دروسٌ وعبرٌ منَ الهجرةِ النَّبويَّةِ
جمع وإعداد
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
(( حقوق الطبع متاحة لجميع الهيئات العلمية والخيرية))
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، القائل في محكم كتابه : { إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99) وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100) [النساء/97-100] }
والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين ، القائل :" لاَ تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ مَا قُوتِلَ الْكُفَّارُ."(1)
والقائل أيضاً : " لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا"(2)
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد :
من الأمور المسلَّم بها أن بقاء الدعوة في أرض قاحلة لا يخدمها، بل يعوق مسارها ويشلُّ حركاتها، وجرت سنة الله في خلقه أن يقبل بعض الناس على دعوات رسله، فتنشرح صدورهم لهدايته، وأن يُعرض بعض الناس فينشأ الصراع بين الحق والباطل.
تخضع القضية بعد ذلك لشيء من الموازنة. فإن كانت الفئة المؤمنة من أتباع الحق، من القلة بحيث لا تملك إلا أن تظل مستضعفة في الأرض، فستتلقى من الفئة الكافرة ضربات لا هوادة فيها، ولن يكن للفئة المؤمنة خيار إلا أن تصبر وتتحمل كل صنوف الأذى من أجل دعوتها إلى أن يأتي أمر الله، أو تهاجر لتتمكن من الانطلاق في أرض أخرى.
ولقد قص القرآن علينا أن من الأنبياء من هاجر، منهم: سيدنا إبراهيم، ولوط، وموسى، ومحمد عليهم الصلاة والسلام. قال تعالى على لسان سيدنا إبراهيم: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} (99) سورة الصافات. وقال: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [العنكبوت:26]. وقال: {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَّا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى} [طه:77].
وقال عن هجرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40].
وقال أيضا : {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ} [محمد:13].
فالهجرة إهدار للمصالح، وتضحية بالأموال، ونجاة بالنفس، مع شعور المهاجر بأنه مستباح منهوب، وقد يهلك في أوائل الطريق أو نهايتها، وأنه يسير نحو مستقبل مبهم، لا يدري ما يتمخض عنه من قلاقل وأحزان.
روى الإمام البخاري عن خَبَّابً قالَ : أَتَيْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - وَهْوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً ، وَهْوَ فِى ظِلِّ الْكَعْبَةِ ، وَقَدْ لَقِينَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ شِدَّةً فَقُلْتُ أَلاَ تَدْعُو اللَّهَ فَقَعَدَ وَهْوَ مُحْمَرٌّ وَجْهُهُ فَقَالَ « لَقَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ لَيُمْشَطُ بِمِشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ عِظَامِهِ مِنْ لَحْمٍ أَوْ عَصَبٍ مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ ، وَيُوضَعُ الْمِنْشَارُ عَلَى مَفْرِقِ رَأْسِهِ ، فَيُشَقُّ بِاثْنَيْنِ ، مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ ، وَلَيُتِمَّنَّ اللَّهُ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ مَا يَخَافُ إِلاَّ اللَّهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ »(3).
لكن مع شدة الألم وكثرة الطغيان وانتشار البطش بالمؤمنين والمؤمنات أذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمن يريد الهجرة بدينه أن يتجه إلى أرض يخلى بينه وبين أداء دينه، فبدأ المسلمون يهاجرون، وهم يعرفون كل ذلك
فإدراك الماضي إدراكاً واعياً ضروري لمعرفة الطريق القويم- معرفة العدو من الصديق- معرفة كيفية التعامل مع كل حديث وجديد ، فالتزاوج بين الماضي والحاضر واستيعاب دروس الماضي والاستفادة منها وتحديد مكانة الماضي في الحاضر ضروري حتى يتم الانطلاق نحو المستقبل، وبغير ذلك تعجز الأمة عن دخول الواقع بأبعاده.
فالهجرة من وسائل التغيير وأهمها هجرة المسلم بقلبه من محبة غير الله إلى محبته ، ومن عبودية غيره إلى عبوديته، ومن خوف غيره ورجائه والتوكل عليه، إلى خوف الله ورجائه والتوكل عليه، ومن دعاء غيره وسؤاله والخضوع له والذل والاستكانة له.. إلى دعائه، وسؤاله والخضوع له والذل له والاستكانة له. وهذا معنى قوله تعالى:{ فَفِرُّواْ إِلَى اللَّهِ }[الذاريات:50].
أما هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهجرة صحابته رضوان الله عليهم، فقد كانت على أساس ثابت، قائم على محبة الله تعالى ورضوانه، فأثبتوا للدنيا أجمع أنهم لدينهم ولعقيدتهم، وأنهم ليسوا للتراب، ولا للأهواء ولا للعصبيات، وأن بناءهم لا يقوم على الحجر والطين، ولا يلقي ثقله على أموال اقترفوها ولا تجارة يخشون كسادها، ولا مساكن يرضونها، بل هي العقيدة الصافية الصادقة: (لا إله إلا الله، محمد رسول الله). فأدرك الغويّ أبو جهل ومن وراءه إدراك الموقن بنفسه المعارض بلسانه، أنهم لم ينازعوهم في أرض ولا في مال ولا في عقار ولا في قمار، ولا في زعامة فاشلة تهدم ولا تبني، ولا في قبَلِيَّة عمياء جهلاء، بل نازعوهم في تلك العقيدة التي حملوها، وحملوا على عاتقهم نشرها والدعوة إليها رغم أنف أبي جهل ومن معه.
فهاجروا وتركوا الأرض والديار والأهل؛ ولكن الإيمان أصيل يملأ القلوب، وآي التنزيل تنير لهم دُهْمَة (ظبمة) الليالي، وراية التوحيد تفتح أمامهم طرقاً كانت ضيقة، وتزيح أمامهم عراقيل الجبال الشوامخ، فإذا أفقُ طيبةَ الطيبة يتلألأُ من بعيد وهو قريب، طابت بخير قادم عليها، فهام أوسها وخزرجها على روابيها بصدور رحبة، تحيي الأمين وصحبه فرحة بخير قادم عليها، والمحبة أوثق العرى مع من ربطتهم به (لا إله إلا الله، محمد رسول الله).(4)
إنَّ هذا الحدث الذي غير مجرى التأريخ، الحدث الذي يحمل في طياته معاني الشجاعة والتضحية والإباء، والصبر والنصر والفداء، والتوكل والقوة والإخاء، والاعتزاز بالله وحده مهما بلغ كيد الأعداء، إنه حدث الهجرة النبوية الذي جعله الله سبحانه طريقا للنصر والعزة، ورفع راية الإسلام، وتشييد دولته، وإقامة صرح حضارته، فما كان لنور الإسلام أن يشع في جميع أرجاء المعمورة لو بقي حبيسا في مهده، ولله الحكمة البالغة في شرعه وكونه وخلقه.
إن في هذا الحدث العظيم من الآيات البينات والآثار النيرات والدروس والعبر البالغات ما لو استلهمته أمة الإسلام اليوم وعملت على ضوئه وهي تعيش على مفترق الطرق لتحقق لها عزها وقوتها ومكانتها وهيبتها، ولعلمت علم اليقين أنه لا حل لمشكلاتها ولا صلاح لأحوالها إلا بالتمسك بإسلامها والتزامها بعقيدتها وإيمانها، فوَالذي بعث محمدا بالحق بشيرا ونذيرا ما قامت الدنيا إلا بقيام الدين، ولا نال المسلمون العزة والكرامة والنصر والتمكين إلا لما خضعوا لرب العالمين، وهيهات أن يحل أمن ورخاء وسلام إلا باتباع نهج الأنبياء والمرسلين. إذا تحقق ذلك أيها المسلمون، وتذكرت الأمة هذه الحقائق الناصعة وعملت على تحقيقها في واقع حياتها كانت هي السلاح الفاعل الذي تقاتل به والدرع الحصين الذي تتقي به في وجه الهجمات الكاسحة والصراع العالمي العنيف، فالقوة لله جميعا، والعزة لله ولرسوله وللمؤمنين.(5)
وفي هذا الكتاب دروس وعبر كثيرة التقطتها من هنا وهناك ، من أجل النظر فيها ، والانتفاع بمضمونها ، فما أحوجنا لها في هذه الأيام العصيبة التي تمر بالأمة الإسلامية في كل مكان ، فعَنْ ثَوْبَانَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ ، كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا. فَقَالَ قَائِلٌ : وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ ؟ قَالَ : بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ ، وَلَيَنْزِعَنَّ اللهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهَنَ. فَقَالَ قَائِلٌ : يَا رَسُولَ اللهِ ، وَمَا الْوَهَنُ ؟ قَالَ : حُبُّ الدُّنْيَا ، وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ. سنن أبى داود(4299) وهو صحيح
وقد بينت مصادرها في بدايتها أو نهايتها ، وهي كثيرة بحمد الله تعالى .
وقد تركتها في الغالب -كما هي- وقمت بفهرستها على الورد ، ووضعها في الشاملة 3 ، ليعم النفع بها .
هذا وقد كنت كتبت كتابا كبيرا حول أحكام الهجرة وهو (المفصل في أحكام الهجرة) وهو في مكتبة صيد الفوائد، وفي مشكاة ، تحدثت فيه بالتفصيل عن الأحكام الشرعية المتعلقة بالهجرة .
أسأل الله تعالى أن ينفع به جامعه وقارئه وناشره والدال عليه في الدارين .
جمع وإعداد
الباحث في القرآن والسنَّة
علي بن نايف الشحود
في 27 شعبان 1429 هـ الموافق ل 29/8/2008 م
- - - - - - - - - - - - - - - - -
أسباب الهجرة النبوية الشريفة
بسم الله الرحمن الرحيم
أيها الأحبة في الله : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..
لا شك أن حدثا مثل الهجرة النبوية حين تكون تاريخا للأمة لا شك أنها حدث عظيم في تاريخها ونقطة تحول في حياتها .. فالهجرة فرقت بين الحق والباطل ، وميزت بين الخير والشر ..
حولت ضعف المسلمين إلى قوة ، وذلهم إلى عزة ، وعجزهم إلى قدرة .
وكما يقولون : إن لكل شيء سببا ، فللهجرة النبوية أيضا أسباب ، وهما سببان :
1) شدة الأذى والاضطهاد الذي كان يتعرض له النبي - صلى الله عليه وسلم - هو وأصحابه من كفار قريش .
2) قبول أهل المدينة الإسلام ودخولهم فيه .
السبب الأول : شدة الإيذاء والاضطهاد من كفار قريش لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ..
حقيقة : لقد أوذي النبي - صلى الله عليه وسلم - إيذاء شديدا لم يتعرض له نبي من الأنبياء السابقين ..
من أنواع الإيذاء : كان المشركون يسخرون منه ويحتقرونه ، ويستهزؤون به ويكذبونه ، فكانوا ينادونه بالمجنون كما قال الله تعالى عنهم : وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون.
كانوا يقولون عنه انه ساحر كذاب ، كما قال تعالى : وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب .
كانوا يستقبلونه بنظرات استحقار ، كما قال سبحانه : {وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} (51) سورة القلم .
كانوا يشوهون تعاليمه الشريفة ويثيرون حولها الشبهات ، وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا .
وقالوا عن القران الكريم : إن هذا إلا إفك افتراه ... وكانوا يقولون أيضا : إنما يعلمه بشر .
وقالوا عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - : مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق .
من أنواع الإيذاء ابيضا : إنهم عرضوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - ان يتنازل عن بعض تعاليمه ويتركون هم بعض ما عليه مثل المفاوضات فنزل قوله تعالى : ودوا لو تدهن فيدهنون .
وأيضا عرضوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعبد آلهتهم سنة ويعبدون الله تعالى سنة فنول قوله سبحانه : قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون .
من أنواع الإيذاء أن أبا لهب وهو عم النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر ولديه عتبة وعتيبة أن يطلقا ابنتي النبي - صلى الله عليه وسلم - رقية وأم كلثوم لما جاء بالدعوة وكان قد كتب كتابهما فقط .
وأيضا : لما توفي عبد الله وهو الابن الثاني للنبي - صلى الله عليه وسلم - استبشر أبو لهب وقال لقومه : ابشروا فان محمدا قد صار ابترا يعني ليس له ولد يحمل ذكره من بعده . فنزل قوله تعالى : إن شانئك هو الأبتر .
وكانت زوجة أبي لهب وهي أخت أبي سفيان كانت تحمل الشوك وتضعه في طريق النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى بابه ، ولذلك وصفها القران الكريم بأنها حمالة الحطب .
من أنواع الإيذاء أيضا : إنهم وضعوا رحم الشاة وهو يصلي كما وضع عقبة بن أبي معيط سلا الجزور على ظهره الشريف وهو ساجد - صلى الله عليه وسلم - حتى جاءت فاطمة فطرحته عن ظهره .
وكان أمية بن خلف إذا رأى الرسول - صلى الله عليه وسلم - همزه ولمزه ، ونزل فيه قوله تعالى : ويل لكل همزة لمزة .
وكذلك الأخنس بن شريق كان ممن ينال من النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فوصفه الله تعالى في القران بتسع صفات : ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم مناع للخير معتد أثيم عتل بعد ذلك زنيم .
أما أبو جهل رأس الكفر والشرك فقد كان ينهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة فنزل فيه قوله تعالى : أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى ...
وفي يوم أراد أن يطأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقدمه ويعفر وجهه في التراب لكن الله تعالى حال بينه وبين ما يريد .
ومرة أخرى حمل أبو جهل لعنه الله حجرا كبيرا ليضرب به النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ساجد لكن الله تعالى منعه من ذلك .
من أنواع الإيذاء انه في يوم اجتمع عليه عشرة رجال وأحاطوا به فهذا يجذبه والأخر يدفعه والثالث يضربه حتى جاء أبو بكر رضي الله عنه فدفعهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
كما أنهم غيروا اسمه الشريف - صلى الله عليه وسلم - من محمد إلى مذمم .
من أشد أنواع الإيذاء التي تعرض لها النبي - صلى الله عليه وسلم - : الحصار في شعب أبي طالب ثلاث سنوات حتى أكلوا أوراق الشجر فصارت مخرجاتهم وفضلاتهم مثل الدواب حتى أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وجد في ليلة جلدة شاة فأخذها فوضعها على النار حتى تفحمت ثم أكلها وظل عليها ثلاث ليال لا يأكل شيئا .
من أنواع الإيذاء أنهم حاولوا قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - عدة مرات ، ففي يوم الخميس 26 صفر سنة 14 من البعثة اجتمع سبعة من كبار كفار قريش في دار الندوة وجاءهم الشيطان في صورة شيخ يريد نصحهم ودار نقاش طويل فقال احدهم : نحرجه من بيننا وننفيه من بلادنا .
فقال الشيطان : لا والله ما هذا لكم برأي الم تروا حسن حديثه وحلاوة كلامه والله لو فعلتم ذلك فسينزل على حي من العرب فيتبعوه فيسير بهم إليكم فيقاتلوكم .
فقال أبو البختري : احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه الباب حتى يموت . فقال الشيطان : لا والله ، لئن حبستموه ليخرجن من وراء الباب .
فقال أبو جهل : أرى أن نأخذ من كل قبيلة شابا جلدا قويا فنعطي كل فتى منهم سيفا صارما فيضربوه ضربة رجل واحد فيتفرق دمه في القبائل فلا يقدر بنو عبد مناف على حربكم فيرضوا منا بالدية . هذا عن السبب الأول ويعتبر هو السبب الرئيسي من أسباب الهجرة .
السبب الثاني : قبول أهل المدينة الإسلام ودخولهم فيه :
كان من عادة النبي - صلى الله عليه وسلم - وحكمته أن يعرض الإسلام على القبائل بالليل ، وفي موسم الحج سنة 11 من البعثة خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أبي بكر الصديق وعلي بن أبي طالب إلى منى فسمع أصوات رجال يتكلمون وكانوا ستة نفر من شباب المدينة وكانت تسمى يثرب .
فعرض النبي - صلى الله عليه وسلم - الإسلام عليهم فاسلموا ، وحملوا الإسلام إلى أهل المدينة حتى لم يبق بيت من بيوت الأنصار إلا وفيه ذكر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
في موسم الحج سنة 12 جاء 12 رجلا وبايعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - بيعة العقبة الأولى . وأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - مصعب بن عمير معهم غالى المدينة .
في موسم الحج سنة 13 من البعثة جاء 73 رجلا وامرأتان وبايعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - بيعة العقبة الثانية . وبذلك أصبح للإسلام قواعد وأرضية صلبة يستند عليها في المدينة .
ونواصل الحديث في اللقاء القادم إن شاء الله عن أهم الدروس المستفادة من قصة الهجرة على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى السلام .. والله ولي التوفيق .
ــــــــــــ
__________
(1) - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ وَقْدَانِ الْقُرَشِيِّ - وَكَانَ مُسْتَرْضِعًا فِي بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ السَّعْدِيِّ - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لاَ تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ مَا قُوتِلَ الْكُفَّارُ.صحيح ابن حبان - (ج 11 / ص 208) (4866) صحيح
(2) - صحيح البخارى (2783 ) وصحيح مسلم (4938)عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما
(3) - صحيح البخارى(3852 )
(4) - انظر موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 2364)
(5) - انظر موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 2333)(1/1)
أهمية المخابرات . . في صفوف العدو
إن بث العيون والمخابرات في صفوف أعداء المسلمين ، وخصوم الحركة الإسلامية : أمر تحتمه الظروف وطبيعة العلاقة الأبدية بين أنصار الحق من جهة وأنصار الباطل من جهة أخرى ، فضلا عن أنها معاملة بالمثل : حيث إن هؤلاء الأعداء الخصوم ، لا يسكتون عن محاولات بث عيونهم بين المسلمين ، واختراق صفوفهم ؛ لضربهم . . كسرا لشوكتهم ، ومنعا أو إعاقة لهم عن بلوغ أهدافهم ، وتحقيق غاياتهم
فلا أقل من أن يكون المسلمون بعامة ، وأبناء الحركة بخاصة : على مستوى حماية هذه الدعوة ، وشرف تبليغها ، ورفع رايتها ، وإعلاء شأن أتباعها ، بكل الوسائل المشروعة الممكنة .
ومن هذه الوسائل : بث عيونهم ومخابراتهم في صفوف أعدائهم ، وخصومهم .
حيث إنه : لابد من التعرف مباشرة على كل أسرار العدو ومخططاته وتوقعاته ، بحيث تصل إلى القيادة أولا بأول ، فتكون المتابعة ، قائمة على خبرة بالواقع ، لا على الظن التخمين ، الذي قد يخطئ ويصيب . " 59 "
وهذا ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - في هجرته من مكة إلى المدينة .
ففي البخاري : " . . . ثم لحق الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وأبو بكر ، بغار في جبل ثور ، فمكثا فيه ثلاث ليال ، يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر ، وهو : غلام ، شاب ، ثقف ، لقن ، فيدلج من عندهما بسحر ، فيصبح مع قريش بمكة كبائت ، فلا يسمع أمرا يكتادان به ، إلا وعاه ، حتى يأتيهما بخبر ذلك ، حين يختلط الظلام . . " الحديث " 53 "
وما كان أغنى من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن هذا الأمر ، وهو الذي يوحي إليه ، ويكشف له ربه سبحانه عن خططهم ومخططاتهم . . ! !
ولكنه : التدريب لهذه الجماعة المؤمنة الوليدة ، التي تحيط بها سهام الأعداء من كل جانب . . ! !
ولكنه : التعليم لهذه الأمة المؤمنة ، التي سوف يتربص بها الأعداء ، وتحيط بها سهامهم ، في كل عصر ، وفي كل مصر .
ولكنه : التنبيه لأبناء الحركة الإسلامية على هذا الأمر الذي ينبغي عليها أن تعيه جيدا ، وأن لا تهمله أو تقصر فيه أبدا ، إن كانت جادة ، في أداء الأمانة ، ورفع الراية .
ولكنه : التكليف لقادة الحركة الإسلامية بدراسة هذا الأمر ، وإعطائه بالغ اهتمامها ؛ إذ كلما كانت القيادة أعلم بواقع العدو ، وأدرى بأسراره ، ولها في صفوفه من ينقل إليها كل تخطيطاته : كلما كان ذلك أنجح لها في تنفيذ خططها ومخططاتها وأنجع لها في توقى سهامه وإبطال ضرباته .
وهذا أمر : يجب عدم إغفاله أو التهاون فيه ، في السراء والضراء ، في الصفاء والكدر ، في عظيم الأمور وصغيرها ، فقد تنقلب السراء _ غدا أو فجأة _ إلى ضدها ، وقد يتحول الصفاء _ غدا أو فجأة _ إلى عكسه ، وقد يكون صغير الأمور مقدمة إلى عظائمها ، والقائد _ بل المؤمن _ العاقل من لا يستهين بأي شئ لصالح دعوته .
وينبغي لمن يكلف بمثل هذه الأمور : أن يمتلك من الصفات ما يعينه على النجاح في مهمته ، وأن يؤديها تعبدا لله تعالى ، ومرضاة له سبحانه ، لا انتظارا لمغنم ، ولا طمعا في مكسب ، ولا ثأرا لشيء أصابه ،
وفي حديث البخاري : ما يوضح بعض هذه الصفات المطلوبة لهذه المهمة ، ثم يضاف إليها ما قد تدعو إليه الضرورة وتقتضيه الظروف الخاصة ، بشرط : أن لا يرتكب المكلف بهذه المهمة مخالفة شرعية ، كأن يطلع على عورات ، أو يقترف محرمات ، أو يهمل في أداء الواجبات .
ومن المهم جدا : أن لا يؤدي أحد هذه المهمة دون اختيار له وتكليف من القيادة ، وإلا صار الأمر فضولا وفوضى ، وقد يحدث لأبناء الدعوة ما لا تحمد عقباه .
ولا مانع _ بل إنه لمن اللازم _ أن تكون هناك ، لدى المسلمين ، وأبناء الحركة على وجه الخصوص ، دراسات جادة في هذا الموضوع وأمثاله ، توضح : أهميته ، وأساليب ممارسته . و . . الخ على أن تعد هذه الدراسات من قبل متخصصين فيها ، عالمين بها ، وليس هذا بالمستحيل ، حيث إن هذه الدراسات تقوم بها كل الدول ، ولها مدارس كثيرة .
كما أنه لا مانع _ بل إنه من اللازم _ أن تكون هناك دورات دراسية وتدريبية لمن يختارون للقيام بهذه المهام ، وتتوافر فيهم مؤهلات النجاح فيها .
كما أنه لا مانع _ بل إنه من اللازم _ أن يقيم هؤلاء الأفراد ، وقد يوظفون ، أو . . أو . . الخ لدى هؤلاء الأعداء أو الخصوم ، لتقريبهم من مصادر المعلومات ، وأماكن صنع القرارات ، والتيسير عليهم في أداء مهمتهم .
كل ذلك : بشرط أن لا ينحرف المسلمون عامة وأبناء الحركة خاصة ، فيما تستتبعه هذه الأعمال من مخالفات شرعية ، أو ممارسات لا أخلاقية ، أو أية أمور غير ذلك ، مما هو معروف أو غير معروف ، فيما يسمى بعالم " الجاسوسية "
هذا . .
وإن هذا الدرس لا تقتصر فائدته على الأمة أو الجماعات فقط ، بل إنه لمن الممكن أن يستفيد به الفرد _ على شرط المحافظة على ضوابطه الشرعية _ مع أية خصوم له ؛ رغبة فقط في الوقاية من شرهم ، والنجاة من أضرارهم ، وليس توصلا لإيذائهم ، أو النيل منهم .
أهمية دور المرأة المسلمة
المرأة : نصف المجتمع ( وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى ) "90 " ، ويقول سبحانه كذلك ( أيحسب الإنسان أن يترك سدى * ألم يك نطفة من مني يمنى * ثم كان علقة فخلق فسوى * فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى ) "91 "
وهي هدية الله تعالى _ قدمها على غيرها _ لمن يشاء ( لله ملك السموات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور ) "92 "
وهي : باب من أبواب الجنة إذا أحسن إليها ، وبولغ في إكرامها ، " من كان له ثلاث بنات أو ثلاث أخوات أو ابنتان أو أختان فأحسن صحبتهن ، واتقى الله فيهن : فله الجنة " "93 "
بل إن الجنة نفسها : تحت قدميها ، يقول - صلى الله عليه وسلم - " الجنة تحت أقدام الأمهات " "94 "
وهي : صانعة الأجيال ، ومربية الأبطال ،
الأم مدرسة إذا أعددتها . . . أعددت شعبا طيب الأعراق
ولذلك . . ! !
ففي طهارتها : طهارة المجتمع ونظافته .
وفي الإحسان إليها : سعادة المجتمع وبهجته .
وفي تعليمها : وعي المجتمع ورقيه .
وفي حسن تربيتها : نجاح المجتمع وفلاحه .
ومن هنا . . يجب الاهتمام بها ، وعدم الإهمال لها ، أو التقليل من شأنها ، أو الإغفال لدورها ، أو الإهدار لجهودها .
وإذا كان ذلك بصفة عامة : فهو بالنسبة لها في مجال الدعوة إلى الله تعالى ، ونشر هذا الدين ، ونصرته ، بصفة خاصة ؛ أكد وأولى وأوجب .
نستفيد ذلك من الهجرة على النحو التالي :
أ _ فهي التي كانت على مستوى المسئولية ، والقدرة على كتمان السر ، والفوز بتزكية أبي بكر لها أمام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في معرفة أمر خطير ، حجب عن كثير من الرجال ، حينما طلب النبي - صلى الله عليه وسلم - من أبي بكر إخراجهما .
ب _ وهي التي كانت على مستوى المسئولية ، والقدرة على التمويه عن جدها ، حينما وضعت حجارة في حائط بالبيت وغطتها ، وأوهمته أنها أموالا تركها لهم أبوهم ، أبو بكر ، قبل هجرته ، وذلك حتى يطمئن جدها عليهم في حال غياب أبي بكر عنهم ، وهي تقول _ في نفسها _ والله ما ترك لنا شيئا ، ولكني أردت أن أسكن الشيخ بذلك . "95 "
ج _ وهي التي كانت على مستوى المسئولية ، والقدرة على الصمود في مواجهة بطش " فرعون " عصرهم ، أبي جهل حينما جاء ليعرف منها مكان المهاجرين ، فأنكرت معرفتها ، وتأبت على جبروته ، ولم تخش ظلمه وطغيانه ؛ مما أغضبه ، ودفعه لأن يلطمها على وجهها الشريف ، وخلف من بعده خلف اتبعوه ، واقتدوا به في تعذيب النساء المسلمات الصالحات القانتات الصامدات .
د _ وهي التي كانت على مستوى المسئولية ، والقدرة على التضحية وتحمل المشاق ، حينما ذهبت للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأبيها بالغار مع بعد الطريق ، ومشقة المشوار ، وخطورة الحركة إلى هذا المكان ، حاملة لهما سفرتهما ، خلال رحلتهما ، دون خوف ، من اكتشاف لأمرها ، أو اعتقال تتعرض له ، أو تعذيب ينالها ، وهي تدرك جيدا أن بعض ذلك _ بل كله _ محتمل جدا .
ه _ وهي التي كانت على مستوى المسئولية ، والقدرة على حسن التصرف ، وسرعة البديهة ، حينما لم تجد ما تعلق به السفرة في الراحلة ، إذ شقت نطاقها ، وربطت السفرة بنصف ، وانتطقت بالأخر ، ولذا سميت بذات النطاقين .
و _ وهي التي كانت على مستوى المسئولية ، والقدرة على الحركة والسفر الشاق المضني من المدينة إلى مكة لملاقاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، في بيعة العقبة .
كما حدثت من السيدتين العظيمتين " أم عمارة " ، " أم منيع "
ز _ وهي التي كانت على مستوى المسئولية ، والقدرة على الحركة السرية ، والتخفي التام ، والتسلل كالقطا من رحال القوم في جنح الليل مع رجال من قومها للقاء الحبيب - صلى الله عليه وسلم - ، ومبايعته في بيعة العقبة ، بمنى .
ومما ينبغي ملاحظته جيدا : أن السيدة أسماء بنت أبي بكر ، لم تكن هي المرأة الوحيدة في المسلمات _ آنئذ _ هي المهيأة لذلك ، أو المستعدة ، أو المضحية ، لهذا العمل ، بل كان هناك الكثير والكثير ، ولكن لظروف السرية التي أحاطت بالهجرة ، لم يكتب هذا الشرف _ بل لم يجلب هذا الشرف _ لواحدة من بنات حواء إلا لهذه السيدة العظيمة ، التي رفعت قدر المرأة ومكانتها عاليا .
وهي نفس الملحوظة بالنسبة لهاتين السيدتين ، أم عمارة ، وأم منيع .
ولذلك ، ومن هذا الدرس : علينا أن نعيد النظر في علاقة المرأة بالدعوة الإسلامية ، وموقفها منها ، ودورها فيها ، بشرط : وضوح الفرق بين واجباتها وواجبات الرجال ، وبين ما يناط بها وما يناط بالرجال ، وما يطلب منها وما يطلب من الرجال ، وما تختص هي به ، وما لا يقوم به إلا الرجال ، على ضوء ما يمليه التشريع الإسلامي في هذا الخصوص ، وما يتطلبه واقع الدعوة الإسلامية _ تحت هذا الإطار ، وهذا الحصار _ في هذا العصر .
بدلا من هذا الإغفال ، وهذا الإهمال ، الذي يؤدي بدوره إلى ضياع فرص للدعوة كثيرة ، وإلى تفويت منافع على المجتمع المسلم _ رجالا ونساء _ كبيرة .
فليست المرأة كالرجل _ كما يقول منافقوها _ سواء بسواء ، حتى تقوم بكل شئ ، وتمارس كل شئ ، وبالتالي تفشل في كل شئ ، أو على الأقل في أهم شئ ، وهو دورها الذي خلقت له .
وليست المرأة كما مهملا ، حتى تبعد عن كل شئ ، ولا تمارس _ فيما يخص الدعوة _ أي شئ ، وبالتالي نفشل نحن في الإفادة من أعز شئ ، وهو نصف المجتمع .
وعلى الحركة الإسلامية أن تسارع في فتح ملف " المرأة المسلمة " ودراسته جيدا ، في ضوء ما يكشفه الدين ، وتقدمه النماذج الإسلامية الرائدة ، وليس في غبش ما قيده الواقع مما أطلقه الدين ، أو أطلقه الواقع مما قيده الدين .
وذلك . . حتى تستفيد المرأة المسلمة ، _ ونستفيد من المرأة المسلمة _ في ظلال ديننا السمح الحنيف .
وإلا فستظل الجمعيات العالمية ، المشبوهة وغير المشبوهة تلعب بعواطف المرأة ، وتدغدغ أحاسيسها بدعوات : ظاهرها الرحمة ، وباطنها من قبله الدمار والعذاب .
*********
أهمية مبادئ الإدارة في الدعوة
بقلم: نبيل بن جعفر الفيصل
إن الدعوة إلى الله (سبحانه وتعالى) هي الأساس الذي قامت عليه هذه الأمة ونهضت به، وإذا نظرنا في تاريخ الدعوة منذ بعثته وجدنا أنها كانت تسير ضمن عملية إدارية محكمة، بلغت في تخطيطها وتنظيمها وتربيتها للسلوك الإنساني ذروتها.
وكما أن حركة الدعوة الإسلامية مطالبة بدراسة التجارب التي مرت بها عبر القرون للاستفادة منها بحكمة ـ بعد تقييمها وعرضها على الكتاب والسنة وإجماع السلف ـ فكذلك هي مطالبة أيضاً بالاستفادة بكل مايعينها لتحقيق هدفها.
ونستعرض هنا بإيجاز العملية الإدارية من منظورها النظري، وكيفية ملاءمة هذه العملية بوصفها أداة تعين في النهوض بالدعوة. ومع العلم ، فإن نجاح تطبيق وظائف الإدارة المختلفة في مجالات الدعوة مرهون بتصور واستيعاب القارئ لتطبيق هذه الوظائف في حياته الدعوية: فمثلاً عندما نتحدث عن إدارة الوقت من الناحية النظرية ، فإنا نقوم خلالها بتحديد الأعمال المطلوبة وترتيبها في قائمة حسب الأولوية والأهمية ، وتحديد وقت لكل مهمة ومراجعة وتحديث القائمة باستمرار ، ثم تقييم ماتم إنجازه حسب الوقت المخصص لكل مهمة ودقة الإنجاز وعمل التعديل اللازم.. إلى غير ذلك من التوجيهات الخاصة بإدارة وتنظيم الوقت.
وإذا تصورنا هذه التوجيهات من الناحية العملية ، نجد أننا فعلاً نقوم بمثل هذا التخطيط للوقت بصورة غير مباشرة ، فتجد أنك تلقائياً وقبل شروعك في إنجاز مهمة ما تفكر ذهنياً وبسرعة متى يجب عليك الانطلاق ، وكيف؟ ومع من؟ وأي طريق ستسلك؟ ، وأثناء الطريق ستفكر ماذا ستفعل عند وصولك وإلى أين ستذهب بعد ذلك.. إلخ.
هذا ما نقصده بالتصور التطبيقي للعملية الإدارية: أي أن ننقلها من الوضع النظري إلى الواقع العملي.
ماهي العملية الإدارية؟
إن الإدارة بحد ذاتها هي: عملية دمج وتنسيق الموارد المادية (كالمعدات والأدوات) ، والبشرية (الأفراد) في منشأة من خلال التخطيط لها وتنظيمها وتوجيهها ومراقبة إنتاجها؛ لتحقق بالتالي أهداف المنشأة.
كل جهاز دعوي على اختلاف مستوياته لابد له من الاستفادة من علم التخطيط والتنظيم والتوجيه والمراقبة ، أو ما يسمى بالوظائف ، وبالتالي شرح هذه الوظائف وكيفية الاستفادة منه ، خاصة إذا استحضر الإداري المسلم في قلبه وكيانه أنه في إدارته مدفوع بذاتية ربانية ونبوية المنهج ، تقوده للتفكير السليم القويم كسمة يتميز بها عن غيره.
أولاً: التخطيط:
هو »ضرورة لكل المنشآت ؛ لأنها تعمل في ظروف متغيرة ، ومن ثم فإن محاولة التخفيف من مفاجآت هذه الظروف هو الدافع وراء عملية التخطيط ، كما أنه عملية مستمرة تدعو لاختيار بديل من عدة بدائل لتطبيقه في المستقبل« (1) ونحدد من خلاله مانريد أن نعمله ، وما الذي يجب عمله ، وأين؟ وكيف؟ ومتى؟ وعن طريق مَنْ؟
والتخطيط للدعوة يبدأ من المنطلق الاستراتيجي (الإحكامي) البعيد المدى عن طريق القياديين ومفكري الأمة: مثل ماحصل في خطة صلح الحديبية ذات النظرة البعيدة الذي يعده بعض المؤرخين بداية الفتح الإسلامي الفعلي ، »ثم على الخطة أن تتسم بالواقعية والمرونة والشمولية وكذلك تناسق الخطط فيما بينها لضمان استمراريتها«(2).
ثانياً: التنظيم:
يأتي دور التنظيم لضمان تنفيذ الخطط بالشكل المطلوب ، أو بمعنى آخر تنظيم التنفيذ دون الارتباك في توزيع العمل ، والتنظيم مهم لتحديد مهام وواجبات كل الأفراد ـ أعضاء المنشأة ـ وكذلك تحديد وبيان علاقة كل فرد وأين موقعه من الجماعة ، وتوزيع السلطات والصلاحيات لمستويات الأفراد المختلفة ؛ كل ذلك من أجل إيجاد تنسيق بشري يساهم فيه كل فرد لإنجاح مسيرة العمل الإسلامي ، ولنا من الهجرة النبوية إلى المدينة درس يمثل غاية التنظيم والتنسيق لإحكام خطة الهجرة ، وتوزيع العمل والمسؤوليات على الأفراد حسب تخصصهم دون فوضى ، وعمل الاحتياطات اللازمة لكل حادث قد يصادف تلك الرحلة. وبالإخلاص وتظافر الجهود تتحقق الأهداف المنشودة بإذن الله.
ومن السابق يمكن تعريف التنظيم بأنه: عملية بناء العلاقات بين أجزاء العمل ، ومواقع العمل ، والأفراد من خلال سلطة فعالة بهدف تحقيق الالتحام والترابط وأداء العمل بطريقة جماعية منظمة وفعالة (3).
ثالثاً: التوجيه والقيادة:
إن للتوجيه الإداري ارتباطاً وثيقاً بمهارات القياديين؛ لذا هو: »فن وقدرة المدير على السير الصحيح بمن تحت إمرته وهدايتهم وتوجيهم مع إشاعة روح الود والحب والرضا والتفاني والانتماء في العمل حتى يتحقق الهدف المطلوب« (4).
ولنجاح عملية التوجيه ينبغي مراعاة الاتصال الفعال الذي يربط قنوات النظام الداخلي والخارجي مع وضوح أهداف النظام الكلية والأهداف المطلوب تحقيقها من كل فرد يعمل لهذا النظام على اختلاف مستواه.
أضف إلى ذلك رفع الروح المعنوية للأفراد العاملين في مجال الدعوة من تقديم التشجيع والثناء والمزيد من الحرية والتصرف ، ناهيك عن الدافع الديني الذاتي لدى كل من يفهم معنى الدعوة وحجم الاستثمار فيها ، ولايفوتنا الإشارة للتوجيه الرباني لكل من القائد وأتباعه ((مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)) [الفتح: 29].
رابعاً: الرقابة:
والرقابة بمفهومها العام تعني التأكد من أن المبادئ الآنفة الذكر ـ التخطيط ، التنظيم، التوجيه ـ تسير في الاتجاه الصحيح نحو الأهداف المرسومة ، ويكون ذلك بقياس الأداء ومقارنة النتائج بالأهداف ضمن معايير موضوعة سلفاً لتصحيح وتعديل أي انحراف في الأداء ضماناً لفاعلية وكفاءة التنفيذ.
ولعل أبرز ما يتسم به الإداري المسلم الرقابة الذاتية على نفسه ، فهي تشمل كافة شئون الحياة الفردية والجماعية ، حيث يعلم أنه خلق لعبادة الله وحده ، وبالتالي فإن جميع أفعاله ـ إدارية أو دعوية ـ مقياس لمدى طاعته لأوامر الله ، ثم محاسبة نفسه قبل أن يحاسبه خالقه ، يقول تعالى: ((إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)) [النساء: 1].
والمسلم كذلك مطالب برقابة أخيه المسلم بالتناصح والتوجيه يقول (تعالى) ((وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ)) [التوبة: 71].
وإن كان ترتيب الرقابة في النظرية الإدارية في النهاية ، إلا أني أعتقد أن عنصر الرقابة هو العنصر الأول والملازم للعملية من بداية التخطيط وأثناء التنظيم والتوجيه وانتهاء بالتأكد من تحقيق الهدف المطلوب.. وبذلك يعي الإداري المسلم مدى نجاح دعوته المستمدة من الكتاب والسنة بتوفيق الله كسمة يجب أن يتميز فيها عن غيره.
-------------
الهوامش:
(1) الإدارة دراسة تحليلة للوظائف والقرارات الإدارية د. مدني عبد القادر علاقي، مطبوعات تهامة ، جدة ، الطبعة الرابعة ، 1410هـ ص 85.
(2) الخطة والتخطيط ، لماذا وكيف، نبيل بن جعفر الفيصل، مطابع التسهيلات، الخبر، 1413هـ ص 17: 20.
(3) مرجع سابق ، رقم (1) ص 156.
(4) الإدارة في الإسلام،الفكر والتطبيق، د.عبدالرحمن إبراهيم الضحيان، دار الشروق، جدة، الطبعة الأولى، 1407هـ ص 166.
مجلة البيان / عدد96
************
إذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه بالهجرة إلى المدينة
قال ابن سعد فى طبقاته يروى عن عائشة رضى الله عنها : لما صدر السبعون من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طابت نفسه ' فقد جعل الله له منعة وقوماً وأهل حرب وعدة ونجدة ' وجعل البلاء يشتد على المسلمين من المشركين لما يعلمون من الخروج ' فضيقوا على أصحابه وتعبثوا بهم ' ونالوا ما لم يكونوا ينالون من الشتم والأذى ' فشكا ذلك أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واستأذنوه فى الهجرة ' فقال : ( قد أخبرت بدار هجرتكم وهى يثرب ' فمن أراد الخروج فليخرج إليها ) فجعل القوم يتجهزون ويتوافقون ويتواسون ويخرجون ويخفون ذلك ' فكان أول من قدم المدينة من أصحابه - صلى الله عليه وسلم - أبو سلمة بن عبد الأسد ثم قدم بعده عامر ابن ربيعة ومعه امرأته بنت أبى حشمة ' فهى أول ظعينة قدمت المدينة ثم قدم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسالاً فنزلوا على الأنصار فى دورهم ' فآووهم ونصروهم وآسوهم .
ولم يهاجر أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا متخفياً غير عمر ابن الخطاب رضى الله عنه ' فقد روى علىّ ابن أبى طالب رضى الله عنه أنه لمّا همّ بالهجرة تقلد سيفه وتنكب قوسه ' وانتضى فى يده أسهماً ' واختصر عنزته ( عصاه ) ومضى قبل الكعبة ' والملأ من قر يش بفنائها فطاف فى البيت سبعاً متمكناً مطمئناً ' ثم أتى المقام فصلى ' ثم وقف فقال :( شاهت الوجوه ' لا يرغم الله إلا هذه المعاطس ' من أراد أن يثكل أمه ' أو ييتم ولده ' أو ترمل زوجته فليلقنى وراء هذا الوادى)
قال علىّ فما أتبعه إلا قوم مستضعفون علّمهم ما أرشدهم ثم مضى لوجهه .
وهكذا تتابع المسلمون في الهجرة إلى المدينة حتى لم يبق بمكة منهم إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعلىّ ' أو معذب محبوس ' أو مريض ' أو ضعيف عن الخروج .
العبر و العظات :
كانت فتنة المسلمين من أصحاب النبى - صلى الله عليه وسلم - فى مكة ' فتنة الإيذاء و التعذيب وما يرونه من المشركين من ألوان الهزأ و السخرية ' فلما أذن لهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالهجرة ' أصبحت فتنتهم فى ترك وطنهم وأموالهم ودورهم وأمتعتهم ' ولقد كانوا أوفياء لدينهم مخلصين لربهم ' أمام الفتنة الأولى و الثانية ' قابلوا المحن والشدائد بصبر ثابت وعزم عنيد .
حتى إذا أشار عليهم رسول الله بالهجرة إلى المدينة ' توجهوا إليها وقد تركوا من ورائهم الوطن وما لهم فيه من مال ومتاع ونشب ' ذلك أنهم خرجوا مستخفين متسللين ' ولا يتم ذلك إلا إذا تخلصوا من الأمتعة و الأثقال ' فتركوا كل ذلك فى مكة ليسلم لهم الدين ' واستعاضوا عنها بالأخوة الذين ينتظرونهم فى المدينة ليؤووهم وينصرونهم .
وهذا هو المثل الصحيح للمسلم الذى أخلص الدين لله : لا يبالى بالوطن ولا بالمال و النشب فى سبيل أن يسلم له دينه . هذا عن أصحاب رسول الله فى مكة .
أما أهل المدينة الذين آووهم فى بيوتهم وواسوهم ونصروهم ' فقد قدموا المثل الصادق للأخوة الإسلامية و المحبة فى الله تعالى .
وأنت خبير أن الله عز وجل قد جعل أخوة الدين أقوى من أخوة النسب وحدها ' ولذلك كان الميراث فى صدر الإسلام على أساس وشيجة الدين ' وأخوته والهجرة فى سبيله ' ولم يستقر حكم الميراث على أساس علاقة القرابة إلا بعد تكامل الإسلام فى المدينة وصارت للمسلمين دار إسلام قوية منيعة .
يقول الله عز وجل : {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (72) سورة الأنفال. ثم إنه يستنبط من مشروعية هذه الهجرة حكمان شرعيان :(1/2)
1- وجوب الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام ' وروى ابن العربى ( أن هذه الهجرة كانت فرضاً فى أيام النبى - صلى الله عليه وسلم - ' وهى باقية مفروضة إلى يوم القيامة . والتى انقطعت بالفتح ' إنما هي القصد إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - ' فإن بقى فى دار الحرب عصى ) ومثل دار الحرب فى ذلك كل مكان لا يتسنى للمسلم فيه إقامة الشعائر الإسلامية من صلاة وصيام وجماعة وأذان ' وغير ذلك من أحكامه الظاهرة .
وما يستدل على ذلك قوله تعالى :( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمى أنفسهم قالوا ؟ فيم كنتم ؟ قالوا : كنا مستضعفين فى الأرض ' قالوا الم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ' فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا ' إلا المستضعفين من الرجال و النساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا ) .
2- وجوب نصرة المسلمين لبعضهم مهما اختلفت ديارهم وبلادهم ما دام ذلك ممكناً ' فقد اتفق العلماء و الأئمة على أن المسلمين إذا قدروا على استنقاذ المستضعفين أو المأسورين أو المظلومين من إخوانهم المسلمين ' فى أي جهة من جهات الأرض ' ثم لم يفعلوا ذلك فقد باءوا بإثم كبير .
يقول أبو بكر العربى : إذا كان فى المسلمين أسراء أو مستضعفين فإن الولاية معهم قائمة و النصرة لهم واجبة بالبدن ' بأن لا تبقى منا عين تطرف ' حتى نخرج الى استنقاذهم إن كان عددنا يحتمل ذلك ' أو نبذل جميع أموالنا فى استخراجهم ' حتى لا يبق لا لأحد درهم من ذلك .
وكما تجب موالاة المسلمين ونصرتهم لبعضهم ' فإنه يجب أن تكون هذه الموالاة فيما بينهم ' ولا يجوز أن يشيع شىء من الولاية و التناصر أو التآخى بين المسلمين وغيرهم ' وهذا ما يصرح به كلام الله عز وجل ' إذ يقول :( والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة فى الأرض و فساد كبير).
يقول ابن العربى قطع الله الولاية بين الكفار و المؤمنين ' فجعل المؤمنين بعضهم أولياء بعض ' وجعل الكافرين بعضهم أولياء بعض ' يتناصرون بدينهم ويتعاملون باعتقادهم .
ولا ريب أن تطبيق مثل هذه التعاليم الإلهية ' هى أساس نصرة المسلمين فى كل عصر وزمن ' كما أن إهمالهم لها وانصرافهم إلى ما يخالفها هو أساس ما نراه اليوم من ضعفهم وتفككهم وتألب أعدائهم عليهم من وكل جهة وصوب .
هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم
جاء فى صحاح السنة وما رواه علماء السيرة أن أبا بكر الصديق رضى الله عنه لما وجد المسلمين قد تتابعوا مهاجرين الى المدينة ' جاء يستأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الآخر فى الهجرة ' فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :( على رسلك ' فإني أرجو أن يؤذن لى ) فقال أبو بكر :( وهل ترجو ذلك بأبى أنت وأمى ؟ ) قال :(نعم ) فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليصحبه ' وعلف راحلتين كانتا عنده ' وأخذ يتعهدهما بالرعاية أربعة أشهر .
وفى هذه الأثناء رأت قريش أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صارت له شيعة وأصحاب غيرهم بغير بلدهم ' فحذروا خروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم وخافوا أن يكون قد أجمع لحربهم .
فاجتمعوا له فى دار الندوة ( وهى دار قصى ابن كلاب التى كانت قريش لا تقضى أمراً إلا فيها ) يتشاورون فيما يصنعون بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ' فاجتمع رأيهم أخيراً على أن يأخذوا من كل قبيلة فتى شاباً جلداً ' ثم يعطى كل منهم سيفاً صارما ' ثم يعمدوا اليه فيضربوه ضربة رجل واحد فيقتلوه ' كى لا تقدر بنو عبد مناف على حربهم جميعاً ' وضربوا لذلك ميعاد يوم معلوم فأتى جبريل عليه السلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمره بالهجرة ' وينهاه أن ينام فى مضجعه تلك الليلة .
قالت عائشة رضى الله عنها فيما يروى البخارى : فبينما نحن يوماً جلوس فى بيت أبى بكر فى حر الظهيرة ' قال قائل لأبى بكر :( هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متقنعاً ' فى ساعة لم يكن يأتينا فيها ) فقال أبو بكر :( فداً أبى وأمى ' والله ما جاء فى هذه الساعة إلا لأمر ) قالت : فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ' فاستأذن ' فأذن له ' فدخل ' فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبى بكر : ( أخرج من عندك ) فقال أبة بكر :( إنما هم أهلك بأبى أنت يا رسول الله ) ' قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :( فإنى قد أذن لى فى الخروج ) فقال أبو بكر : ( الصحبة يارسول الله ) ' قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :( نعم ) فقال أبو بكر :( فخذ بأبى أنت يا رسول الله إحدى راحلتى ) ' قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( بالثمن ) .
قالت عائشة : فجهزناهما أحث جهاز ' وصنعنا لهما سفرة فى جراب ' فقطعت أسماء بنت أبى بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب ' فبذلك سميت ذات النطاق .
وانطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى علىّ ابن أبى طالب رضى الله عنه فأمره أن يتخلف بعده بمكة ريثما يؤدى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الودائع التى كانت عنده للناس ' إذ لم يكن أحد من أهل مكة له شىء يخشى عليه إلا استودعه عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما يعلمون من صدقه وأمانته . وأمر أبو بكر غبنه عبد الله أن يتسمّع لهما ما يقوله الناس عنهما فى بياض النهار ' ثم يأتيهما إذا أمسى بما يكون معه من أخبار . وأمر عامر ابن فهيرة ( مولاه) أن يرعى غنمه نهاره ثم يريحها عليهما إذا أمسى إلى الغار ( غار ثور ) ليطعما من ألبانها 'وأمر أسماء بنته أن تأتيهما من الطعام بما يصلحهما فى كل مساء .
وروى ابن إسحاق والإمام أحمد ' كلاهما عن يحى بن عباد بن عبد الله ابن الزبير ' عن أسماء بنت أبى بكر قالت : لما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخرج معه أبو بكر ' إحتمل أبو بكر ماله كله معه : خمسة آلاف درهم أو ستة آلاف درهم ' قالت وانطلق بها معه ' قالت : فدخل علينا جدى أبو قحافة وقد ذهب بصره فقال : والله إنى لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه ' قالت : قلت :كلا يا أبت ' إنه قد ترك لنا خيراً كيثراً ' قالت: فأخذت أحجارا فوضعتها فى كوة فى البيت الذى كان أبى يضع ماله فيها ' ثم وضعت عليها ثوباً ' ثم أخذت بيده ' فقلت يا أبت ضع يدك على هذا المال ' فقالت: فوضع يده عليه ' قال : لابأس ' إذا كان ترك لكم هذا فقد أحسن ' وفى هذا بلاغ لكم . ولا والله ما ترك لنا شيئاً ولكنى أردت أن أسكت الشيخ بذلك .
ولما كانت عتمة تلك الليلة التى هاجر فيها النبى - صلى الله عليه وسلم - أجتمع المشركون على باب رسول اله - صلى الله عليه وسلم - يتربصون به ليقتلوه ' ولكنه عليه الصلاة و السلام خرج من بينهم وقد ألقى الله عليهم سنة من النوم بعد أن ترك عليّاً رضى الله عنه فى مكانه نائماً على فراشه ' وطمأنه بأنه لن يصل إليه أى مكروه
وانطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه أبو بكر إلى غار ثور ليقيما فيه ' وكان ذلك على الراجح فى اليوم الثانى من ربيع الأول الموافق 20 أيلول سنة ( 622 م ) بعد أم مضى ثلاثة عشر سنة من البعثة ' فدخل أبو بكر قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلمس الغار ' لينظر أفيه سبع أو حيّة ' يقى رسول الله صلى اله عليه وسلم بنفسه ' فأقاما فيه ثلاثة أيام ' وكان يبيت عندهما عبد الله ابن أبى بكر يخبرهما بأخبار مكة ' ثم يدلج من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكة كبائت بها ' وكان عامر ابن فهيرة يروح عليهما بقطيعه من الغنم ' فإذا خرج من عندهما عبد الله تبع عامر أثره بالغنم كى لا يظهر لقدميه أثر .
أما المشركون فقد انطلقوا - بعد أن علموا بخروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينتشرون فى طريق المدينة يفتشون عنه فى كل المظان ' حتى وصلوا إلى غار ثور ' وسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه أقدام المشركين تخفق من حولهم فأخذ الروع أبا بكر وهمس يحدث النبى - صلى الله عليه وسلم - : لو نظر أحدهم تحت قدمه لرآنا ' فأجابه عليه الصلاة و السلام :( يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما ) ...
فأعمى الله أبصار المشركين حتى لم يحن لأحد منهم التفاتة الى ذلك الغار ولم يخطر ببال واحد منهم أن يتساءل عما يكون بداخله .
ولما انقطع الطلب عنهما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر ' بعد أن جاءهما عبد الله ابن أرقط وهو من المشركين ' كانا قد استأجراه ليدلهما على الطرق الخفية الى المدينة بعد أن اطمأنا إليه ' وواعداه مع الراحلتين عند الغار ) فسارا متبعين طريق الساحل بإرشاد من عبد الله بن أرقط ' وكان قد جعل مشركوا مكة لكل من أتى برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبى بكر رضى الله عنه ديّة كل منهما . وذات يوم ' بينما كان جماعة من بنى مدلج فى مجلس لهم ' وبينهم سراقة ابن جعشم ' إذ اقبل إليهم رجل منهم فقال : إنى قد رأيت آنفاً أسودة بالساحل ' أراها محمداً و أصحابه ' فعرف سراقة أنهم هم ' ولكنه أراد أن يثنى عزم غيره عن الطلب ' فقال له : إنك قد رأيت فلاناً و فلانا ' انطلقوا بأعيننا يبتغون ضالة لهم . ثم لبث فى المجلس ساعة ' وقام فركب فرسه ثم سار حتى دنا من رسول الله فعثرت به فرسه فخرّ عنها ' ثم ركبها ثانية وسار حتى صار يسمع قراْءة النبى صلى اله عليه وسلم وهو لا يلتفت ' وأبو بكر يكثر الالتفات ' فساخت قائمتا فرس سراقة فى الأرض حتى بلغتا الركبتين ' فخر عنها ثم زجرها حتى نهضت ' فلم تكد تخرج قدميها حتى سطع لأثرهما غبار ارتفع فى السماء مثل الدخان ' فعلم سراقة أنه ممنوع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ' وداخله رعب عظيم ' فناداهما بالأمان .فوقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن معه حتى وصل إليهم ' فاعتذر إليه وساله أن يستغفر له ' ثم عرض عليهما الزاد و المتاع ' فقالا : لا حاجة لنا ' ولكن عمّ عنا الخبر ' فقال كفيتم .
ثم عاد سراقة أدراجه إلى مكة وهو يصرف أنظار الناس عن الرسول ومن معه بما يراه من القول
وهكذا انطلق إليهما فى الصباح جاهداً فى قتلهما ' وعاد فى المساء يحرسهما ويصرف الناس عنهما .
قدوم قباء
ووصل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قباء ' فاستقبله من فيها بضعة أيام نازلاً على كلثوم ابن هدم ' حيث أدركه فيها على رضى الله عنه بعد أن أدى عنه الودائع إلى أصحابها ' وأسس النبى - صلى الله عليه وسلم - هناك مسجد قباء ' وهو المسجد الذى وصفه الله بقوله {000 لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} (108) سورة التوبة .
ثم واصل سيره إلى المدينة فدخلها لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول على ما ذكره المؤر خون فالتف حوله الأنصار ' كل يمسك زمام راحلته يرجوه النزول عنده فكان - صلى الله عليه وسلم - يقول لهم : دعوها فإنها مأمورة فلم تزل راحلته تسير فى فجاج المدينة وسككها حتى وصلت الى مربد لغلامين يتيمين من بنى النجار أمام دار أبى أيوب الأنصارى ' فقال النبى - صلى الله عليه وسلم - :( ههنا المنزل إن شاء الله ) وجاء أبو أيوب فاحتمل الرحل إلى بيته ' وخرجت ولائد من بنى النجار - فيما يرويه ابن هشام - فرحات بمقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ' وجواره لهن ' وهنّ ينشدنّ
نحن جوار بنى النجار يا حبذا محمد من جار
فقال عليه السلام لهنّ : ( أتحببننى ؟ ) فقلن : نعم فقال : الله يعلم أن قلبى يحبكنّ )
صورة عن مقام النبى - صلى الله عليه وسلم - فى دار أبى أيوب :
روى أبو بكر ابن أبى شيبة وابن إسحاق و الإمام أحمد ابن حنبل من طرق متعددة بألفاظ متقاربة أن أبا أيوب رضى الله عنه قال وهو يحدث عن أيام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنده : لما نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى بيتى فى أسفل البيت وأنا وأم أيوب فى العلو ' فقلت له : يانبى الله بأبى أنت و أمى إنى لأكره وأعظم أن أكون فوقك وتكون تحتى ' فاظهر أنت فكن فى الأعلى ' وننزل نحن نكون فى السفل ' فقال : يا أبا أيوب ' إنه لأرفق بنا وبمن يغشانا أن نكون فى أسفل البيت .
قال : فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى سفله وكنا فوقه فى المسكن ' ولقد انكسرت جرّة لنا فيها ماء يوما ' فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة لنا ' ما لنا لحاف غيرها ننشف بها الماء ' تخوفاً أن يقطر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منه شىء فيؤذيه ' فنزلت إليه وأنا مشفق ' فلم أزل أستعطفه حتى أنتقل إلى العلو . قال : وكنا نضع له العشاء ' ثم نبعث به إليه ' فإذا رد علينا فضله تيممت أنا وأم أيوب موضع يده فأكلنا منه نبتغى بذلك البركة ' حتى بعثنا إليه ليلة بعشائه وقد جعلنا له بصلاً وثوماً ' فرده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم أر ليده فيه أثر ' فجئته فزعاً فقلت يا رسول الله بأبى أنت و أمى ' رددت عشاءك ولم أر فيه موضع يدك ' وكنت حينما ترد علينا فضل طعامك أتيمم أنا وأم أيوب موضع يدك نبتغى بذلك البركة ' فقال : إنى وجدت فيه ريح هذه الشجرة ' وأنا رجل أناجى ' فأما أنتم فكلوه ' قال : فأكلناه ' ثم لم نضع فى طعامه شيئاً من الثوم أو البصل بعد .
العبر و العظات :
تحدثنا فى فصل سابق ' عن معنى الهجرة فى الإسلام ' عند تعليقنا على هجرة المسلمين الأولى إلى الحبشة ' وقلنا إذ ذاك ما خلاصته : إن الله عز وجل جعل قداسة الدين و العقيدة فوق كل شىء ' فلا قيمة للأرض و الوطن و المال و الجاه إذا كانت العقيدة وشعائر الدين مهددة بالحرب و الزوال ' ولذا فرض الله على عباده أن يضحوا بكل ذلك - إذا اقتضى الأمر - فى سبيل العقيدة و الإسلام .
وقلنا أيضا أن سنة الله تعالى فى الكون اقتضت أن تكون القوى المعنوية التى تتمثل فى العقيدة السليمة و الدين الحق هى المحافظة للمكاسب و القوى المادية ' فمهما كانت الأمة غنية فى خلقها السليم متمسكة بدينها الصحيح فإن سلطانها المادى المتمثل فى الوطن والمال و العزة يغدو أكثر تماسكاً وأرسخ بقاءاً وأمنع جانباً . ومهما كانت فقيرة فى أخلاقها مضطربة تائهة فى عقيدتها فإن سلطانها المادى المتمثل فيما ذكرناه يغدو أقرب إلى الاضمحلال و الزوال ' وقلنا إن التاريخ أعظم شاهد على ذلك .
ولذلك شرع الله عز وجل مبدأ التضحية بالمال و الأرض فى سبيل العقيدة و الدين عندما يقتضى الأمر ' فبذلك يضمن المسلمون لأنفسهم المال و الطن و الحياة ' وإن بدا لأول وهلة أنهم تعروا عن كل ذلك وفقدوه
وحسبنا دليلاً على هذه الحقيقة هجرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى المدينة ' لقد كانت بحسب الظاهر تركاً للوطن وتضييعاً له ' ولكنه كان فى واقع الأمر حفاظاً عليه وضمانة له ' ورب مظهر من مظاهر الحفاظ على الشىء يبدو فى صورة الترك و الإعراض عنه فقد عاد بعد بضع سنين من هجرته هذه - بفضل الدين الذى أقام صرحه ودولته - إلى وطنه الذى أخرج منه ' عزيز الجانب ' منيع القوة ' دون أن يستطيع أحد من أولئك الذين تربصوا به ولاحقوه بقصد القتل أن يدنوا إليه بأى سوء ...
ولنعد الآن الى التأمل فيما سردناه من قصة هجرته - صلى الله عليه وسلم - لنستنبط منها الدلالات والأحكام الهامة لكل مسلم :
1- من أبرز ما يظهر لنا من قصة هجرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ' استبقاؤه لأبى بكر رضى الله عنه دون غيره من الصحابة كى يكون رفيقه فى هذه الرحلة .
وقد استنبط العلماء من ذلك مدى محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأبى بكر وأنه أقرب الصحابة إليه وأولاهم بالخلافة من بعده ' ولقد عززت هذه الدلالات أموراً كيثرة أخرى مثل استخلافه له فى الصلاة بالناس عند مرضه وإصراره على أن لا يصلى عنه غيره ' ومثل قوله فى الحديث الصحيح :( لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلا )
ولقد كان أبو بكر رضى الله عنه - كما رأينا - على مستوى هذه المزية التى أكرمه اله بها ' فقد كان مثال الصاحب الصادق بل و المضحى بروحه وبكل ما يملك من أجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ' ولقد رأينا كيف أبى إلا أن يسبق رسول الله فى دخول الغار كى يجعل من نفسه فداءاً له عليه الصلاة و السلام فيما إذا كان فيه سبع أو حية أو أى مكروه ينال الإنسان منه الأذى ' ورأينا كيف جند أمواله وأولاده ومولاه وراعى أغنامه فى سبيل خدمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى هذه الرحلة الشاقة الطويلة . ولعمرى إن هذا ما ينبغى أن يكون عليه شأن كل مسلم آمن بالله ورسوله ' ولذا يقول رسول الله صلى اله عليه وسلم :( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده و الناس أجمعين )
2- قد يخطر فى بال المسلم أن يقارن بين هجرة عمر ابن الخطاب رضى الله عنه وهجرة النبى - صلى الله عليه وسلم - ويتساءل : لماذا هاجر عمر علانية متحدياً المشركين دون أى خوف ووجل ' على حين هاجر رسول الله مستخفياً محتاطاً لنفسه ؟ أيكون عمر ابن الخطاب أشد جرأة من النبى - صلى الله عليه وسلم - ؟
و الجواب أن عمر ابن الخطاب أو أى مسلم آخر غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعتبر تصرفه تصرفاً شخصياً لا حجة تشريعية فيه ' فله أن يتخير من الطرق و الوسائل و الأساليب ما يحلو له وما يتفق مع قوة جرأته وإيمانه بالله تعالى ' أما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو مشرّع ' أى أن جميع تصرفاته المتعلقة بالدين تعتبر تشريعاً لنا ' ولذلك كانت سنته هى المصدر الثانى من مصادر التشريع الإسلامى مجموع أقواله و أفعاله وصفاته وتقريره ' فلو أنه فعل كما فعل عمر ' لحسب الناس أن هذا هو الواجب ! ... وأنه لايجوز أخذ الحيطة و الحذر 'والتخفى عند الخوف ' مع أن الله عز وجل أقام شريعته فى هذه الدنيا على مقتضى الأسباب و المسببات 'وإن كان الواقع الذى لا شك فيه أن ذلك بتسبيب الله تعالى و إرادته ' لأجل ذلك غستعمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كل الأسباب المادية التى يهتدى إليها العقل البشرى فى مثل هذا العمل ' حتى لم يترك وسيلة من هذه الوسائل إلا اعتد بها واستعملها ' فترك على ابن أبى طالب ينام فى فراشه ويتغطى ببرده ' واستعان بأحد المشركين - بعد أن أمنه- ليدله على الطرق الفرعية التى قد لا تخطر فى بال الأعداء ' وأقام فى الغار ثلاثة أيام متخفياً ' إلى آخر ما عبأه من الاحتياطات المادية التى قد يفكر بها العقل ' ليوضح بذلك أن الإيمان بالله عز وجل لا ينافى استعمال الأسباب المادية التى أرادت حكمة الله تعالى أن تكون أسباباً .
وليس قيامه بذلك بسبب خوف فى نفسه ' أو شك فى إمكان وقوعه فى قبضة المشركين قبل وصوله المدينة ' والدليل على ذلك أنه عليه الصلاة و السلام بعد أن استنفد الأسباب المادية كلها ' وتحلق المشركون حول الغار الذى يختبىء فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه - بحيث لو نظر احدهم عند قدمه لأبصر الرسول - صلى الله عليه وسلم - استبد الخوف بابى بكر رضى الله عنه على حين كان يطمئنه عليه الصلاة و السلام قائلاً : يا أبا بكر : ما ظنك بإثنين الله ثالثهما ) ولقد كان من مقتضى اعتماده على كل تلك الاحتياطات أن يشعر بشىء من الخوف و الجزع فى تلك الحال .
لقد كان كل ما فعله من تلك الاحتياطات إذاً وظيفة تشريعية قام بها ' فلما انتهى من أدائها ' عاد قلبه مرتبطاً بالله تعالى معتمداً على حمايته وتوفيقه ' ليعلم المسلمون أن الاعتماد فى كل أمر لا ينبغى أن يكون إلا على الله عز وجل ' ولكن لا ينافى ذلك احترام الأسباب التى جعلها الله فى هذا الكون أسباباً . ومن أبرز الأدلة على هذا الذى نقوله أيضاً ' حالته - صلى الله عليه وسلم - عندما لحق به سراقة يريد قتله وأصبح على مقربة منه ' لقد كان من مقتضى تلك الاحتياطات الهائلة التى قام بها أن يشعر بشىء من الخوف من هذا الذى يجد فى اللحاق به بل كان مستغرقاً فى قراءته ومناجاته ربه لأنه يعلم أن الله الذى أمره بالهجرة سيمنعه من الناس ويعصمه من شرهم كما بين فى كتابه المبين .
3- وفى تخلف علىّ رضى الله عنه عن النبى - صلى الله عليه وسلم - فى أداء الودائع التى كانت عنده الى أصحابها دلالة باهرة على التناقض العجيب الذى كان المشركون واقعين فيه ' ففى الوقت الذى كانوا يكذبونه ويرونه ساحراً أو مخادعاً لم يكونوا يجدون من حولهم من هو خير منه أمانة وصدقاً ' فكانوا لا يضعون حوائجهم وأموالهم التى يخافون عليها إلا عنده ...! وهذا يدل على أن كفرانهم لم يكن بسبب الشك لديهم فى صدقه ' وإنما هو بسبب تكبرهم واستعلائهم على الحق الذى جاء به وخوفاً على زعامتهم وطغيانهم .
4- ثم إننا نلمح فى النشاط الذى كان يبذله عبد الله ابن أبى بكر رضى الله عنه ' ذاهباً آيباً بين الغار ومكة ' يتحسس الأخبار و ينقلها الى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبيه ' وفيما عمدت إليه أخته أسماء رضى الله عنها من الجد فى تهيىء الزاد و الراحلة واشتراكها فى إعداد العدة لتلك الرحلة - نلمح فى ذلك صورة مما يجب أن يكون عليه الشباب المسلم ذكوراً وإناثاً فى سبيل الله عز وجل ومن أجل تحقيق مبادىء الإسلام وإقامة المجتمع المسلم ' فلا يكفى أن يكون الإنسان منطوياً على نفسه مقتصراً على عباداته ' بل عليه ان يستنفد طاقاته وأوجه نشاطه كلها سعياً فى سبيل الإسلام ' وتلك هى مزية الشباب فى حياة الإسلام و المسلمين فى كل زمن وعصر .
وإذا تأملت فيمن كان حول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إبان دعوته وجهاده ' وجدت أن أغلبيتهم العظمى كانوا شباباً لم يتجاوزوا المرحلة الأولى فى عمر شبابهم ' ولم يألوا جهداً فى تجنيد طاقاتهم وقوتهم من أجل نصرة الإسلام وإقامة مجتمعه .
5- أمّا ما حدث لسراقة وفرسه وهو يلحق لبرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فينبغى أن لا يفوتنا أنها معجزة خارقة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - اتفق أئمة الحديث على صحتها ونقلها وفى مقدمتهم البخارى ومسلم ' فأضفها إلى معجزاته الأخرى التى سبق الحديث عنها فيما مضى .
6- ومن أبرز المعجزات الخارقة فى قصة هجرته عليه الصلاة و السلام خروجه - صلى الله عليه وسلم - من بيئته وقد أحاط به المشركون يتربصون به ليقتلوه ' فقد علق النوم بأعينهم جميعاً حتى لم يحس به أحد منهم ' وكان من تتمة السخرية بتآمرهم على حياته ما امتلأت به رؤسهم من التراب الذى ألقاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على رؤوسهم إذ خرج من بينهم وهو يتلو قوله تعالى :( وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون )(1/3)
لقد كانت هذ ه المعجزة بمثابة إعلان لهؤلاء المشركين وغيرهم فى كل عصر ووقت ' بأن ما قد يلاقيه الرسول وصحبه من ألوان الاضطهاد و العذاب على أيديهم مدة من الزمن فى سبيل دينه ' لا يعنى أنه قد تخلى عنهم وأن النصر قد ابتعد عن متناولهم ' فلا ينبغى للمشركين وعامة أعداء الدين أن يفرحوا ويستبشروا بذلك ' فإن نصر الله قريب وإن وسائل هذا النصر توشك أن تتحقق بين كل لحظة وأخرى
7- وتكشف الصورة التى استقبلت بها المدينة المنورة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن مدى المحبة الشديدة التى كانت تفيض بها أفئدة الأنصار من أهل المدينة رجالاً و نساءاً وأطفالاً ' لقد كانوا يخرجون كل يوم إلى ظاهر المدينة ينتظرون تحت لفح الشمس وصول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم ' حتى إذا هبّ النهار ليدبر ' عادوا أدراجهم ليعودوا إلى الانتظار صباح اليوم التالى ' فلما طلع الرسول عليهم جاشت العواطف فى صدورهم وانطلقت ألسنتهم تهتف بالقصائد و الأهازيج فرحاً لمرآه عليه الصلاة و السلام ومقدمه عليهم ' ولقد بادلهم رسول الله صلى اله عليه وسلم نفس المحبة ' حتى إنه جعل ينظر إلى ولائد بنى النجار من حوله ' وهنّ ينشدنّ ويتغنين بمقدمه ' قائلاً : أتحببننى ؟ والله إن قلبى ليحبكنّ
يدلنا كل ذلك أن محبة رسول اله - صلى الله عليه وسلم - ليست فى مجرد الإتباع له ' بل المحبة له هى أساس الإتباع وباعثه ' فلولا المحبة العاطفية فى القلب لما وجد وازع يحمل على الإتباع فى العمل .
ولقد ضل قوم حسبوا أن محبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس لها معنى إلا الإتباع و الإقتداء وفاتهم أن الإقتداء لا يأتى إلا بوازع ودافع ' ولن تجد من وازع يحمل على الإتباع إلا المحبة القلبية التى تهز المشاعر وتستبد بالعواطف ' ولذلك جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقياس الإيمان بالله امتلاء القلب بمحبته - صلى الله عليه وسلم - ' بحيث تغدو متغلبة على محبة الولد والوالد و الناس أجمعين ' وهذا يدل على أن محبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من جنس محبة الولد و الوالد أى مصدر كل منهما العاطفة و القلب وإلا لم تصح المقارنة و التفضيل بينهما .
8- أما الصورة التى رأيناها فى مقامه - صلى الله عليه وسلم - عند أبى أيوب الأنصارى فى منزله ' فتكشف لنا مظهر آخر من مظاهر محبة أصحاب رسول الله صلى الله عليه والسلام له .
والذى يهمنا من ذلك هنا ' هو التأمل فى تبرك أبو أيوب وأم أيوب ' بآثار أصابع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى قطعة الطعام ' حينما كان يرد عليهما فضل طعامه ' إذاً فالتبرك بآثار النبى - صلى الله عليه وسلم - مشروع قد أقره - صلى الله عليه وسلم - .
وقد روى البخارى ومسلم صوراً كثيرة من تبرك الصحابة بآثار النبى - صلى الله عليه وسلم - و التوسل بها للإستشفاء أو العناية و التوفيق وما شابه ذلك .
من ذلك ما رواه البخارى فى كتاب اللباس ' فى باب ما يذكر فى الشيب ' من أن أم سلمة زوج النبى - صلى الله عليه وسلم - كانت تحتفظ بشعرات من شعر النبى - صلى الله عليه وسلم - فى جلجل لها ( ما يشبه القارورة يحفظ فيه ما يراد صيانته ) فكان إذا أصاب أحد من الصحابة عين أو أذى أرسل إليها إناء فيه ماء ' فجعلت الشعرات فى الماء ' ثم أخذوا الماء يشربونه توسلا للاستشفاء و التبرك به .
ومن ذلك ما رواه مسلم فى كتاب الفضائل باب ( طيب عرقه - صلى الله عليه وسلم - ) أنه عليه الصلاة و السلام كان يدخل بيت أم سليم فينام على فراشها وليست هى فى البيت ' فجاء ذات يوم فنام على فراشها ' فجاءت أم سليم وقد عرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واستنقع عرقه على قطعة أديم على الفراش ففتحت عتيدها فجعلت تنشف ذلك العرق فتعصره فى قواريرها ' فأفاق النبى - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما تصنعين يا أم سليم ؟ فقالت يا رسول الله : نرجو بركته لصبياننا ' قال : أصبت )
ومن ذلك ما جاء فى الصحيحين من استباق الصحابة إلى فضل وضوئه - صلى الله عليه وسلم - و التبرك بالكثير من آثاره كألبسته و القدح الذى كان يشرب به .
فإذا كان هذا شأن التوسل بآثاره المادية فكيف بالتوسل بمنزلته عند اللع عز وجل وكيف بالتوسل بكونه رحمة للعالمين ؟
ولا يذهبن بك الوهم إلى أننا نقيس التوسل على التبرك 'وأن المسألة لا تعدو أن تكون استدلالا بالقياس ' فإن التوسل و التبرك كلمتان تدلان على معنى واحد وهو التماس الخير و البركة عن طريق المتوسل به . وكل من التوسل بجاهه - صلى الله عليه وسلم - عند الله و التوسل بآثاره أو فضلاته أو ثيابه ' أفراد وجزئيات داخلة تحت نوع شامل هو مطلق التوسل الذى ثبت حكمه بالأحاديث الصحيحة ' وكل الصور الجزئية له يدخل تحت عموم النص بواسطة ما يسمى ب ( تنقيح المناط ) عند علماء الأصول .
ولنكتف من تعليقنا على قصة هجرته - صلى الله عليه وسلم - عند هذا القدر ' لنتحدث بعد ذلك عن الأعمال الجليلة التى بدأ يقوم بها - صلى الله عليه وسلم - فى المجتمع الجديد فى المدينة المنورة .
أسس المجتمع الجديد
الأساس الأول ( بناء المسجد )
لقد كانت هجرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة ' تعنى نشاة أول دار إسلام إذ ذاك على وجه الأرض ' وقد كان ذلك إيذاناً بظهور الدولة الإسلامية بإشراف منشئها الأول محمد - صلى الله عليه وسلم -
ولذا فقد كان أول عمل قام به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ' أن أقام الأسس الهامة لهذه الدولة ولقد كانت هذه الأسس ممثلة فى هذه الأعمال الثلاثة التالية :
أولاً : بناء المسجد
ثانياً : المؤاخاة بين المهاجرين و الأنصار خاصة و المسلمين عامة .
ثالثاً : كتابة وثيقة ( دستور ) حددت نظام حياة المسلمين فيما بينهم ' وأوضحت علاقتهم مع غيرهم بصورة عامة و اليهود بصورة خاصة .
قلنا فيما مضى : إن ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بركت فى موضع كان لغلامين يتيمين من الأنصار ' وكان أسعد ابن زرارة قد اتخذه مصلى قبل هجرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الى المدينة ' فكان يصلى بأصحابه فيه . فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبنى ذلك الموضع مسجداً ' ودعا الغلامين - وكانا فى كفالة أسعد ابن زرارة رضى الله عنه - فسام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه ' فقالا بل نهبه لك يا رسول الله ' فأبى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى ابتاعه منهما بعشرة دنانير . وكان فيه شجر غرقد ونخل وقبور قديمة لبعض المشركين' فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالقبور فنبشت و بالنخل وبالشجر فقطعت ' وصفّت فى قبلة المسجد ' وجعل طوله مما يلى القبلة الى مؤخرته مائة ذراع ' وفى الجانبين مثل ذلك أو دونه ' ثم بنوه باللبن ' وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يباشر البناء مع أصحابه وينقل معهم الحجارة بنفسه ' وجعل قبلته إلى بيت المقدس ' وجعل عمده الجذوع ' وسقفه بالجريد ' وقيل له : ألا نسقفه ؟ فقال : ( عريش كعريش موسى : خشيبات وثمام - نبت ضعيف قصير - الشأن أعجل من ذلك 'أما أرضه فقد بقيت مفروشة بالرمال و الحصباء .
وروى البخارى فى سنده عن أنس ابن مالك ' أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصلى حيث أدركته الصلاة فى مرابض الغنم ' قال ثم إنه أمر ببناء المسجد ' فأرسل الى ملأ من بنى النجار فجاؤوا ' فقال يابنى النجار ثامنونى بحائطكم هذا ' فقالوا لا والله لا نطلب ثمنه إلا الى الله ' فقال أنس فكان فيه ما أقول لكم ' : كانت فيه قبور المشركين وكانت فيه خرب ' وكان فيه نخل . فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقبور المشركين فنبشت ثم بالخرب فسويت وبالنخل فقطع ' قال فصفوا النخل قبلة المسجد قال : وجعلوا عضادتيه حجارة وجعلوا ينقلون الصخر وهم يرتجزون ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - معهم وهو يقول : اللهم لا خير إلا خير الآخرة فانصر الأنصار و المهاجرة .
وقد ظل مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على هذا الشكل دون أى زيادة أو تغيير فيه مدة خلافة أبى بكر رضى الله عنه ' ثم زاد فيه عمر رضى الله عنه بعض التحسين ' ولكنه بناه على بنائه فى عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - باللبن و الجريد وأعاد عمده خشباً . ثم غيره عثمان رضى الله عنه فزاد فيه زيادة كبيرة ' وبنى جداره بالحجارة المنقوشة و القصة ( الجص ) .
العبر و الدلائل :
بأخذ من هذا الذى ذكرناه دلائل هامة نجملها فيما يلى :
1- مدى أهمية المسجد فى المجتمع الإسلامى و الدولة الإسلامية :
فقد أقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ' بمجرد وصوله الى المدينة واستقراره فيها على إقامة مجتمع إسلامى متماسك راسخ ' يتألف من هؤلاء المسلمين : المهاجرين و الأنصار الذين جمعتهم المدينة المنورة ' فكان أول خطوة قام بها فى سبيل هذا الأمر ' بناء المسجد .
ولا غرو ولا عجب ' فإن إقامة المسجد أول وأهم ركيزة فى بناء المجتمع الإسلامى ' ذلك أن المجتمع الإسلامى إنما يكتسب صفة الرسوخ و التماسك بالتزام نظام الإسلام وعقيدته و آدابه ' وإنما ينبع ذلك كله من روح المسجد ووحيه .
إن من نظام الإسلام وآدابه شيوع آصرة الأخوة و المحبة بين المسلمين ' ولكن شيوع هذه الآصرة لا يتم إلا فى المسجد ' فما لم يتلاق المسلمون يومياً ' على مرات متعددة فى بيت من بيوت الله ' وقد تساقطت عما بينهم فوارق الجاه و المال و الاعتبار ' لا يمكن لروح التآلف و التآخى أن تؤلف بينهم .
إن من نظام الإسلام وآدابه ' أن تشيع روح المساواة و العدل فيما بين المسلمين فى مختلف شؤونهم وأحوالهم ' ولكن شيوع هذه الروح لا يمكن أن يتم ما لم يتلاق المسلمون كل يوم صفاً واحداً بين يدى الله عز وجل ' وقد وقفوا على صعيد مشترك من العبودية ' وتعلقت قلوبهم بربهم الواحد جل جلاله ' ومهما أنصرف كل مسلم الى بيته يعبد الله ويركع له ويسجد دون وجود ظاهرة الاشتراك و الاجتماع فى العبادة ' فإن معنى العدالة و المساواة لن يتغلب فى المجتمع على معانى اأثرة والتعالى و الأنانية.
وإن من نظام الإسلام وآدابه ' أ، ينصهر أشتات المسلمين فى بوتقة من الوحدة الراسخة يجمعهم عليها حبل الله الذى هو حكمه وشرعه ' ولكن ما لم تقم فى أنحاء المجتمع مساجد يجتمع فيها المسلمون على تعلم حكم الله وشريعته ليتمسكوا بهما عن معرفة وعلم ' فإن وحدتهم تؤول الى أشتات ' وسرعان ما تفرقهم عن بعضهم الشهوات و الأهواء .
فمن أجل تحقيق هذه المعانى كلها فى مجتمع المسلمين ودولتهم الجديدة ' أسرع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل كل شىء فبادر إلى بناء المسجد .
2- حكم التعامل مع من لم يبلغوا سن الرشد من الأطفال و الأيتام :
فقد استدل بعض الفقهاء وهم الحنفية بهذا الحديث على صحة تصرف غير البالغ ووجه الدلالة على ذلك أن النبى - صلى الله عليه وسلم - اشترى المربد من الغلامين اليتيمين ' بعد أن ساومهما ' ولو لم يصح تصرفهما لما اشترى منهما ' غير أن الذين ذهبوا الى عدم صحة تصرف غير البالغ سن الرشد- وهم جمهور الفقهاء- استدلوا بقول الله تعالى :( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتى هى أحسن حتى يبلغ أشده) أما حديث شراء المربد فيجاب عليه بجوابين :
أحدهما- أنه جاء فى رواية عيينة أن النبى - صلى الله عليه وسلم - كلم عمهما الذى كانا فى حجره وكفالته وابتاعه منهما بواسطته فلا حجة فيه لما ذهب إليه الحنفية .
ثانيهما - أن للنبى - صلى الله عليه وسلم - ولاية خاصة فى مثل هذه الأمور ' وأنه عليه الصلاة و السلام إنما اشترى الأرض منهما بوصف كونه ولياً عاماً لجميع المسلمين ' لا بوصف كونه فرداً منهم .
3- جواز نبش القبور الدارسة : واتخاذ موضعها مسجداً إذا نظفت وطابت أرضها :
ذكر الإمام النووى تعليقاً على هذا الحديث فقال : فيه جواز نبش القبور الدارسة وأنه إذا أزيل ترابها المختلط بصديدهم ودمائهم جازت الصلاة فى تلك الأرض ' وجواز اتخاذ موضعها مسجداً ' إذا طيبت أرضه.
كما أن الحديث يدل على أن الأرض التى دفن فيها الموتى ودرست ' يجوز بيعها وأنها باقية على ملك صاحبها وورثته من بعده إذا لم توقف ' وقد قال علماء السيرة عن تلك القبور التى كانت فى المربد أنها كانت قبوراً قديمة دارسة ' فلا يتأتى فيها الصديد و الدم ' ومع ذلك فقد نبشت وأزيل ما فيها من بقايا . قلت : ومحل جواز نبش القبور الدارسة واتخاذ أرضها مسجداً ' إذا لم تكن الأرض وقفاً ' أما إذا كانت كذلك فلا يجوز تحويلها إلى شىء آخر غير ما وقفت له .
4- حكم تشييد المساجد ونقشها وزخرفتها :
و التشييد أن تقام عمارة المسجد بالحجارة وشبهها مما يزيد فى قوة بنائه ومتانة سقفه وأركانه ' والنقش و الزخرفة ما جاوز أصل البناء من شتى أنواع الزينة .
فأما التشييد فقد أجازه واستحسنه عامة العلماء ' بدليل ما فعله عمر و عثمان رضى الله عنهما من إعادة بناء مسجده عليه الصلاة و السلام ' وهو وإن كان شيئاً لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أنه لم يدل على المفهوم المخالف ' أى المنع من التشييد و التقوية ' إذ لا يتعلق بهما وصف يخل بالحكمة التى من أجلها شرع بناء المساجد' بل إن فى ذلك زيادة فى العناية والاهتمام بشعائر الله تعالى . واستدل العلماء أيضاً على ذلك بقوله تعالى :( إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله و اليوم الآخر ) والعمارة إنما تكون بالتشييد وتقوية البناء و العناية به .
وأما النقش و الزخرفة ' فقد كرهها عامة العلماء ' ثم هم فى ذلك بين محرّم ومكرّه ' غير أن الذين قالوا بالحرمة و الذين قالوا بالكرهة اتفقوا على أنه يحرم صرف المال الموقوف لعمارة المساجد على شىء من الزخرفة و النقش ' أما إذا كان المال المصروف على ذلك من البانى نفسه فيرد الخلاف فيه ' وقد ذكر الزركشى نقلاً عن الإمام البغوى أنه لا يجوز نقش المسجد من غلة الوقف ' ويغرّم القيم إن فعله ' فلو فعله رجل بماله كره لأنه يشغل قلب المصلين .
والفرق بين عموم التشييد وخصوص الزخرفة و النقش واضح .
فالأول كما قلنا لا يترتب عليه وصف أو معنى يخل بالحكمة التى من أجلها شرع بناء المسجد ' أما الزخرفة و النقش فإن كلاً منهما يترتب عليه معنى يخل بالحكمة ' إذ من شأنه صرف قلب المصلين عن الخشوع و التدبر وشغله بمظاهر الدنيا ' على حين أنه يقصد من الدخول فى المسجد الهرب من التصورات الدنيوية وتفريغ البال من زينتها و مغرياتها .
وهذا ما نبه إليه عمر رضى الله عنه حينما أمر ببناء مسجد فقال :( أكنّ الناس من المطر وإياك أن تحمر أو تصفر ' فتفتن الناس ) ' وقد اختلف العلماء فى كتابة آية من القرآن فى قبلة المسجد هل هى داخلة فى النقش الممنوع أم لا ؟ .
يقول الزركشى فى كتابه إعلام الساجد :( ويكره أن يكتب فى قبلة المسجد آية من القرآن أو شيئاً منه ' قال مالك ' وجوزه بعض العلماء ' وقال لا بأس به ' لما روى من فعل عثمان ابن عفان ذلك فى مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ' ولم ينكر ذلك عليه )
ومما ذكرناه يتبين لك خطا ما يعمد إليه كثير ممن يهتمون بتعمير المساجد و تشييدها اليوم ' حيث ينصرفون بكل جهودهم الى التفنن فى تزيينها ونقشها وإضفاء مختلف مظاهر الأبهة عليها ' حتى إن الداخل إليها لا يكاد يستشعر أى معنى من ذل العبودية لله عز وجل ' وإنما يستشعر ما ينطق به لسان حالها من الافتخار بما ارتقى إليه فن الهندسة المعمارية ' وفنون الزخرفة العربية .
ومن أسوأ نتائج هذا التلاعب الشيطانى ببسطاء المسلمين ' أن الفقراء لم يعودوا يستطيعون أن يتهربوا من مظاهر الإغراء الدنيوى إلى أى جهة ' لقد كان فى المساجد ما يعزى الفقير بفقره ' ويخرجه من جو الدنيا وزخرفها إلى الآخرة وفضلها ' فأصبحوا يجدون حتى فى مظهر هذه المساجد ما يذكرهم بزخرف الدنيا التى حرموها ويشعرهم بنكد الفقر وأوضاره .
فيالله ما أسوأ ما وقع فيه المسلمون من هجران الحقائق الإسلامية وانشغالهم بمظاهر كاذبة ظاهرها الدين وباطنها الدنيا بكل ما فيها من شهوات وأهواء .
الأساس الثانى ( الأخوة بين المسلمين )
ثم إن الرسول صلى اله عليه وسلم آخى بين أصحابه من المهاجرين والأنصار ' آخى بينهم على الحق و المواساة ' وعلى أن يتوارثوا بينهم بعد الممات ' بحيث يكون أثر الأخوة الإسلامية فى ذلك أقوى من أثر قرابة الرحم .
فجعل جعفر ابن أبى طالب ومعاذ ابن جبل أخوين ' وجعل حمزة ابن عبد المطلب وزيد ابن حارثة أخوين ' وجعل أبا بكر الصديق رضى الله عنه وخارجة ابن زهير أخوين ' وعمر ابن الخطاب وعتبان ابن مالك أخوين ' وعبد الرحمن ابن عوف و سعد ابن الربيع أخوين ................ وهكذا
ثم ربط النبى - صلى الله عليه وسلم - هذا التآخى بين أفراد الصحابة بنطاق عام من الأخوة و الموالاة ' كما سنجدها فيما بعد .
وقد قامت هذه الأخوة على أسس مادية أيضاً ' وكان حكم التوارث فيما بينهم من بعض هذه المظاهر المادية . وظلت عقود هذا الإخاء مقدمة على حقوق القرابة الى موقعة بدر الكبرى ' حيث نزل فى أعقابها قول الله تعالى :( وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض فى كتاب الله إن الله بكل شىء عليم ) فنسخت هذه الآية ما كان قبلها وانقطع أثر المؤاخاة الإسلامية فى الميراث ' ورجع كل إنسان فى ذلك إلى نسبه وذوى رحمه ' وأصبح المؤمنون كلهم إخوة .
روى البخارى عن ابن عباس قال : كان المهاجرون حين قدموا المدينة يرث المهاجرىّ الأنصارىّ دون ذوى رحمة للأخوة التى آخى النبى - صلى الله عليه وسلم - بينهم ' فلما نزلت :( ولكل جعلنا موالى ) نسخت ' ثم قال :( والذين عاقدت أيمانكم ) أى من النصر و الرفادة و النصيحة وقد ذهب الميراث .
العبر و الدلائل :
وهذا هو الأساس الثانى الذى اعتمده الرسول - صلى الله عليه وسلم - فى سبيل بناء المجتمع الإسلامى و الدولة الإسلامية 'وإن أهمية هذا الأساس تظهر فى الجوانب التالية :
أولاً: إن أى دولة لا يمكن أن تنهض وتقوم إلا على أساس من وحدة الأمة وتساندها ' ولا يمكن لكل من الوحدة والتساند أن يتم بغير عامل التآخي و المحبة المتبادلة فكل جماعة لا تؤلف بينها آصرة المودة والتآخى الحقيقية لايمكن أن تتحد حول مبدأ ما ' وما لم يكن الإتحاد حقيقة قائمة فى الأمة أو الجماعة فلا يمكن أن تتألف منها دولة .
على أن التآخى أيضاً لابد أن يكون مسبوقاً بعقيدة يتم اللقاء عليها و الإيمان بها ' فالتآخى بين شخصين يؤمن كل منهما بفكرة أو عقيدة مخالفة للأخرى ' خرافة ووهم ' خصوصاً إذا كانت تلك الفكرة أو العقيدة مما يحمل صاحبها على سلوك معين فى الحياة العملية .
ومن أجل ذلك ' فقد جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أساس الأخوة التى جمع عليها أفئدة أصحابه ' العقيدة الإسلامية التى جاءهم بها من عند الله تعالى و التى تضع الناس كلهم فى مصاف العبودية الخالصة لله تعالى دون الاعتبار لأى فارق إلا فارق التقوى و العمل الصالح ' إذ ليس من المتوقع أن يسود الإخاء و التعاون والإيثار بين أناس شتتتهم العقائد و الأفكار المختلفة فأصبح كل منهم ملكاً لأنانيته وأثرته وأهوائه
ثانياً - إن المجتمع - أى مجتمع - إنما يختلف عن مجموعة ما من الناس منتثرة مفككة ' بشىء واحد ' هو قيام مبدأ التناصر و التعاون فيما بين أشخاص هذا المجتمع ' وفى كل نواحى الحياة و مقوماتها ' فإ، كان هذا التعاون و التناصر قائما طبق نظام العدل و المساواة فيما بينهم ' فذلك هو المجتمع العادل السليم ' وإن كان ذلك قائما على الحيف و الظلم ' فذلك هو المجتمع الظالم المنحرف .
وإذا كان المجتمع السليم إنما يقوم على أساس من العدالة فى الاستفادة من أسباب الحياة و الرزق ' فما الذى يضمن سلامة هذه العدالة وتطبيقها على خير وجه ؟
إن الضمانة الطبيعية و الفطرية الأولى لذلك ' إنما هى التآخى و التوادد يليها بعد ذلك ضمانة السلطة و القانون ' فما أرادت السلطة أن تحقق مبادىء العدالة بين الأفراد ' فإنها لا تتحقق ما لم تقم على أساس من المحبة و التآخى فيما بينهم ' بل إن هذه المبادىء لاتعدو أن تكون حينئذ مصدر أحقاد وضغائن تشيع بين أفراد ذلك المجتمع ' ومن شان الأحقاد و الضغائن أن تحمل على طيها بذور الظلم و الطغيان فى أشد الصور و الأشكال من أجل هذا إتخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حقيقة التآخى الذى أقامه بين المهاجرين و الأنصار أساساً لمبادىء العدالة الاجتماعية التى قام على تطبيقها أعظم و أروع نظام اجتماعى فى العالم ' ولقد تدرجت مبادىء هذه العدالة فيما بعد بشكل أحكام وقوانين شرعية ملزمة ' ولكنها كلها إنما تأسست وقامت على تلك الأرضية الأولى ' ألا وهى الأخوة الإسلامية ' ولولا هذه الأخوة العظيمة التى تأسست بدورها على حقيقة العقيدة الإسلامية ' لما كان لتلك المبادىء أى أثر تطبيقى وإيجابى فى شد أزر المجتمع الإسلامى ودعم كيانه .
ثالثاً : المعنى التفسيرى الذى صاحب شعار التآخى :
لم يكن ما أقامه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بين أصحابه من مبدأ التآخى مجرد شعار فى كلمة أجراها على ألسنتهم ' وإنما كان حقيقة عملية تتصل بواقع الحياة وبكل أوجه العلاقات القائمة بين المهاجرين و الأنصار ' ولذلك جعل النبى - صلى الله عليه وسلم - من هذه الأخوة مسؤولية حقيقية تشيع بين هؤلاء الأخوة ' وكانت هذه المسؤولية تؤدى فيما بينهم على خير وجه ' وحسبنا دليلا على ذلك ما قام به سعد ابن الربيع الذى كان قد آخى الرسول بينه وبين عبد الرحمن ابن عوف ' إذ عرض على عبد الرحمن ابن عوف أن يشركه فى بيته وأهله وماله فى قسمة متساوية ' ولكن عبد الرحمن ابن عوف شكره وطلب منه أن يرشده الى سوق المدينة ليشتغل فيها ' ولم يكن سعد ابن الربيع منفرداً عن غيره من الأنصار فيما عرضه على أخيه كما قد يظن ' بل كان هذا شأن عامة الصحابة فى علاقتهم وتعاونهم مع بعض ' خصوصاً بعد الهجرة وبعد أن آخى النبى - صلى الله عليه وسلم - فيما بينهم .
ولذلك أيضاً ' جعل الله سبحانه وتعالى حق الميراث منوطاً بهذا التآخى ' دون حقوق القرابة و الرحم ' فقد كان من حكمة هذا التشريع أن تتجلى الأخوة الإسلامية حقيقة محسوسة فى أذهان المسلمين ' وأن يعلموا أن ما بين المسمين من التآخى و التحابب ليس شعاراً وكلاماً مجردين ' وإنما هى حقيقة قائمة ذات نتائج اجتماعية محسوسة تكون أهم أسس نظام العدالة الاجتماعية .(1/4)
أما حكمة نسخ التوارث على أساس هذه الأخوة ' فيما بعد ' فهى أن نظام الميراث الذى استقر أخيراً ' إنما هو نفسه قائم على أخوة الإسلام بين المتوارثين ' إذ لا توارث بين دينين مختلفين ' إلا فى الفترة الأولى من الهجرة وضعت كل من الأنصار و المهاجرين أمام مسئولية خاصة من التعاون والتناصر و المؤانسة ' بسبب مفارقة المهاجرين لأهلهم وتركهم ديارهم وأموالهم فى مكة ونزولهم ضيوفاً على إخوانهم الأنصار فى المدينة ' فكان ما أقامه الرسول - صلى الله عليه وسلم - من التآخى بين أفراد المهاجرين والأنصار ضمانة لتحقيق هذه المسئولية ' ولقد كان من مقتضى هذه المسؤولية أن يكون التآخى أقوى فى حقيقته وأثره من أخوة الرحم المجردة .
فلما استقر أمر المهاجرين فى المدينة وتمكن الإسلام فيها ' وغدت الروح الإسلامية هى وحدها العصب الطبيعى للمجتمع الجديد فى المدينة ' أصبح من المناسب انتزاع القالب الذى كان قد صب فيه نظام العلاقة بين المهاجرين و الأنصار إثر إلتقائهم فى المدينة ' إذ لا يخشى على هذا النظام بعد اليوم من التفكك و التميع فى ظل الأخوة الإسلامية العامة وما يترتب عليها من المسؤوليات المختلفة ' ولا ضير حينئذ أن يعود تأثير قرابة الرحم بين المسلمين من حيث كونها مؤثراً زائداً على قرابة الإسلام وأخوته . ' ثم إن هذا التآخى الذى عقده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين المهاجرين والأنصار كان مسبوقاً بمؤاخاة أخرى أقامها النبى - صلى الله عليه وسلم - بين المهاجرين فى مكة ' قال ابن عبد البر :( كانت المؤاخاة مرتين : مرة بين المهاجرين خاصة ' وذلك بمكة ' ومرة بين المهاجرين و الأنصار ) .
وهذا ما يؤكد لنا أن مناط الأخوة وأساسها إنما هو رابطة الإسلام ' غير أنها احتاجت الى تجديد و تأكيد بعد الهجرة بسبب ظروفها و بسبب اجتماع المهاجرين و الأنصار فى دار واحدة .
فهى ليست فى الحقيقة شيئاً آخر غير الأخوة القائمة على أساس جامعة الإسلام ووحدة العقيدة ' وإنما هى تأكيد لها عن طريق التطبيق .
الأساس الثالث ( كتابة وثيقة بين المسلمين وغيرهم )
وهذا الأساس هو أهم ما قام به النبى - صلى الله عليه وسلم - مما يتعلق بالقيمة الدستورية للدولة الجديدة روى ابن هشام أن النبى - صلى الله عليه وسلم - لم تمض له سوى مدة قليلة فى المدينة حتى اجتمع له إسلام عامة أهل المدينة من العرب ' ولم يبق دار من دور الأنصار إلا أسلم أهلها ' عدا أفراد فى قبيلة الأوس ' فكتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتاباً بين المهاجرين و الأنصار وادع فيه اليهود وعاهدهم ' وأقرهم على دينهم وأموالهم وشرط لهم واشترط عليهم .
وقد ذكر ابن إسحاق هذا الكتاب بدون إسناد ' وذكره ابن خيثمة فأسنده : حدثنا أحمد ابن جناب ابن الوليد ' ثنا عيسى ابن يونس ' ثنا كثير ابن عبد الله ابن عمرو المزنى عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب كتاباً بين المهاجرين والأنصار ' فذكر نحو ما ذكره ابن إسحاق ' وذكر الإمام أحمد فى مسنده فرواه عن سريج قال : حدثنا عباد عن حجاج عن عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده أن النبى - صلى الله عليه وسلم - كتب كتاباً بين المهاجرين و الأنصار ...... الخ
ونحن لن نأت بنص الكتاب كله ' فهو طويل ' ولكننا نجتزىء منه البنود الهامة بنصوصها الواردة فى كتابه عليه الصلاة و السلام ' كى نقف من ورائها على مدى القيمة الدستورية للمجتمع الإسلامى ودولته الناشئة فى المدينة ' وهذه هى البنود مرتبة حسب ترتيبها فى نص الكتاب نفسه :
1- المسلمون من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم و جاهد معهم ' أمة واحدة من دون الناس
2- هؤلاء المسلمون جميعاً على اختلاف قبائلهم يتعاقلون بينهم ' ويفدون عانيهم بالمعروف و القسط بين المؤمنين .
3- إن المؤمنين لا يتركون مفرحاً بينهم أن يعطوه فى فداء أو عقل .
4- إن المؤمنين المتقين ' على من بغى منهم أو إبتغى دسيعه ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين ' وأن أيديهم عليه جميعاً ولو كان ولد أحدهم .
5- لا يقتل مؤمن مؤمناً فى كافر ' ولا ينصر كافر على مؤمن .
6- ذمة الله واحدة ' يجبر عليهم أدناهم ' والمؤمنون بعضهم موالى بعض دون الناس .
7- لا يحل لمؤمن أقر بما فى الصحيفة وآمن بالله و اليوم الآخر أن ينصر محدثاً أو أن يؤويه ' وإن من نصره أو آواه فإن عليه لعنة الله و غضبه يوم القيامة لا يؤخذ منه صرف ولا عدل .
8- اليهود ينفقون مع اليهود ما داموا محاربين .
9- يهود بنى عوف أمة مع المؤمنين ' لليهود دينهم ' وللمسلمين دينهم ' إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته .
10- إن على اليهود نفقتهم ' وعلى المسلمين نفقتهم ' وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة .
11- كل ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده ' فإن مرده الى الله عز وجل و إلى محمد رسول الله.
12- من خرج من المدينة أمن ومن قعد أمن ' إلا من ظلم وأثم .
13- إن الله على أصدق ما فى الصحيفة وأبره ' وإن الله جار لمن بر واتقى .
العبر و الدلائل :
لهذه الوثيقة دلالات هامة تتعلق بمختلف الأحكام التنظيمية للمجتمع الإسلامى ونلخصها فيما يلى:
1- إن كلمة الدستور هى أقرب إطلاق مناسب فى اصطلاح العصر الحديث على هذه الوثيقة ' وهى إذا كانت بمثابة إعلان دستور فإنه شمل جميع ما يمكن أن يعالجه أى دستور حديث يعنى بوضع الخطوط الكلية الواضحة لنظام الدولة فى الداخل و الخارج : أى فيما يتعلق بعلاقة أفراد الدولة مع بعض ' وفيما يتعلق بعلاقة الدولة مع الآخرين . وحسبنا هذا الدستور الذى وضعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوحى من ربه واستكتبه أصحابه ' ثم جعله الأساس المتفق عليه فيما بين المسلمين وجيرانهم اليهود - حسبنا ذلك دليلاً على أن المجتمع الإسلامى قام منذ أول نشأته على أسس دستورية تامة ' وأن الدولة الإسلامية قامت - منذ بزوغ فجرها - على أتم ما قد تحتاج إليه الدولة من المقومات الدستورية و الإدارية ' وظاهر ان هذه المقومات ' أساس لابد منه لتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية فى المجتمع . ' إذ هى فى مجموعها إنما تقوم على فكرة واحدة الأمة الإسلامية وما يتعلق بها من البنود التنظيمية الأخرى ' ولا يمكن أن نجد أرضية يستقر عليها حكم الإسلام وتشريعه ما لم يقم هذا التنظيم الدستورى الذى أوجده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ' على أنه فى الوقت نفسه جزء من الأحكام الشرعية نفسها . ومن هنا تسقط دعاوى أولئك الذين يغمضون أبصارهم وبصائرهم عن هذه الحقيقة البديهية ' ثم يزعمون أن الإسلام ليس إلا ديناً قوامه ما بين الإنسان وربه ' وليس له من مقومات الدولة و التنظيم الدستورى شىء .
وهى أحبولة عتيقة ' كان يقصد منها محترفو الغزو الفكرى وأرقاء الاستعمار أن يقيدوا بها الإسلام كى لا ينطلق فيعمل عمله فى المجتمعات الإسلامية ' ولا يصبح له شأن قد يتغلب به على المجتمعات المنحرفة الأخرى ' إذ الوسيلة الى ذلك محصورة فى أن يكون الإسلام ديناً لا دولة ' وعبادات مجردة لا تشريعاً و قوانين ' وحتى لو كان الإسلام ديناً ودولة فى الواقع ' فينبغى أن يتقلب فيصبح غير صالح لذلك ولو بأكاذيب القول .
غير أن هذه الأحبولة تقطعت سريعاً ' لسوء حظ أولئك المحترفين ' وأصبح الحديث عنها من لغو القول ومكشوف الحقد و الضغائن .
ولكن مهما يكن فينبغى أن نقول ' ونحن بصدد تحليل هذه البنود العظيمة : إن مولد المجتمع الإسلامى نفسه إنمكا كان ضمن هيكل متكامل للدولة ' وما تنزلت تشريعاته إلا ضمن قوالب من التنظيم الاجتماعي المتناسق من جميع جهاته و أطرافه ' وهذه الوثيقة أكبر شاهد على ذلك .
وهذا مع غض النظر عن قيمة الأحكام التشريعية نفسها من حيث إنها قطع و أجزاء إذا ضمت الى بعضها تكون منها تنظيم متكامل لبناء دستورى وإدارى عظيم .
2- إن هذه الوثيقة تدل على مدى العدالة التى اتسمت بها معاملة النبى - صلى الله عليه وسلم - لليهود ' ولقد كان بالإمكان أن تؤتى هذه المسألة العادلة ثمارها فيما بين المسلمين و اليهود ' لو لم يتغلب على اليهود طبيعتهم من حب للمكر و الغدر و الخديعة ' فما هى إلا فترة وجيزة حتى ضاقوا ذرعاً بما تضمنته بنود هذه الوثيقة التى التزموا بها ' فخرجوا على الرسول و المسلمين بألوان من الغدر و الخيانة سنفصل الحديث عنها فى مكانها المناسب إن شاء الله تعالى ' فكان المسلمون بذلك فى حل مما التزموا به تجاههم .
3- دلت هذه الوثيقة على أحكام هامة فى الشريعة الإسلامية نذكر منها ما يلى :
أولاً: يدلنا البند الأول منها على أن الإسلام هو وحده الذى يؤلف وحدة المسلمين وهو وحده الذى يجعل منهم أمة واحدة ' وعلى أن جميع الفوارق و المميزات فيما بينهم تذوب وتضمحل ضمن نطاق هذه الوحدة الشاملة ' تفهم هذا جلياً واضحاً فى قوله عليه الصلاة و السلام ( المسلمون من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم ' أمة واحدة من دون الناس ) وهو أول أساس لابد منه لإقامة مجتمع إسلامى متماسك سليم .
ثانياً: يدلنا البند الثانى و الثالث على أن من أهم سمات المجتمع الإسلامى ظهور معنى التكافل و التضامن فيما بين المسلمين بأجلى صوره وأشكاله ' فهم جميعاً مسؤولون عن بعضهم فى شؤون دنياهم وآخرتهم ' وإن عامة أحكام الشريعة الإسلامية إنما تقوم على أساس هذه المسؤولية ' وتحدد الطرائق التنفيذية لمبدأ التكافل و التضامن فيما بين المسلمين .
ثالثاً : يدل البند السادس على مدى الدقة فى المساواة بين المسلمين لا من حيث أنها شعار براق للدعاية و العرض ' بل من حيث إنها ركن من أركان الشرعية الهامة للمجتمع الإسلامى ' يجب تطبيقه بأدق وجه وأتم صورة ' وحسبك مظهراً لتطبيق هذه المساواة بين المسلمين ما قرره النبى - صلى الله عليه وسلم - فى هذا البند بقوله :( ذمة الله واحدة ' يجير عليهم أدناهم ) ومعنى ذلك أن ذمة المسلم أياً كان محترمة ' وجواره محفوظ لا ينبغى أن يجار عليه فيه ' فمن أدخل من المسلمين أحداً فى جواره ' فليس لغيره حاكماً أو محكوماً أن ينتهك حرمة جواره هذا ' والمرأة المسلمة لا تختلف فى هذا عن الرجل إطلاقاً ' فلجوارها - أياً كانت - من الحرمة ما لا يستطيع أن ينتهكه أى إنسان مهما علت رتبته وبلغت منزلته ' وذلك بإجماع عامة العلماء وأئمة المذاهب .
روى الشيخان وغيرهما أن أم هانىء بنت أبى طالب ذهبت الى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح فقالت : يا رسول الله زعم ابن أمى علىّ أنه قاتل رجل أجرته : فلان ابن هبيرة ' فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : قد أجرنا من أجرت يا أم هانىء .
وتستطيع أن تتأمل هذا فتعلم مدى الرفعة التى نالتها المرأة فى حمى الإسلام وظله ' وكيف أنها نالت كل حقوقها الإنسانية و الاجتماعية كما نالها الرجل سواء بسواء ' مما لم يحدث نظيره فى أمة من الأمم غير أن المهم أن تعلم الفرق بين هذه المساواة الإنسانية الرائعة التى أرستها شريعة الإسلام ' والمظاهر التقليدية لها مما ينادى به عشاق المدنية الحديثة اليوم ' تلك شريعة من المساواة الدقيقة القائمة على الفطرة الإنسانية الأصيلة ' يتوخى منها سعادة الناس كلهم نساءً ورجالاً ' أفراداً و جماعات ' وهذه نزوات حيوانية أصيلة يتوخى من ورائها اتخاذ المرأة مادة تسلية ورفاهية للرجل على أوسع نطاق ممكن ' دون أى نظر إلى شىء آخر .
رابعاً : يدلنا البند الحادى عشر على أن الحكم العدل الذى لا ينبغى للمسلمين أن يهرعوا إلى غيره ' فى سائر خصوماتهم و خلافاتهم وشؤونهم إنما هو شريعة الله تعالى وحكمه وهو ما تضمنه كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ' ومهما بحثوا عن الحلول لمشاكلهم فى غير هذا المصدر فهم آثمون ' معرضون أنفسهم للشقاء فى الدنيا وعذاب الله تعالى فى الآخرة .
تلك هى أربع' أحكام انطوت عليها هذه الوثيقة التى أقام عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الدولة الإسلامية فى المدينة وجعلها منهاجا لسلوك المسلمين فى مجتمعهم الجديد ' وإن فيها لأحكاماً هامة أخرى لا تخفى لدى التأمل و النظر فيها .
ومن تطبيق هذه الوثيقة 'والاهتداء بما فيها ' و التمسك بأحكامها ' قامت تلك الدولة على أمتن ركن وأقوى أساس ' ثم انتشرت قوية راسخة فى شرق العالم وغربه تقدم للناس أروع ما عرفته الإنسانية من مظاهر الحضارة و المدنية الصحيحة .(( من فقه السيرة للبوطي)
ــــــــــــ(1/5)
إذنه - صلى الله عليه وسلم - لمسلمي مكة بالهجرة
قال ابن إسحاق: فلما أذن الله تعالى له - صلى الله عليه وسلم - في الحرب وبايعه هذا الحي من الأنصار على الإسلام والنصرة له ولمن اتبعه. وأوى إليهم من المسلمين أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه من المهاجرين من قومه ومن معه بمكة من المسلمين بالخروج إلى المدينة والهجرة إليها، واللحوق بإخوانهم من الأنصار، وقال (إن الله عز وجل قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون بها) فخرجوا أرسالا، وأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة ينتظر أن يأذن له ربه في الخروج من مكة، والهجرة إلى المدينة.
إصلاح النفس أولا
على الداعية الواعي : أن يركز أولا _ ودائما _ وقبل كل شئ ، على : تزكية نفس المدعو ، وطهارتها ، وإصلاحها ، وتحبيبها في المعروف ، وتنفيرها وتبغيضها في كل منكر .
حيث إن إصلاح النفس : مدخل إلى كل خير ، وطريق إلى كل نجاح ، وهو في الوقت نفسه : غاية عزيزة المنال ، غالية الثمن ، تحتاج إلى : صدق العزم ، وشد الرحال ، وبذل الجهود .
وهذا : ما ركز عليه ، ولفت الأنظار إليه ، وفعله ، النبي - صلى الله عليه وسلم - مع وفد الأنصار الذين قدموا عليه بمكة ، وبايعوه في العقبة . . حيث بايعهم - صلى الله عليه وسلم - على ذلك في بيعة العقبة الأولى ، ثم بعد عام كامل ، سمت فيه أرواحهم ، وزكت نفوسهم ، وطهرت قلوبهم ، وصلب عودهم ، وصاروا صالحين لتحمل أعباء الدعوة ومهامها ومشاقها : بايعهم - صلى الله عليه وسلم - على الأمور التنظيمية التي تحتاج الدعوة إليها ، ولا يتم نشرها ولا نجاحها بدونها
يقول عبادة بن الصامت :" كنت فيمن حضر العقبة الأولى وكنا أثنى عشر رجلا ، فبايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بيعة النساء . . على : أن لا نشرك بالله شيئا ، ولا نسرق ، ولا نزني ، ولا نقتل أولادنا ، ولا نأتي ببهتان نفتريه من بين أيدينا وأرجلنا ، ولا نعصيه في معروف . . ثم قال : فإن وفيتم فلكم الجنة ، وإن غشيتم من ذلك شيئا فأخذتم بحده في الدنيا : فهو كفارة له ، وإن سترتم عليه إلى يوم القيامة : فأمركم إلى الله عز وجل ، إن شاء عذب ، وإن شاء غفر " "26 "
أما في بيعة العقبة الثانية ، بعد عام كامل من الأولى .
فقد كانت البيعة : " على السمع والطاعة في النشاط والكسل ، والنفقة في العسر واليسر ، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأن تقولوا في الله لا تخافوا في الله لومة لائم ، وعلى أن تنصروني وتمنعوني _ إذا قدمت عليكم _ مما تمنعون منه أنفسكم ، وأزواجكم ، وأبنائكم ، ولكم الجنة " "27 "
وهذا درس من الهجرة في غاية الأهمية : حيث إن النفس الطاهرة يجذبها نور الدعوة وصفاؤها ، وتستعذب التضحية في دين الله تعالى بالنفس والنفيس ، مع الثبات - الذي لا تهزه شدائد أو لذائد _ على طريق الحق .
وإغفال هذا الدرس : بالإهمال لإصلاح النفس كلية ، وترك الحبل لها على الغارب ، حتى تبعت جموع هذه الأمة هواها ، وضلت سبيل رشدها ، وفقدت صلاح حالها : هو الذي ألقى بها في أوحال هذا التردي الذي تعانيه ، والتخبط الذي ترسف فيه .
وبسبب إغفال هذا الدرس ، وهذا الإصلاح : أصبحت هذه الأمة : خاوية الوفاض من كل ما يثبتها ، ويملؤها طمأنينة ، وصارت : ترتجف من كل ناعق ، وتتبع كل مضل لها ، رغبا أو رهبا ، حتى سقط أصحاب هذا الزمان في قاع المستنقع البشري ، وغلبهم التخلف العالمي ، وصاروا _ إن كان لقدمهم موضع _ في ذيل قائمة أهل الدنيا وسكانها ، وفقدوا مقومات النجاح ، وضاعت منهم مؤهلات الخيرية ، وندت عنهم أنوار الوسطية ، وعوملوا بلا اكتراث ، بل عوملت حقوقهم بالافتراس ، إلى غير ذلك من ألوان الخسف والنكال والانتقاص .
وإن إغفال هذا الدرس من الحركة الإسلامية خاصة : بسبب الاهتمام والتركيز على الأمور التنظيمية قبل إصلاح النفس ، أو دون استمرار ومتابعة لتزكيتها ، أمر خطير النتائج ، تعاني منه الدعوات ، وتدفع الثمن _ حال إغفاله _ غاليا .
كما وأن الأمور التنظيمية التي تحتاجها الدعوة ، ولا تستمر إلا بها ، لا يمكن أن تنجح ، وتؤدى على الوجه الأكمل ، إلا من متعبد لله تعالى بها ، باحث عن مرضاة ربه عن طريق الإخلاص لله تعالى في أدائها ، ولا يؤديها على هذا النحو :إلا من سمت روحه ، وزكت نفسه ، وأسعدته الجندية الحقه في سبيل نشر كلمة الله تعالى ، ورفع راية الدعوة ، وإعلاء شأن المسلمين .
ــــــــــــ(1/6)
اقرؤوا التأريخ
اسم الخطيب عبد الرحمن السديس إمام الحرم اسم المدينة مكة المكرمة تاريخ الخطبة(هـ) 8/1/1423 اسم المسجد المسجد الحرام
. الخطبة الأولى
أما بعد: فأوصيكم ـ عباد الله ـ ونفسي بتقوى الله، فمن رام خيراً غفيراً، ورزقاً وفيراً، ومقاماً كبيراً، فعليه بتقوى الله، فمن حققها حقق في الدنيا مجداً أثيراً، وفي الآخرة جنة وحريراً، وروحا وعبيراً.
أيها المسلمون، في ظل ازدلاف الأمة إلى عام جديد، وتطلعها إلى مستقبل مشرق رغيد، تبرز بجلاء قضايا حولية، وموضوعات موسمية، جديرة بالإشادة والتذكير، وحفية بالتوقف والتبصير، علّها تكون محركا فاعلاً يستنهض الهمم، ويشحذ العزائم لمراجعة الذات، وتدقيق الحسابات، وتحديد الرؤى والمواقف، وتقويم المسيرة، لتستعيد الأمة تأريخها المجيد، ومجدها التليد، وما امتازت به من عالمية فريدة، وحضارة عريقة، بوّأتها في الطليعة بين أمم الأرض قاطبة، والإنسانية جميعاً.
معاشر المسلمين، إن قضية المناسبة تكمن في وقفة المحاسبة، فاستقبال الأمة لعام جديد هو بمجرده قضية لا يستهان بها، وإن بدا في أنظار بعض المفتونين أمراً هيِّناً، لطول الأمل والغفلة عن صالح العمل، وإن في مراحل العمر وتقلبات الدهر وفجائع الزمان لعبرة ومزدجراً، وموعظة ومدّكراً، يحاسب فيها الحصيف نفسه، ويراجع مواقفه، حتى لا يعيش في غمرة، ويؤخذ على غرة، ويكون بعد ذلك عظة وعبرة. ولئن أُسدل الستار على عام مضى، فإن كل ماض قد يُسترجع إلا العمر المنصرم، فإنه نقص في الأعمال، ودنوٌّ في الآجال.
نسير إلى الآجال في كل لحظة وأيامنا تُطوى وهن مراحلُ
وإذا كان آخر العمر موتاً فسواء قصيره والطويلُ
فكم من خطوات مشيت، وأوقات صرفت، ومراحل قطعت، ومع ذلك فالإحساس بمضيّها قليل، والتذكر والاعتبار بمرورها ضئيل، مهما طالت مدتها وعظمت فترتها، ودامت بعد ذلك حسرتها.
إخوتي في الله، إن عجلة الزمن وقطار العمر يمضي بسرعة فائقة، لا يتوقف عند غافل، ولا يحابي كل ذاهل، كم ودّعنا فيما مضى من أخ أو قريب، وكم فقدنا من عزيز وحبيب، هزّنا خبره، وفجعنا نبؤه، حتى إذا لم يدع صدقه أملاً شرقتُ بالريق حتى كاد يشرق بي.
لقد كانوا زينة المجالس، وأُنس المجالس، سبقونا إلى القبور، وتركوا عامر الدور والقصور، فاللهم أمطر على قبورهم سحائب الرحمة والرضوان، واللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم، لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى.
فالله المستعان، وإلى متى الغفلة يا عباد الله؟! ماذا ران على قلوبنا؟! وماذا غشي أبصارنا وبصائرنا؟! إن الموفّق الواعي من سعى لإصلاح حاله ليسعد في مآله، وإن الكيِّس الملهم من أدام المحاسبة وأكثر على نفسه المعاتبة، وتفقّد رصيده الأخروي، وحاذر كل لوثة عقدية وفكرية وسلوكية ليحيى حياة السعداء، ويُبوَّأ نزل الشهداء، وما ذلك بعزيز على ذي المن والعطاء.
إخوة العقيدة، ما أحوج الأمة الإسلامية اليوم وهي تتفيأ ظلال عام جديد مليء بالتفاؤل والتطلعات للخروج من الفتن والمشكلات، وتجاوز العقبات والأزمات، ومواجهة التحديات والنكبات، أن تقرأ تأريخها.
اقرؤوا التأريخ إذ فيه العبر ضل قومٌ ليس يدرون الخبر
اقرؤوا التأريخ لتدركوا كيف كانت أحداثه العظام ووقائعه الجسام نقطة تحول كبرى، لا في تأريخ الأمة الإسلامية فحسب، بل في تأريخ البشرية قاطبة، اقرؤوا التأريخ الإسلامي لتروا كيف كانت وقائعه العظيمة منعطفاً مهماً غيّر مجرى التأريخ الإنساني برمّته، اقرئي ـ يا أمتي ـ تأريخك المجيد لتعلمي كيف أرست مصادره وأحداثه مبادئ الحق والعدل والأمن والسلام، وكم رسّخت وقائعه منذ ما يزيد على أربعة عشر قرنا من الزمان مضامين الحوار الحضاري الذي يتنادى به العالم اليوم.
أيتها الإنسانية الحائرة، لتسلمي من الأحكام الجزاف الجائرة، اقرئي تأريخ حضارتنا الإسلامية، لتَرَيْ بأم عينيك كيف كفل الإسلام حقوق الإنسان بجدارة، أزال الطبقات والعنصريات، وألغى الفوارق والتمايزات، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، في وحدة تتضاءل أمامها الانتماءات العنصرية، والأواصر والعلاقات الدنيوية، بل تضمحل بها كل دعاوى الجاهلية.
إخوة الإيمان، الارتباط التأريخي الوثيق، والانتماء الحضاري العريق يؤكد أن ليس غير العقيدة الإسلامية جامعاً للعقد المتناثر، ومؤلفاً للشتات المتناكر، وناظماً للرأي المتنافر، فهل تعي الأمة ذلك بعد هذا التمزق المزري والتخلف المخزي والتيه في الأنفاق المظلمة وسراديب الغواية المعدمة؟!
إنه لا درب سوى الإسلام، ولا إمام غير القرآن، ولا نهج إلا نهج سيد الأنام عليه الصلاة والسلام، ألم تستيقن الأمة بعد طول سبات أن التخلي عن العقيدة والتساهل بأمر الشريعة والتفريط في الثوابت والمبادئ والتقصير في المثل والقيم مآله شقاء المجتمعات، وانتقاض الحضارات، وهلاك العباد، وخراب البلاء، وطريق البوار، وسبب الانهيار، وحلول التبار، وتحقق الدمار؟! فهل يدرك أصحاب الرأي والنظر في الأمة أن التحديات السابقة والمعاصرة وصور التصادم الحضاري والعداء الثقافي والفكري إنما مردُّه إلى ثوابت عند الغير، لا يتحقق الانتصار عليها إلا بالتمسك بموروثنا الحضاري العريق الذي ينضح خيراً وسلاماً للبشرية، وأمناً وإسعاداً للإنسانية في بُعد عن مسالك العنف والإرهاب العالمية، التي أقضَّت مضاجع الإنسانية، وهنا ينبغي أن يتنادى العقلاء والمنصفون في العالم بإعلاء القيم الحضارية والأخلاقية والمثل الإسلامية والإنسانية، والتأكيد على مبدأ الحوار الحضاري، بلا تميُّع ولا انهزامية.
اقرؤوا التأريخ ـ أيها المنهزمون من بني جلدتنا ـ لتدركوا أن الحوار مع الآخر يجب أن يُبنى أولاً على الإصلاح من الداخل، حين تمتلئ النفوس محبة ومودة وحناناً، حينما توضع الكوابح المرعية، وترسم الضوابط الشرعية لحركة الانفتاح الفكري والثقافي والتربوي والإعلامي المتسارعة التي لا تعرف التمهّل، فقنوات وفضائيات، وتقانات وشبكات معلومات، واللهم حوالينا ولا علينا. يجب أن تُعاد الثقة إلى الذات، ويُعالج الانهزام النفسي لدى كثير من المعنيين في مجالات التربية والثقافة والإعلام، الذين لهثوا وراء عفن الأمم، عبُّوا منها طويلاً، فلم تغنهم ولم تغنِ أمتهم فتيلاً ولا نقيراً ولا قطميراً، وهنا يتأكد تعزيز جانب الحسبة في الأمة، حتى لا تغرق سفينة المجتمع، كما يجب الذبّ عن أهلها، وعدم الوقيعة بهم، وتضخيم هناتهم، والكف عن التمادي في اتهامهم، والطعون في أعراضهم، في وشايات مأفونة، أو مقالات مغرضة، أو أقلام متشفية، فأي شيء يبقى للأمة إذا انتقصت معالم خيريتها؟!
أمة الإسلام، حينما تتقاذف سفينة الأمة أمواج الفتن فإن قوارب النجاة وصمامات الأمان مرهونة بولاء الأمة لدينها وتمسكها بعقيدتها، وحينما يُجيل الغيور نظره في واقع أجيال من المنتسبين إلى أمتنا اليوم، ويرى التبعية والانهزامية أمام تيارات العصر الوافدة ومبادئ المدنية الزائفة، ويقارن بينهم وبين جيلنا التأريخي الفريد يدرك كم كانت وقائع تأريخنا المشرق الوضاء وحوادث سيرتنا العطرة سببا في عزة الأمة وكرامتها، وبذلها وتضحياتها، وإن تنكُّر فئام من الأمة لمبادئ دينهم ولهثهم وراء شعارات مصطنعة ونداءات خادعة لهو الأرضية الممهدة للعدو المتربّص، مما جرّأ علوج صهيون على العبث بمقدسات الأمة وممارسة إرهاب الدولة بكل ما تحمله من معنى الصلف والوحشية ضد إخواننا في الأرض المباركة فلسطين تحت سمع العالم وبصره.
كما أن من الدروس المستفادة لتحقيق مصالح الأمة جواز عقد المعاهدات والمهادنات، لا الاستسلام والمداهنات.
يا أمة التوحيد والتأريخ، في خضم هذه الظروف الحوالك، التي اختلطت فيها المسالك، يتأمل قُراء التأريخ ويتساءلون: أين دروس الهجرة وعبرها من شعارات العصر بإنسانيته الزائفة وديمقراطياته المزعومة التي تُحسب على دعاتها مغانم وعلى غيرهم مغارم، في غياب المنهجية الشورية المصطفوية؟! أين دروس التأريخ وعِبَر الهجرة وأخوة المهاجرين والأنصار من أناس مزّقهم التفرق والتشرذم، وأحلُّوا العداوة والخصام محلّ المحبة والوئام، وترسّبت في سويدائهم الأحقاد، وتأجج في قلوبهم سعير الحسد والبغضاء، والغل والشحناء، حتى تمزقت الأواصر وساد التفكك الأسري والاجتماعي في كثير من المجتمعات؟! فرحماك ربنا رحماك.
اقرؤوا التأريخ لتجدوا كم تحتاج العقيدة إلى دولة وسلطان ينافح عن كيانها، ويذود عن حماها، كما هي منة الله سبحانه على بلاد الحرمين ومدارج الهجرة وأرض التأريخ والرسالة حرسها الله. ألا فليتيقن دعاة الإصلاح في الأمة أن لا عقيدة ولا تمكين إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بولاية، ولا ولاية إلا بسمع وطاعة، لتدرأ عن الأمة غوائل الشرور والفتن، وعاديات الاضطراب والمحن.
وفي الميدان التربوي يجب أن يقرأ التربويون تأريخنا ليروا كيف تربى المرء المسلم عبر كافة قنوات التربية على نصرة العقيدة والولاء للقيادة.
وليقرأ التأريخ شبابُنا المعاصر الذين خدع كثير منهم ببريق حضارة مادية، أفرزت غزوا في الصميم، تنكب من خلاله كثير من شباب الأمة طريق الهداية الربانية، وعاشوا صرعى حرب الشهوات، وضحايا غزوا التفرق والشبهات، ويبرز ذلك في مجال التشبه والتبعية والتقليد والمحاكاة للغير في كثير من المجالات، وقد قال فيما أخرجه أحمد وأبو داود: ((من تشبه بقوم فهو منهم))[1].
لتقرأ التأريخ وتستلهم دروسه وعبره المرأةُ المسلمة المعاصرة، لتدرك أن عزَّ المرأة ومكانتها في تمسكها بقيمها ومبادئها، حجاباً وعفافاً، احتشاماً وقراراً، وأن وظائفها ومسؤولياتها التربوية والأسرية والاجتماعية في الأمة كبيرة التبعة، عظيمة الجوانب والآثار، لا كما يصوِّرها أعداؤها الذين يوحون إلى أوليائهم ومولياتهم أن الحجاب والعفاف فقدان للشخصية، وسلب للحرية، فأخرجوها دمية تفتش عن سعادة موهومة، وحرية مزعومة، كان من نتائجها دوس العرض والشرف، والعبث بالعفة والكرامة، من ذئاب مسعورة لا ترعى الفضائل، ولا تبالي باقتراف الرذائل.
تلك ـ أيها المسلمون ـ إلماحة عابرة إلى شيء من وقائع التأريخ ودروس السيرة وعبرها، تظهر في حدث الهجرة النبوية والتأريخ بها، تُقدَّم للأمة اليوم وهي تعيش مرحلة من أخطر مراحلها علّها تكون نواة لمشروع حضاري إسلامي، يسهم في صلاح الحال، وتقويم المسار لسعادة المآل، ويمثل بلسماً شافياً لعلاج الحملات الإعلامية المسعورة وسهام الحقد الطائشة ضد ديننا وأمتنا وبلادنا، التي ما فتئ أعداء الإسلام يصوبونها تجاهنا مستغلين نقاط الضعف في الأمة، متصيدين في الماء العكر أخطاء بعض أبنائها.
ألا ما أشد حاجتنا ـ ونحن نستشرف آفاق العام الهجري الجديد ـ إلى وقفات تأمل ومحاسبة، ومراجعة جادة لاستثمار كل ما يعزز مسيرة أمتنا، لتزدلف إلى عام جديد وهي أكثر عزماً وأشد مضاءً لفتح آفاق جديدة لإسعاد الإنسانية لتتبوأ مكانتها الطليعية، ومنزلتها الريادية فوق هذا الكوكب الأرضي الذي ينشد سكانه مبادئ الحق والعدل والسلام، ويرومون الخير والأمن والوئام، ولن يجدوه إلا في ظل الإسلام، وتعاليم الإسلام، زادُنا في ذلك موروث حضاري وتأريخي وعقدي وقِيَمِي لا ينضب، ونهلٌ من مُعطيات العصر وتقاناته في خدمة دين الأمة ومُثُلها وقيمها.
والله المسؤول أن يجعل هذا العام عام خير وبركة، ونصر وتمكين للإسلام والمسلمين، وعام أمن وأمان وعدل وسلام للإنسانية قاطبة، وأن يجمع فيه كلمة المسلمين على الحق والهدى، ويوحِّد صفوفهم، ويطهر مقدساتهم، وينصرهم على أعدائهم، وأن يجعل حاضرنا خيراً من ماضينا، ومستقبلنا خيراً من حاضرنا، إنه خير مسؤول، وأكرم مأمول، وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69].
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعني وإياكم بما فيه من الهدى والبيان، ورزقنا التمسك بسنة المصطفى من ولد عدنان، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافة المسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إِنَّ رَبّى لَطِيفٌ لّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [يوسف:100]، وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبّى رَحِيمٌ وَدُودٌ [هود:90].
_________________
[1] أخرجه أحمد (2/50)، وأبو داود في اللباس، باب: في لبس الشهرة (4031)، وعبد بن حميد (267)، والبيهقي في الشعب (2/75) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال ابن تيمية كما في المجموع (25/331): "هذا حديث جيد"، وقال العراقي في تخريج الإحياء (1/321): "سنده صحيح"، وحسن إسناده ابن حجر في الفتح (10/271)، وصححه الألباني في حجاب المرأة المسلمة (ص104).
الخطبة الثانية:
حمداً لك اللهم، أنت الملك القدوس السلام، تجري الليالي والأيام، وتجدِّد الشهور والأعوام، أحمد ربي تعالى وأشكره على ما هدانا للإسلام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جعل شهر المحرم فاتحة شهور العام، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله سيد الأنام، وبدر التمام، ومسك الختام، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله البررة الكرام، وصحبه الأئمة الأعلام، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما تعاقب النور والظلام.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، تمسكوا بدينكم، فهو عصمة أمركم، وتاج عزكم، ورمز قوتكم، وسبب نصرتكم، واعلموا أن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي رسول الله ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة.
أيها الإخوة الأحبة في الله، تعيشون ـ يا رعاكم الله ـ هذه الأيام فاتحة شهور العام شهر الله المحرم، شهر من أعظم الشهور عند الله تبارك وتعالى، عظيمة مكانته، قديمة حرمته، هو غرة العام، وأحد أشهر الله الحرم، فيه نصر الله موسى والمؤمنين معه على فرعون ومن معه، وقد ندبكم نبيكم إلى صيامه، فقد قال فيما أخرجه مسلم في صحيحه: ((أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم))[1]، لا سيما يوم عاشوراء، ففي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم النبي المدينة، فوجد اليهود صياما يوم عاشوراء، فقال لهم: ((ما هذا اليوم الذين تصومونه؟)) قالوا: هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه، وأغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكراً، فنحن نصومه، فقال : ((نحن أحق بموسى منكم)) فصامه وأمر بصيامه[2]، وفي صحيح مسلم عن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله سئل عن صيام يوم عاشوراء، فقال: ((أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله))[3].
الله أكبر، يا له من فضل عظيم، من مولى كريم ورب رحيم، وقد عزم على أن يصوم يوماً قبله مخالفةً لأهل الكتاب، فقال : ((لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع))[4]، قال العلامة ابن القيم رحمه الله: "فمراتب صومه ثلاثة: أكملها أن يُصام قبله يوم وبعده يوم، ويلي ذلك أن يُصام التاسع والعاشر، وعليه أكثر الأحاديث، ويلي ذلك إفراد العاشر وحده بالصيام"[5].
فينبغي للمسلمين أن يصوموا ذلك اليوم اقتداءً بأنبياء الله، وطلباً لثواب الله، وأن يصوموا يوماً قبله أو يوماً بعده مخالفةً لليهود، وعملاً بما استقرت عليه سنة المصطفى ، وعليه فمن أراد الصيام هذا العام فالأفضل أن يصوم يوم السبت والأحد والاثنين، وإن صام السبت والأحد فهو السنة، ولا بأس بصيام الأحد والاثنين، ويليه يوم الأحد، وهو يوم عاشوراء.
وإن صيام ذلك اليوم لمن شكر الله عز وجل على نعمه، واستفتاحِ هذا العام بعمل من أفضل الأعمال الصالحة التي يُرجى فيها ثواب الله عز وجل، فهنيئاً للصائمين، ويا بشرى للمشمرين، ويا خسارة المفرطين، ويا ندامة المقصرين، فاتقوا الله عباد الله، واستفتحوا عامكم بالتوبة والإنابة، والمداومة على الأعمال الصالحة، وخذوا من مرور الليالي والأيام عبراً، ومن تصرم الشهور والأعوام مدّكراً ومزدجراً، وإياكم والغفلة عن الله والدار الآخرة.
ثم صلوا وسلموا ـ رحمكم الله ـ على النبي المصطفى والرسول المجتبى والحبيب المرتضى، كما أمركم بذلك المولى جل وعلا فقال تعالى قولاً كريماً: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على سيد الأولين والآخرين وأفضل الأنبياء والمرسلين نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله الأطهار...
________________________________________
[1] أخرجه مسلم في الصيام، باب: فضل صوم المحرم (1163) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في الصوم، باب: صيام يوم عاشوراء (2004)، ومسلم في الصيام، باب: فضل صوم يوم عاشوراء (1130).
[3] أخرجه مسلم في الصيام (1162).
[4] أخرجه مسلم في الصيام، باب: أي يوم يصام في عاشوراء (1134) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[5] زاد المعاد (2/76).
ــــــــــــ(1/7)
الأفضل أن تستبدل الكلمة بـ(الهجرة)
تاريخ الفتوى : ... 24 صفر 1423 / 07-05-2002
السؤال
فقط أريد معرفة هل يعتبر قول (إن النبي هرب) إساءة وطعنا إن قصد فيها معنى الخروج من بطش الكفار فلقد قرأت لأحدهم هذه العبارة... وحق له أن يهرب فقد هرب النبي صلى الله عليه وآله من المشركين وهاجر إلى المدينة... وهرب موسى عليه السلام من فرعون... ولم يكن يقصد بها الإساءة بل وصف حال ولكن البعض كفره بسبب كلمته فهل بها إساءة؟
والسلام عليكم.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فقول الشخص: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى المدينة هارباً ليس ذماً بإطلاق، بل فيه تفصيل.
فإن قصد القائل أنه خرج هارباً نتيجة جبن وخور وفرار من تبليغ رسالة الله تعالى ومواجهة المشركين ونحو ذلك، فهذا كافر لأنه طعن في النبي - صلى الله عليه وسلم - وتنقص، وهو كفر بإجماع.
وإن كان قصد القائل أنه خرج بإذن الله وهرباً من أذى قومه بعد اتفاقهم على قتله ونحو ذلك، فلا شيء عليه، والأولى تجنب هذه اللفظة الموهمة، واستبدالها بلفظ الهجرة.
ويدل على أنه خرج مهاجراً بإذن الله ما أخرجه أحمد والترمذي والحاكم والضياء وصححوه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة، فأمر بالهجرة من مكة، وأنزل عليه (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً) [الإسراء:80] .
وروى ابن إسحاق والطبراني عن أسماء رضي الله عنها أن أبابكر رضي الله عنه أستأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الخروج قبل المدينة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "على رسلك، فإني أرجو أن يؤذن لي" ، فقال أبو بكر : وهل ترجو ذلك بأبي وأمي أنت؟ قال: "نعم..." .
فهذا يدل على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج مهاجراً بإذن الله وأمره، ولا يتنافى هذا مع القول بأنه خرج مطارداً خائفاً من قومه، كما يدل عليه ما رواه البخاري أن ورقة بن نوفل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ليتني أكون فيها جذعاً، إذ يخرجك قومك، قال: "أومخرجيَّ هم؟!!" ، قال: ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا أوذي وأخرج...
وما أخرجه أحمد بسند صححه ابن حجر : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للأنصار: لو شئتم قلتم: "جئتنا خائفاً فآمناك، وطريداً فآويناك، ومخذولاً فنصرناك" ، فقالوا: بل المن علينا لله ورسوله.
وقد تقرر في معتقد أهل السنة والجماعة أن الخوف الطبيعي من العدو، واتخاذ الأسباب الواقية من شره لا يقدح في العقيدة، ولا ينافي التوكل.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
ــــــــــــ(1/8)
جواز الإفادة من المشركين
جواز الإفادة من المشركين - ولا نقول : الاستعانة بالمشركين ؛ لأنه لا استعانة بغير الله تعالى - أمر واضح في الدروس الحركية للهجرة النبوية .
ففي البخاري : " . . . واستأجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر ، رجلا من بني الديل ، وهو من بني عبد بن عدى ، هاديا ، خريتا _ والخريت _ الماهر بالهداية _ قد غمس حلفا في آل العاص بن وائل السهمي ، وهو على دين كفار قريش ، فأمناه ، فدفعا إليه راحلتيهما ، وواعداه غار ثور ، بعد ثلاث ليال براحلتيهما ، صبح ثلاث " " 14 "
ويلاحظ جيدا : أن هذه الاستفادة توافرت فيها أمور ينبغي أن لا تغيب عنا ، إذ هي شروط لابد من مراعاتها .
أ _ أن يكون المستفاد منه أوبه صاحب تخصص نادر ، لا يجيده مسلم .
ب _ أن يكون ماهرا في تخصصه ، خبيرا به .
ج _ أن لا يكون محاربا ، أو من قوم محاربين للمسلمين ، أو مظاهرا لمحارب .
د _ أن يكون أمينا ، حيث إن المسلم المخذل أو المرجف يمنع ، فالكافر غير المؤتمن أولى بالمنع .
ه _ أن يكون حسن الرأي في المسلمين . " 76 "
ويبدو أن الطريق المتعرج الوعر غير المألوف الذي اختار النبي - صلى الله عليه وسلم - السير فيه للهجرة تخفيا عن قريش وعيونهم ، ما كان يعرفه إلا القلة القليلة ، وكان عبد الله بن أريقط من هذه القلة ، التي امتاز عنها بباقي الصفات المذكورة ، لذلك وقع الاختيار عليه .
ويجرنا هذا الدرس النبوي إلى الإشارة العاجلة لأنواع العلاقات مع الكفار .
وهي على هذا النحو :
( أولا ) : المولاة لهم والولاء معهم .
وهذا ممنوع منعا باتا ، ومحرم تحريما قاطعا .
يقول تعالى ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين ) إلى أن يقول سبحانه وتعالى ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين ) " 77 "
( ثانيا ) : البر بهم والإحسان إليهم .
وهذا يتوقف على نوع معاملتهم للمسلمين ، وعلاقتهم بهم . . فهم :
إما مسالمين غير محاربين للمسلمين .
وتتحدد علاقة المسلمين بهم ، في ضوء قوله تعالى ( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من ديارهم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين ) " 78 "
وإما محاربين للمسلمين .
وتتحدد علاقة المسلمين بهؤلاء _ كذلك _ في ضوء قوله تعالى ( إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون ) " 78 "
( ثالثا ) : الاستعانة بهم .
وهذه ممنوعة منعا باتا ، ومحرمة تحريما قاطعا .
حيث إنه لا استعانة بغير الله تعالى من جهة .
ومن جهة أخرى . . لحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - ، الذي روته عائشة ، قالت : " خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بدر ، حتى إذا كان بحرة الوبرة ، أدركه رجل من المشركين ، كان يذكر منه جرأة ونجدة ، فسر المسلمون به ، فقال يا رسول الله ! جئت لأتبعك ، وأصيب معك ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أتؤمن بالله ورسوله ؟ قال : لا ، قال : فارجع فلن أستعين بمشرك "
قالت : " ثم مضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، حتى إذا كان بالبيداء ، أدركه ذلك الرجل ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أتؤمن بالله ورسوله ؟ قال : نعم ، قال : فانطلق " " 79 "
وكذلك : روى الإمام أحمد في مسنده عن عبد الرحمن بن حبيب قال : أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو يريد غزوة ، أنا ورجل من قومي ، ولم نسلم ، فقلنا : إنا لنستحي أن يشهد قومنا مشهدا لا نشهده معهم ، قال : أفأسلمتما ؟ قلنا: لا ، قال : فإنا لا نستعين بالمشركين على المشركين ، قال : فأسلمنا ، وشهدنا معه . " 80 "
قال ابن المنذر : والذي ذكر غير ذلك مما قد يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - استعان بهم ، فغير ثابت . "81 "
ومما يجدر التنبيه عليه هنا : أنه إذا كانت الاستعانة بالمشركين على المشركين . . ممنوعة شرعا ، فإن الاستعانة بالمشركين على المسلمين أكد في المنع ، وأشد في الحرمة .
( رابعا ) : الإفادة من المشركين .
وهذه مباحة بالشروط السابق ذكرها وقد فعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - ، على ما سبق أن بدأنا به الحديث في هذا الدرس من دروس الهجرة النبوية .
وما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - ، من استئجاره لعبد الله بن أريقط ، المشرك ، وإفادته به ومنه : يعد درسا عظيما ، يفتح المسلمين على آفاق المعرفة ، وألوان الإفادة بأي شئ ، أو من أي مصدر كان ، ما دام ذلك بعيدا عن الإضرار بالعقيدة ، أو الانتقاص من الدين ، لأن الحكمة ضالة المؤمن ، ينشدها أنى وجدها .
وهو درس يفتح الباب للإفادة من منجزات المشركين واكتشافاتهم العلمية ، وصناعاتهم ، واختراعاتهم ، التي تساعد على عمارة الكون ، والتمتع بما فيه .
ولا يهم في هذه الحالة : من الذي أنجز أو اكتشف أو صنع ، لأن العلم _ كما يقولون _ لا جنسية له بشرط : أن تكون هذه الإفادة ، بعيدة عن الإضرار بالعقيدة ، وسالمة من الانتقاص بالدين ، وغير مقعدة للمسلمين عن التفوق في هذه المجالات .
وفي الترمذي عن أبي ثعلبة الخشني قال : سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قدور المجوس ، فقال : " انقوها غسلا واطبخوا فيها " .
وفي رواية أخرى ، يقول فيها : أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقلت : يا رسول الله ! ! إنا بأرض قوم أهل كتاب . . نأكل في آنيتهم . . ؟ قال : " إن وجدتم غير آنيتهم ، فلا تأكلوا فيها ، فإن لم تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها " . "82 "
ويقاس عليه : التعاملات التجارية ، والتبادلات المادية ، و . . . و . . . الخ على نفس الشروط السابقة .
ومن المعلوم جيدا في هذا الموضوع : أن لا تكون لهذا المشرك السيادة على المسلم إطلاقا ، بل السيادة تكون للمسلم أمرا ونهيا ، بدءا وإنهاء .
والواضح من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - : أن هذا الحكم في حال الضعف الشديد للمسلمين .
ومن هنا : فإنه في حال قوة المسلمين يكون العمل به أولى وأوجب .
ــــــــــــ(1/9)
التأريخ بالهجرة النبوية اجتمع عليه الصحابة الكرام
تاريخ الفتوى : ... 08 ربيع الثاني 1424 / 09-06-2003
السؤال
ما هي مشروعية التاريخ الهجري في ضوء الكتاب والسنة؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فقد سبق أن بينا في الفتوى رقم:
26228، أن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أراد أن يؤرخ الرسائل والكتب التي ترد إليه، فجمع الصحابة لهذا الأمر وانتهوا إلى التأريخ بالهجرة النبوية وابتدئوا بالمحرم، ويكفي لمشروعية هذا العمل الجليل أنه من عمل الخليفة الراشد عمر، وقد جاء الأمر النبوي باتباع هدي الخلفاء الراشدين المهديين كما في الحديث: فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين. رواه ابن ماجه وأحمد.
فالخلفاء الراشدون لا يصدرون إلا عن هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - إما نصاً أو استنباطاً، وبخصوص عمر قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه. رواه الترمذي، ومعنى جعل أي أجراه على لسانه.
ثم إن هذا العمل اجتمع عليه الصحابة وسار عليه التابعون وتابعوهم والمسلمون على امتداد تاريخهم، فالمخالف لهم المضلل لرأيهم على غير السبيل، قال الله تعالى: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً [النساء:115]، وقال ابن مسعود: ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن. رواه أحمد.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
ــــــــــــ(1/10)
التبشير . . لا التخويف
على المسلم بعامة، وكل من انخرط في صف الدعوة إلى الله بخاصة ، أن يكون مبشرا ميسرا _ لا مخوفا معسرا _ يعد بفضل الله تعالى لمن أحسن ، ويرجو عفو الله تعالى لمن تاب لأن فضل الله تعالى لا يحجبه أحد ، وعفو الله لا يملكه سواه .
يقول عبادة بن الصامت ، بعد أن ذكر بنود بيعة العقبة الأولى : ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " فإن وفيتم فلكم الجنة ، وإن غشيتم من ذلك شيئا ، فأخذتم بحده في الدنيا : فهو كفارة له ، وإن سترتم عليه إلى يوم القيامة : فأمركم إلى الله ، إن شاء عذب ، وإن شاء غفر " " 33 "
يا لعظمة هذا النبي . . - صلى الله عليه وسلم - . . ! !
ويا لسماحة هذا الدين . . ! !
"وإن غشيتم من ذلك شيئا : فأمركم إلى الله "
لاحظ أخي المسلم الكريم . . أن الإشارة هنا " من ذلك " لا تعود على صغائر من الذنوب ، بل على ذنوب هي من الكبائر ، بل هي الكبائر ، ومع ذلك يقول الحبيب - صلى الله عليه وسلم - " فأمركم إلى الله إن شاء عذب وإن شاء غفر "
نعم . . من وفى : يبشره النبي - صلى الله عليه وسلم - بفضل الله وإحسانه . . ومن خالف : أيضا يبشره النبي - صلى الله عليه وسلم - بعفو الله وغفرانه .
لم يهدد النبي - صلى الله عليه وسلم - ويتوعد . . ! !
ولم يتشنج _ وحاشاه - صلى الله عليه وسلم - ويرغى ويزبد ، ويوحي لسامعيه أنه العليم ببواطن الأمور ، والقابض على مفاتيح العدل والفضل . . ! !
ولم يقل : " ومن غشي من ذلك شيئا : فليفارق دعوتنا ، وليتبع سبيلا غير سبيلنا ، حيث إنه لا يصلح في صفوفنا "..!!
لا . . لم يقل هذا ولا ذاك .
بل أفصح بأدب الدعوة الرفيع ، وأخبر عن منهجها السمح ، وبين _ بكل وضوح _ أن مفاتيح ذلك كله بيد الله سبحانه وتعالى .
وهو درس يجب أن يعيه شباب الصحوة الإسلامية المباركة ، الذين اتخذ بعضهم _ وهم قلة _ التخويف من عذاب الله تعالى فقط ، أو الإكثار منه ، في إقناع الآخرين بالطاعة لله تعالى ، منهجا ، أو التشديد على أنفسهم ، أو غيرهم أسلوبا في الحياة وطريقا .
ومن تصفح كتاب الله تعالى وجد هذا الدرس واضحا فيه بجلاء ، حيث إن آيات الرحمة أكثر فيه من آيات العذاب ، وآيات البشارة أكثر من آيات الإنذار ، بل إنه ما من آية عذاب أتت إلا أعقبتها ، أو جاءت قريبا منها آية رحمة .
ومن يفعل غير ذلك ، وغير ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - ، يكون قد خالف شرع الله تعالى ، وبعد عن سنة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وتجرأ _ من فرط جهله _ على سماحة هذا الدين ، وأدب الدعوة إليه .
وينبغي أن يكون واضحا : أن لا يصل الداعية بهذا التيسير والتسهيل والتبشير ، حدا يدفع الآخرين إلى الجرأة على الله تعالى ، أو التسويف في القيام بأحكام هذا الدين ، أو الترخص _ بلا دليل _ في بعضها .
بل عليه : أن يكون متوازنا _ أولا _ في سلوكه ، معتدلا في تفكيره وعباداته ، يرجو رحمة الله ، وفي نفس الوقت يخشى عذابه .
كما أن عليه : أن يكون متوازنا _ ثانيا _ في عرضه لمبادئ هذا الدين ، وفي الدعوة إليه ، فيقدم الصورة كاملة ، بحيث لا يتعرض لجانب التخويف والعذاب ، وعرض صوره وأدلته فقط ، كما لا يتعرض لجانب الرجاء والعفو والثواب ، وعرض صوره وأدلته فقط ، بل يتعرض لهذا وذاك ، دون إهمال لأحدهما كلية ، أو طغيان له على الآخر ، بل يلتزم المنهج الوسط ، والعرض الأمين ، والأسلوب المعتدل .
ثم يترك النتائج لله سبحانه وتعالى .
ــــــــــــ(1/11)
التدابير العلمية في الهجرة النبوية
بقلم الدكتور نظمي خليل أبو العطا
من الأمراض الخطيرة التي هدت كيان الأمة الإسلامية حالة الاتكالية الغيبية الصوفية التي بذرت في التربة الإسلامية فوجدت نفوسا جاهلة غير قادرة على الأخذ بالأسباب العلمية، كما ساعدت الجاهليات المتجذرة في نفوس بعض البلدان التي فتحها المسلمون، هذه التوجهات الغيبية الجاهلة ساعدت تلك الجاهليات والنفوس الخبيثة على تدعيم الاتكالية الغيبية الخطيرة، فضاعت الأمة، وهدمت حضارتها العلمية وحل محلها الحضارة الانهزامية التي دعت ما لقصير لقصير وما لله لله وأذكر أنني سافرت في سفر طويل بالسيارة فوجدت العجب العجاب وجدت مهندسين ومعلمين لم يأخذوا بالأسباب العلمية في تجهيز سياراتهم وكان السبب الرئيس في هذا المسلك العجيب هو حالة الاتكالية العجيبة، وخاصة اننا كنا سنمر على بيت الله الحرام ومسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فظنوا أن هذا يسمح لهم بعدم الأخذ بالأسباب العلمية والاتكال على أنهم قاصدون البيت الحرام ومسجد المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وقال لي أحدهم تعطلت سيارتي (بسبب عدم صيانتها وصلاحيتها للسفر الطويل)، فدعوت رسول الله فسارت السيارة، قلت له لقد أخطأت انك دعوت رسول الله صلى الله من دون الله، وأنك لم تأخذ بالأسباب، فلا أظن أن هذا سبب إصلاح السيارة وسيرها.
الهجرة والتدابير النبوية العلمية :
بدأ التخطيط العلمي للهجرة بعرض النبي - صلى الله عليه وسلم - نفسه على الوافدين إلى مكة وعقد بيعة العقبة الأولى والثانية وبايعهم المصطفى - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة في المنشط والكسل والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وألا تأخذهم في الله لومة لائم، وأن ينصروه ويمنعوه إذا قدم إليهم بما يمنعون منه أنفسهم وأزواجهم.
2 ـ أرسل المصطفى - صلى الله عليه وسلم - مصعب بن عمير ليعلمهم وليمهد البيئة في المدينة المنورة لقدوم المصطفى - صلى الله عليه وسلم - والمهاجرين.
3 ـ ألمح المصطفى - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر بالهجرة قائلا: " على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي " وهنا استعد أبو بكر للصحبة وحبس نفسه على الهجرة.
4 ـ أمر جبريل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة الهجرة بأن يترك بيته هذه الليلة فقال : لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه، وهذا قمة الأخذ بالأسباب الدنيوية.
5 ـ تجهيز البعيرين بعلفهما مدة كافية (أربعة أشهر) حتى يتحملا مشقة السفر و وعورة الطريق.
6 ـ اختيار الدليل الخبير بالطريق حتى ولو كان كافراًَ، المهم أن يكون عالماً بالطريق أميناَ، في سلوكه وأخلاقه، وهذا ما أثبتته نتائج الأحداث، فقد سار بهم الدليل في طريق وعرة، بعيدة عن مدارك الكفار والمشركين، حيث استأجر المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر رجلا من بني الديل، وهو من بني عبد بن عدي هادياً خريتا ـ والخريت الماهر في الهداية ـ فدفعا إليه راحلتيهما صبح ثلاث وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل فأخذ بهم طريق الساحل كما ورد في البخاري.
7 ـ دبر المصطفى - صلى الله عليه وسلم - من يبيت في فراشه، فلم يترك الفراش خالياً، حتى لا تبعث مكة في طلب النبي صلى عليه وسلم فور اكتشاف خروجه، حتى إذا اكتشفوا ذلك يكون المصطفى - صلى الله عليه وسلم - قد دبر أمر نفسه، كما أختار المصطفى - صلى الله عليه وسلم - لذلك رجلا شجاعاَ شابا فتيا قوياَ مخلصاَ صادقاَ شجاعاً، هو الإمام علي رضي الله عنه، حتى لا يخاف من الأعداء ويأتي بحركة مغايرة للمطلوب، وهكذا ظهرت العلمية في أعلى صورها وأجل معانيها في التدابير السابقة واللاحقة بإذن الله .
8 ـ خرج المصطفى - صلى الله عليه وسلم - من بيته مقنعاَ في وقت الظهيرة حيث الحر والقيلولة، وهجوع الناس في ديارهم اتقاء الحر الهاجرة، ومن يعش في القرى والصحراء يعرف خلو الطرقات من المارة في هذا الوقت .
9 ـ وعندما وصل المصطفى - صلى الله عليه وسلم - إلى بيت أبي بكر قال له : (أخرج من عندك ) خوفا من وجود من لا يؤتمن على السر من الخدم والزوار وغيرهم، فقال أبو بكر إنما هم أهلك بأبي أنت وأمي يا رسول الله وقد أثبتت النتائج صدق تصور أبي بكر في أبنائه وحسن تربيتهم.
10 ـ تجهيز المأكل والمشرب والظهر وإعداده للرحيل ومشاركة أولاد أبي بكر في الأمر ليستشعروا عظم العمل، ويعذروا والدهم لتركه إياهم .
11 ـ تجهيز الميزانية المالية المطلوبة للرحلة و مشاركة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - في تكاليف الراحلة وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - (بالثمن) عندما عرض أبو بكر عليه إحدى الراحلتين.
12 ـ تحديد مكان اللجوء السريع والاختفاء عن الأنظار فلجأ المصطفى - صلى الله عليه وسلم - غار ثور، وقد حدد المصطفى - صلى الله عليه وسلم - مدة ثلاثة أيام للاختباء فيه حتى يهدأ الطلب من مكة، وتكف عن الملاحقة لقناعتها انها عاجزة عن اللحاق به.
13 ـ الخروج من الباب الخلفي لبيت أبي بكر، فلم يخرج من الباب الرئيس للبيت إمعاناًَ في الأخذ بالأسباب.
14 ـ كتمان الخبر عن الجميع ما عدا آل أبي بكر وسيدنا علي والدليل وتوزيع المهام عليهم.
15 ـ تكليف عامر بن فهيرة مولى أبي بكر ومحل ثقته أن يتأتي بغنم أبي بكر ليلاَ فيتزود الركب من حليبها ولحمها وتقوم بمحو آثار الأقدام من الطريق المأهول إلى الغار.
16 ـ تكليف عبد الله بن أبي بكر بمهمة الإعلام و التغطية الميدانية لكفار مكة، ونقل صورة ميدانية حقيقية لما يدور في مكة على أن يأتي كل يوم بحصاده الإخباري.
17 ـ عند الخروج من الغار اختار المصطفى صلى الله وسلم طريق الساحل، ولم يمض الركب في الطريق المعتاد وقد أثبتت النتائج حسن هذا التدبير.
18 ـ دخول " أبي بكر " أولا إلى الغار لتهيئته للقائد حتى لا يصاب بأذى، وهذا قمة العلمية وما يفعله الرؤساء حاليا لأن الحفاظ على القيادة يحفظ المسيرة. أما أبو بكر فهو فرد من المسلمين لا تموت الدعوة في مهدها بموته .
19 ـ أرسل الله العنكبوت لينسج خيطا ماديا إمعانا في الأخذ بالأسباب العلمية في التخفية، وتعليما للمسلمين في التمويه والأخذ بالأسباب المادية من نواميس الله في الخلق.
20 ـ تحييد أمر سراقة وتبشيره بأساور كسرى والتمكين مع إعطائه درسا ماديا في الإيمان عندما ساخت أقدام فرسه في الرمال فكان أول النهار طالبا لرسول الله والفدية وفي آخر النهار مدافعاَ ومخذلا عنه، وصارفاً للكفار ومثبطاً لهم عن الاستمرار في البحث عن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - .
21 ـ عندما وصل المصطفى - صلى الله عليه وسلم - إلى خيمة أم معبد وبيت المرأة الأخرى طلب منهما شاة ليحلبها ويجلس على ضرعها، وهذا يؤكد أخذ الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالأسباب المتاحة من الكائنات الحية وتأكيد علمي عملي على أن الحياة لا تتولد إلا من الحياة .
22 ـ تجنب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - مواطن العملاء فقصد بيتا متفردا عن الحي ولما أخبرته المرأة بمكان عظيم القوم وأشارت عليه أن يذهب إليه لم يفعل ذلك، وهذا موقف علمي عملي فإن زعماء قريش قد أرسلوا إلى زعماء القبائل وأغروهم بمكافأة مالية من الإبل إن هم أتوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحيطة والحذر ولم يذهب.
23 ـ لم يميز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفسه عن أبي بكر في اللباس والهيئة حتى أن أهل المدينة لم يفرقوا بينهما عندما وصلا إليها، وفي هذا زيادة في عدم جذب الأنظار للمصطفى - صلى الله عليه وسلم - في الطريق.
هذه كانت بعض التدابير العلمية في الهجرة النبوية تثبت أن ديننا دين العلمية الواقعية التجريبية، وأن ما يدعيه البعض من الصوفية أنهم تخطوا الحواجز المادية هو ضرب من الجهل بماهية الإسلام وواقعيته وعلميته وتسخير ونواميس الله في الخلق لصالح الإنسان وباقي المخلوقات الحية في الكرة الأرضية.
وهذا درس خاص لشباب المسلمين يعلمهم الأخذ بالأسباب العلمية في حياتهم الدراسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية وعدم التواكل على أسباب لم يبذلوا جهدا فيها، وإذا فعلنا ذلك أصبحنا قادة خلقية تطبيقةً عمليةً في هذه الحياة الدنيا كما كان سلفنا الصالح رضوان الله عليهم.
ــــــــــــ(1/12)
التورية عند الضرورة
الكناية والتورية في الإجابة على أسئلة الأعداء أو الخصوم دون التصريح ، للحفاظ على الكليات الخمس ، أو واحدة منها _ وهي : النفس ، والدين ، والعرض ، والنسل ، والمال _ لنفسه ، أو لغيره : أمر لا يعد كذبا ، عند الضرورة لذلك .
وعدم استعمال هذا الأسلوب - عند استشعار الحرج فيه ، أحيانا - قد يؤدى إلى ضرر أفدح منه .
وهو درس واضح في سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعامة .
كما هو واضح في الدروس التي تستفاد من هجرته ، - صلى الله عليه وسلم - ، على النحو التالي :
ففي البخاري . . " عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : أقبل نبي الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة ، وهو مردف أبا بكر ، وأبو بكر : شيخ يعرف ، ونبي الله - صلى الله عليه وسلم - : شاب لا يعرف .
قال : فيلقي الرجل أبا بكر ، فيقول : يا أبا بكر من هذا الرجل الذي بين يديك . . ؟ فيقول : هذا الرجل يهديني السبيل .
قال : فيحسب الحاسب . . أنه إنما يعني الطريق ، وإنما يعني سبيل الخير " . " 53 "
وليس صمت النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإقراره لتورية أبا بكر هذه : هي المستند الشرعي فيها فقط ، وإن كانت كافية .
بل : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في طبقات ابن سعد _ كان قد قال له : " أله الناس عني " " 55 "
وهو درس جد عظيم . . حيث يبيح للمضطر _ ويرشده إلى _ وسيلة ينجو بها ، أو يحمي بها غيره ، من الهلاك أو الإيذاء ، وفي نفس الوقت يتيح له عدم الوقع تحت غائلة الكذب .
وليس هذا ترخصا في الدين ، أو استهانة بأحكامه ، أو تلاعبا بتعاليمه ، بل هو التشريع الذي يحفظ النفس أو الدين ، أو العرض ، أو النسل ، أو المال للمرء ذاته ، أو لغيره ، ممن تضطره الظروف والأحوال أن لا يفشي لهم سرا ، أو يذيع لهم خبرا ، إذ يقول - صلى الله عليه وسلم - " إن في المعاريض : لمندوحة عن الكذب " " 56 "
بل إن الذي يستفيد من هذا الدرس ، ويستعمله _ عند الضرورات أو النوازل _ لا ينجو بنفسه ، أو يحمي غيره ، من ضرر محقق ، فقط : إنما يثاب على ذلك أيضا .
ففي حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه ، ولا يسلمه ، ومن كان في حاجة أخيه : كان الله في حاجته ، ومن فرج عن مسلم كربة : فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة " " 57 "
كل ذلك : بشرط أن لا يكون كتمان هذا السر والتورية عنه ، لا يسبب ضررا للمسلمين _ أفرادا كانوا أو جماعات _ أو لبلادهم ؛ إذ آن دفع الضرر عنهم : أولى وأوجب من قدسية كتمان السر والتورية عنه .
حيث إنه ما صار سرا ، ولا وجب التورية عنه إلا خوفا من : كيد الأعداء ، أو بطش الخصوم وإيذائهم للفرد أو للجماعة ، أو للأمة .
والمقصود من حفظ هذا السر أو التورية عنه _ كما هو معلوم _ حماية النفس أو الغير من أفراد المسلمين ، أو جماعاتهم ، أو الأمة بأسرها .
إن الدعاة إلى الله : لا بد وأن يكونوا على قدر من الوعي والنباهة ، وحضور البديهة ، وحدة الذاكرة لدرجة تجعلهم يدركون حجم الخطر ، ويقدرون على خداع عدوهم ، والإفلات من بين يديه ، أو النجاة من إيذائه ، وبطش طغيانه ، دون استعمال أسلوب الكذب الصراح إلا عند الضرورة القصوى ، التي لا تجدي فيها كناية ، ولا تنفع فيها تورية . " 58 "
ــــــــــــ(1/13)
الحكمة من استئجاره عليه الصلاة والسلام دليلاً لطريق الهجرة
تاريخ الفتوى : ... 07 رجب 1423 / 14-09-2002
السؤال
من الذي سار مع الرسول صلى الله عليه وسلام ليلة الهجرة هو وأبوبكر من هذا الرجل
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإن هجرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مليئة بالدروس والعظات والعبر، وكذلك سيرته كلها؛ بل وحياته كلها.
فعلى المسلم أن يتعلم من ذلك ما يدعوه إلى محبته صلى الله عليه وسلم،
فإن ذلك واجب على المسلم، ولا يكمل إيمانه حتى يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين، ومن نفسه التي بين جنبيه .
ففي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين".
وفي هجرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان بصحبته أبوبكر رضي الله عنه -كما أشار السائل- وكان معهما عبد الله بن أريقط الدؤلي وكان مشركاً ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استأجره ليدله على الطريق وكان خريتاً ماهراً.
وبعض الروايات تقول: إن عامر بن فهيرة مولى أبي بكر كان بصحبتهما وكان يخدمهما، وكان قد أسلم قبل ذلك، والمتأمل في هجرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي أخذه لكافة الاحتياطات اللازمة يعلم أن المسلم يجب عليه أن يأخذ بالأسباب ثم بعد ذلك يتوكل على الله تعالى، كما فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقال لأبي بكر "ما ظنك باثنين الله ثالثهما". رواه البخاري ومسلم، وكان بإمكانه ألا يتخذ سبباً وهو على يقين بأن الله ناصره، ولكنه - صلى الله عليه وسلم - مشرع لأمته فيبين لهم أنه لابد من أخذ الأسباب، ولهذا السبب استأجر ذلك الرجل المشرك عبد الله بن أريقط ليدله على الطريق .
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
ــــــــــــ(1/14)
الداعية المطارد
الخطيب: عائض القرني
الخطبة الأولى
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمدٍ ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الجيل الموحد، يا حملة المبادئ، أيتها الكتيبة المقدسة: نقف هذا اليوم نحيي بملء القلوب والأجفان والأسماع رسولنا ، نحييه في أول العام الهجري، وهو رجل الهجرة الأول، نعيش اليوم مع الأطفال في أيام طرد هو من أطفاله، ونعيش اليوم منعمين في الدور والقصور، في أيام شرد من دوره، ونعيش اليوم مرفهين سعداء، في أيام عاشها هو كلها أسى، وكلها لوعة، يقدم رأسه وروحه من أجل لا إله إلا الله.
