الله عز وجل يقول: وعزتي وجلالي لو أتوني من كل طريق واستفتحوا من كل باب لما فتحت لهم حتى يدخلوا من خلفك، وقال بعض العارفين: كل عمل بلا متابعة فهو عيش النفس."
على ضوء التعريفات السابقة يمكن تقسيم الهجرة إلى نوعين اثنين:
1- الهجرة المعنوية: وهي الهجرة التي قصدها الإمام ابن القيم: الهجرة من المعصية إلى الطاعة ومن البدعة إلى السنة ومن الكفر إلى الإسلام .
الهجرة الحسية: وهي التي تتطلب انتقالاً من مكان إلى أخر ، ومن أمثلتها :
أ الهجرة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في المدينة، وهذه أشرف الهجرات وأفضلها على الإطلاق.
ب الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام وهذه يختلف حكمها باختلاف الظروف والأوضاع.
ج هجرة أهل الذنوب والمعاصي وهجرة أهل الأهواء والبدع بمفارقتهم ومقاطعتهم ومباعدتهم زجراً لهم أو حذراً منهم.
د- الهجرة إلى الشام في آخر الزمان عند ظهور الفتن فعن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ستكون هجرة بعد هجرة، فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم ويبقى في الأرض شرار أهلها، تلفظهم أرضوهم، تقذرهم نفس الله، وتحشرهم النار مع القردة والخنازير)) .
وقد ندب الله المؤمنين للهجرة في أيات كثيرة يقول تعالى: "{إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}[البقرة:218].وقوله: : {وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِى اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوّئَنَّهُمْ فِى الدُّنْيَا حَسَنَة وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} [النحل:41]. وقوله : {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النحل:110]. وقوله {وَمَن يُهَاجِرْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِى الأرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} [النساء:100]، وغير ذلك من الآيات، كما وردت أحاديث عديدة تنوه بفضل الهجرة منها قوله صلى الله عليه وسلم: ((أما عملت أن الإسلام يهدم ما كان قبله؟! وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها؟! وأن الحج يهدم ما كان قبله؟!)) ، وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأبي فاطمة الضمري: ((عليك بالهجرة فإنه لا مثل لها))
نسأل الله أن يجعلنا من المهاجرين إليه وإلى رسوله ..أمين.
ــــــــــــ(1/171)
هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم
أي معلم كان ..وأي إنسان ؟؟ إن الذين بهرتهم عظمته لمعذورين ..ابن عبد الله محمد ..رسول الله إلى الناس في قيظ الحياة ..أي صدق وأي طهر وأي نقاء أي تواضع أي وفاء أي احترام للحياة وللأحياء ؟ لقد آتاه الله من أنعمه بالقدر الذي يجعله أهلاً لحمل رايته والتحدث باسمه بل ويجعله أهلا لأن يكون خاتم رسله ..ومن ثم كان فضل الله عليه عظيماً ..إنسان ينذر حياته لدعوة ..هاهو ذا محمد قبل رسالته وها هو ذا بعد رسالته ها هو ذا والمهد يستقبله ثم ها هو ذا وفراش الموت يدثره هل ترى العين في طول حياته وعرضها من تفاوت..؟أبداً ..والآن لنقف قليلاً على مقربة من السنين الأولى لرسالته ؟ فتلك سنوات قلما نجد لها في تاريخ الثبات والصدق والعظمة نظيراً!! لقد رآه الناس والأذى ينوشه من كل جانب ، ومن أراد أن يتصور مبلغ الإظطهاد ومدى الحرب التي شنتها قريش على الرسول الأعزل ؟ فليقرأ كتب السير وسيجد أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لبث شامخاً ناهضاً متفانياً أمام المؤامرة الدنيئة وأمام ساعة الصفر التي انتظرتها قريش والمحاولة التي باءت بالفشل مع الثقة بنجاحها؟
والآن ونحن ذاهبون سوياً نخوض أحداث قصة ووقائع مغامرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - َنكُنْ في لقاء مع أحد أصحابه الكرام وهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه حيث يبهرنا من إيمانه وتضحياته وإيثاره فشيخاً نراه تتساقط دموعه على وجه الرسول عليه السلام ولم يتحرك !!!ومن عظمة الغرض الذي أقامه لحياته ما لا نكاد نعرف له نظيرا فإن كل أسباب هذا الإعجاز ستكون واضحة هذه الأسباب التي لم تكن شيئاً سوى النور الذي اتبعوه ..سوى محمد رسول الله الذي جمع الله له من رؤية الحق ورفعة النفس ما شرفت به الحياة وأضاءت به مقادير الإنسان !! فهيا أحبتنا نعرض قصة هجرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - .. لما تم اتخاذ القرار الغاشم بقتل النبي - صلى الله عليه وسلم - نزل إليه جبريل بوحي ربه تبارك وتعالى ,فأخبره بمؤامرة قريش , وأن الله قد أذن له في الخروج وحدد له وقت الهجرة قائلاً: لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه .وذهب النبي - صلى الله عليه وسلم - في الهاجرة إلى أبي بكر رضي الله عنه ليبرم معه مراحل الهجرة , قالت عائشة رضي الله عنها :بينما نحن جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة قال قائل لأبي بكر هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متقنعاً, في ساعة لم يكن يأتينا فيها , فقال أبو بكر : فداء له أبي وأمي , والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر .
قالت : فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستأذن , فأذن له , فدخل , فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر :أخرج من عندك . فقال أبو بكر : إنما هم أهلك ,بأبي أنت يا رسول الله . قال :فإني قد أذن لي في الخروج ,فقال أبو بكر : الصحبة بأبي أنت يا رسول الله ؟قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :نعم.(صحيح البخاري )
وبعد إبرام خطة الهجرة رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بيته , ينتظر مجيء الليل .
تطويق منزل الرسول صلى الله عليه و سلم:
أما أكابر مجرمي قريش فقضوا نهارهم في الإعداد لتنفيذ الخطة المرسومة التي أبرمها برلمان مكة (دار الندوة)صباحاً, واختير لذلك أحد عشر رئيساً من هؤلاء الأكابر , وهم :أبو جهل بن هشام -الحكم بن أبي العاص-عقبة بن أبي معيط -النضر بن الحارث -أمية بن خلف - زمعة بن الأسود -طعيمة بن عدي -أبو لهب -أبي بن خلف -نبيه بن الحجاج-أخوه منبه بن الحجاج (زاد المعاد) قال ابن إسحاق :فلما كانت عتمة الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه متى نام , فيثبون عليه (ابن هشام)وكانوا على ثقة من نجاح هذه المؤامرة الدنية , حتى وقف أبو جهل وقفة الزهو والخيلاء وقال مخاطباً لأصحابه المطوفين في سخرية واستهزاء : إن محمداً يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم ثم بعثتم من بعد موتكم فجعلت لكم جنان كجنان الأردن وإن لم تفعلوا كان له فيكم ذبح ثم بعثتم من بعد موتكم ثم جعلت لكم ناراً تحرقون فيها .
وقد كان ميعاد تنفيذ تلك المؤامرة بعد منتصف الليل فباتوا متيقظين ينتظرون ساعة الصفر ولكن الله غالب على أمره بيده ملكوت السماوات والأرض يفعل ما يشاء وهو يجير ولا يجار عليه ,فقد فعل ما خاطب به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما بعد (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين )(30:8).
الرسول - صلى الله عليه وسلم - يغادر بيته :
ومع غاية استعداد قريش لتنفيذ خطتهم فقد فشلوا .ففي هذه الساعة الحرجة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعلي بن أبي طالب : نم على فراشي , وتسج ببردي هذا الحضرمي الأخضر , فنم فيه فإنه لن يخلص إليك شئ تكرهه منهم وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينام في برده ذلك إذا نام
. ثم خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و اخترق صفوفهم و أخذ حفنة من البطحاء فجعل يذره,على رؤوسهم ، و قد أخذ الله أبصارهم عنه فلا يرونه وهو يتلو (وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون ) (9:36)فلم يبق منهم رجل إلا وقد وضع على رأسه تراباً ومضى إلى بيت أبي بكر فخرجا من خوخة في دار أبي بكر ليلاً حتى لحقا بغار ثور في اتجاه اليمن .وبقي المحاصرون ينتظرون حلول ساعة الصفر وقبيل حلولها تجلت لهم الخيبة والفشل فقد جاءهم رجل ممن لم يكن معهم ورآهم ببابه فقال :ما تنتظرون ؟ قالوا محمداً.قال :خبتم وخسرتم قد والله مر بكم , وذر على رؤوسكم التراب , وانطلق لحاجته قالوا والله ما أبصرناه وقاموا ينفضون التراب عن رؤوسهم. ولكنهم تطلعوا من صير الباب فرأوا علياً فقالوا والله إن هذا لمحمد نائماً عليه برده فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا . وقام علي عن الفراش فسقط في أيديهم وسألوه عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقال : لا علم لي به .
من الدار إلى الغار:
غادر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيته في ليلة 27 من شهر صفر سنة 14 من النبوة الموافق 13/12 سبتمبر سنة 622م .وأتى إلى دار رفيقه -وأمن الناس عليه في صحبته وماله -أبي بكر رضي الله عنه . ثم غادر ا منزل الأخير من باب خلفي ليخرجا من مكة على عجل وقبل أن يطلع الفجر .
ولما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم أن قريشاً ستجد في الطلب وأن الطريق الذي ستتجه إليه الأنظار لأول وهلة هو طريق المدينة الرئيسي المتجه شمالاً فقد سلك الطريق الذي يضاده تماماً وهو الطريق الواقع جنوب مكة والمتجه نحو اليمن .سلك هذا الطريق نحو خمسة أميال حتى بلغ إلى جبل يعرف بجبل ثور وهذا جبل شامخ وعر الطريق صعب المرتقى ذا أحجار كثيرة فحفيت قدما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقيل :بل كان يمشي في الطريق على أطراف قدميه كي يخفي أثره فحفيت قدماه وأيا ما كان فقد حمله أبو بكر حين بلغ إلى الجبل وطفق يشتد به حتى انتهى به إلى غار في قمة الجبل عرف في التاريخ بغار ثور .
إذ هما في الغار :
ولما انتهيا إلى الغار قال أبو بكر : والله لا تدخله حتى أدخله قبلك ,فإن كان فيه شئ أصابني دونك فدخل فكسحه ووجد في جانبه ثقباً فشق إزاره وسدها به وبقي منها اثنان فألقمهما رجليه , ثم قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ادخل . فدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووضع رأسه في حجره ونام فلدغ أبو بكر في رجله من الحجر ولم يتحرك مخافة أن ينتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فسقطت دموعه على وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال:مالك يا أبا بكر ؟قال : لدغت فداك أبي وأمي ، فتفل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذهب ما يجده.وكمنا في الغار ثلاث ليال ليلة الجمعة وليلة السبت وليلة الأحد , وكان عبد الله بن أبي بكر يبيت عندهما . قالت عائشة : وهو غلام شاب ثقف لقن ,فيدلج من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكة كبائت , فلا يسمع أمراً يكتادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام .وكان يرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة من غنم ، فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من ا لعشا ء فيبيتان في رسل -وهو لبن منحتهما ورضيفهما -حتى ينعق بهما عامر بن فهيرة بغلس يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث (صحيح البخاري ). وكان عامر بن فهيرة يتبع بغنمه أثر عبد الله بن أبي بكر بعد ذهابه إلى مكة ليعفي عليه.أما قريش فقد جن جنونها حينما تأكد لديها إفلات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صباح ليلة تنفيذ المؤامرة .فأول ما فعلوا بهذا الصدد أنهم ضربوا علياً وسحبوه إلى الكعبة وحبسوه ساعة علهم يظفرون بخبرهما. ولما لم يحصلوا من علي على جدوى جاءوا إلى بيت أبي بكر وقرعوا بابه فخرجت إليهم أسماء بنت أبي بكر فقالوا لها: أين أبوك ؟ قالت :لا أدري والله أين أبي ؟فرفع أبو جهل يده فلطم خدها لطمة طرح منها قرطها .وقررت قريش في جلسة طارئة مستعجلة استخدام جميع الوسائل التي يمكن بها القبض على الرجلين ، فوضعت جميع الطرق النافذة من مكة (في جميع الجهات )تحت المراقبة المسلحة الشديدة كما قررت إعطاء مكافأة ضخمة قدرها مائة ناقة بدل كل واحد منهما لمن يعيدهما إلى قريش حيين أو ميتين كائنا ًمن كان .وحينئذ جدت الفرسان والمشاة وقصاص الأثر في الطلب وانتشروا في الجبال والوديان والوهاد والهضاب لكن من دون جدوى وبغير عائدة.وقد وصل المطاردون إلى باب الغار , ولكن الله غالب على أمره ،روى البخاري عن أنس عن أبي بكر قال :كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار فرفعت رأسي فإذا أنا بأقدام القوم فقلت يا نبي الله لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا .قال:اسكت يا أبا بكر اثنان الله ثالثهما وفي لفظ :ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما (صحيح البخاري ). وقد كانت معجزة أكرم الله بها نبيه - صلى الله عليه وسلم - , فقد رجع المطاردون حين لم يبق بينه وبينهم إلا خطوات معدودة .
في الطريق إلى المدينة :
وحين خمدت نار الطلب، و توقفت أعمال دوريات التفتيش ،و هدأت ثائرات قريش بعد استمرار المطاردة الحثيثة ثلاثة أيام بدون جدوى ، تهيأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه للخروج إلى المدينة .
وكانا قد استأجرا عبد الله بن أريقط الليثي ، وكان هاديا ًخريتاً -ماهراً بالطريق -وكان على دين كفار قريش وأمناه على ذلك ، وسلما إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما فلما كانت ليلة الاثنين -غرة ربيع الأول سنة 16/1هـ سبتمبر سنة 622م - جاءهما عبد الله بن أريقط بالراحلتين وحينئذ قال أبو بكر للنبي - صلى الله عليه وسلم - : بأبي أنت يا رسول الله خذ إحدى راحلتي هاتين . وقرب إليه أفضلهما .فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :بالثمن
وأتتهما أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها بسفرتهما ونسيت أن تجعل لها عصاماً فلما ارتحلا ذهبت لتعلق السفرة فإذا ليس لها عصام فشقت نطاقها باثنين فعلقت السفرة بواحد وانتطقت بالأخر فسميت ذات النطاقين (صحيح البخاري ) .ثم ارتحل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر رضي الله عنه وارتحل معهما عامر بن فهيرة وأخذ بهم الدليل -عبد الله بن أريقط -عن طريق السواحل .وأول ما سلك بهم بعد الخروج من الغار أنه أمعن في اتجاه الجنوب نحو اليمن ,ثم اتجه غرباً نحو الساحل حتى إذا وصل إلى طريق لم يألفه الناس اتجه شمالاً على مقربة من شاطئ البحر الأحمر وسلك طريقاً لم يكن يسلكه أحد إلا نادراً.وقد ذكر ابن إسحاق المواضع التي مر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الطريق قال:لما خرج بهما الدليل سلك بهما أسفل مكة ثم مضى بهما على الساحل حتى عارض الطريق أسفل من عسفان ثم سلك بهما على أسفل أمج ثم استجاز بهما حتى عارض بهما الطريق بعد أن أجاز قديدا ًثم أجاز بهما من مكانه ذلك فسلك بهما الخرار ، ثم سلك بهما ثنية المرة ثم سلك بهما لقفا ، ثم أجاز بهما مدلجة لقف ، ثم استبطن بهما مدلجة مجاح ثم سلك بهما مرجح محاج ، ثم تبطن بهما مرجح ذي الغضوين ،ثم بطن ذي كشر، ثم أخذ بهما على الجداجد ، ثم على الأجرد ، ثم سلك بهما ذا سلم ، من بطن أعداء مدلجة تعهن ، ثم على العبابيد ، ثم أجاز بهما الفاجة ، ثم هبط بهما العرج ثم سلك بهما ثنية العائر -عن يمين ركوبة- حتى هبط بهما بطن رئم ، ثم قدم بهما على قباء . وهاك بعض ما وقع في الطريق : 1-روى البخاري عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: أسرينا ليلتنا ومن الغد حتى قام قائم الظهيرة وخلا الطريق لا يمر فيه أحد فرفعت لنا صخرة طويلة لها ظل لم تأت عليها الشمس فنزلنا عنده وسويت للنبي - صلى الله عليه وسلم - مكاناً بيدي ينام عليه ، وبسطت عليه فروة وقلت نم يا رسول الله ، وأنا أنفض لك ما حولك ، فنام وخرجت أنفض ما حوله ، فإذا أنا براع مقبل بغنمه إلى الصخرة يريد منها مثل الذي أردنا فقلت له : لمن أنت يا غلام ؟فقال : لرجل من أهل المدينة أو مكة قلت :أفي غنمك لبن ؟قال: نعم قلت : أفتحلب ؟قال: نعم فأخذ شاة فقلت : انفض الضرع من التراب والشعر والقذى .فحلب في كعب كثبة من لبن ومعي إداوة حملتها للنبي - صلى الله عليه وسلم - يرتوي منها ، يشرب ويتوضأ ، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فكرهت أن أوقظه فوافقته حين أستيقظ ، فصببت من الماء على لبن حتى برد أسفله فقلت :اشرب يا رسول الله ، فشرب حتى رضيت ثم قال: ألم يأن الرحيل ؟قلت :بلى قال: فارتحلنا .2- وفي الطريق لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا بريدة ، وكان رئيس قومه ، خرج في طلب النبي عليه السلام وأبي بكر ؛ رجاء أن يفوز بالمكافأة الكبيرة التي كان قد أعلن عنها قريش، ولما واجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكلمه أسلم مكانه مع سبعين رجلاً من قومه ، ثم نزع عمامته ، وعقدها برمحه ، فاتخذها راية تعلن بأن ملك الأمن والسلام قد جاء ليملأ الدنيا عدلاً وقسطاً.3-وفي الطريق لقي الرسول - صلى الله عليه وسلم - الزبير ، وهو في ركب المسلمين ، كانوا تجاراً قافلين من الشام ، فكسا الزبير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر ثيابا ًبيضاء .
النزول بقباء:
وفي يوم الاثنين 8 ربيع الأول سنة 14 من النبوة -وهي السنة الأولى من الهجرة- الموافق 23 سبتمبر سنة 622م نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقباء.قال عروة بن الزبير : سمع المسلمون بالمدينة بمخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة فينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة فانقلبوا يوماً بعد ما أطالوا انتظارهم ، فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من يهود على أطم من آطامهم لأمر ينظر إليه ، فبصر برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب ، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته يا معاشر العرب ، هذا جدكم الذي تنظرون ، فثار المسلمون إلى السلاح . قال ابن القيم : كبر المسلمون فرحاً بقدومه وخرجوا للقائه فتلقوه وحيوه بتحية النبوة ، فأحدقوا به مطيفين حوله والسكينة تغشاه والوحي نزل عليه ( فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير)وكانت المدينة كلها قد زحفت للاستقبال وكان يوماً مشهوداً لم تشهد المدينة مثله في تاريخها .
وأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقباء أربعة أيام . وأسس مسجد قباء وصلى فيه ، وهو أول مسجد أسس على التقوى بعد النبوة ، فلما كان اليوم الخامس -يوم الجمعة- ركب بأمر الله له ، وأبو بكر ردفه ، وأرسل إلى بني النجار -أخواله - فجاءوا متقلدين سيوفهم فسار نحو المدينة ، فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف فجمع بهم في المسجد الذي في بطن الوادي ، وكانوا مائة رجل .(صحيح البخاري -زاد المعاد -ابن هشام -رحمة للعالمين)
الدخول في المدينة :
وبعد الجمعة دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة ومن ذلك اليوم سميت بلدة يثرب بمدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ويعبر عنها بالمدينة مختصراً وكان يوماً تاريخياً أغر ، فقد كانت البيوت والسكك ترتج بأصوات التحميد والتقديس ، و كانت بنات الأنصار تتغنى بهذه الأبيات فرحاً وسروراً :
أشرق البدر علينا من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ما دعا لله داع
أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع
وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - :اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد حباً ، وصححها ، وبارك في صاعها ومدها ، وانقل حماها فاجعلها بالجحفة.
ــــــــــــ(1/172)
ماذا تعلمنا هجرة الرسول؟
خطبة الجمعة 4 محرم 1427هـ الموافق 3 فبراير 2006
تاريخ: 2006-03-13
حمداً لله ، وشكراً لله ، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله .
الحمد لله والحمد دائماً لله ، والشكر دائماً لله ، والصلاة والسلام دائماً على رسول الله
عباد الله : إنّا في هذه الأيام ونحن نتذكر دروس الهجرة ، ونتأمل ونتدبر في تاريخ البعثة المحمدية ، ونتدبر قانون الله على هذه الأرض ، وقد جعل انتشار دين الحق وانتشار كل رسالات السماء ، من خلال جهاد ، ومن خلال فكرٍ وعملٍ وصراعٍ ، يدور بين معسكر الحق ومعسكر الباطل ، بين الذين يُرشدون إلى طريق الحياة وبين الذين يوجهون إلى طريق الموت . وهذا هو حال الدنيا منذ القدم
"وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَر.." [المائدة 27]
هذا هو قانون الأرض ، دائماً كان هناك من يدعو إلى اتجاهٍ ، ومن كان يدعو إلى اتجاه مضاد ، واليوم كذلك ، وغداً سيظل الأمر كذلك ، إنها الأرض بقانونها وبحكمة الله في خلقها .
"..إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَة.." [البقرة 30]
فكان الإنسان بوجوده ، هو في معنى خلافة الله على هذه الأرض ، وكان الإنسان بوجوده ، إما في طريق الحق ، وإما في طريق الباطل
" وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا " [الشمس 7-10]
فليس الهدف أن يكون الناس جميعاً في اتجاه واحد ، وإنما الهدف أن يظل هذا الاختلاف ، وأن يظل هذا الحوار بجميع صوره وأشكاله ، قائماً على هذه الأرض . وكل الرسل حين ظهروا على هذه الأرض ، حوربوا واضطهدوا ، وكان انتشار دعوتهم من خلال الحوار ، ومن خلال الجهاد ، ومن خلال الاختلاف ، وما يستتبعه من صراعات بصور مختلفة .. إرادة الله في هذا الاختلاف ، إرادة الله في هذا التنوع ، إرادة الله أن يكون هناك الشيطان ، وأن يكون هناك الإنسان الذي هو خليفة الله على هذه الأرض: "..اهْبِطَا مِنْهَا.." [طه 123]
هكذا خاطب الله آدم وإبليس ، فكانت حكمته أن يتواجد آدم وإبليس على هذه الأرض
الذي يسلك طريق الحق ، يتخذ الأسباب وقوانين هذه الأرض حتى يستطيع أن ينشر دعوته ، لا يعتمد على خرق للعادة ، ولا يعتمد على أن هناك غيباً سوف ينصره بدون جهدٍ ، وبدون جهادٍ ، وبدون دعوةٍ وحوارٍ وفكرٍ ، وقد يصل الأمر في بعض الأحيان إلى صراع وحرب على هذه الأرض بقوانينها وبأساليبها . كانت الهجرة إذاً هي في ظل هذا القانون الأرضي . حين اشتد أذى الكفار في مكة ، وحين أصبح رسول الله والذين معه في خطرٍ من وجودهم في هذه البقعة ، والله حافظٌ لهم ، وقد يقول قائل ألم يكن يستطيع الله أن يحفظهم في مكة ، وأن يقويهم في مكة ، وأن يجعلهم ينتصروا وهم في مكة ؟
كما قلنا ليست القضية هنا أن نقول أن الله قادرٌ أو غير قادر -حاشا لله- وإنما هو قانون الله ، قدرة الله في قانونه ، وفي آلياته ، وفي أساليبه ، وفي أسبابه ، وفي أن يكون هناك درس للناس جميعاً ، أن يتخذوا الأسباب ، وأن يتبعوا الطريق القويم ، وأن يعلموا دائماً أن هناك فكراً مضاداً ، واتجاهاً مضاداً لهم ولأفكارهم .. فكانت الهجرة هي تعبيرٌ عن اتخاذ هذه الأسباب ، واللجوء إلى مكان حصين آمن ، حتى يعد المسلمون أنفسهم ، ويُجَمِّعوا قوتهم ، ويستطيعوا أن يقفوا أمام هذا الظلام ..
حين ننظر في أحداث الهجرة ، نجد أن هناك أحداثاً خرجت عن المألوف من ظواهر هذه الأرض ، وقد يقول قائل أليس في هذا تناقض لما نقوله من أن القانون سارٍ على الجميع؟ نقول أن ما حدث هو في إطار القانون ، وأن الإنسان يوم يبذل كل جهده وكل قدراته وكل إمكاناته ، فإنه يكون بذلك أهلاً لقوةٍ أكبر من هذه الأرض تساعده في حركته ، لا يكون ذلك وهو يهمل أمراً ، وهو يفرط في سببٍ ، وإنما تكون هذه الرعاية الغيبية يوم يكون قد بذل الجهد واتخذ السبب واجتهد في أمره ، في هذه اللحظة تكون هناك رعاية غيبية للإنسان .. لقد هاجر الرسول ولم يصر على بقائه في هذا المكان ، واتخذ جميع التدابير بقدر استطاعته وإمكاناته ، هنا تتدخل إرادة الله الغيبية ، فتحدث بعض الظواهر التي تساعده في حركته وفي هجرته ، فيخرج أمام المرابطين أمام بيته دون أن يروه ، ويدخل في غارٍ وينسج العنكبوت نسيجه أمامه فلا يدخله من يتابعوه .
هكذا نجد بعض الظواهر الغيبية التي ساعدت ، ولكن في إطارٍ - كما قلنا - من المساعدة لمن اجتهد ، ولمن اتخذ السبب ، واتجه في الطريق القويم . هكذا نجد في أحداثٍ كثيرة ، نجد في بدر وكان المسلمون قلة "..كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ.." [البقرة 249]
نجد التدخل الغيبي والمساعدة الروحية ، وفي أُحد يوم تخلّى المسلمون عما أمروا به ، لم يتدخل الغيب ليحميهم أو ليساعدهم ، لأنهم لم يساعدوا أنفسهم ولم يلتزموا بما أمروا به .. هذا هو القانون ، على الإنسان أن يبذل كل طاقاته وكل إمكاناته ، لا بالكلام الأجوف ، وإنما بالعمل الصالح ، وبأن يكون قدوةً صالحة ، وأن يكون فكراً منيراً .
يغضب المسلمون اليوم لما يجدوه في الغرب من إهانات لنبيهم الكريم - في نظرهم - والإهانات هي لهم هم ، وقد كانوا أسوأ مثلاً ، لم يفهموا ولم يدركوا ما جاءهم به رسولهم ورسول الله لهم ، وظنوا أنهم بحرفيتهم الشديدة يؤمنون ، ولم يدركوا أنهم بهذه الحرفية إنما هم فرطوا في أمر دينهم الذي أمرهم أن يُعملوا عقولهم ، وأن يتدبروا أمور حياتهم ، وأن يتبعوا ما هو أحسن و أفضل وأقوم ، وأن يتعلموا أن الهدف هو الأحسن والأقوم والأفضل ، وأن الكلمات هي تعبيرٌ عما هو أحسن ، في لحظة ما ، في وقت ما ، في ظرف ما ، وأن العبرة بالمقصد ، وأن على المسلم الحق أن يتأمل في آيات الله وفي أحاديث رسول الله ، بتعمقٍ وتفكرٍ وتدبر ، وأن يتبع المعنى الأساسي الذي يتفق مع أمورٍ أخرى .
فالآيات تفسر بعضها بعضا ، والأحاديث تفسر بعضها بعضا ، ولا يجب أن نختزل قرارنا وعقيدتنا ، بحديثٍ من كلماتٍ محدودة ، قيل في إطارٍ وفي مضمونٍ معين ، وهناك حديث آخر يفسره ويوضحه . لا نأخذ مجرد كلمات مبتورة ، ونقول أنها حديث ، يُبنى عليه فكر ، ويُبنى عليه مسلك ومنهج ، إنما علينا أن ننظر إلى كل الأحاديث وإلى كل الآيات ، كبنيان واحد متكامل يوضح بعضه بعضا ، هناك العام وهناك الخاص ، هناك المطلق وهناك المقيد ، والهدف في النهاية أن تكون أمة صالحة نافعة ، تستطيع أن تقدم شيئاً للبشرية ، وأن تكون مثلاً صالحاً للإنسانية ، في فكرها وعلمها ، في عملها وإتقانها ، في إخلاصها وصدقها ، في تقدمها وازدهارها ، في احترامها للإنسان ولكل كائن من كان على هذه الأرض ، في عقولٍ متفتحة متقبلة متنورة ، وليس في عقولٍ منغلقة متجمدة ، في أمةٍ تعرف هدفها وتعرف مقصودها ، تعرف أن عليها أن تعبد الله حقاً ، بإخلاصها في علمها وفي عملها وفي إخلاصها ، ليست مجرد كلمات يلوكها اللسان ، وليست مجرد حركات تقوم فيها الأجساد ، وإنما في ممارسات ومعاملات ترفع من قيمة الإنسان ، وتجعله أكثر علماً ، وأكثر عملا ،ً وأكثر نفعاً ، وأكثر صلاحاً وإصلاحاً ، فأين هو الإسلام في مجتمعاتنا وفي أفكارنا وفي معتقداتنا؟ . الكل يظن أن هناك من يتربص بالمسلمين ، والمسلمون لا يستحقون أن يتربص بهم أحد ، إنهم يضرون أنفسهم أكثر من أي إنسان آخر ، بجهلهم ، وبقلة فكرهم ، وبتجمدهم ، إلا من رحم الله .
عباد الله : نسأل الله أن يرفع هذه الغمة ، وأن يجعل منا أداة خيرٍ وسلامٍ ورحمة ، لنا ولمجتمعنا ولأمتنا.
فحمداً لله ، وشكراً لله ، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله ..
--------------
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ..
عباد الله : ما أردنا أن نقوله اليوم : أن الإنسان عليه أن يتخذ أسباب وقوانين هذه الأرض ، ليعبر عن فكره وعن معتقده ، وأن كل إنسانٍ عليه أن يدفع فيما يرى أنه الخير وفيما يرى أنه الحق ، وأن ليس الهدف أن يصير الناس جميعاً في فكر واحد ، أو أن يكون الجميع في إيمان بشكل واحد ، وبصورة واحدة ، والاختلاف سيظل قائماً
" وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً.." [هود 118]
إنما " ..وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُم.. " [الحجرات 13]
فالاختلاف سيظل قائماً على هذه الأرض ، وسيستمر الصراع بين جميع الأفكار والمعتقدات ، وكل إنسانٍ يريد أن يؤدي رسالته ، عليه أن يتخذ الأسباب التي تمكنه من أن يقول ما يعتقده ، وما يعتقده ليس حقاً مطلقاً ، إنما هو حقٌ نسبي يراه ، ودوره أن يحاول أن يوضحه ، بغض النظر عن أنه أفضل أو أقل ، أصوب أو أكثر خطأً .
فإن على الإنسان أن يحاول فيما يعتقد ، وهذا هو الذي يجعله في معنى الحياة ، وهذا هو الذي يجعله يعمل ويبحث ، ويقدم ما يراه بصور يعتقد أنها أفضل ، لذلك كان الحديث:
"من اجتهد فأخطأ فله أجر ، ومن اجتهد فأصاب فله أجران "
لأن هنا العبرة في هذا الحديث بمحاولة الإنسان أن يجتهد ، هذا هو المهم ، المهم أن يحاول أن يسلك طريق الحق ، من خلال أن يتعلم قانون هذه الأرض . الإنسان الذي يبذل جهداً ، ويحاول بكل الطرق سلوك ما هو حق ، يساعده الغيب إذا احتاج إلى ذلك لاستمرار طريقه ودعوته ، على الإنسان ألاَّ يفكر في ذلك مسبقاً ، إنما الدعم الإلهي الغيبي سوف يجيء في وقته .. على الإنسان أن يعمل بقانون هذه الأرض ، وأن يجتهد بقدر ما يستطيع . هذا ما نتعلمه من أحداث تاريخنا ، وأحداث حاضرنا أيضاً ، وما سيكون عليه الحال في مستقبلنا ، فقوانين هذه الأرض سارية عليها منذ القدم ، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها سيظل قانونه سارياً عليها .
اللهم وهذا حالنا ، وهذا فهمنا ، وهذا قيامنا ، نتجه إليك ، ونتوكل عليك ، ونوكل ظهورنا إليك ، ونسلم وجوهنا إليك ، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك .
اللهم ونحن نسألك الخير كل الخير ، والنور كل النور ، والحق كل الحق .
اللهم فاكشف الغمة عنا ، وعن بلدنا ، وعن أرضنا .
اللهم ادفع عنا شرور أنفسنا ، وشرور الأشرار من حولنا .
اللهم ألف بين قلوبنا اللهم احيي قلوبنا
اللهم ألف بين أرواحنا اللهم طهر أرواحنا
اللهم زكي نفوسنا اللهم اثلج صدورنا
اللهم كن لنا في الصغير والكبير من شأننا .
اللهم كن لنا فيما نعلم ، وفيما لا نعلم ، وفيما أنت به أعلم .
اللهم لا تجعل لنا في هذه الساعة ذنباً إلا غفرته ، ولا هماً إلا فرجته ، ولا حاجة لنا فيها رضاك إلا قضيتها.
اللهم ارحمنا ، واغفر لنا ، واعف عنا .
" رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ " [آل عمران 8]
ــــــــــــ(1/173)
تأملات في معاني الهجرة
مسعود صبري*- 23/02/2004
الحديث عن الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة المنورة ليس بالذي يُكتفى فيه بمقالة سريعة، وما أحسب أن واحدا من المفكرين -مهما أوتي من الحكمة وفصل الخطاب- قادر على أن يحيط بأحداث السيرة حكما تستفاد، وعبرا تؤخذ؛ فسيرته -صلى الله عليه وسلم- لا تَخْلَق من كثرة الرد؛ فهي كجزء من السنة النبوية، قسيم القرآن في وحيه، وهذا ما عبر عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - "ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه". أو ما عبر عنه الشافعي رحمه الله: السنة وحي.
الهجرة سنة الأنبياء
ولا شك أن الهجرة هي إحدى وسائل الوقاية من اضطهاد الكفر للإيمان في بداية دعوته، فلم تكن الهجرة النبوية خاصة بسيد الخلق محمد -صلى الله عليه وسلم؛ فقد هاجر قبله سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين وقف قومه ضده وعادوه، بل كان أقرب الناس إليه من يعاديه، وهو أبوه، أو عمه كما يذكر بعض المفسرين. وهذا ما حدث للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فقد عاداه أقرب الناس إليه عمه أبو لهب، يدور معه في الأسواق، فيبشر الرسول بدعوته، ويقول للناس: "قولوا: لا إله إلا الله"، فيقول أبو لهب معقبا على كلامه: "لا تصدقوه إنه كذاب"، فيسأل من لا يعرف: من هذا؟ فيقول أهل مكة: هذا محمد يدعو إلى دين جديد، وهذا عمه أبو لهب يكذبه.
إبراهيم قد هاجر
هذا الموقف كان شبيها بما حدث لإبراهيم عليه السلام من أبيه -أو عمه-، وقد حكى القرآن الكريم ذلك حين قال: {وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيًّا * إِذْ قَال لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ العِلمِ مَا لمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ للرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ للشَّيْطَانِ وَليًّا * قَال أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لئِن لمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَليًّا * قَال سَلامٌ عَليْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا * وَأَعْتَزِلكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا}.
الهجرة إلى الله وليست إلى مكان
بل صرح القرآن الكريم بهجرة إبراهيم حين حكى عنه قوله: {وَقال إني مُهَاجِرٌ إلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ}.
ويعطينا إبراهيم عليه السلام في هذا معنى غاية في الأهمية؛ أن الهجرة لم تكن إلى مكان؛ فليس المكان مقصودا في ذاته، وإنما الهجرة تكون إلى الله تعالى؛ فتكون الهجرة إلى المدينة لنبينا هي تعريف بالمكان، ولكنها كانت هجرة الرسول إلى ربه في المدينة المنورة.
وقد هاجر مع إبراهيم عليه السلام ابن أخيه نبي الله لوط، وبعض المفسرين يرى أن قوله تعالى: {وَقال إني مُهَاجِرٌ إلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} هو من قول لوط، وليس من قول إبراهيم، ويستندون في ذلك إلى ما قبلها {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ}، وإن كان الكل قد هاجر، والهجرة تحققت لإبراهيم عليه السلام، كما تحققت للوط عليه السلام.
وموسى قد هاجر
وقد هاجر سيدنا موسى -عليه السلام- من بين أهله إلى مدين، بعد اضطهاد آل فرعون له، وخشية قتله، وهذا ما حدث في الهجرة أيضا حين تآمر المشركون على الرسول صلى الله عليه وسلم، وتناقشوا في دار الندوة، واتفقوا على قتله، وفي هذا يحكي القرآن الكريم: {وإذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ويَمْكُرُونَ ويَمْكُرُ اللَّهُ واللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ}.
والهجرة خشية الاضطهاد مع موسى عليه السلام، حكاها القرآن حين قال: {وجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَا المَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إنَّ المَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ}.
وإن كان موسى عليه السلام قد خرج مهاجرا خائفا، فإن محمدا - صلى الله عليه وسلم - هاجر دون خوف، وإن أخذ الاحتياط بعد علمه بمحاولة اغتياله وقتله، بل إنه لم يهاجر حتى هاجر جُل أصحابه، ثم رتب هجرته، وخطط لها حسب ما ذكرت كتب السيرة.
الهجرة ومعانيها المتجددة
وهذه الهجرة التي يفر بها المسلم بدينه خوفا عليه، والتي من أجلها يترك ماله ووطنه وتجارته معنى متجدد على مر العصور والدهور، ويمكن الاستئناس في ذلك بقوله عز وجل: {قُلْ إن كَانَ آبَاؤُكُمْ وأَبْنَاؤُكُمْ وإخْوَانُكُمْ وأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا ومَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ وجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ}.
ولعل هذا المعنى هو الذي أراده النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه"، ولو في ذلك هجرة المكان.
ومن القديم حكى النبي - صلى الله عليه وسلم - لنا قصة الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفسا، واستفتى أعبد أهل الأرض، فجهل، وأضله بإفتائه ألا توبة له، فقتله، وأكمل به المائة، ثم استفتى أعلم أهل الأرض، فدله على الهجرة سبيلا للتوبة، والحفاظ على الدين فهاجر، ثم مات في الطريق؛ فكان ما كان من خصام الملائكة حوله، وأخذ ملائكة الرحمة له؛ ليكون من عباد الله المرحومين، بعد أن سلك طريق الهجرة.
وحين تكون الهجرة لله فرارا بالدين، تتصاغر أمامها شهوات النفس كلها، من المال والجاه والأرض وغير ذلك، وهذا ما حدث مع صهيب الرومي -رضي الله عنه-، فقد أراد الهجرة للنبي -صلى الله عليه وسلم- فاعترضه أهل مكة، وقد كان صهيب عبدا، فكاتب سيده، وأصبح حرًّا، ثم أصبح تاجرا، فساومه أهل مكة على غناه وتجارته، فترك لهم دنياه، لينال رضا الله تعالى، ولما علم النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك فرح به قائلا: "ربح البيع أبا يحيى".
بئست الهجرة!
ولكن يلاحظ أن عددًا غير قليل من شبابنا يهاجرون من أوطانهم، ولو كان في هذا بيع لدينهم فتتلاشى عقولهم وقلوبهم وحياتهم، ويذوبون في المجتمعات التي هاجروا إليها، ولم يأخذوا منها إلا الانسلاخ عن العقيدة والدين، مع ما قد يكون فيها من فوائد كثيرة، ومصالح عديدة.
وأقصد من هذا أنه يجب ألا تكون الهجرة مقصودة في ذاتها، بل تكون سبيلا لشيء نافع، ولعل الضابط الذي وضعه الفقهاء في هذا هو الحفاظ على الدين؛ فمن رأى من نفسه القدرة على الحفاظ على دينه، والنيل من متاع الدنيا فلا بأس بهذا، وإن كان قادرا على عرض الإسلام بصورة جيدة، فقد جمع الله تعالى له الحسنيين، أو كما قال القائل فيمن يجمع الله تعالى له ثواب الدنيا والآخرة: نصنع كأم موسى؛ ترضع ولدها، وتأخذ أجرها.
وإن كانت الهجرة ترتبط بالانتقال من مكان إلى مكان، فهناك هجرة الحال، وهي أن ينتقل الإنسان من حال إلى حال، ومن باب أولى أن يكون المقصود بها الانتقال من حالة إلى الأحسن، أو ما يعبر عنه في الدعاء: "اللهم غيّر حالنا إلى أحسن حال".
وفي الهجرة تجديد
وهذه الهجرة باقية إلى يوم القيامة، وكلنا في حاجة إليها، وإن كانت الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني ينعق بها الآن كل ناعق، ممن صحت نيته وسريرته، أو كانت ستارا لمغنم شخصي، سواء أكانت من قِبل أفراد، أو من قبل دول، فإنه يجب تجديد الحالة الدينية، وهي في طياتها تحمل معنى الهجرة؛ ذلك لأن الإنسان بطبعه متغير، يزيد إيمانه وينقص، يسيء ويحسن، يصيب ويخطئ، وهذه طبيعة البشر "لو لم تذنبوا لأتى الله بأقوام غيركم، يذنبون، فيستغفرون الله فيغفر لهم"، وليس الحديث دعوة للذنب، فما أكثر ذنوب العباد، ولكن هي دعوة للاستغفار، ولعل هجرة الحال، وتجديد الحالة الدينية مطلوب على دوام اليوم، فقد أخبر المعصوم -صلى الله عليه وسلم- عن ربه أنه سبحانه يتنزل كل يوم إلى السماء الدنيا، فينادي: هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر الله؟ هل من سائل فأعطيه؟ هل من كذا، هل من كذا... حتى يطلع الفجر. وكذلك في الحديث: "إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها".
هجرات مطلوبة
ولعلنا -ونحن في ذكرى الهجرة- نريد أن ننظر إلى أنفسنا، وأن نسطر مساوئنا وما علق في نفوسنا من شوائب؛ فنسعى إلى تصحيحها، وننشد الأصلح لها، وهذا الملمح أحسبه واحدا من أوجه التجديد الديني الذي يجب الانتباه له.
وإن كنا ندعو إلى هجرة الرذائل في الأخلاق والسلوك، فإننا أيضا في حاجة إلى هجرة الرذائل فيما يخص شئون حياتنا عامة، وأن نأخذ من هجرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما ينفعنا في مسيرتنا؛ فنهجر العشوائية في تسيير أمورنا، ونهجر الجدال الذي لا يراد به حق، ونهجر تضييع الوقت بغير شيء نافع، ونهجر عدم إتقان العمل، وغير ذلك مما يعرفه كل إنسان عن نفسه، وإن اشترك البعض في مساحات معينة، ولكن يبقى التمايز بين بني البشر سمة أساسية.
__
(*) محرر بالقسم الشرعي بالموقع.
ــــــــــــ(1/174)
أعظم أنواع الهجرة - هجرة القلوب
صالح بن فوزان الفوزان
الحمد لله ذي الفضل والإحسان، شرع لعباده هجرة القلوب، وهجرة الأبدان، وجعل هاتين الهجرتين باقيتين على مر الزمان، وليكن لنا في سيرة نبيكم خير أسوة، وذلك بترسم خطاه والسير على نهجه والإقتداء به في أقواله وأفعاله وأخلاقه كما أمركم الله بذلك فقال: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21].
في أول شهر المحرم يكثر الناس من التحدث عن هجرة الرسول في الخطب والمحاضرات ووسائل الإعلام، ولا يعدو حديثهم في الغالب أن يكون قصصاً تاريخياً يملؤون به الفراغ في أيام معدودات ثم يُترك وينسى دون أن يكون له أثر في النفوس أو قدوة في الأعمال والأخلاق، بل لا يعدو أن يكون ذلك عادة سنوية تتردد على الألسنة دون فقه لمعنى الهجرة وعمل بمدلولها.
إن الهجرة معناها لغةً: مفارقة الإنسان غيره ببدنه أو بلسانه أو بقلبه.
ومعناها شرعاً: مفارقة بلاد الكفر أو مفارقة الأشرار أو مفارقة الأعمال السيئة والخصال المذمومة.
وهي من ملة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام حيث قال: إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ [الصافات:99] أي مهاجر من أرض الكفر إلى الإيمان، وقد هاجر عليه الصلاة والسلام ببعض ذريته إلى الشام حيث البلاد المقدسة والمسجد الأقصى، والبعض الآخر إلى بلاد الحجاز حيث البلد الحرام والبيت العتيق، كما جاء في دعائه لربه: رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ [إبراهيم:37].
والهجرة من شريعة محمد حيث أمر الصحابة بالهجرة إلى الحبشة لمّا اشتد عليهم الأذى من الكفار في مكة فخرجوا إلى أرض الحبشة مرتين فراراً بدينهم، وبقى النبي في مكة يدعو إلى الله ويلاقي من الناس أشد الأذى، وهو يقول: رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً [الإسراء:80]، فأذن الله له بالهجرة إلى المدينة وأذن لأصحابه بالهجرة إليها، فبادروا إلى ذلك فراراً بدينهم وقد تركوا ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله، وقد أثنى الله عليهم ومدحهم ووعدهم جزيل الأجر والثواب، وصارت الهجرة قرينة الجهاد في كتاب الله عز وجل، وصار المهاجرون أفضل الصحابة حيث فرّوا بدينهم وتركوا أعزّ ما يملكون من الديار والأموال والأقارب والعشيرة، وباعوا ذلك لله عز وجل وفي سبيله وابتغاء مرضاته.
وصار ذلك شريعة ثابتة إلى أن تقوم الساعة فقد جاء في الحديث: { لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تخرج الشمس من مغربها }، فكل من لم يستطع إظهار دينه في بلد فإنه يجب عليه أن ينتقل منها إلى بلد يستطيع فيه إظهار دينه.
وقد توعد الله من قدر على الهجرة فلم يهاجر، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً (97) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوّاً غَفُوراً [النساء:97-99].
فهذا وعيد شديد لمن ترك الهجرة بدون عذر، وهذه الآية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة وليس متمكناً من إقامة الدين، وأنه ظالم لنفسه مرتكب حراماً بالإجماع وبنص هذه الآية حيث يقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ أي يترك الهجرة قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ أي لا نقدر على الخروج من البلد ولا الذهاب في الأرض، وهذا اعتذار منهم غير صحيح لأنهم كانوا يقدرون على الهجرة فتركوها، ولهذا قالت لهم الملائكة توبيخاً لهم: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا .
فمن لم يستطع إظهار دينه في بلد وجب عليه الخروج إلى بلد يستطيع فيها ذلك، فإن بلاد الله واسعة ولا تخلو من بلاد صالحة، قال تعالى: وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً [النساء:100]أي مكاناً يتحصن فيه من أذى الكفار، وسعة في الرزق، ويعوضه الله بها عما ترك في بلده من المال، كما قال تعالى: وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [النحل:42،41].
ومن أنواع الهجرة هجر المعاصي من الكفر والشرك والنفاق وسائر الأعمال السيئة والخصال الذميمة والأخلاق الوخيمة، قال تعالى لنبيه : وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ [المدثر:5]، الرجز: الأصنام. وهجرتها: تركها والبراءة منها ومن أهلها.
وقال النبي : { المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه }. أي ترك ما نهى الله عنه من الأعمال والأخلاق والأقوال والمآكل والمشارب المحرمة والنظر المحرم والسماع، كل هذه الأمور يجب هجرها والابتعاد عنها.
ومن أنواع الهجرة هجر العصاة من الكفار والمشركين والمنافقين والفساق وذلك بالإبتعاد عنهم، قال الله تعالى: وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ [المزمل:10] أي: اصبر على ما يقوله من كَذَّبك من سفهاء قومك: وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً [المزمل:10] أي اتركهم تركاً لا عتاب معه.
ومن أعظم أنواع الهجرة هجرة القلوب إلى الله تعالى بإخلاص العباده له في السر والعلانية، حتى لا يقصد المؤمن بقوله وعمله إلا وجه الله، ولا يحب إلا الله ومن يحبه الله، وكذلك الهجرة إلى رسول الله باتباعه وتقديم طاعته والعمل بما جاء به.
وبالجملة فهذه الهجرة هجرة إلى الكتاب والسنة من الشركيات والبدع والخرافات والمقالات والمذاهب المخالفة للكتاب والسنة.
فتبين من هذا أن الهجرة أنواع هي:
هجر أمكنة الكفر... وهجر الأشخاص الضالين... وهجر الأعمال والأقوال الباطلة.. وهجر المذاهب والأقوال والآراء المخالفة للكتاب والسنة.
فليس المقصود التحدث عن الهجرة بأسلوب قصصي وسرد تاريخي، أو تقام لمناسبتها طقوس واحتفالات ثم تنسى ولا يكون لها أثر في النفوس أو تأثير في السلوك، فإن كثيراً ممن يتحدثون عن الهجرة على رأس السنة لا يفقهون معناها ولا يعلمون بمقتضاها بل يخالفونها في سلوكهم وأعمالهم؛ فهم يتحدثون عن هجرة الرسول وأصحابه وتركهم أوطان الكفر إلى وطن الإيمان، وهم مقيمون في بلاد الكفر أو يسافرون إليه لقضاء الإجازة أو للنزهة أو لقضاء شهر العسل كما يسمونه بعد الزواج!!
يتحدثون عن الهجرة وهم لا يهجرون عبادة القبور والأضرحة، بل يعبدونها من دون الله كما تعبد الأصنام أو أشد. يتحدثون عن الهجرة وهم لا يهجرون المذاهب الباطلة والآراء المضلة بل يجعلونها مكان الشريعة الإسلامية. يتحدثون عن الهجرة وهم لا يهجرون المعاصي والأخلاق الرذيلة. يتحدثون عن الهجرة وهم لا يهجرون عادات الكفار وتقاليدهم بل يتشبهون بهم، فأين هي معاني الهجرة وأنواعها من تصرفات هؤلاء؟
فاتقوا الله عباد الله، واقتبسوا من الهجرة وغيرها من أحداث السيرة النبوية دروساً تنهجونها في حياتكم، ولا يكن تحدثكم عن الهجرة مجرد أقوال على الألسنة أو حبراً على الأوراق.
قال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال:74].
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
ــــــــــــ(1/175)
هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم
المسجد النبوي
• ... المقدمة
• ... وقفة حساب
• ... وقفة تأمل
• ... الهجرة والمجتمع الجديد
• ... الإحتفال بالمناسبات الإسلامية
• ... الرسالة المحمدية
• ... يهود المدينة
• ... الخاتمة
المقدمة
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، خصنا بخير كتاب أنزل وأكرمنا بخير نبي أرسل ، وأتم علينا النعمة بأعظم دين شرع ، وجعلنا بهذا الدين خير أمة أخرجت للناس أمة وسطا لنكون شهداء على الناس ويكون الرسول علينا شهيدا، وأشهد أنا سيدنا وإمامنا وأسوتنا وحبيبنا ومعلمنا محمداً عبد الله ورسوله، أدى الرسالة وبلغ الأمانة ونصح للأمة وجاهد في الله حق جهاده وأحيا الله برسالته قلوباً ميتة وأسمع به آذانا صما وبصر به أعين عمياً وأخرج به الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد، اللهم صلي وسلم وبارك على هذا الرسول الكريم وعلى آله وصحابته وأحينا اللهم على سنته وأمتنا على ملته واحشرنا في زمرته مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
أما بعد ،،،
فيا أيها الأخوة المسلمون ، بالأمس استقبلنا عاماً هجرياً جديداً وودعنا عاماً آخر ، وهكذا مسيرة الحياة للإنسان ، نودع ونستقبل ، الإنسان دائماً مودع ومستقبل ، مودع يوماً ومستقبل يوماً ، مودع أسبوعاً ومستقبل أسبوعاً ، مودع شهراً ومستقبل شهراً ، مودع عاماً ومستقبل عاماً ، وهذه كلها محسوبة من عمر الإنسان ، كل عام ينقضي بل كل يوم ينقضي بل كل ساعة تنقضي بل كل لحظة تنقضي هي صفحة من كتاب الإنسان تطوى وورقة من شجرة تذبل ، حتى ينتهي الأجل (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) .
وقفة حساب
من حق الإنسان أن يقف في رأس العام وقفتين، وقفة يحاسب فيها نفسه الحساب الختامي على عام مضى، ماذا سجل فيه من خير؟ وماذا اكتسب فيه من شر؟ ماذا له وماذا عليه ؟ ماذا ربح وماذا خسر؟ وفي أي شيء ربح وفي أي شيء خسر؟ التاجر الواعي هو الذي يحاسب نفسه آخر كل عام ، يجرد حساب الأرباح والخسائر ليحاول أن يتفادى الخسائر وأن يزداد من الأرباح ، هذا في أرباح الدنيا وخسائرها ، فما بالكم بأرباح الآخرة وخسائرها، من واجب كل مسلم أن يقف هذه الوقفة، ومن واجب الأمة أن تقف هذه الوقفة على رأس كل عام ، ماذا قدمت؟ وماذا أخرت؟ ماذا كسبت فيه وماذا خسرت؟، من حق الأمم الواعية النضيجة البصيرة أن تقف هذه الوقفة لتعرف ماذا صنعت ، من واجب أمتنا أن تقف هذه الوقفة لتحاسب نفسها ماذا صنعت في قضية فلسطين؟، وماذا صنعت في قضية الشيشان؟، وماذا صنعت في قضية كشمير؟، ماذا صنعت في قضية أفغانستان ؟ وفي القضايا المعلقة القديمة، هل أدت الأمة واجبها؟ أم لم تؤد الواجب المطلوب منها ، هذه المحاسبة دليل الحياة والوعي والإيمان، ودليل العقل ، فالكيس من دان نفسه، العاقل الفطن المتصرف التصرف الحسن الكيس من دان نفسه، من حاكمها وحاسبها، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأمانيّ، (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى تلك أمانيهم..)، الأمر ليس بالأمانيّ، (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين، بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) ، ليست الجنة بالعناوين ، ولا بالأسماء ولا بالدعاوى ، (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب، من يعمل سوء يجزى به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيرا)، (ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا) ، هذه وقفة على رأس العام.
وقفة تأمل
ووقفة أخرى للتأمل في هذا الحدث ، الهجرة ، التي ألهم عمر بن الخطاب وألهم المسلمون معه أن يجعلوها بداية لتاريخ هذه الأمة ، لم يجعلوا بداية التاريخ لهذه الأمة ميلاد الرسول عليه الصلاة والسلام ولا بعثته ، ولا وفاته ، ولا الانتصار في غزوة بدر أو فتح مكة ، إنما جعلوا هذا التاريخ يبدأ من هجرة النبي عليه الصلاة والسلام ، والهجرة لم تكن في محرم ، الهجرة كانت في شهر ربيع الأول ولكن عمر والصحابة قالوا نبدأ العام من أوله ، من أول شهر المحرم ، فاتخذوا هذا الحدث الجليل بداية لتاريخ هذه الأمة ، فهل هو جدير بهذا ؟ نعم ، هو جدير بهذا ، لقد هاجر رسل الله عامة أو عدد كبير من رسل الله هاجروا ، ولكن لم تكن هجرتهم مثل هجرة محمد عليه الصلاة والسلام ، هاجر إبراهيم (فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم) ، (وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين) فخرج من بلد إلى بلد إلى أن استقر به المقام في فلسطين وفي المدينة التي دفن فيه وسميت باسمه عليه الصلاة والسلام مدينة الخليل إبراهيم ، وهاجر موسى عليه السلام ، ولكن كانت هجرته قبل البعثة حينما خرج من مصر بعد أن قتل ذلك القبطي خطأ واستغفر الله وقال له من قال (إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين ، فخرج منها خائفاً يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين) وذهب إلى مدين وتزوج فيها وعاش فيها عشر سنوات مع ذلك الشيخ الكبير بعد أن تزوج ابنته ولم يكن له في هذه المدة السنوات العشر عمل يذكر ، كان شاباً صالحاً زوجاً طيباً صهراً كريماً عاش مع هذا الرجل عشر سنوات ولكن لم يقم فيها بدور .
الهجرة والمجتمع الجديد
محمد عليه الصلاة والسلام لم تكن هجرته كهجرة موسى حينما قال (ففررت منكم لما خفتكم فوهبني الله حكما وجعلني من المرسلين) ، لم تكن هجرة محمد عليه الصلاة والسلام لمجرد الفرار من الفتنة أو الهرب من الإيذاء والتضييق ، لا ، لقد كانت الهجرة سعياً حثيثاً لإقامة مجتمع جديد ، مجتمع إسلامي بمعنى الكلمة ، كانت سعياً لإقامة مجتمع وبناء أمة وإنشاء دولة جديدة تقوم على الربانية والإنسانية والأخلاقية والعالمية ، كان هذا هو هدف محمد عليه الصلاة والسلام من هذه الهجرة ، وفعلاً استطاع أن يقيم هذه الدولة وأن يؤسس هذا المجتمع وينشيء هذه الأمة الجديدة خير أمة أخرجت للناس ، ولكن إذا كان استطاع في المدينة أن يقيم هذا المجتمع وتلك الدولة فإن الفضل يرجع في ذلك إلى مرحلة التأسيس في مكة ، إلى العهد المكي ، ليس الأمر كما قال أحد الكتاب الكويتيين القصير النظر أن محمداً فشل في العهد المكي ، ولم يستطع أن يحقق ما هدف إليه ، كبرت كلمة تخرج من فيه ، ما قال إلا كذبا ، لم يفشل رسول الله عليه الصلاة والسلام ، بل كان هذا العهد المكي وهذه السنوات الثلاثة عشر استطاع فيها أن يقيم الأساس ، لم يرفع البناء وإنما وضع البناء ، الأساس ممكن أن يكون مترين أو ثلاثة ولكن ممكن أن تقيم عليه عمارة من خمسين طابقاً ، وكما قال الشاعر
خفي الأساس عن العيون تواضعا من بعد ما رفع البناء مشيدا
كانت مرحلة مكة مرحلة التأسيس ، مرحلة دار الأرقم بن أبي الأرقم التي يلقن فيها الرسول عليه الصلاة والسلام مبادئه وقيمه وتعاليمه لخلاصة أصحابه لتكوين الجيل الأول للإسلام الذي سيحمل الرسالة من بعد ويبلغ الدعوة إلى العالم ، هذا هو الجيل المؤسس الذي نشأ في دار الأرقم ، في العهد المكي نزل من القرآن نحو ثمانين سورة يلقنها النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه ويأخذونها عنه ويعيشون فيها وبها ولها ، عاشوا قرآنيين محمديين ، هذا العهد هو الذي قال الله فيه لرسوله (يا أيها المزمل، قم الليل إلا قليلا ، نصفه أو انقص منه قليلا ، أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا ، إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا) يهيئه الله ويعده لهذا العبء الثقيل الذي ينتظره فعليه أن يهيئ نفسه في مدرسة الليل ومدرسة القرآن (إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا) فتهيأ لهذا القول الثقيل وهذا العبء الكبير بالقرآن وبقيام الليل ، كان العهد المكي هو عهد بناء هذا الجيل وتبليغ الدعوة ، ما وجد الرسول عليه الصلاة والسلام إلى ذلك سبيلا ، بلغها إلى أهله وإلى عشيرته الأقربين ، إلى قريش ومن حول قريش ، بلغها إلى القادمين إلى موسم الحج كل عام ، يعرض نفسه عليهم ، بلغها في الطائف ووصل إلى الطائف في رحلة آسية حزينة معروفة ، بلغها إلى كل من استطاع أن يبلغها إليه ، سمح لأصحابه أن يهاجروا إلى الحبشة مرتين فراراً بدينهم وظل عليه الصلاة والسلام يعرض هذه الدعوة على قبائل العرب ، لم ييأس أبدا ولم يقنط من رحمة ربه أبدا ولم يلق السلاح أبدا ، حتى هيأ الله له هذه الفئة التي ادخرها الله تعالى لنصرة دينه من أبناء يثرب من الأوس والخزرج ، فحينما عرض عليهم الإسلام انشرح صدورهم وانفتحت قلوبهم ودخلوا في هذا الدين ، كانوا قليلاً ثم كثروا وبايعهم النبي عليه الصلاة والسلام في مكة وفي موسم الحج وفي العقبة ، بايعهم مرتين ، بيعة العقبة الأولى وبيعة العقبة الثانية ، بيعة العقبة الثانية هي التي عاهدهم فيها وعاهدوه على أن يهاجر إليهم وأن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وأهليهم وذراريهم ، هكذا بايعهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، كان هذا كله في العهد المكي ، تأسس العهد المدني في مكة ، ولولا هذا العهد المكي ما كانت الهجرة إلى المدينة ، ولذلك القول بأن محمداً - صلى الله عليه وسلم - فشل في العهد المكي قول إنسان جسور وجريء على الله ورسوله وجهول لم يدرس السيرة النبوية كما ينبغي .
الإحتفال بالمناسبات الإسلامية
هذه الهجرة أيها الأخوة ، من حقنا نحن المسلمون أن نعتز بها ونفخر ، سألني أحد الأخوة على موقع (islamonline.net) على الإنترنت ، (لماذا لا يهتم المسلمون ولا يحتفون بمقدم العام الهجري كما يهتم النصارى ويحتفون بمقدم العام الميلادي؟) وهو سؤال محرج حقيقة ، هناك من المسلمين من يعتبرون أي احتفاء أو أي اهتمام أو أي حديث بالذكريات الإسلامية ، بالهجرة النبوية ، بالإسراء والمعراج ، بمولد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، بغزوة بدر الكبرى ، بفتح مكة ، بأي حدث من أحداث سيرة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، أي حديث عن هذه الموضوعات يعتبرونه بدعة في الدين ، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار ، وهذا ليس بصحيح على إطلاقه ، إنما الذي ننكره في هذه الأشياء الاحتفالات التي تخالطها المنكرات ،وتخالطها مخالفات شرعية وأشياء ما أنزل الله بها من سلطان كما يحدث في بعض البلاد في المولد النبوي وفي الموالد التي يقيمونها للأولياء والصالحين ، ولكن إذا انتهزنا هذه الفرصة للتذكير بسيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبشخصية هذا النبي العظيم وبرسالته العامة الخالدة التي جعلها الله رحمة للعالمين فأي بدعة في هذا وأي ضلالة ، إننا حينما نتحدث عن هذه الأحداث نذكر الناس بنعمة عظيمة ، والتذكير بالنعم مشروع ومحمود ومطلوب ، والله تعالى أمرنا بذلك في كتابه (قل يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا ، إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا) ، يذكر بغزوة الخندق أو غزوة الأحزاب حينما غزت قريش وغطفان وأحابيشهما النبي عليه الصلاة والسلام والمسلمين في عقر دارهم وأحاطوا بالمدينة إحاطة السوار بالمعصم وأرادوا إبادة خضراء المسلمين واستئصال شأفتهم وأنقذهم الله من هذه الورطة وأرسل عليهم ريحاً وجنوداً لم يرها الناس من الملائكة ، يذكرهم الله بهذا ، اذكروا لا تنسوا هذه الأشياء ، معناها أنه يجب علينا أن نذكر هذه النعم ولا ننساها ، وفي آية أخرى (قل يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيدهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون) يذكرهم بما كان يهود بني قينقاع قد عزموا عليه أن يغتالوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومكروا مكرهم وكادوا كيدهم وكان مكر الله أقوى منهم وأسرع ، (ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين) ، ذكر النعمة مطلوب إذن ، نتذكر نعم الله في هذا ونذكر المسلمين بهذه الأحداث وما فيها من عبر وما يستخلص منها من دروس ، أيعاب هذا ؟ أيكون هذا بدعة وضلالة ؟.
الرسالة المحمدية
ثم من ناحية أخرى أن هذا الحديث عن هذه الأحداث الكبيرة في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل حادث الهجرة أو غزوة بدر أو فتح مكة أو غير ذلك إنما تمثل تجسيداً للأسوة المحمدية ، نحن مأمورون أن نأتسي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأن نتخذه مثلاً بشرياً أعلى لنا ، فقد وضع الله فيه الكمالات التي تفرقت في الرسل واجتمعت في شخصه ، الله تعالى ذكر له عدد من الرسل ثم قال (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) فاقتدى بهدي الأنبياء وبهدى الأنبياء جميعاً ، ولذلك قال "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" تمم الله فيه المكارم التي توزعت عند الآخرين ، فمن حقنا أن نتمثل هذه الأسوة ، (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا) ، هو أسوة في كل شيء ، أسوة في معاملته للحق تبارك وتعالى ، وفي معاملة الحق له ، أسوة في معاملته للخلق سواء كانوا أنصاراً أم خصوماً ، موالين أم معادين ، وكذلك في معاملة الخلق له ، هو أسوة في ذلك كله وسيرته حافلة وجامعة يستطيع كل إنسان أن يتخذ منها موضعاً للقدوة ، فليست كسيرة بعض النبيين يمكن أن تقتدي به في موضع ولا تقتدي فيه بآخر ، تستطيع أن تقتدي بالمسيح عليه السلام في زهده وبعده عن الدنيا وإعراضه عن زخارف الحياة ، ولكنك لا تستطيع أن تقتدي به زوجاً فلم يتزوج ، ولا أباً ولا جداً ولا تستطيع أن تقتدي به في الحرب والسلم لأنه لم يسالم ولم يحارب ، ولا تستطيع أن تقتدي به في حالة الغنى لأنه لم يملك مالاً ، ولا تستطيع أن تقتدي به في حالة الحكم لأنه لم يحكم . أما محمد - صلى الله عليه وسلم - فتستطيع أن تقتدي به في كل هذه الأمور ، العزب يستطيع أن يقتدي به في حالة العزوبة لأنه لم يتزوج إلا في الخامسة والعشرين ، كيف قضى هذه السنين من البلوغ حوالي عشر سنوات يقتضي به ، المتزوج بزوجة واحدة يستطيع أن يقتضي به لأنه عاش مع زوجة واحدة تكبره بخمسة عشر عاماً معظم عمره ، من الخامسة والعشرين حتى الخمسين ، وصاحب الزوجتين والأكثر يستطيع أن يقتدي به لأنه في أواخر حياته اقتضت ظروف الدعوة أن يتزوج وتزوج الكبيرة والصغيرة والعربية والإسرائيلية والبكر والثيب وصاحبة الأولاد وغير صاحبة الأولاد .. أنواع ، ليجد كل إنسان في حياته مجالاً للقدوة ، يستطيع الوالد أن يقتدي به في معاملة أولاده البنين والبنات ، في حالة الحياة وفي حالة الممات ، لأن معظم أولاده ودعهم في حياتهم ، مات أولاده بنين وبنات في حياته ما عدا أصغر بناته فاطمة الزهراء رضي الله عنها ، هذا نبي جعله الله أسوة ، فلماذا نحرم أنفسنا من الحديث عن هذه الأسوة المحمدية ؟ والحديث عن الأسوة في وقتها هو أنسب وأوقع ، المربون الحقيقيون يقولون انتهز الفرصة لتربي التلميذ ، لتربي التابع عندما تأتي الفرصة ، تربط الفرصة والمناسبة بالمقصود التربوي والهدف التربوي ، لا مانع إذن أن نتحدث في هذه المناسبات عن شخصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعن سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعن رسالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي قال عن نفسه " إنما أنا رحمة مهداه " أخذ ذلك من قول الله تعالى (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) لقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - هو خير الناس في كل أحواله ، هو خير المهاجرين وخير الدعاة وخير القواد في الحرب وخير الأئمة في الصلاة وخير القضاة إذا حكم وخير المفتين إذا أفتى وخير الأزواج إذا تزوج وخير الآباء إذا أنجب وخير الأجداد إذا أحفد وخير الناس في كل شيء ، الله تعالى جعله المثل الأعلى ليرى الناس الكمال البشري مجسداً والإسلام الحي ماثلاً أمام الأعين ، الناس ليسوا فلاسفة يعرفون الأمور بالتجريب والوصف النظري ، الناس في حاجة إلى مثل عملي ، إلى مثال مجسد يرونه أمامهم واضحاً للأعين مسموعاً للآذان مؤثراً في القلوب وكان هذا هو محمداً رسول الله وخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم.
فيا أيها الأخوة المسلمون ، حاولوا أن تدرسوا سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، تدرسوها من ينابيعها الصافية ، من القرآن الكريم ، ومن الحديث ومن كتب السيرة ومن كتب التاريخ العام ومن غيرها من الكتب حتى تعيشوا مع هذا الرسول الكريم وتتأسوا به وليكون لكم نعم المعلم ونعم الأسوة ، أسأل الله تبارك وتعالى أن يفقهنا في ديننا وأن ينير لنا طريقنا وأن يهيئ لنا من أمرنا رشداً ، أقول قولي هذا وأستغفر الله تعالى لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم ، وادعوه يستجب لكم .
يهود المدينة
الحمد لله ، غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، يسبح له ما في السماوات وما في الأرض له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، وأشهد أن سيدنا وإمامنا وأسوتنا وحبيبنا محمد عبدالله ورسوله البشير النذير والسراج المنير صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته واهتدى بسنته وجاهد جهاده إلى يوم الدين.
أما بعد ،،،
فعندما هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة ، كان فيها ثلاث قبائل من اليهود ، حينما شرد اليهود في الأرض وكانوا كما قال الله تبارك وتعالى (وقطعناهم في الأرض أمما) جزاء ما أفسدوا سلط الله عليهم أعداءهم وأدبهم من أدبهم ، ومن هؤلاء الرومان الذين شتتوهم في أنحاء الأرض ، وكان منهم قبائل ذهبت إلى بلاد العرب واستوطنت ضواحي يثرب ، هذه القبائل هي قبائل بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة ، وجدهم النبي - صلى الله عليه وسلم - حول المدينة فعقد معهم اتفاقاً ، اتفاقية مشهورة ، كتبت وحددت العلاقات ونظمت الحقوق والواجبات بين أهل هذه المدينة التي تعتبر أساساً للدولة الجديدة ، المدينة كانت تأسيساً لجماعة جديدة ، لم يقل القرآن (يا أيها الذين آمنوا ) إلا في العهد المدني لأن هذا خطاب للجماعة المؤمنة ، قبل ذلك (يا أيها الناس) ، (يا أهل الكتاب) ، يا كذا .. إنما في المدينة (يا أيها الذين آمنوا ) لأنه تأسست جماعة جديدة على أساس الإيمان بالله وبرسالاته وبكتابه وباليوم الآخر ، أقام الرسول هذه المعاهدة لضبط الأمور وتحديدها ولذلك يعتبر كثير من الدارسين والباحثين في السيرة النبوية يعتبرون هذه المعاهدة بمثابة دستور مكتوب ينظم العلاقة بين المسلمين بعضهم وبعض والقبائل بعضها وبعض وبينهم وبين اليهود في حالة السلم وفي حالة الحرب ، ومما يذكر أن النبي عليه الصلاة والسلام وجدهم يصومون يوم عاشوراء ، العاشر من المحرم ، فسألهم لماذا تصومون هذا اليوم فقالوا هذا يوم نجى الله فيه موسى وبني إسرائيل فقال عليه الصلاة والسلام " نحن أولى بموسى منكم" فصامه وأمر بصيامه ، صيام يوم العاشر من المحرم ، ولكنه في أواخر حياته كان يحب أن يتميز عن أهل الكتاب ويقول دائماً خالفوهم حتى تتميز الشخصية المسلمة عن غيرها في عباداتها ومعاملاتها وأخلاقياتها ولا تذوب في غيرها من الأمم ، فلذلك قال في آخر حياته " لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع " أي مع العاشر ، يصوم يومين حتى لا يكون اليوم العاشر الذي يصومه أهل الكتاب ولكنه قدر له عليه الصلاة والسلام أن يلحق بالرفيق الأعلى ويلقى ربه فلم يصم اليوم التاسع ولكنه عزم على هذا فأصبح سنة ، ومن أجل هذا نوصي المسلمين بصيام عاشوراء وتاسوعاء أسوة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، المهم أن هؤلاء اليهود سرعان ما نقضوا العهد ، سرعان ما نكثوا العهود وتعدوا الحدود وغلبت عليهم طبيعة الغدر التي تعودوا عليها حتى مع رسل الله ومع أنبيائه (فكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريق كذبتم وفريق تقتلون) ، (وكلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يعلمون) ، (فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية) سرعان ما نقضت هذه القبائل اليهودية واحدة بعد الأخرى عهدهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، بدأ بنو قينقاع ثم بنو النضير الذين نزلت فيهم أوائل سورة الحشر ثم بنو قريضة الذين كانوا مع المغيرين على المدينة ضد محمد - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين ، كان المفروض أن يكونوا مع الرسول ضد هؤلاء الذين يهاجمون المدينة من الخارج كما تقضي الاتفاقية ، لكنهم نقضوا العهد وقالوا لقريش نحن معكم على محمد ولذلك القرآن يقول (إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم) من الداخل ومن الخارج ، ولذلك كان عقابهم أليماً من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم كانت غزوة خيبر ، هذه هي طبيعة اليهود النقض للعهود ، لا يرقبون في مؤمن إناً ولا ذمة ، ولا يرعون لمسلم عهداً ولا حرمة ولا يتوقع منهم أن يفوا بعهد وانظروا ماذا يفعلون الآن ، اتفاق مدريد أو محادثات مدريد ثم اتفاق أوسلو ثم واي ريفر ثم شرم الشيخ ثم .. ثم .. وكلها حبر على ورق في نظر هؤلاء ، لا يريدون أن تقوم للفلسطينيين دولة حرة مستقلة يسودون فيها على أرضهم ، إنما تظل دويلة أو سلطة تحت رحمتهم لا يملكون أرضها ولا سماءها ولا مياهها ولا أجواءها ولا يملكون ما حولها، الممرات في أيديهم، هذا ما تريده الدولة اليهودية الصهيونية الإسرائيلية والعجب منا أننا نصدق أن هؤلاء سيعطوننا شيئاً، لن يعطونا إلا السراب ، (يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب).
الخاتمة(1/176)
اللهم هيئ لنا من أمرنا رشدا ، اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا أقل من ذلك ، اللهم اجعل هذا العام عام خير وبركة على أمة الإسلام واجعله نذير وبال وحسرة على أعداء الإسلام ، اللهم اجعل يوم المسلمين خيراً من أمسهم واجعل غدهم خيراً من يومهم وأحسن عاقبتهم في الأمور كلها وأجرهم من خزي الدنيا وعذاب الآخرة ، اللهم اجمع كلمة هذه الأمة على الهدى وقلوبها على التقى ونفوسها على المحبة ونياتها على الجهاد في سبيلك وعزائها على عمل الخير وخير العمل ، اللهم أكرمنا ولا تهنا وأعطنا ولا تحرمنا ، وزدنا ولا تنقصنا وآثرنا ولا تؤثر علينا وارض عنا وأرضنا ، اللهم انصرنا على أعداءك أعداء الإسلام ، اللهم انصرنا على اليهود الغادرين وانصرنا على الروس الظالمين المتجبرين وانصرنا على الصربيين الحاقدين وانصرنا على الهندوس المتعصبين وانصرنا على جميع أعداءك أعداء الدين ، اللهم رد عنا كيدهم وفلّ حدهم ، اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم ، اللهم أنزل عليهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين ، اللهم انصر اخوتنا في الشيشان وفي فلسطين وفي لبنان وانصر اخوتنا في كشمير وانصر اخوتنا في كل مكان من أرض الإسلام ، اللهم أيدهم بروح من عندك وأمدهم بملأ من جندك واحرسهم بعينك التي لا تنام ، ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين ، اللهم لا تهلكنا بما فعل السفهاء منا ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً ، سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين.
ــــــــــــ(1/177)
الهجرة المباركة شمس ساطعة ومنارة للتاريخ
الحمد لله المنفرد بالألوهية والصلاة والسلام على سيدنا محمد خير البرية.
قال الله تعالى: {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} (سورة التوبة 40).
إخوة الإسلام، إنّ الماضي صفحات والتاريخ عبر وعظات وفي صفحات الماضي وعبر التاريخ المجيد السراج الذي يكشف للمستبصر الرؤية ويهديه سواء السبيل. وهجرة الرسول المباركة هي واحدة من تلك العبر والعظات. والأمة الإسلامية تمر اليوم بمرحلة من أدق مراحل تاريخها وهي لذلك أحوج ما تكون للاستفادة من دروس الهجرة المباركة وعبرها.
لقد كانت الهجرة إيذانا بأنّ صولة الباطل مهما عظمت وقوته مهما بلغت فمصيرها إلى الزوال ونهايتها إلى الفشل والبوار وإيذانا بأنّ الحق لا بد له من يوم يحطم فيه الأغلال وتعلو فيه رايته وترتفع كلمته.
ولئن كانت الهجرة المباركة حركة نوعية في تاريخ المنطقة ونقطة تحول في حياة الدعوة الإسلامية إلا أنه سبق تلك الهجرة الجسدية هجرة روحية عظيمة تمثلت بقبول المهتدين للدعوة المحمدية ودخولهم في دين الله وثبوتهم فيه على الرغم من الاضطهاد والتنكيل وكافة المحاولات لصرفهم عن دعوة الحق. بعد هذه الهجرة من الضلال إلى الإيمان ومن ظلام الجاهلية إلى نور الإسلام وبعد هجرة الأرواح التي تسامت عن التعلق بالدنيا وهجرت كل ما ألفت من عادات بغيضة وتقاليد بالية جاءت هجرة الصحابة إلى الحبشة ثم إلى المدينة لتشكل قمة العطاء والاستعداد للتضحية بكل شىء من مال وأهل وأرض في سبيل الله.
وجاءت هجرة الرسول بأمر من ربه عز وجل لتعلن نهاية عهد الاضطهاد والاستبداد وبداية فجر مشرق وعهد مجيد. ومن هناك من يثرب انبثق نور الدعوة قويا وضاء فبدد الظلم وجاز ما اعترضه من عقبات. وانطلقت كلمة الحق تحملها القوافل والركبان وتبشر بها أصوات الدعاة إلى الصلاة في كل أذان حتى أتم الله على المسلمين النعمة وجاب عنهم كل محنة ودخل الناس في دين الله أفواجا وأذن مؤذن الحق في أباء وعزة: الله أكبر الله أكبر جاء الحق وزهق الباطل.
لم تكن هجرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - هربا من المشركين ولا يأسا من واقع الحال ولم تكن هجرته - صلى الله عليه وسلم - حبا في الشهرة والجاه والسلطان فقد ذهب إليه أشراف مكة وساداتها وقالوا له: إن كنت تريد بما جئت به مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا وإن كنت تريد ملكا ملكناك إياه" ولكنّ النبيّ العظيم أسمى وأشرف من أن يكون مقصوده الدنيا والجاه والسلطان. ولم تكن هجرته التماسا للهدوء وطلبا للراحة فهو يعلم يقينا أنها دعوة حق ورسالة هدى لا بد أن يؤديها كما أمره الله وهو لهذا يقول لعمه أبي طالب حين أتاه يطلب منه الكف عن العرض لقومه وما يعبدون "والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله سبحانه وتعالى أو أهلك دونه".
لقد كانت الهجرة في سبيل الله لإقامة صروح العدل والحق وبناء دولة الإيمان ونشر التوحيد في كافة أرجاء الجزيرة العربية بل في كافة أرجاء المعمورة.
وعندما وصل الرسول العظيم مع صاحبه الصديق أبي بكر إلى يثرب المدينة المنورة خرج المؤمنون من أهلها مرحبين بقدوم النبيّ الكريم وصاحبه الوفيّ واستبشروا بقدومهما وقدوم الأصحاب كل خير. وضرب هؤلاء مع إخوانهم المهاجرين أروع الأمثلة في التضحية والأخوة والتحابب والتباذل في الله. لقد جمعهم الإسلام ووحدتهم العقيدة وألّف النبيّ بين قلوبهم حتى صاروا على قلب رجل واحد لا يفرق بينهم طمع ولا دنيا ولا يباعد بينهم حسد ولا ضغينة. مثلهم كمثل البنيان المرصوص يشد بعضه بعضا، ومثلهم في وتوادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى.
لقد كان من المهاجرين من ترك الدار والمال والأهل والولد والمتاع ابتغاء مرضاة الله فماذا قدّم الأنصار؟ لقد استقبل الأنصار إخوانهم المهاجرين ومدوا لهم يد المساعدة والعون حتى كان الأنصاري يقسم ماله ومتاعه بينه وبين أخيه المهاجر. فماذا فعلنا نحن مع إخواننا المحتاجين والمهجرين والمعوزين.
إنّ الدروس المستفادة من الهجرة كثيرة ومن جملتها ضرورة الصبر على الشدائد والبلايا وكافة أنواع الظلم والاستبداد والصمود في وجه الباطل والثبات في ميدان الجهاد والكفاح والوقوف إلى جانب الحق في شجاعة وحزم وصرامة وعزم. وإنّ احتفالنا بهذه الذكرى في الظروف الحالية التي تمر بها الأمة يبعثنا على مضاعفة التضحية والفداء والمثابرة على نصرة الحق ومكافحة الباطل.
اللهم إنّا نعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء ونعوذ بك من فتنة النّار وعذاب النّار.
ــــــــــــ(1/178)
هجرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -
لما ضاقت مكة بأفضل أهلها وخيرهم عند الله، رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واصحابه، جعل الله للمسلمين فرجاً ومخرجاً، فأذن لهم بالهجرة إلى المدينة حيث النصرة، وقبول الحق .
وقد أرخ لهجرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - . الزهري فقال : " مكث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد الحج بقية ذي الحجة , والمحرم وصفر ثم إن مشركي قريش اجتمعوا " - يعني على قتله - وقال الحاكم : " تواترت الأخبار أن خروجه كان يوم الاثنين ودخلوه المدينة كان يوم الاثنين " .
وقد أذن الله تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم - بالهجرة إلى المدينة , وكان يتردد على بيت أبي بكر كل يوم صباحاً ومساء , لا يكاد يدع ذلك , فلما أذن له بالهجرة جاءهم ظهراً على غير عادته وهو متقنع , فأخبر أبا بكر بذلك . واختياره وقت الظهر لأن الناس تأوي إلى بيوتها للقيلولة فراراً من الحر , وتقنّعه يفيد شعوره بالخطر من حوله , فقد اعتزمت قريش قتله , ولابد أنها ستعمد إلى رصد تحركه . قال تعالى : {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين } (الأنفال 30).
مؤامرة لقتل الرسول - صلى الله عليه وسلم -
وقد بينت رواية ضعيفة - بسبب الإرسال - قصة اجتماع المشركين على باب الرسول - صلى الله عليه وسلم - وذره التراب على رؤوسهم .
كما بيّن ابن عباس حصار المشركين لبيته ابتغاء قتله , ومبيت علي رضي الله على فراشه ولحاقه - صلى الله عليه وسلم - بالغار , ولما علم المشركون ذلك في الصباح اقتصوا أثره إلى الغار فرأوا على بابه نسيج العنكبوت فتركوه . ولكن هذه الرواية لا تصلح للاحتجاج بها وهي أجود ما روي في قصة نسيج العنكبوت على فم الغار ، وقد ورد حديث ضعيف جداً يفيد أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما بات في غار ثور أمر الله شجرة , فنبتت في وجه الغار , وأمر حمامتين وحشيتين , فوقعتا بفم الغار . وأن ذلك سبب صدود المشركين عن الغار . ومثل هذه الأساطير تسربت إلى مصادر كثيرة في الحديث والسيرة . وعلى أية حال فإن ائتمار المشركين لقتله ثابت بنص الآية فلا يبعد أن يحاصروا بيته .
في غار ثور
قالت عائشة رضي الله عنها : ( فبينما نحن يوماً جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة , قال قائل لأبي بكر : هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متقناً في ساعة لم يكن يأتينا فيها . فقال أبو بكر : فداء له أبي وأمي , والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر . قالت : فجاء رسول الله عليه وسلم فاستأذن فأذن له , فدخل . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر : أخرج من عندك . فقال أبو بكر : إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله . قال : فإني قد أذن لي في الخروج . فقال أبو بكر : الصحابة بأبي أنت يارسول الله . قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : نعم . قال أبو بكر : فخذ - بأبي أنت يا رسول الله - إحدى راحلتي هاتين . قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : بالثمن . قالت عائشة : فجهزناهما أحث الجهاز , وضعنا لهم سفرة في جراب فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها , فربطت به على فم الجراب . وبذلك سميت ذات النطاق . قالت : ثم لحق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر بغار في جبل ثور , فكمنا فيه ثلاث ليال , يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر - وهو غلام شاب ثقف لقن - فيدلج من عندهما بسحر , فيصبح من قريش بمكة كبائت , فلا يسمع أمراً يكتادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام , ويرعى عليهما عامر بن فهيرة - مولى أبي بكر - منحة من غنم , فيريحها عليهما حتى تذهب ساعة من العشاء , فيبيتان في رسل - وهو لبن منحتهما ورضيفهما - حتى ينعق بها عامر بن فهيرة بغلس , يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث . واستأجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر رجلاً من بني الديل وهو من بني عدي بن عدي هادياً خرّيتاً قد غمس حلفاً في العاص بن وائل السهمي - وهو على دين الكفار - فدفعا اليه راحلتيهما , وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما صبح ثلاث. )
وتشير رواية صحيحة أخرى إلى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر ركبا ، قال : ( فانطلقا حتى أتيا الغار وهو بثور ) .
موقف علي بن أبي طالب رضي الله عنه
وثمة رواية حسنة تفيد أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - انطلق إلى الغار من بيته حيث حاصره المشركون يريدون قتله , فلبس علي رضي الله عنه ثوبه ونام مكانه واخترق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حصار المشركين دون أن يروه , بعد أن أوصى علياً بأن يخبر أبا بكر أن يلحق به , فجاء أبو بكر وعليّ نائم , وأبو بكر يحسب أنه نبي الله - صلى الله عليه وسلم - , قال : فقال : يا نبي الله ..
فقال له علي : إن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قد انطلق نحو بئر ميمون فأدركه .
قال : فانطلق أبو بكر فدخل معه الغار .
قال : وجعل علي يرمي بالحجارة , كما كان يرمي نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يتضور , قد لفّ رأسه في الثوب لا يخرجه , حتى أصبح .
ثم كشف عن رأسه , فقالوا : إنك للئيم ! . كان صاحبك نرميه فلا يتضوّر وأنت تتضوّر وقد استنكرنا ذلك .
لقد كان غار ثور قد تحدد منطلقاً للهجرة , وضرب الموعد مع الدليل في ذلك المكان , وكان خروج المصطفى والصديق الى الغار ليلاً .
ولا تقوى هذه الرواية على معارضة ما في الصحيح , ولكن يمكن التوفيق بينهما , لأن رواية الصحيح ليست صريحة في ركوبهما من بيت الصديق رضي الله عنه . فإذا افترضنا أن اصطحابهما معاً جرى من بئر ميمون أمكن التوفيق بين الروايتين .
أبو بكر الصديق يضع ثروته في خدمة الدعوة
لقد حمل أبو بكر رضي الله عنه ثروته ليضعها تحت تصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وقد ذكرت أسماء ابنته أنها خمسة آلاف أو ستة آلاف درهم . لقد مكث الاثنان في الغار ثلاث ليال وقد تمكن المشركون من اقتفاء أثرهم إلى الغار حيث رأى الصديق أقدامهم فقال :" يا نبي الله , لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا " . قال : ( اسكت يا أبا بكر اثنان الله ثالثهما ) .
وإلى هذا اليقين التام والتوكل الكامل تشير الآية { ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا } ( التوبة 40)
الإعلان عن مكافأة
لقد أخفقت قريش في العثور عليهما , فأعلنت عن مكافأة لمن يقتلهما أو يأسرهما وأرّخت رواية واهية خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - من الغار في ليلة الاثنين لأربع ليال خلون من شهر ربيع الأول , وأدركتهما القيلولة ظهر يوم الثلاثاء بقديد . وهذا التحديد يثير الشك بصحة الرواية فضلاً عن ضعف الإسناد .لقد مضى الاثنان في الطريق الى المدينة وهما يحسان برصد المشركين لهما . قال أبو بكر : " أخذ علينا بالرصد فخرجنا ليلاً
ــــــــــــ(1/179)
نفحات من هجرة الرسول
التاريخ الهجري:
رفع صك إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه محله في شعبان فقال عمر: أي شعبان؟ الذي هو آت أو الذي نحن فيه؟
ثم قال لأصحاب رسول - صلى الله عليه وسلم - ضعوا للناس شيئاً يعرفونه وقد أجمعت كلمة الصحابة على استبعاد تاريخ الروم والفرس ليكون للمسلمين تاريخهم المستقل الذي ابتدأ حقيقة برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما كانت الهجرة النبوية هي الحد الفاصل بين المرحلة المكية والمدنية للدعوة الإسلامية فقد اتفقت الآراء على أن يكتبوا التاريخ من مقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة وعلى أن يكون البدء من شهر الله المحرم فهو مصرف الناس من حجهم وهو شهر حرام.
آفاق جديدة:
فتحت هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة آفاقاً جديدة للدعوة الإسلامية العالمية التي تعتمد مبدأ الكلمة الواعية المستندة إلى توحيد الله عز وجل ولقد دخلت المدينة (يثرب سابقاً)، مرحلة جديدة بعد بيعة العقبة الثانية حيث بدأ فيها التاريخ، وبدأ فيها التحول والتطور نحو حياة أفضل، إذ تحولت نزاعات الأوس والخزرج إلى ألفة ومحبة، وتبدلت فرقتهم إلى عزة وتوحد، وانهارت وثنيتهم أمام نور توحيد الله وبدأ دور يهود يثرب يأفل ويغيب حيث كانوا يسيطرون على اقتصاد يثرب ويسعون جاهدين إلى تشتيت القبائل العربية وتمزيق وحدتها وإشعال نار الفتن والخصومات بين أهلها، ولما دخلت طلائع الدعوة الإسلامية تكشفت مؤامرات يهود وبدأ دورهم بالانهيار وقام سفير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مصعب بن عمير بنشاط دعوي كبير حيث دخل على يديه في الإسلام عدد كبير من زعماء بني عبد الأشهل والقبائل العربية الأخرى بحيث لم يبق بيت في المدينة إلا ودخل إليه نور الإسلام. وهذه آفاق الدعوة مفتوحة على أشدها في عصر العلم والعقل وحرية التفكير، ولا يحتاج الداعية إلى كبير عناء في تبليغ الرسالة التي تنقذ العالم من فراغه الروحي وضياعه الأخلاقي فلتكن أخي أحد الدعاة الذين يدعون إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
الدعوة بالتربية والقدوة:
هاجر إلى المدينة المنورة (79) مسلماً من المسلمين الأوائل الذين دخلوا مدرسة دار الأرقم بن أبي الأرقم بمكة المكرمة حيث كان أستاذهم محمداً - صلى الله عليه وسلم - يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، وكان كتابهم القرآن الكريم يتعلمون أحكامه وعلومه وأخلاقه وآدابه حتى تخرجوا في هذه المدرسة وقد تطهرت عقيدتهم من الشرك والوثنية، وتنظفت نفوسهم من الأمراض الأخلاقية، وخلت قلوبهم مما سوى الله، وأخذوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الدروس التربوية عن طريق القدوة الطيبة، والأسوة العملية الحسنة، وبموجب عقد التآخي بين المهاجرين والأنصار فقد دخل المهاحرون (79) بيتاً من بيوت الأنصار فنقلوا إليهم العقيدة الحقة والأخلاق الفاضلة والسلوك المستقيم عن طريق القدوة الحسنة، وهذا بدوره حول المجتمع المدني إلى مجتمع فاضل يعرف فيه كل فرد حقوقه وواجباته تحت ظلال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكم نحن بحاجة إلى اتباع أسلوب الدعوة العملية بالقدوة والأسوة الحسنة ليعشق الآخرون الإسلام من خلال التزامنا العملي به ولقد ضرب التجار المسلمون أروع المثل في البلاد التي سافروا إليها فرأى أهلها معاملات صادقة، وأخلاقاً فاضلة مما دعاهم إلى الدخول في دين التجار المسلمين هكذا فتحت أندونيسيا وماليزيا وجزر الأرخبيل في جنوب شرق آسيا. إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
المعية الإلهية:
وصل المشركون إلى غار ثور حيث انقطعت آثار أقدام النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه الصديق وخشي أبو بكر رضي الله عنه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: لو نظر أحدهم إلى موضع قدمه لرآنا فأجابه النبي - صلى الله عليه وسلم - ما ظنك باثنين الله ثالثهما لا تحزن إن الله معنا ولقد سطر القرآن هذه الحادثة فقال فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها ولا بأس من إلقاء الضوء على التساؤل التالي: هل المعية الإلهية كانت خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلموصاحبه الصديق في الغار؟ ولدى الرجوع إلى الحقائق القرآنية نجد ما يلي:
1- طلب الله من موسى وهارون القيام بواجب الدعوة والبلاغ إلى فرعون بقوله: اذهب إلى فرعون إنه طغى فاعتذر إلى الله بالخوف من استكبار فرعون وطغيانه قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى فطمأنهما الله بالمعية الإلهية الناصرة قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى
2- وظلت هذه المعية الإلهية مع نبيه موسى عليه السلام ولما فر من فرعون وجنده مع المؤمنين خشي من معه بأن يظفر بهم فرعون فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون فطمأنهم موسى بالمعية الإلهية قال كلا إن معي ربي سيهدين.
3- وقد طلب الله من بني إسرائيل القيام بعدة أمور لاستحقاق المعية الإلهية وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضاً حسناً 4- وبإمكان كل مسلم أن يستحق شرف المعية الإلهية إذا قام بمتطلباتها، وهي:
أ- التقوى إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون والتقوى هي امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه.
ب- الصبر إن الله مع الصابرين.
جـ - الإحسان وإن الله لمع المحسنين ويشمل الإحسان تقديم الخير إلى الخلق، ومجاهدة النفس في العبادة حتى يصل الإنسان إلى مقام »أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
ــــــــــــ(1/180)
الهجرة.. تاريخ في التاريخ
قمر كيلاني
الهجرة النبوية الشريفة من مكة إلى المدينة بظروفها وسياقها ليست حدثاً تاريخياً.. بل هي تاريخ في التاريخ. فقد كان العرب قبل الهجرة يؤرخون كما يشاؤون نسبة إلى قبائلهم وحروبهم وغزواتهم..
وربما حوادث وظواهر تمر بهم أو يشهدونها فيقولون, هذا يوم كذا.. أو هذا عام كذا. حتى كانت هجرة الرسول فتمركزت حياة المسلمين حولها, ومن ثم العرب وسائر المسلمين. وأصبحت الهجرة بوصلة أو بوصلتين.. الأولى دينية تدور حولها العقيدة, فالذين انضموا إلى الرسول من الأنصار, والذين ما لبثوا أن التحقوا برسولهم من المهاجرين شكلوا جميعاً أول مسجد.. وأول آذان.. وأول صلاة.. وأول ثورة إيمانية أخذت تتسع وتترسخ حتى أصبحت هدفاً ومنطلقاً في الوقت نفسه..
أما البوصلة الأخرى فهي التي أصبحت تجمع القبائل العربية في سائر أنحاء الجزيرة ليلتفوا حول نواة لدولة لم يعرفوها قط. دولة تقوم على شريعة سماوية وتطبيقات عملية في العدل والمساواة, والأخوة, والحق, والهداية, ونبذ تاريخ ودخول في تاريخ.
وتشاء القدرة الإلهية أن يؤسس للدولة المدنية التي توسعت خارج الجزيرة العربية, لا تحمل رسالة سماوية فقط بل شريعة ونهجاً, ومنظومة للحياة الحرة الكريمة. ويصبح للعرب دولتهم التي تشملهم جميعاً كعرب وإن كان بينهم مسيحيون ويهود.
وما إن انتشرت الدعوة الإسلامية منذ الهجرة إلى ممالك وإمبراطوريات في الشام وفارس وبلاد الروم حتى تهاوت تلك النظم أمام الدعوة الإلهية والدولة الفتية, ثم أصبح الانتشار أمراً متواتراً ومتزامناً مع الفتوحات كما اقتضت خاتمة الرسالات. وأصبح للهجرة تاريخ ليس فقط لموضوع الهجرة بل للنصرة والنفرة من أجل إقامة مجتمعات جديدة ذات مناهج جديدة يتشعب فيها الإيمان واحترام حقوق الإنسان. وما كان في هذه المجتمعات ماهو إجبار بل اختيار مادام الإسلام يقول: لا إكراه في الدين, وتصبح الهجرة أيضاً رمزاً أسمى من كل الرموز وشعلة تفصل بين الظلمة والنور.
وإذا ما تتبعنا التأريخ بالسنة الهجرية وجدناه يشمل لا الحياة السياسية فقط بل الثقافية, والمدنية,.الولادة والموت مما هو مبثوث في كل تراثنا العربي حتى حصلت المواءمة في العصر الحديث بين التاريخين الميلادي نسبة إلى ميلاد السيد المسيح والهجري نسبة إلى هجرة الرسول الكريم والفارق معروف ومحسوب بينهما بحيث لا يخطئه الدارس أو المؤرخ أو حتى القارىء العادي. هذا وقد اصطلح مؤخراً في الكتب الحديثة أن يوضع التاريخان معاً بين قوسين أحدهما أو الآخر حسب المنبع حتى إن المستشرقين أو المستعربين أنفسهم لم يقدروا على تجاهل التاريخ الهجري الذي حمله التراث العربي بأكمله.
وما تعلقنا بالتأكيد بهذا التاريخ والاحتفاء به إلا ومضة صغيرة من قرون طويلة وصلت إلى حوالي ألف عام ونصف فهل يمكننا التخلي عنه أو حتى إغضاء الطرف سواء اجتاحتنا العولمة أم وقفنا على أعتابها من دون خوف.
ــــــــــــ(1/181)
وجاء عام جديد...آمال برغم الآلام
محمد بن شاكر الشريف
الحمد لله مصرف الأيام والدهور ومقلب الليل والنهار، والصلاة والسلام على البشير النذير محمد بن عبد الله الذي أرسله ربه رحمة للعالمين أما بعد
فإن الجديد من كل شيء محبب إلى القلوب ومبهج للنفوس، تشتاق إليه وتأنس به، وذلك بعكس القديم الذي غالبا ما تعافه النفوس، وتبتعد عنه، وقد أقبل علينا عامنا الجديد بزهوته وجماله والذي يذكرنا بمناسبة من أهم وأعظم المناسبات التي مرت بها الأمة الإسلامية، فهل يحمل إلينا عامنا الجديد أنباء مستقبلية سارة غير مجرد عطر الذكريات الجميلة، هل يبزغ الفجر الذي طال انتظاره، وتتبوأ الأمة الإسلامية المكانة التي تليق بها، وتتحرر شعوبها من كل ألوان الاستعباد المعلنة والمخفية.
إن العام الهجري لم يكتسب قيمته إلا من خلال الحدث الفذ الذي ارتبط به، ألا وهو هجر الديار والأوطان والأهل والخلان، قربة إلى الله تعالى وتقديم حبه ودينه ورسوله على حب الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة والأموال والتجارات والمساكن، "قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ" [التوبة :24]، لقد كانت هجرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى المدينة عملا إيجابيا وإعدادا للمواجهة التي لا بد منها بين الحق وأهله وبين الباطل وأحزابه، ولم تكن عملا انسحابيا يؤثر الفرار على المواجهة؛ إبقاء على المهج وضنا بالأرواح أن تزهق في سبيل الله، والأموال أن تنفق في نصرة دينه وإعلاء كلمته.
كانت الهجرة الميمونة حدا فاصلا واضحا بين مرحلتين متمايزتين من مراحل الدعوة الإسلامية :مرحلة كف الأيدي والصبر على الأذى رغبة في هداية الناس وجمع أكبر عدد من الأنصار لرسالة الإسلام، ثم مرحلة الدفاع عن النفس ورد العدوان والمعاملة بالمثل، والدعوة إلى الله بالجهاد في سبيله تعالى، وكان في هذا تعليما وتدريبا للأمة من بعدُ على أهمية مراعاة الواقع وظروفه على أرض الحدث، بعيدا عن الأفكار النظرية التي لا تمتلك رصيدا من الواقع أو التجربة، يؤهلها لقيادة المواجهة مع الجاهلية التي تتعدد صورها وتتباين ألوانها على مدى التاريخ.
ظل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طيلة ثلاثة عشر عاما يدعو إلى الله تعالى في مكة المكرمة يصبر من قومه على الأذى، ويحتمل منهم الصد والإعراض، لم يصبه من ذلك كلل أو ملل، ولم يدفعه ذلك إلى سياسة حرق المراحل، أو القفز إلى نهاية الطريق من غير المرور على محطاته المتتابعة، وقد كان في هذا دليل على أهمية حنكة القائد وخبرته، وعدم يأسه وقنوطه من تحقق المطلوب، رغم الظلام الدامس الذي يغلف الأجواء، وكان في هذا أيضا دعوة إلى الأمل المشرق بانبلاج الصبح بعد عتمة الليل، والثقة في وعد الله تعالى بالنصر والتمكين وإن طال الزمن، وهذا يدفع المؤمن ويشحذ همته ويحمله على العمل الدائب، كما أن فيه ما يشعر أن تأخر النصر قد يكون لحكمة تربية النفوس وتثبيت دعائم الإيمان وليس فقط نتيجة للتقصير وعدم بذل الجهد المطلوب، فإن الله تعالى ينصر عباده الذين صدقوه ولا يخذلهم ولا يسلمهم لأعدائهم، وأنهم لو تعرضوا لأمور طارئة تخرج عن قدراتهم فإن الله تعالى يجعل لهم منها مخرجا، فإذا أُتي المسلمون فلن يؤتوا إلا من قبل أنفسهم، والتاريخ كله شاهد على ذلك، فالله صادق في وعده ولا يخلف الميعاد كما قال تعالى :"وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ" [آل عمران:152]، وقال تعالى مقررا قاعدة عامة تنطبق على كل أحد في كل وقت وفي كل مكان "وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً" [الطلاق :3] فكل من كان متقيا لله عز وجل فإن الله قد وعده بالمخرج من الضيق الذي هو فيه، وهذا مما يجعل الصف المجاهد في سبيل الله يحذر المعصية أشد الحذر، فمعصية الله أشد على الجيش المجاهد في سبيله من أسلحة عدوه وإن كانت أسلحة قوية متطورة.