إنها الهجرة، وعنوان الخطبة:
(الداعية المطارد).
طارده أقاربه وأرحامه وأصهاره، فما سبب المطاردة؟ لأنه يحمل مبدأ الإنقاذ، لماذا طورد؟ أمن أجل أنه أتى لينهب الأموال، ويسفك الدماء، ويحتل الأراضي، ويبتز المعطيات؟ لا.. من أجل أنه أتى لينقذ الإنسان، ليخرج الإنسان من الظلمات إلى النور؟
هذا حديث الهجرة، أغلقت فئة أبوابها في وجه الابن البار، وأنذرته في خلال أربع وعشرين ساعة أن يغادرها، ولا يبقى في ساحتها.
عجيب.. ولد في ربوعها، ترعرع في تلالها، شرب ماءها، استنشق هواءها، وتقول له مكة: اخرج، إلى أين؟ لا ندري.
وليتهم تركوه ليخرج سالماً معافى، لكن يريدون أن يخرجون جثة، أو يحبسوه ويقيدوه بالحديد، أو ينفوه من الأرض : {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} الأنفال:30.
تخفى قبل أن يذهب.
تخفيت من خصمي بظل جناحه . *** . فعيني ترى خصمي وليس يراني
فلو تسأل الأيام عني ما درت ... *** ... وأين مكاني ما عرفن مكاني
دخل في غرفة علي أو في بيته هو، وطوقه الكفرة الفجرة؛ لأنه يهدد مصالحهم التي بنيت على الظلم، ولأنه يصادر شهواتهم، ولأنه لا يطاوعهم في نزواتهم.
إن أهل الباطل قديماً وحديثاً يرون في حملة المبادئ، وفي رواد الحق، خصماء على طوال الطريق؛ لأنهم يقولون لهم: لا، في كل معصية، وفي كل شهوة، وفي كل نزوة، طوقوا بيته بالسيوف المشرعة، وتحروا متى يخرج ليفتكوا به، وهنا تأتي الشجاعة، ليست الشجاعة التي يبديها الناس، من أجل أراضيهم ومزارعهم ومناصبهم، الأنوف الحمراء التي تغضب للجيوب والبطون، السيوف المسلولة من أجل التراب والطين، أما محمد - عليه الصلاة والسلام -، فيقدم رأسه من أجل مبدئه، يتحدى الشمس أن تهبط في يمينه، والقمر أن ينزل في يساره، والله لو نزلت الشمس ونزل القمر، ما تزحزح خطوة واحدة، حتى تعلن لا إله إلا الله أصالتها في الأرض.
طوقوه، وأتاه جبريل، أخبره قائلاً: الخصوم خارج البيت، يريدون قتلك، فيقول: إن الله معنا، لله درك، ولله در الشجاعة المتناهية، ولله در الروح العالية:
يا قاتل الظلم ثارت هاهنا وهنا ... *** ... فضائح أين منها زندك الواري
الشمس والبدر في كفيك لو نزلت .. ** .. ما أطفأت فيك ضوء النور والنار
أنت اليتيم ولكن فيك ملحمة ... *** ... يذوب في ساحها مليون جبار
فخرج من البيت بلا سيف، وهم بالسيوف، وخرج بلا رمح، وهم بالرماح والعار، وأخذ حفنة من التراب، فألقى الله النوم عليهم فناموا، وسقطت سيوف الخزي والعار من أيديهم، فخرج ونثر التراب والغبار على رؤوس الفجار، وهو يقول: {وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون} يس:9.
نقف اليوم بعد هذا الحدث، بأربعة عشر قرناً لنأخذ دروساً.
أولاً: درس التوكل على الله، وتفويض الأمر له، وصدق اللجأ، فلا كافي إلا الله، يقول سبحانه على لسان أحد أوليائه: {وأفوّض أمري إلى الله إن الله بصيرٌ بالعباد * فوقاه الله سيئات ما مكروا} غافر:44-45. ويقول سبحانه وتعالى لرسوله: {ويخوّفونك بالذين من دونه} الزمر:36.
وكل من دون الله فهو تحته ودونه وعبد له، فلا قيمة له، ولا وزن ولا تأثير.
والناس اليوم يحملون صدق التوكل والانتصار بالله في أذهانهم، لا في حياتهم وتصرفاتهم، إنهم أجبن من كل شيء، وأجبن ما يكون عندما تهدد لا إله إلا الله.
إن قضية الوظائف قد استعبدت البشر، والمناصب، والموائد، والجاهات، والشارات؛ إنها تستبعد الحر الشجاع، فتجعله ذليلاً جباناً، لا يقول كلمة الحق (تعس عبد الدينار، والدرهم، والقطيفة، والخميصة)1
إن محمداً - عليه الصلاة والسلام -؛ أراد أن يبني جيلاً قوياً شجاعاً، يقدم الواحد منهم رأسه لمبدئه، وروحه لمنهجه، ولكن طال الأمد وقست القلوب، وانطمس المنهج، وأصبحت الأمة تعيش خواءً عقدياً، أخوف ما تكون من البشر، انظر إليهم، والله إن البشر عندهم أخوف إليهم من رب البشر، فكم يخافون، كم يجبنون، وكم يصيب أحدهم الزلزلة والرعدة من تهديد بسيط يتعرض لوظيفته، أو لمنصبه، أو لدخله ورزقه، ولا يرزق إلا الله، ولا يخلق إلا الله : {واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشوراً} الفرقان:3.
إن قصة الهجرة، يتجلى فيها التوكل، كأحسن ما يتجلى في أي صورة وفي أي موقف. يدخل الغار، ويتكرر لنا حديث الغار، ونعيد دائماً حديث الغار؛ لأن أول التاريخ بدأ من الغار، والنور انبعث من الغار، فمن يمنعه - عليه الصلاة والسلام -، أين موكبه، أين أقواس النصر التي تحف الناس، أين الجنود المسلحة التي تحمي عظماء الناس وكبراءهم، وهم أقل خطراً وأقل شأناً منه، لا جنود، لا حراسة، لا سلاح، لا مخابرات، لا استطلاع.
وإذا العناية لاحظتك عيونها *** نم فالحوادث كلهن أمان
فيقول أبو بكر، يا رسول الله والله لو نظر أحدهم إلى موضع قدميه لرآنا، فيتبسم عليه الصلاة والسلام، والتبسم في وجه الموت أمر لا يجيده إلا العظماء، حتى يقول المتنبي يمدح عظيماً، لا يستحق أن يكون جندياً في كتيبة محمد - عليه الصلاة والسلام -:
وقفت وما في الموت شك لواقف . ***. كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ... *** ... ووجهك وضاحٌ وثغرك باسم
يتبسم - عليه الصلاة والسلام - ويقول: (ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما)2 هل يغلب هؤلاء الثلاثة، أم تكون الدائرة على أعدائهم، إذا كان الله ثالثهما، فمن المغلوب؟ من هو الخاسر في الجولة؟ من هو المنهزم في آخر المعركة؟ ويقول عليه الصلاة والسلام، لأبي بكر مواسياً له: (لا تحزن إن الله معنا)3 بعلمه - سبحانه وتعالى - وهي معية الحفظ والتأييد والتسديد لأوليائه، المعية التي صاحبت إبراهيم - عليه السلام -، وهو يهوي بين السماء والأرض، في قذيفة المنجنيق إلى النار، فيقول له جبريل: ألك إليّ حاجة؟ فيقول: أما إليك فلا، وأما إلى الله فنعم: حسبنا الله ونعم الوكيل، فكانت النار برداً وسلاماً.
والمعية التي صاحبت موسى راعي الغنم، الذي يحمل عصاه، ولا يجيد اللغة أن ينطقها، ويدخل إيوان الظالم السفاك المجرم فرعون، حرس فرعون أكثر من ثلاثين ألفاً، الدماء تسيل في البلاط الملكي الظالم، موسى يلتفت ويقول: يا رب: {إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى} طه:5.
فيعلمه الله درس التوحيد والتوكل: {لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى} طه:46. إنني معكما أسمع وأرى. نواصي العباد بيديه، رؤوس الطغاة في قبضته، مقاليد الحكم بيمينه، لا يصرف متصرف إلا بقدرته.
يطارد سراقة محمداً -عليه الصلاة والسلام -، فلا يلتفت، يقرأ القرآن ولا يلتفت؛ لأن الله معه، يدعو على سراقة، فيصبح سراقة مهدداً بالموت فيقول: يا محمد، اكتب لي أماناً على حياتي، أنت الآن محميّ، وأنا مهدد، بالله لا تقتلني.
فرّ من الموت، وفي الموت وقع!!.
محمد - عليه الصلاة والسلام - يتبسم، ويقول: (يا سراقة، كيف بك إذا سُوّرت بسواري كسرى؟) أين كسرى؟! امبراطور فارس، ديكتاتوري الشمال، المجرم السفاك، فيضحك سراقة كأنه ضربٌ من الخيال، هذا يستولي على امبراطوريات الدنيا!! هذا يلغى مملكة العالم!! وهو لا يستطيع أن ينجو بنفسه.
وبالفعل تم ذلك، ودُكدك الظلم، وفتح الشمال، ورفرفت لا إله إلا الله على الإيوان.
ما نازل الفرس إلا خاب نازلهم . *** . ولا رمى الروم إلا طاش راميها
وخالد في سبيل الله مشعلها ... *** ... وخالد في سبيل الله مذكيها
وما أتت بقعة إلا سمعت بها ... *** ... الله أكبر تسري في نواحيها
الثاني: من دروس الهجرة: أن الله يحفظ أولياءه، نعم يؤذون، ويضطهدون، ويحبسون، ويقدمون رؤوسهم رخيصة لله، ولكن ينتصرون، لأن العاقبة للمتقين: {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد * يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار} غافر:51-52. والنتيجة الحتمية، أنهم هم المنتصرون في آخر المطاف، وأن الباطل مهما انتفش، ومهما علا، ومهما كبر، فإنه كما قال سبحانه: {فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض} الرعد:15. الباطل له صولة، والحق له دولة، والعاقبة للمتقين، وتكفل الله أن يحفظ دعائم هذا الدين، والمتمسكين به، والمنضوين تحت لوائه، فمهما تعرضوا له من الإساءات، والاضطهاد والإقصاء، والاستخذاء، فإنه لا يزيدهم إلا إصراراً على مبادئهم، وشمماً وقوة.
الثالث من دروس الهجرة: عالم التضحيات والبذل، تحقق في سيرته، عليه الصلاة والسلام، لكن ما فعلت أنا، وماذا فعل أنت لهذا الدين؟ ماذا قدمنا؟ ومحمد عليه الصلاة والسلام، شغله الشاغل، أنفاسه، خواطره، أفكاره، أمواله، أهله، روحه، لله، يقول في أحد مواقفه: (والذي نفس محمد بيده؛ لوددت أني أغزو في سبيل الله فأقتل، ثم أغزو فأقتل، ثم أغزو فأقتل)4
هاجر من مكة مطروداً، أغلقت مكة أبوابها في وجهه، ووقف في حمراء الأسد، يخاطب مكة، فبينه وبين مكة كلام رقيق مشوق.
إذا ترحّلت عن قوم وقد قدروا ..... ألا تفارقهم فالراحلون همُ
يا من يعز علينا أن نفارقهم ....وجداننا كل شيء بعدكم عدمُ
يقول لمكة: (والذي نفسي بيده إنك من أحب بلاد الله إلى قلبي، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت)5 ثم تدمع عيناه ويذهب، بناته أمامه، يضربن، فلا يستطيع أن يدفع عنهن الظلم، يوضع السلا على رأسه وهو ساجد فلا يتحرك، وهم يضحكون، ثم تأتي فاطمة - رضي الله عنها - فتلقي السلا عن ظهره، فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلاة قال: (اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بعمرو بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط، وعمارة بن الوليد). قال عبد الله: فوالله لقد رأيتهم صرعى يوم بدر6
فصلى الله وسلم وبارك عليك يا رسول الله.
تباع غُرفه في مكة، بعقد يتولاه عقيل بن أبي طالب، أعمامه يكذبونه أمام الناس، يحثى التراب عليه، يطارد بعيداً بعيداً، يشج رأسه، ويدمى أصبعه، وتكسر رباعيته، فيصبر ويحتسب.
يريدون إغلاق صوته، فيزداد الصوت، أقوى، وأعظم، وأعمق، وأأصل، فيصل إلى المدينة فإذا الدنيا تتحدث عنه.
ولولا اشتعال النار فيما جاورت ... *** ... ما كان يعرف طيب نفح العود
وإذا أراد الله نشر فضيلة ... *** ... طويت أتاح لها لسان حسود
هكذا العظمة، وهكذا الريادة.. وينصت العالم له، ويسمعون كلمته، ويقويه الله بجند من عنده، وتحف به الملائكة.
وقاتلت معنا الأملاك في أحد ... *** ... تحت العجاجة ما حادوا وما انكشفوا
سعدٌ وسلمان والقعقاع قد عبروا ... *** ... إياك نعبد من سلسالها رشفوا
إذاً التضحية هكذا، أن تقدم دمك، ومالك، ودموعك، ووقتك للإسلام، وإلا الركعات والتسبيحات، التي يمتن بها كثير من الناس، ولكنهم لا يحترقون على الدين ولا يغضبون لانتهاك محارم إياك نعبد وإياك نستعين، فهؤلاء لا يستطيعون أن يتقدموا معك خطوة، لنصرة لا إله إلا الله، هذا عالم آخر.
الرابع من الدروس: ماذا قدمنا للعام الهجري المنصرم، ذهب من أعمارنا عام، مات فيه قوم، وعاش قوم، واغتنى قوم، وافتقر قوم، وتولى قوم، وخلع قوم، فماذا قدمنا للإسلام؟ ولك أن تتعجب معي، وإن تعجب، فعجب فعلهم في هجرة محمد عليه الصلاة والسلام، أين هي الصحف الصباحية ؟ أين هي الشاشة؟ أين صحفٌ لا تحيي محمداً عليه الصلاة والسلام، كتابها حسنة من حسناته، كتابها متطفلون على مائدته، كتابها أحرار لما أخرجهم من الرقّ؛ رق الوثنية والعبودية لغير الله، بلاد ما أشرقت عليها شمس إلا بدعوته، ولا تحييه!! لا كلمة، ولا عموداً صغيراً، ولا زاوية تحيي المصلح العظيم. والله لقد قرأت أخباراً عن كلاب، حدثت لها وقائع ومصائب في الغرب وترجموا لها، لكن محمداً - عليه الصلاة والسلام -، لا يجد من يترجم له.
ونقول للكتبة وللمحررين وللنخبة المثقفة - كما تزعم - ولأهل الكلمة، ولأبناء الفكر، لا عليكم : {وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم} محمد:38. لا عليكم إن بخلتم بأقلامكم على محمد - عليه الصلاة والسلام -، وعلا صفحاتكم الفنية كواكب الفن وشموس الغناء، فعندنا جيلٌ الآن، أعلن توجهه إلى الله، جيل كتب الهجرة بدموعه، وحفظ المسيرة بقلبه، وأصبح حب محمد عليه الصلاة والسلام، يجري في دمه. عندنا جيل كعدد الذر، كلهم والله يتمنى اليوم قبل غد، أن يقتل في سبيل الله، من أجل مبادئ محمد - عليه الصلاة والسلام -، هذا أثره - عليه الصلاة والسلام - علينا، وهذا موقفنا من دعوته ورسالته، تُبحث الأفكار إلا فكره!! وتدرس المناهج إلا منهجه!! ويتكلم عن الشخصيات إلا شخصيته.
ورأيت في صحيفة زاوية، خصّصتها للأعلام والمشاهير ولوفياتهم.
إنهم مشاهير السفك والنهب في العالم؟ مشاهير القتل والإبادة، واستخذاء الشعوب، أما المحرر الأول، أما إنسان عين الكون، أما الرجل الذي أصلح الله به الأمة، فلا كلام، ولا ترجمة!! فبماذا يعتذر هؤلاء أمامه - عليه الصلاة والسلام - غداً.
ولا يفهم فاهم، أو يزعم زاعم؛ أني أريد أن ننشئ له عيد هجرة، فالإسلام لا يقر هذا، ولا عيد ميلاد، فالإسلام لا يؤمن بهذا، ولا أن نجتمع في زوايا، وفي خلايا، وفي جوانب، لنرقص كما يرقص المخذولون المتهوكون، بالنشيد والتصفيق، فتحيته ليست هكذا. تحيته؛ أن نطهر بلاده مما طهرها هو، فتكون بلاداً مقدسة، تحيته أن نسير على خطواته، وأن نقتفي منهجه، وأن نضحي لمبدئه، أعظم مما يضحي الثوريون العرب، والماركسيون العرب، والاشتراكيون العرب، للأقزام الملاعين، وللنخبة المخذولين، وللأصنام المبعدين.
تحيتنا له؛ أن نقف مع سنته، وننشرها في الأرض: (بلغوا عني ولو آية)7
(نضر الله امرئً سمع مني مقالة، فوعاها، فأداهما كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع)8 إن عالَم البادية، الذي كان يسجد للحجر ويجمع التمر على صورة صنم، ويصلي له، ويأتي إلى الوثن الذي تبول عليه الكلاب والثعالب، ويدعوه أن يشفي مريضه لهو عالَم ضال.
رب يبول الثعلبان برأسه *** قد ضل من بالت عليه الثعالب
فمن الذي حرر البشرية من هذا؟ إنه محمد - عليه الصلاة والسلام - ؟ وإن العجب العجاب، أن تحتفل جهات متعددة بنظافة البيئة، محاضرة في نظافة البيئة، ومحاضرة في فن السياحة، ومحاضرة في أدب الاصطياف، ولم يبق إلا محاضرة رابعة في بيطرة البقر، وما هو علاج البقر، ومن هم الأبطال الذين يعالجون الأبقار من أمراضها.
علي نحت القوافي من معادنها *** وما علي إذا لم تفهم البقر
لماذا لم تعد محاضرة بعنوان: أثر رسالته عليه الصلاة والسلام على العالم؟ لماذا لا يأتي هؤلاء المحللون والمنظرون بمحاضرة عن: ((الإسلام وحاجة العالم إليه))، ((نحن والقرآن))، ((ماذا قدمنا للعالم))، ((أثر لا إله إلا الله في حياة الإنسان)) أما هذه المحاضرات التي شبع منها الناس، ومجتها الآذان، وأصبحنا نصاب بغثيان من سماعها وتردادها، فوالله إنها شغل للأقوات، وإنها تسويد للصحف، وإنها مجٌ للأسماع، ورداءة على القلوب.
هذا هو المهاجر الأول، هذا هو الداعية المطارد من أجل مبدئه، وهذه الصحف، وهذه الأقلام، ولكم أن تحكموا: {بل الإنسان على نفسه بصيرة * ولو ألقى معاذيره} القيامة:14-15. {يا أيها الإنسان ما غرّك بربك الكريم * الذي خلقك فسوّاك فعدلك} الانفطار:6-7.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وحجة الله على الهالكين، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أيها المسلمون:
في مثل هذا الشهر، طورد داعية أول، أخٌ له عليه الصلاة والسلام، نهجهُ نهجه، ومسيرته مسيرته، ودعوته دعوته، إنه موسى عليه السلام: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين وكفى بربك هادياً ونصيراً} الفرقان:31 .
لا يبعث نبي، إلا وقد هيأ الله طاغية هناك يتربص به، ولا يحمل رائد من رواد الدعوة مبدأ، إلا ويتهيأ له ظالم يرصده، سنة الله، ولن تجد لسنة الله تبديلاً، ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض، في هذا الشهر خرج موسى مطروداً من مصر، يطارده فرعون المجرم؛ بستمائة ألف مقاتل: فاستخف قومه فأطاعوه الزخرف:54 .
قطيع الضأن، الشعوب التي لا تفهم إلا الخبز، ولا تفهم إلا الأكل، ولا تفهم إلا ثقافة القِدْر والجيب والبطن، تصفق للطاغية، وتحثوا على رأس الداعية، الشعوب المهلهلة، المهترية، المتهالكة من داخل، طاردت موسى، يريدون قتله؛ لأنه يريد أن يحررهم، ويقولون: لا، يريد أن يخرجهم من الظلمات إلى النور، ويقولون: لا، يريد أن يرفع رؤوسهم، ويقولون: لا، اصطدم بالبحر، الجيش وراءه والموت والبحر أمامه، إلى أين يا رب؟ إلى الله. التفت موسى ودعا، والله قريب : {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي} البقرة:186 . بنو إسرائيل ولولوا، الخونة خافوا، الجبناء ارتعدوا، انهارت حوله الكتائب، يا موسى: {إنا لمدركون} الشعراء:61 . يتبسم موسى؛ كما تبسم محمد - صلى الله عليه وسلم- في الغار : {كلا إن معي ربي سيهدين} الشعراء:62 . قالوا له كما ذكر بعض أهل السير: أين يهديك وفرعون خلفك، والبحر أمامك؟! هذه ورطة لا حل لها، هذا مضيق لا مخرج منه في عرف البشر، {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} (62) سورة الشعراء ويتلقى الأمر في الحال، لا تتأخر اضرب بعصاك البحر، بسم الله، ضرب البحر، انفجر البحر، انفلق، ظهر لهم طريق، مشى موسى، ومشى بنو إسرائيل، وأتى المجرم يريد أن يجرب آخر جولة له في عالم الضياع، وفي مصارع الطغاة، والطغاة لهم مصارع؛ إما أن تلعنهم القلوب، وهم يسيرون على الأرض، وهذا مصرع، وإما أن يّشدخون كما شدخ هذا، وهذا مصرع، إما أن يدّخر الله لهم ناراً، وهذا مصرع.
ووصل فرعون وجنوده، ونجي موسى، وقال الله للبحر اجتمع فاجتمع، وكانت نهاية المجرم، دخل الطين في فمه، فلما أصبح في وقت ضائع قال: {آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين} يونس:90. فيقول الله: {آلآن} يونس:91.
في هذه اللحظة أيها المجرم الخسيس!! بعد أن فعلت من الأفاعيل ما تشيب له الرؤوس، لا، ونجى الله موسى.
والحدث أن الرسول - عليه الصلاة والسلام - يشارك أخاه في فرحة الفلاح والانتصار، ويشارك زميله في هذا اليوم الأغر، يوم عاشوراء، ولذلك تضامن معه، وتكاتف هو وإياه.
وجد بني إسرائيل، اليهود الخونة الجبناء، في خيبر والمدينة، يصومون عاشوراء، قال: (ما هذا اليوم قالوا يوم نجى الله فيه موسى قال: نحن أولى بموسى منكم)9 موسى قريبنا، موسى حبيبنا، نحن حملة منهج موسى، لا أنتم يا خونة العالم، ويا حثالة التاريخ، ويا أبناء القردة والخنازير، فصامه وقال عليه الصلاة والسلام عن هذا اليوم، كما في صحيح مسلم: (إني أرجو من الله أن يكفر السنة الماضية)10
ومن السنة أن تصوم يوماً قبله، أو يوماً بعده؛ اليوم التاسع والعاشر من هذا الشهر، أو اليوم العاشر والحادي عشر من هذا الشهر، يقول عليه الصلاة والسلام: (لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع والعاشر)11 فشكر الله لموسى دعوته ومنهجه وبذله وتضحيته، وشكر الله لمحمد - عليه الصلاة والسلام -، بذله وشجاعته وتضحيته من أجل هذه الأمة، وشكر الله لكل من سار على منهجه - عليه الصلاة والسلام -، وضحى من أجل مبادئه، وبذل من أجل دعوته، وساهم في رفع رسالته.
أسأل الله أن يجمعنا بمحمد - عليه الصلاة والسلام -، وبإبراهيم وبموسى وعيسى، وبالأخيار الطيبين، وبالشهداء الصالحين، وبالأبرار الصديقين، وبالشجعان الباذلين، في مقعد صدق عند رب العالمين.
أيها الناس:
صلوا على الداعية المطارد، والمهاجر الأول، والرسول الأعظم، والهمام الإمام، - عليه أفضل الصلاة والسلام -، ؛ ما ترقرق الغمام، وما جنح الظلام، وما أفشي السلام، وما كان في قلوبنا وفي أذهاننا إمام، ، ما فاحت الأزهار، وما تمايلت الأشجار، وما تدفقت الأنهار، وما كور النهار في الليل والليل في النهار، ، ما تألقت عين لنظر، وما تحرقت أذن لخبر، وما هتف ورقٌ على شجر، وعلى آله وصحبه.
اللهم انصر دينك، ومنهجك، اللهم اجعله عاماً مباركاً، عاماً ينتصر فيه الدين، وترتفع فيه إياك نعبد وإياك نستعين.
وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً} الأحزاب:56.
ويقول عليه الصلاة والسلام: (من صلى علي صلاة، صلى الله عليه بها عشراً)12
اللهم صل على نبيك وحبيبك محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين.
المصدر:
http://alminbar.al-islam.com/Default.aspx?ActionSpeachDetails&mediaItURL3336&subsubID
___________________
1 - أخرجه البخاري (7/175).
2 - أخرجه البخاري (4/190).
3 - أخرجه البخاري (4/190).
4 - أخرجه البخاري (1/14) ، ومسلم (2/16) ، رقم (1876).
5 - أخرجه الترمذي (5/679) رقم (3925) وقال: حسن غريب صحيح ، ورقم (3926) وقال: حسن غريب من هذا الوجه. وابن ماجه (2/1037) رقم (3108) ، والدارمي (2/311) رقم (2510).
6 - أخرجه البخاري (1/131 ، 132) ومسلم (3/1418) رقم (1794).
7 - أخرجه البخاري (4/145).
8 - أخرجه أبو داود (3/322) رقم (3660) ، والترمذي (5/33) رقم (2656) وقال : حديث حسن ، ورقم (2657) وقال : حسن صحيح رقم (2658) ، وابن ماجه (1/85). رقم (231 ، 232) وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (6763 - 6766).
9 - أخرجه البخاري (2/251).
10 - أخرجه مسلم (2/819) رقم (1162).
11 - أخرجه مسلم (2/798) رقم (1134).
12 - أخرجه مسلم (1/288) رقم (384).
ــــــــــــ(1/15)
(1/16)
الدروس المستفادة من الهجرة النبوية
مقدم الحلقة: ماهر عبد الله رحمه الله
ضيف الحلقة: الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي: داعية إسلامي كبير
تاريخ الحلقة: 17/03/2002
- الهجرة والأخذ بالأسباب والسنن الكونية
- أهمية التخطيط في العمل الإسلامي وعدم الارتجال
- كيفية تقديم الإسلام للآخرين أخذاً بالأسباب
يوسف القرضاوي
ماهر عبد الله
ماهر عبد الله: سلام من الله عليكم، وأهلاً ومرحباً بكم في حلقة جديدة من برنامج (الشريعة والحياة).
نعود في هذا الأسبوع للحديث عن موضوع الهجرة بمناسبة انتهاء عام هجري وبداية عام هجري.. عام هجري جديد. نستغل هذه الفرصة ونقول.. نتمنى أن يعود علينا مثل هذه المناسبة ومثل هذا اليوم وأحوال الأمة أحسن -ولو قليلاً- مما هي عليه هذا اليوم، لمناقشة الموضوع يسعدني أن يكون معي فضيلة العلامة الدكتور يوسف القرضاوي، سيدي أهلاً وسهلاً بك مجدداً.
د. يوسف القرضاوي: مرحباً بك يا أخ ماهر، وبارك الله فيك.
ماهر عبد الله: يعني.. ستلاحظون أن فضيلة الدكتور قليلاً يعني صوته متوعك.
د. يوسف القرضاوي: نحمد الله.
ماهر عبد الله: فنرجو أن يرحمونا بالأسئلة لاحقاً. سيدي، هل ما يميز الهجرة أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- يعني اختصارها عندما قال: لقد أخرجوني.. "إنك لأحب أرض الله إلي.. ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت".. يعني كانت تضحية كبيرة أن يترك الإنسان بلده من أجل البحث عن حياة أريح في.. في مكان آخر، وكانت أيضاً يعني جزء من عمليته -صلى الله عليه وسلم- وأنه يعني بشر بكل ما في الكلمة من معنى عندما تضيق عليه بلاد يذهب للبحث عن بلاد أخرى، لو.. لو ابتدأنا بهذه القيمة التعويل على السنن والأسباب وعدم التعويل على معجزات، على كرامات في حياته صلى الله عليه وسلم.
د. يوسف القرضاوي: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا وإمامنا وأسوتنا وحبيبنا ومعلمنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه، قبل أن أجيب عن سؤالك يا أخ ماهر، أود أن أقول كلمتين، الكلمة الأولى: كلمة تهنئة للمسلمين في أنحاء العالم بهذا العام الهجري الجديد، بعد عام حافل بالأحداث والمآسي للأمة الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها، وحافل أيضاً بالبطولات والروائع في نفس الوقت، وكل ما ندعو الله -تبارك وتعالى- به أن يجعل العام الجديد عام خير وبركة وفتح للأمة الإسلامية.. وأن يجعل يومها خيراً من أمسها ويجعل غدها خيراً من يومها، هذه هي الكلمة الأولى.
الكلمة الثانية: هي كلمة عزاء، فقد جرت عادتنا في هذا البرنامج أن نودع العلماء الكبار الذين يرحلون عن عالمنا هذا ويفارقونا إلى العالم الآخر، وفي الأسبوع الماضي ودَّع إخواننا في سوريا الشقيقة وفي حلب الشهباء أحد العلماء الكبار الربانيين الذين عاشوا للعلم وللدين وللدعوة وللتربية وهو الشيخ عبد الله سراج الدين، نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يتغمده برحمته وأن يسكنه الفردوس الأعلى، الشيخ عبد الله سراج الدين رجل علم ودين وهو وارث العلم عن.. عن أبيه وهو من أقران أخينا وصديقنا الحبيب -رحمة الله عليه- الشيخ العلامة المحدث عبد الفتاح أبو غدة، وهذا الرجل كان من علماء الحديث ومن علماء الفقه، ومن الدعاة والمربين حتى قالوا إنه كان يحفظ كتاب "تيسير الوصول إلى أحاديث الرسول" يحفظه برواياته وألفاظه ويذاكره مع تلاميذه.
لم أسعد باللقاء مع الشيخ عبد الله سراج الدين، ولكني عرفته من مريديه ومن تلاميذه الذين حكوا لي عنه حكايات كثيرة، ومنهم الأخ العزيز الحبيب العالم الباحث الداعية الشيخ مجد مكي.
والشيخ عبد الله سراج الدين هو خال أخينا وصديقنا العالم الباحث الجليل أستاذ التفسير والحديث الأستاذ الدكتور نور الدين عتر وهو أستاذ الأخ العالم الباحث الشيخ محمد عوامة، فهذا الرجل ودَّعه إخواننا في مدينة حلب الشهباء، فنحن نعزيهم ونعزي أنفسنا معهم، ونحن الآن في هذه الأيام يرحل الكثير من العلماء الكبار عن هذه الأمة ونسأل الله تعالى أن يعوضهم خيراً حتى لا يحدث ما نبأ به الرسول الكريم: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبقى عالم اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا" نسأل الله ألا نصل إلى هذه الحالة وأن يعوضنا عن العلماء الذين نفقدهم خيراً.. اللهم آمين، هذه هي الكلمة الثانية.
الهجرة والأخذ بالأسباب والسنن الكونية
ماهر عبد الله: سيدي، كنت سألتك عن أهمية موضوع الهجرة فيما يتعلق بحرص الرسول -صلى الله عليه وسلم- على الأخذ بالأسباب، ويعني متابعة سنن الكون بدل التعويل على المعجزات والكرامات، كيف شاركت الهجرة في.. في تبيان هذا؟
د. يوسف القرضاوي: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا يعني يتجلى لنا في مواقف كثيرة في الهجرة.
أولاً: كان الله -سبحانه وتعالى- قادراً على أن يهاجر برسوله عن طريق معجز كما أسرى به بطريق معجز، نحن نعلم أن الله -سبحانه وتعالى- أسرى برسوله من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم عرج به من المسجد الأقصى إلى السموات العلى إلى سدرة المنتهى، كل هذا في ليلة واحدة أو بعض ليلة.. جزء من ليلة.. قالوا عاد وفراشه لازال دافئاً، فلماذا لم يفعل الله تعالى ذلك برسوله، بدل هذه المعاناة، كان يجيب له براق يركبه، وبدل ما يتعرض من الدخول في الغار، والتعرض للذين يحاولون أن يأخذوه في الطريق، ويتعرض للمضايقات، وللاغتيالات ولهذه الأشياء كلها، كان ببراق يعني سهل أن ينتقل كما انتقل.. وأعتقد إن يعني المسافة من مكة إلى المدينة أقصر بكثير من المسافة من مكة إلى بيت المقدس، ولكن الله -سبحانه وتعالى- أراد برسوله أن يعاني ما يعانيه الناس، وأن يمضي حسب السنن السائدة في هذا الكون وفي هذا المجتمع ولا يخرج عن هذه السنن، ومن هنا وجدنا النبي -عليه الصلاة والسلام- يعني حتى قبل الهجرة.. الرسول -عليه الصلاة والسلام- بدأ يفكر في البدائل المختلفة، يعني هو دعا قومه من قريش، أهل مكة، استجاب له القليل والأقل من القليل.. والأكثرون أعرضوا عنه لأسباب شتى، بعضها يعني التقليد الأعمى، (إنا وجدنا آباءنا على أمه وإنَّا على آثارهم مقتدون)، وبعضهم الكبرياء يعني (لولا نُزِّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) ما تلاقيش إلا محمد اليتيم الفقير الكذا، وبعضهم حسب إن بني هاشم اللي يأخذوا السقايا والكذا والكذا، في الجاهلية وبعدين يجوا كمان يقولوا فينا نبي، كما قال ذلك أبو جهل، بنو مخزوم يقول لك تنازعنا نحن وبنو هاشم الشرف فأطعموا وأطعمنا.. وسقوا وسقينا وبعدين يجوا يقولوا منا نبي، فهذا الذي لا نستطيع، هناك أسباب شتى جعلتهم يقفون ضد دعوة محمد صلى الله عليه وسلم، الرسول -عليه الصلاة والسلام- حينما وجد هذا الإعراض ماذا فعل؟ بيفكر.. التفكير البشري المعتاد ما هي البدائل؟ من البدائل مثلاً إنه ذهب إلى الطائف حيث هناك قبيلة ثقيف وعرض عليهم الإسلام وللأسف يعني قابلوه بأسوأ مقابلة وعاملوه أسوأ معاملة، ولم يجد منهم أي استجابة، وكان من البدائل المعروضة أمامه أن يعرض دعوته على القبائل، مكة تمتاز بأنها موسم للحجيج ويجتمع فيها العرب في كل عام من.. من أنحاء الجزيرة العربية، فهي فرصة يعني لا تعوض بالنسبة لصاحب الدعوة، لذلك النبي -عليه الصلاة والسلام- كان يذهب إلى القبائل المختلفة ويعرض عليهم دعوته ويطلب منهم نصرته، من ينصره ويأخذ بيده ويشد أزره، فبعض القبائل كانوا يردونه رداً حسناً وبعضهم يشترط عليه شروطاً يقول طيب لما ننصرك هل يبقى لينا الأمر من بعدك؟ يبقى إحنا الحكام من بعدك؟ يعني فعايزين مقابل دنيوي، فكان النبي -عليه الصلاة والسلام- يرفض أي اشتراط من هذا النوع، وكان يعني النبي -عليه الصلاة والسلام- يعني حريص إلى أن هيأ الله له الأسباب، برضو أسباب طبيعية.. إنه بعض الناس الذين عرض عليهم هذا وكانوا من الخزرج، ستة من الخزرج جاءوا من يثرب، فحينما عرض عليهم الدعوة تفتحت آذانهم وقلوبهم وعقولهم لهذه الدعوة، وأقبلوا عليها ودخلوا في الإسلام، خصوصاً هيأهم لهذا الاستقبال للدعوة إنهم كانوا يسمعون من اليهود جيرانهم في يثرب أن نبياً قد قرب زمانه وأوشك أن.. أن يظهر وكانوا يعني يخوفونهم بهذا النبي ويقولوا لهم سنتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم فهما قالوا والله دا يمكن هذا هو اللي كان يحذرنا منه اليهود.. ويخوفنا به اليهود، ففتح الله قلوبهم وشرح صدورهم ودخلوا في.. وبعدين هؤلاء الستة جاءوا في العام المقبل بعدد أكبر وبايعهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بيعة العقبة الأولى.. العقبة اللي هي القريبة من مكة اللي فيها الرمي الآن، وفي السنة الثانية بايعهم بيعة العقبة الثانية، وكانت بيعة على أن يهاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- إليهم وأن يمنعوه مما يمنعوا منه ذراريهم ونسائهم وأولادهم، يعني حماية كاملة وحضر العباس بن عبد المطلب عم النبي -عليه الصلاة والسلام- وأخبرهم إن محمد في عزة ومنعة من قومه، إذا كنتم أهل لهذا وبتاع، فقالوا والله إحنا مستعدين نحارب الأحمر والأسود، المهم كانت هذه الخطوات التي تمت قبل الهجرة.
ماهر عبد الله: اسمح لي، استوقفك عند مسألة العباس -رضي الله تعالى عنه- يعني لماذا اختار رجلاً كافراً لصحبه في هذه البيعة على سريتها، على خطورتها على تعلق مستقبل الإسلام بها؟
د. يوسف القرضاوي: لأن بني هاشم رغم إنهم لم يؤمنوا كانوا يعني يعتقدون إن حماية محمد -صلى الله عليه وسلم- من واجبهم، ولذلك دخلوا معه الشِعْب.. شِعْب بني طالب وظلوا ثلاث سنوات محاصرين.. أكلوا أوراق الشجر حتى دميت أشداقهم وجرحت أفواههم.. قوطعوا اقتصادياً وقوطعوا اجتماعياً، دخل مسلمهم وكافرهم.. بنو هاشم وبنو المطلب.. وقالوا لم نفترق في جاهلية ولا إسلام من بني عبد مناف، ولذلك ربنا -سبحانه وتعالى- اختار العرب لهذه العصبية، لأن العصبية دية كانت تمثل حماية لمحمد في فترة الدعوة الأولى، فأراد العباس رغم إنه لم يسلم.. وبعضهم يقول إنه أسلم مبكراً، ولكنه الظاهر أنه لم يسلم، وهذا أيضاً يعني من.. من يعني تدبير الله تبارك وتعالى، إنه أعمام النبي عليه الصلاة والسلام أبو طالب والعباس لم يسلما حتى لا يقال.. أسلم فقط حمزة، فلذلك يعني أراد العباس أن يستوثق لإبن أخيه، لأنه معتبر إنه هي مسؤولية بني هاشم، هذا من صنع الله -سبحانه وتعالى- لهذه الدعوة.
ماهر عبد الله: أنا سألتك لأنه يعني يدور كثير خصوصاً هذه الأيام بعد إشكالات الحادي عشر من سبتمبر يعني قضية الولاء والبراء، ويجب أن لا يُستعان بكافر، وأنه الكافر كأنه من ملة أخرى يعني، كيف توفق بين هذه القصة حقيقة يعتمد على عمه من نسبه، من دمه مقابل..
د. يوسف القرضاوي: لأ، هو الاستعانة بكافر.. يعني أمر فيه خلاف بين الفقهاء الاستعانة بهم في الحرب والجهاد، ولكن استعانة بكافر في الأمور الفنية.. هذا لا مانع حتى هو.. سنأتي إن في.. في الهجرة نفسها كان الدليل الذي يدل النبي -صلى الله عليه وسلم- على الطرق، أنت تعرف إنه فيه طرق معروفة يسلكها الناس.. وفيه الخبراء بالطرق يعرفون الطرق التي لا يسلكها الكثيرون والتي يمكن أن تخفى على الكثيرين، فاستأجر رجلاً خبيراً يقولون العرب عنه: (خرير)، يعني هو عبد الله بن أريقط وكان مشركاً، ولكنه مشرك مأمون، ولذلك العلماء قالوا: لا مانع أن نستخدم المشركين وغير المسلمين المأمونين في الأمور الفنية وكذا ماداموا تحت سطوتنا، يعني مادمنا إحنا اللي بنأمرهم وبننهاهم وبيشتغلوا.. بيشتغلوا لحسابنا إحنا، ومادمنا مستأمنينهم ومأمونين عندنا فلا مانع من.. إنما هو المشكل وحتى يعني في الحرب النبي -عليه الصلاة والسلام- استعان ببعض المشركين في حرب الطائف وحنين، صفوان بن أمية وغيره، فلأنه عارف إنه هؤلاء كانوا مخلصين له من ناحية العصبية، قال صفوان بن أمية لأن يربني رجل من قريش خير من أن يربني رجل من هوازن، يعني قال لك محمد ده مهما كان من قريش أن يسودني واحد من قريش أحسن ما يسودني واحد.. فهناك اعتبارات تجعلك تأمن للشخص حتى، ولكن المفروض إن يكون أنت المسيطر.. مش تشتغل أنت لحسابه ويبقى هو اللي بيأمرك.. وهو اللي بيجعلك، وأنت يعني نفر بتشتغل عنده، هذا شيء آخر.
ماهر عبد الله: طيب، كيف تجمع بين هذا وبين عقيدة الولاء والبراء؟
د. يوسف القرضاوي: دي مالهاش دعوة بالولاء والبراء.
ماهر عبد الله: يثور الآن جدل أنه يجب أن لا نتصل بأي غير مسلم.
د. يوسف القرضاوي: لأ.. ليس الولاء.. ليس معنى الولاء أنك لا تتصل بأي إنسان كان، هذا لم يقل أحد الولاء بهذا قط.. لأنه الرسول -عليه الصلاة والسلام- حينما ذهب إلى المدينة أول ما عمل.. عمل أيه؟ عمل اتفاقية أو معاهدة مع.. مع اليهود، يهود المدينة اللي هم كانوا ثلاث قبائل بني قينقاع وبني قريظة وبني النضير عقد معاهم معاهدة معروفة وكتب الصحيفة المعروفة، هل ده ينافي الولاء؟ لأ، هذا ما.. الولاء شيء إنك.. الولاء أن تضمر لهم المودة وتنتصر لهم لكفرهم، إنما أن تعاشرهم بالمعروف، أن توفِّي لهم بما عاهدتهم عليه، هذا ليس من الولاء في شيء.
أهمية التخطيط في العمل الإسلامي وعدم الارتجال
ماهر عبد الله: في.. في.. في جانب تحدث عن إنه زار عرض على بني ثقيف وعرض على أمم أخرى وطلب من جزء من الصحابة.. بعض الصحابة أن يهاجر إلى.. إلى الحبشة، أهمية التخطيط في أي عمل إسلامي، يعني أليس هذا مؤشراً على أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يرتجل مثل هذه المواقف؟
د. يوسف القرضاوي: لا.. لا.. لأ بالعكس، كان عمله -عليه الصلاة والسلام- كله مرتباً.. مخططاً، حتى قضية الهجرة إلى.. إلى الحبشة هذه لم تكن اعتباطاً.. إنه يعني اختار المكان المناسب جغرافياً والمناسب دينياً، والمناسب سياسياً.
المناسب جغرافياً بحيث لم يختر مكاناً بعيداً يذهب إليه المسلمون فيهلكوا في الطريق، في الصين أو في الهند أو.. لأ، مكان قريب، بس يعدي البحر يوصل هناك، فهو مناسب جغرافياً.
ومناسب دينياً، لأن الحبشة كانوا أهل كتاب وكانوا من النصارى الذين هم أقرب مودة للمسلمين.
وهو مناسب سياسياً، لأن الرسول قال: "اذهبوا إلى الحبشة فإن بها ملكاً أرجو أن لا تظلموا عنده" ومعنى هذا إنه كان عنده معلومات إنه هذا الملك لا يُظلم أحد يعني عنده، وهذا أمر مهم جداً يكون عندك يعني معلومات كافية حتى تستطيع ترتب أمورك بناء على هذه المعلومات، الآن في عصرنا بنقول عصر الإحصاء والأرقام، فلهذا اختار.. وكانت فعلاً كما يعني.
ماهر عبد الله: وصف..
د. يوسف القرضاوي: قدر النبي -عليه الصلاة والسلام- حتى إن قريشاً حينما أرسلت عمرو بن العاص ومعه الآخر يحاولون أن يرشوا هذا الملك ويسلمهم المهاجرين رفض الرجل، فكان رجلاً عادلاً وكان عند حسن الظن، ومع هذا لم يهاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الحبشة مع أصحابه.
ماهر عبد الله: سيدي، يعني قبل أن ننهي موضوع التخطيط، ذكرت في معرض الجواب على السؤال الأخير أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يعلم ما الذي يجري في الحبشة، كان اختيار جغرافي، كان يعلم عن طبيعة الحاكم، وعن طبيعة نظام الحكم، هذه المعلومات هل كانت معلومات توقيفية جاءته من جبريل بالوحي، أم أنه سعى لها؟ لأننا نلاحظ الكثير من المسلمين وخصوصاً الإسلاميين يتحدثون عن المعركة مع هذه الدولة وتغيير العالم وسيادة العالم وهم لا يعلمون عنهم شيئاً، كيف يمكن أن نتحرك، أن تغير أوضاعاً وأنت لا تعلم لا عن عدوك ولا حتى عن نفسك في بعض الحالات؟
د. يوسف القرضاوي: بسم الله الرحمن الرحيم، لاشك أن أي تخطيط لابد أن يكون مبنياً على معلومات، وهذه المعلومات يجمعها الإنسان بوسائله الخاصة، ليس معقولاً أن يكون كل شيء بوحي، بعض الناس يظنون كأنه محمد -عليه الصلاة والسلام- كان عبارة عن آلة يحركها الوحي، لأ، أمَّال لماذا يختار الله الأنبياء من أذكى الناس عقولاً وأزكى الناس أنفساً وأقوى الناس شخصية؟ لأنهم يستطيعوا أن يدبروا الأمور بعقولهم، وبعدين في اللحظة الحاسمة يأتي الوحي، الرسول هو بوسائله الخاصة كون فكرة عن الحبشة من الناس الذين يذهبون من قريش، كان بين العرب والحبشة يعني اتصالات من.. من قديم، حتى إن الحبشة أرادت تهدم الكعبة حتى ينصرف الناس وتعمل كعبة عندها، يعني فيه صلات قديمة أحياناً صلات عدائية وأحياناً صلات وفاقية، فأي تخطيط لابد أن يكون مبنياً على..، مشكلتنا في عصرنا هذه إنه خصومنا وأعداءنا يعرفون عنا كل شيء، كشفونا حتى النخاع، ونحن لا نكاد نعلم عنهم شيئاً، وهذا أمر في غاية الخطورة، من يريد أن يحارب عدواً فلابد أن يعرف عن عدوه كل شيء عن هذا العدو، وهذا ولذلك تجد في الحروب النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يبعث إلى أناس يسمونهم العيون، عيون له يعرفون عن الأعداء وكان يعرف خطط الأعداء، يعني غزوة تبوك كان سبق من الرسول -عليه الصلاة والسلام- لأنه عرف أن الروم يريدون أن يغزوه في بلده، فبدأ هو وأيه؟ وقال نغزوهم قبل أن.. أن يغزونا.
في قصة.. قصة الهجرة تجد فيها التخطيط واضحاً جداً، النبي -عليه الصلاة والسلام- حينما أذن الله له بالهجرة وبدأ يفكر في الانتقال إلى هذه الأرض الجديدة والقاعدة الجديدة التي تتكون فيها دار للإسلام وأرض للإسلام حرة للإسلام، فبدأ يفكر.. يفكر من سيكون رفيقه؟ فاختار أبا بكر الصدِّيق القديم، أول رجل آمن في الإسلام، من يهديه الطريق.. الدليل، اختار عبد الله بن أيه.. ابن أريقط.. من يبيت في موقعه ليلة خروجه؟ علي بن أبي طالب، لابد أن يختبئ عدة أيام قبل أن.. أن يغادر مكة، فاختار غار ثور، واختار غار ثور في جنوب مكة، تعرف إن المدينة في الشمال، واختار الغار في جنوب مكة، تعرف إن المدينة في الشمال، واختار الغار في الجنوب لأن هم لما يجوا يبحثوا هيبحثوا.. ما هم عارفين إنه رايح لإنه الصحابة كانوا بدؤوا هاجروا، يعني.. تقريباً كل الصحابة هاجروا ما عدا علي وصهيب وكم واحد يعني، فهو سيذهب إلى البلد اللي هاجر أصحابه إليها، فتتجه أبصارهم إلى أن يبحثوا في المغارات التي هي في طريق المدينة هؤلاء، فاختار هو غاراً في غير طريق المدينة، غار ثور، طيب سيبقى عدة أيام في هذا الغار، محتاج إلى من يأتيه بالطعام، وليس الطعام فقط، والأخبار، لابد أن يعرف ماذا يحدث؟ فاختار يعني من يأتي له، لم يختر رجلاً وإنما اختار امرأة.. أسماء بنت أبي بكر، لأنه لو اختار واحد من أصحابه ممكن العيون تكون عليه.. إنما اختار امرأة، لا يتصور أحد إن امرأة تصعد هذا الغار ثور.. غار ثور، صعده بعض الشباب فلهثوا من.. من شدة التعب، فكيف بهذه الفتاة تصعد كل يوم؟! يعني.. طيب وبعدين وهي بتذهب ممكن آثار أقدامها تظهر، فرتب عامر بن فهيرة الذي كان راعياً عند أبي بكر فيذهب بغنمه بعد أن تذهب أسماء ليعفِّي على آثارها، يعني شيء مرتب وكل واحد وُضع في الموضع المناسب له، يعني موضع أسماء لا ينفع فيها علي بن أبي طالب، وعلي بن أبي طالب ماينفعش يكون فيه أسماء، وهكذا..
فهذا هو الترتيب والتخطيط الذي فعله النبي عليه الصلاة والسلام، يعني وضع لكل شيء.. أعدَّ لكل شيء عدته.
ومع هذا هناك أشياء تأتي وليست في الحسبان.
وهنا يأتي دور التوكل، يعني مع كل هذا الترتيب والتدبير استطاع المشركون أن يصلوا إلى الغار، والرسول -عليه الصلاة والسلام- وأبو بكر في قلب الغار وأبو بكر في غاية الإشفاق، لا يشفق على نفسه ولا يخاف على نفسه وإنما يخاف على رسول الله وعلى مستقبل الدعوة، فلذلك.. يعني قال: "يا رسول الله، والله لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا"، يعني لو واحد كلف خاطره وطأطأ كده.. هيشوفنا، فقال أبو بكر.. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر: "يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما" -تخاف على اثنين ثالثهما الله؟!- "لا تحزن إن الله معنا" فكان في غاية.. هنا يأتي دور التوكل، يعني أخذ بالأسباب وخطط ودبر ورتب، ولكن عندما خلاص تفقد الأسباب ولا يكون لك شيء يأتي دور التوكل، هنا "لا تحزن إن الله معنا" الكلمة هي من معين واحد، سيدنا موسى حينما أقبل فرعون بجنوده، وقال أصحاب موسى (إنا لمدركون) البحر أمامنا وفرعون وجنوده من خلفنا، قال موسى (كلا إن معي ربي سيهدين) فـ (كلا إن معي ربي سيهدين) مثل "لا تحزن إن الله معنا" عندما الإنسان لا يجد الأسباب في صفه، هناك يتوكل على مسبب الأسباب ورب الأرباب وهو الله تبارك وتعالى، وفعلاً كان الأمر، كما قال الله تعالى: (فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا)، ولذلك هناك بعض العلماء المحققين يقولون: إن المسألة لم تكن حماماً ولا عنكبوتاً -كما هو سائد- قصة الحمام لم ترد حتى -كما قال بعض العلماء- ولا حتى في حديث ضعيف، وقصة العنكبوت وردت في حديث ضعَّفه بعض العلماء وحسَّنه بعض العلماء، والبعض يقول: إن ظاهر القرآن.. يقول إن الجنود غير مرئية، (وأيده بجنود لم تروها) والعنكبوت جندي مرئي، لأنه حاجة حسية، فبيقول.. الأوفق بالنص القرآني إنه لم يكن هناك جند من جنود هذه الأرض (أيده الله بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا).
ماهر عبد الله: طيب، اسمح لي أن نعود إلى الإخوة المشاهدين، معذرة الأخ أحمد العنزي من السعودية، معذرة على التأخير أخ أحمد، اتفضل.
أحمد البهنسي: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وكل عام وأنتم بخير.
ماهر عبد الله: عفواً، أخ أحمد البهنسي، تفضل.
أحمد البهنسي: السلام عليكم ورحمة الله.
ماهر عبد الله: عليكم السلام.
د. يوسف القرضاوي: عليكم السلام يا أخي ورحمة الله.
أحمد البهنسي: وكل سنة وأنتم طيبين.
د. يوسف القرضاوي: وأنت بالصحة والسلامة.
أحمد البهنسي: وكل عام وأنتم بخير، وجزاكم الله خير على البرنامج.
ماهر عبد الله: وأنت طيب.
د. يوسف القرضاوي: بارك الله فيك.(1/17)
أحمد البهنسي: فرصة وجود الشيخ القرضاوي في هذه المناسبة الطيبة تشجعني على السؤال على التوازن بين الأخذ بالأسباب في أمتنا الإسلامية والتوكل أو التواكل في أمور مثلاً مثل المشروع الحضاري الإسلامي، كيف نسعى لهذا المشروع الحضاري الإسلامي ونحن مثلاً رابطة العالم الإسلامي التي المفروض أن تجمِّع وتعرض هذا المشروع، رابطة العالم الإسلامي هل.. هل أجاويد.. تركيا الرابطة.. من.. من سيعرض المشروع الإسلامي؟ وأنا لا أحب أن أذكر أسماء، لكن الأمثلة كثيرة، أين من رابطة العالم الإسلامي مَنْ سيعرض المشروع الحضاري الإسلامي؟ النقطة الثانية..
د. يوسف القرضاوي[مقاطعاً]: أنت يا أخي أظنك.. أظنك.. أظن الأخ تقصد مؤتمر العالم.. منظمة المؤتمر الإسلامي؟
أحمد البهنسي: أيوه..
د. يوسف القرضاوي: منظمة المؤتمر الإسلامي، لأن رابطة العالم الإسلامي شيء، ومنظمة المؤتمر الإسلامي..
أحمد البهنسي: هي انبثقت عنه..
د. يوسف القرضاوي: لا.. لا.. لا، رابطة العالم الإسلامي دي أسبق من منظمة.. رابطة العالم الإسلامي دي رابطة شعبية أُقيمت من قديم في المملكة العربية السعودية، إنما منظمة العمل الإسلامي هي منظمة أقامها المسلمون بعد حريق المسجد الأقصى حين اجتمع القادة في المغرب سنة 1969، فأنا أظن إنك تقصد منظمة المؤتمر الإسلامي.
أحمد البهنسي: أيوه، جزاكم الله خير يا شيخ على التوضيح، هذا.. هل إحنا كمسلمين في العالم كيف نقوم بالمشروع الحضاري الإسلامي وكيف نعرضه؟ ومثال آخر على الأخذ بالأسباب في تطبيق الاقتصاد الإسلامي دراساتك دكتور القرضاوي ودراسات الكثيرين في الاقتصاد الإسلامي ومحاولات العمل الإسلامي في البنوك والمصارف الإسلامية في الكويت وغيرها، وفي.. وفي مصر وفي السعودية، هذه المشاريع لما لا تجمَّع مع بعضها أخذاً بالأسباب وتعاوناً وتناصر كي يُطبق هذا كمثل للمشروع الإسلامي؟ في الإعلام مثلاً لما لا تتضافر الجهود وبمجهود مقنع زي حضرتك وزي الإخوة المخلصين الكثيرين في جميع أنحاء العالم لما لا يتضافروا على عمل قناة إعلامية ناطقة باللغة، لأنه (الجزيرة) لم تجب طلبنا من سنين على أن تكون لها ترجمة لكن أن تكون قناة بلغتهم، حتى نعرض فكرنا الإعلامي؟ وجزاكم الله خير يا دكتور يوسف فعلاً كيف نحل هذه المشاكل آخذاً بالأسباب حتى نعرض مشروعنا الحضاري الإسلامي.. اقتصادياً وشورى وإعلام؟
ماهر عبد الله: مشكور يا أخ أحمد، مشكور يا أخ أحمد، معايا الأخ عبد الله بدران من الإمارات، أخ عبد الله اتفضل.
عبد الله بدران: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ماهر عبد الله: وعليكم السلام.
د. يوسف القرضاوي: وعليكم السلام ورحمة الله.
عبد الله بدران: سيدي الشيخ يوسف القرضاوي.
د. يوسف القرضاوي: اتفضل يا أخي.
عبد الله بدران: عندي سؤالين إذا سمحت.
د. يوسف القرضاوي: تفضل.
عبد الله بدران: أولاً: ما رأي فضيلتكم في من لا يؤدي الأمانة لأهلها، وخاصة أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد رد الأمانات إلى أهلها قبل الهجرة وبعدها؟
ثانياً: ما رأي فضيلتكم من الناحية الشرعية والأخلاقية في اتفاقية السلام التي وقعتها مصر والأردن مع العدو الصهيوني قبل أن يردوا الأمانة إلى أهلها، والأمانة هي غزة لدى مصر والضفة الغربية التي كانت أمانة لدى الأردن؟ وجزاكم الله خيراً، والسلام عليكم ورحمة الله.
ماهر عبد الله: الأخ وليد عدنان من لبنان.. طيب .. يبدو أنه فقدنا الصلة بالأخ وليد.
كيفية تقديم الإسلام للآخرين أخذاً بالأسباب
ماهر عبد الله: التي نتمنى أن تنحصر فيها الأسئلة والنقاش حول موضوع الهجرة وكيفية الاستفادة من بعض.. يعني بعض الأحيان أشعر أنا بالتحايل على الموضوع، موضوع الأسباب والتوكل أنا أعتقد يعني خاتمة كلامك، قبل سؤال الأخ أحمد كان هو هذا الموضوع، الجمع بين الأخذ بالأسباب والتوكل، يعني هل.. هل تحب أن تعلق تعليق مختصر على كيفية تقديم الإسلام أخذاً بالأسباب؟
د. يوسف القرضاوي: هو يعني.. لاشك أن المسلمين مقصرون جداً في رعاية السنن، يعني هذه السنن هي القوانين التي أقام الله عليها نظام هذا الوجود، سواء القوانين الكونية أو القوانين الاجتماعية، كما يقول القرآن (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين)، (فلن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً)، (سنة الله في الذين خلوا من قبل)، يعني نستقرأ التاريخ ونستقرأ الواقع لنعرف منه سنن الله، المسلمون للأسف لم يعرفوا السنن، يعني واخدين الأمور يعني سبهللة، ولا يمكن للإنسان أن يستطيع أن يصل إلى النتيجة إلا بمقدمتها الصحيحة، من.. من زرع حصد، ومن زرع الشوك لا يحصد العنب، هذه سنن لابد أن.. أن تُراعى، نحن -للأسف- أجهل الناس بسنن الله، فما يقوله الأخ بصفة عامة هو يدل على أن المسلمين لا يأخذون بالسنن، منظمة المؤتمر الإسلامي التي يقول عنها الأخ هي يعني بتمثل الأمة الإسلامية، في وهن الأمة الإسلامية، في تشرذم الأمة الإسلامية، في تمزق العلاقات بين أبنائها، هي مرآة للأمة.. إذا قويت الأمة قويت هذه المؤسسات من غير شك.
ماهر عبد الله: يعني عندي سؤالين..
د. يوسف القرضاوي: الأخ اللي بعد..
ماهر عبد الله: يعني سؤال كان عن الأمانة خرج عن الموضوع تماماً، إذا حبيت تعلق عليه، موضوع.. كيف.. يعني ما رأيك وما تقول في ما لا يؤدي الأمانة إلى أهلها؟ وما هو موقفك من اتفاقية السلام مع مصر والأردن على اعتبار أنها لم تؤدي إلى أن تعود الأمانة إلى أهلها؟
د. يوسف القرضاوي: والله هو أولاً أنا أحب أقول للأخ أنا ممن يعارضون الاتفاقات الجانبية مع إسرائيل، وهذا رأي معروف لي وكتبت فيه وقلته من.. من.. من قديم، ولازلت أرى إنه إسرائيل لا يمكن أن تُقاوم إلا بعمل جماعي من العرب جميعاً ووراءهم المسلمون، لابد أن يتفق العرب جميعاً ويقفوا وقفة رجل واحد، والصهاينة استطاعوا أن يخرجوا مصر من المعركة ثم يخرجوا الأردن وهي أقرب الناس إلى القضية من المعركة، وهذه سياسة خبيثة ينبغي أن نفطن لها ونحاول أن نبطل مفعولها.
ماهر عبد الله: يعني اسمح لي بس أقرأ الرسالة من الأخ ياسر عز الدين سليم على اعتبار إنه فيها توضيح نحن لم نقل أن هذا ذكرى الهجرة النبوية، نحن نوهنا أن هذا بداية عام هجري جديد، الأخ ياسر يقول، يعني كنا نود أن تضيفوا ملاحظة ثالثة لفاتحة حديثكم وهو أن هذه الأيام ليست أيام ذكرى الهجرة النبوية، لأن الهجرة المباركة حدثت في غرة ربيع الأول، وبلغ الرسول -صلى الله عليه وسلم- يثرب يوم الحادي عشر منه، ولكن هذه الأيام تمثل بداية السنة الهجرية حتى لا يكون خطأً للسامعين، كما كنت أتمنى لو ذكرتم أن شهر محرم هُتكت به كرامة الأمة عندما قُتل سبط رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسبي ذراري الرسول. الحقيقة يعني كوننا نعيش المحرم.
عندي رسالة أخرى من الأخ عباس رضا أيضاً بالفاكس يعني يريد منا التعريج على حادث المحرم ومقتل الإمام الحسين، خصوصاً إنه جزء من ضعف حالة الأمة هذه الأيام هي هذه الصراعات الداخلية، يعني هل.. هل نقف لحظة مع مقتل الإمام؟
د. يوسف القرضاوي: أنا يعني نبهت في أكثر من مرة إلى أن هذا البرنامج هو للأمة الإسلامية كلها وليس لطائفة من الطوائف، لا ينبغي لبعض الإخوة أن يحاول أن يستغل هذا البرنامج لصالح طائفة معينة، نحن نحب آل البيت، ونحب الحسن والحسين ونعتبرهما سيديّ شباب أهل الجنة، ونأسف على ما حدث للحسين -رضي الله عنه- ولكن ليس الحسين أول شهيد في الأمة، استُشهد قبل الحسين أبوه -رضي الله عنه- علي بن أبي طالب، واستشهد قبله عثمان، واستشهد قبله عمر، واستشهد كثير من الأنبياء (ففريقاً كذبتم وفريقاً تقتلون).
ماهر عبد الله[مقاطعاً]: وسيد.. وسيد الشهداء..
د. يوسف القرضاوي: ذُبح السيد الحصور يحيى، ونُشر بالمنشار زكريا، وحدث.. التاريخ مليء يعني بالشهداء، فلماذا الإخوة فقط اهتموا بمقتل الحسين ولم يهتموا بمقتل أبيه ولا بمقتل..؟ نحن نأسف لمقتل الحسين، ولكن لا نقبل أن نجعل شهر المحرم شهر أحزان، ولا نقبل ما يفعله بعض المسلمين ممن يجعلوا يوم عاشوراء يوم عيد عندهم ويُسن فيه الاغتسال والاكتحال وكذا، لا هذا مقبول ولا هذا يعني مقبول، ولا أريد أن أدخل في هذا اللون من الصراع.
ماهر عبد الله: طيب، معايا الأخ علاء الزعتري من فلسطين، أخ علاء اتفضل.
علاء الزعتري: آلو، السلام عليكم.
ماهر عبد الله: عليكم السلام.
د. يوسف القرضاوي: عليكم السلام ورحمة الله.
علاء الزعتري: تحياتي لك أخي ماهر وللشيخ القرضاوي.
د. يوسف القرضاوي: حياكم الله يا أخي.
علاء الزعتري: الله يحييك، أنا إلي والله لو سمحت سؤالين.
د. يوسف القرضاوي: تفضل.
علاء الزعتري: السؤال الأول يتعلق بالطريق اللي سار فيه الرسول -عليه الصلاة والسلام- حين وصل إلى المدينة وأقام دولة الإسلام، هذا الطريق اللي سار فيه الرسول -عليه الصلاة والسلام- والذي الرسول.. نحن يجب علينا الالتزام بطريقه، والتأسي به، أليس واجباً علينا وعلى العاملين في هذه الأوقات التأسي بالرسول للوصول إلى دولة الإسلام؟ هذا السؤال الأول.
أما السؤال الثاني: فإنني أوجهه إلى فضيلة القرضاوي.. الشيخ القرضاوي: لماذا الشيخ القرضاوي في هذا الظرف الذي يتعرض فيه أهل فلسطين، للقتل وللتدمير -طبعاً في فلسطين وفي غير فلسطين من بلاد المسلمين- لماذا لا يقوم فضيلة القرضاوي بالتوجه إلى قواد الجيوش في العالم الإسلامي لتتحرك نحو تحرير فلسطين وقلع الأنظمة التي لا تحكم بالإسلام والتي هي حائل لعودة الإسلام إلى الوجود وبين تحرير فلسطين من دنس الكافرين؟ وبارك الله فيكم.
ماهر عبد الله: مشكور جداً يا أخ علاء، يعني نتمنى لو كان الشيخ يستطيع أن يفعل أكثر من.. من مثل ما يفعل، لكن ستسمع منه تعليق، معايا الأخ خالد صلاح الدين من اليمن، أخ خالد اتفضل، عفواً خالد صلاح.
خالد صلاح: السلام عليكم ورحمة الله.
ماهر عبد الله: اتفضل يا أخ خالد.
خالد صلاح: السلام عليكم.
د. يوسف القرضاوي: عليكم السلام ورحمة الله يا أخي.
خالد صلاح: عفواً يا شيخنا الكريم، بس أنا بدي أعرف ما هو حكم الشرع في الاحتفال بيوم السنة الهجرية؟ وأيضاً يوم مولد الرسول صلى الله عليه وسلم، يوم الإسراء والمعراج، ما هو الحكم الشرعي في ذلك؟ هذا هو الجائز أم هذا ابتداع وهو لا يجوز؟
الأمر الآخر هو ما يختص في يوم عاشوراء وما إلى ذلك، في إخواننا الشيعة في O.K، نحن كلنا، نعم نأسف لموت الحسن والحسين وتلك مصيبة عظيمة، ولكن هل يجوز لنا أن نسب معاوية وهو صحابي من صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو كما نعلم أنه كاتب للوحي؟ فلا يجوز لنا سبه، ونعته بالنعت الذي لا يليق على مسلم، وجزاك الله خيرا شيخنا.
ماهر عبد الله: طيب، مشكور يا أخ خالد، معايا الأخ سعد من السعودية، أخ سعد اتفضل.
سعد الحمدان: السلام عليكم.
ماهر عبد الله: عليكم السلام.
د. يوسف القرضاوي: عليكم السلام ورحمة الله.
سعد الحمدان: لو سمحت أنا بأتكلم بس بخصوص مبادرة الأمير عبد الله يعني شيء معروف أيه هدفها، مش هدفها الصلح مع.. يعني بس أنا المشاكل اللي تصير للفلسطينيين لأ، ليها هدفها هدف يعني كل الحكام العرب طبعاً (...) مواجهة فلسطين إذا انحرجوا بالنسبة للديمقراطية وحقوق الإنسان مطالبين بهم فينحرجون من أميركا ومن مواجهة إسرائيل.
ماهر عبد الله[مقاطعاً]: بس.. أخ سعد.. أخ سعد يعني أيش علاقة هذا بموضوعنا اليوم؟
سعد الحمدان: أنا بأوصل له، هو المشكلة إن الملكيين في زمن رموا التاج ورموا الخواتم الذهب ولبسوا البدلات العسكرية وقعدوا يتكلمون، الآن شفناهم هم نفسهم رموا البدلات العسكرية وقاعدين يتكلمون زي الأميركان، متأمركين، إحنا لازم نحترم آراء الغالبية، إحنا ما عندنا مشاكل معهم، إحنا طيب من عشر سنوات، أيش تعملون؟ مناهجنا..
ماهر عبد الله[مقاطعاً]: لأ، أنا عايز يا أخ سعد.. يا أخ سعد، يعني لو تكرمت عليَّ تربطه بموضوع الحلقة ومضطر إنه..
سعد الحمدان: يا عزيزي أنا بأربطه بموضوع الحلقة بس خليني أتكلم في الحقيقة يعني أنا أحاول أربط موضوع.. معلش يعني، فأقول لك يعني هو.. الحين نتكلم عن الهجرة والتاريخ الهجري وكذا والعراق الآن بينضرب طيب والمسلمين هناك، الكويت يعني.. يعني مشاكل كتيرة، ياريت.. وبعدين عندي كلمة عن (الجزيرة) لو سمحت أوصلها: بالنسبة لكلامهم عن قوات القاعدة والطالبان، لأ.. العدل الطالبان، يعني مش قوات القاعدة، هذه.. هذه قاعدة.. يعني زي الأميركان لما يتكلمون عن جيوش الأفغان، شكراً جزيلاً.
ماهر عبد الله: طيب، يعني أخ.. أخ سعد يعني أنا مضطر للأسف الشديد يا أخ سعد.. يا أخ سعد أعطيتك فرصة أكثر يعني موضوع خارج تماماً عن الموضوع، وللتو كنا نبهنا نرجو أن تنحصر الأسئلة والتعليقات في موضوع الحلقة، نحن نعلم أن هموم الأمة كثيرة، وأن الحقائق التي يمكن أن تقال كثيرة، ولكن لو أردنا أن نتحدث في كل المواضيع في كل حلقة فأعتقد أننا لن نفي أي موضوع حقه ولن نصل إلى أية نتيجة.
سيدي، سؤال الأخ علاء الزعتري: لماذا لا نتأسى بالرسول صلى الله عليه وسلم، كيف.. يمكن أنا أعيد صياغة.. صياغة سؤاله: كيف يمكن أن نتأسى بالرسول -صلى الله عليه وسلم- لإقامة دولة الإسلام؟ خصوصاً يعني لو سمحت لي كان أحد المحاور التي كان لابد أن.. يعني ثمة جانب خطير أيضاً في الهجرة أنه الرسول -صلى الله عليه وسلم- ضحى بعزيز، ضحى بوطنه، متى يمكن للإنسان أن يُضحي بوطنه من أجل إقامة هذه..؟ هل ضحى بالوطن من أجل إقامة الدعوة أم من أجل إقامة الدولة؟
د. يوسف القرضاوي: أولاً: الهجرة هي فعلاً كانت بحثاً عن أرض يستطيع الإسلام فيها أن يمكن لدينه بكل أحكامه وتعاليمه، في مكة لم يكن قادراً على التمكين للدين، حتى إنه هو نفسه ما كانش قادر يصلي، يعني يمكن في الأسبوع اللي فات اتكلم معاك أخونا الشيخ القره داغي، (أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى) حتى محمد -عليه الصلاة والسلام- يُنهى عن الصلاة في.. في الكعبة، فأرض لم يستطع المسلمون أن يقيموا فيها دينهم فلابد أن يبحثوا عن أرض حرة، فكان البحث عن أرض حرة تُقام فيها كل أحكام الإسلام كانت هي أرض يثرب، فكان لإقامة الدعوة وإقامة المجتمع الإسلامي، وإقامة الدولة الإسلامية، ولذلك في المدينة هي التي نزل فيها قول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا)، القرآن المكي كله ليس فيه (يا أيها الذين آمنوا)، لأن الذين آمنوا معناها صيغة جماعة مؤمنة، لم تكن فيهم هناك جماعة لها سلطانها ولها سيادتها، ولها قوتها في مكة حتى تُخاطب بهذا الخطاب، حينما أصبحت هناك جماعة مؤمنة لها أرضها ولها سلطانها، ولها قدرتها على التمكين لدينها نوديت بهذا الخطاب (يا أيها الذين آمنوا)، فالرسول -عليه الصلاة والسلام- حينما لم يجد في مكة هذا الأمر بحث عن بديلها وضحى بها وهي أحب الناس.. أحب البلاد إليه، ومعروف أنه قال -عليه الصلاة والسلام- حينما غادر مكة: "أما إنك لأحب بلاد الله إلى الله وأحب بلاد الله إليَّ، ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت"، ولذلك القرآن دائماً يعبر عن هذا بأُخرجوا: (أُذن للذين يُقاتلون بأنهم ظُلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله)، (للفقراء المهاجرين الذين أُخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً).. وإخراج الإنسان من داره يعني كأنه قتل، حتى إن القرآن يقول: (ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليلاً)، الخروج من الديار هذا خاصة إذا خُرجت منها رغم أنفك كما أُخرج أهل فلسطين من ديارهم رغم أنوفهم وشتتوا وشردوا في أنحاء الأرض.. هذه، ولكن حينما يجد الإنسان إنه فيه دينه وفيه وطنه، أيهما أغلى عنده وأعز؟
الدين والعقيدة أغلى من كل شيء، ولذلك القرآن يقول: (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموالٌ اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها) اللي هي الأوطان (أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره)، فكل هذه الأشياء الآباء، والأبناء، والأخوة، والأزواج، والعشيرة، والوطن، وكله في كفة وحب الله ورسوله والجهاد في سبيله في كفه أخرى، فلذلك ضحى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهذا هو شأن المؤمن، وده.. وباب الهجرة مفتوح إلى يوم القيامة، إذا وجد الإنسان إنه في بلده لا يستطيع أن يُقيم دينه ولا أن يؤدي شعائره ولا كذا، ووجد الفرصة متاحة أيضاً، لأنه في عصرنا لا توجد هذه الفرصة، الناس زمان كان ممكن يترك البلد ويروح بلد آخر، ولا توجد حوائل ولا حواجز ولا جنسية، ولا.. لأ، الآن ليس الأمر، إنما إذا وجد هذا نقول له: لابد أرض الله واسعة يا أيها.. (يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون)، والقرآن الكريم يقول: ( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعةً فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا إلا المستضعفين من الرجال والنساء والوالدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم) فالإنسان إذا لم يمكن لدينه في الأرض ووجد الفرصة للهجرة فليهاجر من بلد الكفر أو بلد المعصية أو بلد البدعة والمنكرات إلى بلدٍ آخر يسلم فيه دينه، إذا كان ذلك مُيسراً له.
أنا بالنسبة أقول للأخ اللي بيقول التأسي بالرسول أنا أعرف إخواننا التحريريين وآراءهم في مسألة طلب النصرة وإنه لازم نطلب النصرة من قواد الجيوش، وهذا أمر في عصرنا غير مقبول، لأن قادة الجيوش موظفون في.. في الدولة، ماهماش همَّ اللي بيتحكموا في الجيوش ويعملوا، قائد الجيش، أو قائد الأركان، أو وزير الدفاع، هذا موظف ممكن النهارده يكون قائد وبعد بكره يعني يغير ويأتي بغيره، فكوننا نطلب من قادة الجيوش هذا أمر ليس يعني..، والتأسي بالرسول.. التأسي ليس معناه إنه زي ما الرسول هاجر لازم إحنا نهاجر مش شرط، إذا الهجرة مطلوبة لك تهاجر، ولكن.. ولذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد كانت الهجرة في أول الأمر مفروضة على المسلمين، وقال الله تعالى: (وما لكم من ولايتهم من شيء)، (والذين آمنوا ولم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شيءٍ حتى يهاجروا)، وظلت الهجرة فريضة على كل مسلم أسلم في أي مكان إنه يهاجر إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في المدينة، وينضم إلى الجماعة الإسلامية، ويكثَّر سواد المسلمين، ويشدُّ من أزرهم، ويتعلم الإسلام، ثم بعد فتح مكة قال النبي -صلى الله عليه وسلم- بصريح العبارة: "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية، وإذا استُنفرتم فانفروا" فليس.. ليس معناه إنه ما دام الرسول هاجر لازم نهاجر لأ، فالتأسي في المنهج العام منهج الدعوة العام.. إنما ليس الرسول عرض نفسه على القبائل نعرض نفسنا، لأ، كل أمر حسب الظروف وحسب الملابسات.
ماهر عبد الله: طيب معايا الأخ.. نعود لسؤال الأخ خالد بعد قليل. معايا الأخ علي بن عيسى من البحرين، أخ علي، اتفضل.
علي بن عيسى: لو اتكرمت أحب أقدم هذا السؤال لفضيلة الشيخ. جناب الشيخ السلام عليكم.
د. يوسف القرضاوي: عليكم السلام ورحمة الله.
علي بن عيسى: ووفيتم خيراً.
د. يوسف القرضاوي: بارك الله فيك.
علي بن عيسى: جنابكم في هذه الأيام يُعرض مسلسل في الكويت يتناول موضوع فجر الإسلام، وأبو طالب مع حمايته للنبي قد مر بالراهب بحيري فأخبره بحيري.
د. يوسف القرضاوي: بِحيري.
علي بن عيسى: عن النبي محمد وعن العلامات التي تتوفر في هذا النبي، فهل تُرى أبو طالب مع حس العرب.. مع حسه العربي وتكالب الأخبار من الكتب السماوية السابقة عن صفات النبي وإخبار بحيري إله وهو أبو طالب الذي هو أبو طالب معروف في البطحاء كلها، هذا حسه لم يساعده مع ما رأى من ابن أخيه وحدا به عليه أن يكون مؤمناً؟ وجناب الشيخ معلم المعلمين وقدوتنا طبعاً إذا أكد لنا أن أبو طالب مات كافراً فقد نعتقد ذلك، ألا يلحقنا أو يلحق الشيخ -لا سمح الله- شيء من لو أن أبا طالب مات مؤمناً؟
وهل نحمل أبو طالب أصلاً على الإيمان أو على الكفر؟
ماهر عبد الله: طيب مشكور جداً أخ علي، معايا الأخ عبد الباري هيكل من سوريا، أخ عبد الباري، أتفضل
عبد الباري هيكل: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ماهر عبد الله: عليكم السلام.
د. يوسف القرضاوي: وعليكم السلام ورحمة الله.
عبد الباري هيكل: كيف حالك فضيلة الشيخ؟
د. يوسف القرضاوي: بارك الله فيك.
عبد الباري هيكل: والله أنا عندي.. ذكر الشيخ ببداية الكلام أنه لما أعرض أهل مكة عن دعوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعدَّد أسباب الإعراض قام الرسول -كما قال الشيخ- بالتفكير البشري وبدأ باختيار البدائل، ومنها العرض على القبائل والذهاب إلى المواسم. وقبائل العرب، هذا الكلام أظن أن عليه تعليق كبير جداً، فإذا لم نأخذ بالآيات العامة والأدلة العامة التي تؤكد أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحي يُوحى على الطريقة التي أمره بها ربه، لنأخذ هذا الدليل الخاص بالمسألة إن كان يتسع صدركم لهذا الحديث.
ماهر عبد الله: اتفضل.
عبد الباري هيكل: فقد جاء في فتح الباري شرح صحيح البخاري ما نصه: أخرج الحاكم وأبو نعيم والبيهقي في الدلائل بإسناد الحسن عن ابن عباس حدثني علي بن أبي طالب قال: "لما أمر الله نبيه أن يعرض نفسه على القبائل خرج وأنا معه وأبو بكر إلى ِمنَى".. إلى آخر الحديث، فهذا نص صريح بأن عرض النبي -صلى الله عليه وسلم- على القبائل إنما كان بأمرٍ من الله عز وجل، ومنه ألا يقتضينا هذا الكلام إلى إعادة سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- على أنها منهج دعوة، منهج لإعادة إحياء هذه الأمة؟ وأرجو أن أرشدكم وأرشد الأخوة المستمعين إلى كتاب الدكتور محمد خير هيكل الذي اسمه "الجهاد والقتال في السياسة الشرعية" إصدار دار البيارق، هذا الكتاب فيه بحث شافٍ ووافٍ عن موضوع إقامة الدولة الإسلامية ومنها عاملوا الرسول -صلى الله عليه وسلم- وطلب النصرة، هذه النقطة الأولى.(1/18)
النقطة الثانية للأخ ماهر.. قال بأن.. في تعليقه على موضوع الولاء والبراء وما أشبه ذلك، واستنكر أنه قال كأن الكافر ملة أخرى، أقول لك: يا أخ ماهر، مع الاحترام نعم، الكفر ملة أخرى، ويوجد ملة الإسلام وما دونها ملة الكفر، وملة الكفر والاستعانة بالكافر سؤال، وأظن أنه أتى ببعض اللبس الاستعانة بالكافر ليس بإعطاء السبيل لهم على المسلمين
ولن يجعل الله للكافرين على المسلمين سبيلاً.
د. يوسف القرضاوي: المؤمنين.
عبد الباري هيكل: أرجو التعليق على ذلك، والسلام عليكم ورحمة الله.
ماهر عبد الله: طيب مشكور يا أخ عبد الباري، معايا الأخ سيدي محمد ولد عويس من قطر.
سيدي محمد ولد عويس: ألو، السلام عليكم.
ماهر عبد الله: عليكم السلام.
د. يوسف القرضاوي: عليكم السلام.
سيدي محمد: حياك الله يا فضيلة الشيخ.
د. يوسف القرضاوي: حياك الله يا أخ تفضل.
سيدي محمد: سيدي فضيلة الشيخ، أريد أن أعرف عن تاريخ الهجري، هل الرسول -صلى الله عليه وسلم-
في معاهداته وفي شؤون رعيته اليومية كان يستخدم هذا التاريخ أم لا؟
ماهر عبد الله: طيب مشكور يا أخ ولد عويس شكراً لك. سيدي، ما حكم الشرع في الاحتفال بهذه المناسبات؟ كان سؤال الأخ خالد.
د. يوسف القرضاوي: نعم؟
ماهر عبد الله: ما حكم الشرع في الاحتفال بهكذا مناسبات.. عاشوراء؟
د. يوسف القرضاوي: ما معنى.. الاحتفال؟ إحنا.. إحنا بننتهز هذه الفرص لنذكر المسلمين بمعانٍ إسلامية والتذكر لنعم الله تعالى أمر مشروع، القرآن يقول: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها) في غزوة الأية الخندق، (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم)، (يا أيها الذي آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هَمَّ قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكفَّ أيديهم عنكم).. إلى آخره، تَذكُّر نعم الله تعالى في الأحداث المختلفة هذا أمر مشروع، وبعدين إذا كان بعض المسلمين -للأسف- بيحتفلوا برأس السنة الميلادية، فلماذا لا يحتفلون برأس السنة الهجرية؟ هذا العام الهجري، ونحن في الحقيقة لا نحتفل بذكرى الهجرة، وإنما نحتفل بالعام الهجري، وقد جرت عادة المسلمين، أن في أول العام الهجري أن يتحدثوا عن هجرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولا يتحدثوا عنها في ربيع، وهذا أمر لا.. لا بأس به، لأنه ليس في ذلك نص، التذكير بأحداث السيرة النبوية وبمجريات هذه السيرة وأحداثها الكبرى أمر مشروع.. ولا شك، والهجرة هي من أعظم الأحداث، والأخ اللي بيسأل: هل كان الرسول بيكتب تاريخ هجري، لأ، التاريخ الهجري، إنما حدث في عهد عمر بن الخطاب، هو الذي استشار الصحابة، إنه يجعلوا للمسلمين تاريخاً، لأنه كانوا يقولوا.. سنة الفيل.. سنة كذا، لأ.. لازم، وكان من توفيق الله تعالى لهم إنهم اختاروا تاريخ المسلمين بأن يبدأ من هجرة الرسول -عليه الصلاة والسلام- هناك بعض المسلمين في بعض البلاد مثلاً في ليبيا ... اختاروا لأ، قالوا نجعل الوفاة.. يبدأ التاريخ بالوفاة، بدل ما نقول هاء يقولوا واو، طب لماذا هذا؟ المسلمين، والصحابة، وعلي ابن أبي طالب، وعمر بن الخطاب اختاروا أن يبدءوا بهذا، لأن هو وقت إقامة المجتمع المسلم في المدينة وإقامة الدولة الإسلامية وإقامة سلطان الإسلام في هذا البلد فهو أصبح هذا أمر معروف ومُلئت الكتب والتواريخ بسنة كذا هجرة، وهذا تُوفي سنة كذا هجرية، وولد سنة كذا هجرية، وولد سنة كذا هجرية، فلماذا نغير؟ لاشك أن المسلمين وعمر كانوا موفقين في اختيار هذا التاريخ. نعم.
ماهر عبد الله: هل تريد أن تعلق على قصة أبو طالب؟
د. يوسف القرضاوي: نعم؟
ماهر عبد الله: أبو طالب.
د. يوسف القرضاوي: هذا أمر يعني فيه خلاف بين الشيعة والسنة في هذا، والثابت في الصحيحين أنه النبي -عليه الصلاة والسلام- عرض على أبي طالب أن يشهد أن لا إله إلا الله، ولكنه يعني وهو.. وظل عنده، هو يقول له: كذا، وأبو جهل يقول له: على ملة عبد المطلب، فآخر ما قال قال على ملة عبد المطلب، قال له: قلها كلمة أحاج لك بها عند الله يوم القيامة وأشفع لك بها عند الله يوم القيامة فرفض.. وهذا، وده يعني كما قلت من حكمة الله تبارك وتعالى، إنه رغم كفره ظل يدافع عنهم ودفاعه عنه وهو مشرك نفعه، لأن أبا طالب كانت.. كان هذا يعني من أسباب إن قريش جعلت له احتراماً ومكانة على.. على دينهم، وجاء في أكثر من حديث إن هذا جعله من أخف أهل النار عذاباً، الشيعة يقولون غير ذلك، حديث بحيرى هذا يعني الكثير من المحققين شككوا يعني فيه بحيرى الراهب، فيعني على كل حال أنا لا أحب أن أثير الأمور الخلافية بين السنة والشيعة في هذه الأحداث، عندنا ما صح من الأحاديث أن أبا طالب مات على الشرك، وهذا والله يعز علي، وأنا.. كنت أحب أن يموت مسلماً، ولكن هذا قدر الله عز وجل، وهذا أمر يعني البحث فيه لا يُجدي، يعني هو إذا كان يعني مؤمن كما يقول الشيعة أو كذا، هو هيأخذ جزاءه عند الله كما يعلم الله عز وجل، وكلامنا لا يغير من الواقع شيئاً.
ماهر عبد الله: والله أرحم، وأعدل، وأحكم.
طيب الأخ عبد الباري هيكل يقول: إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يعني أُمر.
د. يوسف القرضاوي: ما عندنا مانع إحنا نقول الرسول.. إحنا المشكل إحنا الذي أنا أعارضه أيه أن نقول إن الرسول كان في كل خطوة من خطواته لا يمشي إلا بالوحي، لأ، هو فيه أمر عام بأن يعرض نفسه على القبائل وأن كذا، إنما طب يعرض نفسه على القبيلة دي أمتي والقبيلة دي أمتي ويروح كذا، هذه كان بيتصرف فيها الرسول بعقله واجتهاده، لأنه لم يكن آلة، يعني لأ، ولماذا اختاره الله يعني من هذا المعدن الثمين ويحمل هذا العقل الكبير؟ فهو يخطط التخطيط البشري، ويدبر التدبير البشري، والوحي يأتي في الوقت المناسب ويأمره، فيعني يُطيع.
ماهر عبد الله: أما تعليق الأخ عبد الباري على موضوع الملة، أنا قصدت يعني من.. من جنس آخر.. خطأ مطبعي طبعاً ملة أخرى ودين آخر، ولكن كان السؤال أنه يعني بأعتبرهم كأنهم جنس آخر الأصل في التعامل معهم أنه حرام ولابد منه.. من الخروج، أما إنهم دين آخر وملة أخرى فقطعاً لن نختلف على هذه.
الأخ عادل من السعودية مع مجموعة من الأخوة يسألون يعني هناك كلام كثير أنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندما خرج من.. مكة خرج ليلاً ولم يره من المشركين أحد، البعض يقول أنه تلى آية من القرآن حجبت عنه أعين المشركين، يريد أن يعرف الأخ عادل من السعودية ما هي الآية؟ وهل يمكن استخدامها؟
د. يوسف القرضاوي: يقولون إنه قرأ سورة ياسين حتى وصل إلى قوله تعالى: (وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون) قالوا إنه وصل لهذه الآية، فلم يبصروا وحثى التراب على رؤوسهم، هكذا جاء يعني في كتب السيرة، ولا أدري يعني قوة سند هذا الأمر.
ماهر عبد الله: طيب، الأخت رجاء محمد غريب من.. من سوريا تقول: السلام عليكم، الرجاء التعليق والرد على من يتهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- بأنه هرب من مسؤوليته، وأنه بالتالي جبان، يعني أما كان الأولى أن.. أن يقف.. أن يصمد في مكة وأن يقاوم في مكة؟!
د. يوسف القرضاوي: لأ، يعني ليس من الضروري، يا أخي الشاعر يقول:
وإذا البلاد تنكبت لك حالها فدع البلاد وأسرع التحويلا
ليس المقام عليك فرضاً واجباً في موطنٍ يدع العزيز ذليلاً
والشاعر آخر يقول:
بلاد الله واسعة فضاها ورزق الله في الدنيا فسيح
فقل للقاعدين على هوانٍ إذا ضاقت بكم أرض فسيحوا
فلا العقل ولا المنطق ولا الدين يقول لك تبقى في بلد أُغلقت قلوب أهلها، البلاد الأخرى: (يا عبادي الذين آمنوا إني أرض واسعة فإياي فاعبدون)، فلماذا يبقى؟ ولكن ليس معنى هذا ما قاله بعض الكُتَّاب الكويتيين إن الرسول فشل في العهد المكي، وهذا كلام يعني خطير ونرفضه تماماً، العهد المكي هو الذي أسس للعهد المدني، والرسول في عهد مكة ربَّى الجيل الأول الذي حمل الإسلام على.. على.. على كاهله، دار الأرقم بن أبي الأرقم، العهد المكي هو عهد التأسيس، ونزل فيه حوالي 80 سورة من القرآن الكريم، وأسس للعهد المدني والتشريع المدني، وظل الرسول ثلاثة عشر عاماً يربي هذا الجيل الأول الذي حمل الإسلام في.. فيما بعد، فلولا العهد المكي ما قام العهد.. العهد المدني تكميل للتأسيس الذي تم في العهد المكي، فلا يُقال إن الرسول هرب، لم يكن هروباً، لا بالعكس، ده كان أمراً مخططاً، ولم يكن كما يعني قيل مثلاً إنه كان بيبحث عن حياة أريح لأ، مش مسألة حياة أريح، ده يبحث عن أرض خصبة يستطيع أن يبذر فيها البذور فتؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، أن يجد قاعدة صلبة يبني عليها، فوجدها في هذه الدار دار الهجرة ودار الإسلام الجديدة في يثرب حيث هؤلاء الذين سماهم فيما بعد أنصار الله الأوس والخزرج.
ماهر عبد الله: سؤال من الأخ أبو محمد لارجو من المغرب يسأل: قال صلى الله عليه وسلم: "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين"، فما حكم الهجرة من أجل الدنيا؟ سؤال آخر من الأخ حسام مصطفي: هل تكون هجرتنا نحن المسلمين المهاجرين إلى أميركا وكندا حراماً؟ هل تدخل في نطاق "فهجرته إلى ما هاجر إليه"؟
د. يوسف القرضاوي: أولاً، الحديث "أنا بريء من كل.." هذا ضعفه يعني بعض العلماء، وحتى الذين حسنوه أو صححوه قالوا: إن المقصود به الذي يقيم بين المشركين، يقيم بين أظهر المشركين فإذا قُتل أو أصابه المسلمون حينما يغيرون على بلاد المشركين هو بريء من دمه لا يتحمل ديته، وهذا جاء في هذا الأمر، إنه إذا كان واحد عايش والمسلمون لا يعرفونه ودخلوا وقاتلوا هؤلاء وكان واحد مسلم كيف نعرفه؟ فهذا هو المقصود.
أما الهجرة إلى ديار الكفر إحنا عرضنا لهذا في حلقات سابقة، وقلنا إذا كان من وراء هذه الهجرة فائدة للدعوة الإسلامية أو لتقوية الوجود الإسلامي، تقوية المسلمين أهل البلاد الموجودين هناك، فلابد من هذا، المسلمين لم.. لم يقفوا عند.. ما الذي يعني أدخل البلاد الإسلامية المختلفة في الإسلام؟ مش هجرة المسلمين إليها؟!
كيف دخل المسلمون في ماليزيا، وفي إندونيسيا، وفي الفلبين، وفي كثير من بلاد آسيا وإفريقيا إلى الإسلام؟ بهجرة المسلمين، وكانوا حينما هاجروا.. أقلية، ولكن كثَّرهم الله، ودخل من أهل البلاد معهم الكثيرون فأصبحوا بعد ذلك يكونون أغلبية، فبهذه الهجرة انتشر الإسلام، المهم إن الإنسان لا يهاجر إلا إذا كان وراء الهجرة هدف، وإذا كان في دار الهجرة أو في أرض الهجرة قادراً على أن يحافظ على دينه ودين أهله وذراريه، أما إذا خاف على دينه أن يضيع هناك فأنا قلت للأخوة حينما ذهبت إلى أميركا في أوائل السبعينيات: "من لم يستطع منكم أن يحافظ على دينه ودين أولاده فليبدأ رحلة العودة من الغد"، هذا هو واجب المسلم.
ماهر عبد الله: سيدي، شكر الله لك وجزاك الله خيراً، أعزائي، لم يبق لي إلا أن أشكركم وأشكر باسمكم فضيلة العلامة الدكتور القرضاوي على حسن استماعكم وعلى حسن مشاركته.
إلى أن نلقاكم في الأسبوع القادم تحية مني، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
ــــــــــــ(1/19)
الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر في الغار
قال ابن إسحاق (فلما أجمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخروج أتى أبا بكر بن أبي قحافة فخرجا من خوخة لأبي بكر في ظهر بيته ثم عمدا إلى غار بثور - جبل بأسفل مكة فدخلاه وأمر أبو بكر ابنه عبد الله بن أبي بكر أن يتسمع لهما ما يقول الناس فيهما نهاره ثم يأتيهما إذا أمسى بما يكون في ذلك اليوم من الخبر، وأمر عامر بن فهيرة مولاه أن يرعى غنمه نهاره ثم يريحها عليهما، يأتيهما إذا أمسى في الغار. وكانت أسماء بنت أبي بكر تأتيهما من الطعام إذا أمست بما يصلحهما.
قال ابن هشام : وحدثني بعض أهل العلم أن الحسن بن أبي الحسن البصري
قال انتهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر إلى الغار ليلا، فدخل أبو بكر رضي الله عنه قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتلمس الغار لينظر أفيه سبع أو حية يقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنفسه).
الذين قاموا بشؤون الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الغار
قال ابن إسحاق : (فأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الغار ثلاثا ومعه أبو بكر وجعلت قريش فيه حين فقدوه مائة ناقة لمن يرده عليهم.
وكان عبد الله بن أبي بكر يكون في قريش نهاره معهم يسمع ما يأتمرون به وما يقولون في شأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر ثم يأتيهما إذا أمسى فيخبرهما الخبر.
وكان عامر بن فهيرة مولى أبي بكر رضي الله عنه يرعى في رعيان أهل مكة، فإذا أمسى أراح عليهما غنم أبي بكر فاحتلبا وذبحا، فإذا عبد الله بن أبي بكر غدا من عندهما إلى مكة، اتبع عامر بن فهيرة أثره بالغنم حتى يعفي عليه حتى إذا مضت الثلاث وسكن عنهما الناس أتاهما صاحبهما الذي استأجراه ببعيريهما وبعير له وأتتهما أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما بسفرتهما، ونسيت أن تجعل لها عصاما فلما ارتحلا ذهبت لتعلق السفرة فإذا ليس لها عصام فتحل نطاقها فتجعله عصاما، ثم علقتها به).
لم سميت أسماء بذات النطاقين
فكان يقال لأسماء بنت أبي بكر ذات النطاق لذلك.
قال ابن هشام : وسمعت غير واحد من أهل العلم يقول ذات النطاقين. وتفسيره أنها لما أرادت أن تعلق السفرة شقت نطاقها باثنين فعلقت السفرة بواحد وانتطقت بالآخر.
راحلة النبي صلى الله عليه وسلم
قال ابن إسحاق : (فلما قرب أبو بكر رضي الله عنه الراحلتين إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدم له أفضلهما، ثم قال اركب فداك أبي وأمي ; فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إني لا أركب بعيرا ليس لي ". قال فهي لك يا رسول الله بأبي أنت وأمي، قال " لا، ولكن ما الثمن الذي ابتعتها به " ؟ قال كذا وكذا، قال " قد أخذتها به "، قال هي لك يا رسول الله. فركبا وانطلقا. وأردف أبو بكر الصديق رضي الله عنه عامر بن فهيرة مولاه خلفه ليخدمهما في الطريق).
حديث الغار
وهو غار في جبل ثور، وهو الجبل الذي ذكره في تحريم المدينة، وأنها حرام ما بين عير إلى ثور وهو وهم في الحديث لأن ثورا من جبال مكة، وإنما لفظ الحديث عند أكثرهم ما بين عير إلى كذا، كان المحدث قد نسي اسم المكان فكنى عنه بكذا.
وذكر قاسم بن ثابت في الدلائل فيما شرح من الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما دخله وأبو بكر معه أنبت الله على بابه الراءة قال قاسم وهي شجرة معروفة فحجبت عن الغار أعين الكفار.
وقال أبو حنيفة الراءة من أغلاث الشجر وتكون مثل قامة الإنسان ولها خيطان وزهر أبيض تحشى به المخاد، فيكون كالريش لخفته ولينه لأنه كالقطن أنشد:
ترى ودك الشريف على لحاهم *** كمثل الراء لبده الصقيع
وفي مسند البزار : أن الله تعالى أمر العنكبوت فنسجت على وجه الغار وأرسل حمامتين وخشيتين فوقعتا على وجه الغار وأن ذلك مما صد المشركين عنه وأن حمام الحرم من نسل تينك الحمامتين وروي أن أبا بكر - رضي الله عنه حين دخله وتقدم إلى دخوله - قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليقيه بنفسه رأى فيه جحرا فألقمه عقبه لئلا يخرج منه ما يؤذي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي الصحيح عن أنس قال قال أبو بكر - رضي الله عنه - لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهما في الغار (لو أن أحدهم نظر إلى قدمه لرآنا، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ما ظنك باثنين الله ثالثهما) وروي أيضا أنهم لما عمي عليهم الأثر جاءوا بالقافة فجعلوا يقفون الأثر حتى انتهوا إلى باب الغار وقد أنبت الله عليه ما ذكرنا في الحديث قبل هذا، فعندما رأى أبو بكر رضي الله عنه القافة اشتد حزنه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال (إن قتلت فإنما، أنا رجل واحد وإن قتلت أنت هلكت الأمة فعندها قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " لا تحزن إن الله معنا) "، ألا ترى كيف قال لا تحزن ولم يقل لا تخف ؟
لأن حزنه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شغله عن خوفه على نفسه ولأنه أيضا رأى ما نزل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من النصب وكونه في ضيقة الغار مع فرقة الأهل ووحشة الغربة وكان أرق الناس على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأشفقهم عليه فحزن لذلك وقد روي أنه قال (نظرت إلى قدمي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الغار وقد تفطرتا دما، فاستبكيت، وعلمت أنه عليه السلام لم يكن تعود الحفاء والجفوة) وأما الخوف فقد كان عنده من اليقين بوعد الله بالنصر لنبيه.
ما يسكن خوفه وقول الله تعالى : فأنزل الله سكينته عليه قال أكثر أهل التفسير يريد على أبي بكر وأما الرسول فقد كانت السكينة عليه وقوله "وأيده بجنود لم تروها" الهاء في أيده راجعة على النبي والجنود الملائكة أنزله عليه في الغار فبشروه بالنصر على أعدائه فأيده ذلك وقواه على الصبر [ و ] قيل أيده بجنود لم تروها، يعني : يوم بدر وحنين وغيرهما من مشاهده وقد قيل الهاء راجعة على النبي عليه السلام في الموضعين جميعا وأبو بكر تبع له فدخل في حكم السكينة بالمعنى، وكان في مصحف حفصة فأنزل الله سكينته عليهما، وقيل إن حزن أبي بكر كان عندما رأى بعض الكفار يبول عند الغار فأشفق أن يكونوا قد رأوهما، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - " (لا تحزن فإنهم لو رأونا لم يستقبلونا بفروجهم عند البول ولا تشاغلوا بشيء عن أخذنا) "، والله أعلم.
معية الله مع رسوله وصاحبه
وانتبه أيها العبد المأمور بتدبر كتاب الله تعالى لقوله (إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا) [ التوبة 40 ] كيف كان معهما بالمعنى، وباللفظ أما المعنى فكان معهما بالنصر والإرفاد والهداية والإرشاد وأما اللفظ فإن اسم الله تعالى كان يذكر إذا ذكر رسوله وإذا دعي فقيل يا رسول الله أو فعل رسول الله ثم كان لصاحبه كذلك يقال يا خليفة رسول الله وفعل خليفة رسول الله فكان يذكر معهما، بالرسالة وبالخلافة ثم ارتفع ذلك فلم يكن لأحد من الخلفاء ولا يكون
ــــــــــــ(1/20)
السابقون الأولون من المهاجرين
مضى رسول الله صلى عليه وسلم بأمر الله، رغم ما لقي من قومه من الخلاف والأذى، فآمنت به خديجة بنت خويلد، وصدقت بما جاءه من الله، وآزرته على أمره، وكانت أول من آمن بالله وبرسوله، وصدقت بما جاء به، فخفف الله بذلك عن نبيه - صلى الله عليه وسلم - لا يسمع شيئا مما يكرهه من رد عليه وتكذيب له، فيحزنه ذلك، إلا فرج الله عنه بها إذا رجع إليها تثبته وتخفف عليه، وتصدقه وتهون عليه أمر الناس، رحمها الله تعالى1.
قال ابن إسحاق : ' ثم كان أول ذكر من الناس آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلى معه وصدق بما جاء من الله تعالى، علي بن أبي طالب بن عبد المطلب ابن هاشم، رضوان الله وسلامه عليه، وهو يومئذ ابن عشر سنين، ونعمة الله أنه كان في حجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل الإسلام2.
أخرج الحافظ أبو الحسن الطرابلسي عن عائشة رضي الله عنها قالت : خرج أبو بكر رضي الله عنه يريد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - -وكان له صديقا في الجاهلية- فلقيه، فقال : يا أبا القاسم أفقدت من مجالس قومك واتهموك بالعيب لآبائها وأمهاتها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إني رسول الله أدعوك إلى الله، فلما فرغ من كلامه أسلم أبو بكر، فانطلق عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما بين الأخشبين3 أحد أكثر سرورا منه بإسلام أبي بكر، ومضى أبو بكر فراح لعثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص فأسلموا، ثم جاء ... بعثمان بن مظعون، وأبي عبيدة بن الجراح وعبد الرحمن بن عوف، وأبي سلمة بن عبد الأسد، والأرقم بن أبي الأرقم فأسلموا رضي الله عنهم4.
1- الصاحب والمصحوب:
لقد آثر الله تعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم - بنعمه بالقدر الذي يجعله أهلا لحمل رايته والتحدث باسمه بل ويجعله أهلا لأن يكون خاتم رسله، ومن ثم كان فضل الله عليه عظيما، جعلت أفئدة الناس تهوي إليه، وترى فيه المصحوب المربي والمعلم، والصديق؛ مما جعل سادة قريش يسارعون إلى كلماته ودينه : "أبو بكر" و"طلحة" "والزبير" و"عثمان" و"عبد الرحمان بن عوف" و"سعد بن أبي وقاص" متخلين بهذه المسارعة المؤمنة عن كل ما كان يحيطهم به قومهم من مجد وجاه، متقبلين -في نفس الوقت- حياة "تمور مورا شديدا بالأعباء وبالصعاب وبالصراع".
ما الذي جعل ضعفاء قومه يلوذون بحماه ويهرعون إلى رايته ودعوته وهم يبصرونه أعزل من المال ومن السلاح ينزل به الأذى ويطارده الشر في تحد رهيب، دون أن يملك عليه الصلاة والسلام له دفعا ؟ ! ما الذي جعل جبار الجاهلية -عمر بن الخطاب- وقد ذهب ليقطف رأسه العظيم بسيفه- يعود ليقطف بنفس السيف رؤوس أعدائه ومضطهديه !
ما الذي جعل المؤمنين به يزيدون ولا ينقصون ومن حوله يلتفون، وهو الذي يهتف فيهم صباح مساء لا أملك لكم نفعا ولا ضرا ولا أدري ما يفعل بي ولا بكم.
ما الذي ملأ قلوبهم يقينا وعزما ؟!
إنه محمد بن عبد الله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المصحوب، رأوا طهره وعظمته، وأمانته واستقامته، وشجاعته وسموه وحنانه، رأوا عقله وبيانه،رأوا سمو الحياة يسري في أوصال قلوبهم عندما بدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفيض عليها من قلبه المرحوم برحمة الله ونبوته. رأوا ذلك وأضعافه لا من وراء قناع بل مواجهة وتمرسا وبصرا وبصيرة. فكانوا الصاحبين، بحق حملوا مبادئ الدعوة، وعبير الدعاة، وصدق التعاليم وعظة المعلمين ونور الرسالة، ورحمة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم. فكانوا النواة الأولى لبناء جماعة المسلمين، عليهم قامت أمة الإسلام دعوة ودولة، حموها بأنفسهم وبأموالهم وبذلوا في سبيلها كل غال ورخيص.
والعلماء أمناء الرسل وورثتهم، ورثوا الصحبة وفقه التربية يربون ويعلمون في كل عصر ومصر ما ورثوه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أخلاق رفيعة وسمات جليلة، فيعلمون بالقدوة والشهود بين ظهراني الناس يضيء ظلامهم وتفيض قلوبهم رحمة بالأمة صبرا ومصابرة.
2- كيف أثمرت الصحبة ؟
آمن الصحابة الأولون برسول - صلى الله عليه وسلم - وكانت المحاضن التربوية أساس البناء في دار الأرقم بن أبي الأرقم تلقوا الإيمان غضا طريا يتلو ما أنزل إليهم من ربهم من الآيات وهي حديثة عهد من الله تغرس الإيمان في القلوب وتزرع الأمل في الأنفس ذكرا وتعلما ومدافعة للواقع المستبد بكل من يقول ربي الله، صدقا وتصديقا، شرفا واعتزازا بالانتماء إلى هذه الدعوة المحمدية، استيعابا وفهما ودعوة وجهادا وفتحا.
3- السابقون الأولون :
علمنا ربنا الكبير المتعال أن ندعو للسابقين ونحبهم ونجلهم لأنهم كانوا بحق الوعاء الذي حوى الدين ودافعوا عنه، بذلوا في سبيله المهج والمقل، هجروا المال والبنين والعشيرة، أقبلوا على ربهم إقبالا منقطع النظير، فهم سادة هذه الأمة وزهرتها فاستحقوا بذلك شرف السبق والسمو، يقول الله تعالى يعلمنا "للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله، أولئك هم الصادقون ' (الحشر، الآية 8) ويقول سبحانه عز وجل : والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم" (الحشر، الآية 10). وهذه الصورة النظيفة الرضية الواعية تبرز أهم ملامح التابعين كما تبرز أخص خصائص الأمة المسلمة على الإطلاق في جميع الأوطان والأزمان.
هؤلاء الذين يجيئون بعد المهاجرين والأنصار سمة نفوسهم أنها تتوجه إلى ربها في طلب المغفرة، لا لذاتها ولكن كذلك لسلفها للذين سبقوا بالإيمان، وفي طلب براءة القلب عن الفعل للذين آمنوا على وجه الإطلاق، ممن يربطهم معهم رباط الإيمان، مع الشعور برأفة الله ورحمته ودعائه بهذه الرحمة وتلك الرأفة "ربنا إنك رؤوف رحيم"5.
4- دعاء الرابطة :
السابقون الأولون من المؤمنين مدحهم الله تعالى في كتابه ونالوا محبة خاصة من رسوله - صلى الله عليه وسلم - من أصحابه رضوان الله عليهم، وهذه المحبة تسري إلى كل مؤمن لا تحجبه لا الأمصار ولا الأزمان تنتظم في عقد الولاية بين المؤمنين. "تتجلى الآصرة القوية الوثيقة التي تربط أول هذه الأمة بآخرها، وآخرها بأولها، في تضامن وتكافل وثواب وتعاطف وشعور .... وشيجة القربى العميقة التي تتخطى الزمان والمكان والجنس والنسب، وتستقر وحدها في القلوب، تحرك المشاعر خلال القرون الطويلة، فيذكر المؤمن أخاه المؤمن بعد القرون المتطاولة كما يذكر أخاه الحي، في إعزاز وكرامة وحب ويحسب السلف حساب الخلف، ويمضي الخلف على آثار السلف، صفا واحدا وكتيبة واحدة على مرار الزمان واختلاف الأوطان، تحت راية الله تغذ السير صعدا إلى الأفق الكريم متطلعة إلى ربها الواحد الرؤوف الرحيم"6.
هذه هي قافلة الإيمان، الموكب النوراني والعقد الفريد الغالي، هذا هو وعاء الإيمان وإنها لعائلة كريمة إنه لدعاء كريم.
5- الدروس والعبر :
هؤلاء هم السابقون الأولون من المهاجرين، أول من صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأول من صلى من الأمة المحمدية، وفي قصصهم عبر لأولي الألباب نذكر منها :
1- دور المرأة المؤمنة في تحمل أعباء الدعوة، فقد كانت خديجة رضي الله عنها الملجأ الدافئ الذي يخفف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبناء قريش ومكرها وتعنتها وجهلها و كذا فإن أزواج الدعاة يمثلن المحضن الذي يأوي إليه الداعي الصادق بعد مكابدة الواقع ومعاناة الناس وابتلاء الظالمين. لأنه إذا استقر الإيمان بالقضية العظمى قضية تبليغ الرسالة في قلب المرأة، فلنعلم أنها يمكن أن تيسر لزوجها كثيرا مما عسر، وتهون عليه كثيرا مما عظم، وتجعله دائم العطاء.
2- العناية بالأطفال والصغار، تربى سيدنا علي كرم الله وجهه في كنف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منذ صغره وكان أول ذكر أسلم، فقد كان عمره عشر سنين.
إن العناية بالأطفال والشباب لأمانة عظيمة، بواسطتها يرسخ الإيمان في القلوب، وتتقوى العقيدة في الأفئدة، فهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يولي ابن عمه عناية كبرى، ويعلمه الصلاة، ويتابعه ويجالسه حتى يستوي عوده ويخرج منه الرجل المجاهد، والولي المجاهد، والخليفة العادل رضي الله عنه.
لا بد للحركة الإسلامية من إيلاء الاهتمام الأكبر بالأطفال فإنهم أمل الأمة ومستقبلها.
3- أثر الصحبة الصالحة : إن للصحبة الصالحة الأثر الأول في ثبوت الإيمان في القلوب، وإن لحظات التقاء الصاحب بالمصحوب لأكبر دليل على ذلك وإليك بعضه :
أ- عاد أبو بكر من رحلة التجارة وأبلغه القوم أن محمدا -صلى الله عليه وسلم- يزعم أنه يوحى إليه فأجابهم إن قال فقد صدق فما أن حط عنه عناء السفر حتى أقبل إلى النبي عليه الصلاة والسلام متأكدا من ذلك فما أن سمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى فاضت عيناه وقبل صاحبه الذي ما تردد في النطق بأعظم كلمة أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله.
بـ- لقد توفرت في أبي بكر خصال عظيمة جعلته خير ناقل لأثر الصحبة، كان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر فحسن مجالسته هذا كان سببا في إسلام السابقين فجاء بهم إلى المصحوب الأعظم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلموا وصلوا.
4- التبليغ الصادق : إن بشاشة الإيمان حين تخالط القلوب ما تلبث أن تتحول إلى طاقة لا تقهر فما يحمله المؤمن المقبل على ربه من مشاعر بعمق الحقيقة التي يراها، وحلاوة يجدها في روحه حتى يسعى بكل ما أوتي من جهد ووقت وإمكانات إلى تبليغ كلمة الله والدعوة إليه.
فهذا أبو بكر رضي الله عنه يبارك الله تعالى صحبته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيدعو عثمان بن عفان وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام، فكانوا هم السابقين الذين ذكروا الله تعالى في أنفسهم لذلك ذكرهم الله تعالى في حياتهم في الملإ الأعلى وذكرهم في كل من جاء من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، إنهم السابقون، ومن حقهم علينا أن ندعو الله لهم في ورد الرابطة فإن لهم أجر عملهم وأجر من عمل بعملهم إلى يوم القيامة ولقد آثر الله تعالى على أيديهم دعوة الثلة الأولى من الجماعة المباركة التي حملت النور إلى العالم فأسلم على أيديهم أبو عبيدة بن الجراح، وأبو سلمة والأرقم بن أبي الأرقم، وعثمان بن مظعون وأخواه قدامة وعبد الله وسعيد بن زيد وغيرهم ومن النساء فاطمة بنت الخطاب، وأسماء بنت أبي بكر وعائشة بنت أبي بكر.
6- لائحة المراجع:
1- السيرة ابن هشام.
2- حياة الصحابة، الكاندهلوي.
3- في ظلال القرآن، سيد قطب.
الهوامش:
1. السيرة النبوية لابن هشام ج1/ ص 240.
2. نفسه. ص 245/1.
3. هما جبلان مطيفان بمكة، والأخشيب كل جبل خشن غليظ.
4. حياة الصحابة، الكاندهلوي، ج1 ص 45 .
5. في ظلال القرآن، سيد قطب، ج 6 ص 3526.
6. نفسه، ج 6/ ص 3527.
ــــــــــــ(1/21)
السرية طريق النجاح
يقول عمر بن عبد العزيز ، رضي الله عنه : " القلوب أوعية ، والشفاه أقفالها ، والألسن مفاتيحها ؛ فليحفظ كل إنسان مفتاح سره " " 52 "
غالبا : ما تكون السرية بالأمر : عونا على قضائه ، وطريقا جيدا لإتمامه ، وأسلوبا نافعا لإنجاحه .
وهذه السرية الواعية النافعة المتعقلة ، نلحظها درسا هاما _ عمليا _ واضحا كل الوضوح ، في حادث الهجرة النبوية .
وبيان ذلك على النحو التالي :
أ _ لم يعلم بحادث الهجرة _ حين الخروج _ سوى علي بن أبي طالب بسبب دوره المطلوب ، وأبو بكر لأنه الصاحب فيها والرفيق ، وآل أبي بكر للتغطية ، والدور المطلوب كذلك ، وعامر بن فهيرة بسبب دوره كذلك ، وعبد الله بن أريقط ، الأجير المشرك ، لدوره المعروف ، وليس هؤلاء بالعدد الكثير بالنسبة لهذا الحدث الجليل .
ب _ طلب النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يختلي وينفرد بأبي بكر حين أراد مفاتحته في أمر الهجرة .
فعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها : أنها قالت " أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالهاجرة ، في ساعة كان لا يأتي فيها ، قالت : فلما دخل ، تأخر له أبو بكر عن سريره ، فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وليس عند أبي بكر إلا أنا وأختي " أسماء " بنت أبي بكر ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أخرج عني من عندك ، فقال يا رسول الله . . إنهما ابنتاي ، وما ذاك فداك أبي وأمي . . ؟ " 53 "
ولو لم يوثقهما أبو بكر ، ولو لم يؤكد للنبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا القول أنهما على مستوى عال من كتمان الأمر ، وصيانته : لما تحدث النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمر الهجرة أمامهما .
وقد أثبتت أحداث الهجرة المبكرة ، صدق تزكية أبي بكر لهما ، وأنه لا دخل للعاطفة _ بل الدخل لحسن التربية _ في هذه التزكية ، فيما قامت به السيدة أسماء بنت أبي بكر مما لا يتسع له المقام ، وهو مبسوط في كتب السيرة ؛ وقد نتعرض لبعضه فيما يلي .
ج _ ذهاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر في ساعة ، لا تكاد ترى فيها أحدا في شوارع مكة أو شعابها من قيظ الشمس وشدة الحر ، متقنعا _ كما في رواية البخاري _ متخفيا . "53 "
وكذلك : عدم خروجهما من باب البيت الأمامي ، بل من خوخة _ باب صغير خلفي _ في ظهر البيت ، حتى لا يراهما _ إن وجد _ أحد .
د _ عدم إعلام النبي - صلى الله عليه وسلم - لأحد من هؤلاء الذين علموا إلا في اللحظات الأخيرة ، صيانة للسر من ذيوعه ، وصيانة لهم من مخاطر كتمانه .
وهذا درس يرينا : منزلة السر ، ومكانة كتمانه ، وإذا كانت صيانة السر وعدم إفشائه واجب إسلامي مطلوب ، وأدب إسلامي مرغوب بصفة عامة ، فهو في أمور الدعوة الحركية أولى وأوجب ، سواء كان منك أو من غيرك ، لك أو لغيرك .
فهذا يوسف عليه السلام ، فيما يحكيه الله تعالى عن والده يعقوب صلوات الله وسلامه عليهما ، وهو يقول له معلما إياه أهمية السر ووجوب صيانته ( يا بني لا تقصص رؤياك على اخوتك فيكيدوا لك كيدا ) " 54
ويقول علي رضي الله عنه :"سرك أسيرك ، فإذا تكلمت به : صرت أسيره" "52"
ويقولون :من حصن سره ، فله بذلك خصلتان : الظفر بحاجته ، والسلامة من السطوات . " 52 "
وليس الأمر في ذلك خاص بالأفراد فقط .
بل هو عام : في الأفراد ، والأسر ، والجماعات ، والدول ؛ إذ كل منهم ينبغي أن يحتفظ بالسر ، ولا يطلع عليه أحدا .
وإن كبرى الدول وصغراها لترصد من ميزانياتها ، وأموالها ، الشيء الكثير من أجل الإنفاق على وسائل الاحتفاظ بأسرارها ، وصيانتها من أن يعرفها أحد ، وفي الوقت نفسه : لتعرف أسرار أعدائها ، وتكشف عن مخبوء نواياهم ، إما للنيل منهم ، أو رغبة في صيانة نفسها ، وحماية شعوبها ، من كيدهم وعدوانهم .
وما ذاك : إلا لأهمية هذه الأسرار _ لديها ، أو لدى غيرها _ وخطورتها .
والعاقل : من استطاع أن يكتم السر ويحتفظ به ، لا أن يفشيه ويذيعه ، ومن لا سر له : لا عقل له .
ومن لا يستطيع أن يحفظ سره : لا أمانة ولا أمان له ، ولا ينبغي أن يوكل إليه أمر ، أو تستند إليه مهمة ، أو يكلف بواجب .
وكم من إظهار سر : أراق دم صاحبه ، ومنعه من بلوغ مآربه ، ولو كتمه لأمن ضرره وسطوته . " 52 "
ومن الخطأ البين : ما يظنه البعض من أن كتمان السر أمر مطلوب بالنسبة لأناس بعينهم ، وهو على غيرهم كلأ مباح ؛ حيث إن السر ما سمي بذلك إلا لطلب عموم كتمانه .
ولذا يقال : انفرد بسرك . . لا تودعه حازما فيزل ، ولا جاهلا فيخون " " 54 "
وما قد يفعله البعض ، مما يحكيه الأحنف بن قيس ، إذ يقول : " يضيق صدر الرجل بسره ، فإذا حدث به أحدا قال أكتمه علي " "52 " ، وبذلك : سرعان ما يذيع وينتشر .
والعاقل من تمثل بقول كعب بن سعد الغنوي ، إذ يقول :
ولست بمبد للرجال سريرتي ولا أنا عن أسرارهم بسؤول
وقد أطلنا في التعقيب على هذا الدرس : لأن أمناء الأسرار _ كما يقولون _ أقل وجودا من أمناء الأحوال ، وحفظ الأموال أيسر من كتمان الأسرار ، لأن إحراز الأموال بالأبواب والأقفال ، وإحراز الأسرار بارزة يذيعها لسان ناطق ، ويشيعها كلام سابق ، وحمل الأسرار أثقل من حمل الأموال ، فإن الرجل يستقل بالحمل الثقيل فيحمله ويمشي به ، ولا يستطيع كتم السر ، وإن الرجل يكون سره في قلبه : فيلحقه من القلق والكرب ما لا يلحقه من حمل الأثقال ، فإذا أذاعه استراح قلبه ، وسكن خاطره ، وكأنما ألقى عن نفسه حملا ثقيلا " " 52 "
ومن هنا : تكمن خطورة الأسرار ، ويثقل حفظها ، وتسهل إذاعتها .
والداعية الواعي : من يكون على قدر المسئولية ، وعلى مستوى الفهم والامتثال لهذا الدرس في حفظ السر .
ــــــــــــ(1/22)
السيرة النبوية معلمة النهج الذي أعز السلف
من خطب الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله، خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.
أما بعد فيا عباد الله ها هي ذي فاتحة العام الهجري الجديد، تمر بالعالم الإسلامي يتيمة في أسرتها، غريبة في عالمها، لا تشعر بانقضاء ذلك العام الذي مضى، ودخول العام الجديد الذي أقبل، إلاّ قلة يسيرة ثم يسيرة من الناس، أما عامة أهل المجتمع والعالم الإسلامي ففي شغل شاغل عن الهجرة وعامها، وفي شغل شاغل عن بداية هذه السنة ونهايتها، وفي شغل شاغل عن عِبَرِ هذا العام وعظاته، يمر آخر هذا العام كما يقبل أوله، في مجتمعه في أسرته بين أهله يتيماً غريباً، بل أكثر من غريب، أين هي الاحتفالات والاهتمامات التي ما زلنا نتذكر أصداءها بمناسبات مشابهة مرت؟ أين هو الطنين والرنين؟ أين هي المشاعر الجياشة التي تهتاج في نفوس المسلمين لذكرى هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما جرّته معها من ذيول العِبَر والعِظات والدروس والانتصارات؟ لكن هذا هو حال عالمنا الإسلامي، وهذا هو حال الأسرة الإسلامية بخوض هذا العالم الذي يتماوج بالهرج والمرج كما تلاحظون، ومَعْلَمَة الهجرة ما هي أيها الإخوة؟ مَعْلَمَة الهجرة هي معلمة ولادة الدولة الإسلامية التي تجددت ببعثة رسول الله صلى الله عليه وسلّم، هجرة المصطفى عليه الصلاة والسلام، هي مَعْلَمَة تاريخ هذه الأمة، بهذه المعلمة نحصي التاريخ ونعده من ألف بائه إلى نهايته، هجرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هي الفيصل القاسم والحاسم، بين ماضٍ من الفقر المدقع وآتٍ من الغنى الذي لفت نظر العالم أجمع، معلمة الهجرة هي الفيصل الحاسم بين ماضٍ من الشتات والتفرق والتشرذم والتخاصم، وبين آتٍ من الوَحدة والتماسك التي غدت مضرب المثل، معلمة الهجرة هي الفاصل الحاسم بين ماضٍ من الضعف والمهانة وآتٍ من القوة والعزة التي كانت مضرب المثل في العالم، تلك هي معلمة الهجرة التي أكرم الله بها هذه الأمة من خلال شخص رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ وهي المعلمة التي خلد بيان ـ عز وجل ـ حديثه عنها في قوله: {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} [الأنفال: 8/30] . فما هي نسبة العالم الإسلامي اليوم إلى هذه المعلمة التي أعزّتهم بعد ذل، ووحّدتهم بعد شتات، وأغنتهم بعد فقر، فانظر إلى العالم الإسلامي اليوم فتجده معرضاً عن هذا النسب، متجاهلاً لهذا الدرس، متجاهلاً بهذه القيمة كلها، أليس هذا هو واقع العالم الإسلامي اليوم؟ هل هنالك من مبالغة إن قلت: إن هذه المعلمة تمر بنا اليوم في نهاية عام مضى، ومقتبل عام جديد، تمر بنا يتيمة في أسرتها، غريبة في عالمها، ليس هنالك أي مبالغة لو أن هذه الأمة كانت أمينة على معاني الهجرة، يبقي غناها الذي ورَّثته إياها الهجرة النبوية الشريفة، ولبقيت عزتها التي ورَّثتها إياها الهجرة النبوية الشريفة، ولبقيت وحدتها التي ورَّثتها إياها الهجرة النبوية الشريفة، ولكن لما خلع العالم الإسلامي متجسداً في مظهر حكامه وأكثر أهله، لما خلعوا هذا الشرف وألقوه وراءهم ظهرياً، قال لهم الله: لقد أسلمتكم إلى ماتشاؤون، كانت العبرة التي يأخذها المسلمون من السلف الصالح من الهجرة عبرةٍ إيجابية، واليوم غدت العبرة التي نأخذها من الهجرة ـ وياللأسف ـ عبرة سلبية، بكل معنى الكلمة، سَلْ أكثر من تريد أن تسألهم من المسلمين اليوم عن اسم هذا الشهر الذي يمر بهم من الأشهر الهجرية، لن يستطيع أن يعطيك جواباً إلاّ بعد أن يعود فيتعلم ثم يخبر، بل لو سألتهم عن العام الهجري الذي يمرون به لن يعطيك جواباً، لأنه غريب عن عامه الهجري، معانق لذلك العام الأخر، أليس هذا هو الواقع المرئي؟ وأصغِ جيداً إلى أجهزة الإعلام في العالم الإسلامي كله، تَجِدْ كيف أن اسم العام الهجري يمر ذليلاً ولا يمكن أن يذل عند الله غريباً، ولا يمكن أن يكون غريباً في سماوات الله عز وجل يتيماً، ولا يمكن أن يكون يتيماً في ميزان الله عز وجل، لكنه يتيم اليوم بقرار من العالم الإسلامي الذي قضاه في حق نفسه، من هنا أيها الإخوة حاقت بنا المهانة التي نتأفف منها، ولو أننا فكرنا وقدرنا وتأملنا لوجدنا ـ يقيناً وبدون ريب ـ أن الغرب ليس هو الذي أبرم قضاءه الجائر في حقنا أن يذلنا ويهيننا ويقطع أوصالنا، ولكننا ـ نحن المسلمين ـ الذين أبرمنا هذا الحكم في حق أنفسنا، ثم إن الغرب جاء لينفذ ما قد قضيناه نحن، نحن الذين قضينا والغرب هو الذي ينفذ هذا هو الواقع، قال لنا عدونا في الغرب: دعوا حضارتكم الإسلامية، وتعالوا فاتبعوا الحضارة التي تملأ رحب العالم ألقاً، قلنا: نعم، لكم ما تطلبون، وهذا هو الحق، قال لنا الغرب الذي يعادينا ويحقد علينا وعلى كل شيء في تاريخنا: دعوكم من الإسلام الذي تقادم عهده، طوِّروه وبدِّلوه وغيِّروه، وتعالوا إلى النظم العجيبة العلمية والعلمانية التي تورثكم عزة ما بعدها عزة، قلنا: نعم، لكم ما تريدون حباً وكرامة، فعلنا ما يقول، قال لنا العدو الذي يفيض قلبه حقداً علينا وعلى تاريخنا وديننا: دعوكم من محور الدينِ الجامع هنالك محاور أخرى كثيرة متطورة تجمع الأمة وتقيم الوحدة، هناك محاور القوم، محاور وحدة اللغة ووحدة المصير، وما إلى ذلك، دعوكم من الدين الذي يثير عليكم الأقليات المختلفة، قلنا: حباً وكرامة، هذا هو الحق، سرنا وراءهم تماماً أذلاء خاضعين، كلما وُجِّه إلينا تعليم من تعليماتهم، رفعنا أيدي الاستسلام المهينة لهم، وقلنا: نعم، حباً وكرامة. فلماذا نستنكر إذا جاءت النتيجة الطبيعية لهذا كله؟ لماذا نستنكر إذا جاء هذا العدو بعد هذا كله، فقطع أوصالنا، ومزق كياناتنا، وسحقنا، وأقام المذابح للقضاء علينا، ولتطهير الجيوب الإسلامية في مجتمعاتنا؟ لماذا تنكرون النتيجة الطبيعية للمقدمات التي أنتم كنتم أبطالها، وأنتم الذين قررتموها، والمقدمات المنطقية لا بد أن ونتائجها المنطقية، أما هجرة المصطفى ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ فكانت ولا تزال تقول لنا من وراء حواجز القرون: تعالوا إلى النهج الذي أعز أسلافكم، وأنا الكفيل بأنه سيعزكم اليوم، تعالوا فالتزموا بما التزم به أولئك الذين أعرضوا عن الدنيا في سبيل الله، أعرضوا عن الوطن في سبيل العقيدة، أرأيتم كيف أن الهجرة أعادت إليهم الوطن عندما بقيت لهم العقيدة، تعالوا أفعلْ بكم هذا النصر ذاته، أحقق لكم هذا الأمر ذاته، أعرضتم. قالت لنا الهجرة ببليغ البيان: تعالوا فكونوا أمناء على معنى الهجرة كما كان أسلافكم، أمناء عليها تستغنون بعد فقر، يبقَ لكم ماضي غناكم، ويضيف الله ـ عز وجل ـ إليه غنىً جديداً، أرأيتم إلى أسلافكم الفقراء يوم نفضوا أيديهم من الدنيا كلها؟ من البساتين والعقارات والأموال المنقولة وغير المنقولة، في سبيل الهجرة، من أجل العقيدة، من أجل المبدأ، أرأيتم كيف أن الله أعاد إليهم الأموال، وأعاد إليهم أضعاف أضعاف أضعافها؟
ها أنا ذا إن كنتم أمناء على هجرة رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ ومعانيها أضمن لكم الغنى بعد الفقر، أعيد إليكم مجدكم السابق، أعرضتم عن ذلك كله، أهابت بنا هجرة رسول الله وَيْحَكُمْ التفتوا إليَّ، هذا هو معين عزكم، هذا هو مصدر قوتكم، من هنا تستطيعون أن تدخلوا الرعب في قلوب أعدائكم، ونظرنا فلم نجد أذاناً تصغي إلى هذا الكلام بشكل من الأشكال، بل رأينا مَعْلَمَة الهجرة تخب فيما بيننا يتيمة في عالمها الإسلامي من شرقه إلى غربه، غريبة في هذا العالم من شماله إلى جنوبه، كلنا يلاحظ هذا المعنى أيها الأخوة، فهل بقي لنا لسان يعتب على الله؟ إذا كنا نسمع أو نرى ما الذي يحدث بإخوة لنا هنا أو هناك، ما ينبغي أن نكون متجاهلين لجرائمنا إلى هذا الحد، نجرم في حق أنفسنا ثم نعتب على الله، نحكم على أنفسنا بالانتحار، بالذل بالضيعة بالفرقة بالهوان، ثم نعتب على الله، لماذا سلط علينا هؤلاء الناس أو أولئك، قلت لكم أيها الإخوة: لا والله ليس هناك عدو يملك أن يقضي بحكم بحق العالم الإسلامي، لكن العالم الإسلامي هو الذي قضى بملء اختياره وحريته، بأن يحكم على نفسه بالانتحار المهين البطيء الذليل، ثم جاء العدو منفذ، نحن الذين حكمنا، وجاء العدو ينفذ ما قد حكمنا به، وخير الكلام ما قل ودل، ولا أجدني في هذا الموقف أمام هذه العبرة التي تمر بنا أو نمر بها، لا أجدني أستطيع أن أقول مزيداً على هذا الكلام .
ــــــــــــ(1/23)
العبرة من الهجرة النبوية
محمد سعيد رمضان البوطي ...
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، ياربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبيٍ أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد؛ صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم ـ أيها المسلمون ـ ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.
أما بعد، فيا عباد الله:
كلكم يعلم أن هجرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، إنما كانت ابتلاءً وامتحاناً بين يدي النصر العظيم الذي قيضه الله سبحانه وتعالى لرسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - ولأصحابه البررة الكرام، وكلكم يعلم أن هذا الابتلاء القاسي إنما تمثل في الابتعاد عن الوطن وتركه، دون معرفة أيرجع أصحابه إليه أم لا، تمثل في ترك الأرض والمال والعقار، تمثل في ترك الزوجة في بعض الأحيان والأولاد والأسرة، قطع المسلمون أنفسهم عن حظوظهم كلها التي تعارضت مع اعتناقهم لدين الله سبحانه وتعالى وإخلاصهم له، ثم إنهم بعد أن قطعوا أنفسهم عن هذه الحظوظ كلها اتجهوا إلى تلك الأرض المعروفة بسوء مناخها، والمعروفة بوبائها، اتجهوا إلى يثرب وهم يعلمون أنهم إنما ينفذون في هذا أمر مولاهم وخالقهم سبحانه وتعالى، ولم يكونوا يتصورون أي جزاء يمكن أن ينالوه إن في الدنيا أو في الآخرة، كل ما في الأمر أن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - تلقى الأمر من ربه بأن يهاجر، فهاجروا معه، ونفضوا أيديهم في سبيل ذلك من المال والعقار والأهل والولد، واستقبلوا - كما قلت لكم - أرضاً معروفة بوبائها وسوء مناخها حتى إن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - دعا ربه قائلاً: ((اللهم حبب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة، وانقل وباؤها إلى مهيعة)).
ونظر المصطفى - صلى الله عليه وسلم - إلى أصحابه وقد قطعوا أنفسهم من حظوظهم كلها فأشفق عليهم، رآهم جياعاً، رآهم عراة، رآهم تاركين لدنياهم معرضين عنها، فرفع يديه قائلاً: ((اللهم إنهم الغداة جياع فأطعمهم، اللهم إنهم عراة فاكسهم، اللهم إنهم فقراء فأغنهم))، ولست بصدد ذكر القصص التي كم وكم طرقت أسماعكم، ولكنا بذكر العبرة التي ينبغي أن نقطفها في عصرنا هذا من قصة الهجرة هذه، ما هي القوة التي بها نجحوا في ذلك الامتحان؟ ما هو الدافع الذي حملهم على أن ينفضوا أيديهم من كل ما كانوا يملكونه، وأن يتجهوا إلى المدينة المنورة وهم لا يملكون إلا ثقتهم بالله عز وجل وإيمانهم بضرورة الانقياد لحكمه؟ ما هو رأس مالهم الذي يسر لهم النجاح في ذلك الابتلاء؟ إنه الثقة بوعد الله؛ إنه الثقة بما ألزم الله عز وجل به ذاته العلية، سمعوا قوله عز وجل: {وَكانَ حَقّاً عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 30/47] سمعوا قول الله عز وجل: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 3/160]، سمعوا قوله: {بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النّاصِرِينَ، سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً} [آل عمران: 3/150-151]، {لَنُهْلِكَنَّ الظّالِمِينَ، وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ} [إبراهيم: 14/13-14]، {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ} [القصص: 28/5] صكت هذه الوعود والعهود الربانية أسماعهم، وهيمنت على قلوبهم، وعلموا أنه كلام الله، وكلام الله عز وجل حق لا يلحقه خلف قط، هذا هو الذي شجعهم وهو الذي يسر لهم أن ينفضوا أيديهم من القليل الذي كانوا يملكونه من الوطن والأرض، والعقار والأهل، وكل ما يقف عثرة في طريق سعيهم وسلوكهم إلى الله سبحانه وتعالى، نجحوا في ذلك الابتلاء والامتحان بثقتهم بهذه الكلمات الربانية.
ومكان العبرة في هذا أيها الإخوة: أن هذا الذي يقوله الله عز وجل مكرراً مؤكداً، مكرراً مؤكداً، لم يكن خطاباً للرعيل الأول فقط، بل هو خطاب لعباد الله جميعاً، هو خطاب للمؤمنين في سائر العصور وفي سائر الأجيال {وَكانَ حَقّاً عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} لم يقل: نصر أصحاب رسول الله {وَكانَ حَقّاً عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}. والخطاب إنما كان للمؤمنين كافة في كل العصور إذ قال: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} وعندما قال: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} [القصص: 28/5] إنما كان يعني البيان الإلهي المستضعفين من عباد الله المؤمنين به الواثقين بنصره في كل عصر وعندما قال: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة: 2/257] إنما كان البيان الإلهي ولا يزال يعني المؤمنين في كل عصر.
فما الفرق بين المؤمنين اليوم وبين أولئك المؤمنين من أصحاب رسول الله؟ أولئك الذين سمعوا هذه البيان المكررة والمؤكدة وثقوا بكلام الله وصدقوه ورأوا ما وعدهم الله به كأنهم يتقرونه عياناً، أما نحن فما أكثر ما نتلو هذه الآيات ونرددها، وما أكثر ما نسمعها في المناسبات المتنوعة المختلفة، لكن أين هم الذين هيمنت هذه العهود الربانية والمواثيق الإلهية على قلوبهم؟ أين هم الذين وثقوا بوعود الله وعهده الذي ألزم به ذاته العلية، كما وثق بها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هذا هو فرق ما بيننا وبينهم، ومن ثم فهو هو فرق ما بين النتائج التي قطفها ذلك الرعيل الأول والنتائج المهينة المذلة التي نتقلب في حمأتها اليوم، أولئك وثقوا بعهد الباري سبحانه وتعالى، فتركوا الوطن، تركوا الدنيا، تركوا العشيرة، تركوا كل شيء، وعانقوا الوباء، عانقوا الأرض ذات المناخ السيئ، لأن عزائهم إنما هو قول الله عز وجل: {وَكانَ حَقّاً عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 30/47] نصرهم الله، أعادهم الله عز وجل أعزة كرماء إلى الوطن الذي نفضوا أيديهم منه، وأكرمهم بمزيد من الأوطان، بأضعاف أضعاف أضعاف الأموال الذي تركوها في سبيل الله سبحانه وتعالى، وصدق عليهم قوله عز وجل: {وَكانَ حَقّاً عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} وصدق عليهم قوله عز وجل: {بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النّاصِرِينَ، سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} كل ذلك تحقق.
أما نحن، فها نحن نسمع هذه البيانات الربانية كما سمعوا، ونتأمل فيها بعقولنا كما تأملوا، ولكن أين هم الذين يحفلون بهذه البيانات الإلهية؟ أين هم الذين جعلوا عقولهم أوعية لليقين بهذه العهود التي ألزم الله عز وجل بها ذاته العلية، تأملوا وانظروا تجدون أن جل المسلمين اليوم محجوبون عن خطاب الله عز وجل يتعاملون مع أهوائهم، يتأملون مع غرائزهم، مع رغباتهم، يتعاملون مع دنياهم، أجل، ومن ثم فقد كانت النتائج في حياتنا على النقيض من نتائج أولئك الناس، أولئك أدخل الله عز وجل الرعب في قلوب الكافرين منهم، أما نحن اليوم فإنما يزيد الله سبحانه وتعالى قلوب الكافرين وأعداء هذا الدين منعة وقوة وطغياناً كلما أرادوا أن يتجهوا إلينا بعدوان، يريدون أن ينفذوا خططه، انظروا إلى النقيض أيها الإخوة، ورحم الله المثل القائل: ((المرء حيث يضع نفسه)). ضع نفسك في موضع الاعتزاز بالحق الذي ألزم الله به ذاته العلية، ضع نفسك في موضع اليقين بما وعدك الله عز وجل به، انظر كيف يدخل الله عز وجل الرعب منك في قلوب أعدائك وأعدائه، ولكن إن أنت أعرضت عن بيان الله عز وجل، وإن أنت نظرت إلى الدين نظرة تقليدية ولم تزد علاقتك به على علاقة الأمة بتراثها كما يقال اليوم، تراث، ليس أكثر من تراث، آل الدين الذي خلقنا لأجله، آلت العبودية التي هي هويتنا فوق هذه الأرض، آلت إلى تراث للآباء والأجداد، نرتبط به ضمن حدود المصالح، فإذا رأينا أن رغباتنا أهوائنا، مختلف أمزجتنا تعارضت، فما أيسر أن نعانق الحداثة والتجديد والتبديل والتغيير، ونعانق ما يدعونا إليه العدو الأرعن.
هذا واقعنا، ومن ثم فقد وكلنا الله عز وجل إلى أنفسنا، وكلنا الله عز وجل إلى هذا الوضع الذي تعاني منه نفوسنا، وإلا فمن أين جاءت هذه الغطرسة التي يتمتع بها العدو ضدنا؟ من أين جاء هذا الطغيان؟ قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، لا يمكن لأمة أن تذل وأن تهون إلا إذا قطعت ما بينها وبين الله عز وجل من صلات، ولا يمكن أن يسلط الله عز وجل عليها عدواً له وله إلا عندما تبتعد هذه الأمة عن العهد وتخون الأمانة وتلقي الخطاب الذي شرفها الله به وراءها ظهرياً، وهذا هو حالنا، هذا هو حالنا.
لا يقولن قائل: ها نحن نردد بيان الله صباح مساء، ها نحن نسمع القرآن من أفواه تطرب لها الآذان في مختلف الإذاعات والفضائيات، هذه أطر أيها الإخوة، انظروا إلى ما في داخل الأطر، ولا تنظروا إلى الإطار نفسه، الإطار مزركش وداخله مخجل، داخله مخجل نعم، هذا العدو الأرعن يسمعنا أن علينا أن نبدل ديننا، أن نبدل مناهج التربية في مجتمعاتنا، علينا أن نودع هذا الدين إلى غير رجعة، ويأتي من ينبطح في عالمنا العربي والإسلامي ويقول: إن بلسان الحال أو بلسان المقال: سمعاً وطاعة، سمعاً وطاعة، سنغير، سنبدل، أجل سنفعل ما تشاؤون. وأين هو الإله الذي يملك النواصي، الذي يملك القلوب، الذي قلوب العباد بين أصبعين من أصابعه، ويحكم أن بينكم وبين أن يطرد الله عدوكم من دياركم وبين أن يلحق به المهانة والذل شيئاً واحداً، هو أن تصدقوا مع الله كما صدق أصحاب رسول الله مع الله، هو أن تثقوا بهذه العهود المتكررة التي ألزم بها ذاته العلية: {وَكانَ حَقّاً عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} من يقول هذا الكلام الله: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران: 3/160] من الذي يقول هذا الكلام الله: {بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النّاصِرِينَ، سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} لكن إن آمنتم وإن وثقتم بكلام الله سبحانه وتعالى وجددتم العهد الصادق من الذي يقول: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ} الله سبحانه وتعالى. عندما نثق بهذا الكلام ونعاهد الله مجدداً كما عاهدنا، فإن الله عز وجل سيخلق في حياتنا خوارق النصر والتأييد، أما عندما نضع الخطط المتنوعة المختلفة التي تهدف إلى غاية واحدة، ألا وهو تمزيق هذا الدين، وتحويله إلى أمور ضبابية تصبح بعد حين أثراً بعد عين، كالتجديد، كالحداثة، كالعلمانية، كتبديل الخطاب الديني، كالتحويل، كالتبديل، هذه الكلمات التي تسمعونها خطط هي نتائج لخطط أجنبية أنا على يقين بها، المراد منها أن تخلع هذه الأمة رداء دينها، ومن ثم أن تخلع البقية الباقية من رداء حضارتها، من الذي يبقى لها؟ يبقى لها أن تتحول إلى أجراء، إلى عبيد يتقممون الحضارة الغربية الآسنة، التي ظهر ريحها وظهر أنها بلاء أطم يهلك الحرث والنسل، هذه هي العبرة التي ينبغي أن نأخذها من الهجرة، من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
ــــــــــــ(1/24)
الفوائد الجنية من الهجرة النبوية
سلمان بن يحي المالكي
slman_955@hotmail.com
مقدمة السلسلة
في جوٍ مشحونٍ بزيفِ الباطل وركامِ الجاهلية ، يسوسُ الناسَ جهلهم ، ويحكمُهم عرفُهم وعاداتُهم ، قتلٌ وزنا ، عُهُرٌ وخَنا وأدٌ للبنات ، تفاخرٌ بالأحساب والأنساب ، سادَ في البِقاعِ قانونُ الغاب ، فالبقاءُ للقوي ، والتمكينُ للعزيز ، تُغِيرُ القبيلةُ على الأخرى لأتفهِ الأسباب ، تقومُ الحروبُ الطاحنةُ ، تُزهق الأرواحُ ، وتُهلَك الأموال ، وتُسبى النساءُ والذراري ، وتدومُ السنون وتتعاقبُ الأعوام ، والحربُ يرثها جيلٌ بعد جيلٍ ، وأصلها بعيرٌ عُقْر ، وفرسٌ سبقتْ أخرى ، أو قطيعُ أغنامٍ سيقٌ وسرْق ، ساد في ذلكمُ المجتمعُ عاداتٌ غريبةٌ عجيبة ، فعند الأشراف منهم كانتِ المرأة إذا شاءتْ جمعتِ القبائلَ للسلامِ وإن شاءت أشعلتْ بينهم نارَ الحربِ والقتال ، بينما كان الحالُ في الأوساطِ الأخرى أنواعٌ من الاختلاطِ بين الرجلِ والمرأةِ لا نستطيعُ أن نعبرَّ عنه إلا بالدَعارةِ والمجونِ والسِفاحِ والفاحشةِ ، كانت الخمرُ مُمتَدحُ الشعراء ، ومَفخَرة ُالناس ، فهي عندهم سبيلٌ من سُبُلِ الكرم ، ناهيك عن صورِ الشركِ وعبادةِ الأوثان ، التي تُصوِّرُ كيف كانَ أولئكَ يعيشون بعقولٍ لا يفكرون بها ، وأعينٍ لا يبصرون بها ، وأذانٍ لا يسمعون بها إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ في هذه الأثناءِ حدث حادثٌ عجيبٌ لمكةَ وحرمِها ، رأى أبرهةُ نائبَ النجاشي على اليمنِ أن العربَ يحجونَ الكعبةَ ، فبنى كنيسةً كبيرةً بصنعاءَ ليصرفَ حجَّ العربِ إليها ، وسمع بذلك رجلٌ من بني كِنانة ، فدخلها ليلاً ولطَّخَ قِبلتها بالعَذِرة ، ولما علم أبرهةُ بذلك ثار غضبه وسارَ بجيشٍ عرمرمٍ عدده ستونَ ألفَ جنديٍ إلى الكعبةِ ليهدمها ، واختار لنفسه فيلاً من أكبرِ الفيلةِ ، وكان في الجيشِ قُرابةَ ثلاثةَ عشر فيلاً ، وتهيأ لدخولِ مكةَ فلما كان في وادي محسِّرٍ بين مزدلفةَ ومنى بركَ الفيلُ ولم يقُم ، وكلما وجهوه إلى الجنوبِ أو الشمالِ أو الشرقِ قام يهرول ، وإذا وجهوه قِبَلَ الكعبةِ بركَ فلم يتحرك ، فبينما هم كذلك إذ أرسل الله عليهم طيرًا أبابيل أمثالُ الخطاطيف مع كل طائرٍ ثلاثةُ أحجارٍ مثلُ الحُمُص ، لا تصيبُ أحدًا منهم إلا تقطعت أعضاؤه وهلك ، وهربَ مَن لم يصبه منها شيءٌ يموجُ بعضهم في بعض ، فتساقطوا بكلِ طريقٍ ، وهلكوا على كل مهلكٍ ، وأما أبرهةُ فبعثَ الله عليه داء تساقطت بسببه أنامِلُه ، ولم يصِل إلى صنعاءَ إلا وهو مثلُ الفرخِ ، وانصدع صدرُه عن قلبِه ثم هلك ، وكانتْ هذه الوقعةْ قبل مولدِ النبي بخمسين يومًا أو تزيد ، فأضحت كالتقْدُمةِ قدَّمها الله لنبيه وبيتِه ، وبعد أيامٍ من هلاكِ ذلكم الجيشِ أشرقت الدنيا وتنادت ربوعُ الكونِ تزُّفُ البشرى بولدِ سيدِ المرسلين ، وإمامِ المتقين ، والرحمةِ للعالمين في شِعْبِ بني هاشمٍ بمكةَ صبيحةَ يومُ الإِثنين التاسعِ من ربيعٍ الأولِ لعامِ الفيل ، وُلد خيرُ البشر ، وسيدُ ولدِ آدم ، ولد الرحيمُ الرفيقُ بأمته ، أطلَّ على هذه الحياةِ محمدُ بنُ عبد الله بنُ عبد المطلبِ الهاشميِ القرشي ، أرسله الله إلى الناس جميعا ليقول للناس " إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون " جاء النبيُ - صلى الله عليه وسلم - يدعوا الناسَ إلى شهادةِ أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله بكل ما تضمنته هذه الشهادة من معنى ، جاء نبي الرحمة - صلى الله عليه وسلم - يدعو الناسَ إلى العفافِ والطهرِ والخلقِ الكريم والاستقامةِ وصلةِ الأرحام وحسنِ الجوار والكفِّ عن المظالم والمحارم ، يدعوهم إلى التحاكمِ إلى الكتابِ العزيز لا إلى الكهان وأمرِ الجاهلية ، وجعْلِ الناس كلهم أمام شريعةِ الله سواءً يتفاضلون بالتقوى ، روى ابنُ جريرٍ عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما قال " لما مرِضَ أبو طالبٍ دخلَ عليه مشيخةٌ من قريشٍ فيهم أبو جهلٌ فقالوا : إنَّ ابنَ أخيك يشتُمُ آلهتَنَا ويفعلُ ويفعلُ ويقولُ ويقولُ فأنْصِفْنَا من ابنِ أخيك ، فلْيَكُفَّ عن شتمِ آلهتِنا وندَعُهُ وإلهُهُ ، فقال أبو طالبٍ : يا ابنَ أخي ما بالُ قومِكَ يشكُونَكَ ويزعُمُون أنكَ تشتُمُ آلهتَهم ..؟ قال يا عم : أريد أن يقولوا كلمةً تَدِينُ لهم بها العربُ ، وتؤدي لهم بها العجم الجزية ، فقال أبو جهل : نقولُها وعشرًا ، فقال عليه الصلاة والسلام : قولوا لا إله إلا الله ، ففزِعوا وولوا مدبرينَ وهم ينفُضُون ثيابَهم ويقولون : أجعل الآلهةَ إلهً واحدًا إنّ هذا لشيء عجاب " نعم .. لقد دعا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الناسَ كلَّهم إلى هذا المعنىَ العظيم ، وقام بهذا الواجبِ الكبيرِ الذي هو أكبرُ واجبٍ في تأريخ البشريةِ كلها ، دعا إلى دينٍ قويمٍ يرقى به الإنسانُ إلى أعلى المنازلِ ، ويسْعَدُ به في الآخرةِ سعادةً أبديةً في النعيمِ المقيم ، فاستجاب له القلة المؤمنة المستضعفة في مكة ، فأذاقَهُمُ المشركونَ أنواعَ العذاب ، ووقف في وجههِ ثلاثةُ أنواعٍ من الناس : المستكبرونَ الجاحدونَ العالمونَ بالحق ، والحاسِدونَ المحترقون ، والجهالُ الضالون ، وكوّنَ هذا الثالوثُ جبهةً عنيدةً وحربًا وحزبًا شيطانيًا لا يترُكُ من سبيلٍ ولا وسيلةٍ إلا سلكها للصد عن سبيل الله ) يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون ( واشتدَّ الكربُ بمكةَ وضُيِّقَ الخِناقُ على الدينِ الإسلامي ، وائتمرَ المشركونَ بمكةَ أن يقتلوا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال جبريل عليه السلام " إن الله أذن لك يا محمد بالهجرةِ إلى المدينةِ فلا تَبِتْ هذه الليلةَ في فراشك " ورصده المشركونَ عند بابه ليضربوه ضربةَ رجلٍ واحدٍ ليتفرقَ دمَه بين القبائلِ ، فخرج عليه الصلاةُ والسلام عليهم وهو يتلو صدرَ سورةِ يس وذرى على رؤوسهمُ الترابَ وأخذ الله بأبصارهم عنه فلم يروه ، وأخذهمُ النعاسَ ، واختبأ هو وصاحبَه أبو بكر الصديقِ في غارِ ثورٍ ثلاثةَ أيامٍ حتى هدأ الطلبُ ، ففتشتْ عنه قريشٌ في كلِ وِجْهَةٍ، وتتبعوا الأثرَ حتى وقفوا على الغارِ فقال أبو بكر رضي الله عنه : يا رسولَ الله لو أن أحدَهم نظر إلى موضعِ قدميه لأبصرنا ، فقال " يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما " ولقيا الدليلَ بعد ثلاثٍ براحلتْيَهما ، ويمّما المدينة َفكانت هجرةُ المصطفى - صلى الله عليه وسلم - نصرًا للإسلام والمسلمين حيثُ أبطلَ الله مكرَ المشركينَ وكيدَهم في تفكيرهِمُ القضاءَ على الإسلامِ بمكةَ وظنهَّمُ القدرةَ على قتلِ رسول الله
------------
من أهمِّ الدروسِ أيها الأحبة التي ينبغي التأملُ فيها وخاصةً من يَسْبُرُ أوراقَ السيرةِ ، ذلكم الأمرُ المهمُ في حياةِ النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ألا وهو أمرُ الهجرةِ وما أدراكم ما الهجرة .
إن الهجرةَ النبويةَ في حدِّ ذاتِها بغَضِّ النظرِ عن أحداثِها تستحقُ الوقفةَ المتأنيَة ، تستحقُ الوقفةَ الثاقبة ، تستحقُ النظرَ الدقيق ، فهي ليستْ نزهةً بريةً ولا وسياحةً بحريةً ، الهجرةُ النبويةُ ليست للتفرجِ والإطلاعِ ، ولا للنظرِ والمعاينةِ ، ولا للسفرِ والتحصيلِ في مُتَعِ هذه الدنيا وملذاتِها ، وإنما هي نقلةٌ جديدةٌ وانتقالٌ وطيدٌ من أجلِ الحفاظِ على العقيدةِ ، الحفاظ على الركنِ الأساسِ ، والأُسِّ المتينِ مع التضحيةِ بالنفسِ والمالِ والأهلِ والولدِ ، نعم .. إنه الحفاظُ على العقيدةِ والمحافظةِ عليها ، فهو مبدؤها وهدفُها وأملُها وغايتُها ونهايتها .
إن الهجرةَ النبويةَ حدثٌ غيّرَ مجرى التأريخ ، حدثٌ حملَ في طياتِه معانيْ الشجاعةِ والتضحيةِ والإباءِ والصبرِ والنصرِ والفداءِ والتوكلِ والقوةِ والإخاءِ والاعتزازِ بالله وحده .
إنَّ حدثَ الهجرةِ النبويةِ حدثٌ جعلَه الله سبحانه طريقاً للنصرِ والعزةِ ورفعِ رايةِ الإسلامِ وتشييدِ دولتِه وإقامةِ صرحِ حضارتِه ، فما كانَ لنورِ الإسلامِ أن يشِّعَ في جميعِ أرجاءِ المعمورةِ لو بقيَ حبيساً في مهده ، إنه حدثٌ شاملٌ كاملٌ متكاملٌ لمن أحسنَ الاستفادةَ منه وأخذَ العبرةَ والعظةَ على أحسنِ وجه ، إنه في الحقيقةِ حدثٌ يعرِضُ منهجَ النبيِ - صلى الله عليه وسلم - ، منهجَ المعصومِ - صلى الله عليه وسلم - ، منهجَ من لا ينطقُ عن الهوى ، مهجَ المؤَيَّدِ من ربِ العالمين ، فليست الهجرةُ حدثاً عادياً ، ولا أمرا طبيعيا ، بل هي أمرٌ جللٌ يستحقُ منا الاهتمام بما تحويه هذه الهجرة وما بداخلها من كنوز .
إن بين أيدينا هجرةُ الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، بين أحضاننا هجرةُ النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيها الدواءُ الناجعُ لكثيرٍ من أمراضِنا وأوضاعِنا وعللنا .
إن في هذه الهجرةِ المباركةِ من الآياتِ البيناتِ والآثارِ النيراتِ والدروسِ والعبرِ البالغاتِ ما لو استلهمَتْه أمةُ الإسلامِ اليومَ وعملتْ على ضوئِه وهي تعيشُ على مُفْتَرَقِ الطرقِ لتحقّقَ لها عِزُّهَا وقوتُها ومكانتُها وهيبتُها ، ولعلمت علمَ اليقينِ أنه لا حلَّ لمشكلاتِها ولا صلاحَ لأحوالِها إلا بالتمسكِ بإسلامِها والتزامِها بعقيدتِها وإيمانها ، فوالذي بعثَ محمدا - صلى الله عليه وسلم - بالحقِ بشيراً ونذيراً ما قامتِ الدنيا إلا بقيامِ الدينِ ولا نالَ المسلمونَ العزةَ والكرامةَ والنصرَ والتمكينَ إلا لما خضعوا لربِّ العالمين وهيهاتَ أن يَحُلَّ أمنٌ ورخاءٌ وسلامٌ إلا باتباعِ نهجِ الأنبياءِ والمرسلين ، ومن هنا جئنا لنتحدثَ هذه الليلة حولَ بعضِ المفاهيمِ والدروسِ والعبرِ والعظاتِ المجتناهْ من هجرةِ المجتبى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ، وإني لمَّا كنتُ أُقلِّبُ صفحات هذه الهجرةِ المباركةِ عرضتُ أتذكرُ حكمةً عربيةً قديمةً تقول " من أخْصَبَ تخيّر " أي من وجدَ الأرضَ الخِصبةَ الوفيرةَ تخيَّرَ المرعى ، فرأيتُ الحكمةَ تنقلبُ علي َّ فإني لم أَعُدْ أجدُها وأنا أقلبُ صفحات هذهِ الهجرة " من أخصب تخير "
ولكني وجدتها " من أخصب تحير " فماذا أقول الليلةَ وماذا أدع ..؟ فلا أكتمُكم أحبتي أنني وقفتُ أمامَ المفاهيمِ والدروسِ التي اطلعْتُ عليها ، واحترت : نعم .. احترتُ أيَّ مفهومٍ من هذه المفاهيم آخُذ ؟ وأيها أترُك ؟ أيها أدعُ ؟ وأيها ألتمس ؟ ووصَلَتْ معي هذه المفاهيم وهذه الدروسُ عددا وكمّا كبيرا ، ولكن مراعاةً للوقت ، وتركيزاً على بعضِ النقاط ، وإلا لا أقولُ "على المهم ، أو الأهم " فكلُ هجرةِ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - مهمة ، وتركيزاً على بعضِ النقاطِ التي تزدادُ حاجتنا إليها ؛ سأذكرُ بعضَ الوقفات ، وبعضَ المفاهيم وبعضَ الدروس التي أخذتها من استيعابِ هذه الهجرةِ المباركة ، فما أجملَ أن نُشيرَ إشاراتٍ عابرةٍ لعددٍ من القضايا المهمةِ الجديرة بالإشادةِ والتذكيرِ في هجرة رسولِ العالمين الذي أسأل الله بمنه وكرمه أن يُلحقنا به وأن يحشرَنا في زمرته وأن يُسقِيَنَا من حوضه شربةً لا نظمأ بعدها أبدا
------------
أولا .. لماذا الهجرة ..؟
إني لما نظرتُ إلى تأريخِ الهجرةِ ، ونظرتُ إلى الإعِدادِ الذي أعدّهُ الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - ونظرتُ إلى الأسبابِ والأساليبِ التي اتخذَها ، ابتداءً من إذْنِه بالهجرةِ للصحابةِ ، وانتهاءً بوُصُولِه إلى المدينة ، وما بينهما من أسبابٍ بشريةٍ كثيرةٍ ، فيها الاختفاءُ والسِّريةُ ، فيها كثيرا من الأسبابِ البشرية ، تساءلتُ : ألم يُسْرَ بالرسولِ - صلى الله عليه وسلم - قبلَ عامٍ فقطٍ إلى بيتِ المقدسِ ، ويُعرَج به إلى السماءِ ؟ ألم يأتِ إليه جبريلُ على الصلاةُ والسلامُ وهو مُسْنِدٌ ظهره الشريف للكعبة بالبراقِ ليرحلَ هو وإياهُ من مكةَ المكرمة إلى بيتِ المقدس ومن هناك إلى السموات ..؟ سبحان الله ! يُسْرى به إلى بيتِ المقدس ، ويُعرج به إلى السماءِ ، ويرْجِع في ليلةٍ واحدةٍ ، ويجلس عدَّةَ شهورٍ - صلى الله عليه وسلم - ويتَّخِذَ كثيرا من الأسبابِ والوسائلِ لهذه الهجرةِ ! لماذا ..؟ ما السبب ..؟ لِمَ لمْ تكن تلك الهجرةِ كذاكَ الإسراء ..؟ يُمْسي في مكةَ ويصبحُ في المدينةِ النبوية بأمرِ الله سبحانه وتعالى وبقدرته ؟ أليس الله قادرٌ على ذلك ..؟ أيُعْجِزُه سبحانَه وتعالى شيءٌ في الأرضِ والسماء ..؟ كيف لا.. والمعجزاتُ تتنزلُ عليه عليه الصلاة والسلام ، لكنني بعدَ التأمُلِّ وجدتُ أن الله سبحانه وتعالى أراد منا ومن أمةِ النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نفقه هذا الدين فِقْهًا دقيقاً ، أرادنا أن نفقهَ هذه الدعوة المحمدية فقها سديدا ، فهذه الدعوةُ أيها الأحبابُ هي وربي منهجٌ للبشر ، ربنا جل وعلا قادرٌ أن يأخذَ رسوله - صلى الله عليه وسلم - في لحظةٍ واحدة ، وينقُلُه من مكةَ إلى المدينة ، لا يحتاجُ إلى إعداد ، لا يحتاج إلى اختفاء ، لا يحتاج إلى مئونة ، لا يحتاج إلى مطاردةٍ ، لا يحتاج إلى مصاحبةٍ ، لكن الأمرَ أعمقَ من ذلكَ وربي وأبعدَ بكثير ، إنه الدينُ ..! أراده الله ليكونَ منهجاً للبشريةِ ، لماذا .. ؟ لأنه لو فُعل ذلك برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجاءَ بعدَه من الدعاةِ ممن تواجهُهُم مثلُ هذه المشاكلِ ، مشاكلِ الاضطهاد ، ومعاناةِ العذاب في سبيلِ تبيينِ الدعوةِ وإخراجِ الناسِ من عبادةِ العباد إلى عبادةِ ربِ العبادِ فأين حينَها يجدُونَ الحلَّ ؟ كيف يجدونَ المخرج ؟ إلى من يلتجئون ..؟ أولئك الذين يُضطهدونَ في دينهم ، أولئكَ الذينَ يحارَبونَ في عقيدتهم ، أولئك الذين تُمتَهَنُ كرامتُهم عليهم أن يأخذوا الدروسَ العظيمَةَ من هذه الهجرةِ .
إذًا ..نحن في هذه الهجرةِ بجميعِ مراحلِها ، نتبينُّ من خلالِها الدروسَ العظيمةَ للدعاةِ وللمسلمينَ ، فلو تمَّتْ هذه الهجرةُ بين عشيةٍ وضحاها ؛ لخسرنا تلكَ الدروسَ ، ولخسرنا تلكَ المواقفَ ، وهذا أمرٌ لا ينتبه له كثيرٌ من الناس ، ويكفي التأريخَ شرفاً أن سطَّرَ بأحرفهِ الذهبيةِ هذه السيرةِ العطرةِ ، وهذه الهجرة المباركة ، لنلجأ إليها كمخرجٍ من كُرباتِنا ، وحلٍ لأزماتِنا ، وشِفاءٍ لأمراضَنا ، بعد الله جل وعلا .
في هذه الهجرةِ يعرفُ الداعيةُ كيف يأخذُ بالأسبابِ ، كيف يفرقُ بين التوكلِ والتواكُلِ ، يأخذ الحذرَ والحِيطةَ ، يعرفُ المسلمُ من هذه الهجرةِ النبويةِ أنه لا يستكينُ ولا يستهينُ ولا يقْبَلُ الذلةَ في دينه ، ولا في عقيدته أبدا ، نعم .. إن هذه الهجرةَ العظيمةَ منهجٌ للبشر ، ولو خرجْتُ عن الموضوعِ من جهةٍ أخرى في درسٍ عظيمٍ أربِطُهُ بهذا الموضوعِ ، وهو " قضيةُ المنافقين " فلقد وقفتُ كثيراً وتأمّلتُ بتمعُّنٍ قصةَ علاجِ الإسلامِ لقضيةِ المنافقين ، وكيف عالج الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - قضيتهم حتى انتهت ، ابتداءً من الهجرةِ وحتى وفاتِه - صلى الله عليه وسلم - مروراً بالأطوارِ التي مرت بها قضيةُ المنافقينَ وأثرُهم في المدينة ، وتساءَلْتُ وقلتُ : الله جلا وعلا قادرٌ على أن يُعْلِمَ نبيهَ - صلى الله عليه وسلم - بعض أسماء المنافقينَ لِيَسْتَتِيَبهم ؛ فإن تابوا ، وإلا قُتلوا ، أو طُردوا " وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم " نعم .. لا تعلمهم كلهم نحن نعلمهم ، لأن الله لم يُردْ إبلاغَه إياهم ؛ لأن الله تعالى لو أخبرَ رسولَه - صلى الله عليه وسلم - بهذهِ الأسماء ، نحنُ الذينَ نأتي من بعدِه من سيخبِرُنا بالمنافقينَ الذين يعيشونَ بيننا ؟ كيف نعالجُ مُشْكِلَتِنَا معهم وهم من بني جلدتِنا ؟ إذا
لا بدَّ من اللجوءِ بعد الله تعالى إلى سيرةِ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - ، إلى هجرةِ الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فَمِثْلَمَا عالجَ الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - تلكَ المشكلةَ وتلكَ الفتنةَ داخلَ الصفِّ المسلمِ ، ووقفَ على تلكَ الخياناتِ التي ارتُكبتْ في داخلِ هذا الصفِّ ؛ سنجدُ حينها علاجا لمشكلاتِنا في زماننا هذا .
إن درسَ الهجرةِ أيها الأحبة درسٌ عظيم ، أراد الله سبحانه وتعالى لنا أن نتعلمَ منه الشيءَ الكثيرَ ، ولكن أين القلوبُ الحيةُ ؟ أين القلوبُ الصادقةُ اليقظةُ ؟ أين القلوبُ الباحثةُ عن الحق ؟ فالعودة العودة الصادقة الحميمة إلى هجرةِ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - لنستلهمَ الدروسَ والعبرَ ,,, وإلى ثاني الدروس الجنية من الهجرة النبوية .