إن الهجرة لم تكن حدثا اضطراريا لجأ إليه المسلمون تخلصا من ظرف طارئ، بل كانت حدثا قد خطط له ودُبِّر بعناية تامة كاملة سواء في أرض الحدث نفسه مكة المكرمة أم في الأرض المستقبلة له المدينة المنورة، فلم يهاجر الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة إلا بعد أن استقر الإيمان في نفوس طائفة ليست بالقليلة من عظماء أهل المدينة وقادتهم، وقد كانوا بايعوه من قبل على أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وأهليهم، وإذا كان التخطيط والتدبير قد ظهرت دلائله في أرض المهجر، فإن الدلائل كانت أشد ظهورا في أرض الحدث نفسه مما ينفي أن تكون الهجرة قد حدثت اضطرارا من غير روية أو تدبير.
كانت هجرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - مفعمة بالعظات والعبر فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو في مكة إلى طاعة ربه حتى ضيق أهلها عليه واتفقوا على قتله ليتخلصوا منه، بعد أن أخفقت كل محاولاتهم من الإغراء أو التخويف والإيذاء، في إِثنائه عن تبليغ الدعوة التي ائتمنه الله عز وجل عليها، ورغم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو إلى ربه ولا يدعو إلى نفسه، ورغم أن الله تعالى قد أخبره بما مكر به الذين كفروا وأذن له في الهجرة، لكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يهاجر إلا بعد أن أعد العدة وأحكم الخطة لذلك أيما إحكام، فذهب إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه ليعلمه بأمر الهجرة في ساعة لم يكن يذهب إليه في مثلها حتى لا يفطن له أحد، وقال له :أَخْرِج من عندك حتى يحافظ على سرية الأمر، ثم استأجر رجلا خريتا أي ماهرا بالطرق ليكون دليله في الهجرة، وذهب في أول أمره في طريق اليمن ولم يذهب مباشرة في طريق المدينة، حتى يموِّه على المشركين ويغطي عنهم وجهته، واختبأ في غار ثور ثلاثة أيام حتى يهدأ الرَّصد ولم يواصل الرحلة، وكان يرسل من يأتيه بأخبار أهل مكة حتى يعرف خطتهم ليتصرف وهو على علم بما يدبرون، ولم يقل :إن الله معي-وهو معه حقا-فلا عليَّ أن آخذ بالأسباب، مما يبين أن العاملين لنصرة هذا الدين ينبغي عليهم الأخذ بالأسباب المعينة لهم، وإلا كانوا مقصرين ومن كان مقصرا فلا يلومن إلا نفسه، وقد بين الله تعالى أن رحمته قريب من المحسنين، فقال عز من قائل :"إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ" [الأعراف:56] فمن كان مقصرا فيما وجب عليه لم يكن من المحسنين.
وعندما أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتجهز لهذا السفر البعيد عرض عليه أبو بكر رضي الله تعالى عنه أن يعطيه دابة من عنده كان قد أعدها لمثل هذا اليوم، فأبى الرسول - صلى الله عليه وسلم - أخذها إلا بالثمن، تقول عائشة رضي الله تعالى عنها :"لقَلَّ يوم كان يأتي على النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا يأتي فيه بيت أبي بكر أحد طرفي النهار، فلما أُذن له في الخروج إلى المدينة لم يرعنا إلا وقد أتانا ظهرا، فخُبِّر به أبو بكر، فقال :ما جاءنا النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الساعة إلا لأمر حدث، فلما دخل عليه قال لأبي بكر :أخرج من عندك، قال :يا رسول الله إنما هما ابنتاي، يعني :عائشة وأسماء، قال :أشعرت أنه قد أُذن لي في الخروج؟ قال :الصحبة يا رسول الله، قال :الصحبة، قال يا رسول الله :إن عندي ناقتين أعددتهما للخروج فخذ إحداهما، قال :قد أخذتها بالثمن" ، وفي هذا ما يرشد على أن الداعي إلى الله يتحمل النفقات المادية التي تحتاج إليها دعوته ولا يحمل الآخرين حتى وإن بذلوها بطيب نفس، ما دام قادرا على ذلك حتى يتحصل له الأجر الكامل
والعاملون لدين الله تعالى يأتيهم من فضل وكراماته لهم وقت الشدة ما يخرجهم به من الورطات التي لا يملكون لها دفعا، لكن بعد أن يكونوا قد أخذوا بالأسباب المتاحة لهم حتى لا يكونوا مقصرين، وقد حدث هذا في قصة الهجرة، فمع كل هذه الاحتياطات التي أخذ بها الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا أن المشركين قد تمكنوا في نهاية الأمر من خلال حملة الاستنفار غير المسبوقة في البحث والتحري إلى أن يصلوا إلى مكان الغار الذي يختبئ فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه، ولو نظر أحدهم إلى أسفل قدميه لرآهما، وهنا يصرف الله تعالى أبصار المشركين عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه، ويسجل القرآن هذا المشهد الفريد ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسري عن أبي بكر ما أهمه، فيقول الله تعالى :"إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" [التوبة:40]، وبعدما عجزت قريش وأحست بعدم قدرتها على الوصول إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه جعلت لمن يدل عليهما أو يقبض عليهما جائزة كبيرة، فأخذ الناس يبحثون في كل واد وناحية، إلى أن تمكن أحد فرسان قريش من معرفة طريق الرسول ، لكن الله تعالى منعه منه قبل أن يلحق به، ويَعِدُه الرسول إن رد الرصد عنهم بجائزة فوق جائزة المشركين، يَعِده وهو في هذه الحالة بسواري كسرى ملك الفرس الذي كان يمثل ملك إحدى القوتين العظميين في ذلك الزمان، وهذا درس تربوي عظيم من دروس الهجرة فلا يكفي للمجاهد في سبيل الله سلامة المعتقد وحسن النية، والرغبة في نصر دين الإسلام، بل لا بد من الأخذ بالأسباب التي خلقها الله تعالى، فما خلقها الله وجعلها موصلة لمسبباتها إلا لكي يعمل بها الناس ويستفيدوا منها، وفي هذا درس آخر وهو بيان حقيقة التوكل فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان سيد المتوكلين، فالتوكل لا يعني إهمال الأسباب أو تركها، بل يأخذ المسلم بكل الأسباب الممكنة ويتوكل على الله، لأن الأسباب قد لا تنتج مسبباتها، فيحتاج المسلم إلى التوكل على الله في كل حين.
لقد كانت هجرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في سبيل الله فتحا عظيما ونصرا كبيرا، نصرا على شح النفس التي تميل دائما للارتباط بالأرض وعدم مغادرتها والتشبث بها، فكانت الهجرة إعلاء لقيم الدين على قيم التعلق بالوطن، فإن التعلق بالأوطان قد يوقع المسلم فيما يعرضه لسخط الله تعالى، فقد تمسك قوم من المسلمين الأوائل بالأوطان حتى منعتهم من الهجرة في سبيل الله، وقد اضطرتهم قيادات المشركين للخروج في الجيش المشرك ليكثروا أعداد المشركين في أعين المسلمين من غير أن يباشروا القتال حقيقة، فهم بذلك أقل ممن يعمل في الخطوط الخلفية أو الشؤون الإدارية بكثير بل لا نسبة بينهم ومع ذلك أنزل الله تعالى فيهم قوله :"إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً" [النساء:97]، وقد ضمن الله تبارك وتعالى لمن خرج من بيته مهاجرا إلى الله بدينه أن يوسع عليه، وأن أجره لا يضيع حتى لو حال الموت بينه وبين الهجرة، قال الله تعالى :"وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَّحِيماً"[النساء :100] .
كما كانت أيضا نصرا على الأعداء حيث تمكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بهذه الهجرة الموفقة أن يكسر الطوق الذي صنعه المشركون حول الدعوة، فتمكن من مقابلة الوفود من غير مضايقات ودعوتهم إلى الله تعالى وهذا مصداق قوله تعالى :" يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً"، وتمكنت الدعوة في مدة قصيرة أن تحقق من الفتوحات والانتصارات والاستجابة والانتشار ما لم يتحقق لها في مدة طويلة، حتى عمَّ الإسلام جزيرة العرب في ما لا يزيد عن عشر سنوات.
لقد ربَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جيل المهاجرين الأُوَل على العطاء غير المحدود فلما أذن لهم بالهجرة لم يتخلف عن ذلك أحد ممن آثر الله ورسوله والدار الآخرة، فلم يتعلق أحد منهم بأهل أو أموال أو ديار وقد سجل القرآن الكريم هذا المشهد العظيم فقال تعالى :"لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ" [الحشر :8]، والهجرة في سبيل الله شريعة محكمة غير منسوخة بل هي قائمة ما دام هناك من المسلمين من يُحارب في دينه، فيخرج المسلم إلى حيث يمكنه أن يعبد الله، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :"لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها" وقال - صلى الله عليه وسلم - :"لا تنقطع الهجرة ما قوتل العدو" وقال - صلى الله عليه وسلم - :"ستكون هجرة بعد هجرة، فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم ..." .
وقد بلغ من مكانة الهجرة وموقعها في الدين أن الله تعالى قد قطع ولاية التناصر بين المؤمنين وبين من آمن ولم يهاجر فقال تعالى :" َالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ"
إن حدث الهجرة يمثل معلما بارزا من معالم صناعة الأمة التي تستعلي بإيمانها على كل الروابط التي من شأنها أن تكبل انطلاقة الأمة الكبرى نحو السمو والكمال، ولا أحسب أن محاولة إعادة بناء الأمة لتحقق في عالم الواقع ما أنيط بها من المهام الجسام، يمكن أن تتم إلا عبر بناء الجيل المتخلق بأخلاق المهاجر إلى الله ورسوله، فهل حان الوقت لبروز هذا الجيل وتبوأ مكان الصدارة
ــــــــــــ(1/182)
خصائص العمران في المدن الإسلامية
للدكتور عبد المنعم حسنين
أستاذ بالدراسات العليا بالجامعة ورئيس شعبة الدعوة بها
تمهيد
كان شروق شمس الإسلام نقطة تحول في تاريخ المسلمين بخاصة، وفي تاريخ البشرية بعامة، لما أحدثه من تغيير جذري في حياة المسلمين، وفي مظاهر حضارتهم، ثم ما أحدثه في الحضارة الإنسانية في القرون التي تلت ذلك الحدث العظيم، وهو تغيير ستظل آثاره باقية إلى أن يرث اللّه الأرض ومن عليها.
وكانت هجرة خاتم الأنبياء والمرسلين- صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى يثرب بداية لقيام دولة المسلمين، بقيادة النبي الأمين في هذه المدينة الطيبة التي أصبحت القلب النابض في الدولة الإسلامية وصارت مركز إشعاع للدعوة الإسلامية، وسميت المدينة المنورة، وانتشرت منها أشعة شمس الإسلام، دين اللّه الحق، فاستضاء بنور الإسلام أَهل الأرض في كثير من أنحائها، فخرجوا من الظلمات إلى النور، وهدوا إلى سواء السبيل.
وكان من نتيجة ذلك التحول العظيم في مظاهر الحياة في المدينة المنورة، قاعدة الدولة الإِسلامية، بعد استقرار الرسول -صلى اللّه عليه وسلم- فيها، أَن أصبح للعمران في المدن الإسلامية بعد ذلك خصائص واضحة مميزة جديرة بأن يدرسها، ويهتم بها المشتغلون بتخطيط المدن، ويتبينوا آثارها في الحضارة الإسلامية.
وسأحاول في هذا البحث أن أبين أهم خصائص العمران في المدينة المنورة في عصر رسول اللّه -صلى اللّه عليه وسلم- وهي الخصائص التي ظهرت بوضوح في المدن الإسلامية الأخرى، بعد عصر الرسول في أنحاء العالم الإسلامي الكبير، حين اتسعت دولة الإسلام، وغلبت صبغته على مظاهر الحياة، عند كثير من شعوب العالم على اختلاف أماكن هذه الشعوب، وأجناسها وألوانها وألسنتها وبالله التوفيق.
أولا- المدينة قبل الإسلام:
كانت مدينة يثرب- التي تعد النموذج الأول والكامل للمدن الإسلامية- قبل الإسلام تقع في واحة خصيبة كثيرة العيون على الطريق التجاري بين اليمن والشام على بعد أكثر من أربعمائة كيلومتر من جهة الشمال من مكة المكرمة، وكانت تسكنها قبائل عربية قبل شروق شمس الإسلام.
وتفيد الأخبار التي وصلت إلى الدارسين أن قبائل العماليق سكنت مدينة يثرب واستقرت فيها، وهي قبائل تنتمي إلى العرب البائدة، وتدل الأخبار كذلك على حدوث هجرات يهودية إلى يثرب، وأن اليهود استطاعوا الانتصار على العماليق، مما مكنهم من النزول بيثرب والاستقرار فيها.وقد ذكرت كتب التاريخ أن الهجرات اليهودية إلى يثرب حدثت منذ عصر نبي اللّه موسى عليه السلام، ثم تتابعت في أوقات الغزو البابلي لفلسطين، ثم في أثناء احتلال الرومان لبيت المقدس، وبطشهم باليهود، وتدميرهم لهيكل نبي الله سليمان عليه السلام.
ومن المسلم به بين الدارسين أن اليهود سكنوا يثرب قبل الإسلام، فكان عدد من القبائل اليهودية يعيش في يثرب في الوقت الذي أشرقت فيه شمس الإسلام، وحين هاجر رسول الإسلام -صلى اللّه عليه وسلم- إلى هذه المدينة وأسس فيها دولة الإسلام، فأصبحت تسمى المدينة المنورة وظهرت فيها الخصائص المميزة للمدن الإسلامية في شتى أنحاء العالم.
ومن القبائل اليهودية التي كانت تسكن يثرب -وقت ظهور الإسلام- بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة، إلى جانب القبائل العربية الساكنة فيها، وكان أشهر هذه القبائل العربية الأوس والخزرج.
ومن المرجح أن اليهود سكنوا مدينة يثرب قبل أن يسكنها الأوس والخزرج، وأن اليهود كانوا يشتغلون بالزراعة ويملكون جزءاً من أراضي المدينة، ويقيمون الحصون والأطم ليحتموا بها، وليحفظوا بها حاصلاتهم الزراعية.
أما الأوس والخزرج فهم من قبائل الأزد اليمنية التي هاجرت من اليمن بعد تهدم سد مأرب واتجهت شمالاً، فأقام جزء منها في بادية العراق، وأقام جزء آخر في مكة، وواصل جزء ثالث منها سيره حتى بلغ بادية الشام فأقام فيها، ووصل جزء رابع إلى منطقة يثرب فأقام فيها، وكانت مضاربه بجوار اليهود، وكان الأوس والخزرج يشكلون أفراد ذلك الجزء الرابع من قبائل الأزد اليمنية الأصل، وكانوا يعرفون مدينة يثرب جيداً، لأنها تقع على الطريق التجاري بين اليمن والشام.
وكان اليهود ينظرون باستعلاء إلى الأوس والخزرج في بداية الأمر، ثم ما لبثوا أن حالفوهم، غير أن الأحوال تغيرت بعد ذلك، فقويت شوكة الأوس والخزرج، ورجحت كفتهم، بعد أن تغلبوا على اليهود، فأخذوا يملكون جزءاً من الأراضي الزراعية، ويبنون الحصون، فصارت لهم الكلمة العليا في المدينة وأخذ نفوذ اليهود في الضعف.
وتنافس الأوس والخزرج على السلطان، فظهر الشقاق بين صفوفهم، مما أدى إلى اشتعال نيران الحروب بين الطرفين، واستمرت هذه الحروب زمناً، وتبادل الطرفان النصر والهزيمة، واضطربت -في أثنائها- الأحوال في المدينة، فاستغل اليهود تمزق الصف العربي، وحالف بعضهم الأوس، بينما حالف بعضهم الآخر الخزرج، ليزيدوا الصف العربي تمزقاً وضعفاً، وليزيدوا الأحوال في المدينة اضطراباً، وظلت الأحوال مضطربة إلى وقت شروق شمس الإسلام في أوائل القرن السابع الميلادي.
وتفيد الأخبار المروية أن الصراع بين الأوس والخزرج ظل قائماً إلى وقت قريب من هجرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى مدينة يثرب، وأن يوم بعاث كان آخر مظاهر الصراع بين الطرفين، وكان ذلك قبل الهجرة النبوية بخمسة أعوام.
وكانت طبيعة مدينة يثرب الجغرافية تيسر الحياة فيها، حيث المياه وفيرة، والعيون كثيرة، والأرض خصبة، تجود فيها الزروع المختلفة، ويكثر فيها النخيل مما يجعل العيش فيها أكثر يسراً من العيش في مكة الشديدة الجفاف، لوجودها في واد غير ذي زرع، تحاصره الجبال، وتقل فيها المياه.
غير أن التكوين السكاني في مدينة يثرب قبل الإسلام لم يساعد على إيجاد تجانس بين سكانها الذين كانوا من اليهود والعرب، فلم يكن الوئام سائداً بين الطائفتين، كما أن العرب أنفسهم كانوا متخاصمين تكثر بينهم الحروب -كما ذكرنا- فانعدم الاستقرار في المدينة قبل الإسلام، وافتقدت التنظيم الإداري الصحيح الذي يجعل الطمأنينة تسود ربوعها، مما أثر في النواحي العمرانية فيها قبل هجرة الرسول -صلى اللّه عليه وسلم- إليها.
وهكذا أثر انعدام التجانس السكاني في المدينة قبل الهجرة النبوية في شكل العمران فيها، فكان سكانها يعيشون في وحدات منفصلة، وفي قبائل متنافرة تخشى كل منها الأخرى، وتبني الحصون لتحتمي بها إذا هوجمت، فلم تستطع المدينة قبل الإسلام منافسة مكة في التقدم والزعامة، برغم تيسر الحياة في المدينة لوجود الزراعة فيها، ووفرة المياه، لأن مكة كانت ذات تكوين سكاني يساعد على الاستقرار والتقدم، فكان أكثر سكانها من العرب تحب زعامة قريش، مما ساعد على تنظيم أمور الإدارة والحكم، كما ساعد وجود البيت الحرام بمكة على جعلها مهوى لنفوس العرب ومحل احترامهم جميعاً، مما أدى إلى نمو التجارة بهذه المدينة المقدسة، فقامت الأسواق فيها، للتعامل مع الوافدين إليها لزيارة الكعبة، فارتفع شأن مكة، وصارت لها الزعامة في شبه الجزيرة العربية بينما قل شأن مدينة يثرب لانعدام التجانس بين سكانها، وفقدانها التنظيم في الحكم والإدارة، وعدم وجود أماكن مقدسة فكانت لا تقوى على منافسة مكة في أهميتها وزعامتها.
وقد تغير هذا كله بعد هجرة الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة وتأسيس دولة الإسلام فيها، فأصبح للعمران فيها خصائص ظاهرة مميزة، وصارت هذه الخصائص واضحة في جميع المدن الإسلامية بعد عصر الرسول مما سنبينه فيما يلي:
ثانياً- المدينة بعد الإسلام:
كانت هجرة خاتم الأنبياء والمرسلين- صلوات الله وسلامه عليه- من مكة إلى مدينة يثرب أهم أحداث التاريخ الإِسلامي، لما كان لها من نتائج كثيرة في حياة المسلمين وتاريخهم ومظاهر حضارتهم بعامة، وفي المدينة وسائر المدن الإسلامية بخاصة، فقد ظهرت آثارها في التنظيم السكاني، وفي التنظيم العمراني، وفي جميع مظاهر الحياة بعد تأسيس الدولة الإسلامية في تلك المدينة المنورة.
فصارت مقراً لرسول اللّه -صلى اللّه عليه وسلم- ومركزاً لإشعاع الإسلام، دين اللّه ودين الحق الذي يزهق أمامه كل باطل، دين التوحيد، الذي يدعو إلى عبادة إله واحد لا شريك له، ويحارب الشرك والوثنية، دين المساواة، الذي لا يفرق بين الناس جميعاً، على اختلاف أجناسهم وألوانهم وألسنتهم وأمكنتهم ولا يفضل عربياً على أعجمي ولا أحمر على أسود إلا بالتقوى، لأن الناس جميعاً سواسية كأسنان المشط، فكلهم لآدم، وآدم من تراب، ولأنهم جميعاً مخلوقون من نفس واحدة كما قال اللّه الخالق سبحانه في أَول سورة النساء: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً}وقد جعل اللّه بحكمته الناس شعوباً وقبائل ليتعارفوا.
قال تعالى في سورة الحجرات: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}.
وعلى هذا الأساس تبدو أهمية هجرة الرسول -صلى الله عدية وسلم- إلى المدينة واتخاذها قاعدة لدولة الإسلام، فقد أدى هذا الأمر إلى إيجاد تغيرات جوهرية في هذه المدينة بعد أن هاجر الرسول إليها وهاجرت معه فئة قليلة، أخرج أَفرادها من ديارهم وأموالهم، فراراً بدينهم الحق، فأصبح على هؤلاء المهاجرين أَن يدبروا أمر معاشهم، في مقرهم الجديد بالمدينة، بعد أن تركوا ما يملكون في مكة ولم يلبثوا أن ظفروا برعاية اللّه وتوفيقه فارتفع شأنهم، وأَصابوا توفيقاً لم يصيبوا مثله في مكة وصارت لهم الغلبة والعزة لاتباعهم ما جاء في كتاب الله الكريم، وهدي الرسول ذي الخّلق العظيم، صلوات الله وسلامه عليه.
وكان اليهود في المدينة قبل الهجرة قد أعلنوا ما وجدوه في التوراة والإنجيل دالاً على بعثة رسول جديد، يدعو إلى التوحيد، ويختم به الأنبياء والمرسلون لأن اليهود كانوا أهل كتاب، فكانوا على يقين من بعثة رسول الإسلام، أما الأوس والخزرج فكانوا وثنيين، وكان اليهود يعيرونهم بوثنيتهم، فلما بعث الرسول -صلى الله عليه وسلم- ودعا الناس إلى الدخول في الإسلام، حتى يسعدوا في الدنيا والآخرة، كان الأوس والخزرج الوثنيون أكثر استعدادا لتقبله من اليهود الذين أعماهم الحقد عن رؤية الحق وأصم آذانهم الكره فلم يستمعوا إلى نداء رسول الهدى بل ناصبوه العداء، وكان الأوس والخزرج في وقت شروق شمس الإسلام أصحاب الكلمة العليا في المدينة برغم تناحرهم، فكانت استجابتهم لنداء الحق ودخولهم في الإسلام من العوامل الميسرة للرسول وللذين آمنوا معه أَن يهاجروا إلى المدينة دون أن يخشوا عداوة اليهود لهم، وكان وصول الرسول -صلى اللّه عليه وسلم- إلى المدينة، واتخاذها مقاماً ومقراً لدولة الإسلام إيذاناً ببدء تنظيم عمراني جديد ظهرت فيه صبغة الإسلام، وأصبحت له خصائص مميزة صارت واضحة ظاهرة في المدن الإسلامية بعد ذلك، وما زالت واضحة ظاهرة إلى يومنا هذا.
وكان المسلمون على قلة عددهم -وقت الهجرة- أقوياء بإيمانهم بالله، وثقتهم في نصره، وفي أنهم سيهزمون أعداء الله مهما كثروا، بعد أَن باعوا أنفسهم وأموالهم للّه عز وجل وأصبحوا يتوقون إلى الظفر بإحدى الحسنيين النصر أو الشهادة وهكذا أخذ مجتمع المدينة بعد الهجرة النبوية يتشكل على أَساس جديد من العقيدة يختلف اختلافاً جوهرياً عن مجتمعها قبل الهجرة، الأمر الذي ظهرت آثاره بوضوح في العمران في هذه المدينة المنورة الطيبة في عصر الرسول -صلى اللّه عليه وسلم- وقد أخذ الرسول الكريم بعد استقراره في المدينة يقيم دولة إسلامية تضم طوائف المدينة المختلفة دون تمييز بينها، فكان نظام الدولة من نوع جديد، لم يشهد له التاريخ مثيلا لأنه يقوم على أساس من الدين، الذي يقرر المساواة بين الناس جميعا ويكفل لهم حق الحياة الكريمة تحت ظله، ولا يكره أحداً على الدخول في الإسلام.
وهكذا طبقت الدولة الإسلامية منذ قيامها مبدأ المساواة في الحقوق والواجبات بين جميع أفراد الدولة على اختلاف أَجناسهم وألوانهم وعقائدهم، وأخذ الرسول -صلى الله عليه وسلم- ينظم الحياة في المدينة، وفقاً لمبادئ الإسلام القويمة. وكان سكان المدينة من الأوس والخزرج واليهود في حاجة إلى التوفيق بينهم، حتى تستقر الأحوال، ويختفي الاضطراب ويصفو الجو في المجتمع الجديد.
وكان نفر من الأوس والخزرج قد أسلموا قبل هجرة الرسول -صلى اللّه عليه وسلم- إلى المدينة، ووصف الذين لقوا الرسول منهم قومهم بأنهم في حالة فرقة وشقاق، مما أورده ابن هشام في سيرته، وذكر أنهم قالوا للنبي: "فإن يجمعهم اللّه عليه- أي على الإسلام- فلا رجل أعز منك".
ثم جاء المهاجرون من مكة إلى المدينة، فانضافوا إلى سكانها من الأوس والخزرج واليهود، مما جعل المدينة في حاجة إلى تنظيم سكاني جديد، وتخطيط عمراني، يهيئ لدولة الإسلام السبيل إلى التقدم، لهداية الضالين إلى صراط الله المستقيم، وحمل نعمة الإسلام إلى العالمين.
وقد نظم الرسول الكريم -بتوفيق من رب العالميين- الحياة في المجتمع الجديد في المدينة المنورة، وثبت قواعد العمران فيها بعد أن أصبح -صلوات الله وسلامه عليه- الإمام والقائد يبلغ الوحي، ويغرس الثبات والصبر واليقين في قلوب المؤمنين وهو في الوقت نفسه ينظم الحياة في مجتمع الدولة الإسلامية ويحكم في كل خلاف يشجر بين أفراد هذا المجتمع، وييسر أسباب الحياة للمهاجرين الذين تركوا ديارهم وأموالهم ابتغاء مرضاة الله، ونصرة لدين الحق الذي ارتضاه لعباده، وبعث به خاتم أنبيائه ورسله.
ومن الثابت أن المهاجرين استقبلوا استقبالاً حسناً من إخوانهم المسلمين في المدينة، غير أن إقامتهم واستقرارهم وتدبير معيشتهم، كانت من الأمور التي تحتاج إلى تنظيم في مدينة يشكل اليهود جزءاً من سكانها، ويضمرون للمسلمين الحقد والكره والشر، مما يجعل من المتوقع أن يظهر غدر اليهود بالمسلمين في وقت من الأوقات، ويدعو إلى أخذ الحيطة والحذر، كما أن الرسول -صلى اللّه عليه وسلم- ترك وراءه في مكة عدواً لدوداً من المشركين المنكرين لدين اللّه الحق، وكان هذا العدو يتربص بالمسلمين الدوائر ويبيت في نفسه العدوان، فكانت حماية المسلمين في المدينة من عدوانه تحتاج إلى تثبيت الجبهة الداخلية في المدينة، وبنائها بناءً قوياً يستطيع الصمود في وجه الخطر الخارجي المتوقع.
وقد عالج الرسول -صلى اللّه عليه وسلم- هذه الأمور جميعاً- بعد استقراره في المدينة- معالجة حكيمة، فنظم الحياة بين سكان المدينة تنظيماً يكفل لهم الاستقرار والتعاون فيما بينهم لصد الخطر الخارجي، وأرسى قواعد دولة إسلامية عظيمة لا مثيل لها في التاريخ، فأصبح للعمران في المدينة المنورة خصائص مميزة سنعرضها فيما يلي:
ثالثاً- خصائص العمران في المدينة:
نستطيع التعرف على خصائص العمران في المدينة المنورة في عصر الرسول -صلى اللّه عليه وسلم- إذا درسنا أَعمال الرسول الكريم بعد هجرته واستقراره في المدينة، وإقامته دولة الإسلام فيها.
وكان مجتمع المدينة يتكون من طائفتين واضحتين بعد الهجرة النبوية، طائفة المسلمين وطائفة غير المسلمين، وكانت طائفة المسلمين تتكون من المهاجرين الذين هاجروا مع الرسول من مكة إلى المدينة، ومن الذين أسلموا من أَهل المدينة من الأوس والخزرج، ومن الذين أسلموا من اليهود وهم قلة.
أما طائفة غير المسلمين فكان أكثر أفرادها من اليهود ثم من الذين لم يسلموا من الأوس والخزرج.
وقد حرص الرسول الكريم -صلوات الله وسلامه عليه- على توفير أسباب الحياة الآمنة المريحة لجميع سكان المدينة المنورة من مسلمين وغير مسلمين مع صبغ المجتمع بالصبغة الإسلامية، فجعل للعمران خصائص أهمها:
1- المسجد مركز تجمع المسلمين:
كان أول عمل قام به الرسول -صلى اللّه عليه وسلم- بعد استقراره في المدينة بناء المسجد، ليكون مكاناً يجتمع فيه المسلمون، وكان هذا العمل من جانب الرسول دليلا على أن بناء المسجد هو أول سمة من سمات المدن الإسلامية، وأول شيء يجب أن يبنى فيها، فهو أول خصيصة من خصائص العمران في ظل الإسلام، ولذلك بدأ الرسول الإمام القائد -صلى اللّه عليه وسلم- به في المدينة المنورة حين صارت مقراً له، وقاعدة للدولة الإسلامية، وقد صار هذا العمل أهم خصائص العمران في المدن الإسلامية في أنحاء العالم المختلفة، فكان أول عمل يقوم به قائد المسلمين المجاهدين بعد النصر والفتح بناء مسجد في المدينة المفتوحة، وقد فعل المسلمون هذا في كل مدينة يسر اللّه لهم فتحها سواء في بلاد الفرس أو في بلاد الهند أو في أي مكان آخر من العالم، تمكن المجاهدون المسلمون بفضل اللّه من الوصول إليه، وكان المسجد مركز تجمع المسلمين في العبادات، وفي الدراسة والتعلم، وفي المعاملات، كما كان المسجد مركز إشعاع، يشع منه نور الإسلام في المنطقة التي أشرقت عليها شمس الدين الحنيف.
لقد كان ما فعله الرسول -صلى اللّه عليه وسلم- بعد استقراره في المدينة المنورة بقليل سنة، اتبعها ولاة المسلمين وقادتهم بعد عصر الرسول الكريم، فقاموا ببناء المساجد في المدن الإسلامية وجعلوا بناء المسجد أول عمل يقومون به.
وكان المسجد هو المقر الذي اتخذه رسول اللّه -صلى اللّه عليه وسلم- في المدينة المنورة، وهو إمام المسلمين وقائدهم، لأنه المكان الذي تؤدى فيه جماعة المسلمين الصلوات والشعائر الدينية، وتتشاور فيه في شؤونها المختلفة، من حرب وسلم ومعاملات، وتستقبل فيه الوفود، فهو المكان الذي تتحد فيه القلوب، ويشعر فيه الجميع بأنهم في ضيافة الله سواسية لا فرق بين حاكم ومحكوم وغني وفقير وقوي وضعيف وعالم وجاهل، فالكل عبيد اللّه يرجون رحمته، ويخشون عقابه، ويدعونه ضارعين طالبين مغفرته ورضوانه، وهكذا تبدو أهمية البدء ببناء المسجد في المدينة الإسلامية وجعله الخصيصة الأولى من خصائص العمران في المدن الإسلامية.
2-إقامة ولي الأمر بجوار المسجد:
أما الخصيصة الثانية من خصائص العمران في المدن الإسلامية، فهي إقامة ولي الأمر بجوار المسجد، وقد فعل رسول اللّه -صلى اللّه عليه وسلم- هذا الأمر بعد استقراره في المدينة المنورة، فقد اتخذ مسكنه بجوار المسجد بعد بنائه، وكان صلوات اللّه وسلامه عليه يخرج من بيته إلى المسجد رأساً- كما ذكر ابن هشام في سيرته- فأصبح هذا الأمر تخطيطاً عمرانياً طبق في المدن الإسلامية بعد عصر الرسول -صلى الله عليه وسلم- اقتداءً به، وتطبيقا لسنته، فكان ولاة المسلمين يقومون ببناء المساجد أولاً ثم يبنون بيوتهم ودواوينهم بجوار المساجد، فكان مسكن الوالي في عاصمة ولايته بجوار المسجد.
وقد حقق هذا الأمر فائدة كبرى فقوى الصلة بين الراعي والرعية، ووثق الرابطة بين أفراد الجماعة الإسلامية، وزاد الألفة بينهم، فصار المؤمنون جسداً واحداً، يشعر كل عضو فيه بما يصيب العضو الآخر، وقوى بذلك بناء المجتمع الإسلامي، وأصبح مجتمعاً فريداً، لم يشهد له التاريخ مثيلاً في سمو الخلق، وصلة الرحم، وانتشار التراحم والتعاطف والود بين أفراد المجتمع بحيث يحب الواحد منهم لأخيه ما يحبه لنفسه، بل قد يؤثر أخاه على نفسه لأنه يراقب اللّه في كل أعماله، ويرجو بها ثواب الله ويخشى عقابه.
2- العقيدة تحدد مكان الإقامة:
والخصيصة الثالثة من خصائص العمران الإسلامية هي تحديد مكان الإقامة في المدينة الإسلامية على أساس العقيدة، وقد اتضح هذا الأمر منذ استقرار الرسول الكريم -صلى اللّه عليه وسلم- في المدينة المنورة، واتخاذها قاعدة لدولة الإسلام.
وكان المسلمون في المدينة يتكونون من المهاجرين الوافدين مع رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ومن الذين أسلموا من سكان المدينة الأصليين من الأوس والخزرج وبعض اليهود وهم الذين سموا الأنصار، لأنهم هم الذين آووا المهاجرين من مكة ونصروهم.، بعد أن تركوا ديارهم وأموالهم وأصبحوا في حاجة إلى ضمان معيشتهم في المدينة المنورة.
وقد أحسن المسلمون من سكان المدينة الأصليين استقبال إخوانهم المهاجرين وأعطوهم شيئاً من المال، كما سمحوا لهم بالتجارة والزراعة، فعمل بعض المهاجرين في مزارع إخوانهم الأنصار مزارعة، واستطاع المهاجرون بذلك أن ينظموا أمور معيشتهم.
وهكذا أصبحت العقيدة هي الأساس الذي قام عليه التنظيم العمراني في المدينة المنورة في عصر الرسول - - صلى الله عليه وسلم - - وصار مبدأ الأخوة الإسلامية هو السائد في المجتمع الإسلامي وهو المبدأ الذي قرره اللّه جل وعلا في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} وقرره الرسول الكريم- صلى الله عليه وسلم- في قوله "المسلم أخو المسلم" وبهذا أصبحت رابطة العقيدة أقوى من رابطة الدم، لأن لحمة الدم فشلت - قبل الإسلام في التأليف بين قلوب سكان المدينة الأصليين - كما ذكرنا - فأحل الإسلام محلها رابطة العقيدة، وجعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- هذه الرابطة خصيصة من خصائص التنظيم العمراني في قاعدة دولة الإسلام، ثم أصبحت خصيصة من خصائص العمران في المدن الإسلامية بعد عصر الرسول.
وكانت رابطة العقيدة هي التي أصلح بها الرسول - صلى الله عليه وسلم - - بين الأوس والخزرج، وجمعهم في اسم واحد هو الأنصار، فبعدت عنهم روح العصبية، وتآلفوا لنصرة دين الله الحق الذي أنعم اللّه به عليهم، وصار ذلك الاسم علماً عليهم، فعرفوا جميعاً به.
كما ألف الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - برابطة العقيدة بين المهاجرين والأنصار، وجعل المؤاخاة هي الأساس الذي يبنى عليه التآلف، فجعل كل رجل من المهاجرين يؤاخي رجلاً من الأنصار، فيصير الرجلان أخوين، تربط بينهما المؤاخاة برباط كرباط الدم.
وقد حققت المؤاخاة الهدف المنشود، فألفت بين قلوب المسلمين جميعاً في المدينة المنورة من مهاجرين وأنصار، فكان رباط العقيدة أقوى أسس التنظيم العمراني في المدن الإسلامية في مختلف العصور.
4- تنظيم العمران والحياة وفقاً لدستور:(1/183)
وكانت الخصيصة الرابعة من خصائص العمران في المدن الإسلامية تنظيم العمران والحياة على أسس قويمة وفقاً لدستور، يستمد مبادئه من كتاب الله جل وعلا، ومن هدى الرسول -صلى الله عليه وسلم- كما حدث في المدينة المنورة، بعد الهجرة النبوية، واستقرار المسلمين فيها، واتخاذها قاعدة لدولة الإسلام فقد آخى الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - بين المسلمين على اختلاف قبائلهم ثم حدد العلاقات بين المسلمين وغير المسلمين من سكان المدينة المنورة من ناحية، وبين سكان المدينة من مسلمين وغير مسلمين وسكان شبه الجزيرة العربية خارج المدينة المنورة من ناحية أخرى، وكتب الرسول - صلى الله عليه وسلم- صحيفة لتحديد هذه العلاقات وتوضيحها وتنظيم العمران والحياة، في قاعدة دولة الإسلام، ثم في المدن الإسلامية بعد ذلك.
وكانت هذه الصحيفة دستوراً مكتوباً، يقوم على أساس من العلم بأحوال الناس والفهم الدقيق لظروفهم، ويقرر العلاج الناجع لاستمرار حياتهم واستقرارها.
وقد كتبت الصحيفة بعد استقرار الرسول - صلى الله عليه وسلم - في المدينة المنورة وحدد الرسول الكريم فيها العلاقات بين سكان المدينة من المهاجرين والأنصار واليهود، وبينهم وبين الذين يحيطون بهم من سكان العالم حينذاك، وكانت كتابتها بعد العام الأول من الهجرة النبوية، أي بعد إقامة الدولة الإسلامية فأصبحت من الوثائق ذات الأهمية البالغة، اللازمة لفهم الأحداث التي وقعت بعد كتابتها، ولتوضيح خصائص العمران في المدينة المنورة في عصر الرسول - صلى اللّه عليه وسلم- وفي المدن الإسلامية جميعها بعد ذلك.
أما سكان المدينة المنورة في عصر الرسول الكريم فكانوا طائفتين طائفة المسلمين الذين دخلوا في دين اللّه الحق واستجابوا لدعوة الرسول- صلى اللّه عليه وسلم- من المهاجرين والأنصار الذين ربطت كلمة التوحيد بين قلوبهم فصاروا يكونون أمة الإسلام، التي تحمل أَمانة الدعوة إلى دين اللّه الحق، وتجاهد في الله حق جهاده، حتى تصير كلمة اللّه هي العليا فتنتشر أشعة شمس الإسلام في أرجاء العالم المختلفة، وقد حددت الصحيفة الصلات بين المسلم وأخيه المسلم والعلاقات بين المسلمين وغير المسلمين من سكان المدينة الذين هم أَفراد الطائفة الثانية، وبينت الحقوق والواجبات بالنسبة للجميع.
وقد أورد ابن إسحاق في سيرته نص هذه الصحيفة، وسجل هذه الوثيقة القيمة المنظمة للعمران والحياة في المدينة فهي تكفل للسكان من غير المسلمين- وأكثرهم من اليهود- حقوقهم وتبين ما عليهم من واجبات، فقد وادع الرسول الكريم في تلك الصحيفة اليهود وأقرهم على دينهم وأموالهم كما جعل عليهم الاشتراك مع المسلمين في مواجهة الظروف الإقتصادية الصعبة إذا وجدت، وفي صد العدو الخارجي إذا هاجم المدينة، غير أن اليهود غدروا وتآمروا على الرسول -صلى اللّه عليه وسلم- وعلى جماعة المسلمين، فكان إخراجهم من المدينة في عصر الرسول الكريم جزاءً وفاقاً لهم، وكان لهذا الأمر أثره في المدينة المنورة منذ ذلك الوقت إلى يومنا هذا.
وكانت نصوص الصحيفة مستمدة مما جاء في القرآن الكريم، فنصت على أن المسلمين أمة واحدة، وأن هذه الأمة خير أَمة أخرجت للناس، لقول اللّه تعالى في سورة آل عمران: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه}.
وحثت الصحيفة المسلمين على التراحم والتعاون بينهم مصداقاً لقول اللّه عز وجل في سورة الأنفال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْض}.
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ} كما دعت الصحيفة إلى مراعاة حقوق القربى والصحبة والجوار تطبيقاً لقول اللّه سبحانه في سورة النساء: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ..}.
ودعت الصحيفة كذلك إلى التمسك برباط الولاء ومراعاة حقوق الموالاة، امتثالاً لأمر الله عز وجل في سورة النساء: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً}. كما دعت إلى مراقبة الله في كل عمل، لأن الإنسان سيحاسب على الصغيرة والكبيرة، كما قال الله عز وجل في سورة الزلزلة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} ولا يخفى ما لهذا من أثر في الحياة والعمران.
ودعت الصحيفة كذلك إلى ترك عادات الجاهلية، ورد الأمور إلى الله ورسوله والإلتزام بحكم اللّه ورسوله في كل أمر، امتثالاً لأمر اللّه سبحانه في قوله في سورة النساء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}.
وهكذا قام المجتمع الإسلامي في المدينة المنورة - التي أسست فيها دولة الإسلام- على أسس ثابتة من تقوى اللّه، ومن المبادئ القويمة التي جاء بها الإسلام في كتاب اللّه الكريم.
وفي قول الرسول وعمله، وكان لهذأ أثر واضح في طبيعة العمران وخصائصه في المدينة المنورة، وفي سائر المدن الإسلامية في عصور قوة المسلمين، والتزامهم بمبادئ دينهم الحق القويم.
وواضح أن خصائص العمران في ظل الإسلام، قد تغيرت تغيراً جوهرياً عن خصائصه قبل الإسلام، فقد جعل الإسلام المسلمين جميعا أمة واحدة يتساوى أفرادها في الحقوق والواجبات، و بذلك أصبح الإسلام يجب ما قبله، وصار الشعار والدثار لسائر المسلمين.
وكانت أمة الإسلام في المدينة المنورة أمة فاضلة، تراقب الله في أعمالها فلا تبدأ بالعدوان، بل تحب السلام، وتحمي الجار وتنصر المظلوم، وتلتزم بالعهد، وتفي بالوعد، وكانت تضم المسلمين وغير المسلمين الذين أدمجوا في الأمة بنص صريح في الصحيفة، وكان المسلمون بقيادة الرسول- صلى اللّه عليه وسلم- هم قلب هذه الأمة النابض بالحياة والحركة وكانت الأمة تزداد قوة، كلما أزداد الدين انتشاراً.
وقد حرصت الأمة الإسلامية على استقرار الحياة والعمران في المدينة المنورة، ومنع نشوب الحروب الداخلية، وأوجبت تحكيم الرسول في كل ما يشجر من خلاف، والتسليم بما يقضى به، وتطبيق مبدأ العقاب بالمثل فالنفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص تنفيذاً لأمر الله عز وجل الذي جاء في سورة المائدة، مما ساعد على أستتاب الأمن والسلام في منطقة المدينة المنورة.
كما أوجبت الصحيفة على أهل المدينة جميعاً أن يتحدوا لصد أي عدوان يتهدد المدينة من خارجها، فتكامل بذلك نظام الأمة، وصارت الهجرة إلى المدينة شرطاً للحصول على رعاية الدولة الإسلامية، تطبيقاً لقول اللّه تعالى في سورة الأنفال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ}.
5- حماية المدينة من الغزو الخارجي والتمرد الداخلي:
أما الخصيصة الخامسة من خصائص العمران في المدن الإسلامية فهي حمايتها من الغزو الخارجي والتمرد الداخلي. وقد ظهرت هذه الخصيصة في الدولة الإسلامية منذ قيامها في عصر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعد أن وجدت فيها أداة للحكم وضم إليها ما حولها من القبائل ومن المناطق الزراعية التي تمدها بالمؤن، فقد وجه الرسول - صلى الله عليه وسلم- سرايا عديدة من المدينة إلى ما حولها، وكانت السرايا حملات حربية صغيرة تهدف إلى تأمين الحدود واستكشاف ما حول المدينة، ورد أي عدو مجاور، وكان عدد هذه السرايا ثماني سرايا، أرسلت قبل غزوة بدر، وقاد الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعضها بنفسه، وقاد أَصحابه البعض الآخر.
وكان من نتيجتها عقد أحلاف مع القبائل المجاورة، لتأمين المدينة من غارات البدو عليها ومنع أي غزو خارجي عنها، حتى تستقر الحياة والعمران فيها، فتقوى الجبهة الداخلية على صد أي هجوم يأتي من خارج المدينة وبخاصة من جانب قريش التي منعت السرايا مرور تجارتها في أراضي الدولة الإسلامية، وأَظهرت أن حدود الدولة محروسة كما أصلح الرسول في تلك الأثناء بين الأوس والخزرج حين دب النزاع بينهم بتحريض من اليهود، حتى يكون الإخاء والتماسك بين المسلمين عوناً لهم على الانتصار على أعدائهم في الدين.
وهكذا قام العمران في المدينة المنورة ثم في سائر المدن الإسلامية على مبادئ قويمة من الأخوة في الدين والسلام بين المقيمين داخل حدود دولة المسلمين، والضرب على أيدي الخائنين والمعتدين، ونشر الدين بالإقناع لا بالإكراه، والجهاد في سبيل اللّه للدفاع عن دينه الحق ولإعزاز أَمة الإسلام التي جعلها اللّه خير أمة أخرجت للناس حتى تواصل حمل نعمة الإسلام - التي أنعم اللّه بها عليها- لإيصالها إلى الحيارى الضالين من أفراد البشر في سائر أنحاء العالم، أداء لزكاة النعمة التي أنعم الله بها على هؤلاء المؤمنين.
خاتمة:
هذه دراسة سريعة موجزة لخصائص العمران في المدينة المنورة في عصر رسول اللّه -صلى اللّه عليه وسلم- وهي القاعدة الأولى لدولة الإسلام ومركز الإشعاع الذي انتشرت منه أَشعة شمس الإسلام إلى أرجاء العالم المختلفة فهدت شعوباً كثيرة إلى صراط اللّه المستقيم ودخل الناس في دين الله الحق على اختلاف ألوانهم وأجناسهم وألسنتهم فنعموا بنعمة الإسلام، الذي لا يقبل من أَحد دين غيره لقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}.
ونستطيع من هذه الدراسة أن نتبين أَبرز خصائص العمران في المدن الإسلامية على مر العصور وهي خمس خصائص:
أولها: بناء المسجد وجعله مركزاً للحياة الإسلامية، تؤدى فيه الصلوات والشعائر الدينية، ويتلقى فيه المسلمون العلم، ويتدارسون أمورهم.
وثانيها: إقامة ولي الأمر بجوار المسجد وبناء بيوت الولاة ودواوينهم حوله لتقوية الرابطة بين الراعي والرعية ومراقبتهم جميعاً للّه في كل عمل.
وثالثها: إقامة التنظيم العمراني على أساس العقيدة، والتأليف بين المسلمين جميعاً على هذا الأساس، وإزالة الفوارق بينهم بالمؤاخاة بينهم لإبعاد روح العصبية والإتحاد صفاً واحداً لنصرة دين اللّه الحق..
ورابعها: تنظيم الحياة وفقاً لدستور يحدد العلاقات بين المسلمين وغير المسلمين من سكان دولة الإسلام وبين هؤلاء السكان وبين جيرانهم خارج حدود الدولة على أن يكون هذا الدستور مكتوبا ومستمداً من كتاب اللّه، وعمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإخراج الخائنين للعهد من بلاد المسلمين.
وخامسها: حماية بلاد المسلمين من التمرد الداخلي والغزو الخارجي بالإصلاح بين المتنازعين، وقتال المعتدين، والجهاد في سبيل الله، لنصرة دينه الحق، ونشره في الآفاق.
وإن أَوضح دليل على التمسك بمبادئ الإسلام هو الحفاظ على هذه الخصائص في المدن الإسلامية، بحيث تظهر في تخطيطها وتنظيمها وتبقى واضحة إلى أن يرث اللّه الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين.
والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته واهتدى بهديه إلى يوم الدين.
ــــــــــــ(1/184)
وقفة مع نهاية العام الهجري 1425هـ
إن الحمد لله نحمده و نستعينه و نستهديه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ،ومن يضلل فلا هادي له ، و أشهد أن لا اله إلا الله واشهد أن محمد عبده و رسوله - صلى الله عليه وسلم - ... أما بعد:
أخي الحبيب، لقد وقفت أمام يوميتي لأنزع آخر ورقة بها ، آخر يوم من عمر العام المنصرم 1425هـ ، و على غير عادتي تثاقلت يدي هذه المرة و هي تمتد إليها ، و انتابني إحساس نبه في وجداني شعوراً ، ما كنت أعيره إهتماماً على مدى أكثر من 350 يوماً قد انتهت ، لقد أحسست بإشفاق عليها ، و قد تراءت لي كأنها تحتضر ، و ترنو إلى يدي في فزع وذل ، كأنها تطلب مني أن أمهلها لحظات تودّع فيها هذه الحياة ، فعدلت عن نزعها ، و رحت أتأمل هذه الورقة الأخيرة ، و اعترتني رهبة عندما عرفت أنني في الحقيقية بنزعها قد نزعت حزمة من أيام عمري ، لأطوي بها سجلي الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة ، وبما فيها من خير وشر .
أخي الحبيب، إن هذه اليومية المحتضرة تشبه عمر أي مخلوق ، وإنها تتناقص أيامها مثلما تتناقص أعمارنا يوماً بعد يوم ، وكما يتناقص بتراكمات الحقب والسنين عمرُ الزمان ، وكل المخلوقات في تناقص مطرد حتى تنتهي إلى الزوال (كل من عليها فان *ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام) ، إن كل المخلوقات تنتهي أعمارها ، و تمضي حيث شاء الله لها ، و تطوى ، إلا هذا المخلوق (الإنسان) فإنه الوحيد الذي يبقى متبوعاً بعد رحيله من هذه الدنيا ، وموقوفاً للحساب والجزاء .