-----------------
ثانيا : المدينة النبوية ، التأسيس والتوطين ..!
وهذه قضيةٌ مهمةٌ ، وهي أنه لا بُدَّ أن يكونَ للفئةِ المسلمةِ موطنٌ أو موضعٌ تتأسسُ فيه وتتربى عليه ، وتستطيعُ أن تمارسَ من خلالِه عمليةَ التغيير ، وقد كان هذا في دارِ الأرقمِ بنِ أبي الأرقمَ قبلَ الهجرةِ ، فقد كان موطنُ بناءٍ وتعليمٍ وإرشادٍ وغرسٍ للعقيدةِ وبناءٍ للإسلام في النفوسِ ، وتجميعٍ للصفوف ومعرفةٍ لواقع الباطلِ والجاهليةِ ، وهذا التجمعُ هو الذي كان يحرِّكُ دعوةَ الإسلامِ حتى أذن الله بالهجرةِ فكان التأسيسُ والتوطينُ في صورةِ دولةٍ وفي صورةِ مجتمعٍ متكاملٍ في مهَاجَرِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -
لقد كانَ هدفُ النبيِ - صلى الله عليه وسلم - من هجرتهِ إلى المدينةِ إيجادُ موطئ قدم للدعوة هناك حتى تَنْعُمَ بالأمنِ والاستقرار ، حتى تستطيعَ أن تَبْنِي نفسَهَا من الداخلِ وتَنْطَلِقَ لتحقيقِ أهدافِها في الخارجِ ، ولقد كان هذا الهدفُ أملاً وحلُما يراودُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - "رأيتُ في المنامِ أني أهاجرُ من مكةَ إلى أرضٍ بها نخلٌ ، فذهب ظني إلى أنها اليمامة أو هجر ، فإذا هي يثرب "
كان هدفُ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - من الهجرةِ تكثيرُ الأنصارِ وإيجاد رأيٍ عامٍ مؤَيِّدٍ للدعوةِ ، لأن وجودَ ذلكَ يوفرُ على الدعوةِ الكثيرَ من الجهودِ ويُذَلِّلُ في طريقِها الكثيرَ من الصِعاب ، والمجالُ الخَصْبُ الذي تَتَحققُ فيه الأهدافُ والمُنْطَلَقُ الذي تَنْطَلِقُ منه الطاقاتُ هو في المدينة ، ولهذا حرِصَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبعثَ مصعبَ بنَ عميرٍ أولَ سفيرٍ في الإسلام ، حرِص - صلى الله عليه وسلم - أن يرسله ليكونَ سفيرَه إلى المدينةِ ليعلِّمَ الأنصارَ الإسلامَ وينشرَ دعوةَ الله فيها ، ولمّا اطمأنَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى وجودِ رأيٍ عامٍ مؤَيِّدٍ للدعوةِ في المدينة حثّ أصحابَه إلى الهجرةِ إليها وقال لهم "هاجروا إلى يثرب ، فقد جعلَ الله لكم فيها إخواناً وداراً تأمنونَ بها "
لقد كان هدفُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - من الهجرةِ استكمالُ الهيكلِ التنظيميِ للدعوةِ ، فقد كان صعباً أن يكونَ الرسولُ القائدُ في مكةَ ، والأنصارُ والمهاجرونَ في المدينة ، صعبٌ أن يكونَ المعلمُ في مكةَ والتلاميذُ بعيدونَ عنه في المدينة ، ولهذا هاجرَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ليكونَ بين ظهْرَاَنيْ أتباعِه ، لأن الجماعةَ بدونِ قائدٍ كالجسدِ بلا رأسٍ ، ولأنَّ تحقيقَ أهدافِ الإسلامِ الكبرى لا يتمُّ إلا بوجودِ جماعةٍ مؤمنةٍ منظَمَةٍ ، تُغَذِّ السيرَ إلى أهدافِها بخُطًى وئيدةٍ وطيدةٍ متينةٍ .
فما أحوجَ المسلمينَ اليومَ إلى هجرةٍ نحو الله ورسولِه ، هجرةٍ إلى الله بالتمسكِ بحبله المتينِ وتحكيمِ شرعهِ القويم وهجرةٍ إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - باتباعِ سنته ، والاقتداءِ بسيرته ، فإنْ فعلوا ذلك فقد بدأوا السيرَ في الطريقِ الصحيحِ وبدأوا يأخذونَ بأسبابِ النصرِ ، وما النصرُ إلى مِن عندِ الله ، ويسألونكَ متى هو ؟ قل عسى أن يكونَ قريباً .
--------------
ثالثا : دعوةٌ مستمرةٌ وصبرٌ عظيم .
فالنبيُ - صلى الله عليه وسلم - كما نعلمُ ظلَّ في مكةَ ثلاث عشرةَ سنةً يدعو إلى الله جل وعلا ليلََ نهار ، متعرضا في ذلك إلى الأذى الشديدِ والاضطهادِ المستمرِ من كفارِ قريشٍ الذينَ لا يريدونَ للخيرِ أن ينتشرَ ، ومع ذلك فلم ييأس مع كلِّ هذا العنتِ وقلةِ من آمنَ معه خلالَ هذه المدةِ ، فحاولَ أن يتجهَ إلى بيئةٍ أخرى لعلهُ يستطيعُ من خلالِها نشرَ دينِ الله جل وعلا ، فاتجه إلى الطائفِِ ولكنه فوجئَ بالسفهاءِ يردونَه رداً منكرا ، تقولُ أمُ المؤمنينَ عائشةُ رضى الله عنها وهي تحدِّثُ ابنَ أختها عروة أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ ..؟ قَالَ لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلالٍ فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ فَنَادَانِي فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ ثُمَّ قَالَ يَا مُحَمَّدُ إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ فعلت ولك ذلك ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا [ رواه البخاري ](1/25)
إن هذه الوقفةَ أيها الأحبةُ تجعلُنا نتساءل : ماذا قدمنا لدينِ الله ؟ كم تحملنا من الأذى في سبيلِ نشره بين الناس ؟ هل صبرَنا كما صبرَ عليه الصلاة والسلام ؟ أم أننا استسلمنا بمجردِ أن نواجِهَ أذىً أو معارضةً ، فقمنا بعد ذلك بالتوقُفِّ عن الدعوةِ إليه سبحانَه ، هل هذه هي القدوةُ بالنبيِ المصطفى الأمينِ ، إنك لو نظرتَ أيها الكريمُ إلى أمتكَ الكريمةِ في القرآنِ الكريمِ ونظرتَ إليها في أرضِ الواقعِ لانفلق كبِدُكَ من الحزنِ والبكاءِ على واقعِ أمةٍ قد انحرفت كثيراً وكثيراً عن منهج الله جل وعلا وعن سنةِ رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، فهاهي الأمةُ التي نراها اليومَ ونعيشُ تحت ظِلالها ، ليستْ هي الأمةُ التي خرجتْ وبزغتْ في فجرِ الإسلام ، أمتنا اليومْ بدلت شرع الله وانحرفتْ عن طريقِ رسول الله واستبدلتِ الذي هو أدنى بالذي هو خير ، أذلَّ الله الأمةَ لأحقرِ وأذلِّ أُممِ الأرضِ ممن كتب الله عليهمُ الذلةَ والهوانَ واللعنةَ من إخوانِ القردةِ والخنازيرِ من أبناءِ يهود ، نعم .. أصبحتِ الأمةُ اليومَ قَصْعَةً مستباحةً لأحقرِ أممِ الأرضِ وأذلِّها ، وحَقَّ عليها قولُ الصادقِ المصدوق - صلى الله عليه وسلم - في الحديثِ الصحيحِ الذي رواه أبو داوودَ من حديثِ ثوبانَ رضي الله عنه : يوشِكُ أن تتداعى عليكمُ الأممُ كما تتداعى الأكلةُ إلى قصعتها قالوا : أومِن قلةٍ نحنُ يومِئذٍ يا رسول الله ؟ قال : لا ، ولكنكم غثاءٌ كغثاءِ السيلِ ، وليوشكَّنَ اللهُ أن ينزعَ المهابةَ من قلوبِ عدوِّكُم ، وليقذفنَّ في قلوبكمُ الوهنَ ، قيل وما الوهنُ يا رسول الله ؟ قال : حبُ الدنيا وكراهيةُ الموت " لقد أصبحتِ الأمةُ اليومَ أيها الأخيارُ غُثاءً من النِفاياتِ البشريةِ تعيشُ على بِساطِ الحياةِ الإنسانيةِ ، تعيشُ الأمةُ كدُويلاَتٍ متناثرةٍ متصارعةٍ متحاربةٍ تفصل بينها حدودٌ جغرافيةٌ مصطنعة ، ونَعَرَاتٌ قوميةٌ جاهلية ، وتُرفرفُ على سمائها راياتٌ قوميةٌ ووطنيةٌ تَحْكُمُها قوانينٌ جاهلية غربية ، وتدورُ بالأمةِ الدوراتُ السياسيةُ فلا تملكُ الأمةُ نفسها عن الدورانِ بل ولا تختارُ لنفسِها حتى المكانَ الذي تدورُ فيه ! ذلت الأمةُ بعد عِزَّةٍ ، وجَهِلتِ الأمةُ بعد علم ، وضعُفتِ الأمةُ بعد قوة ، وأصبحتْ في ذيلِ القافلةِ الإنسانيةِ بعد أن كانتْ بالأمسِ القريبِ تقودُ القافلةَ كلَّها بجدارةٍ واقتدار ، أصبحتِ الأمةُ اليومَ تتسوَّلُ على موائدِ الفكرِ الإنسانيِ والعلمي بعد أن كانتِ الأمةُ بالأمسِ القريبِ منارةً تَهْدِي الحيارىَ والتائهينَ ممن أحرقَهُمْ لفحُ الهاجرةِ القاتلِ وأرَّقهم طولُ المشيِ في التيهِ والضلال ، أصبحتِ الأمةُ اليومَ تتَأْرجحُ في سيرِها ، ولا تعرفُ طريقَها الذي يجبُ عليها أن تَسْلُكَهْ وأن تسيرَ فيه بعدَ أن كانتِ الأمةُ بالأمسِ القريبِ الدليلَ الحاذقَ الأربَ في الدروبِ المتشابكةِ والصحراءِ المهلكةِ التي لا يهتدي للسيرِ فيها إلا الألداءُ المجرِّبونَ .. فما الذي جرى ؟ ما الذي تغير .. لا شيء ..! لكنها السننُ الربانيةُ " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " واللهِ إن هذا الواقعَ الأليمَ الذي نراه بأمِّ أعينِنا في أمتنا يستنفرُ جميعَ الهِممِ الغيورةِ ويستوجبُ أن يسألَ كلُ واحدٍ منا نفسَه هذا السؤالَ ماذا قدمنا لدين الله جل وعلا ؟ هل فعلا نحنُ السببُ في تخلفِّ هذه الأمةِ ورُكُوبِها ذيلَ القطار ..؟ سؤالٌ وإن كان يُمَثِّلُ في الحقيقةِ ظاهرةً صحيةً إلا أنه يَنُمُّ عن خَلَلٍ في فَهْمِ حقيقةِ الانتماءِ لهذا لدينِ إلى الحَدِّ الذي أصبحَ فيه المسلمُ لا يعرفُ ما الذي يجبُ عليه أن يقدِّمَه لدينِ الله جلّ وعلا ، لماذا ؟! لأن قضيةَ العملِ للدين ما تحركتْ في قلوبنا إلا في لحظةِ حماسٍ عابرةٍ أجَّجَهَا عالمٌ مخلصٌ أو داعيةٌ صادقٌ ، فقمنا بعد هذه اللحظةِ الحماسيةِ المتأججةِ نسألُ عن أدوارِنا .. إنه وربي سؤالٌ مخجلٌ سؤالٌ مَهيب ؟؟ سؤالٌ يجبُ ألا نمِلَّ طرحه وألا نسئمَ تِكراره لنُحييَ في القلوبِ قضيةَ العملِ لهذا الدينِ في وقتٍ تحرَّكَ فيه أهلُ الكفرِ والباطلِ بكلِ رجولةٍ وقوةٍ لباطلِهم وكفرِهم ! في وقتٍ انتعشَ أهلُ الباطلِ فيه وتحركوا في الوقتِ الذي تقاعسَ فيه أهلُ الحقِ وتكاسلوا ، بل والله ما انتفشَ الباطلُ وأهلُهُ إلا يومَ أن تخلى عن الحقِ أهلُه ، إنه واقعٌ يجبُ أن يستنفرَ جميعَ الهممِ الغيورةِ ، قُلْ لنفسكَ وخاطبها .. ما هو دوري في هذه الحياة ؟ كيف أقدمُ لدين الله ..؟.. أما والله لو كانتْ قضيةُ العملِ لدينِ الله تشْغَلُ أفكارَنا وتملأُ قلوبَنا وتُحرِقُ وُجدانَنا وتُقِضُّ مضاجعَنا ونفكرُ فيها ليلَ نهار في النومِ واليقظةِ في السِّرِ والعلانية ، نعم .. لو كانتْ قضيةُ العملِ لدين الله في قلبِ كلٍّ منا ما سأل نفسه أبداً هذا السؤالَ ، لأنه سيحدِّدُ أمرَه بحَسَبِ الزمانِ الذي يعيشُه وبِحَسَبِ المكانِ الذي يعيشُ فيه ، لأن قضيةَ العملِ لدينِ الله تملأُ عليه همَّهُ ووُجدانَه وقلبه ، لكن بكلٍ أسفٍ بكلِ مرارةٍ بكل حزنٍ أصبحت قضيةُ العملِ لدينِ الله قضيةً هامشيةً ثانويةً في حِسِّ كثيرٍ من المسلمين!.. بل وأصبحَ لا وجودَ لها في حِسِّ قِطَاعٍ عريضٍ آخرَ ممن يأكلونَ مِلَءَ بطونِهم وينامون ملءَ عيونهم ويضحكون ملءَ أفواههم ، بل وينظرونَ إلى واقعِ الأمةِ فَيَهُزُّ الواحدُ كتفيه ويَمْضِي وكأنَّ الأمرَ لا يعنيه ، وكأنه ما خُلقَ إلا ليأكلَ ويشربَ ، أقولُ ..
إن العملَ للدينِ مسئوليةُ كلِّ مسلمٍ ومسلمةٍ ، فلا بدَّ أن تكونَ لقضيةِ الدينِ مساحةٌ في خريطةِ اهتماماتنِا وبرامجنا نعم .. لا بدَّ أن يَضْبطَ الدينُ عواطفَنا ، وأن يُحْرِقَ همُّ الدينِ وِجدانَنا، وإِنَّ من المُحالِ أن يتحرَكَ الإنسانُ لشيءٍ لا يعتقده ، لا يحمله في قلبه ، وتأمل كيف احترق قلبُ نبينا - صلى الله عليه وسلم - لهذا الدين حتى قال له ربه " فلعلك باخعٌ نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديثِ أسفا "
------------
رابعا : الثبات على المبدأ .
إن الله تعالى خلقَ الخلق ليعرفوه ويعبُدُوهُ ، ونصبَ لهم الأدلةَ الدالةَ على كبريائهِ وعظمته ليهابُوه ، وقد اقتضت حكمتُه سبحانه وتعالى أن جعلَ الابتلاءَ سنةً من سننِ اللهِ الكونيةِ ، وأن المرءَ بحاجةٍ إلى تمحيصٍ ومراجعةٍ حتى يتميَّزَ الخبيثُ من الطيبِ ، والمؤمنُ من غيره ؛ فالسعيدُ من اعتصم بالله ، وأناب ورجعَ إلى الله ، والمؤمنُ الصادقُ ثابتٌ في السراءِ والضراءِ " الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ " " أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ "
إن هجرةَ النبيِ - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينةِ كشفتْ لنا معالمَ في الشدةِ والرخاءِ ، والعسرِ واليسر ، وأبانت لنا عن معادنِ النفوسِ ، وطبائعِ القلوب ؛ ومن عَلِمَ حكمةَ الله في تصريفِ الأمور ، وجريانِ الأقدارِ فلن يجدَ اليأسُ إلى قلبه سبيلاً ، ومهما أظلمتِ المسالكُ وتتابعتِ الخطوبُ وتكاثرتِ النكباتُ ؛ فلن يزدادَ إلا ثباتاً ؛ فالإنسانُ إلى ربه راجع ، والمؤمنُ بإيمانه مستمسكٌ وبأقدار الله مسلِّم ، وإن من معالمِ هذه الهجرةِ النبويةِ المباركة : الثباتُ على المبدأ ، الثباتُ على الدينِ والاستقامةُ عليه ، ذلك أن الثباتَ على دينِ اللهِ والاعتصامَ به يدلُ دلالةً قاطعةً على سلامةِ الإيمانِ ، وحسنِ الإسلامِ وصحةِ اليقين .
إن الثباتَ على دينِ الله خُلُقٌ عظيمٌ ، ومعنى جميل ، له في نفسِ الإنسانِ الثابتِ وفيمن حولَه من الناسِ مؤثراتٌ مهمةٌ تفعل فِعْلَها ، وتؤثرُ أَثَرَهَا ، وفيه جوانبُ من الأهميةِ الفائقةِ في تربيةِ الفردِ والمجتمع .
إن صفةَ الثباتِ على الإسلامِ والاستمرارِ على منهجِ الحق نعمةٌ عظيمةٌ حبا الله بها أولياءَه وصفوةَ خلقه ، وامتنَّ عليهم بها ، فقال مخاطباً عبدَه ورسولَه محمداً - صلى الله عليه وسلم - " وَلَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً "
إن الثباتَ على دينِ الله دليلٌ على سلامةِ المنهجِ ، وداعيةٌ إلى الثقةِ به ، وهو ضريبةُ النصرِ والتمكينِ والطريقِ الموصلةِ إلى المجدِ والرفعةِ ، ألم تروا كيف ثبتَ - صلى الله عليه وسلم - في دعوتِه قبلَ الهجرة وبعدَها ؟ ألم تروا كيف مُكِّن وأُعزَّ ونُصِرَ بسبب ثباته على مبدأه صلوات ربي وسلامه عليه ..؟
إن الثباتَ طريقٌ لتحقيقِ الأهدافِ العظيمةِ ، والغاياتِ النبيلةِ ؛ فالإنسانُ الراغبُ في تعبيدِ الناسِ لربِ العالمين والعاملُ على رفعةِ دينه وإعلاءِ رايتِه لا غِنَى له عن الثبات .
إن الثباتَ يعني الاستقامةَ على الهدى ، والتمسكَ بالتقى ، وقَسْرَ النفسِ على سلوكِ طريقِ الحقِ والخير ، والبُعْدِ عن الذنوبِ والمعاصي وصوارفِ الهوى والشيطان .
إنَّ مما يُعينُ على الثباتِ أمامَ الفتنِ والابتلاءاتِ صحةُ الإيمانِ وصلابةُ الدينِ ؛ فكلَّمَا كانَ الإنسانُ قوياً في إيمانه ، صلْباً في دينه ، صادقاً مع ربه ، كلما ازدادَ ثباتُه ، وقَوِيَتْ عزيمتُه وثبتَتْ حُجتُه ، وحَسْبُكَ أن صاحبَ الهجرةِ محمداً - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو ربه ويسألُه الثبات " اللهم إني أسألك الثباتَ في الأمرِ، والعزيمةَ على الرشد"
إن الثباتَ على الدينِ مطلبٌ عظيمٌ ورئيسٌ لكلِ مسلمٍ صادقٍ يحبُ الله ورسولَه - صلى الله عليه وسلم - ، ويريدُ سلوكَ طريقِ الحقِ والاستقامةِ بعزيمةٍ ورشد ، والأمةُ الإسلاميةُ اليومَ أحوجُ ما تكونُ إلى الثباتِ خاصةً وهي تموجُ بأنواعِ الفتنِ والمغريات وأصنافِ الشهوات والشبهات ، فضلاً عن تداعي الأممِ عليها ، وطَمَعِ الأعداءِ فيها ومما لا شك فيه أن حاجةَ المسلمِ اليومَ لعواملِ الثباتِ أعظمُ من حاجةِ أخيه المسلمِ إلى ذلك في القرونِ السالفة وذلك لكثرةِ الفسادِ ونُدْرَةِ الإخوان ، وضَعْفِ المُعين ، وقِلةِ الناصح والناصر ، والله المستعان .
----------------
خامسا ً: جِنسيةُ المسلمِ ووطنُه عقيدته .
إن أغلى ما لدى الإنسانِ إذا تخلى عن مُقوِماتِ دينِه ، أهلُه وولدُه وماله وبلده ، فالصحابةُ رضوانُ الله عليهم لما وجدوا أن مكةَ ليستْ مقراًّ لدينِهم ؛ استأذنوا من الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - بالهجرةِ ، فأذن لهم - صلى الله عليه وسلم - ، وهنا ارتفعوا عن مطالبِ الدنيا ، وعن حقارةِ الدنيا ، وعن ذُلِّ الدنيا ، وَنَجَوا بعقيدتِهم ؛ لأن المسلمَ وطنُه عقيدتُهُ ، فالصحابةُ رضوانُ الله عليهم ضحَّوا بالوطنِ ، وضحوا بالأهلِ ، وضحوا بالمالِ في سبيل هذه الهجرة في سبيلِ عقيدتِهم ، وانظر إلى صهيبٍ الرومي رضي الله عنه ، كان عبداً مملوكاً في مكةَ ، فلما جاء الله بالإسلام صدّقَ وأطاع ، فاشتدَ عليه عذاب الكفار ، ثم أَذِنَ النبيُ - صلى الله عليه وسلم - للمؤمنينَ بالهجرةِ إلى المدينة فهاجروا ، فلما أرادَ أن يهاجرَ معهم منعه سادةُ قريشٍ ، وجعلوا عنده بالليل والنهارِ من يحرُسُه ، خوفاً من أن يَهْرُبَ إلى المدينة ، فلما كان في إحدى الليالي ، خرجَ من فراشِه إلى الخلاء ، فخرجَ معه من يرْقُبُه ، ثم ما كادَ يعودُ إلى فراشهِ حتى خرجَ أخرى إلى الخلاءِ ، فخرج معه الرقيب ، ثم عاد إلى فراشه ، ثم خرجَ ، فخرجَ معه الرقيبُ ، ثم خرج كأنه يريد الخلاءَ ، فلم يخرُج معه أحد ، وقالوا : قد شغلَتُه اللاتُ والعزى ببطنه الليلةَ ، فتسَلَّلَ رضي الله عنه ، وخرَجَ من مكةَ ، فلما تأخَّرَ عنهم ، خرجوا يلتمسونَهُ ، فعلِمُوا بهربِه إلى المدينة ، فلحقوه على خَيْلِهم ، حتى أدركوُه في بعضِ الطريقِ ، فلما شَعُرَ بهم رقى على ثَنِيَّةِ جبلٍ ، ثم نَثَرَ كِنَانَةَ سِهَامِهِ بين يديه وقال : يا معشرَ قريشٍ ، لقد علمتُم واللهِ أنِّي أصوبُكُم رمياً ، ووالله لا تَصِلُونَ إليَّ حتى أَقْتُلَ بِكِلِّ سَهْمٍ بين يَدَيّ رجلاً منكم ، فقالوا : أتيتنا صُعْلُوكاً فقيراً ، ثم تخرجُ بنفسكَ ومالك ، فقال : أرأيتم إنْ دَلَلْتُكُم على موضِعِ ماليِ في مكةَ أتأخذونه وتدعوني ..؟ قالوا : نعم .. فقال : احفروا تحتَ أُسْكُفَّةِ بابِ كذا وكذا فإن بها أواقيَ من ذهب ، فخذوها واذهبوا إلى فلانةَ فخذوا الحُلَّتَيْن من ثيابٍ ، فرجعوا وتركوه ، ومضى يَطْوِي قِفَارَ الصحراءِ ، يحمله الشوقُ ويحدوهُ الأملُ في لقاءِ النبيِ عليه السلامُ وأصحابِه ، حتى إذا وصلَ المدينةَ ، أقبلَ إلى المسجدِ فدخلَ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليه أَثَرُ الطريق وَوَعْثَاءُ السفرِ ، فلما رآه النبيُ عليه الصلاةُ والسلام قال : ربِحَ البيعُ أبا يحيى .. ربحَ البيعُ أبا يحيى .. ربح البيعُ أبا يحيى .. نعم والله ربحَ البيع .. ولماذا لا يربح..؟ وهو الذي هانَ عليه أن يَتْرُكَ المالَ الذي جمعه بكَدِّ الليلِ وتَعَبِ النهار ، لماذا لا يربح وقد تركَ الأرضَ التي ألفها والبلدَ التي عرفها ، والدارَ التي سكنها ، في سبيل طلبِ عقيدته ومرضاةِ ربه.. أيها الأحبةُ الكرام ..
لا بد أن نوطنَّ أنفسنا ، وأن نفهم هذه الهجرةَ فهماً حقيقيا بأن جنسيةَ المسلمِ ووطنِه هي عقيدتُه ، فالمسلمُ تبعًا لهذا المبدأ ، فلا يَهِنُ ولا يستكين ولا يقبل الذلَّ ، ولا يقبلُ الخور والضعفَ " وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ " ولما وجد الصحابةُ رضي الله عنهم أنهم لا يستطيعون أن يعيشوا بهذا الدين إلا بالذل والمهانة والاستكانة ؛ تخلوا عن هذا الوطن ، وذهبوا إلى بلاد يرفعون فيها رؤوسهم عالية ، فرفع الله مقامهم ، وأعادهم إلى وطنهم منتصرين .
لقد أكدت دروسُ الهجرةِ النبويةِ أن عزة الأمة تكمُن في تحقيق كلمة التوحيد ، وتوحيدِ الكلمةِ عليها ، وأن أي تفريقٍ في أمر العقيدة أو تقصيرٍ في أخوةِ الدينِ مآلُه ضعفُ الأفرادِ وتفكُكُ المجتمعِ وهزيمةُ الأمة ، وإن المتأملَ في هزائمِ الأممِ وانتكاساتِ الشعوبِ عبر التأريخِ يجدُ أن مردّ ذلك إلى التفريطِ في أمر العقيدةِ والتساهلِ في جانب الثوابتِ المعنويةِ مهما تقدمتِ الوسائلُ المادية .
إن عقيدةَ التوحيدِ هي الرابطةُ التي تتضاءلُ أمامها الانتماءاتُ القوميةُ والتمايزاتُ القبليةُ والعَلاقاتُ الحزبية ، واستحقاقُ الأمةِ للتمجيدِ والتكريمِ مدينٌ بولائها لعقيدتها وارتباطِها بمبادئها ، كيف لا ..؟ وفي الأمةِ في أعقابِ الزمن منهزمونَ كثر أمامَ تياراتٍ إلحاديةٍ وافدةٍ ومبادئَ عصريةٍ زائفةٍ ترفعُ شعاراتٍ مصطنعةٍ وتُطْلِقُ نداءاتٍ خادعةً ، لم يجنِ أهلها من ورائها إلا الذلّ والصغارَ والمهانةَ والتبارَ والشقاءَ والبوارَ ؛ فأهواءٌ في الاعتقاد ومذاهبُ في السياسةِ ومشاربُ في الاجتماع والاقتصادِ كانت نتيجتها التخلفَ المهينَ والتمزقَ المشين ، وفي خِضَّمِ هذا الواقعِ المُزري يَحِقُّ لنا أن نتساءلَ بحرقةٍ وأسى : أين دروسُ الهجرةِ في التوحيدِ والوحدة ؟ أين أخوةُ المهاجرينَ والأنصارِ مِن شعاراتِ حقوقِ الإنسانِ المعاصرةِ الزائفة ؟ قولوا لي بربكم أيُ نظامٍ راعى حقوقَ الإنسانِ وكرّمه أحسنَ تكريمٍ وكَفِلَ حقوقَه كهذا الدينِ القويم .
--------------
سادسا: المسجدُ والدورُ الحقيقي .
ويواصلُ النبيُ - صلى الله عليه وسلم - سيرَهُ حتى وصلَ إلى المدينةِ ، فبدأ ببناءِ المسجدِ وعمارتِه لِعِلْمِه أنَّ المسجدَ لم يوجدْ في الإسلامِ لأداءِ الصلاةِ فقط ، وإنما هو مدرسةُ المجتمعِ الحقيقيةِ وهو نُقطةُ الانطلاقِ لتبليغِ دينِ الله ، وهو مركَزُ الدولةِ الإسلاميةِ السائرةِ على منهجِ الله .
لقد نشأتْ مكانةُ المسجدِ وترعرعتْ في قلوبِ المسلمينَ مُنْذُ عهدِ النبوةِ ، حيث كانَ مصدرَ النورِ والعلم والبصيرةِ والعزة للإسلامِ والمسلمين ؛ فأعلى سبحانَه شأنَ المساجدِ ورفع قدرها ، ولا أدلَّ على عظيمِ مكانةِ المسجدِ ومعرفةِ المسلمينَ الأوائلَ أنْ لا طريقَ لإعلاءِ دينِهمُ الذي هو مصدرُ عِزِّهِم ، إلا بالانطلاقِ منه ، ولذلكَ فإنَّ أولَ ما بَدأ به النبيُ - صلى الله عليه وسلم - عندما حلَّ بأرضِ الهجرةِ النبويةِ هو بِناءُ المسجدِ لِجَعْلِه مصدرًا للدعوةِ ومنبعًا لها وموردًا للصحابةِ رضي الله عنهم للجلوسِ معه عليه الصلاةُ والسلام ، وعندما رسخَتْ هذه المعاني في قلوبِهم رضي الله عنهم ساروا عليها بكُلِّ ما أُوتُوا من عزْمٍ ويقينٍ بعد وفاته عليه الصلاةُ والسلام ، ثم سارَ المسلمونَ من بعدهم في هذا المسير ، وانطلقوا من هذا المنطلقِ ، ومن ذلك المكانِ الطاهر الشريفِ فإن الإمامَ عليه مسئوليةٌ وتَبِعَات ، ومؤذِنُ المسجدِ والمصلونَ كذلك ، كُلٌ له دورُه الذي يُعْتَبَرُ لَبِنَةً لِبِنَاءِ هذه الرسالة ، وبَعْثِها لأرجاءِ المعمورة .
أرأيتم لو قامَ كُلٌ بدوره المأمولِ منه وإحيائِه واستحضارِه ... أيبقى دورٌ في أرجاءِ الأرضِ وقوةٌ على ظهرها لغيرِ الإسلامِ ودعوته ؟ ولا أدلَّ على عِنَايةِ الإسلامِ بالمسجدِ وقداسَتِه من أمْرِ الشارعِ بعدم زخرفتِه ، ونَشْدِ الضالةِ ورفعِ الصوتِ ، كُلُ ذلك لِتَتَوَحَّدَ القلوبُ وتبتهلَ إلى خالِقها وإلهِها بدونِ صوارفَ وشواغلَ تُعيقُ تَهَيؤَها للقيامِ بدورها تجاهَ المسجدِ ورسالته ، فأين أغنياءُ المسلمينَ عن هذه الحقيقةِ ، وأينَ العلماءُ والمسئولونَ عن هذا الأمرِ المهمِ في حياةِ المجتمعات ، لماذا أصبحتِ المساجدُ مهملةً ، وإذا اعتُنِيَ بها فمِن أَجْلِ الصلواتِ فقطْ ولا دورَ لها بعد ذلك في حياة المسلمين .
-------------
سابعا : الهجرةُ وتأريخها ..!
وإشارةً أخرى إلى أمرٍ يتعلقُ بحدثِ الهجرةِ النبويةِ في قضيةٍ تُعبِّرُ بجلاءٍ عن اعتزازِ هذه الأمةِ بشخصيتها الإسلاميةِ وتُثبتُ للعالمِ بأسره استقلالَ هذه الأمةِ بمنهجها المتميزِ المُستقى من عقيدتِها وتأريخها وحضارتِها ، إنها قضيةٌ إسلامية ٌوسنةٌ عُمريةٌ أجمعَ عليها المسلمونَ في عهدِ عمرَ بنِ الخطاب رضي الله عنه إنها التوقيتُ والتأريخُ بالهجرةِ النبويةِ المباركة ، واختيارُ الصحابةِ هذا التأريخَ على غيرهِ من الأحداثِ يُعََدُّ من فقهِهِمْ وفهمهمُ العميقِ لأهميةِ هذا الحدثِ الذي انتقلتِ الأمةُ المسلمةُ بسببه من مرحلةِ الاستضعافِ والابتلاءِ إلى مرحلةِ الاستخلافِ والتمكين ، وكم لهذه القضيةِ وربي من مغزًى عظيمٍ يَجْدُرُ بأمةِ الإسلامِ اليومَ تَذَكُّرَهُ والتَقيَُدَ به ، كيف وقد فُتِنَ بعضُ أبنائِها بتقليدِ غيرِ المسلمينَ والتشبهِ بهمْ في تأريخِهم وأعيادِهم ، فأين هي عِزةُ الإسلام ؟ وأين هي شخصيةُ المسلمين ؟ هل ذابت في خِضَمِّ مُغْرَياتِ الحياة ؟ فإلى الذين تنكروا لثوابتِهم وخدشوا بَهاءَ هويتِهم وعملوا على إلغاءِ ذاكرةِ أمتِهم ، وتهافتوا تَهَافُتاً مذموماً وانساقوا انسياقاً محموما خلف خصومِهم وذابوا وتميعوا أمامَ أعدائهم ، ننادي نداءَ المحبةِ والإشفاق : رويدَكم ؛ فنحنُ أمةٌ ذاتُ أمجادٍ وأصالةٍ وتأريخٍ وحضارةٍ ومنهجٍ متميزٍ منبثقٍ من كتابِ ربِنا وسنةِ نبينا - صلى الله عليه وسلم - فلا مساومةَ على شيءٍ من عقيدتنا وثوابتنا وتأريخِنا ولسنا بحاجةٍ إلى تقليدِ غيرِنا ، بل إن غيرَنا في الحقيقةِ بحاجةٍ إلى أن يستفيدَ من أصالتِنا وحضارتنا ، لكنه التقليدُ والتبعيةُ والمجاراةُ والانهزاميةُ والتشبهُ الأعمى من بعضِ المسلمينَ هداهم الله ، كيف لا ..؟ وقد حذر - صلى الله عليه وسلم - أمتَه من ذلك بقوله فيما أخرجَه الإمامُ أحمدُ وأهلُ السننِ " من تشبه بقوم فهو منهم "
--------------
ثامنا : الهجرةُ ومبدأ الشورى .
كلَّنا نعرفُ أن قريشاً اجتمعتْ في دارِ الندوة ، وتشاوروا كيف يفعلونَ بالرسولِ - صلى الله عليه وسلم - ؟ نعم .. تآمروا واختلفوا في الرأي ، لكنهم اتفقوا على أن يجتمعَ عددٌ من أمزاعِ القبائلِ وأفرادها ليقتلوا الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - فيَضِيعُ دمُه بين القبائلِ .
ما أشبهَ الليلةَ بالبارحة ، وما أقربَ عِلاقةَ الماضي بالحاضرِ والحاضرِ بالماضي ؛ أعداءُ الله جادونَ لحربِ دينِ الله ، جادون لحربِ الدعاة ، كما كان أولئكَ جادينَ في دارِ الندوة ، فقط .. اختلفتِ الأدوارُ واتفقتِ الأهدافُ ، اختلفتِ الوسائلُ واتفقتِ الغايات .
كما أجد أن كفارَ قريشٍ في دارِ الندوةِ يشعُّون حماساً لإنهاءِ هذه الدعوةِ المحمديةِ ، أجد واللهِ أعداءَ الله يتطايرُ النومُ من أعينِهم حماساً لحربِ الدعاةِ وحربِ الإسلام ، أجدُ أن الدعاةَ يفتقرونَ إلى شيءٍ مما نجده عندَ أعداءِ اللهِ وهو الحماسُ لدعوتهِم ومبادئِهم ، والتخطيطِ البعيدِ المستمر ، كفارُ قريشٍ جلسوا يتشاورون ويعقدون ويتآمرون ، والسؤال المهم الذي ينبغي أن نستفيده : هلِِ المسلمونَ يتشاورونَ فيما يتعلقُ بأمورِ دينهم وعقيدتهم ؟ هل يلتقونَ ليتدارسوا أوضاعَ المؤامراتِ على هذه العقيدة ، وعلى هذا الدينِ ؟ كفارُ قريش في دارِ الندوة ، وكفارُ العصرِ الحاضرِ في دورٍ كثيرةٍ ، يتشاورونَ ويخططونَ ، والمسلمونَ نائمون ، كفار قريش في دار الندوة سلكوا السبيل الذي يحقق لهم أهدافهم ، وبنفس القوةِ وبنفسِ المنطقِ أعداءُ الإسلام في العصر الحاضر يسلكونَ السبيلَ ذاتَه ، ولهذا فإن الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - علاجا للمشكلة التي مرَّ بها والمؤامرة التي حلت به واجه التخطيطَ بالتخطيط ، والقوةَ بالقوة ، والحكمة بالحكمة ، والأسلوبَ بالأسلوب .
----------------
تاسعا : الهجرةُ والتخطيط .(1/26)
إن التخطيطَ للهجرةِ من أعظم الدروس التي نستفيدُها في دعوتنا ، مأساة كثيرٍ من المسلمين بل مأساةُ الدعاة أن التخطيطَ لديهم فيه ضعفٌ كبير ، إن لم أقل : إنه لا يوجد لدى الكثيرِ منهم أبدا مفهومُ التخطيط ، لديهمُ الإعدادُ الضعيف ، بينما نجده في الهجرةِ يتمثَّل في أشياءَ كثيرة ، يتمثل في الاستعدادِ المبكرِ من الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - ، يتمثلُ التخطيطُ في تهيئةِ أبي بكرٍ رضي الله عنه لذلك ، حيثُ جلس كما في الصحيحِ أربعةَ أشهرٍ ينتظرُ الهجرةَ معَ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - ويهيئُ الراحلةَ ، نجدُ التخطيطَ في إقامةِ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - عليا مكانه ، وعندما بدأت مراحلُ الهجرة ؛ جاءَ التخطيطُ الدقيقُ في خُطُوَات ، وانتبهوا إلى هذه الخطوات وهذا التخطيط :
أولا: الانتقالُ إلى غارِ ثورٍ ، ولماذا اختارَ النبيُ - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكرٍ هذا الغار ؟ نعم . اختارا هذا الغارَ ليخالفوا ما أرادت إليه قريش ، فاتجهوا جنوبا .
ثانيا : توزيعُ الأدوار ، فعبدُ اللهِ بنُ أبي بكرٍ يأتي بالأخبار ، وعامرُ بنُ فهيرةَ يأتي بالغنمِ ليحلبوا ويشربوا ، ويغطي آثارَ عبدِ اللهِ بنِ أبي بكر ، وأسماءُ تأتي بالطعام ، وعبدُ اللهِ بنُ أُرَيقِط يَسْتَعِدُ للانطلاقِ بهم بعدَ ثلاثِ ليال ، أرأيتم كيفَ أنه ترتيبٌ محكمٌ دقيقٌ مخططٌ له ، فهل نحن عندما نريد أن نُقْدمَ على أي أمرٍ من أمورِ الدعوة ؛ نستعدُّ لذلك ؟ نخططُّ له ، نُجيدُ تحديدَ المراحل ، المؤسفُ أن الواحدَ منا إذا أراد أن يَعْمُرَ بيتا ؛ جَلسَ يُخططُ عدةَ أشهرٍ ، نعم .. إذا أقبل على أمرٍ من أمورِ الدنيا ؛ خطَّطَ ورتبَ واستعدَ ، ولكن في أمورِ الدعوة في أمورِ الإسلام فإنه يَخْبِطُ خبطَ عشواء ، ومن هنا جاءتِ النتائجُ السلبيةُ والنتائجُ السيئةُ لكثيرٍ من الدعواتِ وكثيرٍ من الحركاتِ ؛ لأنهم يتحركونَ بدونِ تخطيطِ ، يتحركونَ بدونِ دراسةٍ للواقع ، وبدونِ حسابٍ للمستقبل ؛ حسبَ الأسبابِ التي شرعها الله سبحانه وتعالى ، وهذا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يا أحبابي ، وهو رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُخططُ تخطيطاً بشريًا دقيقا ، يخططُ ليستفيدَ الدعاةُ من هذه التجربةِ ، إنها دروس ، فهل نستفيد منها ؟
تذكرتُ وفكرتُ في كثيرٍ من النكباتِ التي حلَّتْ بكثيرٍ من الجماعاتِ الإسلاميةِ في كثيرٍ من الدول ، ووجدتُ أن مِن أهمِّ أسبابِها ضعفُ التخطيطِ لمقابلةِ أعداءِ الله ، فالمسلمُ كَيِّسٌ فطن ، فلا يُقْدِمْ على أمرٍ إلا بعد أن يكونَ قد قلَّبَ جميعَ الأمور ، وأخذَ بجميعِ الوسائلِ والأسباب ، وهذا الدرسُ واضحٌ وجليٌ وعظيمٌ في سيرةِ الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، تخطيطٌ محكمٌ دقيقٌ ، لا تجدُ فيه ثغرةً من الثغراتِ ، فسبحانَ الله ! ما أحوجنا إلى أن نقفَ أمامَ هذا الأمرِ العظيم ؛ لتستفيدَ منه الأجيالُ بعد الأجيالِ ، فإلى متى والمسلمونَ يتخبَّطونَ في أمورهم ؟ إلى متي ونحن أبناءُ الصُدفةِ ، وأبناءُ العواطفِ ؟ فقطْ عواطفُ تهيجُ ثم تخبوا ، فأين الجِدُّ ؟ أين العزيمة ؟ أين الوُضوح ؟ فالأمرُ من الجدِّية بمكان ، ثم نقول بعد ذلك ونتفاخر " النصر من عند الله " ؟! نعم ، بلا شكٍ : النصرُ من عند الله ، ولكن لا بُدَّ من الأخذِ بالأسباب ، لا بُدَّ من الأخذِ بالوسائلِ المشروعة ، فأين هذا من واقعنا ؟ أليس لنا في سيرةِ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - عبرة ؟ أليس لنا فيه عِظة ؟ بدأ وحيدا - صلى الله عليه وسلم - وبالرقمِ القياسيِ بدأتْ الدعوةُ في ازيادٍ شيئا فشيئا ، حتى قامتْ دولةُ الإسلام .. أيها الأحباب :
أكرر فأقول : لا مكانَ للفوضى في هذا العصر ، بل لا مكانَ للفوضى في حياةِ المسلم أبدا ، فكلُ واحدٍ منا يحاسبُ نفسه ولو من زاويةٍ ضيقةٍ ، ألسنا نعيشُ فوضى داخلَ حياتِنا الخاصةِ اليومية ، هل كلُ واحدٍ منا ينظِّمُ وقتَه تنظيماً دقيقا ؟ هل كلُ واحدٍ منا يعيشُ هَمَّ هذه الدعوة ، ويفكِّرُ لها ليلَ نهار ؟ ثم ماذا عمِلَ إن كانَ فكَّرَ ورتَّبَ لذلك ؟ والله لا عُذر لنا أمامَ الله سبحانه وتعالى فيما نرى من المصائبِ والمشكلات
---------------
عاشرا : البيتُ المسلمُ المتكامل .
لقد كانَ البيتُ المسلمُ حاضراً لأخطرِ قرارٍ في تأريخِ الدعوة ، فقد كانتْ عائشةُ وأسماءُ رضي الله عنهما تسْتمعانِ لتلكَ المداولاتِ التي دارت بين رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وبين والدهِما أبيِ بكر الصديقٍ رضي الله عنه قالت " بينما نحنُ يوماً جلوسٌ في بيتٍ أبي بكرٍ في نحرِ الظهيرةِ ، قال قائلٌ لأبي بكر : هذا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - متقنِّعاً في ساعةٍ لم يكن يأتينا فيها ، فقال أبو بكرٍ : فداءً له أبي وأمي ، والله ما جاءَ به في هذه الساعةِ إلا أمرٌ ، قالت : فجاءَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ، فاستأذنَ فأذِنَ له فدخل ، فقال النبيُ - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر : أَخْرِجْ مَن عندَك ، فقال أبو بكر : إنما هم أهلُكَ بأبي أنتَ يا رسول َالله ، قال : فإني قد أُذِنَ لي في الخروجِ ، فقال أبو بكرٍ : الصحبةَ بأبي أنت يا رسولَ الله ، قال رسولُ الله : نعم ، قال أبو بكرٍ : فخُذْ بأبي أنت يا رسولَ الله إحدى راحلتِي هاتين ، قال رسولُ الله ، بالثمنِ ، قالت عائشةُ : فجهزناهما أحسنَ الجهازِ وصنعنَا لهما سَفْرَةً في جرابٍ فقطَعَت أسماءُ بنتُ أبي بكرٍ قِطعةً من نِطَاقِها فربطتْ به على فَمِ الجِرابِ فبذلكَ سُميت ذاتُ النطاقين "
الله أكبر .. ما أجملَ هذا البيتَ المسلمَ بيتَ أبي بكرٍ ، أبو بكرٍ ، وابْنُه عبد الله وابْنتاه أسماءُ وعائشةُ ، بل وحتى مولاهُ عامرُ بنُ فُهيرةَ ، في وسطِ الجاهليةِ ، ومرابضِ الوثنيةِ ، في وسط هذا الخِضَّمِ الأسودِ الذي يَهْرُبُ فيه المسلمونَ بعقيدتهم ، نجد بيتا صالحا فيه مُقَوِماتُ الصلاح ، فعندما قالَ الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - " أَخرِج من عندك ، قال أبو بكر : إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله " أكانَ الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - يجهلُ أنهما ابنتا أبي بكر ؟ لا وربي ، فهْو يعْرفهُما ، ولكن أراد أبو بكرٍ أن يقولَ " إنهما على منهجي ، همَا على عقيدتي ، لا خوف عليهما يا رسولَ الله " .
لقد وقفتُ أمامَ هذا البيتِ المسلمِ ، وقارنت هذا البيتَ المسلمَ ببيوتِنا في ديارِ الإسلام ، أين البيتُ الذي تتوفرُ فيه صفاتُ البيتِ المسلمِ كبيت أبي بكر ..؟
إن من أولى أولوياتِ البيتِ المسلمِ وأسما رسالةٍ يقدمُها للمجتمعِ تربيةُ الأولاد ، وتكوينُ جيلٍ صالحٍ قويٍ ، ولا قيمةَ للتربيةِ ولا أثرَ للنصيحةِ إلا بتحقيقِ القدوةِ الحسنةِ في الوالدين ؛ القدوةِ في العبادةِ والأخلاق ، القدوةِ في الأقوالِ والأعمال ، القدوةِ في المخبرِ والمظهر .
في غَيابِ البيتِ المسلمِ الهادئِ الهانئِ ينمو الانحرافُ ، وتفشو الجريمةُ ، وترتفعُ نسبةُ المخدرات ، بل ونسمعُ بارتفاعِ نسبةِ الانتحار .
إن البيتَ الذي لا يَغرِسُ الإيمانَ ولا يستقيمُ على نهجِ القرآن ولا يعيشُ في أُلفةٍ ووئام ، يُنجِبُ عناصرَ تعيشُ التمزُّقَ النفسي ، والضياعَ الفكري ، والفسادَ الأخلاقي ، هذا العقوقُ الذي نجده من بعضِ الأولادِ والعَلاقاتِ الخاسرةِ بين الشباب والتخلي عن المسؤوليةِ والإعراضِ عن الله والتمرُّدِ على القيمِ والمبادئِ الذي يعصِفُ بفريقٍ من أبناءِ أمتنا اليوم ، ذلك نتيجةٌ حتميةٌ لبيتٍ غفلَ عن التزكيةِ ، وأهملَ التربيةَ ، وفقدَ القدوةَ ، وتشتَّت شملُه .
البيتُ الذي يجعلُ شرائعَ الإسلام عِضين ، يأخذ ما يشتهي ، ويذرُ ما لا يريد ، إلى شرقٍ أو غرب ، يُنشئ نماذجَ بشريةٍ هزيلةً ونفوساً مهزوزة ، لن تفلحَ في النهوضِ بالأمةِ إلى مواقعِ عزها وسُؤدُدِها .
من سماتِ البيت المسلم أنه يرُدُ أمرَه إلى الله ورسولِه - صلى الله عليه وسلم - عندَ كلِّ خلاف ، وفي أي أمرٍ مهما كان صغيراً ، وكلُ مَن فيه يرضى ويسلِّم بحكم الله وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَلاً مُّبِيناً .
من سماتِ البيتِ المسلمِ تعاوُنُ أفراده على الطاعةِ والعبادة ، فضعْفُ إيمانِ الزوجِ تقوِّيهِ الزوجةُ ، واعوجاجُ سلوكِ الزوجةِ يقوِّمُه الزوج ، تكاملٌ وتعاضُد ، ونصيحةٌ وتناصر .
من سماتِ البيت المسلمِ الحياءُ ، وبه يُحصِّنُ البيتُ كِيانَه من سهامِ الفتكِ ووسائلِ الشر التي تدعُ الديارَ بلاقع ، لا يليقُ ببيتٍ أسِّس على التقوى أن يُهتَكَ سترُه ، ويُنقضَ حياؤه ، ويلوَّثَ هواؤه بما يخدشُ الحياءَ من أفلامٍ خليعةٍ وأغانٍ ماجنة ونبذٍ للحجابِ وتشبهٍ بأعداء الدين ، كلُ ذلك ينخِرُ كالسوسِ في كَيانِ البيتِ المسلم ، وبُؤَراً تفتحُ مغالقَ الشرِّ وتدعُ العامرَ خرابا .
من سماتِ البيتِ المسلم أن أسراره محفوظةٌ ، وخلافاتِه مستورةٌ ، لا تُفشى ولا تُستقصى " إن من شرِّ الناسِ عند الله منزلةً يوم القيامةِ الرجلُ يُفضي إلى امرأته وتُفضي إليه ، ثم يَنْشُرُ سِرَّها "
لا يدخلُ البيتَ المسلمَ من لا يُرضَى دينُه ، فدخولُ المفسدِ فسَاد ، ووَلوجُ المشبوهِ خطرٌ على فلذات الأكباد بهؤلاء فسدتِ الأخلاقُ في البيوت ، وفشا السحرُ ، وحدثتِ السرقاتُ ، وانقلبتِ الأفراحُ أتراحا ، بل إنهم معاوِلُ هدمٍ للبيتِ السعيد ، والله المستعان ..
لقد برزَ أثرُ الهجرةِ في مجالِ تربيةِ الشبابِ والمرأةِ وميدانِ البيتِ والأسرةِ ، ِففي موقفِ عبداللهِ بنِ أبي بكر رضي الله عنهما في خدمةِ ونُصرةِ صاحبِ الهجرة عليه الصلاة والسلام بأبي هو وأمي ، ما يُجلّيِ أثرَ الشبابِ في الدعوةِ ودورِهم في الأمةِ ونُصرةِ الدينِ والمِلة ، فأين هذا مما يُنادي به بعضُ المحسوبينَ على فِكرِِ الأمةِ وثقافتِها من تخديرِ الشباب بالشهواتِ وجعلِهم فريسةً لمهازلِ القنواتِ وشبكةِ المعلوماتِ في الوقتِ الذي يُعَدُّون فيه للاطلاعِ بأغلى المهماتِ في الحفاظِ على الدينِ والقيم ، والثباتِ على الأخلاقِ والمبادئ أمامَ المتغيراتِ المتسارعةِ ودعاوَى العولمةِ المفضوحة ، وفي موقفِ أسماءَ بنتِ أبي بكر رضي الله عنها ما يُجَلّيِ دورَ المرأةِ المسلمةِ في خدمتِها لدينها ودعوتها ؛ فأين هذا من دُعاةِ المدنيةِ المأفونةِ الذين أجلبوا على المرأةِ بخيلِهم وَرَجِلِهم زاعمينَ زوراً وبُهتانا أنَّ تَمَسُّكَ المرأةِ بثوابتِها وقيمها واعتزازها بحجابها وعفافها تقييدٌ لحريتِها وفقدٌ لشخصيتها وبئسَ ما زعموا فخرجَتِ من البيتِ تبحثُ عن سعادةٍ موهومةٍ وتقدميّةٍ مزعومةٍ لتَظُنَّها في الأسواقِ والشوارعِ والملاهيِ والمصانعِ فرجعت مسلوبةَ الشرفِ مُدَنَّسةِ العرضِ مُغْتَصَبَةَ الحقوقِ عديمةَ الحياءِ موءودةَ الغيْرَة ، وتلكَ صورة من صورِ إنسانياتِ العصرِ المزعومةِ وحريتِه المأفونةِ ومدنيته المدَّعاة .. أقول :
ما أحوجنا إلى بيتٍ كبيتِ أبي بكر ، ما أحوجنا إلى أسرة كأسرة أبي بكر ، ما أحوجنا إلى إيمان كإيمان أبي بكر بل ما أحوجنا إلى آباء كأبي بكر وأبناء كأبناء أبي بكر ..
----------------
الحادي عشر: الصدق والإخلاص مع الله
نصْرُ الله سبحانَه وتعالى لنبيه أمرٌ جليٌ وواضحٌ وظاهر " إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا " روى الإمام البخاري في صحيحه قال : لما صعدَ كفارُ قريشٍ إلى الجبلِ ونظروا ؛ قال أبو بكر: يا رسولَ الله ، لو نظرَ أحدُهم إلى أسفلِ قدميه لرآنا ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يا أبا بكر ، ما ظنك باثنين الله ثالثهما ؟! " الله أكبر ، إنه التوكل والثقة بنصر الله تعالى لم يقل عليه الصلاة والسلام "ما ظنك بنبي وصاحبُه ؟! " لا " ما ظنك باثنين الله ثالثهما ؟! إنها قاعدةٌ عظيمة : أنَ كلَ اثنينِ صادقينِ مخلصين ؛ الله معهما ، لم يربطْ القضيةَ عليه الصلاة والسلام به ، لم يقل "يا أبا بكر ، لا تخف ؛ لأنني أنا موجودٌ ، أنا رسولُ الله " لا ، ربطَهَا بقضيةٍ أصليةٍ ؛ حتى إذا تكررتْ في يومِنا الحاضرِ ؛ يتكررُ الهدفُ والسببُ والنتيجة " ما ظنك باثنين الله ثالثهما ؟! إذا أصابتك مصيبة وأنت معتصم بالله ؛ فلا تخف ؛ فأمامك "ما ظنك باثنين الله ثالثهما ؟!" إذا ادلهمت عليك الخطوب من كل جانب فلا تحزن لأنك تقرأ " ما ظنك باثنين الله ثالثهما " إذا واجهك عدو فاعتصم برب العدو لأنك تتلوا " ما ظنك باثنين الله ثالثهما " إذا ..
القضيةُ ليست مربوطةً بأنه نبي ، لا ؛ لأن الله تعالى يقول " إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ " نبِيٌ وغيرُ نبي ، ما دام أنه على منهج النبي " إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ " نصْرُ الله كان لنبيه ، ولمن يقتفى سنةَ نبيه ، وسيكونُ وسيظلُ لكل صادقٍ مخلصٍ مؤمنٍ بالله متبعٍ نبيه ، كما نجد في هذا الأمرَ أن الأمرَ لا يتعلق بالقوةِ الماديةِ والضخامةِ المادية ؛ فكم بذلت قريشٌ من أجلِ هذا الأمر، ولكنها لم تُحقِّقْ شيئا ونَصَر الله نبيَه - صلى الله عليه وسلم - بوسائِله الضعيفةِ البسيطةِ الهزيلة ، لكنها الوسائل المادية ، أما وسائله الكبرى فهي وسائلٌ عظيمة ، أقواها وسيلةُ الإيمانِ بالله سبحانه وتعالى والصدقِ معه والتوكل عليه والثقة بنصره .
---------
الثاني عشر : الداعية لا يمل ولا يكل .
المسلمُ ليسَ عنده توقُفٌ عن الدعوةِ لله عز وجل ، وعن السعيِ لنشرِ دينِ الله جل وعلا ، وهكذا كانَ النبيُ - صلى الله عليه وسلم - بعد أن وَجَدَ الصدَّ في مكةَ ، ذهبَ إلى الطائفِ عليه الصلاة والسلام ، وبعد أن وجدَ الصدَّ هناكَ فتحَ لأصحابِه بابَ الهجرةِ إلى الحبشةِ أولاً ثم جاءت بيعةُ العقبةِ ثانياً ثم بدأت بداياتُ الهجرة ، كلُ هذا طَرْقٌ لكلِ الأبوابِ والأسبابِ ومواصلةٌ للدعوة هناك وهناك ، وبعضُ الناس قد يَطْرُقُ باباً أو بابين أو يلتقي بفردٍ أو اثنين ثم يقولُ سُدَّتِ الأبوابُ وانقطعتِ السبلُ ويرجعُ ويقعُدُ في بيته ، لكنّ النبيَ - صلى الله عليه وسلم - حينما أدركَ تآمرَ قريشٍ ، وأن قريشا لا تريدُ الإسلامَ ؛ استخدمَ معها كلَّ الوسائِل ، وبذلَ معهم جميعَ الأساليب ، مع عُتُوِّهِم ونفورهِم وإصرارهِم وعِنادهِم ، فلم يخطرْ بباله العودةَ إلى الغارِ أو يَعْبُدَ اللهَ في مسجده ، لا .. بدأ يبذُلُ الوسائلَ والأسبابَ للانتقالِ بهذه الدعوةِ إلى أرضٍ خصبةٍ ، فإذا كانت هذه الأرضُ لا تقبلُ هذه الدعوةَ فأرضُ الله واسعةٌ بدأ بالبحث ، وبعرضِ نفسِه - صلى الله عليه وسلم - على القبائلِ شيئا فشيئا ، وموسما موسما حتى وَجَدَ من هُمْ أهلٌ لهذه الدعوةِ ، وبلادَهم خير بلادٍ لهذه الدولة ، فالمسلمُ لا يستكين ، والداعيةُ لا يمل ولا يكل .
كثيرٌ من الدعاةِ يُصابُ باليأس ، كثيرٌ من الدعاةِ يصاب بالقنوط ، يقول " دعوت ودعوت ، فلم يُسمع لي ، لم يُستجب لي " لكننا نجدُ في سيرةِ الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفي هجرتِه المثلَ الرائع ، والقدوةَ المُثلى للداعيةِ الصابرِ المرابط .
مشكلةُ كثيرٍ منَ المسلمين اليومَ أنهم يستعجلونَ النتائجَ فيُصابون باليأس ، بل أسوأُ من ذلك أنهم ربما شككوا في مبادئِهم ، شكوا في نصرِ الله سبحانه وتعالى ، شكوا بوعد الله سبحانه وتعالى الذي وعد أولياءَه بالنصر " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ " فلا يصبرون ولا يتصبرون ، بل يستعجلون النتائجَ والثِمار ، ومن هنا حلَّت كثيرٌ من النكبات بكثيرٍ من المسلمين ، كثيرٌ من الدعواتِ أصيبتْ بالوهن ؛ لماذا ؟ لأنها استعجلتِ النتائجَ ؛ لأنها لم تصبِرْ على مقوماتِ الدعوة ، ولهذا جلسَ الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - ثلاثةَ عشرَ عامًا يدعو قومَه في مكةَ ومع ذلك لمَّا وصلَ إلى أمرٍ يقينِي بأنَّ هؤلاءِ القومَ لا يُريدون هذا الدين ، وأرادوا القضاءَ عليه ؛ بحث عن مأمْنٍ وأرضٍ ومخرج ، فبدأ بالاتصالِ بالقبائلِ ، وعَرَضَ نفسه عليها ومن هنا جاءَ ترتيبُ هذه الهجرةِ في بيعةِ العقبةِ الأولي ، وفي بيعةِ العقبةِ الثانيةِ ، وما تلا ذلك من مراحل ، حتى تمَّت هجرتُه صلى الله عليه وسل
------------------
الثالث عشر : بالصبرِ واليقينِ تُنالُ الإمامةُ في الدين .
يقولُ ابنُ القيمِ رحمه الله " اليقينُ من الإيمانِ بمنزلةِ الروح من الجسد " ويقول ابنُ تيميةَ رحمه الله " الصبرُ نصفُ الإيمان ، واليقينُ الإيمانُ كلُه " إن المسلمينَ اليوم ، وهم يمرونَ بمرحلةٍ عصيبةٍ من مراحلِ تاريخهم المعاصر وتكادُ تغلِبُ في هذه المرحلةِ عواملُ اليأسِ ومشاعرُ الإحباطِ لهم بأمسِّ الحاجةِ إلى التمسكِّ بالدين ، والعضِّ عليه بالنواجِذ ؛ لأن الاستسلامَ لليأسِ يقتلُ الهممَ ويُخَدِّرُ العزائمَ ويدمِّرُ الطموحات ، وهذه المعاني هي التي تُحَرِّكُ الإراداتِ إلى بذلِ الجهد ، ورغمَ تتابُعِ الفتنِ وتنوُعِهَا وتكاثُرِها فإن نصرَ الله آتٍ لا محالةَ كما وعدنا سبحانه شريطةَ أن نتمسكَ بدينِنا ونعتزَّ بشريعتِنا ويكونَ ولاؤنا لله ولرسولِه - صلى الله عليه وسلم - ولِمَنْ ولانا الله تعالى أمرهم " وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ " " لا تزالُ طائفةٌ من أمتي ظاهرينَ على الحقِ لا يضُرُهم من خَذَلَهم ولا من خَالَفهم حتى يأتَي أمرُ الله وهم ظاهرون " و" لا يزالُ هذا الدينُ قائماً يُقاتِل عليه عِصَابةٌ من المسلمينَ حتى تقومَ الساعة " ومع تكاثُرِ أعداءِ الإسلام ، وتكالبِهم على هذا الدينِ ، والكيدِ له ولأهله ، إلا أن النصرَ والتمكينَ بمشيئةِ الله لحملةِ هذا الدينِ المبشرينَ بالثناءِ والتمكينِ كما مُكِّنَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في حياتِه وأذعنت له الأمم ، كيف لا وهو القائل " إن الله زوى ليَ الأرضَ فرأيتُ مشارقهَا ومغاربها ، وإن أمتي سيبلغُ مُلكُهَا ما زُوي لي منها " كيف لا .. وهو القائل " ليبلغّنَ هذا الأمرُ ما بلغ الليل والنهار، ولا يتركُ الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدينَ بعز عزيز أو بذُلِّ ذليل ، عزاً يعز الله به دينَ الإسلام ، وذلاً يُذِلُ به الكفر "
إن عِزَّ هذه الأمةِ ، ورِفْعَةَ أهلِ الحقِّ لا تتِمُّ ولنْ تكونَ إلا بالعضِّ على هذا الدينِ بالنواجذِ عقيدةً وشريعةً ، صدقاً وعدلاً ثباتاً في الموقفِ وصدقاً مع الله " وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنتمُ الأَعْلَوْنَ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ " " وَإن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ "
إن تَرَقُّبَ النصرِ القادمِ الذي وعدَ الله عبادَه وعداً لا يُخْلِفُه في قوله " وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ " من أجلى ينابيعِ الأملِ وأقواها لدى المسلم ، حيث تدفَعُه نحوَ العملِ لدينِه المنصورِ ومبدئه الظافر " وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ " ولقد أعلنها - صلى الله عليه وسلم - بعد هجرته في وقتِ الشدةِ لتشَّتَدَّ أنظارُ المؤمنينَ إلى المستقبلِ المحتوم ؛ مهما كان الواقعُ يفرِضُ على الناسِ أقسى الظنون ، فعن البراءِ ابن عازبٍ رضي الله عنه أنه قال " أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحفرِ الخندق ، وعرض لنا صخرةٌ في مكانٍ من الخندقِ لا تأخذ فيها المعاوِل ، فشكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فجاء رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ثم هبطَ إلى الصخرةِ فأخذَ المِعْوَل فقال : بسمِ الله فَضَرَبَ ضربةً فَكَسَرَ ثُُلُثَ الحجر ، وقال : اللهُ أكبر ! أُعطيتُ مفاتيحَ الشام ، والله إني لأُبْصِرُ قُصُورَهَا الحُمْرَ من مكاني هذا ، ثم قال : بسم الله ، وضرب أخرى فكُسرت ثُلُثُ الحجر فقال : الله أكبر ! أعطيت مفاتيحَ فارس والله ! إني لأبصر المدائنَ وأبصرُ قَصْرَها الأبيضَ من مكاني هذا ، ثم قال : بسم الله ، وضرب أخرى فقلع بقيةَ الحجر ، فقال : الله أكبر ! أعطيت مفاتيح اليمن ، والله ! إني لأبصرُ أبوابَ صنعاءَ من مكاني هذا "
أيها الأخوة الكرام ..
إن حتميةَ البلاءِ الذي كتبه الله على عبادِه منبعٌ للأمل ، فلا يُدْهَشُ المؤمنُ بنزولِ البلاء ، ولا ينهارُ ولا يُحْبَطُ حينَ يواجِهُ الكروبَ .
إن تقريرَ حتميةِ البلاءِ يجعلُ المؤمنَ متَرَقِّباً للشدائدِ مستعداً لها ومدركاً لحِكمتِها ، ومدركاً أنّ مقَدِّرَها هو القادرُ على دفعها " أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ " ولذلك كان الصحابةُ رضوانُ الله عليهم يُدركونَ هذا الأمرَ إدراكاً جيداً ، فهم يبادرونَ في تحليلِ الموقفِ وِفْقَ هذا الاعتبارِ " وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إلاَّ إيمَاناً وَتَسْلِيماً " ورحم الله ابنَ القيم يوم قال
والحقُ منصورٌ ومُمْتَحَنٌ فلا *** تعجب فهذي سنةُ الرحمن
--------------
وأخيرا ..(1/27)
فإنَّ حالَ المسلمينَ في العالم يُوجبُ الاستفادةَ من معاني الهجرةِ النبوية ، فلن يَصْلُحَ حالُ المسلمينَ في هذا العصرِ إلا بالأمورِ التي صَلَحَ بها السلفُ الصالحُ من الإيمانِ الحقِ والتوحيدِ الخالصِ والخُلُقِ الكريمِ والصدقِ مع الله والتوكلِ عليه والصبرِ على المكارهِ وإحسانِ العبادةِ على وصْفِ ما جاءَ به النبيُ - صلى الله عليه وسلم - في السنةِ المطهرة ، ولئن فاتنا ثوابُ الهجرةِ إلى الله ورسولِه في زمنِ النبوةِ ، فقد شرع الله لنا هجرةً من نوعٍ آخر ، فيها الثوابُ العظيمُ إنها الهجرةُ من المعصيةِ إلى الطاعةِ ، فاهجر أخي الكريمُ المعصيةَ وهاجرْ إلى الطاعة ، اهجُرِ التفريطَ وهاجرْ إلى الاستقامةِ ، اهجُرِ التمردَ والآثامَ وهاجر إلى الانقيادِ والاستسلامِ ، اهجُرِ الكسلَ والأملَ الباطلَ وهاجر إلى الجِدِّ والاجتهادِ فيما يُرضي مولاك ، اهجُرِ الركونَ إلى الدنيا والاطمئنانَ إليها وهاجرْ بقلبك إلى الله والدارِ الآخرةِ والرغبةِ في ما عند الله ، قال نبيك - صلى الله عليه وسلم - " المسلمُ من سلم المسلمونَ من لسانه ويده والمهاجِر من هَجَرَ ما حرم الله " وفي صحيح مسلم " عبادة في الهرج [ أي في وقت الفتنة ] كهجرة إليّ " ( إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم )
اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، وأذل الشرك والمشركين ، ودمر أعداء الدين ، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين ، اللهم آمنا في أوطاننا ، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها ، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة ، اللهم إنا نسألك رضاك والجنة ، ونعوذ بك من سخط والنار ، اللهم إنا نسألك عيشاً رغداً ، وولداً باراً ، ورزقاً داراً ، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق والأعمال والأقوال لا يهدي لأحسنها إلا أنت ، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت ، اللهم إنا نسألك عيش السعداء ، ونُزُلَ الشهداء ، ومرافقة الأنبياء ، والنصر على الأعداء ، والفوز في القضاء يا سميع الدعاء ، اللهم طهر مجتمعات المسلمين من كل فاحشة ورذيلة ، ومن كل عادة خبيثة دخيلة ، يا أرحم الراحمين ، اللهم اهد شباب المسلمين ، ورد ضالهم إليك رداً جميلاً ، اللهم جنبهم قرناء السوء والفساد ، اللهم أقر عيون الآباء والأمهات بصلاح أبنائهم وبناتهم يارب العالمين ، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات ، والمؤمنين والمؤمنات ، الأحياء منهم والأموات ، اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين ، ونفس كرب المكروبين ، واقض الدين عن المدينين ، واشف مرضانا ومرضى المسلمين ، اللهم يا حي يا قيوم ، يا ذا الجلال والإكرام ، يا ذا الطول والإنعام ، نسألك نصراً وعزاً وتمكيناً للإسلام والمسلمين ، اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك ، الذين يقاتلون أعداءك لإعلاء كلمتك اللهم انصرهم في فلسطين والشيشان ، وفي كشمير وأفغانستان وفي العراق ، وفي كل مكان يارب العالمين ، اللهم أقر عيون المسلمين بعودة أراضيهم ومقدساتهم إلى حوزتهم ، اللهم فك أسر المأسورين من المسلمين في كل مكان ، فقد لاقوا أشد العذاب والعناء ، ولا ناصر لهم إلا أنت في زمن قل فيه الناصر والظهير ، اللهم ثبت حجتهم ، وأخرجهم من سجونهم سالمين غانمين ، واجعلهم مجاهدين في سبيلك فاتحين يا أرحم الراحمين ، اللهم عليك بأعدائك أعداء الدين ، اللهم عليك باليهود والنصارى المعتدين ، اللهم اشدد عليهم وطأتك ، وارفع عنهم يدك وعافيتك ، وسلط بعضهم على بعض ، اللهم أهلكهم بالقحط والسنين ، اللهم أغرقهم بالفيضانات المغرقة ، والأعاصير المهلكة ، اللهم دمر مقدراتهم ، واهلك حرثهم ونسلهم ، واجعلهم غنيمة للمسلمين يا قوي يا عزيز اللهم وفق ولي أمرنا بتوفيقك ، وأيده بتأييدك ، واجعل عمله في رضاك ، اللهم هيئ له البطانة الصالحة ، اللهم وفقه للعمل بكتابك ، واتباع سنة نبيك - صلى الله عليه وسلم - ، اللهم اربطه بالعلماء العاملين ، واجعلهم له خيرَ دليل ومعين ، إنك على كل شيء قدير ، ربنا آتنا في الدنيا حسنة ، وفي الآخرة حسنة ، وقنا عذاب النار سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت نستغفر ونتوب إليك
ــــــــــــ(1/28)
القرار للقيادة
القرار : هو الموجه للجماعة ، والآمر الناهي فيها ، وبموجبه : تتحدد السياسات ، وتوضع البرامج ، وتنفذ الخطط ، وتتحقق الغايات ، وتتقدم الدول ، ويرتفع شأنها ، خاصة : إذا انبثق عن دراسة وتشاور ، وتولد عن خبرة ودراية ، وصدر عن حكمة وتعقل .
وبدونه : تتشعب الأهواء ، وتتفرق السبل ، وتتخبط السياسات ، وتتعطل المصالح .
ولذلك . . ! !
لابد منه أولا .
ولابد من طاعته وتنفيذه ثانيا .
والقيادة هي صاحبة القرار . . ! !
لأنها : صاحبة الرؤية الشاملة ، والإحاطة الواسعة ، والنظرة الثاقبة .
وعلى جنود الصف الاقتناع بما تراه القيادة ، والتسليم بما تقدره ، والتنفيذ الفوري لما تأمر به ، ما دام قرارها قد سلم من أمر بمعصية ، أو نهي عن معروف .
في الروض الأنف : " وبعد بيعة العقبة الثانية . . قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للأنصار : ارفضوا إلى رحالكم ، فقال له العباس بن عبادة بن نضله : والله الذي بعثك بالحق ، إن شئت لنميلن على أهل منى غدا بأسيافنا ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لم نؤمر بذلك ، ولكن ارجعوا إلى رحالكم ، فرجعنا إلى مضاجعنا ، فنمنا عليها حتى أصبحنا " "48 "
وكان هذا أمرا واضحا لدى الصحابة في البدء والمنتهى .
في البداية . . يقول له : " إن شئت لنميلن " أي أنت يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صاحب القرار المطاع .
وفي النهاية . . يقول : " فرجعنا إلى مضاجعنا " دون مناقشة للقرار ، أو تباطئ في تنفيذه
وهذا واحد من أسباب ووسائل نجاح القيادة : وهو علم الجنود التام الواعي بحق القيادة في اتخاذ القرار ، ومسارعة الجنود في تنفيذ هذا القرار ، دون اعتراض عليه ، أو تشكيك فيه ، أو تأخر في تنفيذه .
وهذه الطاعة : واحدة من الفروض الشرعية ، التي أمر بها الإسلام ، وكفلها للقيادة ، وحث عليها الجنود ، وأثابهم إذا التزموا بها .
( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) " 70 "
وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " من أطاعني : فقد أطاع الله ، ومن عصاني : فقد عصى الله ، ومن أطاع أميري : فقد أطاعني ، ومن عصى أميري : فقد عصاني " " 71 "
وأخرجا _ أيضا _ عن عبد الله بن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية ، فإذا أمر بمعصية : فلا سمع ولا طاعة " " 72 "
وأخرجا _ كذلك _ عن عبد الله بن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " من كره من أميره شيئا فليصبر ، فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبرا فيموت : إلا مات ميتة جاهلية " " 73 "
وكان ذلك كله : لأن القرار بيد القيادة ، ولو لم يكن الأمر كذلك لعمت الفوضى ، وضاعت المسئولية .
وبسبب غياب هذا المفهوم أحيانا ، أو غياب العلم بمنزلته في الدين : يدب الغبش في النفوس ، ويخيم التخبط على العقول ، وتظهر بوادر الفتن .
وبسبب منازعة الأمر أهله أحيانا ، أو التطلع إلى مواقع الصدارة ، وأماكن القيادة : يدب الحقد في النفوس ، ويخيم الفساد على العقول ، وتظهر بوادر الفتن .
وإذا حدث هذا أو ذاك : تشتتت الفهوم ، وتبعثرت القوى ، وضعفت الجماعة ، وتمزقت الصفوف ، وتعددت الجماعات ، وكثرت الاتهامات ، وقلت الإنجازات ، وابتعد النصر .
وبذلك: ندرك السر فيما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من أنه قال :" إذا بويع لخليفتين : فاقتلوا الآخر منهما "74
وفيما ورد عنه أيضا " من بايع إماما فأعطاه صفقة يده ، وثمرة قلبه ، فليطعه ما استطاع ، فإن جاء آخر ينازعه : فاضربوا رقبة الآخر " " 75 "
وما ذلك كله . . إلا للحرص على :
وحدة القيادة .
ووحدة القرار .
ووحدة الصف .
ووحدة الأمة .
وما من تمزق تعاني منه الآن : إلا بسبب من غياب هذا المفهوم ، أو عدم تسليم به .
ــــــــــــ(1/29)
القيم والتحولات الاجتماعية في القرآن الكريم
* الشيخ زكريا داوود
يمثل القرآن الكريم منبع الحكم والقيم والمعارف وهو الذي أسس حضارة وحدد لها مصدر المعرفة لما كان وما سوف يكون وما هو مؤمل أن يكون، فالقرآن كنص موحى للرسول (ص)، كان المحرك لمسيرة المجتمع الإسلامي في إبعاده القيمية والثقافية والسياسية والاجتماعية، فقد كانت معرفة النص وتفسيره تنتج وعيا للجماعة وللفرد؛ للجماعة لتتحرك نحو تفعيل قيم الشهود، وللفرد لأداء دوره في تحقيق المسؤولية.
ان كل قيم التغيير والتجديد في تاريخنا كانت تتخذ من القران منطلقا، وقد تكون بعض دعوات التجديد الفكري والاجتماعي أصابت بعض الهدف أو أخطأته، لكن الرغبة كانت قوية في جعل القرآن وعيا متجددا مع الزمن من خلال استحضار بصائره وما يهدي إليه.
ونحن هنا نسعى كي نتوصل لوعي قرآني للتحولات الاجتماعية كما يرسمها القرآن، ومن مناهج قراءة القضايا على ضوء القرآن هوما يطلق عليه المنهج الموضوعي في قراءة النص القرآني منهجا توظيفيا أي انه يقرأ النص من خلال الضرورة الواقعية عبر استخدام أدوات المنهج اللغوي والتاريخي والفقهي والعقلي، فهو منهج يوظف كل الأدوات المعرفية من أجل الحصول على نتيجة اقرب لأهداف النص ولمبتغاه.
التحول في القران الكريم ليس ظاهرة استثنائية، بل هو قانون ثابت يجري في كل زمن ومكان، فالكون يجري وفق قانون التغير والتحول، فليس ثمة غير الله في الحياة من لا يحكمه هذا القانون (كل شيء هالك إلا وجهه)، والتحول كمفهوم هو سنة عامة تجري في خلق الله، والقرآن عندما يتحدث عن التحول يلفت الأنظار والعقول إلى كونه دليلا على القدرة والعظمة الإلهية، لان التحول دليل على تكاملية نظام الخالق وعلى حكمة الخالق.
يقول تعالى وهو يصف التحول الذي يحدث في السماوات والأرض: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} (30) سورة الأنبياء.
وكذا عندما يتحدث عن التحول الذي يقع على الإنسان، فإن هذا التحول لا يتوقف حتى يصل الإنسان الى نهاية العمر، وفي سورة الحج يتحدث ربنا عن التحولات التي يمر بها الإنسان منذ البدء والى المنتهى، ويعتبر التحول هنا دليلا على القدرة والعظمة والبعث فيقول تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} (5) سورة الحج.
وفي آيات عديدة يلفت الله الإنسان إلى سنة التحول والتغير، وأنها جارية في كل الخلق دون استثناء، وقد يستطيع الإنسان أن يرى التغير الحادث في الطبيعة في بعض جوانبها، وقد لا يراه في كثير من الجوانب، لكن عدم الرؤية ليس دليلا على العدم.
وعندما يتحدث عن مسيرة الإنسان وحركته في الحياة فان قانون التغير والتبدل يتحكم في هذه المسيرة بدرجة يستحيل الانفكاك عنها، فتارة يتحدث عن المفهوم العام للتحول فيقول: {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (19) سورة العنكبوت ، وعندما يتحدث عن تفصيل لسنّة التحول في المجتمعات يقول: (ان يمسسكم قرح فقد مسّ القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس)، وعندما يتعرض المفسرون لهذه الآية كصاحب تفسير الأمثل يقول: "يشير الله سبحانه إلى واحدة من السنن الإلهية وهي انه قد تحدث في حياة البشر حوادث حلوة أو مرة لكنها غير باقية ولا ثابتة مطلقا، فالانتصارات والهزائم والغالبية والمغلوبية والقوة والضعف كل ذلك يتغير ويتحول وكل ذلك يزول ويتبدل فلا ثبات ولا دوام لشيء منها، ولكي تصبح هذه السنة والقانون واضحا في عقلية المؤمنين والناس عامة يأمرنا الله سبحانه وتعالى بدراسة حياة الأمم والتمعن في الحوادث الماضية، فيقول: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ } (137) سورة آل عمران " ومما يلفت النظر هنا هو التعبير القرآني يفعل الأمر سيرا والسير كمفهوم واقعي يدل بحد ذاته على تحول، فالسير هو تحول من مرحلة إلى أخرى، وقد ورد الأمر بالسير في القرآن الكريم 7 مرات، كل ذلك لمعرفة سنة التغير والتحول في الحياة، وحتى يأخذ الإنسان العبرة ويبني حياته وفقا لهذه السنة.
ومن خلال الآيات التي تحدثت عن التحول كسنة من السنن الإلهية، يمكننا أن نخلص إلى تعريف وتوضيح لهذا المفهوم وهو: كل تبدل يحدث في الأبنية الاجتماعية في الوظائف والقيم والأدوار والمواقع الاجتماعية في فترة محددة من الزمن إذا قيس التبدل بما قبله، وقد يكون التحول عاما يشمل كل الشرائح والوظائف والقيم والأدوار والمواقع، وقد يكون تحولا محدودا بقسم منها، ويمكن أن يكون التحول ايجابيا وقد يكون سلبيا.
إن الحياة تسير في كل جوانبها وفق قوانين تنظم حركة وصيرورة الأشياء، والتبدل رغم كونه سنة عامة إلا انه يحدث عبر ذات القانون العام، ويختلف التحول في الطبيعة المادية عنه في المجتمعات الإنسانية، ففي الطبيعة قد تفقد بعض العناصر التي لا تنفك عنها التحولات في المجتمعات البشرية، ويمكننا من خلال الآيات القرآنية أن نحدد الصفات التي تحدد التحولات الاجتماعية بما يلي:
الصفة الأولى: عمومية التحول
يتسم التحول الاجتماعي بصفة العمومية، فلا يمكن توصيف تحول بكونه اجتماعي لكونه يطال بعض أفراد المجتمع، فالتحول هو ظاهرة عامة تطال أفرادا كثيرين، مما يؤدي بالتالي الى تغيرات في السلوكيات وفي القيم وفي المواقع، فالسنن الاجتماعية تجري على الجميع من دون استثناء، فالابتلاء والمحن والتمحيص والاستدراج والإملاء والاستبدال والعذاب وبعثة الرسل وبسط الرزق والتقدير والخصب والجدب والتأييد والخذلان والنعمة والحرمان، وغيرها من السنن الإلهية عندما تتحقق شروط حدوثها في المجمع فهي تطال الجميع، فالابتلاء والفتنة سنة عامة جارية في جميع الخلق دون تحيز أو استثناء.
الصفة الثانية: استمرار السنة في الزمان وعدم توقفها
سنن الله في خلقه ليست ظاهرة عابرة، بل قانون ثابت ودائم، وهذه الديمومة تؤهل الإنسان وتحثه على التكيف مع حركة التحولات الاجتماعية، فبدون الثبات والسنن لا يمكن للإنسان أن يستوعب ويعي التحول، وعندها لا يكون قادرا على تطوير سلوكه ومجمل حياته، لان التقدم والتطور ناتج عن وعي السنن وتوظيفها ايجابيا في تصحيح الحياة الاجتماعية، والقران المجيد لا يؤكد ثبات هذه السنن وديمومتها فحسب، ولكنه يحولها في الوقت نفسه إلى دافع حركي داينامثلي يفرض على الجماعة المدركة الملتزمة أن تتجاوز مواقع الخطأ التي قادت الجماعات البشرية السابقة إلى الدمار (1)، والآيات التالية تلقي الضوء على هذه الصفة، {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} (62) سورة الأحزاب ، والآيات الأخرى { فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا } (43) سورة فاطر.
ويفسر المرجع المدرسي ـ دام ظله ـ هذه الآية بقوله: "سنة الله لن تتغير حتى يوم القيامة، فهذه من الحتميات الإلهية، والتحويل هو تحويل الشيء إلى غيره، وسنة الله المتمثلة بنصر الرسل، سنة أبدية محتومة، كما أن الظروف الطبيعية تحتمها، لان الكفر يسير ضد التيار العام للطبيعة، بينما تنتصر رسالات الله، لأنها تتحرك باتجاه التيار الطبيعي للحياة، كما أنها تتوافق مع الفطرة" (2).
وأما الروايات التي تحدثت عن جريان السنن في هذه الأمة كما جرت في الأمم السابقة فهي عديدة، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ الشِّبْرَ بِالشِّبْرِ وَالذِّرَاعَ بِالذِّرَاعِ وَالْبَاعَ بِالْبَاعِ حَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ دَخَلَ جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ ». قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى قَالَ « مَنْ إِذاً » رواه أحمد بسند صحيح
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " لَتَرْكَبُنَّ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ وَبَاعًا بِبَاعٍ ، حَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ دَخَلَ جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمْ ، وَحَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ جَامَعَ أُمَّهُ لَفَعَلْتُمْ " . رَوَاهُ الْبَزَّارُ ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ .
و عَنْ أَبِى أُمَامَةَ الْبَاهِلِىِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « لَيُنْقَضَنَّ عُرَى الإِسْلاَمِ عُرْوَةً عُرْوَةً فَكُلَّمَا انْتَقَضَتْ عُرْوَةٌ تَشَبَّثَ النَّاسُ بِالَّتِى تَلِيهَا وَأَوَّلُهُنَّ نَقْضاً الْحُكْمُ وَآخِرُهُنَّ الصَّلاَةُ » أخرجه أحمد بسند صحيح (3).
الصفة الثالثة: إنسانية سنن التحول والتبدل والتغير
التحول والتغير سنة مطرّدة في الحياة ولا تنفك الموجودات بأنواعها من صفات التحول، لكن الأمر الفارق بين التحول الاجتماعي وما يحدث في الطبيعة، إن الأول يحدث فيه التحول بصورة إرادية وواعية، أما التحول في الطبيعة والجمادات فانه يحدث بشكل قسري وجبري، وهنا يحقق الإنسان سبقا على ما لا يعقل، وهنا يتحقق التمايز بينه وبين غيره، ويمثل التحول نحو الأفضل والأحسن قانونا أساسيا من قوانين الكون وغريزة ثابتة في فطرة الإنسان، فالإنسان بفطرته لا يرغب أن يتساوى يوماه، بل انه في حالة بحث دائم عن التكامل والتقدم نحو الأفضل.
وهذا الإحساس عند الإنسان هو من العوامل الأساسية التي تحرك عجلة التاريخ وتشجع نحو التغيير الاجتماعي، فالتغيير في المجتمع هو فعل الإنسان من خلال تحقيق إرادته، كما في قوله تعالى: { إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} (11) سورة الرعد و {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا} (16) سورة الجن {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا} (59) سورة الكهف ، فهذه السنن التي ذكرتها النصوص القرآنية واضحة أنها تتحقق بفعل إرادة الإنسان وليست سننا قسرية جبرية كالإحراق بالنسبة للنار، فهنا مواقف ايجابية للإنسان تمثل حريته واختياره وتصميمه وهذه المواقف تستتبع ضمن علاقات السنن التاريخية جزاءاتها المنابة وتستتبع معلوماتها المناسبة (4).
وتنعكس النزعة الإنسانية للتحول الاجتماعي في إشكال وصور يتمظهر بها، ويمكن أن نوجز تلك الصور والأشكال في التالي:
1ـ التحول في القيم الاجتماعية:
تلك القيم التي تؤثر بطريقة مباشرة في مضمون الأدوار الاجتماعية والتفاعل الاجتماعي، حيث ان لكل مجتمع نمطان من القيم:
الأول: الأهداف العليا: وهي قيم إنسانية ثابتة ومطلقة.
الثاني: تتصل بظروف هذا المجتمع والمتغيرات التي تطرأ عليه، وهما مما يشكلان روح المجتمع (5).
2ـ التحول في محتوى النظام الاجتماعي:
النظم والأبنية التي يقوم عليها النظام الاجتماعي قد تكون عرضة للتغير، وذلك لأنها بالأساس صناعة الإنسان، كأن يتحول المجتمع من الديكتاتورية إلى الديمقراطية والشورى، ومن الملكية العامة الى المؤسسات والشركات الخاصة، وبالطبع مثل التغير في النظام الذي يحكم جماعة ما يؤدي إلى تغير في المراكز المواقع للعديد من الأفراد، ويمكن توصيف هذا التحول بكونه تقدم او تطور في بنى هذا النظام الاجتماعي، كما حدث في مجتمع المدينة المنورة في بداية الهجرة النبوية، ففي سورة المنافقون يتحدث ربنا عن رؤية المنافقين للتحول الاجتماعي ويرد زعمهم أنهم لا يزال بإمكانهم ممارسة أدوارهم ونفوذهم في هذا المجتمع الذي تحولت النظم والأبنية فيه نحو تحقيق سيادة قيم أخرى هي قيم الإسلام: {يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (8) سورة المنافقون.
3ـ التحول في مواقع أفراد المجتمع
وقد يحدث التحول في مراكز الأشخاص في المجتمع بصورة طبيعية ويجري ضمن سنة التغير الجبرية، فلا يملك الإنسان الإرادة في التغيير ولا يمكنه الوقوف في وجه هذا التحول، كان يكون تغير المواقع في المجتمع بفعل الوفاة والموت، فهي سنة طبيعية ولا يملك الإنسان حرية الاختيار حيالها، (فإذا جاء اجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون)، وقد يحدث التحول في المراكز الاجتماعية والأدوار نتيجة إرادة الإنسان وفعله، وأبرز أمثلته هو ما تحدثه المجتمعات الديمقراطية التي يسودها نظام التمثيل الانتخابي، فيذهب رئيس ويأتي آخر، وتتسلسل عملية التغيير والتحول في المواقع من القمة للقاعدة، وكما يحدث في المجتمعات التي تنتصر فيها رسالة السماء كما لاحظنا ذلك في مجتمع المدينة المنورة في بداية الهجرة النبوية.
وعلى ذلك فان التحول ـ كما ذكرنا ـ تارة يأخذ شكل التطور والتقدم، أي التبدل للأفضل والأحسن، وتارة أخرى يأخذ شكلا تراجعيا أي نحو الأسوأ، ويمكن تسمية التحول نحو الأفضل انه تقدم وتطور وتكامل، كان يتحول المجتمع من نظم وقيم الاستبداد إلى مناخات الحرية والديمقراطية وممارسة حق التعبير من خلال تعديل النظم والقيم والقوانين، والعكس كذلك فالتحول نحو الديكتاتورية والاستبداد هو تحول نحو الأسوأ، ويمكننا تسمية هذا بالتخلف وهو يستبطن الوقوف أو السير خلاف السنة، لان سنن الله الجارية في المجتمع تحثه على التطوير والتكامل لأنها الفطرة التي جبل عليها الإنسان، فالله يريد الكمال ويدعونا إليه، والإسلام الدين الكامل، (اليوم أكملت لكم دينكم)، يطلب منا الرقيّ لمستواه في تفكيرنا وسلوكنا، حتى يمكننا أن نحقق معنى تكامليته في حياتنا، لان تكامل الدين في القيم والنظم والأحكام يشكل حافز قويا نحو تحقيق هذه التكاملية في حياتنا كبشر، فبقدر ما نحقق من تلك القيم في ذواتنا نصل للكمال، وبالعكس؛ بقدر ما نخالف تلك القيم والنظم والأحكام نكرس التخلف ونسير خلاف السنة، ولذلك يكرس المنهج القرآني قيمة التطلع نحو الكمال في نفس الإنسان ويتدرج معه في ثلاث مراحل هي:
الأولى: استثارة فطرته التي انطوت على التسامي والتطلع.
الثانية: فك الأغلال التي تمنعه من تحقيق تطلعاته.
الثالثة: تذكيره وتعليمه بقائمة التطلعات السامية التي يمكنه بلوغها.
إن فطرة التسامي مغروزة في ضمير البشر وداعية له أبدا إلى العروج إلى الأعلى، وإنما تدس هذه الفطرة في ركام الوساوس والأوهام والأفكار الشيطانية، فلا تعد ترفعه نحو الأسمى، أو يضل صاحبها السبيل فيرى في الحرص على الدنيا والبغي على الناس تساميا وعروجا.
وهنا نتساءل ما هي قيم التحول نحو الأفضل؟؟
يبدأ منطلق التحول نحو النهضة من خلال منظومة القيم باعتبارها تتضمن معايير الحكم على الأشياء والحوادث والسلوكيات والغايات، وفي القرآن الكريم يمكننا أن نلمح هذا التوجه بوضوح في العديد من آياته وبالأخص الآيات التي تحدثت عن السنن، كما في سورة الفتح التي تحدثت عن قيمة طاعة المجتمع للرسول (ص)، وكيف أن تحقيق هذه القيمة أدى لحصول وضع أفضل من السابق وهو النصر والفتح والتحول نحو تنشيط حاكمية المسلمين على غيرهم، وبالعكس حدث للفئات التي تخلّفت والذين سماهم القرآن (المخلفين)، والقرآن عندما يتحدث عن هذه الفئة يربط في النهاية الفعل بالجزاء، فإذا كان التسليم والطاعة لله والرسول ( - صلى الله عليه وسلم - )، هي صفتهم فإن النتيجة تكون الأجر الحسن، أي تطور وتكامل على ارض الواقع وبين فئات المجتمع الإسلامي، {قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (16) سورة الفتح.
ــــــــــــ(1/30)
المعجزات الحسية في الهجرة النبوية
إن الله أعمى أبصار المشركين الواقفين حول بيت النبي ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ ليلة الهجرة حتى خرج من بينهم سالمًا، وإن العنكبوت نَسَجَتْ على الغار فلم يستطيعوا رؤيته؟ فهل هذا صحيح؟
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فإن مسألة المعجزات الحسية في السنة النبوية قد انقسم الناس حولها فريقان، فريق ينكرها جملة وتفصيلا حتى لو كانت ثابتة بالسنة الصحيحة أو المتواترة، وفريق يثبتها جمله وتفصيلا حتى لو كانت موضوعة مكذوبة، وعلى المسلم أن يقف عند ما ورد في السنة الصحيحة الثابتة فيؤمن به، وما عدا ذلك لا يلتفت إليه
يقول فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي في موضوع المعجزات الحسية عامة ومعجزات الهجرة خاصة: الناس في هذه القضية - قضية المعجزات المحمدية المادية - أصناف ثلاثة:.
فالصنف الأول: يبالغ في الإثبات، وسنده في ذلك ما حوته الكتب، أيًا كانت هذه الكتب: سواء كانت للمتقدمين أو المتأخرين، وسواء كانت تعني بتمحيص الروايات أم لا تعني، وسواء وافق ذلك الأصول أم خالفها، وسواء قبله المحققون من العلماء أم رفضوه.
المهم أن يروي ذلك في كتاب وإن لم يعرف صاحبه، أو يذكر في قصيدة من قصائد المدائح النبوية، أو في قصة " مولد " التي يُتلى بعضها في شهر ربيع الأول من كل عام، أو نحو ذلك.
وهذه عقلية عامية لا تستحق أن تناقش، فالكتب فيها الغثّ والسمين، والمقبول والمردود، والصحيح والمختلق الموضوع.
وقد ابتليت ثقافتنا الدينية بهؤلاء المؤلفين الذين يتتبعون " الغرائب " ويحشون " بها بطون الكتب، وإن خالفت صحيح المنقول، وصريح المعقول.
وبعض المؤلفين، لا يعني بصحة ما يروي من هذه الأمور، على أساس أنها لا يترتب عليها حكم شرعي، من تحليل أو تحريم أو غير ذلك . ولهذا إذا رووا في الحلال والحرام تشددوا في الأسانيد، ونقدوا الرواة، ومحصوا المرويات . فأما إذا رووا في الفضائل والترغيب والترهيب . ومثلها المعجزات ونحوها، تساهلوا وتسامحوا.
ومؤلفون آخرون، كانوا يذكرون الروايات بأسانيدها، فلان عن فلان عن فلان - ولكنهم لا يذكرون قيمة هذه الأسانيد: أهي صحيحة أم غير صحيحة ؟ وما قيمة رواتها: أهم ثقات مقبولون أم ضعاف مجروحون، أم كذابون مردودون ؟ معتمدين على أنهم إذا ذكروا السند فقد أبرأوا أنفسهم من التبعة، وخلوا من العهدة.
غير أن هذا كان صالحًا وكافيًا بالنسبة للعلماء في العصور الأولى، أما في العصور المتأخرة - وفي عصرنا خاصة - فلم يعد يعني ذكر السند شيئًا . وأصبح الناس يعتمدون على النقل من الكتب، دون أي نظر إلى السند.
وهذا هو موقف جمهرة الكتاب والمؤلفين في عصرنا، حين ينقلون من تاريخ الطبري، أو طبقات ابن سعد أو غيرها.يبالغ في النفي والإنكار للمعجزات والآيات الحسية الكونية ، وعمدته في ذلك: أن معجزة محمد - صلى الله عليه وسلم - هي القرآن الكريم وهو الذي وقع به التحدي: أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور مثله، أو بسورة من مثله.
ولما طلب المشركون من الرسول بعض الآيات الكونية تصديقًا له، نزلت آيات القرآن تحمل الرفض القاطع لإجابة طلباتهم . كما في قوله تعالى: (وقالوا: لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعًا . أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرًا . أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفًا وتأتي بالله والملائكة قبيلاً . أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقي في السماء . ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابًا نقرؤه، قل: سبحان ربي، هل كنت إلا بشرًا رسولاً ؟). (سورة الإسراء: 90 - 93).
وفي موضع آخر، ذكر المانع من إرسال الآيات الكونية التي يقترحونها فقال: (وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون، وآتينا ثمود الناقة مبصرة، فظلموا بها، وما نرسل بالآيات إلا تخويفًا). (سورة الإسراء: 59).
وفي سورة أخرى، رد على طلب الآيات بأن القرآن وحده كاف كل الكفاية ليكون آية لمحمد - صلى الله عليه وسلم - قال تعالى: (أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم ؟ إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون). (سورة العنكبوت: 51).
وقد اقتضت الحكمة الإلهية أن تكون معجزة محمد - صلى الله عليه وسلم - معجزة عقلية أدبية، لا حسية مادية، وذلك لتكون أليق بالبشرية بعد أن تجاوزت مراحل طفولتها، ولتكون أليق بطبيعة الرسالة الخاتمة الخالدة . فالمعجزات الحسية تنتهي بمجرد وقوعها . أما العقلية فتبقى.
وقد أيد ذلك ما جاء في صحيح البخاري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " ما من الأنبياء من نبي إلا وقد أعطى من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة ".
ويبدو لي أن مما دفع هذا الصنف إلى هذا الموقف أمرين:.
أولاً: افتتان الناس في عصرنا بالعلوم الكونية، القائمة على ثبات الأسباب، ولزوم تأثيرها في مسبباتها، حتى ظن بعض الناس أنه لزوم عقلي لا يتخلف في حال، فالنار لابد أن تحرق، والسكين لابد أن تقطع، والجماد لا يمكن أن ينقلب إلى حيوان، والميت لا يمكن أن يرجع إلى الحياة ... إلخ.
الثاني: غلو الصنف الأول في إثبات الخوارق، بالحق والباطل، إلى حد يكاد يلغي قانون الأسباب والسنن، التي أقام الله عليها هذا العالم . وكثيرًا ما يقاوم الغلو بغلو مثله.
وهنا يظهر الرأي الوسط بين المبالغين في الإثبات، والمغالين في الإنكار . وهو الرأي الذي أرجحه وأتبناه.وخلاصة هذا الرأي:.
1- أن القرآن الكريم هو الآية الكبرى، والمعجزة الأولى، لرسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو الذي تحدّى به العرب خاصة، والخلق عامة . وبه تميزت نبوة محمد على غيرها من النبوات السابقة، فالدليل على صدق نبوته هو نفس موضوع رسالته ؛ وهو كتابه المعجز بهدايته وبعلومه، وبإعجازه اللفظي والمعنوي، وبإتيانه بالغيب: ماضيه وحاضره ومستقبله.
2-أن الله تعالى أكرم خاتم رسله بآيات كونية جمة، وخوارق حسية عديدة، ولكن لم يقصد بها التحدي، أعني إقامة الحجة بها على صدق نبوته ورسالته . بل كانت تكريمًا من الله له ، أو رحمة منه تعالى به، وتأييدًا له، وعناية به وبمن آمن معه في الشدائد ؛ فلم تحدث هذه الخوارق استجابة لطلب الكافرين، بل رحمة وكرامة من الله لرسوله والمؤمنين ، وذلك مثل " الإسراء " الذي ثبت بصريح القرآن، والمعراج الذي أشار إليه القرآن، وجاءت به الأحاديث الصحيحة، ونزول الملائكة تثبيتًا ونصرة للذين آمنوا في غزوة بدر، وإنزال الأمطار لإسقائهم فيها وتطهيرهم، وتثبيت أقدامهم، على حين لم يصب المشركين من ذلك شيء وهم بالقرب منهم . وحماية الله لرسوله وصاحبه في الغار يوم الهجرة، رغم وصول المشركين إليه، حتى لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآهما ، وغير ذلك مما هو ثابت بنص القرآن الكريم.
ومثل ذلك إشباع العدد الكثير من الطعام القليل في غزوة الأحزاب، وفي غزوة تبوك.
3- إننا لا نثبت من هذا النوع من الخوارق إلا ما نطق به القرآن، أو جاءت به السنة الصحيحة الثابتة . وما عدا ذلك مما انتفخت به بطون الكتب، فلا نقبله، ولا نعبأ به.
فمن الصحيح الثابت:.
( أ ) ما رواه جماعة من الصحابة من حنين الجذع الذي كان يخطب عليه - صلى الله عليه وسلم - أول الأمر، فلما صنع له المنبر، وقام عليه للخطبة، سمع للجذع صوت كحنين الناقة إلى ولدها . فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - فوضع يده عليه فسكت.
قال العلامة تاج الدين السبكي: حنين الجذع متواتر، لأنه ورد عن جماعة من الصحابة، إلى نحو العشرين، من طرق صحيحة كثيرة تفيد القطع بوقوعه . وكذلك قال القاضي عياض في الشفاء: إنه متواتر.
( ب ) ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما من أصحاب السنن والمسانيد عن جماعة من الصحابة، من إفاضة الماء بغير الطرق المعتادة، وذلك في غزواته وأسفاره - صلى الله عليه وسلم - مثل غزوة الحديبية، وغزوة تبوك وغيرهما.
روى الشيخان عن أنس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه كانوا بالزوراء فدعا بقدح فيه ماء، فوضع كفه فيه، فجعل الماء ينبع من بين أصابعه، وأطراف أصابعه، فتوضأ أصحابه به جميعًا.
وروى البخاري عن البراء بن عازب أنهم كانوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية أربع عشرة مائة (أي 1400)، وأنهم نزحوا بئر الحديبية فلم يتركوا فيها قطرة، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسالم فأتاها، فجلس على شفيرها، ثم دعا بإناء من ماء، فتوضأ، ثم تمضمض ودعا، ثم صبه فيها . قال: فتركناها غير بعيد، ثم إنها أصدرتنا (سقتنا وروتنا) ماشيتنا نحن وركابنا.
والأحاديث في إجراء الماء له - صلى الله عليه وسلم - كثيرة مستفيضة، ومروية بأصح الطرق.
(جـ) ما حفلت به كتب السنة من استجابة الله تعالى لدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - في مواضع يصعب حصرها، مثل دعائه بإنزال المطر . ودعائه يوم بدر بالنصر، ودعائه لابن عباس بالفقه في الدين، ودعائه لأنس بكثرة الولد، وطول العمر، ودعائه على بعض من آذاه .. إلخ.
( د ) ما صح من الأنباء بمغيبات وقت كما أخبر بها - صلى الله عليه وسلم - ، بعضها في حياته، وبعضها بعد وفاته، مثل فتح بلاد اليمن وبصرى وفارس، وقوله لعمار: " تقتلك الفئة الباغية " وقوله عن الحسن: إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين من المسلمين ... إلخ . ومثل إخباره بفتح القسطنطينية وغيرها.
ونكتفي هنا بما اشتهر من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين اختفى في الغار عند الهجرة من المدينة، جاءت حمامتان فباضتا على فم الغار كما أن شجرة نبتت ونمت فغطت مدخل الغار . فهذا ما لم يجئ به حديث صحيح، ولا حسن، ولا ضعيف.
أما نسج العنكبوت على الغار فقد جاءت به رواية حسنها بعض العلماء، وضعفها آخرون .
وظاهر القرآن يدل على أن الله تعالى أيد رسوله يوم الهجرة بجنود غير مرئية كما قال تعالى: (فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها) والعنكبوت والحمام جنود مرئية ولا شك والنصر بجنود غير مشاهدة ولا محسة أدل على القهر الإلهي والعجز البشري . وإنما اشتهرت هذه الخوارق بين جمهور المسلمين بسبب المدائح النبوية، للمتأخرين وبخاصة مثل " البردة " للبوصيري التي يقول فيها:.
ظنوا الحمام، وظنوا العنكبوت على خير البرية لم تنسج ولم تحم.
وقاية الله أغنت عن مضاعفة من الدروع وعن عال من الأطم.
فهذا هو موقفنا من الخوارق والمعجزات النبوية المنسوبة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - .
والله أعلم
ــــــــــــ(1/31)
النزول بقباء
قال ابن إسحاق : فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، عن عبد الرحمن بن عويمر بن ساعدة قال حدثني رجال من قومي من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا : لما سمعنا بمخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة ، وتوكفنا قدومه كنا نخرج إذا صلينا الصبح إلى ظاهر حرتنا ننتظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوالله ما نبرح حتى تغلبنا الشمس على الظلال فإذا لم نجد ظلا دخلنا، وذلك في أيام حارة.
حتى إذا كان اليوم الذي قدم فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جلسنا كما كنا نجلس حتى إذا لم يبق ظل دخلنا بيوتنا، وقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين دخلنا البيوت فكان أول من رآه رجل من اليهود، وقد رأى ما كنا نصنع وأنا ننتظر قدوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علينا، فصرخ بأعلى صوته يا بني قيبلة هذا جدكم قد جاء. قال فخرجنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في ظل نخلة، ومعه أبو بكر رضي الله عنه في مثل سنه وأكثرنا لم يكن رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل ذلك وركبه الناس وما يعرفونه من أبي بكر، حتى زال الظل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقام أبو بكر فأظله بردائه فعرفناه عند ذلك.
ــــــــــــ(1/32)
الهجرة رحلة اليقين وركوب الأسباب
عبد الخالق برزيزوي ...
دروس وعبر ودلالات كثيرة يقف عندها القارئ في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، التي تروي أحداث الهجرات التي أذن بها الله للرسول - صلى الله عليه وسلم - ولصحابته.
أقف على بعض المشاهد التي تعكس صورة جلية ليقين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابته في الله ، يقين رافق الرعيل الأول من المسلمين منذ الهجرة الأولى إلى الحبشة ، وسيج هجرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة.
قال ابن إسحاق : فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يصيب أصحابه من البلاء ، وما هو فيه من عافية بمكانه من الله ومن عمه أبي طالب، وأنه لا يقدر أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء ، قال لهم : لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد ، وهي أرض صدق ، حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه" (1)
فلما اشتد ظلم قريش واضطهادهم على المسلمين بمكة ، أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسلمين بأن يهاجروا إلى الحبشة، وهي بلاد بعيدة ودونها مسافة طويلة ، ومشقة وعبور صحراء وركوب بحر ومجازفة..
كيف إذن أمن المسلمون بأن الخير قد يكتب لهم في تلك الرحلة ؟ وفي المُقام والمكوث بين قوم ليسوا قومهم ، وفي جوار ملك لا يدين بدينهم ، دين الإسلام الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وقد اضطهدهم قومهم وبنو جلدتهم وأنزلوا بهم أشد أصناف التعذيب والتنكيل والأذية المادية الجسمية والمعنوية النفسية؟
كيف يطمئنون على أرواحهم وأبنائهم إذا تركوا ديارهم ومتاعهم وأموالهم وخرجوا إلى ما يمكن اعتباره مجهولا وعدما؟ كان اليقين والثقة والتسليم لأمر الله ورسوله هو عدتهم وعتادهم ، كان الصحابة رضوان الله عليهم يعلمون أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - لا ينطق عن الهوى ، وأن ما أمرهم به وحي وإذن من الله تعالى ، إذ قال لهم : " إن بها ملكا لا يظلم عنده أحد " كانت هذه الكلمات كافية لتبعث في قلوبهم الأمن والاطمئنان واليقين بأن الله مانعهم وبأن أمره بالغ لا محالة.
لم يترددوا رضوان الله عليهم ، ولم يلتفتوا ، بل سمعوا وأطاعوا ولبوا!
هذا مبدأ التصديق وعربون اليقين في موعود الله ورسوله بأن ينصر دعوته ، فهل اطمأن الصحابة المهاجرون إلى ذلك ثم تجاهلوا كل الأسباب والسنن التي جعلها الله تكليفا شرعيا وجب على المسلمين الأخذ بها والعمل بمقتضياتها؟
كلا ! فقد اتخذ الصحابة كل أسباب الحيطة والحذر وخرجوا مستخفين متسللين في هجرتهم ، بل حتى لما جاء عمرو بن العاص يكلم النجاشي في أمر المسلمين ويغري بهم عنده ويسأله أن يسلمه إياهم ليرجع بهم إلى قومهم " فهم أدرى بهم " بادر المسلمون إلى إعمال الجهد ومدافعة الباطل بالحجة ، وانتصب جعفر بن عبد المطلب عم الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وبسط للملك النجاشي أمر الإسلام ، هذا الدين الجديد وتلا عليه من القرآن كتاب الله ، وحاج عمرو بن العاص ولم يأل جهدا في موافقة ما أخبرهم به الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأن النجاشي لا يظلم عنده أحد!
فيقينه وتصديقه رضي الله عنه ، دفعاه إلى الإصرار على توضيح ما أشكل على الملك النجاشي وعلى بيان حقيقة ما يدعو إليه الإسلام وبطلان دعاوى عمرو بن العاص وقومه.
الصورة الثانية أستقيها من هجرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الطائف حيث كان يخرج إلى القبائل ليعرض عليها نفسه ويبلغهم دعوة الإسلام ويطلب منهم نصره وإيواء دعوته.
هنا كذلك نلتقي مع درس آخر في يقين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ربه ، ذلك اليقين الذي نفذ إلى قلبه عليه الصلاة والسلام وقذف فيه الاطمئنان والتفاؤل وحسن الظن في الله تعالى .
قال ابن إسحاق : " ولما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لم تكن تنال منه في حياة عمه أبي طالب ، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الطائف ، يلتمس النصرة من ثقيف ، والمنعة بهم." (2)
عرض نفسه عليه الصلاة والسلام على أشراف ثقيف فكان ردهم منكرا من القول والفعل ، حيث تركوه وأغروا به سفهائهم يرمونه بالحجارة وبأسوأ الكلام ، وهو عليه الصلاة والسلام لا يبالي ولا يهتم " إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي " (3)
فقد تيقن بأن الله كفاه أذاهم وبأنه تعالى سيظهر دينه ولو كره المشركون..
أما الصورة الثالثة والأخيرة في رحلة هذه الهجرات، فألتقطها من هجرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى المدينة رفقة أبي بكر رضي الله عنه.
قال ابن إسحاق :" وكان أبو بكر رضي الله عنه رجلا ذا مال ، فكان حين استأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الهجرة ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا تعجل لعل الله يجد لك صاحبا ، قد طمع أن يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، إنما يعني نفسه، حين قال ذلك ، فابتاع راحلتين ، فاحتبسهما في داره ، يعلفهما إعدادا لذلك."(4)
وحينما أذن الله للرسول - صلى الله عليه وسلم - بالهجرة " ..ورغم يقينه الكامل - عليه الصلاة والسلام - بأن الله معه يرعاه ويسدد خطاه ، لم يتعجل الحركة ، ولم يرتجل الخطوات كان عليه أن يخطط للهجرة ، مستخدما كل ما وهب من إمكانات الفكر والبصيرة والإرادة.لأنه بهذا وحده يستحق نصر الله ووعده...وإلا فلأي شيء منحنا الله بصائر وعقولا وحرية وقدرة على التحرك والتخطيط ؟ " (5)
فراح أبو بكر في يقينه وتصديقه المعهودين يعد العدة لتلك الرحلة ، ويرتب المراحل ويوزع الأدوار على أبنائه وبناته ، ويجهز أسباب وشروط الهجرة من عناصر بشرية ومن رواحل وأموال تعينهم في خروجهم.
يقين وإعداد للأسباب ، لم يمنعه رضي الله عنه تصديقه وثقته في أمر استبقاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له ، وتأخير هجرته حتى يجد الله له صاحبا ، لم يمنعه ذلك من اتخاذ الأسباب وركوب سنن الله في التهييء والتخطيط لذلك الحدث الذي سيقلب ميزان القوة لصالح الفئة المؤمنة ويغير مجرى التاريخ البشري .
راحلتان ودليل مشرك وبعض الزاد أتت به أسماء بنت أبي بكر ، هذا كل ما أعده أبو بكر وأله لهذه الرحلة الطويلة في الزمان والمكان ، رحلة سيكتب لها النجاح والظفر وستكون بداية عهد ومرحلة جديدة بكل المقاييس ، أرض ووطن جديدان ، بنية وتركيبة اجتماعية تحكمها قوانين ومواثيق وأعراف جديدة ، سياسة وحكم جعل لهما الله شرعة ومنهاجا جديدين.
" ومعا استكملا الخطة ووضعا الأسباب ، وتركا - من ثم - مصيرهما ومصير الدعوة لله ، صانع المصائر ومقدر الأقدار... التسلل من شباك خلفي على غفلة من قريش..التوجه جنوبا على طريق اليمن واللجوء إلى إحدى مغارات جبل ثور هناك التوقف عن السير ثلاثة أيام ريثما تخف محاولات القرشيين المستميتة في البحث عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - " (6)
ومن غار ثور رأى أبو بكر بأم عينيه نعال المشركين المطاردين عند أسفل الغار.فارتعد فرقا على رسول الله عليه الصلاة والسلام وعلى مصير الدعوة ن فهمس لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائلا : " لو نظر أحدهم تحت قدمه لرآنا "
ويجيء رد الرسول - صلى الله عليه وسلم - كله يقين واطمئنان : " يا أبا بكر ، ما ظنك باثنين الله ثالثهما ؟" ثم يأتي كلام الله تعالى يؤكد حمايته لنبيه وصاحبه ": " إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم " (7)
ومن دروس اليقين أيضا ، ما فعله أبو بكر الصديق رضي الله عنه حينما خرج مهاجرا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقد " ...احتمل ماله كله ، ومعه خمسة آلاف درهم أو ستة آلاف " (8)
فلما دخل أبو قحافة والد أبي بكر رضي الله عنه على أحفاده بعد خروج أبيهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " ..والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه . قالت - أسماء بنت أبي بكر - قلت كلا يا أبت ( و كان قد ذهب بصره ) إنه قد ترك لنا خيرا كثيرا . قالت : فأخذت أحجارا فوضعتها في كوة في البيت الذي كان أبي يضع ماله فيها ...ثم وضعت عليها ثوبا ، ثم أخذت بيده ، فقلت : يا أبت ضع يدك على هذا المال ، قالت : فوضع يده عليه ، فقال : لا بأس ، إذا كان ترك لكم هذا فقد أحسن ، وفي هذا بلاغ لكم . ولا والله ما ترك لنا شيئا ولكني أردت أن أسكن الشيخ بذلك" ( 9)
ثقة ويقين كاملين في أن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا وبأنه تعالى يرزق عباده المتقين من حيث لا يحتسبون، أخذ رضي الله عنه المال كله لينفقه في سبيل الله وترك الله لعياله.
وهذا سراقة بن مالك بن جُعثُم لما خرج في طلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد عمت عينه وملأتها المائة ناقة هبة من يرده عليه الصلاة والسلام إلى قومه، فلما رأى تعثر فرسه مرة تلو الأخرى ، والرسول عليه الصلاة والسلام ماض في طريقه مهاجرا في سبيل الله ، موقنا بأن العاقبة للمتقين ، لا يلتفت ، وأبو بكر رغم ذلك ، وأخذا بالأسباب،لا ينفك يأتيه مرة عن اليمين ومرة عن شماله الكريمة ومرة أمامه وأخرى وراءه يحميه بنفسه وجسده خوفا عليه من طالبيه ، أيقن سراقة بأنه لن يدرك الرسول صلى الله عليه ولن يصله بأذى ، فتولى عنه بعد أن أخذ منه عليه الصلاة والسلام عهدا ، ولم يخبر قريشا بشيء من أمره ( 10) سيرة ابن هشام ج 2 ص490
مازال واقعنا في مجمله بين طرفي نقيض. فمن جهة نجد من يؤمن بأنه سيكون للإسلام وللمسلمين شأن كبير لكنه قاعد ينتظر أن يفعل به وله دون أن يحدث نفسه بفعل أو بذل أو جهد من أجل إحقاق الحق وإبطال الباطل والنهوض بهذه الأمة نحو استقبال موعود الله ورسوله في التمكين والاستخلاف في الأرض ، هذا يميت علبنا ديننا ويعطل سنة الله في الكون وفي الأنفس ، إذ لابد من اقتران تدبير العباد بإرادة وتدبير رب العباد.
ومن جهة أخرى هناك من يعيش واقعا ميؤوسا قانطا لا يرى من أمر الإسلام وأهله إلا السواد يغشيه ليل حالك لا يكاد يتبين منه خيط بياض ولا ومضة نور ..أقعدته هو الآخر غلبة الاستكبار العالمي وصولته وما يظهره من قوة وعنف وبأس ، مقابل تراجع وانبطاح أنظمتنا العربية والإسلامية أمامه واقتفائها سننه.
إن التاريخ يعيد نفسه ، فأسباب النصر والتمكين وشروطه ومقتضياته لا تتغير ولا تتبدل ، فتلك سنة الله ، ولن تجد لسنة الله تبديلا .
المتغير هو الزمان والأحوال والظروف والوسائل وتقدير الأولويات وترتيبها .فلنأخذ بالثوابت كاملة غير منقوصة ولا مجزأة، فالثقة في الله واليقين فيه تعالى والاعتماد عليه واستمطار النصر والمدد منه سبحانه، لا يمكن أن نأخذ منه ونترك ، بل لابد من إتمام كل ذلك وإجماله .
ثم نتدرج في إتيان الأسباب ونقدم ونؤخر في ترتيب الأولويات حسب الظروف والمتاح ، ونعد من الجهد والطاقة والإمكانيات ما يبلغه الوسع وبعد ذلك لا نلام.
هكذا ينبغي أن نتعلم اليقين وهكذا أيضا ينبغي أن نتعلم الإتيان بالأسباب والأخذ بها في كل أمر الدعوة، وقبل ذلك و أثناءه وبعده لا نبرح نسأل الله التأييد والعون والمعية.
لن يبرح المسلمون مقعدهم من الذل والهوان والتأخر ما تجاهلوا ضرورة الجمع بين اليقين والثقة الكاملة في موعود الله ورسوله في ظهور الإسلام على الدين كله وفي سيادة أمته على الأمم كلها ، وبين النزول إلى الأرض ومعالجة الواقع والتخطيط والتدبير بما يقتضيه ذلك الظهور وتلك السيادة من أسباب وضرورات ميدانية حسية رقمية.
فعلى هذا فليشتغل كل أهل الدعوة استجابة وتلبية لنداء الله وأمره لعباده بأن ينفروا ويسارعوا في الخيرات طلبا لرضاه وحسن العاقبة وإعدادا للدولة التي جعلها الله حصنا حاميا للدعوة.
------------
الهوامش :
(1) أبو محمد عبد الملك بن هشام ، السيرة النبوية لابن هشام ، الطبعة الثانية ،المكتبة العلمية بيروت ، ج 1 ص 321-322
(2) نفسه ج2 ص419 .
(3) نفسه ص 420
(4) نفسه ص 484
(5) خليل ، عماد الدين، دراسة في السيرة ، الطبعة السابعة 1985 ، دار النفائس، ص 135
(6) نفسه ص 136
(7) نفسه ص 137 -0138
(8) السيرة النبوية لابن هشام، ج 2 ص488
(9) نفسه ج 2 ص 488
( 10) نفسه ج 2 ص490
الهجرة مشروع لبناء حضارة إيمانية جديدة
العدد: 5 (أكتوبر - ديسمبر) 2006
.أ.د عبد الحليم عويس / تاريخ وحضارة
عندما هاجر الرسول صلى الله عله وسلم من مكة لم يهجر قلبه تراب مكة ولا الكعبة الرابضة في قلب مكة، ولقد أعلن صلى الله عله وسلم ذلك بعبارة صحيحة عندما التفت إلى مكة وهو يودعها قائلاً: "ما أطيبك من بلد وأحبك إليّ! ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك." (رواه الترمذي)
وعندما هاجر الرسول صلى الله عله وسلم من مكة لم يهجر قريشاً ولا بني هاشم، فلقد كان يحب الجميع ويتمنى لهم الهداية والخير، كما أنه -وهو الوفي- لم ينس لبني هاشم -مُسلمهم وكافرهم- مواقفهم معه عندما قادَتهم عصبية الرحم فحموه من كل القبائل، ودخلوا معه شعب أبي طالب يقاسون معه ومع المسلمين الجوع والفاقة، ولا يَمنّون عليه بذلك، مع أنهم على غير دينه، لكنه الولاء للأرحام.
هاجر عليه السلام ولكنه لم يهجر
فالرسول المهاجر صلى الله عله وسلم لم يهجر كل ذلك بل حمله معه في قلبه، يحنّ إلى ذلك اليوم الذي يعود فيه إلى مراتع الصبا، وإلى الرحم الذي وقف معه حتىّ قال قائلهم وسيدهم أبو طالب: "اذهب يا ابن أخي! فقل ما شئت فوالله لن أسلمك أبداً"، مع أنه لم يكن على دينه.
وإنما كانت هجرة الرسول صلى الله عله وسلم من مكة هجراً للوثنية المسيطرة التي لا يريد أصحابها أن يتعاملوا بمنطق الدين أو منطق العقل أو منطق الأخلاق. فهذه وثنية يجب أن تهجر وأن يهاجر من مناطق نفوذها وإشعاعاتها.
وإنما هاجر الرسول، وهجر -إلى جانب الوثنية المسيطرة- تلك العصبية المستعلية التي تعرف منطق القوة، ولا تعرف منطق الحق، وليس في وعيها ولا في قاموسها أن تهادن الإيمان، وأن تترك مساحة للتفاهم والحوار، وبالتالي تصبح الحياة معها -بعقيدة إيمانية بعيدة عن إشعاعاتها- أمراً مستحيلاً.
إننا نريد أن يفهم مضمون الهجرة الإسلامية كما ينبغي أن يفهم، وأن تكون هجرة الرسول هي المرجعية لهذا الفهم. فقد بُعث محمد صلى الله عله وسلم "رحمة للعالمين"، فكيف تكون إذن رحمته بالقوم الذين انتسب إليهم، أو بالقوم الذين عاش معهم، أو بالأرض الطاهرة التي نشأ فيها، وتربّى في بطاحها وتنسم عبيرها، وشاهد جموع الزاحفين إلى أرضها الطاهرة من كل فج عميق؟!
إن رحمته -بالضرورة هنا- لا بد أن تكون أكبر من أي رحمة أخرى... ولهذا نراه صلى الله عله وسلم يرفض دائماً أن يدعو على أهل مكة، وحتى وهو في هذه اللحظة البالغة الصعوبة، عندما وقع في حفرة حفروها له في موقعة أحد، وتناوشته سهامهم من كل مكان، وسالت دماؤه الطاهرة على جبل أحد الذي كان يتبادل الرسول صلى الله عله وسلم الحب معه، لأن بعض قطرات دمائه الزكية قد اختلطت بتراب أحد الطاهر، فأصبحا حبيبين... حتى في هذه اللحظة البالغة الصعوبة لم يستطع لسانه الزكي، ولا قلبه التقيّ أن يدعو عليهم، ولا أن يشكوهم إلى الله، وإنما كان يردد على مسمع من الناس جميعاً: "اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون"(متفق عليه). وعندما كان يرى تمادي قريش في الحرب كان يتأسف عليهم ويقول: "يا وَيحَ قريشٍ لقد أكلَتهم الحربُ، ماذا عليهم لو خلَّوا بيني وبين سائر الناس" (رواه الإمام أحمد في مسنده).
وكم راودته الجبال الشم -بأمر من الله- أن تطبق عليهم فكان يرفض ويقول: "أَرْجُو أَن يُخرج اللهُ مِن أَصلابهم مَن يَعبد اللهَ وحده لا يُشرك به شيئا"(متفق عليه). وعندما جاءته فرصة السلام معهم أصرّ عليها، مع تعنّتهم في الشروط تعنّتاً أغضب أصحابه، لكنه كان يريد لهم الحياة، وألا تستمر الحرب في أكلهم، وألا يبقوا -وهم قومه وشركاؤه في الوطن- مستمرين في تأليب القبائل عليه لدرجة أنهم أصبحوا العقبة الكأداء في طريق الإسلام؛ مما يفرض عليه بأمر الله الجهاد لإزالة هذه العقبة، ونجح الرسول في إزالة عقبتهم بقبول شروطهم المجحفة، حبّاً لهم، وحفاظاً على بقائهم، وأيضاً لإفساح الطريق أمام دين الله.
أما حين دخل مكة صلى الله عله وسلم فاتحا فقد حافظ بكل قوة على كرامتهم ودمائهم، ولم يقبل مجرد كلمة خرجت من فم سعد بن عبادة رضي الله عنه -أحد الصحابة والقادة الأجلاء- وذلك عندما قال: "اليوم يوم الملحمة" فنزع الراية منه، وأعطاها لابنه قيس وقال "لا، بل اليوم يوم المرحمة، اليوم يعزّ الله قريشاً"(1).
وعندما استسلمت مكة كلها تماماً، وقف أهل مكة ينتظرون حكمه فيهم مستحضرين تاريخهم الظالم معه، لكنهم سرعان ما تذكروا أنه الرؤوف الرحيم الطاهر البريء من رغبات الانتقام أو المعاملة بالمثل. فلما سألهم: "ماتظنون أني فاعل بكم"، قالوا: "أخ كريم وابن أخ كريم"، فرد عليهم قائلاً: ?لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ? (يوسف: 92)، وهي كلمة نبي الله يوسف عليه السلام التي قالها لإخوته، ومنها ندرك أنه اعتبرهم جميعاً إخوته، كأنهم إخوة يوسف عليه السلام، ثم أعلن العفو العام بتلك الجملة الخالدة: "اذهبوا فأنتم الطلقاء لوجه الله تعالى"(2). فكأنه أنقذهم من الموت الزؤام عليه الصلاة والسلام.
دعوة لمهاجري العصر الحاضر
ونقول للمهاجرين من أبناء عصرنا لظروف مختلفة إلى أي بلد من بلدان العالم: هذه هي هجرة رسول الله صلى الله عله وسلم بين أيديكم، وهي كتاب مفتوح، فأمعنوا القراءة فيه لتدركوا منه أن هجرتكم من بلادكم -لأي سبب من الأسباب- لا تعني القطيعة مع أرض الوطن، ولا مع الأهل والعشيرة، ولا مع المسلمين في أي مكان، مهما تكن الخلافات الظرفية الطارئه معهم؛ بل يجب أن تبقى الصلة قائمة بينكم وبين الأهل والقوم، تمدونهم بأسباب الحفاظ على الدين من مواقعكم، لكي يثبتوا ويمتدوا بإشعاعات الإيمان إلى أكبر مدى ممكن، لاسيما ووسائل التواصل الآن في أقوى مستوى عرفته البشرية، وبالتالي تكونون قد وصلتم الرحم، وجمعتم بين الثلاثية المتكاملة التي تمثل بأركانها الثلاثة وحدة لا تنفصم، وإلا فقدت الأمة "مكانة الخيرية" التي رفعها الله إليها عندما قال: ?كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ? (آل عمران:110) إنها ثلاثية الإيمان والهجرة والجهاد.
أجل! في عصرنا هذا يجب أن يعود معنى الهجرة إلى منبعه النبوي، فليست الهجرة هجراً للوطن، وقطيعة تاريخية أو معرفية معه، بل هي هجرة موصولة بالماضي، تعمل على تعميق الإيمان فيه، وتبني قلاعاً للإيمان في المهجر الجديد، وتصل بين الماضي والحاضر والمستقبل انطلاقاً من درس الهجرة النبوية.
التواصل مع ماضي المهاجر مطلوب
إن الحرية التي تريد أن تتمتع بها في مهجرك، والثروة التي تريد أن تكوّنها، وحتى الدعوة التي تريد أن تبلّغها -إن كنت ممن اصطفاهم الله للدعوة والبلاغ-... كل هذه تدفعك إلى التواصل مع الماضي من جانب؛ وتدفعك إلى بناء حدائق للإيمان يفوح عطرها في وضعك الجديد، وبلدك الجديد، من جانب آخر.
ليكن معنى الهجرة واضحاً في وَعيك، فهي ليست هجرة من أرض ولا أهل إلى أرض وأهل آخرين، بل هي هجرة من قيم ضيّقة ضاغطة تكبل حركة الإيمان، وتفتعل الصدام المستمر، وترفض الحوار بين الأفكار والعقائد، إلى قيم أخرى تسمح لأشجار الإيمان أن تنمو، وتسمح بالتفاعل والتحاور، ومواجهة الرأي بالرأي، والحجة بالحجة، وتكون مؤهلة لأن تسمح لأهل الإيمان والحق أن يعيشوا كما يريدون، وأن يبنوا قلاع الإيمان في النفوس عن طريق الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن.
إن الهجرة النبوية الإسلامية هجرة يقصد بها كسر القيود التي تفرض على الإيمان، وفتح نوافذ أخرى في أرض جديدة. وليست الهجرة الإسلامية أبداً من تلك الهجرات التي تعني زحفاً على البلاد على حساب أهلها، أو لتحقيق الثروة ثم الخروج بها، أو للاعتماد عليها لقهر أصحاب البلاد الأصليين، وجعلهم مجرد منفذين وأدوات لمشروعاتِ وطموحاتِ المهاجرين إليهم.
فالهجرة الإسلامية اليوم -إلى أيّ بلد في العالم- يجب أن تكون هجرة تسعى إلى التواصل والتعارف والتحاور والحب؛ بحيث يشعر كل الناس أنّ الأفراد المسلمين أو المجموعات الإسلامية التي تعيش بينهم إنما تمثل روحاً جديدة، تبني ولا تهدم، وتزرع الخير، و تقاوم الشر، ولا تعرف التفرقة في ذلك بين المسلم وغير المسلم، والوطني، والوافد، والأبيض والأسود.
وكل ذلك لن يتحقق إلا إذا رأى الناس في المسلم المهاجر إليهم -من خلال أقواله وأفعاله، وإسهاماته الخدميّة، وآفاقه المعرفية، وعبوديته لله- شخصية متميزة جادة تفعل ما تقول، وتعيش معهم حياتهم اليومية، وآمالهم، وآلامهم، يفيض منه الخير والنور، تلقائياً وعفوياً، كأنه بعض ذاته، وكأنه مرآة قيمه، وصدى أخلاقه، وأثر منهجه في الحياة.
وهنا يتساءل الناس من غير المسلمين: من أين لهذا المهاجر كل هذا الخير والنور؟ من أين له هذه الإنسانية المتدفقة؟ ومن أين له هذه الرحمة التي تعم الإنسان كل إنسان، بل والحيوان والنبات أيضاً... فسيصلون حتماً إلى الإجابة الصحيحة، وهي أن هذا الإنسان يرتشف من نبع الأنبياء، ويستمد وعيه الحضاري ومشروعه الإنساني الرحيم من نبيّه وإمامه، وإمام المسلمين الأعظم، بل وإمام الإنسانية محمد صلى الله عله وسلم.
فقد كانت هجرته المباركه روحاً جديدة، عبّر عنها أحد الصحابه الكرام (أنس بن مالك رضي الله عنه) في قولته المعروفة التي ذكر فيها أنه عندما دخل الرسول صلى الله عله وسلم المدينة بعد نجاح هجرته: "أضاء منها كل شيء، وعندما مات صلى الله عله وسلم أظلم فيها كل شيء". وهذا على العكس من مكة التي تسلل منها المسلمون هاربين بدينهم، فأظلم فيها كل شيء، ولم يبق فيها إلا الطغيان، والنزوع إلى الحرب. فلما فتَحها الرسول صلى الله عله وسلم انبعث فيها النور، وأضاءت الكعبة، وجاء الحق وزهق الباطل، وأصبحت مكة قلعة الإسلام الأولى.
إن هذا المعنى للهجرة يجب أن يبقى فوق كل العصور؛ لأنه اتصل بنبيّ الرحمة في كل العصور وكل الأمكنة، وأصبح -بالتالي- صالحاً لكل زمان ومكان، صلاحية كل حقائق الإسلام الثابتة.(1/33)
ولئن كنا نؤمن بأنه "لاَ هجرةَ بعد الفَتح"(متفق عليه) كما قال الرسول صلى الله عله وسلم، فإننا يجب أن نؤمن في الوقت نفسه ببقية الحديث، وهو قول الرسول: "ولكن جهاد ونية"، وهذا يعني أن الهجرة بعد مرحلة الهجرة الأولى قد أخذت بُعداً اصطلاحياً جديداً. ففي البُعد الأول كانت الهجرة مرتبطة بمكان هو المدينة، ولكنها بعد ذلك أصبحت مطلقة من المكان، فهي إلى أي مكان شريطة أن يكون "الجهاد والنية" هما الهدفين المغروسين في النفس. فهما -أي الجهاد والنية- قد انفصلا عن قيد وحدة المهجر (المدينة) الذي كان في صدر الدعوة، وأصبحا صالحين في كل العالم يمشيان مع رجال الدعوة والبلاغ، ويضمنان سلامة الأعمال وارتفاعها على المنافع الاقتصادية أو الظروف السياسية.
الهجرة والتكافل الإيماني
وعندما يستقّر هذا المعنى في النفس نستطيع أن نطمئن إلى أن أبطال الدعوة والبلاغ سينشئون في كل مكان يحلّون فيه حديقة جديدة للإيمان، وتاريخاً جديداً يبدأ كأشعّة الشمس في الصباح، ثم ينساب عبر كل زمان منطلقا إلى مساحة جديدة في الأرض.
وعلى المسلمين إذن -عندما يكونون في أرض المهجر- أن يسارعوا إلى الالتحام ببعضهم، وتكوين مجتمع إيماني يقوم على "المؤاخاة" التي ترتفع فوق الأخوّة، وهي مستوى خاص فوق أخوّة الإيمان التي هي مستوى عام، وأن يتكافلوا مع بعضهم تكافلاً مادياً ومعنوياً، تحقيقاً لقوله تعالى ?وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى?(المائدة:2) وقوله أيضاً ?وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ?(العصر:3).
والتكافل "المادي" يعني التعاون على ضمان الحد الأدنى المطلوب للحياة لكل أخ مسلم، طعاماً أو شراباً أو علاجاً أو تعليماً أو كساءً. والتكافل "المعنوي" هو التعاون على ضمان التزام "الأخوة" في الإسلام بأداء "الفرائض" والبعد عن "المآثم"، وتفعيل وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في إطار البيئة التي يعيشون فيها وبالأساليب المناسبة لها. وعليهم أيضاً أن يبنوا "مسجداً" يضم الرجال والنساء والأطفال، مهما يكن مستواه متواضعاً. فقد حذّرنا الرسول من وجود عدد -مهما يكن قليلاً- من المسلمين لا تقام الجماعة فيهم، كما أن "المسجد" سيكون محور لقاءاتهم وتعارفهم وتكافلهم المادي والمعنوي. ومن المسجد ينطلقون إلى صور من التكامل فيما بينهم تأخذ طابعاً علمياً ومؤسساتياً يجعل لهم قيمة وتأثيرا وإشعاعاً في مهجرهم الجديد.
لقد أخبرنا الرسول صلى الله عله وسلم أن مما فضل به على بقية الأنبياء أن الأرض جعلت له مسجداً. وقد حقق المسلمون السابقون العظماء "مسجدية الأرض" في كل الأرض التي هاجروا إليها، فهل يمكننا أن نستأنف المسيرة ونحذوا حذوهم.
فلعل الأرض تتخلص من الغيوم السوداء المتلبّدة وتعود مسجدًا طهورًا. ولعل الله يجري على أيدينا وأيدي المستخلفين من بعدنا نهراً جديداً للإيمان، وتاريخاً جديداً تتعانق فيه راية الوحي مع العلم، والحق مع القوة، ويسود العدل الشامل والرحمة المحمدية العالمية كل الكون... وما ذلك على الله بعزيز!
____________________
(1) الاستيعاب لابن عبد البر، 2/597.
(2) سنن البيهقي الكبرى، 9/118.
* أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية - مصر.
ــــــــــــ(1/34)
الهجرة .. عبرة وعبور..!
عبد الخالق برزيزوي ...
التقويم الهجري يؤرخ لحدث عظيم في تاريخ الإسلام ، حدث كان بمثابة انقلاب وانعطاف سيطبع تاريخ البشرية جمعاء.
أراد الله سبحانه وتعالى أن ينقل المؤمنين من ضيق العيش إلى سعته ، ومن ظلم وجور القريب إلى بر وإحسان النصير ، نقلة من أجواء الحصار إلى محضن الإيواء والجوار.. هجرة من دار أبت أن تحتضن دعوة التوحيد إلى حين ، نحو بلدة حنت إليها، فحل بها الأنس وأشرقت أرضها نورا وفاحت أجواؤها طيبا..
هاجر الرسول - صلى الله عليه وسلم - من مكة أحب أرض الله إلى قلبه ، هاجر ملبيا أمر ربه نحو المدينة ، نحو قدر الله ولا خيرة له عليه الصلاة والسلام ، فقد اختار الله ، فصار اختيار الله أحب إليه عليه السلام من كل ما سواه.
" سلنا غيرها ..!"
جاء نفر من مشيخة قريش يطلبون أبو طالب ليسألوه أن يمنع بن أخيه من سب آلهتهم وتسفيه أحلامهم على أن يتركوه ويدعوه وإلهه، فكان رد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن قال لعمه : " أي عم ، أولا أدعوهم إلى ما هو خير لهم منها : قال : وإلى ما تدعوهم ؟ قال : أدعوهم إلى أن يتكلموا بكلمة تدين لهم بها العرب ويملكون بها العجم . قال: فقال أبو جهل من بين القوم : ما هي وأبيك ؟ لنعطينكها وعشرا أمثالها. قال : تقول : لا إله إلا الله .قال : فنفروا وقالوا : سلنا غيرها ." (1).
هذا من قومه..قريب من عشيرته ، يعلم فضله عليه الصلاة والسلام وصدقه ، لكنه أبى واستكبر وتمنع ، بل إن قريشا كلها لم تنكر صدق الرسول عليه الصلاة والسلام ، لكن كبار القوم ما كانوا ليقبلوا دينا يسوي بينهم وبين الفقير الوضيع ، ما كانوا ليعتنقوا عقيدة من شرائعها عتق رقاب العبيد لتخضع لرب العباد ، ما كانوا ليومنوا بدين يجعل الفضل والقرب في أتقى الناس وليس في أغناهم أو أحسنهم مظهرا وأكرمهم نسبا.. منعهم كبرهم وكبرياءهم أن يلتفتوا وينتبهوا إلى ما وراء ذلك الإيمان وتلك التلبية لدعوة التوحيد ، تولوا فخسروا الدنيا والآخرة ..
القريب يتجهمك ويحاصرك ويظلمك وهو يدرك صدقك ويعلم سريرتك وأنك تريد الخير ، رغم ذلك يَمْتنع ويَتَمَنع و يأبى أن يَتبِع .. فيَضِيع ويُضَيِع ..
هذا كان مع من بعثه الله رحمة للعالمين فما بالنا نحن..؟ ما بالنا نضجر ونغضب إذا نهرنا أحد أو تجهم ؟ ما بالنا نضيق ونصخب إذا حاصرنا أحد أو ظلم ؟ لا نرضى بالظلم ولا نقبل الحصار ولا نعطي الدنية من أنفسنا.. بدعوى الصبر والرضى بقدر الله ، بل نرفض وندافع ونحاول رفع الظلم لكن برفق وبدون تعصب أو تطرف ، نهرب من قدر الظلم والحصار والاستبداد طلبا لقدر العدل والشورى والإحسان
قد لا نقول كل الحق اليوم رفقا بالناس وتدرجا بهم .. لكن لا نقول ولا نُسهم ولا نبرر الباطل أبدا..
بعيد .. " .. وإنها لحق! "
وهذا رجل من بني عامر بن صَعْصَعَة يقال له بَحِيرة بن فِراس ، كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد جلس إلى قومه يدعوهم إلى الله ويعرض عليهم نفسه ،يقول : " والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب. ثم قال له : أرأيت إن نحن تابعناك على أمرك ، ثم أظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك ..؟ ( 2)
فبماذا سيملك هذا الرجل من غير قريش رقاب العرب ؟ وما هو هذا الأمر الذي يسأل الرسول الكريم أن يكون في قومه بعده؟
ما وعده الرسول - صلى الله عليه وسلم - بشيء من أمر الدنيا.. إنما هي الجنة ..!
عاد النبي - صلى الله عليه وسلم - راجعا من الطائف إلى مكة ودخل في جوار المطعم بن عدي وهو من المشركين ، ثم واصل دعوته سرا وعلانية ، وكان يعرض نفسه على الناس في المواسم ، فكان ممن أتاهم من القبائل ، قبيلة كِنْدَة وبطن بني عبد الله من قبيلة كلب وبني حنيفة وبني عامر بن صَعْصَعَة ، فما أجابه إلى ما يدعوهم إليه أحد إلا ما كان من أمر شيخ بني عامر بن صعصعة ، وكان لا يخرج إلى المواسم لعجزه وكبر سنه ، فقد أخبره قومه عن أحداث وأخبار الموسم الذي كانوا فيه وعن ما كان من خبر محمد بن عبد الله ، - صلى الله عليه وسلم - ، ونبوته فقال لهم وهو يتحسر.. : " ... والذي نفس فلان بيده ما تَقَوَلَهَا إسماعيلي قط ! وإنها لحق ، فأين كان رأيكم عنه ! "( 3)
رجال من غير قومه أدركوا أهمية وفضل ما يدعو إليه عليه الصلاة والسلام ، في الدنيا " ..أيكون لنا الأمر بعدك .." وفي الآخرة ".. وإنها لحق .." علموا أن ما يدعو إليه سيكون لهم فيه النصيب الأوفر والفضل الأكبر، فما أرادوا أن يسبقهم إليه أحد .. حرص على الاستئثار بالخير ، ونعم الحرص !
عبرة وعبور .
لا هجرة بعد اليوم ، لكن نية وجهاد ، لا هجرة بعد اليوم لكن عبرة وعبور..!
عبرة نستلهمها من ذلك الحدث الذي غير مجرى حياة البشرية ، فنقلها من ظلام وظلم الناس للناس إلى نور وعدل إله الناس ، ما كان للبشرية أن تهنأ لولا الإسلام . ما كان لها أن تسعد لولا رحمة ورفق وتؤدة الإسلام . الإسلام علم العالم كيف يكون الجوار وكيف يحسن المرء إلى زوجه وكيف يسالم ويقاتل وكيف يصل ويقطع و كيف يعطي ويمنع .. الإسلام ربى الناس على الخير ونمى فيهم إلى جانب حب الآخرة حب الحياة وعمارة الأرض بالخير..
وهي هجرة وصل و عبور من ذلك العهد إلى عهدنا وما أدراك ما عهدنا ! عهدنا يشهد إعادة فتل ما انتقض من عرى الإسلام لتهيئة أجواء استقبال أمر الله..عهدنا هو نهاية استبداد كل ظالم ونهاية انكماش قوة الإسلام..عهدنا هو زمان العزة والنصر والمنعة والظفر..عهدنا نور على نور.. عهدنا يقظة وهمة وقيام من كبوة وعودة..
قدر الله بين أيدينا يدعو وينادينا ويصدع بالخير فينا ، يعلن ويبطن و يجهر ويسر بالليل و النهار و يأخذ بحجزنا ويدفعنا في صفه مع ركبه .. والله إنه لحق يأتيه التأييد من الغيب والشهادة ، والله انه لصدق برهانه ما يراه الناس وتراه .. أَنُسْبَق إليه وقد نشأ بيننا ، أيحتضنه وينصره غيرنا ونحن أولى به وأجدر ؟ لا والله لسنا فيه من الزاهدين ولسنا عنه راغبون ..
كان الله عز وجل يهيئ الأسباب ويذلل الصعاب ، ولما أراد إظهار دينه ، خرج الرسول - صلى الله عليه وسلم - في أحد المواسم وبينما كان يعرض نفسه على قبائل العرب لقي عند العقبة رهطا من الخزرج وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن: " فقال بعضهم لبعض : تعلمن والله إنه النبي الذي تُوعِدُكم به يهود ، فلا يَسْبِقُنكم إليه " (4) ، فكانت هذه هي أولى الوفود التي آمنت بالدعوة الإسلامية من خارج مكة فتمت بذلك بيعة العقبة الأولى . ثم تلاها لقاءان آخران ، لقاء العقبة الثانية وقد حضر فيه إثنا عشر رجلا من الأنصار وبايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيعة النساء.
وبعد ذلك ، وقد فشا الإسلام في يثرب ، خرج مسلمو الأنصار إلى الموسم وتواعدوا مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، على لقاء آخر ، فكانت بيعة الحرب التي حضرها سبعون رجلا وامرأتان ، وقد بايعوا على أن يمنعوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم .
شهادة ودلالة.
كتب الله على نفسه ليغلبن هو ورسله ، وهو سبحانه يعلم حيث يجعل رسالاته ، ويجعل لكل أجل كتاب .
دعوة العدل والإحسان بيننا ، والرجل الذي جاء بها بين ظهرانينا ، يسير على أثر الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - ، لا نزكي على الله أحدا ، إنما أقول ما شهد له به علماء الأمة في المشرق والمغرب ، بل ما شهد له به غير المسلمين ، أعرف خير الرجل لأنه كان ولا يزال دليلي إلى الخير ، أعرف فضله لأن ديني ينهاني أن أنسى فضل من أحسن إلي ..
الأستاذ عبد السلام ياسين مرشد جماعة العدل والإحسان ما زال بيننا ، وقد كان بيته في يوم من الأيام مفتوحا للجميع ، فجاء قدر الحصار ومنع عنه الزوار لفترة .. ثم رفع عنه بعض ذلك الحصار لكن لا يعلم أحد ماذا تخبئه الأقدار؟
من بلغه خبره يغبطنا نحن المغاربة ، يقول لنا " إن عندكم رجلا مباركا قد حِيز له الفضل فتشبثوا به واتبعوا دعوته وانصروه.."
من علم فضله من علماء المسلمين يرجو ويتمنى على الله أن يكتب له فرصة زيارته والجلوس إليه ..
من أدرك ما يدعو إليه يود لو أنه بينهم ومعهم ..
الناس يطلبون الرجل من خارج بلدنا ، والله إنهم يتشوفون ويرجون رؤيته ومشافهته ، ليس تبركا ولا تقديسا ولا تقربا مبتدعا ولا تدليسا ، إنما ليقينهم بأن ما يدعو إليه الرجل هو الحق وهو أحق أن يتبع ، فالعبرة العبرة ، فلا يسبقننا إليه أحد ، لا نمانع الأقدار ولا نصانع ، بل نوافق ونسابق ، ونرجو الله أن يبارك ويجعل ما نريد في ما يريد ..والحمد لله الحميد المجيد.
1- الطبري ، تاريخ الأمم والملوك، بيروت1987 ، مجلد 1 ، ص544
2 - نفسه ، مجلد 1، ص548
3 - نفسه ، مجلد 1 ، ص 556
4 - نفسه ، مجلد 1 ، ص 558 ،
ــــــــــــ(1/35)
الهجرة ... فاتحة عهد جديد
كانت هجرة رسول الله سيدنا محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى المدينةِ حدثًا هامًا من الأحداثِ الحاسمة في تاريخ الدعوة الإسلامية، فبها انتهى عهد وابتدأ عهد، وصارت طيبة مهاجر النبي ومثواه الأخير حيث دفن جسده الشريف في أرضها.
لقد حفلت كتب السيرة بتدوين حوادث الهجرة المباركة، وتبارت أقلام الكاتبين في ذكر المعاني البالغةِ والعبر التي انطوت عليها رحلة كَتبت للخلائق تاريخًا مجيدًا وعصرًا زاهرًا جديدًا، فكانت نهضة عظيمة لم تعرف لها البشرية مثالاً سبقها.
لقد ناصب رجال القبائل، خصوصًا قريش في مكة، نبي الله العداء، واجتمعوا على إيذائِه وتعذيب أصحابه والوقوف بوجه دعوته ليفتنوا الذين آمنوا عن دينهم، فأشار الرسول - صلى الله عليه وسلم - على أصحابهِ أن يهاجروا إلى الحبشةِ فهاجر عشرة رجال وأربع نسوة، ثم زاد عددهم حتى بلغ ثلاثة وثمانين رجلاً وسبع عشرة امرأة سوى الصبيان، هاجروا مخافة الفتنة وفرارًا إلى الله بدينهم فكانت أول هجرة في الإسلام.
وقد أحسن النجاشي ملك الحبشةِ استقبالهم وأكرمهم، فاطمأنوا في جواره وأمنوا. وحاولت قريش التقرب إلى النجاشي بالهدايا النفيسة لاستردادهم والإيقاع بينهم وبين النجاشي، ولكن النجاشي سمع منهم آيات بينات من القر آن في حقّ نبي الله عيسى عليه السلام وأمه الصدّيقة مريم فصدق بدعوتهم وزاد من إكرامهم وحمايتهم وباءت قريش بالخيبة والخسران المبين.
لقد كان أذى المشركين للمسلمين عجيبًا، ولكن صبرهم على الأذى كان أعجب، فثبتهم الله، فازداد عددهم وقويت شوكتهم، حتى خشي المشركون بأسهم، فأجمعوا على مقاطعة بني هاشم حتى يسلّموا إليهم الرسول ليقتلوه، ولكن أهل بيته نصروه برغم ما وجدوه من الشدائد والأهوال.
ثم فقد النبي الكريم نصيرين بوفاة عمه أبي طالب ثم زوجته خديجة، فانطلق إلى الطائف ولكنه لم يجد من أهلها أذنًا صاغية وآذوه بأقوالهم وأفعالهم فعاد إلى مكة. وكان يقصد في نشر الدعوة الموسم حيث تأتي القبائل إلى مكة، فوجدت دعوته صدى طيبًا بين أهل يثرب الأوس والخزرج الذين عرفوا وصفه بأنّه نبي آخر الزمان من اليهود، فآمن منهم ستة كانوا سبب انتشار الدعوة بعد ذلك.
لقد وجدوا في دعوة التوحيد وتعاليم النبي ما يوحّد كلمتهم ويجمع شتات شملهم ويقضي على ما بينهم من تنازع وبغضاء، ووجدوا في شخصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - ضالتهم المنشودة فاجتمعوا تحت لوائه. لقد دعاهم إلى التوحيد الخالص ونهاهم عن عبادة الأوثان، وعلّمهم الإيمان برسل الله وكتبه المنزلة وملائكته المقربين وبالبعث والجزاء، كما دعاهم إلى مكارم الأخلاق وترك الخبائث من الأعمال والسيئات من العادات وهذا مصداق لقوله جل وعلا في سورة الجمعة :{هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكّيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}.
وهكذا انتشر الإسلام بالمدينة، ثم لما سمعت قريش بإسلام الأنصار ومبايعتهم له صلى الله عليه وسلم، جزعوا وفزعوا أشد الفزع ووجدوا في ذلك خطرًا عليهم، فيزول سلطانهم وتذهب ريحهم وتتعرض تجارتهم إلى الشام غادية ورائحة لخسران عظيم، فمكروا مكرهم وتآمروا على قتل النبيّ وسمعوا رأي زعيمهم عمرو بن هشام الذي سماه الرسول فيما بعد بأبي جهل، فقد أشار عليهم بأن يجتمع عدد من شبان قبائل العرب يحمل كل واحد منهم سيفًا صارمًا ثم يعمد هؤلاء إلى النبيّ فيضربوه بها ضربة رجل واحد فيتفرق دمه بين القبائل فلا يقدر بنو عبد مناف على قتال قبائل العرب جميعهم ثم يعطونهم الدية بعد ذلك، وقد اجتمع كفار قريش على هذا الرأي.
ثم إن الله تبارك وتعالى أوحى للنبي - صلى الله عليه وسلم - بتآمرهم ووَعَدَه بالعصمة والنجاة منهم، وأذن الله له بالهجرةِ فأخبر الصدّيق أبا بكر رضي اللهُ عنه بعزمه على الرحيل وقال: يا أبا بكر إن الله قد أذِنَ لي في الخروج والهجرة فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله. قال رسول الله: الصحبة. فهيأ سيدنا أبو بكر راحلتين لهذا السفر المبارك الميمون.
ثم إن النبي أمر سيدنا عليًّا كرم الله وجهه بالمبيت في مضجعه وأن يلبس بردته وطمأنه أنه لن يصيبه مكروه بإذن الله.
وخرج عليه الصلاةُ والسلام مع أبي بكر الصديق ليلاً ومكثا في غار ثور قرب مكة، ولكن المشركين بثوا العيونَ والأرصاد ووعدوا بالجوائز لمن يظفر بالنبيّ ويأتي به، وباتوا مترصدين فلما أصبحوا ذهبوا إلى مضجعه فأبصروا سيدنا عليًّا فبهتوا وخيّب اللهُ سعيهم وأعمى أبصارهم.
نام في بردة النبيّ عليّ * كي يضلّ الأرصادُ والرقباءُ
ومشى المصطفى يخوض المنايا * والمنايا مشلولة عمياءُ
وهكذا ظفر الغار بشرف ضيافة النزيلين الكريمين ثلاثة أيام، وكان عامر بن فُهيرة مولى سيدنا أبي بكر يمر عليهم بالأغنام فيحتلبان. وكان عبد الله بن أبي بكر يوافيهما بما يجد من الأخبار، حتى سكن من ورائهما الطلب، وغفل عنهما الناس.
وفي اليوم الرابع وافاهما عبد الله بن الأريقط براحلتين فخرجا إلى المدينة. وفي الطريق أدركهما سراقة، وظن أن الفرصة سانحة لربح الجائزة، ولكن فرسه عثر به وساخت في الأرضِ قوائمه، وأحدق به إعصار، عندها استغاث سراقة ووعد أن يكتم أمرهما، ووفى سراقة بما وعد.
ولما وصل النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه رضي الله عنه إلى المدينة كان النصر والتأييد من الأنصار، و آخى الرسول بينهم وبين المهاجرين فكانت نقطة تحول مهمة كسبت منها الدعوة الإسلامية قوة واندفاعًا، وذيوعًا وانتشارًا، وأعوانًا وأنصارًا.
وشاعَ في نفوس المؤمنين سرور اللقاء فالإسلام يدعوهم إلى العدل والإحسان، وينهاهم عن البغي والعدوان، ويؤلف بين قلوب كانت فرّقتها الجاهلية، ويجمع كلمات مزقتها العصبية. وأمرهم نبيّهم بإفشاء السلام وهو عنوان المودة والرحمة، وأمرهم بإطعام الطعام وهو ءاية التعاون والتراحم، وبصلاة الليل والناس نيام وهي صلاة الأوابين المتبتلين.
لم تكن هجرته - صلى الله عليه وسلم - جُبنًا أو فرارًا بل كانت انتقالاً من دار صعب فيها نشر الدعوة إلى دار وضع فيها أساس الدولة الإسلامية العظيمة، فتألفت قلوب الأوس والخزرج وتآخى المهاجرون مع الأنصار فصارت الهجرة فرقانًا بين الحق والباطل وكثر المؤمنون بعد قلة واجتمعوا بعد شتات.
إن علينا أن نعتبر بمعاني الهجرة ونأخذ منها الدروس والعظات؛ ففي الهجرة مفارقة للوطن والأهل والديار والأموال، وفي هذا ثبات المؤمن على عقيدة الحق، وصبر وعزم وتضحية جعل الله فيها الثواب الجزيل، والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول :"إنّما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه".
ــــــــــــ(1/36)
الهجرة أظهرت ما فى المجتمع العربي من القيم الإنسانية والأخلاق النبيلة
عند الهجرة ضرب الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأمته المثل فى دقة التخطيط وقمة التوكل
كشفت أحداث الهجرة النبوية عن قيم فاضلة وأخلاق كريمة ومواقف إنسانية رائعة كان بعضها موجودا فى البيئة العربية قبل الإسلام مثل الشجاعة والشهادة والتضحية والنجدة ونصرة الضعيف وإغاثة الملهوف واحترام المرأة وصون كرامتها وعفتها وكذلك خلق الإيثار والكرم والسخاء ،وغير ذلك من القيم الأصيلة التي عرفها المجتمع العربى قبل الإسلام وجاء الإسلام فأبقى عليها وقواها وأضاف إليها .. كل هذا يؤكد أن المجتمع العربي الذى أنبت صاحب الرسالة الخاتمة سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - ، لم يكن مجتمعا شريرا أو همجيا أو خاليا من القيم النبيلة والأخلاق الفاضلة كما تحاول بعض أبواق الدعاية الحاقدة على الإسلام وأهله أن تصوره . وقد أبرزت أحداث الهجرة المباركة .. بعض جوانب هذه القيم النبيلة والأخلاق الحميدة والسلوكيات الإنسانية الرقيقة التي أفرزها المجتمع العربي وجاء الإسلام فرسخها وسما بها وأضاف إليها ليبنى مجتمعا إنسانيا متماسكا ومتعاونا وقويا لم يشهد التاريخ له مثيلا على مر العصور والأزمان وهنا نلقى الضوء على بعض جوانب هذه الصورة المشرقة من القيم النبيلة والأخلاق الرفيعة التي برزت خلال حادث الهجرة التي نحتفل بها فى هذه الأيام .
د .رأفت عثمان :الأخلاق العربية الأصيلة تجلت فى كثير من مواقف الهجرة والرسول ضرب المثل فى الرحمة والعفو والتسامح
يقول الدكتور محمد رأفت عثمان العميد الأسبق لكلية الشريعة وعضو مجمع البحوث الإسلامية :كلما تأمل الباحثون وعلماء الشريعة فى حادثة الهجرة وهى الحادثة التى غيرت أمورا غاية فى الأهمية ليس أقلها أنها طبعت الدعوة الإسلامية بالعلنية والجهر بها ..بل إننا يمكن أن نرى فيها قبل أن تبدأ وقبل أن يغادر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيته فى مكة المكرمة إلى المدينة المشرفة أمورا تلفت النظر إلى وجود قيم خلقية طبع بها المجتمع العربى سواء أكان فى الجاهلية أو بعد دخوله فى الإسلام فليست كل الجاهلية السابقة للإسلام شرا محضا وإنما كان فى العرب أيضا بعض النواحى الخلقية التى معهودة ومتعارفا الفترة لم يفقدوها فى جاهليتهم ولهذا أبقى الاسلام على بعض هذه القيم الخلقية التى كانت عليها كالأمانة والمحافظة على حرمة البيوت والشجاعة وهنا يجدر بنا أيضا أن نذكر أن حادث الهجرة العظيم هذا قد قامت العقيدة فيه بتحريك طاقات هائلة لا حدود لها داخل الإنسان المسلم .
شجاعة على
فصبى لم يبلغ مبلغ الرجال تبلغ به الشجاعة التى تربى عليها فى مجتمعه العربى وحركتها عقيدته أن يعرض نفسه للهلاك والقتل على يد أناس غلاظ الأكباد وذلك فى سبيل ما اعتقده للعبادة وهو الموقف الذى وقفه على بن أبى طالب رضى الله عنه عندما قبل أن يبيت فى فراش الرسول - صلى الله عليه وسلم - موهما أعداءه أنه لايزال فى فراشه وما حدث من قبل على كرم الله وجهه أمر يجب أن نعمل على تنميته فى مجتمعاتنا الإسلامية اليوم حيث يجب أن نغرس الإيمان بالهدف الذى يجب أن نحققه فى مجتمعنا فلقد آمن على رضي الله عنه بهدفه وأقدم على التضحية بحياته فى سبيل تحقيق هذا الهدف ..ولابد أن تؤمن الجماعات والأفراد فى كافة الدول الإسلامية بأنها لابد أن تعيش حياة التفوق العلمي فى كافة مجالاته حتى تتمكن من أن يكون لها وجود بين الأقوياء وإلا أ كلت كما تأكل الذئاب الخراف وقد بدأ هذا الأكل فعلا وأصبح أمرا لا جدال فيه فالسبيل الوحيد هو غرس الإيمان فى نفوس الجميع بأنه لابد من تحقيق القوة فى كافة نواحيها المختلفة العلمية والثقافية والسياسية والعسكرية أما أن نتحدث كل عام عن الهجرة بالكلام المحفوظ ثم لا تثير فى المسلمين الهمم فى تغيير الأحوال التى نعانى منها الآن فى كافة ديارنا الإسلامية فهذا كلام لا داعى له .
كما أن الهجرة عادة لاتكون منطلقا للمهاجرين من أية بقعة فى العالم إلى أن يتطوروا من مكانة الضعف إلى القوة ثم يعودون إلى المنطقة التى هاجروا منها وهم أشد قوة .وإنما الهجرات التى تحدث عادة من بعض مناطق العالم يستقر القائمون بها فى أماكنهم الجديدة ولا تربطهم بمواطنهم الأصلية بعد ذلك الإ روابط ضعيفة ،لكن هذه الهجرة العظيمة فى التاريخ الانسانى نجدها على العكس مما هو متعود فى حياة البشرية ،فالذى حدث أن المسلمين بعد أن هاجروا إلى المدينة رجعوا وهم أكثر قوة وأشد بأسا منتصرين على من كانوا يعتدون عليهم .ونجد قائد الهجرة - صلى الله عليه وسلم - ، العظيم فى بشريته لا تحركه النزعات الانتقامية عندما يعود من هجرته منتصرا على من أخرجوه من بلده ويأتى الحوار الذى يعد المثل الأعلى بين قائد منتصر وأعداء سبقت تعدياتهم عليه وعلى من معه ، حيث يقول القائد - صلى الله عليه وسلم - ،ما تظنون أنى فاعل بكم ؟فيردون : خيرا أخ كريم وابن أخ كريم فيقول - صلى الله عليه وسلم - بشخصية القائد الرحيم الذى لا تحكمه نزعات الانتقام والتشفى من أعدائه :اذهبوا فأنتم الطلقاء ..،تلك
هى أخلاقيات الإسلام وقيمه التى يجب على كل مسلم أن يحرص على التأكيد عليها من خلال كل قول وسلوك وتصرف يقوم به بين الناس .
الإسلام دين المحبة والأخوة الإنسانية
يقول الدكتور جلال البشار وكيل كلية الدعوة جامعة الأزهر : إن من أبرز الأخلاق التي تجلت فى هجرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - خلق الإيثار وتعنى تقديم الغير على النفس وتفضيله فى الأمور المحببة . وكذلك تعنى تقديم النفس بتحمل الأمور الشاقة أو المخيفة لتحسس ما يتوقع منه الأذى حرصا على سلامة الغير .
وقد هذا الخلق الكريم فى عدة مواقف أثناء رحلة الهجرة من مكة إلى المدينة مثل إسراع الصديق أبى بكر بدخول غار ثور قبل الرسول - صلى الله عليه وسلم - للتأكد من خلو الغار من كل أذى ومقدما نفسه للتعرض للأذى إيثارا لسلامة النبى - صلى الله عليه وسلم - على سلامته رضي الله عنه حيث كان يمشى تارة أمامه وتارة خلفه وتارة عن يمينه وتارة عن شماله ليحميه من كل شر .كما خلق الإيثار لدى أسماء بنت أبى بكر عندما آثرت نجاح الهجرة وسلامة الركب الكريم للرسول - صلى الله عليه وسلم - على سلامتها الشخصية فتحملت أذى قريش وتحرشهم بها وتهديدهم لها ولم تبح لهم بأى خبر تعرفه عن مكان الرسول وصاحبه .وكذلك لم يتردد على بن أبى طالب كرم الله وجهه فى النوم فى فراش النبى - صلى الله عليه وسلم - ليوهم المشركين المتربصين بباب داره أنه مازال نائما فى فراشه .وقد كان من المحتمل أن يتهور أحد المشركين ليرمى النائم بسهم وهو فى فراشه . إلا أن عليا رضى الله عنه لم يحرص على حياته وإنما حرص على حياة النبى - صلى الله عليه وسلم - .
كما ضرب الأنصار المثل الأعلى فى إيثار المسلم لأخيه المسلم .عندما آثروا المهاجرين على أنفسهم فذكرهم الله تعالى فى قوله ،والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون فى صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون .،فما أحوجنا فى هذه الأيام لهذا الخلق الكريم حيث تتحكم فى سلوك الناس وعلاقاتهم الأثرة والأنانية وحب الذات فلو ساد هذا الخلق لترابطت المجتمعات وتوطدت العلاقات وانقطعت النزاعات وشاع الحب والوئام كل المجتمعات البشرية ولبرز للعالم كله أن الإسلام هو دين الحب والسلام والإنسانية فى أجل صورها .
عداء المشركين لم يمنع الرسول - صلى الله عليه وسلم - من ود أماناتهم
يؤكد الدكتور أحمد زلط وكيل كلية التربية بجامعة قناة السويس :أن الأمانة كانت من أهم سلوكيات رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم - فلقد عرف بالصادق الأمين ..والحقيقة أن الصدق والأمانة صفتان أصيلتان فى السلوك العربى وذلك أمر يجب إبرازه للعالم كله خاصة للعالم الغربى الذى يزعم أن المسلمين العرب لا يعرفون إلا السرقة والنهب والغش وحب الاستيلاء على أموال الغير والنصب والاحتيال وكلها طرق وأساليب تدل على عدم الأمانة وعلى الكذب وهم يصورون ذلك من خلال حملات الغزو الفكرى المنظمة والمستمرة .
ويجب على المسلمين إدراك خطورة التأثر بتلك الحملات ،وللأسف الشديد قد أصبح لدينا نسبة تقتدى بتلك الحملات والنسبة لا تمثل حتى الآن فى المجتمع العربى المسلم ككل ..والأمانة صفة يحث عليها الإسلام ،ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما أمر بالهجرة كان محملا بأمانات كثيرة فلم يكن بمكة المكرمة أحد عنده شئ يخاف عليه إلا وضعه عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لصدقه وأمانته ورغم شدة عداء المشركين له واجبارهم له ولمن معه على الهجرة وترك ديارهم إلا أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ترك عليا كرم الله وجهه فى مكة ليقوم برد الودائع إلى أصحابها ..فالأمانة صفة أساسية من صفات العرب وقد جاء الإسلام وحث عليها فالمولى عز وجل يقول فى كتابه الحكيم :،إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ،كما يقول سبحانه :،فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذى أؤتمن أمانته .،. كما يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ،آية المنافق ثلاث :إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا أؤتمن خان .،ويضيف د .أحمد زلط والأمانة فى ضوء ذلك تؤدى إلى استقامة الطبع وإلى التنمية المستدامة وكلما اتسعت دائرة النهب والغش والسرقة ضاقت القدرة على اكتساب السلوك القويم ومن ثم لا تتحقق التنمية التى نسعى إلى تحقيقها فى مجتمعنا فالأمانة قيمة أصيلة فى المجتمع العربي الإسلامي ومن لا يعمل بها آثما يضر بنفسه وبمن حوله . وعلى كل مسلم أن يتمسك بمبادئ دينه وأخلاقيات مجتمعه العربي وأن يعطى الصورة الصحيحة للإسلام .