عدت من ذهولي ، و أخذت استحث ذاكرتي القاصرة ، علّها تسترجع بعض ما رسب وعلق بها من أحداث العام المنصرم ، قبل أن تغمرها دوائر النسيان ، و وقفت طويلاً أستعرض ذلك الشريط الطويل (العمر) ، يا سبحان الله العظيم ، إنه شريط عجيب حقاً ، فقد اكتظ اكتظاظاً ، و أفعم إفعاماً ، لقد اكتظ بالحوادث المختلفة ، و الأحداث المتابينة ، و الأعمال الحقيرة والجليلة ، عنّي و عن غيري ممن لا حصر لهم ، من الذين مرّوا أمام عدسة هذا الشريط بالصوت والصورة .
لقد تذكرت هجرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وما كان فيها من أحداث ، وما أحوجنا - أخي الحبيب - و نحن نستقبل عاماً هجرياً جديداً أن نعيش بقلوبنا و عقولنا و مشاعرنا وواقعنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هجرته من مكة المكرمة إلي المدينة المنورة و التى حوت على الكثير من الدروس والعبر منها على سبيل المثال لا الحصر ، قيمة الزمن وأهميته .
فلقد جاهد النبي - صلى الله عليه وسلم - في سبيل الله حق الجهاد ، منذ أنزل الله عليه قوله تعالى : (يا أيها المدثر قم فأنذر و ربك فكبر ، و ثيابك فطهر) ، فكان - صلى الله عليه وسلم - يواصل الليل مع النهار و السر مع الإعلان ، و ما كان يخشى في الله لومة لائم ، و لا كان يردعه عن تبليغ الدعوة تهديد قريش و وعيدها .
و استجاب له منذ البداية صدّيق الأمة أبو بكر من الرجال ، و من الصبيان علي بن أبى طالب ، و من النساء زوجته خديجة بنت خويلد . و استجاب لأبى بكر :- عثمان بن عفان ، و طلحة بن عبيد الله ، و سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم جميعا و أرضاهم .
و تعهد - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بالتربية و التعليم فكان يجمعهم في دار الأرقم بن أبي الأرقم فيعلمهم ما ينز ل عليه من القران الكريم ، و يأمرهم بحسن الأخلاق و يحذرهم من الفسق و الشرك و العصيان ، وكان - صلى الله عليه وسلم - قدوة لهم في جميع أقواله وافعاله.
و كان للوقت قيمة كبرى عندهم ، فكانوا يستغلون أوقاتهم في طاعة الله و في التزود من علم الرسول - صلى الله عليه وسلم - و فضله ، وكانت العقيدة في نفوسهم أهم من المال و الأهل و الولد ، و عندما خيّروا بين الوطن و القبيلة و رغد الحياة و بين خشونة العيش و الغربة و التشرد اختاروا صحبة رسول الله والهجرة في سيل الله .
لقد صدق الصحابة رضوان الله عليهم ما عاهدوا الله عليه ، و عندما ابتلاهم الله صبروا وضربوا أروع الأمثلة في الفداء والتضحية ، و عندما نادى منادي الجهاد كانوا يتسابقون على الموت في سبيل الله ولسان حالهم يقول (وعجلتُ إليك ربي لترضى) .
و بعد ثلاثة عشر عاماً من البذل و التضحية أكرم الله جل وعلا محمداً - صلى الله عليه وسلم - و أصحابه رضي الله عنهم ،
بالنصر وجاءهم من جهة المدينة .
13 عاماً كانت محسوبة بأيامها و لياليها و ساعاتها .
13عاماً لا يهنأ المسلمون فيها بلذيذ الطعام والشراب ، و لا يصرفهم عن ذكر الله حب الدنيا و التثاقل إلى الأرض .
13 عاماً من العمل الجاد ، و التخطيط الدقيق ، والتربية الرائعة .
فأين نحن اليوم - أخي الحبيب - من سيرة الرسول وأصحابه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم .
لقد انسلخ عام كامل من أعمارنا .. انسلخ بثوانيه ودقائقه وساعاته و أيامه ، فماذا قدمنا فيه من أعمال صالحة ندخرها ليوم تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد .
إن الجواب أخي الحبيب على هذا السؤال مخجل ومخجل جدا ، و لكن لابد من الاعتراف بالأمر الواقع ، فالواحد منا يخرج من بيته في الصباح الباكر ، ويمضي سحابة يومه في مدرسته أو جامعته أو عمله ، و يعود إلى بيته آخر النهار وقد أضناه التعب فيتناول طعام الغداء ويرتاح قليلاً ثم يمضي بقية اليوم وأول الليل في المذاكرة أو قضاء الأمور المعيشية ، ثم ينام ، ثم يعود في الصباح و هكذا و هكذا ، إنها و الله حياة ليست فيها دقائق مخصصة لقراءة القرآن و لتعلم أحكام ديننا و ليست فيها دقائق مخصصة لقيام الليل و صلاة السنن و النوافل و ليست فيها دقائق مخصصة لحضور مجالس الذكر و المحاضرات وليست فيها أيام لصيام الاثنين والخميس وليست فيها دقائق لبذل المعروف وقضاء حوائج الناس .
أخي الحبيب، لقد شغلتنا دنيانا عن طاعة ربنا ، ونحن الذين حذرنا جل و علا منها ، قال تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ {9} وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ {10} وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } .
وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول : (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح و إذا أصبحت فلا تنتظر المساء ، وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك) رواه البخاري .
وقال - صلى الله عليه وسلم - (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع : عن عمره فيم أفناه ، و عن شبابه فيم ابلاه ، وعن ماله من أين اكتسبه و فيم أنفقه ، و عن علمه ماذا عمل به) السلسلة الصحيحة (946) .
سوف يسألنا مالك يوم الدين يوم الحشر عن أعمارنا ، هل أفنيناها في الأعمال الصالحة والطاعات ، أم أفنيناها في اللهو والغفلة والعبث .ويسألنا سبحانه وتعالى عن أجسامنا هل أبليناها بالصيام والقيام وغض البصر وحفظ السمع واللسان ، أم أبليناها في تناول ما لذ و طاب من الطعام والشراب .و السائل جلّ وعلا يعرف خفايا أمورنا ، و لا يعجزه شي ء في الأرض و لا في السماء .
قال تعالى : (ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم) .
أخي الحبيب، إن الكثير من أبناء المسلمين في معظم البلاد العربية و الإسلامية يحتفلون بذكرى الهجرة في كل سنة ، ولكن للأسف الشديد القليل جداً منهم الذي يعرف الحكمة التي انطوت عليها حادثة الهجرة ، فالله عز وجل في كتابه العزيز قد انحى باللائمة على جماعة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا في مكة يصلون و يصومون فقط ، و لا يستطيعون أن يفعلوا أكثر من ذلك من مظا هر الدين لأنهم كانوا تحت سلطة قريش و لا قوة لهم عليها ، ثم هم لم يهاجروا إلى قلعة الإسلام ليكونوا من جنودها ويظهروا شعائر دينهم بكل راحة ، فأنزل الله فيهم قوله تعالى: (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنّا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا) .
فالحكمة أخي الحبيب من الهجرة هي أن الإسلام لا يكتفي من أهله بالصلاة و الصوم فقط ، بل يريد منهم مع ذلك أن يطبقوا كل أوامر الله عز وجل و أوامر رسوله - صلى الله عليه وسلم - الظاهرة والباطنة في أنفسهم وفي كل أمور حياتهم اليومية كما قال تعالى : (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة و لا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين) و السلم هو الإسلام ، و قال تعالى : (قل إن صلاتي و نسكي و محياي ومماتي لله رب العالمين) .
أخي الحبيب، إن الهجرة باقية لم تنتهي بعد ، فقد قال - صلى الله عليه وسلم - : (لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ، و لا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها) رواه ابوداود و النسائي ، صحيح الإرواء ( 1208 ) .
و عن عبد الله بن عمير عن أبيه عن جده ، أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أفضل الهجرة ؟ قال : (من هجر ما حرم الله) . مشكاه المصابيح ( 3833 ) .
و قال - صلى الله عليه وسلم - في حجه الوداع : (ألا أخبركم بالمؤمن ؟ من أمنه الناس على أموالهم و أنفسهم . و المسلم ؟ من سلم الناس من لسانه ويده . و المجاهد ؟ من جاهد نفسه في طاعة الله . و المهاجر ؟ ( وهنا الشاهد ) من هجر الخطايا و الذنوب) السلسلة الصحيحة (549) .
فلابد من الهجرة من ترك الصلاة مع الجماعة و النوم عن الصلوات إلى الصلاة على وقتها مع الجماعة في الصف الأول . و لابد من الهجرة من قراءة المجلات والجرائد التافهة إلى قراءة القرآن الكريم و تدبر آياته .
و لابد من الهجرة من سماع الأغاني و التلذذ بالغيبة إلى سماع القرآن والمحاضرات المفيدة .
ولابد من الهجرة من النظر المحرم في المجلات و الأسواق و القنوات إلى النظر في كتاب الله و سنه رسوله و سيرته و عظمة الله في مخلوقاته .
ولا بد من الهجرة من الكذب و الغيبة و الكلام البذيء إلى ذكر الله عز وجل و دعائه و التلذذ بمناجاته .
ولا بد من الهجرة من الجلسات الفارغة و التافهة إلى مجالس الذكر و حضور المحاضرات النافعة .
ولا بد من الهجرة من أصدقاء السوء سواء ً كانوا من الأقارب أو من زملاء الدراسة والعمل ، الذين يصدون الإنسان عن سلوك طريق الالتزام والهداية ، إلى الإخوة الصالحين الذين يدلون على الخير و يعينون المسلم عليه .
وباختصار لا بد من الهجرة من كل ما يغضب الله ، إلى كل ما يرضي الله ، و من كل معصية يبغضها الله إلى كل طاعة يحبها الله .
أخي الحبيب، أن بداية العام الهجري الجديد فرصة لكل واحد منّا لكي يفتح صفحة جديدة مع الله عز و جل ، صفحة بيضاء نقية ، يعاهد الله فيها أن يسلك طريق الالتزام و الهداية ، يعاهد الله فيها أن يكون كتاب الله عز وجل جليسه ، و ذكر الله عز و جل أنيسه ، و قيام الليل و صيام النهار سبيله ، و الأخ الصالح في الله نديمه .
صفحة يعاهد الله فيها أن يترك كل معصية تبغضه ، و كل أغنية ماجنة من القرآن تحبسه ، و كل نظرة محرمة للقلب تقتله ، وكل جليس سيئ من الله يبعده .
بهذا و هذا وحده نحيي ذكرى الهجرة الشريفة ، و نحقق مقاصدها ، و هذا هو الفلاح الذي يدعونا إليه المؤذن خمس مرات في كل يوم عندما يدعونا إلى الوقوف بين يدي الله عز و جل .
اللهم أجعل عامنا القادم أفضل من عامنا الماضي بتوفيقنا لطاعتك و ترك معصيتك يا رب العالمين ، اللهم اجعل عامنا القادم فرصة لقبولنا في قافلة العائدين إليك والمنيبين إليك يا ذا الجلال و الإكرام ، و صلى الله على نبينا محمد و على آله و صحبه و سلم
ــــــــــــ(1/185)
مفهوم الهجرة من .. إلى ..
حمزة الحمزاوي
باحث تربوي
مع دخولنا عام هجري جديد .. جلست متأملاً متسائلاً .. كيف يمكن أن أستفيد وأفيد من مفهوم الهجرة بشكل واقعي معاصر بعد أن أرشف هذا المفهوم في سجل التاريخية ليس إلا .. وبعد أن حصر في ترجمة الانتقال المكاني بهجر الأرض ومتعلقاتها من المال و الولد وسواها .. لذا لابد بداية أن أشير إلى عدة نقاط أبرزه مايلي قبل أن أبسط ما توصلت إليه من مقترحات عملية .
1- الهجرة بين النفي والإثبات :
لعل الفهم الخاطئ لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصحيح : (( لاهجرة بعد الفتح ... )) هو الذي أسهم في تكوين هذه الذهنية التقليدية وعدم تطوير مفهوم الهجرة ولكن المطَّلع المتبصِّر على مجمل النصوص الواردة في لفظ (( هجر ))
يجد في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منفذاً جديداً وبعداً آخر يوضح مفهوم الهجرة العام الذي لا ينقضي ما دامت السموات والأرض قائمة على أصولها .. ألا وهو حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه ... ))
2- هجرة المكان إلى هجر المكانة :
ومما يتضح في النصين السابقين أن هنالك الهجرة المكانية المعنية في النص الأول بينما هناك إشارة واضحة إلى هجرة المكانة أي من مكانة المعصية والانحراف إلى مكانة الطاعة والالتزام وهكذا .
3- الهجرة من .. إلى :
فإذا استقر في ذهننا إثبات الهجرة وبقائها في مفهومها ( المكاني ) فلابد من مستلزمات الهجرة من إمكانية التحول من ... إلى .. أي من المعصية إلى الطاعة من الخطأ إلى الصواب من الباطل إلى الحق ... ويبقى صحة المسار تدل عليه النيات في مبتدأ الأعمال (( فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها ... ..فهجرته إلى ما هاجر إليه ... .))
4- هجرة (( المعاصي )) :
وحتى يتضح هذا المفهوم الجديد كان لابد من أن أعرج إلى المعصية لأعرفها بان يأمرك الله فلا تنقاد ولا تأتمر وأن ينهاك فتنتهك ... وأن يسكت عن أشياء رحمة بك ... فتتجاوز في استغلالك لهذا السكوت وتبالغ في صرف وقتك ومالك وصحتك في هذا المباح أصلاً لينقلب إلى ضده .
فكما هو معلوم أن مدار أفعال العبد المكلف مقسومة إلى واجب وحرام مندوب ومكروه .. ومباح .. وحتى المباح ينصرف بالنتيجة إلى إحدى الأشكال الأربعة السابقة في حال سوء استخدام هذا المباح .
ومن ثم لابد من أن نفهم أن أوامر ونواهي والله .. تشمل كل من علاقة الإنسان بالله و الحياة و الإنسان .
وبالتالي جدير بالحصيف المفكر .. أن يجلس ساعة صفاء مع الله .. ويختلي بنفسه عن باقي المخلوقات ... ويحصر ذهنه في جملة الأوامر التي لا يأتيها .. وجمل النواهي التي ينتهكها .. وجملة المسكوتات التي يتجاوز ويخطئ في استخدامها .. تجاه الله و الحياة برمتها .. زمانا ومكاناً وأحياءْ . وتجاه الإنسان الذي يمت له أو لا يمت بصلة والذي لايمت فضلاً عن ذاته بأبعادها .
وإليك عزيزي القارئ بعد هذه المقدمات هذا الجدول العملي :
مفهوم الهجرة من .. إلى ..
حمزة الحمزاوي
باحث تربوي
الهجرة من ...
• هجر القرآن وعدم تلاوته وتدبره .
• هجر سوء الظن بالله .
• المعتقدات الباطلة و الاستغاثات الشركية والحجب والاستعانة العرافة و الكهانة .
• حب المال والأثرة وحب الذات
• كثرة النوم وجفاء لقاء الله بالقيام
• كثرة الإقبال على الطعام و الشراب و اللذات .
• من التعصب الأعمى وكل ما يجر إلى الخلاف
والضعف والبغض .
• من قطع الرحم والإساءة للقرابة .
• من اهمال الزوجة وتضييع واجباتها .
• من اهمال الوالدين والتعذر بالمشاغل .
• من تخل عن مسؤولية التربية تجاه الأولاد .
... ... . الخ .
الهجرة إلى ...
• إلى الاعتناء بالقرآن وتحديد ولو صفحة واحدة في اليوم للقراءة الاعتماد والتوكل وحسن الظن به .
• إلى تصحيح الاعتقاد و التوبة و الاستغفار و الكفر
بالطاغوت وكل مافيه شرك لله .
• إلى الزكاة والصدقة وتطهر المال من الحرام .
• إلى قيام الليل و القنوت له على الدوام .
• إلى ضبط الشهوات و الابتعاد عن الحرام و صيام عدة أيام في الشهر لله تعالى .
• من تضييع الوقت وقتله فيما لا فائدة فيه .
• من إخلاف المواعيد .
• من الإساءة إلى البيئة بأنواع الملونات والنفايات
والقاذورات .
• من الاعتداء أو عدم الاهتمام إلى العرق الأخضر والإساءة إلى التراب و الأرض .
• من الاعتداء على الحيوانات والإساءة إليها .
• إلى استثماره وتنظيمه وحسن تقسيمه .
• إلى ضبط المواعيد وحسن الالتزام .
• إلى الإحسان للبيئة وضبط النفايات الشخصية مهما دقت وصغرت وأينما وجدت .
• إلى فقه الإحسان إلى النباتات والمزروعات وكذلك إلى التراب والأرض والرحلة إليها .
• إلى الإحسان للحيوانات في حالة حياتها وعند ذبحها .
• إلى التسامح واللين والخلق الحسن وكل ما فيه ود وحب واحترام متبادل .
• إلى صلة الأرحام والإحسان للقرابة وزرع المودة والحب .
• إلى الاهتمام وإعطاء كل ذي حق حقه وخلق الحب والإبداع
• إلى تخصيص أيام لهم ، ولخدمتهم ، دون توان أو فتور .
• إلى تنظيم شؤون الأسرة والاحتفاء بالأولاد وملاعبتهم وقضاء بعض الأوقات معهم
• هجر كل ما سبق .
• من ظلم النفس والفتور والكسل والعجز .
• من العادات السلبية والسيئة في المأكل والمشرب والصحة العامة والنوم المتأخر وإهمال الرياضة بأنواعها .
• من تضييع حصة الدراسة والقراءة وتضييع بناء الثقافة الذاتية من مختلف منافذها .
• من العمل المضني الشاق الذي يأخذ العمر كله .
• من إيذاء العين والأذن والأنف واللسان وكافة الحواس والأعضاء ... ... الخ .
• إلى كل ما فيه خير وأمثل .
• إلى احترام النفس والنشاط والهمة والتحدي .
• إلى تنظيم وبناء عادات صحية وسليمة على نطاق نظام الغذاء ومراجعة الأطباء المختصين و النوم الباكر وممارسة نوع من أنواع الرياضة .
• إلى تحديد أوقات خاصة للمطالعة
• إلى العمل المنظم المنضبط الذي يحقق الدخل الجيد مع فرط الوقت والجهد .
• إلى صيانة كل ذلك عن الحرام وتحصينها بما أمر به الله ... الخ
أخي المسلم .. أختي المسلمة بإمكانكم تحديد غير هذه النقاط أو تبديلها المهم عندي وضوح الفكرة وأن يهجر كل منا السلبية المقيتة إلى الإيجابية و التفاعلية .. وحفظ شعار ( ضع هدفك ..نفذه ..راجعه ..انتقده .. طوره ) ... عسى أن أكون قد أوصلت الرسالة وأعطيت للهجرة مفهوماً عملياً باقياً إلى يوم القيامة مستخلصاً من هدي النبوة .. فإن كان صواباً فمن الله والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات وإن كان خاطئاً فمني ومن الشيطان . أرجو التصويب على هذا العنوان : ( HAMZAWI-CO@MAKTOOB.COM ) راجين من المولى حسن القبول .. وكل عام أنتم بخير .
ــــــــــــ(1/186)
التاريخ الإسلامي الهجري
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
إنه من المؤسف حقا أن يعدل المسلمون أكثرهم اليوم عن التاريخ الإسلامي الهجري إلى تاريخ النصارى الميلادي الذي لا يمت إلى دينهم بصلة ولئن كان بعضهم شبهة من العذر حين استعمر بلادهم النصارى وأرغموهم على أن يتناسوا تاريخهم الإسلامي الهجري فليس لهم الآن أي عذر في البقاء على تاريخ النصارى الميلادي وقد أزال الله عنهم كابوس المستعمرين وظلمهم وغشمهم.
قال الله تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ...). (التوبة:36)
اليوم استقبلنا عاما إسلاميا هجريا جديدا، ابتداء عقد سنواته من أجل مناسبة في الإسلام ألا وهي هجرة النبي التي ابتدأ بها تكوين الأمة الإسلامية في بلد إسلامي يحكمه المسلمون.
ولم يكن التاريخ السنوي معمولا به في أول الإسلام حتى كانت خلافة عمر بن الخطاب ، ففي السنة الثالثة أو الرابعة من خلافته (سنة ست عشرة أو سبع عشرة من الهجرة) كتب إليه أبو موسى الأشعري : "إنه يأتينا منك كتب ليس لها تاريخ".
فجمع عمر الصحابة رضي الله عنهم فاستشارهم ، فيقال إن بعضهم قال: "أرخوا كما تؤرخ الفرس بملوكها كلما هلك ملك أرخوا بولاية من بعده"، فكره الصاحبة ذلك، فقال بعضهم: "أرخوا بتاريخ الروم" فكرهوا ذلك أيضا، فقال بعضهم: "أرخوا من مولد النبي "؛ وقال آخرون: "من مبعثه" وقال آخرون: "من مهاجره"، فقال عمر: "الهجرة فرقت بين الحق والباطل فأرخوا بها فأرخوا من الهجرة " واتفقوا على ذلك.
ثم تشاوروا، من أي شهر يبدئون السنة؟ فقال بعضهم: من ربيع الأول لأنه الشهر الذي قدم فيه النبي مهاجرا إلى المدينة وقال بعضهم: من رمضان لأنه الشهر الذي نزل فيه القرآن واتفق رأي عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم على ترجيح البداءة بالمحرم لأنه شهر حرام ويلي ذي الحجة الذي فيه أداء الناس حجتهم الذي به تمام أركان الإسلام لأن الحج آخر ما فرض من الأركان الخمسة ثم أنه يلي الشهر الذي بايع فيه النبي الأنصار على الهجرة وتلك المبايعة من مقدمات الهجرة فكان أولى الشهور بالأولية شهر المحرم..
أما بالنسبة لتسمية الشهور، فالمحرم سمى المحرم لأن العرب كان يحرمون القتال فيه، وصفر سمي صفراً لأن العرب كان يغزون فيه القبائل فيتركون من لقوا صفر المتاع ، وشهر ربيع الأول لأن العرب كانوا يرتبعون فيه أي لرعيهم فيه العشب فسمى ربيعاً، وجمادى لجمود الماء فيه، ورجب سمي رجباً لترجيبهم الرماح من الأسنة لأنها تنزع منها فلا يقاتلوا، وشعبان لأنه شعب بين رمضان ورجب، ورمضان لرموض الحر وشدة وقع الشمس فيه، وشوال لشولان النوق فيه بأذنابها إذا حملت، وذو القعدة سمي ذا القعدة لقعودهم في رحالهم عن الغزو لا يطلبون كلأًً ولا ميرة، وذو الحجة سمي ذا الحجة لأنهم يحجون فيه.
قال تعالى: ( إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) فمن هذه الأشهر التي ذكرها الله في كتابه أربعة حُرم، ثلاثة منها متوالية وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، والرابع منها مفرد وهو رجب بين جمادى وشعبان. قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في خطبة حجة الوداع: ((أيها الناس إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان)).
وسميت هذه الأشهر الأربعةُ حرماً لعظم حرمتها وحرمة الذنب فيها، روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : اختص الله تعالى أربعة أشهر جعلهن حرماً وعظم حرماتهن، وجعل الذنب فيها أعظم، وجعل العمل الصالح والأجر أعظم، وخصّ الله تعالى الأربعة الأشهر الحُرُم بالذكر, ونهى عن الظلم فيها بقوله سبحانه (فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أنفسكم) تشريفاً لها، وإن كان الظلم منهيّاً عنه في كل الزمان. والمقصود بقوله تعالى :(فلا تظلموا فيهن أنفسكم) أن لا تظلموا فيهن أنفسكم بالقتال, ولا تظلموا فيهنّ أنفسكم بارتكاب الذنوب والآثام.
شهور السنة الهجرية هي الشهور الهلالية التي هي عند الله تعالى في كتابه كما قال تعالى: (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم) الشهور التي جعلها الله تعالى مواقيت للعالم كلهم قال الله عز وجل: (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس) مواقيت للناس كلهم بدون تخصيص لا فرق بين عرب وعجم ذلك لأنها علامات محسوسة ظاهرة لكل أحد يعرف بها دخول الشهر وخروجه فمتى رؤي الهلال من أول الليل دخل الشهر الجديد وخرج الشهر السابق.
أما الشهور الإفرنجية فهي شهور وهمية غير مبنية على مشروع ولا معقول ولا محسوس بل هي شهور اصطلاحية مختلفة بعضهم واحد وثلاثون يوما وبعضهم ثمانية وعشرين يوما وبعضهم بين ذلك لا يعلم لهذا الاختلاف سبب حقيقي معقول أو محسوس ولهذا طرحت مشروعات في الآونة الأخيرة لتغيير هذه الأشهر على وجه منضبط لكنها عورضت من قبل الأحبار والرهبان فتأمل أيها المسلم كيف يعارض رجال دين اليهود والنصارى في تغيير أشهر وهمية مختلفة إلى اصطلاح أضبط لأنهم يعلمون ما لذلك من خطر ورجال دين الإسلام ساكتون بل مقرون لتغيير التوقيت بالشهور الإسلامية بل العالمية التي جعلها الله لعباده حيث عدل عنها المسلمون لتغيير التوقيت بالشهور الإفرنجية. وقد سئل الإمام أحمد رحمه الله فقيل له: إن للفرس أياما وشهورا يسمونها بأسماء لا تعرف فكَرِه ذلك أشد الكراهية.
ومن أهمية اتخاذ كل مسلم السنة الهجرية تاريخا له هو تعلق العبادات من صيام (كصيام رمضان وست من شوال ويوم عرفة وعاشوراء) وحج بيت الله الحرام وغيرها من العبادات بالشهور والسنين التي تعرفها العرب, دون الشهور التي تعتبرها العجم والروم والقِبط، فلا يليق بالمسلمين أن يقدموا الشهور العجمية والرومية والقبطية على الشهور العربية. قال تعالى (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الاهِلَّةِ قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجّ)[البقرة:189].
وعلينا أن نشكر الله على ما يسره لنا من هذا الحساب البسيط الميسر .
إن على الأمة الإسلامية أن تجعل لنفسها وجودا وكيانا مستقلّين مستمدَّين من روح الدين الإسلامي وأن تكون متميزة عن غيرها وفي كل ما ينبغي أن تميز به من الأخلاق والآداب والمعاملات لتبقى أمة بارزة مرموقة لا تابعة لغيرها هاوية في تقليد من سواها تقليدا أعمى لا يجر إليها نفعا ولا يدفع عنها ضررا، وإنما يظهرها بمظهر الضعف والتبعية وينسيها ما كان عليه أسلافها ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، فالتاريخ اليومي يبدأ من غروب الشمس، والشهري يبدأ من الهلال والسنوي يبدأ من الهجرة. هذا ما جرى عليه المسلمون وعملوا به واعتبره الفقهاء في كتبهم في حلول آجال الديون وغيرها.
عباد الله إن كل عام يجد يعد المرء نفسه بالعزيمة الصادقة والجد ولكن تمضي عليه الأيام وتنطوي الساعات وحاله لم تتغير إلى أصلح فيبوء بالخيبة والخسران ثم لا يفلح ولا ينجح فاغتنموا الأوقات عباد الله بطاعة الله وكونوا كل عام أصلح من العام الذي قبله فإن كل عام يمر بكم يقربكم من القبور عاما ويبعدكم عن القصور عاما يقربكم من الانفراد بأعمالكم ويبعدكم من التمتع بأهليكم وأولادكم وأموالكم. عباد الله، والله ما قامت الدنيا إلا بقيام الدين ولا نال العز والكرامة والرفعة إلا من خضع لرب العالمين ولا دام الأمن والطمأنينة والرخاء إلا باتباع منهج المرسلين، فاعتصموا بطاعة الله عن عقوبتكم. و حاسبوا أنفسكم عن أيامها، وأعلموا أن ما ذهب منها لن يستخلف.قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا) [رواه الترمذي ح (2459)].وقال الحسن البصري -رحمه الله-: "المؤمن قوّام على نفسه يحاسبها لله، وإنما شقّ الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة".(يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)
ــــــــــــ(1/187)
عاشوراء والهجرة النبوية من أيام الله تعالى
طارق حميدة
قال تعالى :( ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور ، وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبّحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم) سورة إبراهيم : 5 ، 6
ربنا سبحانه يكلف موسى عليه السلام ، أن يخرج قومه من الظلمات إلى النور ؛ من ظلمات الذل والاستضعاف ، إلى نور العزة والكرامة والريادة بحمل راية التوحيد وإقامة الدين . وخلال ذلك ، ولأجل تحقيق ذلك ، يطلب منه أن يذكرهم بأيام الله .
والأيام كلها أيام الله لكن هذه الأيام لها خصوصية إذ تجلت فيها قدرة الله تعالى ، فنصر القلة المستضعفة ، وقصم الكثرة المتجبرة ، أو خذلها وردها بغيظها . إنها أيام ربما سبقها يأس وإحباط واستسلام لظن المستضعفين أنه لا قبل لهم بالفراعنة والطغاة
وسرعان ما يقوم موسى عليه السلام ، خطيباً في قومه يذكرهم بيوم من أيام الله عظيم ، يوم أنجاهم سبحانه من فرعون وجنوده ، وقد كان آل فرعون يسومونهم سوء العذاب ويذبّحون أبناءهم ويستحيون نساءهم . كي يستنهض هممهم ويقوي عزائمهم للمهمة العظيمة التي ستناط بهم من بعد خروجهم من مصر.
ولا يكتفي موسى عليه السلام بهذا التذكير ، بل يجعل من ذلك اليوم العظيم مناسبة سنوية يحتفي بها والمؤمنون معه ليترسخ المعنى ويتعمق في القلوب ، فيصومه عليه السلام ويصومه قومه ، ويستمر الاحتفاء بهذا اليوم وصيامه حتى زمان المصطفى عليه الصلاة والسلام ، فيسألهم عن صومهم يوم عاشوراء فيقولون : " هذا يوم صالح ؛ هذا يوم نجى الله بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى " ، فيقول النبي عليه السلام : " فأنا أحق بموسى منكم " ، فصامه وأمر بصيامه. والحديث في الصحيحين
إن محمداً ، - صلى الله عليه وسلم - ، قد أمره ربه تعالى ، بما أمر موسى عليه السلام ، كما جاء في السورة نفسها: ( ألر، كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور ..) سورة إبراهيم :1 . وإذا كان الهدف واحداً ،والبشر هم البشر على اختلاف الزمان والمكان ، فلا بد أن يكون المنهج هو المنهج ، والوسيلة هي الوسيلة ـ التذكير بأيام الله ـ وأهمها عاشوراء . يصومه المصطفى عليه السلام ، ويأمر بصيامه ، بل يتحراه وينتظره ويستعد له كما يفعل لشهر رمضان ، احتفاءً بهذه المناسبة العظيمة واستحضاراً لجليل معانيها .
والصيام خير معين للتفكر والتدبر والاستحضار فيما تعجز عن ذلك البطون المتخمة ، وانظر كيف قرن ربنا سبحانه بين صوم رمضان ونزول القرآن ، تأكيدا للتلازم بين النفوس الزكية والقلوب التقية والعقول المتفتحة لاستقبال النور الإلهي . فالقرآن الكريم مع أنه ( هدى للناس ) مؤمنهم وكافرهم إلا أنه لا يفيد منه إلا المتقون ( ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين ) .
وحين يقرر النبي عليه السلام أن يصوم التاسع مع العاشر ، فليس ذلك مخالفة لأهل الكتاب وتميزاً عنهم فحسب ، بل ـ وأيضاً فيما نرجح ـ لمزيد الاعتناء بهذا اليوم والاستعداد له روحياً وذهنياً .
إن النفوس المستبشرة بنصر الله تعالى وفرجه ، الموقنة بقدرته المنتظرة لرحمته ، هي التي يُرجى تحقق الإنجازات على أيديها ، أما النفوس اليائسة المنقبضة الكئيبة ، التي تبحث عن الحزن ومناسباته ، فليست بالتي يتوقع منها نصر ولا تقدم ولا إنجاز . ولقد أمر الله نبيه أن يدعو المؤمنين فيتجاوزوا عن الذين لا يرجون أيام الله : ( قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ) الجاثية : 14 ؛ فهم مساكين لا يزال يقعد بهم اليأس فيخشون التحرك للتغيير ، ويخافون الفراعنة بل وربما عاونوهم ضد من يعملون لإنقاذهم ، وأساءوا إليهم .
ولعل ذلك المعنى الكبير ـ التذكير بأيام الله ـ هو الذي حدا بالفاروق رضي الله عنه ، وكرام الصحابة في خلافته ، إلى اختيار حدث الهجرة منطلقاً للتأريخ الإسلامي ، رافضين اتباع الروم أو الفرس ، ومؤثرين الهجرة على سائر المناسبات النبوية الأخرى كالمولد والبعثة والوفاة .
فلقد كانت الهجرة مفصلاً هاماً في تاريخ الدعوة الإسلامية ، حيث تحول المسلمون من جماعة مضطهدة مستضعفة ، إلى مجتمع ودولة ذات عزة ومنعة واستقلال . كان الرسول عليه السلام ، حتى الأمس القريب يرى أصحابه يعذبون فلا يملك إلا أن يدعوهم إلى الصبر واعداً إياهم بالجنة ، ثم هو بعد الهجرة يسيّر جيشاً إلى عقر دار الروم في مؤتة رداً على قتل عملاء الروم لأحد رسله .
لقد خلّد القرآن الكريم الهجرة النبوية واصفاً إياها بالنصر لرسوله : ( إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا ) ، وهذا شبيه ما جرى لموسى عليه السلام ، إذ كان البحر من أمامهم والفرعون بجنوده من ورائهم ، فأسقط في أيدي قومه وأيقنوا أنهم مدركون ، فرد عليهم موسى بكل ثقة وإيمان : ( كلا إن معي ربي سيهدين ) ، وقد كان .
إن كاتب هذه المقالة لا يقصد إلى الدخول في جدل حول شرعية الاحتفال بالهجرة النبوية ، وليس مع جعلها عيداً أو عطلة رسمية، ولكنه يدعو حمَلة اللواء لإخراج الأمة من الظلمات إلى النور ، ليكثروا من التذكير بأيام الله .
ــــــــــــ(1/188)
حديث أم معبد في حادثة الهجرة
الأخ الدارقطني .
قصة أم معبد وردت من عدة طرق ، وقد جمعها الدكتور سليمان بن علي السعود في كتاب " أحاديث الهجرة . جمع وتحقيق ودراسة " ( ص 152 - 163 ) ، وملخص ما وصل إليه الباحث ما قاله :
أقول قصة أم معبد هذه تتقوى إلى درجة الحسن بأمرين :
الأول : أنها رويت بطرق كثيرة كما تقدم ، وهذه الطرق يشد بعضها بعضا .
الثاني : شهرة هذه القصة واستفاضتها عند علماء السيرة وغيرهم .
وقال ابن كثير رحمه الله بعد ما ساق بعض طرقها : وقصتها مشهورة مروية من طرق يشد بعضها بعضا . انظر البداية والنهاية 3/190 .ا.هـ.
وممن حسن طرقها أيضا العلامة الألباني رحمه كما في تعليقه على فقه السيرة ( ص 168 ) فقال : ثم وجدت الحديث موصولا أخرجه الحاكم ( 3/9-10 ) من حديث هشام بن حبيش وقال : " صحيح الإسناد " ، ووافقه الذهبي وفيما قالاه نظر ، وقال الهيثمي ( 6/ 58 ) : رواه الطبراني وفي إسناده جماعة لم أعرفهم . لكن للحديث طريقين آخرين أوردهما الحافظ ابن كثير في البداية (3/192-194 ) فالحديث بهذه الطرق لا ينزل عن رتبة الحسن .ا.هـ.
وممن جمع طرقها ورسم شجرةً الدكتور أكرم ضياء العمري في كتاب " السيرة النبوية الصحيحة . محاولة تطبيق قواعد المحدثين في نقد روايات السيرة النبوية " ( 1/212 - 215 ) ، وإليك ما قاله الدكتور العمري :
وقد اشتهر في كتب السيرة والحديث خبر نزول الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بخيمة أم معبد بقديد طالبين القِرى ، فاعتذرت لهم لعدم وجود طعام عندها إلا شاة هزيلة لا تدر لبنا . فأخذ الشاة فمسح ضرعها بيده ، ودعا الله ، وحلب في إناء ، حتى علت الرغوة وشرب الجميع ، ولكن طرقها ما بين ضعيفة وواهية إلا طريقا واحدة يرويها الصحابي قيس بن النعمان السكوني ونصها : " لما انطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبوبكر يستخفيان نزلا بأبي معبد فقال : والله ما لنا شاة ، وإن شاءنا لحوامل فما بقي لنا لبن ... .ا.هـ.
وذكر في الحاشية ( 1/213) طرق الحديث ، وقبل ذلك رسم شجرة لطرق الحديث ، وسأذكر ما سطره الدكتور من طرق لهذا الحديث وخلاصة بحثه :
أخرجها ابن إسحاق بإسناد معضل كما في " دلائل النبوة " للبيهقي (2/493) من رواية يونس بن بكير عنه .
- وابن حزيمة كما ذكر ابن حجر في الإصابة . ولم أقف على سنده .
- والطبراني : المعجم الكبير (4/56) بإسناد فيه مكرم بن محرز انفرد ابن حبان بتوثيقه ( الثقات 9/207) ، ولم يذكر فيه ابن أبي حاتم جرحا ولا تعديلا (الجرح والتعديل 8/443) وفيه محرز بن مهدي مجهول ، وهشام بن خنيس مجهول الحال . وقال الهيثمي : وفي إسناده جماعة لم أعرفهم (مجمع الزوائد 6/58) .
- وأخرجه الطبراني من طريق آخر فيه عبد العزيز بن يحيى المديني نسبه البخاري وغيره إلى الكذب وفيه مجاهيل أيضا كما يقول الهيثمي ( مجمع الزوائد 8/279 ، وانظر ميزان الاعتدال 3/573 ، والضعفاء للعقيلي 4/74) .
- وأخرجه ابن سعد : الطبقات 1/230 بإسناد واهٍ فيه سليمان بن عمرو النخعي ، وقد دلس اشمه عبد الملك بن وهب المذحجي وهو كذاب ( الكامل لابن عدي 3/1096)
- وأخرجه البخاري في التاريخ الكبير 2/1/84 وفي إسناده عبد الملك بن وهب الدحجي كذاب ( التاريخ الكبير 2/2/28) وشك البخاري في انقطاع السند .
- وأخرجه البزار بإسنادين أحدهما فيه عبد الركمن بن عقبة مجهول الحال ويعقوب بن محمد الزهري صدوق كثير الوهم والرواية عن الضعفاء ( كشف الأستار 2/301) ومن اختلاف متنه قوله " نزلا بأبي معبد " وذكره إسلام أبي معبد آنذاك .
وهذه الرواية من حديث قيس بن النعمان أخرجها الطبراني بسند صحيح وسياق أتم فيما ذكر ابن حجر ( الإصابة 5/506) .
وساقها الحاكم في المستدرك 3/9 من حديث هشام بن حبيش مجهول الحال . وساقها من طريق قيس بن النعمان 3/8 - 9 ، ولم يصرح باسم الراعي .
وأخرجه البغوي وابن شاهين وابن مندة من طريق حزام بن هشام بن حبيش بن خالد عن أبيه ( السيوطي : الخصائص الكبرى 1/309)
وأخرجه أبو نعيم الأصبهاني بسنده من حديث هشام بن حبيش ( دلائل 282) .
وأخرجه ابن سيد الناس من طريق أبي بكر الشافعي بإسناد فيه الكديمي وعبد العزيز بن يحيى متهمان ( عيون الأثر 1/188) .
وبإسناد فيه ابن إسحاق عن أسماء بنت أبي بكر معضلاً .
وبإسناد فيه هشام بن حبيش مجهول الحال ، وأضاف ابن سيد الناس إلى أسانيد أبي بكر الشافعي سندا فيه سيف بن عمر التميمي وهو متروك .
وساق ابن كثير الخبر من طريق ابن أبي ليلى ، وليس فيه التصريح بأم معبد أو بأبي معبد ، فسنده منقطع . كما ساقها من رواية البزار بالسند الذي فيه عبد الرحمن بن عقبة ( البداية والنهاية 3/189) . ثم ساقها ابن كثير بواسطة البيهقي وفي إسناده عبد الملك بن وهب المذحجي كذاب ( البداية والنهاية 3/190) ويرى ابن كثير أن قصة أم معبد مشهورة مروية من طرق يشد بعضها بعضا ( البداية والنهاية 3/188) .
ثم إن الحافظ ابن حجر ذكر أن ابن مندة ساقها من طريق عبد الرحمن بن عقبة ( الإصابة 6/169) وقد سبق أنه مجهول الحال .
وذكر الحافظ ابن حجر أيضا ( الإصابة 8/306 - 307) أن ابن السكن أخرجها من طريقين :
طريق ابن الأشعث حفص بن يحيى التيمي ولم أقف على ترجمته ، ومن طريق آخر بسند لم يذكر ابن حجر سائر رجاله لكن متن روايتي ابن السكن مخالف لمتون الروايات الأخرى .
كذلك أخرج القصة ابن عبد البر في الإستيعاب (1958) بإسناد فيه الحكم بن أيوب الخزاعي انفرد ابن حبان بتوثيقه (لسان الميزان 1/478) وذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (2/245) فلم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا وفيه محمد بن سليمان بن الحكم الخزاعي ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 7/269 ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا ، ولكنه كتب عنه فيبدو أنه - على الأقل - يُعتبر بحديثه . وفيه عبد الله بن محمد بن عيسى بن حكيم لم أقف على ترجمته .
وكذا لا يخلو من طريق من طرقها من العلل القادحة ، وهي بمجموع طرقها لا تصلح للاحتجاج بها في موضوعات المعجزات . ولكن حديثي التابعي الكبير عبد الرحمن بن أبي ليلى والصحابي جابر بن عبد الله هما أمثل طرق قصة أم معبد يعتضدان إلى الحسن لغيره . لكنهما لا يقويان على مناهضة حديث قيس بن النعمان من طريق الطيالسي فإنه حسن لذاته بل يرى ابن حجر أنه صحيح .ا.هـ.
وأظن أخي الدارقطني في هذا البيان كفاية . والله أعلم .
كتبه عبد الله زقيل
zugailam@yahoo.com
ــــــــــــ(1/189)
الأعياد والمناسبات المعتبرة في الإسلام
محمد عثمان
الأعياد جمع عيد. والعيد اسم لما يعود من الاجتماع العام على وجه معتاد ، عائد: إما بعود السنة ، أو بعود الأسبوع أو بعود الشهور ، أو نحو ذلك. فالعيد يجمع أموراً ، منها يوم عائد كيوم الفطر ويوم الجمعة.
ومنها: اجتماع فيه.
ومنها: أعمال تجمع ذلك من العبادات أو العادات وقد يختص ذلك بمكان بعينه .
وقد يكون مطلقاً وكل من هذه الأمور قد يسمى عيداً (1).
فالزمان كقوله - صلى الله عليه وسلم - ليوم الجمعة: "إن هذا يوم جعله الله للمسلمين عيداً" (رواه ابن ماجه).
والاجتماع والأعمال كقول ابن عباس: "شهدت العيد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .." (متفق عليه). والمكان كقوله - صلى الله عليه وسلم - :"لا تتخذوا قبري عيداً".
وقد يكون لفظ العيد اسماً لمجموع العيد والعمل فيه وهو الغالب كقوله - صلى الله عليه وسلم-:"دعهما يا أبا بكر ! ؛ فإن لكل قوم عيداً وإن هذا عيدنا" (متفق عليه).
لقد أكثر الناس القول في اعتبار المناسبات في الإسلام وعدم اعتبارها ، ووقع فيها الإفراط والتفريط، وإذا نظرت إلى شريعة الإسلام وأحداثه عامة وخاصة؛ تجد المناسبات أو الأعياد على قسمين:
مناسبة معتبرة عني بها الشرع لما فيها من عظة وذكرى تتجدد مع تجدد الأيام والأجيال وتعود على الفرد والجماعة بالتزود منها.
ومناسبة لم تعتبر ، إما لاقتصارها في ذاتها ، أو عدم استطاعة الأفراد مسايرتها.
فمن الأول يوم الجمعة ، وقد عني بها الإسلام في الحث على القراءة المنوه عنها في صلاة الفجر ، وفي الحث على أدائها والحفاوة بها من اغتسال وطيب وتبكير إليها ، ولكن من غير غلو ولا إفراط. فقد جاء النهي عن صوم يومها وحده دون أن يسبق بصوم قبله أو يلحق بصوم بعده. كما نهى عن إفراد ليلتها بقيام ، والنصوص في ذلك متضافرة ثابتة معلومة.
فكان يوم الجمعة مناسبة معتبرة مع اعتدال وتوجه إلى الله بدون إفراط أو تفريط. وذلك أن يوم الجمعة هو يوم آدم عليه السلام، فيه خلق، وفيه خلقت فيه الروح، وفيه أسكن الجنة ، وفيه أهبط إلى الأرض ، وفيه تِيبَ عليه ، وفيه تقوم الساعة ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله - تعالى - بهذه المناسبة:
"إن قراءة سورة السجدة وسورة الإنسان معاً في يوم الجمعة لمناسبة خلق آدم في يوم الجمعة ليتذكر الإنسان في هذا اليوم - وهو يوم الجمعة - مبدأ خلق أبيه ادم ، ومبدأ خلق عموم الإنسان ، ويتذكر مصيره ومنتهاه ليرى ما هو عليه من دعوة الرسول وهل هو شاكر أو كفور ؟) [ أضواء البيان ].
وكما قيل يوم الجمعة يوم آدم، قيل في يوم الاثنين يوم محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم - أي فيه وُلد ، وفيه أنزل عليه، فقد جاء عنه، صلى الله عليه وسلم، أنه سئل عن صيام يوم الاثنين. فقال: "هذا يوم ولدت فيه وعليَّ فيه أنزل" (2) وكان يوم وصوله المدينة في الهجرة.
أما ما يفعله كثير من الناس في هذه الأزمنة من احتفالات ومظاهر فقد حدث ذلك بعد أن لم يكن لا في القرن الأول ولا الثاني ولا الثالث وهي القرون المشهود لها بالخير كما جاء الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم". والذين أحدثوا هذه البدعة هم الفاطميون في القرن الرابع. يقول الشيخ محمد أمين الشنقيطي - رحمة الله عليه -: "وقد افترق الناس في هذا الأمر إلى فريقين: فريق ينكره وينكر على من يفعله ، لعدم فعل السلف إياه ولا مجيء أثر في ذلك. وفريق يراه جائزاً لعدم النهي عنه ، وقد يشدد كل فريق على الآخر في هذه المسألة ولشيخ الإسلام ابن تيمية في "اقتضاء الصراط المستقيم" كلام وسط في غاية الإنصاف. نورد موجزه لجزالته والله الهادي إلى سواء السبيل.
قال - رحمه الله - في فصل قد عقده للأعياد المحدثة فذكر أول جمعة من رجب ، وعيد غدير خم في الثامن عشر من ذي الحجة حيث خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - وحث على اتباع السنة وأهل بيته ثم أتى إلى عمل المولد.
وكذلك ما يحدثه بعض الناس إما مضاهاة للنصارى في عيد ميلاد المسيح ، وإما محبة للنبي -صلى الله عليه وسلم- وتعظيماً له ، والله قد يثيبهم على هذه المحبة والاجتهاد لا على البدع من اتخاذ مولده -صلى الله عليه وسلم- عيداً مع اختلاف الناس في مولده أي في ربيع أو في رمضان فإن هذا لم يفعله السلف مع قيام المقتضى له وعدم المانع له.
يضيف شيخ الإسلام: "ولو كان هذا خيراً محضاً أو راجحاً لكان السلف - رضي الله عنهم - أحق به منا فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتعظيماً له منا وهم على الخير أحرص.
وإنما كمال محبته وتعظيمه في متابعته وطاعته واتباع أمره وإحياء سننه باطناً وظاهراً ، ونشر ما بعث به والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان. فإن هذه هي طريقة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان.
وأكثر هؤلاء الذين تراهم حرصاء على أمثال هذه البدع - مع ما لهم فيها من حسن القصد والاجتهاد الذي يرجى لهم به المثوبة - تجدهم فاترين في أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- عما أمروا بالنشاط فيه، وإنما هم بمنزلة من يحلي المصحف ولا يقرأ فيه ولا يتبعه، وبمنزلة من يزخرف المسجد ولا يصلي فيه ، أو يصلي فيه قليلاً ، وبمنزلة من يتخذ المسابيح والسجادات المزخرفة وأمثال هذه الزخارف الظاهرة - التي لم تشرع - ويصحبها من الرياء والكبر والاشتغال عن المشروع ما يفسد حال صاحبها" اهـ (اقتضاء ، ص295).
وليس بصحيح ما يزعمه بعض المبتدعة من تسمية المولد إحياءً لذكر الرسول -صلى الله عليه وسلم- ؛ فالله أحيا ذكر الرسول -صلى الله عليه وسلم- حيث قرن ذكره مع ذكره - تعالى - في الشهادتين ومع كل أذان وكل إقامة لأداء صلاة وفي كل تشهد في فرض أو نفل مما يزيد على الثلاثين مرة.
ومن المناسبات المعتبرة شهر رمضان المبارك بكامله لكونه أنزل فيه القرآن:((»شَهْرُ رَمَضَانَ الَذِي أُنزِلَ فِيهِ القُرْآنُ هُدًًى لِّلنَّاسِ«)) [البقرة:185].
ومن المناسبات ليلة القدر لبدء نزول القرآن فيها لقوله - تعالى -:(( »إنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ (1) ومَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ القَدْرِ (2)«)) [القدر] ، ثم بين مقدارها ((لَيْلَةُ القَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3)« وبين خواصها »تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ والرُّوحُ فِيهَا بِإذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ (4)« )) ، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحتفي بها ويلتمسها في العشر الأواخر وفي الوتر من العشر الأواخر ، فكان -صلى الله عليه وسلم- يعتكف العشرة كلها التماساً لتلك الليلة. روى البخاري في صحيحه عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل العشر أحيا الليل وأيقظ أهله ، وجد وشد المئزر".
ومن المناسبات يوم عاشوراء ، فلقد كان لهذا اليوم تاريخ قديم ، وكانت العرب تعظمه في الجاهلية وتكسو فيه الكعبة ، ولما قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة وجد اليهود يصومونه ؛ فقال لهم: لِمَ تصومونه ؟ فقالوا: يوماً نجى الله فيه موسى من فرعون فصامه شكراً له ، فصمناه. فقال -صلى الله عليه وسلم-: نحن أحق بموسى منكم فصامه وأمر بصيامه".
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فسُئلوا عن ذلك فقالوا: هذا اليوم الذي أظهر الله فيه نبي الله موسى وبني إسرائيل على فرعون فنحن نصومه تعظيماً له. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: نحن أولى بموسى منكم ، فأمر بصومه.