أما الإنسان الذى لا يلتزم الصدق والأمانة فى مجتمعنا يرجع ذلك إلى عيب فيه لا فى تعاليم الدين أو سلوكيات المجتمع .
أسماء ضربت المثل فى الشجاعة والتضحية وأبو جهل يخجل من نفسه بعد أن لطمها على وجهها
تقول دكتورة آمال يس أستاذ الفقه بكلية الدراسات الإسلامية جامعة الأزهر : كان للمرأة المسلمة دور بارز فى هجرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - التى تعتبر من أعظم أحداث التاريخ .حيث كانت أسماء بنت أبى بكر بطلة من أبطالها أدت دورها الذى كلفت به بكل دقة وحذر . فضربت المثل الأعلى للمرأة المسلمة المؤمنة بربها القوية الشجاعة المجاهدة .وهو ليس بالشئ الغريب فهى بنت عبدالله بن أبى قحافة الملقب (بأبي بكر الصديق) وأختها عائشة (زوج النبى - صلى الله عليه وسلم - )وزوجها الزبير بن العوام (من العشرة المبشرين بالجنة ).
فعندما أذن الله تعالى لرسوله الكريم بالهجرة بصحبة أبى بكر ،وعلمت أسماء بنبأ السفر أسرعت بتجهيز ما يحتاجه المسافران من لوازم الرحلة .وعندما دخل الرسول - صلى الله عليه وسلم - بيت أبى بكر فى الثلث الأخير من الليل يوم الهجرة كانت قد أعدت لهما كل شئ .
ولما انتهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه إلى غار ثور كانت تأتيهما بالطعام والشراب إذا أمست طوال ثلاثة أيام هى الفترة التى قضاها الرسول الكريم وصاحبه بالغار .وفى يوم السفر جهزت للركب سفرته ،فلما إرتحلا وذهبت لتعلق السفرة (الطعام والشراب ).وجدت نفسها وقد نسيت أن تجعل لها رباطا .فحلت نطاقها (حزامها)وشقته اثنين جزءا علقت به السفرة .والآخر انطلقت به ،فرآها الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهى تفعل ذلك فقال لها .،أبدلك الله بنطاقك هذا نطاقين فى الجنة ؟ كما أنها رضي الله عنها شجاعة قوية وحسن تصرف عندما جاءها عمرو بن هشام الملقب، بأبي جهل ،ومع نفر من قريش وسألها عن أبيها وعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وألح فى السؤال إلا أنه لم يصل معها إلى جواب شاف. فلم يملك نفسه من الغيظ فلطمها على وجهها لطمة قوية شقت أذنها وأسقطت قرطها .فقامت وقد تلطخ وجهها بالدماء وهى ثابتة لا تتزحزح رغم ما تعانيه من شدة الألم وثبتت على حفظ السر الذى إئتمنها عليه الرسول الكريم .أما أبو جهل فقد انسحب فى خزي وعار بعد أن طلب من شهدوا هذا الموقف كتمانه وعدم إخبار أحد به إلا أن هذا الخبر انتشر ولامه أهل مكة على تصرفه المشين .وعابوا عليه مخالفة الأخلاق والشهامة العربية الرافضة للتعدى على النساء ، واعتبروا هذا التصرف إهانة لقريش كلها . وقت طويل على هجرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأبيها حتى لحقت بهما أسماء لتجاهد ثانية لبناء الدولة الإسلامية بدور جديد لها كزوجة وأم حيث ربت أبناءها على الشجاعة والإقدام والتضحية من أجل نصرة دين الله فكانت حياتها بكل جوانبها نموذجا يحتذي به لكل امرأة مسلمة فى الشجاعة والصبر والفداء وحسن تربية الأبناء .
إيمان الرسول بأهمية الكفاءة وعدم التعصب اتخذ دليلا غير مسلم يقوده فى طريق الهجرة
يقول د .عبد المقصود باشا أستاذ التاريخ الإسلام جامعة الأزهر: فى استقرائنا لصفحات التاريخ القديم نجد أن البيئة العربية قبل الإسلام تميزت بعدم التعصب الدينى بدليل أن مكة المكرمة رغم أنها مركز البيت الحرام إلا أنها كانت مركزا للتسامح الدينى فجمعت بين الحنفاء وعباد الأصنام والأوثان وعبده الشمس والنجوم واللادينيين وكان مبدأهم أعبد ما شئت طالما لا تؤذى أحدا ولا تقترب من مكانة قريش ومركزها لذلك نجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يستنكف عن الاستعانة بغير المسلم ليكون دليله فى الهجرة وذلك لعدة أسباب منها أن عبدالله بن أريقط الليثى كان من أعظم الخبرات فى ذلك الوقت كدليل وهاد ماهر فى دروب الصحراء والطرق الوعرة فى جميع أنحاء شبه الجزيرة العربية . ورغم أن عبدالله بن أريقط كان لا يزال على دين قومه إلا أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يدرك أن من الصفات العربية الأصيلة الوفاء بالوعد وعدم خيانة العهد .وأيقن أن عبدالله بن أريقط لن يخونه أو يشى به . وهذا الخلق الحميد أقره الإسلام ودعا إليه فى أكثر من موضع فى القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة . كذلك أراد الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الاستعانة بدليل غير مسلم فى أهم حدث فى تاريخ الدولة الإسلامية أن يضع لنا تشريعا لنا كمسلمين فى القرن الخامس عشر الهجرى بألا نستنكف من الاستعانة بأى شخص أيا كانت ديانته طالما كان فى الاستعانة به إنجاح الدعوة الإسلامية وتحقيق الهدف المرجو من الاستعانة به . يقولت عالى، لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم .،من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم ويرى د .عبد المقصود ضرورة تغيير مفهومنا الخاطىء حول غير المسلمين .فلا نستخدم كلمة كافر التي ارتبطت فى العقلية الباطنية لبعض المسلمين بالعدو المبين الذى لا تجب مهادنته أو معاملته ..وكذلك لا نستنكف من الاستعانة بغير المسلمين إذا كان من أصحاب الخبرات المتقدمة فى العلم فهذا ما يقره الإسلام وما يدعونا إليه ..فماذا يقول الذين يتهمون الإسلام بالتعصب ؟.
ــــــــــــ(1/37)
الهجرة الكبرى بين الأخذ بالأسباب والتأييد الإلهي
في هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وهجرة أصحابه الكرام من مكة إلى المدينة عِبر ناطقة تستفيد منها الأمة عبر الدهور، إذا أرادت أن تكون وثيقة الصلة بعناصر القوة التي تستعيد بها ما كان لها من سؤدد وعزة وكرامة بين الشعوب والأمم•
فالتحول العظيم الذي حدث للإسلام بعد الهجرة سبقته جهود وتضحيات وإجراءات قام بها النبي، صلى الله عليه وسلم، ولم يحدث طفرة لأمة عاجزة عن القيام بدورها تحت مظلة السماء، فالله لا يحقق للعجزة أو المتواكلين والكسالى أي نجاح، ولا يمد يد العون للنائمين، ولكن لابد من الفعل المخلص المدروس، ثم الأخذ بالأسباب المعقولة الموصلة للأهداف المرسومة، التي اقترن بها العمل الواعي البصير، المدروس، ثم الأخذ بالأسباب المعقولة الموصلة للأهداف المرسومة، التي اقترن بها العمل الواعي البصير، عملاً بقوله تعالى في الآية 11 من سورة الرعد: (إن الله لا يغيِّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم)، لقد بدأ النبي، صلى الله عليه وسلم، بالأخذ بالأسباب التي كلَّف الله بها البشر، ومرَّن أصحابه الأولين عليها تمريناً قولياً مقروناً بالعمل، وظلت الدعوة تتعثر حيناً، وتنشط أحياناً على مدى ثلاثة عشر عاماً كاملة، حتى أذن الله لفجر الدعوة بالانبلاج••• نصروا الله على أنفسهم، وعلى أعدائه فنصرهم الله نصراً عزيزياً: (إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم) محمد:7، ومن سنن الحكيم أنه يبلو المؤمنين بأعدائهم ليمحصهم وإلا فهو قادر على نصرة الحق الذي أنزله بلا أنصار، ولا قتال، ولكن في هذا تثبيط همم المؤمنين وركونهم إلى الاسترخاء والتواكل، وفي ذلك يقول عز وجل في الآية 4 من سورة محمد: (ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض)•
ولأن النصر لو جاء عفواً ما شعر المؤمنون بحلاوته، ولما أجهدوا أنفسهم في الحفاظ عليه، ولهان عليهم ضياعه، لأنهم لم يدفعوا فيه ثمناً، ولم يلاقوا فيه شدة•
بدأت الدعوة ـ وبدأ معها التمحيص والتدريب ـ تبثَّ في القلوب الإيمان، وفي العزائم الصدق، وفي الإرادة القوة•
(وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين• وليمحِّص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين) آل عمران: 140 ـ 141•
الأخذ بالأسباب عند الصحابة
قلنا: إن الأخذ بالأسباب، هو طريق الحصول على ما عند الله، وهذا هو الذي بدأ النبي، صلى الله عليه وسلم، تدريب أصحابه الأولين عليه، فأمرهم بالصبر الجميل على ما ألحقه بهم المشركون من أذى، فكان الصبر هو أول درس تعلموه منه عليه الصلاة والسلام، وطبقوه عملياً في مواجهة أعدائهم•
ولما اشتد عليهم الأذى، وخشوا الفتنة في دينهم أرشدهم القائد الملهم إلى الهجرة إلى الحبشة، في عمليات أشبه ما تكون باللجوء السياسي المعروف في هذه الأيام، فقال لهم: >لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكاً لا يُظلم عنده أحد••• حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه< فخرج من أصحابه من خشي الفتنة في دينه•
فعملوا بتوجيهه، وتحملوا وعثاء السفر بلا زاد يحملونه معهم إلا ما خفَّ، وكان منهم من خرج بأهله، ومنهم من خرج بمفرده، ولما لمست قريش أن الدعوة آخذة في القوة والانتشار قامت بمقاطعة بني هاشم وبني عبدالمطلب وأحكمت الحصار على المؤمنين، وبعد ثلاث سنوات من الحصار، جاء الفرج من الله ناصر المؤمنين، فسخَّر جماعة من شباب قريش أجمعوا أمرهم على نقض الصحيفة، ثم خرج، صلى الله عليه وسلم، يعرض نفسه على القبائل لنشر دعوة الله، فكانت رحلة الطائف، وعانى منها ما عانى، ثم كانت بواكير النصر الإلهي المؤزر بعد اليأس من أعوان الأرض، رحلة الإسراء والمعراج، وبعدها أخذ مسار الدعوة ينتهج نهجاً جديداً، إذ لم يعد للنبي - صلى الله عليه وسلم - أمل يرجوه من أهل مكة والقرى المتاخمة، فعرض نفسه، صلى الله عليه وسلم، على القبائل الوافدة من خارج مكة، التي لم يتلوث فكرها بفكر قريش القادمين إلى مكة في مواسم الحج، وكان من ثمرة هذا التخطيط النبوي الجديد عرض نفسه، صلى الله عليه وسلم، على قبيلتي الأوس والخزرج، فكان لقاؤه بهم سراً على مشارف مكة لا في المسجد الحرام ولا في مكة، إخفاء للأمر عن قريش لأنها لو علمت لوضعت العراقيل أمامه، فكان لقاؤه بهم في مكان يُقال له العقبة، وكانوا اثني عشر شخصاً، عرض عليهم ،صلى الله عليه وسلم، الإسلام، فأسلموا وحسن إسلامهم، وبعث معهم أول سفير في الإسلام >مصعب بن عمير<•
ولم يتفرقا إلا على نية اللقاء في العام المقبل، وفي المكان نفسه•
لكن هذا اللقاء >العقبة الثانية< كان أرسخ قدماً، وأعمق معنى، وأكثر التحاماً، وأوسع مدى، وأعظم منجزات من لقاء >العقبة الأول<، فمن حيث العدد بلغ المسلمون الجدد القادمون إلى الحج ثلاثة وسبعين رجلاً وامرأتين، كلهم جاؤوا شوقاً للقاء النبي، صلى الله عليه وسلم، ولأداء الحج بروح جديدة ورؤية جديدة•
والتقى بهم الرسول في سرِّية تامة، وقَدِمَ معه عمُّهُ العباس ليطمئن على شأن ابن أخيه، ويسمع ويرى بنفسه ما يدور في هذا اللقاء، وإن لم يكن قد أسلم بعد، ولكنه خرج بدافع العصبية والقرابة، وكان مصعب بن عمير قد حضر إلى مكة مع وفد الأوس والخزرج ليتابع مجريات الأمور•
قبل وفد الأوس والخزرج الإسلام وهم حضور مع صاحب الرسالة، بعدما مالوا إليه قبل مجيئهم على الداعية الإسلامي مصعب بن عمير•
سمع الوفد لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، وسمع رسول الله لهم، واشترط لنفسه إن هو قدم عليهم في المدينة ما شاء من شروط، واشترطوا هم لأنفسهم ما اشترطوا من شروط، وألقيت الكلمات، وتبودل الرأي، حتى العباس عم النبي - صلى الله عليه وسلم - شارك في وقائع اللقاء، وبعد أن التقت الرغبات تم الاتفاق على نقل مركز الدعوة من مكة المكرمة إلى المدينة، على أن تتم هجرة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة قبل مقدم صاحب الرسالة، صلوات الله وسلامه عليه•
أول تنظيم إسلامي
وفي هذا اللقاء التاريخي الخالد، تم أول تنظيم سياسي اجتماعي بين الأنصار >الأوس والخزرج<، فقد قال لهم صاحب الرسالة، صلى الله عليه وسلم، بعد الفراغ من الاتفاقات التي أسفر عنها اللقاء: >أخرجوا إليَّ منكم اثني عشر نقيباً ليكونوا على قومهم بما فيهم<، وسرعان ما قدَّموا له أسماء اثني عشر رجلاً، منهم تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس، وكان هذا التقديم بمثابة الترشيح لشغل هذه المناصب، فقاموا ليبايعوه ويشدوا على يده الشريفة، ثم تفرقوا ولم يشعر بهم أحد من قريش•
وكان هذا التنظيم النبوي نواة للدولة التي أنشئت بعد الهجرة بالمدينة•
الإذن لأصحابه بالهجرة
وبعد انقضاء الموسم، أذن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لأصحابه بالهجرة إلى المدينة، على الوجه الذي يرونه، فأخذوا يتسللون من مكة، حاملين معهم ما خف من أمتعتهم، تاركين منازلهم ومتعلقاتهم وراءهم، لأن ما هاجروا إليه أغلى وأعز من الأموال والممتلكات، فقد أرخصها حب الله ورسوله، وهنا لفتة لابد من القيام بها، ذلك أن البقاء في مكة كان في مخاطرات كثيرة، من التعرض لأذى المشركين واضطهاداتهم•
ولكن الرسول القائد - صلى الله عليه وسلم - آثر أن يسافر أصحابه قبله ليبقى هو آخر المهاجرين، دون أن يخشى ماذا يحدث له من خصوم الدعوة، وهذا على خلاف عادة الزعماء والرؤساء، الذين يحيطون أنفسهم بهالة من الأمن لاتقاء الشرور، لأنهم طلاب دنيا ونعيمها الزائل، أما محمد، صلى الله عليه وسلم، فما أهون الدنيا عليه، وما أعظم ما عند الله، لذلك لم يَرُعه أن يهاجر قبله كل ذي قدرة، وأن يبقى هو وحده يصول ويجول في طرقات مكة أمام أبي لهب عدوه اللدود، وأمام أبي جهل عدّوه الألد•
ليلة الهجرة النبوية
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معروفاً عند الناس جميعاً بالصادق الأمين، حتى قبل أن يكون رسولاً، لذلك اتخذه أهل مكة موضع ثقة، فأخذوا يُودعون عنده ما يخافون عليه من أموال ومعادن ثمينة كالذهب والفضة، فلما أذن الله بالهجرة استدعى ابن عمه علي بن أبي طالب لينام على فراشه الشريف، ووضع بين يديه ما عنده من ودائع أهل مكة ليردها لأصحابها، لأن الوديعة أمانة، والأمانة أمر الله بتأديتها لمالكيها، وكان من الممكن أن يحمل هذه الأمانات ليوزعها على المهاجرين الذين تركوا ممتلكاتهم وسبقوه إلى المدينة، ولكن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لم ير هذا الرأي، لأن الذين استودعوه أمانتهم لا ذنب لهم فيما حدث من عتاة مكة وظالميها•
خروجه من مكة ليلاً
وبعد أن هاجر من هاجر من أصحابه، ولم يبق منهم بمكة أحد إلا غير القادرين، أمره الله بأن يهاجر هو ويلحق بأصحابه في عاصمة الإسلام الجديدة، وصحب معه صاحبه أبابكر، وخرجا من مكة ليلاً بعد أن ركن الناس إلى الراحة في بيوتهم، ونزلا بغار ثور قرب مكة حتى تهدأ قريش من سعيها للإمساك به، ومكثا بالغار ثلاثة أيام في تمويه محكم حتى لا تُهدى قريش إلى مكانهما، هذا السبب أخذا به وطبقاه، وكانت عناية أكبر من الأخذ بالأسباب، فقد أعمى أبصار قريش عن مقره مع سعيها الدائب في البحث عنه•
وبعد أن هدأت، انطلق هو وأبوبكر إلى المدينة، وتكبَّدا مشقة السفر في صحراء موحشة حتى وصلا إلى المدينة، فعسكر قريباً منها، وبنى مسجد قباء، ثم دخل المدينة التي استقبلته بكل من فيها من رجال ونساء وشباب وكهول•
المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار
وجد الرسول، صلى الله عليه وسلم، فور قدومه إلى المدينة مشكلة عويصة تنتظر الحل منه، وهي وجود المهاجرين فيها بلا نشاط ولا عمل، وسرعان ما قضى على هذه المشكلة بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، ومشاركة كل أخ لأخيه فيما يملك، وظل كل أخوين يتوارثان، حتى استقر أمر المهاجرين فنزل قوله تعالى في الآية 75 من سورة الأنفال: (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) فألغى التوارث بينهم•
وهذه الحلول كانت عبقرية من الرسول صلى الله عليه وسلم، وحسن تدبيره للأمور، مهما كانت معضلة•
وضع صحيفة الوفاق
ثم وضع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فور استقراره في المدينة صحيفة الوفاق الجامعة، التي وفَّق بين فيها أوضاع جميع الطوائف في المدينة، وهم:
ـ الأنصار أهل المدينة•
ـ المهاجرون الوافدون إليها من خارجها•
ـ اليهود الذين كان لهم وجود في المدينة منذ زمن متقدم•
وقد مهَّدت الصحيفة التي نُظِّمت فيها العلاقات بين الطوائف الثلاث سلماً وحرباً، إلى قيام دولة على بصيرة من أمرها، حتى اليهود سماهم النبي، صلى الله عليه وسلم، أمة مع المؤمنين، وسمح لهم بمزاولة شعائرهم الدينية مع البقاء على عقيدتهم دون أن يضاموا بسببها•
وبذلك آتت الهجرة ثمارها، والذي نستخلصه مما سبق ونضعه بين يدي الأمة في حاضرها ومستقبلها، ونرجو أن تسمعه بآذان صاغية وفهم واع، وقلوب صافية هو ما يلي:
أولاً: إن الأخذ بالأسباب الصحيحة المتاحة شرط أساس في الحصول على المطلوب مع مواصلة العمل الجاد المحكم وقوة العزم وإخلاص النية وصدقها•
ثانياً: ترك التواكل والاعتماد على القدر بأنه المتصرف في تحقيق ما هو كائن مع إلغاء الجهود المقدور عليها لاستكشاف ما هو مقدر وطرح مقولة: >المكتوب على الجبين تراه العيون<، لأن هذا يُولِّد الكسل والخمول عند الفرد والجماعة والأمة•
ثالثاً: وضع الخطط المدروسة، ثم تعديلها إذا أثبت التطبيق قصورها أو عجزها دون الوصول إلى الغايات المرادة منها وطرح اليأس•
رابعاً: بذل أقصى ما تقدر عليه الأمة مهما كانت الصعاب، كما قال عز وجل في الأية 06 من سورة الأنفال: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة)•
خامساً: إيثار ما عند الله تعالى على مغريات الحياة الدنيا•
سادساً: وحدة الصف والاعتصام بحبل الله•
سابعاً: أن تنصر الأمة الله ولو على نفسها، فإن نصر الله مقصور على الذين ينصرونه•
كل هذه المبادئ كانت وراء نصر الله لرسوله والذين آمنوا معه، فلتلتزم الأمة بها، فإن آخرها لن يصلح إلا بما صلح به أولها، والله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون•
بقلم الكاتب: د•عبدالعظيم المطعني ـ أستاذ في جامعة الأزهر
ــــــــــــ(1/38)
الهجرة المباركة دروس وعبر
إن الهجرة المباركة كانت درساً في الصبر والتوكل على الله تعالى ولم تكن طلبا للراحة ولاهرباً من العدو ولاتهرباً من الدعوة وأعبائها بل كانت بأمر من الله تعالى في وقت أشد ماتكون البشرية في ذلك الزمن إلى الهدي المحمدي فلقد أرسل الله خير خلقه محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى البشرية وهي أحوج ما تكون إلى رسالته، وأشدَّ ما تكون ضرورة إلى دينه، بعد أن صار الكثير من الناس في ظلمات الشرك والجهل والكفر، فأرسل الله عبده محمداً - صلى الله عليه وسلم - إلى الناس جميعاً، قال الله تعالى: قُلْ ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَاواتِ وَالأرْضِ لا اله إِلاَّ هُوَ يُحْىِ وَيُمِيتُ فَأمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِىّ الأمّيّ الَّذِى يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف:158].
فوجدهم يعبدون آلهة شتى، منهم من يعبد الأشجار، ومنهم من يعبد الأحجار والشمس والقمر والملائكةوالجن، ويلجؤون إليهم في كشف الشدائد والكربات، ويرغبون إليهم في جلب النفع والخيرات، ويذبحون لهم، وينذرون لهم، ووجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعض الناس يتحاكمون إلى الكهان والسحرة والعرافين، ويغشون الفواحش والمحرمات، ويسيئون الجوار، ويقطعون الأرحام، ويكسبون الأموال لا يبالون بالحلال و بالحرام، الربا والبيع عندهم سواء، والغصب والميراث قرناء، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدعوة الناس إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، بكل ما تضمنته هذه الشهادة من معنى، بإفراد الله وحده بالعبادة وعدم الإشراك بالله شىء وبينَ لهم أن الله المعبود بحق لايوصف بصفات البشر فهو الخالق وما سواه مخلوق وهو الموصوف بالصفات التى تليق به فهو الأول قبل كل شىء والله الموجود قبل الكل بلا مكان ولازمان ولاجهة ولايحتاج إلى شىء بل الكل محتاج إليه قال تعالى: قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً [الأنعام:151]، وإفراد الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالاتباع، قال تعالى: وَمَا ءاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ [الحشر:7].
جاء نبي الرحمة - صلى الله عليه وسلم - يدعو الناس إلى العفاف والطهر والخلق الكريم والإستقامة وصلة الأرحام وحسن الجوار والكف عن المظالم والمحارم، ويدعوهم إلى التحاكم إلى الكتاب العزيز، لا إلى الكهان وأمر الجاهلية، وكسب المال من وجوه الحلال، وإنفاقه في الطرق المشروعة والمباحة، وجعل الناس كلهم أمام شريعة الله سواء، يتفاضلون بالتقوى، قال الله تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّيَ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْىَ بِغَيْرِ الْحَقّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [الأعراف:33]، وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإْحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ .[النحل:90].
دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس إلى هذا المعنى العظيم، وقام بهذا الواجب الكبير، دعا إلى دين قويم يرقى به الإنسان إلى أعلى المنازل، ويسعد به في الآخرة سعادةً أبدية في النعيم المقيم، فاستجاب له القلة المؤمنة المستضعفة في مكة، فأذاقهم المشركون أنواع العذاب، كالحرق بالناروإنزال أشد ألوان العذاب، واشتد الكرب في مكة، وضيّق الخناق على المسلمين المستضعفين، وائتمر المشركون بمكة أن يقتلوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ورصده المشركون عند بابه ليضربوه ضربة رجل واحد، فخرج عليه الصلاة والسلام عليهم وهو يتلو صدر سورة " يس"،وذرَّ على رؤوسهم التراب، وأخذ الله بأبصارهم عنه فلم يروه، وأخذهم النعاس ولجأ هو وصاحبه أبو بكر الصديق في غار ثور ثلاثة أيام حتى هدأ الطلب، وفتشت قريش في كل وجه، وتتبعوا الأثر حتى وقفوا على الغار، فقال أبو بكر: يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى موضع قدميه لأبصرنا، فقال: "يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟!" أي ان الله تعالى مطلع علينا لاتخفى عليه خافية ثم يمَّما نحو المدينة، فكانت هجرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - نصراً للإسلام والمسلمين، حيث أبطل الله مكر المشركين وكيدهم في تقديرهم القضاء على الإسلام بمكة، وظنهم القدرة على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الله تعالى: إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِىَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:40].
إن حادثة هجرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - تمد المسلمين بالعبر والعظات والدروس والتوجيهات، وقد شاء الله تعالى أن تكون بأسباب مألوفة للبشر، يتزود فيها للسفر، ويركب الناقة، ويستأجر الدليل، ولو شاء الله لحمله على البراق، ولكن لتقتدي به أمته بالصبر والتحمل لمشقاة الدنيا والعمل الدؤب للأخرة التى هي العقبى، فينصر المسلم دينه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة، وإن حال المسلمين في العالم حريَ بالاستفادة من معاني الهجرة النبوية المباركة، بفهم أمر الدين والفصل بين الدين الحق وأهله وبين المتاجرين المتطرفين المنفرين عن الدين بأساليب وفتاوى ليس لها في الدين من أصل بل تخالف الدين، في ذكرى الهجرة المباركة علينا أن نعلم أن الدين الإسلامي دين علم وعمل وثقافة ومعرفة ودعوةللحق مؤيدة بالبراهين العقلية والنقلية المنورة للقلوب فلن يصلح حال المسلمين في هذا العصر إلا بالأمور التي صلح بها السلف الصالح من العلم والمعرفة الصحيحة لدين الله والتحذير من المضللين أصحاب الفتاوى السيئة التى جلبت الويلات للمسلمين، وبالخلق الكريم، والصدق مع الله، والتوكل عليه، والصبر على المكاره، وإحسان العبادة، على وفق ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - في السنة المطهرة، قال صلى الله عليه وسلم: "اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن" نسأل الله تعالى أن تكون هذه السنة الهجرية بركة وخيرأ يعم البلاد والعباد وكل عام وأنتم بخير.
ــــــــــــ(1/39)
الهجرة المباركة
إنَّ في حياةِ رسول الله أحداثاً حوّلت مجرَى التاريخ وأحدَثت أعظمَ نقلة وأعقبت أقوَى الآثار، تبوَّأت منها الهجرة النبوية المبارَكَة مكاناً عليًّا ومقاماً كريماً، حيث كانت بحقٍّ فتحاً مبيناً ونصراً عزيزاً ورِفعة وتمكيناً وظهوراً لهذَا الدّين، وهزيمةً وصَغاراً للكافرين.
وفي وقائِع هذه الهجرة مِن الدّروس والعبَر وفي أحداثِها من الفوائد والمعاني ما لا يكاد يحِيط به الحصر ولا يستوعِبه البيان، فنها أنَّ العقيدةَ أغلى من الأرض، وأنَّ التوحيدَ أسمى من الديار، وأنَّ الإيمان أثمنُ من الأوطان، وأنَّ الإسلامَ خير من القناطير المقنطَرة من الذّهب والفضّة والخيلِ المسوّمة والأنعام والحرث ومن كلِّ متاعِ الحياة الدنيا، يتجلّى هذا المعنَى بيّنًا في خروجِ هذا النبيّ الكريم صلوات الله وسلامه عليه مع صاحبِه الصدّيق رضي الله عنه مهاجرَيْن من هذا الحِمى المبارَك والحرمِ الآمِن والأرضِ الطيّبة التي صوّر واقعَها الحديثُ الذي أخرجَه أحمد في مسندِه والترمذيّ وابن ماجه في سننهما بإسناد صحيح عن عبد الله بن عديّ بن حمراء الزّهريّ أنّه قال: رأيتُ رسول الله واقفًا على الحَزْوَرَة[1]قال: ((والله، إنَّك لخيرُ أرضِ الله وأحبُّ أرضِ الله إلى الله، ولولا أنِّي أُخرجتُ منكِ ما خرجت))
وفي الهجرة كمَال اليقينِ بمعيّة الله تعالى لعبادِه المؤمنين الصَّادقين، ذلك اليقين الرَّاسخ الذي لا تزعزِعُه عواصِف الباطل، يستبينُ ذلك جليًّا في حالِ هذَين المهاجرَين الكريمَين حين عظُم الخَطب وأحدَق الخطرُ ببلوغ المشركين بابَ الغارِ الذِي كانَا فيه، وحينَ قال أبو بكر رضي الله عنه: والله يا رسول الله، لو أنَّ أحدَهم نظر إلى موضعِ قدمَيه لرآنا، فقال رسول الله قولتَه التي أخذَت بمجامعِ القلوبِ. ((يَا أبَا بَكر، مَا ظنُّكَ باثنَين اللهُ ثالثُهما)) ، وأنزَلَ سبحانه مصداقَ ذلك في كتابه، أنزل قولَه : إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِىَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:40].
وأيُّ معيّةٍ هذه المعيةَ؟ إنّها المعيّةَ الخاصّة التي تكون بالتّأييد والتّوفيق والحِفظ والمعونةِ والنّصر إنّما جعلها الله تعالى لأوليائِه المتّقين المحسِنين الذين بذلوا حقَّ الله عليهم في توحِيده وإفرادِه بالعبادةِ وتركِ الإشراكِ به، ثمَّ بامتثال أوامرِه والانتهاء عمَّا نهاهم عنه.والمعية تاءتى بمعنى العلم كقوله تعالى(( وهو معكم أينما كنتم)) أي عالم بكم حيث كتتم الله تعالى لا يخفى عليه شيء عالم بالأماكن كلها وهو موجود بلا مكان , حتى إذا سكن الطلب عنهما قليلا خرجا من الغار بعد ثلاث ليال متجهين إلى المدينة على طريق الساحل فلحقهما سراقة بن مالك المدلجي على فرس له فالتفت أبو بكر فقال: يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا فقال النبي : ((لا تحزن إن الله معنا)) فدنا سراقة منهما حتى إذا سمع قراءة رسول الله غاصت يدا فرسه في الأرض حتى مس بطنها الأرض وكانت أرضا صلبة فنزل سراقة وزجرها فنهضت فلما أخرجت يديها صار لأثرهما عثان ساطع في السماء مثل الدخان قال سراقة: فوقع في نفسي أن سيظهر أمر رسول الله فناديتهم بالأمان فوقف رسول الله ومن معه فركبت فرسي حتى جئتهم وأخبرتهم بما يريد الناس بهم وعرضت عليهم الزاد والمتاع وقال للنبي : إنك تمر على إبلي وغنمي بمكان كذا فخذ منها حاجتك. فقال: ((لا حاجة لي في ذلك)) وقال: ((أخف عنا)). فرجع سراقة وجعل لا يلقى أحدا من الطلب إلا رده وقال: كفيتم هذه الجهة فسبحان الله رجل ينطلق على فرسه طالبا للنبي وصاحبه ليظفر بهما فيفخر بتسليمهما إلى أعدائهما من الكفار فلم ينقلب حتى عاد ناصرا معينا مدافعا يعرض عليهما الزاد والمتاع وما يريدان من إبله وغنمه ويرد عن جهتهما كل من أقبل نحوها وهكذا كل من كان الله معه فلن يضره أحد وتكون العاقبة له. ويعود سراقة ويكمل الرسول مسيرته إلى طيبة ويصل هناك ليستقبله المسلمون بحفاوة وترحيب وفرح وحب، وليؤسس - صلى الله عليه وسلم - دولة الإسلام ويعز الله دينه ويعلي كلمته ولو كره الكافرون ولو كره المشركون.
إنَّ هذه الهجرةِ المباركة وعبرِها هيَ جديرة بأن تبعثَ فينا اليومَ ما قد بعثَته بالأمسِ مِن روحِ العزَّة، وما هيَّأته من أسبابِ الرِّفعة وبواعثِ السموِّ وعواملِ التَّمكين. إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ
ــــــــــــ(1/40)
الهجرة النبوية وقفات وتأملات :
في بداية العام الهجري الجديد يحسن بنا أن نقف وقفات سريعة مع سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، تلك السيرة العطرة التي لا يمل الإنسان من قراءتها والاطلاع عليها ، ولعل من المناسب الوقوف قليلاً مع هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة المنورة، لعلنا نأخذ بعض العبر والدروس من هذه الهجرة المباركة التي لا يعي كثير من الناس ما فيها من عبر وعظات.
إن الهجرة النبوية في حد ذاتها بغض النظر عن أحداثها تستحق الوقفة المتأنية، فهي ليست نزهة برية ولا و سياحة للتفرج والاطلاع، وليست سفراً لتحصيل متع الدنيا وملذاتها، وإنما هي انتقال من أجل الحفاظ على العقيدة وتضحية بالنفس والمال والأهل والولد من أجل العقيدة، فهي تبدأ من أجل العقيدة وغايتها العقيدة.
الهجرة النبوية ليست أحداثا تروى، بل هي منهج متكامل لمن أحسن الاستفادة منها وأخذ العبر والعظات على أحسن وجه وأجمله، فهي منهج النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مؤيد فيه من قبل المولى جل وعلا، وهي ليست حدثا عادياً، بل أمر جليل يستحق الاهتمام، ولا نستطيع هنا الوقوف على كل ما في الهجرة النبوية من عبر وعظات، وإنما نقف عند البعض ونترك البعض الآخر ليستخرجه القارئ.
دعوة مستمرة وصبر عظيم :
النبي - صلى الله عليه وسلم - كما نعلم ظل في مكة ثلاث عشرة سنة يدعو إلى الله جل وعلا ليل نهار متعرضا في ذلك إلى الأذى الشديد والاضطهاد المستمر من كفار قريش الذين لا يريدون للخير أن ينتشر، ولكنه لم ييئس مع كل هذا العنت وقلة من آمن معه خلال هذه المدة، وحاول أن يتجه إلى بيئة أخرى لعله يستطيع من خلالها نشر دين ا لله جل وعلا، فاتجه إلى الطائف، ولكنه فوجئ بالسفهاء يردونه ردا منكرا، ولم يكتفوا بذلك، بل رجموه بالحجارة حتى سال الدم من قدميه، ويأتيه جبريل عليه السلام ليقول له إن معه ملك الجبال، وإن الله أمره أن يمتثل لأمره، فإذا أراد أن يطبق عليهم الجبلين ليهلكهم فعل. فقال عليه الصلاة والسلام لا بل أرفق بهم لعله الله يخرج من أصلابهم من يعبده" أو نحو ذلك. وهذه هي الوقفة الأولى وهي: ماذا قدمنا نحن من أجل هذا الدين، وكم تحملنا من الأذى في سبيل نشره بين الناس، وهل صبرنا كما صبر عليه الصلاة والسلام، أم أننا استسلمنا من أول الأمر، وبمجرد أن نواجه أذى أو معارضة قمنا بالتوقف عن الدعوة إليه سبحانه، فهل هذه هي القدوة بالنبي المصطفى الأمين!
الشباب وتحمل المسؤولية:
لما أذن الله للنبي - صلى الله عليه وسلم - بالهجرة أمر عليا رضي الله عنه أن ينام في فراشه ليوهم المشركين بأنه هو، وامتثل علي أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنام في الفراش حتى أصبح، وواجه على صغر سنه كفار قريش بأسلحتهم وعتوهم وجبروتهم، واستطاع الرد عليهم حين سألوه دون خوف أو وجل. والسؤال الآن: كم ربينا من أبنائنا وشباب هذه الأمة على هذه التضحية الجسيمة، بل على مجرد تحمل المسؤولية! كم من الشباب الآن يستطيع أن يسير في خضم هذه الحياة معتمدا على ربه واثقا في نفسه، أم لا بد من الاتكالية تارة على الأهل وتارة على الآخرين، حتى أصبح ما كان يفعله الصبيان في القديم لا يستطيع كثير من الشباب أن يفعله الآن.
التوكل على الله من أعظم أسباب النصر، في غار ثور تظهر قوة الإيمان بجلاء والثقة في الله بكل معانيها، وذلك عندما يقول أبو بكر للنبي - صلى الله عليه وسلم - لو نظر أحدهم إلى موضع قدميه لرآنا، فيقول له عليه الصلاة والسلام يا أبا بكر: ما ظنك باثنين الله ثالثهما، وعندما يلحق بهما سراقة بن مالك وأبو بكر يكثر الالتفات بينما عليه الصلاة والسلام لا يلتفت، ثم يدعو عليه فتسيخ قوائم فرسه في الأرض، إنه التفويض الكامل وتسليم الأمر لله رب العالمين ، هذا مع عدم إهمال الأسباب فيما يستطيعه الإنسان، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - خطط فأحسن التخطيط، وبذل جهده في إخفاء نفسه ومن معه عن كفار قريش ومطارداتهم، وأعد العدة لهذا السفر الطويل، من راجلة وزاد، ثم ترك بعد ذلك أمره إلى الله وأوكل نفسه إليه، ولذا كان النصر من الله حليفه، وهذا يذكرنا بقيمة قوله صلى الله عليه وسلم: "لو أنكم تتوكلون على الله حق التوكل لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا"
المسجد والدور الحقيقي :
ويواصل النبي - صلى الله عليه وسلم - سيره حتى يصل إلى المدينة، فيبدأ ببناء المسجد وعمارته لعلمه أن المسجد لم يوجد في الإسلام لأداء الصلاة فقط، وإنما هو مدرسة المجتمع الحقيقة وهو نقطة الانطلاق لتبليغ دين الله، وهو مركز الدولة الإسلامية السائرة على نهج الله، فأين أغنياء المسلمين عن هذه الحقيقة، وأين العلماء والمسؤولون عن هذا الأمر المهم في حياة المجتمعات، لماذا أصبحت المساجد مهملة، وإذا اعتني بها فمن أجل الصلوات فقط، ولا دور لها بعد ذلك في حياة المسلمين.
تلك وقفات سريعة ينبغي التريث عندها والنظر فيها بعين البصيرة ، ومحاولة تطبيقها على واقعنا لنحاول إصلاح ما يمكن إصلاحه من حالنا وحال أمتنا.
ــــــــــــ(1/41)
الهجرة النبوية .. دروس وعبر.. ومعجزات حسية
بغداد ـ طالب حنويت :
لم تكن الهجرة النبوية في الحس الاسلامي مجرد نجاة من عدو، او هروب من محنة، لقد كانت الهجرة فاتحة تاريخ جديد وكانت بالنسبة للمسلمين في الارض، ابتداء وجودهم وتاريخهم فصار التاريخ الهجري، المبتدأ في هجرة الرسول صلى الله عليه واله وسلم هو سمة هذه الامة على مدار القرون وبه ومن خلاله تعرف.
وكانت الهجرة من مكة المكرمة الى المدينة المنورة اعظم حدث حول مجرى التاريخ، وغير مسير الحياة ومناهجها التي كانت تحياها، وتعيش محكومة بها في صور قوانين ونظم واعراف وعادات واخلاق وسلوك للافراد والجماعات وعقائد وتعبدات وعلم، ومعرفة، وجهالة وسفه ، وضلال وهدى ، وعدل وظلم .
وفي هجرة النبي صلى الله عليه واله وسلم وقعت معجزات حسية ، وهي دلائل ملموسة على حفظ الله ورعايته لرسوله ومن ذلك نسيج العنكبوت على فم الغار، ومنها ما جرى لرسول الله مع ام معبد وما جرى له مع سراقة ووعده اياه بان يلبس سواري كسرى، فعلى الدعاة ان لا يتنصلوا من هذه الخوارق، بل يذكروها ما دامت ثابتة بالسنة النبوية، على ان ينبهوا الناس على ان هذه الخوارق هي من جملة دلائل نبوته ورسالته صلى الله عليه واله وسلم .
وما اروع ان تقف لحظات تنظر في دروس الهجرة النبوية الشريفة من مكة المكرمة الى المدينة المنورة وننظر بعمق في فصول الهجرة ودروسها، ونتعلم منها جوانب مضيئة من حياة رسول الله والذي لم يخرج من مكة مهاجرا الى المدينة الا بعد ان اذن له الله عز وجل بذلك، وبعد ان صبر وتحمل واحتسب وعانى ماعاناه من البلايا والرزايا والاذى من اهله وذويه، ثم ممن حوله من الذين كرهوا ان تظهر كلمة الله عز وجل وان تكون كلمته سبحانه وتعالى هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى.
ومن ينظر في قضية الهجرة النبوية الشريفة يلاحظ ان الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان متعلقا بمكة المكرمة .هذه المدينة الطيبة الطاهرة، وقد احبها وولد فيها، وعاش ونشأ وترعرع فيها ونزل عليه الوحي من الله في غار حراء بهذه المدينة ، والتي قال فيها رسول الله وهو يخرج منها مهاجرا قولته المشهورة" اللهم اخرجتني من احب البقاع الي فأسكني في احب البقاع اليك ".ولا شك ان الحبيب صلى الله عليه واله وسلم قد اكرمه الله بالهجرة من حرم الى حرم وكلا المدينتين ذات فضل وبركة وهما احب المدن الى الله تعالى، ثم الى رسوله، ففي الاولى كانت نشأته ، والثانية كانت اليها الهجرة وفيها مضجعه الاخير. وقد اختار الله الاولى مكانا لبيته والثانية لمسجد رسوله فحددهما وعينهما وامر الناس بالحج الى الاولى وبالهجرة الى الثانية فكانت في حياته صلى الله عليه واله وسلم قبل الفتح واجبة وصارت بعده مندوبة ، دعا للاولى ابراهيم عليه السلام، وللثانية اكرم ولده صلى الله عليه واله وسلم وجعل القلوب تهوي اليهما .ومكة المكرمة والمدينة المنورة مدينتان ضوعف اجر الصلاة فيهما، وشد الرحيل اليهما، وفي ماء الاولى وتراب الثانية وتمرها الشفاء وبعض اجزائها من الجنة، ويئس الشيطان ان يعبد فيهما ، وجعل رزقهما من ثمرات الارض، وحرم دخول الكفار اليهما، ومنع الدجال منهما، وجعلهما الله تعالى حرما آمنا، فحرم الصيد وتنفيره فيهما وحرم قطع الشجر والكلأ والتقاط لقطتهما وحمل السلاح للقتال وسفك الدماء فيهما، لا يختلى خلالهما ، ولا ينفر صيدهما ، ولا تلتقط لقطتهما .
للملحد فيهما اشد العقوبة ولمن اذى اهلهما النكال، وهما اخر البلاد حرم على غير المسلمين غزوهما ومنعهما من الجبابرة .
ومن القضايا المهمة التي لابد ان نتدبرها في قضية الهجرة ان الرجال الذين هاجروا معه والنساء الذين تبعوهم على الرغم من انهم كانوا قلة وضعفاء الا انهم كانوا اقوياء بايمانهم وصبرهم واحتسابهم . وقد اعانهم الله واكرمهم وكرمهم ورفع شأنهم .ومع قدوم العام الهجري الجديد يعيش العالم الاسلامي في مناخ روحي متميز مع الذكرى التي تمثلها الهجرة النبوية الشريفة وما تضمنته من دروس وعبر متجددة تمثل املا في الخروج من هذا الواقع الاليم الى اوضاع اخرى افضل تمتد اثارها لتشمل كل نواحي حياة المسلمين، وهذه المناسبة هي بمثابة موسم يتكرر كل عام وهي مناسبة للتأمل والتدبر والوقوف مع النفس حيث تمر على الخاطر هذه التأملات في النفس الانسانية، وهي في حالة الصحة النفسية او الاضطراب النفسي.. فالاسلام دين حياة يضمن التوازن بين الدنيا والاخرة ويهتم المنظور الاسلامي بالجوانب الروحية والمادية في حياة الانسان . ويضمن تحقيق التوازن بينهما .وتركز تعاليم الدين الاسلامي على التنشئة السوية للانسان وغرس القيم والاخلاق القويمة التي تحقق السلوك السوي والاتزان النفسي، فالمسلم يجب ان يؤمن بالله وبالقدر خيره وشره ويجب ان يعبد الله ويذكره في كل المواقف .ان رسول الله يعلمنا الدروس في هجرته ولذلك فقد حرص عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح ان يؤكد على قضية هامة" عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي " لانه القدرة ولانه الاسوة ولان هؤلاء الرجال اخذوا عنه، وهذا رب العالمين يأمرنا بطاعته" من يطع الرسول فقد اطاع الله " ويقول عز وجل" اطيعوا الله واطيعوا الرسول " ثم يجعله القدوة والاسوة" لقد كان لكم في رسول الله اسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الاخر ".ومن الواجب هنا ان نحرص كل الحرص على ان نستفيد من هذه المناسبة ونعود الى الله ونتوب توبة نصوحة ، فهذا رسول الله في غمار المعارك يثوب الى الله ويستغفر الله ويلجأ الى الله بالدعاء ويعلمنا ان نعود الى الله عز وجل وان العودة الى الله والتوكل عليه والايمان الكامل والصادق بان الامور كلها بيد الله، وان نتعلم ونحن نتابع هذه الدروس والاحداث ان الحب لرسول الله يبدأ من الاتباع والالتزام بكل ما جاء به الرسول وهذا التوجيه الرباني الواضح في ان حب الله عز وجل يبدأ ويتحقق باتباع الرسول الكريم والنبي العظيم صلى الله عليه واله وسلم .
ــــــــــــ(1/42)
الهجرة النبوية
كتب فتح الله كولن
الهجرة رحلة لغاية مقدسة ولهدف جليل وكبير... ومثل هذه الهجرة ترمي إلى تحقيق مثل هذا الهدف بمدِّ وتقوية من العقيدة والعاطفة والفكر وتغذية وعون منه. وبمقدار درجة الإخلاص في هذه الهجرة وعمقها، تكون مساوية ومعادلة لسياحة الإنسان في السماء. وقد شُرِّف فخر الإنسانية بهاتين السياحتين، السماوية منها والأرضية. السياحة الأولى كانت خاصة به وغير متاحة لأحد غيره. أما الثانية فهي طريق واسعة باقية ومفتوحة للجميع حتى يوم القيامة في شروط خاصة ومعلومة... طريق واسعة ومضيئة مشى عليها مئات الآلاف من الناس قبل بعثة شمس سماء النبوة وقمرها. ولا شك أن أكثر هذه الهجرات المباركة فضلا، وأكثرها دويا في سمع الزمن، هي الهجرة التي قام بها فخر الإنسانية الصادق المصدوق صلى الله عليه و سلم مع أصحابه الصديقين. لقد تحمل الرسول الكريم كل صعاب الهجرة -التي جاء الأمر بها من فوق سبع سماوات- من أجل العثور على معاونين مخلصين لأصحابه الكرام الأوفياء، وعلى موطئ قدم أمين وراسخ ليؤسس هناك دولته، ويقيم الجسور للناس ليوصلهم إلى رحاب دين عالمي، له أبعاد عديدة ومتداخلة وعميقة، ويملك قابلية إنشاء تاريخ جديد ومدنية جديدة.
الخطة والمشروع واسع سعة السماء، والمسافة بين المبدأ والنتيجة والهدف مسافة هائلة. ففي هذه الطريق الطويلة احتشدت الشياطين والعفاريت على طولها من أولها لآخرها، وفارت في كل جانب منها مشاعر السوء والشر، وأوقدت في كل منحنى منها نيران للفتن. أجل!.. فعلى الرغم من جميع هذه الظروف السلبية كان هناك منبع قوة كانت كافية لملء القلوب بالأمل والانشراح والاطمئنان، ففي كل قلب، وعلى كل لسان كانت هناك جملة واحدة تتكرر (حسبنا الله ونعم الوكيل). فكل منهم قد توكل على الله واستند إليه وإلى توفيقه، وبدأ رحلته في هذا الدرب الطويل... بدأ رحلته في هذا الدرب دون أن ينظر إلى ورائه، ودون أن يهمل من يمشي وراءه.
في تلك الأيام كانت جميع الطرق تجرب مع كفار مكة وطغاتها، ويستعان بجميع الحلول الممكنة. ولكن رجال الدعوة هؤلاء الناذرين أنفسهم لوظيفة الدعوة إلى الله لم يجدوا أي تجاوب، ولم يكن هناك أي وجه للمقارنة بين ما صرف من عمل ومن جهد وبين ما تم التوصل إليه من نتائج. وهذه الحقيقة هي التي دفعت بصاحب الرسالة صلى الله عليه و سلم المرتبط بكل كيانه بالدعوة إلى الله، إلى البحث عن أناس وعن أقوام آخرين خارج مكة لإيصال كلمة الله إليهم. وكانت رحلة الطائف أول تجربة في هذا المجال. وعلى الرغم من آلام هذه الرحلة ومضايقاتها فقد رجع إلى مكة مهموما، ولكن دون فقد آماله، ومع سلوة اهتداء شخص واحد. ثم أعقبتها بيعة العقبة السرية في جبل "منى" الشامخ، التي تم فيها البحث عن جيل النور، وعن الصدور المفتوحة للهداية. كان من الصعب حدس من سيكون أصحاب هذه القلوب المؤمنة، ولكن تبين فيما بعد أنهم ستة من المحظوظين من أهل "يثرب". لقد أصبح هؤلاء الستة المحظوظون الوسيلة الأولى وواسطتها في يد النبوة لتغيير وجهة الإنسانية وقدرها السيء. وكل ما كان معروفا آنذاك حول المخلّص الأبدي للإنسانية هو ما كانوا يسمعونه أحياناً من اليهود:
"إن الله سيبعث نبيا من بني إسرائيل هو خاتم الأنبياء، وأن اليهود سيجتمعون تحت رايته وسيسودون جميع الأمم". صحيح أن هذه الأمنية لم تنفعهم كثيرا، ولكنها كانت كافية لإشعال فتيل حب الحقيقة في صدور أهل يثرب وتوجيههم الوجهة الصحيحة. كانت هذه المعلومات البسيطة في ذلك الزمن بمثابة لبّ حقيقة كبيرة وجوهرها. وعندما آن الأوان المناسب فاز أهل يثرب بلقب "الأنصار"، هذا اللقب الجليل الذي سيبقى إلى يوم القيامة مفخرة لهم، وتاجا على رؤوسهم، وفازوا بنعمة الدنيا والآخرة.
أعقب هؤلاء المحظوظين الستة فيما بعد عشرة آخرون. وبعد سنة واحدة آمن سبعون منهم -بينهم عدد من النساء- وأقروا برسالته ثم دعوه إلى يثرب بعد اجتماعهم به صلى الله عليه و سلم في مكان آمن. كانوا جادّين في دعوته إلى مدينتهم، لقد قبلوا كل ما جاء به، وعاهدوه على أن يمنعوه مما يمنعون به أنفسهم ونساءهم وأولادهم. لقد قبلوه وضموه إلى صدورهم، وعاهدوه أن يصونوه بأرواحهم ومُهجهم. ومقابل هذا كان الله تعالى يعدهم بالجنة. تمت البيعة التي رضي عنها رسول الله صلى الله عليه و سلم ورضي عنها الأنصار، وفتحت "يثرب" أبوابها للمهاجرين على مصاريعها.
بدأت مكة تفرغ تدريجيا، فهناك كل يوم ثلاثة أو أربعة من أهلها يتركها ويهاجر إلى "يثرب" إما خفية أو علنا. وبدأت عملية الهجرة وما حفتها من تضحيات، وما قام به الأنصار من إيثار، ترسم لوحات مضيئة. وتحولت ظاهرة الهجرة إلى شيء سماوي يشبه عملية المعراج، فكأنها سياحة الملائكة في عوالم خلف المكان والزمان. وكانت القافلة الأخيرة لهذه الرحلة السماوية على الأرض من نصيب صاحب القافلة الأخيرة في موكب النبوة. وعلى قاعدة "الأجر على قدر المشقة" وكذلك على قاعدة "أشدّ الناس بلاء الأنبياء..." فقد حَفّت أكثر أنواع المكاره والأخطار بهجرته صلى الله عليه و سلم، ولكنه تجاوز جميع أودية الموت المرعبة، ووصل إلى البلدة المنورة بفضل تفويض أمره إلى الله، وتوكله عليه، واستسلامه له. وصل إلى المدينة دون أن يصيبه مكروه من قبل سُراقةَ، وما كان يعتمل في صدره من أفكار سوداء، ولا أي خطر من المخاطر التي كانت موجودة داخل وخارج غار ثور، ولا من أذى قطاع الطرق واللصوص الموجودين في الطريق. أصبح سراقة صديقا ومرشحا لأن يكون صحابيا، وتعرف بُرَيْدةُ مع أصدقائه بالإسلام. أما فخر الكائنات ووردة الجزيرة العربية فقد كان يواصل طريقه إلى بلدته الجديدة وهو يحوِّل طريقه المحفوف بالمخاطر إلى بساتين وحدائق.
وبينما كان بعض أهل مكة ممن يقطر الدم من أفكارهم ومن مشاعرهم يكادون أن يجنوا من الحقد والكره إلى درجة السعار، كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يدخل "يثرب" في ظل الفرح العامر لأهلها وهم ينشدون:
طلع البدر علينا من ثنية الوداع وجب الشكر علينا ما دعا لله داع
وفي الموضع الذي توجد فيه القبة الخضراء حاليا أقام الرسول صلى الله عليه و سلم مسكنه المبارك، كما بنى مسجده بجوار بيته، فكان بيته ومسجده المباركان متداخلان ويتنفسان الجو العطر المبارك نفسه. ثم بدأ ينفث فيما حواليه الحياة بالوحي وبالرسالة الإلهية وبإلهام روحه... فَدَيْنا نبع الحياة هذا، ومن بلغه ونفثه ونشره بأرواحنا وأنفسنا.
كان آدم عليه السلام قد بدأ رحلة هجرته الطويلة من الجنة إلى الأرض، لكي يصل إلى الأفق الواسع للحياة الأخروية التي يشير إليها معنى وروح الهجرة. أما نوح عليه السلام فقد تحمل أعباء السياحة في البحار إضافة إلى سياحته في البر. وتجول إبراهيم عليه السلام في أقطار بابل والحجاز وأرض كنعان دون أن يفتر. وانتقل موسى عليه السلام من بيت والدته إلى قصر فرعون، ثم من مصر إلى الأيكة ذهابا وإيابا مرات عديدة. ومر السيد المسيح عليه السلام من جميع الجسور التي مر عليها الأنبياء السابقون. أما حواريو عصر النبوة فقد نظموا كوادر الإرشاد وقوافلها إلى جميع أرجاء العالم.
وإذا أتينا إلى حواريي عصرنا الحالي فقد انتشروا في الجهات الأربع للأرض وهم يستخدمون الوسائل العصرية ويبلغون فكرهم وهم يرددون الآية الكريمة: ?وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى الله وَكَانَ الله غَفُورًا رَحِيمًا? (النساء: 4). وبفضل هجرتهم هذه سيصل صوت القرآن إلى العديد من الناس، وسينفتح أمام بعضهم سبل الإيمان، وأمام البعض الآخر سبل تأسيس الصداقة والتفاهم والحوار.
أجل!.. سيقوم هؤلاء الحواريون بنفث الصدى المنعكس من غار حراء على قلوبهم على من حولهم في كل مكان يحلّون فيه، ويرشدون القلوب المتخدرة باليأس إلى طرق تحريك هذه القلوب وإحيائها من جديد، وإيصال الهبات والنعم الإلهية إلى الجميع عن طريق العقل والمنطق. ورفع الموانع والعوائق الموجودة بين القرآن والقلوب منهين بذلك فراقا دام عدة عصور، ومحققين بذلك اللقاء الكبير. وهم على وعي بأن نشاطهم هذا إنما هو سباق في مجال الإيمان والعشق والشوق، وأنهم بقيامهم بتعليم الصغار الذين استولى اليأس والخوف والضعف على قلوبهم ينقذونهم من الجو الضيق والخانق لهذه الحياة الفانية، ويدلونهم على طرق الوجود الحقيقي والحر،
الهجرة النبوية إلى المدينة
بينما ينظر البعض إلى الهجرة كذكريات عطرة تتجدّد كل عام ، يرى الحكماء وأصحاب العقول الراجحة في هذا الحدث نصراً يُضاف إلى رصيد الجماعة المؤمنة ، وهروباً من حياة الظلم والاستعباد ، إلى الحياة الحرّة الكريمة ، وبداية مرحلةٍ جديدة من الصراع بين الإسلام والكفر ، والحق والباطل ، حتى صار تاريخاً للمسلمين يؤرّخون به أحداثهم .
وللوقوف على أهمّية الحدث ، واستشعار أبعاده ، يجدر بنا أن نعود إلى الوراء بضعة عشر قرناً من الزمان ، وتحديداً في العام الثالث عشر من البعثة ، حين نجحت جموع المؤمنين في الخروج من مكة ، واستطاعت أن تتغلّب على المصاعب والعقبات التي زرعتها قريشٌ للحيلولة دون وصولهم إلى أرض يثرب ، ليجدوا إخوانهم الأنصار قد استقبلوهم ببشاشة وجهٍ ورحابة صدر ، وفتحوا لهم قلوبهم قبل بيوتهم ، مما كان له أعظم الأثر في نفوسهم ، ولم يبق في مكّة سوى نفرٍ قليل من المؤمنين ما بين مستضعفٍ ومفتونٍ ومأسورٍ .
وهنا أحسّت قريشٌ بالمخاطر التي تنتظرهم ، وأدركت أنها لن تستطيع تدارك الموقف وإعادة الأمور إلى نصابها إلا بالوقوف بأيّ وسيلة دون إتمام هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - .
ونتيجةً لذلك ، كانت المؤامرات تدور في الخفاء للقضاء على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ففي يوم الخميس من شهر صفر اجتمع المشركون في دار الندوة وتشاوروا في الطريقة المُثلى لتحقيق مقصودهم ، فمن قائلٍ بضرورةِ قتله عليه الصلاة والسلام والتخلّص منه ، وآخر بحبسه وإحكام وثاقه ، وثالثٍ بنفيه وطرده ، حتى اتفقت الآراء على قتله ، ولكن بطريقة تَعْجَز بنو هاشم معها عن أخذ الثأر ، وذلك بأن تختار قريش صفوة فتيانها من جميع القبائل فيقوموا على النبي - صلى الله عليه وسلم - قومة رجلٍ واحد ويقتلوه ، ليتفرّق دمه بين القبائل ، وفي هذه الحالة لن تستطيع بنو هاشم أن تقاتل سائر الناس ، ولن يبقى أمامها سوى خيارٍ واحد هو قبول الدية ، وصدق الله عزوجل إذ يقول : { وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين } ( الأنفال : 30 ) .
ولم تكن قريش لتعلم أن الله سبحانه وتعالى أذن لنبيه بالهجرة إلى المدينة ، فبينما هم يبرمون خطّتهم ويحيكون مؤامرتهم كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد استعدّ للسفر ، وانطلق إلى بيت أبي بكر رضي الله عنه في وقت الظهيرة متخفّياً على غير عادته ، ليخبره بأمر الخروج .
وخشي أبو بكر رضي الله عنه أن يُحرم شرف هذه الرحلة المباركة ، فاستأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - في صحبته فأذن له ، فبكى رضي الله عنه من شدّة الفرح، وكان قد جهّز راحلتين استعداداً للهجرة ، فلما أعلمه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقرب الرحيل قام من فوره واستأجر رجلاً مشركاً من بني الديل يُقال له عبد الله بن أُريقط ، ودفع إليه الراحلتين ليرعاهما ، واتفقا على اللقاء في غار ثورٍ بعد ثلاث ليالٍ ، في حين قامت عائشة وأختها أسماء رضي الله عنهما بتجهيز المتاع والمؤن ، ووضعا السفرة في وعاء ، وشقّت أسماء نطاقها نصفين لتربط السُفرة بنصفه وقربة الماء بالنصف الآخر ، فسمّيت من يومها بذات النطاقين .
وتسارعت الأحداث ، وحانت اللحظة المرتقبة ، وانطلق النبي - صلى الله عليه وسلم - متخفّياً إلى بيت أبي بكر رضي الله عنه ، وكان الميعاد بينهما ليلاً ، فخرجا من فتحةٍ خلفيةٍ في البيت ، وفي الوقت ذاته أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب رضي الله عنه بأن يتخلّف عن السفر ليؤدي عنه ودائع الناس وأماناتهم ، وأن يلبس بردته ويبيت في فراشه تلك الليلة ؛ من أجل إيهام قريشٍ .
ونجح النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه في الفرار من بين أيديهم ، ولم يكشتفوا الأمر إلا عندما أصبح الصباح وخرج عليهم عليٌ رضي الله عنه وهو لابسٌ بردة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فجُنّ جنونهم ، وأحاطوا به يسألونه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يتظاهر بالدهشة وعدم معرفته بمكانه ، وانطلقت قريشٌ مسرعةً إلى بيت أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه ، لأنّهم يعلمون أنه صاحبه ورفيق دربه ، ولابد أن يصلوا من خلاله إلى معلومة تقودهم إلى وجهته ، إلا أنهم فوجئوا برحيله هو الآخر ، فساءلوا أسماء عن والدها ، فأبدت جهلها ، فغضب أبو جهل لعنه الله ولطمها لطمة أسقطت الحليّ من أذنها .
وبدأت محاولات المطاردة للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقاموا بمراقبة جميع منافذ مكّة مراقبة دقيقة ، وأعلنوا بين أفراد القبائل جائزة ثمينة لمن يأتي به حيّاً أو ميّتاً ، وأرسلوا كلّ من له خبرة بتتبّع الآثار ، وانطلقت جموعهم شمالاً علّهم يقفوا له على أثر .
وخالف النبي - صلى الله عليه وسلم - بذكائه وحنكته كل توقعاتهم ، فلم يتجه صوب المدينة مباشرة ، بل ذهب إلى جهة الجنوب حتى بلغ جبلاً وعراً يُقال له " جبل ثور " ، يوجد في أعلاه غار يصعب الوصول إليه ، ويمكنهم المكوث فيه إلى أن يهدأ الطلب .
وقادت الجهود قريشاً إلى غار ثورٍ ، وصعدوا إلى باب الغار ، وبات الخطر وشيكاً ، وبلغت أصواتهم سمع أبي بكر فقال رضي الله عنه : " يا رسول الله ، لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا " ، فأجابه الرسول - صلى الله عليه وسلم - إجابة الواثق المطمئنّ بموعود الله : ( يا أبا بكر ، ما ظنّك باثنين الله ثالثهما ؟ ) ، وصدق ظنّه بربه ، فإن قريشاً استبعدت وجود النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا المكان ، و انصرفت تجرّ أذيال الخيبة .
وأقام النبي - صلى الله عليه وسلم - في الغار ثلاث ليالٍ ، وكان عبدالله بن أبي بكر رضي الله عنهما يأتي كل يوم ليبلغهما أخبار قريش ، و عامر بن فهيرة يأتي بالأغنام ليشربا من لبنها ، ويخفي آثار عبدالله بن أبي بكر ، حتى جاء عبدالله بن أريقط في الموعد المنتظر ، ومعه رواحل السفر .
وفي ليلة الإثنين من شهر ربيع الأوّل انطلق الركب إلى المدينة متّخذاً طريق الساحل ، وظلوا يسيرون طيلة يومهم ، و أبو بكر رضي الله عنه يمشي مرّة أمام النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومرّة خلفه ، ومرّة عن يمينه ، ومرّة عن يساره ، خوفاً عليه من قريش ، حتى توسّطت الشمس كبد السماء ، فنزلوا عند صخرةٍ عظيمةٍ واستظلّوا بظلّها ، وبسط أبو بكر رضي الله عنه المكان للنبي - صلى الله عليه وسلم - وسوّاه بيده لينام ، وبينما هم كذلك إذ أقبل غلام يسوق غنمه قاصداً تلك الصخرة ، فلما اقترب قال له أبوبكر رضي الله عنه : لمن أنت يا غلام ؟ ، فقال : لرجل من أهل مكة ، فقال له : أفي غنمك لبن ؟ ، فقال : نعم ، فحلب للنبي - صلى الله عليه وسلم - في إناء ، فشرب منه حتى ارتوى .
وفي هذه الأثناء استطاع أحد المشركين أن يلمح النبي - صلى الله عليه وسلم - من بعيد ، فانطلق مسرعاً إلى سراقة بن مالك وقال له : يا سراقة ، إني قد رأيت أناساً بالساحل ، وإني لأظنّهم محمداً وأصحابه ، فعرف سراقة أنهم هُم ، ولكنّه أراد أن يُقنع الرجل بأنّه واهم حتى يفوز بالجائزة وحده ، ولبث سراقة في المجلس ساعة حتى لا يثير انتباه من معه ، ثم تسلّل من بينهم وأخذ فرسه ورمحه وانطلق مسرعاً ، فلما دنا منهم عثرت به فرسه حتى سقط ، فتشاءم من سقوطه ، وعاد مرة أخرى وامتطى فرسه وانطلق ، فسقط مرة ثانيةً وتعاظم شؤمه ، لكن رغبته في الفوز بالجائزة أنسته هواجسه ومخاوفه ، ولما اقترب من النبي - صلى الله عليه وسلم - غاصت قدما فرسه في الأرض إلى الركبتين ، وتصاعد الدخان من بينهما ، فعلم أنهم محفوظون بحفظ الله ، فطلب منهم الأمان وعاهدهم أن يخفي عنهم ، وكتب له النبي - صلى الله عليه وسلم - كتاب أمان ووعده بسواريْ كسرى ، وأوفى سراقة بوعده فكان لا يلقى أحداً يبحث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أمره بالرجوع ، وكتم خبرهم حتى وصلوا إلى المدينة .
وفي طريقهم إلى المدينة نزل الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه بخيمة أم معبد ، فسألاها إن كان عندها شيء من طعامٍ ونحوه ، فاعتذرت بعدم وجود شيء سوى شاة هزيلة لا تدرّ اللبن ، فأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - الشاة فمسح ضرعها بيده ودعا الله أن يبارك فيها ، ثم حلب في إناء ، وشرب منه الجميع ، وكانت هذه المعجزة سبباً في إسلامها هي وزوجها .
وانتهت هذه الرحلة بما فيها من مصاعب وأحداثٍ ، ليصل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أرض المدينة ، يستقبله فيها أصحابه الذين سبقوه بالهجرة ، وإخوانه الذين أعدّوا العدة لضيافته في بلدهم ، وتلك وقفة أخرى .
ــــــــــــ(1/43)
الهجرة النبوية الانتصار والسلام والحق
بقلم: محمود عثمان
لقد كانت هجرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى المدينة ثورة على الضعف والكبت، وانتفاضة على تحكم الباطل، وتضحية براحة الإنسان المستقر في بلده بين أهله وعشيرته، إلى حيث يقيم في مكان غريب عنه، لا يعلم حقيقة مصيره فيه، والهجرة كانت تضحية بكل ما يملكه المسلم من مالٍ، وما يتمتع به من جاه وسلطة، كل ذلك في سبيل الانتصار على شهوات النفس الأمّارة بالسوء، والجهر بالحق الذي عرفه وآمن به، وأحس بالسعادة الحقيقية لمعرفته فكانت الهجرة حجر الزواية لانتصار الدعوة الإسلامية.
لقد أصبحت هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- نجماً يتألق في سماء مجد الاسلام والمسلمين، وستظل درة في جبين تاريخ الإنسانية، لم تكن هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - هجرة استقرار وتنعُّم، بل كانت هجرة انطلاق وتحرر من قيود العبودية لشهوة النفس والجهل والشرك، هجرة إخاء وإيثار، آخى فيها رسولنا الكريم محمد -صلى الله عليه وسلم- بين المهاجرين والأنصار، وقد تم ذلك بصورة لم يعرف التاريخ مثيلاً لها، فقد تقاسم المهاجرون والأنصار كل شيء فيما بينهم، فكانوا مثالاً عظيماً للإخاء والسخاء والكرم، وهذا الأمر إنما يدل بشكل أو بآخر على مدى عظمة هذا الدين الحنيف الذي أخرج الناس من الظلمات إلى النور.
كانت هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم-، هجرة إصلاح وتحرير، وفّق فيها بين الأوس والخزرج بعد أن كانت بينهم ثارات ودماء يستحيل تجاوزها. "واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً". ولكن الرسول العظيم استطاع من خلال تعاليم هذا الدين أن يجعل الأوس والخزرج أخوة في حب الله عز وجل، ولاننسى أن الله عز وجل يخاطب الرسول في قرآنه الكريم "وإنك لعلى خلق عظيم".
ويجب ألا تغيب عن بالنا هذه الهجرة بمعانيها العظيمة السامية وما فيها من عبر ومواقف، وعلينا أن نذكر كيف استطاع هذا النبي الأمي عليه الصلاة والسلام، أن ينشئ من شتات القبائل الضاربة في الصحراء والمتناحرة فيما بينها، أمة متحدة تدعو للحق والفضيلة... كل ذلك بأخلاق عظيمة ونفسية رقيقة متواضعة متسامحة ويتجلى ذلك في قوله تعالى في آل عمران: "ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاروهم في الأمر".
ولأن صحابة الرسول عليه الصلاة والسلام، أدركوا المعاني السامية لهجرة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فقد جعلوها تاريخاً للأمة الاسلامية ففي السنة الثالثة من خلافة الفاروق عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، جمع صحابته من حوله وقال لهم: "إن الأموال قد كثرت وما قسمنا منها غير محدد بتاريخ ينضبط به، فكيف التوصل إلى ما يضبط ذلك؟ لقد رُفع إليّ صَكٌّ موعده شعبان فلا أدري أي شعبان هو؟ الذى مضى، أم الذي نحن فيه، أو الآتي؟ ضعوا للناس شيئاً يعرفون به".
فقام الصحابة بنقاشات فيما بينهم، فمنهم من قال: اكتبوا على تاريخ الروم، وقائل: اكتبوا على تاريخ الفرس، فأبى عمر إلا أن يجعل تاريخ الاسلام، إشارة إلى حادث إسلامي كبير. فأشار بعضهم بأن يجعلوه مولد الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأشار بعضهم إلى وفاته، وأشار علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن يكون موعد خروج النبي -صلى الله عليه وسلم- مهاجراً من مكة إلى المدينة مبدأ للتاريخ الإسلامي.
ومن هنا ندرك أهمية هذا الحدث العظيم في حياة المسلمين، فلتكن لنا هذه المناسبة، فرصة لاستذكار عبر دروس هذا الهجرة العظيمة وأن يجعل منها مناسبة لتنوير العقل بهدي النبوة العظيم من مكارم الأخلاق، وإلغاء الانانية، وتربية النفس على الإيثار، وتدارس تلك الأخلاق الانسانية التي تتجلى من حديث الرسول الكريم، يقول: "الخلق كلهم عيال الله، وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله" والحكمة النبوية القائلة "والراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء".
ولا ننسى أن أول عمل قام به النبي -صلى الله عليه وسلم- في المدينة هو بناء المسجد إيذاناً بمولد الدولة الفتية الجديدة القائمة على شرع الله فكانت الهجرة هي مولد الإسلام الحقيقي، حيث العناصر المتوفرة لإنشاء الدولة من شعب وأرض ودستور.
أما الشعب فيتكون من المهاجرين والأنصار، والأرض هي المدينة المنورة، والدستور هو القرآن الكريم الذي أصبح يمثل بشقيه المكي والمدني، موارد الشرع والدستور الإسلامي.
هذه العناصر مجتمعة أكسبت هذه الدولة شرعية في الوجود وبالتالي لابد من اعتراف الآخرين بها، وهذا ما فعله الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-، عندما بعث برسائله إلى القبائل في جزيرة العرب ورؤساء الدول والملوك والقياصرة يدعوهم يها للإسلام، وبتلك الرسائل يكون الإسلام قد سبق الكثيرين ممن يعتبرون أنفسهم أصحاب الريادة في العلاقات الدولية.
فأهلاً وسهلاً بك يا عامنا الهجري الجديد، عدت إلينا كعادتك في كل سنة، لتذكرنا بهجرة النبي الكريم وأصحابه المؤمنين، وما كان لها من ثمرات يانعة، وبركات عظيمة على العرب، وعلى البشرية جمعاء.
ــــــــــــ(1/44)
الهجرة النبوية الشريفة.. الدروس والعبر
الدكتور عبدالله مبشر الطرازي
? يمر عام بعد عام بعدعام وتتجدد ذكرى الهجرة النبوية الشريفة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، ويتذكر المسلمون تاريخ الآباء والأجداد بهذه المناسبة، ويتدارسون سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وسير الصحابة الكرام رضي الله عنهم، ويتساءلون ويتناقشون متى ولماذا وكيف كانت هجرته صلى الله عليه وسلم؟ وماهي نتائج تلك الهجرة المباركة؟ فيخرجون من دراستهم ومناقشتهم بدروس عظيمة تفيدهم في مستقبل الحياة.
يقول الله تعالى: {إن الدين عند الله الإسلام} فالإسلام هو الدين الكامل الشامل الذي جاء لهداية البشرية جمعاء، نحو حياة أساسها الإيمان بالله تعالى والعمل بأوامر الشريعة، حياة كريمة هادئة متزنة، حياة يسودها العدل والرحمة والفضيلة، حياة يعمل الجميع فيها لخير الإنسانية.
وقد بعث الله رسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم - في وقت كان العالم كله يعيش في ضلال عقائدي وفساد أخلاقي وظلم اجتماعي، وطغيان الإنسان على الإنسان، بحيث كان يعامل البعض الآخر معاملة الحيوان في بعض الأحيان.
وكانت شبه الجزيرة العربية أيضا تعيش في ظلام الجهل والضلال والفساد، وكانت القبائل العربية تحارب بعضها البعض بلا رحمة، وتحيا حياة قاسية، ففي مثل هذا الوقت بعث الله رسوله محمدا - صلى الله عليه وسلم - لهداية الناس، يدعوهم إلى الإيمان بالله خالق كل شيء، وإلى الخير والفضيلة، والعلم النافع والعمل الصالح والأخلاق الحميدة.
ولكن قومه من قريش وغيرهم لم يؤمنوا بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من تعاليم حكيمة من عند الله تعالى لخيرهم، بل قاموا بإيذاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - بشتى الوسائل.
ولقد صبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - على أذى قريش له ثلاثة عشر عاما، حتى يئس كبار قريش من القضاء على دعوته فقرروا قتله، ووضعوا لذلك خطة ماكرة، وهي أن يأخذوا شابا من كل قبيلة، وأن يقتلوه بضربة رجل واحد فيتفرق دمه في القبائل كلها فلا يقدر بنو هاشم على حرب قريش فيرضون بالدية، وقد أقروا هذا الرأي لطاغيتهم أبي جهل، واستعدوا لتنفيذ الخطة.
ولكن إرادة الله كانت فوق كل إرادة، فقد أخبر رسوله عن مكرهم بإنزال قوله: {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} وبذلك أذن الله لرسوله بالهجرة من مكة إلى المدينة، ليعود منها إلى مكة فاتحا منتصرا يحمل لواء الإسلام عاليا خفاقا.
وإذا نظرنا إلى هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، فنجد أنها قد توفرت لها أسباب النجاح، فمنها مبايعة الأنصار وسرعة انتشار الإسلام في المدينة، ومنها أن نصرة الله كانت مع رسوله - صلى الله عليه وسلم - في كل مايتعلق بالهجرة، ولا سيما حمايته وحفظه من شر قريش في أثناء الهجرة وبعدها.
وهجرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم تكن هروبا من أذى قريش، ولا خوفا من طغيان الطاغين، فقد ثبت في التاريخ أنه - صلى الله عليه وسلم - صبر على أنواع الأذى، إمتثالا لأمر ربه سبحانه حيث قال: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس} وكان في عصمة الله وحفظه ورعايته في كل مراحل الدعوة التي قام بها لنشر الدين الإسلامي.
وقد أمضى الرسول - صلى الله عليه وسلم - تلك السنوات بمكة صابرا ثابتا في سبيل نشر دعوته، كما صبر أصحابه رضي الله عنهم على أنواع التعذيب التي قاسوها من المشركين، ولم يكن لهم ذنب غير أنهم آمنوا بالله وبرسوله وثبتوا على إيمانهم.
وكانت هجرته - صلى الله عليه وسلم - حادثة عظيمة بمشيئة الله تعالى وتدبيره وحكمته، كما كانت انتصارا عظيما للإسلام وسبباً قويا لانتشاره في العالم.
وقد قام الرسول صلى الله عليه وسلم، بعد هجرته بتأسيس الدولة الإسلامية في المدينة، ثم عاد إلى مكة المكرمة فاتحا منتصرا ليدعو الناس إلى الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، بتأييد كامل من الله تعالى، لأن الإسلام هو الدين الشامل على جميع التشريعات الإلهية، فهو لذلك دين البشرية جمعاء، كما أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو خاتم الأنبياء والمرسلين، لقوله تعالى: {وما أرسلناك إلا كافة للناس} يدعوهم إلى هذا الدين الحنيف، وقد أرسله اللهرحمة للعالمين يدعو الناس بالحكمة والموعظة الحسنة.
كلية الآداب ـ جدة
ــــــــــــ(1/45)
الهجرة.. حدث غيّر مجرى التاريخ
هجرة النبي إلى يثرب ضرورة فرضتها آليات الدعوة لانطلاقة الدين الجديد
مكث النبي - صلى الله عليه وسلم - في مكة ثلاثة عشر عامًا يدعو الناس إلى الإسلام، ويبصرهم بشرائعه، ويرشدهم إلى أحكامه، دون أن يتطرق إليه ملل، أو يصيبه كلل أو ضجر، لا تصرفه عن دعوته الشواغل، ولا يثنيه عن التبليغ وعد أو وعيد، وإنما هو ماض في طريقه، تحوطه عناية الله وتكلؤه رحمته، لا يجد وسيلة تمكّنه من تبليغ دعوته إلا اتبعها، ولا طريقة تهيئ له النجاح إلا أخذ بأسبابها، طرق كل باب، ووقف عند كل جمع، وعرض دعوته على القبائل؛ لعل أحدًا يؤمن بها ويؤازرها.
وآمن بالدعوة الجديدة بعض أهل مكة، ممن سمتْ نفوسهم، وصفتْ أفئدتهم، ونضجتْ عاطفتهم الدينية، فالتفوا حول نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، كما آمن عدد من الرقيق والموالي والمستضعفين في مكة، ولم تلق مكة بالاً لهذا الدين الجديد في بادئ الأمر، وعدّت محمدًا - صلى الله عليه وسلم - وصحبه مجموعة من الحنفاء الذين يظهرون ثم يختفون دون أن يلتفت إليهم أحد.. لكن هيهات هيهات...
فلقد استشعرت مكة وأهلها الخطر، حين وجدوا أنفسهم أمام رجل آخر، ودعوة مختلفة، وجماعة تتكون، وكتاب يُتلى، وأن الرسالة يتزايد أنصارها وإن كانت تشق طريقها ببطء بين دهاليز وجبال مكة وعقول أهلها وعصبيتهم التي جبلوا عليها، وليس هذا فحسب بل، هالهم الأمر حين بدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - يهاجم الوثنية ويعيب الأصنام، ويسفّه عبادتها، وهنا رأت مكة أن مكانتها الدينية وزعامتها الروحية في خطر، فلجأت إلى مواجهة الدين الوليد، ومحاصرته بكافة الوسائل التي تضمن إجهاضه والقضاء عليه، ولم تتحرج في استخدام التعذيب والقتل والسجن مع المؤمنين بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ودعوته، ولم يسلم النبي - صلى الله عليه وسلم - نفسه من الأذى، وتعرضت حياته للخطر.
الهجرة إلى الحبشة.. والخروج من الأزمة
حين اشتد العذاب بأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وضاقت بهم السبل، أمرهم بالهجرة إلى الحبشة "فإن بها ملكًا لا يُظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجًا مما أنتم فيه"، فخرج فريق من المسلمين إلى أرض الحبشة؛ مخافة الفتنة، وفرارًا إلى الله بدينهم، فكانت أول هجرة في الإسلام.
وتفكير النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحبشة ينطوي على معرفة واسعة للنبي الكريم بأحوال شبه الجزيرة العربية، واتجاهاتها السياسية، فلم يكن هناك مكان أصلح للحماية والإيواء من الحبشة، فالقبائل العربية تربطها بقريش علاقات وثيقة، وروابط متينة تمنعها من استقبال هؤلاء المسلمين إذا ما فكروا في الهجرة إليها، وبلاد اليمن غير مستقرة يتنازعها التنافس بين الفرس والروم، والصراع بين اليهودية والنصرانية، ولم تكن أي مدينة من مدن الجزيرة العربية تصلح أن تكون مكانًا مناسبًا لإيوائهم، حتى يثرب نفسها التي استقبلت النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك، وأقام بها دولته -لم تكن تصلح هي الأخرى في هذا الوقت لاستقبال المهاجرين، حيث كانت تمزقها الخلافات الداخلية، والصراعات بين قبائلها. وكان جملة من هاجر إلى الحبشة ثلاثة وثمانين رجلاً.
مقدمات الهجرة الكبرى
وإذا كانت الحبشة التي يحكمها ملك عادل تصلح أن تكون مأوى صالحًا ومكانًا للحماية، فإنها لم تكن تصلح أن تكون مركزًا للدعوة، ومعقلاً للدين، ولهذا لم يفكر النبي - صلى الله عليه وسلم - في الهجرة إليها، واستمر في عرض دعوته على القبائل العربية التي كانت تفد إلى مكة، أو بالذهاب إلى بعضها كما فعل مع قبيلة ثقيف في الطائف، ولم تكن قريش تتركه يدعو في هدوء، وإنما تتبّعت خطوه، تحذر القبائل من دعوته وتنفّرها منه.
غير أن سعي النبي الدؤوب، وحرصه على تبليغ دعوته كان لا بد أن يؤتي ثماره، فتفتّحت لدعوته قلوب ستة رجال من الخزرج، فأسلموا، ووعدوه بالدعوة للإسلام في يثرب، وبشروه بالفوز لو قُدّر له أن تجتمع عليه قبائل يثرب.
ولم يكد ينصرم عام حتى وافى النبي - صلى الله عليه وسلم - في موسم الحج اثنا عشر رجلاً: تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس، وعقد معهم بيعة عرفت ببيعة العقبة الأولى، على "ألا يشركوا بالله شيئًا، ولا يسرقوا، ولا يزنوا، ولا يقتلوا أولادهم...".
وأرسل معهم حين عادوا إلى بلادهم مصعب بن عمير، وكان داعية عظيمًا، فقيهًا في الدين، لبقًا فطنًا، حليمًا رفيقًا، ذا صبر وأناة، فنجح في مهمته أيما نجاح، وانتشر الإسلام في كل بيت هناك، وهيأ السبيل لتكون يثرب هي دار الهجرة، التي ينطلق إليها المسلمون، ومعقل الدين ومركز الدولة.
وبعد عام عاد مصعب في موسم الحج، ومعه ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان، التقوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في إحدى الليالي سرًا وبايعوه بيعة العقبة الثانية، التي تضمنت التزامهم بحماية النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما يهاجر إليهم والدفاع عنه، والمحافظة على حياته.
ومن ثم حددت هذه البيعة الوضع القانوني للنبي - صلى الله عليه وسلم - بين أهل يثرب، فاعتبرته واحدًا منهم، دمه كدمهم، وحكمه كحكمهم، وقضت بخروجه ضمنًا من عداد أهل مكة، وانتقال تبعيته إلى أهل يثرب، ولهذا أخفى المتبايعون أمر هذه البيعة عن قريش؛ لأن الفترة بين إتمام هذه البيعة، ووصوله - صلى الله عليه وسلم - لا يلتزم أهل يثرب خلالها بحماية النبي الكريم إذا وقع له مكروه أو أذى من قريش.
التجهيز للهجرة
وبعد أن تمّت البيعة المباركة أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بالهجرة إلى المدينة، فهاجروا أفرادًا وجماعات، يتخفّى بها من يخشى على نفسه، ويعلنها من يجد في نفسه القدرة على التحدي.
ولم تقف قريش إزاء هذه الهجرة مكتوفة اليدين، فحاولت أن ترد من استطاعت رده، لتفتنه في دينه أو تعذبه أو تنكل به، ولكن دون جدوى، فقد هاجر معظم المسلمين، وبقى النبي - صلى الله عليه وسلم - في مكة، ووقعت قريش في حيرة: هل يظل في مكة كما فعل في الهجرة إلى الحبشة، أم يهاجر في هذه المرة مع أصحابه؟ وفي هذا خطر شديد عليهم؛ لأنه يستطيع في يثرب أن ينظم جماعته، ويقيم دولته، فتتهدد مكانة قريش بين القبائل، وتضيع زعامتها، وتتأثر تجارتها.
حزمت قريش أمرها، واتخذت قرارها بقتل النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن تفلت الفرصة من بين أيديها، ويتحقق ما تخشاه، فأعدوا مؤامرتهم لهذا الغرض الدنيء، وأشركوا جميع القبائل في قتله، باختيار شاب قوي من بين أبنائها، حتى يتفرق دمه في القبائل، ولا يقوى بنو هاشم على محاربة أهل مكة، وقد سجل القرآن الكريم نبأ هذه المؤامرة الخسيسة في قوله تعالى: {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} «الأنفال: الآية 30».
حادث الهجرة.. وأسباب النجاح
اتخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - كل الأسباب التي تضمن نجاح هجرته إلى المدينة التي ترتب عليها قيام دولة الإسلام، واتساع رقعتها، وسطوع حضارتها، ولعل أهم الأسباب هو نجاحه الباهر في إعداد المكان الذي سينزل به هو وأصحابه، مستخدمًا كل الوسائل الممكنة من توثيق عرى العلاقات مع أهل يثرب بعقد معاهدتين عظيمتين، وإرسال داعية عظيم الكفاءة، قوي الإيمان، شديد الإخلاص؛ لنشر الدين، وجذب الأتباع هناك.
والسبب الثاني من أسباب النجاح هو اختيار الوقت المناسب للهجرة، فلم يعزم النبي - صلى الله عليه وسلم - على الهجرة إلا بعد أن استوثق من رسوخ إيمان أهل يثرب، وتعهدهم بحمايته والدفاع عنه، وذلك في بيعة العقبة الثانية، ومن ثم لم تعد هناك حاجة لبقائه في مكة بعد أن وجد النصرة والمنعة عند أهل يثرب.
والسبب الثالث هو آليات الهجرة التي اتبعها النبي في خروجه من مكة إلى المدينة، في واحدة من أجلّ ما عرف تاريخ المغامرة في سبيل الحق والعقيدة والإيمان قوة وروعة، وتفاصيل هذه الهجرة مذكورة في كتب السيرة، ولسنا في حاجة إلى سردها الآن، ولكن يمكن القول بأنها كانت سرية إلى أقصى حد، ودقيقة إلى أبعد مدى، وضع لها النبي - صلى الله عليه وسلم - كل ما في وسع البشر وطاقتهم من وسائل تضمن لها النجاح، وخطط تحقق لها التوفيق، فإذا لم يفلح ذلك كله، فستأتي عناية الله في اللحظة المناسبة.
الرسول - صلى الله عليه وسلم - في المدينة
وما أن وصل النبي المدينة في ضحى يوم الإثنين، الموافق (12 من ربيع الأول للسنة الأولى من الهجرة الموافق 24 سبتمبر 622م) حتى بدأ العمل الجاد، والسعي الدءوب، حتى أكمل رسالته على نحو لا مثيل له في تاريخ الإنسانية.
ولم تكن يثرب عندما نزلها النبي - صلى الله عليه وسلم - مدينة بالمعنى المعروف، وإنما كانت واحات متفرقة في سهل فسيح تسكنها قبائل الأوس والخزرج والجماعات اليهودية، فنظّم العمران بالمدينة، وشق بها طرقا معبّدة، وكان المسجد هو الأساس في هذا التنظيم، انتظم حوله عمران المدينة الجديدة، واتسقت شوارعها.
وكان هذا المسجد هو مقر الرئاسة الذي تقام فيه الصلاة، وتُبرم فيه كل الأمور، وتُعقد به مجالس التشاور للحرب والسلم واستقبال الوفود، وبجوار المسجد اتخذ النبي مساكنه، وكانت متصلة بالمسجد، بحيث يخرج منها إلى صلاته مباشرة، وأصبح من السُنّة أن تُبْنى المساجد وبجوارها بيوت الولاة ودواوين الحكم.
ثم أصلح النبي ما بين الأوس والخزرج وأزال ما بينهما من عداوة، وجمعهما في اسم واحد هو الأنصار، ثم آخى بينهم وبين المهاجرين على أساس أن المؤمنين إخوة، وكانت المرة الأولى التي يعرف فيها العرب شيئا يسمى الأخوة، دون قرابة أو صلة رحم، حيث جعل كل رجل من المهاجرين يؤاخي رجلا من الأنصار، فيصير الرجلان أخوين، بينهما من الروابط ما بين الأخوين من قرابة الدم.
وبعد المؤاخاة كانت الصحيفة، وهي الدستور الذي وضعه النبي - صلى الله عليه وسلم - لتنظيم الحياة في المدينة، وتحديد العلاقات بينها وبين جيرانها، هذه الوثيقة لم يُمْلِها النبي - صلى الله عليه وسلم - إملاء، وإنما كانت ثمرة مناقشات ومشاورات بينه وبين أصحابه من المهاجرين والأنصار وغيرهم، وكلما استقروا على مبدأ قام الرسول بإملاء نصه على علي بن أبي طالب، وشيئا فشيئا اكتملت الوثيقة، وأصبحت دستورا للجماعة الجديدة، ولا يكاد يُعرف من قبل دولة قامت منذ إنشائها على أساس دستور مكتوب غير هذه الدولة الإسلامية الجديدة، فإنما تقام الدول أولا، ثم يتطور أمرها إلى وضع دستور.
وأدت هذه السياسة الحكيمة إلى قيام جماعة متآلفة متحابة، وإلى ازدياد عدد سكان المدينة حتى زاد عدد سكانها عما كانوا عليه أكثر من خمس مرات، بعد أن أقبل الناس على سكناها؛ طلبا للأمن والعدل في ظل الإسلام، والتماسًا لبركة مجاورة النبي - صلى الله عليه وسلم - واستجابة لما دعا إليه القرآن من الهجرة إلى الله وإلى رسوله.
بين الهجرة إلى الحبشة والهجرة إلى المدينة
كانت الهجرة إلى المدينة ضرورة ملحة فرضتها الأحداث التي أحاطت بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في مكة، وألزمته السعي إلى مكان آخر تُمارس فيها شعائر الإسلام، وتُطبّق أحكامه، وتنطلق دعوته إلى كل مكان، دون مزاحمة أو تضييق، ومكة حينذاك لم تعد صالحة لهذه الفترة من عمر الرسالة، لأن العداء قد بلغ بها كل مدى ضد الدين الجديد، وأصبحت هناك صعوبة بالغة في استكمال الدعوة التي تحتاج إلى دولة حتى تنجح رسالتها.
ولم تكن الحبشة التي تنعم بالعدل والأمان تصلح لهذه الفترة؛ نظرا لاختلاف البيئة اللغوية والدينية هناك؛ الأمر الذي جعل حركة الإسلام هناك بطيئة، وبلا فاعلية، ولا تسمح هذه البيئة بالتطبيق؛ ومن ثم لم تكن هناك مدينة في شبه الجزيرة العربية تصلح لاستقبال الدين في الفترة الثانية إلا يثرب التي أُطلق عليها مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم.
ــــــــــــ(1/46)
الأمة الإسلامية في حاجة دوماً إلى التأمل في دروس الهجرة
إسلام أون لاين
يبدأ العام الهجري الجديد، ويتجدد معه تذكر هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، تلك الهجرة التي أنجبت دولة حضارية في زمن قياسي في تاريخ الأمم، وسادت قوانين السماء الربانية أرجاء المعمورة، وأينع البناء الحضاري في كل روضة وربوة من فيحاء هذه الدنيا.
ومع إشراقة كل عام جديد يقف المسلم بين يدي هذا الحدث، متأملاً معتبرًا محللاً، علّه يرتقي بنفسه وبمن حوله إلى مستوى الحدث الضخم في تاريخ البشرية، يستمطر الرحمات لواقع مؤلم ونفس جموح، وتشتت في الجهود والإمكانات.
وللهجرة معنيان: حسي ومعنوي، وفي معناها اللغوي هي الانتقال، وقد يكون الانتقال حسيًّا بترك مكان لآخر، وقد يكون معنويًّا بالانتقال من ثقافة إلى أخرى.
ومن معاني هذا الأخير قول الله تعالى: {والرُّجْزَ فَاهْجُرْ}) المدثر: 5)، وقوله عز وجل: {واهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً} (المزمل: 10)؛ فهي مراجعة لكافة الموروثات الثقافية والبنائية، واكتشاف الجوانب التي عدا عليها الخطأ أو الفساد في الفهم والتطبيق، مراجعة عملية فاعلة.
والهجرة إن هي إلا رديف لمعنى التزكية، قال صلى الله عليه وسلم: "لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها" «أبو داود بسند صحيح».
إن الحديث عن الهجرة يجب ألا نقف فيه عند مظاهر هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، ونسرد التفاصيل التي وردت عنها، بل نحن مطالبون بالغوص في عميق جذرها، وتحليل نفسية الهجرة وفلسفتها؛ كي نعي وندرك منها بعضًا من سبل الخلاص لأنفسنا وأمتنا الكريمة.
إن التلازم بين معنيي الهجرة -الجسدي والنفسي- لا يزال قائمًا ما دام المؤمنون لم يمسكوا بزمام الأستاذية العالمية، ولا يزالون حتى ذلك الوقت يحتاجون إلى المعين المزدوج للهجرة النبوية العطرة، ولا يتوقف أبدًا المعنى النفسي أو المعنوي؛ لأنه بمثابة الزاد والتزكية للأنفس والمجتمعات.
فالهجرة النبوية نهر جاري العطاء في كل حين بإذن ربه، يغرف منه المؤمن رواء له حينًا بعد حين، يربط الحداثة بالواقع، ويتلقط منها ما يريد.
أهمية الهجرة
تكمن أهمية الهجرة في: تخليص المؤمنين من حالة العوَز وقلة الأمن، ومن ثم إطلاق قدراتهم الإنتاجية في حالتَي السلم والحرب معًا، قال تعالى: {ومَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وسَعَةً} (النساء: 100)، والمراغم هو المنعة والقوة، أو ما يرغِم به المؤمنون أعداءهم على مساومتهم ومنعهم من العدوان عليهم، والسعة هي سعة العيش، وقال تعالى: {والَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ولأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (النحل: 41).
فالمهاجر في سبيل الله اليوم إنما يهاجر ليطلق لنفسه قدراتها، ويتحلل من كل قيد يلزمه بالقعود، والمهاجر في سبيل الله اليوم مطالَب بأن يطلق لفكره وعقله وعلمه كل الآفاق الرحبة الواسعة.
والأمة تقف أمام أمر إطلاق الطاقات هذا وتتمعن في نفسها، وما يكبلها من آسار الأغلال الثقيلة التي جعلتها في آخر الأمم، وتمعن الأمة النظر في الأمن والحريات التي هي أول مدارج الصعود نحو الهجرة؛ لتعي الهوة الكبيرة بينها وبين الهجرة النبوية العطرة.
وكذا المسلم - بل الداعية - يجب ان يقف ليراجع فكره ونفسه، ويستخرج الأغلال التي تحيط به وأن ينطلق الانطلاقة المباركة وفق شرع ربنا الحكيم، وقدوته صاحب الهجرة عليه الصلاة والسلام.
إن الأعداد الكبيرة من المسلمين التي تهاجر اليوم الهجرة العكسية إلى بلاد الغرب، ثم تظل تدور حول نفسها متأثرة بالمحيط الذي تعيش فيه، غاب عنها معنى إطلاق الطاقات هذا، وفات عليها لُباب الأمر في فقه الهجرة.
والهجرة بمعناها الشامل حركة تجديد مستمر، وعامل من عوامل قوة الأمة الفكرية والمادية؛ كونها تتمحور حول المثل الأعلى عليه الصلاة والسلام، ولا تزال الأمة بعافية ما دامت على صلة قوية بهذا المثل الأعلى، سواء في إنضاج فكرها أو تقدم مدنيتها، ومن تدبَّر أحداث الهجرة ودقائقها أدرك أهمية حركة التجديد، وترك البيئات المغلقة إلى البيئات المفتوحة، سواء أكانت بلدًا أو مؤسسة، أو حتى نفس المؤمن ذاته؛ إذ المثل الأعلى يحث دائمًا على أسمى الغايات، ويدفع لإنجاز أرقى الحضارات، ولن يتحقق ذلك إلا بالتجدُّد المنفتح، المتعلق بالمثل الأعلى عليه الصلاة والسلام.
والهجرة مطلب قوي لتماسك الجبهة الداخلية في الأمة؛ إذ هي المراجعة والمحاسبة، سواء الذاتية أو الجماعية أو المؤسسية، إذْ جوهر الهجرة يقوم على هَجْر كل ما لا يليق، وبهذه النظرة الواعية لمعنى الهجرة يكون النقد البناء، وتكون المراجعات الربانية للسَّيْر، والتفرس في الأخطاء، وهذا من أقوى عوامل النهوض الحضاري.
إن حالة الأمة اليوم -وحال أفرادها في الغالب- لفي أشد الحاجة إلى إطلاق الطاقات الكبيرة التي تحوزها في أبنائها، وتوفير الأمن والاستقرار لهم؛ فما سعى النبي - صلى الله عليه وسلم - للمدينة إلا بعد سنوات من الكبت والتضييق؛ فكانت المدينة المنورة البيئة التي انطلق فيها البناء الحضاري، ونلمس اليوم إما كبتًا لمجتمعات كاملة، أو فقدانًا للدور في كثرة من أفراد الأمة.
وحركة التجديد التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها" (أبو داود بسند صحيح) هذه الحركة تحتاج إلى تجديد في الأفراد والمؤسسات.
والنقد الداخلي والتوبة والمراجعة قوة تتماسك بها الأمة، وتسترد بها عافيتها، ويتنفس بها كل فرد أنسام البناء الحضاري.
وما أصدق قول شاعر الدعوة وليد الأعظمي حين قال:
يا هجرة المصطفى والعين باكيةٌ والدمع يجري غزيرًا من مآقيها
يا هجرة المصطفى هيّجت ساكنةً من الجوارح كاد اليأس يطويها
هيجت أشجاننا والله فانطلقت منا حناجرنا بالحزن تأويها
إنها دموع الداعية تنهمر من مآقيه على واقع أمته، وتعطل منابع الخيرات فيها، لكن الأمل يتجدد دائمًا بهجرة الحبيب محمد عليه الصلاة والسلام مصدر الاقتداء في المحن والمنح.
ومع إدراك فقه الهجرة وأبعادها يُطوَى اليأس، وتُطوَى معه مراحل في النفس وفي الآفاق الدعوية، وما ثمة مكان للحزن: {إِلا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (التوبة 40).
ــــــــــــ(1/47)
من دروس الهجرة
شعر صبري أحمد الصبري
في هجرة المختار نور ساري دوما إلى الوجدان باستبشار
فالظلم مهما قد تمادى ينتهي بالظالمين لخيبة وخسار
والحق مهما قد توارى فترة سيعود جهرا للعلا بفخار
والبغي مهما أطبقت أظفاره بالآمنين سينتهي لبوار
والعدل يأتي للأنام بقسطه ينساب فيهم بالهدى السيار
كانت بمكة قبل هجرة أحمد أشياء عجت باعتداء ضاري
قلبت موازين الحياة وعطلت بعض الأمور مظالم الكفار
شنوا على صحب الرسول بِغِلِّهم عدوان بغي سافر الأطوار
جعلوا من القوم الضعاف وسيلة لبلوغ قصد سيئ الأغوار
لكن دعوة أحمد ظلت كما شاء الإله بقوة الجبار
تمضي بنور الله جل جلاله بين القلوب بقدرة القهار
بلغت بفضل الله آفاقا لها شوق للقيا سيد الأبرار
فربوع طيبة كلها في لهفة تاقت لطه باشتياق حار
حتى تحقق للمدينة حلمها بلقاء حق صادق الأنصار
أهلا وسهلا بالنبي وآله وبصحبه في طيبة الأطهار
أرسى الحبيب بطيبة أسسا بها قامت بصدق دولة الأنوا ر
حق وعدل واستقامة كم لها للناس جمعا من سنا استقرار
في هجرة المحمود طه أحمد نطقت لنا بالعلم باستمرار
تحكي دروسا من جواهر عقدها للناس تجني من بديع ثمار
ولكي تظل قلوبنا وعيوننا ترنو لها بمحاسن استبصار
صلى الإله على ا لنبي وآله طه الرسول المجتبى المختار!!
ــــــــــــ(1/48)
الهجرة النبوية المباركة مواقف وعبر
الحمد لله رب العالمين الموجود أزلا وأبدا بلا مكان والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد وعلى جميع إخوانه من النبيين والمرسلين وعلى ءاله وصحبه الطيبين الطاهرين ، أما بعد، يقول الله تعالى في محكم كتابه: {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إنّ الله معنا}. سورة التوبة/40 .
إخوة الإيمان ،
دعا النبيّ محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى العدل والإحسان ومكارم الأخلاق ونهى عن المنكر والبغي . فهو الذي عرّفه قومه قبل نزول الوحي بلقب الأمين فلم يكن سارقًا ولم يكن رذيلاً ولم يكن متعلّق القلب بالنساء، وكان يدور في المواسم التي يجتمع فيها الناس ويقول: "أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تُفلحوا" . وكان يتبعه رجل من المشركين ويقول: "أيها الناس لا تصدّقوه" .
صبر - صلى الله عليه وسلم - على إيذاء المشركين ، وتعجب المشركون لهذا الصبر فقالوا لأبي طالب: "يا أبا طالب ماذا يريد ابن أخيك؟ إن كان يريد جاهًا أعطيناه فلن نمضي أمرًا إلا بعد مشورته، وإن كان يريد مالاً جمعنا له المال حتى يصير أغنانا، وإن كان يريد الملك توّجناه علينا" . ولكن النبيّ الذي يوحى إليه أجاب عمّه بقوله: "والله يا عمّ لو وضعوا الشمس بيميني والقمر بشمالي ما تركت هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه" .
فأجمع المشركون على قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجمعوا من كلِّ قبيلة رجلاً جلدًا ليضربوه ضربة رجل واحد حتى يتفرّق دمه بين القبائل، فأتى جبريل عليه السلام وأخبره بكيد المشركين وأمره بأن لا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه. فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وأمره أن يبيت على فراشه ويتسجّى بِبُرد له أخضر ففعل ، ثمّ خرج - صلى الله عليه وسلم - وهم على بابه ومعه حفنة تراب فجعل يذرّها على رؤوسهم وهو يقرأ: { يس . والقرءان الحكيم }. إلى قوله تعالى : { وجعلنا من بين أيديهم سدّا ومن خلفهم سدّا فأغشيناهم فهم لا يبصرون} .(يس) .
ثمّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يختار حبيبه أبا بكر الصدِّيق رضي الله عنه يرافقه في الهجرة، ويدخلان إلى الغار وفي الغار ثقوب فجعل الصدّيق رضي الله عنه يسدّ الثقوب بثوبه وبقي ثقب فسدّه برجله ليحمي حبيبه وقرّة عينه محمّدا، فلدعته الأفعى برجله فما حرّكها وما أزاحها، فمن شدّة ألَمه بكى رضي الله عنه فنَزلت دمعته وأيقظت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقام - صلى الله عليه وسلم - ومسح له بريقه الطاهر فشفي بإذن الله تعالى .
وحمى الله تعالى حبيبه بخيط العنكبوت، حمى الله تعالى حبيبه بأضعف البيوت وأوهن البيوت بيت العنكبوت، فأرسل الله حمامة باضت على فم الغار ونسج العنكبوت خيطه
والمؤمنون في المدينة المنوّرة ينتظرون حبّا وشوقًا، ينتظرون وصول الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ، وذات يوم والناس في انتظار بلهف وشوق وقد انتصف
النهار واشتدّ الحرّ ورجعوا جماعة بعد جماعة وإذ برجل ينادي بأعلى صوته: ها قد جاء من تنتظرون يا أهل المدينة، فتكرّ الجموع عائدة لاستقبال الحبيب المحبوب والحبّ يسبقها ولسان حالها يقول: "طلع البدر علينا من ثنيات الوداع" .
الهجرة النبويّة أيها الإخوة لم تكن هروبًا ولا جبنًا ولا تخاذلاً عن إحقاق حقٍّ أو إبطال باطل ، ولكن هجرة بأمر الله تعالى .
ــــــــــــ(1/49)
إخوة الإيمان والإسلام
إن دار الفتوى في أستراليا تذكركم بأنّ الله تعالى وعد المؤمنين بالنصر المبين وجعل لهم من الشدّة فرجًا ومن العسر يسرا ومن الضيق سعة، وأنّ الدروس المستفادة من الهجرة كثيرة ومن جملتها ضرورة الصبر على الشدائد والبلايا وكافّة أنواع الظلم والاستبداد، والصمود في وجه الباطل، والوقوف إلى جانب الحقِّ في شجاعة وحزم وعزم، وأنّ بهجتنا بهذه الذكرى العظيمة في الظروف الحالية التي تمرّ بها الأمّة تبعثنا على مضاعفة الجهد في سبيل نشر دين الله، تبعثنا على مضاعفة الجهد في سبيل إعلاء كلمة لا إله إلا الله محمّد رسول الله بالتعلّم والتعليم.
اللهمّ أعد علينا هذه الذكرى بالأمن والأمان يا ربّ العالمين . وتقبل الله من حجاجنا الكرام . وكل عام وأنتم بخير
ــــــــــــ(1/50)
الهجرة النبوية المباركة - مواقف وعبر
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونشكره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضلّ له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا مثيل له، ولا ضِدّ ولا نِدّ له، وأشهد أنَّ سيّدنا وحبيبنا وعظيمنا وقائدنا وقرّة أعيننا محمّدًا عبده ورسوله وصفيّه وحبيبه، بلّغ الرسالة وأدّى الأمانة ونصح الأمّة فجزاه الله عنّا خير ما جزى نبيًّا من أنبيائه. الصلاة والسلام عليك سيِّدي يا علم الهدى يا أبا الزهراء يا أبا القاسم يا محمّد ضاقت حيلتنا وأنت وسيلتنا أدركنا يا رسول الله .
أما بعد عباد الله، فإني أوصيكم ونفسي بتقوى الله العليِّ العظيم ، والسير على خطى رسوله الكريم، يقول الله تعالى في محكم كتابه: ?إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا
وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ? التوبة/40 .
إخوة الإيمان يا أحباب الحبيب، دعا النبيّ - صلى الله عليه وسلم - إلى العدل والإحسان ومكارم الأخلاق ونهى عن المنكر والبغي. فهو أفضل الأوّلين والآخرين على الإطلاق، هو محمّد - صلى الله عليه وسلم - الذي عرّفه قومه قبل نزول الوحي بلقب الأمين فلم يكن سارقًا ولم يكن رذيلاً ولم يكن متعلّق القلب بالنساء، وكان يدور في المواسم التي يجتمع فيها الناس ويقول: "أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تُفلحوا". وكان يتبعه رجل من المشركين ويقول: "أيها الناس لا تصدّقوه".
صبر - صلى الله عليه وسلم - على إيذاء المشركين. أليس حينما كان يصلّي عند الكعبة رمى على ظهره عقبة بن أبي معيط سلى جزور؟ وذلك المشرك أبو جهل أراد أن يخنقه بثوبه فمنعه أبو بكر وقال: "أتقتلون رجلاً يقول ربي الله؟". أليس كُسرت رباعيّته من أسنانه؟ أليس ضرب بالحجارة عليه الصلاة والسلام؟ ولكن هذا النبي المؤيّد بنصر الله المبين ثبت كما أمره الله، فما من نبي يتخلّى عن الدعوة إلى الله لشدّة إيذاء، الكفار تعجّبوا لهذا الصبر فقالوا لأبي طالب: "يا أبا طالب ماذا يريد إبن أخيك؟ إن كان يريد جاهًا أعطيناه فلن نمضي أمرًا إلا بعد مشورته، وإن كان يريد مالاً جمعنا له المال حتى يصير أغنانا، وإن كان يريد الملك توّجناه علينا".
ولكن النبيّ الذي يوحى إليه أجاب عمّه بقوله: "والله يا عمّ لو وضعوا الشمس بيميني والقمر بشمالي ما تركت هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه".
فأجمع المشركون على قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجمعوا من كلِّ قبيلة رجلاً جلدًا ليضربوه ضربة رجلٍ واحدٍ حتى يتفرّق دمه بين القبائل، فأتى جبريل عليه السلام وأخبره بكيد المشركين وأمره بأن لا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه. فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وأمره أن يبيت على فراشه ويتسجّى بِبُرد له أخضر ففعل ، ثمّ خرج - صلى الله عليه وسلم - وهم على بابه ومعه حفنة تراب فجعل يذرّها على رؤوسهم وهو يقرأ: ?يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَىصِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَىالأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ? (يس).
وحمى الله تعالى حبيبه بخيط العنكبوت، حمى الله تعالى حبيبه بأضعف البيوت وأوهن البيوت بيت العنكبوت، فأرسل الله حمامة باضت على فم الغار ونسج العنكبوت خيطه . قال تعالى: ?يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ? التوبة/32 .
والمؤمنون في المدينة المنوّرة ينتظرون حبّا وشوقًا، ينتظرون وصول الحبيب المصطفى صلّى الله عليه وسلّم، فكانوا يتوافدون إلى مشارف المدينة من ناحية طريق مكّة وكان بعضهم يتسلّق الأشجار وينظر إلى بعد علّه يرى أثرًا لقدوم الحبيب صلّى الله عليه وسلّم، وتمضي الأيام والساعات ويعودون حزينين.
وذات يوم والناس في انتظار بلهف وشوق وقد انتصف النهار واشتدّ الحرّ ورجعوا جماعة بعد جماعة وإذ برجل ينادي بأعلى صوته: ها قد جاء من تنتظرون يا أهل المدينة، فتكرّ الجموع عائدة لاستقبال الحبيب المحبوب والحبّ يسبقها ولسان حالها يقول: "طلع البدر علينا من ثنيات الوداع".
اللهمّ أعد علينا هذه الذكرى بالأمن والأمان يا ربّ العالمين .
هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم
الخطبة الثانية:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونشكره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيّئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضلّ له ومن يضلل فلا هادي له، والصلاة والسلام على محمّد بن عبد الله وعلى كلِّ رسول أرسله الله.
أما بعد عباد الله ، فأوصيكم ونفسي بتقوى الله العليّ العظيم .
الهجرة النبويّة أيها الإخوة لم تكن هروبًا من قتال ولا جبنًا عن مواجهة ولا تخاذلاً عن إحقاق حقٍّ أو إبطال باطل، ولكن هجرة بأمر الله تعالى.
فأنبياء الله تعالى يستحيل عليهم الجبن، فالأنبياء هم أشجع خلق الله. وقد أعطى الله نبيّنا قوّة أربعين رجلاً من الأشدّاء.
فالجبن والهرب هذا لا يليق بأنبياء الله تعالى . "فلا يقال عن النبيّ هرب لأنّ هرب يشعر بالجبن، أمّا إذا قيل هاجر فرارًا من الكفار أي من أذى الكفّار فلا يشعر بالجبن بل ذلك جائز ما فيه نقص ". (الشرح القويم صحيفة 341 ).
واعلَموا أنَّ اللهَ أمرَكُمْ بأمْرٍ عظيمٍ أمرَكُمْ بالصلاةِ والسلامِ على نبيِهِ الكريمِ فقالَ:?إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً? اللّهُمَّ صَلِّ على سيّدِنا محمَّدٍ وعلى ءالِ سيّدِنا محمَّدٍ كمَا صلّيتَ على سيّدَنا إبراهيمَ وعلى ءالِ سيّدِنا إبراهيمَ وبارِكْ على سيّدِنا محمَّدٍ وعلى ءالِ سيّدِنا محمَّدٍ كمَا بارَكْتَ على سيّدِنا إبراهيمَ وعلى ءالِ سيّدِنا إبراهيمَ إنّكَ حميدٌ مجيدٌ، يقول الله تعالى: ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ?، اللّهُمَّ إنَّا دعَوْناكَ فاستجبْ لنا دعاءَنا فاغفرِ اللّهُمَّ لنا ذنوبَنا وإسرافَنا في أمرِنا اللّهُمَّ اغفِرْ للمؤمنينَ والمؤمناتِ الأحياءِ منهُمْ والأمواتِ ربَّنا ءاتِنا في الدنيا حسَنةً وفي الآخِرَةِ حسنةً وقِنا عذابَ النارِ اللّهُمَّ اجعلْنا هُداةً مُهتدينَ غيرَ ضالّينَ ولا مُضِلينَ اللّهُمَّ استرْ عَوراتِنا وءامِنْ روعاتِنا واكفِنا مَا أَهمَّنا وَقِنا شَرَّ ما نتخوَّفُ. عبادَ اللهِ ?إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ?، يعظُكُمْ لعلَّكُمْ تذَكَّرون. اذكُروا اللهَ العظيمَ يذكرْكُمْ واشكُروهُ يزِدْكُمْ، واستغفروه يغفِرْ لكُمْ واتّقوهُ يجعلْ لكُمْ مِنْ أمرِكُمْ مخرَجًا، وَأَقِمِ الصلاةَ.
ــــــــــــ(1/51)
الهجرة النبوية المباركة - حوادث وعبر - 2
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونشكره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضلّ له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا مثيل له، وأشهد أنَّ سيّدنا وحبيبنا وعظيمنا وقائدنا وقرّة أعيننا محمّدًا عبده ورسوله وصفيّه وحبيبه، صلّى الله عليه صلاة يقضي بها حاجاتنا ويفرّج بها كرباتنا ويكفينا بها شرّ أعدائنا، - صلى الله عليه وسلم - وعلى كل رسول أرسله.
أما بعد عباد الله فإني أوصيكم ونفسي بتقوى الله العليِّ العظيم ، القائل في محكم كتابه: ?إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ? سورة غافر/51.
إنّ الله تعالى وعد المؤمنين بالنصر المبين وجعل لهم من الشدّة فرجًا ومن العسر يسرًا ومن الضيق سعة، وإنّ الدروس المستفادة من الهجرة كثيرة ومن جملتها ضرورة الصبر على الشدائد والبلايا وكافّة أنواع الظلم والاستبداد، والصمود في وجه الباطل، والوقوف إلى جانب الحقِّ في شجاعة وحزم وعزم، وإنّ بهجتنا بهذه الذكرى العظيمة تبعثنا على مضاعفة الجهد في سبيل نشر دين الله، تبعثنا على مضاعفة الجهد في سبيل إعلاء كلمة لا إله إلا الله محمّد رسول الله بالتعلّم والتعليم.
ولقد كان لهجرة الفاروق الذي فرق بين الحقِّ والباطل قصّة شأنها شأن كل قصصه وأخباره العظيمة التي تدلّ على حبّه لدين الله واستبساله في سبيل الله، ذلك أنه عندما جاء دور سيّدنا عمر بن الخطاب قبل هجرة الرسول بسبعة أيام، خرج مهاجرًا وخرج معه أربعون من المستضعفين جمعهم عمر رضي الله عنه في وضح النهار وامتشق سيفه وجاء (دار الندوة) وهو مكان تجتمع فيه قريش عادة، فقال الفاروق عمر لصناديد قريش بصوت جهير: "يا معشر قريش من أراد منكم أن تفصل رأسه أو تثكله أمّه أو تترمّل امرأته أو ييتّم ولده أو تذهب نفسه فليتبعني وراء هذا الوادي فإني مهاجر إلى يثرب". فما تجرّأ أحد منهم أن يحول دونه ودون الهجرة لأنهم يعلمون أنه ذو بأس وقوّة وأنه إذا قال فعل .
ومن بركات الهجرة أنّ امرأة مِمّن سبقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالهجرة مات ولدها معها في الطريق إلى المدينة، أصابه مرض فمات فتملّكها الجزع فقالت: "اللهمّ إنك تعلم أني ما هاجرت إلا ابتغاء مرضاتك ومحبّة فيك وفي نبيّك فلا تشمّت بي الأعداء"، فتحرّك ولدها من تحت الكفن، قام ولدها في الحال أحياه الله تعالى، والله على كلِّ شىء قدير. قالت أمّه: "طعم وطعمنا".
وبقي حيا إلى خلافة سيّدنا عمر رضي الله عنه.
هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة المنوّرة في شهر صفر وليس في الأول من شهر محرّم كما هو شائع واستقبله المؤمنون بالفرح واستبشر الناس بقدوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسمّى الرسول يثرب المدينة المنوّرة، وآخى بين أهلها بين المهاجرين والأنصار وبنى مسجده، وصار المسلمون على قلب رجل واحد لا يفرّق بينهم طمع الدنيا ولا يباعد بينهم حسد ولا ضغينة، مثلهم كمثل البنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضًا ومثلهم في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى.
وأوّل بيت نزل فيه - صلى الله عليه وسلم - في المدينة المنوّرة بيت خالد بن زيد أبي أيوب الأنصاريّ، وخالد بن زيد كان مِمّن حفظ هذه الأبيات التي قالها أسعد الحميري الذي كان يحكم بلاد اليمن قبل بعثة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بستمائة عام، صفّت له الجياد من اليمن إلى بلاد الشام فمرّ بالمدينة المنوّرة التي كانت تسمّى يثرب ليكسر أهلها، فاجتمع به حبران من الأحبار المسلمين الذين كانا على دين موسى عليه السلام وقرءا في التوراة أنها أي المدينة المنوّرة هي مهاجر نبي ءاخر الزمان أحمد ، فأنشد أسعد الحميريّ تبع الأوسط:
شهدت على أحمد أنه ***** رسول من الله باري النسمّ
ولو مدّ عمري إلى عمره ***** لكنت وزيرًا له وابن عمّ
وجاهدت بالسيف أعداءه ***** وفرّجت عن صدره كل غمّ
قبل ستمائة عام من بعثة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال هذه الأبيات أسعد الحميري في مدح النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وتوارثها أهل المدينة خلفًا عن سلف.
اللهمّ أعد علينا هذه الذكرى بالأمن والأمان يا ربّ العالمين .
هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم
ــــــــــــ(1/52)
الهجرة النبوية المباركة
إن الحمد لله نحمده ونستغفره ونستهديه ونسترشده ونشكره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا مثيل له ولا ضد ولا ند له وأشهد أنَّ سيدنا وحبيبنا وعظيمنا وقائدنا وقرة أعيننا محمدًا عبده ورسوله وصفيه وحبيبه من بعثه الله رحمة للعالمين هاديًا ومبشرًا ونذيرا بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة فجزاه الله عنا خير ما جزى نبيًا من أنبيائه، الصلاة والسلام عليك سيدي يا علم الهدى الصلاة والسلام عليك سيدي يا رسول الله سيدي يا حبيب الله ضاقت حيلتنا وأنت وسيلتنا أدركنا يا محمد أدركنا يا أبا القاسم يا رسول الله أدركنا بإذن الله .
أما بعد فيا عباد الله أوصي نفسي وإياكم بتقوى الله العلي العظيم واستفتح بالذي هو خير، يقول الله تعالى في كتابه العظيم : ?إِلا تنصُروهُ فقدْ نصرَهُ اللهُ إِذْ أَخرجَهُ الذينَ كَفَروا ثانيَ اثنينِ إِذْ هُمَا في الغَارِ إِذْ يقولُ لصاحبِهِ لا تحزَنْ إِنَّ اللهَ معَنا فأنزلَ اللهُ سكينتَهُ عليهِ وأيَّدَهُ بجنودٍ لمْ تَرَوْهَا وجَعَلَ كلمةَ الذينَ كفَروا السُّفلى وكلمةَ اللهِ هيَ العُليَا واللهُ عزيزٌ حكيمٌ? سورة التوبة/40
الهجرة النبوية أيها الإخوة لم تكن هروبًا من قتال ولا جبنًا عن مواجهة ولا تخاذلاً عن إحقاق حق أو إبطال باطل ولكن هجرة بأمر الله تعالى أعد فيها النبي القائد صلوات ربي وسلامه عليها العدة وهيأ الجند وعاد بهم إلى مكة فاتحًا، أوذي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأوذي أصحابه الكرام في مكة وصبر ءال ياسر في سبيل الله، ورسول الله هاجر بالدعوة إلى الله فلم يكن يخفي شيئًا منها بل كان يدور في المواسم التي يجتمع فيها الناس ويقول لهم:" أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا " وصبر - صلى الله عليه وسلم - على إيذاء المشركين من أهل مكة، وانصب العذاب على المستضعفين صبًا جلد وضرب وحبس وتحريق وقتل، ولكن أدركهم المدد الرباني والتثبيت الإلهي فكأنهم صخرة لا تخدش وصارت نبضات قلوبهم الخاشعة وهمسات أدعيتهم الضارعة تهز الأفئدة والعروش، أليس ردد بلال الحبشي أحد أحد، أحد أحد؟لم يتراجع ولم ينفتن.
فكم نحن بحاجة اليوم إلى أن نتطلع إلى مواقف هؤلاء الرجال الرجال، وهذا عمر رضي الله عنه يقف في وضح النهار ممتشقًا سيفه قائلاً لصناديد قريش بصوت جهير:" يا معشر قريش من أراد منكم أن تفصل رأسه أو تثكله أمه أو تترمل امرأته أو ييتم ولده أو تذهب نفسه فليتبعني وراء هذا الوادي فإني مهاجر إلى يثرب " فما تجرأ أحد منهم أن يحول دونه ودون الهجرة، وانظروا إلى موقف القائد العظيم محمد بعدما جاءوا إلى عمه أبي طالب يقولون له يا أبا طالب ماذا يريد ابن أخيك إن كان يريد جاها أعطيناه فلن نمض أمرا إلا بعد مشورته، وإن كان يريد مالاً جمعنا له حتى يصير أغنانا وإن كان يريد الملك توجناه علينا ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي يوحى إليه أجاب عمه بقوله :" لو وضعوا الشمس بيميني والقمر بشمالي ما تركت هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه " ليس في الأنبياء من يترك الدعوة إلى الله، ليس في الأنبياء من يتخلى عن الدعوة إلى الله مهما اشتد عليه البلاء ليس في أنبياء الله من يعرض عن دين الله لشدة الإيذاء، أجمع المشركون على قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجمعوا من كل قبيلة رجلا جلدا ليضربوه ضربة رجل واحد حتى يتفرق دمه بين القبائل، فأتى جبريل عليه السلام وأخبره بكيد المشركين وأمره بأن لا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه.
فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأمره أن يبيت على فراشه ويتسجى ببرد له أخضر ففعل، ثم خرج - صلى الله عليه وسلم - وهم على بابه ومعه حفنة تراب فجعل يذرها على رؤوسهم وهو يقرأ : ?يس والقرءانِ الحكيمِ إنّكَ لمنَ المرسلينَ على صِراطٍ مستقيمٍ تنزيلَ العزيزِ الرحيمِ لِتُنْذِرَ قومًا ما أُنذِرَ ءاباؤهُمْ فهُمْ غافلونَ لقدْ حَقَّ القولُ على أكثرِهِمْ فهُمْ لا يؤمنونَ إنَّا جعَلْنَا في أعناقهم أَغْلالاً فهيَ إِلى الأَذْقانِ فهُمْ مُقمَحونَ وجعَلْنَا مِنْ بينِ أَيدِيهِمْ سَدًّا ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فأَغْشَيْناهُمْ فهُمْ لا يُبْصِرونَ? سورة يس 1ـ9وفي الطريق حصلت لرسول الله معجزات ببركة الهجرة حيث إن امرأة ممن سبقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مات ولدها معها في الطريق إلى المدينة أصابه مرض فمات فتملكها الجزع فقالت اللهم إنك تعلم أني ما هاجرت إلا ابتغاء مرضاتك ومحبة في نبيك فلا تشمت بي الأعداء فقام ولدها في الحال أحياه الله تعالى، قالت فطعم وطعمنا ثم بقي حيا إلى خلافة سيدنا عمر رضي الله عنه، وقصة الطفيل بن عمرو الدوسي الذي كان معه صاحبه مرض على الطريق فلم يصبر على المرض فأخذ حديدة فقطع بها براجمه فنزف الدم منه فمات، فرءاه صاحبه في المنام مغطيا يديه قيل له مالي أراك مغطيًا يديك،قال: " قيل لي لن نصلح لك ما أفسدت قد غفر الله لي بهجرتي إلى نبيه " فلما وصل إلى رسول الله أخبره ما رأى وما حصل لصاحبه فقال - صلى الله عليه وسلم - :" اللهم وليديه فاغفر " أيها الإخوة يقول الله تعالى في القرءان الكريم ?إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا? الآيةَ، سورة التوبة/40، فهذا الصاحب هو الصدّيق رضي الله عنه وليس معناه أن الله موجود معهما في الغار، بل المعية هنا معية النصرة أي الله تعالى هو الذي ينصرنا ويحمينا، حمى الله تعالى حبيبه محمدا بأوهن البيوت وأوهن البيوت بيت العنكبوت وأرسل حمامة باضت على فم الغار فأعمى الله تعالى أبصار المشركين عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أما المؤمنون فينتظرون في المدينة المنورة حبًّا وشوقًا وصولَ الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، ويتوافدون إلى مشارف المدينة من ناحية طريق مكة وبعضهم يتسلق الأشجار وينظر إلى بعد عله يرى أثرًا لقدم رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، وذات يوم والناس في انتظار بلهف وشوق وقد انتصف النهار واشتد الحر توافدوا جماعة بعد جماعة وإذا برجل ينادي بأعلى صوته ها قد جاء من تنتظرون يا أهل المدينة وتكر الجموع عائدة لاستقبال الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - والحب يسبقها ولسان حالها يقول :
طلع البدر علينا *** من ثنيّات الوداع
اللهم أعد علينا هذه الذكرى العظيمة المباركة بالأمن والأمان يا رب العالمين.
هذا وأستغفر الله .
ــــــــــــ(1/53)
الهجرة النبوية دروس في التخطيط الدقيق والتنظيم المحكم
المستشار محمد المأمون الهضيبي
• ... التخطيط الدقيق للهجرة
• ... الشعارات الجوفاء
أحداث الهجرة وذكرياتها منارات عظيمة على الطريق، منارات للأمم والشعوب والحكام والأمراء والقادة الذين يريدون السيادة والعزة والنصر، فهي دروس عظيمة، وآمال واسعة عميقة لأصحاب الدعوات وحملة الرسالات، فما أحوجنا إليها، فهى تعلمنا كيف يرتبط تاريخ الدعوات بالحركة، حركة الفرد المؤمن، والأمة المؤمنة، والدولة المؤمنة، فالهجرة تمثل خطوات المؤمنين المباركة من مكة إلى المدينة، لإقامة دولة الإسلام الأولى، كما تمثل بحث الحائرين والمعذبين والمضطهدين عن النجاة وعن مثل أعلى، وعن هدف جليل عظيم يطمحون للوصول إليه، هذا الهدف هو الذي صنع تاريخ الأمة، وأقام الدولة الإسلامية والحضارة الإسلامية التي استظل العالم بظلالها ما يزيد عن ألف عام.
ولقد استمر بناء الأساس زمنًا طويلاً، عمّقه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بنفسه من خلال الوحي من أجل أن يستقيم البناء، فأوجد من خلال التربية القرآنية الفرد المسلم والجماعة المسلمة صاحبة العقيدة السليمة، والعبادة الصحيحة، والفهم الدقيق الشامل للإسلام، واستغرق البناء طوال الفترة المكية ثلاثة عشر عامًا، ثم ما لبثت عداوة قريش من مقاطعة وتعذيب وقتل للمؤمنين أن وقفت بالمرصاد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمنعه بكل الوسائل من تربية الأفراد ونشر الدعوة في مكة، وأصبح المسلمون كأفراد، بلا دولة تجمعهم وتحميهم وتوحدهم، لن يستطيعوا أن يؤدوا دورهم أو يثبتوا وجودهم، أو يرفعوا راية هذا الحق، أو يقفوا أمام الباطل المتكتل المعتدي المدجج بالسلاح.
إن تفكير النبي - صلى الله عليه وسلم - في إيجاد أرض غير مكة بدأ منذ خروجه إلى الطائف؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - أدرك فيها أن مكة لا تصلح لقيام الدولة، وأن كعبتها التي أقيمت للتوحيد الخالص لله وحده، حوّلها المشركون إلى ساحة تعجّ بالأصنام والأوثان، لا يمكن أن تكون وطنًا لهذه الرسالة.
ولذلك بدأ - صلى الله عليه وسلم - يعرض نفسه على القبائل، ويقول لهم في صراحة ووضوح "من يحملني، من يؤويني حتى أبلغ دعوة ربي، فإن قريش قد منعوني" السيرة لابن هشام.
وهذا موقف نتعلم منه الإيجابية الواقعية، ونتعلم منه مدى حرصه - صلى الله عليه وسلم - على طاقة أصحابه ألا تتبدد في غير موضعها، فسرعان ما نجده تحرك صوب الخروج من مكة، وقبل ذلك حرك بعض أصحابه إلى الحبشة ليكونوا رصيدًا لهذه الرسالة، ولحمايتهم من بطش قريش وكيدها.
التخطيط الدقيق للهجرة
إن هذا التخطيط الدقيق السليم، واتخاذ الأسباب، هما الضمان للنجاح في كل عمل، لقد كان - صلى الله عليه وسلم - في السنة العاشرة من البعثة، يتنقل في موسم الحج يدعو إلى الله، وفي آخر الموسم وجد ستة نفر من الخزرج أراد الله بهم خيرًا، يستعدون للرحيل، فدعاهم إلى الله، فاستجابوا وأسلموا، وكانوا اللبنة الأولى لدولة الإسلام، والنواة التي قام عليها البناء، وفي السنة التالية عادوا وقد تضاعف عددهم، واتسعت الدائرة، وتم لقاؤهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العقبة، وكانت البيعة على الأخوة الكاملة في الله، ونبذ الشرك، والتطهر من كل المعاصي.
وأرسل معهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - مصعب بن عمير رضي الله عنه "فاتح المدينة"، وكلفه بأن يقرئهم القرآن، ويعلمهم الإسلام، ويفقههم في الدين، وعلى يديه انتشر الإسلام في المدينة، ووجدت القاعدة الجديدة للإسلام، وبذلك مهّد الطريق للهجرة إلى المدينة، ثم عاد إلى مكة في موسم الحج ومعه ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان، أول هيئة تأسيسية لأمة الإسلام على ظهر الأرض، والتقوا بالرسول - صلى الله عليه وسلم - عند العقبة وكانت البيعة الكبرى على السمع والطاعة، في المنشط والمكره، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقوموا في الله، لا تخافوا لومة لائم، وعلى النصرة إذا قدمت إليكم، "وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة" أحمد والحاكم والبيهقي.
في ليلة العقبة الكبرى تمت بيعة بين قائد وجنوده على دحر الباطل وجنده، وقطع دابر الأوثان والأزلام والأصنام حتى قال أحدهم "أتدرون على ما تبايعون هذا الرجل، تبايعونه على قتال الأحمر والأسود" وكل من يقف في طريق الدعوة، ويقول البراء بن معرور: "يا رسول الله، نحن والله، أبناء الحروب ورثناها كابرًا عن كابر"، إنه قسم بالله الذي آمنوا به أنهم سيحمون الرسول - صلى الله عليه وسلم - وينصرونه، وأنهم سيقولون لا لأية قوة في الأرض سوداء كانت أم حمراء تسعى إلى الفتنة، أو الكيد للدعوة أو حَمَلتها ورجالها، إنها القوة والصراحة والصدق.. لقد وضح معنى الهجرة عند الصحابة، وفهموا معنى البيعة، ومعنى الالتزام بها، وذلك ما يحتاج المسلمون إليه اليوم حتى يقفوا على أقدامهم.
وبالهجرة تمّ الوجود الحقيقي للمسلمين، بعد أن عاشوا في مكة محاصرين مضطهدين، ورغم الأهوال والإيذاء والبطش رفضوا أن يغيّروا أو يبدلوا، بل ثبتوا على الحق الذي آمنوا به، وبالهجرة قامت دولة الإسلام التي آمنت بضرورة التنظيم والتخطيط، والحق أن حياتنا المعاصرة وظروفنا الدقيقة والصراعات الدائرة مع قوى الباطل، تحتاج منا دائمًا إلى تأكيد جوانب العقيدة والإيمان العظيم بالله، وهذا الإيمان هو الذي يدعونا إلى العمل الصالح الناجح المنظم، ويدعونا إلى ضرورة الأخذ بالأسباب في جميع جوانب الحياة، فهى التي توصلنا إلى ما نريد من صلاح وفلاح ونجاح، ومع الأخذ الكامل بالأسباب يكون التوكل على ربّ الأسباب جلّ وعلا أثناء العمل وبعد العمل وفي النتائج، بعد بذل الجهد، وكل ما في طاقة الإنسان من تفكير وتدبير.
إن شأن المؤمنين مع أخذ الأسباب أنهم يقومون بها، كأنها كل شيء للوصول للنجاح، لكنهم مع يقينهم أن كل شيء لا تمام له ولا قيام إلا بأمر الله، إن أعداء الله قديمًا وحديثًا، قال عنهم القرآن الكريم: ?وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ?(الأنفال: من الآية30) وهى صورة عميقة التأثير، وذلك حينما ينكشف أمام المؤمن أعداء الله من يهود وأمريكان وغيرهم، وهم يتآمرون ويدبرون، ويمكرون، والله من ورائهم محيط، يمكر بهم ويبطل كيدهم، وهم لا يشعرون أين قدرة الله القادر؟ قدرة الجبار القاهر؟ من هؤلاء المهازيل الضعاف؟
وتأتي ذكريات الهجرة النبوية الغالية التي أشرنا إلى بعضها والأمة العربية والإسلامية تمر بظروف خطيرة لا مثيل لها في التاريخ، فالحرب على الأبواب، والهجمة التتارية المغولية الهمجية الجديدة، تدق طبول الحرب، وعشرات الألوف من جنود الأعداء، يملأون الأرض والبحر والجو، وقد حضرت هذه الحشود، لا للسياحة، أو النزهة، بل للعدوان والقتل والتخريب، كما أن الصهيونية، تقتل وتدمر، وتهدم، ودماء الشهداء لا تجف والشعب الفلسطينى المؤمن، يتحمل بوسائله المحدودة صورايخ ودبابات وطائرات وعدوان اليهود، التي تعمل ليل نهار في كل بيت وكل شارع.
إن هذا الوجود الأجنبي في بلاد العروبة والإسلام، والسماح به وتركه لغزو المنطقة، فهو وجود استعماري يجب مقاومته بكل الوسائل المستطاعة، وذلك فرض على الأمة كلها وقواتها وحكامها، وإلا فالأمة كلها آثمة إذا قصرت وسكتت على ذلك، وتركت الحبل على الغارب.
الشعارات الجوفاء:
وفي ظل هذه الأحداث اجتمع مؤتمر القمة العربي وكان المأمول أن تكون القرارات على مستوى الأحداث.. فنرى الآليات والوسائل التي تتخذ للتفعيل والتنفيذ، وأن يكون من بين قراراته إنشاء نظام أمن عربي والعمل على توحيد الصف العربي، بل والاهتمام بإحياء اتفاقية الدفاع المشترك القوي، والعمل على سيادة العقيدة والشريعة، وقيام دفاع مشترك لصد الأخطار ولرد العدوان، وأن يكون من بين القرارات إنشاء نظام اقتصادي، وأن تدعى الشعوب للمشاركة، وأن يمنع الفساد، وأن يضرب على أيدي المفسدين، وأن تغلق المواخير والحانات، وأماكن الفسق والرذيلة، وأن نحرّم ما حرّم الله، وأن نحلّ ما أحلّ الله، فهذا طريق النصر.
لكن الذي حدث هو إطلاق لشعارات، كما يحدث في كل لقاء، والشعارات انكشف أمرها، وبان سرها، فلم يعد مجرد إطلاق شعارات مثل رفض الحرب على العراق، أو مساندة قضايا الشعوب، أو الانحياز لقضايا الحريات، أو مجرد الحماس لحقوق الإنسان، لم يعد كل هذا بكاف للاستمرار على تأييد أو كسب عواطف المغلوبين، أو المهضومين حقوقًا، المسلوبين حرية وديارًا، المطحونين استرقاقًا، إلا أن الخطر والتهديد الأمريكي لا يقتصر على العراق فحسب، ولا أفغانستان وحدها، بل إن الخطر على الجميع.
والعرب والمسلمون إن لم يقولوا اليوم لا للعدوان الأمريكي والصهيوني ويقفوا أمام طغيانه، سنصلى هذه الحروب بعد العراق، وستقع المنطقة كلها في قبضتهم ليعيثوا فسادًا، وتخريبًا، وتغييرًا وتبديلاً، قال تعالى ?... وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا?(البقرة: من الآية217).
هذا وإن إصرار الرئيس الأمريكي ومن حوله على المضي في مخططاته لغزو العراق وقتل المسلمين، ثم محاولاته إعادة رسم خريطة المنطقة على هواه سيدفع الأمور نحو مشاكل ومآزق لكل من يفكر في هذا وهم الخاسرون في المقام الأول، وسيجد هؤلاء أنفسهم أمام أوضاع خطيرة لا طاقة لهم بها، وواضح أن الاندفاع بحقد شديد نحو العدوان يؤكد أن هؤلاء لم يستفيدوا شيئًا مما حدث لهم في أفغانستان، ومن جانب آخر، لقد بلغ الغضب بالشعوب العربية والإسلامية ضد أمريكا منتهاه، وهو معرض للانفجار في أي لحظة، وخاصة بسبب موقف هذه الإدارة الأمريكية السافر المؤيد لعصابات اليهود، ومساندتها على طول الخط، وما يشكله من عدوان، بل واستهتار بكل ما هو عربي ومسلم، يدفع الأمة دفعًا للنظر لأمريكا على أنها العدو الخطير، والمعين الأول للقاتل المتسلط الذي استباح دماء المسلمين وأعراضهم وديارهم، ولا شك أن أمريكا تلعب بالنار، وستندم حين تستقر في الهاوية ?وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ?(الشعراء: من الآية227).
وللخروج من هذا الوضع الشائك يجب على الحكام، أن يشركوا الشعوب في المسئولية وأن يحترموا حرياتها، وأن يرفعوا عنها الضغوط، وأن يبصروها بحقائق الموقف، وأن الخير كله في هذه الأمة، وإنها دائمًا تلبي النداء وتسارع إلى النجدة، وتحرص على الجهاد في سبيل الله، وعلى التضحية بكل ما تملك، وهي على استعداد لمقاطعة منتجات أمريكا وغيرها، ومنازلة الصهيونية وإخراجها من أرض الإسلام، ورد كيدها في نحرها، ومحاصرتها من جميع جوانبها.
وها هي المظاهرة التاريخية بإستاد القاهرة يوم الخميس الماضي، والتي كانت تتويجًا لتعبير الشعوب المسلمة في العالم الإسلامي عن غضبتها واستعدادها للتضحية، فقد تدفق عشرات الألوف تعلن عداءها الصريح لأمريكا وبني صهيون، واستنكارها للمحاولات الاستفزازية للعدوان على العراق، وكل من شاهد ذلك يجمع بأن هذا الحدث، لم تر مصر له مثيلاً منذ سنة 1952، وهذا التجمع يمثل مصر بجميع طوائفها وفئاتها، وهو تعبير صريح للرفض التام، لسياسات الاستعمار والتدخل في شئون الغير، اشترك في هذا المهرجان جميع فئات الشعب، الرجل والمرأة والابن والبنت، فهو بحق يوم تاريخي مشهود، سيظل علامة على وعي الأمة بقضاياها، وأنها تعيش آلام المعذبين في فلسطين وفي العراق وفي كل مكان على ظهر الأرض فيه مسلم يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلى الحكام أن يثقوا في الشعوب وأن يقودوهم في الطريق الصحيح، وأن ينصروا قضايا الأمة نصرًا حقيقيًا، وأن يكونوا أمناء في قيادتهم لأمة العروبة والإسلام.
إن أحداث الهجرة جديرة بأن تفتح اليوم أعيننا على ماضينا المجيد وأن تعرفنا بحقيقة الواقع المر الأليم، الذي وصلنا إليه، ويجب أن تهتز قلوبنا وتتحرك عزائمنا، إنه من أوجب الواجبات علينا أن نعرف موقعنا في التاريخ، وكيف جمع القرآن كلمة أسلافنا، وكيف ربط على قلوبهم؟ ووجههم إلى سبيل العزة والسيادة، وقضى في حزم أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، وفي ظل القرآن وتحت رايته عمّر المسلمون الدنيا وساسوها بالعدل، وسنّوا المساواة.
فما لأحد شرف إلا بالتقوى والعمل الصالح ?إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ?(الحجرات: من الآية13).
يجب أن تتطلع أمة الإسلام إلى عودة جديدة مبصرة لدينها، فهو سر قوتها، ومصدر عزها، وليس وراء ذلك إلا أن تولّي وجهها بحزم وعزم، إلى منهج الله وحده الذي أمرنا بهذا فقال: ?اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ?(لأعراف:3).
إن الفترات المقفرة من النصر التي تمر بتاريخ هذه الأمة، لا يمكن أن تطمس حقيقة الإسلام الكبرى، تلك الحقيقة التي تقول: إن هذه الأمة هي الأمة الوسط، هي خير أمة أخرجت للناس، هي الجديرة بحمل الأمانة، هي الأمينة على ركب البشرية وهي التي تقدم أغلى ما تملك إلى ساحات الجهاد والبذل والعطاء، مادامت تتزود من عطر الإيمان بربها، والنور الذي أفاضه عليها في الهجرة.
قال تعالى: ?وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ?(النحل:41-42).
المستشار/ محمد المأمون الهضيبي
المرشد العام للإخوان المسلمين
القاهرة: 3 محرم 1424هـ
الموافق 6 / 3 / 2003م
ــــــــــــ(1/54)
الهجرة النبوية دروس وعبر
ذ. عمر احرشان ...
ونحن على مشارف بداية سنة جديدة يتذكر المسلمون خاصة والبشرية قاطبة ذكرى الهجرة النبوية التي غيرت مجرى التاريخ وبدلت أحوال العالم، وكانت بارقة الأمل لنور عم بعد طول ظلام، وعدل ساد بعد طول ظلم، فعاد ذلك بالخير على الإنسان الذي انتقل من عبادة الأوثان إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأسياد إلى عدل الإسلام ورحمته؛ هجرة وحدت قلوبا كانت متنافرة، وجمعت أجسادا كانت متفرقة، وحررت رقابا كانت مملوكة، وبعثت للعالمين خير أمة أخرجت للناس. فماذا نتذكر من هذا كله في أيامنا هذه والمسلمون أهون ساكني هذه الأرض؟ ما فائدة تذكرها والأحزان تدمي قلوب المسلمين بسبب فلسطين والعراق وأفغانستان و..؟ كيف نتذكرها ورقاب المسلمين في قبضة الاستبداد؟ وما معنى الهجرة أصلا؟ وهل مازالت تتكرر؟ وما العبرة منها؟
معاني الهجرة
الهجرة لغة هي ترك الشيء إلى آخر أو الانتقال من حالة إلى أخرى أو التنقل من مكان إلى آخر، وهي بهذا تتخذ معنى حسيا وآخر معنويا. أما في الاصطلاح فقد وردت بهذه المعاني في العديد من الآيات والأحاديث مثل:
1- هجرة المعاصي والذنوب: لقوله عز وجل: "والرجز فاهجر" المدثر 5، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهاه الله عنه"، ولقوله تعالى: "قال إني ذاهب إلى ربي سيهدين" الصافات 99.
2- هجرة الكفار: لقوله تعالى: "واهجرهم هجرا جميلا" المزمل 10.
3- تغيير المكان: لقوله تعالى: "ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة" (النساء 100).
وهذه المعاني كلها مازالت صالحة لكل زمان ومكان فما أحوج العبد المومن إلى هجر كل ما يغضب الله عز وجل من فتن وإغراءات وعادات ورعونات وهذه هجرة مفتوحة دائما فقد روى أبو داود بسند صحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها"، وهجرة المكان الذي يتسلط فيه حكام ظلمة إن خاف على إيمانه ولم يجد معينا، مطلوبة بقوله تعالى: "إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها" (النساء 97) ثم بين الله تعالى فائدة هذه الهجرة "ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله" (النساء 100)، ولا يعفي الإنسان من هجر الظلم والظالمين إلا نية الجهاد ولهذا قال الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية" رواه الدارمي عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وما أحوج المومن إلى عفة اللسان وصون حواسه كلها بتعويدها على هجر ما يغضب الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهاه الله عنه" ولقوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه مسلم عن معقل بن يسار: "العبادة في الهرج كهجرة إلي".
وكم نحن في حاجة إلى هجر الكفار الذين صاروا يعيثون فسادا في أرض المسلمين يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم، ويستحلون خيراتهم، ويدنسون مقدساتهم.
كل هذا يجعل من حادث الهجرة حدثا ممتدا في الزمان وغير محصور في مكان وغير مقتصر على ثلة دون أخرى.
الهجرة دأب الأنبياء
لم يقتصر حدث الهجرة على سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - ولكنه شمل عددا آخر من الأنبياء أذن الله لهم بذلك بعدما ضاقت صدورهم مما لحقهم من الأذى، أو بعد بزوغ فرج الله عز وجل لهم، فإبراهيم الخليل عليه السلام قال فيه الله عز وجل: "فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم" (العنكبوت 26)، وموسى عليه السلام قال فيه الله عز وجل: وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين" (القصص 20)، وكذلك قال فيه: "ولقد أوحينا إلى موسى أن اسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى" (طه 77) وقال الله تعالى كذلك: "وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون" (الشعراء 52) وفي كل هجرة يأتي الفرج ليستفيد المومن الداعي إلى الله عز وجل أن بعد الكرب الفرج، وأن مع العسر يسرا.
ــــــــــــ(1/55)
الهجرة: دروس وعبر
لا يمكن حصر الدروس المستفادة والعبر المستقاة من حدث الهجرة النبوية لأنها تتنوع من وقت لآخر، من شخص لآخر، ومن مكان لآخر، ولكن لا بأس من التذكير ببعضها فقط:
1- درس في البذل والتضحية: حيث ترك الصحابة أغلى ما يملكون، وأعز ذكرياتهم ليهاجروا إلى مكان جديد لا علم لهم به، ولا فكرة مسبقة عنه، والجانب الثاني من الدرس المهاجر إليهم الذين تقاسموا معهم ما يملكون وفي هذا قال الله تعالى "والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أتوا ويوثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة" (الحشر 9).
2- معية الله عز وجل: يقول الله تعالى: "وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين" (الأنفال 30)، فالله عز وجل لا ينسى نبيه - صلى الله عليه وسلم - كما لا ينسى عباده المومنين "إن الله يدافع عن الذين آمنوا" (الحج 38)، وإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون" (النحل 128)، وهذا ما انطبق على حادث الهجرة، حيث يقول الله عز وجل: "إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم" (التوبة 40).
وهذا ما وقع لموسى عليه السلام حيث قال قومه "إنا لمدركون" فقال موسى عليه السلام "كلا إن معي ربي سيهدين" (الشعراء 62).
فهذا اليقين هو الذي يورث الثبات والنبات، ولا يتصور فلاح بدون يقين في الله وموعوده "وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون" (الهجرة 24).
3- عدم تعلق القلب بشيء آخر غير الله عز وجل: في حادث الهجرة درس بليغ حيث قال - صلى الله عليه وسلم - "إنك من أحب بلاد الله إلى قلبي، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت"، وهذا طبيعي فيها نشأ - صلى الله عليه وسلم - وترعرع، وفيها نزل عليه - صلى الله عليه وسلم - الوحي، ولكن رغم ذلك لم يستكين إلى حبها وفضل حب الله عز وجل ورضاه ودعا ربه" اللهم وقد أخرجتني من أحب البقاع إلي فأسكني في أحب البقاع إليك". وهذا درس بليغ.
روى الإمام أحمد عن أبي يحيى مولى الزبير بن العوام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البلاد بلاد الله والعباد عباد الله فحيثما أصبت خيرا فأقم"، بل إن الله عز وجل توعد من لم يفعل ذلك "إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا" (النساء97).
4- الرؤيا حاضرة حتى في الهجرة: قال - صلى الله عليه وسلم - وهو يتحدث إلى أصحابه "رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل فذهب ظني إلى أنها اليمامة أو هجر فإذا هي يثرب".
5- إن مع العسر يسرا: العبرة بالخواتيم، والدنيا دار ابتلاء، والمومن معرض دائما للاختبار، ولكن الله عز وجل يختار للمومن خير الدنيا والآخرة، ويختم له بالحسنى وزيادة، فمهما أصابه من قرح فإن بعده فرح، وإن مع العسر يسرا، وفي الهجرة النبوية درس بليغ لذلك حيث بدل الصحابة أهلا خيرا من أهلهم، وبارك لهم في مكان جعله طاهرا لهم، وفي هذا درس بليغ.
ــــــــــــ(1/56)
الهجرة النبوية دروس وعبر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله النبي العربي القرشي، بلغ الرسالة وأدى الأمانة وكشف الله به عنا الغمة، وعلى ءاله وصحبه الطيبين الطاهرين. أما بعد، فقد قال الله تعالى: {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنال}، كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يدعو إلى الله جهرًا ويمرّ بين العرب المشركين حين كانوا يجتمعون من نواحي شتى في الموسم ويقول: "يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا" ويبين لهم أنه رسول الله، ودعا إلى العدل والإحسان ومكارم الأخلاق، ونهى عن المنكر والبغي.فآمن به بعض الناس كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وبلال وغيرهم، ولما اشتد عليهم الأذى هاجر بعض أصحاب النبي إلى الحبشة الهجرة الأولى لدعوة الناس للإسلام وكانوا نحو ثمانين منهم عثمان بن عفان وجعفر بن أبي طالب رضي الله عنهم. ولما كثر أنصار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيثرب أمر الله نبيه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - ومن معه من المسلمين بالهجرة إليها بعد بعثته - صلى الله عليه وسلم - بثلاث عشرة سنة، فصار المسلمون يهاجرون أفواجًا أفواجًا فلما رأى المشركون ذلك خشوا خروجه عليه الصلاة والسلام فكمنوا له ليقتلوه فتجهز لذلك من كل قبيلة رجل جلِد نسيب ليضربوه ضربة رجل واحد فلا يستطيع قومه أن ينتقموا له، ولكن الله أعلم نبيه بكيد المشركين وما يسعون إليه فجاء له سيدنا جبريل عليه السلام وأمره أن لا يبيت في فراشه الذي ينام فيه وأخبره بأن الله تعالى أذن له بالهجرة فأمر عليه الصلاة والسلام سيدنا علي بن أبي طالب أن يبيت مكانه وأمره أن يؤدي الأمانات إلى أهلها. ولما كانت ليلة الهجرة، كان الكفار يقفون بباب النبي صلى الله عليه وسلم، فإذ به يخرج عليهم آخذا حفنة من التراب فرماها على أعينهم، وهو يقرأ الآيات: {يس والقرءان الحكيم} إلى قوله تعالى: {وجعلنا من بين أيديهم سدًا ومن خلفهم سدًا فأغشيناهم فهم لا يبصرون} فأصابت كل واحد منهم بقدرة الله تعالى وأعمى الله أبصارهم فلم يروه. واستبشر المسلمون بقدوم النبي - صلى الله عليه وسلم - حين وصل إلى يثرب التي سماها النبي المدينة المنورة وءاخى بين أهلها والمهاجرين وسمى أهلها الأنصار لأنهم نصروا دين الله تعالى، ثم بنى مسجده الشريف ومساكنه فيها، وبه انطفأت فتنة عظيمة كانت بين قبيلتي الأوس والخزرج بيثرب بعد أن دامت سنوات فصار المسلمون على قلب رجل واحد لا يفرق بينهم طمع ولا دنيا ولا يباعدهم حسد ولا ضغينة حتى غدوا كالبنيان المرصوص يشد بعضهم أزر بعض، وقد نصر الله نبيه وأيده وكان وعد الله حقا، فهو القائل عز وجل: إنا لننصر رسلنا والذين ءامنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد.إخوة الإيمان... لم تكن هجرة النبي طلبًا للراحة ولا هربًا من المشركين ولا تخليًا عن الدعوة إلى الله ولكن تنفيذًا لأمر الله تعالى، فهو عليه الصلاة والسلام القائل: "ما لي وللدنيا وما للدنيا ولي، إنما أنا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها"، وهو القائل لعمه أبي طالب: "والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله سبحانه وتعالى أو أهلك دونه".إن الهجرة النبوية دروس وعبر نتعلم منها أن الالتزام بعقيدة التنزيه والتوحيد هو أول مراتب التعاضد واللحمة بين المسلمين فقد دعى عليه الصلاة والسلام إلى التوحيد وهو بمكة فكان من ثمراته أن انتشر الإسلام في المدينة المنورة قبل هجرته إليها، مما يؤكد علينا أهمية العمل بقوله تعالى: "خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين وقوله تعالى: كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله".كل عام وانتم بخير والله تعالى أعلم وأحكم
ــــــــــــ(1/57)
الهجرة النبوية عطاء بلا حدود وعزيمة لا تعرف اليأس
عام هجري جديد.. السبيل إلى الصحة النفسية في عالم مضطرب
* د . لطفي الشربيني
مع قدوم العام الهجري الجديد يعيش العالم الاسلامي في مناخ روحي متميز مع الذكري التي تمثلها الهجرة النبوية الشريفة , وما تضمنته من دروس وعبر متجددة تمثل املا في الخروج من هذا الواقع الاليم الي اوضاع أخري افضل تمتد آثارها لتشمل كل نواحي حياة المسلمين .. وفي هذا الموضوع نتناول هذه المناسبة مع تأملات في الدين والحياة في سياق أكثر شمولا للاجابة عن التساؤلات حول الجوانب النفسية للهجرة , ومايتعلق بها كما نلاحظها ونرصدها من وجهة النظر النفسية .. كما اننا هنا نعرض اهمية التقرب الي الله بالعبادات المختلفة , ودور الايمان بالله في الوقاية والعلاج من الامراض النفسية والمشكلات الأخري , والوصول الي حالة من الطمأنينة والاستقرار والاتزان النفسي .
وهذه المناسبة هي بمثابة موسم يتكرر كل عام .. وهي مناسبة للتأمل والتدبر والوقوف مع النفس , حيث يمر علي الخاطر هذه التأملات في النفس الانسانية , وهي في حالة الصحة النفسية او الاضطراب النفسي .. فالاسلام دين حياة يضمن التوازن بين الدنيا والآخرة .. ويهتم المنظور الإسلامي بالجوانب الروحية والمادية في حياة الانسان , ويضمن تحقيق التوازن بينها , والاضطرابات النفسية هي خلل في الاتزان النفسي ينتاب الانسان نتيجة للصراع الداخلي في نفسه بين قوي الخير والشر , أو بين المثل العليا والرغبات الانسانية الجامحة , وفي تعاليم الدين الاسلامي ما يضمن الوقاية من الاضطرابات النفسية علي المستوي الفردي ومنها الاكتئاب والقلق والوساوس المرضية .. وحل الصراعات المختلفة علي المستوي الجماعي ايضا , مما يؤدي الي الشفاء والعلاج والاصلاح . وتركز تعاليم الدين الاسلامي علي التنشئة السوية للانسان وغرس القيم والأخلاق القويمة التي تحقق السلوك السوي والاتزان النفسي , فالمسلم يجب ان يؤمن بالله سبحانه وتعالي , وبالقدر خيره وشره , ويجب ان يعبد الله سبحانه وتعالي ويذكره في كل المواقف , فذكر الله يوفر للواحد منا مقدارا دائما من الطمأنينة والسلام النفسي في مواجهة ما يهدده من امور الحياة .
وتعتبر الصراعات الداخلية هي الأساس في المشكلات والمتاعب النفسية التي يعاني منها الانسان , ويصف القرآن الكريم هذه الصراعات في بعض المواضع ومنها الآيات : ولا يزالون مختلفين إلا من رحم بك ولذلك خلقهم . ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الاموال والانفس والثمرات وبشر الصابرين .
ولما كانت الخسارة المادية هي السبب الرئيسي في حدوث القلق والاكتئاب والوساوس المرضية لدي كثير من الناس , وكذلك المكاسب التي يحصلون عليها والتي تتسبب في شعورهم بالغرور وعدم الاتزان والنتائج في كل هذه الحالات سلبية , فقد ورد وصف لذلك في آيات القرآن الكريم لكيلا تأسوا علي ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم
وللإيمان القوي بالله تعالي دور مهم في الوقاية والعلاج من الاكتئاب والاضطرابات النفسية الاخري , فالمؤمن يثق في الخالق سبحانه وتعالي , ويجد دائما المخرج من الهم وحل للأزمات التي تواجهه بالاتجاه الي الله تعالي وهو يعلم ان الله سبحانه خالق كل شيء .
كما يضع القرآن الكريم حلولا ايمانية لمواجهة أسباب الاكتئاب منها ما ورد في الآيات الكريمة خذ العفو وأمر بالعرف واعرض عن الجاهلين وقوله ولاتستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي احسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ويؤدي الالتزام بروح الدين والعقيدة في التعامل مع النفس ومع الآخرين والرجوع الي تعاليم الشريعة في كل السلوكيات الي الأمانة والجدية في العمل والمعاملة والتحلي بالصبر , والتسامح والمحافظة علي حالة من الصحة البدنية والنفسية بالابتعاد عن المحرمات ,
ويؤدي ذلك الي شعور داخلي بالراحة النفسية في مواجهة مشاعر الذنب والاكتئاب , وفي القرآن والسنة ما يرشد المؤمنين الي وسائل العلاج والشفاء لما يصيب الانسان من أمراض الجسد والنفس , قال تعالي ياأيها الناس قد جاءكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدي ورحمة للمؤمنين . وكما يقدم لنا المنظور الاسلامي النموذج الذي يكفل لنا الوقاية من الاضطرابات النفسية , فإنه يقدم أيضا العلاج لما يمكن ان يصيب الانسان من امراض واضطرابات , وقد ثبت من خلال التجربة ان تقوية الوازع الديني , اللجوء الي الله والتمسك بالعقيدة , والايمان القوي بالله تعالي من , الامور التي تفيد عمليا في علاج حالات الاكتئاب وقد أجريت الأبحاث للمقارنة بين الاشخاص الذين يتمتعون بعقيدة قوية ويحافظون علي العبادات ولديهم ايمان قوي بالله تعالي مقارنة بغيرهم تتبين ان قابليتهم للشفاء والتغلب علي اعراض الاكتئاب اكثر من المجموعات الاخري .. رغم استخدام نفس انواع العلاج الطبي في كل الحالات ومن هنا كانت هذه الدعوة العامة للمرضي والاصحاء ايضا للصحة النفسية والشفاء عن طريق الرجوع الي القرآن والسنة , وروح الدين الاسلامي .
الاهرام
ــــــــــــ(1/58)
الهجرة النبوية في فكر الشيخ الغزالي
وصفي عاشور أبو زيد **- 25/02/2004
الشيخ محمد الغزالي
لقد تمتع الشيخ محمد الغزالي -رحمه الله- بثقافة موسوعية أنتجت لنا العديد من الكتب في شتى نواحي الفكر والمعرفة؛ فنجد له تراثًا في العقيدة والتفسير، والأخلاق والتصوف، والفكر والفلسفة، والأدب والدعوة، والإصلاح والتغيير، وغيرها.
ومن أبرز المجالات التي أبدع فيها الشيخ الغزالي مجال السيرة النبوية التي له فيها صولات وجولات مع الأحداث، وتعليقات على كثير من المواقف والغزوات، يشعر القارئ معها بفكر جديد وفهم فريد لأحداث ووقائع السيرة العطرة.
ومن القضايا المهمة التي تحدث عنها الشيخ في السيرة في غير موضع من كتبه قضية الهجرة النبوية التي تمر علينا ذكراها في هذه الأيام، وقد تمركزت أفكار الشيخ حولها فيما يلي:
أولا: الهجرة حدث أكبر من أن تعلق عليه سورة واحدة
وهذه واحدة من مناقب الشيخ في فهمه للهجرة النبوية؛ ذلك أننا أَلِفْنا أن يتنزل القرآن تعليقًا على ما يكون من أحداث؛ فيوجه المسلمين التوجيه الذي يفتقرون إليه؛ فإن كان نصرًا بيّن أسبابه وكسر الغرور الذي قد يصاحب المنتصرين، وإن كانت هزيمة بيّن أسبابها ومسح التراب الذي عفر جباه المنهزمين.
لقد نزلت سورة الأنفال في أعقاب غزوة بدر، ونزلت سورة الأحزاب في أعقاب الخندق، ونزل النصف الأخير من سورة آل عمران في أعقاب أحد.. فهل نزلت في أعقاب الهجرة سورة لا سيما بعد نجاح رحلتها كما حدث في أعقاب الغزوات؟
ويجيب الشيخ على هذا التساؤل قائلا: "لم يقع هذا، ولكن وقع ما هو أخطر وأهم، كأن الله -سبحانه وتعالى- حكم بأن قصة الهجرة أكبر من أن تعلق عليها سورة واحدة، وأن تمر مناسبتها بهذا التعقيب وينتهي الأمر؛ فحكم -جل شأنه- بأن تكون ذكرى الهجرة قصة تؤخذ العبرة منها على امتداد الأيام، وتُذكر في أمور كثيرة وفي مناسبات مختلفة"(1).
ومن ناحية أخرى يرى الشيخ أنها لم تُذكر في سورة واحدة مثل المعارك؛ لأن "هذه المعارك استغرقت أيامًا قليلة، أما الهجرة فشأن آخر.. لقد ظلت أفواج المهاجرين متصلة سنين عددًا، وتطلَّب التعليق عليها مواضع عديدة"(2).
ومن ثم ذُكرت الهجرة في سور: البقرة(3) وآل عمران(4) والنساء(5) والأنفال(6) والتوبة(7) والنحل(8) والحج(9) والممتحنة(10) والتغابن(11) والحشر(12)... وكان التعليق في كل سورة إبرازًا لمعنًى مقصود(13).
ثانيًا: وزن الإيمان في الهجرة
والإيمان في فكر الشيخ له وزن لا يستهان به عموما، وفي الهجرة خصوصا؛ فليست الهجرة انتقال موظف من بلد قريب إلى بلد ناءٍ، ولا ارتحال طالب قوت من أرض مجدبة إلى أرض مخصبة، إنها إكراه رجل آمِنٍ في سربه، ممتد الجذور في مكانه على إهدار مصالحه وتضحيته بأمواله والنجاة بشخصه، وإشعاره بأنه مستباح منهوب قد يُسلَب أو يَهلك في بداية الطريق أو نهايتها، وبأنه يسير نحو مستقبل مبهم لا يدري ما يتمخض عنه من قلاقل وأحزان، ولو كان الأمر مغامرة شخص بنفسه لقيل: مغامر طياش؛ فكيف وهو ينطلق في طول البلاد وعرضها حاملاً أهله وولده؟! وكيف وهو بذلك رضيُّ الضمير وضاء الوجه(14).
ما السر وراء تحمله ذلك كله؟ وليس الأمر تحملا وحسب، إنما تحمُّلٌ يصاحبه فرحة وسرور، وصبر يحوطه رضًى وحبور، إنه الإيمان الذي يزن الجبال ولا يطيش، هذه الصعاب لا يطيقها إلا مؤمن تربى على تعاليم النبوة، وقبَس من أنوار الوحي، وتضلَّع من هدْي الإسلام.
أما الهياب الخوَّار القَلِق فما يستطيع أن يفارق أهله ووطنه، فضلا عن أن يكون بذلك مطمئن النفس رضيَّ الضمير.
ثالثًا: إيمان بالمستقبل وثقة بالغيب
هكذا يعبر الشيخ "إيمان بالمستقبل وثقة بالغيب"، وكان المنتظر أن يقول "إيمان بالغيب وثقة بالمستقبل"، لكنه عبر مع المستقبل بالإيمان ليرفع الثقة بالمستقبل إلى درجة العقيدة والإيمان بالغيب.
فلن تكتمل حقيقة الدين في قلب إلا إذا كان الإيمان فيه بالغيب قسيم الإيمان بالحاضر، ولا يصح تدين ما إلا إذا كان الإنسان مشدود الأواصر إلى ما عند الله، مثلما يتعلق بما يرى ويسمع في هذه الدنيا؛ فالمجاهد مثلا يقاتل من أجل النصر للعقيدة أو الشهادة لنفسه، لكن النصر عنده غيب، خصوصًا إذا وهنت الوسيلة، وقل العون، وترادفت العوائق، بيد أن هذا النصر ينبع من الإيمان بالله؛ فهو يمضي في طريقه المر واثقًا من النتيجة الأخيرة. إن غيره يستبعدها أو يرتاب فيها، أما هو فعقيدته أن اختلاف الليل والنهار يقربه منها وإن طال المدى؛ لأن الله حقَّ على نفسه عون الموحدين ونصر المؤمنين.. فلماذا الخوف من وعثاء الطريق وضراوة الخصوم؟ ولِمَ الشك في وعد الله القريب أو البعيد؟!
إن المهاجرين الأوائل لم ينقصهم إيمان بمستقبل أو ثقة بغيب، إنما نهضوا بحقوق الدين الذي اعتنقوه، وثبتوا على صراطه المستقيم، على الرغم من تعدد العقبات وكثرة الفتن، من أجل ذلك هاجروا لمَّا اقتضاهم الأمر أن يهاجروا، وبذلوا النفس والنفيس في سبيل عقيدتهم.
ومع أن الله تعالى وعد المؤمنين أن رسالتهم ستستقر، وأن رايتهم ستعلو، وأن الكفر لا محالة زاهق، إلا أنه علق أفئدتهم بالمستقبل البعيد وهو الدار الآخرة: {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ * أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ * فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} (الزخرف 41- 44). ومن هنا لا يعتري النفسَ مللٌ، ولا الجسم كلل؛ لأن أشواقه ممتدة إلى المستقبل البعيد، وآماله قد طارت لتحط في أفراح الآخرة عند رب العالمين.
فليس شرطًا أن يرى المرء ثمرة جهاده والتمكين لدينه وهو حي، بل ربما يطويه الموت، ولم يعرف بعدُ نتيجة الصراع بين الهدى والضلال، وهذا كثير الوقوع، لكن وعد الله لا يتخلف: "فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون"؛ فيكون هذا المرء جسرًا تعبر عليه الأفكار والمبادئ إلى جيل يرى نصرتها والتمكين لها.
والخطة المثلى أن يؤدي المرء واجبه المجرد دون استعجال لنتائج المعركة المحتدمة بين الحق والباطل؛ لأن الله قد تولاها بذاته العلية.
في إطار هذا الإيمان العميق لبى المسلمون نداء الهجرة عندما طولبوا بها، واستجابوا لنداء الله ورسوله غير خائفين ولا جازعين(15).
رابعًا: فكرة لا رحلة
فالهجرة في فكر الشيخ ليست رحلة ولا عملاً ترفيهيًّا، ولم تكرَّم الهجرة لكونها سفرًا فحسب؛ فما أكثر المسافرين قديمًا وحديثًا بين مكة والمدينة.
إن الشيء الواحد قد يكون عملاً مضنيًا أو لعبًا مريحًا مسليًا، فالمظهر والشكل لا يتغير، لكن الذي يتغير هو البواعث والجوهر والملابسات.
فصيد السمك رياضة مرحة يلهو بها بعض المترفين الناعمين، بينما هو عند أناس آخرين حرفة يرتزقون منها مع الكدح والمكابدة، والرحلة من قطر إلى قطر قد تكون للتنعم والاسترواح، وقد تكون مشيًا في مناكب الأرض لتحصيل علم، أو جمع رزق، أو فرارًا من شر محظور إلى خير منظور.
وهكذا كانت الهجرة.. خطواتٌ يتحرك بها القلب المؤمن في الحياة؛ فتتحرك في ركابها الثقة الغالية والتضحية النبيلة، إنها طريق الأبطال تزدحم بالفدائيين من حملة العقائد، يتركون البلد الذي اضطُهد دينهم فيه ليلتمسوا في مهجرهم مأمنًا لعقيدتهم ومتنفسًا لدينهم، ويقيموا فيه مجتمعا يحتضن الشعائر والشرائع.
وفي الهجرة نفسها خرج رجل إلى المدينة من أجل عشيقة يهواها، وشتان بين المهاجرين لعقيدتهم ودينهم وبين من يخطو خطوات الشهوة الصغيرة، تتحرك بصاحبها؛ فلا تفرق بينها وبين خطوات الدابة التي حملته، ورب قاعد في بلده أشرف نفسًا من هذا المهاجر التافه(16).
خامسًا: ليست تخلُّصًا من فتنة بل لإقامة مجتمع آمن
والهجرة في فكر الشيخ الغزالي ليست تخلصًا من فتنة أو فرارًا من أذًى، وإلا لم يكن هنالك مبرر للمكث ثلاثة عشر عامًا في هذا الجو الملبد بسحب الكفر والاضطهاد، إن الذي يبرر هذه المدة هو تمهيد المؤمنين بقيادة النبي -صلى الله عليه وسلم- لإقامة مجتمع جديد في بلد آمن ذهب إليه مصعب بن عمير ليستتبع الناس ويستقطبهم للإسلام؛ ذلك أن إقامة الدين في مجتمع مكة أضحى دونه خرط القتاد؛ لما اتصف به من عناد وجبروت، فلم يكُ يصلح لهذا الفكر، والدعوة ما زالت وليدة غضة طرية، والمسلمون قلة مستضعفة، فلم يكن هنالك بدٌّ من التهيئة للدين في مكان آمن، عندئذ يقوى المسلمون وتشب الدعوة.
ويعلق الشيخ قائلا: "ولا شك أن نجاح الإسلام في تأسيس وطن له وسط صحراء تموج بالكفر والجهالة هو أخطر كسب حصل عليه منذ بدأت الدعوة، وأصبح فرضًا على كل مسلم قادر أن يسهم في بناء هذا الوطن الجديد، وأن يبذل جهده في تحصينه ورفع شأنه، وأصبح ترك المدينة -بعد الهجرة إليها- نكوصًا عن تكاليف الحق، وعن نصرة الله ورسوله؛ فالحياة بها دين؛ لأن قيام الدين يعتمد على إعزازها"(17).
سادسًا: الهجرة تطبيق لقانون السببية
الأخذ بالأسباب في فكر الشيخ الغزالي دين، وهو معنًى يكرره الشيخ كثيرًا كلما عرض للحديث عن الهجرة أو للكلام عن تخلف المسلمين وتقدم غيرهم(18)، لم يقل النبي -صلى الله عليه وسلم-: إننا أوذينا وأُخرِجنا من ديارنا؛ فعناية الله ينبغي أن تلاحقنا، وحماية الله يجب أن تحوطنا، ولا حرج في بعض التقصير فإن الله سيجبر الكسر ويسد النقص... إلى آخر هذا الكلام، لم يقل النبي هذا، إنما استنفد كل وسيلة بشرية يمكن أن تؤخذ، فلم يترك ثغرة، ولا أبقى في خطته مكانًا يكمله الذكاء والفطنة.
ومع أن محمد بن عبد الله -عليه السلام- أولى الناس بتوفيق الله ورعايته، وأجدر الخلق بنصره وعنايته؛ فإن ذلك لا يغني عن إتقان التخطيط وإحكام الوسائل وسد الثغرات شيئًا مذكورًا.
ومن هنا جعل -صلى الله عليه وسلم- يفكر في الاختباء في الغار وفي تضليل أعدائه؛ فكان يتجه جنوبًا وهو يريد أن يتجه إلى الشمال، وأخذ راحلتين قويتين مستريحتين حتى تقويا على وعثاء السفر وطول الطريق. وهذا دليل مدرَّب ليعرف ما هنالك من وجوه الطرق والأماكن التي يمكن السير فيها بعيدًا عن أعين الأعداء، وهذا علي بن أبي طالب ينام مكانه ليضلل الكافرين، وذلك يسير بالأغنام وراءهما يمحو آثار المسير، ولكي يكون على دراية تامة باتجاهات العدو ونواياه تأتيه الأخبار عن طريق راعي أبي بكر، كما أتت بعض الأغذية عن طريق بنت أبي بكر... هل بقي من الأسباب شيء لم يؤخذ، أو من الوسائل لم يستنفد، أو من الثغرات لم يُسد؟ كلا كلا..
إن منطق الإسلام هو احترام قانون السببية؛ لأن الله تعالى لا ينصر المفرطين ولو كانوا مؤمنين، بل ينتقم من المقصرين المفرطين كما ينتقم من الظالمين المعتدين، "وإذا تكاسلت عن أداء ما عليك وأنت قادر، فكيف ترجو من الله أن يساعدك وأنت لم تساعد نفسك"(19). كيف ينتظر المرء من الله أن يقدم له كل شيء وهو لم يقدم له شيئًا؟!
وليس معنى الأخذ بالأسباب الاعتماد عليها، بل الطريقة المثلى في التصور الإسلامي أن يقوم المسلم بالأسباب كأنها كل شيء في النجاح، ثم يتوكل على الله كأنه لم يقدم لنفسه سببًا، ولا أحكم خطة، ولا سد ثغرة.
وهذا هو الفرق بين موقف المؤمن والكافر من الأخذ بالأسباب؛ فالمؤمن يأخذ بالأسباب ولا يعتمد عليها ولا يعتقد أنها هي التي تفعل أو تترك، بل يؤمن أن الأمور بيد الله، وأن النتائج تتم بقدرة الله، وأن شيئًا لا قيام له إلا بالله.
بينما يعتقد الكافر -إن جاز أن تكون له عقيدة- أن الأسباب هي الفاعلة والمعوَّل عليها، ولا علاقة لها بالتوفيق الأعلى.
إذن فالإسلام يحترم قانون الأخذ بالأسباب، غير أن المسلمين لم يكونوا على مستوى دينهم مع هذا القانون، يقول الشيخ في ذلك متحسرًا: "ومع حرص الإسلام على قانون السببية، وتنفيذ النبي -صلى الله عليه وسلم- له بدقة؛ فأنا لا أعرف أمة استهانت بقانون السببية وخرجت عليه وعبثت بمقدماته ونتائجه كالأمة الإسلامية"(20).
_______________________
* نقلا عن مجلة الوعي الإسلامي، العدد 449 بتصرف
(**) باحث مصري في العلوم الشرعية
(1) خطب الشيخ الغزالي: 4/211، دار الاعتصام. بدون تاريخ.
(2) علل وأدوية: 14، 5دار الكتب الإسلامية. طـ ثانية . 1405هـ.
(3) راجع آية: 218.
(4) راجع آية: 195.
(5) راجع الآيات: 97-99.
(6) راجع الآيات: 26-30.
(7) راجع الآيات: 38-40.
(8) راجع الآيتين: 41-42.
(9) راجع الآيتين: 39-40.
(10) راجع آية: 10.
(11) راجع آية: 14.
(12) راجع الآيات: 8-10.
(13) راجع: شرح الشيخ وإبرازه لمقصود كثير من الآيات في الخطب: 4/ 211-217، وعلل وأدوية: 145-150.
(14) راجع: فقه السيرة: 182، بتعليقات الشيخ الألباني. دار الدعوة. طـ ثانية. بدون تاريخ.
(15) راجع: ركائز الإيمان بين العقل والقلب: 95-100 دار الاعتصام. بدون تاريخ.
(16) تأملات في الدين والحياة: 107ـ 108، دار الدعوة. طـ أولى. 1410هـ.
(17) فقه السيرة: 181.
(18) راجع مثلاً فقه السيرة: 187-188، والخطب: 2/32-33، 3/232.
(19) علل وأدوية: 144.
(20) راجع الخطب: 2/33.
ــــــــــــ(1/59)
الهجرة النبوية لم تكن هروباً من أذى الكفار بمكة
الدوحة - الشرق :
أكد الشيخ أحمد بن محمد البوعينين في خطبته بجامع صهيب الرومي بمدينة الوكرة أمس ان الهجرة النبوية غيرت وجه التاريخ، وأنها لم تكن هروباً من أذى الكفار في مكة كما يعتقد البعض، وإنما كانت تأسيسا لدولة الإسلام التي أرسى قواعدها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وقال الشيخ البوعينين في بداية خطبته متناولاً الأحداث التي ألمت بالهجرة إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما بُعث أُمِرَ بالتبليغ والإنذار بلا قتال فظل أربعة عشر عاماً يدعو الناس الى الاسلام من غير قتال فآمن به بعض الناس كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وبلال وغيرهم، وبقي على الكفر أكثر الناس وصاروا يؤذونه وأصحابه، فلمّا اشتد عليهم الأذى هاجر بعض أصحاب النبي الى الحبشة وكانوا نحو ثمانين منهم عثمان بن عفان وجعفر بن أبي طالب.
وأضاف أنه لما كثُر أنصار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيثرب أمر اللهُ المسلمين بالهجرة إليها فخرجوا أرسالاً، ثم هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - من مكة محلّ ولادته مع أبي بكر الصدّيق بعد أن أقام في مكّة منذ البعثة ثلاث عشرة سنة يدعو الى التوحيد ونبذ الشرك. ولم تكن هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - حبّاً في الشُهرة والجاه والسلطان فقد ذهب اليه أشراف مكّة وقالوا له : إن كنت تريدُ بما جئتَ به مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرَنا مالاً، وإن كنتَ تريدُ مُلْكاً ملّكناكَ إيّاه ولكنَّ النبي العظيم أسمى وأشرف من أن يكون مقصوده الدنيا.
ولهذا كان يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمّه أبي طالب حين أتاه يطلب منه الكفّ عن التعرّض لقومه وما يعبدون: «والله يا عمّ لو وضَعُوا الشمسَ في يميني والقمرَ في يَساري على أن أترك هذا الأمر ما تركتُه حتى يظهرَه اللهُ سبحانه وتعالى أو أهْلِكَ دونه».
وبالنبي - صلى الله عليه وسلم - اقتدى الصحابة الأجلاّء فقد خرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه من مكة مع أربعين من المستضعَفين في وضح النهار ممتشقاً سيفه قائلاً لصناديد قريش بصوت جهير: «يا معشر قريش من أراد منكم أن تفصَل رأسه أو تثكله أمّه أو تترمَّل امرأته أو ييتّم ولده أو تذهب نفسه فليتبعني وراء هذا الوادي فإني مهاجر الى يثرب»، فما تجرأ أحد منهم أن يحول دونه ودون الهجرة.
وواصل في سرد أحداث الهجرة قائلاً: إنَّ المشركين كانوا قد أجمعوا أمرهم على قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجمعوا من كلّ قبيلة رجلاً جلداً نسيباً وسيطاً ليضربوه ضربة رجل واحد حتى يتفرق دمه في القبائل، فأتى جبريلُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فأمرَه أن لا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه وأخبره بمكر القوم وأنزل الله تعالى «وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ» (الأنفال: 30).
فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليَّ بنَ أبي طالب فأمره أن يبيت على فراشه ويتسَجّى ببُرْدٍ له أخضر ففعل، ثمّ خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على القوم وهم على بابه ومعه حُفنة تراب فجعل يذرّها على رؤوسهم، وأخذ الله عز وجلّ بأبصارهم عن نبيّه، وهو يقرأ «يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ» الى قوله «فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ» (سورة يس) فلما أصبَحوا فإذا هم بعليّ بن أبي طالب فسألوه عن النبي فأخبرهم أنّه خرج فركبوا في كلّ وجه يطلبونه وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد سار مع أبي بكر رضي الله عنه حتى وصلا الى غار ثور فدخلاه، وجاءت العنكبوت فنسجت على بابه، وجاءت حَمامة فباضت ورقدت، فلما وصلَ رجال قريش الى الغار قال أبو بكر الصديق: يا رسول الله لو أن أحدَهم ينظر الى قدميه لأبصرنا تحت قدميه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا أبا بكر ما ظنُّكَ باثنين الله ثالثهما».
وركز الشيخ البوعينين على قضية المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وكيف حققت هذه المؤاخاة أساس المجتمع المسلم بالمدينة، مبينا أنه لما سلّم الله نبيّه الكريم من شرّ المشركين فوصل الى المدينة المنورة ومعه صاحبه فاستقبله المؤمنون بالفرح واستبشروا بقدومه، وسمّى الرسول يثرب بالمدينة المنورة وآخى بين أهلها والمهاجرين، وسمّاهم الأنصار، وبنى مسجده ومساكنه.
وقد استقبل الأنصار إخوانهم المهاجرين ومدّوا لهم يد المساعدة والعون حتى كان الانصاري يقسِم ماله ومتاعه بينه وبين أخيه المهاجر.
فحَرِيٌّ بنا أن نقتدي بهؤلاء الأفذاذ من الناس الذين عرفوا معنى الأخوّة الحقيقي فأيّدهم الله بنصره.
وعندما دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة وكانت كل قبيلة تتنازع لأخذ زمام ناقة النبي - صلى الله عليه وسلم - ويقول النبي - صلى الله عليه وسلم - «دعوها فإنها مأمورة» وأول شيء فعله بناء المسجد...
وتناول في خطبته الثانية الفوائد والعبر والدروس المستفادة من الهجرة قائلا: إنَّ في هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - فوائد وعِبَر وإنَّ من أخبار الهجرة قِصّةُ سُراقة بن مالك ابن جُعْشم المُدلجيّ الذي لحق النبي على فرسٍ له وكان قفّاء يتبع الأثر فرءاه أبو بكر رضي الله عنه فقال لرسول الله «هذا الطّلَب لحقنا» فقال - صلى الله عليه وسلم - لصاحبه أبي بكر: «لا تَحزن إنَّ الله معنا» فلمّا دنا سُراقة ساخت به قوائم فرسه الى ركبتيه في أرض صلبة، فنادى سُراقة «يا محمد ادع الله أن يخلّصني ولك عليَّ لأعمينَّ على من ورائي» فدعا له فخلص، ثم أخبره سُراقة بما ضمِنَه له قومه عند ظفره به. ثم تركهم ورجَع ولم يُسْلِم حينها مع أنّه رأى هذه المعجزة العظيمة لأنَّ الله ما شاء له أن يُسْلِم في ذلك الوقت ولكنَّ الله تعالى شاء له أن يكون من أهل السعادة فأسلَم عامَ الفتح.
ــــــــــــ(1/60)
الهجرة النبوية معناها وأهدافها
يعتبر حادث الهجرة فيصلاً بين مرحلتين من مراحل الدعوة الإسلامية، هما المرحلة المكية والمرحلة المدنية.
ولقد كان لهذه الحادث آثار جليلة على المسلمين، ليس فقط في عصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكن آثاره الخيرة قد امتدت لتشمل حياة المسلمين في كل عصر ومصر، كما أن آثاره شملت الإنسانية أيضاً، لأن الحضارة الإسلامية التي قامت على أساس الحق والعدل والحرية والمساواة هي حضارة إنسانية، قدمت، ولا زالت تقدم للبشرية أسمى القواعد الروحية والتشريعية الشاملة، التي تنظم حياة الفرد والأسرة والمجتمع، والتي تصلح لتنظيم حياة الإنسان كإنسان بغض النظر عن مكانه أو زمانه أو معتقداته.
فسيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - لا تحد آثارها بحدود الزمان والمكان، وخاصة أنها سيرة القدوة الحسنة والقيادة الراشدة قيادة محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي أرسله الله رحمة للعالمين، وما نتج عن هذه الهجرة من أحكام ليست منسوخة ولكنها تصلح للتطبيق في كل زمان ومكان ما دام حال المسلمين مشابهاً للحال التي كانت عليها حالهم أيام الهجرة إلى يثرب.
وعلى هذا فإن من معاني الهجرة يمكن أن يأخذ بها المسلمون في زماننا هذا، بل إن الأخذ بها ضرورة حياتية، لأن الهجرة لم تكن انتقالاً مادياً من بلد إلى آخر فحسب، ولكنها كانت انتقالاً معنوياً من حال إلى حال، إذ نقلت الدعوة الإسلامية من حالة الضعف إلى القوة ومن حالة القلة إلى الكثرة، ومن حالة التفرقة إلى الوحدة، ومن حالة الجمود إلى الحركة.
فالهجرة تعني لغة ترك شي إلى آخر، أو الانتقال من حال إلى حال، أو من بلد إلى بلد، يقول تعالى: »والرجزَ فاهجرْ« (المزمل 5)، وقال أيضاً: »واهجرهم هجراً جميلاً« (المزمل 10)، وتعني بمعناها الاصطلاحي الانتقال من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام، وهذه هي الهجرة المادية، أما الهجرة الشعورية فتعني الانتقال بالنفسية الإسلامية من مرحلة إلى مرحلة أخرى بحيث تعتبر المرحلة الثانية أفضل من الأولى كالانتقال من حالة التفرقة إلى حالة الوحدة، أو تعتبر مكملة لها كالانتقال بالدعوة الإسلامية من مرحلة الدعوة إلى مرحلة الدولة.
فالهجرة المادية من بلد لا يحكم بالإسلام إلى بلد تحكمه شريعة القرآن ليست منسوخة، بل هي واجبة على جميع المسلمين إذا خشوا أن يفتنهم الذين كفروا في دينهم وعقيدتهم، لأن هدف المسلم في الحياة أن يعيش في مجتمع يساعده على طاعة الله والالتزام بأوامره وأحكامه، أو على الأقل لا يحارب بعقيدته، لأن الفتنة في الدين هي الفتنة الكبرى، فالله تبارك وتعالى يعطي الدنيا لمن يحب ولمن لا يحب، ولكن لا يعطي الدين إلا لمن أحب، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه، أو كمال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وتتم هجرة المسلم من بلد إلى آخر لعدة أهداف:
- فقد يهاجر المسلم فراراً بدينه وعقيدته، حتى لا يرده الحكام الكافرون إلى الكفر، كما فعل بعض مسلمي الجمهوريات الإسلامية حينما هاجروا من بلادهم فراراً من الشيوعية الملحدة. يقول تعالى: (( يا عبادي إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون)) (العنكبوت 56)، ويقول صلى الله عليه وسلم: {من فر بدينه من أرض إلى أرض، وإن كان شبراً منها وجبت له الجنة وكان رفيقاً لأبيه إبراهيم}.
- وقد يهاجر المسلم فراراً من ظلم اجتماعي أو اقتصادي لحق به وخشي إن لم يهاجر أن يمتد ذلك الظلم إلى دينه، يقول تعالى: »والذين هاجر في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون« (النحل 41) وقال تعالى: ((ومن يهاجر في سبيل الله يجدْ في الأرض مراغماً كثيراً وسعة، ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموتُ فقد وقع أجره على الله وكان الله غفوراً رحيماً)) (النساء 100).
- وروى الإمام أحمد عن أبي يحيى مولى الزبير بن العوام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((البلاد بلادُ الله والعباد عباد الله، فحيثما أصبت خيراً فأقم.)) وقد توعد القرآن الكريم المسلمين الذين لم يهاجروا إلى المدينة بعد أن هاجر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما توعد الأعراب الذين آمنوا ولم يهاجروا إلى المدينة حرصاً على أموالهم وديارهم، فقال تعالى: ((إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيما كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم أرض الله واسعة فتهاجروا فيها، فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً)) (النساء 98). وكانت نتيجة ذلك أن بعض هؤلاء فتن في دينه واضطر إلى إظهار التقية، ولكن هذه التقية كانت جائزة يوم أن لم تكن للإسلام دولة، أما بعد أن هاجر الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة وأقام فيها دولة الإسلام، فلم يعد لهؤلاء عذر، بل وجبت عليهم الهجرة، ولهذا نجد القرآن الكريم لا يفرض على المسلمين ولاية هؤلاء، لأنهم ليسوا أعضاء في المجتمع الإسلامي، وإذا كانت تربطهم بالمسلمين رابطة العقيدة، فإن نصرتهم تكون بناء على طلب منهم، يقول تعالى: ((والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق)) (الأنفال 72).
- ويتحتم على المسلم أن يهاجر من أرض الشرك إلى أرض الإسلام حينما تقوم الدولة الإسلامية ويتكون المجتمع الإسلامي، والهجرة هنا حسب مقتضيات الحال، إذ أن الهدف هنا تدعيم الدولة الإسلامية الجديدة بقوى بشرية وتقنية وعلمية، ولكن تقدير هذا كله متروك لقادة هذه الدولة، لأن الهجرة العشوائية قد تترك آثاراً سلبية على هذه الدولة فتصبح عقبة في طريق قوتها وانطلاقها.
- أما الهجرة الشعورية، فتعني اصطلاحاً انكار ومعاداة كل ما لا يرضي الله أو يخالف شريعة الله، ويظهر المسلم هذا العداء بكل الوسائل الممكنة، بالجوارح أو باللسان أو بالقلب، ويعمل على تغييرها بكل الامكانات المتاحة، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان.) وأساس هذه الهجرة النية، ولهذا يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه). ومن هذا نرى الشارع الحكيم قد حدد نوعين من الهجرة لا ثالث لهما: هجرة إلى الله، وهجرة لغير الله، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الهجرة خصلتان، إحداهما أن تهجر السيئات، والأخرة أن تهاجر إلى الله ورسوله، ولا تنقطع الهجرة ما تقبلت التوبة).
- إذا كانت الهجرة المادية تجب في بعض الأحوال، فإن الهجرة الشعورية واجبة على كل حال وفي كل حين، لأنها تتعلق بهجر ما لا يرضي الله تعالى، وهي قائمة إلى أن تقوم الساعة. ورد في صحيح مسلم أن مجاشع بن مسعود السلمي قال: جئتُ بأخي أبي معبد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد الفتح، فقلت: يا رسول الله بايعه على الهجرة. فقال صلى الله عليه وسلم: (قد مضت الهجرةُ بأهلها) قال مجاشع: فبأي شيء تبايعه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (على الإسلام والجهاد والخير). ويقول صلى الله عليه وسلم: (لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها). أما قوله صلى الله عليه وسلم: (لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية) فالمراد بها هنا أن لا هجرة واجبة بعد الفتح، وقد زاد مسلم (وإذا استنفرتم فانفروا).
- والمسلم مكلف بأن يهجر كل ما حرم الله، وأن يهاجر إلى ما أحل اله، لأن هذا هو الهدف من استخلافه في الأرض لقوله تعالى: (وما خلقتُ الجن والإنس إلا ليعبدون) (الذاريات 56)، وهل العبادة إلا طاعة الله فيما أمر، والانتهاء عما نهى عنه وزجر؟ ولهذا فتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باب الهجرة على مصراعيه أمام كل راغب فيه، فقال عليه الصلاة والسلام: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه). (رواه البخاري. وفي رواية ابن حبان: (المهاجر من هجر السيئات، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده).
- والمعنى الذي حدده المصطفى - صلى الله عليه وسلم - للهجرة معنى عام، تمتد جذوره إلى أعماق الحياة البشرية، فتقيمها على أسس قويمة، أسس تقوم على أساس الإصلاح والصلاح للحياة الإنسانية، والأمن والاستقرار للنفس البشرية، ولهذا كانت كلمات الحديث الشريف متكاملة في تحديد معنى الهجرة على أساس أنها عبادة ترتبط بعقيدة الإنسان وإيمانه، وعلى أساس أنها عملية بناء وإصلاح تأخذ بيد الإنسانية المعذبة إلى شاطئ الأمان والاطمئنان. فهجر ما نهى الله عنه يعني هجر السيئات والمعاصي والمفاسد القولية منها والفعلية، والتي هي الأساس في فساد البلاد والعباد، ولهذا أكد الحديث على (كف اللسان واليد) إذ أنهما الأعضاء التي تصدر عنها المفاسد القولية والفعلية، وإذا كانت هذه الأعضاء سلاحاً ذا حديثن يمكن أن يصدر عنها الخير كما يمكن أن يصدر عنها الشر، فإن إمكانية صدور الشر عنها أرجح من صدور الخير، ولهذا يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) (متفق عليه).
- واللسان اسم العضو الذي يصدر عنه الكلام، وعبر الحديث باللسان عن الكلام ليندرج تحته كل أنواع الكلام، وقدم الحديث اللسان على اليد لأن الإيذاء باللسان أسهل وأشد تأثيراً على النفس من الإيذاء باليد. ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول لحسان بن ثابت: (اهجُ المشركين فإنه أشق عليهم من رشق النبال). ورحم الله من قال:
جراحاتُ السنانِ لها التئام ولا يلتام ما جرح اللسانُ
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب اللهُ تعالى بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله، ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله بها سخطه إلى يوم يلقاه) (رواه مالك والترمذي)
واليد اسم العضو الذي تصدر عنه الأفعال، حسية كانت أم معنوية، فالحسية:
كالضرب والسرقة والكتابة والاشارة. والمعنوية: كأكل مال الناس بالباطل، والاستيلاء على حقوق الآخرين بغير حق، واليد مظهر السلطة الفعلية، ففيها يحدث الأخذ والمنع، والبطش والقهر، فإذا أضفنا إلى هذين العضوين عضواً ثالثاً هو (الفرج) نجد أن الإسلام أقام الحياة الإنسانية على دعائم قوية من تقوى الله والخلق الحسن والأمان والاطمئنان. وقد سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكثر ما يدخل الناس الجنة، فقال: (تقوى الله وحسن الخلق). وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار، فقال: (الفم والفرج) (رواه الترمذي وابن حبان والبيهقي).
وكان الهدف من الهجرة هدفاً عظيماً، وهو الانتقال بالرسالة الإسلامية من مرحلة الدعوة إلى مرحلة الدولة، والمؤرخون يقسمون سيرة الدعوة الإسلامية إلى مرحلتين متميزتين: العهد المكي الذي يمثل مرحلة الدعوة، والعهد المدني الذي مثل مرحلة الدولة. ولكنني أرى أن بين هاتين المرحلتين مرحلة انتقالية تمثل مرحلة الثورة، لأنها نقلت الدعوة الإسلامية نقلة هائلة سريعة من مؤحلة كان هدفها تربية الفرد المسلم إلى مرحلة أصبح هدفها تكوين المجتمع المسلم. ومن دعوة كانت مجرد عقيدة وفكرة إلى دعوة أصبحت شريعة ودولة، ومن حركة محدودة الآثار إلى حركة عالمية الأهداف، ومن دعوة أتباعها قلة مستضعفون إلى دعوة أتباعها سادة فاتحون. ولهذا كانت الهجرة ثورة عقائدية، بكل ما تحمله هذه العبارة من معان إيجابية، لأنها غيرت أحوال المسلمين تغييراً جذرياً، فنقلتهم من الضعف إلى القوة، ومن القلة إلى الكثرة، ومن الانحصار إلى الانتشار، ومن الاندحار إلى الانتصار، ولم تقف آثارها عند هذا الحد بل كانت ثورة على كل ما يخالف شريعة السماء وفطرة الإنسان السليمة، فشملت آثارها النواحي العقائدية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
لقد كان هدف المصطفى - صلى الله عليه وسلم - من هجرته إلى المدينة إيجاد موطئ قدم للدعوة لكي تنعم بالأمن والاستقرار حتى تستطيع أن تبني نفسها من الداخل وتنطلق لتحقيق أهدافها في الخارج، ولقد كانت هذا الهدف أملاً يراود رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال مرة لأصحابه: (رأيتُ في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب ظني إلى أنها اليمامة أو هجر، فإذا هي يثرب).
كما كان هدف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الهجرة تكثير الأنصار وإيجاد رأي عام مؤيد للدعوة، لأن وجود ذلك يوفر عليها الكثير من الجهود ويذلل في طريقها الكثير من الصعاب، والمجال الخصب الذي تتحقق فيه الأهداف، والمنطلق الذي تنطلق من الطاقات، ولهذا حرص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبعث مصعب بن عمير إلى المدينة ليعلم الأنصار الإسلام وينشر دعوة الله فيها. ولما اطمأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى وجود رأي عام مؤيد للدعوة في المدينة حثّ أصحابه إلى الهجرة إليها وقال لهم: (هاجروا إلى يثرب فقد جعل الله لكم فيها إخواناً وداراً تأمنون بها).
كما كان هدف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الهجرة استكمال الهيكل التنظيمي للدعوة، فقد كان وضعاً أن يكون الرسول القائد في مكة، والأنصار والمهاجرون في المدينة، ولهذا هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليكون بين ظهراني أتباعه، لأن الجماعة بدون قائد كالجسد بلا رأس، ولأن تحقيق أهداف الإسلام الكبرى لا يتم إلا بوجود جماعة مؤمنة منظمة، تغذ السير إلى أهدافها بخطى وئيدة.
فما أحوج المسلمين اليوم إلى هجرة إلى الله ورسوله: هجرة إلى الله بالتمسك بحبله المتين وتحكيم شرعه القويم، وهجرة إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، باتباع سنته، والاقتداء بسيرته، فإن فعلوا ذلك فقد بدأوا السسير في الطريق الصحيح، وبدأوا يأخذون بأسباب النصر، وما النصر إلا من عند الله
ــــــــــــ(1/61)
الهجرة النبوية مقدماتها ونتائجها
الطواف على القبائل طلبًا للنصرة
بعد رجوعه - صلى الله عليه وسلم - من الطائف، بدأ يعرض نفسه على القبائل في المواسم, يشرح لهم الإسلام، ويطلب منهم الإيواء والنصرة، حتى يبلغ كلام الله عز وجل وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتحرك في المواسم التجارية, ومواسم الحج التي تجتمع فيها القبائل, وفق خطة سياسية دعوية واضحة المعالم, ومحددة الأهداف، وكان يصاحبه أبو بكر الصديق, الرجل الذي تخصص في معرفة أنساب العرب وتاريخها، وكانا يقصدان «غرر الناس ووجوه القبائل، وكان أبو بكر - رضي الله عنه - يسأل وجوه القبائل ويقول لهم: كيف العدد فيكم؟ وكيف المنعة فيكم؟ وكيف الحرب فيكم؟ وذلك قبل أن يتحدث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويعرض دعوته»(1).
يقول المقريزي: «ثم عرض - صلى الله عليه وسلم - نفسه على القبائل أيام الموسم، ودعاهم إلى الإسلام، وهم بنو عامر، وغسان، وبنو فزارة، وبنو مرة، وبنو حنيفة، وبنو سليم، وبنو عبس، وبنو نصر، وثعلبة بن عكابة، وكندة، وكلب، وبنو الحارث بن كعب، وبنو عذرة وقيس بن الخطيم، وأبو اليسر أنس بن أبي رافع» وقد استقصى الواقدي أخبار هذه القبائل قبيلة قبيلة ويقال إنه - صلى الله عليه وسلم - بدأ بكندة فدعاها إلى الإسلام, ثم أتى كلبًا ثم بني حنيفة ثم بني عامر، وجعل يقول: من رجل يحملني إلى قومه فيمنعني, حتى أبلغ رسالة ربي فإن قريشًا قد منعوني أن أبلغ رسالة ربي؟ هذا وأبو لهب وراءه يقول للناس: لا تسمعوا منه فإنه كذاب(2).
ولم يقتصر الأذى على ذلك بل واجه الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما هو أشد وأقسى، فقد روى البخاري في تاريخه والطبراني في الكبير عن مدرك بن منيب أيضًا عن أبيه عن جده رضي الله تعالى عنه قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الجاهلية وهو يقول: «يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا» فمنهم من تفل في وجهه، ومنهم من حثا عليه التراب، ومنهم من سبه، حتى انتصف النهار، فأقبلت جارية بِعُسٍّ من ماء فغسل وجهه ويديه، وقال: «يا بنية لا تخشي على أبيك غلبة ولا ذلة» فقلت: من هذه؟ قالوا: زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي جارية وضيئة(3).
وقد كان أبو جهل, وأبو لهب, لعنهما الله يتناوبان على أذية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما يدعو في الأسواق والمواسم، وكان يجد منهما عنتًا كبيرًا، إضافة إلى ما يلحقه من المدعوين أنفسهم(4).
أولاً: من أساليب النبي - صلى الله عليه وسلم - في الرد على مكائد أبي جهل والمشركين أثناء الطواف على القبائل:
1- مقابلة القبائل في الليل:
فكان - صلى الله عليه وسلم - من حكمته العالية يخرج لمقابلة القبائل في ظلام الليل، حتى لا يحول بينه وبينهم أحد من المشركين(5) وقد نجح هذا العمل في إبطال مفعول الدعاية المضادة، التي كانت تتبعها قريش، كلما اتصل الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقبيلة من القبائل، والدليل على نجاح هذا الأسلوب المضاد اتصال الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالأوس والخزرج ليلا، ومن ثم كانت العقبة الأولى والثانية ليلا(6).
2- ذهاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى القبائل في منازلهم:
فقد أتى كلبًا وبني حنيفة، وبني عامر في منازلهم(7) وبذلك يحاول أن يبتعد عن مطاردة قريش، فستطيع أن يتفاوض مع القبائل بالطريقة المناسبة دونما تشويش أو تشويه من قريش.
3- اصطحاب الأعوان:
كان أبو بكر وعلي رضي الله عنهما يرافقان الرسول - صلى الله عليه وسلم - في بعض مفاوضاته مع بعض القبائل، وربما كانت هذه الرفقة لأجل ألا يظن المدعوون أنه وحيد، ولا أعوان له من أشراف قومه وأقاربه، هذا إلى جانب معرفة أبي بكر - رضي الله عنه - بأنساب العرب(8) الأمر الذي يساعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - في التعرف على معادن القبائل، فيقع الاختيار على أفضلها، لتحمل تبعات الدعوة.
4- التأكد من حماية القبيلة:
ومن الجوانب الأمنية المهمة، سؤاله - صلى الله عليه وسلم - عن المنعة والقوة لدى القبائل, قبل أن يوجه إليهم الدعوة، ويطلب منهم الحماية فقوة ومنعة القبيلة التي تحمي الدعوة شيء ضروري ومهم لا بد منه، لأن هذه القبيلة ستواجه كل قوى الشر والباطل، فلا بد أن تكون أهلاً لهذا الدور من حيث الاستعداد المعنوي والمادي، الذي يرهب الأعداء، ويحمي حمى الدعوة، ويتحمل تبعات نشرها، مزيلاً لكل العقبات التي تقف في طريقها(9).
ثانيًا: المفاوضات مع بني عامر:
__________
(1) انظر: الأنساب للسمعاني، (1/36). ... (2) المقريزي في إمتاع الأسماع (1/30، 31).
(2) انظر: المحنة في العهد المكي، ص 53.
(4) انظر: المحنة في العهد المكي، ص53.
(5) تاريخ إسلام النجيب آبادي (1/129) نقلا عن الرحيق المختوم.
(6) السيرة النبوية لابن هشام (2/44، 52) السيرة النبوية جوانب الحذر والحماية، ص116.
(7) البداية والنهاية لابن كثير، (3/140).
(8) السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحماية، ص116.
(9) نفس المصدر، ص116، 117.
اختار الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يجري مفاوضات مع بني عامر قامت تلك المفاوضات على دراسة وتخطيط، فالرسول وصاحبه أبو بكر كانا يعلمان أن بني عامر قبيلة مقاتلة كبيرة العدد وعزيزة الجانب، بل هي من القبائل الخمس التي لم يمسها سباء ولم تتبع لملك ولم تؤد إتاوة(1) مثلها مثل قريش وخزاعة(2) كما أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يعلم أن هنالك تضادًا قديمًا بين بني عامر وثقيف، فإذا كانت ثقيف امتنعت عليه من الداخل فلماذا لا يحاول أيضا تطويقها من الخارج، والاستفادة في من بني عامر بن صعصعة، فإذا استطاع النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبرم حلفًا مع بني عامر فإن موقف ثقيف سيكون على حافة الخطر(3) يذكر أصحاب السيرة أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما أتى بني عامر بن صعصعة، فدعا إلى الله, وعرض عليهم نفسه، قال له رجل منهم يقال له بَيْحَرة بن فِراس: «والله لو أني أخذت هذا الفتى لأكلت به العرب، ثم قال له: أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: «الأمر لله يضعه حيث يشاء» قال: فقال له: أَفَنُهدفُ نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمير لغيرنا؟ لا حاجة لنا بأمرك فأبوا عليه (4).
ثالثًا: المفاوضات مع بني شيبان:
ففي رواية علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: لما أمر الله عز وجل نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يعرض نفسه على قبائل العرب خرج وأنا معه.. إلى أن قال: ثم دفعنا إلى مجلس آخر, عليه السكينة والوقار فتقدم أبو بكر فسلم فقال: من القوم؟ قالوا: شيبان بن ثعلبة فالتفت أبو بكر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: بأبي وأمي, هؤلاء غُرَر الناس, وفيهم مفروق قد غلبهم لسانًا وجمالاً، وكانت له غديرتان تسقطان على تريبتيه، وكان أدنى القوم مجلسًا من أبي بكر، فقال أبو بكر: كيف العدد فيكم؟ فقال مفروق: إنا لا نزيد على الألف ولن تغلب ألف من قلة، فقال أبو بكر: وكيف المنعة فيكم؟ فقال مفروق: إنا لأشد ما نكون غضبًا حين نلقى. وأشد ما نكون لقاء حين نغضب، وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد, والسلاح على اللقاح, والنصر من عند الله يديلنا مرة, ويديل علينا أخرى, لعلك أخو قريش؟ فقال أبو بكر: إن كان بلغكم أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فها هو ذا، فقال مفروق: إلام تدعونا يا أخا قريش؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأني عبد الله ورسوله، وإلى أن تؤووني وتنصروني، فإن قريشًا قد تظاهرت على الله، وكذبت رسوله، واستغنت بالباطل عنالحق، والله هو الغني الحميد» فقال مفروق، وإلام تدعو أيضًا يا أخا قريش؟ فوالله ما سمعت كلامًا أحسن من هذا, فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُم مِّنْ إِمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) [الأنعام: 151].
__________
(1) انظر: أصول الفكر السياسي، ص182، سباء: لم تُسبَ نساؤها في الحروب.
(2) ،4) نفس المصدر، ص182. ...
(4) انظر: سيرة ابن هشام، (2/38).
فقال مفروق: دعوت والله إلى مكارم الأخلاق, ومحاسن الأعمال، ولقد أفك قوم كذبوك, وظاهروا عليك، ثم رد الأمر إلى هانئ بن قبيصة فقال: وهذا هانئ شيخنا, وصاحب ديننا, فقال هانئ: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش, وإني أرى تركنا ديننا, واتباعنا دينك لمجلس جلست إلينا, لا أول له ولا آخر لذل في الرأي, وقلة نظر في العاقبة أن الزلة مع العجلة، وإنا نكره أن نعقد على من وراءنا عقدًا، ولكن نرجع وترجع, وننظر, ثم كأنه أحب أن يشركه المثنى بن حارثة، فقال: وهذا المثنى شيخنا وصاحب حربنا فقال المثنى -وأسلم بعد ذلك-: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش, والجواب فيه جواب هانئ بن قبيصة, في تركنا ديننا ومتابعتنا دينك وإنا إنما نزلنا بين صَرَيَين أحدهما اليمامة والآخر السَّمامة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما هذان الصريان» قال: أنهار كسرى, ومياه العرب، فأما ما كان من أنهار كسرى, فذنب صاحبه غير مغفور, وعذره غير مقبول، وإنا إنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى, أن لا نحدث حدثًا ولا نؤوي محدثًا, وإني أرى هذا الأمر الذي تدعونا إليه يا أخا قريش مما تكره الملوك, فإن أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلي مياه العرب, فعلنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أسأتم في الرد إذ أفصحتم بالصدق، وإن دين الله عز وجل لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه، أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلاً حتى يورثكم الله تعالى أرضهم وديارهم ويفرشكم نساءهم، أتسبحون الله وتقدسونه؟» فقال النعمان بن شريك: اللهم فلك ذاك(1).
رابعًا: فوائد ودروس وعبر:
كانت النصرة التي طلبها النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات صفة مخصوصة، وذلك على النحو التالي:
1- كان طلب الرسول - صلى الله عليه وسلم - للنصرة من خارج مكة إنما بدأ ينشط بشكل ملحوظ بعد أن اشتد الأذى عليه, عقب وفاة عمه أبي طالب, الذي كان يحميه من قريش؛ وذلك لأن من يحمل الدعوة لن يستطيع أن يتحرك التحرك الفعّال والنشاط في حمل الدعوة، وتوفير الاستجابة لها، في جو من العنف، والضعف والإرهاب.
2- كان عرض الرسول - صلى الله عليه وسلم - نفسه على القبائل يطلب منهم النصرة، إنما هو بأمر من الله عز وجل له في ذلك، وليس مجرد اجتهاد من قبل نفسه, اقتضته الظروف التي وصلت إليها الدعوة.
3- حصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طلب النصرة بزعماء القبائل، وذوي الشرف والمكانة ممن لهم أتباع يسمعون لهم، ويطيعون؛ لأن هؤلاء هم القادرون على توفير الحماية للدعوة وصاحبها.
5- رفض النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعطي القوى المستعدة لتقديم نصرتها أي ضمانات بأن يكون لأشخاصهم شيء من الحكم والسلطان, على سبيل الثمن، أو المكافأة لما يقدمون من نصرة, وتأييد للدعوة الإسلامية؛ وذلك لأن الدعوة الإسلامية إنما هي دعوة إلى الله، فالشرط الأساسي فيمن يؤمن بها, ويستعد لنصرتها أن يكون الإخلاص لله، ونشدان رضاه، هما الغاية التي يسعى إليها من النصرة والتضحية، وليس طمعًا في نفوذ أو رغبة في سلطان، وذلك لأن الغاية التي يضعها الإنسان للشيء، هي التي تكيف نشاط الإنسان في السعي إليه، فلا بد إذن من أن تتجرد الغاية المستهدفة من وراء نصرة الدعوة، عن أي مصلحة مادية لضمان دوام التأييد لها، وضمان المحافظة عليها من أي انحراف، وضمان أقصى ما يمكن من بذل الدعم لها، وتقديم التضحيات في سبيلها(2) فيجب على كل من يريد أن يلتزم بالجماعة التي تدعو إلى الله، ألا يشترط عليها منصبًا أو عرضًا من أعراض الدنيا؛ لأن هذه الدعوة لله، والأمر لله يضعه حيث يشاء، والداخل في أمر الدعوة إنما يريد ابتداء وجه الله، والعمل من أجل رفع رايته، أما إذا كان المنصب هو همه الشاغل، فهذه علامة خطيرة تنبئ عن دخن في نية صاحبه(3) لذا قال يحيى بن معاذ الرازي: «لا يفلح من شممت منه رائحة الرياسة»(4).
5- ومن صفة النصرة التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطلبها لدعوته من زعماء القبائل, أن يكون أهل النصرة غير مرتبطين بمعاهدات دولية, تتناقض مع الدعوة, ولا يستطيعون التحرر منها، وذلك لأن احتضانهم للدعوة والحالة هذه, يعرضها لخطر القضاء عليها من قبل الدول التي بينهم وبينها تلك المعاهدات، والتي تجد في الدعوة الإسلامية خطرًا عليها وتهديدًا لمصالحها(5).
__________
(1) انظر: البداية والنهاية (3/143: 145) وفيها زيادات ليست عند الصالحي في سُبُل الرشاد (2/596: 597)
(2) انظر: الجهاد والقتال في السياسة الشرعية، لمحمد خير (1/411)
(3) انظر: وقفات تربوية من السيرة النبوية، عبد الحميد البلالي، ص72.
(4) انظر: صفة الصفوة (4/94). ...
(4) انظر:الجهاد والقتال في السياسة الشرعية (1/412).
إن الحماية المشروطة أو الجزئية لا تحقق الهدف المقصود فلن يخوض بنو شيبان حربًا ضد كسرى لو أراد القبض على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتسليمه، ولن يخوضوا حربًا ضد كسرى، لو أراد مهاجمة محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأتباعه، وبذلك فشلت المباحثات(1).
6- «إن دين الله لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه» كان هذا الرد من النبي - صلى الله عليه وسلم - على المثنى بن حارثة حين عرض على النبي - صلى الله عليه وسلم - حمايته على مياه العرب دون مياه الفرس، فمن يسبر أغوار السياسة البعيدة, يرَ بُعد النظر الإسلامي النبوي الذي لا يسامى(2).
7- كان موقف بني شيبان يتسم بالإريحية والخلق والرجولة، وينم عن تعظيم هذا النبي، وعن وضوح في العرض، وتحديد مدى قدرة الحماية التي يملكونها، وقد بينوا أن أمر الدعوة مما تكرهه الملوك، وقدر الله لشيبان بعد عشر سنين أو يزيد, أن تحمل هي ابتداء عبء مواجهة الملوك بعد أن أشرق قلبها بنور الإسلام، وكان المثنى بن حارثة الشيباني صاحب حربهم وبطلهم المغوار, الذي قاد الفتوح في أرض العراق، في خلافة الصديق - رضي الله عنه -(3)، فكان وقومه من أجرأ المسلمين بعد إسلامهم على قتال الفرس، بينما كانوا في جاهليتهم يرهبون الفرس ولا يفكرون في قتالهم، بل إنهم ردوا دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد قناعتهم بها لاحتمال أن تلجئهم إلى قتال الفرس، الأمر الذي لم يكونوا يفكرون به أبدا، وبهذا نعلم عظمة هذا الدين الذي رفع الله به المسلمين في الدنيا، حيث جعلهم سادة الأرض مع ما ينتظرون في أخراهم من النعيم الدائم في جنات النعيم(4).
المبحث الثاني -مواكب الخير وطلائع النور
قال جابر بن عبد الله الأنصاري:
مكث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة عشر سنين يتَّبع الناس في منازلهم بعكاظ ومجنة في المواسم بمنى يقول: «من يؤويني؟ من ينصرني حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة؟» حتى إن الرجل ليخرج من اليمن أو مضر، فيأتيه قومه فيقولون: احذر غلام قريش لا يفتننك، ويمشي بين رجالهم وهم يشيرون إليه بالأصابع، حتى بعثنا الله إليه من يثرب فآويناه، وصدقناه، فيخرج الرجل منا فيؤمن به ويقرئه القرآن، فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه، حتى لا يبقى دار من دور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين يظهرون الإسلام(5).
أولاً: الاتصالات الأولى بالأنصار في مواسم الحج والعمرة:
1- إسلام سويد بن الصامت:
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يسمع بقادم يقدم مكة من العرب، له اسم وشرف إلا تصدى له ودعاه إلى الله وعرض عليه ما جاء به من الهدى والحق، فقدم سويد بن الصامت- أخو بني عمرو بن عوف- مكة حاجًا أو معتمرًا، وكان سويد يسميه قومه فيهم الكامل، لجلده، وشعره، وشرفه، ونسبه، فتصدى له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين سمع به، فدعاه إلى الله والإسلام، فقال له سويد: فلعل الذي معك مثل الذي معي؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما الذي معك؟» قال: مجلة(6) لقمان، فقال له رسول الله: «اعرضها علي» فعرضها عليه فقال: «إن هذا الكلام حسن، والذي معي أفضل من هذا، قرآن أنزله الله عليّ، هو هدى ونور» فتلا عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القرآن، ودعاه إلى الإسلام، فلم يبعد منه، وقال: إن هذا القول حسن، ثم انصرف عنه فقدم المدينة على قومه فلم يلبث أن قتله الخزرج، وقد كان رجال من قومه يقولون: إنا لنراه قُتل وهو مسلم، وكان قتله يوم بَعاث(7) وعلى أية حال لا توجد دلائل على قيام سويد بن الصامت بالدعوة إلى الإسلام وسط قومه(8).
2- إسلام إياس بن معاذ:
__________
(1) انظر: التحالف السياسي في الإسلام، منير الغضبان، ص53.
(2) نفس المصدر، ص64. ...
(3) انظر: التربية القيادية (2/20).
(4) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (3/69).
(5) مسند أحمد (3/322/323، 339، 340) بإسناد حسن.
(6) المجلة: الصحيفة، وتطلق على الحكمة أي حكمة لقمان.
(7) سيرة ابن هشام (2/40) إسناد حسن. ... (4) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/195).
لما قدم أبو الحيسر بن رافع مكة ومعه فتيان من بني عبد الأشهل, فيهم إياس بن معاذ، يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج، سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاهم فجلس إليهم، فقال: «هل لكم في خير مما جئتم له؟» قالوا: وما ذاك؟ قال: «أنا رسول الله إلى العباد أدعوهم إلى أن يعبدوا الله، ولا يشركوا به شيئا وأنزل عليَّ الكتاب»، ثم ذكر لهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن فقال إياس بن معاذ وكان غلامًا حدثًا: هذا والله خير مما جئتم له فيأخذ أبو الحيسر كفًّا من تراب، فضرب به وجهه، وقال: دعنا منك، فلعمري لقد جئنا لغير هذا, فصمت إياس، وقام رسول الله عنهم، وانصرفوا إلى المدينة، وكانت وقعة بُعاث بين الأوس والخزرج، ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك، وقد روي من حضره من قومه أنه ما زال يهلل الله ويكبره ويحمده ويسبحه حتى مات، فما كانوا يشكون أنه مات مسلمًا، لقد كان استشعر الإسلام في ذلك المجلس حين سمع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما سمع(1).
ثانيًا: بدء إسلام الأنصار:
كانت البداية المثمرة مع وفد من الخزرج في موسم الحج, عند عقبة منى، قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أنتم؟». قالوا: نفر من الخزرج. قال: «أمن موالي يهود؟» قالوا: نعم. قال: «أفلا تجلسون أكلمكم؟» قالوا: بلى، فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله عز وجل وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن(2).
فلما كلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولئك النفر، ودعاهم إلى الله، قال بعضهم لبعض: يا قوم: تعلموا والله إنه للنبي الذي توعدكم به يهود، فلا يسبقنكم إليه، فأجابوه فيما دعاهم إليه، بأن صدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام، وقالوا: إنا قد تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى أن يجمعهم الله بك، فسنقدم عليهم، فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك، ثم انصرفوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - راجعين إلى بلادهم، وقد آمنوا وصدقوا(3)، وكانوا ستة نفر: وهم أبو أمامة أسعد بن زرارة، وعوف بن الحارث من بني النجار، ورافع بن مالك، وقطبة بن عامر، وعقبة بن عامر، وجابر بن عبد الله بن رئاب(4). فلما قدموا المدينة إلى قومهم ذكروا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم, ودعوهم إلى الإسلام، حتى فشا بينهم فلم تبقَ دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم(5).
فهذا أول موكب من مواكب الخير، لم يكتف بالإيمان، وإنما أخذ العهد على نفسه أن يدعو إليه قومه، وقد وفى كل منهم لدينه ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإنهم حين رجعوا نشطوا في الدعوة إلى الله، وعرضوا كلمة الهدى على أهلهم وذويهم, فلم تبقَ دار من دور المدينة إلا وفيها ذكر لمحمد صلى الله عليه وسلم، وهكذا عندما يأذن الله تأتي ساعة الحسم الفاصلة فقد كان لقاء هؤلاء مع الرسول على غير موعد، لكنه لقاء هيأه الله ليكون نبع الخير المتجدد الموصول، ونقطة التحول الحاسم في التاريخ... وساعة الخلاص المحقق من عبادة الأحجار، بل إنها على التحقيق, ساعة الحسم في مصير العالم كله ونقل الحياة من الظلمات إلى النور.
أكان معقولاً في لحظة يسيرة أن يتحول هؤلاء من وثنيين متعصبين إلى أنصار للدعوة متفتحين، وجنود للحق مخلصين، ودعاة إلى الله متجردين يذهبون إلى أقوامهم وبين جوانحهم نور، وعلى وجوههم نور، وإنهم لعلى نور؟ تلك مشيئة القدر العالي هيأت للدعوة مجالها الخصب، وحماها الأمين، والسنوات العجاف التي قضاها الرسول - صلى الله عليه وسلم - نضالاً مستمرًا، وكفاحًا دائمًا، وتطوافًا على القبائل، والتماسًا للحليف، قد ولت إلى غير رجعة، سيكون بعد اليوم للإسلام قوته الرادعة، وجيشه الباسل وسيلتقي الحق بالباطل ليصفي معه حساب الأيام الخوالي، والعاقبة للمتقين، وستتوالى على مكة منذ اليوم مواكب الخير وطلائع النور التي هيأها الله للخير لتتصل بالهداية وتسبح في النور، وتغترف من الخير، وترجع إلى يثرب بما وعت من خير، وبما حلمت من نور(6).
ومن الجدير بالتنبيه أن هذه المقابلة التي حدثت عند العقبة, وتلاقى فيها فريق من الخزرج بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وأسلموا على يديه لم تكن فيها بيعة(7)؛ لأنها كانت من نفر صغير لا يرون لأنفسهم الحق في أن يلتزموا بمعاهدة دون الرجوع إلى قبائلهم في المدينة, ولكنهم أخلصوا في تبليغ رسالة الإسلام(8).
ثالثًا: بيعة العقبة الأولى:
__________
(1) انظر: سيرة ابن هشام (2/41) بإسناد حسن. ... (2) نفس المصدر (2/41، 42).
(3) البداية والنهاية (3/148، 149). ... (4) انظر: شرح الواهب للزرقاني (1/361).
(5) انظر: البداية والنهاية (3/147).
(6) انظر: أضواء على الهجرة لتوفيق محمد سبع، ص273، 274.
(7) انظر: هجرة الرسول وصحابته للجمل، ص143.
(8) هجرة الرسول وصحابته للجمل، ص143. ... (4) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/197).(1/62)
بعد عام من المقابلة الأولى التي تمت بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأهل يثرب عند العقبة وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلاً فلقوه - صلى الله عليه وسلم - بالعقبة, وبايعوه بيعة العقبة الأولى، (عشرة من الخزرج واثنان من الأوس) مما يشير إلى نشاط وفد الخزرج الذين أسلموا في العام الماضي، تركز على وسطهم القبلي بالدرجة الأولى, لكنهم تمكنوا في نفس الوقت من اجتذاب رجال الأوس، وكان ذلك بداية ائتلاف القبيلتين تحت راية الإسلام(1).
وقد تحدث عبادة بن الصامت الخزرجي عن البيعة في العقبة الأولى، فقال: «كنت فيمن حضر العقبة الأولى، وكنا اثني عشر رجلاً، فبايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بيعة النساء وذلك قبل أن تُفترض علينا الحرب: على ألا نشرك بالله، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا, ولا نعصيه في معروف، فإن وفيتم فلكم الجنة، وإن غشيتم من ذلك شيئًا فأمركم إلى الله عز وجل, إن شاء غفر وإن شاء عذب» (2).
وبنود هذه البيعة هي التي بايع الرسول - صلى الله عليه وسلم - عليها النساء فيما بعد ولذلك عرفت باسم بيعة النساء(3)، وقد بعث الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع المبايعين مصعب بن عمير, يعلمهم الدين ويقرئهم القرآن فكان يسمى بالمدينة (المقرئ)، وكان يؤمهم في الصلاة، وقد اختاره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن علم بشخصيته من جهة، وعلم بالوضع القائم في المدينة من جهة أخرى، حيث كان - رضي الله عنه - بجانب حفظه لما نزل من القرآن، يملك من اللباقة والهدوء، وحسن الخلق والحكمة، قدرًا كبيرًا، فضلاً عن قوة إيمانه, وشدة حماسه للدين، ولذلك تمكن خلال أشهر أن ينشر الإسلام في سائر بيوتات المدينة، وأن يكسب للإسلام أنصارًا من كبار زعمائها, كسعد بن معاذ وأسيد بن الحضير، وقد أسلم بإسلامهما خلق كثير من قومهم(4).
لقد نجحت سفارة مصعب بن عمير - رضي الله عنه - في شرح تعاليم الدين الجديد، وتعليم القرآن الكريم وتفسيره, وتقوية الروابط الأخوية بين أفراد القبائل المؤمنة من ناحية، وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحبه بمكة المكرمة لإيجاد القاعدة الأمينة لانطلاق الدعوة.
وقد نزل مصعب بن عمير - رضي الله عنه - في يثرب على أسعد بن زرارة - رضي الله عنه -(5) ونشط المسلمون في الدعوة إلى الله يقود تلك الحركة الدعوية الرائدة مصعب - رضي الله عنه -، وقد انتهج منهج القرآن الكريم في دعوته وهذا الذي تعلمه من أمامه صلى الله عليه وسلم، وقد شرح لنا بعض الآيات القرآنية المكية بصورة عملية حية قال تعالى: ( ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ )[النحل:125].
رابعًا: قصة إسلام أسيد بن حضير وسعد بن معاذ رضي الله عنهما:
كان سعد بن معاذ وأسيد بن حضير سيدَي قومهما من بني عبد الأشهل، وكانا مشركين على دين قومهما، فلما سمعا بمصعب بن عمير, ونشاطه في الدعوة إلى الإسلام قال سعد لأسيد: لا أبا لك، انطلق إلى هذين الرجلين, اللذين أتيا ليسفها ضعفاءنا فازجرهما، وانههما أن يأتيا دارينا، فإنه لولا أسعد بن زرارة مني حيث قد علمت كفيتك ذلك، هو ابن خالتي ولا أجد عليه مقدمًا، فأخذ أُسيد حربته ثم أقبل عليهما، فلما رآه أسعد بن زرارة قال: هذا سيد قومه، وقد جاءك فاصدق الله فيه، قال مصعب: إن يجلس أكلمه، فوقف عليهما متشتمًا فقال: ما جاء بكما تسفهان ضعفاءنا؟ اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة، فقال له مصعب بلسان المؤمن الهادئ الواثق من سماحة دعوته: أو تجلس فتسمع فإن رضيت أمرًا قبلته، وإن كرهته نكف عنك ما تكره؟
قال أسيد: أنصفت، ثم ركز حربته وجلس إليهما، فكلمه مصعب بالإسلام، وقرأ عليه القرآن، فقالا فيما يذكر عنهما: والله لعرفنا في وجهه الإسلام -قبل أن يتكلم- في إشراقه وتسهله، ثم قال: ما أحسن هذا الكلام وأجمله! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ قالا له: تغتسل فتطهر وتطهر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق, ثم تصلي, فقام فاغتسل وطهر ثوبيه وتشهد شهادة الحق، ثم قام فركع ركعتين، ثم قال لهما: إن ورائي رجلاً إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه وسأرسله إليكم الآن: سعد بن معاذ.
__________
(2) صحيح مسلم [41- (1709)]. ... (2) انظر: الغرباء الأولون، ص185.
(4) نفس المصدر، ص186، 187.
(5) انظر: السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة، (1/441).
ثم أخذ حربته وانصرف إلى سعد وقومه وهم جلوس في ناديهم، فلما نظر إليه سعد مقبلاً قال: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بن حضير بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم. فلما وقف على النادي قال له سعد: ما فعلت؟ قال: كلمت الرجلين فوالله ما رأيت بهما بأسًا، وقد نهيتهما فقالا: نفعل ما أحببت، وقد حدثت أن بني حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة, ليقتلوه, وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك ليحقروك(1).
فقام سعد مغضبًا مبادرًا مخوفًا للذي ذكر له من أمر بني حارثة، وأخذ الحربة في يده ثم قال: والله ما أراك أغنيت شيئًا، ثم خرج إليهما سعد فوجدهما مطمئنين, فعرف أن أسيد إنما أراد أن يسمع منهما، فوقف متشتمًا، ثم قال لأسعد بن زرارة: والله يا أبا أمامة لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني، أتغشانا في دارنا بما نكره، وكان أسعد قد قال لمصعب: لقد جاء والله سيد من ورائه من قومه، إن يتبعك لا يتخلف منهم اثنان، فقال له مصعب: أَوَتقعد فتسمع؟ فإن رضيت أمرًا ورغبت فيه قبلته، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره، فقال سعد: أنصفت، ثم ركز الحربة وجلس فعرض عليه الإسلام، وقرأ القرآن، وذكر موسى بن عقبة أنه قرأ عليه أول سورة الزخرف، قالا: فعرفنا -والله- في وجهه الإسلام -قبل أن يتكلم- في إشراقه وتسهله.
ثم قال لهما: كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم، ودخلتم في هذا الدين؟ قالا: تغتسل، فتطهر وتطهر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي ركعتين، فقام فاغتسل وطهر ثوبيه، ثم تشهد شهادة الحق، ثم ركع ركعتين، ثم أخذ حربته فأقبل عائدًا إلى نادي قومه ومعه أسيد بن حضير، فلما رآه قومه مقبلاً قالوا: نحلف بالله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم, فلما وقف عليهم قال: يا بني عبد الأشهل كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا رأيًا وأيمننا نقيبة، قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله، قال: فوالله ما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلمًا أو مسلمة.
ورجع أسعد ومصعب إلى منزل أسعد بن زرارة فأقام عنده يدعو الناس إلى الإسلام, حتى لم تبْقَ دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال مسلمون ونساء مسلمات، إلا ما كان من الأصيرم، وهو عمرو بن ثابت بن وقش, فإنه تأخر إسلامه إلى يوم أحد فأسلم، واستشهد بأحد، ولم يصلِّ لله بسجدة قط، وأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه من أهل الجنة.
وقد روى ابن إسحاق بإسناد حسن عن أبي هريرة أنه كان يقول: «حدثوني عن رجل دخل الجنة لم يصل صلاة قط، فإذا لم يعرفه الناس قال هو أصيرم بني عبد الأشهل»(2).
خامسًا: فوائد ودروس وعبر:
1- اتجه التخطيط النبوي للتركيز على يثرب بالذات، وكان للنفر الستة الذين أسلموا دور كبير في بث الدعوة إلى الإسلام خلال ذلك العام.
2- كانت هناك عدة عوامل ساعدت على انتشار الإسلام في المدينة منها:
- ما طبع الله عليه قبائل الخزرج والأوس من الرقة واللين, وعدم المغالاة في الكبرياء وجحود الحق، وذلك يرجع إلى الخصائص الدموية والسلالية التي أشار إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين وفد وفد من اليمن بقوله: «أتاكم أهل اليمن هم أرق أفئدة وألين قلوبا»(3) وهما ترجعان في أصليهما إلى اليمن، نزح أجدادهم منها في الزمن القديم(4) فيقول القرآن الكريم مادحًا لهم: ( وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) [الحشر: 9].
- ومنها التشاحن والتطاحن الموجودان في قبيلتي المدينة، الأوس والخزرج، وقد قامت بينهما الحروب الطاحنة كيوم بُعاث وغيره، وقد أفنت هذه الحرب كبار زعمائهم ممن كان نظراؤهم في مكة والطائف وغيرها, حجر عثرة في سبيل الدعوة، ولم يبقَ إلا القيادات الشابة الجديدة المستعدة لقبول الحق، إضافة إلى عدم وجود قيادة بارزة معروفة يتواضع الجميع على التسليم لها، وكانوا بحاجة إلى من يأتلفون عليه، ويلتئم شملهم تحت ظله، قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: «كان يوم بُعاث يومًا قدمه الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم، فقدِم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد افترق ملؤهم وقتلت سرواتهم وجُرِّحوا, فقدمه الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - في دخولهم الإسلام»(5).
__________
(1) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/442)
(2) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/444) صحيح السيرة النبوية، ص291.
(3) البخاري، كتاب المغازي، باب قدوم الأشعريين، رقم 4388.
(4) انظر: السيرة النبوية، لأبي الحسن الندوي، ص154.
(5) البخاري، كتاب المناقب، باب مناقب الأنصار (4/367)، رقم 3777.
- ومنها مجاورتهم لليهود مما جعلهم على علم -ولو يسير- بأمر الرسالات السماوية، وخبر المرسلين السابقين، وهم في مجتمعهم يعايشون هذه القضية في حياتهم اليومية وليسوا مثل قريش التي لا يساكنها أهل كتاب وإنما غاية أمرها أن تسمع أخبارًا متفرقة عن الرسالات, والوحي الإلهي, دون أن تلح عليها هذه المسألة أو تشغل تفكيرها باستمرار، وكان اليهود يهددون الأوس والخزرج بنبي قد أظل زمانه, ويزعمون أنهم
سيتعبونه، ويقتلونهم به قتل عاد وإرم، مع أن الأوس والخزرج كانوا أكثر من اليهود(1)، وقد حكى الله عنهم ذلك في كتابه العزيز قال تعالى: ( وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ) [البقرة: 89].
وكان الأوس والخزرج قد علوا اليهود دهرًا في الجاهلية، وهم أهل شرك, وهؤلاء أهل الكتاب، فكانوا يقولون: إن نبيا قد أظل زمانه، يقاتلكم قتل عاد وإرم(2).
فلما أراد الله إتمام أمره بنصر دينه، قيض ستة نفر من أهل المدينة للنبي - صلى الله عليه وسلم - فالتقى بهم عند العقبة -عقبة مِنى- فعرض عليهم الإسلام فاستبشروا وأسلموا، وعرفوا أنه النبي الذي توعدهم به اليهود، ورجعوا إلى المدينة، فأفشوا ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيوتها(3) وكان هذا هو (بدء إسلام الأنصار) كما يسميه أهل السير(4).
3- حضر بيعة العقبة الأولى اثنان من الأوس، وهذا تطور مهم لمصلحة الإسلام، فبعد الحرب العنيفة في بُعاث استطاع النفر الستة من الخزرج أن يتجاوزوا قصة الصراعات الداخلية ويحضروا معهم سبعة جددًا، فيهم اثنان من الأوس، وهذا يعني أنهم وفوا بالتزاماتهم التي قطعوها على أنفسهم في محاولة رأب الصدع، وتوجيه التيار لدخول الإسلام في المدينة, أوسها وخزرجها, وتجاوز الصراعات القبلية القائمة.
4- بذل الرسول - صلى الله عليه وسلم - كل ما يملك من جهد لتعبئة الطاقات الإسلامية في المدينة، ولم يكن هناك أدنى تقصير للجهد البشري الممكن في بناء القاعدة الصلبة التي تقوم على أكتافها الدولة الجديدة، واحتمل هذا الجهد سنتين كاملتين من الدعوة والتنظيم(5).
5- نجحت التعبئة الإيمانية في نفوس من أسلم من الأنصار، وشعرت الأنصار بأنه قد آن الأوان لقيام الدولة الجديدة، وكما يقول جابر - رضي الله عنه - وهو يمثل هذه الصورة الرفيعة الرائعة: «حتى متى نترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطوف ويطرد في جبال مكة ويخاف»(6).
6- وصل مصعب - رضي الله عنه - إلى مكة قبيل الموسم من العام الثالث عشر للبعثة، ونقل الصورة الكاملة التي انتهت إليها أوضاع المسلمين هناك، والقدرات والإمكانات المتاحة، وكيف تغلغل الإسلام في جميع قطاعات الأوس والخزرج، وأن القوم جاهزون لبيعة جديدة قادرة على حماية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومنعته(7).
7- كان اللقاء الذي غير مجرى التاريخ في موسم الحج في السنة الثالثة عشر من البعثة، حيث حضر لأداء مناسك الحج بضع وسبعون نفسًا من المسلمين من أهل يثرب، فلما قدموا مكة جرت بينهم وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - اتصالات سرية, أدت إلى اتفاق الفريقين على أن يجتمعوا في أوسط أيام التشريق في الشعب الذي عند العقبة, حيث الجمرة الأولى من منى، وأن يتم هذا الاجتماع في سرية تامة في ظلام الليل(8).
المبحث الثالث -بيعة العقبة الثانية
قال جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -: [.. فقلنا، حتى متى نترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطرد في جبال مكة ويخاف، فرحل إليه منا سبعون رجلاً حتى قدموا عليه في الموسم، فواعدناه شعب العقبة فاجتمعنا عليه من رجل ورجلين, حتى توافينا فقلنا: يا رسول الله علام نبايعك؟
قال: «تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقولوا في الله, لا تخافون في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة».
__________
(1) انظر: الغرباء الأولون، ص183. ...
(2) الدر المنثور للسيوطي، (1/216)
(3) انظر: ابن هشام (1/44).
(4) نفس المصدر (1/39: 44)
(5) ،2) انظر: التحالف السياسي، ص71.
(7) نفس المصدر، ص72.
(8) المصدر السابق، ص73.
قال: فقمنا إليه فبايعناه، وأخذ بيده أسعد بن زرارة، وهو من أصغرهم، فقال: رويدًا يا أهل يثرب، فإنا لم نضرب أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة، وقتلُ خياركم، وأن تعضكم السيوف، فإما أنتم قوم تصبرون على ذلك وأجركم على الله، وإما أنتم تخافون من أنفسكم جبينة, فبينوا ذلك, فهو أعذر لكم عند الله قالوا: أمط عنا يا أسعد، فوالله لا ندع هذه البيعة أبدًا، ولا نسليها أبدًا, قال: فقمنا إليه فبايعناه، فأخذ علينا وشرط، ويعطينا على ذلك الجنة](1).
وهكذا بايع الأنصار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الطاعة والنصرة والحرب؛ لذلك سماها عبادة بن الصامت بيعة الحرب(2)، أما رواية الصحابي كعب بن مالك الأنصاري، وهو أحد المبايعين في العقبة الثانية، ففيها تفاصيل مهمة قال: «خرجنا في حجاج قومنا من المشركين وقد صلينا وفقهنا.. ثم خرجنا إلى الحج، وواعدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العقبة من أوسط أيام التشريق... وكنا نكتم من معنا من المشركين أمرنا، فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا، حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله، نتسلل تسلل القطا مستخفين، حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة، ونحن ثلاثة وسبعون رجلاً ومعنا امرأتان من نسائنا، نُسيبة بنت كعب، وأسماء بنت عمرو، فاجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى جاءنا ومعه العباس بن عبد المطلب، وهو يومئذ على دين قومه, إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه, ويتوثق له، فلما جلس كان أول متكلم العباس بن عبد المطلب: فبين أن الرسول في منعة من قومه بني هاشم، ولكنه يريد الهجرة إلى المدينة؛ ولذلك فإن العباس يريد التأكد من حماية الأنصار له وإلا فليدعوه فطلب الأنصار أن يتكلم رسول الله، فيأخذ لنفسه ولربه ما يحب من الشروط.
قال: «أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم» فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: نعم، والذي بعثك بالحق لنمنعك مما نمنع منه أزرنا، فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أهل الحرب، وأهل الحلقة، ورثناها كابرًا عن كابر، فقاطعه أبو الهيثم بن التيهان متسائلا: يا رسول الله، إن بيننا وبين القوم حبالاً، وإنا قاطعوها (يعني اليهود) فهل عسيتم إن نحن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدَعنا؟ فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: «بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم, وأنتم مني، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم».
ثم قال: «أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيبًا ليكونوا على قومهم بما فيهم».
فأخرجوا منهم اثني عشر نقيبًا تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس.
وقد طلب الرسول - صلى الله عليه وسلم - منهم الانصراف إلى رحالهم، وقد سمعوا الشيطان يصرخ منذرًا قريشًا، فقال العباس بن عبادة بن نضلة: والله الذي بعثك بالحق، إن شئت لنميلنَّ على أهل منى غدًا بأسيافنا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم» فرجعوا إلى رحالهم، وفي الصباح جاءهم جمع من كبار قريش، يسألونهم عما بلغهم من بيعتهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - ودعوتهم له للهجرة، فحلف المشركون من الخزرج والأوس بأنهم لم يفعلوا والمسلمون ينظرون إلى بعضهم(3) قال: ثم قال القوم وفيهم الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي، وعليه نعلان جديدان قال: فقلت له كلمة, كأني أريد أن أشرك القوم فيما قالوا بها: يا أبا جابر أما تستطيع أن تتخذ وأنت سيد من ساداتنا مثل نعلي هذا الفتى من قريش؟ قال: فسمعهما الحارث فخلعهما من رجليه ثم رمى بها إلي، وقال: والله لتنتعِلنَّهما، قال: يقول أبو جابر: مه أحفظت والله الفتى, فاردد إليه نعليه، قال: قلت: لا، والله لا أردهما فأل والله صالح، لئن صدق الفأل لأسلُبنَّه (4).
دروس وعبر وفوائد:
__________
(1) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/199)
(2) مسند الإمام أحمد (5/316) بإسناد صحيح لغيره.
(3) انظر: ابن هشام (2/61) بإسناد حسن وانظر: السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/201).
(4) انظر: مجمع الزوائد (6/42: 46) وقال الألباني في تحقيق فقه السيرة للغزالي، وهذا سند صحيح وصححه ابن حبان كما في الفتح (7/475).
1- كانت هذه البيعة العظمى بملابساتها، وبواعثها، وآثارها، وواقعها التاريخي (فتح الفتوح)؛ لأنها كانت الحلقة الأولى في سلسلة الفتوحات الإسلامية التي تتابعت حلقاتها في صور متدرجة مشدودة بهذه البيعة، منذ اكتمل عقدها بما أخذ فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عهود ومواثيق على أقوى طليعة من طلائع أنصار الله الذين كانوا أعرف الناس بقدر مواثيقهم وعهودهم، وكانوا أسمح الناس بالوفاء بما عاهدوا الله ورسوله عليه, من التضحية, مهما بلغت متطلباتها من الأرواح والدماء والأموال, فهذه البيعة في بواعثها هي بيعة الإيمان بالحق ونصرته، وهي في ملابساتها قوة تناضل قوى هائلة, تقف متألبة عليها، ولم يغب عن أنصار الله قدرها ووزنها في ميادين الحروب والقتال، وهي في آثارها تشمير ناهض بكل ما يملك أصحابها من وسائل الجهاد القتالي في سبيل إعلاء كلمة الله على كل عالٍ مستكبر في الأرض حتى يكون الدين كله لله، وهي في واقعها التاريخي صدق وعدل, ونصر واستشهاد, وتبليغ لرسالة الإسلام(1).
2- إن حقيقة الإيمان وأثره في تربية النفوس تظهر آثارها في استعداد هذه القيادات الكبرى لأن تبذل أرواحها ودماءها في سبيل الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يكون لها الجزاء في هذه الأرض كسبًا ولا منصبًا ولا قيادة ولا زعامة، وهم الذين أفنوا عشرات السنين من أعمارهم يتصارعون على الزعامة والقيادة, إنه أثر الإيمان بالله وبحقيقة هذا الدين عندما يتغلغل في النفوس(2).
3- يظهر التخطيط العظيم في بيعة العقبة، حيث تمت في ظروف غاية في الصعوبة، وكانت تمثل تحديًّا خطيرًا وجريئًا لقوى الشرك في ذلك الوقت؛ ولذلك كان التخطيط النبوي لنجاحها في غاية الإحكام والدقة على النحو التالي(3):
أ- سرية الحركة والانتقال لجماعة المبايعين، حتى لا ينكشف الأمر, فقد كان وفد المبايعة المسلم, سبعين رجلا وامرأتين، من بين وفد يثربي قوامه نحو خمسمائة، مما يجعل حركة هؤلاء السبعين صعبة، وانتقالهم أمرًا غير ميسور، وقد تحدد موعد اللقاء في ثاني أيام التشريق بعد ثلث الليل، حيث النوم قد ضرب أعين القوم، وحيث قد هدأت الرِّجْل، كما تم تحديد المكان في الشعب الأيمن، بعيدا عن عين من قد يستيقظ من النوم لحاجة(4).
ب- الخروج المنظم لجماعة المبايعين إلى موعد ومكان الاجتماع، فخرجوا يتسللون مستخفين، رجلاً رجلاً، أو رجلين رجلين.
ج- ضرب السرِّية التامة على موعد ومكان الاجتماع، بحيث لم يعلم به سوى العباس بن عبد المطلب الذي جاء مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ليتوثق له(5) وعلي بن أبي طالب الذي كان عينًا للمسلمين على فم الشِّعب، وأبو بكر الذي كان على فم الطريق وهو الآخر عينٌ للمسلمين(6)، أما من عداهم من المسلمين, وغيرهم فلم يكن يعلم عن الأمر شيئًا، وقد أمر جماعة المبايعين أن لا يرفعوا الصوت، وأن لا يطيلوا في الكلام، حذرًا من وجود عين يسمع صوتهم، أو يجس حركتهم(7).
د- متابعة الإخفاء والسرية حين كشف الشيطان أمر البيعة، فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يرجعوا إلى رحالهم ولا يحدثوا شيئًا، رافضًا الاستعجال في المواجهة المسلحة التي لم تتهيأ لها الظروف بعد، وعندما جاءت قريش تستبرئ الخبر، موه المسلمون عليهم بالسكوت، أو المشاركة بالكلام الذي يشغل عن الموضوع(8).
هـ- اختيار الليلة الأخيرة من ليالي الحج، وهي ليلة الثالثة عشر من ذي الحجة، حيث سينفر الحجاج إلى بلادهم ظهر اليوم التالي وهو اليوم الثالث عشر، ومن ثم تضيق الفرصة أمام قريش في اعتراضهم أو تعويقهم إذا انكشف أمر البيعة، وهو أمر متوقع وهذا ما حدث(9).
4- كانت البنود الخمسة للبيعة من الوضوح والقوة بحيث لا تقبل التمييع والتراخي, إنه السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في اليسر والعسر, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقيام في الله لا تأخذهم فيه لومة لائم, ونصر لرسول الله وحمايته إذا قدم المدينة(10).(1/63)
5- سرعان ما استجاب قائد الأنصار دون تردد البراء بن معرور, قائلا: والذي بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا, فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أبناء الحرب, وأهل الحلقة، ورثناها كابرًا عن كابر، فهذا زعيم الوفد يعرض إمكانيات قومه على رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقومه أبناء الحرب والسلاح(11)، ومما تجدر الإشارة إليه في أمر البراء أنه عندما جاء مع قومه من يثرب قال لهم: إني قد رأيت رأيًا فوالله ما أرى أتوافقوني عليه أم لا؟
__________
(1) انظر: محمد رسول الله، محمد الصادق عرجون (2/400)
(2) انظر: التربية القيادية (2/103). (3،4) انظر: الهجرة النبوية المباركة، د. عبد الرحمن البر، ص61.
(5) الهجرة النبوية المباركة، ص62. ... (2) انظر: التربية القيادية (2/109).
(7) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص62. ... (4) المصدر نفسه، ص65.
(9) نفس المصدر، ص67. ... (6،7) انظر: التحالف السياسي، ص82.
فقالوا: وما ذاك؟ قال: قد رأيت أن لا أدع هذه البنية -يعني الكعبة- مني بظهر، وأن أصلي إليها، فقالوا له: والله ما بلغنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي إلا إلى الشام ببيت المقدس، وما نريد أن نخالفه، فكانوا إذا حضرت الصلاة صلوا إلى بيت المقدس، وصلى هو إلى الكعبة، واستمروا كذلك حتى قدموا مكة، وتعرفوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو جالس مع عمه العباس بالمسجد الحرام، فسأل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - العباسَ: «هل تعرف هذين الرجلين يا أبا الفضل» قال: نعم، هذا البراء بن معرور سيد قومه، وهذا كعب بن مالك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الشاعر؟» قال: نعم, فقص عليه البراء ما صنع في سفره من صلاته إلى الكعبة، قال: فماذا ترى يا رسول الله؟ قال: «قد كنت على قبلة لو صبرت عليها»(1) قال كعب: فرجع البراء إلى قبلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلى معنا إلى الشام، فلما حضرته الوفاة أمر أهله أن يوجهوه قبل الكعبة، ومات في صفر قبل قدومه - صلى الله عليه وسلم - بشهر، وأوصى بثلث ماله للنبي صلى الله عليه وسلم، فقبله ورده على ولده، وهو أول من أوصى بثلث ماله(2) ويستوقفنا في هذا الخبر:
أ- الانضباط والالتزام من المسلمين بسلوك رسولهم وأوامره، وإن أي اقتراح مهما كان مصدره يتعارض مع ذلك, يعتبر مرفوضًا، وهذه من أولويات الفقه في دين الله، تأخذ حيزها من حياتهم وهم بعد ما زالوا في بداية الطريق.
ب- إن السيادة لم تعد لأحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن توقير أي إنسان واحترامه, إنما هو انعكاس لسلوكه والتزامه بأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم، وهكذا بدأت تنزاح تقاليد جاهلية لتحل محلها قيم إيمانية, فهي المقاييس الحقة التي بها يمكن الحكم على الناس تصنيفًا وترتيبًا(3).
6- كان أبو الهيثم بن التيِّهان صريحًا عندما قال للرسول صلى الله عليه وسلم: إن بيننا وبين الرجال حبالاً وإنا قاطعوها، يعني اليهود، فهل عسيتم إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله, أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: «بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم»، وهذا الاعتراض يدلنا على الحرية العالية, التي رفع الله تعالى المسلمين إليها بالإسلام، حيث عبر عمَّا في نفسه بكامل حريته(4) وكان جواب سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم - عظيمًا، فقد جعل نفسه جزءًا من الأنصار والأنصار جزءًا منه(5).
7- يؤخذ من اختيار النقباء دروس مهمة منها:
أ- أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يعين النقباءَ إنما ترك طريق اختيارهم إلى الذين بايعوا، فإنهم سيكونون عليهم مسئولين وكفلاء، والأولى أن يختار الإنسان من يكفله ويقوم بأمره، وهذا أمر شوري وأراد الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يمارسوا الشورى عمليًّا من خلال اختيار نقبائهم.
ب- التمثيل النسبي في الاختيار، من المعلوم أن الذين حضروا البيعة من الخزرج أكثر من الذين حضروا البيعة من الأوس، ثلاثة أضعاف من الأوس بل يزيدون، ولذلك كان النقباء ثلاثة من الأوس وتسعة من الخزرج(6).
ج- جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النقباء مشرفين على سير الدعوة في يثرب، حيث استقام عود الإسلام هناك، وكثر معتنقوه، وأراد الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يشعرهم أنهم لم يعودوا غرباء لكي يبعث إليهم أحدًا من غيرهم، وأنهم غدوا أهل الإسلام وحماته وأنصاره(7).
8- تأكد زعماء مكة من حقيقة الصفقة التي تمت بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والأنصار، فخرجوا في طلب القوم فأدركوا سعد بن عبادة بأذاخر، والمنذر بن عمرو وكلاهما كان نقيبًّا، فأما المنذر فأعجز القوم، وأما سعد فأخذوه، فربطوا يديه إلى عنقه بنسع رحله، ثم أقبلوا به حتى أدخلوه مكة يضربونه ويجذبونه بجمته, وكان ذا شعر كثير(8) واستطاع أن يتخلص من قريش بواسطة الحارث بن حرب بن أمية وجبير بن مطعم؛ لأنه كان يجير تجارتهم ببلده، فقد أنقذته أعراف الجاهلية، ولم تنقذه سيوف المسلمين، ولم يجد في نفسه غضاضة من ذلك، فهو يعرف أن المسلمين مطاردون في مكة، وعاجزون عن حماية أنفسهم. (9)
__________
(1) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة، (1/444). ... (2) نفس المصدر، (1/445).
(3) انظر: معين السيرة النبوية للشامي، ص135. ... (4) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (3/97).
(5) انظر: التربية القيادية (2/67). ... (6) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس، ص209.
(7) انظر: دراسات في السيرة النبوية، د. عماد الدين خليل، ص132.
(8) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (3/107). ... (3) انظر: التربية القيادية، (2/116).
9- في قول العباس بن عبادة بن نضلة: والله الذي بعثك بالحق إن شئت لنميلن على أهل منى غدًا بأسيافنا، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم» درس تربوي بليغ, وهو أن الدفاع عن الإسلام، والتعامل مع أعداء هذا الدين ليس متروكًا لاجتهاد أتباعه، وإنما هو خضوع لأوامر الله تعالى وتشريعاته الحكيمة فإذا شرع الجهاد فإن أمر الإقدام أو الإحجام متروك لنظر المجتهدين بعد التشاور ودراسة الأمر من جميع جوانبه(1)، وكلما كانت عبقرية التخطيط السياسي أقوى أدت إلى نجاح المهمات أكثر، وإخفاء المخططات عن العدو وتنفيذها هو الكفيل بإذن الله بنجاحها «ولكن ارجعوا إلى رحالكم»(2).
10- كانت البيعة بالنسبة للرجال ببسط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده وقالوا: له ابسط يدك، فبسط يده فبايعوه، وأما بيعة المرأتين اللتين شهدتا الوقعة فكانت قولاً، ما صافح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأة أجنبية قط، فلم يتخلف أحد في بيعته - صلى الله عليه وسلم - حتى المرأتان بايعتا بيعة الحرب، وصدقتا عهدهما، فأما نسيبة بنت كعب (أم عمارة) فقد سقطت في أحد، وقد أصابها اثنا عشر جرحًا، وقد خرجت يوم أحد مع زوجها زيد بن عاصم بن كعب ومعها سقاء تسقي به المسلمين، فلما انهزم المسلمون انحازت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكانت تباشر القتال، وتذب عنه بالسيف وقد أصيبت بجراح عميقة وشهدت بيعة الرضوان(3) وقطع مسيلمة الكذاب ابنها إربا إربا فما وهنت وما استكانت(4)، وشهدت معركة اليمامة في حروب الردة مع خالد بن الوليد فقاتلت حتى قطعت يدها وجرحت اثني عشر جرحًا(5)، وأما الثانية فهي أسماء ابنة عمرو من بني سليمة قيل: هي والدة معاذ بن جبل، وقيل: ابنة عمة معاذ بن جبل رضي الله عنهم جميعًا(6).
11- عندما نراجع تراجم أصحاب العقبة الثانية، من الأنصار في كتب السير والتراجم نجد أن هؤلاء الثلاثة والسبعين قد استشهد قرابة ثلثهم على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعده، ونلاحظ أنه قد حضر المشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرابة النصف، فثلاثة وثلاثون منهم كانوا بجوار الرسول - صلى الله عليه وسلم - في جميع غزواته، وأما الذين حضروا غزوة بدر فكانوا قرابة السبعين.
لقد صدق هؤلاء الأنصار عهدهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمنهم من قضى نحبه ولقي ربه شهيدًا، ومنهم من بقي حتى ساهم في قيادة الدولة المسلمة وشارك في أحداثها الجسام بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وبمثل هذه النماذج قامت دولة الإسلام، النماذج التي تعطي ولا تأخذ، والتي تقدم كل شيء، ولا تطلب شيئًا إلا الجنة، ويتصاغر التاريخ في جميع عصوره ودهوره أن يحوي في صفحاته، أمثال هؤلاء الرجال(7).
المبحث الرابع -الهجرة إلى المدينة
أولاً: التمهيد والإعداد لها:
إن الهجرة إلى المدينة سبقها تمهيد وإعداد وتخطيط من النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك بتقدير الله تعالى وتدبيره، وكان هذا الإعداد في اتجاهين، إعداد في شخصية المهاجرين، وإعداد في المكان المهاجر إليه.
1- إعداد المهاجرين:
لم تكن الهجرة نزهة أو رحلة يروح فيها الإنسان عن نفسه، ولكنها مغادرة الأرض والأهل، ووشائج القربى، وصلات الصداقة والمودة، وأسباب الرزق، والتخلي عن كل ذلك من أجل العقيدة، ولهذا احتاجت إلى جهد كبير حتى وصل المهاجرون إلى قناعة كاملة بهذه الهجرة ومن تلك الوسائل:
- التربية الإيمانية العميقة التي تحدثنا عنها في الصفحات الماضية.
- الاضطهاد الذي أصاب المؤمنين حتى وصلوا إلى قناعة كاملة بعدم إمكانية المعايشة مع الكفر.
- تناول القرآن المكي التنويه بالهجرة، ولفت النظر إلى أن أرض الله واسعة، قال تعالى: ( قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) [الزمر: 10].
ثم تلا ذلك نزول سورة الكهف، وتحدثت عن الفتية الذين آمنوا بربهم وعن هجرتهم من بلدهم إلى الكهف، وهكذا استقرت صورة من صور الإيمان في نفوس الصحابة وهي ترك أهلها ووطنها من أجل عقيدتها.
__________
(1) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (3/104). ... (5) انظر: التحالف السياسي في الإسلام، ص96.
(3) انظر: المرأة في العهد النبوي، دكتورة عصمة الدين، ص108.
(4) انظر: التحالف السياسي، ص87.
(5) ابن هشام (2/80) أسد الغابة (5/395) البداية والنهاية (3/158: 166) الإصابة (8/8) رقم 48، 49 نقلا عن المرأة في العهد النبوي، ص108.
(6) انظر: المرأة في العهد النبوي، ص108. ...
(7) انظر: التربية القيادية (2/140).
ثم تلا ذلك آيات صريحة تتحدث عن الهجرة في سورة النحل، قال تعالى: ( وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ صدق الله العظيم الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) [النحل: 41،42].
وفي أواخر السورة يؤكد المعنى مرة أخرى بقوله تعالى: ( ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِن بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ) [النحل: 110].
وكانت الهجرة إلى الحبشة تدريباً عملياًّ على ترك الأهل والوطن(1).
2- الإعداد في يثرب:
نلاحظ: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يسارع بالانتقال إلى الأنصار من الأيام الأولى، وإنما أخر ذلك لأكثر من عامين، حتى تأكد من وجود القاعدة الواسعة نسبيًّا، كما كان في الوقت نفسه يتم إعدادها في أجواء القرآن الكريم، وخاصة بعد انتقال مصعب إلى المدينة.
وقد تأكد أن الاستعداد لدى الأنصار قد بلغ كماله، وذلك بطلبهم هجرة الرسول الكريم إليهم، كما كانت المناقشات التي جرت في بيعة العقبة الثانية، تؤكد الحرص الشديد من الأنصار على تأكيد البيعة، والاستيثاق للنبي - صلى الله عليه وسلم - بأقوى المواثيق على أنفسهم، وكان في رغبتهم أن يميلوا على أهل منى، ممن آذى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأسيافهم لو أذن الرسول الكريم بذلك، ولكنه قال لهم: «لم أؤمر بذلك».
وهكذا تم الإعداد لأهل يثرب ليكونوا قادرين على استقبال المهاجرين وما يترتب على ذلك من تبعات(2).
ثانياً: طلائع المهاجرين:
لما بايعت طلائع الخير ومواكب النور من أهل يثرب النبي - صلى الله عليه وسلم - على الإسلام، والدفاع عنه، ثارت ثائرة المشركين، فازدادوا إيذاء للمسلمين، فأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - للمسلمين بالهجرة إلى المدينة، وكان المقصود من الهجرة إلى المدينة إقامة الدولة الإسلامية التي تحمل الدعوة، وتجاهد في سبيلها، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله(3) وكان التوجه إلى المدينة من الله تعالى، عن عائشة رضي الله عنها قالت: «لما صدر السبعون من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طابت نفسه، وقد جعل الله له منعة، وقوماً أهل حرب وعدة، ونجدة، وجعل البلاء يشتد على المسلمين من المشركين لما يعلمون من الخروج، فيضيقوا على أصحابه وتعبثوا(4) بهم ونالوا منهم ما لم يكونوا ينالون من الشتم والأذى، فشكا ذلك أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واستأذنوه في الهجرة، فقال: «قد أريت دار هجرتكم، أريت سبخة ذات نخل بين لابتين، وهما الحرتان، ولو كانت السراة أرض نخل وسباخ لقلت هي هي»، ثم مكث أياماً ثم خرج إلى أصحابه مسروراً فقال: «قد أخبرت بدار هجرتكم، وهي يثرب، فمن أراد الخروج فيخرج إليها».
فجعل القوم يتجهون ويتوافقون ويتواسون ويخرجون ويخفون ذلك، فكان أول من قدم المدينة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو سلمة بن عبد الأسد، ثم قدم بعده عامر بن ربيعة معه امرأته ليلى بنت أبي حَثْمة، فهي أول ظعينة قدمت المدينة، ثم قدم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسالاً، فنزلوا على الأنصار، في دورهم فآووهم ونصروهم وآسوهم، وكان سالم مولى أبي حذيفة يؤم المهاجرين بقباء، قبل أن يقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما خرج المسلمون في هجرتهم إلى المدينة، كَلِبَت(5) قريش عليهم، وحربوا واغتاظوا على من خرج من فتيانهم، وكان نفر من الأنصار بايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في البيعة الآخرة، ثم رجعوا إلى المدينة، فلما قدم أول من هاجر إلى قباء خرجوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة، حتى قدموا مع أصحابه في الهجرة، فهم مهاجرون أنصاريون، وهم ذكوان بن عبد قيس، وعقبة بن وهب بن كلدة والعباس بن عبادة بن نضلة، وزياد بن لبيد، وخرج المسلمون جميعاً إلى المدينة فلم يبقَ بمكة فيهم إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر، وعلي، أو مفتون أو مريض أو ضعيف عن الخروج(6).
ثالثاً: من أساليب قريش في محاربة المهاجرين ومن مشاهد العظمة في الهجرة:
عملت قيادة قريش ما في وسعها للحيلولة دون خروج من بقي من المسلمين إلى المدينة، واتبعت في ذلك عدة أساليب منها:
1- أٍسلوب التفريق بين الرجل وزوجه وولده:
__________
(1) انظر: السيرة النبوية تربية أمة وبناء دولة، صالح الشامي، ص118.
(2) نفس المصدر،ص 120، 121.
(3) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص33، 34.
(4) عبث: عبثا، لعب فهو عابث لاعب لما لا يعنيه، انظر: لسان العرب (2/166)
(5) كلبت قريش عليهم: أي غضبت عليهم. ... (2) انظر: طبقات ابن سعد (1/325).
ونترك أم المؤمنين أم سلمة هند بنت أبي أمية تحدثنا عن روائع الإيمان وقوة اليقين في هجرتها وهجرة زوجها أبي سلمة قالت رضي الله عنها: «لما أجمع أبو سلمة الخروج إلى المدينة رحل لي بعيره، ثم حملني عليه، وحمل معي ابني سلمة بن أبي سلمة في حجري، ثم خرج بي يقود بي بعيره، فلما رأته رجال بني المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم قاموا إليه فقالوا: هذه نفسك غلبْتَنَا عليها، أرأيت صاحبتنا هذه علام نتركك تسير بها إلى البلاد؟ قالت: فنزعوا خطام البعير من يده فأخذوني منه. قالت: وغضب عند ذلك بنو عبد الأسد، رهط أبي سلمة. قالوا: لا، والله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا. قالت: فتجاذبوا ابني سلمة بينهم حتى خلعوا يده، وانطلق به بنو عبد الأسد، وحبسني بنو المغيرة عندهم، وانطلق زوجي أبو سلمة إلى المدينة. قالت: ففرق بيني وبين زوجي، وبين ابني. قالت: فكنت أخرج كل غداة فأجلس بالأبطح، فما أزال أبكي حتى أمسي، سنة أو قريباً منها، حتى مرّ بي رجل من بني عمي، أحد بني المغيرة، فرأى ما بي، فرحمني، فقال لبني المغيرة: ألا تخرجون هذه المسكينة فرقتم بينها وبين زوجها وبين ولدها؟ قالت: فقالوا لي: الحقي بزوجك إن شئت. قالت: ورد بنو عبد الأسد إلي عند ذلك ابني. قالت: فارتحلتُ بعيري، ثم أخذت ابني فوضعته في حجري ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة، وما معي أحد من خلق الله. قالت: فقلت: أتبلغ بمن لقيت، حتى أقدم على زوجي، حتى إذا كنت بالتنعيم لقيت عثمان بن طلحة بن أبي طلحة أخا بني عبد الدار. فقال لي: إلى أين يا بنت أبي أمية؟ قالت: فقلت: أريد زوجي بالمدينة. قال: أو ما معك أحد؟ قالت: فقلت: لا والله إلا الله وبني هذا. قال: والله ما لك من مترك.
فأخذ بخطام البعير، فانطلق معي يهوي بي، فوالله ما صحبت رجلاً من العرب قط أرى أنه كان أكرم منه، كان إذا بلغ المنزل أناخ بي، ثم استأخر عني، حتى إذا نزلت عنه أستأخر ببعيري فحط عنه، ثم قيده في الشجرة، ثم تنحى إلى الشجرة فاضطجع تحتها، فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري فقدمه فرحله، ثم استأخر عني فقال: اركبي، فإذا ركبت فاستويت على بعيري أتى فأخذ بخطامه، فقاد بي حتى ينزل بي، فلم يزل يصنع ذلك بي حتى أقدمني المدينة، فلما نظر إلى قرية بني عمرو بن عوف بقباء قال: زوجك في هذه القرية، وكان أبو سلمة بها نازلاً، فادخليها على بركة الله، ثم انصرف راجعاً إلى مكة.
قال فكانت تقول: والله ما أعلم أهل بيت في الإسلام أصابهم ما أصاب آل أبي سلمة، وما رأيت صاحباً قط أكرم من عثمان بن طلحة»(1).
فهذا مثل على الطرق القاسية التي سلكتها قريش لتحول بين أبي سلمة والهجرة، فرجل يفرق بينه وبين زوجه عنوة، وبينه وبين فلذة كبده، على مرأى منه، كل ذلك من أجل أن يثنوه عن الهجرة، ولكن متى ما تمكن الإيمان من القلب، استحال أن يُقدِّم صاحبه على الإسلام والإيمان شيئاً، حتى لو كان ذلك الشيء فلذة كبده، أو شريكة حياته لذا انطلق أبو سلمة - رضي الله عنه - إلى المدينة لا يلوي على أحد، وفشل معه هذا الأسلوب وللدعاة إلى الله فيه أسوة(2).
وهكذا أَثَر الإيمان حين يخالط بشاشة القلوب، فهذه أسرة فُرِّق شملُها، وامرأة تبكي شدة مصابها، وطفل خُلعت يده وحُرم من أبويه، وزوج وأب يسجل أروع صور التضحية والتجرد، ليكون أول مهاجر يصل أرض الهجرة، محتسبين في سبيل الله ما يلقون، مصممين على المضي في طريق الإيمان، والانحياز إلى كتيبة الهدى، فماذا عسى أن ينال الكفر وصناديده من أمثال هؤلاء؟
وأما صنيع عثمان بن طلحة - رضي الله عنه - فقد كان يومئذ كافراً (وأسلم قبل الفتح) ومع ذلك تشهد له أم سلمة رضي الله عنها بكرم الصحبة، وذلك شاهد صدق على نفاسة هذا المعدن، وكمال مروءته، وحمايته للضعيف(3)، فقد أبت عليه مروءته وخلقه العربي الأصيل أن يدع امرأة شريفة تسير وحدها في هذه الصحراء الموحشة، وإن كانت على غير دينه، وهو يعلم أنها بهجرتها تراغمه وأمثاله من كفار قريش.
فأين من هذه الأخلاق، يا قوم المسلمين، أخلاق الحضارة في القرن العشرين، من سطو على الحريات، واغتصاب للأعراض، بل وعلى قارعة الطريق، وما تطالعنا به الصحافة كل يوم من أحداث يندى لها جبين الإنسانية، ومن تفنن في وسائل الاغتصاب وانتهاك الأعراض، والسطو على الأموال.
إن هذه القصة- ولها مثل ونظائر- لتشهد أن ما كان للعرب من رصيد من الفضائل كان أكثر من مثالبهم ورذائلهم، فمن ثم اختار الله منهم خاتم أنبيائه ورسله، وكانوا أهلاً لحمل الرسالة، وتبليغها للناس كافة(4).
__________
(1) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/202، 203).
(2) انظر: في السيرة النبوية، د. إبراهيم علي محمد، ص130، 131، تقسيم الأساليب أخُذ من هذا الكتاب، ومشاهد العظمة من الهجرة النبوية المباركة.
(3) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص124.
(4) انظر: السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة، د. محمد أبو شهبة (1/461).
وتظهر عناية الله تعالى بأوليائه، وتسخيره لهم، فهو جل وعلا الذي سخر قلب عثمان ابن طلحة للعناية بأم سلمة، ولذلك بذل الجهد والوقت من أجلها(1) كما تظهر سلامة فطرة عثمان بن طلحة، التي قادته أخيراً إلى الإسلام بعد صلح الحديبية، ولعل إضاءة قلبه بدأ منذ تلك الرحلة، في مصاحبته لأم سلمة رضي الله عنهم(2).
2- أسلوب الاختطاف:
لم تكتف قيادة قريش بالمسلمين داخل مكة، لمنعهم من الهجرة، بل تعدت ذلك إلى محاولة إرجاع من دخل المدينة مهاجراً، فقامت بتنفيذ عملية اختطاف أحد المهاجرين، ولقد نجحت هذه المحاولة وتم اختطاف أحد المهاجرين من المدينة وأعيد إلى مكة(3)، وهذه الصورة التاريخية للاختطاف يحدثنا بها عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حيث قال: «اتعدت لما أردنا الهجرة إلى المدينة أنا وعياش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاص بن وائل السهمي، التناضب(4) من أضاة(5) بني غفار، فوق سرف(6)، وقلنا: أينا لم يصبح عندها فقد حبس، فليمض صاحباه. قال: فأصبحت أنا وعياش بن أبي ربيعة عند التناضب، وحبس عنا هشام، وفتن فافتتن(7).
فلما قدمنا المدينة نزل في بني عمرو بن عوف بقباء، وخرج أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام إلى عياش بن أبي ربيعة، وكان ابن عمهما وأخاها لأمهما، حتى قدما علينا المدينة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة فكلماه، وقالا: إن أمك قد نذرت أن لا يمس رأسها مشط حتى تراك، ولا تستظل من شمس حتى تراك فرق لها فقلت له: عياّش إنه والله إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك، فاحذرهم، فوالله لو قد آذى أمك القمل لامتشطت، ولو قد اشتد عليها حر مكة لاستظلت.
قال: أبر قسم أمي، ولي هناك مال فآخذه.(1/64)
قال: فقلت: والله إنك لتعلم أني لمن أكثر قريش مالاً، فلك نصف مالي ولا تذهب معهما، قال: فأبى علي إلا أن يخرج معهما، فلما أبى إلا ذلك، قال: قلت له: أما إذ قد فعلت ما فعلت، فخذ ناقتي هذه فإنها ناقة نجيبة ذلول(8) فالزم ظهرها، فإن رابك من القوم ريب فانج عليها، فخرج عليها معهما، حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال له أبو جهل: يا أخي، والله لقد استغلظت بعيري هذا، أفلا تعقبني(9) على ناقتك هذه؟ قال: بلى، قال: فأناخ، وأناخ، ليتحول عليها، فلما استووا بالأرض عدوا عليه، فأوثقاه، ثم دخلا به مكة، وفتناه فافتتن(10).
قال: فكنا نقول: ما الله بقابل ممن افتتن صرفاً ولا عدلاً ولا توبة، قوم عرفوا الله ثم رجعوا إلى الكفر لبلاء أصابهم قال: وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة أنزل الله تعالى فيهم وفي قولنا وقولهم لأنفسهم: ( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ صدق الله العظيم وَأَنِيبُوا إلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنْصَرُونَ صدق الله العظيم وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ ) [الزمر: 53-55].
قال عمر بن الخطاب: فكتبتها بيدي في صحيفة، وبعثت بها إلى هشام بن العاص، قال: فقال هشام: فلما أتتني جعلت أقرؤها بذي طوى(11) أُصَعَّد بها فيه وأصَوَّبُ ولا أفهمها، حتى قلت: اللهم فهمنيها، قال: فألقى الله تعالى في قلبي أنها إنما أنزلت فينا، وفيما كنا نقول في أنفسنا، ويقال فينا، قال: فرجعت إلى بعيري فجلست عليه، فلحقت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بالمدينة(12).
هذه الحادثة تظهر لنا كيف أعد عمر - رضي الله عنه - خطة الهجرة له، ولصاحبيه عياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص بن وائل السهمي، وكان ثلاثتهم كل واحد من قبيلة، وكان مكان اللقاء الذي اتعدوا فيه بعيداً عن مكة وخارج الحرم على طريق المدينة، ولقد تحدد الزمان والمكان بالضبط بحيث إنه إذا تخلف أحدهم فليمض صاحباه ولا ينتظرانه؛ لأنه قد حبس، وكما توقعوا فقد حبس هشام بن العاص - رضي الله عنه - بينما مضى عمر وعياش بهجرتهما، ونجحت الخطة كاملة ووصلا المدينة سالمين(13).
__________
(1) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (3/128). ... (4) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/204).
(3) انظر: في السيرة النبوية ص132. ... (6) التناضب: جمع تنضيب وهو شجر.
(5) الأضاة: على عشرة أميال من مكة. ... (8) سرف: واد متوسط الطول من أودية مكة
(7) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص129. ...
(8) الذلول: أذلها العمل، فصارت سهلة الركوب والانقياد.
(9) تعقبني: تجعلني أعقبك عليها لركوبها. ... (3) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/205).
(11) ذو طوى، واد من أودية مكة. ... (5) المجمع للهيثمي (6/61) الهجرة النبوية المباركة، ص131.
(13) انظر: التربية القيادية (2/159). ... (2) انظر: في السيرة النبوية، ص134.
إلا أن قريشاً صممت على متابعة المهاجرين؛ ولذلك أعدت خطة محكمة قام بتنفيذها أبو جهل، والحارث وهما أخَوا عياش من أمه، الأمر الذي جعل عياشاً يطمئن لهما، وبخاصة إذا كان الأمر يتعلق بأمه، فاختلق أبو جهل هذه الحيلة لعلمه بمدى شفقة ورحمة عياش بأمه، والذي ظهر جلياًّ عندما أظهر موافقته على العودة معهما، كما تظهر الحادثة الحس الأمني الرفيع الذي كان يتمتع به عمر - رضي الله عنه -، حيث صدقت فراسته في أمر الاختطاف(1).
كما يظهر المستوى العظيم من الأخوة التي بناها الإسلام في هذه النفوس، فعمر يضحي بنصف ماله حرصاً على سلامة أخيه، وخوفاً عليه من أن يفتنه المشركون بعد عودته، ولكن غلبت عياشاً عاطفته نحو أمه، وبره بها؛ ولذلك قرر أن يمضي لمكة فيبر قسم أمه ويأتي بماله هناك، وتأبى عليه عفته أن يأخذ نصف مال أخيه عمر - رضي الله عنه -، وماله قائم في مكة لم يمس، غير أن أفق عمر - رضي الله عنه - كان أبعد، فكأنه يرى رأي العين المصير المشؤوم الذي سينزل بعياش لو عاد إلى مكة، وحين عجز عن إقناعه أعطاه ناقته الذلول النجيبة، وحدث لعياش ما توقعه عمر من غدر المشركين به(2).
وساد في الصف المسلم أن الله تعالى لا يقبل صرفاً ولا عدلاً من هؤلاء الذين فتنوا فافتتنوا وتعايشوا مع المجتمع الجاهلي، فنزل قول الله تعالى: ( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ ) وما إن نزلت هذه الآيات حتى سارع الفاروق - رضي الله عنه - فبعث بهذه الآية إلى أَخَوَيْهِ الحميمين عياش وهشام ليجددوا محاولاتهما في مغادرة معسكر الكفر، أي سمو عظيم عند ابن الخطاب - رضي الله عنه - لقد حاول، مع أخيه عياش، أعطاه نصف ماله، على ألا يغادر المدينة، وأعطاه ناقته ليفر عليها، ومع هذا كله، فلم يشمت بأخيه، ولم يَتَشَفَّ منه لأنه خالفه، ورفض نصيحته، وألقى برأيه خلف ظهره، إنما كان شعور الحب والوفاء لأخيه هو الذي يسيطر عليه، فما أن نزلت الآية حتى سارع ببعثها إلى أخويه، ولكل المستضعفين هناك ليقوموا بمحاولات جديدة للانضمام إلى المعسكر الإسلامي(3).
3- أسلوب الحبس:
لجأت قريش إلى الحبس كأسلوب لمنع الهجرة فكل من تقبض عليه وهو يحاول الهجرة، كانت تقوم بحبسه داخل أحد البيوت، مع وضع يديه ورجليه في القيد، وتفرض عليه رقابة وحراسة مشددة، حتى لا يتمكن من الهرب، وأحيانًا يكون الحبس داخل حائط بدون سقف، كما فعل مع عياش وهشام بن العاص، رضي الله عنهما، حيث كانا محبوسين في بيت لا سقف له(4)، وذلك زيادة في التعذيب، إذ يضاف إلى وحشة الحبس حرارة الشمس وسط بيئة جبلية شديدة الحرارة مثل مكة.
فقيادة قريش تريد بذلك تحقيق هدفين: أولهما منع المحبوسين من الهجرة، والآخر أن يكون هذا الحبس درساً وعظة لكل من يحاول الهجرة من أولئك الذين يفكرون فيها ممن بقي من المسلمين بمكة، ولكن لم يمنع هذا الأسلوب المسلمين من الخروج إلى المدينة المنورة، فقد كان بعض المسلمين محبوسين في مكة مثل عياش، وهشام رضي الله عنهما، ولكنهم تمكنوا من الخروج واستقروا بالمدينة(5).
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد هجرته يقنت ويدعو للمستضعفين في مكة عامة، ولبعضهم بأسمائهم خاصة، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رفع رأسه من الركعة الأخيرة يقول: «اللهم أنج عياش بن أبي ربيعة، اللهم أنج سلمة بن هشام، اللهم أنج الوليد بن الوليد، اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها سنين كسني يوسف»(6).
ولم يترك المسلمون أمر اختطاف عياش، فقد ندب الرسول - صلى الله عليه وسلم - أحد أصابه وفعلاً استعد للمهمة ورتب لها ما يحقق نجاحها، وجاء إلى مكة واستطاع بكل اقتدار وذكاء أن يصل إلى البيت الذي حُبسا فيه وأطلق سراحهما، ورجع بهما إلى المدينة المنورة(7).
4- أسلوب التجريد من المال:
كان صهيب بن سنان النَّمَري من النَّمِر بن قاسط، أغارت عليهم الروم، فسبي وهو صغير، وأخذ لسان أولئك الذي سبوه، ثم تقلب في الرق، حتى ابتاعه عبد الله بن جدعان ثم أعتقه، ودخل الإسلام هو وعمار بن ياسر رضي الله عنهما في يوم واحد(8).
__________
(1) 3، 4) انظر: التربية القيادية (2/160).
(4) انظر: في السيرة النبوية، ص132. ... (2) انظر: في السيرة النبوية ، ص132.
(5) البخاري، باب الاستسقاء، (2/33) رقم 1006.
(7) انظر: في السيرة النبوية، ص135. ... (5) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص119.
وكانت هجرة صهيب - رضي الله عنه - عملاً تتجلى فيه روعة الإيمان، وعظمة التجرد لله، حيث ضحى بكل ما يملك في سبيل الله ورسوله، واللحوق بكتيبة التوحيد والإيمان(1) فعن أبي عثمان النهدي رحمه الله قال: «بلغني أن صهيباً حين أراد الهجرة إلى المدينة قال له أهل مكة: أتيتنا هاهنا صعلوكا(2) حقيراً، فكثر مالك عندنا، وبلغت ما بلغت، ثم تنطلق بنفسك ومالك؟ والله لا يكون ذلك، فقال: أرأيتم إن تركت مالي تخلون أنتم سبيلي؟ قالوا: نعم، فجعل لهم ماله أجمع، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «ربح صهيب، ربح صهيب» (3) وعن عكرمة رحمه الله قال:«لما خرج صهيب مهاجراً تبعه أهل مكة، فنثل(4) كنانته، فأخرج منها أربعين سهمًا، فقال: لا تصلون إليّ حتى أضع في كل رجل منكم سهمًا، ثم أصير بعد إلى السيف فتعلمون أني رجل، وقد خلَّفت بمكة فينتين فهما لكم) (5) وقال عكرمة: ونزلت على النبي صلى الله عليه وسلم: ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ ) [البقرة: 207] فلما رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أبا يحيى، ربح البيع» قال: وتلا عليه(6) الآية.
لكأني(7) بصهيب - رضي الله عنه - يقدم الدليل القاطع على فساد عقل أولئك الماديين الذين يَزِنُون حركات التاريخ وأحداثه كلها بميزان المادة، فأين هي المادة التي سوف يكسبها صهيب في هجرته والتي ضحى من أجلها بكل ما يملك؟
هل تراه ينتظر أن يعطيه محمد - صلى الله عليه وسلم - منصباً يعوضه عما فقده؟ أم هل ترى محمدا - صلى الله عليه وسلم - يمنيه بالعيش الفاخر في جوار أهل يثرب؟
إن صهيًبا ما فعل ذلك وما انحاز إلى الفئة المؤمنة إلا ابتغاء مرضاة الله، بالغاً ما بلغ الثمن ليضرب لشباب الإسلام مثلاً في التضحية عزيزة المنال، عساهم يسيرون على الدرب، ويقتفون الأثر(8).
إن هذه المواقف الرائعة لم تكن هي كل مواقف العظمة، والشموخ في الهجرة المباركة، بل امتلأ هذا الحدث العظيم بكثير من مشاهد العظمة، والتجرد والتضحية، التي تعطي الأمة دروساً بليغة في بناء المجد وتحصيل العزة(9).
رابعًا: البيوتات الحاضنة وأثرها في النفوس:
لقد كان من نتائج إيمان الأنصار ومبايعتهم وتعهدهم بالنصرة أن دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسلمين إلى الهجرة إلى المدينة، كما كان من نتائج ذلك أن ظهرت ظاهرة عظيمة من التكافل بين المسلمين، ففتحت بيوت الانصار أبوابها وقلوب أصحابها لوفود المهاجرين، واستعدت لاحتضانهم رجالاً ونساء، إذ أصبح المسكن الواحد يضم المهاجر والأنصاري، والمهاجرة والأنصارية، يتقاسمون المال والمكان والطعام والمسئولية الإسلامية، فمن هذه البيوتات الحاضنة:
1- دار مبشر بن عبد المنذر بن زنبر بقباء: ونزل بها مجموعة من المهاجرين نساء ورجالاً، وقد ضمت هذه الدور عمر بن الخطاب، ومن لحق به من أهله، وقومه وابنته حفصة وزوجها وعياش بن ربيعة.
2- دار خبيب بن إساف أخي بني الحارث بن الخزرج بالسنح(10) نزل بها طلحة بن عبيد الله بن عثمان وأمه وصهيب بن سنان.
3- دار أسعد بن زرارة من بني النجار، قيل: نزل بها حمزة بن عبد المطلب.
4- دار سعد بن خيثمة أخي بني النجار، وكان يسمّى بيت العزاب ونزل بها الأعزاب من المهاجرين.
5- دار عبد الله بن سلمة أخي بَلْعجلان بقباء: نزل بها عبيدة بن الحارث وأمه سخيلة، ومِسْطَح بن أثاثة بن عبّاد بن المطلب، والطفيل بن الحارث، وطُليب بن عُمير، والحصين بن الحارث نزلوا جميعاً على عبد الله بن سلمة بقباء.
6- دار بني جَحْجبتى، والمحتضن هو منذر بن محمد بن عقبة، نزل عنده الزبير بن العوام، وزوجه أسماء بنت أبي بكر، وأبو سبرة بن أبي وهب وزوجته أم كلثوم بنت سهيل(11).
7- دار بني عبد الأشهل، والمحتضن هو سعد بن معاذ بن النعمان من بني عبد الأشهل، نزل بها مصعب بن عمير، وزوجته حَمنة بنت جحش.
8- دار بني النجار، والمحتضن هو أوس بن ثابت بن المنذر، نزل بها عثمان بن عفان وزوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم(12).
فهذه المقاسمة وهذا التكافل الاجتماعي، كان من أهم العناصر التي مهدت لإقامة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابته المهاجرين معه، وبعده، إقامة طيبة، تنبض بالإيثار على النفس وبود الأخوة الصادقة المؤمنة(13).
__________
(1) الهجرة النبوية المباركة، ص120. ... (2) الصعلوك: الفقير.
(3) انظر: السيرة النبوية لابن هشام، (1/477)
(4) نثل: استخرج ما فيها من النبل والسهام. ... (5) مرسل أخرجه الحاكم (3/398)
(6) أخرجه الحاكم (3/398) صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وسكت عليه الذهبي.
(7) ،8) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص121.
(8) نفس المصدر، ص129.
(10) المرأة في العهد النبوي، ص116. ... (2) انظر: المرأة في العهد النبوي، ص117.
(12) انظر: السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة لأبي شهبة، (1/468، 469).
(13) انظر: المرأة في العهد النبوي، ص118.
بهذه الروح العالية، والإيمان الوثيق، والصدق في المعاملة، تمت المؤاخاة، وتم الوفاق بين المهاجرين والأنصار، وقد يحدث تساؤل فيقال: لماذا لم نسمع ولم تسجل المصادر ولم تكتب المراجع أن خلافات وقعت في هذه البيوت؟
وأين النساء وما اشتهرن به من مشاكسات؟ إنه الدين الحق الذي جعل تقوى الله أساساً لتصرف كل نفس، والأخلاق السامية التي فرضت الأخوة بين المسلمين، ونصرة الدعوة، وإنها المبايعة وأثرها في النفوس، إنه الصدق، والعمل من أجل المجموعة خوفاً من العقاب ورهبة من اليوم الآخر، ورغبة في الثواب وطمعاً في الجنة، إنه دفء حضانة الإيمان، واستقامة النفس والسلوك وصدق الطوية. فكل من أسلم، وكل من بايع، وكل من أسلمت وبايعت، يعملون جميعهم بما يؤمرون به ويخلصون فيما يقولون، يخافون الله في السر والعلن، آمنت نفوسهم فاحتضنت الأنصارية المهاجرة ، فالكل يعمل من أجل مصلحة الكل، فهذا هو التكافل الاجتماعي في أجلى صورة، وأقدس واقعة، رغب الكل في الثواب حتى أن الواحد منهم يخاف ذهاب الأنصاري بالأجر كله(1).
إن جانب البذل والعطاء ظاهرة نحن بحاجة إلى الإشارة إليها في كل وقت، إننا في عالمنا المعاصر، وفي الصف الإسلامي وفي رحلة لبضعة أيام تتكشف النفوس والعيوب والحزازات والظنون، وهذا مجتمع يبني ولما يصل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد، ومع ذلك تفتح البيوت للوافدين الجدد ليس على مستوى فرد فقط، بل على مستوى جماعي كذلك، ويقيم المهاجرون في بيوت الأنصار أشهراً عدة، والمعايشة اليومية مستمرة، والأنصار يبذلون المال والحب والخدمات لإخوانهم القادمين إليهم، نحن أمام مجتمع إسلامي بلغ الذروة في لحمته وانصهاره، ولم يكن المهاجرون إلا القدوة للأنصار بالبذل والعطاء، فلم يكونوا أصلاً فقراء، بل كانوا يملكون المال، ويملكون الدار، وتركوا ذلك كله ابتغاء مرضاة الله، وبذلوه كله لطاعته جل وعلا، فكانوا كما وصفهم القرآن الكريم: ( لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) [الحشر:8].
كان هذا المجتمع المدني الجديد يتربى على معاني الإيمان والتقوى، ولم يصل النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد، ولكن تحت إشراف النقباء الاثني عشر الذين كانوا في كفالتهم لقومهم، ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم، وبإشراف قيادات المهاجرين الكبرى، التي وصلت المدينة والذين استقوا جميعاً من النبع النبوي الثر، واقتبسوا من هديه(2).
ومن معالم هذا المجتمع الجديد ذوبان العصبية، فقد كان إمام المسلمين سالم مولى أبي حذيفة - رضي الله عنه -؛ لأنه كان أكثرهم قرآنا، فهذا المجتمع الذي يوجد فيه علية أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - من المهاجرين والأنصار وسادة العرب من قريش والأوس والخزرج، يقوده ويؤمه حامل القرآن، فالكرامة العليا فيه لقارئ كتاب الله وحامله، وحامل القرآن في المجتمع الإسلامي هو نفسه حامل اللواء في الحرب، فليس بينهما ذلك الانفصام الذي نشهده اليوم من حملة القرآن من الحفاظ، وبين المجاهدين في سبيل الله، فقد كان حامل لواء المهاجرين في معركة اليمامة سالم مولى أبي حذيفة، فقيل له في ذلك، فكان شعاره: بئس حامل القرآن- يعني إن فررت- فقطعت يمينه، فأخذ اللواء بيساره فقطعت، فاعتنقه إلى أن صرع، واستُشهد في سبيل الله(3).
ومن معالم المجتمع الإسلامي الجديد: حرية الدعوة إلى الله علانية، فقد أصبح واضحاً عند الجميع أن معظم قيادات يثرب دخلت في هذا الدين، ونشط الشباب والنساء، والرجال في الدعوة إلى الله، والتبشير بقدوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قدم وساق.
ولابد من المقارنة بين المجتمع الذي قام بالحبشة من المسلمين وبين المجتمع الإسلامي في يثرب، لقد كانت الحبشة تحمل طابع اللجوء السياسي، والجالية الأجنبية أكثر مما كانت تحمل طابع المجتمع الإسلامي الكامل، صحيح أن المسلمين ملكوا حرية العبادة هناك، لكنهم معزولون عن المجتمع النصراني، لم يستطيعوا أن يؤثروا فيه التأثير المنشود، وإن كانت هجرة الحبشة خطوة متقدمة على جو مكة، حيث لا تتوفر حرية الدعوة وحرية العبادة، ولكنه دون المجتمع الإسلامي في المدينة بكثير؛ ولذلك شرع مهاجرو الحبشة بمجرد سماع خبر هجرة المدينة بالتوجه نحوها مباشرة، أو عن طريق مكة إلا من طلبت منه القيادة العليا البقاء هناك، لقد أصبحت المدينة مسلمة بعد أن عاشت قرونا وثنية مشركة.
__________
(1) انظر: المرأة في العهد النبوي، ص132. ... (2) انظر: التربية القيادية، (2/171، 172).
(3) انظر: التربية القيادية (1/174، 175).
لقد أصبح المجتمع المدني مسلماً وبدأ نموه وتكوينه الفعلي بعد عودة الاثني عشر صحابياً من البيعة الأولى، والتي كان على رأسها الصحابي الجليل أسعد بن زرارة، والتي حملت المسؤولية الدعوية فقط، دون الوجود السياسي، وبلغ أوج توسعه وبنائه بعد عودة السبعين الذين ملكوا الشارع السياسي والاجتماعي، وقرروا أن تكون بلدهم عاصمة المسلمين الأولى في الأرض وهم على استعداد أن يواجهوا كل عدو خارجي، يمكن أن ينال من هذه السيادة حتى قبل قدوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم في المدينة.
إن القاعدة الصلبة التي بذل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقتاً وجهداً في تربيتها، بدأت تعطي ثمارها أكثر بعد أن التحمت بالمجتمع المدني الجديد، وانصهر كلاهما في معاني العقيدة وإخوة الدين.
لقد أعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأفراد وصقلهم في بوتقة الجماعة، وكون بهم القاعدة الصلبة، ولم يقم المجتمع الإسلامي الذي تقوم عليه الدولة إلا بعد بيعة الحرب؛ وبذلك نقول بأن المجتمع الإسلامي قام بعد ما تهيأت القوة المناسبة لحمايته في الأرض(1).
وهكذا انتقلت الجماعة المسلمة المنظمة القوية إلى المدينة، والتحمت مع إخوانها الأنصار، وتشكل المجتمع المسلم الذي أصبح ينتظر قائده الأعلى عليه الصلاة والسلام، ليعلن ولادة دولة الإسلام، التي صنعت فيما بعد حضارة لم يعرف التاريخ مثلها حتى يومنا هذا.
خامساً: لماذا اختيرت المدينة كعاصمة للدولة الإسلامية؟
كان من حكمة الله تعالى في اختيار المدينة دارًا للهجرة ومركزًا للدعوة- هذا عدا ما أراده الله من إكرام أهلها وأسرار لا يعلمها إلا الله- إنها امتازت بتحصن طبيعي حربي، لا تزاحمها في ذلك مدينة قريبة في الجزيرة، فكانت حرة الوبرة مطبقة على المدينة من الناحية الغربية وحرة واقم، مطبقة على المدينة من الناحية الشرقية، وكانت المنطقة الشمالية من المدينة هي الناحية الوحيدة المكشوفة (وهي التي حصنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالخندق سنة خمس في غزوة الأحزاب)، وكانت الجهة الأخرى من أطراف المدينة محاطة بأشجار النخيل الزروع الكثيفة لا يمر منها الجيش إلا في طرق ضيقة لا يتفق فيها النظام العسكري، وترتيب الصفوف.
وكانت خفارات عسكرية صغيرة كافية بإفساد النظام العسكري ومنعه من التقدم يقول ابن إسحاق: «كان أحد جانبي المدينة عورة، وسائر جوانبها مشككة بالبنيان والنخيل، لا يتمكن العدو منها»(2).
ولعل النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أشار إلى هذه الحكمة الإلهية في اختيار المدينة بقوله لأصحابه قبل الهجرة: «إني رأيت دار هجرتكم، ذات نخيل بين لابتين وهما الحرتان» (3). فهاجر من هاجر قِبَل المدينة.
وكان أهل المدينة من الأوس والخزرج أصحاب نخوة وإباء وفروسية وقوة وشكيمة، ألفوا الحرية، ولم يخضعوا لأحد، ولم يدفعوا إلى قبيلة أو حكومة إتاوة أو جباية، يقول ابن خلدون: ولم يزل هذان الحيان قد غلبوا على يثرب، وكان الاعتزاز والمنعة تعرف لهم في ذلك، ويدخل في ملتهم من جاورهم من قبائل مضر.
وكان بنو عدي بن النجار أخواله صلى الله عليه وسلم، فأم عبد المطلب بن هاشم إحدى نسائهم، فقد تزوج هاشم بسلمى بنت عمرو أحد بني عدي بن النجار، وولدت لهاشم عبد المطلب، وتركه هاشم عندها، حتى صار غلاماً دون المراهقة، ثم احتمله عمه المطلب، فجاء به إلى مكة، وكانت الأرحام يحسب لها حساب كبير في حياة العرب الاجتماعية، ومنهم أبو أيوب الأنصاري الذي نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في داره في المدينة.
وكان الأوس والخزرج من قحطان، والمهاجرون ومن سبق إلى الإسلام في مكة وما حولها من عدنان، ولما هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، وقام الأنصار بنصره، اجتمعت بذلك عدنان وقحطان تحت لواء الإسلام، وكانوا كجسدٍ واحدِ، وكانت بينهما مفاضلة ومسابقة في الجاهلية، وبذلك لم يجد الشيطان سبيلاً إلى قلوبهم لإثارة الفتنة والتعزي بعزاء الجاهلية، باسم الحمية القحطانية أو العدنانية، فكانت لكل ذلك مدينة يثرب أصلح مكان لهجرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه واتخاذهم لها داراً وقراراً، حتى يقوى الإسلام ويشق طريقه إلى الأمام، ويفتح الجزيرة ثم يفتح العالم المتمدن(4).
سادسًا: من فضائل المدينة:
لقد عظُم شرف المدينة المنورة المباركة بهجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - إليها، حتى فضلت على سائر بقاع الأرض حاشا مكة المكرمة، وفضائلها كثيرة منها:
1- محبته - صلى الله عليه وسلم - لها ودعاؤه لها:
__________
(1) انظر: التربية القيادية (1/146، 147). ... (2) انظر: السيرة النبوية للندوي، ص157.
(3) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص52.
(4) انظر: الأساس في السنة (1/333). ... (2) الهجرة النبوية المباركة، ص157.(1/65)
دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه قائلا: «اللهم حبب إلينا المدينة كحبّنا مكة أو أشد»(1) وعن أنس - رضي الله عنه - قال: «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قدم من سفر، فأبصر إلى درجات المدينة(2)، أَوْضَع ناقته(3) وإن كان على دابة حركها» قال أبو عبد الله: زاد الحارث بن عمير عن حميد «حركها من حبها»(4).
2- دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لها بضعفي ما في مكة من البركة:
فعن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلت بمكة من البركة»(5)، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «كان الناس إذا رأوا أول أثمر جاءوا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا أخذه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «اللهم بارك لنا في ثمرنا، وبارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في صاعنا، وبارك لنا في مُدنا، اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك وإني عبدك ونبيك، وإنه دعاك لمكة، وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ومثله معه» قال: ثم يدعو أصغر وليد له فيعطيه ذلك الثمر(6).
3- عصمتها من الدجال والطاعون ببركته صلى الله عليه وسلم:
إن الله تعالى قيض لها ملائكة يحرسونها، فلا يستطيع الدجال إليها سبيلاً، بل يلقى إليه بإخوانه من الكفار والمنافقين، كما أن من لوازم دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالصحة ورفع الوباء ألا ينزل بها الطاعون، كما أخبر بذلك المعصوم(7) صلى الله عليه وسلم.
4- فضيلة الصبر على شدتها:
فقد وعد النبي - صلى الله عليه وسلم - من صبر على شدة المدينة وضيق عيشها بالشفاعة يوم القيامة(8) فعن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون لا يدعها أحد رغبة عنها إلا أبدل الله فيها من هو خير منه، ولا يثبت أحد على لأوائها(9) وجهدها إلا كنت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة»(10).
5- فضيلة الموت فيها:
فعن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت بها، فإني أشفع لمن يموت بها»(11)، وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يدعو بهذا الدعاء: (اللهم ارزقني شهادة في سبيلك، واجعل موتي في بلد رسولك صلى الله عليه وسلم)(12).
وقد استجاب الله للفاروق - رضي الله عنه - فاستشهد في محراب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يؤم المسلمين في صلاة الفجر.
6- هي كهف الإيمان وتنفي الخبث عنها:
فالإيمان يلجأ إليها مهما ضاقت به البلاد، والأخباث والأشرار لا مقام لهم فيها
ولا استقرار، ولا يخرج منها أحد رغبة عنها إلا أبدلها الله خيراً منه من المؤمنين الصادقين(13) فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الإيمان ليأرِز(14) إلى المدينة كما تأرِز الحية إلى جحرها»(15)، وقال صلى الله عليه وسلم: «... والذي نفسي بيده لا يخرج منهم أحد رغبة عنها إلا أخلف الله فيها خيراً منه، ألا إن المدينة كالكير، تخرج الخبث لا تقوم الساعة حتى تنفي المدينة شرارها كما ينفي الكير خبث الحديد»(16).
7- تنفي الذنوب والأوزار:
عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنها -أي المدينة- طيبة تنفي الذنوب(17) كما تنفي النار خبث الفضة»(18).
8- حفظ الله إياها ممن يريدها بسوء:
__________
(2) وفي رواية: «جدارات»: جمع جدار وهو الحائط، ودرجات: أي الطرق المرتفعة. ...
(3) أوضع ناقته: حثها على السرعة.
(4) البخاري، كتاب العمرة، باب من أسرع ناقته (3/630) رقم 1802).
(5) البخاري، كتاب فضائل المدينة (4/97) رقم 1885. ...
(6) مسلم، كتاب الحج، باب فضل المدينة (2/1000).
(7) انظر: الهجرة النبوية المباركة، 158.
(8) المصدر السابق، ص160. ... (3) اللأواء: الشدة وضيق العيش.
(10) مسلم، كتاب الحج، باب فضل المدينة (2/992) رقم 1363.
(11) أخرجه أحمد (2/74، 104) بإسناد صحيح وصححه ابن حبان رقم 3741.
(12) البخاري، كتاب فضائل المدينة (4/100) رقم 1890.
(13) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص161.
(14) يأرز: ينضم ويجتمع، انظر: فتح الباري (4/93).
(15) البخاري، كتاب فضائل المدينة (4/93) رقم 1876.
(16) مسلم، كتاب الحج، باب المدينة تنفي شرارها (2/1005) رقم 1381.
(17) في رواية (تنفي الخبث) وفي رواية (تنفي الرجال).
(18) البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة أحد (7/356) رقم 4050.
فقد تكفل الله بحفظها من كل قاصد إياها بسوء، وتوعد النبي - صلى الله عليه وسلم - من أحدث فيها حدثاً، أو آوى فيها محدثاً، أو أخاف أهلها، بلعنة الله وعذابه، وبالهلاك العاجل(1) فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يكيد أهل المدينة أحد إلا انماع(2) كما ينماع الملح في الماء»(3)، وقال صلى الله عليه وسلم: «المدينة حرم الله، فمن أحدث فيها حدثاً(4) أو آوى محدثاً(5) فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يُقبل منه يوم القيامة عدلٌ، ولا صرفٌ»(6).
9- تحريمها:
فقد حرمها النبي - صلى الله عليه وسلم - بوحي من الله فلا يراق فيها دم، ولا يحمل فيها سلاح، ولا يروع فيها أحد، ولا يقطع فيها شجر، ولا تحل لُقَطَتها إلا لمنشد، وغير ذلك ما يدخل في تحريمها قال صلى الله عليه وسلم: «إن إبراهيم حرم مكة ودعا لها، حرَّمتُ المدينة كما حرم إبراهيم مكة، ودعوت لها في مدها وصاعها مثل ما دعا إبراهيم عليه السلام لمكة»(7).
وقال صلى الله عليه وسلم: «هذا جبل يحبنا ونحبه، اللهم إن إبراهيم حرم مكة، وإني أحرم ما بين لابتيها»(8)يعني المدينة، وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يختلي خلاها(9)ولا ينفر صيدها(10)ولا تلتقط لقطتها إلا لمن أشار بها (11)ولا تقطع منها شجرة إلا أن يعلف رجل بعيرة ولا تحمل فيها السلاح لقتال» (12).
إن هذه الفضائل العظيمة جعلت الصحابة يتعلقون بها، ويحرصون على الهجرة إليها، والمقام فيها، وبذلك تجمعت طاقات الأمة فيها، ثم توجهت نحو القضاء على الشرك بأنواعه، والكفر بأشكاله، وفتحوا مشارق الأرض ومغاربها.
الفصل السادس -هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه الصديق رضي الله عنه
المبحث الأول -فشل خطة المشركين والترتيب النبوي الرفيع للهجرة
أولاً: فشل خطة المشركين لاغتيال النبي صلى الله عليه وسلم:
بعد أن منيت قريش بالفشل في منع الصحابة -رضي الله عنهم- من الهجرة إلى المدينة، على الرغم من أساليبهم الشنيعة والقبيحة، فقد أدركت قريش خطورة الموقف، وخافوا على مصالحهم الاقتصادية، وكيانهم الاجتماعي القائم بين قبائل العرب؛ لذلك اجتمعت قيادة قريش في دار الندوة للتشاور في أمر القضاء على قائد الدعوة، وقد تحدث ابن عباس في تفسيره لقوله تعالى ( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) [الأنفال:30] فقال: فتشاورت قريش بمكة فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثائق، يريدون النبي صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم: بل اقتلوه، وقال بعضهم: أن أخرجوه، فاطلع الله نبيه على ذلك فبات عليٌّ على فراش النبي - صلى الله عليه وسلم - تلك الليلة(13)، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أصبحوا ثاروا إليه فلما رأوا عليًّا رد الله كيدهم، فقالوا أين صاحبك هذا؟ قال: لا أدري، فاقتفوا أثره فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم الأمر، فصعدوا الجبل فمروا بالغار فرأوا على بابه نسيج العنكبوت، فقالوا: لو دخل ههنا لم يكن ينسج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاثاً(14).
قال سيد قطب في تفسيره للآيات التي تتحدث عن مكر المشركين بالنبي صلى الله عليه وسلم: «إنه التذكير بما كان في مكة، قبل تغير الحال، وتبدل الموقف، وإنه ليوحي بالثقة واليقين في المستقبل، كما ينبه إلى تدبير قدر الله وحكمته، فيما يقضي به ويأمر: ولقد كان المسلمون الذين يخاطبون بهذا القرآن أول مرة، يعرفون الحالين معرفة الذي عاش ورأى وذاق، وكان يكفي أن يذكروا بهذا الماضي القريب، وما كان فيه من خوف وقلق، في مواجهة الحاضر الواقع وما فيه من أمن وطمأنينة، وما كان من تدبير المشركين ومكرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، في مواجهة ما صار إليه من غلبة عليهم، لا مجرد النجاة منهم.
__________
(1) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص162. ... ... (5) انماع: ذاب وسال.
(3) البخاري، كتاب فضائل المدينة، باب إثم من كاد أهل المدينة، (4/94) رقم 1877.
(4) الحدث: الإثم أو الأمر المنكر الذي ليس بمعروف في السنة.
(5) المحدث: أي من أتي الحدث.
(6) مسلم، كتاب الحج، باب فضل المدينة (2/999) رقم 1371.
(7) البخاري، كتاب البيوع، باب بركة صاع النبي ومده (4/346).
(8) البخاري، كتاب المغازي، باب أحد جبل يحبنا ونحبه (7/337) رقم 484.
(9) لا يختلي خلاها: لا يجز ولا يقطع الحشيش الرطب فيها.
(10) لا ينفر صيدها: لا يزجر ويمنع من الرعي.
(11) أشار بها، والمراد تعريف اللقطة.
(12) أخرجه أحمد (1/119).
(13) انظر: السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحماية، ص 135.
(14) انظر: البداية والنهاية (3/181)، وابن حجر في الفتح وحسن إسناده، فتح الباري (7/236).
لقد كانوا يمكرون ليوثقوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويحبسوه حتى يموت، أو ليقتلوه ويتخلصوا منه، أو ليخرجوه من مكة منفيًّا مطروداً، ولقد ائتمروا بهذا كله ثم اختاروا قتله، على أن يتولى ذلك المنكر فتية من القبائل جميعاً، ليتفرق دمه في القبائل، ويعجز بنو هاشم عن قتال العرب كلها، فيرضوا بالدية وينتهي الأمر ( وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ).
إنها صورة ساخرة وهي في الوقت ذاته صورة مفزعة، فأين هؤلاء البشر الضعاف المهازيل من تلك القدرة القادرة، قدرة الله الجبار، القاهر فوق عباده، الغالب على أمره، وهو بكل شيء محيط(1).
ثانيًا: الترتيب النبوي للهجرة:
عن عائشة أم المؤمنين قالت: كان لا يخطئ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأتي بيت أبي بكر أحد طرفي النهار، إما بكرة، وإما عشية، حتى إذا كان اليوم الذي أذن فيه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الهجرة، والخروج من مكة من بين ظهري قومه، أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالهاجرة(2)، في ساعة كان لا يأتي فيها، قالت: فلما رآه أبو بكر، قال: ما جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الساعة إلا لأمر حدث.
قالت: فلما دخل، تأخر له أبو بكر عن سريره، فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليس عند أبي بكر إلا أنا وأختي أسماء بنت أبي بكر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أخرج عني من عندك» فقال: يا رسول الله إنما هما ابنتاي، وما ذاك، فداك أبي وأمي! فقال: «إنه قد أذن لي في الخروج والهجرة» قالت: فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله؟ قال: «الصحبة» قالت: فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أحدًا يبكي من الفرح، حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ، ثم قال: يا نبي الله، إن هاتين راحلتان قد كنت أعددتهما لهذا، فاستأجرا عبد الله بن أريقط رجلاً من بني الديل بن بكر، وكانت أمه امرأة من بني سهم بن عمرو، وكان مشركًا يدلهما على الطريق، فدفعا إليه راحلتيهما فكانتا عنده يرعاها لميعادهما(3).
قالت عائشة: فجهزناهما أحث الجهاز، وصنعنا لهم سفرة في جراب، فقطمت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب، فبذلك سميت ذات النطاقين، ثم لحق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر بغار في جبل ثور فكمنا(4) فيه ثلاث ليالٍ يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام، شاب، ثقف(5) لقن(6)، فيدلج(7) من عندهما بسحر، فيصبح مع قريش بمكة كبائت، فلا يسمع أمرا يَكتادان(8) به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك، حين يختلط الظلام ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولي أبي بكر منحة من غنم فيريحها عليها حين تذهب ساعة من العشاء فيبتان في رِسَل- وهو لبن منحتهما ورضيفهما(9)- حتى ينعق(10) بها عامر بن فهيرة بغلس(11) يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث، واستأجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر رجلا من بني الديل وهو من بني عبد بن عدي هاديا خريتا- والخريت الماهر- بالهداية قد غمس حلفاً(12) في آل العاص ابن وائل السهمي، وهو على دين كفار قريش، فأمناه فدفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما صبح ثلاث، وانطلق معهما عامر به فهيرة، والدليل فأخذ بهم طريق السواحل»(13).
ثالثًا: خروج الرسول - صلى الله عليه وسلم - ووصوله إلى الغار:
لم يعلم بخروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحد حين خرج إلا علي بن أبي طالب، وأبو بكر الصديق وآل أبي بكر.
__________
(1) انظر: في ظلال القرآن (3/1501).
(2) الهاجرة: نصف النهار عند زوال الشمس مع الظهر أو إلى العصر.
(3) انظر: السيرة النبوية لابن كثير (2/233، 234).
(4) كمنا فيه: أي استترا واستخفيا ومنه الكمين في الحربة، النهاية (4/201).
(5) ثَقِفْ: ذو فطنة وذكاء والمراد ثابت المعرفة بما يحتاج إليه، النهاية (1/216).
(6) لقن: فهم حسن التلقي لما يسمعه، النهاية (4/266).
(7) يدلج: أدلج إذا سار أول الليل وادّلج بالتشديد إذا سار آخره.
(8) يُكتادان: أي يطلب لهما فيه المكروه وهو من الكيد.
(9) الرضيف: اللبن المرضوف، وهو الذي طرح فيه الحجارة المحماة ليذهب وَخَمُه.
(10) ينعق: نعق بغنمه، أي صاح بها وزجرها، القاموس المحيط (3/295).
(11) الغلس: ظلمة آخر الليل إذا اختلطت بضوء الصباح، النهاية (3/377).
(12) غمس حلفاً: أي أخذ بنصيب من عقدهم وحلفهم يأمن به.
(13) البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب هجرة النبي رقم 3905.
أما علي فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يتخلف، حتى يؤدي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الودائع، التي كانت عنده للناس، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليس بمكة أحد عنده شيء يخشى عليه إلا وضعه عنده، لما يعلم من صدقه وأمانته(1) وكان الميعاد بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر - رضي الله عنه - فخرجا من خوخة(2) لأبي بكر في ظهر بيته، وذلك للإمعان في الاستخفاء حتى لا تتبعهما قريش، وتمنعهما من تلك الرحلة المباركة، وقد اتعدا مع الليل على أن يلقاهما عبد الله بن أريقط في غار ثور بعد ثلاث ليال(3).
رابعًا: رِقة النبي - صلى الله عليه وسلم - عند خروجه من مكة:
وقف الرسول - صلى الله عليه وسلم - عند خروجه بالحزورة في سوق مكة، وقال: «والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرجت منك ما خرجت»(4).
ثم انطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه من بطش المشركين، وصرفهم عنهما.
روى الإمام أحمد عن ابن عباس: (أن المشركين اقتفوا الأثر حتى إذا بلغوا الجبل جبل ثور اختلط عليهم، فصعدوا الجبل فمروا بالغار، فرأوا على بابه نسيج العنكبوت فقالوا: لو دخل هاهنا أحد لم يكن نسيج العنكبوت على بابه)(5) وهذه من جنود الله عز وجل التي يخذل بها الباطل، وينصر به الحق؛ لأنه جنود الله جلت قدرته أعم من أن تكون مادية أو معنوية، وإذا كانت مادية فإن خطرها لا يتثمل في ضخامتها فقد تفتك جرثومة لا تراها العين بجيش ذي لجب، قال تعالى: ( وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ ) [المدثر: 31]. أي وما يعلم جنود ربك لفرط كثرتها إلا هو، فجنود الله غير متناهية؛ لأن مقدوراته غير متناهية(6) كما أنه لا سبيل لأحد إلى حصر الممكنات والوقوف على حقائقها وصفاتها ولو إجمالا فضلا عن الاطلاع على تفاصيل أحوالها من كم وكيف ونسبة(7).
خامساً: عناية الله سبحانه وتعالى ورعايته لرسوله صلى الله عليه وسلم:
بالرغم من كل الأسباب التي اتخذها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه لم يرتكن إليها مطلقاً وإنما كان كامل الثقة في الله، عظيم الرجاء في نصره وتأييده، دائم الدعاء بالصيغة التي علمه الله إياها(8) قال تعالى: ( وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنْكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا ) [الإسراء: 80].
وفي هذه الآية الكريمة دعاء يعلمه الله لنبيه ليدعوه به، ولتتعلم أمته كيف تدعو الله وكيف تتجه إليه؟ دعاء بصدق المدخل وصدق المخرج، كناية عن صدق الرحلة كلها، بدئها وختامها، أولها وآخرها وما بين الأول والآخر، وللصدق هنا قيمته، بمناسبة ما حاوله المشركون من فتنته عما أنزله الله عليه ليفتري على الله غيره. وللصدق كذلك ظلاله: ظلال الثبات والاطمئنان والنظافة والإخلاص ( وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنْكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا ) قوة وهيبة أستعلي بهما على سلطان الأرض وقوة المشركين، وكلمة ( مِن لَّدُنْكَ ) تصور القرب والاتصال بالله، والاستمداد من عونه مباشرة واللجوء إلى حماه.
وصاحب الدعوة لا يمكن أن يستمد السلطان إلا من الله، ولا يمكن أن يُهاب إلا بسلطان الله، ولا يمكن أن يستظل بحاكم أو ذي جاه فينصره ويمنعه، ما لم يكن اتجاهه قبل ذلك إلى الله، والدعوة قد تغزو قلوب ذوي السلطان، والجاه، فيصبحون لها جنداً وخدماً فيفلحون، ولكنها هي لا تفلح إن كانت من جند السلطان وخدمه، فهي من أمر الله، وهي أعلى من ذوي السلطان والجاه(9).
وعندما أحاط المشركون بالغار، وأصبح منهم رأي العين طمأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - الصديق بمعية الله لهما؛ فعن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - قال: قلت للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا في الغار: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، فقال: «ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما؟(10)».
وفي رواية: «اسكت يا أبا بكر، اثنان الله ثالثهما».
وسجل الحق عز وجل ذلك في قوله تعالى: ( إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ
الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللهُ
__________
(1) السيرة النبوية لابن كثير (2/234) ... (11) الهجرة في القرآن الكريم، ص334.
(3) خاتم النبيين لأبي زهرة (1/659) السيرة النبوية لابن كثير (2/234).
(4) الترمذي، كتاب المناقب، باب فضل مكة (5/722).
(5) مسند الإمام أحمد (1/348). ... (3) انظر: تفسير الرازي (30/208).
(6) انظر: تفسير أبي مسعود (9/60).
(8) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص72. ...
(9) انظر: في ظلال القرآن (4/2247).
(10) البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب المهاجرين، رقم 3653.
سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) [التوبة: 40].
سادساً: خيمة أم معبد في طريق الهجرة:
وبعد ثلاث ليالٍ من دخول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الغار، خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه من الغار، وقد هدأ الطلب ويئس المشركون من الوصول إلى رسول الله، وقد قلنا إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر قد استأجرا رجلاً من بني الديل يسمى عبد الله بن أريقط وكان مشركًا، وقد أمناه فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما، وقد جاءهما فعلا في الموعد المحدد وسلك بهما طريقاً غير معهودة ليخفي أمرهما عمن يلحق بهم من كفار قريش(1)، وفي الطريق إلى المدينة مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأم معبد(2) في قديد(3) حيث مساكن خزاعة، وهي أخت خنيس بن خالد الخزاعي الذي روى قصتها، وهي قصة تناقلها الرواة وأصحاب السير، وقال عنها ابن كثير: «وقصتها مشهورة مروية من طرق يشد بعضها بعضا»(4)، فعن خالد بن خنيس الخزاعي - رضي الله عنه - صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين خرج من مكة، وخرج منها مهاجراً إلى المدينة، هو وأبو بكر - رضي الله عنه - ومولى أبي بكر عامر بن فهيرة - رضي الله عنه - ودليلهما الليثي عبد الله بن الأريقط، مروا على خيمتي أم معبد الخزاعية، وكانت برزة(5) جلدة(6) تحتبي(7) بفناء القبة ثم تسقي وتطعم، فسألوهما لحماً وتمراً، ليشتروه منها، فلم يصيبوا عندها شيئاً من ذلك، وكان القوم مُرْمِلين(8) مسنتين(9) فنظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى شاة في كسر الخيمة(10) فقال: «ما هذه الشاة يا أم معبد؟» قالت: خلفها الجهد عن الغنم، قال: «فهل بها من لبن؟» قالت: هي أجهد من ذلك، قال: «أتأذنين أن أحلبها؟» قالت: بلى بأبي أنت وأمي، نعم، إن رأيت بها حلباً فاحلبها.
فدعا بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمسح بيده ضرعها، وسمى الله عز وجل، ودعا لها في شاتها، فتفاجت(11) عليه، ودرت(12) واجترت(13) ودعا بإناء يُرْبِض(14) الرهط، فحلب فيها ثجا(15) حتى علاه البهاء(16) ثم سقاها حتى رويت، وسقى أصحابه حتى رووا، وشرب آخرهم - صلى الله عليه وسلم - ثم أراضوا(17)، ثم حلب فيها ثانياً بعد بدء حتى ملأ الإناء، ثم غادره عندها، ثم بايعها، وارتحلوا عنها.
فقلما لبثت حتى جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزا عجافاً(18) يتساوكن هُزلا(19) ضحى، مخهن قليل، فلما رأى أبو معبد اللبن عجب، وقال: من أين لك هذا اللبن يا أم معبد، والشاة عازب حيال(20) ولا حلوبة في البيت؟ قالت: لا والله، إلا أنه مر بنا رجل مبارك، من حاله كذا وكذا، قال: صفيه لي يا أم معبد قالت: رأيت رجلا ظاهر الوضاءة(21)، أبلج الوجه(22)،
حسن الخلق، لم تعبه نحلة(23) ولا تزر به صعلة(24) وسيم(25)، في عينيه دعج(26)
__________
(1) انظر: المستفاد من قصص القرآن (2/101). ... (4) هي عاتكة بنت كعب الخزاعية.
(3) وادي قديد: يبعد عن الطريق المعبدة حوالي ثمانين ميلاً.
(4) البداية والنهاية (3/188).
(5) برزة: كهلة كبيرة السن، لا تحتجب احتجاب الشواب.
(6) جلدة: قوية صلبة وقيل عاقلة.
(7) تحتبي: أي تجلس وتضم يديها إحداهما إلى الأخرى، على ركبتيها، وتلك جلسة الأعراب.
(8) مرملين: نفذ زادهم.
(9) مسنتين: أي داخلين في أسَنَة وهي الجدب والمجاعة والقحط.
(10) كسر الخيمة: بفتح الكاف وكسرها، وسكون المهملة: أي جانبها.
(11) تفاجت: فتحت ما بين رجليها للحلب. ... (8) درت: أرسلت اللبن.
((1/66)
13) واجترت: من الجرة وهي ما تخرجها البهيمة من كرشها تمضغها.
(14) يربض: يرويهم حتى يثقلوا فيربضوا، أي يقعوا على الأرض للنوم والراحة.
(15) ثجا: لبنا كثيراً سائلا. ... (12) علاه البهاء: أي أعلا الإناء بهاء اللبن.
(17) أراضوا: أي رووا، فنقعوا بالري، يريد شربوا مرة بعد مرة.
(18) عجافا: ضد السمن، وهو جمع عجفاء وهي المهزولة.
(19) يتساوكن هزلا: يتمايلن من الضعف.
(20) عازب: بعيدة المرعى لا تأوي إلى البيت إلا في الليل، حيال: لا تحمل.
(21) ظاهر الوضاءة: ظاهر الجمال والحسن ... .
(18) أبلغ الوجه: مشرق الوجه مضيئه.
(23) نحلة: من النحول والدقة والضمور، أي أنه ليس نحيلا.
(24) صعلة: صغر الرأس وهي تعني الدقة والنحول في البدن.
(25) وسيم: الوسيم المشهور بالحسن كأنه صار الحسن له سمة.
(26) دعج: شديد سواد العين في شدة بياضها. ...
(5) في أشفاره وطف: الشعر النابت على الجفن فيه طول.
، وفي أشفاره وطف(1)، وفي صوته صهل(2) وفي عنقه سطع(3) وفي لحيته كثاثة، أزج(4)، أقرن(5)، إن صمت فعليه الوقار، وإن تكلم سما(6) وعلاه البهاء، أجمل الناس وأبهاه من بعيد، وأحلاه وأحسنه من قريب، حلو المنطق، فصل لا هذر ولا نزر(7)، كأن منطقه خرزات نظم يتحدرن، ربع(8) لا يأس من طول(9) ولا تقتحمه العين من قصر(10) غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظراً، وأحسنهم قدراً، له رفقاء يحفون به، إن قال استمعوا لقوله وإن أمر تبادروا إلى أمره، محفود(11)، محشود(12)، لا عابس ولا مُفنَّد(13).
قال أبو معبد: هو والله صاحب قريش الذي ذكر لنا من أمره ما ذكر بمكة، ولقد هممت أن أصحبه، ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلاً. (14)
سابعاً: سراقة بن مالك يلاحق رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أعلنت قريش في نوادي مكة بأنه من يأتي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - حيًّا أو ميتًا، فله مائة ناقة، وانتشر هذا الخبر عند قبائل الأعراب الذين في ضواحي مكة، وطمع سراقة بن مالك بن جعشم في نيل الكسب الذي أعدته قريش لمن يأتي برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجهد نفسه لينال ذلك، ولكن الله بقدرته التي لا يغلبها غالب، جعله يرجع مدافعًا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ما كان جاهداً عليه.
قال ابن شهاب: وأخبرني عبد الرحمن بن مالك المدلجي، وهو ابن أخي سراقة بن مالك بن جُعشم، أن أباه أخبره، أنه سمع سراقة بن جعشم يقول: جاءنا رُسُل كفار قريش يجعلون في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، دية كل منها لمن قتله أو أسره، فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج، إذ أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس، فقال: يا سراقة إني رأيت آنفا أَسْوِدة(15) بالساحل أُراها محمداً وأصحابه، قال سراقة: فعرفت أنهم هم: فقلت له: إنهم ليسوا بهم، ولكنك رأيت فلاناً وفلاناً انطلقوا بأعيننا، ثم لبثت في المجلس ساعة، ثم قمت فدخلت فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي، وهى من وراء أكمة(16) فتحبسها علي، وأخذت رمحي فخرجت به من ظهر البيت فخططت بزجه(17) الأرض وخفضت عالية حتى أتيت فرسي فركبتها فرفعتها تقرب بي حتى دنوت منهم فعثرت بي فرسي فخررت عنها، فقمت فأهويت يدي إلى كنانتي فاستخرجت منها الأزلام(18) فاستقسمت بها، أضرهم أم لا، فخرج الذي أكره، فركبت فرسي، وعصيت الأزلام؛ تُقَرّب بي، حتى إذا سمعت قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو لا يلتفت، وأبو بكر يكثر الالتفات، ساخت(19) يدا فرسي في الأرض، حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها، ثم زجرتها فنهضتْ فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها عثان(20) ساطع في السماء مثل الدخان، فاستقسمت بالأزلام فخرج الذي أكره، فناديتهم بالأمان فوقفوا فركبت فرسي حتى جئتهم ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم، أن سيظهر أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية، وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع فلم يرزآني(21) ولم يسألاني، إلا أن قال: أخف عنا، فسألته أن يكتب لي في كتاب آمن، فأمر عامر بن فهيرة فكتب في رقعة من أديم(22) ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم(23).
__________
(2) صهل: كالبحة وهو ألا يكون حاد الصوت. ... (7) سطع: طول العنق.
(4) أزج: دقيق شعر الحاجبين مع طولهما.
(5) أقرن: متصل ما بين حاجبين من الشعر، أو مقرون الحاجبين.
(6) سما: علا برأسه، أو بيده وارتفع.
(7) لا هذر ولا نذر: الهذر من الكلام ما لا فائدة فيه والنزر: القليل.
(8) رَبْع: ليس بالقصير ولا بالطويل. ... (13) لا يأس من طول: لا يجاوز الناس طولا.
(10) لا تقتحمه العين من قصر: لا تزدريه ولا تحتقره. ... (15) محفود: مخدوم.
(12) محشود: يجتمع الناس حواليه.
(13) لا عابس ولا مفند: ليس عابس الوجه ولا مفند: ليس منسوباً إلى الجهل وقلة العقل.
(14) انظر: الهجرة النبوية المباركة (ص 104-106) والهوامش منه ببعض تصرف.
(15) أسودة: جمع قلة لسواد وهو الشخص يرى من بعيد أسود، الهجرة في القرآن، ص344.
(16) الأكمة: هي الرابية. ... (3) الزج: الحديدة في أسفل الرمح.
(18) الأزلام: الأقداح التي كانت في الجاهلية مكتوب عليها الأمر، والنهي: افعل ولا تفعل.
(19) ساخت يدا فرسي: أي غاصت في الأرض.
(20) عثان: أي دخان، وجمعه عواثن على غير قياس، النهاية (3/183).
(21) فلم يرزآني: أي لم يأخذا مني شيئاً. ... (8) أديم: قطعة من جلد.
(23) البخاري، كتاب مناقب الأنصار، رقم 3906. ... (10) التزبب في الإنسان: كثرة الشعر وطوله.
وكان مما اشتهر عند الناس من أمر سراقة ما ذكره ابن عبد البر، وابن حجر وغيرهما، قال ابن عبد البر: روى سفيان بن عيينة عن أبي موسى عن الحسن، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لسراقة بن مالك: «كيف بك إذا لبست سواري كسرى؟» قال: فلما أُتى عمر بسواري كسرى ومنطقته وتاجه، دعا سراقة بن مالك فألبسه إياها، وكان سراقة رجلاً أزب(1) كثير شعر الساعدين، وقال له: ارفع يديك فقال: الله أكبر، الحمد لله الذي سلبهما كسرى بن هرمز الذي كان يقول: أنا رب الناس، وألبسهما سراقة بن مالك بن جعشم أعرابياًّ من بني مدلج، ورفع بها عمر صوته(2)، ثم أركب سراقة، وطيف به المدينة، والناس حوله، وهو يرفع عقيرته مردداً قول الفاروق: الله أكبر، الحمد الله الذي سلبهما كسرى بن هرمز، وألبسهما سراقة بن جعشم أعرابياًّ من بني مدلج(3).
ثامنًا: سبحان مقلب القلوب:
كان سراقة في بداية أمره يريد القبض على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسلمه لزعماء مكة لينال مائة ناقة، وإذا بالأمور تنقلب رأساً على عقب، ويصبح يرد الطلب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجعل لا يلقى أحداً من الطلب إلا رده قائلا: كفيتم هذا الوجه، فلما اطمأن إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصل إلى المدينة المنورة، جعل سراقة يقص ما كان من قصته وقصة فرسه، واشتهر هذا عنه، وتناقلته الألسنة حتى امتلأت به نوادي مكة، فخاف رؤساء قريش أن يكون ذلك سبباً لإسلام بعض أهل مكة، وكان سراقة أمير بني مدلج، ورئيسهم فكتب أبو جهل إليهم:
بني مدلج إني أخاف سفيهكم ... سراقة مستغوٍ لنصر محمد
عليكم به ألا يفرق جمعكم فيصبح شتى بعد عز وسؤدد ... فيصبح شتى بعد عز وسؤدد
فقال سراقة يرد على أبي جهل:
أبا حكم والله لو كنتَ شاهداً ... لأمر جوادي إذ تسوخ قوائمه
علمت ولم تَشْكُك بأن محمداً ... رسول وبرهان فمن ذا يقاومه
عليك فكُف القوم عنه فإنني ... أرى أمره يوماً ستبدو معالمه
بأمر تود الناس فيه بأسرهم ... بأن جميع الناس طُراً مسالمه(4)
تاسعاً: استقبال الأنصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
لما سمع المسلمون بالمدينة بمخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة، كانوا يغدون كل غداة إلى الحرة، فينتظرون حتى يردهم حر الظهيرة، فانقلبوا يوماً بعد ما أطالوا انتظارهم، فلما أووا إلى بيوتهم أوفَى رجل من يهود على أُطُم(5) من آطامهم لأمر ينظر إليه، فبصر برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه مبيضين(6) يزول بهم السراب(7)، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معاشر العرب هذا جدكم(8) الذي تنتظرون، فثار المسلمون إلى السلاح فتلقوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بظهر الحرة فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف، وذلك يوم الاثنين(9)، من شهر ربيع الأول(10) فقام أبو بكر للناس وجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صامتاً، فطفق من جاء من الأنصار، ممن لم ير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحيي أبا بكر، حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرف الناس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك «فلبث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة(11)، وأُسس المسجد الذي أسس على التقوى وصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ركب راحلته»(12).
وبعد أن أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدة التي مكثها بقباء، وأراد أن يدخل المدينة «بعث إلى الأنصار فجاءوا إلى نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر، فسلموا عليهما، وقالوا: اركبا آمنين مطاعين، فركب نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وحفوا دونهما بالسلاح»(13).
وعند وصوله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة أخذ أهل المدينة يقولون: «جاء نبي الله، جاء نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فأشرفوا ينظرون ويقولون: جاء نبي الله، جاء نبي الله» (14).
__________
(2) انظر: الروض الأنف (4/218)، الهجرة في القرآن، ص346.
(3) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/495). ... (3) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/494).
(4) أطم: كالحصن. ... (5) مبيضين: عليهم ثياب بيض.
(7) السراب: أي يزول بهم السراب عن النظر بسبب عروضهم له.
(8) جدكم: حظكم وصاحب دولتكم، الذي تتوقعونه.
(9) قال الحافظ بن حجر: هذا هو المعتمد وشذ من قال يوم الجمعة، الفتح (7/544).
(10) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، ص351. ... (4) نفس المصدر، ص352.
(12) صحيح البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب هجرة النبي (5/77، 78).
(13) ،7) نفس المصدر رقم 3911. ... (8) الهجرة في القرآن الكريم، ص 353.
فكان يوم فرح وابتهاج لم تر المدينة يوماً مثله، ولبس الناس أحسن ملابسهم كأنهم في يوم عيد، ولقد كان حقًّا يوم عيد؛ لأنه اليوم الذي انتقل فيه الإسلام من ذلك الحيز الضيق في مكة إلى رحابة الانطلاق والانتشار بهذه البقعة المباركة المدينة، ومنها إلى سائر بقائع الأرض. لقد أحس أهل المدينة بالفضل الذي حباهم الله به، وبالشرف الذي اختصهم به أيضاً، فقد صارت بلدتهم موطناً لإيواء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابته المهاجرين، ثم لنصرة الإسلام كما أصبحت موطناً للنظام الإسلامي العام التفصيلي بكل مقوماته، ولذلك خرج أهل المدينة يهللون في فرح وابتهاج، ويقولون: يا رسول الله، يا محمد، يا رسول الله(1).
روى الإمام مسلم بسنده قال: «عندما دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، صعد الرجال والنساء فوق البيوت، وتفرق العلماء والخدم في الطرق ينادون: «يا محمدُ، يا رسول الله، يا محمد، يا رسول الله»(2).
وبعد هذا الاستقبال الجماهيري العظيم الذي لم يرد مثله في تاريخ الإنسانية سار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى نزل في دار أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - فعن أنس - رضي الله عنه - في حديث الهجرة الطويل وفيه: «فأقبل يسير حتى نزل جانب دار أبي أيوب فإنه ليحدث أهله(3) إذ سمع به عبد الله بن سلام وهو في نخل لأهله يخترف(4) لهم فعجل أن يضع الذي يخترف لهم فيها، فجاء وهي مع فسمع من نبي الله صلى الله عليه وسلم، ثم رجع إلى أهله فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: «أي بيوت أهلنا(5) أقرب» فقال أبو أيوب: أنا يا نبي الله هذه داري وهذا بابي، قال: «فانطلق فهيئ لنا مقيلا(6)...»(7) ثم نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أبي أيوب حتى بنى مسجده ومساكنه.
وبهذا قد تمت هجرته - صلى الله عليه وسلم - وهجرة أصحابه رضي الله عنهم، ولم تنته الهجرة بأهدافها وغاياتها، بل بدأت بعد وصول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سالماً إلى المدينة، وبدأ معها رحلة المتاعب والمصاعب والتحديات، فتغلب عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للوصول للمستقبل الباهر للأمة، والدولة الإسلامية، التي استطاعت أن تصنع حضارة إنسانية رائعة، على أسس من الإيمان والتقوى، والإحسان والعدل، بعد أن تغلبت على أقوى دولتين كانتا تحكمان في العالم، وهما: دولة الفرس ودولة الروم(8).
عاشراً: فوائد ودروس وعبر:
1- الصراع بين الحق والباطل: صراع قديم وممتد، وهو سنة إلهية نافذة قال عز وجل: ( الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) [الحج: 40].