إن نجاة نبي الله موسى من عدو الله فرعون مناسبة عظيمة ، نصرة الحق على الباطل وانتصار جند الله وإهلاك جند الشيطان. وهذا بحق مناسبة يهتم لها كل مسلم ؛ ولذا قال عليه الصلاة والسلام: "نحن أحق بموسى منكم ؛ نحن - معشر الأنبياء - أبناء علاّت ، ديننا واحد".
وقد كان صيام عاشوراء فرضاً حتى نُسخ بفرض رمضان وهكذا مع عظيم مناسبته من إعلان كلمة الله ونصرة رسوله كان ابتهاج موسى عليه السلام به في صيامه شكراً لله.
ومن هذه المناسبات المعتبرة عيد الفطر وعيد الأضحى وهما مناسبتان عظيمتان لحديث أنس بن مالك الذي رواه أبو داود في سننه: "قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- ولهم يومان يلعبون فيهما فقال: قد أبدلكم الله بهما خيراً منهما يوم الفطر ويوم الأضحى" (رواه أبو داود والحديث على شرط مسلم).
ومما يعتبر ذا صلة بهذا المبحث في الجملة ما نقله الإمام ابن كثير في تفسيره - عند قوله تعالى: ((اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ورَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً)) [المائدة:3] - قال عندها:
"روى الإمام أحمد عن طارق بن شهاب قال: جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال: يا أمير المؤمنين إنكم تقرأون آية في كتابكم لو علينا - معشر اليهود - نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً. قال: وأي آية ؟ قال: قوله: »اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ« ؛ فقال عمر: والله إنى لأعلم اليوم الذين نزلت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، والساعة التي نزلت فيها عشية عرفة في يوم الجمعة" (رواه البخاري ومسلم).
وروي عن كعب قوله: لو أن غير هذه الأمة نزلت عليهم هذه الآية لنظروا اليوم الذي أنزلت فيه عليهم فاتخذوه عيداً يجتمعون فيه.
الأعياد غير المعتبرة في الإسلام:
عيد الميلاد:
يحتفل النصارى بيوم ولادة عيسى ويظهرون الأفراح والسرور ويعطلون الدوائر والأعمال ، ويهنئ بعضهم بعضاً ، ويتزاورون ويظهرون شعار دينهم ، وقد قلدهم وشابههم كثير من جهال المسلمين وذوي الرئاسة والسياسة. ففي أعمال كثير من المسلمين في هذا العيد أنهم يعطلون الدوائر الحكومية والشركات وبعض التجار الكبار تعظيماً لهذا اليوم ، احتراماً له ويزورون أصدقاءهم النصارى ويرسلون لمن كان منهم بعيداً بطاقات تهنئة. والرؤساء والملوك يرسلون برقيات تهنئة للدول التي تزعم أنها تدين بالمسيحية.
وهذا العيد وغيره من الأعياد التي ابتلي بها كثير من البلاد الإسلامية - كعيد الوطن ، وكعيد العلم ، وعيد الأم وعيد الشجرة وعيد النظافة ، وعيد الولادة ، وعيد الأسرة ، وعيد الأولياء -كلها محرمة في دين الإسلام ؛ لمشابهتها الكفار في أعيادهم ولا شك أن في هذا إحياءً لسنن الجاهلية ، وإماتة الشرائع الاسلامية في قلوب المسلمين ، وإن كان أكثر الناس لا يشعرون بذلك لشدة استحكام ظلمة الجاهلية في قلوبهم ، ولا ينفعهم ذلك الجهل عذراً بل هو الجريمة التي تولّد عنها كل الجرائم من الكفر والفسوق والعصيان.
قال شيخ الإسلام: إن أعياد أهل الكتاب والأعاجم نهي عنها لسببين:
1- أحدهما: أن فيها مشابهة للكفار.
2- والثانى: أنها من البدع.
فما أحدث من المواسم والأعياد هو منكر ؛ وإن لم يكن فيه مشابهة لأهل الكتاب من وجهين:
أحدهما: أن ذلك داخل في مسمى البدع والمحدثات ؛ فيدخل فيما رواه مسلم في صحيحه عن جابر قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه ، حتى كأنه منذر جيش ، يقول: صبَّحكم ومسَّاكم ، ويقول: بعثت أنا والساعة كهاتين ، ويقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى ويقول: أما بعد.. فإن خير الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد. وشر الأمور محدثاتها. وكل بدعة ضلالة" (اقتضاء الصراط المستقيم ص266).
وحديث أبي سعيد في الصحيحين أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لتتبعنّ سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم. قلنا: يا رسول الله ! اليهود والنصارى ؟! ، قال: فمَن ؟! ".
بدع الشهور:
هناك بدع كثيرة يصعب حصرها في هذه العجالة ولكني أذكر نبذة منها:
1- استقبال الرافضة شهر محرّم بالحزن والهم والخرافات والأباطيل ، فيصنعون ضريحاً من الخشب مزيناً بالأوراق الملونة يسمونه ضريح الحسين أو كربلاء. وخلال هذا الشهر تمنع الزينة فتضع النسوة زينتهن ولا يأكل الناس اللحوم وتشعل النيران ويتواثب الناس عليها والأطفال يطوفون الطرقات يصيحون: يا حسين !.. يا حسين !.
2- بدع صفر: كان بعض الناس يمتنعون فيه عن السفر أو إقامة أي حفل ، ويظهرون التشاؤم والتطير.
3- ربيع الأول: بدعة المولد ، أي إقامة احتفالات لمولد النبي -صلى الله عليه وسلم- وكذلك ما يسمونه بليلة الإسراء والمعراج فتقام الولائم وتضاء الشموع وتصلَّى النوافل.
4- وفي شعبان: ما يسمونه ليلة النصف من ليلة البراءة ؛ حيث يعتقدون غفران الذنوب وإطالة الأعمار وزيادة الأرزاق.
5- بدع شهر رمضان: اهتمام الناس بالجمعة الأخيرة منه فيصلي مَن كان لا يصلي بقية أيامه.
والصواب - الذي عليه المحققون من أهل العلم - النهي عن إفراد هذا اليوم بالصوم ، وعن
هذه الصلاة المحدثة ، وعن كل تعظيم لهذا اليوم من صنع الأطعمة وإظهار الزينة ونحو ذلك حتى يكون هذا اليوم بمنزلة غيره من بقية الأيام وحتى لا يكون له مزيَّة أصلاً.
الخلاصة:
خلاصة القول أننا نستفيد من هذه العجالة أموراً:
* منها أن الإسلام لم يشرع الاحتفال بولادة أو بموت أحد.
* ومنها: أن هذه المناسبات قد تعددت حتى غدا الإسلام احتفالات وأعياداً. فقد يقول قائل: أنا أحتفل بيوم ولادة النبي - عليه الصلاة والسلام - وقد يقول آخر: أحتفل بيوم الهجرة ؛ لأنه بالهجرة فرَّق الله بين الحق والباطل واعتز المسلمون وصارت لهم دولة ؛ فتستحق الاحتفال بها ، وإظهار التعظيم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وقد يقول آخر: أنا أحتفل بيوم بدر ؛ لأنه يوم الفرقان يوم التقى الجمعان ، يوم أن نصر الله المسلمين على المشركين. وقد يقول آخر: أنا أحتفل بيوم فتح مكة يوم دخل الناس في دين الله أفواجاً. وقد يقول آخر: أنا أحتفل بيوم وفاته يوم انتقل إلى الرفيق الأعلى...
وهكذا تتعدد الآراء ويتفرق الناس على غير هدى ، ومن غير دليل شرعى يحسم النزاع ، ويوفر الجهد.
--------------
الهوامش:
1 - اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص189، ط. دار المعرفة.
2 - مسند الإمام أحمد ، ج5 ، ص279-299 ، ومسلم في صحيحه في كتاب الصيام.
مجلة البيان
ــــــــــــ(1/190)
دروس من الهجرة النبوية
بسم الله الرحمن الرحيم
إنَّ الحمدَ لِله نحمدهُ ونستعينهُ, ونستغفرهُ, ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسنا, ومن سيِّئاتِ أعمالِنا, منْ يَهدهِ اللهُ فلا مُضلَّ لهُ, ومنْ يُضلل فلا هاديَ له . وأشهدُ أنَّ لا إله إلا الله وحدهُ لا شريكَ له, وأشهدُ أنَّ محمداً عبدهُ ورسوله . (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ))]آل عمران:102[
(( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)) ]النساء:1[ . (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً )) ]الأحزاب:70-71[ .
أما بعدُ : فإن أصدقَ الحديثِ كتابُ الله, وخيرُ الهدي هديُ محمدٍ ? وشرُّ الأمورِ مُحدثاتُها, وكلَّ محدثةٍ بدعة, وكلَّ بدعةٍ ضلالة, وكلَّ ضلالةٍ في النار.
أمَّا بعدُ ، أيَّها المسلمون :
فمعِ حلولِ العامِ الهجري الجديد, تمضي بنا الذكرياتُ إلى الوراءِ شيئاً ما, مخترقةً حواجزَ الزمان, لتقفَ بنا على مشارفِ مكة, وهي تشهدُ هجرةَ النبيِ ? وأصحابهِ إلى المدينة, تلك الهجرة التي غيرتْ مسارَ التاريخ, وفاجأت العالم بأحداثِها الضخمةَ, ونتائجِها المُدهشة, فقدْ كانتْ سبباً رئيساً لقيامِ دولةِ الإسلامِ في المدينة, تلك الدولةِ التي لم تقفْ عند حدودٍ سياسيةٍ, أو خطوطِ تماسٍ مكهربة, صنعها المُحتلُ الأجنبي، ولكنَّها أخذتْ في الانتشارِ يمنةً ويسرة , حتى نتجَ عنها دولةُ الإسلامِ العالميةِ, والتي غمرتْ الدنيا بفيضِ نورِها المُشع, وبددتْ الظلامَ المتراكمِ عبرَ السنين, وقدمتْ للبشريةِ أنموذجاً نادراً, للكيفيةِ التي تُبنى من خلالِها الدول، فتتصاغرُ أمامَ ذلك الأُنموذجِ الفريد كلُّ النماذجِ الأُخرى, وما أحوجَ الأُمة اليومَ وهي تُعاني ما تعانيه من تمزقٍ وضعفٍ وتناحرٍ, ما أحوجَها إلى قراءةِ تاريخِها من جديد، ومراجعةِ سيرِ أسلافِها الأولين, لتأخذَ الدروسَ والعبر, علَّها تستعيد ُمجدها الغابر، وتاجَها المفقود, فهيهات هيهات أن يصُلحَ حالُ آخرِ هذه الأمةِ إلاّ بما صلحَ به حالُ أولِها, فاعتبروا يا أولي الأبصار .
أيَّها المسلمون : لم تكنْ الهجرةُ الشريفةُ إلى المدينة, لم تكنْ يوماً من الأيام ترفاً ثقافياً, أو سياحةً ومتعة, أو استكشافاً لعالمٍ جديد, كلاَّ, لقد كانتْ خياراً لا مفرّ منه, وحلاً أخيراً بعد أنْ ضاقتْ بالمسلمينَ أرضُ مكةَ بما رحبت, وتغيرَ عليهم الناسُ, وأصبحتْ بضعُ ركعاتٍ في المسجدِ الحرامِ جريمةً لا تُغتفر, وغدتْ قراءةُ القُرآن رجعيةً وهمجيةً, وإرهاباً وتطرفاً, نزلَ جبرائيلُ عليه السلام بأمرٍ من السماء, لا يحتملُ التأخيرَ أو التردد, (( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ )) .
فالقضيةُ جدٌ ليستْ بهزلٍ, والدينُ حقٌ ليس بلعبٍ, فلا مكانَ للخانعين, ولا مكانَ للمتكاسلين, ولا مكانَ للمعوقين المُخذِّ لين, ونزلَ جبرائيلُ كذلك بقولهِ جلَّ جلاله : (( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ )) , فاصدعْ بما تُؤمر, ولا تخفْ في اللهِ لومةَ لائم, لا تخف أبا جهلٍ مهما تجبر, ولا تخف أبا لهبٍ مهما تهور, فما هم في الحقيقةِ إلاَّ أقزام, لا يملكون حولاً ولا طولاً, ولا يملكون موتاً ولا حياةً ولا نشوراً, فلبَّى عليه الصلاةُ والسلامُ النداء, وشمَّرَ عن ساقِ الجدِّ بكلِّ قُوة, وأسفرَ عن شجاعةٍ وبطولةٍ نادرتين, فما تركَ جبلاً إلا صعدَه, ولا وادياً إلا هبطَه, ولا شِعباً إلا سلكَه .
يا أيَّها الناسُ : قُولوا لا إله إلا اللهُ تُفلحوا, كلمةُ التوحيدِ العظيمةِ, ظلَّ يرفعُ بها صوتَه ثلاثةَ عشرَ عاماً غيرَ هيابٍ ولا وجلٍ, يصرخُ بها في كلِّ مجمعٍ من مجامعهم, وكلِّ مُنتدىً من منتدياتِهم, فقامتْ عليه الجاهليةُ ولم تقعد, وحاربهُ الجاهليُّون بكلِّ وحشيةٍ وضراوة, فكلُّ من شعرَ بخطورةِ كلمةِ التوحيدِ على مصالحه, وقفَ أمامَها وقفةَ الأسد, واستماتَ في الصدِّ عنها, والتنديدِ بخطرِها فقد شعرَ رؤساءُ العشائرِ أنَّ هذه الكلمةُ ستقوضُ سُلطتَهم من القواعد, فهبوا للدفاعِ عن سُلطانهمِ المُهدد، ومكانتهمُ المستهدفة, كما أحسَّ الانتهازيون بخطرٍ يتهددُ مكاسبَهم الخبيثة, وأرصدتَهم الحرام, وثرواتِهم المُغتصبة, فاستشاطوا غضباً وامتلأُ حنقاً, وتدافعوا يذودونَ عن مكاسبِهم بكلِّ وحشيةٍ وقُسوة, كما أحسَّ الكهنةُ والمشعوذون بخطورةِ كلمةِ التوحيد على كهانتهِم وشعوذتهم, وأنَّها ستفرُقُ الناسَ من حولهم, فكشَّروا عن أنيابِهم, وأعلنوها حرباً لا تُبقي ولا تذر, كما أحسَّ بالخطرِ ذاتهُ عُبادُ القوميةِ المتعصبونَ لقومياتِهم وعشائرِهم, المقدسون لتقاليدِهم وعاداتِهم, فجُنَّ جنونُهم وظهرَ مرضُ قلوبِهم, وسفاهةُ عقولهمِ, بأبشعِ صورةٍ وأقبحِها, فخرجوا للدفاعِ عن عصبياتِهمُ المُنتنةِ, وتقاليدهمُ البالية, كما شعرَ بالخطرِ نفسه عُبَّادُ الشهواتِ والأهواء, فقاموا من بين أحضانِ بغايا هم, ومِن على موائدِ خمورهم معلنينَ الاحتجاجَ بشدة, ومدافعينَ عن مجونِهم وسُكرهم, وبالجملةِ فقد أحسَّ عُبادُ تلكَ الأوثانِ والأصنامِ على اختلافِ صورِها وأشكالِها، وتعددِ ألقابِها ومسميا تِها, أحسوا بخطورةِ كلمةِ التوحيد على مصالحهم وأطماعهم, فاتحدوا جميعاً لحربِها, وحربِ رافعِ لوائها : (( وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ )) .
فعقدَ المجرمونَ العزمَ على مقاومةِ ذلكَ الناصحُ الأمين, ووضعُ العراقيلِ في طريقه, فأوذي عليه السلامُ واضطُهد, وعُذِّب وطُرد, واتُهِم بالوسوسةِ والجنون, والسحرِ والكِهانةِ, ورُمي بالكذبِ وقولِ الزور, ووصفوا القرآنَ بأنَّهُ أساطيرُ الأولين, وأنَّ محمداً تتنزلُ عليه الشياطين, حتى إذا بلغَ السيلُ الزُبى, واستعصتِ النفوسُ الخبيثةَ على الدعوة, وظهرت صلابةُ القلوبِ, وسفهُ الرجالِ, أذنَ اللهُ بالهجرةِ إلى المدينةِ الشريفة, فخرجَ صحابةُ رسولِ اللهِ ? فراراً بدينهم، وخوفاً من فرعونَ وملئِه أن يفتنهم, خرجوا تاركينَ الأرضَ التي وُلدوا فيها, والبلدَ الذي نشأوا فيه, منخلعينَ من المالِ والأهلِ والولد, فما قيمةُ المالِ والأهلِ والولد حين تُهددُ العقيدةُ, وتصادرُ الحُرية!
وما كاد يمضي طويلَ وقتٍ , إلاَّ ورسولُ اللهِ ? يخرجُ في أثرِ أصحابه وهو يقولُ : واللهِ يا مكةَ إنَّكِ لخيرُ أرضِ الله, وأحبُ أرضِ اللهِ إلى الله ، ولولا أنِّي أُخرجتُ منكِ ما خرجت .
أيَّها المسلمون : إنَّ في الهجرةِ دروساً لا تُنسى, ومآثرَ لا تُطوى, ألا ما أحوجَنا إلى تذاكرِ تلك الدروس,
واستلهام هاتيكَ العبر, في وقتٍ كشَّر العدوُّ عن أنيابه , وأطلَّتِ الرويبضةُ برأسِها القبيح, ألا إنَّ من أعظمِ دروسِ الهجرةِ الشريفةِ، ما يجبُ أن نُدركَه جميعاً, أنَّ الغايةَ الكُبرى من الوجودِ الإنسانيِ بأسرهِ هو عمارةُ الأرضِ بالتوحيدِ والإيمان, وإقامةُ حكمُ اللهِ وشرعهِ في عظائمِ الأُمورِ فما دُونها, أليس اللهُ يقولُ : (( إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُد ُونِ )) .
إذاً فمتى تعذَّرَ تحقيقُ هذه الغايةِ فوقَ أرضٍ ما, فلا بُدَّ من البحثِ عن غيرِها مهما كان الثمن, ومهما كانتِ التضحيات، أملاً في إيجادِ أرضيةٍ صالحةٍ للانطلاقةِ العُظمى, ونشرِ الإسلامِ في ربوعِ الأرض, وعرضِ العقيدةِ بصفائِها, ونقائِها على الناسِ, دون ضغطٍ أو إكراهٍ, وهكذا كان الأمرُ في مكة, فيومَ رفضَ أهلُها الإيمانَ والتوحيد وآثروا الكفرَ والتقليد, أصبحتْ مكةُ بلدَ كفرٍ ودارَ حربٍ, وحُرِّمَ البقاءُ فيها, وأصبحتْ مجاورتُها مع القدرةِ على مُغادرتِها واحدةً من كبائرِ الذنوب : (( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً )) .
وأمَّا الدرسُ الثاني من دُروس الهجرةِ : وهو ذو علاقةٍ وثيقةٍ بسابقهِ . ويوضحهُ ويجليهِ, أنَّهُ لا قيمةَ للأرضِ ولا للوطنِ حين تفسدُ الأرضُ ويكفرُ الوطن .
لقد هاجرَ النبيُ ? وأصحابهُ الوطنَ الذي تربَّوا فيه, والأرضَ التي نشأوا فوقها, وباعوها بأرخصِ الأثمانِ, واشتروا أنفسَهم وأموالَهم بأنَّ لهم الجنَّة وفي هذا كلِّهِ صفعةٌ لكلِّ الذين يُمجدون الأرضَ والرمال, ويُعظمونَ الصخورَ والترابَ على حسابِ العقيدةِ, حتى إنّهم ليفضلونها على جنِّةِ الخُلدِ لو دخلوها .
فيقولُ شاعر هم :
وطني لو شُغلتُ بالخُلدِ عنهُ *** نازعتني إليهِ في الخلدِ نفسي
ويقول آخر :
وطني لو صوروهُ لي وثناً *** لهممتُ ألثُمَ ذلك الوثنا
ويقول وثنيٌ ثالث :
ويا وطني لقيتُكَ بعد يأسٍ *** كأنِّي قد لقيتُ بكَ الشبابا
أديرُ إليكَ قبلَ البيتِ وجهِي *** إذا فهتُ الشهادةَ والمتابا
وحتى الأطفالُ الصغارِ يُربونَهم على مِثلِ هذا الإلحاد, اسمع إليهم وهم يُرددون .
وهبتُك رُوحي وغالي دمي *** وأَسمى أمانيِّ أن تسلمي
وأُشقي حياتي لكي تنعمِي *** وقلبي يُلبيكِ قبلَ الفمِ
بلادي سلمتِ وروحي الفداء .
فماذا بقيَّ لله إذاً ؟؟ ماذا بقيَّ لله ؟!
إنَّ الولاءَ أيَّها المربُون يَجبُ أن يكونَ للهِ وحده, فالأرواحُ لا تُبذلُ إلا في سبيلهِ, والدماءُ لا تُراقُ إلا من أجلهِ, والجهادُ لا يكونُ إلا لإعلاءِ دينهِ, أما حُبُ الوطنِ, فإنَّما يَكونُ بمقدارِ حبِّ أهلهِ للإسلام, وتمسكِ أهلهِ بالإسلام. وبغيرِ الإسلام تصبحُ الأوطانُ مجردَ أتربةٍ وحجارة, لا وزنَ لها ولا قيمة : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيل )) .
وأمَّا الدرسُ الثالثُ من دروسِ الهجرة : فبيانُهُ أنَّ هذا الدينِ لا يَقومُ إلا بالتضحيةِ والبذلِ والعطاء, إنَّهُ دينٌ لا يُعلِّقُ كبيرَ أملٍ على الكُسالى والخانعين, ولا يمنحُ شرفَ حملهِ ونُصرتهِ للمتراجعينَ والمتثاقلين, إنَّ الدينَ ليس قضيةُ بيعٍ وشراء, أو منةً وأذى, إنَّما هو جهدٌ وعناء, وبذلٌ وعطاء, وتضحيةٌ وفداء, ودموعٌ ودماء, وجراحٌ وأشلاء, قلِّبِ النظرَ أنَّى شئتَ في تاريخِ أسلافِك, أما خُلعتْ رؤوسٌ من أجلِ هذا الدين, أما بُقرتْ بطونٌ, أما قُطِّعتْ أطرافٌ, أما سُحلت عيونٌ, قلْ : بلى , بلى , بلى . ثم أجمعْ قُواكَ - يا رعاك الله - واحملْ القرآنَ في يدٍ, والسنةَ في الأخرى.
وهدِّم فراشكَ رمزَ الخمول * * * وقمْ للجهادِ ولا تقعدِ
وقم للنضالِ وخوضَ القتال * * * وشمِّر عن الساقِ والساعدِ
لقد مضتْ قوافلُ الشهداء وقوافلُ المجاهدين إلى ربها، بعضُها إثرَ بعض، فماذا صنعتْ أنتَ أيُّها الأخُ الحبيب, ماذا قدَّمت لدينِك وأُمتِك المُعذبة، ما مقدارُ الهمِّ الذي تحملهُ في قلبِك تِجاه قضايا الإصلاحِ والتغيير؟
كم شخصٍ أسديتَ لهُ نصيحة ؟ أو دفعتَ لهُ موعظة؟ ما جهودُكَ في بيتك تجاهَ أُمكَ وأبيك، وأُختكَ وأخيك ؟ هل غمرتهم بإحسانِك, وخفضتْ لهم جناحَ الذلِّ من الرحمة ؟
هل صنعتَ شيئاً ما تَقي به أهلَ بيتك ناراً وقودُها الناسُ والحجارة ؟!
ما دورُكَ تُجاهَ جيرانك ؟ هل وعظتَ واحداً منهم ؟ هل دفعتَ إليه كتاباً ينفعُهُ، أو شريطاً يسمعُه ؟ ألا كفى يرحمكَ الله تسويفاً وتثاقلاً ؟
وتبوأ رعاكَ اللهُ لنفسك مَقعداً في قوافلِ الدُعاةِ المخلصين، تُحشرُ مع الأنبياءِ والصديقين، والشهداءِ الصالحين .
باركَ اللهُ لي ولكم بالقرآنِ العظيم، ونفعني وأيَّا كم بالذكر الحكيم. وأستغفرُ اللهَ لي ولكم إنَّهُ هو الغفورُ الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ يُعطي ويمنع, ويخفضُ ويرفع, ويضرُ وينفع, ألا إلى اللهِ تصيرُ الأمور. وأُصلي وأُسلمُ على الرحمةِ المُهداة, والنعمةِ المُسداة, وعلى آلهِ وأصحابهِ والتابعين,
أمَّا بعدُ:
أيَّها الموحدون : فدروسُ الهجرةِ كثيرة, وعبرُها متنوعة, والمقامُ مقامُ تذكيرٍ لا مقامُ بسطٍ وتفضيل, لكنَّنا نشيرُ أخيراً إلى أنَّ الهجرةَ ماضيةٌ إلى يومِ القيامة, كلَّما حِيلَ بين الناسِ وعبادةِ ربهم.
ثُمَّ تذكروا يرحمكمُ الله, قولَه عليه السلام « المهاجرُ من هَجَر ما نهى الله عنه » .
فما أحرانا اليومَ ونحنُ نستقبلُ عاماً جديداً، ما أحرانا إلى فتحِ صفحةٍ بيضاء, نصطلحُ فيه مع اللهِ سبحانه، الذي أمهلَنا كثيراً, وصبرَ علينا طويلاً, ومنحنَا الفرصةَ تلوَ الفرصة, (( وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ )) (الشعراء:135) .
إننا مُطالَبون جميعاً بهجرةِ ما نهى اللهُ عنه, إن كُنَّا نُؤمنُ باللهِ واليومِ الآخر, ونُوقنُ بالجنةِ والنار, وهجرةِ ما نهى اللهُ عنه تُطالبُ بها الأمةُ كلُها من أعلى القمةِ إلى أسفلِ القاع .
فالأمةُ كُلها تستقلُ سفينةً واحدة, فليسَ لأحدٍ أن يخرقَ في نصيبهِ خرقاً, فمتى خُرقت السفينةُ, أو عُقرت الناقةُ, فويلٌ للعربِ من شرٍ قد اقترب, إنَّ في ذلك لذكرى لمن كان له قلبٌ, أو ألقى السمع وهو شهيد .
اللهُمَّ إنَّا نسألُك إيماناً يُباشرُ قُلوبنا، ويقيناً صادقاً، وتوبةً قبلَ الموتِ، وراحةً بعد الموتِ، ونسألُكَ لذةَ النظرِ إلى وجهكَ الكريمِ, والشوقُ إلى لقائِكَ في غيِر ضراءَ مُضرة، ولا فتنةً مُضلة،
اللهُمَّ زينَّا بزينةِ الإيمانِ، واجعلنا هُداةً مُهتدين,لا ضاليَن ولا مُضلين, بالمعروفِ آمرين, وعن المُنكرِ ناهين يا ربَّ العالمين, ألا وصلوا وسلِّموا على من أُمرتم بالصلاة عليه، إمامُ المتقين، وقائدُ الغُرِّ المُحجلين، وعلى ألهِ وصحابته أجمعين .
وأرضي اللهُمَّ عن الخلفاءِ الراشدين أبو بكرٍ وعمر وعثمان وعلي.
اللهُمَّ آمنَّا في الأوطانِ والدور، وأصلحِ الأئمةَ وولاةِ الأُمورِ, يا عزيزُ يا غفور, سُبحانَ ربكَ ربِّ العزةِ عمَّا يصفون .
ــــــــــــ(1/191)
إصلاح النفس . . أولا
الدرس الثالث
على الداعية المسلم الواعي : أن يركز أولا _ ودائما _ وقبل كل شئ ، على : تزكية نفس المدعو ، وطهارتها ، وإصلاحها ، وتحبيبها في المعروف ، وتنفيرها وتبغيضها في كل منكر .
حيث إن إصلاح النفس : مدخل إلى كل خير ، وطريق إلى كل نجاح ، وهو في الوقت نفسه : غاية عزيزة المنال ، غالية الثمن ، تحتاج إلى : صدق العزم ، وشد الرحال ، وبذل الجهود .
وهذا : ما ركز عليه ، ولفت الأنظار إليه ، وفعله ، النبي - صلى الله عليه وسلم - مع وفد الأنصار الذين قدموا عليه بمكة ، وبايعوه في العقبة . . حيث بايعهم - صلى الله عليه وسلم - على ذلك في بيعة العقبة الأولى ، ثم بعد عام كامل ، سمت فيه أرواحهم ، وزكت نفوسهم ، وطهرت قلوبهم ، وصلب عودهم ، وصاروا صالحين لتحمل أعباء الدعوة ومهامها ومشاقها : بايعهم - صلى الله عليه وسلم - على الأمور التنظيمية التي تحتاج الدعوة إليها ، ولا يتم نشرها ولا نجاحها بدونها
يقول عبادة بن الصامت :" كنت فيمن حضر العقبة الأولى وكنا أثنى عشر رجلا ، فبايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بيعة النساء . . على : أن لا نشرك بالله شيئا ، ولا نسرق ، ولا نزني ، ولا نقتل أولادنا ، ولا نأتي ببهتان نفتريه من بين أيدينا وأرجلنا ، ولا نعصيه في معروف . . ثم قال : فإن وفيتم فلكم الجنة ، وإن غشيتم من ذلك شيئا فأخذتم بحده في الدنيا : فهو كفارة له ، وإن سترتم عليه إلى يوم القيامة : فأمركم إلى الله عز وجل ، إن شاء عذب ، وإن شاء غفر " "26
أما في بيعة العقبة الثانية ، بعد عام كامل من الأولى .
فقد كانت البيعة :
" على السمع والطاعة في النشاط والكسل ، والنفقة في العسر واليسر ، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأن تقولوا في الله لا تخافوا في الله لومة لائم ، وعلى أن تنصروني وتمنعوني _ إذا قدمت عليكم _ مما تمنعون منه أنفسكم ، وأزواجكم ، وأبنائكم ، ولكم الجنة " "27 "
وهذا درس من الهجرة في غاية الأهمية : حيث إن النفس الطاهرة يجذبها نور الدعوة وصفاؤها ، وتستعذب التضحية في دين الله تعالى بالنفس والنفيس ، مع الثبات - الذي لا تهزه شدائد أو لذائد _ على طريق الحق .
وإغفال هذا الدرس : بالإهمال لإصلاح النفس كلية ، وترك الحبل لها على الغارب ، حتى تبعت جموع هذه الأمة هواها ، وضلت سبيل رشدها ، وفقدت صلاح حالها : هو الذي ألقى بها في أوحال هذا التردي الذي تعانيه ، والتخبط الذي ترسف فيه .
وبسبب إغفال هذا الدرس ، وهذا الإصلاح : أصبحت هذه الأمة : خاوية الوفاض من كل ما يثبتها ، ويملؤها طمأنينة ، وصارت : ترتجف من كل ناعق ، وتتبع كل مضل لها ، رغبا أو رهبا ، حتى سقط أصحاب هذا الزمان في قاع المستنقع البشري ، وغلبهم التخلف العالمي ، وصاروا _ إن كان لقدمهم موضع _ في ذيل قائمة أهل الدنيا وسكانها ، وفقدوا مقومات النجاح ، وضاعت منهم مؤهلات الخيرية ، وندت عنهم أنوار الوسطية ، وعوملوا بلا اكتراث ، بل عوملت حقوقهم بالافتراس ، إلى غير ذلك من ألوان الخسف والنكال والانتقاص .
وإن إغفال هذا الدرس من الحركة الإسلامية خاصة : بسبب الاهتمام والتركيز على الأمور التنظيمية قبل إصلاح النفس ، أو دون استمرار ومتابعة لتزكيتها ، أمر خطير النتائج ، تعاني منه الدعوات ، وتدفع الثمن _ حال إغفاله _ غاليا .
كما وأن الأمور التنظيمية التي تحتاجها الدعوة ، ولا تستمر إلا بها ، لا يمكن أن تنجح ، وتؤدى على الوجه الأكمل ، إلا من متعبد لله تعالى بها ، باحث عن مرضاة ربه عن طريق الإخلاص لله تعالى في أدائها ، ولا يؤديها على هذا النحو
إلا من سمت روحه ، وزكت نفسه ، وأسعدته الجندية الحقه في سبيل نشر كلمة الله تعالى ، ورفع راية الدعوة ، وإعلاء شأن المسلمين
ــــــــــــ(1/192)
العلم بمقاصد الهجرة وأهدافها
محمد أمحزون
تعد الهجرة من أهم متطلبات الدعوة إلى الله (تعالى)، وهي سنة الله في رسله وأنبيائه وعباده المؤمنين، الذين هاجروا فراراً بدينهم وخوفاً من بطش الظالمين، وهو الأمر الذي عرفه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منذ أول يوم جاءه الوحي، إذ لما ذهبت خديجة (رضي الله عنها) إلى ورقة بن نوفل، فأخبره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بما قد رآه، قال له ورقة: (ليتني أكون حيّاً إذ يخرجك قومك) (1).
ولهذا أدرك النبي -صلى الله عليه وسلم- منذ أول يوم أوحي إليه فيه أنه سيُخرج من بلده، وهو أشرف الخلق وأكرمهم عند الله (عز وجل)، فنصْرُ الله في الدنيا وثوابه في الآخرة إنما ينالهما المرء بالعمل، والنصيحة، والمصابرة على الشدائد، واللجوء إلى الله (عز وجل) بالدعاء والاستعانة.
ويُستَنبط من هذا الحديث العظيم: أن الهجرة لا تختص بفئة معينة من المؤمنين في زمن معلوم يأتي عليه زمن آخر فتنسخ، بل إنها دائمة ما دام الحق والباطل وما دام الكفر والإسلام، ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها)(2)، وفي رواية: (لا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار) (3).
ولم يكن وعد الله (سبحانه) بتعظيم أمر الهجرة وثواب المهاجر في سبيله إلا بسبب ما يحتمل المهاجر من عناء ومشقة وشدائد ومكابدة الأخطار، لذلك قال (تعالى): ((وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُم مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ)) [الحج: 58، 59].
وقد أوجب الله (عز وجل) الهجرة على كل مؤمن؛ لتكثير سواد المسلمين، ولنصرة النبي -صلى الله عليه وسلم- ومواساته بالنفس والنفيس، إذ كانت الدولة الإسلامية الناشئة في المدينة بحاجة إلى المهاجرين من المؤمنين؛ ليتوطد سلطان الإسلام فيها، حيث يتربص به اليهود والمنافقون، وتحيط به قوى الأعراب المشركين من حول المدينة، ويترصده كفار قريش الذين أقضت الهجرة مضاجعهم، فمضوا يخططون ويعملون للإجهاز على كيان الإسلام الفتي؛ لذلك تتابعت الآيات في الأمر بالهجرة وبيان فضلها وعظيم أجرها، حتى وعد الله (جل ذكره) المهاجرين في سبيله بتمكينهم من مراغمة أعدائهم، والتوسعة عليهم في أرزاقهم، بقوله (سبحانه): ((وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً)) [النساء: 100].
ثم جاء الوعيد شديداً فيمن تباطأ وتثاقل عن الهجرة والجهاد في سبيل الله، وآثر متاع الدنيا على التضحية في سبيل الله، في قوله (تعالى): ((قُلْ إن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَاًتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ)) [التوبة: 24].
قال الشيخ ابن عتيق (رحمه الله): (وما من أحد يترك الهجرة، إلا وهو يتعذر بشيء من هذه الثمانية، وقد سدّ الله على الناس باب الاعتذار بها، وجعل مَن ترك الهجرة لأجلها أو لأجل واحد منها فاسقاً، وإذا كانت مكة هي أشرف بقاع الأرض، وقد أوجب الله الهجرة منها ولم يجعل محبتها عذراً، فكيف بغيرها من البلدان؟!)(4).
وحسماً لأمر الهجرة وجعله فرض عين: قطع الله (عز وجل) الموالاة بين من هاجر ومن لم يهاجر، وذلك في قوله (تعالى): ((فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ)) [النساء:89].
فالذين دخلوا في هذا الدين عقيدة، لكن لم ينضموا إلى المجتمع الذي يقوم على هذه العقيدة، ولم يلتحقوا به فعلاً، لا يعدّون أعضاءً في المجتمع المسلم، ولذا: لم يجعل الله (عز وجل) بينهم وبينه ولاية وتناصراً بمعناه الأعم: ((إنَّ الَذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)) [الأنفال: 72].
ولما كانت الهجرة بهذه المنزلة، وجب على كل من أسلم أن ينتقل إلى مهاجر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة، إلا من استثني من أهل الأعذار من الأطفال والنساء والشيوخ.
قال القاضي عياض: (واتفق الجميع على أن الهجرة قبل الفتح كانت واجبة عليهم، وأن سكنى المدينة كان واجباً؛ لنصرة النبي -صلى الله عليه وسلم- ومواساته بالنفس)(5).
بل إن الإقامة بعد ذلك في مكة كانت حراماً على من هاجر منها قبل الفتح؛ ولهذا: رثى النبي -صلى الله عليه وسلم- لسعد بن خولة أن مات بمكة (6).
الحكمة من الهجرة:
إن العلم بمقاصد الهجرة وأهدافها أمر ضروري لكل مسلم يهمه أمر إقامة صرح هذا الدين؛ فالنصوص القرآنية التي وردت بصدد الهجرة ما كانت تعالج أمر الهجرة في تلك المرحلة من الزمن فحسب، ولكنها تعالج حالة قائمة في أمر الدعوة، ولذلك: وردت بعض نصوص السنة توضح هذا الأمر.
فعن عبد الله بن عمرو (رضي الله عنه)، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (إنما ستكون هجرة بعد هجرة) (7)، وفي حديث آخر: (لا تنقطع الهجرة ما كان الجهاد)(8).
والجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة، كما جاء في حديث أبي داود: (والجهاد ماضٍ منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال)(9).
وهذا الحكم استنبطه البخاري (رحمه الله) من حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة: الأجر، والمغنم) بقوله: باب الجهاد ماضٍ مع البر والفاجر (10).
ولذلك: فالهجرة ليست مرحلة تاريخية انتهت بمضي وقتها وأهلها، وأصبحت مَعْلَماً وصفحة من صفحات التاريخ فحسب، وإنما هي صفحة من صفحات السيرة المضيئة التي خلّدها القرآن والسنة، وستظل جزءاً من حركة الدعوة إلى الله (تعالى) (11).
يقول صاحب الظلال: (ولقد ظل شرط الهجرة قائماً حتى فتح مكة، حين دانت أرض العرب للإسلام وقيادته، وانتظم للناس في مجتمعه، فلا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد وعمل، كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-...) (12).
على أن الحكمة الأساس من الهجرة هي أن رسالة الإسلام جاءت لتنظم شؤون الناس في شتى مجالات الحياة، فهي دستور ومنهج شامل لا بد لتطبيقه من أمة وأرض تقام فيها أحكام الله (تعالى)، والمسلمون لا يمكن أن يكون لهم وجود فِعلي إلا إذا صبغ الإسلام جميع مرافق حياتهم، وساد نظامه أرضهم، وقامت فيها أحكامه وآدابه، كما تقوم فيها شعائره، وتسود فيها عقائده.لكن إذا تعذر على المسلمين تطبيق أحكام دينهم وإقامة نظامه السياسي والاجتماعي والاقتصادي وآدابه الخلقية في بلدهم، وجب عليهم الانتقال إلى البلد الذي يعمل فيه بأحكام الإسلام وآدابه، تكثيراً لسواد المسلمين، وإعزازاً لأمر الدين، واستعداداً لنصره وتأييده بالنفس والنفيس، وإذا لم يكن للمسلمين بلد تتوافر فيه هذه الشروط، وجب عليهم أن يجتمعوا في بقعة صالحة يقيمون فيها نظام الإسلام تامّاً كاملاً، ويتعاونون على حماية دعوته، واتخاذ الأسباب والوسائل لتحقيق رسالة الإسلام كما جاء بها صاحبها (صلوات الله وسلامه عليه) وكما فهمها منه أصحابه والتابعون لهم بإحسان (13).
وقد غفل عن هذه الظاهرة من أمر الإسلام بعض الذين دخلوا فيه على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلبثوا في وطنهم (مكة) مستضعفين فيها، لا يستطيعون إعلاء كلمة الله لغلبة الباطل يومئذ على الحق، ولا يهاجرون منها إلى المدينة فيقوى بهم الإسلام، فنزل فيهم قول الله (عز وجل): ((إنَّ الَذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَاًوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً)) [النساء: 97].
وعن شأن هؤلاء روى البخاري (في جامعه الصحيح) عن ابن عباس (رضي الله عنه) في قصة أصحاب بدر: (أن أناساً من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يأتي السهم فيُرمى به، فيصيب أحدهم فيقتله، أو يُضرب فيقتل، فأنزل الله (عز وجل): ((إنَّ الَذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ)))(14).
وأخرج ابن أبي حاتم بسند صحيح إلى ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: (كان قوم من أهل مكة أسلموا، وكانوا يستَخْفون بالإسلام، فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم فأصيب بعضهم، قال المسلمون: كان أصحابنا مسلمين وأُكرهوا، فاستغفروا لهم، فنزلت: ((إنَّ الَذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ)) (الآية)، قال: فكُتب إلى من بقي من المسلمين بهذه الآية: لا عذر لهم، قال: فخرجوا فلحقهم المشركون فأعطوهم التقية، فنزلت هذه الآية: ((وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ)) [العنكبوت: 10])(15).
وعند الطبري بسند صحيح إلى ابن عباس (رضي الله عنه): (فكتب إليهم المسلمون بذلك (أي بآية: ((وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ)) (فحزنوا، فنزلت: ((ثُمَّ إنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ)) [النحل: 110]، فكتبوا إليهم بذلك، فخرجوا، فلحقوهم (أي: المشركون)، فنجا من نجا، وقُتل من قتل)(16).
وقال الضحاك: (فنزلت هذه الآية الكريمة ((إنَّ الَذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ)) عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة، وليس متمكناً من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه مرتكب حراماً بالإجماع) (17).
ويمضي هذا الحكم إلى آخر الزمان، متجاوزاً تلك الحالة الخاصة التي كان يواجهها النص في تاريخ معين وفي بيئة معينة، يمضي حكماً عامّاً يلحق كل مسلم تناله الفتنة في دينه في أي أرض، وتمسكه أمواله ومصالحه، أو قراباته وصداقاته، أو إشفاقه من آلام الهجرة ومتاعبها.. متى كان هناك في الأرض ـ في أي مكان ـ دار للإسلام يأمن فيها على دينه، ويجهر فيها بعقيدته، ويؤدي فيها شعائر دينه)(18).
ولما كان الإسلام دين يسر، ومن مبادئه وأحكامه أن تقدر الضرورات بقدرها، وأن يعذر أهلها، كان تمام الآيات السالفة قول الله (عز وجل): ((إلاَّ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُواً غَفُوراً)) [النساء: 98، 99].
وفي تفسير قوله (تعالى): ((فَمَا لَكُمْ فِي المُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإن تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِياً وَلا نَصِيراً)) [النساء:88، 89]، قال العوفي عن ابن عباس (رضي الله عنهما): نزلت في قوم كانوا قد تكلموا بالإسلام، وكانوا يظاهرون المشركين، فخرجوا من مكة يطلبون حاجة لهم، فقالوا: إن لقينا أصحاب محمد فليس علينا منهم بأس، وإن المؤمنين لما أخبروا أنهم قد خرجوا من مكة، قالت فئة من المؤمنين: اركبوا إلى الجبناء فاقتلوهم فإنهم يظاهرون عليكم عدوكم، وقالت فئة أخرى: سبحان الله! ـ أو كما قالوا ـ أتقتلون قوماً قد تكلموا بمثل ما تكلمتم به من أجل أنهم لم يهاجروا ولم يتركوا ديارهم، نستحل دماءهم وأموالهم؟!، فكانوا كذلك فئتين، والرسول عندهم لا ينهى واحداً من الفريقين عن شيء، فنزلت: ((فَمَا لَكُمْ فِي المُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ)) (الآية)) (19).
وهكذا.. إذا كان القرآن الكريم قد أنحى باللائمة على جماعة من المسلمين كانوا في مكة يصلون ويصومون، ولكنهم ارتضوا البقاء تحت أنظمة تخالف الإسلام، فلا قوة لهم على تغييرها، ولم يهاجروا إلى دار الإسلام في المدينة ليكونوا من جنودها المتحفزين لتغيير تلك الأنظمة، فليعلم أن الإسلام لا يكتفي من أهله بالصلاة والصوم فحسب، بل يريد منهم مع ذلك أن يقيموا أنظمته وآدابه في بيوتهم وأسواقهم وأنديتهم ومجامعهم ودواوين حكمهم، وأن يتوسلوا بجميع الوسائل الممكنة لتحقيق هذا الغرض الواجب (20).
كما ينبغي أن يعلم أن الإيمان اعتقاد وقول وعمل، وأنه تكاليف وتبعات، وأنه إقرار وامتثال وطاعة، وإذ هو كذلك: كان لزاماً أن ينعكس أثره على اللسان والقلب والجوارح، علماً، وعملاً، وسلوكاً.
الهوامش:
1) أخرجه البخاري، كتاب بدء الوحي، باب حدثنا يحيى بن بكير، جـ 1، ص 3.
2) أخرجه أحمد في المسند، جـ1، ص 192، وصححه الألباني في (صحيح الجامع الصغير)، ح/7469، م2، ص 1244.
3) الهيثمي: كشف الأستار عن زوائد البزار،، ح/1748، جـ2، ص 304، وابن حجر: التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير، ح/2169، جـ 4، ص 167.
4) ابن عتيق: سبيل النجاة والفكاك من موالاة المرتدين وأهل الإشراك، ص 28.
5) نقلاً عن فتح الباري، جـ7، ص 267.
6) أخرجه البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم- : (اللهم أمضِ لأصحابي هجرتهم)، جـ 4، ص 267.
7) أخرجه أبو داود في السنن، كتاب الجهاد، ح/2482، جـ3، ص 4، وأحمد في المسند، جـ2، ص 199.
8) أخرجه أحمد في المسند، جـ4، ص 62، وقال الألباني: إسناده صحيح، السلسلة الصحيحة، جـ4، ص 239 ـ 240.
9) أخرجه أبو داود في السنن، كتاب الجهاد، ح/2532، جـ3، ص 18.
10) أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، جـ3، ص 215.
11) صالح أحمد الشامي: السيرة النبوية ـ تربية أمة، وبناء دولة، ص 127 ـ 128.
12) سيد قطب: في ظلال القرآن، م3، ص 1560.
13) محب الدين الخطيب: من إلهامات الهجرة.
14) أخرجه البخاري، كتاب التفسير، باب قوله (تعالى): ((إنَّ الَذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ))، جـ5، ص 183.
15) تفسير ابن كثير، جـ1، ص 272.
16) الطبري: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، جـ4، ص243، وابن حجر: الفتح، جـ 8، ص 263.
17) تفسير ابن كثير، جـ1، ص 542.
18) سيد قطب: في ظلال القرآن، جـ3، ص 745.
19) قال ابن كثير في تفسيره: (رواه ابن أبي حاتم، وقد روي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وعكرمة ومجاهد والضحاك وغيرهم قريب من هذا)، جـ1، ص 532.
20) محب الدين الخطيب: من إلهامات الهجرة، ص 52، 53.
Cd مجلة البيان
ــــــــــــ(1/193)
روابط الأمة في ظلال الهجرة
الخطبة الأولى:
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون:
"روابط الأمة في ظلال الهجرة"أمر مهم أن نتأمله، وموضوع جدير أن نستوعبه؛ لأن القدوة العظمى في سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - كانت ومازالت وستظل النور الذي يضيء للأمة طريقها، والبوصلة التي تحدد لها مسارها والمعالم التي تعلي لها منارها {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21].
إن هذا الحدث الذي يمرّ علينا في كل عام ما تزال أنواره وأسراره تكشف لنا الكثير من الخلل والخطر الذي تعيشه أمتنا، فهل من مدّكر؟ وهل من معتبر؟ وهل من متأمل ومتبصر؟ ليس على مستوى الفرد المسلم فحسب، بل على مستوى الأمة كلها، وليس على مستوى الأمة في حياة عامتها، بل في توجهات قادتها.. إنه الحدث العظيم الذي غيّر وجه تاريخ البشرية كلها.. إنه الحدث العظيم الذي أعلن مبادئ الأمة وشيد معالم الدولة.
فلننظر إلى الروابط في حياة أمة الإسلام كيف ينبغي أن تكون؟ وما الذي يقدّم؟ وما الذي يؤخر؟ وما الذي يكون ملء السمع والبصر وملء النفس والقلب؟ وما الذي يكون لا حظ له من الاعتبار، ولا نظر له في مقياس أهل الإيمان.. ننظر إلى ذلك في أحداث هذه الهجرة بجملتها فيما مرّ به أصحاب النبي المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ، وفيما سطّروه لنا من المعاني العظيمة، والدروس الجليلة.. إنهم خريجو مدرسة النبوة، إنهم الذي صنعوا على يد خير الخلق وسيد البشر - صلى الله عليه وسلم - ، إنهم الذين لامس الإيمان شغاف قلوبهم فخالطها وجرى مع دمائهم في عروقهم.
ومن هنا؛ فإن كل ما نأمله من تغير الأحوال إنما يرتبط بهذا الاستيعاب لسيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ، وحياة أمة الإسلام في ظلال قيادته الرشيدة ونبوته العظيمة - عليه الصلاة والسلام -.
الارتباط بالديار والأوطان.. مهوى الأفئدة، ومسقط الرأس.. البلاد التي يعيش فيها المرء ويدرج في ثراها، يتعلم في ظلالها، وينشأ في مدارجها، ويلعب في صباها.. هذه البلاد التي تنشد إليها القلوب، تلك الأوطان التي ترتبط بها النفوس والأفئدة ما موقعها في مقياس الإسلام؟ وهل هي المقدمة التي نسمع اليوم من يقول عن"حب الأوطان"، ومن يقول"جهاد في سبيل التراب"، ومن يقول في هذه المعاني حتى أصبحت كأنما هي آلهة تعبد، وكأنما هي أوثان لها يسجد، وكأنما هي في حياة المسلم أو الأمة كلها أعظم من كل عظيم ينبغي أن يعظم.
انتبه إلى السيرة النبوية في الهجرة في هذه الأحداث اليسيرة حدث لهذا الأمر كان ممن سبق إلى الهجرة وتقدم إليها عبد الله بن جحش وأخوه أبو أحمد الضرير الشاعر الشهير ثلة من النفر الأوائل الذين خرجوا مهاجرين إلى الله وإلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - إلى الأمر الذي أمر به الله وأمر به المصطفى - عليه الصلاة والسلام - خرجوا لا يلوون على شيء مازال حب أرضهم يتجذّر في قلوبهم، ومازالت ديارهم حبيبة إلى نفوسهم مازالت ذكرياتهم حاضرة في أذهانهم، لكن أمر الله - عز وجل - والارتباط به، والاعتزاز به كان أعظم في نفوسهم من كل شيء.