ولكن هذا الصراع معلوم العاقبة: ( كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ
عَزِيزٌ ) [المجادلة: 21].
2- مكر خصوم الدعوة بالداعية: أمر مستمر متكرر، سواء عن طريق الحبس أو القتل أو النفي والإخراج من الأرض، وعلى الداعية أن يلجأ إلى ربه وأن يثق به ويتوكل عليه ويعلم أن المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله(9)، كما قال عز وجل: ( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) [الأنفال: 30].
ومن مكر أهل الباطل وخصوم الدعوة استخدام سلاح المال لإغراء النفوس الضعيفة للقضاء على الدعوة والدعاة، ولذلك رصدوا مائة ناقة لمن يأتي بأحد المهاجرين حيًّا أو ميتاً، فتحرك الطامعون ومنهم سراقة، الذي عاد بعد هذه المغامرة الخاسرة ماديًّا بأوفر ربح وأطيب رزق، وهو رزق الإيمان، وأخذ يعمَّي الطريق عن الطامعين الآخرين الذين اجتهدوا في الطلب، وهكذا يرد الله عن أوليائه والدعاة(10) قال تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ) [الأنفال: 36].
__________
(2) مسلم، كتاب الزهد والرقائق باب حديث الهجرة، رقم 2009.
(3) الضمير هنا للنبي - صلى الله عليه وسلم - (فتح الباري (7/251) ... (2) يخترف: أي يحتبي من ثمارها، انظر: النهاية (2/24)
(5) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، ص354. ... (4) مقيلا: أي مكاناً تقع فيه القيلولة.
(7) البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب هجرة النبي إلى المدينة (5/79).
(8) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، ص355. ... (7) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص199.
(10) انظر الهجرة النبوية المباركة، ص200. ...
3- إن من تأمل حادثة الهجرة ورأى دقة التخطيط فيها، ودقة الأخذ بالأسباب من ابتدائها إلى انتهائها، ومن مقدماتها إلى ما جرى بعدها، يدرك أن التخطيط
المسدد بالوحي في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان قائمًا، وأن التخطيط جزء من السنّة النبوية وهو جزء من التكليف الإلهي في كل ما طولب به المسلم وأن الذين يميلون إلى العفوية، بحجة أن التخطيط وإحكام الأمور ليسا من السنّة أمثال هؤلاء مخطئون ويجنون على أنفسهم وعلى المسلمين(1).
فعندما حان وقت الهجرة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وشرع النبي - صلى الله عليه وسلم - في التنفيذ نلاحظ الآتي:
* وجود التنظيم الدقيق للهجرة حتى نجحت، رغم ما كان يكتنفها من صعاب وعقبات، وذلك أن كل أمر من أمور الهجرة كان مدروساً دراسة وافية، فمثلا:
أ- جاء - صلى الله عليه وسلم - إلى بيت أبي بكر في وقت شديد الحر- الوقت الذي لا يخرج فيه أحد- بل من عادته لم يكن يأتي فيه، لماذا؟ حتى لا يراه أحد.
ب- إخفاء شخصيته - صلى الله عليه وسلم - أثناء مجيئه للصديق، وجاء إلى بيت الصديق متلثماً، لأن التلثم يقلل من إمكانية التعرف على معالم الوجه المتلثم(2).
ج- أمر - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر أن يُخرِج مَنْ عنده، ولما تكلم لم يبين إلا الأمر بالهجرة دون تحديد الاتجاه.
د - وكان الخروج ليلاً ومن باب خلفي في بيت أبي بكر(3).
هـ- بلغ الاحتياط مداه، باتخاذ طرق غير مألوفة للقوم، والاستعانة بذلك بخبير يعرف مسالك البادية ومسارب الصحراء، ولو كان ذلك الخبير مشركاً ما دام على خلق ورزانة، وفيه دليل على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان لا يحجم عن الاستعانة بالخبرات مهما يكن مصدرها(4).
* انتقاء شخصيات عاقلة لتقوم بالمعاونة في شؤون الهجرة، ويلاحظ أن هذه الشخصيات كلها تترابط برباط القرابة، أو برباط العمل الواحد، مما يجعل من هؤلاء الأفراد وحدة متعاونة على تحقيق الهدف الكبير.
* وضع كل فرد من أفراد هذه الأسرة في عمله المناسب، الذي يجيد القيام به على أحسن وجه ليكون أقدر على أدائه والنهوض بتبعاته.
* فكرة نوم علي بن أبي طالب مكان الرسول، فكرة ناجحة، قد ضللت القوم وخدعتهم، وصرفتهم عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى خرج في جنح الليل تحرسه عناية الله وهم نائمون، ولقد ظلت أبصارهم معلقة بعد اليقظة بمضجع الرسول - صلى الله عليه وسلم - فما كانوا يشكون في أنه ما يزال نائماً، مسجى في بردته في حين النائم هو علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -.
ونرى احتياجات الرحلة قد دبرت تدبيرا محكما:
أ- علي :- رضي الله عنه - ينام في فراش الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليخدع القوم، ويُسلَّم الودائع ويلحق بالرسول.
ب- وعبد الله بن أبي بكر: صاحب المخابرات الصادق، وكاشف تحركات العدو.
جـ- وأسماء ذات النطاقين: حاملة التموين من مكة إلى الغار، وسط جنون المشركين بحثاً عن محمد - صلى الله عليه وسلم - ليقتلوه.
د- وعامر بن فهيرة: الراعي البسيط الذي قدم اللحم واللبن إلى صاحبي الغار، وبدد آثار أقدام المسيرة التاريخية بأغنامه، كيلا يتفرسها القوم، لقد كان هذا الراعي يقوم بدور الإمداد والتموين.
هـ- وعبد الله بن أريقط: دليل الهجرة الأمين، وخبير الصحراء البصير، ينتظر في يقظة إشارة البدء من الرسول، ليأخذ الركب طريقه من الغار إلى يثرب.
فهذا تدبير للأمور على نحو رائع دقيق، واحتياط للظروف بأسلوب حكيم، ووضع لكل شخص من أشخاص الهجرة في مكانه المناسب، وسد لجميع الثغرات، وتغطية بديعة لكل مطالب الرحلة، واقتصار على العدد اللازم من الأشخاص من غير زيادة ولا إسراف.
لقد أخذ الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالأسباب المعقولة أخذًا قويًّا حسب استطاعته وقدرته.. ومن ثم باتت عناية الله متوقعة(5).
4- الأخذ بالأسباب أمر ضروري:
إن اتخاذ الأسباب أمر ضروري وواجب، ولكن لا يعني ذلك دائماً حصول النتيجة، ذلك لأن هذا أمر يتعلق بأمر الله، ومشيئته ومن هنا كان التوكل أمراً ضرورياًّ وهو من باب استكمال اتخاذ الأسباب.
إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعد كل الأسباب، واتخذ كل الوسائل ولكنه في الوقت نفسه مع الله، يدعوه ويستنصره أن يكلل سعيه بالنجاح، وهنا يستجاب الدعاء، وينصرف القوم بعد أن وقفوا على باب الغار، وتسيخ فرس سراقة في الأرض ويكلل العمل بالنجاح(6).
5- الإيمان بالمعجزات الحسية:
__________
(1) انظر: الأساس في السنة، سعيد حوى (1/357).
(2) انظر: في السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحيطة، ص141.
(3) انظر: معين السيرة، ص147. ... (5) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، ص361.
(5) انظر: أضواء على الهجرة، لتوفيق محمد، ص393: 397.
(6) انظر: من معين السيرة، ص148. ... (2،3) انظر: المستفاد من قصص القرآن (2/108).
وفي هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وقعت معجزات حسية، وهي دلائل ملموسة على حفظ الله ورعايته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك -على ما روي- نسيج العنكبوت على فم الغار، ومنها ما جرى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أم معبد، وما جرى له مع سراقة ووعده إياه بأن يلبس سواري كسرى، فعلى الدعاة ألا يتنصلوا من هذه الخوارق، بل يذكروها ما دامت ثابتة بالسنة النبوية على أن ينبهوا الناس على أن هذه الخوارق هي من جملة دلائل نبوته ورسالته عليه السلام(1).
6- جواز الاستعانة بالكافر المأمون:
ويجوز للدعاة أن يستعينوا بمن لا يؤمن بدعوتهم، ما داموا يثقون بهم ويأتمنونهم على ما يستعينون به معهم، فقد رأينا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر استأجرا مشركاً ليدلهم على طريق الهجرة ودفعا إليه راحلتيهما وواعده عند غار ثور، وهذه أمور خطيرة أطلعاه عليها، ولا شك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وثقا به وأمناه، مما يدل على أن الكافر أو العاصي أو غير المنتسب إلى الدعاة، قد يوجد عند هؤلاء ما يستدعي وثوق الدعاة بهم، كأن تربطهم رابطة القرابة، أو المعرفة القديمة أو الجوار، أو عمل معروف، كان قد قدمه الداعية لهم، أو لأن هؤلاء عندهم نوع جيد من الأخلاق الأساسية، مثل الأمانة وحب عمل الخير إلى غير ذلك من الأسباب، والمسألة تقديرية يترك تقديرها إلى فطنة الداعي ومعرفته بالشخص(2).
7- دور المرأة في الهجرة:
وقد لمعت في سماء الهجرة أسماء كثيرة كان لها فضل كبير ونصيب وافر من الجهاد: منها عائشة بنت أبي بكر الصديق التي حفظت لنا القصة ووعتها وبلغتها للأمة، وأم سلمة المهاجرة الصبور، وأسماء ذات النطاقين(3) التي ساهمت في تموين الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه في الغار بالماء والغذاء، وكيف تحملت الأذى في سبيل الله؟ فقد حدثتنا عن ذلك فقالت: «لما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر - رضي الله عنه - أتانا نفر من قريش، فيهم أبو جهل بن هشام، فوقفوا على باب أبي بكر، فخرجت إليهم فقالوا: أين أبوك يا بنت أبي بكر؟ قالت: قلت: لا أدري والله أين أبي؟ قالت: فرفع أبو جهل يده، وكان فاحشاً خبيثاً فلطم خدي لطمة طرح منها قرطي قالت: ثم انصرفوا...» (4).(1/67)
فهذا درس من أسماء رضي الله عنها تعلمه لنساء المسلمين جيلاً بعد جيل كيف تخفي أسرار المسلمين عن الأعداء، وكيف تقف صامدة شامخة أمام قوى البغي والظلم! وأما درسها الثاني البليغ، فعندما دخل عليها جدها أبو قحافة، وقد ذهب بصره، فقال: «والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه»، قالت: «كلا يا أبت، ضع يدك على هذا المال، قالت: «فوضع يده عليه»، فقال: «لا بأس، إذا كان ترك الكم هذا فقد أحسن، وفي هذا بلاغ لكم»، «قالت:ولا والله ما ترك لنا شيئاً ولكني أردت أن أسكن الشيخ بذلك»(5).
وبهذه الفطنة والحكمة سترت أسماء أباها، وسكنت قلب جدها الضرير، من غير أن تكذب، فإن أباها قد ترك لهم حقًّا هذه الأحجار التي كومتها لتطمئن لها نفس الشيخ، إلا أنه قد ترك لهم معها إيماناً بالله لا تزلزله الجبال، ولا تحركه العواصف الهوج، ولا يتأثر بقلة أو كثرة في المال، وورثهم يقيناً وثقة به لا حد لها، وغرس فيهم همة تتعلق بمعالي الأمور، ولا تلتفت إلى سفافها فضرب بهم للبيت المسلم مثالاً عز أن يتكرر، وقل أن يوجد نظيره.
لقد ضربت أسماء رضي الله عنها بهذه المواقف لنساء وبنات المسلمين مثلا، هُن في أمس الحاجة إلى الاقتداء به، والنسج على منواله.
وظلت أسماء مع أخواتها في مكة لا تشكو ضيقاً، ولا تظهر حاجة، حتى بعث
النبي - صلى الله عليه وسلم - زيد بن حارثة وأبا رافع مولاه، وأعطاهما بعيرين وخمسمائة درهم إلى مكة، فقدما عليه بفاطمة وأم كلثوم ابنتيه، وسوده بنت زمعة زوجه، وأسامة بن زيد، وأمه بركة، المكناة بأم أيمن، وخرج معهما عبد الله بن أبي بكر بعيال أبي بكر فيهم عائشة وأسماء، فقدموا المدينة فأنزلهم في بيت حارثة بن النعمان(6).
8- أمانات المشركين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم:
__________
(3) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص206.
(4) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص126.
(5) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (2/102) إسناده صحيح.
(6) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص128.
في إيداع المشركين ودائعهم عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع محاربتهم له، وتصميمهم على قتله، دليل باهر على تناقضهم العجيب، الذي كانوا واقعين فيه، ففي الوقت الذي كانوا يكذبونه ويزعمون أنه ساحر، أو مجنون أو كذاب، لم يكونوا يجدون فيمن حولهم من هو خير منه أمانة وصدقاً فكانوا لا يضعون حوائجهم ولا أموالهم التي يخافون عليها إلا عنده، وهذا يدل على أن كفرانهم لم يكن بسبب الشك لديهم في صدقه، وإنما بسبب تكبرهم واستعلائهم على الحق، الذي جاء به، وخوفاً على زعامتهم وطغيانهم(1)، وصدق الله العظيم: ( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ ) [الأنعام: 33].
وفي أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - لعلي - رضي الله عنه - بتأدية هذه الأمانات لأصحابها في مكة رغم هذه الظروف الشديدة التي كان من المفروض أن يكتنفها الاضطراب، بحيث لا يتجه التفكير إلا إلى إنجاح خطة هجرته فقط، رغم ذلك فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما كان لينسى أو ينشغل عن رد الأمانات إلى أهلها، حتى ولو كان في أصعب الظروف التي تنسي الإنسان نفسه فضلا عن غيره(2).
9- الراحلة بالثمن:
لم يقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يركب الراحلة حتى أخذها بثمنها من أبي بكر - رضي الله عنه -، واستقر الثمن ديناً بذمته، وهذا درس واضح بأن حملة الدعوة ما ينبغي أن يكونوا عالة على أحد في وقت من الأوقات، فهم مصدر العطاء في كل شيء. إن يدهم إن لم تكن العليا، فلن تكون السفلى، وهكذا يصر عليه السلام أن يأخذها بالثمن، وسلوكه ذلك هو الترجمة الحقة لقوله تعالى: ( وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ) [الشعراء: 109].
إن الذين يحملون العقيدة والإيمان، ويبشرون بهما ما ينبغي أن تمتد أيديهم إلى أحد إلا الله؛ لأن هذا يتناقض مع ما يدعون إليه، وقد توعد الناس أن يعوا لغة الحال لأنها أبلغ من لغة المقال، وما تأخر المسلمون، وأصابهم ما أصابهم من الهوان إلا يوم أصبحت وسائل الدعوة والعاملين بها خاضعة للغة المادة، ينتظر الواحد منهم مرتبه، ويومها تحول العمل إلى عمل مادي فقد الروح والحيوية، وأصبح الأئمة موظفين.
إن الصوت الذي ينبعث من حنجرة وراءها الخوف من الله والأمل في رضاه، غير الصوت الذي ينبعث ليتلقى دراهم معدودة، فإذا توقفت توقف الصوت، وقديما قالوا: ليست النائحة كالثكلى، ولهذا قل التأثير، وبعد الناس عن جادة الصواب(3).
10- الداعية يعف عن أموال الناس:
لما عفا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن سراقة عرض عليه سراقة المساعدة فقال: وهذه كنانتيفخذ منها سهماً فإنك ستمر بإبلي وغنمي في موضع كذا وكذا فخذ منها حاجتك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا حاجة لي فيها»(4).
فحين يزهد الدعاة فيما عند الناس يحبهم الناس، وحين يطمعون في أموال الناس ينفر الناس عنهم، وهذا درس بليغ للدعاة إلى الله تعالى(5).
11- الجندية الرفيعة والبكاء من الفرح:
تظهر أثر التربية النبوية في جندية أبي بكر الصديق وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، فأبو بكر - رضي الله عنه - عندما أراد أن يهاجر إلى المدينة وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحباً» فقد بدأ في الإعداد والتخطيط للهجرة «فابتاع راحلتين واحتبسهما في داره يعلفهما إعداداً لذلك، وفي رواية البخاري، «وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر- وهو الخبط- أربعة أشهر»، لقد كان يدرك بثاقب بصره - رضي الله عنه -، وهو الذي تربى ليكون قائدا، أن لحظة الهجرة صعبة قد تأتي فجأة؛ ولذلك هيأ وسيلة الهجرة، ورتب تموينها، وسخر أسرته لخدمة النبي صلى الله عليه وسلم، وعندما جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخبره أن الله قد أذن له في الخروج والهجرة، بكى من شدة الفرح، وتقول عائشة رضي الله عنها في هذا الشأن: «فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحدا يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ»، إنها قمة الفرح البشري أن يتحول الفرح إلى بكاء.
__________
(1) انظر: فقه السيرة للبوطي، ص193. ... (2) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، ص364.
(3) انظر: معين السيرة، ص148، 149. ...
(4) المسند (1/3) تحقيق أحمد محمد شاكر. ... (2) انظر: في ظلال الهجرة النبوية، ص58.
فالصديق - رضي الله عنه - يعلم أن معنى هذه الصحبة، أنه سيكون وحده برفقة رسول رب العالمين بضعة عشرة يوماً على الأقل وهو الذي سيقدم حياته لسيده وقائده وحبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم، فأي فوز في هذا الوجود يفوق هذا الفوز: أن يتفرد الصديق وحده من دون أهل الأرض، ومن دون الصحب جميعاً برفقة سيد الخلق وصحبته كل هذه المدة(1) وتظهر معاني الحب في الله في خوف أبي بكر وهو في الغار من أن يراهما المشركون، ليكون الصديق مثلاً لما ينبغي أن يكون عليه جندي الدعوة الصادق، مع قائده الأمين، حين يحدق به الخطر من خوف وإشفاق على حياته، فما كان أبو بكر ساعتئذ بالذي يخشى على نفسه الموت، ولو كان كذلك لما رافق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذه الهجرة الخطيرة، وهو يعلم أن أقل جزائه القتل إن أمسكه المشركون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه كان يخشى على حياة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وعلى مستقبل الإسلام إن وقع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في قبضة المشركين(2)، ويظهر الحس الأمني الرفيع للصديق في هجرته مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في مواقف كثيرة منها، حين أجاب السائل: من هذا الرجل الذي بين يديك؟ فقال: هذا هادٍ يهديني السبيل، فظن السائل بأن الصديق يقصد الطريق، وإنما كان يقصد سبيل الخير، وهذا يدل على حسن استخدام أبي بكر للمعاريض، فرارا من الحرج أو الكذب(3)،؛ لأن الهجرة كانت سراًّ وقد أقره الرسول - صلى الله عليه وسلم - على ذلك(4)، وفي موقف علي بن أبي طالب مثال للجندي الصادق المخلص لدعوة الإسلام، حيث فدى قائده بحياته، ففي سلامة القائد سلامة للدعوة، وفي هلاكه خذلانها ووهنها، فما فعله علي - رضي الله عنه - ليلة الهجرة من بياته على فراش الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ كان من المحتمل أن تهوي سيوف فتيان قريش على رأس علي - رضي الله عنه -، ولكن علياًّ - رضي الله عنه - لم يبال بذلك، فحسبه أن يسلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نبي الأمة وقائد الدعوة(5).
12- فن قيادة الأرواح، وفن التعامل مع النفوس:
يظهر الحب العميق الذي سيطر على قلب أبي بكر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الهجرة، كما يظهر حب سائر الصحابة أجمعين في سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم. وهذا الحب الرباني كان نابعاً من القلب، وبإخلاص، لم يكن حب نفاق، أو نابعاً من مصلحة دنيوية، أو رغبة في منفعة أو رهبة لمكروه قد يقع، ومن أسباب هذا الحب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - صفاته القيادية الرشيدة، فهو يسهر ليناموا، ويتعب ليستريحوا، ويجوع ليشبعوا، كان يفرح لفرحهم ويحزن لحزنهم، فمن سلك سنن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع صحابته في حياته الخاصة والعامة، وشارك الناس في أفراحهم وأتراحهم وكان عمله لوجه الله أصابه شيء من هذا الحب إن كان من الزعماء أو القادة أو المسؤولين في أمة الإسلام(6).
إن القيادة الصحيحة هي التي تستطيع أن تقود الأرواح قبل كل شيء وتستطيع أن تتعامل مع النفوس قبل غيرها، وعلى قدر إحسان القيادة يكون إحسان الجنود، وعلى قدر البذل من القيادة يكون الحب من الجنود، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - رحيماً وشفوقاً بجنوده وأتباعه، فهو لم يهاجر إلا بعد أن هاجر معظم أصحابه، ولم يبقَ إلا المستضعفون والمفتونون ومن كانت له مهمات خاصة بالهجرة(7).
13- وفي الطريق أسلم بريدة الأسلمي - رضي الله عنه - في ركب من قومه:
__________
(1) انظر: التربية القيادية (2/191، 192). ... (4) السيرة النبوية دروس وعبر للسباعي، ص71.
(3) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص204. ... (2) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس، ص254.
(5) انظر: السيرة النبوية للسباعي، ص68. ... (4) انظر: الهجرة النبوية لأبي فارس، ص54.
(7) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص205.
إن المسلم الذي تغلغلت الدعوة في شغاف قلبه لا يفتر لحظة واحدة عن دعوة الناس إلى دين الله تعالى، مهما كانت الظروف قاسية والأحوال مضطربة، والأمن مفقود بل ينتهز كل فرصة مناسبة لتبليغ دعوة الله تعالى، هذا نبي الله تعالى يوسف -عليه السلام- حينما زج به في السجن ظلماً، واجتمع بالسجناء في السجن، فلم يندب حظه، ولم تشغله هذه الحياة المظلمة عن دعوة التوحيد وتبليغها للناس ومحاربة الشرك وعبادة غير الله والخضوع لأي مخلوق قال تعالى: ( قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ صدق الله العظيم وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ صدق الله العظيم يَا صَاحِبَيْ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ صدق الله العظيم مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ) [يوسف: 37-40].
وسورة يوسف عليه السلام مكية، وقد أمر الله تعالى رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يقتدي بالأنبياء والمرسلين في دعوته إلى الله؛ ولذلك نجده - صلى الله عليه وسلم - في هجرته من مكة إلى المدينة، وقد كان مطارداً من المشركين قد أهدروا دمه وأغروا المجرمين منهم بالأموال الوفيرة، ليأتوا برأسه حياً أو ميتاً، ومع هذا فلم ينس مهمته ورسالته، فقد لقي - صلى الله عليه وسلم - في طريقه رجلاً يقال له بريدة بن الحصيب الأسلمي - رضي الله عنه - في ركب من قومه فدعاهم إلى الإسلام فآمنوا وأسلموا(1).
وذكر ابن حجر العسقلاني رحمه الله: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في طريق هجرته إلى المدينة لقي بريدة بن الحصيب بن عبد الله بن الحارث الأسلمي، فدعاه إلى الإسلام، وقد غزا مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - ست عشرة(2) غزوة، وأصبح بريدة بعد ذلك من الدعاة إلى الإسلام، وفتح الله لقومه -أَسْلَم- على يديه أبواب الهداية، واندفعوا إلى الإسلام وفازوا بالوسام النبوي الذي نتعلم منه منهجاً فريداً في فقه النفوس قال صلى الله عليه وسلم: «أسلم سالمها الله، وغفار غفر الله لها، أما وإني لم أقلها، ولكن قالها الله عز وجل»(3).
14- وفي طريق الهجرة أسلم لصّان على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم:
كان في طريقه - صلى الله عليه وسلم - بالقرب من المدينة لِصَّان من أسلم يقال لهما المهانان، فقصدهما - صلى الله عليه وسلم - وعرض عليهما الإسلام فأسلما، ثم سألهما عن أسمائهما فقالا نحن المهانان، فقال: «بل أنتما المكرمان» وأمرهما أن يقدما عليه المدينة(4) وفي هذا الخبر يظهر اهتمامه - صلى الله عليه وسلم - بالدعوة إلى الله حيث اغتنم فرصة في طريقه ودعا اللصين إلى الإسلام فأسلما، وفي إسلام هذين اللصين مع ما ألفاه من حياة البطش والسلب والنهب، دليل على سرعة إقبال النفوس على اتباع الحق، إذا وجد من يمثله بصدق وإخلاص، وتجردت نفس السامع من الهوى المنحرف، وفي اهتمام الرسول - صلى الله عليه وسلم - بتغيير اسمي هذين اللصين من المهانين، إلى المكرمين دليل على اهتمامه - صلى الله عليه وسلم - بسمعة المسلمين، ومراعاته مشاعرهم إكراماً لهم ورفعاً لمعنوياتهم.
وإن في رفع معنوية الإنسان تقوية لشخصيته ودفعا له إلى الأمام ليبذل كل طاقته في سبيل الخير والفلاح(5).
15- الزبير وطلحة رضي الله عنهما ولقاؤهما برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في طريق الهجرة:
ومما وقع في الطريق إلى المدينة أنه - صلى الله عليه وسلم - لقي الزبير بن العوام، في ركب من المسلمين كانوا تجاراً قافلين من الشام، فكسى الزبير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر ثياباً بيضاء، رواه البخاري(6)، وكذا روى أصحاب السير أن طلحة بن عبيد الله لقيهما أيضا وهو عائد من الشام وكساهما بعض الثياب(7).
16- أهمية العقيدة والدين في إزالة العداوة والضغائن:
__________
(1) انظر: الهجرة النبوية لأبي فارس، ص59. شرح المواهب (1/405).
(2) انظر: الإصابة، (1/146).
(3) صحيح الجامع الصغير (1/328) رقم 986. ... (4) الفتح الرباني للساعتي (20/289).
(5) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (3/178). ... (2) انظر السيرة النبوية لأبي شهبة، (1/495).
(7) المصدر السابق، (1/495) صحيح السيرة النبوية، ص181.
إن العقيدة الصحيحة السليمة والدين الإسلامي العظيم لهما أهمية كبرى في إزالة العداوات والضغائن، وفي التأليف بين القلوب والأرواح، وهو دور لا يمكن لغير العقيدة الصحيحة أن تقوم به، وها قد رأينا كيف جمعت العقيدة الإسلامية بين الأوس والخزرج، وأزالت آثار معارك استمرت عقوداً من الزمن، وأغلقت ملف ثارات كثيرة في مدة قصيرة، بمجرد التمسك بها والمبايعة عليها، وقد رأينا ما فعلته العقيدة في نفوس الأنصار، فاستقبلوا المهاجرين بصدور مفتوحة، وتآخوا معهم في مثالية نادرة، لا تزال مثار الدهشة ومضرب المثل، ولا توجد في الدنيا فكرة أو شعار آخر، فعل مثلما فعلت عقيدة الإسلام الصافية في النفوس.
ومن هنا ندرك السر في سعي الأعداء الدائب إلى إضعاف هذه العقيدة، وتقليل تأثيرها في نفوس المسلمين، واندفاعهم المستمر نحو تزكية النعرات العصبية والوطنية والقومية وغيرها، وتقديمها كبديل للعقيدة الصحيحة(1).
17- فرحة المهاجرين والأنصار بوصول النبي صلى الله عليه وسلم:
كانت فرحة المؤمنين من سكان يثرب من أنصار ومهاجرين بقدوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووصوله إليهم سالمًا، فرحة أخرجت النساء من بيوتهن والولائد، وحملت الرجال على ترك أعمالهم، وكان موقف يهود المدينة موقف المشارك لسكانها في الفرحة ظاهراً، والمتألم من منافسة الزعامة الجديدة باطناً، أما فرحة المؤمنين بلقاء رسولهم فلا عجب فيها، وهو الذي أنقذهم من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد، وأما موقف اليهود فلا غرابة فيه، وهم الذين عرفوا بالملق والنفاق للمجتمع الذي فقدوا السيطرة عليه، وبالغيظ والحقد الأسود ممن يسلبهم زعامتهم على الشعوب، ويحول بينهم وبين سلب أموالها باسم القروض، وسفك دمائها باسم النصح والمشورة، وما زال اليهود يحقدون على كل من يخلص الشعوب من سيطرتهم، وينتهون من الحقد إلى الدس والمؤامرات ثم إلى الاغتيال إن استطاعوا، ذلك دينهم، وتلك جبلتهم(2).ويستفاد من استقبال المهاجرين والأنصار لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مشروعية استقبال الأمراء والعلماء عند مقدمهم بالحفاوة والإكرام، فقد حدث ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان هذا الإكرام وهذه الحفاوة نابعين من حب للرسول، بخلاف ما نراه من استقبال الزعماء والحكام في عالمنا المعاصر، ويستفاد كذلك التنافس في الخير وإكرام ذوي العلم والشرف، فقد كانت كل قبيلة تحرص أن تستضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعرض أن يكون رجاله حُراسًا له، ويؤخذ من هذا إكرام العلماء والصالحين، واحترامهم وخدمتهم(3).
17- وضوح سنة التدرج:
حيث نلاحظ: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما تقابل مع طلائع الأنصار الأولى لم يفعل سوى ترغيبهم في الإسلام وتلاوة القرآن عليهم، فلما جاءوا في العام التالي بايعهم بيعة النساء على العبادات والأخلاق والفضائل، فلما جاءوا في العام التالي كانت بيعة العقبة الثانية على الجهاد والنصر والإيواء(4).
وجدير بالملاحظة أن بيعة الحرب لم تتم إلا بعد عامين كاملين، أي بعد تأهيل وإعداد استمر عامين كاملين، وهكذا تم الأمر على تدرج، ينسجم مع المنهج التربوي الذي نهجت عليه الدعوة من أول يوم(5).
إنه المنهج الذي هدى الله نبيه إلى التزامه، ففي البيعة الأولى بايعه هؤلاء الأنصار الجدد على الإسلام عقيدة ومنهاجًا وتربية، وفي البيعة الثانية بايعه الأنصار على حماية الدعوة واحتضان المجتمع الإسلامي الذي نضجت ثماره واشتدت قواعده قوة وصلابة.
إن هاتين البيعتين أمران متكاملان ضمن المنهج التربوي للدعوة الإسلامية، وإن الأمر الأول هو المضمون، والأمر الثاني، وهو بيعة الحرب، هو السياج الذي يحمي ذلك المضمون، نعم كانت بيعة الحرب بعد عامين من إعلان القوم الإسلام وليس فور إعلانهم.
بعد عامين إذ تم إعدادهم، حتى غدوا موضع ثقة، وأهلاً لهذه البيعة، ويلاحظ أن بيعة الحرب لم يسبق أن تمت قبل اليوم مع أي مسلم، إنما حصلت عندما وجدت الدعوة في هؤلاء الأنصار وفي الأرض التي يقيمون فيها، المعقل الملائم الذي ينطلق منه المحاربون، لأن مكة لوضعها عندئذ لم تكن تصلح للحرب(6).
وقد اقتضت رحمة الله بعباده «أن لا يحملهم واجب القتال، إلى أن توجد لهم دار إسلام، تكون لهم بمثابة معقل يأوون إليه، ويلوذون به، وقد كانت المدينة المنورة أول دار إسلام»(7).
__________
(1) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص405.
(2) انظر: السيرة النبوية للسباعي، ص43، الهجرة في القرآن الكريم، ص367.
(3) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس، ص358، 359. ... ... (3) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص202.
(5) انظر: بناء المجتمع الإسلامي في عصر النبوة، محمد توفيق، ص119.
(6) انظر: بناء المجتمع الإسلامي في عصر النبوة، محمد توفيق، ص122، 123.
(7) انظر: فقه السيرة للبوطي، ص172.
لقد كانت البيعة الأولى قائمة على الإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والبيعة الثانية على الهجرة والجهاد، وبهذه العناصر الثلاثة: الإيمان بالله، والهجرة، والجهاد، يتحقق وجود الإسلام في واقع جماعي ممكن، والهجرة لم تكن لتتم لولا وجود الفئة المستعدة للإيواء ولهذا قال تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آَوَوا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) [الأنفال: 72]. وقال تعالى: ( وَالَّذِينَ آمَنُوا مِن بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) [الأنفال: 75].
وقد كانت بيعة الحرب هي التمهيد الأخير، لهجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة، وبذلك وجد الإسلام موطنه الذي ينطلق منه دعاة الحق بالحكمة والموعظة، وتنطلق منه جحافل الحق المجاهدة أول مرة، وقامت الدولة الإسلامية المحكمة لشرع الله(1).
19- الهجرة تضحية عظيمة في سبيل الله:
كانت هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه عن البلد الأمين، تضحية عظيمة عبر عنها النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرجت منك ما خرجت»(2).(1/68)
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة قدمها وهي أوبأ أرض الله من الحمى، وكان واديها يجري نجلا- يعني ماء آجنا- فأصاب أصحابه منها بلاء وسقم، وصرف الله ذلك عن نبيه، قالت: فكان أبو بكر، وعامر بن فهيرة وبلال في بيت واحد فأصابتهم الحمى، فاستأذنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عيادتهم فأذن، فدخلت إليهم أعودهم، وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب، وبهم ما لا يعلمه إلا الله من شدة الوعك(3) فدنوت من أبي بكر فقلت: يا أبت كيف تجدك؟ فقال:
كل امرئ مصبَّح في أهله ... والموت أدنى من شِراك نعله
قالت: فقلت: والله ما يدري أبي ما يقول، ثم دنوت من عامر بن فهيرة فقلت: كيف تجدك يا عامر؟ فقال:
لقد وجدت الموت قبل ذوقه ... إن الجبان حتفُه من فوقه
كل امرئ مجاهد بطَوقه(4) ... كالثور يحمي جلده بِرَوقه(5)
قالت: فقلت: والله ما يدري عامر ما يقول، قلت: وكان بلال إذا أقلع عنه الحمى اضطجع بفناء البيت، ثم يرفع عقيرته(6) ويقول:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بواد وحولي إذخر(7) وجليل
وهل أَرِدَنْ يومًا مياه مجنة ... وهل يَبْدُوَنْ لي شامة وطفيل(8)
قالت: فأخبرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك فقال: «اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، وانقل حماها إلى الجحفة، اللهم بارك لنا في مدنا وصاعها»(9).
وقد استجاب الله دعاء نبيه - صلى الله عليه وسلم - وعوفي المسلمون بعدها من هذه الحمى، وغدت المدينة موطناً ممتازاً لكل الوافدين والمهاجرين إليها من المسلمين على تنوع بيئاتهم ومواطنهم(10).
20- مكافأة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأم معبد:
وقد روي أنها كثرت غنمها، ونمت حتى جلبت منها جلباً إلى المدينة، فمر أبو بكر، فرآه ابنها فعرفه، فقال: يا أمه هذا الرجل الذي كان مع المبارك، فقامت إليه فقالت: يا عبد الله من الرجل الذي كان معك؟ قال: أو ما تدرين من هو؟ قالت: لا، قال: هو نبي الله، فأدخلها عليه، فأطعمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأعطاها. وفي رواية: فانطلقت معي وأهدت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً من أقط ومتاع الأعراب، فكساها وأعطاها، قال: ولا أعلمه إلا قال: وأسلمت، وذكر صاحب (الوفاء) أنها هاجرت هي وزوجها وأسلم أخوها خنيس واستشهد يوم الفتح(11).
21- أبو أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - ومواقف خالدة:
__________
(1) انظر: الغرباء الأولون، ص198، 199.
(2) الترمذي، كتاب المناقب، باب فضل مكة (5/722) رقم 3925.
(4) الوعك: الحمى. (2) بطوقه: بطاقته. ... ( ) بروقه: بقرنه.
(6) عقيرته: صوته، قال الأصمعي، إن رجلا عقرت رجله فرفعها على الأخرى وجعل يصيح فصار كل من رفع صوته يقال له: رفع عقيرته وإن لم يرفع رجله.
(7) الأذخر: نبات طيب الرائحة.
(8) شامة وطفيل: جبلان مشرفان على مجنة على بريد مكة.
(9) البخاري، كتاب الدعوات، باب الدعاء برفع الوباء والوجع، رقم 6372.
(10) انظر: التربية القيادية (2/310).
(11) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/489، 490).
قال أبو أيوب الأنصاري - رضي الله عنه -: «ولما نزل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيتي نزل في السفل وأنا وأم أيوب في العُلْو، فقلت له: يا نبي الله، بأبي أنت وأمي، إني لأكره وأعظم أن أكون فوقك، وتكون تحتي، فاظهر أنت فكن في العلو، وننزل نحن فنكون في السفل، فقال: «يا أبا أيوب: إن أرفق بنا وبمن يغشانا أن نكون في سُفل البيت» قال: فلقد انكسر حُب لنا فيه ماء، فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة لنا مالنا لحاف غيرها ننشف بها الماء تخوفا أن يقطر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منه شيء يؤذيه»(1).
22- هجرة علي - رضي الله عنه - وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر في المجتمع الجديد:
بعد أن أدى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأمانات التي كانت عنده للناس، لحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأدركه بقباء بعد وصوله بليلتين أو ثلاث، فكانت إقامته بقباء ليلتين، ثم خرج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة يوم الجمعة(2) وقد لاحظ سيدنا علي مدة إقامته بقباء امرأة مسلمة لا زوج لها، ورأى إنسانا يأتيها من جوف الليل، فيضرب عليها بابها، فتخرج إليها فيعطيها شيئاً معه، فتأخذه، قال: فاستربت بشأنه، فقلت: يا أمة الله، من هذا الذي يضرب عليك بابك كل ليلة فتخرجين إليه، فيعطيك شيئا لا أدري ما هو؟ وأنت امرأة مسلمة لا زوج لك؟ قالت: هذا سهل بن حنيف بن وهب، وقد عرف أني امرأة لا أحد لي، فإذا أمسى عدا على أوثان قومه فكسرها، ثم جاءني بها، فقال: احتطبي بهذا، فكان علي - رضي الله عنه - يأثر ذلك من شأن سهل بن حنيف حين هلك عنده بالعراق(3).
23- الهجرة النبوية نقطة تحول في تاريخ الحياة:
كانت الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة المنورة، أعظم حدث حول مجرى التاريخ، وغيَّر مسيرة الحياة ومناهجها التي كانت تحياها، وتعيش محكومة بها في صورة قوانين ونظم وأعراف، وعادات وأخلاق وسلوك للأفراد والجماعات، وعقائد وتعبدات وعلم ومعرفة، وجهالة وسفه وضلال وهدى، وعدل وظلم(4).
24- الهجرة من سنن الرسل الكرام:
إن الهجرة في سبيل الله سنة قديمة، ولم تكن هجرة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - بدعا في حياة الرسل لنصرة عقائدهم، فلئن كان قد هاجر من وطنه ومسقط رأسه من أجل الدعوة حفاظاً عليها وإيجاد بيئة خصبة تتقبلها وتستجيب لها، وتذود عنها، فقد هاجر عدد من إخوانه من الأنبياء قبله من أوطانهم لنفس الأسباب التي دعت نبينا للهجرة.
وذلك أن بقاء الدعوة في أرض قاحلة لا يخدمها بل يعوق مسارها ويشل حركتها، وقد يعرضها للانكماش داخل أضيق الدوائر، وقد قص علينا القرآن الكريم نماذج من هجرات الرسل وأتباعهم من الأمم الماضية لتبدو لنا في وضوح سنة من سنن الله في شأن الدعوات، يأخذ بها كل مؤمن من بعدهم إذا حيل بينه وبين إيمانه وعزته، واستخف بكيانه ووجوده واعتدى على مروءته وكرامته(5).
هذه بعض الفوائد والعبر والدروس، وأترك للقارئ الكريم أن يستخرج غيرها ويستنبط سواها من الدروس والعبر والفوائد الكثيرة النافعة من هذا الحدث العظيم.
000000000000000000
المبحث الثاني -الثناء على المهاجرين بأوصاف حميدة والوعد لمن هاجر منهم والوعيد لمن تخلف
تعتبر الهجرة النبوية المباركة من مكة إلى المدينة أهم حدث في تاريخ الدعوة الإسلامية، إذ كانت نقطة تحول في تاريخ المسلمين، كان المسلمون قبل الهجرة أمة دعوة، يبلغون دعوة الله للناس، دون أن يكون لهم كيان سياسي، يحمي الدعاة أو يدفع عنهم الأذى من أعدائهم.
وبعد الهجرة تكونت دولة الدعوة، هذه الدولة التي أخذت على عاتقها نشر الإسلام في داخل الجزيرة العربية وخارجها، ترسل الدعاة إلى الأمصار وتتكفل بالدفاع عنهم وحمايتهم من أي اعتداء قد يقع عليهم ولو أدى ذلك إلى قيام حرب أو حروب(6).
وبجانب هذا، فإن الهجرة النبوية لها مكانتها في فهم القرآن وعلومه حيث فرق العلماء بين المكي والمدني، فالمكي: ما نزل قبل الهجرة وإن كان بغير مكة، والمدني: ما نزل بعد الهجرة وإن كان بغير المدينة وترتب على ذلك فوائد من أهمها:
1- تذوق أساليب القرآن الكريم والاستفادة منها في أسلوب الدعوة إلى الله.
2- الوقوف على السيرة النبوية من خلال الآيات القرآنية(7): ولأهمية الهجرة النبوية نرى أن القرآن الكريم حث المؤمنين على الهجرة في سبيل الله بأساليب متنوعة، مرة بالثناء على المهاجرين، بأوصاف حميدة، وأخرى بالوعد للمهاجرين، وتارة بالوعيد للمتخلفين عن الهجرة(8).
أولاً: الثناء على المهاجرين بأوصاف حميدة:
__________
(1) انظر: السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/220). ...
(2) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/497).
(3) انظر: محمد رسول الله، محمد الصادق عرجون (2/421).
(4) انظر: محمد رسول الله، (2/423).
(5) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، ص175.
(6) انظر: الهجرة النبوية، الدكتور محمد أبو فارس، ص13.
(7) انظر: مباحث في علوم القرآن للقطان، ص59.
(8) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، ص84.
فمن أهم الصفات المميزة للمهاجرين(1).
1- الإخلاص:
قال تعالى ( لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) [الحشر: 8] قوله تعالى ( يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا ) يدل على أنهم لم يخرجوا من ديارهم وأموالهم إلا أن يكونوا مخلصين لله، مبتغين مرضاته ورضوانه(2).
2- الصبر:
قال تعالى: ( وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ صدق الله العظيم الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) [النحل: 41،42]
3- الصدق:
قال تعالى: ( لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) [الحشر: 8].
قال البغوي في تفسيره: قوله: ( أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) أي في إيمانهم (3).
4- الجهاد والتضحية:
قال تعالى ( الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ) [التوبة: 20].
ولعل الملاحظة الجديرة بالتأمل في هذا المجال، أن التضحية ملازمة للجهاد في سبيل الله، إذ لا جهاد دون تضحية(4).
5- نصرهم لله ورسوله:
قال تعالى عن المهاجرين: ( وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) [الحشر: 8].
6- التوكل على الله عز وجل:
قال تعالى عن المهاجرين: ( الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) [النحل: 41-42]
7- الرجاء:
قال تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ )[البقرة: 218].
وإنما قال ( يَرْجُونَ ) وقد مدحهم؛ لأنه لا يعلم أحد في هذه الدنيا أنه صائر إلى الجنة ولو بلغ في طاعة الله كل مبلغ لأمرين، أحدهما: لا يدري بما يختم له والثاني: لئلا يتكل على عمله، فهؤلاء قد غفر الله لهم، ومع ذلك يرجون رحمة الله وذلك زيادة إيمان منهم(5).
8- اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في العسرة:
قال تعالى ( لَقَد تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ) [التوبة: 117].
وقد نزلت هذه الآية في غزوة تبوك
قال قتادة: خرجوا إلى الشام عام تبوك، في لهبان الحر، على ما يعلم الله من الجهد، أصابهم فيها جهد شديد، حتى لقد ذكر لنا أن الرجلين كانا يشقان التمرة بينهما، وكان النفر يتداولون التمرة بينهم، يمصها هذا ثم يشرب عليها، ثم يمصها هذا ثم يشرب عليها، فتاب الله عليهم وأقفلهم(6) من غزوتهم(7).
9- حق السبق في الإيمان والعمل يورث حيازة القدوة والسيادة:
قال تعالى: ( وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ )
[التوبة: 100].
قال الرازي: والسبق موجب للفضيلة، فإقدامهم على هذه الأفعال يوجب اقتداء غيرهم بهم، وثبت بهذا أن المهاجرين هم رؤساء المسلمين وسادتهم(8).
10- الفوز:
قال تعالى ( الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ) [التوبة: 20]. قال أبو السعود في تفسيره: قوله تعالى: ( هُمُ الْفَائِزُونَ ): أي المختصون بالفوز العظيم أو بالفوز المطلق، كأن فوز من عداهم ليس بفوز بالنسبة إلى فوزهم(9).
11- الإيمان:
قال تعالى: ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آَوَوا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ) [الأنفال: 74].
__________
(1) نفس المصدر، ص85، هذا المبحث أخذته من هذا الكتاب مع التصرف اليسير.
(2) الهجرة في القرآن الكريم، ص86. ... (2) انظر: تفسير البغوي (4/318).
(3) الهجرة في القرآن الكريم، 106.
(5) الجامع لأحكام القرآن (3/50)، تفسير أبي السعود، (1/218).
(6) أقفلهم: بمعنى أرجعهم سالمين. ... (2) تفسير ابن كثير (2/397).
(8) انظر: تفسير الرازي (15/208). ... (4) تفسير أبي السعود (4/53).
ثانياً: الوعد للمهاجرين:
ذكر الله تعالى بعض النعم التي وعدها الله عز وجل للمهاجرين في الدنيا والآخرة ومن هذه النعم:
1- سعة رزق الله لهم في الدنيا:
قال تعالى: ( وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ
مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إلى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا
رَّحِيمًا ) [النساء: 100].
ومن سعة رزق الله لهم في الدنيا تخصيصهم بمال الفيء والغنائم، فالمال لهؤلاء؛ لأنهم أخرجوا من ديارهم فهم أحق الناس به(1).
2- تكفير سيئاتهم ومغفرة ذنوبهم:
قال تعالى: ( فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ
عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ ثَوَابًا مِّن عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ
الثَّوَابِ ) [آل عمران: 195].
وقد ورد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحاديث كثيرة في بيان أن الهجرة من أعظم الوسائل المكفرة للسيئات، وأنها سبب لمغفرة ذنوب أهلها.
3- ارتفاع منزلتهم وعظمة درجتهم عند ربهم:
قال تعالى: ( الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ) [التوبة: 20].
فالذين نالوا فضل الهجرة والجهاد بنوعيه؛ النفسي والمالي أعلى مرتبة وأعظم كرامة ممن لم يتصف بهما كائناً من كان، ويدخل في ذلك أهل السقاية والعمارة(2).
4- تبشيرهم بالجنة والخلود فيها:
قال تعالى: ( الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ صدق الله العظيم يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ صدق الله العظيم خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ) [التوبة: 20-22].
هذا بعض ما وعد الله به المهاجرين من الجزاء والثواب بسبب جهادهم المرير.
إن المهاجرين بإيمانهم الراسخ ويقينهم الخالص لم يمكنوا الجاهلية في مكة من وأد الدعوة، وهي في مستهل حياتها، لقد استمسكوا بما أوحى إلى نبيهم ولم تزدهم حماقة قريش إلا اعتصاما بما اهتدوا إليه وأمنوا به، فلما أسرفت الجاهلية في ذلك صاروا أهلا لما أسبغه الله عليهم من فضل في الدنيا، وما أعده لهم يوم القيامة من ثواب عظيم(3).
ثالثًا: الوعيد للمتخلفين عن الهجرة:
من العقوبات التي توعد الله عز وجل بها للمتخلفين عن الهجرة سوء المصير، قال تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ) [النساء: 97].
عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: «كان قوم من أهل مكة أسلموا وكانوا يستخفون بالإسلام فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم، فأصيب بعضهم، فقال المسلمون: ( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ ) الآية: قال: فكتب إلى من بقي بمكة من المسلمين بهذه الآية، لا عذر لهم، قال: فخرجوا فلحقهم المشركون فأعطوهم الفتنة، فنزلت فيهم: ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَ لَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ ) [العنكبوت: 10].
فكتب المسلمون إليهم بذلك، فخرجوا وأيسوا من كل خير ثم نزلت فيهم: ( ثُمَّ
إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِن بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ
رَّحِيمٌ ) [النحل: 110](4).
__________
(1) انظر تفسير ابن كثير (4/295) وتفسير أبي السعود (8/228) وتفسير فتح القدير (5/200)، والهجرة في القرآن الكريم، ص132.
(2) تفسير المراغي (10/78)، تفسير الرازي (16/13،14).
(3) انظر: هجرة الرسول وصحابته في القرآن والسنة للجمل، ص332، 333.
(4) زاد المسير لابن الجوزي (2/97) تفسير القاسمي (3/399)
لقد وصف الله -سبحانه- المتخلفين عن الهجرة بأنهم ظالمو أنفسهم، والمراد بالظلم في هذه الآية، أن الذين أسلموا في دار الكفر وبقوا هناك، ولم يهاجروا إلى المدينة، ظلموا أنفسهم بتركهم الهجرة(1).
وفي هذه الآية الكريمة وعيد للمتخلفين عن الهجرة بهذا المصير السيئ، وبالتالي التزم الصحابة بأمر الله، وانضموا إلى المجتمع الإسلامي في المدينة تنفيذاً لأمر الله وخوفاً من عقابه، وكان لهذا الوعيد أثره في نفوس الصحابة رضي الله عنهم، فهذا ضمرة بن جندب لما بلغه قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ ) وهو بمكة قال لبنيه: احملوني فإني لست من المستضعفين، وإني لأهتدي الطريق، وإني لا أبيت الليلة بمكة، فحملوه على سرير متوجهاً إلى المدينة وكان شيخاً كبيراً، فمات بالتنعيم، ولما أدركه الموت أخذ يصفق بيمينه على شماله، ويقول: اللهم هذه لك وهذه لرسولك صلى الله عليه وسلم، أبايعك على ما بايع عليه رسولك، ولما بلغ خبر موته الصحابة رضي الله عنهم قالوا: ليته مات بالمدينة فنزل(2) قوله تعالى: ( إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً صدق الله العظيم فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا ) [النساء: 98-99].
وهذا الموقف يرينا ما كان عليه جيل الصحابة من سرعة في امتثال الأمر، وتنفيذه
في النشاط والشدة، كائنة ما كانت ظروفهم، فلا يلتمسون لأنفسهم المعاذير، ولا يطلبون الرخص(3).
فهذا الصحابي تفيد بعض الروايات أنه كان مريضاً(4) إلا أنه رأى أنه ما دام
له مال يستعين به، ويحمل به إلى المدينة فقد انتفى عذره، وهذا فقه أملاه الإيمان، وزكَّاه الإخلاص واليقين(5).
وبعد أن ذكر الله عز وجل وعيده للمتخلفين عن الهجرة بسوء مصيرهم، استثنى في ذلك من لا حيلة لهم في البقاء في دار الكفر، والتعرض للفتنة في الدين، والحرمان من الحياة في دار الإسلام من الشيوخ والضعاف والنساء والأطفال، فيعلقهم بالرجاء في عفو الله ومغفرته، ورحمته بسبب عذرهم البين وعجزهم عن الفرار(6) قال تعالى: ( إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً صدق الله العظيم فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا ) [النساء: 98-99].
* * *
الفصل السابع
دعائم دولة الإسلام في المدينة
شرع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منذ دخوله المدينة يسعى لتثبيت دعائم الدولة الجديدة على قواعد متينة، وأسس راسخة، فكانت أولى خطواته المباركة الاهتمام ببناء دعائم الأمة كبناء المسجد الأعظم بالمدينة، والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار على الحب في الله، وإصدار الوثيقة أو الدستور الإسلامي في المدينة الذي ينظم العلاقات بين المسلمين واليهود ومشركي المدينة، وإعداد جيش لحماية الدولة، والسعي لتحقيق أهدافها، والعمل على حل مشاكل المجتمع الجديد، وتربيته على المنهج الرباني في كافة شئون الحياة فقد استمر البناء التربوي والتعليمي، واستمر القرآن الكريم يتحدث في المدينة عن عظمة الله وحقيقة الكون والترغيب في الجنة والترهيب من النار ويشرع الأحكام لتربية الأمة، ودعم مقومات الدولة التي ستحمل نشر دعوة الله بين الناس قاطبة، وتجاهد في سبيل الله.
وكانت مسيرة الأمة العلمية والتربوية تتطور مع تطور مراحل الدعوة وبناء المجتمع وتأسيس الدولة.
وعالج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأزمة الاقتصادية بالمدينة من خلال المنهج الرباني. واستمر البناء التربوي ففرض الصيام، وفُرضت الزكاة وأخذ المجتمع يزدهر والدولة تتقوى على أسس ثابتة وقوية.
* * *
المبحث الأول
الدعامة الأولى
بناء المسجد الأعظم بالمدينة
كان أول ما قام به الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة بناء المسجد، وذلك لتظهر فيه شعائر الإسلام التي طالما حوربت، ولتقام فيه الصلوات التي تربط المرء برب العالمين وتنقي القلب من أدران الأرض، وأدناس الحياة الدنيا(7).
__________
(1) انظر: الهجرة في القرآن الكريم ص 161.
(2) روح المعاني (5/128، 129) للألوسي، أسباب النزول للواحدي، ص181.
(3) ،3، 4) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص124- 126.
(6) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، ص167.
(7) انظر: فقه السيرة للغزالي، ص191، وفقه السيرة للبوطي، ص151.(1/69)
روى البخاري بسنده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل المدينة راكباً راحلته، فسار يمشي معه الناس حتى بركت عند مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة وهو يصلي فيه يومئذ رجال من المسلمين، وكان مربدا(1) للتمر لسهل وسهيل غلامين يتيمن في حجر أسعد بن زرارة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين بركت به راحلته: «هذا إن شاء الله المنزل» ثم دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الغلامين فساومهما بالمربد ليتخذه مسجداً فقالا: لا، بل نهبه لك يا رسول الله، فأبى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقبله منهما هبة حتى ابتاعه منهما(2).
وفي رواية أنس بن مالك: فكان فيه ما أقول: كان فيه نخل وقبور المشركين، وخرب، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنخل فقطع، وبقبور المشركين فنبشت، وبالخرب فسويت، قال: فصفوا النخل قبلة، وجعلوا عضادتيه حجارة، قال: فكانوا يرتجزون، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم يقولون:
اللهم إنه لا خير إلا خير الآخرة ... فاغفر للأنصار والمهاجرة(3)
شرع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في العمل مع أصحابه، وضرب أول معول في حفر الأساس الذي كان عمقه ثلاث أذرع، ثم اندفع المسلمون في بناء هذا الأساس بالحجارة، والجدران، التي لم تزد عن قامة الرجل إلا قليلاً، باللبن الذي يعجن بالتراب ويسوى على شكل أحجار صالحة للبناء(4) وفي الناحية الشمالية منه أقيمت ظلة من الجريد على قوائم من جذوع النخل، كانت تسمى «الصفة» أما باقي أجزاء المسجد فقد تركت مكشوفة بلا غطاء(5).
أما أبواب المسجد فكانت ثلاثة: باب في مؤخرته من الجهة الجنوبية، وباب في الجهة الشرقية كان يدخل منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإزاء باب بيت عائشة، وباب من الجهة الغربية يقال له باب الرحمة أو باب عاتكة(6).
أولاً: بيوتات النبي - صلى الله عليه وسلم - التابعة للمسجد:
وبني لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حُجَر حول مسجده الشريف، لتكون مساكن له ولأهله، ولم تكن الحجر كبيوت الملوك والأكاسرة والقياصرة، بل كانت بيوت من ترفع عن الدنيا وزخارفها، وابتغى الدار الآخرة، فقد كانت كمسجده مبنية من اللبن والطين وبعض الحجارة، وكانت سقوفها من جذوع النخل والجريد، وكانت صغيرة الفناء قصيرة البناء ينالها الغلام الفارع بيده، قال الحسن البصري- وكان غلاما مع أمه خيرة مولاة أم سلمة-: «قد كنت أنال أول سقف في حجر النبي - صلى الله عليه وسلم - بيدي»(7)، وهكذا كانت بيوت النبي - صلى الله عليه وسلم - في غاية البساطة، بينما كانت المدينة تشتهر بالحصون العالية التي كان يتخذها علية القوم تباهيا بها في السلم واتقاءً بها في الحرب، وكانوا من تفاخرهم بها يضعون لها أسماء كما كان حصن عبد الله بن أبي ابن سلول اسمه مزاحماً، وكما كان حصن حسان بن ثابت - رضي الله عنه - اسمه فارعاً.
ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - بنى بيوته بذلك الشكل المتواضع، وكان باستطاعته أن يبني لنفسه قصورًا شاهقة، ولو أنه أشار إلى رغبته بذلك- مجرد إشارة- لسارع الأنصار في بنائها له، كما كان بإمكانه أن يشيدها من أموال الدولة العامة كالفيء ونحوه، ولكنه - صلى الله عليه وسلم - لم يفعل ذلك ليضرب لأمته مثلاً رفيعاً وقدوة عالية في التواضع والزهد في الدنيا، وجمع الهمة والعزيمة للعمل لما بعد الموت(8).
ثانياً: الأذان في المدينة:
__________
(1) مربد، الموضع الذي يجفف فيه التمر، القاموس المحيط (1/304).
(2) البخاري، كتاب بدء الخلق، باب هجرة النبي وأصحابه (5/78).
(3) مسلم، كتاب المساجد، باب ابتناء مسجد النبي، رقم 524.
(4) انظر: البداية والنهاية (3/33) انظر: التاريخ السياسي والعسكري، على معطي، ص156.
(5) انظر: البداية والنهاية (3/303) محمد رسول الله لمحمد رضا، ص143.
(6) انظر: التاريخ السياسي والعسكري لدولة المدينة، علي معطي، ص157.
(7) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة، (2/36).
(8) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي، (4/13).
تشاور رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أصحابه لإيجاد عمل ينبه النائم ويذكر الساهي، ويعلم الناس بدخول الوقت لأداء الصلاة، فقال بعضهم: ترفع راية إذا حان وقت الصلاة ليراها الناس، فاعترضوا على هذا الرأي؛ لأنها لا تفيد النائم، ولا الغافل، وقال آخرون نشعل ناراً على مرتفع من الهضاب، فلم يقبل هذا الرأي أيضاً. وأشار آخرون ببوق، وهو ما كانت اليهود تستعمله لصلواتهم، فكرهه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يجب مخالفة أهل الكتاب في أعمالهم، وأشار بعض الصحابة باستعمال الناقوس، وهو ما يستعمله النصارى، فكرهه الرسول - صلى الله عليه وسلم - أيضا، وأشار فريق بالنداء فيقوم بعض الناس إذا حانت الصلاة وينادي بها فَقُيل هذا الرأي. وكان أحد المنادين عبد الله بن زيد الأنصاري، فبينما هو بين النائم واليقظان، إذ عرض له شخص، وقال: ألا أعلمك كلمات تقولها عند النداء بالصلاة؟ قال بلى: فقال له: قل: الله أكبر، مرتين، وتشهد مرتين، ثم قل: حي علي الصلاة مرتين، ثم قل: حي على الفلاح مرتين، ثم كبر مرتين: ثم قل: لا إله إلا الله. فلما استيقظ توجه إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأخبره خبر رؤياه فقال: «إنها لرؤيا حق» ثم قال له: «لقن بلالاً فإنه أندى صوتاً منك»، وبينما بلال يؤذن للصلاة بهذا الأذان جاء عمر بن الخطاب يجر رداءه فقال: والله لقد رأيت مثله يا رسول الله. وكان بلال بن رباح أحد مؤذنيه بالمدينة، والآخر عبد الله بن أم مكتوم، وكان بلال يقول في أذان الصبح بعد حي على الفلاح: الصلاة خير من النوم مرتين وأقره الرسول - صلى الله عليه وسلم - على ذلك(1)، وكان يؤذن في البداءة من مكان مرتفع ثم استحدث المنارة (المئذنة).
ثالثاً: أول خطبة خطبها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة:
كانت أول خطبة خطبها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة أنه قام فيهم، فحمد الله، وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال:
«أما بعد: أيها الناس فقدموا لأنفسكم، تعلمن والله ليصعقن أحدكم، ثم ليدعن غنمه ليس لها راعٍ، ثم ليقولن له ربه، وليس له ترجمان ولا حاجب يحجبه دون: ألم يأتك رسولي فبلغك وآتيتك مالا، وأفضلت عليك، فما قدمت لنفسك؟ فلينظرن يميناً وشمالاً فلا يرى شيئاً، ثم لينظرن قُدامه فلا يرى غير جنهم، فمن استطاع أن يقي وجهه من النار ولو بشق تمرة فليفعل ومن لم يجد فبكلمة طيبة، فإنها بها تجزى الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والسلام عليكم وعلى رسول الله ورحمة الله وبركاته».
ثم خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرة أخرى فقال:
«إن الحمد لله أحمده وأستعينه، نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إن أحسن الحديث كتاب الله تبارك وتعالى، قد أفلح من زينه الله في قلبه، وأدخله في الإسلام بعد الكفر، واختاره على ما سواه من أحاديث الناس، إنه أحسن الحديث وأبلغه أحبوا من أحبه الله، أحبوا الله من كل قلوبكم، ولا تملوا كلام الله وذكره، ولا تقس عنه قلوبكم، فإنه من كل ما يخلق الله؛ يختار ويصطفي قد سماه الله خيرته من الأعمال، ومصطفاه من العباد، والصالح من الحديث، ومن كل ما أوتي الناس من الحلال والحرام، فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا واتقوه حق تقاته، واصدقوا الله صالح ما تقولون بأفواهكم، وتحابوا بروح الله، إن الله يغضب إن نكث عهده والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته»(2).
رابعاً: الصُّفَّة التابعة للمسجد النبوي:
لما تم تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة بأمر الله تعالى، وذلك بعد ستة عشر شهراً من هجرته - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة(3) بقي حائط القبلة الأولى في مؤخر المسجد النبوي، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - به فظلل أو سقف وأطلق عليه اسم الصفة أو الظلة(4) ولم يكن له ما يستر جوانبه(5).
قال القاضي عياض: الصفة ظلة في مؤخر مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأوي إليها المساكين وإليها ينسب أهل الصفة(6).
وقال ابن تيمية: الصفة كانت في مؤخرة مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - في شمالي المسجد بالمدينة المنورة(7).
وقال ابن حجر: الصفة مكان في مؤخر المسجد النبوي مظلل أعد لنزول الغرباء فيه ممن لا مأوى له ولا أهل(8).
1- أهل الصفة:
__________
(1) انظر: نور اليقين للخضري، تحقيق أحمد عبد اللطيف، ص 95، تاريخ خلفية بن خياط، ص56، نقلا عن تاريخ دولة الإسلام الأولى، د. فايد حماد عاشور، سليمان أبو عزب، ص108.
(2) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (2/166، 167) سنن البيهقي (2/524، 525).
(3) انظر: السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/257)
(4) انظر: وفاء الوفاء للسمهودي (1/321) ... (4) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/258).
(6) انظر: نظام الحكومة النبوية المسمى: التراتيب الإدارية، لعبد الحي الكتاني (1/474).
(7) الفتاوى (11/38). ... (7) انظر: فتح الباري (6/595)، (1/535).
قال أبو هريرة: «وأهل الصفة أضياف الإسلام، لا يأوون على أهل ولا مال ولا على أحد»(1).
إن المهاجرين الأوائل الذين هاجروا قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - أو معه أو بعده حتى نهاية الفترة الأولى قبل غزوة بدر، استطاع الأنصار أن يستضيفوهم في بيوتهم وأن يشاركوهم النفقة ولكن فيما بعد كبر حجم المهاجرين مما لم يعد هناك قدرة للأنصار على استيعابهم(2).
فقد صار المهاجرون يكثرون بعد ذلك شيئاً بعد شيء، فإن الإسلام صار ينتشر والناس يدخلون فيه.. ويكثر المهاجرون إلى المدينة من الفقراء والأغنياء، والآهلين والعُزَّاب، فكان من لم يتيسر له مكان يأوي إليه، يأوي إلى تلك الصُّفة في المسجد(3).
والذي يظهر للباحث أن المهاجر الذي يقدم إلى المدينة كان يلتقي بالرسول صلى الله عليه وسلم، ثم يوجهه بعد ذلك إلى من يكفله فإن لم يجد فإنه يستقر في الصفة مؤقتاً ريثما يجد السبيل(4) فقد جاء في المسند عن عبادة بن الصامت، قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُشغل، فإذا قدم رجل مهاجر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دفعه إلى رجل منا يعلمه القرآن، فدفع إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً، وكان معي في البيت أُعشيه عشاء أهل البيت، فكنت أقرئه القرآن»(5)، وقد كان أول من نزل الصفة المهاجرون(6) لذلك نسبت إليهم فقيل صفة المهاجرين(7) وكذلك كان ينزل بها الغرباء من الوفود التي كانت تقدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - معلنة إسلامها وطاعتها(8) وكان الرجل إذا قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان له عريف نزل عليه وإذا لم يكن له عريف نزل مع أصحاب الصفة(9) وكان أبو هريرة - رضي الله عنه - عريف من سكن الصفة من القاطنين، ومن نزلها من الطارقين، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد دعوتهم عهد إلى أبي هريرة فدعاهم لمعرفته بهم، وبمنازلهم ومراتبهم في العبادة والمجاهدة(10) ونزل بعض الأنصار في الصفة حباًّ لحياة الزهد والمجاهدة والفقر، رغم استغنائهم عن ذلك ووجود دار لهم في المدينة ككعب بن مالك الأنصاري، وحنظلة بن أبي عامر الأنصاري (غسيل الملائكة) وحارثة بن النعمان الأنصاري وغيرهم(11).
2- نفقة أهل الصفة ورعاية النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة لهم:
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتعهد أهل الصفة بنفسه، فيزورهم ويتفقد أحوالهم ويعود مرضاهم، كما كان يكثر مجالستهم ويرشدهم ويواسيهم ويذكرهم ويعلمهم ويوجههم إلى قراءة القرآن الكريم ومدارسته، وذكر الله والتطلع إلى الآخرة(12). وكان - صلى الله عليه وسلم - يؤمن نفقتهم بوسائل متعددة ومتنوعة فمنها:
* إذ أتته - صلى الله عليه وسلم - صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئاً، وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها، وأشركهم فيها.
* كثيراً ما كان يدعوهم إلى تناول الطعام في إحدى حجرات أمهات المؤمنين رضي الله عنهم، ولم يكن يغفل عنهم مطلقاً، بل كانت حالتهم ماثلة أمامه، فعن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما، قال إن أصحاب الصفة كانوا أناسا فقراء، وإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال مرة: «من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس أو سادس» أو كما قال، وإن أبا بكر جاء بثلاثة، وانطلق النبي - صلى الله عليه وسلم - بعشرة(13).
* وكما كان - صلى الله عليه وسلم - يقدم حاجتهم على غيرها مما يطلب منه، فقد أتى بسبي مرة فأتته فاطمة رضي الله عنها تسأله خادماً، فكان جوابه كما في المسند عند الإمام أحمد: «والله لا أعطيكم وأدع أهل الصفة تطوي بطونُهم من الجوع لا أجد ما أنفق عليهم، ولكن أبيعهم وأنفق عليهم أثمانهم»(14).
3- انقطاعهم للعلم والعبادة والجهاد:
كان أهل الصفة يعتكفون في المسجد للعبادة، ويألفون الفقر والزهد فكانوا في خلواتهم يصلون ويقرأون القرأن ويتدارسون آياته ويذكرون الله تعالى، ويتعلم بعضهم الكتابة حتى أهدى أحدهم قوسه لعبادة بن الصامت - رضي الله عنه -؛ لأنه كان يعلمهم القرآن والكتابة(15)، واشتهر بعضهم بالعلم وحفظ الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل أبي هريرة - رضي الله عنه - عرف بكثرة تحديثه، وحذيفة بن اليمان الذي اهتم بأحاديث الفتن.
__________
(1) البخاري رقم 6452.
(2) انظر: السيرة النبوية تربية أمة وبناء دولة للشامي، ص175.
(3) الفتاوى (11/40،41). ... (2) انظر: السيرة النبوية تربية أمة وبناء دولة، ص175.
(5) المسند (5/324). ... (4) انظر: وفاء الوفاء السمهودي، (1/323).
(7) سنن أبي داود (2/361). ... (6) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/258).
(9) ، 8، 9) نفس المصدر (1/259). ... (10) المصدر السابق (1/266).
(13) البخاري رقم 3581، ومسلم برقم 2057. ...
(14) أصل الحديث في البخاري برقم 3113، وهذا لفظ المسند (1/106، مرقم 838). ...
(15) سنن أبي داود (2/237) وابن ماجه (2/730).
وكان أهل الصفة يشاركون في الجهاد، بل كان منهم الشهداء ببدر مثل صفوان بن بيضاء، وخريم بن فاتك الأسدي، وخبيب بن يساف، وسالم بن عمير، وحارثة بن النعمان الأنصاري(1)، ومنهم من استشهد بأحد مثل حنظلة الغسيل(2)، ومنهم من شهد الحديبية مثل جرهد بن خويلد وأبو سريحة الغفاري(3) ومنهم من استشهد بخيبر مثل تقف بن عمرو(4) ومنهم من استشهد بتبوك مثل عبد الله ذو البجادين(5).
ومنهم من استشهد باليمامة مثل سالم مولى أبي حذيفة وزيد بن الخطاب، فكانوا رهباناً بالليل فرساناً في النهار(6)، وكان بعض الصحابة قد اختاروا المكوث في الصفة رغبة منهم لا اضطرارا، كأبي هريرة - رضي الله عنه - فقد أحب أن يلازم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويعوض ما فاته من العلم والخير، فقد جاء إلى المدينة بعد فتح خيبر في العام السابع، وحرص على سماع أكبر قدر ممكن من حديثه - صلى الله عليه وسلم - ومعرفة أحواله وتبركا بخدمته - صلى الله عليه وسلم - وهذا لا يتوفر له إلا إذا كان قريباً من بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فكانت الصفة هي المكان الوحيد الذي يؤمن له ذلك، ولنستمع إليه يوضح لنا ذلك، قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: «إنكم تقولون إن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون ما بال المهاجرين والأنصار لا يحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثل حديث أبي هريرة، وإن إخوتي من المهاجرين كان يشغلهم صفْقٌ الأسواق، وكنت ألزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ملء بطني، فأشهد إذا غابوا، وأحفظ إذا نسوا، وكان يشغل إخوتي من الأنصار عمل أموالهم، وكنت امرءاً مسكيناً من مساكين الصفة أعي حين ينسون»(7) وهكذا يوضح - رضي الله عنه - أنه فعل ذلك رغبة منه في ملازمة النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم إن أبا هريرة كان له سكن في المدينة، وهو المكان الذي تسكنه أمه، والتي طلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو لها بالهداية(8) ثم إن أبا هريرة لم يكن فقيراً معدماً، ففي أول يوم قدم فيه على النبي - صلى الله عليه وسلم - في خيبر أسهم له - صلى الله عليه وسلم - من الغنيمة، كما أنه لما قدم كان معه عبد يخدمه كما ورد في الصحيح(9) وإذن فالذي أفقره هو إيثاره ملازمة النبي - صلى الله عليه وسلم - واستماع أحاديثه، وكان يستطيع الاستغناء عن الصُّفة لو أراد(10).
كان أهل الصفة يكثرون ويقلون بحسب تبدل الأحوال التي تحيط بأهل الصُّفة من عودة الأهل، أو زوج، أو يسر بعد عَسر، أو شهادة في سبيل الله.
ولم يكن فقرهم لقعودهم عن العمل وكسب الرزق، فقد ذكر الزمخشري أنهم كانوا يرضخون النوى بالنهار، ويظهر أنهم كانوا يرضخون النوى- يكسرونه- لعلف الماشية وهم ليسوا أهل ماشية، فهم إذن يعملون لكسب الرزق(11).
4- عددهم وأسماؤهم:
كان عددهم يختلف باختلاف الأوقات، فهم يزيدون إذا قدمت الوفود إلى المدينة ويقلون إذا قل الطارقون من الغرباء على أن عدد المقيمين منهم في الظروف العادية كان في حدود السبعين رجلاً(12)، وقد يزيد عددهم كثيراً حتى أن سعد بن عبادة كان يستضيف وحده ثمانين منهم، فضلاً عن الآخرين الذين يتوزعهم الصحابة(13)، ومن أراد الوقوف على بعض أسمائهم فليرجع إلى كتب السيرة(14).
وقد وقع بعض الباحثين في خطأ فادح حين استدل بعضهم على مشروعية مسلك بعض المنحرفين من المتصوفة، من حيث ترك العمل والإخلاد إلى الراحة والكسل، والمكوث في الزوايا والتكايا، بحجة التوكل بحال أهل الصفة(15). إن أبا هريرة، وهو أكثر ارتباطاً بالصفة من غيره لم يستمر فيها وخرج إلى الحياة، بل أصبح أميراً في بعض أيامه على البحرين في عهد عمر بن الخطاب، ولم يكن مخشوشنا في حياته(16) بل إن أهل الصفة كانوا من المجاهدين في سبيل الله في ساحات القتال، وقد استشهد بعضهم كما ذكرت.
خامسًا: فوائد ودروس وعبر:
1- المسجد من أهم الركائز في بناء المجتمع:
إن إقامة المساجد من أهم الركائز في بناء المجتمع الإسلامي، ذلك أن المجتمع المسلم إنما يكتسب صفة الرسوخ والتماسك، بالتزام نظام الإسلام وعقيدته وآدابه، وإنما ينبع ذلك من روح المسجد ووحيه(17).
__________
(1) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/264). ... (5) انظر: حلية الأولياء (1/375).
(3) نفس المصدر (1/353: 355). ... (7) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/264).
(4) ...
(5) ،9) نفس المصدر (1/264). ... ...
(7) البخاري رقم 2047، مسلم رقم 2492. ... (2) مسلم برقم 2491.
(9) انظر: السيرة النبوية تربية أمة وبناء دولة، ص184.
(10) نفس المصدر، ص184.
(11) انظر: المدينة النبوية فجر الإسلام والعصر الراشدي لشراب (1/222).
(12) انظر: أبو نعيم الحلية (1/339: 341). ... (7) نفس المصدر (1/341).
(14) على سبيل المثال: السيرة النبوية الصحيحة (1/262، 263).
(15) انظر: السيرة النبوية تربية أمة وبناء دولة، ص186. ...
(16) نفس المصدر، ص188. ... (3) انظر: فقه السيرة للبوطي، ص203، بتصرف.
قال تعالى: ( لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُّحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ) [التوبة: 108].
قال تعالى: ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآَصَالِ صدق الله العظيم رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ صدق الله العظيم لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) [النور: 36-38].
2- المسجد رمز لشمولية الإسلام:
أ- حيث أنشئ ليكون متعبداً لصلاة المؤمنين وذكرهم الله تعالى وتسبيحهم له، وتقديسهم إياه بحمده وشكره على نعمه عليهم، يدخله كل مسلم، ويقيم فيه صلاته وعبادته ولا يضاره أحد، ما دام حافظاً لقداسته ومؤدياًّ حق حرمته»(1).
ب- كما «أنشئ ليكون ملتقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه والوافدين عليه، طلباً للهداية ورغبة في الإيمان بدعوته وتصديق رسالته»(2).
ج- وهو قد أنشئ ليكون جامعة للعلوم والمعارف الكونية والعقلية والتنزيلية، التي حث القرآن الكريم على النظر فيها، وليكون مدرسة يتدارس فيها المؤمنون أفكارهم وثمرات عقولهم، ومعهدا يؤمه طلاب العلم من كل صوب، ليتفقهوا في الدين ويرجعوا إلى قومهم مبشرين ومنذرين، داعين إلى الله هادين، يتوارثونها جيلاً بعد جيل(3).
د- وهو قد أنشئ ليجد فيه الغريب مأوى، وابن السبيل مستقراً لا تكدره منَّة أحد عليه فينهل من رفده ويعب من هدايته ما أطاق استعداده النفسي والعقلي، لا يصده أحد عن علم أو معرفة أو لون من ألوان الهداية، فكم من قائد تخرج فيه، وبرزت بطولته بين جدرانه، وكم من عالم استبحر علمه في رحابه، ثم خرج به على الناس يروي ظمأهم للمعرفة، وكم من داعٍ إلى الله تلقى في ساحاته دروس الدعوة إلى الله فكان أسوة الدعاة، وقدوة الهداة، وريحانة جذب القلوب شذاها فانجفلت تأخذ عنها الهداية لتستضيء بأنوارها» (4)
وكم من أعرابي جلف لا يفرق بين الأحمر والأصفر، وفد عليه فدخله ورأى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حوله هالة تحف به، يسمعون منه وكأن على رؤوسهم الطير، فسمع معهم وكانت عنده نعمة العقل مخبأة تحت ستار الجهالة، فانكشف له غطاء عقله، فعقل وفقه، واهتدى واستضاء، ثم عاد إلى قومه إماماً يدعوهم إلى الله، ويربيهم بعلمه الذي علم، وسلوكه الذي سلك فآمنوا بدعوته، واهتدوا بهديه، فكانوا سطراً منيراً في كتاب التاريخ الإسلامي»(5).
هـ- وهو «قد أنشئ ليكون قلعة لاجتماع المجاهدين إذا استنفروا، تعقد فيه ألوية الجهاد، والدعوة إلى الله، وتخفق فيه فوق رؤوس القادة الرايات للتوجه إلى مواقع الأحداث، وفي ظلها يقف جند الله في نشوة ترقب النصر أو الشهادة.
و- وهو «قد أنشئ ليجد فيه المجتمع المسلم الجديد ركناً في زواياه، ليكون مشفى يستشفى فيه جرحى كتائب الجهاد ليتمكن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - من عبادتهم، والنظر في أحوالهم والاستطباب لهم، ومداواتهم في غير مشقة ولا نصب تقديراً لفضلهم.(1/70)
ز- وهو «قد أنشئ ليكون مبرداً لبريد الإسلام منه تصدر الأخبار، ويبرد البريد، وتصدر الرسائل، وفيه تتلقى الأنباء السياسية سلماً أو حرباً وفيه تتلقى وتقرأ رسائل البشائر بالنصر، ورسائل طلب المدد، وفيه ينعى المستشهدون في معارك الجهاد ليتأسى بهم المتأسون وليتنافس في الاقتداء بهم المتنافسون.
ح- وهو «قد أنشئ ليكون مرقباً للمجتمع المسلم، يتعرف منه على حركات العدو المريبة ويرقبها ولا سيما الأعداء الذين معه يساكنونه ويخالطونه في بلده من شراذم اليهود وزمر المنافقين ونفايات الوثنية، الذين تمتوا في الشرك فلم يتركوه، ليحذر المجتمع المسلم عاقبة كيدهم وسوء مكرهم وتدبيرهم، ويأمن مغبة غدرهم وخياناتهم»(6).
فالمسجد النبوي «بدأ بتأسيسه وبنائه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أول ما بدأ من عمل في مستقره ودار هجرته في مطلع مقدمه ليكون نموذجا يحتذى به في بساطة المظهر، وعمق وعموم المخبر، ليحقق به أعظم الأهداف وأعمها، بأقل النفقات وأيسر المشقات»(7).
3- التربية بالقدوة العملية:
__________
(1) ،5 ،6) محمد رسول الله، محمد عرجون (3/33).
(4) انظر: محمد رسول الله، محمد عرجون (3/34).
(5) المصدر السابق، (3/34، 35).
(6) انظر: محمد رسول الله، محمد عرجون (3/36) عَسَوا: أسنُّوا وكبروا.
(7) محمد رسول الله، (3/33).
من الحقائق الثابتة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شارك أصحابه العمل والبناء، فكان يحمل الحجارة وينقل اللبن على صدره وكتفيه، ويحفر الأرض بيديه كأي واحد منهم، فكان مثال الحاكم العادل الذي لا يفرق بين رئيس ومرؤوس، أو بين قائد ومقود، أو بين سيد ومسود، أو بين غني وفقير، فالكل سواسية أمام الله، لا فرق بين مسلم وآخر إلا بالتقوى، ذلك هو الإسلام عدالة ومساواة في كل شيء، والفضل فيه يكون لصاحب العطاء في العمل الجماعي للمصلحة العامة، وبهذا الفضل ثواب من الله، والرسول - صلى الله عليه وسلم - كغيره من المسلمين لا يطلب إلا ثواب الله(1) فقد كانت مشاركة النبي - صلى الله عليه وسلم - في عملية البناء ككل العمال الذين شاركوا فيه، وليس بقطع الشريط الحريري فقط، وليس بالضربة الأولى بالفأس فقط، بل غاص بعلمية البناء كاملة، فقد دهش المسلمون من النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد علته غبرة، فتقدم أسيد بن حضير - رضي الله عنه - ليحمل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله أعطنيه؟ فقال: «اذهب فاحتمل غيره فإنك لست بأفقر إلى الله مني»(2) فقد سمع المسلمون ما يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لصاحبه، فازدادوا نشاطا واندفاعا في العمل(3).
إنه مشهد فريد من نوعه ولا مثيل له في دنيا الناس، وإذا كان الزعماء والحكام قد يقدمون على المشاركة أحياناً بالعمل لتكون شاشات التلفزيون جاهزة لنقل أعمالهم، وتملأ الدنيا في الصحف ووسائل الإعلام كلها بالحديث عن أخلاقهم وتواضعهم، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - ينازع الحجر أحد أفراد المسلمين، ويبين له أنه أفقر إلى الله تعالى، وأحرص على ثوابه منه.
وقد تفاعل الصحابة الكرام تفاعلاً عظيماً في البناء وأنشدوا هذا البيت:
لئن قعدنا والنبي يعمل ... لذاك منا العمل المضلل(4)
إن هذه التربية العملية لا تتم من خلال الموعظة، ولا من خلال الكلام المنمق، إنما تتم من خلال العمل الحي الدؤوب، والقدوة المصطفاة من رب العالمين، والتي ما كان يمكن أن تتم في أجواء مكة، والملاحقة والاضطهاد والمطاردة فيها إنما تتم في هذا المجتمع الجديد والدولة التي تبني وكأنما غدا هذا الجميع من الصحابة الكرام كله صوتاً واحداً، وقلباً واحداً، فمضى يهتف:
اللهم إن العيش عيش الآخرة ... فانصر الأنصار والمهاجرة
ويهتف بلحن واحد:
لئن قعدنا والنبي يعمل ... لذاك منا العمل المضلل
وكان الهتاف الثالث:
هذي الحمال لا حمال خيبر ... هذا أبر لربنا وأطهر(5)
فأحمال التمر والزبيب من خيبر إلى المدينة كانت لها مكانتها في المجتمع اليثربي أصبحت لا تذكر أمام حمل الطوب لبناء المسجد النبوي العظيم، فقد أيقنوا: ( مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللهِ بَاقٍ ) [النحل: 96].
وأما الهتاف الرابع:
لا يستوي من يعمر المساجدا ... بدأب فيه قائماً وقاعداً
ومن يرى عن الغبار حائدا(6)
4- الاهتمام بالخبرة والاختصاص:
أخرج الإمام أحمد عن طلق بن علي اليمامي الحنفي، قال بنيت المسجد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان يقول: «قربوا اليمامي من الطين فإنه أحسنكم له مسيساً» وأخرج الإمام أحمد عن طلق أيضاً، قال: جئت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يبنون المسجد وكأنه لم يعجبه عملهم، فأخذت المسحاة، فخلطت الطين، فكأنه أعجبه فقال: «دعوا الحنفي والطين، فإنه أضبطكم للطين» وأخرج ابن حبان عن طلق فقال: فقلت: يا رسول الله أأنقل كما ينقلون؟ قال: «لا، ولكن اخلط لهم الطين، فأنت أعلم به»(7).
فقد اهتم النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا الوافد الجديد على المدينة، والذي لم يكن من المسلمين الأوائل، ووظف خبرته في خلط الطين، وفي قوة العمل، وهو درس للمسلمين في الثناء على الكفاءات والاستفادة منها، وإرشاد نبوي كريم في كيفية التعامل معها وما أحوجنا إلى هذا الفهم العميق(8).
5- شعار الدولة المسلمة:
إن أذان الصلاة شعار لأول دولة إسلامية عالمية: (الله أكبر، الله أكبر) إنها تعني أن الله أكبر من أولئك الطغاة، وأكبر من صانعي العقبات، وهو الغالب على أمره.
(أشهد أن لا إله إلا الله) أي لا حاكمية ولا سيادة ولا سلطة إلا لله رب العالمين (إن الحكم إلا لله) فمعنى لا إله إلا الله: لا حاكم ولا آمر ولا مشرع إلا الله.
__________
(1) انظر: التاريخ الإسلامي والعسكري، د. علي معطي، ص158.
(2) انظر: صور من حياة الرسول، أمين دويدار، ص261.
(3) انظر: التاريخ السياسي والعسكري، د. علي معطي، ص158.
(4) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (1/496). ...
(5) انظر: التربية القيادية (2/249).
(6) انظر: محمد رسول الله، محمد عرجون (3/15). ...
(7) نفس المصدر (3/15). ...
(8) انظر: التربية القيادية (2/252).
(أشهد أن محمدًا رسول الله) أسلمه الله تعالى القيادة، فليس لأحد أن ينزعها منه، فهو ماضٍ بها إلى أن يكمل الله دينه بما ينزله على رسوله من قرآن، وبما يلهمه إياه من سنة(1)، ويعني الاعتراف لرسول الله بالرسالة والزعامة الدينية والدنيوية والسمع والطاعة له(2).
(حي على الصلاة، حي على الفلاح) أقبل يا أيها الإنسان للانضواء تحت لواء هذه الدولة التي أخلصت لله، وجعلت من أهدافها تمتين العلاقة بين المسلم وخالقه، وتمتين العلاقة بين المؤمنين على أساس من القيم السامية.
(قد قامت الصلاة) وقد اختيرت الصلاة من بين سائر العبادات؛ لأنها عماد الدين كله؛ ولأنها بما فيها من الشعائر كالركوع والسجود والقيام أعظم مظهر لمظاهر العبادة بمعناها الواسع التي تعني: الخضوع والتذلل والاستكانة، فهي خضوع ليس بعده خضوع، فكل طاعة لله على وجه الخضوع، والتذلل، فهي عبادة، فهي طاعة العبد لسيده، فيقف بين يديه قد أسلم نفسه طاعة وتذللاً قال تعالى: ( قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِن رَّبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) [غافر: 16].
وهذا الارتباط بين شعار الدولة الرسمي بحاكمية الله وسيادة الشرع، وسقوط الطواغيت، وقوانينهم، وأنظمتهم وشرائعهم بـ(حي على الفلاح.. قد قامت الصلاة) يشير إلى أنه لا قيام للصلاة، ولا إقامة لها كما ينبغي إلا في ظل دولة تقوم عليها وتقوم بها
ولها، فقد كان المسلمون يصلون خفية في شعاب مكة قبل قيام دولتهم، أما وقد
قامت تحت حماية سيوف الأنصار، فليجهروا بالأذان، والإقامة، وليركعوا وليسجدوا
لله رب العالمين.
إن الواقع التاريخي خير شاهد على أن الله لا يعبد في الأرض حق عبادته إلا في ظل دولة قوية تحمي رعايها من أعداء الدين.
ثم تتكرر كلمات الأذان (الله أكبر.. الله أكبر) للتأكيد على المعاني السابقة(3).
إننا بحاجة ماسة لفهم الأذان، وإدراك معانيه والعمل على ترجمته ترجمة عملية، لنجاهد في الله حق جهاده، حتى ندمر شعارات الكفر، ونرفع شعارات الإيمان، ونقيم دولة التوحيد التي تحكم بشرع الله ومنهجه القويم.
6- فضائل المسجد النبوي:
تحدث النبي - صلى الله عليه وسلم - عن فضائل المسجد النبوي؛ ولذلك تعلق الصحابة به ويمكننا الرجوع إلى صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما؛ للوقوف على هذه الفضائل الميمونة. وسنذكر هنا حديثًا واحدًا لمعناه العميق الذي نحتاجه ونستمسك به وهو عن:
7- فضل التعلم والتعليم في المسجد النبوي:
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من دخل مسجدنا هذا ليتعلم خيراً أو يعمله كان كالمجاهد في سبيل الله، ومن دخله لغير ذلك كان كالناظر إلى ما ليس له»(4).
* * *
المبحث الثاني
المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار
كان من أولى الدعائم التي اعتمدها الرسول - صلى الله عليه وسلم - في برنامجه الإصلاحي، والتنظيمي للأمة وللدولة والحكم، الاستمرار في الدعوة إلى التوحيد والمنهج القرآني، وبناء المسجد، وتقرير المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار وهي خطوة لا تقل أهمية عن الخطوة الأولى في بناء المسجد لكي يتلاحم المجتمع المسلم ويتآلف وتتضح معالم تكوينه(5) الجديد.
كان مبدأ التآخي العام بين المسلمين قائما منذ بداية الدعوة في عهدها المكي،
ونهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن كل ما يؤدي إلى التباغض بين المسلمين فقال صلى الله عليه وسلم: «لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام» (6).
وقال صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يُسلمه(7) ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته(8) ومن فرج عن مسلم كربة(9) فرج الله- عز وجل- عنه كربة من كربات يوم القيامة ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة»(10).
__________
(1) انظر: قراءة سياسية للسيرة النبوية، محمد قلعجي، ص114.
(2) انظر: دولة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من التكوين إلى التمكين، كامل سلامة الدقس، ص438.
(3) انظر: دولة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من التكوين إلى التمكين، ص439.
(4) انظر: المصنف لأبي شيبة (2/371)، (12/209) رقم 12567، وفي رواية الحاكم قال: (هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، فقد احتجا بجميع رواته، ثم لم يخرجاه، ولا أعلم له علة)، وأقره الذهبي. انظر: تلخيص المستدرك (1/91).
(5) انظر: الإدارة الإسلامية في عصر عمر بن الخطاب، د. مجدلاوي، ص52، 53.
(6) البخاري، رقم 6065، مسلم رقم 24.
(7) أي لا يتركه مع من يؤذيه، ولا فيما يؤذيه، بل ينصره ويدفع عنه.
(8) مسند أحمد رقم 7929. ... (5) كربة: أي غمة.
(10) البخاري، رقم 2442.
وقد أكد القرآن الكريم الأخوة العامة بين أبناء الأمة في قوله تعالى: ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ
بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ
تَهْتَدُونَ ) [آل عمران: 103].
وقوله تعالى: ( وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) [الأنفال: 63].
أما موضوع هذا البحث فهو المؤاخاة الخاصة التي شرعت وترتبت عليها حقوق وواجبات أخص من الحقوق والواجبات العامة بين المؤمنين كافة(1).
وقد تحدث بعض العلماء عن وجود مؤاخاة كانت في مكة بين المهاجرين، فقد أشار البلاذري إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - آخى بين المسلمين في مكة قبل الهجرة على الحق والمواساة، فآخى بين حمزة وزيد بن حارثة، وبين أبي بكر وعمر، وبين عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وبين الزبير بن العوام وعبد الله بن مسعود، وبين عبيدة بن الحارث وبلال الحبشي، وبين مصعب بن عمير وسعد بن أبي وقاص، وبين أبي عبيدة بن الجراح وسالم مولى أبي حذيفة، وبين سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وطلحة بن عبيد الله، وبينه وبين علي بن أبي طالب(2) ويعتبر البلاذري (ت276هـ) أقدم من أشار إلى المؤاخاة المكية، وقد تابعه في ذلك ابن عبد البر (ت463هـ) دون أن يصرح بالنقل عنه، كما تابعهما ابن سيد الناس دون التصريح بالنقل عن أحدهما(3)، وقد أخرج الحاكم في المستدرك من طريق جميع بن عمير عن ابن عمر: «آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أبي بكر وعمر، وبين طلحة والزبير، وبين عبد الرحمن بن عوف وعثمان»(4) وعن ابن عباس: «آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بن الزبير وابن مسعود»(5).
وذهب كل من ابن القيم وابن كثير إلى عدم وقوع المؤاخاة بمكة، فقال ابن القيم: «وقد قيل إنه- أي النبي صلى الله عليه وسلم- آخى بين المهاجرين بعضهم مع بعض مؤاخاة ثانية، واتخذ فيها عليا أخا لنفسه، والثبت الأول(6)، والمهاجرون كانوا مستغنين بأخوة الإسلام، وأخوة الدار وقرابة النسب، عن عقد مؤاخاة بخلاف المهاجرين مع الأنصار»(7) أما ابن كثير فقد ذكر أن من العلماء من ينكر هذه المؤاخاة لنفس العلة التي ذكرها ابن القيم(8).
لم تشر كتب السيرة الأولى المختصة إلى وقوع المؤاخاة بمكة، والبلاذري ساق الخبر بلفظ (قالوا) دون إسناد مما يضعف الرواية، كما أن البلاذري نفسه ضعف النقاد، وعلى فرض صحة هذه المؤاخاة بمكة فإنها تقتصر على المؤازرة والنصيحة بين المتآخين دون أن تترتب عليها حقوق التوارث(9).
أولاً: المؤاخاة في المدينة:
ساهم نظام المؤاخاة في ربط الأمة بعضها ببعض، فقد أقام الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذه الصلة على أساس الإخاء الكامل بينهم، هذا الإخاء الذي تذوب فيه عصبيات الجاهلية، فلا حمية إلا للإسلام وأن تسقط فوارق النسب واللون والوطن، فلا يتأخر أحد أو يتقدم إلا بمروءته وتقواه.
وقد جعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذه الأخوة عقداً نافذاً لا لفظاً فارغاً، وعملا يرتبط بالدماء والأموال لا تحية تثرثر بها الألسنة ولا يقوم لها أثر.
وكانت عواطف الإيثار والمواساة والمؤانسة تمتزج في هذه الأخوة وتملأ المجتمع الجديد بأروع الأمثال(10).
والسبب الذي أدى إلى تقوية هذه الأخوة بين المهاجرين والأنصار هو أن أهل هذا المجتمع ممن التقوا على دين الله وحده، نشّأهم دينهم الذي اعتنقوه على أن يقولوا ويفعلوا، وعلّمهم الإيمان والعمل جميعًا، فهم أبعد ما يكونون عن الشعارات التي لا تتجاوز أطراف الألسنة، وكانوا على النحو الذي حكاه الله عنهم في قوله تعالى: ( إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إذا دُعُوا إلى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) [النور: 51].
__________
(1) انظر:/ السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/240).
(2) البلاذري: أنساب الأشراف (1/270). ... (2) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/240).
(4) نفس المصدر (1/240). ... (4) فتح الباري (7/304)
(6) يعني المؤاخاة في المدينة. ... (6) زاد المعاد (2/79).
(8) انظر: السيرة النبوية لابن كثير. ... (8) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/241).
(10) انظر: فقه السيرة للغزالي ص 193، 194.
وبذلك الذي درج عليه المسلمون كفل البقاء والاستمرار لهذه الأخوة، التي شد الله بها أزر دينه ورسوله حتى آتت ثمارها في كل أطوار الدعوة طوال حياته صلى الله عليه وسلم، وامتد أثرهاحتى وفاته صلى الله عليه وسلم، وبقيت هذه المؤاخاة عند مبايعة الصديق - رضي الله عنه - ولم يحدث الأنصار صدعًا في شمل الأمة، مستجيبين في ذلك لشهوات السلطة وغريزة السيطرة، ذلك فإن سياسة المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، نوع من السبق السياسي الذي اتبعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تأصيل المودة وتمكينها في مشاعر المهاجرين والأنصار، الذين سهروا جميعا على رعاية هذه المودة وذلك الإخاء، بل كانوا يتسابقون في تنفيذ بنوده(1).
ولا سيما الأنصار الذين لا يجد الكتاب والباحثون مهما تساموا إلى ذروة البيان خيرا من حديث الله عنهم(2) قال تعالى: ( وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) [الحشر: 9].
* بعض أسماء المهاجرين والأنصار ممن تآخوا في الله:
أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - وخارجة بن زهير، عمر بن الخطاب وعتبان بن مالك، أبو عبيدة بن الجراح وسعد بن معاذ، عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع، الزبير بن العوام وسلامة بن سلامة بن وقش، طلحة بن عبيد الله وكعب بن مالك، سعيد بن زيد وأبي بن كعب، مصعب بن عمير وأبو أيوب خالد بن زيد، أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة وعباد بن بشر بن وقش، عمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان، أبو ذر الغفاري والمنذر بن عمرو، حاطب بن أبي بلتعة وعويم بن ساعدة، سلمان الفارسي وأبو الدرداء، بلال مؤذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو رويحة عبد الله بن عبد الرحمن الخثعمي(3).
ثانيًا: الدروس والعبر والفوائد:
1- آصرة العقيدة هي أساس الارتباط:
إن المجتمع المدني الذي أقامه الإسلام كان مجتمعاً عقديُّا يرتبط بالإسلام ولا يعرف الموالاة إلا لله ولرسوله وللمؤمنين، وهو أعلى أنواع الارتباط وأرقاه، إذ يتصل بوحدة العقيدة والفكر والروح(4).
إن الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين من أهم الآثار والنتائج المترتبة على الهجرة، وكان القرآن الكريم يربي المسلمين على هذه المعاني الرفيعة، فقد بين الحق سبحانه وتعالى أن ابن نوح وإن كان من أهله باعتبار القرابة لكنه لم يعد من أهله لما فارق الحق وكفر بالله ولم يتبع نبي الله. قال تعالى:
( وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ صدق الله العظيم قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ) [هود: 45،46].
وقد حصر الإسلام الأخوة والموالاة بين المؤمنين فقط قال تعالى: ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) [الحجرات: 10].
وقطع الولاية بين المؤمنين والكافرين من المشركين واليهود والنصارى، حتى لو كانوا آباءهم أو إخوانهم أو أبناءهم، ووصف من يفعل ذلك من المؤمنين بالظلم، مما يدل
على أن موالاة المؤمنين للكافرين، من أعظم الذنوب قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لاَ تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) [التوبة: 23].
فإذا كان الله سبحانه يحذر المؤمنين في الآيات السابقة من موالاة الكفار عامة، فهناك آيات كثيرة وردت في تحذير المؤمنين ونهيهم عن طاعة أهل الكتاب خاصة، أو اتخاذهم أولياء، أو الركون إليهم(5).
قال تعالى: ( وَلَنْ تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ
هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ
نَصِيرٍ ) [البقرة: 120].
وقال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ ) [آل عمران: 100].
__________
(1) انظر: فصول في السيرة النبوية، د. عبد المنعم السيد، ص200.
(2) انظر: هجرة الرسول وصحابته في القرآن السنة للجمل، ص245.
(3) انظر: ابن هشام (2/109: 111) السيرة النبوية لابن كثير (2/324).
(4) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/252)
(5) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، أحزمي جزولي، ص417.
وقال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) [المائدة: 51].
وحدد المولى عز وجل للذين آمنوا جهة الولاء الوحيدة التي تتفق مع صفة
الإيمان وبين لهم من يتولون قال تعالى: ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ صدق الله العظيم وَمَن يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ) [المائدة: 55-56].
فقد فهم الصحابة أن ولاءهم لا يكون إلا لقيادتهم، وإخلاصهم لا يكون إلا لعقيدتهم، وجهادهم لا يكون إلا لإعلاء كلمة الله، فحققوا ذلك كله في أنفسهم وطبقوه على حياتهم فمحضوا ولاءهم وجعلوه لله ورسوله والمؤمنين، وأصبح تاريخهم حافلاً بالمواقف الرائعة التي تدل على فهمهم العميق لمعنى الولاء الذي منحوه لخالقهم ولدينهم وعقيدتهم وإخوانهم.(1/71)
إن التآخي الذي تم بين المهاجرين والأنصار كان مسبوقاً بعقيدة تم اللقاء عليها، والإيمان بها، فالتآخي بين شخصين يؤمن كل منهما بفكرة أو عقيدة مخالفة للأخرى خرافة ووهم، خصوصاً إذا كانت تلك الفكرة أو العقيدة مما يحمل صاحبها على سلوك معين في الحياة العملية، ولذلك كانت العقيدة الإسلامية التي جاء بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عند الله تعالى هي العمود الفقري للمؤاخاة التي حدثت، لأن تلك العقيدة تضع الناس كلهم في مصاف العبودية الخالصة لله دون الاعتبار لأي فارق إلا فارق التقوى والعمل الصالح، إذ ليس من المتوقع أن يسود الإخاء، والتعاون والإيثار بين أناس فرقتهم العقائد والأفكار المختلفة، فأصبح كل منهم ملكا لأنانيته وأثرته وأهوائه(1).
2- الحب في الله أساس بنية المجتمع المدني:
إن المؤاخاة على الحب في الله من أقوى الدعائم في بناء الأمة المسلمة، فإذا وهت يتآكل كل بنيانها(2) ولذلك حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على تعميق معاني الحب في الله في المجتمع المسلم الجديد فقد قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي»(3).
وكان للحب في الله أثره في المجتمع المدني الجديد، فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: (كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة نخلاً، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، فلما نزلت: ( لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ ) [آل عمران: 92] قام أبو طلحة فقال: يا رسول الله، إن الله يقول: ( لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ) وإن أحب أموالي إلي (بيرحاء) وإنها صدقة لله أرجو برها، وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، وقد سمعتُ ما قلتَ وإني أرى أن تجعلها في الأقربين» فقال أبو طلحة، أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه
وبني عمه(4).
__________
(1) انظر: فقه السيرة للبوطي، ص156. ... (2) انظر: محمد رسول الله، عرجون (3/129).
(3) مسلم، كتاب البر والصلة والآداب رقم الحديث 2566.
(4) انظر: السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/254)
وهذا عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - يحدثنا عن هذه المعاني الرفيعة حيث قال: لما قدمنا المدينة آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيني وبين سعد بن الربيع، فقال سعد بن الربيع: إني أكثر الأنصار مالاً فأقسم لك نصف مالي، وانظر أي زوجتي هويت نزلت لك عنها، فإذا حلت(1) تزوجتها، قال: فقال عبد الرحمن: لا حاجة لي في ذلك، هل من سوق فيه تجارة؟ قال: سوق قينقاع(2) فغدا إليه عبد الرحمن فأتى بأقط وسمن قال: ثم تابع الغدو(3) فما لبث أن جاء عبد الرحمن عليه أثر صفرة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «تزوجت» قال: نعم، قال: «ومن؟» قال: امرأة من الأنصار، قال: «كم سقت؟» قال زنة نواة من ذهب، أو نواة من ذهب فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أولم ولو بشاة» (4) ونلاحظ أن كرم سعد بن الربيع قابله عفة وكرم نفس من عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم، ولم يكن مسلك عبد الرحمن بن عوف خاصًّا به، بل إن الكثير من المهاجرين كان مكوثهم يسيراً في بيوت إخوانهم من الأنصار ثم باشروا العمل والكسب واشتروا بيوتاً لأنفسهم وتكفلوا بنفقة أنفسهم، ومن هؤلاء أبو بكر وعمر وعثمان وغيرهم رضي الله عنهم.
3- النصيحة بين المتآخين في الله:
فقد كان للمؤاخاة أثر في المناصحة بين المسلمين فقد آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء متبذلة، فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاماً، فقال له: كل، فإني صائم قال: ما أنا بآكل حتى تأكل قال: فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، قال: نم، فنام، ثم ذهب يقوم، فقال: نم، فلما كان آخر الليل، قال سلمان: قم الآن، فصليا، فقال سلمان: إن لربك عليك حقاَّ، ولنفسك عليك حقاًّ، ولأهلك عليك حقاًّ، فأعط كل ذي حق حقه، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «صدق سلمان»(5).
4- لا ما أثنيتم عليهم ودعوتم الله لهم:
كان الأنصار قد واسوا إخوانهم المهاجرين بأنفسهم وزادوا على ذلك بأن آثروهم على أنفسهم بخير الدنيا، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: (قالت الأنصار للنبي - صلى الله عليه وسلم - أقسم بيننا وبين إخواننا النخيل، قال: «لا» فقالوا: تكفوننا المؤونة ونشرككم في الثمرة، قالوا: سمعنا وأطعنا)(6).
فهذا الحديث يفيد أن الأنصار عرضوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتولى قسمة أموالهم بينهم وبين إخوانهم المهاجرين، وقد كانت أموالهم هي النخيل، فأبى عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأراد أمرا تكون فيه المواساة من غير إجحاف بالأنصار، بزوال ملكية أموالهم منهم، فقال الأنصار للمهاجرين: تكفوننا المؤونة- أي العمل في النخيل من سقيها وإصلاحها- ونشرككم في الثمرة، فلما قالوا ذلك رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن هذا الرأي ضمن سد حاجة المهاجرينن مع الإرفاق بالأنصار فأقرهم على ذلك فقالوا جميعا: سمعنا وأطعنا(7).
وقد قام الأنصار بالمؤونة وأشركوا المهاجرين في الثمرة، ولعل المهاجرين كانوا يساعدونهم في العمل، ولكن أكثر العمل عند الأنصار، وقد شكر المهاجرون للأنصار فعلهم ومواقفهم الرفيعة في الإيثار والكرم، وقالوا: يا رسول الله ما رأينا مثل قوم قدمنا
عليهم أحسن مواساة في قليل ولا أحسن بذلاً في كثير، ولقد كفونا المؤونة وأشركونا في
المهنأ (8) حتى لقد حسبنا أن يذهبوا بالأجر كله، قال: «لا، ما أثنيتم عليهم ودعوتم الله عز وجل لهم» (9).
وفي إشارة المهاجرين إلى الأجر الأخروي بيان لعمق تصورهم للحياة الآخرة، وهيمنة هذا التصور على تفكيرهم(10).
وقد أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكافئ الأنصار على تلك المكارم العظيمة التي قدموها لإخوانهم المهاجرين، فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - الأنصار إلى أن يقطع لهم البحرين، فقالوا: لا، إلا أن تقطع لإخواننا من المهاجرين مثلها، قال: «إمَّا لا، فاصبروا حتى تلقوني فإنه سيصيبكم بعدي أثرة» (11).
__________
(1) نزلت لك عنها: أي طلقتها لأجلك، فإذا حلت: أي انقضت عدتها.
(2) قينقاع قبيلة من اليهود نسب السوق إليهم.
(3) تابع الغدو: أي دوام الذهاب إلى السوق للتجارة.
(4) البخاري، كتاب البيوع، رقم 2048.
(5) صحيح البخاري، كتاب الصوم، رقم 1968 (4/209).
(6) صحيح البخاري، المزارعة رقم 2325. ... (3) انظر: التاريخ الإسلامي (4/30).
(8) يعني كفونا العمل وأشركونا في الثمرة.
(9) مسند أحمد (3/200، 201) ابن أبي شيبة (9/68) رقم 6561.
(10) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (4/406). ... (2) صحيح البخاري، مناقب الأنصار رقم 3794.
لقد حققت المؤاخاة أهدافها، فمنها إذهاب وحشة الغربة للمهاجرين ومؤانستهم عن مفارقة الأهل والعشيرة، وشد أزر بعضهم بعضاً، ومنها نهوض الدولة الجديدة، لأن أي دولة لا يمكن أن تنهض وتقوم إلا على أساس من وحدة الأمة وتساندها، ولا يمكن لكل من الوحدة والتساند أن يتم بغير عامل التآخي والمحبة المتبادلة، فكل جماعة، لا تؤلف بينها آصرة المودة والتآخي الحقيقية، لا يمكن أن تتحد حول مبدأ ما، وما لم يكن الاتحاد حقيقة قائمة في الأمة أو الجماعة فلا يمكن أن تتألف منها دولة(1).
5- الإرث بالمؤاخاة:
لم يعرف تاريخ البشر كله حادثاً جماعياًّ كحادث استقبال الأنصار للمهاجرين بهذا الحب الكريم وبهذا البذل السخي، وبهذه المشاركة الفعالة وبهذا التسابق إلى الإيواء واحتمال الأعباء، فقد جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - من هذه الأخوة مسئولية حقيقة تشيع بين هؤلاء الإخوة «جعل الله سبحانه وتعالى حق الميراث منوطاً بهذا التآخي، دون حقوق القرابة والرحَم فقد كان من حكمة التشريع أن تتجلى الأخوة الإسلامية حقيقة محسوسة في أذهان المسلمين وأن يعلموا أن ما بين المسلمين من التآخي والتحابب ليس شعارا وكلاما مجردين»، والفترة الأولى من الهجرة وضعت كلاًّ من الأنصار والمهاجرين أمام مسئولية خاصة من التعاون والتناصر والمؤانسة، بسبب مفارقة المهاجرين لأهلهم، وتركهم ديارهم وأموالهم في مكة ونزولهم ضيوفاً على إخوانهم الأنصار في المدينة، فكان من إقامة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من التآخي بين أفراد المهاجرين والأنصار ضمانة لتحقيق هذه المسئولية، ولقد كان من مقتضى هذه المسئولية أن يكون هذا التآخي أقوى في حقيقته وأثره من أُخوة الرحم المجردة، فلما استقر أمر المهاجرين في المدينة وتمكن الإسلام فيها، غدت الروح الإسلامية هي وحدها العصب الطبيعي للمجتمع الجديد في المدينة(2).
فلما ألف المهاجرون جو المدينة وعرفوا مسالك الرزق فيها، وأصابوا من غنائم بدر الكبرى بما كفاهم، رجع التوارث إلى وضعه الطبيعي المنسجم مع الفطرة البشرية على أساس صلة الرحم، وأبطل التوارث بين المتآخين، وذلك بنص القرآن الكريم فقال تعالى: ( وَالَّذِينَ آمَنُوا مِن بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) [الأنفال: 75].
فهذه الآية نسخت التوارث بموجب نظام المؤاخاة(3) وبقيت النصرة والرفادة والنصيحة بين المتآخين(4) فقد بين حبر الأمة ابن عباس ذلك عند قوله تعالى: ( وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا ) [النساء: 33] أنه قال: ( وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ ) قال: ورثة (والذين عاقدت إيمانكم) كان المهاجرون لما قدموا المدينة يرث المهاجر الأنصاري دون ذوي رحمه، للأخوة التي آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهم، فلما نزلت ( وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ ) نسخت، ثم قال: ( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ )(5) من النصر والرفادة والنصيحة وقد ذهب الميراث ويوصي له(6).
6- قيم إنسانية ومبادئ مثالية:
من خلال الروابط الوثيقة التي ألفت بين المهاجرين والأنصار أُرسيت قيم إنسانية واجتماعية ومبادئ مثالية لا عهد للمجتمع القبلي بها، وإنما هي من شأن المجتمعات المتحضرة الفاضلة.
7- تذويب الفوارق الإقليمية والقبلية:
إن القضاء على الفوارق الإقليمية والقبلية ليست بالأمر الهين في المجتمعات الجاهلية، حيث العصبية هي الدين عندهم، وعملية المؤاخاة تهدف إلى إذابة هذه الفوارق بصورة واقعية منطلقة من قلب البيئة الجاهلية.
إن من الأمراض في الصف الإسلامي المعاصر سيطرة الروح الإقليمية والعصبية في نفوس بعض الدعاة وهذه الأمراض تحيل بينهم وبين التمكين وتضعف الصفوف بل تشتتها وينشغل الصف بنفسه عن أهدافه الكبار، وقد تولد هذا عن أمراض في نفوس بعض الأفراد بسبب بعدهم عن القرآن الكريم، وسنة سيد المرسلين، فلم يتربوا عليها ولذلك كثر التناحر والتباغض.
إن المسلمين اليوم بأشد الحاجة إلى مثل هذه المؤاخاة التي حدثت بين المهاجرين والأنصار؛ لأنه يستحيل أن تستأنف حياة إسلامية عزيزة قوية إذ لم تتخلق المجتمعات الإسلامية بهذه الأخلاق الكريمة، وترتقي إلى هذا المستوى الإيماني الرفيع وإلى هذه التضحيات الكبيرة.
8- المؤاخاة بين المسلمين من أسباب التمكين المعنوية:
__________
(1) في ظلال القرآن (6/3526) ... (4) انظر: فقه السيرة للبوطي، ص211، 212.
(3) انظر: السيرة النبوية الصحيحة، (1/246). ... (2) انظر: التاريخ الإسلامي (4/25).
(5) هذه الجملة من رواية الطبري بنفس إسناد البخاري (فتح الباري 8/249).
(6) صحيح البخاري، كتاب التفسير رقم 4580.
إن من أسباب التمكين المعنوية العمل على تربية الأفراد تربية ربانية، وإعداد القيادة الربانية، ومحاربة أسباب الفُرقة، والأخذ بأصول الوحدة والاتحاد(1).
وأهم أصول الوحدة والاتحاد، وحدة العقيدة، صدق الانتماء إلى الإسلام طلب الحق والتحري في ذلك وتحقيق الأخوة بين أفراد المسلمين.
قال تعالى: ( وَإِن يُّرِيدُوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ صدق الله العظيم وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) [الأنفال: 62-63].
وقال تعالى: ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) [الحجرات: 10].
ولا يذوق حلاوة الإيمان إلا من أشرب هذه الأخوة، قال صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من كُنَّ فيه وجد حلاة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر، كما يكره أن يقذف في النار»(2).
إن الأخوة في الله من أهم الأسباب التي تعمل على الصمود في وجه أعتى المحن التي تنزل بالمسلمين، كما أن الفهم المتبادل والكامل للأخوة في الله، من أسباب تماسك صفوف المسلمين وقوتهم، ومن أسباب شموخهم والتمكين لهم(3).
9- من فضائل الأنصار:
أ- تسمية الله لهم «الأنصار»:
سماهم الله ورسوله بهذا الاسم حين بايعوا على الإسلام، وقاموا بإيواء المؤمنين ونصرة دين الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ولم يكونوا معروفين بذلك من قبل(4) فعن غيلان بن جرير رحمه الله قال: قلت لأنس: أرأيت اسم (الأنصار) كنتم تسمون به، أم سماكم الله؟ قال: سمانا الله(5) عز وجل.
أما مناقبهم وفضائلهم فكثيرة لا تحصى، منها مناقب عامة لجميع الأنصار، ومناقب خاصة بأفراد من الأنصار، أما المناقب العامة الواردة في القرآن الكريم ما يلي:
* فقد وصفهم المولى عز وجل بأنهم من المؤمنين حقا، فقال تعالى: ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آَوَوا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ) [الأنفال: 74].
* وبشرهم ربهم برضاه عنهم، وامتدح رضاءهم عنه، فقال تعالى: ( وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) [التوبة: 100].
* ووصفهم المولى عز وجل بالفلاح قال تعالى: ( وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) [الحشر: 9].
وأما الأحاديث التي تحدثت عن مآثر الأنصار فمنها:
- حب النبي - صلى الله عليه وسلم - للأنصار:
عن أنس - رضي الله عنه - قال: رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - النساء والصبيان مقبلين- قال: حسبت أنه قال: من عرس- فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - مُمْثِلا ً(6) فقال: «اللهم أنتم من أحب الناس إلي» قالها ثلاث(7)مِرار.
ب- حب الأنصار علامة الإيمان وبغضهم علامة النفاق:
عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله»(8).
جـ- الشهادة لهم بالعفاف والصبر:
العفة والصبر شيمتان كريمتان تدلان على أصالة معدن المتخلق بهما، وتمام مروءته، وكمال رجولته وفتوته، وقد شهد النبي - صلى الله عليه وسلم - للأنصار بهما، وما أعظمها شهادة وما أعظمه من شاهد(9) فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما يضر امرأة نزلت بين بيتين من الأنصار أو نزلت بين أبويها»(10).
__________
(1) انظر: فقه التمكين في القرآن الكريم للصلابي، ص253.
(2) انظر: البخاري، كتاب الإيمان، باب حلاوة الإيمان (1/11).
(3) انظر: نظرات في رسالة التعاليم، محمد عبد الله الخطيب، محمد عبد الحليم حامد 262، بتصرف.
(4) انظر: الهجرة النبوية المباركة، عبد الرحمن البر، ص131: 135.
(5) البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب مناقب الأنصار، رقم 3776.
(6) مُمْثِلاً: يعني انتصب قائمًا. ... (3) البخاري، كتاب مناقب الأنصار، رقم 3785.
(8) البخاري، كتاب مناقب الأنصار، رقم 3783.
(9) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص142.
(10) رواه أحمد (6/257) مجمع الزوائد (10/40) الحاكم (4/83).
د- رغبة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الانتساب إليهم لولا الهجرة:
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لو أن الأنصار سلكوا واديًا أو شِعْباً لسلكت في وادي الأنصار، ولولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار»(1).
هـ - دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمغفرة لهم ولأبنائهم وأزواجهم ولذراريهم:
لا شك أن دعاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - مستجاب، فقد فاز الأنصار بهذا الفضل فعن زيد بن أرقم - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اللهم اغفر للأنصار، ولأبناء الأنصار، ولأبناء أبناء الأنصار، ولنساء الأنصار»(2).
و- وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإحسان إليهم وعدم إفزاعهم:
كان جهاد الأنصار في سبيل الدين عظيماً، وكان فضلهم في نشره والدفاع عنه بليغاً، إذ لم يمنعهم من الخفة إلى الخروج في سبيل الله عسر ولا يسر، وحفظ الله لهم ذلك في قوله تعالى: ( لَقَد تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ) [التوبة: 117].
ومن ثم كانت وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأنصار والإحسان إلى محسنهم، والتجاوز عن مسيئهم، وكان ترهيبه - صلى الله عليه وسلم - من ترويعهم وتفزيعهم، وكانت توصيته بالأنصار خيراً(3) فعن أنس - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الأنصار كرشي وعيبتي(4) وإن الناس سيكثرون ويقلون(5)، فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزا عن مسيئهم»(6).
وعنه أيضاً قال: خرج نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فتلقته الأنصار بينهم، فقال: «والذي نفس محمد بيده إني لأحبكم، وإن الأنصار قد قضوا ما عليهم، وبقي الذي عليكم(7)، فأحسنوا إلى محسنهم، وتجاوزا عن مسيئهم» (8) وعن أبي قتادة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول على المنبر للأنصار: «... فمن ولي الأنصار فليحسن إلى محسنهم، وليتجاوز عن مسيئهم، ومن أفزعهم فقد أفزع هذا الذي بين هاتين» وأشار إلى نفسه(9).
((من السيرة النبوية للصلابي الجزء الأول )
__________
(1) البخاري، مناقب الأنصار (6/112) رقم 3779.
(2) البخاري، كتاب التفسير، سورة المنافقين، رقم 4906.
(3) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص150.
(4) الكرش، كالكتف، والعيبة - بفتح المهملة وسكون المثناة بعدها موحدة معناها ما يحرز الرجل فيها ويحفظ نفيس ما عنده من المتاع، والعيبة من الرجل: موضع سره وأمانته، انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص150.
(5) قال ابن حجر: (أي أن الأنصار يقلون، وفيه إشارة إلى دخول قبائل العرب والعجم في الإسلام، وهم أضعاف أضعاف قبيلة الأنصار، فمهما فرض من الأنصار من الكثرة كالتناسل فرض في كل طائفة من أولئك، فهم أبداً بالنسبة إلى غيرهم قليل. ويحتمل أن يكون - صلى الله عليه وسلم - اطلع على أنهم يقلون مطلقاً فأخبر بذلك، فكان كم أخبر، لأن الموجودين الآن من ذرية علي بن أبي طالب ممن يتحقق نسبه إليه أضعاف من يوجد من قبليتي الأوس والخزرج ممن يتحقق نسبه وقس على ذلك ولا التفات إلى كثرة من يدعي أنه منهم بغير برهان) (فتح الباري7/122)
(6) البخاري، كتاب مناقب الأنصار، رقم 3801.
(7) قضوا الذي عليهم، يشير إلى ما وقع لهم ليلة العقبة من المبايعة فإنهم بايعوا على أن يؤوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وينصروه على ان لهم الجنة، فوفوا بذلك (فتح الباري 7/122).
(8) مسند الإمام أحمد (3/187).
(9) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص151.
الهجرة النبوية ملحمة حضارية اسلامية
كانت الهجرة النبوية ولاتزال ملحمة حضارية اسلامية لن ينضب معينها. ولن يمنع خبرها الي يوم الدين. وستظل مصدر عطاء كبير لمن يريدون أن يضعوا أساس البناء السليم لمجتمع إنساني راشد يقوم علي دعائم الايمان. ويستوعب كافة الفئات وجميع الجنسيات تحت مظلة واحدة. هي مظلة الدين الخالد الذي رفع الظلم عن المظلومين وأرسي دعائم الحقوق والواجبات. وحفظ المقومات والحرمات.(1/72)
وأول درس يجب أن يعيه المسلمون من حادث الهجرة النبوية المباركة. أنها تعد تجسيدا صادقا للانتصار على حظوظ النفس داخل ذوات النماذج الانسانية الكاملة التي رسمت أحداثها وأنجزت خطواتها وحققت أمجادها. وتعتبر علامة علي صدق ايمان اولئك الصفوة من خلق الله. حيث بلغت قوة الايمان لديهم مبلغا جعلهم يدفعون ثمن هذا الايمان غاليا من حياتهم وأموالهم وديارهم وبلادهم وموطن صباهم. ولولا صدق الايمان فيهم لركنوا الي الدعة وحب الدنيا. ولآثروا البقاء بجانب ركامها الذي جمعوه في حياتهم من مال وديار وبناء. بل ولفضلوا البقاء بجانب أهليهم وذويهم الذين يرتبطون معهم برباط العاطفة ووشيجة النسب. وهي العاطفة التي تجعل المهاجر يعود. لا أن تجعل المقيم يهاجر. لكن صدق الايمان لديهم جعلهم يسترخصون كل ذلك ويهملونه في سبيل هدف أسمي وأجل وأعظم وهو الانتصار لدين الله وبذل كل غال ومرتخص في سبيل عزته وانتشاره. وصدق الله العظيم حين وصف موقفهم الجليل من ذلك الدين العظيم بقوله تعالي : "الذين اخرجوا من ديارهم وأموالهم بغير حق الا ان يقولوا ربنا الله" فشهد لهم بذلك القول الخالد الي يوم الدين.
إنهم قد باعوا الاهل والديار والأموال في سبيل الله. وهي درجة من الايمان اثبتت التجربة أنها قد محصت واختبرت فبلغت غاية الجودة والنقاء والقوة. ولولا قوة ايمان المهاجرين وإيثارهم لما عند الله علي متاع الدنيا القليل الفاني. لقعدوا. ولما هاجروا. ولنا أن نتصور مآل مستقبل البشرية في حالة ما إذا كانت الهجرة لم تحدث. إنه سيكون مستقبلا مظلما خاليا من الحق والعدل والسلام والمحبة. حيث كان الإسلام سينتهي. وسيتمكن أعداء المسلمين منهم وهم قلة مستضعفة ولقضي علي الدعوة في مهدها. وكل عام وانتم بخير
الهجرة النبوية وتأسيس المدينة الإسلامية
تمهيد: شكلت الهجرة النبوية من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة منعطفاً حاسماً في مسار التاريخ الإسلامي، وذلك نظرا لما أسست له من تحولات عميقة وجذرية سواء على المستوى السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي•• فقد بات من المتفق عليه بين المؤرخين أن حدث الهجرة كان إعلاناً لبزوغ مرحلة الدولة الإسلامية، بعد مرحلة الدعوة في مكة المكرمة، وقد وضع الرسول [ خلال هذه المرحلة الجديدة المعالم الأساسية للمجتمع الإسلامي في كل أبعادها، الفردية والجماعية، العامة والخاصة•• بل إن تقسيم آيات القرآن الكريم إلى مكية ومدنية حسب مراحل نزولها، دليل على أهمية وخصوصية كل مرحلة، وبالتالي فإن الهجرة كحدث فاصل بين هاتين المرحلتين جدير بالاهتمام والدراسة، وهو حدث ذو أبعاد كثيرة يهمنا هاهنا أن نتطرق لواحد منها هو الجانب العمراني• فكيف أسس الرسول [، بعد الهجرة مدينة بأكملها، أو بالأحرى كيف أعاد >تهيئة< مدينة صغيرة ليجعل منها في ظرف وجيز نسبيا حاضرة مهمة نافست ولا تزال أهم حواضر عصرها؟ ما هي الأسس المادية والتنظيمية التي اعتمدها الرسول الأكرم [ في بناء النواة الأولى للمجتمع الإسلامي؟ وما هي خصائص المجتمع العمراني وكيف ساهمت العقدية الجديدة في بلورتها؟
لماذا الهجرة إلى يثرب؟
إن اختيار الرسول [ لـ >يثرب< بتأييد وتوفيق من الله تعالى روعيت فيه اعتبارات دقيقة، كيف لا والهجرة لم تكن فقط >موقفا تعبديا ينتظر منه الحماية للمسلمين فحسب، بل كان حكما ربانيا بإنشاء دولة الإسلام<(1) فالرسول [ وهو يتطلع إلى مستقبل الإسلام والمسلمين خلال المراحل المقبلة، لم يقع اختياره على يثرب بالصدفة، هو الذي كانت له تجارب مع مواقف أخرى داخل وخارج الجزيرة العربية: بني حنيفة، الطائف، الحبشة•• بل لاشك أنه وفق لهذا الاختيار بتأييد من ربه لاعتبارات يمكن أن نجمل أهمها فيما يلي(2):
أولاً: الموقع الجغرافي للمدينة: إن الموقع الجغرافي لأية مدينة يعتبر من أهم العوامل التي تحدد مدى تطورها وازدهارها، بل إن نشأة وتطور كثير من المدن والحواضر يرجع في المقام الأول إلى الخصائص الجغرافية التي تميز موقعها، و>يثرب< تمتاز بموقعها الجغرافي على طريق تجارة الشام عصب الاقتصاد القرشي ومتاخمتها لمنطقة حضارية عريقة في الشمال حيث التيارات المسيحية والثقافات الإغراقية تتجاذبها وتدفع بتأثيرها إلى الحجاز(3)•
ثانياً: توافر بنية اقتصادية معتبرة من خلال تنوعها ومستوى تطورها، فهناك الزراعة التي تعتبر يثرب إحدى أهم واحاتها في الجزيرة العربية إلى جانب الطائف وعسير وحضرموت••• فهذه المناطق كانت تمتاز بخصوبة أراضيها ووفرة مياهها وكثرة وتنوع أغراسها (4) وقد كان التطورالزراعي في >يثرب< حصيلة الخبرة الزراعية التي أتى بها اليهود من بلاد الشام من جهة والعرب التي هاجرت من بلاد اليمن من جهة ثانية (5) أما فيما يخص النشاط الصناعي والحرفي فقد قامت في >يثرب< مجموعة من الصناعات خاصة تلك تعتمد على الإنتاج الزراعي المحلي• كما عرفت بعض الصناعات التعدينية كصناعة الأسلحة والآلات المستخدمة في الري والزراعة(6)•
وأخيرا فإن النشاط التجاري كان له حضوره أيضا بحكم موقع يثرب كنقطة على طريق الشام فضلا على أن فائض الإنتاج الزراعي والصناعي يقتضي تطوير أساليب التجارة لصرفه نحو الخارج•
ثالثا: من الناحية السياسية والاجتماعية، كانت >يثرب< تعيش في ظل تنوع ديموغرافي يطبعه اختلال في موازين القوى لصالح اليهود على حساب العرب، كل ذلك في ظل غياب سلطة سياسية مركزية موحدة (7)•
هذه باختزال شديد هي الوضعية التي كانت تميز يثرب عشية الهجرة إليها• فما هي الإجراءات التي اتخذها الرسول [ لتأمين نواة الدولة الإسلامية الأولى الممثلة في المدينة المنورة؟ أو بتعبير آخر• ما هي عناصر المدينة الإسلامية كما وضعها الرسول [•
يمكن تصنيف هذه العناصر إلى نوعين، عناصر مادية وعناصر تنظيمية•
العناصر المادية:
وتتمثل في مجموعة من الإنجازات ذات الطابع العمراني التي قام بها الرسول [ داخل المدينة، التي نجم عنها تغير جذري في هيكلتها العمرانية، وذلك بالموازاة مع التغيرات العميقة على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والتنظيمي، في هذا الإطار يمكن أن نذكر المنشآت التالية:
أولاً: بناء المسجد: كان بناء المسجد هو أول عمل باشره الرسول [ بعد دخوله >يثرب< وقد اختار له الموضع الذي بركت فيه ناقته وكان مربدا (8) لغلامين يتيمين من الأنصار في كفالة سعد بن زراة• سام الرسول [ في هذه الأرض فعرض عليه الغلامان أن يهباه له• لكنه عليه الصلاة والسلام أبى حتى ابتاعه منهما بعشرة دنانير وكان في المكان شجر غرقد ونخل وقبور قديمة فأمر الرسول [ بالشجر فقطع وبالقبور فنبشت• وتم بناء المسجد وجعل طوله مما يلي القبلة الى مؤخره مائة ذراع، وفي الجانب مثل ذلك أو دونه، ثم بني باللبن وجعل عمده الجذوع• وسقفه بالجريد (9)• وجعلت قبلته في اتجاه الشمال، نحو بيت المقدس، قبل أن يأتي الأمر الإلهي بتغيير القبلة نحو مكة المكرمة سنة 2هـ >فلنولينك قبلة ترضاها، فول وجهك شطر المسجد الحرام<(البقرة، 143) إن الأهمية الروحية للمسجد ومركزية دوره في الحياة العامة للمسلمين باعتباره مجالا وفضاء ليس فقط للعبادة ولكن ليتلقى فيه المسلمون تعاليم الإسلام وتوجهاته، ومنتدى تلتقي فيه وتتآلف العناصر القبلية المختلفة التي طالما نافرت بينها النزاعات الجاهلية وحروبها، وقاعدة لإدارة جميع الشؤون، وبرلمانا لعقد المجالس الاستشارية التنفيذية ومع ذلك كله (مأوى) لعدد كبير من المهاجرين اللاجئين الذين لم يكن لهم دار ولا مال ولا أهل (10) هذه الأهمية التي للمسجد يترجمها الجانب العمراني• إذ لا يخفى أن المسجد الجامع الذي أسسه الرسول [ كان يحتل مركز المدينة ويشكل نواتها فمنه وإليه تمتد الشوارع والطرق الرئيسية في اتجاه ضواحي وأطراف المدينة، فقد أشارت الروايات التاريخية إلى طريق يمتد من المسجد ويتجه غربا حتى يصل إلى جبل سلع وطريق من المسجد يخترق منازل بني عدي بن النجار ويصل إلى قباء جنوبا ومن قبا وجد طريق يتجه شمالا إلى البقيع (11)، >وعن هذه الشوارع تتفرع طرقات ثانوية لتسهيل التواصل بين مختلف أطراف المدينة وللإشارة فإن التوسع العمراني والامتداد المجالي للمدينة أديا إلى إقامة مساجد على مستوى الأحياء، وهي مساجد للصلوات الخمس فقط، فيما صلاة الجمعة كانت تقام في مسجد الرسول [ باعتباره المسجد الجامع، وقد كان الرسول [ هو من يشرف على إنشاء هذه المساجد كما يتبين ذلك من حديث جابر بن أسامة حيث قال: لقيت رسول الله [ بالسوق في أصحابه فسألتهم أين يريد، فقالوا: اتخذ لقومك مسجدا، فرجعت فإذا قومي فقالوا خط لنا مسجدا وغرز في القبلة خشبة<(12)•
ثانيا: تخطيط الأحياء السكنية: حول المسجد الجامع أعطى الرسول [ انطلاقة إنشاء مجموعة من الأحياء، وذلك من خلال عملية تقسيم الأراضي الشاغرة التي وهبها له الأنصار ووضعوها تحت تصرفه عليه الصلاة والسلام لتوزيعها على المهاجرين قصد استوطانها•
فقد ذكر ابن سلام أن الرسول [ حين هاجر إلى المدينة جعل له أهلها >كل أرض لا يبلغها الماء يصنع بها ما يشاء<(13) وقد قام الرسول [ بتوزيع هذه الأراضي وفق نظام الخطط، حيث أقطع لكل قبيلة خطة خاصة بها تاركا لها حرية التصرف في تقسيمها بين أفرادها وفقا لظروفها وإمكاناتها وحاجاتها•
وهكذا خط مثلا لبني زهرة من ناحية مؤخرة المسجد، ولعبدالرحمن بن عوف الحصن المعروف باسمه، وأقطع الزبير بن العوام بقيعا واسعا (14)، وقد أدت عمليات الاختطاط هذه التي تعني في المدن الإسلامية الأولى حيازة موقع ما في منطقة معلومة بإذن من السلطات قصد إعماره (15)، أدت هذه العمليات إلى تجميع النسيج العمراني للمدينة بعد تعمير المجالات الفارغة التي كانت تفصل بين مختلف أحيائها•
من خلال طريقة توزيع الأراضي أو ما يمكن أن نسميه >بالسياسية العقارية< التي انتهجها الرسول [، يتبين على أنه عليه الصلاة والسلام أراد التوفيق بين اعتبارين أساسيين، متناقضين في الظاهر، لكن في واقع الأمر هما متكاملان تماما، ويؤديان وظيفة واحدة ضرورية وحيوية جدا لأية مدينة، ويتعلق الأمر بمسألة الاندماج الاجتماعي (Lintégration sociale) والاعتبارين اللذين سعا من خلالهما الرسول [، لتحقيق هذه الغاية، على الطريقة الإسلامية طبعا،، هما: من جهة تذويب الفوارق القبلية، والهويات القائمة على اعتبارات الدم والنسب والعشيرة، لصالح هوية جديدة تعلو فوق كل الهويات، هي هوية العقيدة بالنسبة للمسلمين فيما بينهم، وهوية المواطنة بالنسبة لسكان المدينة في عمومهم مسلمين، يهود كفار••• ومن جهة ثانية احترم الرسول [ الحساسيات القبلية والروابط العائلية التي كانت مستحكمة في البنية الاجتماعية العربية، وذلك في الحدود التي لا تتناقض فيه مع الهوية الجديدة للأمة، وهكذا تحققت وحدة المدينة على المستوى المجالي واندماجها على المستوى الاجتماعي بعد أن كانت وحدات متفرقة وأحياناً متناحرة دون كيان ولا هوية•
ثالثاً: إنشاء المرافق الاجتماعية والاقتصادية:
تتمثل أهم هذه المرافق فيما يلي:
1- السوق: في إطار اهتمامه [ بالجانب الاقتصادي والمعاشي للمسلمين، أنشأ لهم سوقاً خاصة بهم تحكمها شروط وأخلاقيات جديدة (الصدق ، تحريم الربا والاحتكار والغش في المكاييل) خلافا للأسواق التي كان يسيطر عليها اليهود ويفرضون فيها شروطهم (الخراج على المتاجرة، التعامل بالربا، الاحتكار) وقد اختار الرسول [ مكانا قريبا من سوق بني قينقاع أقام فيه قبة كبيرة رمزا وعلامة يتجمع فيها المسلمون للاتجار فيها•
وقد اغتاظ اليهود من هذا التوجه الذي يروم الاستقلال الاقتصادي فقاموا بزعامة كبيرهم كعب ابن الأشرف بهدم القبة التي بناها الرسول الأكرم وقطعوا أطنابها•
بيد أن الرسول [ لم يلتفت الى هذا السلوك الاستفزازي، وهذه المحاولة اليائسه من قبل عناصر اليهود المتعصبة، بل رد عليها عمليا فقال متحدثا عن كعب بن الأشرف وفعلته• >والله لا ضربن له سوقا هو أغيظ من هذا< >16< واختار مكانا فسيحا بأطراف المدينة بعيدا عن المحال السكنية (17) وذلك باقتراح من أحد الصحابة الذي قال للنبي [ إني نظرت موضعا للسوق، أفلا تنظرون إليه؟ قال: >بلى< فقام معه [ فلما رأه أعجبه وركض برجله عليه السلام وقال: >نعم سوقكم هذا ، فلا ينقصن ولا يضربن عليكم بخراج< (18) وقد ظلت هذه السوق طيلة عهد الرسول [ وعهد الخلفاء الراشدين عبارة عن فضاء حر من دون بناء، يخضع في تدبيره لنظام >سنة المساجد< كما كان يقول الخليفة عمر]: >الأسواق على سنة المساجد، من سبق إلى مقعده فهو له حتى يقوم إلى بيته أو يفرغ من بيعه< >19< ولم يبدأ البناء في الأسواق إلا على عهد معاوية بن أبي سفيان الذي سن تأجير أماكن السوق•
2- الشوارع والطرقات: أولى الرسول [ اهتماما كبيرا للطرقات باعتبارها مجالا لحركة الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية كما سبقت الإشارة، عمد الرسول [ إلى ربط كل أحياء المدينة بالمسجد الجامع من خلال شوارع رئيسة تفرعت عنها طرق فرعية تمتد إلى مختلف التجمعات السكنية لتسهيل حركة المرور داخل المدن، وقد كان عرض الطرق الرئيسة يقدر بين أربعة وخمسة أمتار (20) بينما عرض الطرق الفرعية كان يقدر بين مترين وثلاث أمتار (21)•
واعتبر الرسول [ الطريق واجبا وحقا لكل مواطن فمن حيث هي واجب، فلضرورة المساهمة فيها عند الاقتضاء باعتبارها نوعا من الارتقاء كما يستخلص ذلك من حديث في الصحيحين رواه أبو هريرة أن الرسول [ قال : >إذا اختلفتم في الطريق فاجعلوه سبعة أذرع< (22) وأما من حيث هو حق فلأن استعماله مشاع بين الجميع ، وقد جعل الرسول [ للطرق آداباً عامة، فقد أخرج أبو داود عن سهيل بن معاذ بن أنس الجهنمي عن أبيه قال: >غزوت مع الرسول [ غزوة كذا وكذا، فضيق الناس المنازل وقطعوا الطريق، فبعث نبي الله [ مناديا ينادي في الناس ، من ضيق منزلا أو قطع طريقا فلا جهاد له< (23)، كما دعا الرسول [ إلى إماطة الأذى عن الطريق، وبارك كل مساهمة في إصلاحها والاعتناء بها، جاء في سنن أبي داود عن ابن عمر أنه قال: >مطرنا ذات ليلة ، فأصبحت الأرض مبتلة فجعل الرجل يأتي بالحصى في ثوبه فيبسط تحته فلما قضى رسول الله [ صلاته قال: ما أحسن هذا >كما أخرج مسلم من حديث أبي برزة قال: >قلت يا نبي الله علمني شيئا أنفع به، فقال ، اعزل الأذى عن طريق المسلمين<•
3- المرافق العامة: استكمالا للعناصر الأساسية بالمدينة، أنشاء الرسول [ مجموعة من المرافق ذات وظائف حيوية، منها ما يستجيب للحاجات الأمنية والدفاعية مثل إقامة معسكرات بضواحي المدينة لتدريب الجدد كمعسكر الجرف أو معسكر أسامة، ومنها ما يتسجيب للحاجات الاجتماعية كمقدار العلاج والتطبيب، حيث أقام الرسول [ بعد رجوعه من غزوة الخندق خيمة بالمسجد لأجل التداوي، وقد كانت هذه المبادرة نواة ما سيعرف بالبيمارستاتات، كما أقيمت دور الضيافة لاستقبال الوفود كان أهمها دار عبدالرحمن بن عوف•
واتخذت مواضع لقضاء الحاجات تسمى >المناصع< واختيرت مواضع للذبح بعيدا عن السكان، وعين مكاناً لصلاة العيد >المصلى<(24<•
هذه هي أهم المنجزات العمرانية التي تحققت في المدينة المنورة بعد مقدم الرسول الأكرم [ إليها، بيد أن المدينة، أي مدينة ، لاتستكمل شروطها وعناصرها من خلال جوانبها المادية فقط، التي رغم أهميتها، تبقى مجرد هياكل جامدة ما لم تلتحم بها الجوانب الإنسانية في أبعادها الثقافية والنفسية، وهذه الأبعاد هي التي اهتم بها رسول الله [ في تنظيمه للحياة العامة في المدينة وذلك من خلال العناصر التنظيمية•
العناصر التنظيمية
بالموازاة مع الإنشاء المادي لعناصر المدينة، اشتغل الرسول [ بالجانب التنظيمي باعتباره الإسمنت الذي يربط بين تلك العناصر، بل الأساس الذي عليه ترتكز وبه تشتغل• ويتمثل هذا الجانب التنظيمي في الإجراءات التي اتخذها عليه السلام عند قدومه إلى المدينة في إطار النهوض بها لتصبح النواة الصلبة للدولة الإسلامية وقاعدة انطلاقها• ومن بين أهم هذه الإجراءات•
أولاً: تغيير اسم المدينة: لعل من اللافت للانتباه أن من بين ما قام به الرسول [ في المدينة تغيير اسمها من >يثرب< إلى >المدينة المنورة< فقد جاء في كتب السيرة أن النبي [ أمر بإهمال اسم >يثرب< وحث على استعمال اسم >المدينة المنورة< بدلا منه، كما نسبوا إليه في هذا الصدد قوله: >يقولون يثرب وهي المدينة< وكان عليه الصلاة والسلام لا يذكر كلمة >يثرب< أبدا، ويذكر أيضاً أن محمد بن الحسن بن ذبالة المعروف بالمديني نسبة إلى المدينة المنورة، روى أن النبي [ قد نهى عن استعمال اسم >يثرب<، وتذهب بعض المصادر إلى أن مجرد استعمال كلمة >يثرب< يعد خطيئة حيث روى الإمام أحمد حديثا جاء فيه: >من سمى المدينة >يثرب< فليستغفر الله ثلاثا<(25)•
لايتعلق الأمر هنا بمجرد إجراء شكلي أو مزاجي حاشاه [ بل إنها خطوة أساسية في الاستراتيجية التغييرية للرسول [ تترجم عمق التحول الذي ينشده•
فاسم المدينة هو عنوانها الذي يختزل خصائصها التاريخية والثقافية والاجتماعية والنفسية وبالتالي فإن تغيير هذا العنوان هو محاولة لتغيير هويتها كما تتمثلها الذاكرة الجماعية لساكنيها• من هنا فإن إعطاء اسم جديد للمدينة هو إيذان بميلاد مرحلة جديدة بخصوصيات جديدة، ومنذ البداية عمل الرسول [ على أن يتكرس هذا التوجه الجديد في الأذهان على اعتبار أن أي وحدة مجالية (الحي، المدينة أو القبيلة، الوطن••) لكي يكون لها كيان ووجود حقيقي لابد من أن يشعر مواطنوها بقوة الانتماء إليها، وبالاندماج الكامل فيها، بغير هذا الشعور بالانتماء وبغير هذا الاندماج، لن يتأتى للمواطن أن يكون فاعلاً ومعطاء داخل مجاله، وأزمة المدن المعاصرة اليوم تتمثل في أن فئات عريضة من ساكنيها تعيش وضعية التهميش وبالتالي تجد نفسها في حالة غربة قاتلة، إذ لا تكاد تجمعها بمحيطها أية رابطة حميمية غير رابطة العلاقات المادية الجافة•
وتكرسا لهذا الاتجاه الذي يصب نحو مزيد من الالتحام والتآلف بين الإنسان والمجال، وبين الإنسان والإنسان، كانت عملية المواخاة بين المسلمين عامة، والمهاجرين والأنصار خاصة وكانت عملية الموادعة بين المسلمين وغيرهم من مكونات المجتمع الإسلامي الأخرى خاصة اليهود•
ثانياً: المواخاة: فضلا على أن هذا الحدث سجل لأروع النماذج على مدار التاريخ الإنساني في التضحية من أجل المبادئ والمعتقدات (من طرف المهاجرين)، وفي الإيثار ونكران الذات (من جانت الأنصار)، فإنه يشهد على عبقرية الرسول [ في مواجهة الحالات الصعبة والمواقف الحرجة، فقد كان من شأن الهجرة من مكة إلى المدينة المنورة أن تنجم عنها اختلالات كبيرة على المستويات الاجتماعية والاقتصادية بسبب التدفق المفاجئ للمهاجرين على المدينة، على نحو أدى الى ارتفاع محسوس لساكنتها في وقت وجيزلا يسمح بالاندماج التام للعناصر الجديدة في نسيجها العمراني والاجتماعي، امام هذا الوضع كيف تصرف الرسول [ ليتفادى أزمة حقيقية كانت توشك أن تقع في المدينة على مستوى السكن، وعلى مستوى التشغيل، وعلى مستوى الاندماج النفسي والاجتماعي للوافدين الجدد في محيطهم الجديد••• كان لجوء الرسول [ بتتأييد وتوفيق من ربه إلى عملية الموآخاة هو الحل المناسب لتلك اللحظة التاريخية الدقيقة في حياة المسلمين، وقد استهدفت تلك العملية•
اولاً: تقسيم العبئ الاجتماعي وتفتيته ليتخذ شكل حالات فردية عوض أن يكون ظاهره مجتمعية عامة، وهذا ما مكن من تجاوزه والتغلب عليه في ظرف وجيز بدل أن يصبح ظاهرة تستفحل مع الزمن• فالأنصار تحملوا إخوانهم بكل طواعية، بل تنافسوا على استضافتهم حتى اقترعوا فيما بينهم من أجل ذلك والمهاجرون من جهتهم لم يستغلوا هذا الكرم ولم يعيشوا عالة على إخوانهم، بل إنهم قبلوا هذه الوضعية فقط كمرحلة استثنائية وانتقالية، إذ سرعان ما استطاعوا الاستقلال بأنفسهم بعد أن وظفوا مهاراتهم في المجال التجاري وأصبحوا عناصر فاعلة في أسواق المدينة، وبذلك شكلوا قيمة مضافة في اقتصادها على اعتبار أن الأنصاركانوا أهل زرع وضرع والمهاجرين أهل شراء وبيع، وبذلك كمل بعضهم بعضا، حيث ملأ المهاجرون فراغا كان يستغله اليهود في أسواق المدينة كتجار ومرابين•
ثانياً: فضلا عن هذا الهدف الاجتماعي ذو البعد المادي كان لعملية الموآخاة هدف معنوي تربوي يتمثل في تجسيد معاني التكافل والتضامن بين المسلمين وفي بداية تنزيل التورات الجديدة التي جاء بها الإسلام عن العلاقات الإنسانية وعن المال••
ثالثاً: الموادعة: كان هاجس بناء ورص >الجبهة الداخلية< لدولة المدينة حاضرا بقوة في الاستراتيجية التنموية التي قادها الرسول [ منذ وصوله إلى المدينة، لذلك عمل على إقرار دستور متكامل في حينه ينظم العلاقات ويحدد حقوق وواجبات كل الحساسيات التي كانت تكون المجمع المدني، فبالإضافة إلى المسلمين الذين يتشكلون من الأنصار (الأوس والخزرج) والمهاجرين، كان هناك المشركون (الأوس والخزرج) واليهود، والأعراب الذين كانوا يعيشون على تخوم المدينة، وإذا كان الرسول [ قد اطمأن إلى الجبهة الإسلامية من خلال عملية الموآخاة، فإنه لأجل احتواء أو ضبط العناصر الأخرى خاصة اليهود، ويأمن جانبهم، عمل على موادعتهم >لتكون المدينة كلها، مسلمها وكافرها يدا في يد أمام الأعداء من الخارج< (26)، ومجمل مانصت عليه هذه المعاهدة/ الموادعة (27):
> للجماعة الإسلامية شخصية دينية سياسية مستقلة بها•
> الحرية الدينية مكفولة للجميع مالم يحصل من طرف ظلم أو إثم•
> يتعاون سكان المدينة من مسلمين وغيرهم ماديا وعسكرياً وأدبيا، في الدفاع عن أي عدوان خارجي•
> رسول الله [ هو الرئيس الأعلى لسكان المدينة وإليه يرجعون في كل ما يختلفون فيه•
> الأمة تضم الجماعة التي تعتقد عقيدة واحدة بصرف النظر عن اعتبارات القرابة أو الأرض أو النسب أو اللغة••• فالمسلمون يؤلفون أمة واحدة واليهود يؤلفون أمة واحدة••• وتألف هذه الأمة كلها المجتمع الإسلامي الذي يخضع لنظام الإسلام•
الخلاصة:(1/73)
من خلال ماسبق يتبين أن أسس المدينة النبوية قامت على أبعاد متعددة، وراعت كل الاعتبارات المتصلة بحياة الإنسان العامة والخاصة الكفيلة بتوفير الظروف المناسبة له ليمارس رسالته وينهض بالمسؤولية المنوطة به من قبل الله تعالى في عمارة الأرض ونمائها، والانطلاق في أرجائها لإشاعة قيم ومعاني الخير والحق والعدل والسلام، وليساهم في تشييد صرح الحضارة الإنسانية•
وإذا كانت مجموعة من المدن والحواضر على امتداد العالم ترزح، في ظل العولمة المعاصرة تحت وطأة أزمات حادة تجد تجلياتها في تفاقم الفوارق الاجتماعية وفي استفحال معضلة البطالة والتهميش وفي أزمة تلوث البيئة وفي تدهور الجانب الأمني••• فإن وضعيتها هذه ليست إلا ترجمة لفقدان المدينة لمجموعمة من وظائفها (الاجتماعية•• التربوية••) مما أدى إلى اختلال التوازن بين عناصرها نجمت عنه هذه الأزمات القاتلة التي تعاني منها اليوم•
الهوامش والمراجع
1- د• أسامة عبدالمجيد عبدالعاني: >رؤية اقتصادية لأول وثيقة سنها الرسول [ في الإسلام< مجلة الإسلام اليوم (إسيسكو) العدد 13-1416هـ 1995/• ص: 20
2- نستثني هنا طبعا الاعتبارات المباشرة والمعروفة والمتمثلة بالخصوص في ترحيب أهل المدينة بالرسول [ وأصحابه بعد بيعتهم له (بيعة العقبة الأولى والثانية)•
3- د• إبراهيم بيضون: الحجاز والدولة الإسلامية: دراسة في إشكالية العلاقة مع السلطة المركزية في القرن الأول الهجري• المؤسسة الجامعية للدراسات والتوزيع 1403هـ 1983/م الطبعة الأولى، ص: 124 •
4- محسن خليل: في الفكر الاقتصادي العربي الإسلامي• دار الرشيد للنشر• (1982) ص38
5- العمري، أكرم ضياء: المجتمع المدني في عهد النوة: خصائصه وتنظيماته الأولى• الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة 1983، أورده د• أسامة عبدالمجيد مرجع سابق ص، 18
6- محسن خليل: مرجع سابق ص: 48
7- د• إبراهيم بيضون: الحجاز والدولة الإسلامية، مرجع سابق ص: 104
8- مكان مخصص لتجفيف التمر
9- د• سعيد رمضان البوطي: فقه السيرة دار الفكر الطبعة الثامنة (1980/1400) ص194
10- منير الغضبان، المنهج الحركي للسيرة النبوية: دار الآمان الطبعة الثالثة (1987) ص: 216 •
11- محمد عبدالستار عثمان: المدينة الإسلامية• سلسلة عالم المعرفة (127) (1988/1408) ص:58 •
12- أسامة بن زيد عن معاذ بن عبداللّه بن خبيب عن جابربن أسامة الجهني عن عبدالحي الكتاني: نظام الحكومة النبوية المسمى التراتيب الإدارية• ص76 •
13- محمد عبدالستار عثمان: المدينة الإسلامية، مرجع سابق ص54
14- محمد عبدالستار عثمان: المدينة الإسلامية مرجع سابق ص 54
15- جميل عبدالقادر أكبر: عمارة الأرض في الإسلام: مقارنة الشريعة بأنشطة العمران الوضعية، مؤسسة الرسالة الطبعة الثالثة (1998/1419) ص182
16- د• أسامة عبدالمجيد عبدالعاني: >رؤية اقتصادية<: مرجع سابق ص: 23
17- محمد عبدالستار عثمان: المدينة الاسلامية• مرجع سابق ص:45
18- روى ابن ماجة نحوه في كتاب التجارات باب الأسواق ودخولها بسند فيه ضعف• أورده خالد مصطفى عرب: تخطيط وعمارة المدن الإسلامية• كتاب الأمة عدد 58 (1418) ص: 54
19- السمهودي: وفاء الوفاء: ج الثاني ص: 718 عن محمد عبدالستار: المدينة الإسلامية• مرجع سابق ص 254 •
20- السمهودي: وفاء الوفاء•• مرجع سابق ص: 59
21- مصطفى صالح لمعى: المدينة المنورة: تطورها العمراني وتراتها المعماري• دار النهضة العربية (1981)ص 33/32 أورده دم - يحى وزيري: العمارة الإسلامية والبيئة• كتاب عالم المعرفة عدد 304 ص 45 (2004/1425) •
22- رواه الجماعة إلا النسائي• وفي لفظ لأحمد: إذا أختلفوا في الطريق رفع بينهم سبعة أذرع•
23- أبو داود، كتاب الجهاد•
24- لمزيد من التفاصيل أنظر محمد عبدالستار عثمان: المدينة الإسلامية• مرجع سابق ص: 60
25- توفيق الشنتوفي: >المدينة في الحضارة العربية الإسلامية< مجلة الحوار عدد 7 السنة الثانية (1987) ص: 105 •
26- محمود شاكر: التاريخ الإسلامي• المكتب الإسلامي• الطبعة السابعة (1411هـ) ج2/1 ص: 161 •
27- محمود شاكر: المرجع السابق: ص164 •
الهجرة النبوية ومنعطف التاريخ
(الشبكة الإسلامية) أ.د/ أكرم ضياء العمري ( خاص للشبكة )
تطلق "الهجرة" على الترك والتخلي عن الشيء , فالمهاجر من هجر ما نهى الله عنه - كما في الحديث الشريف - ، وهي بهذا المعنى مطلقة من قيود الزمان والمكان ، إذ بوسع كل مسلم أن يكون مهاجراً بالالتزام بأوامر الله والهجر للمعاصي .
لكن الهجرة النبوية تتعلق بترك الموطن والانخلاع عن المكان بالتحول عنه الى موطن آخر ابتغاء مرضاة الله رغم شدة تعلق الانسان بموطنه وألفته للبيئة الطبيعية والاجتماعية فيه ، وقد عبّر المهاجرون عن الحنين الى مكة بقوة وخاصة في أيامهم الأولى حيث تشتد لوعتهم .
وتحتاج الهجرة الى القدرة على التكيف مع الوسط الجديد "المدينة المنورة" حيث يختلف مناخها عن مناخ مكة فأصيب بعض المهاجرين بالحمى ، كما يختلف اقتصادها الزراعي عن اقتصاد مكة التجاري ، فضلاً عن ترك المهاجرين لأموالهم ومساكنهم بمكة . لكن الاستجابة للهجرة كانت أمراً إلهياً لابد من طاعته ، واحتمال المشاق من أجل تنفيذه . فقد اختار الله مكان الهجرة ، كما في الحديث الشريف "رأيت في المنام أني أهاجر من مكة الى أرض بها نخل ، فذهب وهلي الى أنها اليمامة أو هجر , فاذا هي المدينة يثرب" .
وما أن بدأ التنفيذ حتى مضت مواكب المهاجرين تترى نحو الموطن الجديد .. دار الهجرة .. وقد شاركت المرأة في حدث الهجرة المبارك منهن أم سلمة هند بنت أبي أمية التي تعرضت لأذى بالغ من المشركين الذين أرادوا منعها من الهجرة ثم استلوا ابنها الرضيع منها حتى خلعوا يده ..
لكنها صممت على الهجرة ونجحت في ذلك رغم الاخطار والمصاعب . وخلدت أسماء بنت أبي بكر ذكرها في التأريخ وحازت لقب ذات النطاقين عندما شقت نطاقها نصفين لتشد طعام المهاجرَين ، رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و أبي بكر رضي الله عنه وقد تتابعت هجرة النساء في الاسلام حتى شرعت في القرآن { إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن} - الممتحنة 10 - ونزلت الآيات الكريمة تأمر بالهجرة وتوضح فضلها منذ السنة التي وقعت فيها لغاية سنة 8هـ عند أوقفت الهجرة بعد فتح مكة واعلان النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك بقوله ( لاهجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونيّة وإذا استنفرتم فانفروا ) .
والأمر بالهجرة الى المدينة لأنها صارت مأرز الايمان وموطن الاسلام ، وشرع فيها الجهاد لمواجهة الاعداء المتربصين بها من قريش واليهود والأعراب ، فكان لابد من إمدادها بالطاقة البشرية الكافية مما يفسر سبب نزول القرآن بهذه الآيات الواعدة للمهاجرين : { إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله} - البقرة 218 - {والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة} - النحل 41 - {ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة} - النساء 100 - .
وقد حاز المهاجرون شرفاً عظيماً في الدنيا فضلاً عن ثواب الله ووعده الكريم ، فقد اعتبروا اهل السبق في تأسيس دولة الاسلام فنالوا رضى الله والقربى منه {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم باحسان رضي الله عنهم } - التوبة 100 - . وهكذا خلد الله ذكرهم في القرآن الذي يتعبد المسلمون بتلاوته الى آخر الزمان .
الهجرة من سنن الأنبياء عليهم السلام
لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - أول نبي يهاجر في سبيل الله بل مرّ بهذا الامتحان كثير من الانبياء .. وقد أخبرنا الله تعالى بأن ابراهيم عليه السلام هاجر من موطنه الى مصر وغيرها داعياً الى التوحيد ، وأن يعقوب و يوسف عليهما السلام هاجرا من فلسطين الى مصر وأن لوطاً هجر قريته لفسادها وعدم استجابتها لدعوته . وأن موسى عليه السلام هاجر بقومه من مصر الى سيناء فراراً بدينه من طغيان فرعون .
وهكذا فان الهجرة من سنن النبيين ، وقد كانت هجرة نبينا عليه الصلاة والسلام خاتمة لهجرات النبيين . وكانت نتائجها عميقة شكلت منعطفاً تاريخياً حاسماً .
المنعطف الحاسم
لقد أدت الهجرة الى قيام دولة الاسلام في المدينة ، والتي أرست ركائز المجتمع الاسلامي على أساس من الوحدة والمحبة والتكافل والتآخي والحرية والمساواة وضمان الحقوق ، وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو رئيس هذه الدولة وقائد جيوشها وكبير قضاتها ومعلمها الأول . وقد طبق الرسول - صلى الله عليه وسلم - شريعة الاسلام ، وكان القرآن ينزل بها منجماً ، فكان الصحابة يدرسون ما ينزل ويطبقونه على أنفسهم ، ويتعلمون تفسيره وبيانه من النبي - صلى الله عليه وسلم - فتكون جيل رباني تمكن من الجمع بين عبادة الله وعمران الحياة وعمل تحت شعار : اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا .
وفي خلال عقد واحد توحد معظم الجزيرة العربية في ظل الإسلام ، ثم انتشر في خلال عقود قليلة تالية ليعم منطقة واسعة امتدت من السند شرقاً الى المحيط الأطلسي غرباً حيث آمن الناس بالاسلام ، واستظلوا بشريعته العادلة واقاموا حضارة زاهرة آتت أكلها قروناً طويلة في حقول التشريع والتربية وعلوم الكون والطبيعة.
الهجرة النبوية.. عطاء بلا حدود وعزيمة لا تعرف اليأس
تمهيد
ونحن نستقبل عاماً هجرياً جديداً تطالعنا الآمال في نهوض الأمة الإسلامية من كبوتها وعثراتها لتقوي علي التصدي للتحديات والأزمات التي تواجهها وما أكثرها في عالم اليوم المليء بالصراعات.
ولقد ضرب صحابة المصطفي صلي الله عليه وسلم الذين هاجروا معه أروع المثل في صنع تاريخ الأمة وكيانها ومكانتها من خلال عطائهم بلا حدود وشجاعتهم وصمودهم بعزيمة لاتلين ولاتعرف اليأس.. فواجهوا بكل ثبات وقوة كل التحديات وانتصروا عليها.. وحققوا بطولات رائعة سجلها لهم التاريخ بأحرف من نور.. فهل تستفيد الأمة الإسلامية من بطولات هؤلاء الرجال ومن دروس هؤلاء العظماء!!
الهجرة الآن ليست مجرد نقله من مكان إلي مكان.. لأن النبي صلي الله عليه وسلم قال: "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية".. والهجرة المطلوبة الآن.. هي نقلة بالنفس الإنسانية من طبيعة النفس الأمَّارة بالسوء إلي مرتبة النفس اللوَّامة التي تفتش في مسيرة حياتها لتتجنب عوامل الضعف وأسباب الانحراف حتي ترقي إلي مرتبة النفس المطمئنة التي تنادي من قبل الحق تبارك وتعالي "يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلي ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي".
المنهج الإلهي
أضاف أن الهجرة علي المستوي الاجتماعي اليوم تعني النقلة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية إلي آفاق المنهج الالهي الذي أنزل الله عز وجل ليقوم الناس بالقسط وكلا النوعين النقلة النفسية والنقلة الاجتماعية هي التطبيق العملي لقول الله تبارك وتعالي "ففروا إلي الله إني لكم منه نذير مبين".
أوضح أن الفرار إلي الله عز وجل لايكون إلا بنصرة دينه والالتزام بمنهجه والدفاع عن الحق وصون المقدسات وحماية كرامة الإنسان.. ومن هنا كان الجهاد فريضة إسلامية ماضية إلي يوم القيامة لردع المعتدين ورد الظالمين وتحطيم هيمنة الاستكبار الشيطاني علي البشر.. وإن هذه هي رسالتنا في عالم اليوم ونحن نستشرف العام الهجري الجديد.
الصحوة الإسلامية
تأتي ذكري الهجرة هذا العام. في وقت ساءت فيه أوضاع الأمة إلي درجة لم يسبق لها مثيل في تاريخها الطويل. هذا علي المستوي الرسمي. أما علي المستوي الشعبي. أو السواد الأعظم في حياة الشعوب الإسلامية وتبوأ الإسلام سمعة مدوية تحطم كل السدود والقيود والعقبات الموضوعة في طريق الدعوة ففيها عزاء جميل. ونهضة مبشرة بانتصار عزيز.. فالصحوة الإسلامية المعاصرة آخذة في النمو. وبخاصة في أروقة الشباب المتطلع إلي فجر جديد. يكتسح كل الظلمات. وهي أملنا الوحيد في انقاذ الأمة من الهاوية التي جرها فيها أعداؤها بعد أن أحكموا قبضتهم عليها بعوامل التخويف أو التزييف. فأفقدوا أمراءها الإرادة ووضعوا في أعناقهم القلادة. لا ليتزينوا بها. ولكن ليسهل علي الأعداء خنقهم في أية لحظة أرادوا.
أضاف أن هجرة الرسول وصحبه من مكة إلي المدينة تذكرنا بأن تحقيق النصر لابد فيه من الأخذ بالأسباب التي وضعها الله في أيدي البشر. ومحال أن يهب الله نصراً لخامل أو كسول أو جبان. لم ينفض غبار الذل والهوان والضعف عن نفسه. ولم يخط خطوة واحدة نحو كسب المعالي والذود عن العزة والكرامة بإعداد القوة للأعداء. والتدريب الجيد مادياً ومعنوياً وهو المشار إليه من قوله تعالي:
"وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة. ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم. وآخرين من دونهم لاتعلمونهم الله يعلمهم".
أن الإعداد المادي يكون بإعداد السلاح المناسب لردع كل عدوان. والقدرة الماهرة علي استعماله والإعداد المعنوي يكون بقوة الإيمان. وإخلاص العمل لله. وإيثار الآخرة الباقية. علي الدنيا الفانية ثم يأتي بعد ذلك نصر الله مكافأة لمستحقي النصر "وكان حقاً علينا نصر المؤمنين" ينصر الله المؤمنين الذين أخذوا بالأسباب. علي النحو الذي تقدم وإن اجتمعت عليهم الدنيا بأقطارها ومهما قل المؤمنون ومهما كثر خصومهم. فالله وحده هو الغالب علي أمره: "إن ينصركم الله فلا غالب لكم" "إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم".
أشار إلي أن هذا ما صنعته الأمة في أول عهدها بقيادة رسولها الكريم. من الهجرة. وفي غير الهجرة. فتساقطت أمامها عروش. وهوت تحت أقدامها التيجان كما تتساقط وتتهاوي حبات العقد النظيم إذا انفرط نظامها.
الأخذ بالأسباب
قال إنه في الهجرة ضرب الرسول وأصحابه أروع الأمثال في الأخذ بالأسباب. والتضحية بكل غال ونفيس فمكنهم الله في الأرض. ورد عنهم كيد أعدائهم فأقاموا دولة شامخة في الأرض أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.. والأمة في هذا العصر لن تفك أسرها من أيدي أعدائها إلا بالسير علي الدروب التي ساروا فيها بأن توحد صفها وتجمع أمرها علي قلب رجل واحد وتمحو عوامل التفرق التي فرقتها وشتتتها وهونتها علي أعدائهم.. تأخذ جادة بالأسباب في فقه الدنيا وطرق استثمار الطاقات. وفي فقه الدين. فتقيمه وتعمل به. كما أراد الله.. لا كما أراد منهم أعداء الله المعاصرون.
وأن يكون ولاؤها الخالص لله تبغي رضاه. وتخشي سخطه. رغم أنف أعداء الله مهما كانت مواقعهم. فهم أمام الله إذا أصلحنا علاقاتنا به تراب فوق التراب.
أشار إلي أنه لابد. وبكل حزم وعزم. من إحلال وتجديد في حياتنا. فقد جدَّ الأمر وأحدقت بها الأخطار. ولابد لنا من تغيير ما بأنفسنا نحو الصلاح والاصلاح. حتي يغير الله مابنا من ضعف وهوان.. ليستخلفنا الله في الأرض كما استخلف الذين من قبلنا.. وليمكننَّ الله لنا ديننا الذي ارتضاه لنا.
وليبدلننَّا من بعد خوفنا آمناً.
حركة ونهوض
الهجرة انطلاق لبناء أمة وتكوين مجتمع وتشكيل حضارة وصياغة قيم وإعداد أجيال وإنارة طريق وتخطيط لمستقبل وإنجاز لإيجاد مباديء ومثل.. كل هذا وذاك يجعلنا في مقدمة الصف مواجهين تحديات كثيرة متعددة ومتنوعة لأن الهجرة حركة ونهوض ويقظة وصحوة ولأن الهجرة لم تأت خبط عشوائي ولم تكن مجرد مصادفة.. بل من أول يوم من أيام الوحي كان للهجرة وجود كبير وأثر عظيم.
أضاف أن ذلك الأثر صنع للأمة تاريخها وكيانها ومكانها ومكانتها من خلال صحابة رسول الله الذين شرف بهم الزمن.. قوة وسخاء كرماً وبذلاً وعطاء..
أوضح أن الهجرة علمتنا كيف نواجه التحديات بثبات ونحن كالجبال الشمم العالية والرواسي الشامخات.. والهجرة دواء قوي يعالج أدواء المجتمع من فرقة وتمزق وضعف وفقر ومرض وجهل وأمية ثقافية تستشري في المجتمع.. وهي أيضاً باب فسيح ونافذة مستنيرة من أجل أن تكون لنا ثقافة واعية ووعي ثقافي.. قال: إنه مما لاشك فيه أن الهجرة واجهت تحديات حولت العالم من جمود إلي حركة ومن فوضي إلي نظام ومن مهانة حيوانية إلي كرامة إنسانية.. نعم أيها إنسانية الكرامة وحركة العالم الذي هو مليء بالأحقاد والكراهية وسفك الدماء والصراعات اللامتناهية والدمار والأطماع البشرية.. هذه تحديات لابد وأن نقف أمامها بقوة وشجاعة وصلابة رأي في غير تطرف أو عصبية أو دمار لمن حولنا.
أوضح أن الهجرة دروس وعبر وقيم ومباديء ومثل.
* جريدة المساء
الهجرة النبوية
الهجرة النبوية
الحمدُ لله وكفى، وسلامٌ على عبادِهِ الذينَ اصطفى، الحمدُ لله الواحدِ الأحد الفرْدِ الصمد الذي لم يلدْ ولم يولدْ ولم يتخذْ صاحبةً ولا ولدًا.
أحمدُهُ وأستعينهُ وأستهديهِ وأشكرهُ له المنَّةُ ولهُ الفضلُ ولهُ الثناءُ الحَسَنُ، لكَ الحمدُ ربَّنا على ما أنعمْتَ علينا، الحمدُ للَّه الذي هدانا لهذا وما كُنَّا لنهتديَ لولا أنْ هدانا الله.
والصلاةُ والسلامُ على سيدنا وحبيبنا وعظيمنا وقائدنا وقرَّةِ أعيننا محمَّد، بعثَهُ الله رحمةً للعالمين مبشِّرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنهِ وسراجًا وهَّاجًا وقمرًا منيرًا، فهدَى الله بهِ الأمَّةَ وكشَفَ بهِ عنها الغُمَّة فجزاهُ الله عنا خيرَ ما جزى نبيًّا من أنبيائهِ.
وأشهدُ أنْ لا إله إلا الله الملكُ الحقُّ المبين، وأشهدُ أنَّ سيدَنا محمدًا رسولُ الله الصادقُ الوعدِ الأمين، صلواتُ ربي وسلامهُ عليهِ وعلى ءالهِ وصحبهِ الطيبين الطاهرين.
أما بعدُ أيها الأحبةُ المسلمون:
فإني أوصي نفسي وإياكم بتقوى الله العظيم، والسيرِ على خُطى رسولِهِ الكريم، يقولُ الله تَبَارَكَ وتعالى في القرءانِ الكريم:} إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا{[سورة التوبة].
إخوةَ الإيمان:
لَمَّا بُعِثَ رسولُ الله أي نزَلَ عليهِ الوحيُ أُمِرَ بالتبليغِ والإنذارِ بلا قتالٍ، وكانَ يدعو إلى الله جهرًا ويمرُّ بينَ العربِ المشركينَ حينَ كانوا يجتمعونَ في الموسمِ من نَوَاحٍ شتَّى ويقولُ: "أيُّها الناسُ قولوا لا إلهَ إلا الله تُفلِحوا". ودعا النبيُّ إلى العدْلِ والإحسانِ ومكارمِ الأخلاقِ ونهى عنِ المنكر والبغي فآمَنَ بهِ بعضُ الناسِ كأبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعليٍ وبلالٍ وغيرِهم، وبقيَ على الكفرِ أكثرُ الناسِ، وصاروا يُؤذونَهُ وأصحابَهُ، فلمَّا اشتدَّ عليهمُ الأذى هاجرَ بعضُ أصحابِ النبيّ إلى الحبشةِ وكانوا نحوَ الثمانينَ، منهُم عثمانُ بنُ عفَّانَ وجعفرُ بنُ أبي طالبٍ، وكانَ رسولُ الله لقِيَ في الموسمِ نَفَرًا من أهلِ يثربَ من الخزرجِ فدعاهم إلى الإسلامِ فأسلموا، ثمَّ ازدادَ عددُهم في العامِ التالي فلمَّا انصرَفوا بعثَ معَهُم رسولُ الله ابنَ أمّ مكتومٍ ومُصعبَ بنَ عُمَيرٍ يُعلّمانِ الناسَ منْ أسلَمَ منهم القرءانَ، ويدعوانِ من لم يُسْلِمْ إلى الإسلامِ.
فلمَّا كثُرَ أنصارُ رسولِ الله بيثربَ أمر الله المسلمينَ بالهجرةِ إليها فخرجوا أَرْسالا، ثمَّ هاجرَ النبيُّ من مكةَ مَحَلِ ولادتهِ التي كانتْ أحَبَّ بلادِ الله إليهِ يتحمَّلُ المشاقَّ في سفرِهِ مَعَ أبي بكرٍ بعدَ أنْ أقامَ في مكةَ منذُ البِعثةِ ثلاثَ عَشْرةَ سنةً يدعو إلى التوحيدِ ونبذِ الشِرْكِ.
إخوةَ الإسلام:
لم تكن هجرةُ الرسولِ هرَبًا من المشركينَ ولا يأسًا من واقعِ الحالِ، ولم تكُنْ هجرتُهُ حُبًّا في الشُّهرةِ والجاهِ والسُّلطانِ، فقد ذهبَ إليهِ أشرافُ مكةَ وسادَاتُها وقالوا له: "إنْ كنتَ تريدُ بما جئتَ بهِ مالا جمعنا لكَ من أموالنا حتى تكونَ أكثرَنا مالا، وإنْ كنتَ تريدُ مُلكًا مَلَّكْناكَ إيَّاهُ".
ولكنَّ النبيَّ العظيمَ أسمى وأشرفُ من أنْ يكونَ مقصودَهُ الدنيا والجاهُ والسلطانُ.
ولم تكُنْ هجرتُهُ التماسًا للهدوءِ وطلَبًا للراحةِ، فهو يعلَمُ يقينًا أنها دعوةُ حقٍّ ورسالةُ هدى لا بُدَّ أنْ يُؤَديهَا كما أمرهُ الله؛ وهو لهذا يقولُ لعمِّهِ أبي طالبٍ حينَ أتاهُ يطلبُ منهُ الكفَّ عن التعرُّضِ لقومِهِ وما يعبُدونَ:
"والله يا عمُّ لو وضعوا الشمسَ في يميني والقمرَ في يساري على أنْ أتركَ هذا الأمرَ ما تركتُهُ حتى يُظهرَهُ الله سبحانَهُ وتعالى أو أَهلِكَ دونَهُ".
يا أحبابَ الحبيبِ:
لقد كانَ لهجرةِ الفاروقِ الذي فرَّقَ بينَ الحقِّ والباطلِ قِصَّةٌ شأنُها شأنُ كلّ قِصصهِ وأخبارهِ العَظيمةِ التي تدلُّ على حبّهِ لدينِ الله، واستبسالِهِ في سبيلِ الله، واستعدادهِ للموتِ في سبيلِ نُصْرةِ الحقّ. ذلكَ أنَّهُ عندما جاءَ دورُ سيدِنا عمَرَ بنِ الخطابِ قبلَ هجرةِ الرسولِ بسبعةِ أيامٍ، خرجَ مُهاجرًا وخَرجَ معهُ أربعونَ من المستضعفينَ جَمَعَهُم عمَرُ في وضْحِ النهارِ وامتشَقَ سيفَهُ وجاءَ دارَ الندوةِ وهو مكانٌ تجتمعُ فيهِ قريشٌ عادةً، فقالَ الفاروقُ عمَرُ لصناديدِ قُريشٍ بصوتٍ جَهيرٍ: "يا معشَرَ قُريشٍ، من أرادَ منكم أنْ تُفْصَلَ رأسُهُ أو تثكَلَهُ أمُّهُ أو تترمَّلَ امرأتُهُ أو يُيتَّمَ ولدُهُ أو تذهبَ نفسهُ فليتبعني وراءَ هذا الوادي فإنِّي مهاجرٌ إلى يثرِبَ" فما تجرَّأَ أحدٌ منهم أنْ يحولَ دونَهُ ودونَ الهجرةِ لأنهم يعلمونَ أنَّهُ ذو بأسٍ وقوَّةٍ، وأنَّهُ إذا قالَ فعَلَ.
وكانَ مشركو قريشٍ قد أجمَعوا أمرَهم على قتْلِ رسولِ الله، فجمعوا من كلّ قبيلةٍ رجلا جَلْدًا نَسيبًا وَسِيطًا ليضربوهُ ضربةَ رجلٍ واحدٍ حتى يتفرَّقَ دمُهُ في القبائلِ.(1/74)
فأتى جِبريلُ رسولَ الله فأمرَهُ أنْ لا يبيتَ في مضْجَعهِ الذي كانَ يبيتُ فيهِ، وأخبرَهُ بمكرِ القومِ، فدعا الرسولُ عليَّ بنَ أبي طالبٍ أنْ يَبيتَ على فراشِهِ و يتسجَّى بِبُرْدٍ لهُ أخضرَ، ففعَلَ ثم خرجَ رسولُ الله على القومِ وهم على بابِهِ ومَعَهُ حَفْنَةُ تُرابٍ، فجعَلَ يَذُرُّها على رؤوسِهِم، وأخَذَ الله عزَّ وجلَّ بأبصارِهم عن نبيّهِ، فلمَّا أصبحوا فإذا هم بِعَليّ بنِ أبي طالبٍ، فسألوهُ عنِ النبيّ فأخبرَهُم أنَّهُ خرجَ فركبوا في كلّ وجْهٍ يطلبونَهُ، وكانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قد سارَ مَع أبي بكرٍ حتى وصَلاَ إلى غارِ ثوْرٍ فدَخَلاهُ، وجاءتِ العنكبوتُ ونسَجَتْ على بابِهِ، وجاءت حمامةٌ فباضَتْ ورقَدَتْ، فلمَّا وصلتْ رجالُ قريشٍ إلى الغارِ قالَ أبو بكرٍ: يا رسولَ الله لو أنَّ أحدَهم ينظرُ إلى قدَميهِ لأبصَرَنا تحتَ قَدميهِ، فقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "يَا أبا بكرٍ ما ظَنُّكَ باثنينِ الله ثالثُهما" وليسَ معنى ذلكَ أنَّ الله يسكنُ مَعَهُما في الغارِ، وإنَّما معناهُ أنَّ الله عالمٌ بهما وهو حافظٌ لهما، أي أنَّ عنايةَ الله مَعَهُما، فمن اعتقدَ أنَّ الله يسكنُ في مكانٍ فهذا قد جعلَ الله كالمخلوقِ، والذي يجعلُ الله كالمخلوقِ فقد كذَّبَ القرءانَ، ومن كذَّب القرءانَ لا يكونُ من المسلمين.
ولمَّا وصلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينةِ المنوَّرةِ استقبَلَهُ المؤمنونَ بالفرَح، استبشَرَ الناسُ بقدومِ رسولِ الله، وسمَّى الرسولُ يثربَ المدينةَ المنوَّرةَ، وءاخى بينَ أهلِها أي الأنصارِ والمهاجرينَ، وبنى مسجدَهُ، وصارَ المسلمونَ عَلَى قَلْبِ رجلٍ واحدٍ لا يُفرِّقُ بينَهُم طمَعُ الدنيا ولا يُباعِدُ بينَهُم حَسَدٌ ولا ضَغينةٌ، مَثَلُهم كمَثَلِ البُنيانِ المرصوصِ يشدُّ بعضهُ بعضًا، ومثلُهم في توادِهم وتراحُمِهم كمَثَلِ الجسَدِ الواحدِ إذا اشتكى منهُ عضوٌ تداعى لهُ سائرُ الجسدِ بالسّهَرِ والحُمَّى.
إخواني :
لقد كانتِ الهجرةُ إيذانًا بأنَّ صوْلةَ الباطلِ مهما عظُمَتْ وقُوَّتَهُ مهما بلغَتْ فمصيرُها إلى الزاولِ ونِهايتُها إلى الفشَلِ والبَوارِ، وإيذانًا بأنَّ الحقَّ لا بدَّ لهُ من يومٍ تُحَطَّمُ فيهِ الأغلالُ وتعلو فيهِ رايتُهُ وتَرتفِعُ كلمتُهُ، وكيفَ لا والله سبحانَهُ وتعالى قد وعدَ المؤمنينَ بالنَّصرِ المبينِ وجعلَ لهم من الشدةِ فرَجًا ومن العُسرِ يُسْرًا ومن الضيقِ سَعَةً؛ قالَ تعالى: }إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءامَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ{ [سورة غافر].
إنَّ الدروسَ المستفادةَ من الهجرةِ كثيرةٌ، ومن جُمْلَتِها ضرورةُ الصَّبرِ على الشدائِدِ والبلايا وكافةِ أنواعِ الظلمِ والاستبدادِ، والصمودُ في وجهِ الباطلِ، والثباتُ في ميدانِ الكفاحِ، والوقوفُ إلى جانبِ الحقّ في شجاعةٍ وحزْمٍ وصرامةٍ، وإنَّ بهجتنا بهذهِ الذكرى تمتزج بعزمنا على الاقتداء بصاحب الذكرى، والتمسك بهديه وعقيدته، والالتزام بشريعته، معلمين ومتعلمين، فهو القائل صلى الله عليه وسلم: "بلغوا عني ولو ءاية".
فنسأل الله عز وجل أن يجعلنا من الموفقين للثبات حتى الممات على مَحَجَّةِ الإسلام البيضاء.
هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمدُ للَّهِ ربّ العالمين لهُ النّعمَةُ ولهُ الفضلُ وله الثناءُ الحسنُ وصَلواتُ الله البَرّ الرَّحيم والملائكةِ المقربينَ على سَيّدنا محمدٍ وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسلينَ وأهلِ بيتِه الطيّبينَ الطاهرينَ وسلامُ الله عليهم أجمعين. عِبَادَ الله أوصيكُم ونَفسيَ بِتَقوى الله.
واعلَموا أنَّ الله أمرَكُمْ بأمْرٍ عظيمٍ أمرَكُمْ بالصلاةِ والسلامِ على نبيه الكريم فقال }إِنَّ الله وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا{ اللهمَّ صَلّ على سيّدِنا محمَّدٍ وعلى ءالِ سيّدِنا محمَّدٍ كمَا صلّيتَ على سيّدِنا إبراهيمَ وعلى ءالِ سيّدِنا إبراهيمَ وبارِكْ على سيّدِنا محمَّدٍ وعلى ءالِ سيّدِنا محمَّدٍ كمَا بارَكْتَ على سيّدِنا إبراهيمَ وعلى ءالِ سيّدِنا إبراهيمَ إنّكَ حميدٌ مجيدٌ، يقول الله تعالى }يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَىْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ الله شَدِيدٌ{ [سورة الحج].
اللهمَّ إنَّا دعوناك فاستجبْ لنا دعاءَنا فاغفرِ اللهمَّ لنا ذنوبَنا وإسرافنا في أمرنا اللهمَّ اغفرْ للمؤمنينَ والمؤمناتِ الأحياءِ منهم والأمواتِ (1) ربنَا ءاتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرةِ حسنةً وقنا عذاب النار اللهم اجعلنا هداةً مهتدين غير ضالين ولا مضلين اللهمَّ استر عوراتِنا وءَامِن رَوعاتِنا واكفِنا ما أهمَّنا وقِنا شرَّ ما نتخوف.
عباد الله}إِنَّ الله يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ{ [سورة النحل]. وأقم الصلاة.
الهجرة حتى استقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - في المدينة
للسباعي رحمه الله
أ- الوقائع التاريخية
1- ... علمت قريش بإسلام فريق من أهل يثرب، فاشتد أذاها للمؤمنين بمكة، فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالهجرة إلى المدينة، فهاجروا مستخفين، إلا عمر رضي الله عنه، فإنه أعلم مشركي قريش بهجرته ، وقال لهم: من أراد أن تثكله أمه فليلحق بي غدا ببطن هذا الوادي، فلم يخرج له أحد.
2- ... ولما أيقنت قريش أن المسلمين قد أصبحوا في المدينة في عزة ومنعة، عقدت مؤتمرا في دار الندوة للتفكير في القضاء على الرسول نفسه، فقرَّ رأيهم على أن يتخيروا من كل قبيلة منهم فتى جلدا، فيقتلوه جميعا، فيتفرق دمه في القبائل، ولا يقدر بنو مناف على حربهم جميعا، فيرضوا بالدية، وهكذا اجتمع الفتيان الموكلون بقتل الرسول - صلى الله عليه وسلم - على بابه ليلة الهجرة ينتظرون خروجه ليقتلوه.
3- ... لم ينم الرسول - صلى الله عليه وسلم - تلك الليلة على فراشه، وإنما طلب من علي رضي الله عنه أن ينام مكانه، وأمره إذا أصبح أن يرد الودائع التي كان أودعها كفار قريش عنده إلى أصحابها، وغادر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بيته دون أن يشاهده الموكلون بقتله، وذهب إلى بيت أبي بكر، وكان قد هيأ من قبل راحلتين له وللرسول صلى الله عليه وسلم، فعزما على الخروج، واستأجر أبو بكر عبد الله بن أريقط الدِّيلي وكان مشركا ليدلهما على طريق المدينة، على أن يتجنب الطريق المعروفة إلى طريق أخرى لا يهتدي إليها كفار قريش.
4- ... خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه أبو بكر يوم الخميس أول يوم من ربيع الأول لسنة ثلاث وخمسين من مولده عليه الصلاة والسلام، ولم يعلم بأمر هجرته إلا علي رضي الله عنه وآل أبي بكر رضي الله عنه، وعملت عائشة وأسماء بنتا أبي بكر في تهيئة الزاد لهما، وقطعت أسماء قطعة من نطاقها - وهو ما يشد به الوسط- فربطت به على فم الجراب - وعاء الطعام- فسميت لذلك: ذات النطاقين، واتجها مع دليلهما عن طريق اليمن حتى وصلا إلى «غار ثور»، فكمنا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام شاب ثقف « حاذق» لقن « سريع الفهم»، فيخرج من عندهما بالسَحَر، ويصبح مع قريش بمكة كأنه كان نائما فيها، فلا يسمع من قريش أمرا يبيتونه لهما إلا وعاه حتى يأتيهما في المساء بخبره.
5- ... قامت قيامة قريش لنجاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من القتل، وخرجوا يطلبونه من طريق مكة المعتاد، فلم يجدوه واتجهوا إلى طريق اليمن، ووقفوا عند فم « غار ثور» يقول بعضهم: لعله وصاحبه في هذا الغار. فيجيبه الآخرون: ألا ترى إلى فم الغار كيف تنسج عليه العنكبوت خيوطها، وكيف تعشعش فيه الطيور، مما يدل على أنه لم يخل هذا الغار أحد منذ أمد، وأبو بكر رضي الله عنه يرى أقدامهم وهم واقفون على فم الغار، فيرتعد خوفا على حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويقول له: والله يا رسول الله، لو نظر أحدهم إلى موطئ قدمه لرآنا، فيطمئنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟».
6- ... أرسلت قريش في القبائل تطمع كل من عثر على الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه، أو قتله، أو أسره، في دفع مبلغ ضخم من المال يغري الطامعين، فانتدب لذلك سراقة بن جعشم ، وأخذ على نفسه أن يتفقدهما ليظفر وحده بالجائزة.
7- ... بعد أن انقطع طلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه، خرجا من الغار مع دليلهما وأخذا طريق الساحل « ساحل البحر الأحمر» وقطعا مسافة بعيدة أدركهما من بعدها سراقة، فلما اقترب منهما، ساخت قوائم فرسه في الرمل فلم تقدر على السير، وحاول ثلاث مرات أن يحملها على السير جهة الرسول صلى الله عليه وسلم، عندئذ أيقن أنه أمام رسول كريم، فطلب من الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يعده بشيء إن نصره، فوعده بسواري كسرى يلبسهما، ثم عاد سراقة إلى مكة فتظاهر بأنه لم يعثر على أحد.
8- ... وصل الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه المدينة في اليوم الثاني عشر من ربيع الأول وبعد أن طال انتظار أصحابه له، يخرجون كل صباح إلى مشارف المدينة، فلا يرجعون إلا حين تحمى الشمس وقت الظهيرة، فلما رأوه فرحوا به فرحا عظيما، وأخذت الولائد ينشدن بالدفوف:
طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع
أيها المبعوث فينا ... جئت بالأمر المطاع
9- ... كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو في طريقه إلى المدينة قد وصل إلى «قباء» وهي قرية جنوب المدينة على بعد ميلين منها، فأسس فيها أول مسجد بني في الإسلام، وأقام فيها أربعة أيام، ثم سار صباح الجمعة إلى المدينة، فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف، فبنى مسجدا هناك وأقام أول جمعة في الإسلام، وأول خطبة خطبها في الإسلام، ثم سار إلى المدينة، فلما وصلها كان أول عمل عمله بعد وصوله أن اختار المكان الذي بركت فيه ناقته ليكون مسجدا له، وكان المكان لغلامين يتيمين من الأنصار، فساومهما على ثمنه، فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله، فأبى إلا أن يبتاعه منهما بعشرة دنانير ذهبا أداها من مال أبي بكر، ثم ندب المسلمين للاشتراك في بناء المسجد، فأسرعوا إلى ذلك، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينقل معهم اللَّبِن [الطوب]، حتى تم بناء المسجد جدرانه من لَبِن، وسقفه من جريد النخل مقاما على الجذوع.
10- ... ثم كان أن آخى المهاجرين والأنصار، فجعل لكل أنصاري أخا من المهاجرين، فكان الأنصاري يذهب بأخيه المهاجر إلى بيته، فيعرض عليه أن يقتسم معه كل شيء في بيته.
11- ... ثم كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتابا بين المهاجرين والأنصار، وادع فيه اليهود، وأقرهم على دينهم وأموالهم، وقد ذكر ابن هشام هذا الكتاب بطوله في سيرته، وهو يتضمن المبادئ التي قامت عليها أول دولة في الإسلام، وفيها من الإنسانية والعدالة الاجتماعية والتسامح الديني والتعاون على مصلحة المجتمع ما يجدر بكل طالب أن يرجع إليه ويتفهمه ويحفظ مبادئه.
... ونحن نذكر المبادئ العامة التي تضمنتها هذه الوثيقة التاريخية الخالدة:
1- ... وحدة الأمة المسلمة من غير تفرقة بينها.
2- ... تساوي أبناء الأمة في الحقوق والكرامة.
3- ... تكاتف الأمة دون الظلم والإثم والعدوان.
4- ... اشتراك الأمة في تقرير العلاقات مع أعدائها لا يسالم مؤمن دون مؤمن.
5- ... تأسيس المجتمع على أحدث النظم وأهداها وأقومها.
6- ... مكافحة الخارجين على الدولة ونظامها العام، ووجوب الامتناع عن نصرتهم.
7- ... حماية من أراد العيش مع المسلمين مسالما متعاونا، والامتناع عن ظلمهم والبغي عليهم.
8- ... لغير المسلمين دينهم وأموالهم، لا يجبرون على دين المسلمين ولا تؤخذ منهم أموالهم.
9- ... على غير المسلمين أن يسهموا في نفقات الدولة كما يسهم المسلمون.
10- ... على غير المسلمين أن يتعاونوا معهم لدرء الخطر عن كيان الدولة ضد أي عدوان.
11- ... وعليهم أن يشتركوا في نفقات القتال ما دامت الدولة في حالة حرب.
12- ... على الدولة أن تنصر من يظلم منهم، كما تنصر كل مسلم يعتدى عليه.
13- ... على المسلمين وغيرهم أن يمتنعوا عن حماية أعداء الدولة ومن يناصرهم.
14- ... إذا كانت مصلحة الأمة في الصلح، وجب على جميع أبنائها مسلمين وغير مسلمين أن يقبلوا بالصلح.
15- ... لا يؤاخذ إنسان بذنب غيره، ولا يجني جان إلا على نفسه وأهله.
16- ... حرية الانتقال داخل الدولة وخارجها مصونة بحماية الدولة.
17- ... لا حماية لآثم ولا لظالم.
18- ... المجتمع يقوم على أساس التعاون على البر والتقوى، لا على الإثم والعدوان.
19- ... هذه المبادئ تحميها قوتان:
قوة معنوية، وهي: إيمان الشعب بالله ومراقبته له، ورعاية الله لمن [عاهد] ووفى.
وقوة مادية، وهي رئاسة الدولة التي يمثلها محمد صلى الله عليه وسلم.
ب- الدروس والعظات
1- ... إن المؤمن إذا كان واثقا من قوته لا يستخفي في عمله، بل يجاهر فيه، ولا يبالي بأعداء دعوته ما دام واثقا من التغلب عليهم، كما فعل عمر رضي الله عنه حين هاجر، وفي ذلك دليل أيضا على أن موقف القوة يرهب أعداء الله، ويلقي الجزع في نفوسهم، ولا شك أنهم لو أرادوا أن يجتمعوا على قتل عمر لاستطاعوا، ولكن موقف عمر الجريء ألقى الرعب في نفس كل واحد منهم، فخشي إن تعرض له أن تثكله أمه، وأهل الشر ضنينون [بخلاء] بحياتهم حريصون عليها.
2- ... حين ييأس المبطلون من إيقاف دعوة الحق والإصلاح، وحين يفلت المؤمنون من أيديهم ويصبحون في منجى من عدوانهم، يلجؤون آخر الأمر إلى قتل الداعية المصلح، ظنا منهم أنهم إن قتلوه تخلصوا منه، وقضوا على دعوته، وهذا هو تفكير الأشرار أعداء الإصلاح في كل عصر، وقد شاهدناه ورأينا مثله في حياتنا.
3- ... إن الجندي الصادق المخلص لدعوة الإصلاح، يفدي قائده بحياته، ففي سلامة القائد سلامة للدعوة، وفي هلاكه خذلانها ووهنها، فما فعله علي رضي الله عنه ليلة الهجرة من بياته على فراش الرسول - صلى الله عليه وسلم - تضحية بحياته في سبيل الإبقاء على حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ كان من المحتمل أن تهوي سيوف فتيان قريش على رأس علي رضي الله عنه انتقاما منه، لأنه سهل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - النجاة، ولكن عليا رضي الله عنه لم يبال بذلك، فحسبه أن يسلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نبي الأمة وقائد الدعوة.
4- ... وفي إيداع المشركين ودائعهم عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع محاربتهم له وتصميمهم على قتله، دليل على أن أعداء الإصلاح يوقنون في قرارة نفوسهم باستقامة الداعية وأمانته ونزاهته، وأنه خير منهم سيرة، وأنقى سريرة، ولكن العماية واللجاجة والجمود على العادات والعقائد الضالة، هو الذي يحملهم على محاربته، ونصب الكيد له، والتآمر على قتله إن استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
5- ... إن تفكير قائد الدعوة، أو رئيس الدولة، أو زعيم حركة الإصلاح في النجاة من تآمر المتربصين والمغتالين، وعمله لنجاح خطة النجاة ليستأنف حركته أشد قوة ومراسا في ميدان آخر، لا يعتبر جبنا ولا فرارا من الموت، ولا ضنا بالتضحية بالنفس والروح.
6- ... في موقف عبد الله بن أبي بكر ما يثبت أثر الشباب في نجاح الدعوات، فهم عماد كل دعوة إصلاحية، وباندفاعهم للتضحية الفداء، تتقدم الدعوات سريعا نحو النصر والغلبة. ونحن نرى في المؤمنين السابقين إلى الإسلام كلهم شبابا، فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان عمره أربعين سنة عند البعثة، وأبو بكر رضي الله عنه كان أصغر منه بثلاث سنين، وعمر رضي الله عنه أصغر منهما، وعلي رضي الله عنه أصغر الجميع، وعثمان رضي الله عنه كان أصغر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا كان عبد الله بن مسعود، وعبد الرحمن بن عوف، والأرقم بن أبي الأرقم، وسعيد بن زيد، وبلال بن رباح، وعمار بن ياسر، رضي الله عنهم، وغيرهم، كل هؤلاء كانوا شبابا، حملوا أعباء الدعوة على كواهلهم، فتحملوا في سبيلها التضحيات، واستعذبوا من أجلها العذاب والألم والموت، وبهؤلاء انتصر الإسلام، وعلى جهودهم وجهود إخوانهم قامت دولة الخلفاء الراشدين، وتمت الفتوحات الإسلامية الرائعة، وبفضلهم وصل إلينا الإسلام الذي حررنا الله به من الجهالة والضلالة والوثنية والكفر والفسوق.
7- ... وفي موقف عائشة وأسماء رضي الله عنهما أثناء هجرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما يثبت حاجة الدعوات الإصلاحية إلى النساء، فهن أرق عاطفة، وأكثر اندفاعا، وأسمح نفسا، وأطيب قلبا، والمرأة إذا آمنت بشيء لم تبال بنشره والدعوة إليه بكل صعوبة، وعملت على إقناع زوجها وأخوتها وأبنائها به، ولجهاد المرأة في سبيل الإسلام في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - صفحات بيضاء مشرقة، تؤكد لنا اليوم أن حركات الإصلاح الإسلامي ستظل وئيدة الخطأ، قليلة الأثر في المجتمع حتى تشترك فيها المرأة، فتنشئ جيلا من الفتيات على الإيمان والخلق والعفة والطهارة، هؤلاء أقدر على نشر القيم التي يحتاج إليها مجتمعنا اليوم في أوساط النساء من الرجال، عدا أنهن سيكن زوجات وأمهات، وأن الفضل الكبير في تربية كبار الصحابة ثم التابعين من بعدهم يعود إلى نساء الإسلام اللاتي أنشأن هذه الأجيال على أخلاق الإسلام وآدابه، وحب الإسلام ورسوله، فكانت أكرم الأجيال التي عرفها التاريخ في علو الهمة، واستقامة السيرة، وصلاح الدين والدنيا.
... ... إن علينا اليوم أن ندرك هذه الحقيقة، فنعمل على أن تحمل الفتيات والزوجات لواء دعوة الإصلاح الإسلامي في أوساط النساء، وهن أكثر من نصف الأمة، وذلك يقتضينا أن نشجع بناتنا وأخواتنا على تعلم الشريعة في معهد موثوق بحسن تدريسه للإسلام، مثل كلية الشريعة في جامعتنا، وكلما كثر عدد هؤلاء الفتيات العالمات بالدين، الفقيهات في الشريعة، الملمات بتاريخ الإسلام، المحبات لرسول الله صلى الله عليه وسلم، المتخلقات بأخلاقه وأخلاق أمهات المؤمنين، استطعنا أن ندفع حركة الإصلاح الإسلامي إلى الأمام دفعا قويا، وأن نقرب اليوم الذي يخضع فيه مجتمعنا الإسلامي لأحكام الإسلام وشريعته، وإن ذلك لواقع إن شاء الله.
8- ... وفي عمى أبصار المشركين عن رؤية رسول الله وصاحبه في «غار ثور» وهم عنده، وفيما تحكيه لنا الروايات من نسيج العنكبوت وتفريخ الطير على فم الغار، مثل تخشع له القلوب من أمثلة العناية الإلهية برسله ودعاته وأحبابه، فما كان الله في رحمته لعباده ليسمح أن يقع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في قبضة المشركين فيقضوا عليه وعلى دعوته وهو الذي أرسله رحمة للعالمين، وكذلك يعود الله عباده الدعاة المخلصين أن يلطف بهم في ساعات الشدة، وينقذهم من المآزق الحرجة، ويعمي عنهم - في كثير من الأحيان- أبصار المتربصين لهم بالشر والغدر، وليس في نجاة الرسول وصاحبه بعد أن أحاط بهما المشركون في «غار ثور» إلا تصديق قول الله تبارك وتعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر:51] وقول الله تبارك وتعالى:{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38].
9- ... وفي خوف أبي بكر وهو في الغار من أن يراهما المشركون مثل لما يجب أن يكون عليه جندي الدعوة الصادق مع قائده الأمين حين يحدق به الخطر من خوف وإشفاق على حياته، فما كان أبو بكر ساعتئذ بالذي يخشى على نفسه من الموت، ولو كان كذلك، لما رافق الرسول - صلى الله عليه وسلم - في هذه الهجرة الخطيرة وهو يعلم أن أقل جزائه القتل إن أمسكه المشركون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه كان يخشى على حياة الرسول الكريم، وعلى مستقبل الإسلام إن وقع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في قبضة المشركين.
10- ... وفي جواب الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر تطمينا له على قلقه « يا أبابكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما» مثل من أمثلة الصدق في الثقة بالله والاطمئنان إلى نصره، والاتكال عليه عند الشدائد، وهو دليل واضح على صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - في دعوى النبوة، فهو في أشد المآزق حرجا ومع ذلك تبدو عليه أمارات الاطمئنان إلى أن الله [الذي] بعثه هدى ورحمة للناس لن يتخلى عنه في تلك الساعات، فهل مثل هذا الاطمئنان يصدر عن مدع للنبوة، منتحل صفة الرسالة؟ وفي مثل هذه الحالات يبدو الفرق واضحا بين دعاة الإصلاح وبين المدعين له والمنتحلين لاسمه، أولئك تفيض قلوبهم دائما وأبدا بالرضى عن الله، والثقة بنصره، وهؤلاء يتهاوون عند المخاوف، وينهارون عند الشدائد، ثم لا تجد لهم من دون الله وليا ولا نصيرا.
11- ... ويبدو لنا من موقف سراقة حين أدرك الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعجزه عن الوصول إليه دليل على نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد كانت قوائم فرسه تسيخ في الرمل وهي متجهة صوب الرسول، حتى إذا نزل عنها ووجهها شطر مكة نشطت من كبوتها، فإذا أراد أن يعيدها كرة في اتجاه الرسول - صلى الله عليه وسلم - عادت إلى عجزها وكعِّها [ضعفها]، أفترى هذا يقع إلا لنبي مرسل مؤيد من الله بالنصر والعون؟ كلا، وهذا ما أدركه سراقة، فنادى الرسول بالأمان، وأدرك أن للرسول - صلى الله عليه وسلم - من العناية الإلهية ما تعجز عن إدراكه قوى البشر، فرضي أن يخسر الجائزة ويفوز بالوعد.
12- ... وفي وعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - لسراقة بسواري كسرى معجزة أخرى، فالإنسان الذي يبدو هاربا من وجه قومه لا يؤمل في فتح الفرس والاستيلاء على كنوز كسرى، إلا أن يكون نبيا مرسلا، ولقد تحقق وعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - له، وطالب كسرى عمر بن الخطاب بإنفاذ وعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - له حين رأى سواري كسرى في الغنائم، فألبسهما عمر سراقة على ملأ من الصحابة، وقال: «الحمد لله الذي سلب كسرى سواريه وألبسهما سراقة بن جعشم الأعرابي» وهكذا تتوالى المعجزات في هذه الهجرة واحدة بعد أخرى ليزداد المؤمنون ويستيقن الذين أوتوا الكتاب من المترددين والجاحدين أنه رسول من رب العالمين.(1/75)
13- ... كانت فرحة المؤمنين من سكان يثرب من أنصار ومهاجرين بقدوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووصوله إليهم سالما فرحة أخرجت النساء من بيوتهن والولائد، وحملت الرجال على ترك أعمالهم، وكان موقف يهود المدينة موقف المشارك في الفرحة ظاهرا، والمتألم من منافسة الزعامة الجديدة باطنا، أما فرحة المؤمنين بلقاء رسولهم، فلا عجب فيها وهو الذي أنقذهم من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد، وأما موقف اليهود فلا غرابة فيه وهم الذين عرفوا بالملق والنفاق للمجتمع الذي فقدوا السيطرة عليه، وبالغيظ والحقد الأسود ممن يسلبهم زعامتهم على الشعوب، ويحول بينهم وبين سلب أموالها باسم القروض، وسفك دمائها باسم النصح والمشورة، وما زال اليهود يحقدون على كل من يخلص الشعوب من سيطرتهم، وينتهون من الحقد إلى الدس والمؤامرات، ثم إلى الاغتيال إن استطاعوا، ذلك ديدنهم، وتلك جبلتهم، وقد فعلوا مثل ذلك برسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد استقراره بالمدينة، برغم ما أمضاه بينه وبينهم على التعاون والتعايش بسلامن ولكن اليهود قوم يشعلون نار الحروب دائما وأبدا، و{كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ} [المائدة:64].
14- ... من وقائع الهجرة إلى المدينة تبين لنا أنه - صلى الله عليه وسلم - ما أقام بمكان إلا كان أول ما يفعله بناء مسجد يجتمع فيه المؤمنون فقد أقام مسجد قباء حين اقام فيها أربعة أيام، وبنى مسجدا في منتصف الطريق بين قباء والمدينة لما أدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن الوادي « وادي رانوناء».
... ... فلما أن وصل إلى المدينة، كان أول عمل عمله بناء مسجد فيها.
... ... وهذا يدلنا على أهمية المسجد في الإسلام، وعبادات الإسلام كلها تطهير للنفس، وتزكية للأخلاق، وتقوية لأواصر التعاون بين المسلمين، وصلاة الجماعة والجمعة والعيدين، مظهر قوي من مظاهر اجتماع المسلمين، ووحدة كلمتهم، وأهدافهم، وتعاونهم على البر والتقوى، لا جرم أن كان للمسجد رسالة اجتماعية وروحية عظيمة الشأن في حياة المسلمين، فهو الذي يوحد صفوفهم، ويهذب نفوسهم، ويوقظ قلوبهم وعقولهم، ويحل مشاكلهم، وتظهر فيه قوتهم وتماسكهم.
... ولقد أثبت تاريخ المسجد في الإسلام أنه منه انطلقت جحافل الجيوش الإسلامية لغمر الأرض بهداية الله، ومنه انبعثت أشعة النور والهداية للمسلمين وغيرهم، وفيه ترعرعت بذور الحضارة الإسلامية ونمت، وهل كان أبوبكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وخالد، وسعد، وأبو عبيدة وأمثالهم من عظماء التاريخ الإسلامي إلا تلامذة المدرسة المحمدية التي كان مقرها المسجد النبوي.
... وميزة أخرى للمسجد في الإسلام أنه تنبعث منه في كل أسبوع كلمة الحق مدوية مجلجلة على لسان خطيبه، في إنكار منكر أو أمر بمعروف، أو دعوة إلى خير أو إيقاظ من غفلة، أو دعوة إلى تجمع، أو احتجاج على ظالم، أو تحذير لطاغية، ولقد شاهدنا في عصر الطفولة كيف كانت المساجد مراكز الانطلاق للحركات الوطنية ضد المستعمرين الفرنسيين، يلجأ إليها زعماء الجهاد ضد الاستعمار وضد الصهيونية، وإذا كنا نرى تعطيلها اليوم عن القيام بوظيفتها الكبرى، فما ذلك إلا ذنب بعض الخطباء من الموظفين المرتزقين، أو الجاهلين الغافلين، ويوم يعتلي منابرها ويؤم محاريبها دعاة أشداء في الحق، علماء بالشريعة، مخلصون لله ولرسوله، ناصحون لأئمة المسلمين وعامتهم، يعود للمسجد في مجتمعنا الإسلامي مكان الصدارة في مؤسساتنا الاجتماعية، ويعود المسجد ليعمل عمله في تربية الرجال، وإخراج الأبطال، وإصلاح الفساد، ومحاربة المنكر، وبناء المجتمع على أساس من تقوى الله ورضوانه.
... وإنا لنأمل ذلك إن شاء الله حين تحتل هذه الطليعة الطاهرة من شبابنا المؤمن المثقفة بدين الله المتخلقة بأخلاق رسول الله منابره وأرجاءه.
15- ... في مؤخاة الرسول بين المهاجرين والأنصار أقوى مظهر من مظاهر عدالة الإسلام الإنسانية الأخلاقية البناءة، فالمهاجرون قوم تركوا في سبيل الله أموالهم وأراضيهم، فجاؤوا المدينة لا يملكون من حطام الدنيا شيئا، والأنصار قوم أغنياء بزروعهم وأموالهم وصناعتهم، فليحمل الأخ أخاه، وليقتسم معه سراء الحياة وضراءها، ولينزله في بيته مادام فيه متسع لهما، وليعطه نصف ماله ما دام غنيا عنه، موفرا له، فأية عدالة اجتماعية في الدنيا تعدل هذه الأخوة؟
... إن الذين ينكرون أن يكون الإسلام عدالة اجتماعية، قوم لا يريدون أن يبهر نور الإسلام أبصار الناس ويستولي على قلوبهم، أو قوم جامدون يكرهون كل لفظ جديد ولو أحبه الناس وكان في الإسلام مدلوله، وإلا فكيف تنكر العدالة الاجتماعية في الإسلام وفي تاريخه هذه المؤاخاة الفذة في التاريخ، وهي التي عقدها صاحب الشريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - بنفسه، وطبقها بإشرافه، وأقام على أساسها أول مجتمع ينشؤه، وأول دولة يبنيها؟
... سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم..
16- ... وفي الكتاب الذي عقد فيه الرسول الأخوة بين المهاجرين والأنصار، والتعاون بين المسلمين وغيرهم جملة من الأدلة التي لا ترَدُّ على أن أساس الدولة الإسلامية قائم على العدالة الاجتماعية، وأن أساس العلائق بين المسلمين وغيرهم هو السلم ما سالموا، وأن مبدأ الحق والعدل والتعاون على البر والتقوى والعمل لخير الناس، ودفع أذى الأشرار عن المجتمع، هو أبرز الشعارات التي تنادي بها دولة الإسلام، وبذلك تكون الدولة الإسلامية أينما قامت، وفي أي عصر نشأت قائمة على أقوم المبادئ وأعدلها، وهي تنطبق اليوم على أكرم المبادئ التي تقوم عليها الدول، وتعيش في ظلها الشعوب، وإن العمل في عصرنا هذا لإقامة دولة في مجتمعنا الإسلامي تركز قواعدها على مبادئ الإسلام عمل يتفق مع تطور الفكر الإنساني في مفهوم الدولة، عدا أنه يحقق للمسلمين بناء مجتمع من أقوى المجتمعات وأكملها وأسعدها وأرقاها.
وأيا ما كان فإن من مصلحتنا أن تبنى الدولة عندنا على أساس الإسلام، وفي ترك ذلك خرابنا ودمارنا، والإسلام لا يؤذي غير المسلمين في الوطن الإسلامي، ولا يضطهد عقائدهم، ولا ينتقص من حقوقهم، ففيم الخوف من إلزام الدول في البلاد الإسلامية بتنفيذ شرائع الإسلام، وإقامة أحكامه وهي كلها عدل وحق وقوة وإخاء وتكافل اجتماعي شامل على أساس من الإخاء والحب والتعاون الكريم؟ إننا لن نخلص من الاستعمار، إلا بالمناداة بالإسلام، وفي سبيل ذلك فليعمل العاملون {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ} [الأعراف: 96] {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا } [الطلاق: 2] {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق: 4] {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} [الطلاق: 5].
الهجرة حدث غيّر مجرى التاريخ
(في ذكرى هجرة النبي: 12 ربيع الأول 1هـ)
أحمد تمام
طريق الهجرة
مكث النبي (صلى الله عليه وسلم) في مكة ثلاثة عشر عامًا يدعو الناس إلى الإسلام، ويبصرهم بشرائعه، ويرشدهم إلى أحكامه، دون أن يتطرق إليه ملل، أو يصيبه كلل أو ضجر، لا تصرفه عن دعوته الشواغل، ولا يثنيه عن التبليغ وعد أو وعيد، وإنما هو ماض في طريقه، تحوطه عناية الله وتكلؤه رحمته، لا يجد وسيلة تمكّنه من تبليغ دعوته إلا اتبعها، ولا طريقة تهيئ له النجاح إلا أخذ بأسبابها، طرق كل باب، ووقف عند كل جمع، وعرض دعوته على القبائل؛ لعل أحدًا يؤمن بها ويؤازرها.
وآمن بالدعوة الجديدة بعض أهل مكة، ممن سمت نفوسهم، وصفت أفئدتهم، ونضجت عاطفتهم الدينية، فالتفوا حول نبيهم محمد (صلى الله عليه وسلم)، كما آمن عدد من الرقيق والموالي والمستضعفين في مكة، ولم تلق مكة بالاً لهذا الدين الجديد في بادئ الأمر، وعدّت محمدًا (صلى الله عليه وسلم) وصحبه مجموعة من الحنفاء الذين يظهرون ثم يختفون دون أن يلتفت إليهم أحد.
لكنها استشعرت الخطر، حين رأت نفسها أمام رجل آخر، ودعوة مختلفة، وجماعة تتكون، وكتابًا يُتلى، وأن الرسالة تجد أنصارًا وإن كانت تشق طريقها ببطء، ثم هالها الأمر حين بدأ النبي (صلى الله عليه وسلم) يهاجم الوثنية ويعيب الأصنام، ويسفّه عبادتها، ورأت أن مكانتها الدينية وزعامتها الروحية في خطر، فلجأت إلى مواجهة الدين الوليد، ومحاصرته بكافة الوسائل التي تضمن إجهاضه والقضاء عليه، ولم تتحرج في استخدام التعذيب والقتل والسجن مع المؤمنين بمحمد (صلى الله عليه وسلم) ودعوته، ولم يسلم النبي (صلى الله عليه وسلم) نفسه من الأذى، وتعرضت حياته للخطر.
الهجرة إلى الحبشة.. محاولة للخروج من الأزمة
حين اشتد العذاب بأصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) وضاقت بهم السبل، أمرهم بالهجرة إلى الحبشة "فإن بها ملكًا لا يُظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجًا مما أنتم فيه"، فخرج فريق من المسلمين إلى أرض الحبشة؛ مخافة الفتنة، وفرارًا إلى الله بدينهم، فكانت أول هجرة في الإسلام.
وتفكير النبي (صلى الله عليه وسلم) في الحبشة ينطوي على معرفة واسعة للنبي الكريم بأحوال شبه الجزيرة العربية، واتجاهاتها السياسية، فلم يكن هناك مكان أصلح للحماية والإيواء من الحبشة، فالقبائل العربية تربطها بقريش علاقات وثيقة، وروابط متينة تمنعها من استقبال هؤلاء المسلمين إذا ما فكروا في الهجرة إليها، وبلاد اليمن غير مستقرة يتنازعها التنافس بين الفرس والروم، والصراع بين اليهودية والنصرانية، ولم تكن أي مدينة من مدن الجزيرة العربية تصلح أن تكون مكانًا مناسبًا لإيوائهم، حتى يثرب نفسها التي استقبلت النبي (صلى الله عليه وسلم) بعد ذلك، وأقام بها دولته -لم تكن تصلح هي الأخرى في هذا الوقت لاستقبال المهاجرين، حيث كانت تمزقها الخلافات الداخلية، والصراعات بين قبائلها. وكان جملة من هاجر إلى الحبشة ثلاثة وثمانين رجلاً.
مقدمات الهجرة الكبرى
وإذا كانت الحبشة التي يحكمها ملك عادل تصلح أن تكون مأوى صالحًا ومكانًا للحماية، فإنها لم تكن تصلح أن تكون مركزًا للدعوة، ومعقلاً للدين، ولهذا لم يفكر النبي (صلى الله عليه وسلم) في الهجرة إليها، واستمر في عرض دعوته على القبائل العربية التي كانت تفد إلى مكة، أو بالذهاب إلى بعضها كما فعل مع قبيلة ثقيف في الطائف، ولم تكن قريش تتركه يدعو في هدوء، وإنما تتبّعت خطوه، تحذر القبائل من دعوته وتنفّرها منه.
غير أن سعي النبي الدءوب، وحرصه على تبليغ دعوته كان لا بد أن يؤتي ثماره، فتفتّحت لدعوته قلوب ستة رجال من الخزرج، فأسلموا، ووعدوه بالدعوة للإسلام في يثرب، وبشروه بالفوز لو قُدّر له أن تجتمع عليه قبائل يثرب.
ولم يكد ينصرم عام حتى وافى النبي (صلى الله عليه وسلم) في موسم الحج اثنا عشر رجلاً: تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس، وعقد معهم بيعة عرفت ببيعة العقبة الأولى، على "ألا يشركوا بالله شيئًا، ولا يسرقوا، ولا يزنوا، ولا يقتلوا أولادهم...".
وأرسل معهم حين عادوا إلى بلادهم مصعب بن عمير، وكان داعية عظيمًا، فقيهًا في الدين، لبقًا فطنًا، حليمًا رفيقًا، ذا صبر وأناة، فنجح في مهمته أيما نجاح، وانتشر الإسلام في كل بيت هناك، وهيأ السبيل لتكون يثرب هي دار الهجرة، التي ينطلق إليها المسلمون، ومعقل الدين ومركز الدولة.
وبعد عام عاد مصعب في موسم الحج، ومعه ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان، التقوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في إحدى الليالي سرًا وبايعوه بيعة العقبة الثانية، التي تضمنت التزامهم بحماية النبي (صلى الله عليه وسلم) عندما يهاجر إليهم والدفاع عنه، والمحافظة على حياته.
ومن ثم حددت هذه البيعة الوضع القانوني للنبي (صلى الله عليه وسلم) بين أهل يثرب، فاعتبرته واحدًا منهم، دمه كدمهم، وحكمه كحكمهم، وقضت بخروجه ضمنًا من عداد أهل مكة، وانتقال تبعيته إلى أهل يثرب، ولهذا أخفى المتبايعون أمر هذه البيعة عن قريش؛ لأن الفترة بين إتمام هذه البيعة، ووصوله (صلى الله عليه وسلم) لا يلتزم أهل يثرب خلالها بحماية النبي الكريم إذا وقع له مكروه أو أذى من قريش.
التجهيز للهجرة
وبعد أن تمّت البيعة المباركة أمر النبي (صلى الله عليه وسلم) أصحابه بالهجرة إلى المدينة، فهاجروا أفرادًا وجماعات، يتخفّى بها من يخشى على نفسه، ويعلنها من يجد في نفسه القدرة على التحدي.
ولم تقف قريش إزاء هذه الهجرة مكتوفة اليدين، فحاولت أن ترد من استطاعت رده، لتفتنه في دينه أو تعذبه أو تنكل به، ولكن دون جدوى، فقد هاجر معظم المسلمين، وبقى النبي (صلى الله عليه وسلم) في مكة، ووقعت قريش في حيرة: هل يظل في مكة كما فعل في الهجرة إلى الحبشة، أم يهاجر في هذه المرة مع أصحابه؟ وفي هذا خطر شديد عليهم؛ لأنه يستطيع في يثرب أن ينظم جماعته، ويقيم دولته، فتتهدد مكانة قريش بين القبائل، وتضيع زعامتها، وتتأثر تجارتها.
حزمت قريش أمرها، واتخذت قرارها بقتل النبي (صلى الله عليه وسلم) قبل أن تفلت الفرصة من بين أيديها، ويتحقق ما تخشاه، فأعدوا مؤامرتهم لهذا الغرض الدنيء، وأشركوا جميع القبائل في قتله، باختيار شاب قوي من بين أبنائها، حتى يتفرق دمه في القبائل، ولا يقوى بنو هاشم على محاربة أهل مكة، وقد سجل القرآن الكريم نبأ هذه المؤامرة الخسيسة في قوله تعالى: "وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين" [الأنفال: الآية 30].
حادث الهجرة.. وأسباب النجاح
اتخذ النبي (صلى الله عليه وسلم) كل الأسباب التي تضمن نجاح هجرته إلى المدينة التي ترتب عليها قيام دولة الإسلام، واتساع رقعتها، وسطوع حضارتها، ولعل أهم الأسباب هو نجاحه الباهر في إعداد المكان الذي سينزل به هو وأصحابه، مستخدمًا كل الوسائل الممكنة من توثيق عرى العلاقات مع أهل يثرب بعقد معاهدتين عظيمتين، وإرسال داعية عظيم الكفاءة، قوي الإيمان، شديد الإخلاص؛ لنشر الدين، وجذب الأتباع هناك.
والسبب الثاني من أسباب النجاح هو اختيار الوقت المناسب للهجرة، فلم يعزم النبي (صلى الله عليه وسلم) على الهجرة إلا بعد أن استوثق من رسوخ إيمان أهل يثرب، وتعهدهم بحمايته والدفاع عنه، وذلك في بيعة العقبة الثانية، ومن ثم لم تعد هناك حاجة لبقائه في مكة بعد أن وجد النصرة والمنعة عند أهل يثرب.
والسبب الثالث هو آليات الهجرة التي اتبعها النبي في خروجه من مكة إلى المدينة، في واحدة من أجلّ ما عرف تاريخ المغامرة في سبيل الحق والعقيدة والإيمان قوة وروعة، وتفاصيل هذه الهجرة مذكورة في كتب السيرة، ولسنا في حاجة إلى سردها الآن، ولكن يمكن القول بأنها كانت سرية إلى أقصى حد، ودقيقة إلى أبعد مدى، وضع لها النبي (صلى الله عليه وسلم) كل ما في وسع البشر وطاقتهم من وسائل تضمن لها النجاح، وخطط تحقق لها التوفيق، فإذا لم يفلح ذلك كله، فستأتي عناية الله في اللحظة المناسبة.
الرسول - صلى الله عليه وسلم - في المدينة
وما إن وصل النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة في ضحى يوم الإثنين، الموافق (12 من ربيع الأول للسنة الأولى من الهجرة 24 سبتمبر 622م) حتى بدأ العمل الجاد، والسعي الدءوب، حتى أكمل رسالته على نحو لا مثيل له في تاريخ الإنسانية.
ولم تكن يثرب عندما نزلها النبي (صلى الله عليه وسلم) مدينة بالمعنى المعروف، وإنما كانت واحات متفرقة في سهل فسيح يسكنها قبائل الأوس والخزرج والجماعات اليهودية، فنظّم العمران بالمدينة، وشق بها طرقا معبّدة، وكان المسجد هو الأساس في هذا التنظيم، انتظم حوله عمران المدينة الجديدة، واتسقت شوارعها.
وكان هذا المسجد هو مقر الرئاسة الذي تقام فيه الصلاة، وتُبرم فيه كل الأمور، وتُعقد به مجالس التشاور للحرب والسلم واستقبال الوفود، وبجوار المسجد اتخذ النبي مساكنه، وكانت متصلة بالمسجد، بحيث يخرج منها إلى صلاته مباشرة، وأصبح من السُنّة أن تُبْنى المساجد وبجوارها بيوت الولاة ودواوين الحكم.
ثم أصلح النبي ما بين الأوس والخزرج وأزال ما بينهما من عداوة، وجمعهما في اسم واحد هو الأنصار، ثم آخى بينهم وبين المهاجرين على أساس أن المؤمنين إخوة، وكانت المرة الأولى التي يعرف فيها العرب شيئا يسمى الأخوة، دون قرابة أو صلة رحم، حيث جعل كل رجل من المهاجرين يؤاخي رجلا من الأنصار، فيصير الرجلان أخوين، بينهما من الروابط ما بين الأخوين من قرابة الدم.
وبعد المؤاخاة كانت الصحيفة، وهي الدستور الذي وضعه النبي (صلى الله عليه وسلم) لتنظيم الحياة في المدينة، وتحديد العلاقات بينها وبين جيرانها، هذه الوثيقة لم يُمْلِها النبي (صلى الله عليه وسلم) إملاء، وإنما كانت ثمرة مناقشات ومشاورات بينه وبين أصحابه من المهاجرين والأنصار وغيرهم، وكلما استقروا على مبدأ قام الرسول - صلى الله عليه وسلم - بإملاء نصه على علي بن أبي طالب، وشيئا فشيئا اكتملت الوثيقة، وأصبحت دستورا للجماعة الجديدة، ولا يكاد يُعرف من قبل دولة قامت منذ إنشائها على أساس دستور مكتوب غير هذه الدولة الإسلامية الجديدة، فإنما تقام الدول أولا، ثم يتطور أمرها إلى وضع دستور.
وأدت هذه السياسة الحكيمة إلى قيام جماعة متآلفة متحابة، وإلى ازدياد عدد سكان المدينة حتى زاد عدد سكانها عما كانوا عليه أكثر من خمس مرات، بعد أن أقبل الناس على سكناها؛ طلبا للأمن والعدل في ظل الإسلام، والتماسًا لبركة مجاورة النبي (صلى الله عليه وسلم)، واستجابة لما دعا إليه القرآن من الهجرة إلى الله وإلى رسوله.
بين الهجرة إلى الحبشة والهجرة إلى المدينة
كانت الهجرة إلى المدينة ضرورة ملحة فرضتها الأحداث التي أحاطت بالنبي (صلى الله عليه وسلم) في مكة، وألزمته السعي إلى مكان آخر تُمارس فيها شعائر الإسلام، وتُطبّق أحكامه، وتنطلق دعوته إلى كل مكان، دون مزاحمة أو تضييق، ومكة حينذاك لم تعد صالحة لهذه الفترة من عمر الرسالة، لأن العداء قد بلغ بها كل مدى ضد الدين الجديد، وأصبحت هناك صعوبة بالغة في استكمال الدعوة التي تحتاج إلى دولة حتى تنجح راسلتها.
ولم تكن الحبشة التي تنعم بالعدل والأمان تصلح لهذه الفترة؛ نظرا لاختلاف البيئة اللغوية والدينية هناك؛ الأمر الذي جعل حركة الإسلام هناك بطيئة، وبلا فاعلية، ولا تسمح هذه البيئة بالتطبيق؛ ومن ثم لم تكن هناك مدينة في شبه الجزيرة العربية تصلح لاستقبال الدين في الفترة الثانية إلا يثرب التي أُطلق عليها مدينة الرسول.
من مصادر الدراسة:
ابن هشام (عبد الملك بن هشام) السيرة النبوية- مطبعة مصطفى البابي الحلبي- القاهرة 1936م.
حسين مؤنس- دراسات في السيرة النبوية- الزهراء للإعلام العربي- القاهرة 1405هـ 1984م.
محمد لقمان الأعظمي- مجتمع المدينة المنورة في عهد الرسول- دار المعالم الثقافية- السعودية 1989م.
محمد بن محمد أبو شهبة- السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة- القاهرة 1401هـ1981م.
أحمد إبراهيم الشريف- الدولة الإسلامية الأولى- دار القلم- القاهرة 1965م
الهجرة دروس وعبر
سامي بن خالد الحمود
الحمد لله مدبر الشهور والأعوام , ومصرف الليالي والأيام ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الجلال والإكرام ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث رحمة للأنام ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الأئمة الأعلام . أما بعد أيها الأحبة الكرام .
قبل ألف وأربعمائة وإحدى وعشرين سنة كانت هذه الأرض أرض الحرمين على موعد مع حادثة عظيمة وقصة مثيرة ، نصر الله بها الدين ، وقلب بها الموازين .
من منا لا يعرف هذه القصة ، وحرف الهاء الذي يشير إليها لا يغيب عن أنظارنا ، فهو بجانب كل رقم نؤرخ به أيامنا .
مكة .. محمد - صلى الله عليه وسلم - .. أبو بكر ... قريش .. مؤتمر الندوة .. الاغتيال .. الغار .. العنكبوت .. ذات النطاقين .. سراقة .. أم معبد .. الأنصار .. المدينة النبوية .
هذا أيها السادة هو موجز أنباء القصة .
وإن في السيرة لخبرا ، وإن في الهجرة لعبرا ، وإن في دروسها لمدكرا ... فإلى تفاصيل القصة .
مكث عليه الصلاة والسلام ثلاثة عشر عاماً بمكة يدعو إلى لا إله إلا الله .
سنوات طويلة من التعذيب والإيذاء .. والتشريد والابتلاء .
وبعد اشتداد الأذى ينام عليه الصلاة والسلام في ليلة من الليالي على فراشه فيرى دار الهجرة وإذا هي أرض ذات نخل بين لابتين .. إنها طيبة الطيبة .
ومن مكة تنطلق ركائب المهاجرين ملبيةً نداء ربها .. مهاجرةً بدينها ..مخلفةً وراءها ديارها وأموالها .
ويهم أبو بكر بالهجرة فيستوقفه الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويقول : لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحباً .
وعلى الجانب الآخر تشعر قريش بالخطر الذي يهدد كيانها بهجرته عليه الصلاة والسلام إلى المدينة ، فتعقد مؤتمراً عاجلاً في دار الندوة ( برلمان مكة ) للقضاء على محمد قبل فوات الأوان . ويحضر الشيطان معهم على صورة شيخ نجدي قال بعضهم : احسبوه في الحديد حتى يموت ، وقال بعضهم : أخرجوه وانفوه من البلاد ، وبعد أن قوبل هذان الاقتراحان بالرفض تقدم فرعون هذه الأمة أبو جهل برأي خبيث ماكر فقال : أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتىً شاباً جليداً نسيباً ثم نعطي كل فتىً منهم سيفاً صارماً فيضربون محمداً ضربة واحدة فيقتلوه فيتفرق دمه في القبائل . فأعجب القوم بهذا الرأي حتى إن الشيطان الذي لم يستطع الإتيان بمثله أيده وقال : القول ما قال الرجل هذا الرأي لا أرى غيره .
ووافق البرلمان على هذا القرار الغاشم بالإجماع وبدأوا في التنفيذ .
} وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين {
ينزل جبريل فيخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بتلك المؤامرة ويقول : يا محمد لا تبِت في فراشك الليلة .(1/76)
وفي بيت أبي بكر كان أبو بكر جالساً مع أهله في الظهيرة ، إذ أقبل النبي عليه الصلاة والسلام متقنعاً مغطياً رأسه ، ففزع أبو بكر لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يأيتهم في تلك الساعة .. يدخل النبي عليه الصلاة والسلام فيقول : يا أبا بكر أخرج من عندك . قال أبو بكر : إنما هم أهلك يا رسول الله . قال :فإني قد أذن لي في الخروج . قال أبو بكر : الصحبة بأبي أنت يا رسول الله . فقال : نعم . فبكى أبو بكر ولسان حاله يقول :
طفح السرور علي حتى إنني *** من عظم ما قد سرني أبكاني
روي عن عائشة أنها قالت : فما شعرت أن أحداً يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ .
قال أبو بكر : فخذ بأبي يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين . فقال له - صلى الله عليه وسلم - : بالثمن .
يعود - صلى الله عليه وسلم - إلى بيته ويعرّف علياً بالأمانات التي عنده ليؤديها إلى أهلها .وفي ظلمة الليل يجتمع المجرمون ويطوقون منزله عليه الصلاة والسلام .
وفي هذه الساعة الحرجة يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - علياً أن يبيت في فراشه وأن يغطي رأسه ببرده الحضرمي .
يفتح النبي عليه الصلاة والسلام الباب .. يخترق صفوف المجرمين ..يمشي بين سيوفهم .. وهم مع هذا لا يرونه ، ثم يأخذ من تراب الأرض ويذره على رؤوسهم الواحد تلو الآخر ثم يمضي بحفظ الله ورعايته .
بات علي - رضي الله عنه - على فراشه - صلى الله عليه وسلم - وغطى رأسه والمجرمون ينظرون من شق الباب ، يتهافتون أيهم يضرب صاحب الفراش بسيفه .
وفي الصباح يكتشف المجرمون فشلهم ، فيعودون وهم ينفضون التراب عن رؤوسهم .
سمعت قريش بالخبر فجن جنونها ، وثارت ثائرتها ، فوضعت جميع طرق مكة تحت المراقبة المشددة ، وأعلنت عن جائزة كبيرة قدرها مائة ناقة لمن يعيد محمداً أو أبا بكر حيين أو ميتين .
وفي بيت أبي بكر كان آل أبي بكر على موعد مع حدثين .
أما الحدث الأول فقد انطلق نفر من قريش إلى بيت أبي بكر فقرعوا الباب ، فخرجت إليهم أسماء فقالوا لها : أين أبوك ؟ قالت : لا أدري . فرفع أبو جهل يده فلطم خدها لطمة شديدة حتى سقط قرطها من أذنها .
وأما الحدث الثاني فقد كان أبو بكر خرج بكل ماله خمسة آلاف أو ستة آلاف درهم مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - فأقبل والده أبو قحافة وكان شيخاً قد ذهب بصره فدخل على أسماء وقال : والله إني لأراه فجعكم بماله مع نفسه . فقالت أسماء : كلا يا أبت إنه قد ترك لنا خيراً كثيراً فأخذت أحجاراً ثم وضعت عليها ثوباً ثم أخذت بيده وقالت : ضع يدك على هذا المال . فلما وضعها قال : إن كان ترك لكم هذا فقد أحسن .
كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يعلم أن قريشاً ستجدّ في الطلب شمالاً باتجاه المدينة . فاتجه هو وصاحبه جنوباً إلى غار ثور على طريق اليمن ، ولما انتهيا إلى الغار روي أن أبا بكر دخل الغار وسد جحوره بإزاره حتى بقي منها اثنان فألقمهما رجليه . ثم دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونام في حجر أبي بكر . وبينما هو نائم إذ لُدغت رجل أبي بكر من الجحر فتصبّر ولم يتحرك مخافة أن ينتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من نومه ، لكن دموعه غلبته فسقطت على وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيستيقظ ليرى صاحبه قد لدغ قال : يا أبا بكر مالك . قال : لدغت فداك أبي وأمي . فتفل - صلى الله عليه وسلم - على رجله فبرأت في الحال .
عبدالله بن أبي بكر شاب ذكي نبيه بطل من أبطل الصحابة .. كان يصبح مع قريش فيسمع أخبارها ومكائدها فإذا اختلط الظلام تسلل إلى الغار وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - الخبر فإذا جاء السحر رجع مصبحاً بمكة .
وكانت عائشة وأسماء يصنعان لهما الطعام ثم تنطلق أسماء بالسفرة إلى الغار ولما نسيت أن تربط السفرة شقت نطاقها فربطت به السفرة وانتطقت بالآخر فسميت بـ( ذات النطاقين ) .
ولأبي بكر راعٍ اسمه عامر بن فهيرة ، فكان يرعى الغنم حتى يأتيهما في الغار فيشربان من اللبن ، فإذا كان آخر الليل مر بالغنم على طريق عبدالله بن أبي بكر عندما يعود إلى مكة ليخفي أثر أقدامه .
واستأجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً كافراً اسمه عبدالله بن أريقط وكان هادياً خريتاً ماهراً بالطريق وواعده في غار ثور بعد ثلاث ليال .
أعلنت قريش حالة الطواريء وانتشر المطاردون في أرجاء مكة كلهم يسعى للحصول على الجائزة الكبيرة . وصل بعض المطاردين إلى الجبل وصعدوه حتى وقفوا على باب الغار ، فلما رآهم أبو بكر قال : يا رسول الله لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا .. لو أن أحدهم طأطأ بصره لرآنا . فقال له - صلى الله عليه وسلم - : يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما } إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا { .
نظروا إلى الغار وإذا العنكبوت قد نسجت خيوطها على الباب . فقالوا : لو دخل هنا لم تنسج العنكبوت على الباب ، فانقلبوا خاسئين .
مكث عليه الصلاة والسلام وصاحبه في الغار ثلاثة أيام ولما خَمَدت نار الطلب جاءهما عبد الله بن أريقط في الموعد المحدد فارتحلوا وسلكوا الطريق الساحلي .
وفي مشهد من مشاهد الحزن يقف عليه الصلاة والسلام بالحَزْوَرة على مشارف مكة ليلقي النظرة الأخيرة على أطلال البلد الحبيب .. بلد الطفولة والذكريات .. يخاطب مكة ويقول : أما والله إني لأعلم أنك أحب بلاد الله إلي وأكرمها على الله ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت .
وفي الطريق يمر عليه الصلاة والسلام بديار بني مدلج وإذا سراقة بن مالك جالس في مجلس من مجالس قومه ، فيقول أحدهم : إني رأيت أَسوِدة بالساحل أراها محمداً وأصحابه . ففطن سراقة للأمر لكنه أراد أن يستأثر بالجائزة فقال للرجل : إنهم ليسوا هم ولكنك رأيت فلاناً وفلاناً . ثم لبث سراقة قليلاً ثم قام إلى منزله ولبس سلاحه وانطلق مسرعاً في أثر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه .
يبصر سراقة النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه فيدنو منهما ، ويسمع قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقرأ القرآن ولا يلتفت . يلتفت أبو بكر فيرى سراقة فيقول : يا رسول الله أُتينا . يرفع النبي - صلى الله عليه وسلم - يديه وهو ماضٍ في طريقه لا يلتفت ويقول : اللهم اكفناه بما شئت .. اللهم اصرعه . وكان سراقة يجري بفرسه على أرض صلبة فساخت قدما فرسه في الأرض وكأنما هي تمشي على الطين فسقط عن فرسه ، ثم قام وحاول اللحاق بهما فسقط مرة أخرى ، فنادى بالأمان فتوقف عليه الصلاة والسلام وركب سراقة فرسه حتى أقبل عليه وأخبره خبر قريش وسأل النبي عليه الصلاة والسلام أن يكتب له كتاباً فأمر عامر بن فهيرة أن يكتب له وقال له : أَخفِ عنا . فرجع سراقة كلما لقي أحداً رده وقال : قد كفيتم ما ههنا . فكان أول النهار جاهداً على النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان آخر النهار مدافعاً عنه ، فسبحان مغير الأحوال .
وفي الطريق يمر الركب المبارك بخيمتي أم معبد فيسألها النبي - صلى الله عليه وسلم - الطعام فتقول : والله لو كان عندنا شيء ما أعوزكم القرى والشاء عازب والسنة شهباء يلتفت عليه الصلاة والسلام وإذا شاة هزيلة في طرف الخيمة فيقول : ما هذه الشاة يا أم معبد ؟ فتقول له : هذه شاة خلفها الجهد عن الغنم قال : أتأذنين أن أحلبها . قالت : نعم إن رأيت بها حلباً . فدعا - صلى الله عليه وسلم - بالشاة فمسح على ضرعها ودعا فتفجرت العروق باللبن فسقى المرأة وأصحابه ثم شرب - صلى الله عليه وسلم - ، ثم حلب لها في الإناء وارتحل عنها .
وفي المساء يرجع أبو معبد إلى زوجته وهو يسوق أمامه أعنزه الهزيلة . يدخل الخيمة وإذا اللبن أمامه ، فيتعجب ويقول : من أين لك هذا ؟ فتقول له : إنه مر بنا رجل مبارك كان من حديثه كيت وكيت .
جزى الله رب العالمين جزاءه *** رفيقين حلاّ خيمتي أم معبدِ
هما نزلا بالبر وارتحلا به *** فأفلح من أمسى رفيق محمدِ
وفي المدينة سمع الأنصار بخروجه عليه الصلاة والسلام ، فكانوا لشدة تعظيمهم له وفرحهم به وشوقهم لرؤيته يترقبون قدومه ليستقبلوه عند مدخل المدينة ، فيخرجون بعد صلاة الفجر إلى الحرة على طريق مكة في أيام حارة ، فإذا اشتد حر الظهيرة عادوا إلى منازلهم . فخرجوا ذات يوم ثم رجعوا عند الظهيرة إلى بيوتهم . وكان أحد اليهود يطل في هذه الأثناء من أطم من آطامهم فرأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصاحبه مقبلين نحو المدينة فلم يملك اليهودي أن صاح بأعلى صوته : يا معشر العرب هذا جدكم الذي تنتظرون . فثار المسلمون إلى السلاح وكان يوماً مشهوداً وسمعت الرجة والتكبير في بني عمرو بن عوف وكبر المسلمون فرحاً بقدومه وتلقوه وحيوه بتحية النبوة وأحدقوا به مطيفين به ، والسكينة تغشاه ، والوحي ينزل عليه { فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير } .
تلكم أيها الأحبة أحداث الهجرة ، وفيها من الدروس والعبر ما يضيق عنه المقام . فمنها :
1) درس في الهجرة :
لقد أذن الله تعالى لنبيه وأصحابه بالهجرة لما ضاقت عليهم الأرض ، ومنعتهم قريش من إقامة دين الله .
إن الهجرة بالمعنى الشرعي ليست مجرد الانتقال من بلد إلى آخر فحسب ، بل هي هجرة عامة عن كل ما نهى عنه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ، حتى يكون الدين كله لله .
هجرة من الذنوب والسيئات ... هجرة من الشهوات والشبهات ... هجرة من مجالس المنكرات .. هجرة من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة .
2) الصبر واليقين طريق النصر والتمكين :
فبعد سنوات من الاضطهاد والابتلاء قضاها النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بمكة يهيأ الله تعالى لهم طيبة الطيبة ، ويقذف الإيمان في قلوب الأنصار ، ليبدأ مسلسل النصر والتمكين لأهل الصبر واليقين { إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم الأشهاد } .
إن طريق الدعوة إلى الله شاق محفوف بالمكاره والأذى . لكن من صبر ظفر .. ومن ثبت انتصر .. { والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون } .
3) درس في التوكل على الله والاعتصام بحبل الله :
لقد كانت رحلة الهجرة مغامرة محفوفة بالمخاطر التي تطير لها الرؤوس .
فالسيوف تحاصره عليه الصلاة والسلام في بيته وليس بينه وبينها إلا الباب .. والمطاردون يقفون أمامه على مدخل الغار .. وسراقة الفارس المدجج بالسلاح يدنو منه حتى يسمع قراءته .. والرسول - صلى الله عليه وسلم - في ظل هذه الظروف العصيبة متوكل على ربه واثق من نصره .
فمهما اشتدت الكروب ومهما ادلهمت الخطوب يبقى المؤمن متوكلاً على ربه واثقاً بنصره لأوليائه .
فالزم يديك بحبل الله معتصماً *** فإنه الركن إن خانتك أركان
4) درس في المعجزات الإلهية :
هل رأيتم رجلاً أعزلاً محاصراً يخرج إلى المجرمين ويخترق صفوفهم فلا يرونه ويذر التراب على رؤوسهم ويمضي .. هل رأيتم عنكبوتاً تنسج خيوطها على باب الغار في ساعات معدودة .. هل رأيتم فريقاً من المجرمين يصعدون الجبل ويقفون على الباب فلا يطأطيء أحدهم رأسه لينظر في الغار .. هل رأيتم فرس سراقة تمشي في أرض صلبه فتسيخ قدماها في الأرض وكأنما هي تسير في الطين .. هل رأيتم شاة أم معبد الهزيلة يتفجر ضرعها باللبن .
إن هذه المعجزات لهي من أعظم دلائل قدرة الله تعالى ، وإذا أراد الله نصر المؤمنين خرق القوانين ، وقلب الموازين { إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون } .
5) درس في الحب :
وقد قال الحبيب - صلى الله عليه وسلم - :" لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين " .
إن هذا الحب هو الذي أبكى أبا بكر فرحاً بصحبته - صلى الله عليه وسلم - . . . إن هذا الحب هو الذي جعل أبا بكر يقاوم السم وهو يسري في جسده يوم أن لدغ في الغار لأن الحبيب ينام على رجله .
إن هذا الحب هو الذي أرخص عند أبي بكر كل ماله ليؤثر به الحبيب - صلى الله عليه وسلم - على أهله ونفسه .
إن هذا الحب هو الذي أخرج الأنصار من المدينة كل يوم في أيام حارة ينتظرون قدومه - صلى الله عليه وسلم - على أحر من الجمر . فأين هذا ممن يخالف أمر الحبيب - صلى الله عليه وسلم - ويهجر سنته ثم يزعم أنه يحبه !!!
يا مدعي حب أحمد لا تخالفه *** فالحب ممنوع في دنيا المحبينا
6) درس في التضحية والفداء :
لقد سطر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه صفحات مشرقة من التضحية ، والمغامرة بالأنفس والأموال لنصرة هذا الدين .. لقد هاجروا لله ولم يتعللوا بالعيال ولا بقلة المال فلم يكن للدنيا بأسرها أدنى قيمة عندهم في مقابل أمر الله وأمر ورسوله - صلى الله عليه وسلم - .
فيوم أن بات علي في فراشه - صلى الله عليه وسلم - وغطى رأسه كان يعلم أن سيوف الحاقدين تتبادر إلى ضرب صاحب الفراش ، ويوم أن قام آل أبي بكر عبدالله وأسماء وعائشة ومولاه عامر بهذه الأدوار البطولية كانوا يعلمون أن مجرد اكتشافهم قد يودي بحياتهم .
هكذا كان شباب الصحابة فأين شبابنا .. أين شبابنا الذين يضعون رؤوسهم على فرشهم ولا يضحون بدقائق يصلون فيها الفجر مع الجماعة .
نعم .. لقد نام شبابنا عن الصلاة يوم أن نام علي مضحياً بروحه في سبيل الله ، فشتان بين النومتين .
أين شبابنا الذين كلّت أناملهم من تقليب أجهزة القنوات ومواقع الشبكات . أين هذه الأنامل من أنامل أسماء وهي تشق نطاقها لتربط به سفرة النبي عليه الصلاة والسلام . ويوم القيامة ستشهد الأنامل على تضحية أسماء ، وستشهد على الظالمين بما كانوا يعملون .
7) درس في العبقرية والتخطيط واتخاذ الأسباب :
لقد كان - صلى الله عليه وسلم - متوكلاً على ربه واثقاً بنصره يعلم أن الله كافيه وحسبه ، ومع هذا كله لم يكن - صلى الله عليه وسلم - بالمتهاون المتواكل الذي يأتي الأمور على غير وجهها . بل إنه أعد خطة محكمة ثم قام بتنفيذها بكل سرية وإتقان .
فالقائد : محمد ، والمساعد : أبو بكر ، والفدائي : علي ، والتموين : أسماء ، والاستخبارات : عبدالله ، والتغطية وتعمية العدو : عامر ، ودليل الرحلة : عبدالله بن أريقط ، والمكان المؤقت : غار ثور ، وموعد الانطلاق : بعد ثلاثة أيام ، وخط السير : الطريق الساحلي .
وهذا كله شاهد على عبقريته وحكمته - صلى الله عليه وسلم - ، وفيه دعوة للأمة إلى أن تحذو حذوه في حسن التخطيط والتدبير وإتقان العمل واتخاذ أفضل الأسباب مع الاعتماد على الله مسبب الأسباب أولاً وآخراً .
8) درس في الإخلاص :
ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " إنه ليس أحدٌ أمنُّ علي في نفسه وماله من أبي بكر " فقد كان أبو بكر} الذي يؤتي ماله يتزكى { ينفق أمواله على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وعلى الدعوة إلى دين الله .
لكن السؤال هنا هو لماذا رفض - صلى الله عليه وسلم - أخذ الراحلة من أبي بكر إلا بالثمن ؟
قال بعض العلماء : إن الهجرة عمل تعبدي فأراد عليه الصلاة والسلام أن يحقق الإخلاص بأن تكون نفقة هجرته خالصة من ماله دون غيره . وهذا معنى حسن ، وهو درس في الإخلاص وتكميل أعمال القرب التي تفتقر إلى النفقة ( كنفقة الحج ، وزكاة الفطر ، وغيرها من الأعمال ) فإن الأولى أن تكون نفقتها من مال المسلم خاصة .
9) درس في التأريخ الهجري :
التأريخ بالهجرة النبوية مظهر من مظاهر تميز الأمة المسلمة وعزتها . ويعود أصل هذا التأريخ إلى عهد عمر رضي الله عنه . فلما ألهم الله الفاروق الملهم أن يجعل للأمة تأريخاً يميزها عن الأمم الكافرة استشار الصحابة فيما يبدأ به التأريخ ، أيأرّخون من مولده عليه الصلاة والسلام ؟ أم مبعثه ؟ أم هجرته ؟ أم وفاته ؟ .
وكانت الهجرة أنسب الخيارات . أما مولده وبعثته فمختلف فيهما ، وأما وفاته فمدعاة للأسف والحزن عليه . فهدى الله تعالى الصحابة إلى اختيار الهجرة منطلقاً للتأريخ الإسلامي .
وظلت الأمة تعمل بهذا التأريخ قروناً متطاولة ، حتى ابتليت في هذا العصر بالذل والهوان ، ففقدت هيبتها ، وأعجبت بأعدائها ، واتبعتهم حذو القذّة بالقذّة ، حتى هجرت معظم الدول المسلمة تأريخها الإسلامي فلا يكاد يعرف إلا في المواسم كرمضان والحج ، وأرخت بتواريخ الملل المنحرفة .
لقد نسينا تاريخنا فأنسينا تأريخنا .. وأضعنا أيامنا فضاعت أيامنا .. وما لم نرجع إلى ديننا الذي هو عصمة أمرنا .. فسلامٌ على مجدنا وعزنا .. والله المستعان .
وإن مما يفخر به كل مسلم ما تميزت به هذه البلاد بلاد الحرمين ومهبط الوحي ومهاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من اعتماد التأريخ الهجري النبوي تاريخاً رسمياً لكافة مرافقها ، نسأل الله أن يحفظها وجميع بلاد المسلمين بحفظه ، وأن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان ، ويعز دينه ويعلي كلمته ، إنه جواد كريم ، والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
بقلم الفقير إلى عفو ربه تعالى :
سامي بن خالد الحمود
الرياض
الهجرة طريق العزة
هذا هو العدد الأول في مطلع العام الهجري الجديد نضعه بين أيديكم وقد ضمنَّاه ملفاً عن الهجرة النبوية الشريفة، تناولنا فيه هذاالحدث العظيم بالتحليل والدرس والاستقراء، لنستنبط منه العِبر، ونستخلص منه النتائج ونترسم منه الخطى في وقت ادلهمت فيه الخطوب وتكالب الأعداء علينا من كل جانب لتحطيم قدراتنا واستنزاف طاقاتنا وإمكاناتنا وطمس هويتنا وتشويه عقيدتنا•
إن الهجرة النبوية كانت وستظل معلماً شامخاً ينير لأمتنا طريق المستقبل الزاهر، القائم على التنظيم والتخطيط ووضوح الهدف والغاية، فأمتنا اليوم في حاجة لتحديد أهدافها الاستراتيجية والمرحلية المستندة إلى الثوابت الشرعية وترتيب أولياتها، والانطلاق بعدها بخطى ثابتة حتى يتحقق لنا النصر الذي حققه الرسول الكريم، ونكون سادة في بلادنا وأوطاننا، وفاعلين إيجابيين في السيرة الحضارية المعاصرة، والله الهادي إلى سواء السبيل
الهجرة عطاء وتضحية
تهل علينا ذكرى الهجرة النبوية الشريفة كل عام، فتهب علينا رياح التغيير العظيمة التي غيرت وجه التاريخ عبر هذا الحدث العظيم الذي يجب أن تكون لنا معه وقفات مهمة؛ لنعيد قراءة واقعنا على أضواء دروسه العظيمة، وليكون لنا محطة جديدة للانطلاق نحو تغيير أحوال أمتنا والهجرة بها نحو الأفضل، وهذا هو سر توفيق الله تعالى لسيدنا عمر بن الخطاب بأن اختار الهجرة النبوية عنوانًا للتاريخ الإسلامي، وكان أمامه عدة مناسبات قوية يمكن أن يستخدمها للتأريخ مثل غزوة بدر أو فتح مكة أو ميلاد أو بعثة الرسول- صلى الله عليه وسلم- ولكن كان توفيق الله تعالى لاختيار الهجرة حتى تكون محطةً للتغيير الدائم لأمة الإسلام عبر السنين وصعودًا نحو المعالي بالهجرة والانتقال من الضعف إلى القوة، ومن قهر الضلال وسيطرة الباطل إلى ريادة الإيمان وأستاذية العالم.
مقومات التغيير الناجح من خلال الهجرة
د. رشاد لاشين
(1) أن يكون هناك هدف عظيم يسعى الجميع من أجل تحقيقه: وهو إعلاء كلمة الله تعالى وهذا ما وضحه لنا القرآن الكريم في التعقيب على الهجرة ?إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ? (التوبة: الآية 40).
(2) ومن أهم دعائم التغيير الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة: وكسب الأنصار الجدد وتهيئة الأرض الجديرة بحمل الرسالة, وتمثَّل هذا في بيعتي العقبة الأولى والثانية، وبعثِ سيدنا مصعب بن عمير لنشر الدعوة في المدينة، فكان نشر الدعوة أهم وسائل النجاح وأعظم دعائم البناء الإسلامي.
(3) التضحية وتقديم الغالي والنفيس من أجل الفكرة وترك التثاقل إلى الأرض: وتمثَّل هذا في ترك الأموال والبيوت والديار في مكة المكرمة والذهاب إلى المدينة المنورة، فكان الإسلام هو أغلى شيء في حياة المسلمين، وكانت النتيجة النصر والتمكين.
(4) الاعتصام بالله تعالى: فالاعتصام بالله هو الفرج والمخرج، فرسول الله- صلى الله عليه وسلم- يخرج من بيته المحاصر بأربعين رجلاً لقتله، وهو يقرأ القرآن ?وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ? (يس: الآية 9) ولا يخرج سالمًا فقط، بل ويضع التراب فوق كل الرؤوس، وهذا شأن المعتصم بالله الآوي إلى ركنه الركين.
(5) تأمين الدعم الاقتصادي وتسهيل وصول الدعم اللوجستي: فأبو بكر الصديق وفَّر المال اللازم لشراء الراحلتين، ودفع أجر الخبير الطوبوغرافي، وأسماء بنت أبي بكر كانت توصل الطعام، واختيارها كامرأة تتحرك بسهولة لا يتعرض لها العرب بطبيعتهم سهَّل وصولَ الدعم اللوجستي لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- وصاحبه في رحلة الهجرة.
(6) التخطيط الجيد والعمل المنظم: وتمثَّل هذا في الآتي:
1- تأمين حياة أفراد الأمة: فتأخير هجرة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والأمر بخروج الأفراد سرًّا وفرادى حتى لا يعلم أحد مقصودهم الجديد، فينقضوا عليهم جميعًا فيه تأمين لخروجهم.
2- خروج الرسول- صلى الله عليه وسلم- في وقت غير معهودٍ الخروجُ فيه: وقت الظهيرة واشتداد الحر في ومضاء مكة.
3- استئجار خبير في الطوبوغرافيا (عبد الله بن أريقط): حتى لا يسير في طريقٍ معهود، فيسهل الإمساك بهم.
4- استخدام الإخفاء والتمويه: وهو أحد وسائل الحرب الحديثة وتمثَّل ذلك في الآتي:-
أ- مبيت سيدنا علي مكان الرسول حتى يظلوا ينتظرون خروجه، وذلك في المرحلة الأولى حتى يتمكن من الخروج من مكة.
ب- عامر بن فهيرة يسير بقطيع من الغنم خلفهم لتغطية الآثار؛ حتى لا يستطيع أحد أن يقتفيَ أثرَهم.
ج-البقاء في الغار ثلاثة أيام في الوقت الذي تنتشر فيه قوى الشر في كل مكان للبحث عنهم.
د- تغيير اتجاه المسير فبدلاً من الانطلاق في اتجاه الشمال، وهو التفكير المنطقي لمن يريد الملاحقة، يتجهون إلى الجنوب أولاً حيث لا يخطر ذلك ببال أحد.
(7) توزيع الأدوار:
أ - الكبار يوفِّرون الدعم المادي للمساندة والصحبة.
ب- الشباب والفتيان يقومون بالأعمال الفدائية والاستخباراتية.
ج- المرأة تقوم بالدعم اللوجستي.(1/77)
د- باقي الأفراد يهيئون الدولة والأرض الجديدة ويرتبون احتفالية الاستقلال: (طلع البدر علينا من ثنيَّات الوداع)
(8) الشجاعة والقوة في الحق وتحدي الباطل وعدم الاستكانة إليه: وتمثَّل ذلك في موقف سيدنا عمر بن الخطاب وبطولته العظيمة، حين صعد على الجبل وأعلن هجرته حتى يعلِّم الظالمين درسًا في قوة الحق، وأن المسلمين لم يهاجروا خوفًا ولا جبنًا، ولكن هاجروا من أجل مصلحة الدعوة، ولبناء دولة الإسلام في أرضٍ جديدة، وكانت هذه رسالةً لا بد من توصيلها في موقف سيدنا عمر بن الخطاب.
(9) رعاية جميع الحقوق حتى حقوق الأعداء: وتمثل ذلك في مقام سيدنا علي في مكة لتوصيل الأمانات إلى أهلها، وهم الكافرون أعداء الدعوة.
(10) الفدائية: يحتاج التغيير إلى شباب فدائي على استعداد لتقديم روحه فداءً لدعوة الله، وتمثَّل هذا في مبيت سيدنا علي في فراش رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في موقف يعرضه للقتل على يد أربعين رجلاً متربِّصين بالخارج.
(11) استشعار معية الله لإنقاذ الأمة في أحلك الأوقات: في لحظةٍ من لحظات الإحساس بقرب سيطرة الأعداء وبطشهم بالأمة وقضائهم عليها واستئصالهم لشأفتها "لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا"، وتأتي النجاة باستشعار معية الله ?لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ? (التوبة: من الآية 40).
(12) الاستطلاع الجيد والمخابرات النشطة الفاعلة: وتمثل هذا في تكليف عبد الله بن أبي بكر الغلام الصغير أن يعمل (ضابط مخابرات) لحساب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فهو صغير يجلس في وسط القوم، فلا يعملون له حسابًا، ويتكلمون بما يريدون وينقل هو كل خططهم لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- ولسهولة حركته أيضًا كغلام لا يلتفت له أحد، فهو يجلس معهم طوال النهار، وينطلق في الليل إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- جهاز مخابرات ذكي ونشط وفاعل ولا يخطر على بال أحد.
(13) نفوس قوية لا يصيبها الحزن ولا يعتريها الإحباط: مهما كانت قوة الأعداء ومهما اختلَّت موازين القوى الظاهرة، فمعية الله أقوى من أية قوة، وتأييد الله بجنود غير مرئية يُلقِي في قلوب المؤمنين الهدوء والسكينة والثقة والطمأنينة بحتمية نصر الله ?فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا? (التوبة: من الآية 40).
(14) الأمل في نصر الله: "ارجع ولك سوارا كسرى" كمن يقول الآن "ارجع عن محاربة المسلمين ولك البيت الأبيض" كلام يقوله رسول الله لسراقة، وهو خارج مطارد تطلبه قوى الشر في كل مكان.
هيا نكمل طريق الهجرة يا أمتنا الحبيبة
طريق الهجرة دائم مستمر عبْر نهج رسمه لنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقد قطعت أمتنا بعض الأشواط في طريق هجرتها، ولكنَّ الأمر ما زال يحتاج إلى جهود كبيرة وأشواط كثيرة حتى نكمل طريق الهجرة، ويتمثل ذلك فيما يأتى:
(1) الجهاد والنية: فلا يكتمل طريق الهجرة بدون النية الصالحة لبناء الفرد والأسرة والمجتمع والدولة والأمة بأكملها، ونجعل كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى.
ولا يكتمل طريق الهجرة بدون جهاد النفس والشيطان ومقاومة المادية وأصحاب الأهواء الذين يضيِّعون الأمة، وكذلك محاربة المحتلين أعداء الأمة الذين يستذلونها، وبذلك نحقق حديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية".
(2) هجر ما نهى الله عنه: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه" (رواه البخاري) وفي رواية ابن حبان: "المهاجر من هجر السيئات، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده" هيا نهجُر السيئات.. هيا نهجُر كل ما نهى الله عنه في كل الميادين وعلى كل المستويات بدءًا بالفرد وانتهاءً بالأمة، فتهجر الأمة معاصيَها الكبيرة المتمثلة في الآتي (على سبيل المثال):
1- الاحتلال وتدنيس الأراضي ومقدسات المسلمين من قِبَل الأعداء.
2 - التخلف عن ركب العلم والحضارة وكونها في وسط ما يسمى بالعالم الثالث.
3 - التفرق والتشرذم وعدم اتحاد الكلمة.
(3) الأخذ بمقومات التغيير لإصلاح شأن الأمة: وخاصةً الاهتمام بنشر دعوة الإسلام عبر وسائل الإعلام، فدعوتنا تحتاج إلى الابتكار وتكريس الجهود لتوصيل الفكرة بأسلوب راقٍ ومتميز عن طريق الفضائيات والإنترنت وبشتى لغات العالم، فنقدِّم رسالة الرحمة والإنسانية لكل أمم الأرض.
ومع استمرار الجهود واحتفالنا بالهجرة كل عام عبر التغيير والارتقاء بشأن أمتنا وهجرها لأوضاعها غير السليمة في شئون الدنيا والآخرة سيحدث التغيير المنشود، ويأتي النصر المؤزر المبين بإذن الله.
(4) تحقيق العبادة هجرة إلى الله تعالى: هيا نأخذ بيد أمتنا إلى عبادة الله تعالى، فنقيم الفرائض وننشر الفضائل ونحقق العبادة بمعناها الشامل الذي يتناول مظاهر الحياة جميعًا.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي رواه الإمام مسلم عن معقل بن يسار-: "العبادة في الهرج كهجرة إليَّ".
ــــــــــــ(1/78)
الهجرة مشروع لبناء حضارة إيمانيه جديدة
• عندما هاجر ـ عليه الصلاة والسلام ـ من مكة لم يهجر قلبه تراب مكة ، ولا الكعبة الرابضة فى قلب مكة ، ولقد أعلن ـ عليه السلام ـ ذلك بعبارة صحيحة عندما التفت إلى مكة وهو يودعها قائلاً : إنك لأحب بلاد الله إلىّ ، ولولا أن أهلك أخرجونى ماخرجت.
• وعندما هاجر الرسول من مكة ، لم يهجر قريشاً ، ولا بنى هاشم ، فلقد كان يحب الجميع ويتمنى لهم الهداية والخير ، كما أنه ـ وهو الوفى ـ لم ينس لبنى هاشم ـ مسلمهم وكافرهم ـ مواقفهم معه عندما قادتهم عصبية الرحم فحموه من كل القبائل، ودخلوا معه شعب أبى طالب يقاسون معه ومع المسلمين الجوع والفاقة ، ولا يمنّون عليه بذلك ، مع أنهم على غير دينه ، لكنه الولاء للأرحام.
• فالرسول المهاجر ـ عليه السلام ـ لم يهجركل ذلك بل حمله معه فى قلبه ، يحنّ إلى ذلك اليوم الذى يعود فيه إلى مراتع الصبا ، و إلى الرحم الذى وقف معه حتىّ قال قائلهم وسيدهم أبو طالب : اذهب يا ابن أخى فقل ما شئت فوالله لن أسلمك أبداً.... مع أنه لم يكن على دينه!!
• وإنما كانت هجرة الرسول ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ من مكة هجراً للوثنية المسيطرة التى لايريد أصحابها أن يتعاملوا بمنطق الدين أو منطق العقل أو منطق الأخلاق ... فهذه وثنية يجب أن تهجر وأن يهاجر من مناطق نفوذها وإشعاعاتها.
• وإنما هاجر الرسول أيضاً ، وهجر أيضا ـ إلى جانب الوثنية المسيطرة ـ تلك العصبية المستعلية التى تعرف منطق القوة ، ولاتعرف منطق الحق ، وليس فى وعيها ولا فى قاموسها أن تهادن الإيمان، وأن تترك مساحة للتفاهم والحوار ، وبالتالى تصبح الحياة معها ـ بعقيدة إيمانية بعيدة عن إشعاعاتها ـ أمراً مستحيلاً....
• إننا نريد أن يفهم مضمون الهجرة الإسلامية كما ينبغى أن يفهم ، وأن تكون هجرة الرسول هى المرجعية لهذا الفهم ، فقد بعث محمد ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ (رحمة للعالمين) فكيف تكون إذن رحمته بالقوم الذى انتسب إليهم ، أو بالقوم الذين عاش معهم ، أو بالأرض الطاهرة التى نشأ فيها ، وتربى فى بطاحها وتنسم عبيرها ، وشاهد جموع الزاحفين إلى أرضها الطاهرة من كل فج عميق ؟!!
• إن رحمته ـ بالضرورة هنا ـ لابد أن تكون أكبر من أى رحمه أخرى ...
• ولهذا نراه ـ عليه السلام ـ يرفض دائماً أن يدعو على أهل مكة ، وحتى وهو فى هذه اللحظة البالغة الصعوبة ، عندما وقع فى حفرة حفروها له فى موقعة أحد (3هـ) ، وتناوشته سهامهم من كل مكان ، وسالت دماؤه الطاهرة على جبل أحد الذى كان يتبادل الرسول ـ عليه السلام ـ الحب معه ، لأن بعض قطرات دمائه الزكية قد اختلطت بتراب أحد الطاهر ، فأصبحا حبيبين... !!
• حتى فى هذه اللحظة البالغة الصعوبة لم يستطع لسانه الزكى ، ولا قلبه التقىّ أن يدعو عليهم ، ولا أن يشكوهم إلى الله ، وإنما كان يردد على مسمع من الناس جميعاً: اللهم اهد قومى فإنهم لا يعلمون
• وعندما كان يرى تمادى قريش فى الحرب ، كان يتأسف عليهم ويقول: ويح قريش أكلتهم الحرب لوتركونى لتركتهم ، لايحولون بينى وبين الناس...
• وكم راودته الجبال الشم ـ بأمر من الله ـ أن تطبق عليهم فكان يرفض ويقول : لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله ويوحده. وعندما جاءته فرصة السلام معهم أصرعليها، مع تعنتهم فى الشروط تعنتاً أغضب أصحابه ، لكنه كان يريد لهم الحياة ، وألا تستمر الحرب فى أكلهم ، وألا يبقوا ـ وهم قومه وشركاؤه فى الوطن ـ مستمرين فى تأليب القبائل عليه لدرجة أنهم أصبحوا (العقبة الكأداء) فى طريق الإسلام ؛ مما يفرض عليه بأمر الله الجهاد لإزالة هذه العقبة ، ونجح الرسول فى إزالة عقبتهم بقبول شروطهم المجحفة ، حباً لهم ، وحفاظاً على بقائهم ، وأيضاً لإفساح الطريق أمام دين الله.
• أما حين دخل مكة ـ عليه الصلاة والسلام ـ فاتحا فقد حافظ بكل قوة على كرامتهم ودمائهم ، ولم يقبل مجرد كلمة خرجت من فم سعد بن عبادة ـ أحد الصحابة والقادة الأجلاء ـ وذلك عندما قال :( اليوم يوم الملحمة) فنزع الراية منه ، وأعطاها لابنه قيس وقال (لا: بل اليوم يوم المرحمة ) ، اليوم يعزّ الله قريشاً ...
• وعندما استسلمت مكة كلها تماماً ، ووقف أهل مكة ينتظرون حكمه فيهم مستحضرين تاريخهم الظالم معه ... لكنهم سرعان ما تذكروا أنه الرءوف الرحيم الطاهرالبرىء من رغبات الانتقام أو المعاملة بالمثل... ، فلما سألهم : ماتظنون أنى فاعل بكم ، قالوا ،أخ كريم وابن أخ كريم ،فرد عليهم قائلاً : ( لاتثريب عليكم ) ، وهى كلمة نبى الله يوسف ـ عليه السلام ـ التى قالها لإخوته ، ومنها ندرك أنه اعتبرهم جميعاً اخوته ، كأنهم اخوة يوسف ( عليه الصلاة السلام ) ،ثم أعلن العفوة العام بتلك الجملة الخالدة :اذهبوفأنتم الطلقاء لوجه الله تعالى فكأنه أنقذهم من الموت الزؤام عليه الصلاة والسلام.
* * * * * *
ونقول للمهاجرين من أبناء عصرنا لظروف سياسية أو اقتصادية أو دعوية إلى بلاد غير إسلاميه :
هذه هى هجرة رسول الله بين أيديكم ، وهى كتاب مفتوح فأمعنوا القراءة فيه ، لتدركوا منه أن هجرتكم من بلادكم لأى سبب من الأسباب ، لاتعنى القطيعة مع أرض الوطن ، ولا مع الأهل والعشيرة ، ولا مع المسلمين فى أى مكان ، مهما تكن الخلافات الظرفية الطارئه معهم... بل يجب أن تبقى الصلة قائمة بينكم وبين الأهل والقوم، تمدونهم بأسباب الحفاظ على الدين من مواقعكم ، لكى يثبتوا ويمتدوا بإشعاعات الإيمان إلى أكبر مدى ممكن ، لاسيما ووسائل التواصل الأن فى أقوى مستوى عرفته البشرية ، وبالتالى تكونون قد وصلتم الرحم، وجمعتم بين الثلاثية المتكاملة التى تمثل بأركانها الثلاثة وحدة لا تنفصم ، وإلا فقدت الأمة (مكانة الخيرية) التى رفعها الله إليها عندما قال : " كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله " ... إنها ثلاثية الإيمان ،و الهجرة ، والجهاد .
• أجل : فى عصرنا هذا يجب أن يعود معنى الهجرة إلى منبعه النبوى ، فليست الهجرة هجراً للوطن ، وقطيعة تاريخية أو معرفية معه ، بل هى هجرة موصولة بالماضى ، تعمل على تعميق الإيمان فيه ، وتبنى قلاعاً للإيمان فى المهجر الجديد ، وتصل بين الماضى والحاضر والمستقبل انطلاقاً من درس الهجرة النبوية .
* * * * * *
• إن الحرية التى تريد أن تتمتع بها فى مهجرك ، والثروة التى تريد أن تكوّنها ..، وحتى الدعوة التى تريد أن تبلغها إن كنت ممن اصطفاهم الله للدعوة والبلاغ ... كل هذه تدفعك إلى التواصل مع الماضى من جانب ، وتدفعك إلى بناء حدائق للإيمان يفوح عطرها فى وضعك الجديد ، وبلدك الجديد ـ من جانب آخر .
• ليكن معنى الهجرة واضحاً فى وعيك ، فهى ليست هجرة من أرض ولا أهل إلى أرض وأهل آخرين ، بل هى هجرة من قيم ضيقة ضاغطة تكبل حركة الإيمان ، وتفتعل الصدام المستمر ، وترفض الحوار بين الأفكار والعقائد ـ إلى قيم أخرى تسمح لأشجار الإيمان أن تنمو، وتسمح بالتفاعل والتحاور ، ومواجهة الرأى بالرأى ، والحجة بالحجة ، وتكون مؤهلةلأن تسمح لأهل الإيمان والحق أن يعيشوا كما يريدون ، وأن يبنوا قلاع الإيمان فى النفوس عن طريق الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ، والجدال بالتى هى أحسن !!
• إن الهجرة النبوية الإسلامية هجرة يقصد بها كسر القيود التى تفرض على الإيمان ، وفتح نوافذ أخرى فى أرض جديدة ، وليست الهجرة الإسلامية أبداً من تلك الهجرات التى تعنى زحفاً على البلاد للاستيطان فيها على حساب أهلها ، أو لتحقيق الثروة ثم الخروج بها ، أو للاعتماد عليها لقهر أصحاب البلاد الأصليين ، وجعلهم مجرد منفذين وأدوات لمشروعات وطموحات المهاجرين إليهم .
• وليست الهجرة ـ فى المفهوم الاسلامى قبل عصرنا أو فى عصرنا ـ إنشاءً لكيانات أو (لوبيات) مسيطرة ، أو (أحياء مغلقة) تعتزل الناس فتخرج من الأنباء مجموعة مستعلية رافضة تحمل قلوباً حاقدة ، بل على العكس من ذلك ، فالهجرة الإسلامية اليوم إلى أىّ بلد فى العالم ـ يجب أن تكون هجرة تسعى إلى التواصل و التعارف و التحاور والحب؛ بحيث يشعر كل الناس أنّ الأفراد المسلمين أو الجماعات الإسلامية التى تعيش بينهم إنما تمثل روحاً جديدة، تبنى ولا تهدم ، وتزرع الخير ، و تقاوم الشر ، ولا تعرف التفرقة فى ذلك بين المسلم وغير المسلم ، والوطنى ، و الوافد ، والأبيض والأسود .
• وكل ذلك لن يتحقق إلا إذا رأى الناس فى المسلم المهاجر إليهم من خلال أقواله وأفعاله ، وإسهاماته الخدميّة ، وآفاقه المعرفية ، وعبوديته لله ـ شخصية متميزة جادة تفعل ما تقول ، وتعيش معهم حياتهم اليومية ، وآمالهم، وآلامهم، يفيض منه الخير والنور ، تلقائياً وعفوياً ، كأنه بعض ذاته ، وكأنه مرآة قيمه ، وصدى أخلاقه ، وأثر منهجه فى الحياة ...
• وهنا يتساءل الناس من غير المسلمين :
• من أين لهذا المهاجر كل هذا الخير والنور ؟
• من أين له هذه الإنسانية المتدفقة ؟
• ومن أين له هذه الرحمة التى تعم الإنسان ـ( كل انسان) بل والحيوان والنبات أيضاً
• سيصلون حتماً إلى الإجابة الصحيحة ، وهى أن هذا الإنسان يرتشف من نبع الأنبياء ، ويستمد وعيه الحضارى ومشروعه الانسانى الرحيم من نبيه وإمامه ، وإمام المسلمين الأعظم ، بل وإمام الإنسانيه محمد ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ ... فقد كانت هجرته المباركه روحاً جديدة ، عبر عنها أحد
الصحابه الكرام ( أنس بن مالك رضى الله عنه ) فى قولته المعروفة التى ذكر فيها أنه عندما دخل الرسول المدينة بعد نجاح هجرته :" أضاء منها كل شىء وعندما مات عليه السلام أظلم فيها كل شىء " وهذا على العكس من مكة التى تسلل منها المسلمون هاربين بدينهم ، فأظلم فيها كل شىء ، ولم يبق فيها إلا الطغيان ، والنزوع إلى الحرب ، فلما فتحها الرسول عليه السلام انبعث فيها النور ، وأضاءت الكعبة ، وجاء الحق وزهق الباطل ، وأصبحت مكة قلعة الإسلام الأولى .
إن هذا المعنى للهجرة يجب أن يبقى فوق كل العصور لأنه اتصل بنبىّ الرحمة فى كل العصور وكل الأمكنة ، وأصبح ـ بالتالى ـ صالحاً لكل زمان ومكان، صلاحية كل حقائق الإسلام الثابته.
• ولئن كنا نؤمن بأنه ( لا هجرة بعد الفتح ) كما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فإننا يجب أن نؤمن فى الوقت نفسه ببقية الحديث، وهو قول الرسول : ولكن (جهاد ونية ) ، وهذا يعنى أن الهجرة بعد مرحلة الهجرة الأولى قد أخذت بعداً اصطلاحياً جديداً ، ففى البعد الأول كانت الهجرة مرتبطة بمكان هو المدينة ، ولكنها بعد ذلك أصبحت مطلقة من المكان ، فهى إلى أى مكان شريطة أن يكون ( الجهاد والنية ) هما الهدفين المغروسين فى النفس ، فهما ـ أى الجهاد والنية ـ قد انفصلا عن قيد وحدة المهجر(المدينة) الذى كان فى صدر الدعوة، وأصبحا صالحين فى كل العالم يمشيان مع رجال الدعوة والبلاغ، ويضمنان سلامة الأعمال وارتفاعها على المنافع الاقتصادية أو الظروف السياسية .
* * * * * *
• وعندما يستقّر هذا المعنى فى النفس نستطيع أن نطمئن إلى أن أبطال الدعوة والبلاغ سينشئون فى كل مكان يحلّون فيه حديقة جديدة للإيمان، وتاريخاً جديداً يبدأ كأشعة الشمس فى الصباح، ثم ينساب عبر كل زمان منطلقا إلى مساحة جديدة فى الأرض .
• وعلى المسلمين إذن ـ عندما يكونون فى أرض المهجرـ أن يسارعوا إلى الالتحام ببعضهم، وتكوين مجتمع إيمانى يقوم على( المؤاخاة) التى ترتفع فوق الأخوة، وهى مستوى خاص فوق أخوة الإيمان التى هى مستوى عام ، وأن يتكافلوا مع بعضهم تكافلاً مادياً ومعنوياً ، تحقيقاً لقوله تعالى ( وتعاونوا على البر والتقوى ) وقوله أيضاً ( وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر )
• والتكافل ( المادى ) يعنى التعاون على ضمان الحد الأدنى المطلوب للحياة لكل أخ مسلم، طعاماً أو شراباً أو علاجاً أو تعليماً أو كساءً ، والتكافل ( المعنوى ) هو التعاون على ضمان التزام ( الإخوة ) فى الإسلام بأداء ( الفرائض ) والبعد عن ( المآثم ) ، وتفعيل وظيفة الأمر بالمعروف وألنهى عن المنكر فى إطار البيئة التى يعيشون فيها وبالأساليب المناسبة لها ، وعليهم أيضاً أن يبنوا ( مسجداً ) يضم الرجال والنساء والأطفال ، مهما يكن مستواه متواضعاً ، فقد حذرنا الرسول من وجود عدد مهما سكن قليلاً من المسلمين لا تقاوم الجماعة فيهم ، كما أن ( المسجد ) سيكون محور لقاءاتهم وتعارفهم وتكافلهم المادى والمعنوى ... ومن المسجد ينطلقون إلى صور من التكامل فيما بينهم تأخذ طابعاً علمياً ومؤسساتياً يجعل لهم قيمة وتأثيرا وإشعاعاً فى مهجرهم الجديد .
• لقد أخبرنا الرسول عليه الصلاة والسلام أن مما فضل به على بقية الأنبياء أن الأرض ( جعلت له مسجداً ) ... وقد حقق المسلمون السابقون العظماء ( مسجدية الأرض ) فى كل الأرض التى هاجروا إليها ، فهل يمكننا أن نستأنف المسيرة ونحذوا حذوهم ، فلعل الأرض تتخلص من شياطين الإنس والجن ، ونعود مسجداً .
• ولعل الله يجرى على أيدينا وأيدى المسخلفين من بعدنا نهراً جديداً للإيمان ، وتاريخاً جديداً تتعانق فيه راية الوحى مع العلم ، والحق مع القوة ، ويسود العدل الإسلامى والرحمة المحمدية العالمية كل الكون ... وما ذلك على الله بعزيز !!
الهجرة مواقف ودروس
تعتبر الهجرة النبوية المباركة من مكة إلى المدينة أهم حدث في تاريخ الدعوة الإسلامية، إذا كانت نقطة تحول في تاريخ المسلمين من أمة دعوة يبلغون دعوة الله للناس دون أن يكون لهم كيان سياسي يحمي الدعاة، إلى دولة الدعوة التي أخذت على عاتقها نشر الإسلام، وتتكفل بالدفاع عنهم وحمايتهم من أي اعتداء.
لقد كانت الهجرة النبوية خطوة مباركة في الطريق إلى النصر والعزة والسيادة، ومن أجل العقيدة والمبدأ، وفي سبيل الله هاجر الرسول- صلى الله عليه وسلم- وصحبه الكرام، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله؛ فهجرته إلى الله ورسوله.
والهجرة هي التطبيق العملي لهذه الرسالة الخالدة يكشف عن معادن الرجال وعن الإيمان وما يضعه في النفوس حين يكتمل فيها ويستقر، ولقد تحول المسلمون المهاجرون إلى كتلة من الحب والوفاء لقائدهم والتضحية بكل شيء في سبيل عقيدتهم، والمبدأ الذي بايعوا عليه، ويظهر هذا الحب العميق الذي سيطر على قلب "أبي بكر الصديق" لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- في الهجرة فنرى مواقف عدة تعبر عن هذا الحب الرباني منها:
• ولما انتهيا إلى الغار قال أبوبكر: والله لا تدخله حتى أدخل قبلك فإن كان فيه شيء أصابني دونك، فدخل فكسحه، ووجد في جانبه ثقبًا فشق إزاره وسدها به وبقي منها اثنان فألقمها رجليه ثم قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: أدخل فدخل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ووضع رأسه في حجره ونام، فلُدغ أبو بكر في رجله من الجحر، ولم يتحرك مخافة أن ينتبه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فسقطت دموعه على وجه رسو الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: مالك يا أبا بكر؟ قال: لُدِغت فداك أمي وأبي، فتفلَّ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فذهب ما يجده.
ونتعلم من هذا الموقف ذلك الحب النابع من القلب بإخلاص ولم يكن حب نفاق أو مصلحة أو رغبة في منفعة، هذا الحب الذي يدفع إلى الفداء والتضحية والحرص على راحة النبي- صلى الله عليه وسلم.
• وعندما جاء عبدالله بن أريقط بالراحلتين، وحينئذٍ قال أبو بكر للنبي- صلى الله عليه وسلم: بأبي أنت يا رسول الله خذ إحدى راحلتي هاتين، وقرب إليه أفضلهما، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالثمن.
ونتعلم من هذا الموقف إيثار أبو بكر- رضي الله عنه- وعفة النبي- صلى الله عليه وسلم.
• وكان من دأب أبي بكر- رضي الله عنه- أنه كان ردفًا للنبي- صلى الله عليه وسلم- وكان شيخًا ونبي الله- صلى الله عليه وسلم- شابًا لا يُعرف، فيلقى الرجل أبا بكر فيقول: مَن هذا الذي بين يديك؟ فيقول: هذا الرجل يهديني الطريق، فيحسب السائل أنه يعني به الطريق، وإنما يعني سبيل الخير، ونتعلم من هذا الموقف هذا الأدب الجم والاحترام والتقدير للقيادة.
• ويظهر أثر التربية النبوية في جندية "أبي بكر الصديق"، فأبو بكر- رضي الله عنه- عندما أراد أن يهاجر إلى المدينة وقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم- "لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحبًا" لقد كان يدرك بثاقب بصره- رضي الله عنه- أن خطة الهجرة قد تأتي فجأة، فأعد عدته وأخذ أهبته وأعد كل أفراد أسرته ليكون لهم دور في هذه الخطة.. تلك هي الجندية الصادقة التي تحول الإشارة والتلميح إلى إعداد وتجهيز مع حسن الطاعة والالتزام. ولنعلم أن القيادة الراشدة هي التي تستطيع أن تقود الأرواح قبل كل شيء، وتستطيع أن تتعامل مع النفوس قبل غيرها، وعلى قدر إحسان القيادة يكون إحسان الجنود، وعلى قدر البذل من القيادة يكون الحب من الجنود؛ فقد كان النبي- صلى الله عليه وسلم- رحيمًا وشفيقًا بجنوده وأتباعه فهو لم يهاجر إلا بعد أن هاجر معظم أصحابه.
• إن الهجرة سنة من سنن الله مع أنبيائه ورسله منذ آدم عليه السلام وهي سنة ماضية لا تتخلف لمن طلب لدينه النصر، وقد ضُيق عليه ومُنع من تبليغ دعوته، وفتن هو ومن معه من المؤمنين.. قال تعالى: ?إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا* إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً* فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا? (النساء:97-99).
والهجرة هي إيواء المؤمنين، ورعايتهم في جوار الله تعالى، يقول الحق سبحانه وتعالى: ?وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا? (النساء:100) ويقول سبحانه ?وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ?. (الأنفال: 26).
ــــــــــــ(1/79)
الهجرة والأمل في النصر
أ. سيد نزيلي
الهجرة النبوية بداية عهد جديد للأمة الإسلامية، وقد عانى المسلمون في مكة ثلاثة عشر عامًا.. عانوا أشدَّ ألوان الاضطهاد والإيذاء والإيلام.. وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يمر على المعذَّبين منهم ولا يملك إلا أن يقول: "صبرًا آل ياسر فإنَّ موعدكم الجنة".. وقتها لم تكن الدعوة قادرة على ردِّ العدوان ودفع الأذى.. ووقف العسف والظلم.. ولم يكن الرسول- صلى الله عليه وسلم- يُمني المستضعفين بقرب فتح أو تمكين، وبحلول نصر عاجل، أو بُشارة مغنم دنيوي عاجل.. وكان الخطاب الرباني لهذه الفئة المستضعفة.. القوية بإيمانها.. الشديدة التعلق بربها ?أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ? (النساء: 77) فكفُّ اليد، وإعداد الفرد الرباني، وتحرير القلوب والنفوس من كل الجواذب والتعلقات.. وربطها توًّا بالله عز وجل.. وقتها أحست هذه النفوس بالاستعلاء بالإيمان، وبالقوة والعزة ?مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا? (فاطر :9).
إنَّ المرحلة التي سبقت هجرة الرسول- صلى الله عليه وسلم- كانت مرحلة صقل وتمحيص، وإعداد وتأسيس، وتجهيز اللبنات الصالحة لقيام بنيان قوى متين.. وقد تعهدهم- صلى الله عليه وسلم- بالتربية، وخلعهم من رواسب الماضي، وأخذ بأيديهم إلى نور الهداية وصواب الطريق، وكان هناك معلمان بارزان:
الأول: أنَّ المنهج الرباني التربوي في عهد الرسول- صلى الله عليه وسلم- وفي كل زمان إنما ينقل النفوس من الموت إلى الحياة ?أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا? (الأنعام: 122)، فالحياة الحقة في ميزان الإسلام هي للمؤمن الصادق.. العارف حق ربه.. ينطلق في هذه الدنيا ليملأها فضلاً وخيرًا وعفافًا وطهرًا.
الثاني: أن هذا الدين قد أخرج المؤمنين من الظلمات إلى النور ?اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ? (البقرة: 257).
هذا ما تربى عليه الرعيل الأول الذي تلقى الهداية مباشرةً من نور النبوة.. وهو نفس النهج الذي يسير عليه الصالحون في كل زمان، الذين يعملون لنصرة الإسلام والتمكين له. ولذلك فإنَّ المسلم الصادق ينطلق بهذا النور إلى الدنيا كلها؛ يعمرها بالإيمان ويحييها بالقرآن، وهو نفس المعنى الذي ترجمه "ربعي بن عامر"- رضوان الله عليه- الذي خاطب "رستم" قائد الفرس قائلاً: "ابتعثنا الله ليُخرج مَن شاء من عبادة العباد، إلى عبادة ربِّ العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة"، والإسلام قدَّم- ومازال- نماذجَ رائعة النقاء والطهر والسمو والرفعة.
ومن دروس الهجرة.. أن يملأ الأمل في نصر الله نفوسَ المؤمنين الصادقين؛ ذلك أنَّ نصر الله قريب من المؤمنين، و?إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا? (الشرح:5) ?وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ? (يوسف: 21) وأنه ?كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي? (المجادلة: 21)، والمسلم لابد أن يعيش هذا الأملَ ويملأ قلبه الثقة واليقين بوعد الله عز وجل.. ونستطيع أن نستجلي ذلك في موقفين:
الأول: عندما أعلنت قريش عن جائزة كبرى "100" مائة ناقة لمن يدل على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وصاحبه، ويمنعهما من الهجرة ويُعيدها إلى مكة.. وقد أغرى ذلك "سراقة بن مالك".. وجهز راحلته وسلاحه، ومضى في إثر رسول الله-صلى الله عليه وسلم- وصاحبه يريد اللحاق بهما والقبض عليهما.. وما كاد يقترب منهما حتى ساخت أرجل فرسه في الأرض، فلا يستطيع حركة.. ويستعطف رسول الله أن يعفو عنه ويستغفر له، وتعهد بعدما رأى الآية ألا يُؤذي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ولا يدل عليه، ولا يعين أحدًا كذلك على الإضرار به، وأهمُّ ما في بعض الروايات في هذا الموقف أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وعد "سراقة بن مالك" أن يرجع ويكون له "سواري كسرى"، وكتب له كتابًا وعهدًا بذلك.. وقد أسلم "سراقة" وحسن إسلامه بعد فتح مكة. ولمَّا فتح الله على المسلمين بلاد فارس بعد حادث الهجرة بحوالي عشرين سنة في خلافة "عمر بن الخطاب"- رضي الله عنه- وعندما جاءت الغنائم إلى المدينة، ومن بينها "سواري كسرى" طالب "سراقة بن مالك" بحقه بعدما أظهر صكًا بذلك من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأعطاهما إليه عمر.
الثاني: أنَّ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بعد أن أمر المسلمين بحفر الخندق في شمال المدينة المنورة لمنع قوى الأحزاب المتألبة من دخولها وغزوها.. شارك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الحفر، ولمَّا اعترضته صخرة عظيمة.. كان-صلى الله عليه وسلم- يضربها بالمعول فتخرج شرارًا.. فيقول- صلى الله عليه وسلم- "الله أكبر فتحت قصور قيصر.. الله أكبر خربت خيبر".وهكذا فإنَّ الأملَ في نصر الله، والتمكين لدين الله كان دائمًا يبشر به رسول الله-صلى الله عليه وسلم- حتى في أشدِّ حالات التضييق والحصار.
وفي أيامنا هذه.. تواجه الأمة الإسلامية شتى ألوان الحصار والتجنيب والتهميش، ومهما اشتدَّ الكرب، وتجمع الأعداء من كل حدب وصوب.. وتكالبت جميع القوى.. ومهما كان يُعانيه الإخوة الفلسطينيون من قتل وتشريد وتخريب وتجريف، ومهما كان شأن الاحتلال الأمريكي الشرس للعراق وأفغانستان، ومهما بدت الصورة معتمة إلى حد ما، ومهما حاول طمس معالم الشخصية الإسلامية بالتدخل في تعديل وتغيير مناهجها الدراسية والتعليمية لصوغها، وفق أهوائهم وسلبها أهم مقوماتها الأساسية.. وهي القرآن والسنة والجهاد، أقول مهما فعلوا ذلك كله وغيره.. إلا أننا على ثقة ويقين بأنَّ الإسلام سيظل سليمًا محفوظًا؛ فهو محفوظ بحفظ الله له، وبقيام فئة مؤمنة واثقة تعمل له، وتحيا من أجل الدفاع عنه.. تتخذ الله غايتها، والقرآن دستورها والرسول قائدها والجهاد سبيلها والموت في سبيل الله أسمى أمانيها.
?وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ? (يوسف: 21).
? من قيادات جماعة الإخوان المسلمي
ــــــــــــ(1/80)
الهجرة والمهاجرون
1- نصوص مضيئة على أحداث الهجرة :
النص الأول : الهجرة إلى الحبشة :
"لما اشتد البلاء من قريش على المستضعفين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسطت بهم عشائرهم ولقوا منهم أذى شديدا، ثم إن رسول الله لما رأى ما يصيب أصحابه من البلاء وأنه لا يقدر على أن يحميهم ويمنعهم مما هم فيه، قال لهم : لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه، فخرج عند ذلك المسلمون إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة وفرارا إلى الله بدينهم، فكانت أول هجرة في الإسلام" .
النص الثاني : الهجرة إلى المدينة
"كانت بيعة العقبة الثانية، بيعة حرب الأحمر والأسود مقابل الجنة، ولما صدر السبعون من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، طابت نفسه، فقد جعل الله له منعة، وقوما أهل حرب وعدة ونجدة، وجعل البلاء يشتد على المسلمين من المشركين، لما يعلمون من الخروج، فضيقوا على أصحابه، وتعبثوا بهم ونالوا ما لم يكونوا ينالون من الشتم والأذى، فشكا ذلك أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واستأذنوه في الهجرة فقال : لقد أخبرت بدار هجرتكم وهي يثرب، فمن أراد الخروج فليخرج إليها، فهاجر القوم أرسالا فنزلوا على الأنصار في دورهم فآووهم ونصروهم وآسوهم" .
النص الثالث : هجرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - :
"لما أذن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالخروج، انطلق إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فأمره أن يتخلف بعده بمكة ريثما يؤدي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الودائع التي كانت عنده للناس، إذ لم يكن أحد من أهل مكة له شيء يخشى عليه إلا استودعه عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما يعلمون من صدقه وأمانته، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرج معه أبو بكر... ولما كانت عتمة الليلة التي هاجر فيها النبي صلى الله عليه وسلم، اجتمع المشركون على باب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتربصون به ليقتلوه، لكنه خرج من بينهم وقد ألقى الله عليهم سنة من النوم بعد أن ترك عليا في مكانه نائما على فراشه وطمأنه أنه لن يصل إليه أي مكروه" . فسار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وواصل مسيرته حتى وصل إلى المدينة، وخرج المهاجرون والأنصار لاستقباله فرحين بقدومه.
2- الهجرة والمهاجرون :
جاء في اللسان في مادة "هـ، ج، ر'''''''''''''''''''''''''''''''' قوله : الهجر ضد الوصل، هجره يهجره هجرا وهجرانا، صرمه، وهما يهتجران ويتهاجران والاسم الهجرة ... يقال : هجرت الشيء هجرا، إذا تركته وأغفلته، وهجر فلان الشرك هجرا وهجرانا، والهجرة والهجرة : الخروج من أرض إلى أرض" .وجاء في المفردات : الهجر والهجران مفارقة الإنسان غيره إما بالبدن أو باللسان أو بالقلب . والهجرة عند العرب خروج البدوي من باديته إلى المدن وكذلك كل مخل بمسكنه متنقل إلى قوم آخرين بسكناه فقد هاجر قومه.
ووردت مادة "هـ، ج، ر" في القرآن الكريم أكثر من عشرين مرة تمحورت حول المعاني التالية :
*هجرة الشرك بجميع أصنافه وألوانه، وكل المعتقدات الجاهلية المخالفة لمعتقدات الإسلام، يقول الله تعالى في سورة المدثر "والرجز فاهجر" "واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا" المزمل.
*هجران الشهوات والأخلاق والعادات الذميمة، وتركها ورفضها وكل المعاصي والذنوب "والرجز فاهجر" المدثر 5.
*الخروج من دار الكفر إلى دار الإيمان كمن هاجر من مكة إلى المدينة "ومن يخرج من بيته مهاجرا، ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله" النساء 100.
*الهجرة مزيد من البذل والتضحية والصدق في سبيل الله : "فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم" آل عمران 195.
*الهجرة مقام من مقامات الإيمان والإحسان والولاية : "للفقراء والمهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا، وينصرون الله ورسوله، أولئك هم الصادقون" الحشر 41 "الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله" التوبة /20 "والذين آمنوا ولم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا" الأنفال 73/.
وذكرت الهجرة في أحاديث كثيرة منها "لا هجرة بعد ثلاث" يقصد به الهجر ضد الوصل، يعني فيما يكون من المسلمين من عتب وموجدة أو تقصير يقع في حقوق العشرة والصحبة دون ما كان في ذلك من الدين.
وفي حديث آخر "ومن الناس من لا يذكر الله إلا مهاجرا" يريد هجران القلب وترك الإخلاص في الذكر، فكأن قلبه مهاجر للسانه غير مواصل له، ومنه حديث أبي الدرداء رضي الله عنه "لا يسمعون القرآن إلا هجرا" يريد الترك له والإعراض عنه. كما أن الهجرة مستمرة إلى قيام الساعة "لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة" وتأخذ الهجرة معنى الجهاد في الحديث التالي : "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية".
3- الدعوة وسنة الابتلاء :
لما نزل قوله تعالى : "فاصدع بما تومر" قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصدع بالدعوة إلى الله تعالى، فاشتد أذى المشركين له ولمن استجاب لدعوته، وهذا الابتلاء سنة الله في الدعوات يقول الله عز وجل : "أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما ياتكم مثل الذين خلوا من قبلكم، مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله، ألا إن نصر الله قريب" .
فمن آمن امتحنه الله عز وجل وابتلاه، ليتبين الصادق من الكاذب فمن صدق وصبر كانت له العاقبة في الدنيا والآخرة، فلا يحصل التمكين إلا بعد الابتلاء، سئل الشافعي رحمة الله أيها أفضل للرجل : أن يمكن أم يبتلى ؟ قال : لا يمكن حتى يبتلى .
أ- الابتلاء بالحرب النفسية :
لقد عرف - صلى الله عليه وسلم - في أوساط الجاهلية بمحمد الأمين، وكانوا يحكمونه في خلافاتهم ويأتمنونه على ودائعهم، ولما أخبرهم أنه رسول من عند الله كذبوه واتهموه ونعتوه بأقبح النعوت وقالوا عنه ساحر كذاب "وقال الكافرون هذا ساحر كذاب" سورة "ص" آية 4، وقالوا مجنون وقالوا كاهن، كانوا يستهزؤون بأصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويلمزونهم ويطلقون عليهم أصنافا من الإشاعات.
بـ- الابتلاء بالاضطهاد والتعذيب:
بينما النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي في الحجر بالكعبة إذ أقبل بن أبي معيط فوضع ثوبه في عنقه فحذفه حذفا شديدا، فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبه ودفعه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال :'''''''''''''''''''''''''''''''' أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله'''''''''''''''''''''''''''''''' رواه البخاري.
إن المشركين عدوا على من أسلم واتبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أصحابه، فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين، فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش برمضاء مكة إذا اشتد الحر، يفتنونهم عن دينهم، فمنهم من يفتن من شدة البلاء ومنهم من يصلب لهم ويعصمه الله منهم."
ج ـ المقاطعة الاقتصادية والاجتماعية :
لما أخذ أمر الإسلام يفشو ويتعاظم في القبائل، اجتمعت قريش وائتمروا بينهم أن يكتبوا كتابا يتعاقدون فيه على بني هاشم وبني المطلب على أن لا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم ولا يبيعوهم شيئا ولا يبتاعوا منهم، فلما اجتمعوا لذلك كتبوه في صحيفة، ثم تعاهدوا وتواثقوا على ذلك وعلقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيدا على أنفسهم" .
د- الابتلاء بالإغراء والمساومة : ونجد هذا في النص الآتي :
"إنا قد بعثنا إليك لنكلمك، و إنا والله ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه مثل ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء، وعبت الدين وشتمت الآلهة، وسفهت الأحلام، وفرقت الجماعة، فما بقي أمر قبيح إلى قد جئته فيما بيننا وبينك، فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به الشرف فينا فنحن نسودك علينا، وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه قد غلب إليك فربما كان ذلك، بذلنا لك أموالنا في طلب الطب حتى نبرئك منه أو نعذر فيك. فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما بي ما تقولون، ما جئت بما جئتكم به أطلب مالا في أموالكم، ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولا وأنزل علي كتابا وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا" وهذا الأمر قد تكرر مرات متعددة في صور مختلفة.
هـ- الابتلاء بالقتل والاغتيال :
قال الله عز وجل : "وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك، ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين" الأنفال 30.
لما رأى المشركون أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد هاجروا إلى المدينة وتحصنوا بها خافوا من تعاظم أمر هذه الدعوة، فاجتمع الملأ من قريش وتشاوروا في أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واتفقوا على اغتياله وتفريق دمه بين القبائل من خلال أخذ من كل قبيلة فتى شابا جلدا ثم يعطى كل منهم سيفا صارما ثم يعمد إليه فيضربوه ضربة رجل واحد فيقتلوه كي لا يقدر بني عبد مناف على ضربهم جميعا" .
ثم مضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر إلى غار ثور فدخلاه وضرب العنكبوت على بابه، ثم تابعا سيرهما إلى المدينة بعد أن قضيا به ثلاثة ليال حتى يئس المشركون من الظفر بهما، ففكروا في جعل دية لمن جاء بهما وسمع قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر يكثر الالتفات وقال أبو بكر : هذا سراقة بن مالك قد رهقنا، فدعا عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فساقت يدا فرسه في الأرض، فقال : قد علمت أن الذي أصابني بدمائكما فادعوا لي ولكما علي أن أرد الناس عنكما فدعا له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأطلق.
ولما وصلا المدينة وجدا النبي - صلى الله عليه وسلم - الأنصار والمهاجرين ينتظرونه في شوق واستقبلوه بالتكبير والتهليل وزغاريد النسوة" .
كان أول عمل قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم، بناء مسجد قباء والمؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين.
4- خلاصة :
بهجرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تكون الدعوة الإسلامية انتقلت من مرحلة الاستضعاف إلى مرحلة التمكين وبناء الدولة الإسلامية على أكتاف الذين آمنوا من المهاجرين والأنصار.
هؤلاء المهاجرون قد تحملوا مختلف أصناف الأذى والابتلاء، بدءا بالتعذيب النفسي والجسدي والحصار الاقتصادي والاجتماعي، وانتهاء بترك الديار والأموال والأهل والأبناء في سبيل نصرة الدعوة والتمكين لها والإيمان بهذا الدين وتبليغه للناس.
وهذا لن يتأتى إلا بهجرة الوسط المفتون الذي ربى ذهنية رعوية يفعل بها ولا تفعل، وأنانية مستعلية وعادة موروثة تابعة.
إن للهجرة معاني متجددة، بدأ الإسلام غريبا وقد أخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه سيعود غريبا كما بدأ، وكما انتشر وانتصر في غربته الأولى فسينتشر وينتصر في غربته الثانية، بالمهاجرين والأنصار. فكل من آمن بدين الله ودعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وابتلي وأوذي في الله كما أوذي وابتلي السابقون من المهاجرين، وبذل ما بذلوا، نال شرف الهجرة ومقاماتها مهما كان زمانه ومكانه وسمي مهاجرا لقوله عز وجل : "والذين اتبعوهم بإحسان" فكل متبع لهم بإحسان فهو لاحق بهم ومنهم.
الهوامش:
1 فقه السيرة، محمد سعيد رمضان البوطي، ص 146-147.
2 طبقات ابن سعد ج1/ ص 211 تاريخ الطبري ج 1/ ص367.
3 فقه السيرة محمد سعيد رمضان البوطي ص 146-147.
4 لسان العرب، ابن منظور، ج 5 ص 250-251.
5 معجم مفردات القرآن الكريم، الراغب الأصفهاني 6 زاد المعاد، ابن القيم الجوزية. ج 3 ص 13. 7 المرجع نفسه ج I ص 317. 8 التابع من الجن.
9 سيرة ابن هشام ج 1 ص 301-302.10 فقه السيرة، رمضان البوطي، ص 177-178.11طبقات ابن سعد ج 1 ص 253.
ــــــــــــ(1/81)
الهجرة والنصرة
ذ. عبد السلام ياسين ...
روى الإمام مسلم عن معقل بن يسار أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "العبادة في الهرج كهجرة إلي".الهرج القتل بغير حق. والفتنة أشد من القتل. فمعنى الحديث الشريف أن الصادق عندما يكذب الناس، والمستميت على دينه عندما يفتن المؤمنون ويقتلون في درجة المهاجرين.
نقل الحافظ ابن حجر عن القاضي عياض أن العلماء اتفقوا على أن الهجرة من مكة كانت واجبة على المسلمين قبل الفتح. وأن سكنى المدينة كانت واجبة عليهم لنصرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومواساته بالنفس.وهكذا يجب على المؤمنين، من كان منهم صادقا لا تنكسر عزماته أمام التهديدات والمخاوف، أن ينضم إلى إخوته لينصرهم في جهادهم ويواسيهم بنفسه. كانت الهجرة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - حركة من مكان إلى مكان، ألزمتها ضرورة التجمع لمواجهة العدو وحماية بيضة الإسلام، أي عاصمته ومقر إمارته. أما الآن ودار الإسلام واسعة، وأقطارها متفرقة ووسائل العصر وطبيعة المواجهة مختلفة، فالهجرة والنصرة في حق الصادقين لا تطلب نقلة من مكان إلى مكان بعينه. التجمع المطلوب والاستنفار الواجب يتمان بربط المؤمنين في التنظيم القطري وإحكام تحركه عبر المكان وفي كل مكان. وخروج الوافد على الجماعة في سياحات الدعوة ومعسكرات الشباب يتيح له أن يبتعد عن مألوفاته وينقطع عن بيئته المرفهة الغافلة. وبذلك يطوي المراحل في قطع حبال الجاهلية والارتباط المتين بالجماعة. ومتى تم تحرير قطر كان واجبا على المؤمنين خارجه أن يخفوا لنصرة إخوتهم وإمدادهم بالكفاءات والخبرات والتأييد المادي والمعنوي.وعلى كل قطر تحرر أن يخصص جهوده لدعم الحركات القطرية الأخرى ونصرها.
هكذا نتصور الهجرة والنصرة تنظيما.
ــــــــــــ(1/82)
الهجرة والنفرة معاً على الطريق
الجمعة 3/2/2006م
قمر كيلاني
بينما كانت (القصواء) ناقة الرسول محمد (ص) تشق سواد الليل من مكة إلى المدينة في الهجرة النبوية الشريفة
مخترقة حجب الظلم والظلام كانت مكة بغطرسة كفارها والوثنيين منها تترصد أي خبر.. أو ملمح أثر لتعقب المهاجرين العظيمين الرسول وصاحبه أبي بكر.. وتدفع لذلك كل ما أوتيت من مال وقوة ونفوذ لكنها خابت في مسعاها.. وانبثق النور الذي عم العالم القديم كله.. من المدينة حتى أقاصي الحبشة والهند والصين أيضاً مروراً بآسيا الوسطى كلها وما كان منها من رسوخ لحضارات توالت عليها القرون بالمئات. إنها الهجرة التي هي بدء لتاريخ.. وانتهاء لتاريخ.
انتهاء لتاريخ آخر في استعباد الإنسان لأخيه الإنسان.. وعبادة صارمة للأوثان وحتى لنصب أحجارها وأصنامها وتماثيلها في أطهر بقعة وهي بيت الله الحرام في مكة.
وليس من الممكن اختصار الهجرة النبوية في سطور.. بينما تمر عليها الدهور وهي تزداد ألقاً وبريقاً بل وإشعاعاً على العالم كله حتى وصلت إلى كل بلد في القارات الخمس من البلاد الاسكندنافية حتى الروسية وكندا وعموم آسيا وإفريقيا.
أقول ليس من الممكن ذلك وخزائن الكتب في التاريخ والسيرة النبوية خصوصاً والإسلام عموماً تفيض بها ذاكرة الكون قبل مكتباته وأسفاره الضخمة.
بوركت الهجرة.. وبورك المهاجرون الأوائل وأحباؤهم وإخوتهم من الأنصار.
إلا أن لنا وقفة مؤلمة مع الأقدار.. فهل يمكن بعد ألف ونصف من السنين تقريباً أن يواجه الإسلام عملاً من صنع الشيطان.. وهو كما علمنا جميعاً التعرض لشخص الرسول الكريم بيد رسام أثيم?.. هل يمكن أن يقوم عاقل باسم الحرية الإعلامية العارضة أو الثابتة بجرح مشاعر الملايين من المسلمين بهذه البساطة الرديئة والساقطة?
وبالتالي ما هذه الحرية التي أصبحت آلهة بألوف الأذرع والأرجل والتي يعبدونها أو يقومون على نشرها بين البشر?.. أليست في جوهرها ومضمونها هي وثنية تعبد طواغيت الجنس والقتل والاعتداء على حريات الآخرين ومعتقداتهم?.. أليس في مواثيق الأمم المتحدة أو غير المتحدة ما ينص على احترام العقيدة أي عقيدة.. والعقائد يعج بها المجتمع العالمي الجديد.. فما بالنا بعقيدة دينية ذات رسالة سماوية هي خاتمة الرسالات.. ونبيها خاتم النبيين?
وإذا كان الدفاع عن هذه العقيدة يعتبر تعصباً وتزمتاً وانغلاقاً تجاه العالم المعاصر فما قولنا في الذين يفرضون عقائد وهمية كالصهيونية على مجمل العالم باسم الظلم والتشكي من النازية?
إن حدثاً كهذا نفرت له صحيفة مغمورة في بلادها.. يغلفها الضباب.. فتتيح لنفسها الإفلات من أي عقوبة أو عقاب. أقول إن حدثاً كهذا قد تطمسه الاعتذارات الرسمية أو غير الرسمية.. وقد تطغى على جوهره الخفي النقاشات والدعايات أيضاً.. وقد.. وقد.. لكنه لن يمر دون أثر على الشعوب العربية والإسلامية التي استنفرت ردود أفعالها تلقائياً لتخط السطور السوداء ولتسجل بأيدي أبنائها الصغار منهم قبل الكبار موقفاً عدائياً ينبثق من الصميم.. ليكون له الأثر العميم.
وفي ميزان الربح والخسارة فإنها أسوأ تجارة.. تلك التي دون حق أو عدالة.. تتناول المقدسات ولو كانت بصور أو شعارات.. لأن الربح الحقيقي هو في هذا الزمن المتفجر بالصراعات والعداوات هو في بذور الخير والسلام والدعوة إلى احترام العقائد والأديان وأولها الإسلام.
ــــــــــــ(1/83)
الهجرة ومقدماتها
الكتاب الرابع
د.يحي بن إبراهيم اليحي
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وخيرته من خلقه وأمينه على وحيه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه.
أما بعد:
فهذا هو الكتاب الرابع من سلسلة (دروس وعبر من سيرة خير البشر)، وقد ابتدأته بالحديث عن عام (الحزن) فمنه ابتدأ خط المقاومة والإيذاء للرسول - صلى الله عليه وسلم - ينحو منحًى جديدًا فقد ذهب الذي كانت تداريه قريش وتخشى منه وهو عمه أبو طالب، فصبت جام غضبها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبدأت تلحق به من أصناف الأذى مما لم يكن يعرفه في حياة عمه، ثم ذهب الذي كان يواسيه ويسري عنه ويصبره وهي زوجته (خديجة) رضي الله عنها وأرضاها، فجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في البحث عن محضن جديد ومقر آمن لدعوته، فكانت رحلته إلى الطائف، ثم عَرْضُ الإسلام على أهل المدينة، الذي أفرز بيعتي العقبة، وما تلاها من التخطيط للهجرة إلى أن هاجر إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عام الحزن
بعد نقض الصحيفة بيسير أصيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعمه أبي طالب الذي كان يحوطه ويدافع عنه، ثم توفيت زوجته خديجة رضي الله عنها التي كانت خير سند له، ووقفت بجانبه تطمئنه وتثبته من أول يوم نزل فيه الوحي، فحزن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لذلك حزناً شديداً، حتى سمي ذلك العام بعام الحزن.
عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: (( تُوُفِّيَتْ خَدِيجَةُ قَبْلَ مَخْرَجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى الْمَدِينَةِ بِثَلاثِ سِنِينَ، فَلَبِثَ سَنَتَيْنِ أَوْ قَرِيبً مِنْ ذَلِكَ وَنَكَحَ عَائِشَةَ وَهِيَ بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ، ثُمَّ بَنَى بِهَا وَهِيَ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ ))(1).
عن سيعد بن الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: (( لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ فَقَالَ: أَيْ عَمِّ قُلْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ وَيُعِيدَانِهِ بِتِلْكَ الْمَقَالَةِ، حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ: عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأَبَى أَنْ يَقُولَ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَاللَّهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} (التوبة: 113)، وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (القصص: 56) ))(2).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِعَمِّهِ: (( قُلْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ أَشْهَدُ لَكَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ: لَوْلا أَنْ تُعَيِّرَنِي قُرَيْشٌ يَقُولُونَ إِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ الْجَزَعُ لأَقْرَرْتُ بِهَا عَيْنَكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} ))(3).
الدروس والعظات:
1- ذاق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المحن بأنواعها وابتلي بأصناف البلاء، وها هو يبتلى في وفاة زوجته التي تشكل حماية داخلية له بعد الله تعالى، فهي الذراع الحاني تطمئنه وتواصيه وتصبره، وتمسح عنه النكد والتعب الذي يلاقيه من قريش، وفي العام نفسه ابتلي بوفاة عمه الذي كان يحوطه ويدافع عنه.
2- لقد تخطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جميع العقبات في طريق دعوته، فلم تقف أي عقبة مهما عظمت في سبيله، فضلاً أن تقعده عن دعوته، فما عرف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عام الحزن خور أو ضعف أو فتور عن متابعة رسالته، على الرغم من عظم المصيبة وهول الخطب.
3- من هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زيارة المرضى وبذل الخير لهم وإن كان من أهل الشرك والكفر كما زار عمه وهو مشرك وزار غلاماً يهودياً، وقد رغب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في زيارة المريض فقال: (( مَنْ عَادَ مَرِيضًا أَوْ زَارَ أَخًا لَهُ فِي اللَّهِ نَادَاهُ مُنَادٍ أَنْ طِبْتَ وَطَابَ مَمْشَاكَ وَتَبَوَّأْتَ مِنَ الْجَنَّةِ ))(4)، وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَافِعٍ قَالَ: (( عَادَ أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ رضي الله عنه: أَعَائِدًا جِئْتَ أَمْ زَائِرًا؟ قَالَ: لا، بَلْ جِئْتُ عَائِدًا قَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: أَمَا إِنَّهُ مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَعُودُ مَرِيضًا إِلا خَرَجَ مَعَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ كُلُّهُمْ يَسْتَغْفِرُ لَهُ إِنْ كَانَ مُصْبِحًا حَتَّى يُمْسِيَ، وَكَانَ لَهُ خَرِيفٌ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ مُمْسِيًا خَرَجَ مَعَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ كُلُّهُمْ يَسْتَغْفِرُ لَهُ حَتَّى يُصْبِحَ، وَكَانَ لَهُ خَرِيفٌ فِي الْجَنَّةِ ))(5).
4- استغلال جميع الفرص والمناسبات في الدعوة إلى الله وتبليغ هذا الدين، فحالة المريض غالباً ما تريه ضعفه وفقره وحاجته إلى خالقه جل وعلا، ولهذا حرص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عمه في هذه الساعة، كما حرص على هداية غلام يهودي يحتضر، فقد روى أنس رضي الله عنه قَالَ: (( كَانَ غُلامٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَمَرِضَ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَعُودُهُ فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ لَهُ: أَسْلِمْ، فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ فَقَالَ لَهُ: أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَسْلَمَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ ))(6).
5- مما يوضح جدية هذا الدين، وصدق نبوة سيد المرسلين اهتمامه بهداية المحتضرين، وإلا فماذا سيقدم هؤلاء له إذا أسلموا وهم في مثل هذه الحالة، لو كان مراده من دعوته الدنيا وحطامها.
6- الاهتمام بهداية الناس مهما كانت أحوالهم وأوضاعهم، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (( لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم ))(7).
7- استخدام أسلوب الترجي واللطف مع حسن العرض واللباقة في الخطاب عند دعوة الناس (( يا عم )).
8- احتفاظ الرسول بالأيادي والفضائل التي قدمها له عمه، ولهذا حرص أشد الحرص على هدايته وهذه أعظم مكافأة لو استجاب له فيها نال السعادة الأبدية، وهذه من صفات الرجال الكرام في اعترافهم بالجميل والفضل، وقد نبه على ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (( مَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ ))(8).
9- إن لا إله إلا الله منهج حياة كاملة تنفي كل ما سوى الله من الشركاء والأنداد فلا معبود بحق إلا الله وحده لا شريك له، ولهذا أدرك معناها أبو جهل وأبو طالب ومن معهما وعرفوا أنها منهج تغيير كامل في كل الحياة ونبذ كامل لكل المناهج الأرضية والتقاليد والعقائد الموروثة، والتبرء مما سوى الله عز وجل، ولو كان الأمر مجرد كلمة تقال باللسان فقط لأسرعوا إليها دون تردد، أو أنها تعني الاعتراف بوجود الله وأنه الخالق الرازق لقالوها، لأنهم يؤمنون بذلك قبل رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهَ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} (يونس: 31) وقال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ للهِ، قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ، قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ، سَيَقُولُونَ للهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ، قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ للهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} (المؤمنون: 84 - 89) فعجباً من أناس أبو جهل أعلم منهم بلا إله إلا الله!.
10- ضرر جلساء السوء وخطرهم على الإنسان فقد وقفوا حاجزاً بين أبي طالب وبين السعادة الأبدية وأوقعوه في شر حال وأعظم عذاب، وقد حض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على اختيار الجليس والصاحب فقال: (( مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالْجَلِيسِ السُّوْءِ، كَمَثَلِ صَاحِبِ الْمِسْكِ وَكِيرِ الْحَدَّادِ، لا يَعْدَمُكَ مِنْ صَاحِبِ الْمِسْكِ إِمَّا تَشْتَرِيهِ أَوْ تَجِدُ رِيحَهُ، وَكِيرُ الْحَدَّادِ يُحْرِقُ بَدَنَكَ أَوْ ثَوْبَكَ أَوْ تَجِدُ مِنْهُ رِيحًا خَبِيثَةً ))(9).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (( الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ ))(10).
11- تعظيم المشركين لمناهج آبائهم وعاداتهم وتقاليدهم كما قال الله فيهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} (الزخرف: 22).
12- أهل الباطل طبيعتهم التقليد والتبعية العمياء وإلغاء دور العقل وطمس البصيرة والبعد عن التفكير الحر الصادق الطليق، ولهذا لم يحاوروا رسول الله لأنهم لا يملكون أي أداة للحوار أو المناظرة وليس عندهم حجج يناظرون عليها سوى التقليد الأعمى لآبائهم.
13- ثقل مخلفات الماضي وتقاليده على كبار السن، ولهذا خشي أبو طالب من تعيير قريش لو قال لا إله إلا الله.
14- وظيفة الداعي هي فتح الطريق أمام الناس للهداية وترغيبهم فيها ودلالتهم عليها، وأما إدخال الناس في الهداية فهذا لم يكن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو أفضل الخلق وحبيب رب العالمين، ولو كان يملك من هذا شيء لمنَّ به على عمه الذي دافع عنه وصاول من أجله وقد حرص - صلى الله عليه وسلم - حرصاً شديداً على هدايته، فهداية التوفيق إلى الله جل وعلا.
15- الفرق بين هداية الدلالة والإرشاد والبيان التي أثبتها الله تعالى للنبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (الشعراء: 52)، وبين هداية التوفيق والتي نفاها عنه ربه... {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (القصص: 56).
16- إذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو أفضل من وطئ الثرى وأظلت السماء.. رسول رب العالمين وسيد المرسلين لا يملك أن يهدي من أحب وهو عمه الذي واساه بنفسه وماله، فكيف بنظيره من الخلق! وكيف بالذي يطلب الهداية والنصرة والتأييد والاستعانة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته! قال الله عز وجل في كتابه لنبيه - صلى الله عليه وسلم - قل لهم: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلا مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ} (الأعراف: 188)، وقال جل وعلا: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً} (الجن: 21) وكيف ممن يطلبونها ممن هو دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المنزلة والمكانة من ربه جل وعلا!؟
17- لقد قطع الله جميع أواصر الصلة والحب بين أهل التوحيد وأهل الإشراك ولم يبق إلا صلة العقيدة ورباط التوحيد {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} (التوبة:113).
18- أهمية تلقين المحتضر شهادة أن لا إله إلا الله لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (( مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ ))(11).
رحلة الطائف:
اشتدّ أذى قريش على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاة عمه، فخرج إلى الطائف يدعوهم إلى الله ويطلب منهم أن ينصروه ويؤووه حتى يبلغ رسالة ربه، فلم يجد عندهم خيراً ولا ناصراً، وآذوه أشد الأذى ونالوا منه مالم ينله قومه، وأقام بينهم عشرة أيام لا يدع أحداً من أشرافهم إلا جاءه وكلمه، فقالوا: اخرج من بلدنا، وأغروا به سفهاءهم، فوقفوا له صفين، وجعلوا يرمونه بالحجارة حتى دميت قدماه، فانصرف منهم مغمومًا محزونًا(12).
عن ابْنِ شِهَابٍ قَالَ حَدَّثَنِي عُرْوَةُ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - حَدَّثَتْهُ أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ قَالَ: (( لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ، وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلالٍ فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ فَقَالَ: ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ فَقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا ))(13).
الدروس والعظات:
1- اهتمام عائشة رضي الله عنها بحال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما عاناه من البلاء والتعب والمحن في تبليغ الدعوة.
2- لقد اعتبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن المحن والفتن التي تنزل بالداعي أثناء تبليغ دعوته أعظم وأشد من القتال والإصابات والجراح وقتل الأقارب في ميادين الجهاد.
3- إن دين الإسلام لا يتعلق بقوم ولا بوطن بعينه، فقد رحل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أحب البقاع إليه وهي مكة إلى الطائف من أجل البحث عن محضن جديد لدعوته حيث ردها أهل مكة.
4- في رحلة الرسول - صلى الله عليه وسلم - الى الطائف بيان أن المسلم الداعي لا ينبغي له الركود في بقعة بعينها، سواء كانت البقعة فاضلة أو غير فاضلة إن لم يستطع أن يبلغ دينه ويقوم بدعوته، ولا ينبغي أن يتعذر بفضل المكان وشرفه (( فإن البقاع لا تقدس أحداً إنما يقدس الإنسان عمله )).
5- بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله: (( إذ عرضت نفسي... )) أن الداعي مهما كان معه من الحق والخير، ومهما كانت منزلته وفضله، ومهما ارتفع قدره وعظم إيمانه، ومهما كان صلاحه وعلو مكانته، فهو المسؤول عن دعوته وعرض ما لديه من الخير على الناس وطلب من ينصره ويؤازره ويأويه، فلا ينتظر الناس أن يقدموا عليه أو يفتشوا عما لديه.
6- تأمل قبح الرد الذي واجه به أهل الطائف رسول الله صلى الله عليه وسلم، أفيستكثر أذى وشدة وعنف صب على أحد من المخلصين بعده! إن كثيراً من الأخيار الطيبين لا مانع عنده من القيام بأمر الدعوة إذا توفر البيت الفسيح والمركب المريح والزوجة الصالحة!!
7- تصور ذلك الجهد الذي بذله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في دعوته، وذلك التعب الذي لحقه فقد جرى مهموماً على وجهه بعد ذلك الرد القبيح فلم يستفق إلا بقرن الثعالب القريب من مسجد الخيف في منى(14)، أي أنه جرى على قدميه الشريفتين قرابة مائة كيلو متر، لم يَعِ نفسه من شدة الهمّ لدينه إلا بعد تلك المسافة الطويلة.
8- غيرة الجبار القهار عز وجل على خليله وحبيبه ونبيه - صلى الله عليه وسلم - حيث أرسل إليه الملائكة لمواساته في مصابه.
9- رغم شدة المصاب وعظم الأذى، الذي نزل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى الرغم من شدة الهم والحزن الذي بلغ به من جراء عنت قريش وملاحقتهم له، وقيامهم باضطهاد أصحابه وتعذيبهم، إلا أنه لم يتشف بهم ويطلب من ربه إيقاع العذاب العام عليهم، بل طلب من ربه جل وعلا أن يستأني بهم.
لقد علمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحدث البعد عن حظوظ النفس ورغباتها، ومحبة الانتصار لها، وعدم اليأس من هداية الناس مهما كان بعدهم عن الحق والخير.
10- الله أكبر ما أعظم هذا الأمل (( بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا )) أي بعد عن العجلة وأي صبر ينبغي أن يتحلى به الداعي إلى الله تعالى بعد ذلك، إنه انتظار ما في الأصلاب ليعبدوا الله لا يشركون به شيئاً، وما أكثر الذين يستبطئون النتائج، ويستعجلون حسناتهم في حياتهم الدنيا.
11- إن الهم كل الهم هو في تحقيق عبودية الله تعالى وحده لا شريك له، ليس للمخلصين هدف آخر من متاع الدنيا الزائل وعرضها الفاني.
الإسراء والمعراج:
كان الإسراء والمعراج مواساة من الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - حينما لقي من قومه ما لقي من الأذى والعنت بعد وفاة عمه أبي طالب، فأسري بجسده وروحه إلى بيت المقدس ثم عرج به إلى السموات العلى حتى سمع صريف الأقلام.
لقد وردت روايات كثيرة في الإسراء والمعراج وسأقتصر على أصحها وأجمعها:(1/84)
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: (( أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيَضُ طَوِيلٌ فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ قَالَ: فَرَكِبْتُهُ حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ قَالَ: فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي يَرْبِطُ بِهِ الأَنْبِيَاءُ قَالَ: ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجْتُ فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلام بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ فَقَالَ جِبْرِيلُ صلى الله عليه وسلم: اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بِآدَمَ فَرَحَّبَ بِي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلام فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بِابْنَيِ الْخَالَةِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّاءَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا فَرَحَّبَا وَدَعَوَا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ، قَالَ: مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بِيُوسُفَ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا هُوَ قَدْ أُعْطِيَ شَطْرَ الْحُسْنِ فَرَحَّبَ وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلام قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قَالَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بِإِدْرِيسَ فَرَحَّبَ وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} (مريم: 57)، ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الْخَامِسَةِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بِهَارُونَ - صلى الله عليه وسلم - فَرَحَّبَ وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلام قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى - صلى الله عليه وسلم - فَرَحَّبَ وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عَرَجَ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بِإِبْرَاهِيمَ - صلى الله عليه وسلم - مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، وَإِذَا هُوَ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ لا يَعُودُونَ إِلَيْهِ، ثُمَّ ذَهَبَ بِي إِلَى السِّدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَإِذَا وَرَقُهَا كَآذَانِ الْفِيَلَةِ وَإِذَا ثَمَرُهَا كَالْقِلالِ قَالَ: فَلَمَّا غَشِيَهَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا غَشِيَ تَغَيَّرَتْ، فَمَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْعَتَهَا مِنْ حُسْنِهَا، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيَّ مَا أَوْحَى فَفَرَضَ عَلَيَّ خَمْسِينَ صَلاةً فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَنَزَلْتُ إِلَى مُوسَى - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: مَا فَرَضَ رَبُّكَ عَلَى أُمَّتِكَ؟ قُلْتُ: خَمْسِينَ صَلاةً، قَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لا يُطِيقُونَ ذَلِكَ، فَإِنِّي قَدْ بَلَوْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَخَبَرْتُهُمْ قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى رَبِّي فَقُلْتُ: يَا رَبِّ خَفِّفْ عَلَى أُمَّتِي فَحَطَّ عَنِّي خَمْسًا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقُلْتُ: حَطَّ عَنِّي خَمْسًا قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لا يُطِيقُونَ ذَلِكَ فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ قَالَ: فَلَمْ أَزَلْ
أَرْجِعُ بَيْنَ رَبِّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَبَيْنَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلام حَتَّى قَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّهُنَّ خَمْسُ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، لِكُلِّ صَلاةٍ عَشْرٌ فَذَلِكَ خَمْسُونَ صَلاةً، وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرًا، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ شَيْئًا فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ سَيِّئَةً وَاحِدَةً قَالَ: فَنَزَلْتُ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى مُوسَى - صلى الله عليه وسلم - فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَقُلْتُ: قَدْ رَجَعْتُ إِلَى رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ ))(15).
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ أَبُو ذَرٍّ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: (( فُرِجَ عَنْ سَقْفِ بَيْتِي وَأَنَا بِمَكَّةَ فَنَزَلَ جِبْرِيلُ - صلى الله عليه وسلم - فَفَرَجَ صَدْرِي ثُمَّ غَسَلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا فَأَفْرَغَهُ فِي صَدْرِي ثُمَّ أَطْبَقَهُ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَعَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَلَمَّا جِئْتُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا قَالَ جِبْرِيلُ لِخَازِنِ السَّمَاءِ: افْتَحْ، قَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا جِبْرِيلُ، قَالَ: هَلْ مَعَكَ أَحَدٌ؟ قَالَ: نَعَمْ مَعِي مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَلَمَّا فَتَحَ عَلَوْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا، فَإِذَا رَجُلٌ قَاعِدٌ عَلَى يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ وَعَلَى يَسَارِهِ أَسْوِدَةٌ إِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَسَارِهِ بَكَى فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالابْنِ الصَّالِحِ قُلْتُ لِجِبْرِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَال: هَذَا آدَمُ وَهَذِهِ الأَسْوِدَةُ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ نَسَمُ بَنِيهِ فَأَهْلُ الْيَمِينِ مِنْهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ وَالأَسْوِدَةُ الَّتِي عَنْ شِمَالِهِ أَهْلُ النَّارِ، فَإِذَا نَظَرَ عَنْ يَمِينِهِ ضَحِكَ وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى، حَتَّى عَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ فَقَالَ لِخَازِنِهَا: افْتَحْ، فَقَالَ لَهُ خَازِنِهَا مِثْلَ مَا قَالَ الأَوَّلُ، فَفَتَحَ قَالَ أَنَسٌ: فَذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَ فِي السَّمَوَاتِ آدَمَ، وَإِدْرِيسَ، وَمُوسَى، وَعِيسَى، وَإِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يُثْبِتْ كَيْفَ مَنَازِلُهُمْ غَيْرَ أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَ آدَمَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَإِبْرَاهِيمَ فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ قَالَ أَنَسٌ: فَلَمَّا مَرَّ جِبْرِيلُ بِالنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِإِدْرِيسَ قَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالأَخِ الصَّالِحِ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا إِدْرِيسُ، ثُمَّ مَرَرْتُ بِمُوسَى فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالأَخِ الصَّالِحِ، قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا مُوسَى، ثُمَّ مَرَرْتُ بِعِيسَى فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا عِيسَى، ثُمَّ مَرَرْتُ بِإِبْرَاهِيمَ فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالابْنِ الصَّالِحِ، قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا إِبْرَاهِيمُ - صلى الله عليه وسلم - )).
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَأَخْبَرَنِي ابْنُ حَزْمٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَأَبَا حَبَّةَ الأَنْصَارِيَّ كَانَا يَقُولانِ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (( ثُمَّ عُرِجَ بِي حَتَّى ظَهَرْتُ لِمُسْتَوَى أَسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الأَقْلامِ )).
قَالَ ابْنُ حَزْمٍ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (( فَفَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى أُمَّتِي خَمْسِينَ صَلاةً فَرَجَعْتُ بِذَلِكَ حَتَّى مَرَرْتُ عَلَى مُوسَى فَقَالَ: مَا فَرَضَ اللَّهُ لَكَ عَلَى أُمَّتِكَ؟ قُلْتُ: فَرَضَ خَمْسِينَ صَلاةً قَالَ: فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لا تُطِيقُ ذَلِكَ، فَرَاجَعْتُ فَوَضَعَ شَطْرَهَا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى قُلْتُ: وَضَعَ شَطْرَهَا فَقَالَ: رَاجِعْ رَبَّكَ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لا تُطِيقُ فَرَاجَعْتُ فَوَضَعَ شَطْرَهَا، فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لا تُطِيقُ ذَلِكَ فَرَاجَعْتُهُ فَقَالَ: هِيَ خَمْسٌ وَهِيَ خَمْسُونَ لا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ: رَاجِعْ رَبَّكَ فَقُلْتُ: اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي، ثُمَّ انْطَلَقَ بِي حَتَّى انْتَهَى بِي إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَغَشِيَهَا أَلْوَانٌ لا أَدْرِي مَا هِيَ، ثُمَّ أُدْخِلْتُ الْجَنَّةَ فَإِذَا فِيهَا حَبَايِلُ اللُّؤْلُؤِ وَإِذَا تُرَابُهَا الْمِسْكُ ))(16).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (( لَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي الْحِجْرِ وَقُرَيْشٌ تَسْأَلُنِي عَنْ مَسْرَايَ، فَسَأَلَتْنِي عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَمْ أُثْبِتْهَا فَكُرِبْتُ كُرْبَةً مَا كُرِبْتُ مِثْلَهُ قَطُّ قَالَ: فَرَفَعَهُ اللَّهُ لِي أَنْظُرُ إِلَيْهِ مَا يَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلا أَنْبَأْتُهُمْ بِهِ، وَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الأَنْبِيَاءِ، فَإِذَا مُوسَى قَائِمٌ يُصَلِّي فَإِذَا رَجُلٌ ضَرْبٌ جَعْدٌ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَإِذَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلام قَائِمٌ يُصَلِّي أَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ شَبَهًا عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ، وَإِذَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلام قَائِمٌ يُصَلِّي أَشْبَهُ النَّاسِ بِهِ صَاحِبُكُمْ - يَعْنِي نَفْسَهُ -، فَحَانَتِ الصَّلاةُ فَأَمَمْتُهُمْ، فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنَ الصَّلاةِ قَالَ قَائِلٌ: يَا مُحَمَّدُ هَذَا مَالِكٌ صَاحِبُ النَّارِ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ فَبَدَأَنِي بِالسَّلامِ ))(17).
وعن جَابِر بنَ عَبْدِاللَّهِ رَضِي اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: (( لَمَّا كَذَّبَتْنِي قُرَيْشٌ قُمْتُ فِي الْحِجْرِ فَجَلا اللَّهُ لِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَطَفِقْتُ أُخْبِرُهُمْ عَنْ آيَاتِهِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ ))(18).
روى الإمام أحمد بسند رجاله ثقات عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (( لَمَّا كَانَ لَيْلَةُ أُسْرِيَ بِي وَأَصْبَحْتُ بِمَكَّةَ فَظِعْتُ بِأَمْرِي وَعَرَفْتُ أَنَّ النَّاسَ مُكَذِّبِيَّ فَقَعَدَ مُعْتَزِلاً حَزِينًا قَالَ: فَمَرَّ عَدُوُّ اللَّهِ أَبُو جَهْلٍ فَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ كَالْمُسْتَهْزِئِ: هَلْ كَانَ مِنْ شَيْءٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَعَمْ، قَالَ: مَا هُوَ؟ قَالَ: إِنَّهُ أُسْرِيَ بِي اللَّيْلَةَ، قَالَ: إِلَى أَيْنَ؟ قَالَ: إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، قَالَ: ثُمَّ أَصْبَحْتَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْنَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَلَمْ يُرِ أَنَّهُ يُكَذِّبُهُ مَخَافَةَ أَنْ يَجْحَدَهُ الْحَدِيثَ إِذَا دَعَا قَوْمَهُ إِلَيْهِ قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ دَعَوْتُ قَوْمَكَ تُحَدِّثُهُمْ مَا حَدَّثْتَنِي؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: نَعَمْ، فَقَالَ: هَيَّا مَعْشَرَ بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ قَالَ: فَانْتَفَضَتْ إِلَيْهِ الْمَجَالِسُ وَجَاءُوا حَتَّى جَلَسُوا إِلَيْهِمَا قَالَ: حَدِّثْ قَوْمَكَ بِمَا حَدَّثْتَنِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنِّي أُسْرِيَ بِي اللَّيْلَةَ قَالُوا: إِلَى أَيْنَ؟ قُلْتُ: إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، قَالُوا: ثُمَّ أَصْبَحْتَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْنَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَمِنْ بَيْنِ مُصَفِّقٍ، وَمِنْ بَيْنِ وَاضِعٍ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مُتَعَجِّبًا لِلْكَذِبِ زَعَمَ قَالُوا: وَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَنْعَتَ لَنَا الْمَسْجِدَ؟ وَفِي الْقَوْمِ مَنْ قَدْ سَافَرَ إِلَى ذَلِكَ الْبَلَدِ وَرَأَى الْمَسْجِدَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَذَهَبْتُ أَنْعَتُ، فَمَا زِلْتُ أَنْعَتُ حَتَّى الْتَبَسَ عَلَيَّ بَعْضُ النَّعْتِ قَالَ: فَجِيءَ بِالْمَسْجِدِ وَأَنَا أَنْظُرُ حَتَّى وُضِعَ دُونَ دَارِ عِقَالٍ أَوْ عُقَيْلٍ، فَنَعَتُّهُ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ قَالَ: وَكَانَ مَعَ هَذَا نَعْتٌ لَمْ أَحْفَظْهُ قَالَ: فَقَالَ الْقَوْمُ: أَمَّا النَّعْتُ فَوَاللَّهِ لَقَدْ أَصَابَ ))(19).