ومن هنا؛ فإن غلب على حب الأوطان ولم يلغه، وإنه تقدّم على حب الديار ولم يمحه، وهكذا كان أولئك النفر الأوائل يرسمون لنا ما رباهم عليه رسول الهدى - صلى الله عليه وسلم - .. خرجوا وتركوا وراءهم ديارهم، ليس فيها أحد مطلقاً. وجاء صاعدٌ من أعلى مكة عتبة بن ربيعة، وأبو جهل، والعباس بن عبد المطلب، بعد أن تمت الهجرة لأولئك فمروا ووقفوا عند الديار، وتأمل عتبة بن ربيعة - وهو على كفره وشركه - لكن المعاني الإنسانية تثور في النفوس، تأمل الديار تخفق أبوابها يبابا ليس فيها ساكن فتمثل قائلا:
وكل دار وإن طالت سلامتها **** يوما ستدركها النكباء والحوب
فقال أبو جهل : وما تبكي عليه من قُلّ بن قُلّ .
وأبلغ من ذلك ما قصه لنا أبو أحمد بن جحش - رضي الله عنه - هذا الصحابي الضرير الشاعر - يصور لنا تلك المشاعر التي تجيش بها النفوس، يوم خرجوا مهاجرين، مخلفين الديار والأوطان، ويذكر الحوار الذي تصوره وجرده بينه وبين زوجته أم أحمد، وهي تخاطبه مصورا ذلك شعراً ويقول:
لما رأتني أم أحمد غاديا **** بذمة من أخشى بغيب وأرهب
تقول: فإما كنت لابد فاعلا **** فيمن بنا البلاد ولتنأ يثرب
"ماذا تريد بهذه البلدة؟ ولم التوجه إليها؟"
فقلت لها: بل يثرب اليوم وجهنا **** وما يشأ الرحمن فالعبد يركب
"فأمره مقدم - جل وعلا - ودينه معظم على كل شيء"
إلى الله وجهي والرسول ومن يقم **** إلى الله يوما وجهه لا يخيُّب
فكم قد تركنا من حميم مناصح **** وناصحة تبكي بدمع وتندب
ترى أن وترا نأينا عن بلادنا **** ونحن نرى أن الرغائب نطلب
"أي قوم لا يفقهون فيقولون: لماذا تقطعون جذوركم؟ ولماذا تبتون حبال وصلكم؟ ولماذا تهجرون دياركم؟"
ترى أن وترا نأينا عن بلادنا **** ونحن نرى أن الرغائب نطلب
وكنا وأصحابا لنا فارقوا الهدى **** أعانوا علينا بالسلاح وأجلبوا
نمت إليهم بأرحام إليهم قريبة **** ولا قرب بالأرحام إذ لا نقرب
فإن الذي يقرب هو الإيمان والدين.
ولننظر إلى رابطة أخرى تجذب الناس وتربطهم.. رابطة الأهل والولدان
رابطة القرابة والدم كيف تؤثر في الناس فتجعل حياتهم دائرة حولها، فهذا يسعى لأجل أبنائه، وذاك يتعلق بزوجه، وهذا لا يكاد يفكر في شيء إلا في أهله لأجلهم يضحي بكل غالٍ ورخيص، ولأجلهم يمكن أن يبيع مبدأه وأن يتنازل عن دينه فكيف كان أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ؟
ذكر أهل السير أن من أوائل من هاجر إلى المدينة قبل سنة من هجرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أبو سلمة بن عبد الأسد - رضي الله عنه - وهاهي أم سلمة أم المؤمنين - رضي الله عنها -تروي لنا حادثة هجرتها؛ لتبين أن الارتباط بالله وبالدين أعظم من الزوج والأهل والأبناء والقرابات والدم والعصابات وكل شئ.. فها هي تخبرنا بذلك تقول: "لما أجمع أبو سلمة الخروج إلى المدينة رحّل بعيراً له، وحملني وحمل معي ابني سلمة، ثم خرج يقود بعيره - امتثالا لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ أمر أصحابه بالهجرة بعد أن بزغت أنوار الإسلام في قلوب الأنصار - فلما رأته رجال بني المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم قاموا إليه فقالوا هذه نفسك غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتك هذه؟ علام نتركك تسير بها في البلاد؟ قالت فنزعوا خطام البعير من يده فأخذوني منه. قالت وغضب عند ذلك بنو عبد الأسد، رهط أبي سلمة فقالوا: لا والله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا. قالت فتجاذبوا بني سلمة بينهم حتى خلعوا يده وانطلق به بنو عبد الأسد، وحبسني بنو المغيرة عندهم وانطلق زوجي أبو سلمة إلى المدينة.."
تفرقت الأسرة، وتشتت الشمل، وتقطعت الأواصر، وذلك في الله سبيل - عز وجل -، ولم يقعد أبو سلمة - رضي الله عنه - حنينه إلى أهله، ولا ارتباطه بأبنائه، ولا تقديره وتكريمه لزوجه وإن كان كل ذلك في قلبه ونفسه لكن في إيمانه بربه واعتصامه بدينه ما هو أعظم من هذا وأوثق، فمضى مهاجرا دون أن تقعده زوجة، ودون أن يجذبه أبناء ودون أن يحول بينه وبين المضي لأمر الله - عز وجل - أهل ولا ولدان، ولا صحب ولا خلان، بل هو أمر تعظيم الإيمان.
هكذا في صورة أخرى ختمتها أم سلمة بقولها: "ففرق بيني وبين زوجي وبين ابني. قالت فكنت أخرج كل غداة فأجلس بالأبطح فما أزال أبكي، حتى أمسى سنة أو قريبا منها حتى مر بي رجل من بني عمي، أحد بني المغيرة فرأى ما بي فرحمني فقال لبني المغيرة ألا تخرجون هذه المسكينة فرقتم بينها وبين زوجها وبين ولدها قالت فقالوا لي: الحقي بزوجك إن شئت. قالت ورد بنو عبد الأسد إلي عند ذلك ابني. قالت فارتحلت بعيري ثم أخذت ابني فوضعته في حجري، ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة. قالت وما معي أحد من خلق الله. قالت فقلت: أتبلغ بمن لقيت حتى أقدم علي زوجي، حتى إذا كنت بالتنعيم لقيت عثمان بن طلحة بن أبي طلحة أخا بني عبد الدار فقال لي: إلى أين يا بنت أبي أمية؟ قالت فقلت: أريد زوجي بالمدينة. قال أو ما معك أحد؟ قالت فقلت: لا والله إلا الله وبني هذا. قال والله ما لك من مترك فأخذ بخطام البعير فانطلق معي يهوي بي، فوالله ما صحبت رجلا من العرب قط، أرى أنه كان أكرم منه كان إذا بلغ المنزل أناخ بي، ثم استأخر عني، حتى إذا نزلت استأخر ببعيري، فحط عنه ثم قيده في الشجرة، ثم تنحى عني إلى شجرة فاضطجع تحتها، فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري فقدمه فرحله ثم استأخر عني، وقال اركبي. فإذا ركبت واستويت على بعيري أتى فأخذ بخطامه فقاده حتى ينزل بي. فلم يزل يصنع ذلك بي حتى أقدمني المدينة، فلما نظر إلى قرية بني عمرو بن عوف بقباء قال زوجك في هذه القرية - وكان أبو سلمة بها نازلا - فادخليها على بركة الله ثم انصرف راجعا إلى مكة. قال فكانت تقول والله ما أعلم أهل بيت في الإسلام أصابهم ما أصاب آل أبي سلمة، وما رأيت صاحبا قط كان أكرم من عثمان بن طلحة"، ذلك الذي مضى بأم سلمة لتلحق بزوجها بعد عام كامل كانت كل يوم تبكي فيه فرقة زوجها وعدم تمكنها من الهجرة.
ورابطة ثالثة عظيمة في نفوس الناس، عظيم تأثيرها في واقع حياتهم: رابطة الدرهم والدينار
رابطة المال والثروات.. رابطة كسب الدنيا الذي أدارت العقول، وسبت القلوب، وخطفت الأبصار.. الرابطة التي أطلق النبي - عليه الصلاة والسلام - عليها وصف العبودية يوم قال:
(تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار تعس عبد القطيفة تعس عبد الخميصة تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش)، سماه عبداً لمّا كانت الدنيا أكبر همّه، وأوكد شغله، لأجلها يكدح، وفيها يفكر وبها يتعلق، ومنها ينهل، فليس في قلبه ولا في نفسه، ولا في فكره وخاطره شيء سواه.. لكن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم هاجروا ركلوا دنياهم بأقدامهم، وداسوا على كل ذلك الثراء الذي كدحوا من أجله، ونصبوا في تحصيله، لكنه يوم كان في كفةٍ والارتباط بالله وبدين الله في كفة..لم يكن عندهم أدنى تردد أن يضحوا بالدنيا كلها، وبالمال - وإن عظم، وبالثروة وإن تضاعفت، لأن في نفوسهم ما هو أعظم من ذلك.
وقصة صهيب الرومي في هذا واضحة يوم عزم على الهجرة وجاء خارجا فلحقه أهل قريش قائلين له: جئتنا صعلوكا حقيراً، ثم كثر مالك عندنا، وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك! والله لا يكون ذلك، قال: أرأيتم إن دللتكم على مالي أتتركونني وهجرتي؟ قالوا: نعم، فدلهم على ماله وثروته..
خرج منها صفر اليدين، خاوي الوفاض بعد أن كانت حصيلة أعوام طوال وعمل عظيم لكنه ذهب وقلبه مملوء بما هو أعظم من ابتلائه بالدنيا، مملوء بإيمانه بالله وحبه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلما بلغ المدينة ولقي النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك قال له النبي عندما رآه ولقيه: (ربح البيع أبا يحي، ربح البيع أبا يحي).
بيعة رابحة وصفقة عظيمة وتجارة رائجة؛ ذلك أنه اشترى آخرته بدنياه، واشترى دنياه بذهبه ودنانيره، ذلك أنه آثر آخرته على دنياه، وقدّم مرضاة الله - سبحانه و- تعالى - على نوازع نفسه وميل قلبه، ولذلك قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : (ربح البيع أبا يحي).
ومن هنا قال بعض أهل التفسير أيضا: أن فيه وفي أمثاله نزل قول الله - سبحانه و- تعالى -: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة:207].
وهكذا بين لنا النبي - صلى الله عليه وسلم - الصفقة العظيمة:(ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله هي الجنة).
من أرادها فليدفع ثمنها، من أعجب بالحسناء لم يغله المهر، لابد أن نفقه ذلك: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: من الآية 111].
فهل أمة الإسلام اليوم تؤثر ربها ودينها على أرضها وديارها؟ وهل هي تقدّم أمر ربها وأمر مرضاته وطاعته على طاعة الأزواج والأبناء والبنات؟ وهل هي تتعلق بقلوبها وتهفو بنفوسها إلى صلتها بربها أعظم من خفق قلوبها وميل نفوسها إلى الدنيا وبهرجها وزينتها؟
إن الهجرة تحديد للمسار الصحيح ورسم للارتباط اللازم في حياة الأمة، إن أمة الإسلام لم تكن يوما عبدة ولا مسخرة ولا متعلقة بتراب من الأرض مهما غلا ثمنه، ولا بأهل حتى عزّت مكانتهم، ولا بال مهما كان النصب بتحصيله؛ لأن ما هو أعظم من ذلك هو الذي ملأ قلوبهم ونفوسهم، وشغل خواطرهم وأفكارهم، وأضنى أجسادهم وجوارحهم.. ذلكم هو الارتباط بالله - عز وجل -.
وكذلك: الارتباط برسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف نرى ملامحه في أحداث الهجرة؟ كيف نؤسس الأساس الصحيح لصلتنا بسيدنا رسولنا - صلى الله عليه وسلم - ؟ كيف تكون رابطتنا به؟ هل هي مجرد أقوال نترنم بها؟ هل هي مجرد ادعاءات نجادل عنها؟ هل هي مجرد صور فارغة لا روح ولا حقيقة فيها؟
لننظر إلى الدرس العملي العظيم الذي ساقه إلينا أفضل الصحابة - رضوان الله عليهم - أبو بكر الصديق - سيد الصحابة ومقدمهم رفيق المصطفى - صلى الله عليه وسلم - في الهجرة وثاني اثنين إذ هما في الغار وأحب الناس من الرجال إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك الذي اختاره الله - جل وعلا - ليحظى بالشرف العظيم في المرافقة في الحدث العظيم؛ لننظر إلى ما كان من أبي بكر، ولنرى من سياق فعله في هذه الهجرة ما هو معالم كاملة لما ينبغي أن ترتبط به الأمة في مجموعها والمسلمون في آحادهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
أولا: السمع والطاعة
السمع والطاعة تمثلت في موقف أبي بكر عندما أمر المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بالهجرة كان أبو بكر يتوق إليها ويرغب فيها وجاء يستأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيؤخره ويمنعه: (انتظر يا أبا بكر لعل الله يجد لك صاحبا).
وأبو بكر يسمع ويطيع، لا يعارض ولا يجادل ولا يحرف، ولا يؤخر ولا يسوف، وإنما هو كمال الامتثال؛ لأن هذا هو الذي أمر به كل مسلم اقتداء واتباع وسمع وطاعة: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: من الآية 31].
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: من الآية 36].
والدرس قد جاء في حق أبي بكر - رضي الله عنه -:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات:1].
وليس هو فحسب؛ وإنما الصحابة رضوان الله عليهم أمرهم أن يهاجروا وأن يسبقوه لم يقولوا: كيف نمضي وأنت هنا في مكة؟ لم يقولوا شيئا يعارضون به أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهم يعرفون أن أمره وحي يوحى وشرع يقر.
ثم الأمر الثاني: تعلق ومحبة:
تعلق قلبي ومحبة نفسية؛ لأنه لا يمكن تصور اتباع مجرد عن العواطف الإيمانية، ولا عن المشاعر الإنسانية، هل رأيت أحداً يوافق أحداً ويتابعه وقلبه قد نبض ماء المحبة فيه، ونفسه قد غاضت منها مياه المودة؟
هل يتصور أن يكون اتباع مجرد ليس فيه روح ولا شعور؟
انظر إلى ما كان الصديق - رضي الله عنه - في حياته كلها لكننا نريد حدث الهجرة الذي نحن بصدده:
كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فجعل يمشي ساعة بين يديه وساعة خلفه، حتى فطن له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا أبا بكر مالك تمشي ساعة بين يدي وساعة خلفي؟ فقال: يا رسول الله أذكر الطلب فأمشي خلفك، ثم أذكر الرصد فأمشي بين يديك. فقال:يا أبا بكر لو كان شيء أحببت أن يكون بك دوني؟ - أي لو كان هناك خطب سيحل بنا في هذه الرحلة المحفوفة بالمخاطر أ كنت تحب أن تصاب به دون أن أصاب به أنا؟ - فقال على الفور قال: نعم والذي بعثك بالحق ما كانت لتكون من مُلمّة إلا أن تكون بي دونك. رواه البيهقي في الدلائل.
محبة من القلب تجعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - أعظم في النفس والقلب من النفس ذاتها: (حتى يكون هواه تبعا لما جئت به).. (حتى أكون أحب إليه من أهله وولده ونفسه التي بين جنبيه).. (الآن يا عمر).
هذه هي المحبة الصادقة التي تتجسد خفقاً في القلب ونبضاً، والذي تتجلى في تعلق وشوق وتعظيم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وليست أيضا متجردة عن الاتباع والسمع والطاعة؛ فإنها حينئذ إن كانت كذلك محبة كاذبة محبة رخيصة تكتفي بأقوال أو أشعار تكتفي بصور أو مظاهر، لكنها لا تريد حمل العبء ولا القيام بالمهمة ولا اتباع الطريق الطويل المضني الشاق الذي سار فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنها محبة كاذبة فارغة إن لم تجتمع معها تلك المبادرة إلى الاستجابة والموافقة والمتابعة.
وثالثا: البذل والإنفاق:
الذي كان من أبي بكر في هذه المسيرة العظيمة في هجرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - لقد هيأ الراحلتين وعلفهما، وهيأ زاد الرحلة كلها، وأخذ معه خمسة آلاف أو ستة آلاف كانت هي مجموع ثروته كلها، لم يبق لأهله من ورائه درهماً ولا ديناراً.. إنه ينفقها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الهجرة؛ ليمضي الأمر وليتمم المسيرة وليحقق الغاية.
وهكذا ينبغي أن نكون نحن - أيضاً - في هذا الشأن وإن لم يكن رسول الله - عليه الصلاة والسلام - بين أيدينا، أليس قد تجرأ من تجرأ على شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذمّه وعابه؟ فأين الذين تصدوا لذلك غيرة؟ وأين الذين أنفقوا في حربه من أموالهم؟ وأين الذين تصدوا له بكل قواهم؟ كذلك ينبغي أن نكون.
ثم ننظر أيضا إلى معلم آخر: وهو: معلم التعظيم والخدمة.
التي قام بها أبو بكر - رضي الله عنه - في صورة فريدة جميلة رائعة تجسّد لنا كيف كان ذلك الصحب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟
يخبر في حادثة الهجرة فيقول: ثبتت لنا صخرة طويلة لها ظل قد نأت عنه الشمس فلجأنا إليه، قال: فسويت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكاناً ثم فرشت عليه غطاء، وقلت: يا رسول الله اجلس فنم أنفض لك ما حولك- أي سأستجلي الخبر وأنظر ما حولك وأنت عليك بالراحة والنوم - قال: فذهبت أنفض ما حوله فإذا أنا براع مقبل يريد من الظل ما أردنا منه، فقلت: لمن أنت يا غلام؟ قل: لفلان، فقلت: هل في غنمك لبن؟ قال: نعم، فاحتلبت منه، قال: ثم صببت عليه الماء البارد حتى أبرده لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم جئت فإذا هو قد نام فكرهت أن أوقظه فوقفت على رأسه إلى أن قام فسقيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وفي الرواية الأخرى: لما جاء يحلب حلب أبو بكر بنفسه، قال: فنفضت عن الضرع الغبار وأزلت عنه الشعر والقذى تطييبا للبن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
ونحن ينبغي أن نخدم سنته وأن نخدم سيره وأن نفعل كل ما نستطيع في ذلك.
ونرى أيضا هذه المعالم وهي توالى ومن أعظمها: التضحية والفداء
التضحية والفداء الذي كان من أبي بكر - رضي الله عنه -في قوله للرسول:"إن قتلت أنا قتلت وحدي وإن قتلت يا رسول الله هلكت الأمة"، هكذا كانت نظرتهم وهكذا كانت مشاعرهم فدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنفسه وبماله وبراحته وبكل شيء كان منه؛ ليرسم لنا أبو بكر هذا الارتباط الصادق الواعي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
الخطبة الثانية:
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه.
ومن دروس الهجرة أيضا في معاني الارتباط:
الارتباط بالمسلمين:
ارتباط المسلم بإخوانه المسلمين، ارتباط أهل كل بلد مسلم بإخوانهم - وإن نأت بهم الديار، وإن اختلفت أو تباعدت منهم الأقطار..
في هذه الهجرة كانت الصورة الفريدة الخالدة التي بينت أمر التفضيل والتقديم، هل هو للأرحام وللأنساب وللدم وللعرق؟ أم هو للدين ولله وللرسول ولأمة الإسلام ووحدتها؟
لقد رسم الصحابة في هجرتهم هذا المعنى ليس بمجرد الأقوال بل بالأفعال؛ لأنهم آثروا أن يرتبطوا ارتباط الإيمان وأن لا يكون ارتباط الدم إذا كان عائقا أو معارضا عقبة في طرق هذا المسير الذي اختاروه وارتأوه.
وأمر الأخوة والمحبة وهو الأمر العظيم الذي جعله النبي - صلى الله عليه وسلم - من الإيمان فقال: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه).
والذي جعله الله - جل وعلا - قبل ذلك سمة عظيمة وجزءاً أصيلا، ووجهاً آخر للإيمان في الآية التي فيها حصر وقصر: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: من الآية 10].
وتجلّت الأخوة في أجلى وأعظم صورها، وبلغت أعلى مراتبها في المرتبة الثالثة وهي:
مرتبة الامتزاج والإيثار
امتزاج حتى يصبح المسلم كأخيه المسلم يصبح المسلم بمنزلة ومكانة ممتزجة نفسه بنفسي مختلطة مشاعره بمشاعري متأثرة اهتماماته باهتماماتي وبعد ذلك يكون الأمر الأعظم في أن أوثره على نفسي وأقدمه على مصلحتي: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9].صورة للتربية الإيمانية، والتطهير القلبي، والتهذيب النفسي الذي جسدته الهجرة في علاقة الصحابة والمسلمين بعضهم ببعض: {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِم}.
وليست بينهم أنساب ولا أحساب، وليست بينهم مصالح ولا منافع، وليست بينهم سابق معرفة ولا صلة يحبونهم من أعماق قلوبهم: {وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا}، أين مثل المهاجرون يوم قدموا؟ يوم قدموا إلى المدينة وتركوا ديارهم، أين ديارهم في المدينة؟ لقد كانت دور الأنصار دورا لهم ولقد كانت أراضي الأنصار أراضي لهم، ولقد كانت زروعهم وثمارهم وأموالهم هي أموال إخوانهم، فهل هذا يتجلى في حياة الأمة اليوم؟ أم أننا نرى صورة"أنا والطوفان من بعدي"؟ أم أن ما نراه"الأنانية والذاتية"إما على مستوى الفرد، أو على مستوى المجموعة والدولة والقطر، فهؤلاء لهم كذا وهؤلاء لهم كذا، وتفرقت الأمة شيعاً وأحزاباً حتى كأن كل فرد منها أمة وحده.(1/194)
أين هذه الصورة العظيمة التي أخرج البخاري في وصفها الحديث العظيم في قصة عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع وهو يقول- أي سعد بن الربيع الأنصاري - لعبد الرحمن بن عوف المهاجري: إني أكثر الأنصار مالا فانظر أي مالي أحب إليك أقسمه لك؟ وإن لي زوجتين فانظر أيهما تحب أطلقها فتعتد ثم تزوجها؟! فيقول عبد الرحمن رضي الله عنه: أمسك عليك زوجك ومالك ودلني على السوق، وأخذ منه مالا ضارب به ثم إذا بعبد الرحمن بن عوف أثرى أثرياء صحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
أين القلوب المحبة والنفوس المتآخية والصفوف المتراصة المتلاحمة؟
درس الهجرة تعليم للأمة في روابطها كيف ينبغي أن تكون ارتباطها بالله والدين.. ارتباطها بالرسول العظيم.. ارتباط المسلمون بإخوانهم المسلمين..
الارتباطات التي تحدد مسار الحياة ينبغي أن نراجعها في ظل واقع كثرت فيه كثير من المشكلات، وأصبح أمر الدين عند كثير من الناس هيّناً، وأصبح أمر الله - عز وجل - في واقع حياة كثير من الناس مؤخراً، وأصبحت سنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - عندهم كأنما لا قيمة لها، وأصبحت علائقهم بإخوانهم فيها ما فيها وليس ذلك تأييس.
وقد نرى ونحن نرى بحمد الله - عز وجل - كثيرا من بشائر الخير وكلما زادت المحن زادنا الله - عز وجل - من المنح؛ حتى تتجدد هذه المعاني ولعلنا ونحن في حديثنا عن الهجرة نجددها في نفوسنا ونحييها في قلوبنا ونظهرها في واقعنا ونشرها في دعوتنا ونتواصى بها فيما بيننا. http://islameiat.com
ــــــــــــ(1/195)
فقه الهجرة النبوية
الدكتور خالد بن محمد الغيث
إن المتأمل في هجرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة النبوية يجد أن التوكل على الله هو عنوان وشعار تلك الرحلة المباركة.
فمنذ أن جاء جبريل - عليه السلام - ، إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخبره أن قريشاً قد عزمت على قتله، وأن الله قد أذن له بالهجرة إلى المدينة، حتى سارع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكله ثقة بنصر الله وتمكينه، إلى حشد كل الأسباب المادية المتاحة استعداداً للهجرة حيث توجه متخفياً في نحر الظهيرة إلى منزل أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - ليخبره الخبر، ويتدارس معه أمر الهجرة إلى المدينة، وهناك في دار الصديق، - رضي الله عنه - تم إعداد مخطط الهجرة وتقسيم الأدوار بكل دقة ووضوح.
ومما يستوقف القارئ لأحداث الهجرة أن الفتاة المسلمة كانت حاضرة لأخطر قرار في تاريخ الدعوة حيث كانت عائشة وأسماء - رضي الله عنهما - تستمعان لتلك المداولات التي دارت بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين والدهما أبي بكر الصديق رضي الله عنه. قالت: (بينما نحن يوماً جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة، قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - متقنعاً في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر: فداء له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر، قالت: فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستأذن فأذن له فدخل، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر: أخرج من عندك، فقال أبو بكر: إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله، قال: فإني قد أذن لي في الخروج، فقال أبو بكر: الصحبة بأبي أنت يا رسول الله، قال رسول الله: نعم: قال أبو بكر: فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين، قال رسول الله: بالثمن، قالت عائشة: فجهزناهما أحسن الجهاز وصنعنا لهما سفرة في جراب فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب فبذلك سميت ذات النطاق).
ولعل ما سبق يكون حافزاً للفتاة المسلمة في هذا العصر لتواصل دورها الحيوي في الدعوة إلى الله بكل شجاعة وفخر.
أما شباب الإسلام فقد كان لهم حضورهم المميز، ودورهم الفاعل في تنفيذ مخطط الهجرة، حيث نفذ علي بن أبي طالب وعبد الله بن أبي بكر - رضي الله عنهما - دورهما بكل فدائية وشجاعة، فعلي - رضي الله عنه - تولى عملية التمويه على كفار قريش حيث نام في فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة الهجرة، أما عبد الله بن أبي بكر - رضي الله عنه - فقد تولى مهمة نقل أخبار قريش إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند مكثه في غار ثور هو والصديق - رضي الله عنه - بكل دقة وحذر، وبراعة في التمويه على كل من يفكر أن يتعقبه ويستطلع وجهته، وبالرغم من كل الجهود السابقة والدقة في تنفيذ مخطط الهجرة شاءت إرادة الله - سبحانه - وتعالى - أن تتمكن قريش من اقتفاء أثر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه - رضي الله عنه - وتحديد المكان الذي انقطع عنده الأثر، ألا وهو جبل ثور، حتى نعلم أن الأسباب المادية، التي تضخمت في ذهن كثير من المسلمين في هذا الزمان بفعل الغزو الفكري المادي لا تكفي وحدها لتحقيق النجاح، بل هي أسباب مساعدة، وحتى نعلم أيضاً أن الجهد البشري في التخطيط والتنظيم والدقة في التنفيذ لا تغني عن توفيق الله وعنايته وحفظه لعباده المؤمنين.
لقد وصلت قريش إلى غار ثور، وكادوا يحصلون على مبتغاهم، لكن الله صرف أبصارهم وأعمى قلوبهم، ولقد سجل القرآن الكريم تلك اللحظات الحرجة في مسار الدعوة وما فيها من معان عظيمة من معاني التوكل على الله وتفويض الأمر إليه وحده - سبحانه - قال - تعالى -: (إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم). قال العلامة ابن سعدي - رحمه الله - في تفسير هذه الآية: (وفيها فضيلة السكينة وأنها من تمام نعمة الله على العبد في أوقات الشدائد والمخاوف التي تطيش لها الأفئدة، وأنها تكون على حسب معرفة العبد بربه، وثقته بوعده الصادق، وبحسب إيمانه وشجاعته (وأيده بجنود لم تروها) وهم الملائكة الكرام الذي جعلهم الله حرساً لنبيه - صلى الله عليه وسلم - . وقال أيضاً: (وفي هذه الآية الكريمة فضيلة أبي بكر الصديق بخصيصة لم تكن لغيره من هذه الأمة، وهي الفوز بهذه المنقبة الجليلة والصحبة الجميلة، وقد أجمع المسلمون على أنه المراد بهذه الآية الكريمة، ولهذا عدوا من أنكر صحبة أبي بكر للنبي - صلى الله عليه وسلم - كافراً لأنه منكر للقرآن الذي صرح بها. وفيها: أن الحزن قد يعرض لخواص الصديقين مع أن الأولى إذا نزل بالعبد أن يسعى في ذهابه عنه فإنه مضعف للقلب موهن للعزيمة).
وفي الطريق إلى المدينة تمكن أحد فرسان العرب وهو سراقة بن مالك من اقتفاء أثر ذلك الركب الميمون لكن الله - سبحانه وتعالى - صرفه عنهم بمنه وكرمه فكان ذلك سبباً في إسلام سراقة بن مالك رضي الله عنه.
لقد كانت الهجرة إلى المدينة منعطفاً تاريخياً في حياة الأمة المسلمة انتقلت فيه من مرحلة الاستضعاف والابتلاء في العهد المكي إلى مرحلة الاستخلاف والتمكين في العهد المدني، لكن هذا الاستخلاف يحتاج إلى جماعة مؤمنة تقوم بأعبائه ومتطلباته؛ لذا فما إن وصل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة حتى شرع في إرساء قواعد المجتمع المسلم حتى يهيئ الأسباب التي تعين الأمة على الاستخلاف والتمكين.
هذا وقد تمحورت تلك القواعد حول الموضوعات التالية:
أولاً: علاقة الأمة المسلمة بربها، وقد كان ذلك عن طريق بناء المسجد الذي تستطيع فيه الأمة أن تعبد ربها وتنفقه في أمور دينها ويتشاور فيه المسلمون حول آمالهم وآلامهم، ومن الملاحظ أن هذا الأمر قد دفع أعداء الأمة في كل زمان ومكان إلى تحجيم دور المسجد لأنه روح الأمة المسلمة وقلبها النابض.
ثانياً: علاقة الأمة المسلمة مع بعضها البعض، وقد كان ذلك عن طريق المؤاخاة بين الصحابة رضوان الله عليهم الذين تركوا بلادهم وأوطانهم، واستقروا في المدينة النبوية، وهو ما يعرف في هذا العصر باللجوء، أو النزوح، لكن شتان بين معالجة هذه المشكلة في هذا العصر، وبين نظام المؤاخاة الذي حفظ كرامة الصحابة رضوان الله عليهم وصهرهم في وحدة إيمانية لم يشهد لها التاريخ مثيلاً على الإطلاق.
إن المؤاخاة والألفة التي تمت بين الصحابة رضوان الله عليهم لم تتحقق بجهد بشري أو بفلسفات اجتماعية، أو إدارية، أو نفسية كما يردد البعض في هذا الزمان، بل هي منة من الله - سبحانه - وتعالى - امتن بها على عباده المؤمنين قال - تعالى -: (وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم).
ثالثاً: علاقة الأمة المسلمة مع غيرها من الأمم الكافرة، وهو ما وضحته وثيقة المدينة انطلاقاً من عقيدة الولاء والبراء التي حفظت هوية الأمة من التحلل والذوبان، وهو ما تعاني منه الأمة المسلمة في هذا الزمان بفعل ضمور عقيدة الولاء والبراء في قلوب كثير من المسلمين.
بعد ذلك انطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاملاً لواء الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله حتى توفاه الله بعد أن أدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده، وفي الختام أشير إلى أن اختيار الصحابة رضوان الله عليهم في عهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - للتأريخ بالهجرة النبوية المباركة دون غيرها من الأحداث يعد من فقه الصحابة وفهمهم العميق لأهمية هذا الحدث الذي انتقلت الأمة المسلمة بسببه من مرحلة الاستضعاف والابتلاء إلى مرحلة الاستخلاف والتمكين.
http://www. altareekh. com
ــــــــــــ(1/196)
الهجرة نصر
لقد انتصر الإيمان بالهجرة.. وارتفعت راية الحق بالهجرة وأضاء الأمن ظلام الخوف بالهجرة، وازدهرت الحرية وجاء الفرج بالهجرة، وارتفعت رايات القوة.
(وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون) [ الأنفال:60].
لقد أصبح بالهجرة للمسلمين دولة لا صوت فيها إلا الله ورسوله.. ولا دستور إلا القرآن ولا عزة إلا للمؤمنين...
الخير فيها مزدهر واضح والشر منزو مكبوت، لا تشيع الفاحشة في مجتمعها ولا يكشر الباطل عن أنيابه في دروبها، وعندما نعي معنى الهجرة وندرك نتائجها التي يجب أن تحققها ستكون الهجرة بالنسبة لنا نصر كما كانت للمستضعفين في مكة أكبر نصر.
(واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فأواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون) [ الأنفال: 26].
فإلى كل المستضعفين في الأرض اجعلوا شعاركم (ففروا إلى الله) واجعلوا خطواتها نية وتوبة وجهاد، عندها يعود الأمل ويعود الفتح وندرك ساعتها كيف يكون النصر.
حتى ينصرنا الله:
ويمكن تلخيص واجبات محددة لكل مسلم ومسلمة في تلك الأيام حيث تتجدد أشواق الهجرة ونعلنها هجرة بعد الفتح.
1 - التوبة.. وكل منا يدرك معصيته فهيا نضع دائرة حمراء حولها حتى نحاصرها لنزيلها ونزيل آثارها الحمقاء.
2 - تجديد النية.. وذلك في هجرة إلى الله - سبحانه - وتعالى - لا رجعة فيها تتلخص في المرابطة أمام قرآنه والتسلح بسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - والالتزام بشريعته.
3 - المجاهدة.. وهي أول درجات الجهاد.. وحدد لنفسك بعض العادات الغير مؤثرة في مسيرة الحياة وجاهد نفسك على أن تتخلص منها وأظن على رأسها التدخين (وهو حرام شرعاً)، وكثرة وشرب الشاي والقهوة، وتضييع الوقت وكثرة الكلام وخاصة في الجدال، والإسراف وخاصة في الاستهلاك، وعدم الالتزام بتغطية العورات (وهي حرام شرعاً) وخاصة للنساء.
4 - الإحسان.. نريد منتجاً تصنعه يدّ مسلمة عربية تنوي به ثواب الله - تعالى - نريد عامل يستشعر اللذة حين يتقن صنعته بقدر شعور بلذة السجود بين يدي الله - تعالى -.
5 - أن تستشعر المرأة روح ودور أسماء بنت أبي بكر..
هذه الفدائية المهاجرة المجاهدة، وتعلم المرأة أنها شريكة في حمل هذا الدين.. فتبذل.. وتربي.. وتضحي.. وتعلم.
6 - أن نستشعر جميعاً روح الهجرة في البذل والتضحية والعطاء..
فنستشعر روح المهاجرين الذين تركوا أموالهم وديارهم وبلادهم.. ونستشعر روح الأنصار حين أوى إليهم المهاجرين وقاسموهم أموالهم وديارهم وحتى زوجاتهم.. فلا نبخل بالمال ولا بالجهد فندعم إخواننا المجاهدين في فلسطين بالمال والدعاء والنصرة وتعريف الناس قضيتهم.
7 - العزة.. نريد أن نعتز بأخلاقنا وعادتنا وسلوكياتنا الإسلامية الأصيلة.. نريد أن نعتز بلغتنا العربية لغة القرآن العظيم.
8 - الانتماء.. أن نستشعر موقف النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ينظر إلى مكة نظرة أخيرة قبل أن يهاجر منها ويقول: ما أطيبك من بلد وأحبك إلىّ ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك (رواه الترمذي).
إنها أوطاننا التي نحبها ونفديها بالغالي من الدم والروح فهل نهجرها أو نهاجرها وهل نؤذيها أو نتمنى لها شراً، إنها أوطاننا التي ننتمي إليها بكل كياننا، كل منا يتحول فيها إلى لبنة بناء ليعلو به البنيان.. نداؤنا الدائم فيها:
(يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم) [ الأحقاف: 31].
ننادي شبابها:
تعالوا نشيد مصنعاً رب مصنع............. يدر على صناعنا المغنم الوفرا
تعالوا لنمحو الجهل والعلل التي............ أحاطت بنا كالسيل تغمرنا غمراً
نحطم أغلالاً ونمحو حوائلاً................ ونخلق فيها الفكر والعمل الحرا
شباب إذا نامت عيون فإننا................. بكرنا بكور الطير نستقبل الفجرا
شباب نزلنا حومة المجد كلنا................ ومن يغتدى للنصر ينتزع النصرا
من كتاب [إلا تنصروه فقد نصره الله ] للدكتور/ أكرم رضا.
http://muslema. com المصدر:
ــــــــــــ(1/197)
معاني الهجرة وواقع أمتنا
أ. مهدي عاكف
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ومَن والاه، وبعد..
فإن مواسم الخير تتعاقب على حياتنا في الأشهر القليلة الماضية، بما تحويه من دروس وعبر، وما تقدمه من زاد على الطريق، وما تُتيحُه من فُرَص أمام قوافل الإيمان؛ لترتقي قُدُمًا إلى غايتها العظمى؛ رضوان الله - عز وجل -.
فبعد عطاءِ رمضانَ والصومِ جاء عطاءُ الحج وعيدُ الأضحى، ثم تأتي ذكرى الهجرة وفيوضاتُها، وبَدْءُ عام هجري جديد، جعله الله عامَ بركةٍ ونصر.. وكل عام وأنتم بخير.
لقد كانت الهجرة نصرًا مبينًا، كما وصفها الله - عز وجل - في قوله: ?إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ? (التوبة:40).
ولم يكن خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته مستخْفين من مكة إلى المدينة هزيمةً أو فِرارًا؛ فقد بذلت قريش جهودها لمنعه، لِمَا تعلمُ من خطورة هذه النَّقلَة في حياة الدعوة ورجالها، وقد نجح هؤلاء الرجال في مُغالبةِ واقعهم بين ظهراني الكُفر، والصمودِ في وجهه، والتوسعِ على حسابه، ثم نجحوا في صُنعِ واقعٍ جديدٍ ينتظرهم حين وجدت الدعوة بين أهل المدينة أنصارًا يتحرَّقون شوقًا لنصرتها، وإقامة دولتها، والتمكين لها.
ولم يكن ذلك التغيير الكبير وتلك النقلة الهائلة سوى تتويجٍ للجهد المبذول طوال ثلاثة عشر عامًا بمكة في الدعوة والتربية، واستخلاصِ أفضل ما في ذلك المجتمع من عناصر الخير، أولئك الذين قدموا التضحية النبيلة؛ فعُذِّبوا في بطحاءِ مكة، وظَفَر بالشهادة في سبيل الله من اصطفاه الله لها، وسُجِنوا في شِعْبِ "أبي طالب" ثلاث سنوات، عَرَفوا فيها قسوةَ الحِصارِ والتجويعِ والمقاطعة، واضطُّر بعضُهم إلى الهجرة من الوطن - الذي تحكمُ فيه الأراذِل والطغاة - إلى الحبشة، وتسابَق إلى التضحيةِ منهم القادةُ والجنودُ، والأشرافُ والعبيدُ، وأُوذِي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وحوصِر، وهاجَر إلى الطائف، فما ردَّه سوى الصبيان والعبيد والسفهاء؛ يعذبونه بالحجارة حتى دَمِيَت قدماه الشريفتان.
ورغم ذلك استمرت حركتهم بالإسلام والدعوة إليه، وكانت تضحياتهم المثيرة دافعًا إلى غزو القلوب التي هزَّتها نماذجُ البطولةِ والصمودِ من أجل العقيدةِ والمبدأِ، ومضَت القيادة الحصيفة البارعة تتلمَّس أرضًا أخرى أصلحَ للدعوة، يمكن فيها إقامة الدولة، وتقديم الهداية إلى العالمين.. حتى قدَّر الله - تعالى - أن يصطفي لذلك المدينة المنورة وأهلَها، الذين غدَوا أنصارًا للدين الجديد، يبايعون قيادته على الجهاد من أجله، في بصيرةٍ واعيةٍ لمتطلبات ذلك الجهاد، وفي عزيمةٍ صادقةٍ على تحمُّلِ تبِعاتِه ونتائجه.
كانت الهجرة إذًا نصرًا عزيزًا.. تَحقَّق أولاً داخل النفوس المؤمنة، التي استَعْلَت على جواذِب الأرض وإِلْفِ الباطل، وأخلصت لدينها، وضحَّت في سبيله، وانحازت انحيازًا مطلقًا لخيار العقيدة ومطلوبِها، فتركت من أجله العشيرةَ والوطنَ - الذي ضاق بطغاته - ولم تنفسح لهم أرضه.. فلما علم الله في قلوبهم خيرًا، آتاهم خيرًا ممَّا أُخِذَ منهم، فوجدوا في دار مهجرهم الوطن والأهل والعزة جميعًا، وكان الأنصار بالمدينة على ذات المستوى من الوعي بخطورة المستقبل الذي يشاركون في صياغته، وأهمية الاستعداد للبذل في سبيله؛ فكانوا كما وصفهم الله - تعالى -: ?وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَاْلإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ? (الحشر: 9)، ولم تكن الهجرة عملاً ممكنًا، ولم يكن من المستطاع أن تحقق أهدافها من غير وجود النُّصرة الراشدة الواعية المضحِّية.
لقد كانت الهجرةُ الحدثَ الأخطرَ في مسيرةِ الإسلام والجماعة المسلمة الأولى؛ فيه انتقلت الدعوة من طَوْر الاستضعاف والمِحنة إلى طورِ النصرِ والتمكينِ وإقامةِ الدولةِ، وبدءِ الجهادِ لتبليغِ العالمين رسالةَ الإسلام؛ ولذا فقد كان "عُمَرُ بنُ الخطاب" - رضي الله عنه - مُلهَمًا حين اختار تاريخ الهجرة إلى المدينة ليكون بَدْءَ التأريخِ عند المسلمين، وجعلَه في بداية شهر (المحرم)؛ حيث بدأت فيه هجرة المؤمنين في أعقاب بيعة العقبة الثانية في (ذي الحجة)، الذي يُعد - بحق - عهدَ تأسيس الدولة الإسلامية الأولى. وبمجرد وصول النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة بدأ يُرسي دعائم هذه الدولة، التي تعبر عن شمول الرسالة وكمال الدعوة، فشرع في بناء المسجد؛ ليكون مقرَّ التربية والقيادة والتوجيه، وأخذ يوطِّدُ دعائم الأخوَّة الإيمانية لتحقيق المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، ويقرر مبادئ المواطنة العامة لكل سكان الدولة، بما لهم من حقوق وما عليهم من واجبات، بعَقْد معاهدةٍ مع سكانها من اليهود، الذين ما لبِثوا أن نقَضوا عهدهم ومواثيقَهم.
التغيير لا يأتي من الخارج:
إن الدرس الذي ينبغي أن نؤكد عليه في هذا المقام؛ هو أن إقامة دولة الإسلام الأولى - بما مثَّلها من نصرٍ مبينٍ - كانت نتيجةً للتغيير الضخم الذي شهدته نفوس الجماعة المؤمنة الأولى، التي ارتضت الإسلام دينًا، وتربَّت عليه، وضحَّت من أجله، كما قال - تعالى -: ?إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ? (الرعد: من الآية 11)؛ ولذلك فقد كان نصرًا حقيقيًّا باقيًا.. وكلُّ تغييرٍ لا يأتي من داخل الأمة نفسها لا يؤتي ثمرتَه المرجوَّةَ، فكلُّ تغيير تصنعه القوة القاهرة أو القرارات الفوقية تغييرٌ محدود الأثر.
إنَّ أمتنا تشهد في هذه الفترة من تاريخها محاولاتٍ لتغيير واقعها الأليم، الذي يدرك كافةُ أبنائها أنه قد آنَ الأوانُ لتغييرِه، وإحداثِ تطورٍ حقيقيٍّ فيه؛ لكنَّ البعض منا يروِّجُ لمشاريع تغيير مستورَدة من الخارج في ظل العولمة والقطب الدولي الوحيد، ويتلمَّس لنفسه العذرَ في ذلك بأن أبواب التغيير من الداخل موصدةٌ بأيدي حكامنا الذين لا يرَون في الإمكان أبدعَ مما هو كائن، وتتقاصر إمكاناتهم عن آمال شعوبهم، ويزداد حرصهم على مكاسبهم؛ فيزداد تشبثُهم بكراسي حكمهم، ويزداد بطشهم بمُعارضيهم.. والحق أن واقعنا أليم قد أصابه التيبُّس والجمودُ؛ لكننا واثقون في الوقت ذاته من أن الحلول المستوردة الجاهزة لن تحل مشكلاتنا، وأن أعداءَنا لا يريدون خيرًا بنا، وأن (دغدغة) مشاعر البسطاء والمضطَّهَدين بشعارات الحرية الأمريكية لن تُفيد، وقد رأينا ثمرة تلك الشعارات في (العراق)، ونراها منذ أمد في (فلسطين)، التي يعاني أهلها ما لا يطيقه بشرٌ بفعل الاحتلال الصهيوني، الذي تباركه الإدارة الأمريكية.
إستراتيجية أمريكية ظالمة:
إننا بإزاءِ إستراتيجيةٍ أمريكيةٍ تسعى إلى قيادة العالم وتغييره ليكون تابعًا لها، وقد عبَّر عن ذلك الرئيس الأمريكي "بوش" بقوله: "مَن ليس معنا فهو علينا"، وتحت شعار (محاربة الإرهاب) - الذي بات يُطلَق على كلِّ معارَضَةٍ لأمريكا وسياساتها - شنَّت الحروب ضد المسلمين في أفغانستان والعراق، واحتلت بلادهم، ونهبت ثرواتهم، وأطلقت يد الكيان الصهيوني في فلسطين ليُعربِد كما يشاء، وله في كل يوم جرائمُه وضحاياه.. وتجد في كل يوم - أيضًا - تأكيدات القيادة الأمريكية بدعم الغاصبين، ومما يؤسَف له أن ينساق العديد من الدول إلى الطريق ذاته، وقد باتوا يعلمون أن الرضا الأمريكي والصهيوني ضرورةٌ لنَيْلِ الحَظوة والمكانة، وقد نقلت الأخبار أخيرًا تأكيد الرئيس الفرنسي "شيراك" موقفَ بلاده من حماية الكيان الصهيوني الغاصب ووجوده، وكأن وجودَه مهددٌ!! وكأنه يفتقِد الحماية ويتعرَّض للخطر!! وهو الذي يهدِّد - بأكثر من ثلاثمائة رأس نووي وبترسانةٍ من أحدث السلاح والعتاد - جيرانه من العرب والمسلمين، كما نقلت الأخبار إلينا رفضَ "بريمر" - الحاكم الأمريكي للعراق - أن ينصَّ الدستور العراقي المنتظَر على أن "الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع"!! وهل يتوقَّع مسلم عاقل غيرَ ذلك الرفض؟! وما أقربَ الخيارات التي يقدمها لنا النظام العالمي الجديد - الذي تقوده أمريكا - من خيارات مشركي قريش في مواجهتهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الهجرة: "وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ" (الأنفال: 30).
ونحن نوقن أن الله خيرُ الماكرين، وأنه حافظُ دينِه وأوليائِه، وأن النصر مع الصبر، وأن مع العسر يسرًا، وأن تضحيات أهلنا في فلسطين والعراق وأفغاستان لن تذهب سُدًى، كما لم تذهب تضحيات الجماعة المسلمة الأولى وقائدها محمد - صلى الله عليه وسلم - سُدًى.. غير أننا نخاطب جماهير أمتنا في ذكرى الهجرة والنصرة: أين نصرتكم لإخوانكم المجاهدين؟! أيها المؤمنون.. "كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ" كما كان أسلافُكم، ولا سبيلَ لعزَّتكم غير ذلك السبيل.. إن أهلنا في هذه الأقطار الإسلامية الممتحَنة في حاجةٍ لكل نصرةٍ وتأييدٍ وبذلٍ وعونٍ.. إن أكثر من مليار ونصف من المسلمين قادرون، بإذن الله - حين يخلصون نياتهم وينصرون إخوانهم - على أن يغيِّروا واقعهم بأيديهم، ويفرضوا على أعدائهم احترام كلمتهم ودينهم وأوطانهم.
أفلا تتحرك ضمائرُنا ونحن نرى أمة الهجرة والنصرة تفرِّط في رصيد إمكاناتها، بينما نرى في دولة الصهاينة معاني الهجرة من أجل الباطل والنصرة له؟! فالآن اليهود يهاجرون إلى أرضنا المغتصَبة، وبعضهم يضحِّي بالفعل بوضعٍ ماديٍ متميزٍ عنده؛ ليجدَ النصرة والمأوى والعَون على باطله وظلمِه بين ظهراني من سبقَه من الغاصبين في وطننا السليب، ولم تنكسر حلقات ذلك التظاهُر على الإثم والعدوان إلا بجهاد أهلنا في فلسطين، الذين أثبتوا للعالم كله أن لديهم وطنًا يستحق الفداء، وليس كلأً مباحًا لقطْعَان الغُزاة؛ فقلَّت معدلات الهجرة اليهودية إلى فلسطين، بل زادت معدلات النزوح العكسي إلى خارجها.. "وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ" (يوسف: من الآية 21).
أيها الإخوة الأحباب.. ومع مطلع عام هجري جديد نكرِّر تهنئتَكم بالعام الهجري الجديد، ولنتذاكر معًا أنها فرصةٌ لمحاسبةِ النفس على عام مضى، وعَقْدِ العزمِ على مواصلة السعي إلى الله في العام الجديد، ولله الأمر من قبل ومن بعد.. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
http://www. ikhwanonline. com المصدر:
ــــــــــــ(1/198)
الهجرة وأزمة الأمة
الخطبة الأولى:
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون:
الهجرة وأزمة الأمة.. موضوع مهم نحتاج إليه ونحن ما زلنا في أفياء هذه الهجرة وفي ضلالها.. ونحن قريبي عهد بالأمس بالعاشر من محرم وما فيه من فضيلة وما له من مزية.
ولعلنا نقف وقفات سريعة عابرة فيما قبل الهجرة، وفي أثنائها، وفي أوائل ما بعدها؛ لننظر في هذه الهجرة نظراً اعتبارياً يعيننا على فهم حقائق واقعنا، وعلى أن نبث في قلوبنا من يقيننا وإيماننا، ومن قدرتنا وقوتنا ما يزيل ذلك الوهن، وينفي ذلك الضعف، ويمحو تلك الذلة التي تضلل على أمة الإسلام إلا من رحم الله.
صورة من الثبات على الدين عندما قبل المسلمون الأوائل دعوة سيد الخلق محمد - صلى الله عليه وسلم - ودخلوا في الإسلام، وأيقنوا بالإيمان.. واجهوا عداء قريش وأذاها وعنادها، فأي شيء كان منهم؟ لنرى كيف كان أثر الدين في حياة المؤمنين؟ وما مكانته عند المسلمين؟
كلنا يعلم تلك الرمضاء الحارقة من شمس مكة، وهي تسطع على بلال تحت الصخر، يعذب ويضطهد، ويؤذى أشد الأذى وهو يهتف:"أحدٌ أحد"، لا يقبل أن يعطي الدنية في دينه، ولا أن يغير معتقده، ولا أن يساوم على إيمانه.
وصهيب، وما أدراك ما صهيب! وخباب، وما أدراك ما خباب! بقي أثر السياط على ظهره إلى يوم وفاته بعد عقود من الزمان، كان يجلد حتى يختلط لحمه بجلده بدمه حتى يبلغ الأمر به مبلغاً جاء يشكوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ألا تدعوا لنا ألا تستنصر لنا فيثبت بمثبت الإيمان - صلى الله عليه وسلم - ، ويرد الأمر إلى ضرورة القوة في الدين والثبات عليه (كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون).
فنزل الإيمان راسخاً في القلوب، وسرى الإسلام جرياً مع الدماء في العروق، فثبّت ذلك الإيمان.. حتى جاءت الهجرة من بعد ليست فراراً من المواجهة، ولا خروجاً من الثبات على الدين، لكنها تأكيداً أولوية الدين في حياة المسلمين.
جاءت هجرة الحبشة الأولى والثانية ولسنا في مسرد السيرة، ولكننا نشير إلى الومضات التي تبين أنه لا دنية في الدين.
لما جاء عمرو بن العاص - وكان آنذاك رسول قريش - ليرد المهاجرين إلى مكة، وجاء إلى النجاشي بما جاءه من الهدايا والأحاديث، فطلب النجاشي - العادل - الطرف الأخر ليستمع بعد أن أساء عمراً القول، وشوّه السمعة، وأبثَّ الفتنة، وأشاع الخلاف، فجاء جعفر ابن أبي طالب مع بقية أصحابه المهاجرين.. أي صورة كانوا يمثلون؟ صورة إيمان وإسلام، مجتمعين موحدين، ليس بينهم افتراق آراء، ولا تباين أهواء، ولا تعارض مصالح، جمعوا كلمتهم، واختاروا متحدثهم، وأيقنوا بأنه لابد من أن يكون لهم موقفهم، فماذا قال جعفر - رضي الله عنه -؟
إنه كان يريد أن يحافظ على مصلحة المسلمين، وأن يبقي على وجودهم وأن يوفر أمنهم وأن ييسر رغد عيشهم لكنه بحال من الأحوال هو ومن معه لا يمكن أن يكون ذلك كله على حساب إيمانهم أو على حساب إسلامهم فجعل حديثه إعلان بمساوئ الجاهلية وإظهاراً لمحاسن الإسلام فقال رغم حرصه على أسلوب يحفظ للمسلمين مصالحهم: "أيها الملك، كنا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه، وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، فعبدنا الله وحده، فلم نشرك به شيئا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان، فخرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك،ورجونا ألا نظلم عندك أيها الملك"، وانظروا إلى لغة السياسة الإسلامية الإيمانية" فعذبونا وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان، فخرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا ألا نظلم عندك أيها الملك"، فهل في هذا نفاق سياسي؟ وهل في هذا دنية دينية؟ إنها حنكة مع إظهار الإسلام، مع إعلان دعوته ومع إظهار محاسنه، ومع الوقف مع المبدأ الحق دون تميع ولا تنصل من حقائقه ومبادئه.
وكان ذلك موقف حكيم دفع عنهم الأذى، ولم يوقعهم في حرج من دينهم الإسلامي، فهل اكتفت الجاهلية ومبعوثها الداهية عمرو بن العاص - وكان على شركه إذ ذاك - قال: والله لأتينهم الغداة بما يبيد خضرائهم، وغدا على النجاشي.. يريد أن يشعل الفتنة وتأليب وتشويه بقوله: إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيماً! يعلم من النصرانية أنهم يقولون:"عيسى هو الله وابن الله"، - تعالى - الله عما يقولون علواً كبيراً..
وجاءت هذه المعضلة والطامة المشكلة، والمعجزة المربكة المحيرة.. وجودهم وأمنهم وعيشهم ورغدهم أو موقفهم ودينهم وعقيدتهم: ما تقولون في عيسى؟
أي شيء يقول جعفر؟ وأي بيان يظهر المسلمون؟ هل يبدلون أو يغيرون؟ هل يحافظون على دينهم أم على حياتهم؟ قالوها كلمات واضحة:"نقول فيه الذي جاء به نبينا هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول".
لا دنية في الدين، لا مساومة في العقيدة، لا تغيير في الإيمان والإسلام.. أي شيء جرى لهم أي مصيبة حلت بهم أي نكبة نزلت عليهم لم يحصل من ذلك شيء؛ لأن من كان مع الله كان الله معه..
قال النجاشي:"والله ماعدا ما قلتم فيه عودي هذا"، فنخرت البطارقة، قال:"وإن نخرتم!"، ثم قال لهم:"أنتم شيوم بأرضي، لا يعتدي عليكم أحد"؛ لأنهم أهل مبدأ، أهل يقين، أهل عزة، أهل وضوح لا أهل تميع وذلة وترخص والتماس عرض من الدنيا بضياع الدين نسأل الله - عز وجل - السلامة.
ثم جاءت الهجرة الكبرى، وجاء الإذن الرباني من الله - عز وجل - للمصطفى - صلى الله عليه وسلم - بعد أن تهيأت الأسباب، وبعد أن أدى الجهد منه ومن أصحابه - رضوان الله عليهم - فأي شيء كانت الهجرة؟ أي درس أعظم فيها؟
إنه التضحية بكل شيء من أجل الدين.. كلنا يعلم هجرة أبي سلمة ومعه أم سلمة ومعهما ابنهما سلمة يمضي تاركاً وراءه دنياه، مخلفاً وراءه حياته الأولى ومراتع صباه، وذكريات شبابه، يمضي إلى الله ورسوله، إلى مرضاة الله، وإلى طاعة الله، إلى التزام دين الله، إلى إعلاء راية الله، فيأتي أهل زوجته ويقولون له:"هذه نفسك قد غلبتنا عليها أما ابنتنا فلا تمضي معك"، فأخذوا زوجته فجاء بنو أسد - أهله - بعد أن مضى، قالوا: "هذه ابنتكم أخذتموها أما ابننا فنأخذه" فأخذوا الابن في جهة، والأم في جهة، والأب الذي يرى زوجته تؤسر وابنه يقهر هل يصده ذلك عن المضي إلى مرضاة الله؟ وهل يضعف يقينه بالله؟ وهل يستسلم لظروفه وما تدرّ به في هذه الحياة؟ كلا! مضى إلى الله مهاجراً، ثم ماذا؟ تمّت له هجرته وألحق الله له زوجته وابنه من بعد.
وصهيب، وما أدراك ما صهيب! غنيمة الحياة الدنيا كلها وثمرة جهده وتجارته وصناعته يخرج مهاجراً، يحيطون به قائلين: جئتنا صعلوكاً وتخرج من بين أيدينا تاجراً ثرياً؟! فقال: أريتم لئن أعطيتكم مالي أأنتم تاركي؟! قالوا: نعم، قال: فإنه في مكان كذا وكذا، فذهبوا عنه..ذهبوا بماله كله، بدنياه كلها، بأيامه ولياليه وجهده وشقاء عمره، فهل حزن لذلك؟ وهل مضى كسيف البال أو رجع مشدوفاً إلى المال؟
مضى إلى الله - عز وجل - فاستقبله سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: (بخٍ بخٍ.. ذاك مال رابح) وتتنزل الآيات: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَاد} [البقرة:207]، بيعة وصفقة رابحة.
وعبد الله ابن جحش وزوجه وأخوه أبو أحمد -كان أعمى ضريراً لا يرى وكان شاعراً - أهل بيت خرجوا جميعاً، لم يبقى منهم أحد، خلفوا وراءهم الديار قطعوا العلائق ليسموا إلى ما هو أعظم وأعلى من شأن الدين والإيمان واليقين.
مرّ عتبة بن ربيعة والعباس بن عبد المطلب وأبو جهل فرأى عتبة هذه الديار وقد خلت من أهلها، والريح تخفق فيها يباباً.. نظر إلى من تركوا الدنيا، إلى من تركوا الديار.. نظر متأملاً متعجباً، ونظر كذلك بنظرة إنسانية حزينة متأملاً ثم قال:
وكل داراً وإن طالت سلامتها *** يوماً ستدركها النكباء والحوب
فقال أبو جهل: "ذاك ما فعل ابن أخيك فرق جماعتنا وشتت شملنا"، وذلك هو حال الطغاة المجرمون مجرمون ويفعلون الجريمة، فإذا التمس الناس منها خلاصاً صاروا هم المجرمون، وصاروا هم الإرهابيون كما نرى في واقع حالنا اليوم.
أما أبو بكر وما أدراك ما أبو بكر! وقته وعمره ماله وثروته أهله وبنوه داره وأرضه ريحه ونفسه كلها كانت تضحية في الهجرة، حبس نفسه لصحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعة أشهر، وهيأ ماله وعلف راحتيه، وترك زوجه وأبناءه، وترك داره وأخذ كل ماله ومضى مخاطراً بروحه وبنفسه بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
حتى جاء الموقف العظيم ووقف المشركون على فم الغار، وإذا بأبي بكر شفقة ورحمة يقول: يا رسول الله لو نظر أحدهم موضع قدمه لرآنا! فينطق اليقين والثبات والإيمان على لسان سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم - : (ما ظنك باثنين الله ثالثهما).
وتتنزل الآيات تصف هذه المواقف العظيمة: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: من الآية40].
من يحزن والله معه؟! من يضعف والله يعينه؟! من يذل والله يعزّه؟! من يخاف والله يؤمنه؟!
ذلك درس التضحية العظمى في هذه الهجرة تضحية لأمر الدين تقول لنا إن الأولوية في حياة المسلمين لأجل الدين.
كان محمد - صلى الله عليه وسلم - في مكة سيد سادتها، وشريف أشرافها، وذو الذروة العليا في أنسابها وقد جاءته قريش قالوا لو تريد مالاً لجمعنا لك مالاً حتى تكون أكثرنا مالاً عرضوا عليه دنياهم كلها فركنها برجله وداس عليها بإيمانه ويقينه واستعمى عليها بسمو إسلامه ويقينه - عليه الصلاة والسلام -.
لم تكن حياة المسلمين رغبة في الدنيا، ولا سكون إليها، ولا طلب إلى السلامة.. ولو كان ذلك كذلك لعاشوا مسالمين موادعين وحسبهم في ذلك أن ينكفئوا في دارهم أو أن يؤدوا شعائرهم لكنه الإيمان والإسلام أولى الأولويات في حياة المسلمين.
ليست الهجرة انتقال موظف من بلد قريب إلى بلد ناي، ولا ارتحال طالب قوت من أرض مجدبة إلى أرض مخصبة، لكن الهجرة أمرٌ آخر.. إنها إكراه رجل آمنٌ في سربه ممتد الجذور في مكانه على إهدار مصالحه وتضحية أمواله والنجاة بشخصه وحسبه، وإشعارٌ بأنه مُستباحٌ منهوبٌ قد يهلك في أول الطريق أو نهايتها! لكنه الإيمان الذي يزن الجبال ولا يطيش.
من دروس الهجرة درسان عظيمان نذكرهما ذكراً ولا نقف عندهما طويلاً؛ لأننا نُريد من بعد أن نُذّكر بهذه الدروس كلها في محور واحد نربطه بواقعنا المؤلم المُحزن المؤسف في كثير من أحواله، من هذه الدروس وجوب الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام.
وخلاصة هذا الدرس:
أن الدين وإقامة شعائره وإظهارها ورفع رايته هو الغاية العظمى والأولوية الكبرى التي عليها تدور حياة المسلمين، ولأجلها يتركون الأرض والديار.. لأجلها يقطعون الصلات والعلاقات.. لأجلها يبذلون الأموال والنفقات لأجلها يجودون بالأرواح في الساحات.. ذلك هو الدرس العظيم والفقه المستنبط من الهجرة.
وأما الدرس الثاني وهو: وجوب نصرة المسلمين لبعضهم
مهما اختلفت ديارهم وبلادهم ما دام ذلك ممكناً.
قال الإمام أبو بكر بن العربي - رحمه الله -: "إذا كان في المسلمين أُسراء أو مستضعفون؛ فإن الولاية معهم قائمة والنصرة لهم واجبة بالبدن، بألا تبقى فينا عينٌ تطرف حتى تخرج إلى استنقاذهم إذا كان عددنا يحتمل ذلك أو نبذل جميع أموالنا في استخراجهم حتى لا يبقى لأحدٍ درهمٌ من ذلك".
ذلك ليس فقه استنباط ودليل، لكنه - قبل ذلك - فقه إيمان ويقين، فقه استعلاء ومعرفة للحقائق الإيمانية.
وعندما مضى النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة هل وضع رحاله ليرتاح؟هل ترك أذى مكة لينعم برغد العيش في المدينة؟ هل خرج من بين الأعداء ليهنأ بالحياة بين الأصحاب؟ أي شيء صنع - صلى الله عليه وسلم - ؟
منذ أول لحظة وطأت أقدامه الشريفة مدينته المنورة عمد إلى بناء المسجد وربط المسلمين بالله، وعمد إلى المؤاخاة لربط العلائق بين المسلمين، وعمل المعاهدة لتنظيم العلاقة مع غير المسلمين.
ومن لقي بالمدينة؟ اليهود - عليهم لعائن الله - ولننظر ونستمع إلى كلام علمائنا وأمّتنا لنعرف فقههم الإيماني والعلمي معاً.
هذا وصفٌ لابن القيّم - رحمه الله - يصف فيه اليهود عليهم لعائن الله يقول عنهم:"هم الأمة الغضبية، أهل الكذب والبُهت والغدر والمكر والحِيل، قتلة الأنبياء، وأكلة السُحت - وهو الربا والرشا - أخبث الأمم طوية، وأرداهم سجية، وأبعدهم من الرحمة، وأقربهم من النقمة، عادتهم البغضاء، وديدنهم العداء والشحناء، بيت الكذب والسحر والحِيَل، لا يرون لمن خالفهم في كفرهم وتكذيبهم الأنبياء حرمة، ولا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة، ولا لمن وافقهم عندهم حقٌ ولا شفقة، ولا لمن شاركهم عندهم عدلٌ ولا نصفة، ولا لمن خالطهم طمأنينة ولا أمنة، ولا لمن استعملهم عندهم نصيحة، بل أخبثهم أعقلهم وأحذقهم أغشّهم أضيق الخلق صدوراً، وأظلمهم بيوتاً، وأنتنهم أفنية، وأوحشهم سجية".
أليست هذه الصفات اليوم هي عين التعصب والعنصرية؟ أليس هذا هو جوهر العنف والإرهاب؟ فماذا يقول اليهود؟ ليس في أقوال علمائهم، بل في المسطور في كتبهم بما حرّفوه!
ألا يقولون:"إن أمم الأرض كلها كلابٌ يجوز قتلها لليهود، وأموالهم حلالٌ يجوز سبيها لهم، ونسائهم حلالٌ يجوز استمتاعهم بها"، ولا يجرؤ أحدٌ أن يقول ذلك، ويتكلمون على مناهج تقول شيئاً من الحق التي تؤكده الوقائع المعاصرة، والحقائق التاريخية الظاهرة، والانحرافات العقدية المكتوبة المُثبتة فأي شيء جرى لأمة الإسلام عند المواقف الأولى ونحن لا نسرد السيرة.
انتصر النبي في بدر فغلى الحقد في قلوبهم، وجاشت البغضاء في نفوسهم، وظهرت أساليب الغدر والكذب والكيد والمكر على ألسنتهم، ثم تفاعل ذلك كله فظهر في تصرفاتهم امرأة عربية دخلت إلى سوق بني قينقاع تبيع شيئاً لها جلست إلى صائغٍ، فجاء بعض سفلة اليهود يريدونها أن تكشف وجهها فأبت بإيمانها، فعمدوا إلى طرف ثوبها فعقدوه بأعلاه، فلما قامت انكشفت عورتها، فجعلوا يتضاحكون ويستهزئون ويسخرون.. موقفٌ واحدٌ في أمرٍ عارضٍ لامرأة واحدة، أي شيء جرى؟ صاحت مستنجدة أهل الإيمان والنخوة والإسلام، فانتدب لها مسلمٌ من غير عقد مؤتمر ولا مشاورات سياسية، ولا بحوث وبحث في القوانين الدولية، بل امتضى لها ينتصر لها وعمد إلى الصائغ فقتله، فاجتمع عليه اليهود فقتلوه، فأحاط بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحاصرهم وأجلاهم من بعد، وأخذ من أموالهم ما أخذ، وخرجوا أذلة صاغرين يوم كان كذلك المؤمنون عزوا، وارتفعت رايتهم، وعظمت هيبتهم، وقويت شوكتهم، وكانت لهم في دنيا الناس كلمتهم.
أفليست هذه دروس مهمة؟ أفليست هذه صورٌ حية؟ أفليست هذه صفحات ينبغي أن ننقشها على قلوبنا، وأن نجريها مع الدماء في عروقنا؟ وإلا بقينا أذلة صاغرين! وإلا بقينا تافهين مغيبين! وإلا بقينا تحت ذل وقهر الغلبة والظلم الذي يُسلط على المسلمين..
نسأل الله - عز وجل - أن يرفع الغمة، وأن يكشف البلاء عن الأمة، وأن يُعيدها إلى العزة، وأن يُخلف عليها في دينها استمساكاً بكتاب الله واعتصاماً بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
الخطبة الثانية:
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون:
الهجرة تأكيد للزوم الثبات على الدين، وإعلانٌ لإظهار أولوية الدين في حياة المسلمين، وبيانٌ أن التضحية تكون بكل شيء لأجل إعلاء الدين.
إذا فقهنا ذلك ونحن ننظر إلى واقعنا اليوم وماذا نرى فيه؟
عجزٌ عربي، ووهنٌ إسلامي، وخزي سياسي، وصورة مشوهة حقائق الإسلام فيها غائبة ن ومرتكزات العقيدة واهية.. ولذلك نرى ما نرى من هذه العجائب، ونرى الغرائب ونحن نعرف ونسمع أن هذه القوات الباغية الغازية الظالمة العادية قد أعلنت بما ذكرته بألسنتها أنها "حرب صليبية"، وأيّدت وأكدّت أنها تريد أن يكون لها الهيمنة العسكرية السياسية وأظهرت وكشفت أنها تريد أن تستولي على الموارد الاقتصادية، وبيّنت وكشفت أنها تريد أن تهيمن على ما وراء ذلك من الأوضاع الاجتماعية، والمناهج التعليمية، والنُظم السياسية، والأوضاع كلها، وبعد ذلك نقول ما نقول، ونسمع ما نسمع من هذه العجائب التي لاشك أن فيها معارضة يقينية ظاهرة واضحة لثوابت لا تتغير من الإيمان والإسلام، ولحقائق لا تُنسخ من آيات القرآن، ولمعالم واضحة جلية من حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وسيرته العطرة.
ولذلك - أيها الأخوة الأحبة - نكرر ما أسلفنا القول فيه: الكفر كفر، وأهله أهل بغي وعدوان، جمعوا ذلك مع هذا، فليس لهم في قلب مؤمن محبة ولا موالاة، وليس لهم في عمل مسلم نصرة ولا محاباة، وإلا أنكر ذلك الإيمان في قلبه، أو نقض الإسلام في حقيقته، وأن هذا نطقت به الآيات، وظهرت به حقائق الإسلام جلية واضحة.
ثم من بعد ذلك نرى ما نرى من دروس الهجرة في هذا التلاحم الإيماني والتواصل الإسلامي، والأخوة التي نصّت عليها آيات القرآن ن ونرى كذلك من وراء ذلك أن يكون الدين هو رائدنا وغايتنا الأولى، من كان مستمسكاً به، ورافعاً له، حقاً لا كذباً، وصدقاً لا ادّعاءاً، وواقعاً لا زوراً، فنكون نحن أهل دين، ونكون أهل نصر مع أهل اليقين بإذن الله - عز وجل -.
ولذلك ينبغي لنا أن نكون على بصيرة من أمرنا، وعلى بيّنة من حقائق ديننا، وأن نكرر ونزيد التكرار والإعادة، وضرورة الاستمساك والاعتصام بكتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والنظر في أقوال الأئمة من العلماء الصادقين الذين كانوا أهل إيمان ويقين قبل أن يكونوا أهل فقه في الدين.
ولذلك من بعد هذا نتواصى بالثبات على ذلك، ونتناصر ونتعاهد على البقاء عليه، وعلى إشاعته فيما بيننا، وقد ذكرنا - من قبل - اللجوء إلى الله والاعتصام به، والتضرع إليه، والابتهال والذل بين يديه.
وذكرنا من بعد ذلك ومن قبله الاستقامة على أمره، والاعتصام بنهجه والالتزام بدينه، وترك المعاصي والمحرمات، والابتعاد عن المنكرات والمخالفات، ولعل ذلك كله في جملته هو من درس الهجرة؛ فإن الهجرة كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح عنه: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه).
والنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما هاجر ليُقيم شعائر الدين، وليجد الأرض التي يُعلي فيها راية الله - سبحانه و تعالى - عندما لم يجد ذلك في مكة التمسه في الطائف، فلم يجده وذهب بأصحابه إلى الحبشة، فلم يثبت حتى يسّر الله له هجرته المباركة، فأقام دولة الإسلام، وأنشأ مجتمع الإسلام، وأقام العزة الإيمانية، والوحدة الإسلامية، ثم جاءت هيبة هذا الدين وقوته، وظهرت من بعد ذلك - أيضاً - سماحته ورحمته بالأمم؛ فإن الإسلام كان أرحم بكل الأمم من أديانها ومن حكامها وكذبوا وخدعوا عندما يقولون غير ذلك.
نسأل الله أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يجعلنا بكتابه مستمسكين وبهدي نبيه - صلى الله عليه وسلم - مستعصمين.
http://islameiat.com المصدر:
ــــــــــــ(1/199)
أطياف الهجرة
لا تعرف الإنسانية، ولا الحياة ولا الشعوب في تاريخها الطويل حدثاً كالهجرة؛ كان له أبعد الآثار والنتائج على البشر أجمعين.
وليس في تاريخ الإسلام ما يفوق الهجرة في جلالها وأهميتها وعظمتها، وفي بعيد أثرها على تاريخه وتاريخ المسلمين كافة.
هجرة محمد بن عبد الله - صلوات الله وسلامه عليه - من مكة إلى المدينة، من أروع ما ضربه الرسول للناس من أمثال، ومن أعظم الأحداث التاريخية على طول العصور والأجيال.
لقد كان موكب الإيمان، موكب التوحيد، موكب الحق: موكب الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه أبي بكر الصديق، منذ ألف وأربعمائة وأربعة وعشرين عاماً وهما في طريقهما من مكة إلى المدينة مقدّمة لمواكب رائعة ظافرة، حققت للإنسانية كل ما كانت تصبو إليه من آمال على طول الأعوام والأجيال.
كان مقدمة لمواكب الصحابة الطويلة، التي خرجت من الجزيرة العربية، تهدر كالسيل إلى كل مكان في العالم؛ لتنشر الدين، وتعلي كلمة الله، وتدعو الناس إلى الإيمان والحق، والطهر والتوحيد.
وكان مقدمة لجيوش الإسلام الزاحفة، كما يزحف الليل إلى كل مكان، لتحمي دعوة الإسلام في الشام والعراق ومصر، من عدوان الكسرويين والقيصريين، ولتقود الدعاة إلى الله على كل أرض، وفي كل قطر وشعب!
وكان مقدمة لمواكب العلماء التي خرجت من الجزيرة العربية إلى مراكز الثقافة والحضارة الإسلامية المبثوثة في كل مكان من الأندلس إلى الصين، لتعلّم العقل الإنساني: كيف ينتصر على الجهل والخرافات، والأوهام والشرك والوثنية والطغيان، ولتذيع في الناس مبادئ الإسلام وقيمه ومثله الرفيعة في إعزاز الحياة وتكريم الإنسانية، وتبجيل قدر العقل والفكر، ووضعهما في قمة التقدير والإكبار والاحترام.
موكب جليل مهيب صغير، واحد قاد - منذ ألف وأربعمائة وأربعة وعشرين عاماً - مسيرة الحضارة والإنسانية والتقدّم والعلم، ووضع الدعامة الأولى لانتصار الإنسان المسلم على عصر الجاهلية، وعلى مبادئها وضلالاتها، وبهتانها وشركها!.. وقاد الحياة البشرية عامة إلى ما كانت تتطلع إليه من نور وخير، وعدل وحرية وسلام، وإخاء ومساواة.
وكان هذا الموكب الجليل المهيب يسير فيه رجلان اثنان، ولكنهما: مؤمنان! مؤمنان! مؤمنان!
محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وصاحبه أبو بكر الصديق رضوان الله عليه!
خرجا مهاجرين من مكة إلى المدينة، من الشرك والبهتان والضلال والجهل، إلى أفق رحب فيه الإسلام أن يتنفس وأن يعيش.
خرجا مهاجرين من اضطهاد قريش وتعذيبها وتنكيلها، إلى حيث يجدان - هما والمؤمنون بالله - الحرية والسلام، والأمان والأمن في الأرض.
خرجا، بعد أن سدّت قريش - أمام دعوة الله - كل طريق، وبعد أن نالت من الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين الأوائل كل نيل.. تعذيب وتشريد وتنكيل.. ليبنيا للإسلام حياة جديدة، تكون له فيها السيادة والقوة، والنصر بإذن الله.
خرجا بعد أن ائتمرت قريش بالرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وصممت على قتله واعدّت لتنفيذ مؤامرتها الدنيئة الشريرة الضالة؛ في وقت محدود معلوم.. {ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين}.
خرجا ينشدان الحياة والحرية، والسلام والاطمئنان، لا لأنفسهما بل للإسلام وللمسلمين أولاً وقبل كل شيء.
وضرب الرسول - صلى الله عليه وسلم - بهجرته للناس أروع الأمثال:
علّمهم أن الحق هو القوة، وأن الباطل هو الهوان والضعف والصغار.
وعلّمهم أن العذاب والاضطهاد لا يمكن أن يكون وسيلة للنيل من المبادئ الشريفة الحق الصادقة.
وعلّمهم أن القوي ضعيف إذا لم يكن الحق معه، وأن الضعيف قوي بالحق إذا اتبعه، وكان من المؤمنين به.
وعلّمهم أن المال وعرض الحياة الدنيا لا يمكن أن يقف عقبة أمام العقيدة والإيمان، وأن وسائل النصر لا يمكن أن تُنال إلا بالإيمان العميق.
وعلّمهم أن الدين كرامة وعزة وقوة، وأن المسلم يجب ألا يحرص على المال والدار ليعيش من أجلهما عيشة الذليل، بل عليه أن يضحّي بكل شيء في سبيل الله، ومن اجل كلمة الله والجهاد في سبيل الحق والشرف والدين.
وعلّمهم أن الإسلام: إيثار وأخوة، ومحبة وتعاون في الله، وأن المسلمين جميعاً هم بنعمة الله قد أصبحوا إخواناً متعاونين في العسر واليسر، والشقاء والرخاء.
وما أكثر ما ضربت - يا رسول الله - لأمتك من روائع المثل وعظائم الأعمال!
ففي كل دقيقة من دقائق حياتك الطويلة الحافلة، المشرقة بالنور والخير والأمل، كنت المثل الأعلى للإنسانية وللحياة وكل من عليها.
ومن شان العقول الكبيرة، والنفوس العظيمة، أن تقود مواكب الحياة؛ مهما تعقدّت أمورها، وتفاهمت خطوبها، واحلوكت لياليها ودياجيها، تقودها إلى الخير والبناء والنصر والرفاهية، ولا تقودها إلى الدمار والهلاك والحرب.
وفي تاريخ الإنسانية الطويل غزاة دمروا العالم، وهدموا ما بنته الإنسانية في عصور طوال، وقوضوا صروح الحضارة والثقافة.
ولكن الرسل الكرام لم يكونوا من هؤلاء!
بل لقد كانت أعمالهم وانتصاراتهم لله، وللحق، وللدين، ولفضائل الحياة، ومن أجل تقدّم الحياة نفسها.
ورسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم - كان من بين رسل الله - قائد المسيرة الإنسانية، والحضارة والشعوب كافة إلى العزة والحق، والصدق والتوحيد والإيمان.
وكان رائد مواكب البشرية الطويلة الزاحفة في بيداء الحياة.. تنشد النور، وتطلب العدل، وتريد السلام، وتؤمن بالحياة نفسها، وبانتصار الإنسان فيها من أجل المثل العليا التي شرعها الله لعباده، ومن أجل التقدّم والبناء، والرفاهية والسعادة والإخاء الشامل، والمساواة الكاملة، والحرية السابغة.
وكان - في موكبه الصغير، وهو يسير من مكة إلى المدينة، فراراً من الظلم والعدوان وشريعة الشر والحرب والبهتان - معلّماً للإنسانية وهادياً لها، ومرشداً لمسيرتها، وضوءاً هداياً لقافلتها الزاحفة على الأرض.
ترك قريش، والشر في أعينها وفي جباه رجالها الأشداء القساة، وترك وطنه وداره وماله في مكة، ليقول لهم:
إنه لا معنى للحياة بدون إيمان، ولا قيمة للإنسان بدون عقيدة! وإن الدين أغلى عند المسلم من ماله وداره، وأهله ووطنه.
وليقول لهم: إني داعية سلام.. فإذا طلبتم الحرب، فلن أكون من جناتها!
ولسوف أترككم، وأخرج من داركم غير نادم ولا متردد ولا حزين؛ لأن كلمة الله أعلى، ولأن الدين أسمى وأبقى، ولأن الحياة نفسها لا يمكن أن تسير على المنوال الذي تسيرون عليه، من الشرك والوثنية، والضلال والطغيان والشر.
وانتصر الرسول - صلى الله عليه وسلم - في هذا المثل العظيم الذي ضربه للناس، وانتصر الإسلام، وانتصر المسلمون.
صارت للإسلام شوكة.. صارت له قوة ودولة.. صارت له منعة وغلبة.
دخل الرسول - صلى الله عليه وسلم - المدينة، ودخلها بعد آلاف المهاجرين من المسلمين.
وشرع الرسول - صلى الله عليه وسلم - شريعة الإخاء بين الأنصار والمهاجرين، ونظم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما كان فوضى من أمور المسلمين في المدينة.
واتسعت رقعة الإسلام..
وبعد أعوام قلائل شمل الجزيرة العربية كلها نوره، ثم عمّ ضياؤه آفاق الدنيا كلها في أقل من قرن من الزمان.
ومن منطلق الهجرة، انطلق الإسلام، وانطلق النور، وانطلقت الثقافة الحضارة.
ليلّم الناس أن {الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون}.
ولتدوي في آذان الأجيال: {ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز}.
ولتؤكد لهم معنى قوله - تعالى - في كتابه العزيز: {يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متمّ نوره ولو كره الكافرون}.
http://islameiat.comالمصدر:
ــــــــــــ(1/200)
من دروس الهجرة
ممدوح إبراهيم الطنطاوي
كانت الهجرة النبوية حدثاً عالمياً فاصلاً بين مرحلتي الكفر والإيمان، فهجرته - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى المدينة كانت نصراً للدعوة الإسلامية بكل ما تحويه الكلمة من معان، فلولا الهجرة ما كان لدولة الإسلام أن تقوم لها قائمة بعد أن أجمعت قوى الشرك أمرها للقضاء على هذا الدين في مهده، ولكن الله - تعالى - أبى إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون فحفظ نبيه - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضوان الله عليهم، وتمت الهجرة وانتصر الإسلام.. وقد تجلت فيها دروس عظيمة وعبر جمة؛ مازال المسلمون ينهلون من فيضها حتى يومنا هذا.
ومن هذه الدروس:
التوكل على الله - تعالى -:
خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - وحيداً من داره مخترقاً هذا الجمع الذي يترصده حتى ينام فيقضي عليه.. سار بينهم متوكلاً على الله - تعالى - وواثقاً في نصره - عز وجل - فأغشى الله أبصارهم.. يقول الله - تبارك و تعالى -: وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون (9) {يس: 9} خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وراح المشركون يتخبطون في البحث عنه، وقد رصدوا الجوائز لمن يقتله أو يدلهم عليه.. وانطلق الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - بصحبة أبي بكر الصديق رضي الله عنه إلى غار ثور حيث اختبآ فيه، وعندما وصل المشركون إليه ارتعدت فرائص أبي بكر خوفاً على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإذا بالنبي الواثق في نصر ربه والمطمئن إلى تأييد الخالق المدبر - عز وجل - يطمئن أبا بكر قائلاً له: "يا أبا بكر لا تحزن إن الله معنا" وفي رواية: "يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما"(1)، ولقد كان لهذا التوكل العظيم على الله - تعالى -، والثقة في نصره أعظم الأثر، فقد نصره الله وأيده وكفاه.. يقول - تبارك و تعالى -: إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى" وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم 40 {التوبة: 40} فالنصر على العدو هو أحد ثمار التوكل على الله، كما أن من ثماره التمكين في الأرض، والسعادة في الدنيا والجنة في الآخرة.. يقول الله - تعالى -: "ومن يتوكل على الله فهو حسبه3 "{الطلاق: 3} والتوكل لا التواكل صفة من صفات عباد الله المؤمنين.. قال - تعالى -: "وعلى الله فليتوكل المؤمنون 122 "{آل عمران: 122}.
التضحية في سبيل الله - تعالى -:
والتضحية في سبيل الله - تعالى - لإعلاء كلمته، وحماية الدين من الدروس التربوية التي تجلت في الهجرة النبوية، فقد ضرب علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أروع الأمثلة في التضحية والفداء عندما نام في فراش النبي - صلى الله عليه وسلم - وتدثر ببردته الخضراء ليتلقى الطعنات والضربات بدلاً عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وإنه لموقف عظيم.. شاب في ريعان الفتوة والشباب ينام على فراشٍ، ويوقن أنه سيقتل لا محالة، فسيوف الشرك قد تهيأت للقضاء على نبي الإسلام وسيد الخلق محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وقد أخذ الحقد من هؤلاء - ضد الإسلام وأهله - مأخذاً عظيماً.. ولكن إذا كانت التضحية من أجل إعلاء كلمة الله لتكون هي العليا وتكون كلمة الذين كفروا السفلى هانت النفس رخيصة في سبيل الله.
قام علي بواجبه على أكمل وجه وكفاه الله كما حمى نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، وقد جهل هؤلاء المشركون أن الله - عز وجل - قادر على ذلك.. يقول - تعالى -: " والله يعصمك من الناس 67 "{المائدة: 67}.. ويكمل علي دوره العظيم فقد انتظر بمكة ثلاثة أيام حتى أدى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الودائع التي كانت عنده للناس، ثم سافر إلى "قباء"(2) مشياً على قدميه، وقد وصل وقدماه تدميان، وقد تألم الرسول - صلى الله عليه وسلم - لرؤية ما أصابه فغسل لعلي رجليه، وفي هذا نزل قول الله - تعالى -: "وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين 30 "{الأنفال: 30}.
والتضحية في سبيل الله لا تكون بالنفس فقط، وإنما بالمال أيضاً فقد ترك الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين أملاكهم وبيوتهم وأرضهم، ولم يأخذوا معهم سوى أمتعتهم الشخصية القليلة، وأما من يملك المال منهم فقد حمله ثم أنفقه على أخوته من المهاجرين في مهجرهم، فهذا أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - يحمل ماله في الهجرة ابتغاء مرضاة الله - تعالى - وطمعاً في جنته يقول الله - تبارك و تعالى -:" الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون 262 "{البقرة: 262}.
السرية وأهمية الكتمان:
السرية أمر مهم جداً لقضاء الحوائج، والكتمان ضروري جداً لإتمام المهام الصعبة خاصة ما يتعلق بالأمور الحيوية والعسكرية للدولة، وقد طبق الرسول - صلى الله عليه وسلم - مبدأ السرية في الهجرة من مكة إلى المدينة، فضرب أروع الأمثلة فيما يجب أن تكون عليه الأمة من تكتم في الأمور المهمة التي تمس أمن المسلمين وحياتهم.. فعن عائشة رضي الله عنها؛ أنها قالت: "كان لا يخطئ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأتي بيت أبي بكر أحد طرفي النهار إما بكرة وإما عشية حتى إذا كان اليوم الذي أذن الله فيه لرسوله - صلى الله عليه وسلم - في الهجرة والخروج من مكة من بين ظهري (3) قومه.. أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالهاجرة في ساعة كان لا يأتي فيها، قالت: فلما رآه أبو بكر قال: ما جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذه الساعة إلا لأمر حدث، قالت: فلما دخل تأخر له أبو بكر عن سريره فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وليس عند أبي بكر أحد إلا أنا وأختي أسماء بنت أبي بكر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أخرج عني من عندك" قال: يا رسول الله، إنما هما ابنتاي وما ذاك فداك أبي وأمي؟ قال: "إن الله قد أذن لي في الخروج والهجرة"(4) فكان طلب الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - من أبي بكر أن يخرج من عنده - وهم أقرب الأقربين - ليخبره بأمر الهجرة على إنفراد تأكيداً على أهمية السرية والكتمان لإنجاح المهمة وتأمين الركب.
كما أنه - صلى الله عليه وسلم - قد استأجر "عبد الله بن أريقط"(5) وهو رجل مشرك ليكون دليلهما على الطريق إمعاناً في التكتم وتضليلاً للعدو.. ثم إنه سلك بهما بعد خروجهما من الغار اتجاه الجنوب نحو اليمن، ثم اتجه غرباً نحو الساحل، حتى وصل بهما إلى طريق لم يألفه الناس فاتجه شمالاً على مقربة من شاطئ البحر الأحمر، وسلكا معه طريقاً لم يكن يسلكه أحد إلا نادراً. (6) فيجب التنبه إلى هذا الدرس التربوي العظيم، وبثه في نفوس أبناء الأمة، وغرسه في جندها لماله من أهمية قصوى وما فيه من فوائد جمة. وما أحوجنا في هذه الأيام إلى تحقيق هذا المبدأ خاصة بعد انتشار الفضائيات والتقنيات الرقمية ووسائل الاتصال وشبكة الإنترنت، وما يصاحب ذلك من إمكانية تسرب الأخبار بصورة مذهلة.
رسالة المسجد وأهميته في الإسلام:
وصل الركب المبارك إلى قباء فنزل الرسول - صلى الله عليه وسلم - بها في يوم الإثنين 8 ربيع الأول سنة 14 من النبوة - وهي السنة الأولى من الهجرة - الموافق 23 سبتمبر سنة 622م(7)، وأقام بها - صلى الله عليه وسلم - أربعة أيام، فأسس مسجد قباء وصلى فيه، وهو أول مسجد أسس على التقوى بعد النبوة الشريفة وقد تولى بناء مسجده - صلى الله عليه وسلم - بنفسه وأصحابه من المهاجرين والأنصار بالمدينة في الموضع الذي بركت فيه راحلته.. فعن ابن إسحاق، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركب ناقته، وأرخى لها الزمام، فجعلت لا تمر بدار من دور الأنصار إلا دعاه أهلها إلى النزول عندهم، وقالوا له: هلم يا رسول الله إلى العدد والعدة والمنعة فيقول لهم - صلى الله عليه وسلم - : "خلوا زمامها فإنها مأمورة" حتى انتهى إلى موضع مسجده اليوم، فبركت على باب مسجده"(8).. فكان المسجد أول ما بادر الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى بنائه حتى تقام الصلوات وشعائر الإسلام فيه، فهو أول مدرسة في الإسلام، تجمع المسلمين وتؤلف بين قلوبهم، ويتعلمون فيها أمور دينهم ودنياهم.. وتبنى فيها الأجيال، وتصنع الأبطال، وتحل فيها مشكلاتهم.. فرسالة المسجد شاملة فهي تعليمية وتربوية واجتماعية ودينية. ويجب علينا أن ندرك أنه لا ينبغي اعتبار دور المسجد في التربية والتعليم انتقاصاً من دور المدرسة ومعاهد العلم والجامعات.. يقول الشيخ جاد الحق شيخ الأزهر الأسبق - يرحمه الله -: "فالفارق بين المدرسة وبين المسجد، وبين الجامعة وبين الجامع، هو فارق في الشكل فقط، وإلا فالمدرسة في الإسلام مسجد، والمسجد في الإسلام مدرسة؛ حيث لم تظهر المدارس في تاريخ التربية الإسلامية إلا في حدود القرن الرابع الهجري، وكانت في بداية نشأتها فرعاً من فروع المسجد، ثم تطورت إلى أن أصبحت هي الأصل، والمسجد جزء منها، وبناء على هذا الارتباط الوثيق بين المسجد، وبين التعليم والعلم في الإسلام - ابتداء من المدرسة الابتدائية، وانتهاء بالجامعة والمدارس العليا - ينبغي عليها عند تكوين الأجيال الإسلامية، وبناء شخصياتهم العلمية والأخلاقية والاجتماعية والسياسية؛ ينبغي عليها ألا تفارقها روح المسجد في هذا البناء وذلك التكوين، وأن تستحضرها في جميع أعمالها التربوية ونشاطاتها الثقافية"(9).
خلق الإيثار في الإسلام:
وصل المهاجران - محمد - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر الصديق رضي الله عنه - إلى المدينة حيث استقبلهما الأنصار - رضي الله عنهم - أعظم استقبال، وبدأ تنظيم المجتمع الإسلامي الجديد الذي بني على التقوى والحب والإخاء والإيثار، فقد أعطى كل أنصاري من الأنصار نصف بيته لأخيه المهاجر.. واقتسم معه تجارته وشاركه في أمواله، بل وصل إيثار الأنصار أن بعضهم كان يعرض إحدى زوجاته على أخيه من المهاجرين ليطلقها الأنصاري ويتزوجها المهاجر، وفي هذه النصرة وهذا الإيثار العظيم يقول ربنا - عز وجل -: والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على" أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون 9 {الحشر: 9}.
وقد تكوَّن المجتمع الإسلامي الأول في إطار من المحبة والإخاء والعزة والحرية التي لم يشهد لها التاريخ مثيلاً.. فقد خرج الرسول - صلى الله عليه وسلم - من مكة مهاجراً إلى المدينة وليس معه إلا صاحب واحد وقلة قليلة جداً لمعاونته، وقد سبقه عشرات من المسلمين حتى مكن له الله - جل وعلا - في الأرض ونصره، ودخل الناس في دين الله أفواجاً من شتى القبائل والأماكن.. فعاد إلى مكة في العام الثامن الهجري فاتحاً على رأس عشرة آلاف مسلم موحد من خيرة أصحابه، وقد فتحها من دون قتال أو سفك دماء.. خرج منها ليلاً هارباً - فراراً بالدين - ودخلها في وضح النهار - منتصراً بالدين عزيزاً - وهذا جزاء الصابرين الصادقين، فبالإيمان الصادق والعلم النافع، والتخطيط السليم يرتفع شأن أمة الإسلام، وبوحدة المسلمين يكون عزهم ومجدهم.. إن واجبنا نحو الهجرة هو إحياء سنة الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - ، والتمسك بهديه واتباع دربه القويم فنكون من الفالحين في الدنيا والفائزين في الآخرة.
الهوامش:
1- أخرجه البخاري في المناقب (3653)، ومسلم في فضائل الصحابة (2381).
2- قباء: قرية بالقرب من المدينة المنورة. 3- أي: من بين أيديهم.
4- رواه ابن اسحق، راجع: ابن الأثير-الكامل في التاريخ، ج2 - ط3، دار الكتب العلمية - بيروت (1418ه - 1998م).
5- هو رجل مشرك من بني الدئل بن بكر، وكانت أمه من بني سهم بن عمرو.
6- للاستزادة انظر- صفي الرحمن المباركفوري: الرحيق المختوم، ص 150 وما بعدها - ط1 - دار المنار، القاهرة (1415ه - 1995م).
7- المرجع السابق، ص 153.
8- أبو جعفر الطبري- تاريخ الأمم والملوك، ج3 - ص8، ط1، دار الفكر - بيروت (1418ه - 1998م).
9- الإمام جاد الحق علي جاد الحق- (المسجد إنشاءً ورسالة وتاريخاً) ص17 ط1 - كتيب الأزهر، القاهرة (رمضان 1416ه - 1996م).
http: //jmuslim.naseej.com المصدر:
ــــــــــــ(1/201)
من دروس الهجرة
صفاء الضوي العدوي
أسباب الهجرة:
1- صدع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالدعوة وأنذر قومه فاشتد الأذى والاضطهاد على المستضعفين من المؤمنين في مكة، ففكر النبي - صلى الله عليه وسلم - في الهجرة إلى المدينة، وقد جاء التصريح بهذا السبب في قول بلال وأبي بكر وغيرهما، بل كان ذلك هو السبب في الهجرة إلى الحبشة قبل الهجرة إلى المدينة.
2 - وكان من أسباب الهجرة كذلك رغبة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الانتقال إلى أرض يجد فيها المأوى لأصحابه والنصرة لدعوته، ولتكون منطلقاً للطموحات الكبيرة لدعوة الإسلام في الأرض.
2 - تأمين المستضعفين من المؤمنين من الفتن بإيجاد دار يهاجرون إليها فراراً بدينهم.
3 - كان لابد من وجود قوة تحمي الدعوة في بداية الطريق لتمضي إلى أهدافها، وكان لابد من دولة تؤسس تلك القوة المأمولة، فكان لابد من أرض تقوم عليها الدولة.
4- أوفد النبي - صلى الله عليه وسلم - بين يدي هجرته بعض النبلاء من أصحابه الكرام لتهيئة المهجر لاستقبال النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والقيام بالدعوة لإضافة أنصار جدد يشاركون في تحمل تبعة هذه الخطوة الخطيرة، وكان من رواد هذه الطلائع مصعب بن عمير وعبد الله بن أم مكتوم كما ذكر البخاري، كما كان من أوائلها كذلك أبو سلمة بن عبد الأسد كما جزم ابن إسحاق.
صدق المهاجرين الأولين وحسن بلائهم:
انطلق المؤمنون مهاجرين جماعات ووحدانا، وقد تعرض كثير منهم للأذى والبلاء حال هجرته، وكان ممن تعرضوا للبلاء أم سلمة التي منعها أهلها من الهجرة مع زوجها، ونزع أهل زوجها ابنها منها فتجاذبوه حتى خلعوا ذراعه، فهاجر أبو سلمة وحده، وبقيت أم سلمة في أحزانها على فراق زوجها وولدها حتى استرجعت بعد مدة ولدها ولحقت بزوجها وتمت لها هجرتها.
كما وقع لصهيب أن أمسكه المشركون حين خرج مهاجراً وخيروه بين ماله وبين السماح له بالهجرة فاختار الهجرة وشرى نفسه ابتغاء مرضاة الله كما هو شأن كل مهاجر صادق فربح بيعه.
وهاجر عمر سراً أخذاً بأسباب الحيطة والحذر، واستبقى النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر الصديق ليصحبه في هجرته حسب الخطة التي رعتها العناية الإلهية، فقد سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - جبريل: من يهاجر معي؟ قال جبريل: أبو بكر الصديق، كما روى الحاكم في مستدركه عن علي وصححه، ووافقه الذهبي.
أحس المشركون في مكة بخطر تلك الهجرات المتتابعة لأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وفطنوا إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لابد أن يلحق بهم، وأنهم هناك في دار هجرتهم سيقوى أمرهم، وتقوم لهم دولة، وتحصل لهم شوكة ففكروا على الفور في التخلص من النبي - صلى الله عليه وسلم - .
واجتمعوا في دار الندوة للتشاور في تفاصيل الخطة، واستعرضوا الاقتراحات التي كان أهمها؛ القتل أو السجن أو الطرد من مكة، وتبدى لهم الشيطان في صورة شيخ نجدي فشاركهم المشورة، فسمعوا له، فخذلهم عن فكرة السجن وفكرة الطرد، فاقترح أبو جهل قتله فأيده الشيخ النجدي، فاتفقوا على أن يجمعوا من كل قبيلة فتى شاباً نسيباً يضربون جميعاً محمداً ضربة رجل واحد فيتفرق دمه في القبائل، فتعجز بنو عبد مناف عن حرب قومهم جميعاً فيرضوا بالدية، وانفض المجلس على هذا العزم.
أعلم الله - تعالى - نبيه - صلى الله عليه وسلم - بخبر هذا الاجتماع، فأمر علياً بالمبيت في فراشه، لإيهام المشركين بأن النائم هو النبي - صلى الله عليه وسلم - ، كما أمره أن يتخلف عنه ليرد الودائع والأمانات التي كانت عنده للمشركين، وتسلل هو - صلى الله عليه وسلم - إلى بيت أبي بكر في وقت الظهيرة، وهو وقت هدأة الرِّجل، وقلة المارة وذلك لبحث آخر الترتيبات لرحلة الهجرة.
كان أبو بكر قد أعد للرحلة راحلتين، فقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - إحداهما بثمنها، واتفقا على أن يخرجا ليلاً إلى غار ثور، وأن يمكثا فيه ثلاثة أيام حتى يهدأ الطلب، واستأجرا مرشداً ذا خبرة بالطرق، وهو عبد الله بن أرقد أو أريقط - وكان على دين قومه - وزودتهما أسماء بنت أبي بكر بزاد، وكان عبد الله بن أبي بكر يأتيهما في الليل في الغار ومعه الأخبار، ويعود إلى مكة قبل الفجر فيصبح بين الناس إذ كان لابد من التعرف على أسرار العدو لمتابعة تنفيذ الخطة على ضوء الخبرة بالواقع لا على المجازفة والمغامرة، وكان عامر بن فهيرة مولى أبي بكر يرعى غنمه في النهار ثم يدنو بها في الليل من الغار ليشربا من ألبانها وليعفي بأقدامها آثار أقدام عبد الله بن أبي بكر.
واجتمع القوم على باب النبي - صلى الله عليه وسلم - ينتظرونه ليخرج لينفذوا خطتهم، لكنهم سقط في أيديهم حين اكتشفوا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد خرج دون أن يروه، وحق فيهم قول الله - تعالى -: ((وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون)).
في الغار:
وبقي النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه في الغار ثلاثة أيام تجلت خلالها قوة ثقة النبي - صلى الله عليه وسلم - في ربه وحسن توكله عليه حين كان يهديء من قلق أبي بكر خوفاً على النبي ويقول له: يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما: ويقول ما حكاه القرآن: لا تحزن؛ إن الله معنا ".
وحين هدأ الطلب، وجاءهما الدليل، انطلقوا إلى المدينة عن طريق الساحل.
معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - في رحلة الهجرة:
أعلنت قريش عن جائزة كبيرة؛ مائة من الإبل، لمن يأتي بمحمد حياً أو ميتاً، وتسابق الناس في البحث أملاً في الحصول على تلك الجائزة، وكان من هؤلاء سراقة بن مالك الذي أدرك الركب الكريم، فلما دنا منهم ساخت قوائم فرسه في الرمال، فعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد منعه الله من أعدائه، فطلب الأمان وعاهد النبي على كتمان خبره، ووفّى بذلك فلم يخبر قريشاً بالأمر، ثم إنه أسلم بعد حنين والطائف.
معجزات وبركات:
وكان من بركة النبي - صلى الله عليه وسلم - في تلك الرحلة أن مروا بخيمة أم معبد، ولم تكن شاتها ذات در، فمسح النبي - صلى الله عليه وسلم - على ضرعها ودعا الله فدرت كأحسن ما تكون الشاة الحلوب فشربوا حتى ارتوا، ثم انطلقوا في طريقهم.
وحين دنت قافلة الهدى من المدينة خرج أهل المدينة؛ رجالهم ونساؤهم وأطفالهم يتلقونه مرحبين فرحين بقدوم المصطفى - صلى الله عليه وسلم - .
ولما بلغ الركب الطيب قباء أقام بها ليال أسس فيها مسجد قباء، ثم دخل المدينة وسار في دروبها حتى بركت ناقته أمام دار أبي أيوب الأنصاري، فأمر ببناء المسجد في الموضع الذي بركت فيه الناقة، واستضاف أبو أيوب الأنصاري رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في داره شهراً ريثما تم بناء المسجد النبوي وبعض الحجرات بجواره.
الدروس والعبر المستفادة من الهجرة:
1 - الحزم البالغ، والحس الأمني العالي لدى النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث تحرك في الوقت المناسب، دونما تأخير، وذلك حين علم بعزم قريش على تبييته، واختياره - صلى الله عليه وسلم - الوقت المناسب للذهاب إلى بيت أبي بكر، وهو وقت القيلولة، وسؤاله حين دخل إلى البيت: من عندك؟
2 - الأخذ بما أمكن من الأسباب، كإشغال المتربصين بنائم في الفراش حتى يتسنى للنبي التحرك في أمن - إعداد أبي بكر للراحلتين مسبقاً - الخروج من خوخة لأبي بكر في ظهر بيته - الاتفاق مع المرشد مع التأكد من كونه مأموناً - تكليف عبد الله بن أبي بكر وأخته أسماء وعبد الله بن فهيرة الراعي بمهامهم - اختيار غار ثور للاختباء فيه ثلاثاً لكونه في غير جهة الانطلاق إلى المدينة، ولكون الطريق إلى مكة مرصوداً بالفرسان المتربصين.
3 - السرية التي أحاطت الخطة حتى النجاح دليل على أهميتها في كل عمل يكتنفه الصراع مع الكفار أو المنافقين.
4 - بيان فضل أبي بكر باختيار النبي - صلى الله عليه وسلم - له دون غيره، فكان هذا الاختيار من أعظم التوفيق للنبي الكريم، كما كان فيه الإشارة إلى تأييد الله - عز وجل - لنبيه وحسن رعايته - سبحانه - لتلك الخطوات المباركة في رحلة الهجرة، وهي منقبة عظيمة لأبي بكر سجلها القرآن الكريم منوهاً بما كان عليه رضي الله عنه من الحب للنبي والخوف عليه وتفديته بنفسه، ولقد علمت أمة الإسلام أنه أفضل الأمة بعد نبيها - صلى الله عليه وسلم - .
5 - فدائية علي - رضي الله عنه - بمبيته في فراش النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهو يعلم بالأمر تدل على أن التربية الإيمانية هي وحدها الجديرة بتقديم مثل هذه النماذج الرفيعة في الجندية والشهامة والرجولة.
6 - في تكليف النبي - صلى الله عليه وسلم - علياً برد الأمانات التي عنده للمشركين دليل على أن القيم الأخلاقية لا تهتز في منظور الإسلام تحت أي ظرف من الظروف مهما كانت شدته وقسوته.
7 - في ائتمان المشركين للنبي - صلى الله عليه وسلم - على أماناتهم رغم جحودهم لدعوته ما يؤكد أن الداعية والمصلح بإمكانه أن يؤسس أرضية طيبة من الثقة والاحترام لدى المدعو تهيئه فيما بعد لتقبل الدعوة، وهو ما كان من قريش حيث دخلوا جميعاً في الإسلام.
8 - في استئجار ابن أريقط المشرك للدلالة على الطريق جواز الاستفادة من خبرات المشركين إذا أمن غدرهم، مع النظر الدقيق في قاعدة المصالح والمفاسد.
9 - كان بيت أبي بكر نموذجاً فذاً لبيوت الدعوة، فأبو بكر يعرف مهامه فيقوم بها على أكمل وجه، فيقدم رغبته الشديدة على الصحبة، ويبذل ماله (بشراء الراحلتين)، ويجند ابنه وابنته وراعيه لإنجاح أدوار الرحلة ثم يبذل نفسه بالقيام بتلك الصحبة.
10 - إذا تمكن الإيمان من النفس وخالطت بشاشته القلوب أرخص المؤمن كل شيء في سبيل عقيدته، فهذا أبو بكر لم يقل: أجنب أبنائي الأخطار، لاسيما البنات، بل تجلى صدق إيمانه في كل خطوة من خطوات الرحلة، فكانت نصرة الدين أعلى وأغلى عنده من النفس والولد والمال، وبمثل هذا الصدق تنجح الدعوات وتنتصر.
11 - ومن دروس الهجرة أن نصرة الدين يجب أن تكون أعلى من كل اعتبار، فالوطن العزيز على النفس جبلةً، يتركه المؤمن حين يعتقد أن في تركه نصرة لعقيدته ورفعاً لرايته، فقد ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة وهي أحب البقاع إليه لما خشي على أصحابه الفتنة، ولما أراد أن يؤسس للإسلام دولة.
12 - ثبوت كثير من معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الرحلة، فمنها ما غشّى أبصار المشركين حين خروجه من داره من بين أيديهم، ومنها ما كان من شاة أم معبد من در اللبن لما مسح عليها ودعا، وما كان من شأن سراقة وفرسه عند الطلب.
13 - توقير أبي أيوب للرسول - صلى الله عليه وسلم - ورعاية حقه حيث شق عليه أن يسكن في الدور العلوي من البيت والنبي - صلى الله عليه وسلم - في الدور الأرضي، ففيه منقبة لأبي أيوب ودليل على وفور عقله وصدق إيمانه.
14 - جواز التبرك بآثار النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقد تبرك أبو أيوب وزوجه بآثاره - صلى الله عليه وسلم - ، وهكذا كان سائر الصحابة يتبركون بوضوئه وشعره ومماسة جسده الشريف في حياته كما كانوا يتبركون بآثاره بعد مماته فقد ثبت أن أسماء بنت أبي بكر كان عندها طيلسانة للنبي - صلى الله عليه وسلم - كانت تخرجها للمريض يلبسها تبركاً واستشفاءً، على أن هذا مخصوص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يتعداه إلى غيره لما جعل الله - تعالى - من البركة في جسده ما لم يجعله في غيره.
15 - وجوب الهجرة للقادر عليها ممن يخشى على دينه في أرضه، وقد نعى الله - تعالى - على من فرطوا في الدين وتعللوا بالاستضعاف قال - تعالى -: ((إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً))، أما قوله - صلى الله عليه وسلم - : "لا هجرة بعد الفتح" فمعناه أنه لا هجرة واجبة من مكة إلى المدينة بعد فتح مكة، ولكن جهاد ونية، وذلك أن الأسباب التي كانت موجبة للهجرة وهي الفتنة قد انتفت.
16 - المسجد هو الركيزة الأولى لبناء الدولة المسلمة، فالصلاة خير موضوع، فكان المسجد أول مشروع أسسه النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد وصوله إلى المدينة.
17 - وفي الهجرة مشروعية فرار المسلم بدينه والاختباء من الطغاة والظالمين، وأن ذلك لا ينافي الإيمان، وقد هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه سراً واختبآ في الغار، وهاجر عمر سراً، وقد فرّ موسى - عليه السلام - وهو من أولي العزم - من فرعون وقومه، وفر أهل الكهف من ملكهم الكافر، واختبأ الإمام أحمد لما طلب في أول الأمر أيام المحنة.
18 - ومن دروس الهجرة أن الأحسن - في الحروب غير النظامية (حرب العصابات) - وقت يقظة العدو الكمون.
19 - أن الأدب مقدم على الامتثال، فقد بقي النبي - صلى الله عليه وسلم - في الدور الأرضي من بيت أبي أيوب، فثبت بإقراره - صلى الله عليه وسلم - أن يسكن أحد فوقه مشروعية ذلك، ولو كان ذلك لا يجوز لبين لأبي أيوب إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة كما هو مقرر في علم الأصول، فكان هذا يكفي أبا أيوب إلا أن عظيم توقيره للنبي - صلى الله عليه وسلم - وصدق إيمانه ورهافة حسه أبت عليه إلا أن ينزل هو وزوجه لينتقل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الدور الأعلى، فقدم الأدب على الامتثال للحكم الثابت بإقراره - صلى الله عليه وسلم - .
20 - مشروعية المعاريض عند الحاجة إليها، ففيها مندوحة عن الكذب وسائر ألوان التمويه والتعمية بقدر الحاجة فحسب، إذ الضرورة بقدرها كما تقرر في الأصول، فقد قال أبو بكر لمن سأله عن الرجل الذي معه: هذا يهديني الطريق، يقصد الهداية إلى الحق، ويفهم السائل أنه خبير بالطرق والدروب في السفر، وكان ذلك كافياً في مثل تلك الحال.
مناقشة مقولة ضرورة الهجرة لاستعادة دولة الخلافة:
الهجرة واجبة للقادر عليها من دار الحرب إلى دار الإسلام، ومن دار تعلو فيها أحكام الكفر إلى دار تعلو فيها أحكام الشرع، ومن دار تظهر فيها البدعة إلى دار تظهر فيها السنة، ومن دار تغلب عليها الرذائل والفواحش إلى دار يقل فيها هذا الشر وكل ذلك تغليباً للمصالح على المفاسد واجتناباً للفتن.
أما إذا كانت المجتمعات التي يعيش فيها المسلمون قد اختلط فيها الإسلام بالكفر، والسنة بالبدعة والخير بالشر كما هو حال غالب المجتمعات اليوم فإلى أين نهاجر، وهل المسلم الذي يلقى عنتاً في دينة وفتنة وأذى وظلماً في مجتمع ما من مجتمعات المسلمين يمكنه أن يأوي إلى دارٍ الخيرُ فيها أكثر والشر فيها منحسر؟ وهل هناك دار تفتح أبوابها للمستضعفين من المؤمنين فتؤويهم وتكرمهم؟!.
إن بعض معاني الهجرة هي الممكنة اليوم، وهي هجرة المعصية وأهلها وأجوائها بقدر الإمكان، وهجرة الشرك وسدنته وبيئته قدر الوسع، مع الاجتهاد في الدعوة إلى الله، والمشاركة الصادقة في مشروع الإصلاح لإيجاد التجمع الصالح الذي يكون نواة لقيام المجتمع المسلم الذي يعلو فيه شرع الله فيكون مهجراً للمستضعفين في الأرض من المسلمين، وفيه يكون الإعداد للجهاد في سبيل الله حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.
http: //www.alsunnah.org المصدر:
ــــــــــــ(1/202)
من دروس الهجرة
الأستاذ الدكتور/ أحمد الشرباصي
أحمد الله - تبارك و تعالى -، هو الدائم الذي لا يتبدل، والباقي الذي لا يزول: "هُوَ الأوَّلُ وَالآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" (الحديد: 3).. نشهد أن لا إله إلا أنت: "تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ" (آل عمران: 27)، ونشهد أنَّ سيدنا محمدًا عبدك ورسولك؛ عبَدَكَ في ليله، وجاهد لكَ في نهاره، فكان عبدًا شكورًا، فعليه صلواتك وسلامك، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأصحابه الذاكرين المعتبِرين، وأتباعه المستمسكين بحبل الله القوي المتين: "فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ" (الأنبياء: 94).
يا أتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - :
في هذه الآونة الحاضرة من تاريخ الدنيا ومَرِّ الزمن، يقف أبناء الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها وقفة الاعتبار والذكرى؛ لأنهم يودِّعون من حياتهم عامًا مضى بما له وما عليه، ولا يدرون ما الله قاضٍ فيه، وهم يستقبلون ببزوغ هلال السنة الهجرية بعد قليلٍ عامًا جديدًا لا يدرون ما الله فاعلٌ فيه: "وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" (لقمان: من الآية 34).
وهم في هذه الوقفة يتذكرون أعظم حادث في تاريخهم، كان نقطة التحول في تاريخ البشرية، وكان بداية الانتقال من الضعف إلى القوة، ومن الحيرة والبلبلة إلى الاستقرار والاستعلاء، ألا وهو حادث هجرة النبي محمد- عليه صلوات الله وسلامه عليه- من مكة إلى المدينة، بعد أن فعل الكافرون به وبقومه الأفاعيل، وبعد أن تربصوا بدين الله الدوائر، ووقفوا لدعوة النور في كل مرصد، يقطعون عليها الطريق، ويعذبون أهلها العذاب الشديد، لا لشيء إلا لأنهم قالوا: ربنا الله، وفوق أن هذه الهجرة كانت رحمةً من الله لعباده ونجدةً، نراها قد انطوت على دروس كثيرة عميقةِ الدلالةِ دقيقةِ المغزى، بعيدةِ الأثر في نفوس الكرام، ومن واجب المسلمين أن يحسنوا الانتفاع بهذه الدروس عن طريق تذكرها والتأثر بها: "إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ" (ق: 37).
من الدروس التي نفقهها في حادث الهجرة أن صاحب المبدأ القويم الكريم لا يساوَم فيه ولا يحيد عنه، بل هو يجاهد من أجله ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وهو يستهين بالشدائد والمصاعب، تعترض طريقه عن يمين وشمال، ولكنه في الوقت نفسه لا يصبر على الذي يناله، ولا يرضى بالهوان يلحق دعوته، فإذا أحس بشيء من ذلك نأى بدعوته عن مواطن إذلالها، واغترب بها ليحفظ كرامتها ويصونَ حياتها، ولو أدى ذلك إلى ترك البلد والوطن، والأهل والسكن، وهاهو ذا محمد- صلوات الله عليه- يترك مع صحبه ديارَهم وعقارَهم، ومساكنَهم وأموالَهم، ويخرجون مغتربين في سبيل الله، مجاهدين لوجه الله، فأعزَّ الله شأنَهم، وكتب النصر لهم، وزكَّى رسولُ الله شأنَ هذه الغربةِ حين قال: "بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء".
وإذا كان إمام الأنبياء محمد- عليه الصلاة والسلام - قد ترك دارَه ووطنه في سبيل دينه ودعوته، فليس معنى هذا أنه تنكَّر لهذا الوطن، أو نسي حقَّه، أو استهان بمكانته- معاذ الله- فإن الرجل الأصيل وإن اغترب يظلُّ حافظًا عهدَ بلاده، ذاكرًا حقوق وطنه، فهذا رسول الله يخرج من مكة مهاجرًا مرغَمًا، وما يكاد يبلغ ظاهر مكة حتى يلتفت إليها في حنين عارمٍ، وشوقٍ قاهرٍ، وحبٍ عميقٍ، ويناجيها قائلاً: "والله إنك لأحب أرض الله إليَّ، وإنك لأحب أرض الله إلى الله، ولولا أن أهلك أخرجوني منك قهرًا ما خرجت"، وكان كلما ألحَّ به الشوق وبصحبه إلى مكة يدعو ربه قائلاً: "اللهم حبِّب إلينا المدينة، كما حبَّبت إلينا مكة"؛ وذلك لتخفَّ حدة الشوق.. وترجم القرآن الكريم عن شوق محمد إلى مكة وتعلقِه بها، وعن تلطفِ الله برسوله في هذا المجال، فقال - سبحانه -: "إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ" (القصص: 85).
ولقد أمر الله نبيه قبل الهجرة بأن يتجه في صلاته إلى بيت المقدس، فأطاع الرسول أمرَ ربه، وإن كان يحب في نفسه التوجه إلى الكعبة في مكة، وجعل "محمد" يقلِّب وجهه إلى الكعبة، ولما نزل القرآن بالتحول إلى الكعبة استدار "محمد" وهو في صلاته، فكان في نصفها الأول متجهًا إلى بيت المقدس، واتجه في نصفها الآخر إلى الكعبة، وليس وراء ذلك تقدير للوطن وحب له من الغريب الأكرم محمد - صلى الله عليه وسلم - .
ومن دروس الكفاح التي نأخذها عن الهجرة: أن الشباب إذا نبتوا في بيئة الصلاح والتقوى والتهذيب، نشئوا على العمل الصالح، والسعيِ الحميدِ، والتصرفِ المجيدِ، وهؤلاءِ هم شباب الإسلام، قد رضعوا رحيق التربية الدينية الكريمة، فكان لهم في مواطن البطولة والمجد أخبار وذكريات، وهذه طائفة منهم تشارك في حادث الهجرة أفضل مشاركة.. هذه "عائشة" الصبيَّة تعد الطعام للمهاجرين العظيمين، وهذه "أسماء" الفتيَّة تحمل الزاد لهما وتربطه بنطاقها، وهذا "عبد الله بن أبي بكر" الفتى يتجسس لهما، ويحمل إليهما الأخبار وهما مختفيان في الغار.. وهذا "علي بن أبي طالب" الشاب يتعرَّض للتضحية الكبرى، ويقدم "علي" الفدائية المُثلى فينام في فراش الرسول ليلة الهجرة، وهو يعلم أن سيوف المشركين تستعد للانقضاض على النائم فوق هذا الفراش، ويظل "علي" في مكة بعد ذلك يؤدي الأمانات إلى أهلها، ثم يهاجر "علي" الشاب منفردًا في ثقة وإيمان.
ومن الدروس التي نأخذها عن الهجرة: أن الله ينصر من ينصره، ويعين من يلجأ إليه ويعتصم به، ويكون للعبد المخلص الموقن حين تنقطع به الأسباب، وحين يخذله الناس، فهذه هي الهجرة يراها الأغرار الجهلاء فرارًا وانكسارًا، ولكنها في الواقع كانت عزًا من الله وانتصارًا، وهذا محمد وصاحبه تجتمع عليهما قوى البغي والطغيان، فتقبل عليهما عناية الرحمن: "إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" (التوبة: 40).
بم نصر الله رسوله يوم الهجرة؟
نصره الله بأضعف جنده، وما يعلم جنود ربك إلا هو.. نصره بنسج العنكبوت: "إِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ" (العنكبوت: من الآية 41)، ونصره ببيض الحمام، وما أرقَّ بيض الحمام: "إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَّخْشَى" (النازعات: 26).
يا أتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - : "إن المسلمين- وهم بين العام الراحل والعام المقبل- لابد لهم من نظرة يلقونها على سجلاَّتهم وصفحات حياتهم لينظروا ماذا كسبوا؟ وماذا خسروا؟ فيحمدوا الله- جل جلاله- على ما ربحوه، ويستغفروه مما اقترفوه أو صنعوه، فلنقف بين العامَين وقفة المهاجر بنفسه، وإن لم يهاجر بحسه.. فلنهاجر إلى الله بقلوبنا وعقولنا وأعمالنا، ولنلجأ إليه حتى يكون لنا ومعنا.. "إِن يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ" (آل عمران: 160)، واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون.
18/02/2004
http://www.ikhwanonline.com المصدر:
ــــــــــــ(1/203)
أحداث الهجرة .. ومضات قلم
صفاء الضوي العدوي
أسباب الهجرة:
1- صدع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالدعوة وأنذر قومه؛ فاشتد الأذى والاضطهاد على المستضعفين من المؤمنين في مكة، ففكر النبي - صلى الله عليه وسلم - في الهجرة إلى المدينة، وقد جاء التصريح بهذا السبب في قول بلال وأبي بكر و غيرهما، بل كان ذلك هو السبب في الهجرة إلى الحبشة قبل الهجرة إلى المدينة.
2- وكان من أسباب الهجرة كذلك رغبة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الانتقال إلى أرض يجد فيها المأوى لأصحابه والنصرة لدعوته، ولتكون منطلقاً للطموحات الكبيرة لدعوة الإسلام في الأرض.
3- تأمين المستضعفين من المؤمنين من الفتن بإيجاد دار يهاجرون إليها فراراً بدينهم.
4- كان لا بد من وجود قوة تحمي الدعوة في بداية الطريق لتمضي إلى أهدافها، وكان لا بد من دولة تؤسس تلك القوة المأمولة، فكان لا بد من أرض تقوم عليها الدولة.
أوفد النبي - صلى الله عليه وسلم - بين يدي هجرته بعض النبلاء من أصحابه الكرام لتهيئة المهجر لاستقبال النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والقيام بالدعوة لإضافة أنصار جدد يشاركون في تحمّل تبعة هذه الخطوة الخطيرة، وكان من رواد هذه الطلائع مصعب بن عمير وعبد الله بن أم مكتوم كما ذكر البخاري، كما كان من أوائلها كذلك أبو سلمة بن عبد الأسد كما جزم ابن إسحاق.
صدق المهاجرين الأولين وحسن بلائهم:
انطلق المؤمنون مهاجرين جماعات ووحدانا، وقد تعرض كثير منهم للأذى والبلاء حال هجرته، وكان ممن تعرضوا للبلاء أم سلمة التي منعها أهلها من الهجرة مع زوجها، ونزع أهل زوجها ابنها منها فتجاذبوه حتى خلعوا ذراعه، فهاجر أبو سلمة وحده، وبقيت أم سلمة في أحزانها على فراق زوجها وولدها حتى استرجعت بعد مدة ولدها، ولحقت بزوجها وتمت لها هجرتها.
كما وقع لصهيب أن أمسكه المشركون حين خرج مهاجراً وخيروه بين ماله وبين السماح له بالهجرة، فاختار الهجرة وشرى نفسه ابتغاء مرضاة الله كما هو شأن كل مهاجر صادق فربح بيعه.
وهاجر عمر سراً أخذاً بأسباب الحيطة والحذر، واستبقى النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر الصديق ليصحبه في هجرته حسب الخطة التي رعاها الله، فقد سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - جبريل: من يهاجر معي؟ قال جبريل أبو بكر الصديق، كما روى الحاكم في مستدركه عن علي وصححه، ووافقه الذهبي.
أحس المشركون في مكة بخطر تلك الهجرات المتتابعة لأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وفطنوا إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لابد أن يلحق بهم، وأنهم هناك في دار هجرتهم سيقوى أمرهم، وتقوم لهم دولة، وتحصل لهم شوكة، ففكروا على الفور في التخلص من النبي - صلى الله عليه وسلم - .
واجتمعوا في دار الندوة للتشاور في تفاصيل الخطة، واستعرضوا الاقتراحات التي كان أهمها؛ القتل أو السجن أو الطرد من مكة، وتبدى لهم الشيطان في صورة شيخ نجدي فشاركهم المشورة، فسمعوا له، فخذلهم عن فكرة السجن وفكرة الطرد، فاقترح أبو جهل قتله فأيده الشيخ النجدي، فاتفقوا على أن يجمعوا من كل قبيلة فتى شاباً نسيباً فيضربوا جميعاً محمداً ضربة رجل واحد فيتفرق دمه في القبائل، فتعجز بنو عبد مناف عن حرب قومهم جميعاً فيرضوا بالدية، وانفض المجلس على هذا العزم.
أعلم الله - تعالى - نبيه - صلى الله عليه وسلم - بخبر هذا الاجتماع، فأمر علياً بالمبيت في فراشه، لإيهام المشركين بأن النائم هو النبي - صلى الله عليه وسلم - كما أمره أن يتخلف عنه ليرد الودائع والأمانات التي كانت عنده للمشركين، وتسلل - صلى الله عليه وسلم - إلى بيت أبي بكر في وقت الظهيرة، وهو وقت هدأة الرِّجل، وقلة المارة، وذلك لبحث آخر الترتيبات لرحلة الهجرة.
كان أبو بكر قد أعد للرحلة راحلتين، فقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - إحداهما بثمنها، واتفقا على أن يخرجا ليلاً إلى غار ثور، وأن يمكثا فيه ثلاثة أيام حتى يهدأ الطلب، واستأجرا مرشداً ذا خبرة بالطرق، وهو عبد الله بن أرقد أو أريقط وكان على دين قومه وزودتهما أسماء بنت أبي بكر بزاد، وكان عبد الله بن أبي بكر يأتيهما في الليل في الغار ومعه الأخبار، ويعود إلى مكة قبل الفجر فيصبح بين الناس إذ كان لا بد من التعرف على أسرار العدو لمتابعة تنفيذ الخطة على ضوء الخبرة بالواقع لا على المجازفة والمغامرة، وكان عامر بن فهيرة مولى
أبي بكر يرعى غنمه في النهار ثم يدنو بها في الليل من الغار ليشربا من ألبانها وليعفي بأقدامها آثار أقدام عبد الله بن أبي بكر.
واجتمع القوم على باب النبي - صلى الله عليه وسلم - ينتظرونه ليخرج لينفذوا خطتهم، لكنهم سقط في أيديهم حين اكتشفوا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد خرج دون أن يروه، وحق فيهم قول الله - تعالى -: (وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون).
في الغار:
وبقي النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه في الغار ثلاثة أيام تجلّت خلالها قوة ثقة النبي - صلى الله عليه وسلم - في ربه وحسن توكّله عليه حين كان يهدئ من قلق أبي بكر خوفاً على النبي، ويقول له: "يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما: ويقول ما حكاه القرآن: لا تحزن؛ إن الله معنا". وحين هدأ الطلب، وجاءهما الدليل، انطلقوا إلى المدينة عن طريق الساحل.
معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - في رحلة الهجرة:
أعلنت قريش عن جائزة كبيرة؛ مائة من الإبل، لمن يأتي بمحمد حياً أو ميتاً، وتسابق الناس في البحث أملاً في الحصول على تلك الجائزة، وكان من هؤلاء سراقة بن مالك الذي أدرك الركب الكريم، فلما دنا منهم ساخت قوائم فرسه في الرمال، فعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد منعه الله من أعدائه، فطلب الأمان وعاهد النبي على كتمان خبره، ووفّى بذلك فلم يخبر قريشاً بالأمر، ثم إنه أسلم بعد حنين والطائف.
بركات النبي - صلى الله عليه وسلم - في رحلة الهجرة:
وكان من بركة النبي - صلى الله عليه وسلم - في تلك الرحلة أن مروا بخيمة أم معبد، ولم تكن شاتها ذات درّ، فمسح النبي - صلى الله عليه وسلم - على ضرعها، ودعا الله فدرت كأحسن ما تكون الشاة الحلوب فشربوا حتى ارتووا، ثم انطلقوا في طريقهم.
وحين دنت قافلة الهدى من المدينة خرج أهل المدينة؛ رجالهم ونساؤهم وأطفالهم يتلقونه مرحبين فرحين بقدوم المصطفى - صلى الله عليه وسلم - .
ولما بلغ الركب الطيب قباء أقام بها ليال أسس فيها مسجد قباء، ثم دخل المدينة وسار في دروبها حتى بركت ناقته أمام دار أبي أيوب الأنصاري، فأمر ببناء المسجد في الموضع الذي بركت فيه الناقة، واستضاف أبو أيوب الأنصاري رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في داره شهراً ريثما تم بناء المسجد النبوي وبعض الحجرات بجواره.
ثانياً: الدروس والعبر المستفادة من الهجرة:
1- الحزم البالغ، والحس الأمني العالي لدى النبي، حيث تحرك في الوقت المناسب، دونما تأخير، وذلك حين علم بعزم قريش على تبييته، واختيار الوقت المناسب للذهاب إلى بيت أبي بكر، وهو وقت القيلولة، وسؤاله حين دخل إلى البيت: من عندك؟
2 - الأخذ بما أمكن من الأسباب، كإشغال المتربصين بنائم في الفراش حتى يتسنى للنبي التحرك في أمن - إعداد أبي بكر للراحلتين مسبقاً الخروج من خوخة لأبي بكر في ظهر بيته الاتفاق مع المرشد مع التأكد من كونه مأموناً - تكليف عبد الله بن أبي بكر وأخته أسماء وعبد الله بن فهيرة الراعي بمهامهم اختيار غار ثور للاختباء فيه ثلاثاً لكونه في غير جهة الانطلاق إلى المدينة، ولكون الطريق إلى مكة مرصوداً بالفرسان المتربصين.
3- السرية التي أحاطت الخطة حتى النجاح دليل على أهميتها في كل عمل يكتنفه الصراع مع الكفار أو المنافقين.
4- بيان فضل أبي بكر باختيار النبي له دون غيره، فكان هذا الاختيار من أعظم التوفيق للنبي الكريم، كما كان فيه الإشارة إلى تأييد الله - عز وجل - لنبيه وحسن رعايته - سبحانه - لتلك الخطوات المباركة في رحلة الهجرة، وهي منقبة عظيمة لأبي بكر سجلها القرآن الكريم منوهاً بما كان عليه - رضي الله عنه - من الحب للنبي والخوف عليه وتفديته بنفسه، ولقد علمت أمة الإسلام أنه أفضل الأمة بعد نبيها - صلى الله عليه وسلم - .
5- فدائية علي -رضي الله عنه- بمبيته في فراش النبي، وهو يعلم بالأمر تدل على أن التربية الإيمانية هي وحدها الجديرة بتقديم مثل هذه النماذج الرفيعة في الجندية والشهامة والرجولة.
6- في تكليف النبي - صلى الله عليه وسلم - علياً برد الأمانات التي عنده للمشركين دليل على أن القيم الأخلاقية لا تهتز في منظور الإسلام تحت أي ظرف من الظروف مهما كانت شدته وقسوته.
7 - في ائتمان المشركين للنبي - صلى الله عليه وسلم - على أماناتهم رغم جحودهم لدعوته ما يؤكد أن الداعية والمصلح بإمكانه أن يؤسس أرضية طيبة من الثقة والاحترام لدى المدعو تهيئه فيما بعد لتقبل الدعوة، وهو ما كان من قريش حيث دخلوا جميعاً في الإسلام.
8- في استئجار ابن أريقط المشرك للدلالة على الطريق جواز الاستفادة من خبرات المشركين إذا أمن غدرهم، مع النظر الدقيق في قاعدة المصالح والمفاسد.
9- كان بيت أبي بكر نموذجاً فذاً لبيوت الدعوة، فأبو بكر يعرف مهامه فيقوم بها على أكمل وجه، فيقدم رغبته الشديدة على الصحبة، ويبذل ماله (بشراء الراحلتين)، ويجنّد ابنه وابنته وراعيه لإنجاح أدوار الرحلة ثم يبذل نفسه بالقيام بتلك الصحبة.
10- إذا تمكن الإيمان من النفس وخالطت بشاشته القلوب أرخص المؤمن كل شيء في سبيل عقيدته، فهذا أبو بكر لم يقل: أجنب أبنائي الأخطار، لا سيما البنات، بل تجلى صدق إيمانه في كل خطوة من خطوات الرحلة، فكانت نصرة الدين أعلى وأغلى عنده من النفس والولد والمال، وبمثل هذا الصدق تنجح الدعوات وتنتصر.
11- ومن دروس الهجرة أن نصرة الدين يجب أن تكون أعلى من كل اعتبار، فالوطن العزيز على النفس جِبِلّة، يتركه المؤمن حين يعتقد أن في تركه نصرة لعقيدته ورفعاً لرايته، فقد ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة وهي أحب البقاع إليه لما خشي على أصحابه الفتنة، ولما أراد أن يؤسس للإسلام دولة.
12- ثبوت كثير من معجزات النبي في هذه الرحلة، فمنها ما غشّى أبصار المشركين حين خروجه من داره من بين أيديهم، ومنها ما كان من شاة أم معبد من درّ اللبن لمّا مسح عليها ودعا، وما كان من شأن سراقة وفرسه عند الطلب.
13- توقير أبي أيوب للرسول - صلى الله عليه وسلم - ورعاية حقه حيث شق عليه أن يسكن في الدور العلوي من البيت والنبي - صلى الله عليه وسلم - في الدور الأرضي، ففيه منقبة لأبي أيوب ودليل على وفور عقله وصدق إيمانه.
14- جواز التبرك بآثار النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ فقد تبرّك أبو أيوب وزوجه بآثاره - صلى الله عليه وسلم - ، وهكذا كان سائر الصحابة يتبركون بوضوئه وشعره ومماسة جسده الشريف في حياته كما كانوا يتبرّكون بآثاره بعد مماته فقد ثبت أن أسماء بنت أبي بكر كان عندها طيلسانة للنبي - صلى الله عليه وسلم - كانت تخرجها للمريض يلبسها تبركاً واستشفاءً، على أن هذا مخصوص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يتعداه إلى غيره لما جعل الله - تعالى - من البركة في جسده ما لم يجعله في غيره.
15 - وجوب الهجرة على من يخشى على دينه في أرضه ويقدر عليها، وقد نعى الله - تعالى -على من فرّطوا في الدين وتعلّلوا بالاستضعاف قال - تعالى -: (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً)، أما قوله - صلى الله عليه وسلم - "لا هجرة بعد الفتح" فمعناه أنه لا هجرة واجبة من مكة إلى المدينة بعد فتح مكة، ولكن جهاد ونية، وذلك أن الأسباب التي كانت موجبة للهجرة وهي الفتنة قد انتفت.
16- المسجد هو الركيزة الأولى لبناء الدولة المسلمة، فالصلاة خير موضوع، فكان المسجد أول مشروع أسسه النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد وصوله إلى المدينة.
17- وفي الهجرة مشروعية فرار المسلم بدينه والاختباء من الطغاة والظالمين، وأن ذلك لا ينافي الإيمان، وقد هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه سراً واختبآ في الغار، وهاجر عمر سراً، وقد فرّ موسى - عليه السلام - وهو من أولي العزم - من فرعون وقومه، وفر أهل الكهف من ملكهم الكافر، واختبأ الإمام أحمد لما طلب في أول الأمر أيام المحنة.
18- ومن دروس الهجرة أن الأحسن في الحروب غير النظامية - وقت يقظة العدو الكمون.
19- أن الأدب مقدم على الامتثال، فقد بقي النبي - صلى الله عليه وسلم - في الدور الأرضي من بيت أبي أيوب، فثبت بإقراره - صلى الله عليه وسلم - أن يسكن أحد فوقه مشروعية ذلك، ولو كان ذلك لا يجوز لبين لأبي أيوب؛ إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة كما هو مقرّر في علم الأصول، فكان هذا يكفي أبا أيوب إلا أن عظيم توقيره للنبي - صلى الله عليه وسلم - وصدق إيمانه ورهافة حسه أبت عليه إلا أن ينزل هو وزوجه لينتقل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الدور الأعلى، فقدم الأدب على الامتثال للحكم بمشروعية تلك الحال.
20- مشروعية المعاريض عند الحاجة إليها؛ ففيها مندوحة عن الكذب وسائر ألوان التمويه والتعمية بقدر الحاجة فحسب، فقد قال أبو بكر لمن سأله عن الرجل الذي معه:هذا يهديني الطريق، يقصد الهداية إلى الحق، ويفهم السائل أنه خبير بالطرق والدروب في السفر، وكان ذلك كافياً في مثل تلك الحال.
17/1/1426
26/02/2005
http://www.islamtoday.net المصدر:
- - - - - - - - - - - - -(1/204)
الفهرس العام
أسباب الهجرة النبوية الشريفة ... 7
السبب الأول : شدة الإيذاء والاضطهاد من كفار قريش لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. ... 7
السبب الثاني : قبول أهل المدينة الإسلام ودخولهم فيه : ... 10
أهمية المخابرات . . في صفوف العدو ... 11
أهمية دور المرأة المسلمة ... 13
أهمية مبادئ الإدارة في الدعوة ... 16
إذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه بالهجرة إلى المدينة ... 20
هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم ... 23
قدوم قباء ... 27
العبر و العظات : ... 28
أسس المجتمع الجديد ... 35
الأساس الأول ( بناء المسجد ) ... 35
الأساس الثانى ( الأخوة بين المسلمين ) ... 40
الأساس الثالث ( كتابة وثيقة بين المسلمين وغيرهم ) ... 44
إذنه - صلى الله عليه وسلم - لمسلمي مكة بالهجرة ... 50
اقرؤوا التأريخ ... 53
الأفضل أن تستبدل الكلمة بـ(الهجرة) ... 62
جواز الإفادة من المشركين ... 64
التأريخ بالهجرة النبوية اجتمع عليه الصحابة الكرام ... 68
التبشير . . لا التخويف ... 69
التدابير العلمية في الهجرة النبوية ... 71
التورية عند الضرورة ... 76
الحكمة من استئجاره عليه الصلاة والسلام دليلاً لطريق الهجرة ... 78
الداعية المطارد ... 80
الدروس المستفادة من الهجرة النبوية ... 93
الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر في الغار ... 122
راحلة النبي صلى الله عليه وسلم ... 123
حديث الغار ... 123
معية الله مع رسوله وصاحبه ... 124
السابقون الأولون من المهاجرين ... 126
1- الصاحب والمصحوب: ... 126
ما الذي ملأ قلوبهم يقينا وعزما ؟! ... 127
2- كيف أثمرت الصحبة ؟ ... 128
3- السابقون الأولون : ... 128
4- دعاء الرابطة : ... 129
5- الدروس والعبر : ... 129
السرية طريق النجاح ... 132
السيرة النبوية معلمة النهج الذي أعز السلف ... 136
العبرة من الهجرة النبوية ... 140
الفوائد الجنية من الهجرة النبوية ... 146
مقدمة السلسلة ... 146
أولا .. لماذا الهجرة ..؟ ... 150
ثانيا : المدينة النبوية ، التأسيس والتوطين ..! ... 152
ثالثا : دعوةٌ مستمرةٌ وصبرٌ عظيم . ... 154
رابعا : الثبات على المبدأ . ... 157
خامسا ً: جِنسيةُ المسلمِ ووطنُه عقيدته . ... 159
سادسا: المسجدُ والدورُ الحقيقي . ... 161
سابعا : الهجرةُ وتأريخها ..! ... 162
ثامنا : الهجرةُ ومبدأ الشورى . ... 163
تاسعا : الهجرةُ والتخطيط . ... 164
الحادي عشر: الصدق والإخلاص مع الله ... 169
الثاني عشر : الداعية لا يمل ولا يكل . ... 170
الثالث عشر : بالصبرِ واليقينِ تُنالُ الإمامةُ في الدين . ... 171
القرار للقيادة ... 176
القيم والتحولات الاجتماعية في القرآن الكريم ... 179
الصفة الأولى: عمومية التحول ... 181
الصفة الثانية: استمرار السنة في الزمان وعدم توقفها ... 182
الصفة الثالثة: إنسانية سنن التحول والتبدل والتغير ... 183
3ـ التحول في مواقع أفراد المجتمع ... 184
المعجزات الحسية في الهجرة النبوية ... 187
النزول بقباء ... 193
الهجرة رحلة اليقين وركوب الأسباب ... 194
هاجر عليه السلام ولكنه لم يهجر ... 200
دعوة لمهاجري العصر الحاضر ... 202
التواصل مع ماضي المهاجر مطلوب ... 203
الهجرة والتكافل الإيماني ... 205
الهجرة .. عبرة وعبور..! ... 207
عبرة وعبور . ... 209
شهادة ودلالة. ... 210
الهجرة ... فاتحة عهد جديد ... 212
الهجرة أظهرت ما فى المجتمع العربي من القيم الإنسانية والأخلاق النبيلة ... 216
شجاعة على ... 217
الإسلام دين المحبة والأخوة الإنسانية ... 218
عداء المشركين لم يمنع الرسول - صلى الله عليه وسلم - من ود أماناتهم ... 219
أسماء ضربت المثل فى الشجاعة والتضحية وأبو جهل يخجل من نفسه بعد أن لطمها على وجهها ... 220
إيمان الرسول بأهمية الكفاءة وعدم التعصب اتخذ دليلا غير مسلم يقوده فى طريق الهجرة ... 221
الهجرة الكبرى بين الأخذ بالأسباب والتأييد الإلهي ... 223
الأخذ بالأسباب عند الصحابة ... 224
أول تنظيم إسلامي ... 225
الإذن لأصحابه بالهجرة ... 226
ليلة الهجرة النبوية ... 226
خروجه من مكة ليلاً ... 227
المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار ... 227
وضع صحيفة الوفاق ... 228
الهجرة المباركة دروس وعبر ... 230
الهجرة المباركة ... 233
الهجرة النبوية وقفات وتأملات : ... 236
الشباب وتحمل المسؤولية: ... 237
المسجد والدور الحقيقي : ... 238
الهجرة النبوية .. دروس وعبر.. ومعجزات حسية ... 239
الهجرة النبوية ... 242
الهجرة النبوية إلى المدينة ... 246
الهجرة النبوية الانتصار والسلام والحق ... 250
الهجرة النبوية الشريفة.. الدروس والعبر ... 253
الهجرة.. حدث غيّر مجرى التاريخ ... 256
الهجرة إلى الحبشة.. والخروج من الأزمة ... 256
مقدمات الهجرة الكبرى ... 257
التجهيز للهجرة ... 258
حادث الهجرة.. وأسباب النجاح ... 259
الرسول - صلى الله عليه وسلم - في المدينة ... 260
بين الهجرة إلى الحبشة والهجرة إلى المدينة ... 261
الأمة الإسلامية في حاجة دوماً إلى التأمل في دروس الهجرة ... 262
أهمية الهجرة ... 263
من دروس الهجرة ... 266
الهجرة النبوية المباركة مواقف وعبر ... 267
إخوة الإيمان والإسلام ... 269
الهجرة النبوية المباركة - مواقف وعبر ... 270
الهجرة النبوية المباركة - حوادث وعبر - 2 ... 274
الهجرة النبوية المباركة ... 277
الهجرة النبوية دروس في التخطيط الدقيق والتنظيم المحكم ... 280
التخطيط الدقيق للهجرة ... 281
الشعارات الجوفاء: ... 283
الهجرة النبوية دروس وعبر ... 287
معاني الهجرة ... 287
الهجرة دأب الأنبياء ... 288
الهجرة: دروس وعبر ... 290
الهجرة النبوية دروس وعبر ... 292
الهجرة النبوية عطاء بلا حدود وعزيمة لا تعرف اليأس ... 294
الهجرة النبوية في فكر الشيخ الغزالي ... 297
أولا: الهجرة حدث أكبر من أن تعلق عليه سورة واحدة ... 297
ثانيًا: وزن الإيمان في الهجرة ... 298
ثالثًا: إيمان بالمستقبل وثقة بالغيب ... 298
رابعًا: فكرة لا رحلة ... 300
خامسًا: ليست تخلُّصًا من فتنة بل لإقامة مجتمع آمن ... 301
سادسًا: الهجرة تطبيق لقانون السببية ... 301
الهجرة النبوية لم تكن هروباً من أذى الكفار بمكة ... 305
الهجرة النبوية معناها وأهدافها ... 308
الهجرة النبوية مقدماتها ونتائجها ... 315
الطواف على القبائل طلبًا للنصرة ... 315
رابعًا: فوائد ودروس وعبر: ... 320
المبحث الثاني -مواكب الخير وطلائع النور ... 322
المبحث الثالث -بيعة العقبة الثانية ... 332
دروس وعبر وفوائد: ... 335
المبحث الرابع -الهجرة إلى المدينة ... 341
أولاً: التمهيد والإعداد لها: ... 341
2- الإعداد في يثرب: ... 342
ثانياً: طلائع المهاجرين: ... 343
ثالثاً: من أساليب قريش في محاربة المهاجرين ومن مشاهد العظمة في الهجرة: ... 344
رابعًا: البيوتات الحاضنة وأثرها في النفوس: ... 353
خامساً: لماذا اختيرت المدينة كعاصمة للدولة الإسلامية؟ ... 357
سادسًا: من فضائل المدينة: ... 359
الفصل السادس -هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه الصديق رضي الله عنه ... 362
المبحث الأول -فشل خطة المشركين والترتيب النبوي الرفيع للهجرة ... 363
أولاً: فشل خطة المشركين لاغتيال النبي صلى الله عليه وسلم: ... 363
ثانيًا: الترتيب النبوي للهجرة: ... 364
ثالثًا: خروج الرسول - صلى الله عليه وسلم - ووصوله إلى الغار: ... 366
رابعًا: رِقة النبي - صلى الله عليه وسلم - عند خروجه من مكة: ... 367
خامساً: عناية الله سبحانه وتعالى ورعايته لرسوله صلى الله عليه وسلم: ... 367
سادساً: خيمة أم معبد في طريق الهجرة: ... 369
سابعاً: سراقة بن مالك يلاحق رسول الله صلى الله عليه وسلم: ... 372
ثامنًا: سبحان مقلب القلوب: ... 374
تاسعاً: استقبال الأنصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ... 375
عاشراً: فوائد ودروس وعبر: ... 377
المبحث الثاني -الثناء على المهاجرين بأوصاف حميدة والوعد لمن هاجر منهم والوعيد لمن تخلف ... 396
الهجرة مشروع لبناء حضارة إيمانيه جديدة ... 497
الهجرة والأمل في النصر ... 507
الهجرة والمهاجرون ... 510
الهجرة والنصرة ... 516
الهجرة والنفرة معاً على الطريق ... 517
الهجرة ومقدماتها ... 519
الوضوح في التعاملات ... 593
تأملات في رحلة الهجرة ... 596
تعرض النبي - صلى الله عليه وسلم - للأذى بسبب دعوته ... ... 602
تلاحق المهاجرين إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة ... 610
يا أيها الذين ءامنوا كونوا أنصار الله ... 620
حماية القيادة ... 625
دروس تربوية من الهجرة النبوية ... 628
دروس من الهجرة النبوية ... 636
دروس من الهجرة النبوية الشريفة ... 639
دروس من الهجرة.. ... 642
دروس وعبر تضيء الطريق للأمة ... 647
دروس وعبر مستخلصة من الهجرة النبوية. ... 654
بمناسبة ذكرى الهجرة النبوية ورأس السنة الهجرية 1426 ... 662
قيمة الهجرة النبوية: ... 668
ذكرى الهجرة ... 672
رجال الهجرة النبوية ... 674
شرعية الأعمال الفدائية ... 679
طلع البدر علينا عام هجري جديد ... 700
في ذكرى الهجرتين الأولى والثانية ... 715
فوائد ودروس وعبر من هجرة سيد البشر ... 719
1 ـ الهجرة من سنن الرسل الكرام : ... 719
2 ـ الصراع بين الحق والباطل صراع قديم وممتد : ... 719
3ـ مكر خصوم الدعوة بالداعية أمر مستمر متكرر : ... 719
4ـ الإيمان بالمعجزات الحسية : ... 720
5 ـ جواز الاستعانة بالكافر المأمون : ... 720
6 ـ دور المرأة في الهجرة : ... 721
7 ـ أد الأمانة إلى من ائتمنك : ... 722
8 ـ اليد العليا في الدعوة خير من اليد السفلى : ... 722
9 ـ عفة الداعية عن أموال الناس : ... 723
10 ـ جندية منقطعة النظير: ... 723
11 ـ حسن القيادة والرفق في التعامل : ... 725
12 ـ استمرار الدعوة في أحلك الظروف : ... 726
13 ـ أهمية العقيدة والدين في إزالة العداوة والضغائن : ... 727
14 ـ الحفاوة بالدعوة وحاملها : ... 728
15 ـ بين القدوة في الهجرة والتشريف في المعراج : ... 729
16 ـ وضوح سنة التدرج : ... 730
17 ـ التضحية في الهجرة : ... 731
18 ـ حسن المكافأة : ... 732
19 ـ هكذا يكون الأتباع : ... 733
20 ـ الهجرة النبوية نقطة تحول في تاريخ الحياة : ... 733
فى ظلال الهجرة النبوية ... 736
كيف نهاجر إلى الله ورسوله؟ ... 748
الهجرة الشريفة ... 755
اهجرة النبوية وقفات وتأملات ... 757
السيرة النبوية دروس وعبر ... 760
ما أروع دروس الهجرة النبوية الشريفة ... 769
مصدر عزة المسلم ... 778
معاني الهجرة لا تنضب ... 781
الهجرة النبوية، دروس وعبر ... 783
معجزات على طريق الهجرة ... 786
مقدمات الهجرة ونتائجها ... 789
عرض الدعوة الإسلامية على القبائل ... 792
المستجيبون للدعوة من غير أهل مكة ... 794
الأنصار وبيعة العقبة الأولى ... 796
الأنصار وبيعة العقبة الثانية ... 800
الهجرة من مكة إلى المدينة ... 803
تأملات في واقع المدينة قبل الهجرة ... 810
الهجرة النبوية ومنعطف التاريخ ... 814
الهجرة من سنن الأنبياء عليهم السلام ... 816
أوائل المهاجرين من الصحابة ... 817
معجزات على طريق الهجرة ... 821
الهجرة النبوية إلى المدينة ... 824
وصول رسول الله إلى المدينة ... 828
دروس من الهجرة ... 831
دروس تربوية من الهجرة النبوية ... 836
الرسول - صلى الله عليه وسلم - في المدينة ... 844
بناء المسجد النبوي ... 850
من نتائج الهجرة قيام الدولة الإسلامية ... 852
المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار ... 856
صحيفة المدينة ... 859
مقدمة الهجرة من مكة إلى المدينة ... 862
من تراث رجالات الدعوة في مناسبة الهجرة ... 913
من دروس الهجرة النبوية ... 934
من نفحات الهجرة ... 939
نسوة في طريق الهجرة ... 953
المرأة في الهجرة .. صور من جهاد رائدات التضحية ... 983
هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وخروجه إلى الغار ... 987
وقفات مع الهجرة النبوية ... 1005
يا سيد السادات يا رسول الله ... 1008
الهجرةُ النبوية.. خُطواتٌ من روائع الإدارة ... 1010
فوائد معنوية من الهجرة النبوية ... 1022
الهجرة وصناعة الأمل ... 1026
الهجرة.. دروس في التخطيط الحديث ... 1033
وحي الهجرة ... 1040
المحرم والاحتفال بالسنة الهجرية ... 1043
ما ينبغي أن يستقبل به المسلمون عامهم الهجري ... 1045
حول مدلولات الهجرة ... 1049
هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم ... 1052
ماذا تعلمنا هجرة الرسول؟ ... 1060
تأملات في معاني الهجرة ... 1066
أعظم أنواع الهجرة - هجرة القلوب ... 1071
هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم ... 1075
الهجرة المباركة شمس ساطعة ومنارة للتاريخ ... 1086
هجرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ... 1089
نفحات من هجرة الرسول ... 1093
الهجرة.. تاريخ في التاريخ ... 1096
وجاء عام جديد...آمال برغم الآلام ... 1098
خصائص العمران في المدن الإسلامية ... 1105
وقفة مع نهاية العام الهجري 1425هـ ... 1122
مفهوم الهجرة من .. إلى .. ... 1128
التاريخ الإسلامي الهجري ... 1133
عاشوراء والهجرة النبوية من أيام الله تعالى ... 1138
الأعياد والمناسبات المعتبرة في الإسلام ... 1145
دروس من الهجرة النبوية ... 1153
إصلاح النفس . . أولا ... 1160
العلم بمقاصد الهجرة وأهدافها ... 1162
روابط الأمة في ظلال الهجرة ... 1170
فقه الهجرة النبوية ... 1182
الهجرة نصر ... 1186
معاني الهجرة وواقع أمتنا ... 1189
الهجرة وأزمة الأمة ... 1194
أطياف الهجرة ... 1204
من دروس الهجرة ... 1209
من دروس الهجرة ... 1215
من دروس الهجرة ... 1223
أحداث الهجرة .. ومضات قلم ... 1227(1/205)