الدروس والعظات:
1- لقد شق صدر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكثر من مرة: مرة في طفولته لاستخراج العلقة وحظ الشيطان منه، ومرة أخرى لتهيئته للتلقي الحاصل في هذه الليلة العظيمة بعدما أفرغ في صدره الإيمان والحكمة.
قال ابن حجر عن شق صدره صلى الله عليه وسلم: (( الأول أخرج منه علقة فقال: هذا حظ الشيطان منك، وكان هذا في زمن الطفولة فنشأ على أكمل الأحوال من العصمة من الشيطان، ثم وقع شق الصدر عند إرادة البعث زيادة في إكرامه لِيتلقَّى ما يوحى إليه بقلب قوي في أكمل الأحوال من التطهر، ثم وقع شق الصدر عند إرادة العروج إلى السماء ليتأهب للمناجاة ))(20).
2- بركة ماء زمزم وفضله ولهذا جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ماء زمزم. بأنه (( طعام طعم ))(21) (( وشفاء سقم ))(22)، (( ماء زمزم لما شرب له ))(23).
3- الإسراء والمعراج معجزة ودلالة من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم.
4- أهمية بيت المقدس وارتباطه بأهل التوحيد وأهل الإسلام على مدار التاريخ، فللتوحيد بني ومن أجل التوحيد أنشئ.
5- الارتباط الوثيق بين المسجدين: المسجد الأقصى أولى القبلتين ومسرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومصلى الأنبياء عليهم السلام، والمسجد الحرام أول بيت وضع للناس: قبلة المسلمين وإليها حجهم، وفيه بيان ما يجب على المسلم من المحافظة على تلك البقاع الطاهرة.
6- صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأنبياء دلالة على علو منزلته وكمال فضله، وختام رسالته لجميع الرسالات وأن شريعته آخر الشرائع وناسخة ما قبلها، وأن دين الأنبياء واحد وهو التوحيد، وإن اختلفت شرائعهم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( الأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ مِنْ عَلاتٍ وَأُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ ))(24).
كما أن فيها تأكيداً لأواصر القربى بين الأنبياء كافةً، وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أرسل لتتمة البناء الذي بدأوه سابقاً، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (( مَثَلِي وَمَثَلُ الأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ ابْتَنَى بُيُوتًا فَأَحْسَنَهَا وَأَجْمَلَهَا وَأَكْمَلَهَا إِلا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَاهَا، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ وَيُعْجِبُهُمُ الْبُنْيَانُ فَيَقُولُونَ: أَلا وَضَعْتَ هَاهُنَا لَبِنَةً فَيَتِمَّ بُنْيَانُكَ فَقَالَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم: فَكُنْتُ أَنَا اللَّبِنَةَ ))(25).
7- قول جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم: (( اخترت الفطرة )) بيان أن الإسلام هو دين الفطرة، وهو الحنيفية السمحة المنسجم مع طبيعة الإنسان وقد وضع عن أهله الأغلال والشدائد والمصاعب التي كانت على من قبلهم كما قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الأعراف:157)، وحين نرى انحرافاً وخروجاً عن هذا الدين فهذا دلالة على فساد الفطرة، فالفطرة تشبه اللبن لكونه على طبيعته لم يتغير، وأما الخمر فناتج من تغير كيماوي من العنب أو التمر أو غيره من عناصر الخمر.
8- استفتاح جبريل عليه السلام عند كل سماء وإفصاحه عن اسمه وعن من معه دلالة على أدب الاستئذان، وأن المستأذن ينبغي له أن يفصح عن اسمه، ولهذا كره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقول المستأذن: (( أنا )) كما روى البخاري عن جابر بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِي اللَّهُ عَنْهُمَا قال: (( أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فِي دَيْنٍ كَانَ عَلَى أَبِي فَدَقَقْتُ الْبَابَ، فَقَالَ: مَنْ ذَا؟ فَقُلْتُ: أَنَا، فَقَالَ: أَنَا، أَنَا، كَأَنَّهُ كَرِهَهَا ))(26).
9- إن قصة البيت المعمور في السماء السابعة وكثرة الداخلين المتعبدين عنده من الملائكة، وهم عباد مكرمون لا يعصونه وهم بأمره يعملون، لحرية أن تدعو بني آدم المقصرين أبناء المقصرين، المذنبين أبناء المذنبين إلى أن يؤوبوا ويرجعوا ويستحيوا من الله تعالى.
10- استحباب تلقي أهل الفضل بالبشر والترحيب والثناء والدعاء كما فعل الأنبياء برسول الله صلى الله عليه وسلم.
11- أهمية الصلاة وعظم شأنها، فقد فرضت من بين أركان الإسلام في السماء السابعة فكانت الركن الثاني من أركان الإسلام بعد الشهادتين، وأصبحت قرة عين النبي صلى الله عليه وسلم، روي عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (( حُبِّبَ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا النِّسَاءُ وَالطِّيبُ، وَجُعِلَ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاةِ )).
فكان يصلي ويطيل القيام حتى انتفخت قدماه الشريفتان، كما روى مسلم في صحيحه عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ: (( أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صلى حَتَّى انْتَفَخَتْ قَدَمَاهُ فَقِيلَ لَهُ: أَتَكَلَّفُ هَذَا وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ فَقَالَ: أَفَلا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا )).
وكان يسمع لصدره وهو في الصلاة أزيز من البكاء، كما روى أحمد أبو داود والترمذي وابن ماجة عنْ ثَابِتٍ عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: (( رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي وَفِي صَدْرِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الرَّحَى مِنَ الْبُكَاءِ - صلى الله عليه وسلم - ))(27).
فالصلاة معراج للمسلم إلى ربه جل وعلا، ومنقية من الذنوب وناهية له عن الفحشاء والمنكر {وأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ}(العنكبوت: 45).
12- أن موسى عليه الصلاة والسلام وهو في الرفيق الأعلى يهمه شأن الناس وإن لم يكونوا من أمته وإن كانوا من غير قومه، فليلة المعراج حين فرض على نبينا - صلى الله عليه وسلم - الصلاة يلقاه موسى فيسائله ويقول له بهمٍّ شديدٍ: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فإن أمتك لا تطيق ذلك، ويكرر الطلب مرات، فإني قد بلوت بني إسرائيل قبلك، فيخفف الله عن هذه الأمة ما شاء أن يخفف.
تساءل معي ما الذي يعني موسى من صلاة أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟ وما الذي يكرثه أطاقت ذلك أم لم تطق؟ إنه الاهتمام بالناس إنه الحرص على نفعهم والإحسان إليهم، إن أنبياء الله والصالحين من عباده لا يعيشون لأنفسهم وإنما يعيشون بهمّ الأمة ومن أجل مصلحتها.
13- وفي قصة موسى مع نبينا - صلى الله عليه وسلم - دلالة على أهمية بذل النصيحة لمن احتاج إليها وإن لم يطلب منه ذلك.
14- وفي قول موسى عليه السلام: (( لقد بلوت بني إسلائيل قبلك )) دلالة على أن التجربة أقوى في تحصيل المطلوب من المعرفة الكثيرة.
15- عظم فضل الله على هذه الأمة فقد خفف عنها من صلاتها وأبقى لها أجرها كاملاً.
العرض على القبائل:
كان أتباع رسول الله نزاعًا من القبائل، غرباء، لا قبيلة تحميهم، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرتاد للدعوة موطناً تحتمي به، يأمر من اتبعه من القبائل خارج مكة أن يبقوا في قبائلهم ويستخفوا حتى يظهر.
قال ابن كثير: (( والمقصود أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استمر يدعو إلى الله تعالى ليلاً ونهاراً، وسراً وجهاراً، لا يصرفه عن ذلك صارف، ولا يرده عن ذلك راد، ولا يصده عن ذلك صاد، يتبع الناس في أنديتهم ومجامعهم ومحافلهم وفي المواسم، ومواقف الحج، يدعو من لقيه من حر وعبد، وضعيف وقوي، وغني وفقير، جميع الخلق عنده في ذلك شرع سواء... )). (28)(1/85)
عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: (( كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى النَّاسِ بِالْمَوْقِفِ فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ رَجُلٍ يَحْمِلُنِي إِلَى قَوْمِهِ، فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلامَ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنْ هَمْدَانَ فَقَالَ: مِمَّنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ الرَّجُلُ: مِنْ هَمْدَانَ، قَالَ: فَهَلْ عِنْدَ قَوْمِكَ مِنْ مَنَعَةٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، ثُمَّ إِنَّ الرَّجُلَ خَشِيَ أَنْ يَحْقِرَهُ قَوْمُهُ فَأَتَى رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: آتِيهِمْ فَأُخْبِرُهُمْ ثُمَّ آتِيكَ مِنْ عَامٍ قَابِلٍ، قَالَ: نَعَمْ، فَانْطَلَقَ وَجَاءَ وَفْدُ الأَنْصَارِ فِي رَجَبٍ ))(29).
عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عَبَّادٍ الدِّيلِيِّ وَكَانَ جَاهِلِيًّا أَسْلَمَ فَقَالَ: (( رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَصَرَ عَيْنِي بِسُوقِ ذِي الْمَجَازِ يَقُولُ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تُفْلِحُوا وَيَدْخُلُ فِي فِجَاجِهَا وَالنَّاسُ مُتَقَصِّفُونَ عَلَيْهِ فَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا يَقُولُ شَيْئًا وَهُوَ لَا يَسْكُتُ يَقُولُ أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تُفْلِحُوا إِلَّا أَنَّ وَرَاءَهُ رَجُلًا أَحْوَلَ وَضِيءَ الْوَجْهِ ذَا غَدِيرَتَيْنِ يَقُولُ إِنَّهُ صَابِئٌ كَاذِبٌ فَقُلْتُ مَنْ هَذَا قَالُوا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ يَذْكُرُ النُّبُوَّةَ قُلْتُ مَنْ هَذَا الَّذِي يُكَذِّبُهُ قَالُوا عَمُّهُ أَبُو لَهَبٍ قُلْتُ إِنَّكَ كُنْتَ يَوْمَئِذٍ صَغِيرًا قَالَ لَا وَاللَّهِ إِنِّي يَوْمَئِذٍ لَأَعْقِلُ ))(30).
عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عَبَّادٍ الدِّيلِيِّ أَنَّهُ قَالَ: (( رَأَيْتُ أَبَا لَهَبٍ بِعُكَاظٍ وَهُوَ يَتْبَعُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يَقُولُ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ هَذَا قَدْ غَوَى فَلَا يُغْوِيَنَّكُمْ عَنْ آلِهَةِ آبَائِكُمْ وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَفِرُّ مِنْهُ وَهُوَ عَلَى أَثَرِهِ وَنَحْنُ نَتْبَعُهُ وَنَحْنُ غِلْمَانُ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ أَحْوَلَ ذَا غَدِيرَتَيْنِ أَبْيَضَ النَّاسِ وَأَجْمَلَهُمْ ))(31).
وقال ربيعة بن عباد: (( رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذي المجاز، يتبع الناس في منازلهم يدعوهم إلى الله عز وجل، ووراءه رجل أحول تقد وجنتاه وهو يقول: أيها الناس لا يغرنكم هذا من دينكم ودين آبائكم، قلت: من هو؟ قالوا: هذا أبو لهب ))(32).
وعن طارق بن شداد رضي الله عنه قال: (( رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرتين: رأيته بسوق ذي المجاز، وأنا في بياعة لي، فمر وعليه حلة حمراء، وهو ينادي بأعلى صوته: أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا، ورجل يتبعه بالحجارة، وقد أدمى كعبيه وعرقوبيه، وهو يقول: يا أيها الناس لا تطيعوا هذا، فإنه كذاب، فقلت: من هذا؟ فقيل: هذا غلام من بني عبد المطلب، فقلت: من هذا الذي يرميه بالحجارة؟ فقيل: عمه عبد العزى أبو لهب ))(33).
وعن شيخ من بني مالك بن كنانة: (( رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - بسوق ذي المجاز يتخللها يقول: (( أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا ))، قال: وأبو جهل يحثي عليه التراب ويقول: أيها الناس، لا يغرنكم هذا عن دينكم، فإنما يريد لتتركوا آلهتكم، وتتركوا اللات والعزى قال: وما يلتفت إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ))(34).
قال ابن كثير: (( كذا قال في هذا السياق (( أبو جهل )) وقد يكون وهماً، ويحتمل أن يكون تارة يكون ذا وتارة يكون ذا، وأنهما كانا يتناوبان على إيذائه - صلى الله عليه وسلم - ))(35).
وعن جابر رضي الله عنه: (( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لبث عشر سنين، يتبع الناس في منازلهم في الموسم، ومجنة، وعكاظ، ومنازلهم في منى: من يؤويني؟ من ينصرني؟ حتى أبلغ رسالات ربي، فله الجنة، فلا يجد أحداً ينصره، ويؤويه، حتى إن الرجل ليرحل من مضر، أو من اليمن إلى ذوي رحمه، فيأتيه قومه، فيقولون له: احذر غلام قريش لا يفتنك، ويمشي بين رحالهم يدعوهم إلى الله -عز وجل- يشيرون إليه بالأصابع... ))(36).
الدروس والعظات:
1- هذه القصص تكشف عن مدى الجهد والكيد الذي تبذله قريش في محاربة الدعوة وصاحبها على المستوى الفردي والجماعي.
2- حمل الرسالة في مجتمع ضال معناه أن المصلح سينكر أشياء تعارف عليها الناس فعليه بتوطين نفسه على المعارضة والمحاربة والإيذاء.
3- لقاء الرسول مع بعض القبائل لم يدخلها الإسلام، ولكن على أقل تقدير أثار التسائل عندهم، والتشكيك فيما هم عليه من معتقدات، واستثمرهم كأداة إعلامية لأقوامهم وديارهم، حيث إنهم سيتحدثون بما وجدوه في سفرتهم هذه وسيذكرون من لقوا ومن لقيهم وما هي الأحاديث التي دارت معهم، وهذا مكسب عظيم بحد ذاته وتعريف بالإسلام وقضيته، كما يستخدمه أصحاب القضايا اليوم بسفراتهم وتنقلاتهم بين البلدان تعريفاً بقضيتهم.
4- لم يكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يفرط في فرصة من الفرص أو مجال من المجالات في تبليغ دعوته فهو يحضر المواسم ويغشى الأسواق ويلتقي بالوفود قبائل وأفراداً.
5- البحث عن مأوى ومحضن للدعوة تحتمي به حتى تكون حرة طليقة، وذلك في تتبع الناس وتقصد مواقعهم ومنازلهم.
6- استخدام قريش في الصد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخطر وسيلة إعلامية آن ذاك وهو عمه أبو لهب في زمن يعتبر للقبيلة وزنها في الدفاع عن أصحابها على حد قول القائل:
وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد
وفي زمن تقوم الحرب الطاحنة بسبب إهانة جمل امرأة من القبيلة فكيف برجل منها.
وما أشق ذلك على نفس الرسول - صلى الله عليه وسلم - المكلف بالتبليغ عن ربه، والذي يدعو الناس بالكلمة الطيبة وهو وحيد غريب، فينبري أقرب الناس إليه يطارده أمام الناس الناظرين إليه، يرميه بالحجارة فيدمي عقبيه، ويحثو التراب على رأسه ووجهه، ويكيل له التهم وهو المعروف بينهم بالأمانة والصدق والوفاء.
7- ثقة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بنصر الله له جعلته لا ييأس ولا يمل، ويدأب في نشر الدعوة فهذه قبيلة ترده، وتلك لا تستمع إليه، وأخرى تقول: قومه أعرف وأعلم به!
8- صبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - على مشاقّ الدعوة وعوائقها وتبعاتها فلم يضعفه موقف سخرية، ولم يحبط همته استهزاء مستهزئ من قريش أو من القبائل والأفراد الوافدين على مكة.
9- البدء بالدعوة إلى التوحيد لأنه أساس الإسلام وأصل دعوة الرسل عليهم السلام.
10- معرفة المشركين وفقههم لكلمة لا إله إلا الله وأنها تهدم كل معتقداتهم الوثنية، وأنظمتهم الكفرية، ولهذا تحملوا المقاومة ولم يتفوهوا بها ولو على سبيل المجاملة، وما أجهل أقوامًا من المسلمين اليوم أبو جهل أعرف منهم بلا إله إلا الله.
11- لا يضر الداعية شن أعدائه دعاية عليه فأحياناً تكون الدعاية دعوة إلى دينه عند كثير من الناس، فكثير ممن أسلم من القبائل خارج مكة نتيجة دعايات قريش ونشرها لذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن كان ذلك بالصورة المشوهة فليس كل الناس إمعات يقبلون ما يملى عليهم من غيرهم.
12- يتصور الكائدون لهذا الدين أنهم بإمكانهم إطفاء نوره والقضاء عليه بخططهم وكيدهم ومكرهم وهيهات!! إنما مثلهم كمثل من رفع يده أمام نور الشمس يريد حجبها {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (التوبة: 32).
فهذه قريش بذلت جميع إمكاناتها وسخرت جميع طاقاتها وانتدبت جميع رجالاتها لحرب هذا الدين والقضاء على دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك ما زادها إلا انتشاراً وقوة بين قبائل العرب كافة.
تهيئة ظروف المدينة للهجرة النبوية:
1- يوم بعاث:
عَنْ عَائِشَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: (( كَانَ يَوْمُ بُعَاثَ يَوْمًا قَدَّمَهُ اللَّهُ لِرَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَدِ افْتَرَقَ مَلَؤُهُمْ وَقُتِلَتْ سَرَوَاتُهُمْ وَجُرِّحُوا فَقَدَّمَهُ اللَّهُ لِرَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي دُخُولِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ ))(37).
بُعاث بضم الباء وفتح العين، مكان أو حصن أو مزرعة، عند بني قريظة، كانت به وقعة بين الأوس والخزرج، وقد قتل فيه حُضَير والد أسيد ابن حضير وهو رئيس الأوس، ورئيس الخزرج عمرو بن النعمان البياضي، وكان النصر في أولها للأوس ثم كسروا وانتصرت الخزرج، وذلك قبل الهجرة بخمس سنين، وقيل أربع سنين. قال الحافظ: الأول أصح.
فقتل من أكابرهم من كان يأنف ويتكبر أن يكون تحت حكم غيره.
وكان سببها أن رجلاً من الأوس قتل حليفاً للخزرج فأرادوا أن يقيدوه فامتنعوا، وكانت قاعدتهم أن الأصيل لا يقتل بالحليف، فوقعت بينهم الحرب لأجل ذلك(38).
2- كون الأوس والخزرج مجاورين لليهود، وهم أهل كتاب، وكانوا يقولون لهم: سيخرج نبي نتبعه ونقتلكم به قتل عاد وإرم.
بدء إسلام الأنصار:
صاحب مجلة لقمان:
(( قدم سويد بن الصامت الأنصاري مكة حاجاً أو معتمراً، فتصدى له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين سمع به فدعاه إلى الإسلام فقال له سويد: فلعل الذي معك مثل الذي معي؟
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما الذي معك؟
قال: مجلة لقمان - يعني حكمة لقمان -.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اعرضها عليّ، فعرضها عليه فقال له: إن هذا الكلام حسن، والذي معي أفضل من هذا، قرآن أنزله الله تعالى عليَّ، وهو هدى ونور، فتلا عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القرآن، ودعاه إلى الإسلام.
فلم يبعد منه وقال: إن هذا القول حسن، ثم انصرف عنه فقدم المدينة على قومه فلم يلبث أن قتله الخزرج، فإن كان رجال من قومه ليقولون: إنا لنراه قد قتل وهو مسلم وكان قتله يوم بعاث(39).
سعي الأوس للمحالفة:
عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ أَخِي بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ قَالَ: (( لَمَّا قَدِمَ أَبُو الْحَيْسَرِ أَنَسُ بْنُ رَافِعٍ مَكَّةَ وَمَعَهُ فِتْيَةٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ فِيهِمْ إِيَاسُ بْنُ مُعَاذٍ يَلْتَمِسُونَ الْحِلْفَ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى قَوْمِهِمْ مِنَ الْخَزْرَجِ سَمِعَ بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَتَاهُمْ فَجَلَسَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ لَهُمْ هَلْ لَكُمْ إِلَى خَيْرٍ مِمَّا جِئْتُمْ لَهُ قَالُوا وَمَا ذَاكَ قَالَ أَنَا رَسُولُ اللَّهِ بَعَثَنِي إِلَى الْعِبَادِ أَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ لَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَأُنْزِلَ عَلَيَّ كِتَابٌ ثُمَّ ذَكَرَ الْإِسْلَامَ وَتَلَا عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ فَقَالَ إِيَاسُ بْنُ مُعَاذٍ وَكَانَ غُلَامًا حَدَثًا أَيْ قَوْمِ هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ مِمَّا جِئْتُمْ لَهُ قَالَ فَأَخَذَ أَبُو جُلَيْسٍ أَنَسُ بْنُ رَافِعٍ حَفْنَةً مِنَ الْبَطْحَاءِ فَضَرَبَ بِهَا فِي وَجْهِ إِيَاسِ بْنِ مُعَاذٍ وَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْهُمْ وَانْصَرَفُوا إِلَى الْمَدِينَةِ فَكَانَتْ وَقْعَةُ بُعَاثٍ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ قَالَ ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ إِيَاسُ بْنُ مُعَاذٍ أَنْ هَلَكَ قَالَ مَحْمُودُ بْنُ لَبِيدٍ فَأَخْبَرَنِي مَنْ حَضَرَهُ مِنْ قَوْمِي عِنْدَ مَوْتِهِ أَنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا يَسْمَعُونَهُ يُهَلِّلُ اللَّهَ وَيُكَبِّرُهُ وَيَحْمَدُهُ وَيُسَبِّحُهُ حَتَّى مَاتَ فَمَا كَانُوا يَشُكُّونَ أَنْ قَدْ مَاتَ مُسْلِمًا لَقَدْ كَانَ اسْتَشْعَرَ الْإِسْلَامَ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ حِينَ سَمِعَ مِنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مَا سَمِعَ ))(40).
قال ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن أشياخ من قومه قالوا: (( لما لقيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من أنتم؟ قالوا: نفر من الخزرج قال: أمن موالي يهود؟ قالوا: نعم قال: أفلا تجلسون أكلمكم؟ قالوا: بلى، فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله عز وجل وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن قال: وكان مما صنع الله بهم في الإسلام أن يهود كانوا معهم في بلادهم، وكانوا أهل كتاب وعلم، وكانوا هم أهل شرك وأصحاب أوثان، وكانوا قد غزوهم ببلادهم فكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا لهم: إن نبياً مبعوث الآن قد أظل زمانه نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم، فلما كلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولئك النفر ودعاهم إلى الله، قال بعضهم لبعض: يا قوم، تعلمون والله إنه للنبي الذي توعدكم به يهود فلا يسبقنكم إليه، فأجابوه فيما دعاهم إليه بأن صدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام، وقالوا: إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم فعسى أن يجمعهم الله بك فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك، ثم انصرفوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بلادهم وقد آمنوا وصدقوا )).
قال ابن إسحاق: (( وهم - فيما ذكر لي - ستة نفر من الخزرج )) وسندها حسن(41).
وذكر موسى بن عقبة: (( أنهم ثمانية ))(42).
قال ابن إسحاق: (( فلما قدموا المدينة ذكروا رسول الله، ودعوا إلى الإسلام حتى فشا فيهم، حتى كان العام المقبل وافى الموسم اثنا عشر رجلاً، فبايعوا بالعقبة على بيعة النساء )).
العقبة الأولى:
قال ابن إسحاق: (( قال عبادة بن الصامت: كنت فيمن حضر العقبة الأولى، وكنا اثنى عشر رجلاً، فبايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بيعة النساء -وذلك قبل أن يفترض علينا الحرب- على أن لا نشرك بالله شيئاً، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه من بين أيدينا وأرج لنا، ولا نعصيه في معروف، فإن وفيتم فلكم الجنة، وإن غشيتم من ذلك شيئاً فأمركم إلى الله عز وجل إن شاء غفر وإن شاء عذب ))(43).
روى مسلم عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه قَالَ: (( أَخَذَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَمَا أَخَذَ عَلَى النِّسَاءِ: أَنْ لا نُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلا نَسْرِقَ، وَلا نَزْنِيَ، وَلا نَقْتُلَ أَوْلادَنَا، وَلا يَعْضَهَ بَعْضُنَا بَعْضًا، فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَمَنْ أَتَى مِنْكُمْ حَدًّا فَأُقِيمَ عَلَيْهِ فَهُوَ كَفَّارَتُهُ، وَمَنْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ )) متفق عليه(44).
بعث معهم مصعب بن عمير:
ذكر ذلك ابن إسحاق، والبيهقي في (( الدلائل ))، وابن سعد، وذكر أن ذلك كان بطلب من الأنصار(45).
وقد نجح رضي الله عنه في مهمته فأسلم على يديه عدد كبير من أهل المدينة، ويدل على حذاقته وقدرته على الحوار والإقناع قصة إسلام أسيد بن حضير، ثم قصة إسلام سعد بن معاذ وإسنادها حسن إلا أنها مرسلة(46).
الدروس والعظات:
1- موقف أبي الحيسر دليل على قول عائشة: (( كان يوم بعاث... )) فموقف الرؤساء من الدعوة دائماً موقف المعارضة.
2- لقاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع الأنصار كان عابراً، بدون أي تخطيط مسبق، وهكذا نصر الله للداعية من حيث لا يحتسب إذا عرف منه الصدق والإخلاص: {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} (الطلاق: 2)، {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرَى} (الطلاق: 4).
3- التعرف على المدعوين قبل دعوتهم، حيث سألهم عن اسمهم ثم قال: (( أمن موالي يهود )).
4- بيان الداعية للمدعوين معرفته بحالهم وأنه لا يكلمهم من فراغ، لما قال: أمن موالي يهود. أو أنه يستغل غربتهم، أو جهلهم... الخ.
5- معرفة حال كل قوم وما يصلح لهم قبل دعوتهم.
6- عدم فرض الدعوة على الناس أو التعالي في دعوتهم، حيث قال لهم: ألا تجلسون.
7- هذا الأسلوب في العرض بيان لما ينبغي أن يكون عليه الداعية من التأدب مع المدعوين.
8- تقدير ظروف المدعوين قبل دعوتهم، فهذا العرض (( ألا تجلسون )) نهاية الأدب، وفيه تقدير واحترام ورفع من معنوية وقيمة المدعوين، ولعلّ عندهم عذرًا أو شغلاً يمنعهم من الجلوس والاستماع فهو قائم باحترام ذلك كله.
9- شد اهتمام المدعوين للدعوة، فالداعية والمصلح لا ينبغي له أن يجعل بضاعته رخيصة فيعرضها في أي ظرف، فقوله: (( ألا تجلسون أكلمكم )) شد لانتباههم وأنه عنده شيء جديد ينبغي الجلوس والإصغاء إليه، ليس كغيره من الناس يذكرون لهم ما عندهم في أي حال كانوا، وإنما عنده شيء مهمّ يتطلب الجلوس والاستماع والإصغاء.
10- رعاية الأتباع وعدم التفريط فيهم ومتابعة نماء الدعوة، مثل: إرسال مصعب.
11- العناية التامة باختيار الداعية فقد توفر بمصعب عدة صفات، فإلى جانب حفظه للقرآن ومعرفته بالإسلام، فهو يتميز بالذكاء والفطنة وحسن التصرف، وجودة العرض، والقدرة على الإقناع.
12- أن الإسلام يذهب جميع الفوارق والعداوات ويصهر أتباعه في وحدة واحدة من أول لحظة يعتنقه أتباعه إذا كانوا على الفطرة، فها هو قد أذهب الشحناء بين الأوس والخزرج في أول سنة فيقدم وفد العقبة من الأوس والخزرج.
13- إن الإسلام ليس كلمة تقال باللسان فحسب، بل هو حياة كاملة ومنهج شامل لجميع نواحي الحياة فلم يكتفِ منهم بقول: (( لا إله إلا الله )).
14- البدء بتربية الناس واختبار قدراتهم في الاتباع والانقياد على الأمور البسيطة قبل فرض التكاليف التي تحتاج إلى تضحية كالجهاد مثلاً، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - طلب منهم ترك بعض ما انتشر عندهم من فساد، ولم يطالبهم بتكاليف أخرى غير إخلاص العبادة لله ونبذ الشرك.
15- البدء بالأساس عند أخذ العهد والميثاق وهو التوحيد.
16- تنقية وتطهير المجتمع من الرذائل مقدمة على الجهاد.
17- إشعار الناس بمراقبة الله وخشيته، وليس بسلطة النظام، فما هددهم بالمتابعة والمراقبة في التزامهم بالتطبيق، وإنما قال لهم: (( فإن وفيتم فلكم الجنة... )).
18- إحاطة الداعية بواقع المجتمع وأحوال الناس، حيث جاءت البيعة على ترك المفاسد المنتشرة في المجتمع حالياً وليس عن مفاسد متوقعة أو غير قائمة.
19- تربية الناس على الطاعة المتبصرة والواعية لا على الطاعة العمياء، فقد جاء في نص وثيقة البيعة: (( ولا نعصيه في معروف )).
20- أن هذا الدين ما إن تخالط بشاشته القلوب حتى يصبح معتنقه نشطاً في الدعوة، فالأنصار لما رجعوا إلى أهلهم -ومع أنهم لم يجلسوا مع صاحب الرسالة إلا مرة واحدة- إلا أنهم حملوا مشعل هذا الدين واعتبروا أنفسهم الدعاة المناط بهم تبليغه ونشره؛ فلهذا أسلم على أيديهم أعداد كثيرة.
العقبة الثانية:
قال جابر بن عبد الله: (( مَكَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ يَتْبَعُ النَّاسَ فِي مَنَازِلِهِمْ بعُكَاظٍ وَمَجَنَّةَ وَفِي الْمَوَاسِمِ بِمِنًى يَقُولُ مَنْ يُؤْوِينِي مَنْ يَنْصُرُنِي حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّي وَلَهُ الْجَنَّةُ حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَخْرُجُ مِنَ الْيَمَنِ أَوْ مِنْ مُضَرَ كَذَا قَالَ فَيَأْتِيهِ قَوْمُهُ فَيَقُولُونَ احْذَرْ غُلَامَ قُرَيْشٍ لَا يَفْتِنُكَ وَيَمْشِي بَيْنَ رِجَالِهِمْ وَهُمْ يُشِيرُونَ إِلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ حَتَّى بَعَثَنَا اللَّهُ إِلَيْهِ مِنْ يَثْرِبَ فَآوَيْنَاهُ وَصَدَّقْنَاهُ فَيَخْرُجُ الرَّجُلُ مِنَّا فَيُؤْمِنُ بِهِ وَيُقْرِئُهُ الْقُرْآنَ فَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ فَيُسْلِمُونَ بِإِسْلَامِهِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ دَارٌ مِنْ دُورِ الْأَنْصَارِ إِلَّا وَفِيهَا رَهْطٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ ثُمَّ ائْتَمَرُوا جَمِيعًا فَقُلْنَا حَتَّى مَتَى نَتْرُكُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُطْرَدُ فِي جِبَالِ مَكَّةَ وَيَخَافُ فَرَحَلَ إِلَيْهِ مِنَّا سَبْعُونَ رَجُلًا حَتَّى قَدِمُوا عَلَيْهِ فِي الْمَوْسِمِ فَوَاعَدْنَاهُ شِعْبَ الْعَقَبَةِ فَاجْتَمَعْنَا عَلَيْهِ مِنْ رَجُلٍ وَرَجُلَيْنِ حَتَّى تَوَافَيْنَا فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ نُبَايِعُكَ قَالَ تُبَايِعُونِي عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي النَّشَاطِ وَالْكَسَلِ وَالنَّفَقَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ وَعَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأَنْ تَقُولُوا فِي اللَّهِ لَا تَخَافُونَ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ وَعَلَى أَنْ تَنْصُرُونِي فَتَمْنَعُونِي إِذَا قَدِمْتُ عَلَيْكُمْ مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَزْوَاجَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ وَلَكُمُ الْجَنَّةُ قَالَ فَقُمْنَا إِلَيْهِ فَبَايَعْنَاهُ وَأَخَذَ بِيَدِهِ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ وَهُوَ مِنْ أَصْغَرِهِمْ فَقَالَ رُوَيْدًا يَا أَهْلَ يَثْرِبَ فَإِنَّا لَمْ نَضْرِبْ أَكْبَادَ الْإِبِلِ إِلَّا وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَإِنَّ إِخْرَاجَهُ الْيَوْمَ مُفَارَقَةُ الْعَرَبِ كَافَّةً وَقَتْلُ خِيَارِكُمْ وَأَنْ تَعَضَّكُمُ السُّيُوفُ فَإِمَّا أَنْتُمْ قَوْمٌ تَصْبِرُونَ عَلَى ذَلِكَ وَأَجْرُكُمْ عَلَى اللَّهِ وَإِمَّا أَنْتُمْ قَوْمٌ تَخَافُونَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ جَبِينَةً فَبَيِّنُوا ذَلِكَ فَهُوَ عُذْرٌ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ قَالُوا أَمِطْ عَنَّا يَا أَسْعَدُ فَوَاللَّهِ لَا نَدَعُ هَذِهِ الْبَيْعَةَ أَبَدًا وَلَا نَسْلُبُهَا أَبَدًا قَالَ فَقُمْنَا إِلَيْهِ فَبَايَعْنَاهُ فَأَخَذَ عَلَيْنَا وَشَرَطَ وَيُعْطِينَا عَلَى ذَلِكَ الْجَنَّةَ ))(47).(1/86)
قال ابن إسحاق: حدثني معبد بن كعب أن أخاه عبد الله بن كعب حدثه أن أباه كعب بن مالك حدثه، قال كعب: (( خرجنا في حجاج قومنا من المشركين، وقد صلينا وفقهنا، ومعنا البراء بن معرور سيدنا وكبيرنا - زاد الحاكم: وكنا خمسمائة - حتى إذا كنا بظاهر البيداء قال: يا هؤلاء إني قد رأيت رأياً، ووالله ما أدري أتوافقونني عليه أم لا فقلنا: وما ذاك؟ قال: قد رأيت ألا أدع هذه البنية مني بظهر -يعني الكعبة- وأن أصلي إليها قال: فقلنا: والله ما بلغنا أن نبينا - صلى الله عليه وسلم - يصلي إلا إلى الشام، وما نريد أن نخالفه، فقال: إني لمصل إليها فقلنا له: لكنا لا نفعل. قال فكنا إذا حضرت الصلاة صلينا إلى الشام وصلى هو إلى الكعبة، حتى قدمنا مكة وقد كنا عبنا عليه ما صنع وأبى إلا الإقامة على ذلك، فلما قدمنا مكة قال لي: يا ابن أخي، انطلق بنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أسأله عما صنعت في سفري هذا، فإنه والله لقد وقع في نفسي منه شيء لما رأيت من خلافكم إياي فيه قال: فخرجنا نسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنا لا نعرفه لم نره قبل ذلك، فلقينا رجلاً من أهل مكة فسألناه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: هل تعرفانه؟ فقلنا: لا قال: فهل تعرفان العباس بن عبد المطلب عمه؟ قلنا: نعم، وقد كنا نعرف العباس كان لا يزال يقدم علينا تاجراً قال: فإذا دخلتما المسجد فهو الرجل الجالس مع العباس قال: فدخلنا المسجد فإذا العباس جالس ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس معه، فسلمنا ثم جلسنا إليه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للعباس: هل تعرف هذين الرجلين يا أبا الفضل؟ قال: نعم، هذا البراء بن معرور سيد قومه، وهذا كعب بن مالك قال: فوالله ما أنسى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: الشاعر؟ قال: نعم فقال البراء بن معرور: يا نبي الله، إني خرجت في سفري هذا وقد هداني الله تعالى للإسلام، فرأيت ألا أجعل هذه البنية مني بظهر فصليت إليها، وقد خالفني أصحابي في ذلك، حتى وقع في نفسي من ذلك شيء، فماذا ترى يا رسول الله؟ قال: قد كنت على قبلة لو صبرت عليها، قال: فرجع البراء إلى قبلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصلى معنا إلى الشام قال: وأهله يزعمون أنه صلى إلى الكعبة حتى مات، وليس ذلك كما قالوا: نحن أعلم به منهم.
قال ابن هشام: وقال عون بن أيوب الأنصاري:
ومنا المصلي أول الناس مقبلاً على كعبة الرحمن بين المشاعر
يعني البراء بن معرور.
قال كعب: ثم خرجنا إلى الحج، وواعدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العقبة من أوسط أيام التشريق قال: فلما فرغنا من الحج، وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لها، ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر، سيد من ساداتنا، وشريف من أشرافنا، أخذناه معنا، وكنا نكتم من معنا من قومنا من المشركين أمرنا، فكلمناه وقلنا له: يا أبا جابر، إنك سيد من ساداتنا، وشريف من أشرافنا، وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطباً للنار غداً، ثم دعوناه إلى الإسلام، وأخبرناه بميعاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إيانا العقبة قال: فأسلم وشهد معنا العقبة، وكان نقيباً. قال: فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا، حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، نتسلل تسلل القطا مستخفين، حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة، ونحن ثلاثة وسبعون رجلاً، ومعنا امرأتان من نسائنا: نسيبة بنت كعب، أم عمارة، إحدى نساء بني مازن من النجار، وأسماء بنت عمرو بن عدي بن نابي، إحدى نساء بني سلمة، وهي أم منيع. قال: فاجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى جاءنا ومعه عمه العباس بن عبد المطلب، وهو يومئذ على دين قومه، إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق له، فلما جلس كان أول متكلم العباس بن عبد المطلب، فقال: يا معشر الخزرج - قال: وكانت العرب إنما يسمون هذا الحي من الأنصار: الخزرج، خزرجها وأوسها - إن محمداً منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا، ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو في عز من قومه ومنعة في بلده، وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم، واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم، فمن الآن فدعوه، إنه في عز ومنعة من قومه وبلده. قال: فقلنا له: قد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله، فخذ لنفسك ولربك ما أحببت. قال: فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلا القرآن، ودعا إلى الله، ورغب في الإسلام، ثم قال: أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم. قال: فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: نعم، والذي بعثك بالحق نبياً، لنمنعنك مما نمنع منه أُزُرنا، فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أبناء الحروب، وأهل الحلقة، ورثناها كابراً عن كابر. قال: فاعترض القول - والبراء يكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو الهيثم بن التيّهان فقال: يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال حبالاً، وإنا قاطعوها - يعني اليهود - فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ قال: فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم.
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قال: أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيباً، ليكونوا على قومهم بما فيهم، فأخرجوا منهم اثني عشر نقيبا، تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس.
قال ابن هشام: ويقال: الهدم الهدم: يعني الحرمة، أي ذمتي ذمتكم، وحرمتي حرمتكم.
قال كعب: كان أول من ضرب على يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البراء بن
معرور، ثم بايع بعد القوم.
فلما بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صرخ الشيطان من رأس العقبة بأنفذ صوت سمعته قط: يا أهل الجباجب - والجباجب: المنازل - هل لكم في مذمم والصباة معه، قد اجتمعوا على حربكم.
قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا أزبّ العقبة، هذا ابن أَزْيَب - قال ابن هشام: ويقال ابن أُزَيب - أتسمع أي عدو الله، أما والله لأفرغن لك.
قال: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ارفضوا إلى رحالكم.
قال: فقال له العباس بن عبادة بن نَضْلة: والله الذي بعثك بالحق إن شئت لنميلن على أهل منى غداً بأسيافنا؟
قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم قال: فرجعنا إلى مضاجعنا، فنمنا عليها حتى أصبحنا.
قال: فلما أصبحنا غدت علينا جِلّة قريش، حتى جاءونا في منازلنا، فقالوا: يا معشر الخزرج، إنه قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا، وتبايعونه على حربنا، وإنه والله ما من حي من العرب أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم.
قال: فانبعث من هناك من مشركي قومنا يحلفون بالله ما كان من هذا شيء وما علمناه.
قال: وقد صدقوا، لم يعلموه، قال: وبعضنا ينظر إلى بعض، قال: ثم قام القوم، وفيهم الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي، وعليه نعلان له جديدان، قال: فقلت له كلمة - كأني أريد أن أَشْرك القوم بها فيما قالوا: يا أبا جابر، أما تستطيع أن تتخذ، وأنت سيد من ساداتنا، مثل نعلي هذا الفتى من قريش؟
قال: فسمعها الحارث، فخلعهما من رجليه ثم رمى بهما إلي، وقال: والله لتنتعلنهما.
قال: يقول أبو جابر: مه، أحفظت والله الفتى، فاردد إليه نعليه، قال: قلت: والله لا أردهما، فأل والله صالح، لئن صدق الفأل لأسلبنه ))(48).
قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة: (( أن القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري، أخو بني سالم بن عوف: يا معشر الخزرج، هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ قالوا: نعم. قال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس، فإن كنتم ترون أنكم إذا نُهكت أموالكم مصيبة، وأشرافكم قتلاً أسلمتموه فمن الآن، فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نَهْكة الأموال، وقتل الأشراف فخذوه، فهو والله خير الدنيا والآخرة، قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال، وقتل الأشراف، فمالنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا بذلك؟ قال: الجنة، قالوا: ابسط يدك، فبسط يده فبايعوه ))(49).
عَنْ جُنَادَةَ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ قَالَ: (( دَخَلْنَا عَلَى عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَهُوَ مَرِيضٌ قُلْنَا أَصْلَحَكَ اللَّهُ حَدِّثْ بِحَدِيثٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهِ سَمِعْتَهُ مِنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ دَعَانَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَبَايَعْنَاهُ فَقَالَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا أَنْ بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا وَأَثَرَةً عَلَيْنَا وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنَ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ ))(50).
الاحتياطات لاجتماع العقبة الثانية:
1- السرية التامة التي أحاطت بالاجتماع من بدايته إلى نهايته: (( وكنا نكتم من معنا من قومنا من المشركين أمرنا )).
2- الخروج من المدينة مع المشركين دون تميز في قافلة خاصة.
3- ضرب الموعد في أيام الحج في المشاعر حيث الناس مشغولون بمناسكهم وليس في مكة قبل الحج.
4- عدم الحديث عن الموعد أو الإشارة إليه أو التلميح به حين التقى البراء بن معرور وكعب بن مالك بالرسول - صلى الله عليه وسلم - في مكة.
5- مجيء الرسول - صلى الله عليه وسلم - بصحبة عمه العباس يحتمل أن يكون تعتيماً على قريش وقطعاً للمتابعة اللصيقة منهم، إذ لو خرج مع أبي بكر أو عمر لربما صحبه أبو لهب أو أبو جهل لمتابعته كما كانوا يفعلون، ثم إن العباس عمه ومن أهله فلا يستنكر أن يخرج الرجل مع أقاربه.
6- اختيار المكان المناسب (( العقبة في منى )) فليس المكان بعيداً بحيث يفتقدون ولا يتم الاجتماع بوقت قصير لطول الطريق، ولم يكن المكان مكشوفاً بل بينه وبين منازل الناس الجبل.
7- اختيار الزمن المناسب (( أوسط أيام التشريق )) فليس في أولها والناس منشغلون بالمناسك يستقون ويذهبون ويأتون، ولا في آخرها والناس يستعدون للسفر.
8- اختيار الوقت المناسب (( بعد ثلث الليل الأول )) فليس في أوله، فقد يكون بعض الناس مازال مستيقظاً، ولا في آخره فيأخذ بعضهم حظه من النوم فربما استيقظ لأدنى حركة.
9- المبيت مع المشركين في منازلهم أول الليل.
10- طريقة الخروج من بين ظهراني المشركين (( التسلل من الفرش مستخفين )).
11- كيفية المشي والسير والحركة (( مشي القطا مستخفين حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة )).
12- كيفية التجمع (( واحد واثنان )).
13- الحضور للاجتماع في وقت واحد دون تخلف أو تأخر أحد منهم على الرغم من كثرة العدد (( ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان )).
14- تجمعهم كلهم قبل مجيء الرسول - صلى الله عليه وسلم - بحيث لو اكتشف الاجتماع كان أمراً عادياً حيث لم يكن معهم غريب يثير التساؤل.
15- عدم فسح المجال للكلمات والخطب أو لكل شخص للتعبير عن ما في نفسه، لأن هذا يطيل المجلس وربما تسبب في اكتشافه.
16- إنهاء الاجتماع بوقت قصير.
17- ترك موقع الاجتماع بسرعة وللجميع، فعلى الرغم من حرص الجميع على البقاء أكثر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وبخاصة أن بعضهم يراه لأول مرة فيحب أن تكتحل عينه برؤية النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن ليس هذا وقته.
18- الرجوع إلى المنازل والنوم في الفرش حتى الصباح.
19- ترك الحديث في الموضوع بعد الرجوع إلى المنازل.
20- التعتيم على الاجتماع وصرف التساؤل عنه بطرح قضايا هامشية في الوقت الذي تطرح فيه قريش أمراً مصيرياً، كما في قصة كعب مع الحارث بن هشام.
ولقد نجح هذا التخطيط أعظم نجاح، فهو وإن كان في بلد الشرك والكفر، وفي زمن تجمع المشركين، فإن هذا التخطيط الدقيق قد أخفى هذا الاجتماع على جميع الحجاج.
وأكبر دليل على ذلك أن الذي تولى الدفاع وإنكار الاجتماع هم من ينامون ويجاورون المسلمين في فرشهم.
بعض الدروس والعظات والفوائد:
1- تتبع الرسول - صلى الله عليه وسلم - للناس في منازلهم وأسواقهم عشر سنين يكشف لنا مدى الجهد والتعب الذي بذله الرسول - صلى الله عليه وسلم - في دعوته ومدى صبره ومواصلته للعمل، وعدم اليأس من صلاح الناس وهدايتهم.
2- حجم الدعاية الإعلامية التي شنتها قريش ضد الرسول - صلى الله عليه وسلم - بين قبائل العرب حتى جعل الناس يحذرون أفرادهم منه.
3- أن الحملة الدعائية مهما كان حجمها والجهود التي بذلت فيها ومهما كان اتساعها فإنها تبقى محدودة ولن تستقطب جميع الناس حيث يبقى من لا تؤثر فيه تلك الدعايات ممن هو خارج عن إطار الإمعات.
4- لا يستوحش من الحق لقلة السالكين وهذا الدين سيمكن في الأرض ولو بعد حين، فقد بقي النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاث عشرة سنة يطارد بمكة ويحذر منه، فلم يتطرق إلى نفسه اليأس من الانتصار، وجاء نصر الله مسوقاً إليه من أهل المدينة، فالاضطهاد والملاحقة لا تثني الداعي عن دعوته، ولا تمنع من استجابة الناس له.
5- التفكير في إخراج الدعوة من الحصار الذي يضربه عليها أعداؤها وفك الخناق عنها، فلقد كان ذلك هو شغل الأنصار الشاغل وهمهم الذي ينامون عليه ويصحون معه، مع الشعور بالمسؤولية وإن لم يطلب منهم ذلك، حيث أن حجر الداعية ومنعه والحظر عليه مضرة بالمدعوين أكثر من الداعي، لذا قالوا: (( حتى متى نترك رسول الله... )).
6- الإنكار على من اجتهد مع وجود النص، كما أنكر الأنصار على البراء بن معرور صلاته إلى الكعبة، ولكن مع ذلك لم يحصل مقاطعة أو منافرة.
7- استفتاء العلماء عند وقوع خلاف (( مثل: طلب البراء بن معرور اللقاء مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليعرض عليه المسألة )).
8- رد المخطئ إلى الصواب دون تبكيت له فما زجره ولا نهره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما اجتهد البراء.
9- هكذا يجب أن تكون التربية فقد رجع البراء بن معرور إلى القبلة بكلمة من الرسول صلى الله عليه وسلم: (( قد كنت على قبلة لو صبرت عليها )) فلم يتطلب الأمر إلى كلام كثير ووسائل إقناع .
10- كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - على بصيرة واطلاع على أحوال المجتمع الجديد الذي سيحتضن الإسلام، حتى أنه ليعرف ميزة بعض أفراده (( قال: الشاعر )) وهذا مفيد في الاستفادة من جميع القدرات وتوظيفها في مواقعها المناسبة.
11- مفارقة الأهل والأقارب إذا أصبحوا عقبة في طريق الدعوة.
12- حرص الرسول - صلى الله عليه وسلم - على الهجرة إلى المدينة مع أنه في عز ومنعة من قومه، لأن الأمن الذي يسعى إليه - صلى الله عليه وسلم - هو الأمن للدين لا للنفس والبدن والأهل.
13- لعل مجيء العباس مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان تأكيداً للأنصار أن الأمن المطلوب للدعوة لا لشخص الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد ذكرهم بمكانة الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندهم وحمايتهم لشخصه.
14- الاستفادة من أنظمة وتقاليد وعادات المجتمع في نصرة الدعوة بشرط أن لا تكون على سبيل المقايظة، حيث أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد امتنع بالعصبية القبلية في قومه فلم يخلص إليه كما قال العباس بن عبد المطلب.
15- البدء بالتذكير والوعظ وترغيب النفوس وترقيق القلوب مهما كانت أهمية الاجتماع وخطورته، فلم يَكِلهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى ما يعلمون (( فتكلم رسول الله، فتلا القرآن، ودعا إلى الله، ورغب في الإسلام )).
16- الصدق والإخلاص مع إدراك المخاطر كلها التي تمر بها الدعوة كان ظاهراً في هذا الاجتماع (( فخذ لنفسك ولربك ما أحببت )) فلم يقولوا: اذكر لنا ما تريد أو تكلم بما أحببت أو اعرض علينا شروطك، فيكون في هذا مجال اختيار ونظر، ولكنهم رضي الله عنهم أبانوا أنهم على استعداد لتحمل جميع التكاليف دون أن يكون لهم الخيرة من أمرهم.
17- أكثر أنصار الدعوة شباب وهم عماد الأمة إذا قيدوا بالإيمان والعلم والتربية (( قال العباس: هؤلاء أحداث )).
18- اتخاذ جميع الاحتياطات لحماية الدعوة والدعاة لا ينافي التوكل.
19- الاهتمام بدعوة الأشراف الذين يرجى منهم القبول واتخاذ الأسلوب الأمثل في دعوتهم، ومدحهم بما فيهم (( مثل دعوة والد جابر )).
20- لا يشترط في الولاية الأسبقية بل الأهلية مقدمة على ذلك، فعبد الله بن عمرو بن حرام كان جديداً في الإسلام ومع ذلك كان نقيباً.
21- الوضوح والصراحة عند المعاهدة أو المعاقدة على دعوة وقد بيّن الرسول - صلى الله عليه وسلم - للأنصار ما يطلب منهم حتى يكونوا على بينة من أمرهم، فلم يكن مستغلاً لعددهم وعدتهم فيستر عنهم مشاكله التي تمر بها دعوته بل أوضح لهم كل ما يحف به من مخاطر.
22- سرعة استجابتهم مع إدراكهم حجم الخطر الذي سيحل بهم دليل على تمكن الإسلام من قلوبهم واستعدادهم الكبير للبذل والعطاء من أجله (( أمط عنا يدك فوالله لا نذر هذه البيعة ولا نستقيلها )).
23- حاجة الدعوة إلى الرجال الناصرين لها... .
24- الدقة التامة في المواعيد فلم يتخلف رجل واحد منهم أو يتأخر عن الوقت.
25- الشروط الخمسة في البيعة: وتبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن تقولوا في الله لا تأخذكم لومة لائم، وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم.
كانت واضحة جلية ولم يكن شيء منها عائماً، حتى يكون المستعد لخدمة هذا الدين متبصراً عارفاً بكل الأمور والمتطلبات، ويخطئ من يظن أن مواجهة العدو والدفاع عن هذا الدين تأتي من خلال الكلام العائم، والحماس المندفع للإسلام بدون تبصر وروية.
26- يجب توقع أسوأ النتائج وعرضها على جميع المستعدين للذب عن هذا الدين، حتى تتميز الصفوف أولاً، ويقطع العذر على المتخاذل، ويكون التخطيط دقيقاً والخطوات محسوبة، ولا يعطي أحد البيعة إلا وعنده القدرة على الوفاء بها مع الصبر على تبعاتها.
وهذا هو طريق الأنبياء، لابد من بذل وتضحيات، أما الدعوة بدون تكاليف، وبلا تضحيات، وبدون بذل وجهد فهذا شيء آخر.
قال أسعد بن زرارة: (( ...وأن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة، وقتل خياركم، وأن يعضكم السيف، فإن أنتم قوم تصبرون عليها إذا مستكم، وعلى قتل خياركم، ومفارقة العرب كافة فخذوه وأجركم على الله، وإن أنتم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه فهو عذر عند الله -عز وجل- ! )).
فينبغي البعد عن تخدير الناس بالأماني الجميلة والمواعيد الحلوة، والأحلام المحببة للنفوس، فالطريق طويل وصعب وشائك.
27- السعي لتمكين الدين في الأرض لا لتمكين الأشخاص، ولهذا كان الضمان الوحيد لأهل البيعة (( الجنة )) فلا منصب ولا وزارة ولا وظيفة... ولا مكان للذي يطلب العاجل، فالدعوة والجهاد وبذل المال والنفس كلها يجب أن يقصد بها وجه الله والدار الآخرة (( فأخذ علينا ليعطينا بذلك الجنة )).
28- يؤخذ من قول الهيثم بن التيهان (( إن بيننا وبين القوم حبال... )) أن مقاطعة اليهود والنصارى من بدهيات العقيدة، فلم يقل فهل ترى أن نقطعها!!
29- وفي قوله: (( بل الدم الدم )) دليل على تحمل الداعية والراعي ما يصيب الناس، وأنه جزء من المجتمع فهم شركاء مصيرهم واحد.
30- تنظيم الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأصحاب العقبة وتقسيمهم وجعل العرفاء والنقباء عليهم، مما يسهل الاتصال بهم، والقدرة على تربيتهم ومتابعتهم.
31- عدم تحمل الشيطان الحدث فبعد نجاح التخطيط حاول بنفسه البلاغ عن الاجتماع (( يا أهل الجباجب )).
32- صرف الكلام عن مجراه وتحويره ليبطل الخطر المتربص في الدعوة، وتلهية الأعداء إذا خيف كشف الخطط، والتعتيم في مثل هذه الحالة من الذكاء والفطنة، فكأنه يقول لسنا من أصحاب الاجتماعات بل هممنا لا تتعدى الانشغال بمثل هذه التوافه كالنعلين، فالرجل كان يتحدث عن قضية مصيرية خطيرة وكعب مشغول بحذائه الجديدة !!
33- قوله: (( أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيباً )) ولم يختر لهم مع أنه بإمكانه أن يختار من بايعه في العقبة الأولى وهم من السابقين وكان عددهم اثني عشر، فأعطاهم الحق في الاختيار احتراماً لآرائهم وعقولهم، واستفادة من طاقتهم وخبرتهم بالرجال في اختيار الأفضل.
34- المفاصلة في العقيدة من أول لحظة تتضح لمن يعتنق الإسلام وتكون فطرته سليمة، فأعظم ما يدافع العربي عن قومه وعشيرته، لكن العباس بن نضلة أراد أن يميل عليهم ويبيتهم في منازلهم!!
35- الدعوة تساس بالتخطيط والتعقل لا بالانفعالات والرغبات، والداعية لا يتأثر بحماس أتباعه (( إن أردت أن نميل على أهل منى بأسيافنا )) والتحسب لقطرة دم تخرج بفعل نزوة عاطفية، أو حماس غير منضبط، أما إذا جد الجد فالأرواح فداء لدين الله تعالى، فروح الاستبسال سادت هذا الجمع الطاهر ولكن ما أثرت على التخطيط.
ويجب النظر في العواقب وإدراكها تماماً، حتى يعرف الداعية أين يضع قدمه، فلا يبتّ بأمر لم يقدر جميع ظروفه.
36- تقدير الحماس مع عدم الاستجابة له والرد عليه بالتي هي أحسن (( لم نؤمر بذلك )).
37- عمل الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتحركاته وسياسته تنطلق من شرع الله، ولهذا بين للصحابي ذلك بقوله: (( لم نؤمر بذلك )).
38- إن الرجال الذين يعدون لحمل راية الإسلام، وقيام الدين على سواعدهم، غير الذين يريدون أن يعيشوا على هامش الحياة.
39- أن الدين الإسلامي لم يصل إلينا بسهولة بل بعد جهد وبذل للأنفس والأموال، ومفارقة للأهل والديار.
40- (( ففي البيعة الأولى كان الإيمان بالله ورسوله، وفي البيعة الثانية كان العهد على الهجرة، والجهاد.
وبهذه العناصر الثلاثة: الإيمان، والهجرة، والجهاد، يتحقق وجود الإسلام في واقع جماعي ممكن.(1/87)
والهجرة لم تكن لتتم لولا وجود الفئة المستعدة للإيواء، ولهذا قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (الأنفال: 72)، ولم تكن البيعة والهجرة والجهاد لتتم لو لا انسلاخ المؤمنين الجدد من ولائهم القبلي والوطني، للولاء الشرعي، وتركهم لقاداتهم العشائرية إلى القيادة الإسلامية الواحدة... ))(51).
إذن الرسول - صلى الله عليه وسلم - للمسلمين بالهجرة:
أخرج البخاري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (( إِنِّي أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لَابَتَيْنِ وَهُمَا الْحَرَّتَانِ )) فَهَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ قِبَلَ الْمَدِينَةِ وَرَجَعَ عَامَّةُ مَنْ كَانَ هَاجَرَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ... ))(52).
وفي صحيح مسلم: (( رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب وهلي إلى أنها اليمامة أو هجر فإذا هي المدينة يثرب ))(53).
أخرج ابن سعد عن الواقدي من حديث عائشة وسهل بن حنيف قالا: (( لما صدر السبعون من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طابت نفسه، وقد جعل الله له منعة وقوماً أهل حرب وعدة ونجدة، وجعل البلاء يشتد على المسلمين من المشركين لما يعلمون من الخروج، فضيقوا على أصحابه ونالوا منهم مالم يكونوا ينالون من الشتم والأذى فشكا ذلك أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واستأذنوه في الهجرة فقال: (( قد أريت دار هجرتكم، أريت سبخة ذات نخل بين لابتين وهما الحرتان، ولو كانت السراة أرض نخل وسباخ لقلت هي هي )) ثم مكث أياماً، ثم خرج إلى أصحابه مسروراً فقال: (( قد أخبرت بدار هجرتكم، وهي يثرب، فمن أراد الخروج فليخرج إليها )) فجعل القوم يتجهزون ويتوافقون ويتواسون ويخرجون ويخفون ذلك... ))(54).
طلائع المهاجرين:
أخرج البخاري عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (( أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ وَكَانَا يُقْرِئَانِ النَّاسَ فَقَدِمَ بِلَالٌ وَسَعْدٌ وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ ثُمَّ قَدِمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي عِشْرِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ قَدِمَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَمَا رَأَيْتُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ فَرِحُوا بِشَيْءٍ فَرَحَهُمْ بِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى جَعَلَ الْإِمَاءُ يَقُلْنَ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَمَا قَدِمَ حَتَّى قَرَأْتُ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} (الأعلى: 1) فِي سُوَرٍ مِنَ الْمُفَصَّلِ ))(55).
الدروس والعظات:
1- كان المهاجرون ينتظرون الفرج بفارغ الصبر من هذا الأذى الذي تصبه عليهم قريش، فما كاد أن ينتهي الرسول - صلى الله عليه وسلم - من قص رؤياه في الهجرة إلى المدينة حتى بادروا بالخروج إليها تاركين وراءهم أهلهم وأموالهم وبلادهم، فراراً بدينهم إلى الله.
2- ترتيب عملية الهجرة، بحيث يخرجون مثنى وثلاث.
3- العمل للدين واجب الجميع، والمبادرة إلى فعل الخير في أي مكان حل فيه المسلم فهو كالغيث حيثما وقع نفع، فطليعة المهاجرين فتحوا حلقات للتعليم فور وصولهم المدينة.
4- التعليم للجميع فلم يقتصر تعليم المهاجرين على كبار الأنصار بل شمل الأطفال أيضاً.
5- حرص الأنصار على تعليم أطفالهم وتربيتهم على دين الله (( فما جاء حتى قرأت سبح )).
6- مشاركة الأطفال في الأفراح بقدوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تربية لهم على حب الله ورسوله.
هجرة عمر وعياش:
قال ابن إسحاق: حدثني نافع مولى عبد الله بن عمر عن عبد الله عن أبيه عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: (( اتعدت لما أردنا الهجرة أنا وعياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص بن وائل السهمي، التناضُب من أَضاة بني غفار(56)، فوق سَرِف، وقلنا: أينا لم يصبح عندها فقد حبس، فليمض صاحباه. قال: فأصبحت أنا وعياش بن أبي ربيعة عند التناضب وحبس عنا هشام، وفتن فافتتن. فلما قدمنا المدينة نزلنا في بني عمرو بن عوف بقباء، وخرج أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام إلى عياش بن أبي ربيعة، وكان ابن عمهما وأخاهما لأمهما، حتى قدما علينا المدينة، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة، فكلماه وقالا: إن أمك قد نذرت أن لا يمس رأسها مشط حتى تراك، ولا تستظل من شمس حتى تراك، فرق لها، فقلت له: يا عياش، إنه والله إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك فاحذرهم، فوالله لو قد آذى أمك القمل لامتشطت، ولو قد اشتد عليها حر مكة لاستظلت. قال: فقال: أبر بقسم أمي ولي هنالك مال فآخذه. قال: فقلت: والله إنك لتعلم أني لمن أكثر قريش مالاً، فلك نصف مالي ولا تذهب معهما. قال: فأبى علي إلا أن يخرج معهما، فلما أبى إلا ذلك قال: قلت له: أما إذ قد فعلت ما فعلت، فخذ ناقتي هذه، فإنها ناقة نجيبة ذلول، فالزم ظهرها، فإن رابك من القوم ريب، فانج عليها. فخرج عليها معهما، حتى إذا كانوا ببعض الطريق، قال له أبو جهل: يا ابن أخي، والله لقد استغلظت بعيري هذا، أفلا تعقبني على ناقتك هذه؟ قال: بلى قال: فأناخ وأناخا ليتحول عليها، فلما استووا بالأرض عدوا عليه، فأوثقاه وربطاه، ثم دخلا به مكة، وفتناه فافتتن.
قال ابن إسحاق: فحدثني به بعض آل عياش بن أبي ربيعة: أنهما حين دخلا به مكة دخلا به نهاراً موثقاً، ثم قالا: يا أهل مكة، هكذا فافعلوا بسفهائكم، كما فعلنا بسفيهنا هذا.
قال ابن إسحاق: وحدثني نافع، عن عبد الله بن عمر، عن عمر في حديثه، قال: فكنا نقول: ما الله بقابل ممن افتتن صرفاً ولا عدلاً ولا توبة، قوم عرفوا الله ثم رجعوا إلى الكفر لبلاء أصابهم!
قال: وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم.
فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، أنزل الله تعالى فيهم، وفي قولنا وقولهم لأنفسهم: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَتِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ، وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} (الزمر: 53 - 55).
قال عمر بن الخطاب: فكتبتها بيدي في صحيفة، وبعثت بها إلى هشام ابن العاصي.
قال: فقال هشام بن العاصي: فلما أتتني جعلت أقرؤها بذي طوى(57) أصعد بها فيه وأصوب ولا أفهمها، حتى قلت: اللهم فهّمنيها قال: فألقى الله تعالى في قلبي أنها إنما أنزلت فينا، وفيما كنا نقول في أنفسنا، ويقال فينا، قال: فرجعت إلى بعيري، فجلست عليه، فلحقت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بالمدينة ))(58).
وهذا يضعف الرواية التي تذكر هجرة عمر علانية، وأنه تنكب قوسه وجاء إلى المسجد فقال لقريش: من أراد أن تثلكه أمه... الخ، فإن مدار هذه القصة على الزبير بن محمد بن خالد العثماني: حدثنا عبدالله بن القاسم الأملي (كذا الأصل ولعله الأيلي) عن أبيه بإسناده إلى علي رضي الله عنه، وهؤلاء الثلاثة في عداد المجهولين، فإن أحداً من أهل الجرح والتعديل لم يذكرهم مطلقاً، كذا قال الألباني في كتابه (( دفاع عن السنة والسيرة النبوية ))(59).
الدروس والعظات:
1- ترتيب عمر وأصحابه لهجرتهم واختيار الوقت المبكر لها، والاتعاد في مكان بعيد عن الأنظار خارج مكة، دلالة على ملاحقة المشركين للمهاجرين ودقة متابعتهم لهم ومنعهم من السفر.
2- عدم تأثير العاطفة على التخطيط والتنظيم، فقد انطلق عمر وعياش لما تأخر عليهم هشام فلم يبقوا في انتظاره.
3- قيام قريش بسجن وحجز كل من تعلم بهجرته كما فعلت مع هشام.
4- كل الخلق يكبدون ويتعبون، ولكن شتان بينهم، فهذا يتعب ويكبد لدعوة، وذاك لنزوة كما قال تعالى: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَالا يَرْجُونَ} (النساء: 104)، وقال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} (البلد: 4)، وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} (الانشقاق: 6)، وفي حديث أبي مالك الحارث بن عاصم الأشعري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (( كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا ))(60) فلقد تعب المسلمون المهاجرون وتكبدوا عناء الطريق في سبيل الله تعالى وابتغاء مرضاته، كذلك تعب أبو جهل وأخوه وتكبدا عناء الطريق إلى المدينة في سبيل الشيطان.
5- وفي قصة أبي جهل مع عياش، بيان ما ينبغي عليه المسلم من الحذر الشديد من الأساليب الكيدية التي يستخدمها العدو.
6- الحذر من أساليب الاستعطاف التي قد يلجأ إليها العدو في الكيد للمؤمنين (( إن أمك قد نذرت أن لا يمس رأسها مشط... )).
7- فطنة عمر حيث أدرك مباشرة كيد أبي جهل لعياش.
8- نصح عمر لعياش وتوجيهه ولفت نظره عن الوقوع في شراك المخادعة.
9- إنه مهما خالفك أخوك المسلم في رأيك ولم يأخذ بتوجيهك ونصحك فلا يعني ذلك التخلية بينه وبين عدوه وتركه وحده يلاقي مصيره، فعمر رضي الله عنه لم يتخلَّ عن عياش على الرغم من تركه لنصيحته بل بذل له نصف ماله لإقناعه، فلما لم يرض بالمرة الثانية، لم يغضب عليه ويقل: اذهب وستجد مصيرك، بل إنه أعطاه راحلته للنجاة عليها، وفي هذا استرخاص الأموال في سبيل نصرة أهل الإسلام.
10- عدم الثقة بالكافر مهما كانت قرابته، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} (آل عمران: 118)، وقال تعالى: {يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ} (التوبة: 8)، فالكفار لا يرقبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمةً، فهذا أخوهم وقد أمّناه ومع ذلك يوثقانه ويسخران منه أمام الناس.
11- استغلال الطاغية الكافر إذلال قريبه لتحريض الناس على جميع المؤمنين.
12- اهتمام عمر بأمر إخوانه الذين افتتنوا وفرحه الشديد بتوبة الله عليهم، ومكاتبتهم بذلك.
13- عظمة الإيمان في قلوب الصحابة، وكبر الذنوب في أعينهم، جعلهم يظنون أن من أجاب الكفار مكرهاً فإن الله لا يقبل منهم صرفاً ولا عدلاً.
مؤتمر دار الندوة:
إنّ لاجتماع قريش للتشاور في شأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شاهداً من كتاب الله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ} (الأنفال: 30)، ومما يقوي اجتماعات قريش في دار الندوة استفاضتها، وورودها من عدة طرق، يشد بعضها بعضاً(61).
قال ابن إسحاق: (( ولما رأت قريش أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد صارت له شيعة وأصحاب من غيرهم بغير بلدهم، ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم، عرفوا أنهم قد نزلوا داراً، وأصابوا منهم منعة، فحذروا خروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم، وعرفوا أنه قد أجمع لحربهم، فاجتمعوا له في دار الندوة - وهي دار قصي بن كلاب التي كانت قريش لا تقضي أمراً إلا فيها - يتشاورون فيها ما يصنعون في أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين خافوه )).
قال ابن إسحاق: فحدثني من لا أتهم من أصحابنا، عن عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد بن جبر أبي الحجاج، وغيره ممن لا أتهم، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (( لما أجمعوا لذلك واتعدوا أن يدخلوا في دار الندوة ليتشاوروا فيها في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، غدوا في اليوم الذي اتعدوا له، وكان ذلك اليوم يسمى يوم الزّحمة، فاعترضهم إبليس في هيئة شيخ جليل، عليه بتلة، فوقف على باب الدار، فلما رأوه واقفاً على بابها قالوا: من الشيخ؟ قال: شيخ من أهل نجد سمع بالذي اتعدتم له، فحضر معكم ليسمع ما تقولون، وعسى أن لا يُعدمكم منه رأياً ونصحاً، قالوا: أجل، فادخل، فدخل معهم وقد اجتمع فيها أشراف قريش، من بني عبد شمس: عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو سفيان بن حرب، ومن بني نوفل بن عبد مناف: طعيمة بن عدي، وجبير بن مطعم، والحارث بن عامر بن نوفل، ومن بني عبد الدار بن قصي: النضر بن الحارث بن كلدة، ومن بني أسد بن عبد العزى: أبو البختري بن هشام، وزَمعة بن الأسود بن المطلب، وحكيم بن حزام، ومن بني مخزوم: أبو جهل بن هشام، ومن بني سهم: نبيه ومنبه ابنا الحجاج، ومن بني جمح: أمية بن خلف، ومن كان معهم وغيرهم ممن لا يعد من قريش ))(62).
وبعد تداول الآراء وتقليب وجهات النظر اتفقوا على قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باختيار شاب من كل قبيلة ينفذون الخطة حتى يضيع دمه بين القبائل.
الهجرة النبوية:
أخرجها البخاري بطولها عن عائشة، وعن البراء بن عازب، وعن سراقة ابن مالك، وأنس بن مالك(63).
حديث عائشة رضي الله عنها:
روى البخاري عن عَائِشَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَتْ: (( لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ قَطُّ إِلَّا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إِلَّا يَأْتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - طَرَفَيِ النَّهَارِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً فَلَمَّا ابْتُلِيَ الْمُسْلِمُونَ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا نَحْوَ أَرْضِ الْحَبَشَةِ حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَرْكَ الْغِمَادِ(64) لَقِيَهُ ابْنُ الدَّغِنَةِ وَهُوَ سَيِّدُ الْقَارَةِ(65) فَقَالَ أَيْنَ تُرِيدُ يَا أَبَا بَكْرٍ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَخْرَجَنِي قَوْمِي فَأُرِيدُ أَنْ أَسِيحَ فِي الْأَرْضِ وَأَعْبُدَ رَبِّي قَالَ ابْنُ الدَّغِنَةِ فَإِنَّ مِثْلَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ لَا يَخْرُجُ وَلَا يُخْرَجُ إِنَّكَ تَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتَقْرِي الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ فَأَنَا لَكَ جَارٌ ارْجِعْ وَاعْبُدْ رَبَّكَ بِبَلَدِكَ فَرَجَعَ وَارْتَحَلَ مَعَهُ ابْنُ الدَّغِنَةِ فَطَافَ ابْنُ الدَّغِنَةِ عَشِيَّةً فِي أَشْرَافِ قُرَيْشٍ فَقَالَ لَهُمْ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لَا يَخْرُجُ مِثْلُهُ وَلَا يُخْرَجُ أَتُخْرِجُونَ رَجُلًا يَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَيَصِلُ الرَّحِمَ وَيَحْمِلُ الْكَلَّ وَيَقْرِي الضَّيْفَ وَيُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ فَلَمْ تُكَذِّبْ قُرَيْشٌ بِجِوَارِ ابْنِ الدَّغِنَةِ وَقَالُوا لِابْنِ الدَّغِنَةِ مُرْ أَبَا بَكْرٍ فَلْيَعْبُدْ رَبَّهُ فِي دَارِهِ فَلْيُصَلِّ فِيهَا وَلْيَقْرَأْ مَا شَاءَ وَلَا يُؤْذِينَا بِذَلِكَ وَلَا يَسْتَعْلِنْ بِهِ فَإِنَّا نَخْشَى أَنْ يَفْتِنَ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا فَقَالَ ذَلِكَ ابْنُ الدَّغِنَةِ لِأَبِي بَكْرٍ فَلَبِثَ أَبُو بَكْرٍ بِذَلِكَ يَعْبُدُ رَبَّهُ فِي دَارِهِ وَلَا يَسْتَعْلِنُ بِصَلَاتِهِ وَلَا يَقْرَأُ فِي غَيْرِ دَارِهِ ثُمَّ بَدَا لِأَبِي بَكْرٍ فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ وَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَيَنْقَذِفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ وَهُمْ يَعْجَبُونَ مِنْهُ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلًا بَكَّاءً لَا يَمْلِكُ عَيْنَيْهِ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ وَأَفْزَعَ ذَلِكَ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَأَرْسَلُوا إِلَى ابْنِ الدَّغِنَةِ فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ فَقَالُوا إِنَّا كُنَّا أَجَرْنَا أَبَا بَكْرٍ بِجِوَارِكَ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ فَقَدْ جَاوَزَ ذَلِكَ فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ فَأَعْلَنَ بِالصَّلَاةِ وَالْقِرَاءَةِ فِيهِ وَإِنَّا قَدْ خَشِينَا أَنْ يَفْتِنَ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا فَانْهَهُ فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ فَعَلَ وَإِنْ أَبَى إِلَّا أَنْ يُعْلِنَ بِذَلِكَ فَسَلْهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْكَ ذِمَّتَكَ فَإِنَّا قَدْ كَرِهْنَا أَنْ نُخْفِرَكَ وَلَسْنَا مُقِرِّينَ لِأَبِي بَكْرٍ الِاسْتِعْلَانَ قَالَتْ عَائِشَةُ فَأَتَى ابْنُ الدَّغِنَةِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ قَدْ عَلِمْتَ الَّذِي عَاقَدْتُ لَكَ عَلَيْهِ فَإِمَّا أَنْ تَقْتَصِرَ عَلَى ذَلِكَ وَإِمَّا أَنْ تَرْجِعَ إِلَيَّ ذِمَّتِي فَإِنِّي لَا أُحِبُّ أَنْ تَسْمَعَ الْعَرَبُ أَنِّي أُخْفِرْتُ فِي رَجُلٍ عَقَدْتُ لَهُ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ فَإِنِّي أَرُدُّ إِلَيْكَ جِوَارَكَ وَأَرْضَى بِجِوَارِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَئِذٍ بِمَكَّةَ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لِلْمُسْلِمِينَ إِنِّي أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لَابَتَيْنِ وَهُمَا الْحَرَّتَانِ فَهَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ قِبَلَ الْمَدِينَةِ وَرَجَعَ عَامَّةُ مَنْ كَانَ هَاجَرَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ وَتَجَهَّزَ أَبُو بَكْرٍ قِبَلَ الْمَدِينَةِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى رِسْلِكَ فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يُؤْذَنَ لِي فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَهَلْ تَرْجُو ذَلِكَ بِأَبِي أَنْتَ قَالَ نَعَمْ فَحَبَسَ أَبُو بَكْرٍ نَفْسَهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِيَصْحَبَهُ وَعَلَفَ رَاحِلَتَيْنِ كَانَتَا عِنْدَهُ وَرَقَ السَّمُرِ وَهُوَ الْخَبَطُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ
قَالَ عُرْوَةُ قَالَتْ عَائِشَةُ فَبَيْنَمَا نَحْنُ يَوْمًا جُلُوسٌ فِي بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ قَالَ قَائِلٌ لِأَبِي بَكْرٍ هَذَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مُتَقَنِّعًا فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَأْتِينَا فِيهَا فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ فِدَاءٌ لَهُ أَبِي وَأُمِّي وَاللَّهِ مَا جَاءَ بِهِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ إِلَّا أَمْرٌ قَالَتْ فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَاسْتَأْذَنَ فَأُذِنَ لَهُ فَدَخَلَ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لِأَبِي بَكْرٍ أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ إِنَّمَا هُمْ أَهْلُكَ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَإِنِّي قَدْ أُذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّحَابَةُ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَعَمْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَخُذْ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِحْدَى رَاحِلَتَيَّ هَاتَيْنِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالثَّمَنِ قَالَتْ عَائِشَةُ فَجَهَّزْنَاهُمَا أَحَثَّ الْجِهَازِ(66) وَصَنَعْنَا لَهُمَا سُفْرَةً فِي جِرَابٍ فَقَطَعَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ قِطْعَةً مِنْ نِطَاقِهَا فَرَبَطَتْ بِهِ عَلَى فَمِ الْجِرَابِ فَبِذَلِكَ سُمِّيَتْ ذَاتَ النِّطَاقَيْنِ قَالَتْ ثُمَّ لَحِقَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبُو بَكْرٍ بِغَارٍ فِي جَبَلِ ثَوْرٍ فَكَمَنَا فِيهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ يَبِيتُ عِنْدَهُمَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَهُوَ غُلَامٌ شَابٌّ ثَقِفٌ لَقِنٌ(67) فَيُدْلِجُ مِنْ عِنْدِهِمَا بِسَحَرٍ فَيُصْبِحُ مَعَ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ كَبَائِتٍ فَلَا يَسْمَعُ أَمْرًا يُكْتَادَانِ بِهِ إِلَّا وَعَاهُ حَتَّى يَأْتِيَهُمَا بِخَبَرِ ذَلِكَ حِينَ يَخْتَلِطُ الظَّلَامُ وَيَرْعَى عَلَيْهِمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ مِنْحَةً مِنْ غَنَمٍ فَيُرِيحُهَا عَلَيْهِمَا حِينَ تَذْهَبُ سَاعَةٌ مِنَ الْعِشَاءِ فَيَبِيتَانِ فِي رِسْلٍ وَهُوَ لَبَنُ مِنْحَتِهِمَا وَرَضِيفِهِمَا حَتَّى يَنْعِقَ بِهَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ بِغَلَسٍ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلَاثِ وَاسْتَأْجَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبُو بَكْرٍ رَجُلًا مِنْ بَنِي الدِّيلِ وَهُوَ مِنْ بَنِي عَبْدِ بْنِ عَدِيٍّ هَادِيَا خِرِّيتًا وَالْخِرِّيتُ الْمَاهِرُ بِالْهِدَايَةِ قَدْ غَمَسَ حِلْفًا فِي آلِ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ وَهُوَ عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ فَأَمِنَاهُ فَدَفَعَا إِلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا وَوَاعَدَاهُ غَارَ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلَاثِ لَيَالٍ بِرَاحِلَتَيْهِمَا صُبْحَ ثَلَاثٍ وَانْطَلَقَ مَعَهُمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ وَالدَّلِيلُ فَأَخَذَ بِهِمْ طَرِيقَ السَّوَاحِلِ ))(68).
وقال البخاري في (( صحيحه )): (( باب استئجار المشركين عند الضرورة، أو إذا لم يوجد أهل الإسلام ))، ثم ذكر حديث عائشة في استئجار النبي وأبي بكر رجلاً من بني الديل هادياً خريتاً(69).
وفي رواية هشام بن عروة عن أبيه عند ابن حبان: (( استأذن أبو بكر النبي - صلى الله عليه وسلم - في الخروج من مكة ))(70).
وعند موسى بن عقبة: (( وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يخطئه يوم إلا أتى منزل أبي بكر أول النهار وآخره ))(71).
وفي حديث أسماء بنت أبي بكر عند الطبراني: (( كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأتينا بمكة كل يوم مرتين بكرة وعشية، فلما كان يوم من ذلك جاءنا في الظهيرة، فقلت: يا أبت هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ))(72).
وفي رواية موسى بن عقبة عن ابن شهاب: (( قالت عائشة: وليس عند أبي بكر إلا أنا وأسماء ))، وفيها: (( فقال أبو بكر: يا رسول الله ما جاء بك إلا أمر حدث ))، وفيها: (( قال: أخرج من عندك قال: لا عين عليك، إنما هما ابنتاي )). وكذلك في رواية هشام بن عروة.
وفي رواية هشام: (( فقال: الصحبة يا رسول الله، قال: الصحبة )).(1/88)
زاد ابن اسحاق في روايته: (( قالت عائشة: فرأيت أبا بكر يبكي، وما كنت أحسب أن أحداً يبكي من الفرح ))، وفيها: (( قال: لا أركب بعيراً ليس هو لي، قال: فهو لك، قال: لا، ولكن بالثمن الذي ابتعتها به، قال: أخذته بكذا وكذا، قال: أخذتها بذلك، قال: هي لك ))(73).
وفي حديث أسماء بنت أبي بكر عند الطبراني: (( فقال: بثمنها يا أبا بكر، فقال: بثمنها إن شئت ))(74).
وأفاد الواقدي: (( أن الثمن ثمانمائة، وأن التي أخذها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أبي بكر هي القصواء، وأنها كانت من نعم بني قشير، وأنها عاشت بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - قليلاً وماتت في خلافة أبي بكر، وكانت مرسلة ترعى بالبقيع، وأفاد أنه كان بالسفرة شاة مطبوخة ))(75).
أخرج البخاري عن أبي بكر رضي الله عنه قال: (( كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الغار، فرفعت رأسي فإذا أنا بأقدام القوم، فقلت: يا نبي الله لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا، قال: اسكت يا أبا بكر، اثنان الله ثالثهما ))(76).
أخرج البخاري عن أنس عن أبي بكر رضي الله عنه قال: (( قلت للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا في الغار: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، فقال: ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما ))(77).
أخرج البخاري عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: (( اشْتَرَى أَبُو بَكْرٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ مِنْ عَازِبٍ رَحْلاً بِثَلَاثَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِعَازِبٍ مُرِ الْبَرَاءَ فَلْيَحْمِلْ إِلَيَّ رَحْلِي فَقَالَ عَازِبٌ لَا حَتَّى تُحَدِّثَنَا كَيْفَ صَنَعْتَ أَنْتَ وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ خَرَجْتُمَا مِنْ مَكَّةَ وَالْمُشْرِكُونَ يَطْلُبُونَكُمْ قَالَ ارْتَحَلْنَا مِنْ مَكَّةَ فَأَحْيَيْنَا أَوْ سَرَيْنَا لَيْلَتَنَا وَيَوْمَنَا حَتَّى أَظْهَرْنَا وَقَامَ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ فَرَمَيْتُ بِبَصَرِي هَلْ أَرَى مِنْ ظِلٍّ فَآوِيَ إِلَيْهِ فَإِذَا صَخْرَةٌ أَتَيْتُهَا فَنَظَرْتُ بَقِيَّةَ ظِلٍّ لَهَا فَسَوَّيْتُهُ ثُمَّ فَرَشْتُ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِيهِ ثُمَّ قُلْتُ لَهُ اضْطَجِعْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ فَاضْطَجَعَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ انْطَلَقْتُ أَنْظُرُ مَا حَوْلِي هَلْ أَرَى مِنَ الطَّلَبِ أَحَدًا فَإِذَا أَنَا بِرَاعِي غَنَمٍ يَسُوقُ غَنَمَهُ إِلَى الصَّخْرَةِ يُرِيدُ مِنْهَا الَّذِي أَرَدْنَا فَسَأَلْتُهُ فَقُلْتُ لَهُ لِمَنْ أَنْتَ يَا غُلَامُ قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ سَمَّاهُ فَعَرَفْتُهُ فَقُلْتُ هَلْ فِي غَنَمِكَ مِنْ لَبَنٍ قَالَ نَعَمْ قُلْتُ فَهَلْ أَنْتَ حَالِبٌ لَنَا قَالَ نَعَمْ فَأَمَرْتُهُ فَاعْتَقَلَ شَاةً مِنْ غَنَمِهِ ثُمَّ أَمَرْتُهُ أَنْ يَنْفُضَ ضَرْعَهَا مِنَ الْغُبَارِ ثُمَّ أَمَرْتُهُ أَنْ يَنْفُضَ كَفَّيْهِ فَقَالَ هَكَذَا ضَرَبَ إِحْدَى كَفَّيْهِ بِالْأُخْرَى فَحَلَبَ لِي كُثْبَةً مِنْ لَبَنٍ وَقَدْ جَعَلْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِدَاوَةً(78) عَلَى فَمِهَا خِرْقَةٌ فَصَبَبْتُ عَلَى اللَّبَنِ حَتَّى بَرَدَ أَسْفَلُهُ فَانْطَلَقْتُ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَوَافَقْتُهُ قَدِ اسْتَيْقَظَ فَقُلْتُ اشْرَبْ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيتُ ثُمَّ قُلْتُ قَدْ آنَ الرَّحِيلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ بَلَى فَارْتَحَلْنَا وَالْقَوْمُ يَطْلُبُونَنَا فَلَمْ يُدْرِكْنَا أَحَدٌ مِنْهُمْ غَيْرُ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ عَلَى فَرَسٍ لَهُ فَقُلْتُ هَذَا الطَّلَبُ قَدْ لَحِقَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ (( لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ))(79).
ورواه مسلم وزاد: (( وَاتَّبَعَنَا سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ وَنَحْنُ فِي جَلَدٍ مِنَ الْأَرْضِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُتِينَا فَقَالَ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَدَعَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَارْتَطَمَتْ فَرَسُهُ إِلَى بَطْنِهَا أُرَى فَقَالَ إِنِّي قَدْ عَلِمْتُ أَنَّكُمَا قَدْ دَعَوْتُمَا عَلَيَّ فَادْعُوَا لِي فَاللَّهُ لَكُمَا أَنْ أَرُدَّ عَنْكُمَا الطَّلَبَ فَدَعَا اللَّهَ فَنَجَا فَرَجَعَ لَا يَلْقَى أَحَدًا إِلَّا قَالَ قَدْ كَفَيْتُكُمْ مَا هَاهُنَا فَلَا يَلْقَى أَحَدًا إِلَّا رَدَّهُ قَالَ وَوَفَى لَنَا وحَدَّثَنِيهِ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ ح وحَدَّثَنَاه إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ كِلَاهُمَا عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَقَ عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ اشْتَرَى أَبُو بَكْرٍ مِنْ أَبِي رَحْلًا بِثَلَاثَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِمَعْنَى حَدِيثِ زُهَيْرٍ عَنْ أَبِي إِسْحَقَ وقَالَ فِي حَدِيثِهِ مِنْ رِوَايَةِ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ فَلَمَّا دَنَا دَعَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَسَاخَ فَرَسُهُ فِي الْأَرْضِ إِلَى بَطْنِهِ وَوَثَبَ عَنْهُ وَقَالَ يَا مُحَمَّدُ قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ هَذَا عَمَلُكَ فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يُخَلِّصَنِي مِمَّا أَنَا فِيهِ وَلَكَ عَلَيَّ لَأُعَمِّيَنَّ عَلَى مَنْ وَرَائِي وَهَذِهِ كِنَانَتِي فَخُذْ سَهْمًا مِنْهَا فَإِنَّكَ سَتَمُرُّ عَلَى إِبِلِي وَغِلْمَانِي بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا فَخُذْ مِنْهَا حَاجَتَكَ قَالَ لَا حَاجَةَ لِي فِي إِبِلِكَ فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ لَيْلًا فَتَنَازَعُوا أَيُّهُمْ يَنْزِلُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ أَنْزِلُ عَلَى بَنِي النَّجَّارِ أَخْوَالِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أُكْرِمُهُمْ بِذَلِكَ فَصَعِدَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ فَوْقَ الْبُيُوتِ وَتَفَرَّقَ الْغِلْمَانُ وَالْخَدَمُ فِي الطُّرُقِ يُنَادُونَ يَا مُحَمَّدُ يَا رَسُولَ اللَّهِ يَا مُحَمَّدُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ))(80).
قال ابن حجر: (( لم أقف على تسميته - أي الراعي - ولا على تسمية صاحب الغنم، إلا أنه جاء في حديث عبد الله بن مسعود شيء تمسك به من زعم أنه الراعي، وذلك فيما أخرجه أحمد وابن حبان من طريق عاصم عن زر عن ابن مسعود قال: (( كنت أرعى غنماً لعقبة بن أبي معيط، فمر بي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر فقال: يا غلام هل من لبن؟ قلت: نعم، ولكني مؤتمن... ))(81).
وهذا لا يصلح أن يفسر به الراعي في حديث البراء لأن ذلك قيل له: (( هل أنت حالب؟ فقال: نعم ))، وهذا أشار بأنه غير حالب، وذلك حلب من شاة حافل وهذا من شاة لم تطرق ولم تحمل، ثم إن في بقية هذا الحديث ما يدل على أن قصته كانت قبل الهجرة لقوله فيه: (( ثم أتيته بعد هذا فقلت: يا رسول الله علمني من هذا القول ))، فإن هذا يشعر بأنها كانت قبل إسلام ابن مسعود، وإسلام ابن مسعود كان قديماً قبل الهجرة بزمان، فبطل أن يكون هو صاحب القصة في الهجرة ))(82).
قال البخاري: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ وَأَخْبَرَنِي عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ مَالِكٍ الْمُدْلِجِيُّ وَهُوَ ابْنُ أَخِي سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ سُرَاقَةَ بْنَ جُعْشُمٍ يَقُولُ: (( جَاءَنَا رُسُلُ كُفَّارِ قُرَيْشٍ يَجْعَلُونَ فِي رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبِي بَكْرٍ دِيَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْ قَتَلَهُ أَوْ أَسَرَهُ فَبَيْنَمَا أَنَا جَالِسٌ فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ قَوْمِي بَنِي مُدْلِجٍ أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ حَتَّى قَامَ عَلَيْنَا وَنَحْنُ جُلُوسٌ فَقَالَ يَا سُرَاقَةُ إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ آنِفًا أَسْوِدَةً بِالسَّاحِلِ أُرَاهَا مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ قَالَ سُرَاقَةُ فَعَرَفْتُ أَنَّهُمْ هُمْ فَقُلْتُ لَهُ إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِهِمْ وَلَكِنَّكَ رَأَيْتَ فُلَانًا وَفُلَانًا انْطَلَقُوا بِأَعْيُنِنَا ثُمَّ لَبِثْتُ فِي الْمَجْلِسِ سَاعَةً ثُمَّ قُمْتُ فَدَخَلْتُ فَأَمَرْتُ جَارِيَتِي أَنْ تَخْرُجَ بِفَرَسِي وَهِيَ مِنْ وَرَاءِ أَكَمَةٍ فَتَحْبِسَهَا عَلَيَّ وَأَخَذْتُ رُمْحِي فَخَرَجْتُ بِهِ مِنْ ظَهْرِ الْبَيْتِ فَحَطَطْتُ بِزُجِّهِ الْأَرْضَ(83) وَخَفَضْتُ عَالِيَهُ حَتَّى أَتَيْتُ فَرَسِي فَرَكِبْتُهَا فَرَفَعْتُهَا تُقَرِّبُ بِي حَتَّى دَنَوْتُ مِنْهُمْ فَعَثَرَتْ بِي فَرَسِي فَخَرَرْتُ عَنْهَا فَقُمْتُ فَأَهْوَيْتُ يَدِي إِلَى كِنَانَتِي فَاسْتَخْرَجْتُ مِنْهَا الْأَزْلَامَ فَاسْتَقْسَمْتُ بِهَا أَضُرُّهُمْ أَمْ لَا فَخَرَجَ الَّذِي أَكْرَهُ فَرَكِبْتُ فَرَسِي وَعَصَيْتُ الْأَزْلَامَ تُقَرِّبُ بِي حَتَّى إِذَا سَمِعْتُ قِرَاءَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ لَا يَلْتَفِتُ وَأَبُو بَكْرٍ يُكْثِرُ الِالْتِفَاتَ سَاخَتْ يَدَا فَرَسِي فِي الْأَرْضِ حَتَّى بَلَغَتَا الرُّكْبَتَيْنِ فَخَرَرْتُ عَنْهَا ثُمَّ زَجَرْتُهَا فَنَهَضَتْ فَلَمْ تَكَدْ تُخْرِجُ يَدَيْهَا فَلَمَّا اسْتَوَتْ قَائِمَةً إِذَا لِأَثَرِ يَدَيْهَا عُثَانٌ سَاطِعٌ فِي السَّمَاءِ مِثْلُ الدُّخَانِ فَاسْتَقْسَمْتُ بِالْأَزْلَامِ فَخَرَجَ الَّذِي أَكْرَهُ فَنَادَيْتُهُمْ بِالْأَمَانِ فَوَقَفُوا فَرَكِبْتُ فَرَسِي حَتَّى جِئْتُهُمْ وَوَقَعَ فِي نَفْسِي حِينَ لَقِيتُ مَا لَقِيتُ مِنَ الْحَبْسِ عَنْهُمْ أَنْ سَيَظْهَرُ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ لَهُ إِنَّ قَوْمَكَ قَدْ جَعَلُوا فِيكَ الدِّيَةَ وَأَخْبَرْتُهُمْ أَخْبَارَ مَا يُرِيدُ النَّاسُ بِهِمْ وَعَرَضْتُ عَلَيْهِمُ الزَّادَ وَالْمَتَاعَ فَلَمْ يَرْزَآنِي وَلَمْ يَسْأَلَانِي إِلَّا أَنْ قَالَ أَخْفِ عَنَّا فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَكْتُبَ لِي كِتَابَ أَمْنٍ فَأَمَرَ عَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ فَكَتَبَ فِي رُقْعَةٍ مِنْ أَدِيمٍ ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَقِيَ الزُّبَيْرَ فِي رَكْبٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا تِجَارًا قَافِلِينَ مِنَ الشَّأْمِ فَكَسَا الزُّبَيْرُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبَا بَكْرٍ ثِيَابَ بَيَاضٍ وَسَمِعَ الْمُسْلِمُونَ بِالْمَدِينَةِ مَخْرَجَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ مَكَّةَ فَكَانُوا يَغْدُونَ كُلَّ غَدَاةٍ إِلَى الْحَرَّةِ فَيَنْتَظِرُونَهُ حَتَّى يَرُدَّهُمْ حَرُّ الظَّهِيرَةِ فَانْقَلَبُوا يَوْمًا بَعْدَ مَا أَطَالُوا انْتِظَارَهُمْ فَلَمَّا أَوَوْا إِلَى بُيُوتِهِمْ أَوْفَى رَجُلٌ مِنْ يَهُودَ عَلَى أُطُمٍ مِنْ آطَامِهِمْ لِأَمْرٍ يَنْظُرُ إِلَيْهِ فَبَصُرَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابِهِ مُبَيَّضِينَ يَزُولُ بِهِمُ السَّرَابُ فَلَمْ يَمْلِكِ الْيَهُودِيُّ أَنْ قَالَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ يَا مَعَاشِرَ الْعَرَبِ هَذَا جَدُّكُمِ الَّذِي تَنْتَظِرُونَ فَثَارَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى السِّلَاحِ فَتَلَقَّوْا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِظَهْرِ الْحَرَّةِ فَعَدَلَ بِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ حَتَّى نَزَلَ بِهِمْ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ وَذَلِكَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ لِلنَّاسِ وَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَامِتًا فَطَفِقَ مَنْ جَاءَ مِنَ الْأَنْصَارِ مِمَّنْ لَمْ يَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُحَيِّي أَبَا بَكْرٍ حَتَّى أَصَابَتِ الشَّمْسُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى ظَلَّلَ عَلَيْهِ بِرِدَائِهِ فَعَرَفَ النَّاسُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَ ذَلِكَ فَلَبِثَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي
بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً وَأُسِّسَ الْمَسْجِدُ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى وَصَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ فَسَارَ يَمْشِي مَعَهُ النَّاسُ حَتَّى بَرَكَتْ عِنْدَ مَسْجِدِ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - بِالْمَدِينَةِ وَهُوَ يُصَلِّي فِيهِ يَوْمَئِذٍ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَكَانَ مِرْبَدًا لِلتَّمْرِ لِسُهَيْلٍ وَسَهْلٍ غُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي حَجْرِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ الْمَنْزِلُ ثُمَّ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْغُلَامَيْنِ فَسَاوَمَهُمَا بِالْمِرْبَدِ لِيَتَّخِذَهُ مَسْجِدًا فَقَالَا لَا بَلْ نَهَبُهُ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُمَا هِبَةً حَتَّى ابْتَاعَهُ مِنْهُمَا ثُمَّ بَنَاهُ مَسْجِدًا وَطَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَنْقُلُ مَعَهُمُ اللَّبِنَ فِي بُنْيَانِهِ وَيَقُولُ وَهُوَ يَنْقُلُ اللَّبِنَ:
هَذَا الْحِمَالُ لا حِمَالَ خَيْبَرْ
هَذَا أَبَرُّ رَبَّنَا وَأَطْهَرْ
وَيَقُولُ:
اللَّهُمَّ إِنَّ الْأَجْرَ أَجْرُ الْآخِرَهْ
فَارْحَمِ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَهْ
فَتَمَثَّلَ بِشِعْرِ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُسَمَّ لِي قَالَ ابْنُ شِهَابٍ وَلَمْ يَبْلُغْنَا فِي الْأَحَادِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تَمَثَّلَ بِبَيْتِ شِعْرٍ تَامٍّ غَيْرِ هَذَا الْبَيْتِ ))(84).
في الحديث منقبة ظاهرة لأبي بكر، وفيه أن باب الغار كان منخفضاً إلا أنه كان ضيقاً، فقد جاء في السير للواقدي: أن رجلاً كشف عن فرجه وجلس يبول فقال أبو بكر: قد رآنا يا رسول الله قال: لو رآنا لم يكشف عن فرجه ))(85).
أخرج البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: (( لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْمَدِينَةَ وُعِكَ أَبُو بَكْرٍ وَبِلَالٌ قَالَتْ فَدَخَلْتُ عَلَيْهِمَا فَقُلْتُ يَا أَبَتِ كَيْفَ تَجِدُكَ وَيَا بِلَالُ كَيْفَ تَجِدُكَ قَالَتْ فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا أَخَذَتْهُ الْحُمَّى يَقُولُ:
كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ فِي أَهْلِهِ
وَالْمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ
وَكَانَ بِلَالٌ إِذَا أَقْلَعَ عَنْهُ الْحُمَّى يَرْفَعُ عَقِيرَتَهُ وَيَقُولُ:
أَلاَ لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً
بِوَادٍ وَحَوْلِي إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ
وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْمًا مِيَاهَ مَجَنَّةٍ
وَهَلْ يَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ وَطَفِيلُ(86)
قَالَتْ عَائِشَةُ فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ وَصَحِّحْهَا وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِهَا وَمُدِّهَا وَانْقُلْ حُمَّاهَا فَاجْعَلْهَا بِالْجُحْفَةِ ))(87).
زاد ابن اسحاق في روايته عن هشام وعمرو بن عبد الله بن عروة جميعاً عن عروة عن عائشة عقب قول أبيها: (( فقلت: والله ما يدري أبي ما يقول )) قالت: (( ثم دنوت إلى عامر بن فهيرة -وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب- فقلت: كيف تجدك يا عامر؟ فقال:
لقد وجدت الموت قبل ذوقه
إن الجبان حتفه من فوقه
كل امرئ مجاهد بطوقه
كالثور يحمي جسمه بروقه(88)
وقالت في آخره: (( فقلت: يا رسول الله إنهم ليهذون وما يعقلون من شدة الحمى ))(89)، والزيادة في قول عامر بن فهيرة رواها مالك أيضاً في الموطأ عن يحيى بن سعيد عن عائشة منقطعاً(90).
أخرج البخاري عن أسماء رضي الله عنها: (( صنعت سفرة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر حين أرادا المدينة، فقلت لأبي: ما أجد شيئاً أربطه إلا نطاقي، قال: فشقيه، ففعلت، فسميت ذات النطاقين ))، وقال ابن عباس: (( أسماء ذات النطاقين ))(91).
أخرج البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (( أَقْبَلَ نَبِيُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى الْمَدِينَةِ وَهُوَ مُرْدِفٌ أَبَا بَكْرٍ وَأَبُو بَكْرٍ شَيْخٌ يُعْرَفُ وَنَبِيُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - شَابٌّ لَا يُعْرَفُ قَالَ فَيَلْقَى الرَّجُلُ أَبَا بَكْرٍ فَيَقُولُ يَا أَبَا بَكْرٍ مَنْ هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْكَ فَيَقُولُ هَذَا الرَّجُلُ يَهْدِينِي السَّبِيلَ قَالَ فَيَحْسِبُ الْحَاسِبُ أَنَّهُ إِنَّمَا يَعْنِي الطَّرِيقَ وَإِنَّمَا يَعْنِي سَبِيلَ الْخَيْرِ فَالْتَفَتَ أَبُو بَكْرٍ فَإِذَا هُوَ بِفَارِسٍ قَدْ لَحِقَهُمْ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا فَارِسٌ قَدْ لَحِقَ بِنَا فَالْتَفَتَ نَبِيُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ اللَّهُمَّ اصْرَعْهُ فَصَرَعَهُ الْفَرَسُ ثُمَّ قَامَتْ تُحَمْحِمُ فَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ مُرْنِي بِمَا شِئْتَ قَالَ فَقِفْ مَكَانَكَ لَا تَتْرُكَنَّ أَحَدًا يَلْحَقُ بِنَا قَالَ فَكَانَ أَوَّلَ النَّهَارِ جَاهِدًا عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَكَانَ آخِرَ النَّهَارِ مَسْلَحَةً لَهُ فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - جَانِبَ الْحَرَّةِ ثُمَّ بَعَثَ إِلَى الْأَنْصَارِ فَجَاءُوا إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبِي بَكْرٍ فَسَلَّمُوا عَلَيْهِمَا وَقَالُوا ارْكَبَا آمِنَيْنِ مُطَاعَيْنِ فَرَكِبَ نَبِيُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبُو بَكْرٍ وَحَفُّوا دُونَهُمَا بِالسِّلَاحِ فَقِيلَ فِي الْمَدِينَةِ جَاءَ نَبِيُّ اللَّهِ جَاءَ نَبِيُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَشْرَفُوا يَنْظُرُونَ وَيَقُولُونَ جَاءَ نَبِيُّ اللَّهِ جَاءَ نَبِيُّ اللَّهِ فَأَقْبَلَ يَسِيرُ حَتَّى نَزَلَ جَانِبَ دَارِ أَبِي أَيُّوبَ فَإِنَّهُ لَيُحَدِّثُ أَهْلَهُ إِذْ سَمِعَ بِهِ عَبْدُاللَّهِ بْنُ سَلَامٍ وَهُوَ فِي نَخْلٍ لِأَهْلِهِ يَخْتَرِفُ لَهُمْ فَعَجِلَ أَنْ يَضَعَ الَّذِي يَخْتَرِفُ لَهُمْ فِيهَا فَجَاءَ وَهِيَ مَعَهُ فَسَمِعَ مِنْ نَبِيِّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَيُّ بُيُوتِ أَهْلِنَا أَقْرَبُ فَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ أَنَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ هَذِهِ دَارِي وَهَذَا بَابِي قَالَ فَانْطَلِقْ فَهَيِّئْ لَنَا مَقِيلًا قَالَ قُومَا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ فَلَمَّا جَاءَ نَبِيُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - جَاءَ عَبْدُاللَّهِ ابْنُ سَلَامٍ فَقَالَ أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَّكَ جِئْتَ بِحَقٍّ وَقَدْ عَلِمَتْ يَهُودُ أَنِّي سَيِّدُهُمْ وَابْنُ سَيِّدِهِمْ وَأَعْلَمُهُمْ وَابْنُ أَعْلَمِهِمْ فَادْعُهُمْ فَاسْأَلْهُمْ عَنِّي قَبْلَ أَنْ يَعْلَمُوا أَنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ فَإِنَّهُمْ إِنْ يَعْلَمُوا أَنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ قَالُوا فِيَّ مَا لَيْسَ فِيَّ فَأَرْسَلَ نَبِيُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَقْبَلُوا فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ وَيْلَكُمِ اتَّقُوا اللَّهَ فَوَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِنَّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا وَأَنِّي جِئْتُكُمْ بِحَقٍّ فَأَسْلِمُوا قَالُوا مَا نَعْلَمُهُ قَالُوا لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَهَا ثَلَاثَ مِرَارٍ قَالَ فَأَيُّ رَجُلٍ فِيكُمْ عَبْدُاللَّهِ بْنُ سَلَامٍ قَالُوا ذَاكَ سَيِّدُنَا وَابْنُ سَيِّدِنَا وَأَعْلَمُنَا وَابْنُ أَعْلَمِنَا قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ إِنْ أَسْلَمَ قَالُوا حَاشَى لِلَّهِ مَا كَانَ لِيُسْلِمَ قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ إِنْ أَسْلَمَ قَالُوا حَاشَى لِلَّهِ مَا كَانَ لِيُسْلِمَ قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ إِنْ أَسْلَمَ قَالُوا حَاشَى لِلَّهِ مَا كَانَ لِيُسْلِمَ قَالَ يَا ابْنَ سَلَامٍ اخْرُجْ عَلَيْهِمْ فَخَرَجَ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ اتَّقُوا اللَّهَ فَوَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِنَّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَّهُ جَاءَ بِحَقٍّ فَقَالُوا كَذَبْتَ فَأَخْرَجَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ))(92).(1/89)
أخرج البخاري عن أنس: (( أَنَّ عَبْدَاللَّهِ بْنَ سَلَامٍ بَلَغَهُ مَقْدَمُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - الْمَدِينَةَ فَأَتَاهُ يَسْأَلُهُ عَنْ أَشْيَاءَ فَقَالَ إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ ثَلَاثٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا نَبِيٌّ مَا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَمَا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ وَمَا بَالُ الْوَلَدِ يَنْزِعُ إِلَى أَبِيهِ أَوْ إِلَى أُمِّهِ قَالَ أَخْبَرَنِي بِهِ جِبْرِيلُ آنِفًا قَالَ ابْنُ سَلَامٍ ذَاكَ عَدُوُّ الْيَهُودِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ قَالَ أَمَّا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ فَنَارٌ تَحْشُرُهُمْ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ وَأَمَّا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَزِيَادَةُ كَبِدِ الْحُوتِ وَأَمَّا الْوَلَدُ فَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ الْمَرْأَةِ نَزَعَ الْوَلَدَ وَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الْمَرْأَةِ مَاءَ الرَّجُلِ نَزَعَتِ الْوَلَدَ قَالَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الْيَهُودَ قَوْمٌ بُهْتٌ فَاسْأَلْهُمْ عَنِّي قَبْلَ أَنْ يَعْلَمُوا بِإِسْلَامِي فَجَاءَتِ الْيَهُودُ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَيُّ رَجُلٍ عَبْدُاللَّهِ بْنُ سَلَامٍ فِيكُمْ قَالُوا خَيْرُنَا وَابْنُ خَيْرِنَا وَأَفْضَلُنَا وَابْنُ أَفْضَلِنَا فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَسْلَمَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ سَلَامٍ قَالُوا أَعَاذَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ فَأَعَادَ عَلَيْهِمْ فَقَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ عَبْدُاللَّهِ فَقَالَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ قَالُوا شَرُّنَا وَابْنُ شَرِّنَا وَتَنَقَّصُوهُ قَالَ هَذَا كُنْتُ أَخَافُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ))(93).
أخرج البخاري عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (( لو آمن بي عشرة من اليهود لآمن بي اليهود ))(94)، والمراد بالعشرة يعني من أسيادهم، وإلا فقد أسلم منهم أكثر من عشرة(95).
أخرج أحمد والترمذي وصححه هو والحاكم من طريق زرارة بن أوفى عن عبد الله بن سلام قال: (( لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة انجفل الناس إليه، فجئت في الناس لأنظر إليه، فلما استبنت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب... )) الحديث(96).
وقال البخاري في التاريخ الصغير حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس قال: (( إني لأسعى مع الغلمان إذ قالوا: جاء محمد، فننطلق فلا نرى شيئاً، حتى أقبل وصاحبه، فكمنا في بعض خرب المدينة وبعثا رجلاً من أهل البادية يؤذن بهما، فاستقبله زهاء خمسمائة من الأنصار فقالوا: انطلقا آمنين مطاعين... )) الحديث(97).
وفي حديث أبي أيوب عند الحاكم وغيره: (( أنه أنزل النبي - صلى الله عليه وسلم - في السفل ونزل هو وأهله في العلو، ثم أشفق من ذلك، فلم يزل يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى تحول إلى العلو ونزل أبو أيوب إلى السفل )) ونحوه في طريق عبد العزيز بن صهيب عن أنس عند أبي سعيد في (( شرف المصطفى )) وأفاد ابن أسعد أنه أقام بمنزل أبي أيوب سبعة أشهر حتى بنى بيوته(98).
أخرج الإمام أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ} قَالَ: (( تَشَاوَرَتْ قُرَيْشٌ لَيْلَةً بِمَكَّةَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ إِذَا أَصْبَحَ فَأَثْبِتُوهُ بِالْوَثَاقِ يُرِيدُونَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلِ اقْتُلُوهُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ أَخْرِجُوهُ فَأَطْلَعَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نَبِيَّهُ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى ذَلِكَ فَبَاتَ عَلِيٌّ عَلَى فِرَاشِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - تِلْكَ اللَّيْلَةَ وَخَرَجَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى لَحِقَ بِالْغَارِ وَبَاتَ الْمُشْرِكُونَ يَحْرُسُونَ عَلِيًّا يَحْسَبُونَهُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا أَصْبَحُوا ثَارُوا إِلَيْهِ فَلَمَّا رَأَوْا عَلِيًّا رَدَّ اللَّهُ مَكْرَهُمْ فَقَالُوا أَيْنَ صَاحِبُكَ هَذَا قَالَ لَا أَدْرِي فَاقْتَصُّوا أَثَرَهُ فَلَمَّا بَلَغُوا الْجَبَلَ خُلِّطَ عَلَيْهِمْ فَصَعِدُوا فِي الْجَبَلِ فَمَرُّوا بِالْغَارِ فَرَأَوْا عَلَى بَابِهِ نَسْجَ الْعَنْكَبُوتِ فَقَالُوا لَوْ دَخَلَ هَاهُنَا لَمْ يَكُنْ نَسْجُ الْعَنْكَبُوتِ عَلَى بَابِهِ فَمَكَثَ فِيهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ ))(99).
قال ابن كثير: (( وهذا إسناد حسن، وهو من أجود ما روي في قصة نسج العنكبوت على فم الغار وذلك من حماية الله لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ))(100).
وأخرج ابن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي أن أبا جهل كان يقف محرضاً للمحاصرين لبيت الرسول صلى الله عليه وسلم: (( إن محمداً يزعم أنكم إذا تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم، ثم بعثتم من بعد موتكم، فجعلت لكم جنان كجنان الأردن، وإن لم تفعلوا كان فيكم ذبح، ثم بعثتم من بعد موتكم ثم جعلت لكم نار تحرقون فيها ))(101).
قال ابن إسحاق حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير أن أباه حدثه عن جدته أسماء بنت أبي بكر قالت: (( لما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخرج معه أبو بكر، احتمل أبو بكر ماله كله معه، خمسة آلاف أو ستة آلاف درهم، فانطلق به معه، فدخل علينا جدي أبو قحافة - وقد ذهب بصره - فقال: والله إني لأراه فجعكم بماله ونفسه، قالت: كلا يا أبت، قد ترك لنا خيراً كثيراً، قالت: فأخذت أحجاراً فوضعتها في كوة من البيت كان أبي يضع فيها ماله، ثم وضعت عليها ثوباً، ثم أخذت بيده فقالت: ضع يدك على هذا المال، فوضع يده عليه فقال: لا بأس إذا كان قد ترك لكم هذا فقد أحسن، في هذا بلاغ لكم، قالت: ولا والله ما ترك لنا شيئاً، ولكني أردت أن أسكن الشيخ ))(102).
أما خروج الرسول - صلى الله عليه وسلم - وذر التراب على رؤوس المحاصرين: فقد أخرجه ابن إسحاق بدون إسناد(103).
قصة أم معبد:
وطرقها ما بين ضعيفة وواهية إلا طريقاً واحدة يرويها الصحابي قيس بن النعمان السكوني ونصها: (( لما انطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر يستخفيان نزلا بأبي معبد فقال: والله ما لنا شاة، وإن شاءنا لحوامل فما بقي لنا لبن. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسبه: فما تلك الشاة؟ فأتى بها، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالبركة عليها، ثم حلب عُسًّا فسقاه، ثم شربوا، فقال: أنت الذي يزعم قريش أنك صابئ؟ قال: إنهم ليقولون، قال: أشهد أن ما جئت به حق، ثم قال: أتبعك، قال: لا حتى تسمع أنّا قد ظهرنا، فاتبعه بعد ))(104).
الترتيبات والاحتياطات التي اتخذت للهجرة:
لقد جاءت خطة الهجرة والترتيب لها في غاية الإحكام والدقة في أخذ الحيطة وقد تمثلت في النقاط التالية:
1- اختيار الصاحب المناسب وهو أبو بكر الصديق اختاره من بين جميع الصحابة كما في البخاري.
2- التعريض له بالخبر، فلم يقطع له النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمر الصحبة في الهجرة وإنما قال: (( لعل الله يجعل لك صاحباً )) كما في البخاري.
3- إعداد راحلتين قبل مدة طويلة من الهجرة، إذ لو اشترى الراحلتين قبيل الهجرة فربما لفت أنظار قريش إلى ذلك، وماذا يريد أبو بكر بهاتين الراحلتين إلا لأمر بيته مع محمد؟ وبخاصة بعد تفاقم الأزمة واشتداد الوحشة بعد بيعة العقبة الثانية، وهذه رواية البخاري.
4- دفع الراحلتين إلى الدليل قبل الهجرة، كما في البخاري.
5- زيارة أبي بكر كل يوم، فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يخطئه يوم أن يأتي أبا بكر غدوة وعشية، وعلى هذا لم يكن الأمر غريباً على قريش في مجيئه إليه وقت التخطيط للهجرة، كما في البخاري.
6- تغيير الوقت المعتاد للزيارة، ولعل ذلك بسبب الرصد من قبل قريش لزياراته في الوقت المعتاد، كما في البخاري.
7- اختيار الوقت المناسب للزيارة وهو وقت الظهيرة حيث يستظل الناس ويكونون في بيوتهم، كما في البخاري.
8- الخروج إلى أبي بكر متنكراً بالقناع حتى لا يعرف، كما في البخاري.
9- الإسرار لأبي بكر بخبر الهجرة، وكتمان ذلك عن أهل بيته في بداية الأمر حيث قال له: أخرج من عندك، كما في البخاري.
10- الإسراع في إعداد الزاد وتجهيزه، كما في البخاري.
11- مبيت علي على الفراش، كما في المسند لأحمد.
12- الخروج من خوخة في ظهر بيت أبي بكر ولم يخرجوا من الباب المعتاد، كما في رواية ابن إسحاق.
13- الخروج من الطريق المعاكس لطريق المدينة، فالأصل أن يخرجوا من جهة الشمال حيث طريق المدينة، فخرجوا جهة الجنوب، كما في البخاري.
14- اختيار الغار حيث البعد عن الأنظار للاختفاء فيه، كما في البخاري.
15- البقاء في الغار ثلاثة أيام حتى يسكن الطلب عنهما، كما في البخاري.
16- التخطيط للتعرف على كيد العدو ومتابعته وإعطاء هذا الأمر أهمية كبيرة.
17- اختيار الرجل المناسب لهذه المهمة في متابعة أخبار قريش وترتيباتها للقبض عليهما، فقد اختاروا شاباً قد لا يلفت نظرهم، ويمتاز بالذكاء والفطنة فيلتقط كل خبر ولا يفوته شيء، كما في البخاري.
18- متابعة الأخبار أولاً بأول حيث يأتي بالخبر كل يوم، فالحدث لا يستحمل التأخير أكثر من هذا، كما في البخاري.
19- ترتيب مجيء المخبر وانصرافه، سواء في وقت المجيء والانصراف، أو في طريقة الذهاب والإياب، كما في البخاري.
20- إسناد مهمة الإتيان باللبن للرجل المناسب وهو الراعي عامر بن فهيرة، كما في البخاري.
21- ترتيب حضور عامر بن فهيرة وانصرافه، كما في البخاري.
22- اتباع عامر بن فهيرة أثر عبد الله بن أبي بكر بالغنم حتى تعمي أثره، كما هو عند ابن إسحاق.
23- اختيار الدليل ذي الكفاءة العالية، كما في البخاري.
24- الخروج من الغار آخر الليل، كما في البخاري وعند موسى بن عقبة.
25- سلوك طريق غير الطريق المعتاد للمدينة، كما في البخاري.
26- اصطحاب عامر للخدمة.
27- مواصلة السير بدون توقف، كما في البخاري.
28- تأخير وقت الراحة، كما في البخاري.
29- حمل أبي بكر جميع ماله، ومن فوائد ذلك أن أبا بكر كان رجلاً غنياً فربما لحقهم الطلب فاستطاع أن يفدي أنفسهما بذلك المال، وكان مبلغاً كبيراً قدر بخمسة آلاف، كما عند ابن إسحاق، وتقدير المبلغ رواه أحمد والحاكم.
الدروس والعظات من الهجرة:
1- تقدم إسلام آل أبي بكر (( لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين )).
2- اهتمام أبي بكر بأهل بيته وإصلاحهم والبدء بهم قبل غيرهم.
3- منزلة أبي بكر من النبي - صلى الله عليه وسلم - وصلته الوثيقة به، ومعايشته لأمر الدعوة منذ بزوغ فجرها، فقد كان عليه الصلاة والسلام يزوره كل يوم مرتين.
4- إن تفكير أبي بكر في الخروج من مكة مهاجراً لوحده مع منزلته وأهميته للدعوة وصلته الوثيقة بالرسول صلى الله عليه وسلم، ليكشف عن مدى الأذى والشدة التي تلحقها قريش بالمسلمين، هذا مع أن أبا بكر من الأشراف ومن الذين يجدون منعة في قومهم فكيف بالضعفاء والعبيد!!.5- أن أمن الدين هو الأصل عند المسلم فإن وجد عليه خطراً دفع بلده وماله وأهله حماية لدينه، ولهذا خرج أبو بكر مهاجراً وحده تاركاً كل شيء خلف ظهره يطلب الأمان لدينه ودعوته.
6- بلد المسلم ووطنه هو الذي يتمكن فيه من إظهار دينه ودعوته فيه، ولهذا خرج أبو بكر على الرغم من أفضلية بلده على سائر البلدان، وعلى المسلم أن لا يركن إلى الذل والهوان بل يعمل تفكيره في الخروج من الحصار المضروب على دينه ودعوته، ويبحث عن موطن موافق أو مسالم لها، حتى يتمكن من تحقيق عبوديته لله تعالى.
7- التقارب والتشابه بين صفات الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصفات أبي بكر، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - قالت له خديجة: (( كلا والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف... )) وأبو بكر يقول له ابن الدغنة: (( مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف... )).
8- ينبغي للمسلم أن ينافس على خصال الخير المتعدية فإن هذا أدعى لرضا الله تعالى عنه، وقبول الخلق ما لديه، وكما قيل في وصف أهل السنة والجماعة (( أعلم الناس بالحق وأرحمهم للخلق )) ونفع الناس أعظم من نوافل العبادات (( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ السَّاعِي عَلَى الْأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَحْسِبُهُ قَالَ وَكَالْقَائِمِ لَا يَفْتُرُ وَكَالصَّائِمِ لَا يُفْطِرُ ))(105).
9- إن الأعمال المتعدية تكسب الثقة والمنزلة في قلوب الناس مهما كانوا، فالناس لا ينظرون إلى العبادات الشخصية بقدر ما يراعون تجاوب الرجل مع مشاكلهم، ومشاركته الفاعلة في حياتهم.
فأبو بكر كسب ثقة ابن الدغنة وهو مشرك، فأجاره ورد على قريش على ملأ منهم، ولم يستطيعوا التنكر لذلك لشهرة تلك الصفات عن أبي بكر.
10- تقدير العرب للعادات الكريمة والصفات الحميدة وقيام العظماء والشرفاء في صف صاحبها، وهذا يفسر قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ))(106)، وقول الله تعالى: {اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (الأنعام: 124).
11- الاستفادة من تقاليد المجتمع وأنظمته في خدمة الدعوة بما لا يتعارض مع أوامر الله ورسوله، فقد تجاوب أبو بكر مع ابن الدغنة، واستفاد من جواره، ورجع إلى بيته.
12- مصادرة صوت الحق وتجفيف منابعه، فالكفار لم يكتفوا بتشويه صورة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأتباعه، وبث الدعايات الكاذبة عليهم، وإيراد الإيرادات الواهية على منهجه وتعاليمه، لأنهم يعلمون أن الناس ليس كلهم إمعات يقبلون كل ما يقال لهم، بل إن أول الناس بعداً عن الاقتناع بطرحهم هم أبناؤهم ونساؤهم، فالدعايات لا تغير كل قناعات الناس، ولهذا وعلى الرغم من تلك المحاربة الإعلامية والعقبات الكبيرة التي وضعتها قريش أمام الدعوة، فإنها تخشى على أبنائها ونسائها من سماع صوت الحق فيقتنعوا به.
13- الكفار وأهل الباطل يصادرون حريات التفكير ولا يجعلون للناس مجالاً للاختيار، أو فرصة في المعرفة، بل يعتبرون سواهم ليسوا على مستوى معرفة المصالح والمفاسد، ويجعلون لهم وحدهم تلك المعرفة وما على المجتمع إلا اتباعهم والانقياد لما يرسمون ويخططون لهم، فهم يفكرون عنهم ويوقعون بالنيابة عنهم ويسالمون ويعادون بالوكالة!! وإلا فيا معشر قريش أليس أبناؤكم وعبيدكم ونساؤكم منكم فلِمَ تمنعونهم من سماع صوت الحق أم ليسوا على مستوى النقد والتمييز مثلكم.
وفي هذا درس لأهل العلم والدعوة، فلا ينبغي أن يضيرهم تشويه صورتهم وإيذاؤهم، ومصادرة حرياتهم وكلماتهم، فيسري إليهم اليأس فيتصوروا عدم قبول الناس لهم بسبب تلك الدعايات المضللة، فهاهم أبناء قريش ونساؤهم يغدون على أبي بكر لسماع القرآن الذي طالما سمعوا الكلام الباطل فيه وطالما حاولت قريش التشويش عليه!!.
فمهما بلغت دعايات أهل الباطل واتهاماتهم ومحاربتهم للدين وللدعوة فإن للحق طلاباً، والناس ليس كلهم إمعات يقبلون كل ما يقال لهم، فدعايات الباطل لم تؤثر في نساء قريش وأبنائهم فضلاً عن الآخرين.
14- الجهر بالحق والدعوة إليه هو الأصل في هذا الدين، والاستسرار والكتمان والاختفاء بالعبادة طارئ يلجأ إليه لوقت محدود، ولظرف طارئ، ولمصلحة راجحة، أما أن يبقى المسلم دائماً مختفياً فهذا يتنافى مع دعوته التي أمر أن يخرج الناس بها من الظلمات إلى النور، وإن تعرض للأذى، ولهذا بنى أبو بكر مسجداً بفناء بيته واستعلن في صلاته وقراءته.
15- إن جميع الكفار في كل العصور على اختلاف مللهم ونحلهم لا يمانعون من قيام الرجل بعبادة فردية داخل منزله ولا يعلن بذلك، لأنهم يعلمون زيف معتقدهم وفساد منهجهم وضمور آرائهم، وأنه يمكن تحطيمها بمجرد الإعلان بقراءة القرآن بفناء البيت، فمبادئهم لا تقف لحظة أمام الحق، كالظلام الضارب أطنابه على الأرض سرعان ما ينقشع أمام شعلة النور.
16- لقد فزعت قريش من تأثر الناس بأبي بكر وصلاته وهو لا يملك أي وسيلة إعلامية، ولم يتقدم بدعوة أحد، أو يعقد مجلس مناظرة أو حوار مع ذرياتهم.
17- وصف الكفار وأهل الباطل لكل ما يخالف هواهم ومذهبهم بأنه فتنة للناس، قالت قريش عن أبي بكر: (( فإنا خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا )) فأبو بكر يثير الفتن في مفهوم قريش العقيم، فالكفار لا يبالون بالتزوير وتغيير الحقائق وإطلاق الألفاظ غير المحسوبة على ما يشاؤون، وإلا متى كان الحق والخير والصلاح فتنة للنساء والأبناء.
18- يعتبر من صلى جهاراً وقرأ القرآن علانية ولوكان داخل فناء منزله قد تعدى وتجاوز في نظر قريش فترفع لابن الدغنة احتجاجها بأن أبا بكر: (( قد جاوز ذلك فابتنى مسجداً بفناء داره )).
19- عجباً لأهل الباطل لا يكفيهم حكم الأرض ومن عليها، بل يرون أن لهم الحق حتى في تفكير الناس وآرائهم وليس لهم الحق حتى في قراءاتهم في منازلهم، فقريش لن تقر لأبي بكر أن يقرأ بفناء بيته ولنفسه، فهي تقول لابن الدغنة: (( ولسنا بمقرين لأبي بكر الاستعلان )) وقد أراد فرعون أن يتحكم في القلوب كما قال للسحرة لما آمنوا: في قوله تعالى: {آمنتم له قبل أن آذن لكم}.
20- يضفي أهل الضلال القداسة على مبادئهم وعاداتهم وتقاليدهم الباطلة، ويوقعون العقوبة على من خالفها، ولكن متى بدت لهم مصلحة أو لاح لهم في الأفق منفعة ضربوا بأنظمتهم عرض الحائط، وعندهم استعداد للانقسام والانشطار متى ما تعرضت مصالحهم للخطر، فعند ذلك فلا عهد ولا ذمة وإن كان المخالف من الرفاق والأصحاب، فهذه قريش تنوي خفر ذمة ابن الدغنة ونبذ عهده لمجرد مخالفة بسيطة في المعاهدة، فبدلاً من أن يصلي أبو بكر داخل البيت صلى في فناء البيت، فطلبوا ابن الدغنة وقالوا له في صيغة التهديد: (( فإنا كرهنا أن نخفرك )).
21- قد يقوم فاجر بالحدب على المسلم والدفاع عنه وقد يبدي احترامه لفكرته أو رأيه، ولكن مما ينبغي التفطن له أن هذا لا يكون إلا بصورة محدودة وبما لا يتعارض مع مصلحته وسمعته، وأنه عنده الاستعداد للتخلي عن حمايته بمجرد تعرض سمعته إلى خطر، فهذا ابن الدغنة لما هددته قريش بسمعته طلب من أبي بكر رد جواره وقال له:" فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له "
22- التوكل على الله والانتصار به والالتجاء إليه والثقة بنصره هو معتقد المسلم الذي لا يفارقه أبداً، مع الشجاعة ونبذ الخوف من المخلوقين ما دام يأوي إلى ركن شديد قال أبو بكر لابن الدغنة (( أرد جوارك وأرضى بجوار الله )) قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (الطلاق: 3)، وقال: {وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُتَوَكِّلُونَ} (إبراهيم: 12)، وقال: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} (الفرقان: 58)، وفي البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (( حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - حين ألقي في النار، وقالها محمد - صلى الله عليه وسلم - حين قالوا: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل ))(107).
23- لقد أذن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه بالهجرة ولم يختر صاحباً له في الهجرة غير أبي بكر، وفي هذا دلالة على عظم الصلة وقوة الرابطة بينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم: (( على رسلك، فإني أرجو أن يؤذن لي )).
24- لقد تجهز أبو بكر للهجرة ثانية بنفسه إلى المدينة، ولكن بعدما عرّض له الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالصحبة جلس وتحمل الأذى والعنت والتعب من قريش طاعة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورغبة في مصاحبته (( فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله ليصحبه )).
25- مبادرة أبي بكر في الترتيب لأمر الهجرة، وبذل المال في خدمة دعوته بدون طلب من الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد قام مباشرة بعد تعريض الرسول - صلى الله عليه وسلم - له بالصحبة بتعليف راحلتين كانتا عنده، إذ مثل هذا من بدهيات الهجرة فلا تحتاج إلى أمر يتلقاه من الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي هذا بيان بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يربيهم تربية العبيد تربية الخنوع وإلغاء العقل مع المتبوع.
26- مقابلة التخطيط بالتخطيط، والتنظيم بالتنظيم، والترتيب بالترتيب، فقريش تخطط وترتب للإيقاع بالدعوة، بينما الرسول - صلى الله عليه وسلم - يخطط ويرتب للنجاة بها، وهذا يوضح أن الاستسرار فيما يخدم الإسلام بما لا يتعلق به بلاغ ولا بيان ولا يترتب على إسراره كتمان للدين أو سكوت عن حق من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولا يتعارض التخطيط وأخذ الحيطة مع التوكل على الله تعالى، لأن الأخذ بالأسباب جزء من التوكل على الله تعالى.
27- وإن من أعظم مظاهر التضحية في هذه الهجرة أن يغادر النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنون هذا البلد الأمين الحبيب إلى قلوبهم -بل وإلى قلوب جميع المسلمين- مغادرة يعلمون أن لا استقرار لهم فيه بعدها، وهذا من أشق الأمور على النفس، ولكن رجال العقيدة يسترخصون في سبيلها كل غال.
ولقد عبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذا المعنى -معنى صعوبة مغادرة مكة وفراقها فراقاً لا سكنى بعده- في العديد من المواقف المؤثرة.
عن عبد الله بن عدي بن حمراء الزهري قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واقفاً على الحَزْورة(108) فقال: (( والله والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت ))(109).
28- تربية أبي بكر رضي الله عنه لأسرته على الأمانة ونصرة هذا الدين وإحاطته وحفظه وبذل ما يملكون في سبيل ذلك، وكان واثقاً أتم الثقة بتربيته فقال للرسول - صلى الله عليه وسلم - لما أمره بإخراج من عنده: (( لا عين عليك ))، (( إنما هم أهلك يا رسول الله )).
29- الرغبة في مصاحبة أهل الخير مهما ترتب على ذلك من أخطار، قال أبو بكر للرسول صلى الله عليه وسلم: (( الصحبة يا رسول الله )).
30- منزلة الرسول - صلى الله عليه وسلم - عند أبي بكر أوصلته إلى البكاء من الفرح لما أخبره بمصاحبته في الهجرة.(1/90)
31- الرغبة في المساهمة في طريق الخير وعدم الاعتماد على الآخرين في ذلك، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - أبى أن يركب راحلة ليست له حتى اشتراها من أبي بكر بالثمن، حتى تكون هجرته بماله ونفسه رغبة في استكمال فضل الهجرة والجهاد على أتم أحوالهما(110).
32- أسرة أبي بكر تشارك بمجموعها في إنجاح خطة الهجرة النبوية.
33- الاستفادة من خبرات وطاقات المجتمع وتوظيفها في المجالات المناسبة، فعبد الله بن أبي بكر للأخبار، وعامر للشراب، وأسماء وعائشة لتجهيز الطعام وهكذا.
34- الاستفادة من خبرات المشركين إذا أمن حالهم، ولم يكن لهم شوكة في التأثير على القرار، وعرفوا واشتهروا بما يراد منهم، ولم يكن أحد من المسلمين يسد هذه الوظيفة، وكانت عاداتهم وتقاليدهم تفرض عليهم الأمانة في أداء تلك المهمة.
35- اتخاذ الأسباب والاحتياطات التامة، ثم التوكل على الله تعالى والثقة المطلقة به والاطمئنان لنصره، وعدم الاتكال على الأسباب ذاتها، قال أبو بكر: يا رسول الله لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا قال: (( ما ظنك باثنين الله ثالثهما )).
36- إن نصر الله فوق كل نصر، وقدرة الله فوق كل قدرة، وأمر الله فوق كل أمر، وتأييده يتحدى كل قدرات البشر وطاقاتهم، فهذه قريش صاحبة السلطة وتحت يدها السلاح والرجال والأموال ومع ذلك لم تستطع أن تهتدي إليهم في الغار.
37- اهتمام أبي بكر بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وإيثاره على نفسه، فقد ذهب يبحث له في الطريق عن ظل يقيل فيه.
38- لقد استولت سلامة الرسول - صلى الله عليه وسلم - على جل تفكير أبي بكر، فما أن وجد ظلاً يقيل فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا وقام بتجهيزه وتنظيفه حتى يضطجع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما هو فقد نسي نفسه من القيلولة وذهب ينظر (( هل يرى من طلب )).
39- الأدب الجم وحسن المخاطبة مع الأمانة يتجلى ذلك في مخاطبة أبي بكر لراعي قريش لعله يحلب لهم، مع أن الركب في حال حرب مع قريش وقد سطت قريش على أموال المسلمين وبيوتهم.
40- اهتمام أبي بكر بغذاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - من حيث النظافة والحالة الجيدة وتقديمه على نفسه في ذلك مع فرحه بشربه، على الرغم مما هو فيه من الشدة والخوف، فقد أمر الراعي بتنظيف يديه، ثم جعل الحليب في إناء برّده فيه، ثم جاء به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (( ثم شرب حتى رضيت )).
41- أدب أبي بكر في مخاطبته للرسول - صلى الله عليه وسلم - (( آن الرحيل يا رسول الله )).
42- تعميم قريش على جميع القبائل في القبض على الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحبه.
43- بذل قريش المال لرصد المعلومات ومضايقة الأخيار وهذا أسلوب يستمال به ضعاف النفوس.
44- رصد جائزة كبيرة لمن أتى بهم، ولا شك أن هذه الجائزة لا يفي بها مال رجل واحد من قريش، وإنما أثقلت كاهل عدد من الأشراف، ولكن لا بأس بذلك ما دام الهدف هو القضاء على الإسلام، فلترصد ميزانية هذا العام وليعش الناس في تقشف. قال سراقة: (( جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله وأبي بكر دية كل واحد منهما )).
45- من الدلائل على أن الجائزة المرصودة مغرية استنفار جميع القبائل للبحث عنهما، وتعتيم سراقة على قومه حتى يحظى بها وحده.
46- نجاح خطة وترتيبات الهجرة النبوية، فعلى الرغم من حرص قريش وتعميمها على القبائل وبذل الأموال في سبيل ذلك إلا أنه لم يدركهم منهم أحد غير سراقة.
47- لقد كان أبو بكر قلقاً على حياة رسول الله من أن يصيبها أذى، ولذلك يكثر الالتفات، أما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد كان واثقاً من نصر ربه له، مطمئناً إلى ذلك لم يعبأ بالخطر مع قربه منه، ولم يستحق منه مجرد الالتفات، قال أبو بكر: (( هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله فقال: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا} (التوبة: 40) )).
48- لقد قرب سراقة منهم وأصبح الخطر قاب قوسين أو أدنى، ولكن لا يأس من نصر الله ورحمته وحمايته، إن نصر الله يأتي العبد من حيث لم يحتسب، وحين يشتد الخطر يقرب الفرج قال سراقة: (( فعثرت بي فرسي فخررت عنها )) قال تعالى: {فَإِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً. إِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا} (الشرح: 5 -6)، وقال: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهَمْ نَصْرُنَا} (يوسف: 110).
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت وكنت أظنها لا تفرج
اشتدي أزمة تنفرجي قد آن ليلك بالبلج
49- أصحاب العقائد والمذاهب الباطلة عندهم استعداد للتخلي عن مبادئهم عند أي مصلحة تلوح في الأفق، فليس لهم مبدأ يحكمهم، ولا عقيدة يلتزمون بها تنظم حياتهم وتوجههم، فالاستقسام بالأزلام واتباعها من عقائد المشركين، ولكن ها هو سراقة يستقسم بالأزلام هل يضر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحبه فيخرج لا يضرهم، يفعل ذلك مراراً فيخرج الذي يكره، فيعصي الأزلام ويلحق بهم لأن مصلحته تقتضي ذلك.
50- القرآن الكريم زاد المسلم في كل حال، فهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع شدة الحال وقرب الخطر منه يقرأ القرآن وينشغل به حتى قرب منه سراقة وسمع تلاوته.
51- إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل كما يقال، ما بين غمضة عين وانتباهتها يبدل الله من حال إلى حال، فهذا سراقة يتحول من ملاحق لهم إلى مخبر عن كل ما يكاد لهم من مكائد، قال سراقة: (( فأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم )) وهكذا نصر الله وتأييده ينقلب به العدو المطارد لهم إلى ناصح معين.
52- استغناء الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن متاع سراقة وزاده على الرغم من عرضه عليهم ذلك، قال سراقة: (( وعرضت عليهم الزاد والمتاع فلم يرزآني، ولم يسألاني )) وهذأ برهان عظيم لسراقة بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم تكن تقوده مصلحة دنيوية ومطلب مادي، وإنما يسعى لهدفٍ سامٍ ينبغي على سراقة أن يعمل ذهنه فيه.
53- توظيف الرسول - صلى الله عليه وسلم - لسراقة فيما يخدم الهجرة ولا يضير المسلمين إن لم يفعل ذلك وهو إخفاء أثرهما عن الناس، فلم يعطه سراً ولم يكل إليه عملاً مهماً.
54- فراسة سراقة وبعد نظره، فقد طلب من الرسول - صلى الله عليه وسلم - كتاب أمان وهو المطارد الملاحق.
55- لقد ملأ الرسول - صلى الله عليه وسلم - قلبه وجوارحه ثقة بالله تعالى وتأييده ونصره له فيكتب لسراقة كتاب أمان ولم يقل كيف تطلب ذلك مني وأنا الشريد المطارد.
56- توجه الصحابة إلى التجارة والاستغناء عن الخلق والاعتماد على النفس، وتمويل الدعوة ذاتياً، فقد خرج الزبير مع بعض المسلمين تجاراً إلى الشام وفي طريق رجوعهم التقوا بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو في طريق الهجرة.
57- شدة اهتمام الأنصار بالهجرة النبوية، وترقبهم لوصول القافلة الشريفة، واتخاذ جميع الترتيبات والاحتياطات الأمنية لاستقباله.
58- وفي إلحاح والد البراء بن عازب على أبي بكر بإخباره بأمر الهجرة دلالة على اهتمام الصحابة بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم.
59- لا بأس بالحديث عن العمل الصالح إذا عزم عليه أخوه المسلم، وكان يرجى من ذكره النفع والفائدة، كما عزم عازب على أبي بكر بذلك وتحديث أبي بكر له بأمر الهجرة.
---------------
(1) رواه البخاري ( ح 3896 ).
(2) رواه البخاري ( ح 4772 )، ورواه مسلم ( ح 24 ).
(3) رواه مسلم ( ح 25 ).
(4) رواه الترمذي ( ح 2007 ).
(5) رواه أحمد في مسنده ( ح 979 )، والترمذي ( 969 )، وأبو داود ( ح 3089 )، وابن ماجه ( 1442 ).
(6) رواه البخاري ( ح 1356 ).
(7) صحيح البخاري (ح 3701)، صحيح مسلم (ح 2406).
(8) رواه أبو داود ( ح 1672)، وأحمد (ح 5709، 6071)، والنسائي (ح 2567).
(9) رواه البخاري ( ح 2101 )، ومسلم ( ح 2628 ).
(10) رواه الترمذي ( ح 2378 )، وأحمد ( 7968، 8218 )، وأبو داود (833 )
(11) رواه أبو داود ( ح 3116 )، وأحمد ( 21529، 21622 ).
(12) انظر: زاد المعاد ( 3 / 31 )، البداية والنهاية ( 3 / 136 )، فتح الباري ( 6 / 198 )، دلائل النبوة لأبي نعيم ( ص: 103 ).
(13) رواه البخاري ( ح 3231 )، ومسلم ( ح 1795 ).
(14) أخبار مكة للأزرقي ( 2 / 185 ).
(15) رواه مسلم ( ح 162 ).
(16) رواه البخاري ( ح 349 )، ومسلم ( ح 163 ).
(17) رواه مسلم ( ح 172 ).
(18) رواه البخاري ( ح 3597 )، ومسلم ( ح 249 ).
(19) المسند ( ح 2680 ).
(20) الفتح ( 7 / 205 ).
(21) رواه مسلم 7154، وأحمد 5175
(22) رواه الطبراني في الكبير والأوسط. انظر سلسلة الصحيحة ح 1056
(23) أخرجه البيهقي في السنن 5202 عن جابر، انظر سلسلة الصحيحة ح 883، إرواء الغليل 1123، وصححه الألباني في مناسك الحج والعمرة ص24.
(24) رواه مسلم ( ح 2365 ) عن أبي هريرة.
(25) رواه البخاري ( ح 3535 )، ومسلم واللفظ له ( ح 2286 ).
(26) صحيح البخاري ( ح 6250 ).
(27) مسند أحمد (ح15877)، سنن النسائي (ح1214)، سنن أبي داود (ح904).
(28) البداية والنهاية ( 3 / 40 ).
(29) رواه أحمد ( 3 / 390 )، وأبو داود ( ح 4734 )، والترمذي ( ح 2925 )، وابن ماجه ( ح 201 )، والدارمي ( ح 2355 ).
(30) رواه الإمام أحمد في مسند ( 3 / 462 )، ( 4 / 341 - 342 )، والبيهقي في الدلائل ( 2 / 182 )، والطبري في التاريخ ( 2 / 348 )، والحاكم ( 1 / 15 )، والمعجم الكبير ( 5 / 56 )، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة ( 4 / 721 )، وانظر: الغرباء ( ص: 99 ).
(31) رواه عبد الله بن أحمد بسند حسن ( 3 / 492 )، والطبراني في الكبير ( 5 / 58 )، واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد ( 4 / 761 ).
(32) رواه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند ( 3 / 492 )، والطبراني في المعجم الكبير ( 5 / 56 )، والحاكم في المستدرك ( 1 / 15 ) وصححه ووافقه الذهبي.
(33) مصنف ابن أبي شيبة ( 14 / 300 )، وابن خزيمة ( 1 / 82 )، والحاكم ( 2 / 612 ) وصححه ووافقه الذهبي، وموارد الظمآن ( ص: 406 )، وخلق أفعال العباد ( رقم 194 )، وسنن الدارقطني ( 3 / 44 )، وشرح أصول الاعتقاد ( 4 / 760 ) والمعجم الكبير ( 8 / 376 )، وسنن البيهقي ( 1 / 76 ).
(34) المسند ( 4 / 63 )، ( 5 / 371، 376 )، والبيهقي في الدلائل ( 2 / 186 )، والسير والمغازي ( ص: 231 )، واتحاف الخيرة المسندة ( 3 / 3 / ل / 91 )، وقال الذهبي: (( إسناده قوي )) السيرة ( ص: 86)، وصحح الألباني إسناد أحمد. دفاع عن الحديث والسيرة ( ص: 22 ).
(35) السيرة ( 2 / 157 ).
(36) رواه أحمد ( 3 / 233، 933 )، وابن حبان كما في الموارد ( ص: 804 )، والبزار كما في كشف الأستار (2 / 703 )، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي ( 2 / 426 )، والبيهقي في الدلائل ( 2 / 244 )، والسنن ( 9 / 9 )، وانظر: الغرباء ( ص: 301 ).
(37) صحيح البخاري (ح 3777).
(38) سبل الهدى ( 3 / 192 ).
(39) رواه ابن إسحاق بإسناد حسن. السيرة الصحيحة ( 1 / 591 ).
(40) رواه أحمد ( 5 / 427 )، وابن إسحاق بإسناد حسن، انظر السيرة الصحيحة ( 1 / 195)، والبداية والنهاية ( 3 / 148 ).
(41) أحاديث الهجرة ص: 69، وانظر: السيرة الصحيحة ( 1 / 196 )، فقه السيرة للغزالي ( ص: 154 ).
(42) انظر: دلائل النبوة للبيهقي ( 2 / 170 )، والبداية والنهاية ( 3 / 143 ).
(43) سيرة ابن هشام 275.
(44) رواه البخاري ح 3893، ومسلم 1709.
(45) انظر: سبل الهدى والرشاد ( 3 / 197 )، أحاديث الهجرة ( ص: 71 )، والغرباء
( ص: 186 ).
(46) أحاديث الهجرة ( ص: 27 )، وسبل الهدى والرشاد ( 3 / 198 ).
(47) أخرجه أحمد ( 3 / 322 - 323، 339 - 340 ) بإسناد حسن كما قال في فتح الباري ( 7 / 222 )، والبزار في كشف الأستار ( 2 / 307 )، وابن حبان في الموارد ( ص: 408 )، والبيهقي في الدلائل ( 2 / 422 )، والسنن ( 9 / 9 )، والحاكم ( 2 / 624 ) وأقره الذهبي، وأخبار مكة للأزرقي ( 2 / 205 )، وأخبار مكة للفاكهي ( 4 / 231 )، وكشف الأستار ( 2 / 307 )، وشرح أصول الاعتقاد ( 4 / 763)، وقال ابن كثير: (( إسناده جيد على شرط مسلم )) سيرة ابن كثير ( 2 / 196 )، والغرباء ( ص: 190).
(48) أخرجه ابن إسحاق بإسناد حسن. سيرة ابن هشام ( 2 / 81 - 85 )، وأحمد في المسند ( 3 / 460 ) من طريق ابن إسحاق، وفي فضائل الصحابة ( 2 / 923 ) مختصراً، والبيهقي في الدلائل ( 2 / 442 )، وابن حبان في صحيحه ( 9 / 74 )، وانظر: فتح الباري ( 7 / 261 )، وصححه الألباني في فقه السيرة ( ص: 159 )، وانظر: سبل الهدى والرشاد ( 3 / 102 - 402 )، وأحاديث الهجرة ( ص: 75 ) والسيرة الصحيحة ( 1 / 199 )، والغرباء ( ص: 191 ).
(49) سيرة ابن هشام ( 2 / 88 )، وأحاديث الهجرة ( ص: 82 )، وقال: هذا إسناده حسن إلا أنه مرسل.
(50) رواه البخاري ح 7056 ومسلم ح 1709.
(51) الغرباء ( ص: 491 ).
(52) فتح الباري 7278.
(53) صحيح مسلم ( 4 / 1779 ).
(54) الطبقات ( 1 / 225).
(55) الفتح ( 7 / 305 ).
(56) التناضُب: بالضم وهو الشجر، والأضاة: بوزن حصاة وهي الأرض الطينية التي تمسك الماء، ويقال هي الغدير. انظر أحاديث الهجرة ص 99، ومعجم المعالم الجغرافية ص64.
(57) طُوًى: موضع بأسفل مكة، وطوى: بالضم والقصر اسم الواد المقدس، وذو طُواء: موضع بين مكة والطائف. الروض الأنف 4191.
(58) سيرة ابن هشام ( 2 / 120 )، وصححه ابن حجر في الإصابة ( 3 / 04 ).
(59) ( ص: 43 ).
(60) صحيح مسلم ح 223.
(61) أحاديث الهجرة ( ص: 104 ).
(62) مسند أحمد، تحقيق أحمد شاكر ( 5 / 87 )، والحاكم ( 3 / 4 )، وأحاديث الهجرة ( ص: 104 )، وانظر: مبيت علي على الفراش، السيرة في ضوء المصادر ( ص: 268 ) فقد رواه أحمد بإسناد حسن كما قال أحمد شاكر ( 5 / 26 )، إلا أن في متنه غرابة شديدة أشبه ما تكون بوضع الشيعة، وانظر: أحاديث الهجرة ( ص: 113 ).
(63) انظر: كتاب المناقب ( ح 5093 ) باب هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة.
(64) برك: بفتح الموحدة وسكون الراء وحكي كسر أوله، والغماد: فهو بكسر المعجمة وقد تضم، وتخفيف الميم، وحكى ابن فارس فيها ضم الغين، هو موضع على خمس ليال من مكة إلى جهة اليمن. انظر فتح الباري 7273.
(65) ابن الدغنة: بضم المهملة والمعجمة وتشديد النون عند أهل اللغة، وعند الرواة ابن الدَغِنَة بفتح أوله وكسر ثانيه وتخفيف النون قيل: اسمه الحارث بن يزيد، وحكى السهيلي أن اسمه مالك، ووقع في شرح الكرماني أن ابن إسحاق سماه ربيعة بن رُفيع، وهو وهم من الكرماني فإن ربيعة المذكور آخر يقال له ابن الدغنة أيضاً لكنه سلمي، والمذكور هنا من القار فاختلفا، وأيضاً السلمي إنما ذكره ابن إسحاق في غزوة حنين وأنه صحابي قتل دريد بن الصمة، وفي الصحابة ثالث يقال له ابن الدغنة لكن اسمه حابس وهو كلبي، والقارة: قبيلة من بني الهون ابن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، وكانوا حلفاء لبني زهرة من قريش. فتح الباري 7274، وانظر الإصابة في ذكر حابس والكلبي 1271، وعن السلمين الإصابة 1507.
(66) أحث: أي أسرع، والجهاز: ما يحتاج إليه المسافر. فتح الباري 7278.
(67) الثقف: أي الحاذق، واللقن أي السريع الفهم. فتح الباري 7279.
(68) فتح الباري 7272ـ273، 1671.
(69) الفتح ( 4 / 517 ).
(70) الإحسان ( 8 / 26 )، الفتح ( 7 / 276 ).
(71) مغازي موسى بن عقبة ( 1 / 361 ).
(72) المعجم الكبير ( 24 / 106 ).
(73) سيرة ابن هشام ( 2 / 129 ).
(74) الفتح ( 7 / 277 ).
(75) طبقات ابن سعد ( 1 / 226 )، إلى قوله: (( بني قشير )) الفتح ( 7 / 78 ).
(76) الفتح ( 7 / 302 ).
(77) الفتح ( 7 / 11 ).
(78) الإداوة هي إناء صغير من جلد. النهاية في غريب الحديث 133.
(79) فتح الباري 711ـ13، 300.
(80) صحيح مسلم ( 4 / 2310 - 2311 ).
(81) المسند ( 1 / 462 )، الإحسان ( 9 / 100 ).
(82) الفتح ( 7 / 31 ).
(83) الزج هو الحديدة التي في أسفل الرمح. فتح الباري 7284.
(84) الفتح ( 7 / 182 - 282 ).
(85) انظر: الرياض النضرة ( 1 / 102 )، وقد عزاها لابن السمان. الفتح ( 7 / 51 ).
(86) مجنة: سوق للعرب على أميال من مكة، وشامة: جبل بالساحل جنوب غربي مكة، وطفيل: حرة تجاوره. معجم المعالم الجغرافية ص 282، 761.
(87) الفتح ( 7 / 803 ).
(88) بطوقه: أي بطاقته، وروقه: أي قرنه. سيرة ابن هشام 2236.
(89) سيرة ابن هشام ( 2 / 238 - 239 ).
(90) الموطأ ( 2 / 198 )، الفتح ( 7 / 903 ).
(91) الفتح ( 7 / 282 ).
(92) الفتح ( 7 / 492 ).
(93) الفتح ( 7 / 913 ).
(94) الفتح ( 7 / 123 ).
(95) الفتح ( 7 / 223 ).
(96) الفتح ( 7 / 692 ).
(97) الفتح ( 7 / 692 ).
(98) الفتح ( 7 / 792 ).
(99) المسند ح 3241
(100) السيرة ( 2 / 932 ).
(101) ابن هشام ( 2 / 931 ).
(102) رواه أحمد بإسناد صحيح، الفتح الرباني ( 2 / 282 )، وابن إسحاق، سيرة ابن هشام ( 2 / 251 )، والحاكم في المستدرك ( 3 / 5 )، وانظر السيرة في ضوء المصادر ( ص: 172 ).
(103) ابن هشام ( 2 / 341 ).
(104) رواه البزار بإسناد حسن وقال معقباً: (( لا نعلم روى قيس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا هذا، ولا نعلمه بهذا اللفظ إلا عنه، وهو يخالف سائر الأحاديث في قصة أم معبد )) كشف الأستار ( 2 / 103 )، وقال الهيثمي: (( رواه البزار ورجاله رجال الصحيح )) ( 6 / 85 )، وقال ابن حجر: (( أخرجها الطبراني من حديث قيس بن النعمان بسند صحيح وسياق أتم )) الإصابة ( 5 / 605 ).
وانظر: السيرة الصحيحة ( 1 / 312 )، وأحاديث الهجرة ( ص: 61 ) وما بعدها، والسيرة النبوية في ضوء المصادر ( ص: 182 ).
(105) رواه البخاري ح 6007، ومسلم ح 1982.
(106) صحيح الجامع ح 2345.
(107) صحيح البخاري ح 4563.
(108) بفتح الحاء وسكون الزاي وفتح الواو، سوق بمكة، وقد دخلت في المسجد ـ لما زيد فيه ـ قاله ياقوت، وهي ما يعرف اليوم باسم القشاشية، مرتفع يقابل المسعى من مطلع الشمس كما قال البلادي. انظر معجم البلدان 2255، معجم المعالم الجغرافية في السيرة النبوية ص 98.
(109) رواه أحمد 4305، والترمذي ح 3925، والنسائي في الكبرى باب فضل مكة (ل 55أ)، وابن ماجه ح 3108، والدارمي ح 2513، وعبد بن حميد في المنتخب ح 490.
(110) الروض الأنف ( 5 / 502 ).
ــــــــــــ(1/91)
الوضوح في التعاملات
ومن الدروس البارزة النافعة القيمة في الهجرة النبوية الشريفة : وجوب الوضوح في التعاملات بين المسلمين ، على أن تكون وفق ما شرع الله تعالى ورسوله ، ونابعة منه ، سواء أكانت هذه التعاملات في الجانب الاجتماعي أم في الجانب الاقتصادي ، للأمة المسلمة .
وذلك : ليظهر للعيان النموذج الأمثل ، وتقدم الأسوة الحسنة حية في دنيا الناس ، شاهدة على واقعية هذا الدين ، وصلاحية أهله لقيادة العالمين .وسنخصص الحديث هنا عن ضرورة " الوضوح في التعاملات المالية " بين المسلمين : _
لأنها الدرس الحركي الواضح في هذه الهجرة .
ولأن هذا الجانب هو الأهم عند الناس ، وإذا صلح فيهم ، سهل إصلاح وصلاح غيره لديهم .
وحرصا منا _ كما يعلمنا النبي - صلى الله عليه وسلم - على التنبيه على قطع دابر الخلاف الذي ينشأ بسبب المال ، ويقطع الروابط ، ويمزق الصلات ، بين أتباع هذا الدين العظيم ، الذي يدعو إلى الوحدة والترابط والتماسك ، كسبيل لبلوغ أهدافه العظيمة في إسعاد البشرية
وكان ذلك . . ! !
لأن المال : هو عصب الحياة _ كما يقال _ وهو : أحد زينتي الحياة الدنيا ( المال والبنون زينة الحياة الدنيا ) "28 "
ولأن طبيعة النفس البشرية : نزاعة لحب المال وتملكه ( وتحبون المال حبا جما ) " 29 "
وهذه النزعة البشرية شديدة وقوية . . يقول - صلى الله عليه وسلم - : " لو أن ابن أدم أعطى واديا ملآن من ذهب أحب إليه ثانيا ، ولو أعطي ثانيا أحب إليه ثالثا ، ولا يسد جوف ابن أدم إلا التراب ، ويتوب الله على من تاب " 30 "
وهذه فطرة فطر الله الإنسان عليها ؛ لتستمر الحياة ، ويعمر الكون ، ولذا لا تعاب فيه ، ما دامت لا تتعدى به ، ولا يتعدى هو بها الضوابط التي وضعها له خالقه ، وخالق فطرته ، سبحانه وتعالى ، سواء أكانت هذه الضوابط في اكتساب هذا المال أ م فيه اكتنازه ، أو إنفاقه .ولذلك : أعطى الإسلام هذا الجانب اهتماما كبيرا ، وعناية فائقة :
يتضح ذلك جيدا في كتاب الله تعالى ، وفي سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، القولية والفعلية .
وهو واضح _ كذلك _ في دروس الهجرة .
تقول عائشة رضي الله عنها : " . . . قال أبو بكر يا نبي الله إن هاتين راحلتان قد كنت أعددتهما لهذا . . . ولما قرب أبو بكر رضي الله عنه الراحلتين إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدم له أفضلهما ، ثم قال : اركب فداك أبي وأمي .
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إني لا أركب بعيرا ليس لي ، قال : فهي لك يا رسول الله بأبي أنت وأمي. . !!
قال : لا ، ولكن ما الثمن الذي ابتعتها به . . ؟ قال : كذا وكذا ، قال - صلى الله عليه وسلم - : قد أخذتها به ، قال : هي لك يا رسول الله ، فركبا وانطلقا . . . " 14 "
ما كان أحرى برسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أن لا يدقق هكذا ، فأبو بكر صديقه وصديقه وأقرب الناس إليه ، والراحلة أقل من أن ينتظر أبو بكر من رسول الله ثمنها ، وهو الذي يفتديه بأمه وأبيه ، بل بروحه التي بين جنبيه . . ! ! وليس بين الأصدقاء _ أو الجيدين، كما يقولون _ حساب . . ! !
ولكنه التشريع للأمة ،
ولكنه التعليم لها ،
ولكنها القدوة لشباب الصحوة ، والنموذج الواعي الواضح لأهل الدنيا كلها ،
ولكنه الحرص على : تماسك الصف ، وقوة البنيان ، ووحدة المسلمين ، وحمايتهم من شر المال ، وسوء التعامل فيه ، وبه .
وليس هذا فقط . . فإنه - صلى الله عليه وسلم - حينما وصل المدينة ، وبركت ناقته في موضع المسجد النبوي اليوم : ماذا فعل . . ؟
في البخاري . . " وكان _ أي موضع المسجد _ مربدا للتمر لسهيل وسهل غلامين يتيمين في حجر أسعد بن زرارة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، حين بركت به راحلته : هذا إن شاء الله المنزل ، ثم دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الغلامين ، فساومهما بالمربد ؛ ليتخذه مسجدا ، فقالا : لا ، بل نهبه لك يا رسول الله ، فأبى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقبله منهما هبة ، حتى ابتاعه منهما " "14 "
وهذا درس ينبغي أن يعيه شباب الحركة الإسلامية اليوم جيدا ! !
فكم من تعاملات بدأت بوافر حسن النية ، وعظيم ثقة الأخوة ، ولكنها نسيت هذا الدرس ، وتخلت عن بعض ضوابط الشرع : فما كان لها من مصير سوى الطريق المسدود ، والفساد السريع ، والتخطي منه إلى القطيعة ، بل إلى الشحناء والعداوة . .؟!!
ولذا : فليس عيبا _ بل هو التشريع _ أن نتكاتب في تعاملاتنا ( يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه . . ) الآية "31 "
ولا يقلل هذا من حسن النية ، وثقة الأخوة ، وتوافر الحب ، وإسلامية التعامل .
وليس عيبا _ بل هو التشريع _ أن يكون الوضوح رائدنا في تجارتنا وفي بيعنا وشرائنا ، وإقراضنا وإقتراضنا ، و . . الخ من صور التعاملات المالية ، فيما بيننا وبين بعضنا البعض ،ووضوحها بيننا وبين الآخرين . . ! !
وليس عيبا _ بل هو التشريع _ أن نأخذ حقوقنا من بعضنا البعض عن أعمال نؤديها ، أو تؤدى لنا
" ثلاثة أنا خصيمهم يوم القيامة : . . " أحدهم : " رجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره" " 32 " آيا كان هذا الحق ، وأيا ما كان هذا العمل .
ولا يقلل هذا من : حسن النية ، وثقة الأخوة ، وتوافر الحب ، وإسلامية التعامل .
وليس عيبا . . ! !
وليس عيبا . . الخ .
ولن نقيم الدولة على أسس راسخة ونحافظ على قوة الترابط ، وحسن النية ، وثقة الأخوة ، وتوافر الحب ، وإسلامية التعامل ، ووضوح الرؤية ، وسرعة الوصول للأهداف ، والتخلص من عوامل الخلاف : ما لم نجاهد أنفسنا في الإفادة من هذا الدرس النبوي الكريم الذي علمناه محمد - صلى الله عليه وسلم - خلال هجرته العظيمة .
تأملات في رحلة الهجرة
نحن الآن في مكة والحرب قائمة بين التوحيد والشرك ، بين الإصلاح والجمود ، بين محمد وقريش ، وبذلت قريش قوتها ، وبذلت قريش مالها ، وقدمت دنياها كلها ، في شيء واحد : هو أن تمنع هذا الخير عن الدنيا .
قال محمد : افتحوا لي الطريق لأخرج إلى الأرض الفضاء ، فأنصر الضعيف ، وأنجد المظلوم ، وأعيد للبشرية كرامتها ، وللعقل سلطانه ، قالوا : لا .
قال : افسحوا لرسالتي لتنطلق في الزمان ؛ فإنها ليست لبلد واحد ، ولا ليوم واحد ، قالوا : لا ! ولكن تعال نملكك إن شئت علينا ، ونمنحك أموالنا ونجعلك سيّد هذا البلد كله .
وسخر التاريخ من قريش ... يدعوهم محمد ليعطيهم سيادة الأرض ، وزعامة الدنيا، ويضع في أيديهم مفاتيح الكنوز : كنوز المال ، وكنوز العلم ، ويمنحهم ما يملك كسرى وقيصر ، وهم يدعونه ليعطوه إمارة هذه القرية ، النائمة بين جبلين ، وراء رمال الصحراء . وانطلقوا يؤذونه ، ويتوعدونه ؛ لعل الترهيب يفعل فيه ما لم يفعل الترغيب .
رموا في طريقه الشوك وهو ماش ، وألقوا عليه كرش الناقة وهو ساجد ، ورموه في الطائف بالحجارة وأسالوا دمه ، وهزئوا به ، وسلطوا عليه سفهاءهم .
فلم يثر هذا كله غضبه ولكن أثار إشفاقه ، إشفاق الكبير على الأطفال المؤذين ، والعاقل على المجانين ، وكان جوابه : اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون ، ولم يصرفه عن وجهته شيء .
وآذوا المسلمين الأولين ، ليفتنوهم عن دينهم ، وعذبوهم ، وكانوا يبطحون المسلم عارياً على الرمال الملتهبة التي يشوى عليها اللحم ، ويضعون عليه الصخرة الهائلة ، ويلوّحون له بالماء ، ويقولون : اكفر برب محمد حتى نسقيك وننجيك . فيقول : أحدٌ ! أحدٌ ! وتشغله لذة المناجاة ، عن لذعة العذاب ، ونشوة الأمل بالجنَّة ، عن شقوة الألم في الدنيا .
احتملوا في سبيل كل شيء ، الضرب ، والجرح ، والحرق ، والجوع ، والسهر ، واستحْلوا في سبيل الله المرائر ، واستحبوا أبغض المكاره إلى النفوس إن كان فيها رضا الله .
ودعاهم الرسول إلى ما هو أشد من هذا كله ، إلى فراق الوطن ، وترك الأهل ، وأن يمشوا فراراً بدينهم إلى بلاد ليسوا منها ، وليست منهم ، ولا لسانها لسانهم ، ولا دينها دينهم ، إلى الحبشة يجاورون فيها النصارى ، ونصارى الحبشة أولى بهم من مشركي العرب ، ولتجدن أقرب الناس مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ، فخرجوا من منازلهم وهجروا أهلهم ، ومشوا إلى الحبشة فلحقهم أذى قريش إلى الحبشة وأوغلت قريش في كفرها وصدها وعنادها ، ولكن هل تقدر قريش أن تطفىء نور الله ؟ إن البخار الذي من طبعه الانطلاق إلى العلاء لا يحصر في زجاجة ، وإن حصرته وجد منفذاً أو مزق الاناء ، وكذلك صنع الإسلام .
وهاجر المسلمون مرة ثانية ، ولكنها هجرة إلى ديار عربية ، إلى قرية قدِّر لها أن تبقى الدهر كله خاملة وراء الرمال ، حتى تتشرف بمحمد ، فإذا هي أُم المدائن ، وعاصمة العواصم ، منها تنبع عيون الخير والهدى لتسيح في الأرض ، فتسقيها وتعمها بالخيرات ، وإليها تنصب أنهار الملك والغنى والسلطان من كل مكان .
هاجر المسلمون جميعاً ولم يبق في مكة إلا النبي ورجلان اثنان ، مرافقه في السفر، ووكيله في مكة رجلان كانا أول من أسلم، وآخر من هاجر سيد الكهول أبو بكر وسيد الشباب عليّ .
تأخر محمد كما يتأخر الرُّبان الشريف على ظهر الباخرة الميئوس منها فلا ينزل حتى ينزل الركاب جميعاً .
وكما يتأخر الراعي الأمين ، عند المَفازة فلا يجوز حتى يجوز القطيع كله تأخرٌ يحمي أتباعه ، ويستقبل بصدره الخطر .وجاء الخطر على أشد صوره وأشكاله .
اتفق زعماء قريش على ارتكاب أكبر جريمة في تاريخ الجنس البشري . جريمة لو تمت ، لما كانت في التاريخ دمشق ولا بغداد ولا القاهرة ولا قرطبة ، ولا كانت للراشدين دولة ، ولا للأمويين ، ولا للعباسيين ، ولا فتح بنو عثمان القسطنطينية ، ولا بني الأموي ، ولا النظامية ولا الحمراء ، ولما قامت الحضارة التي قبست منها أوربا حضارتها .
وهنا تتجلى رجولة محمد وشجاعته ، وثبات أعصابه ، وهنا يظهر نصر الله لأوليائه - حين فتح محمد الباب ، وخرج يشق صفوفهم ، يقتحم الجموع ، التي جاءت تطلب دمه ، وروَّعتهم المفاجأة ، وأعمت أبصارهم ، وما عادوا إلى أنفسهم حتى كان محمد قد مضى ، وصحوا كأن حلماً مرَّ بهم ، وشقوا الباب ونظروا ليتوثقوا ، فرأوا فراش محمد فيه رجل نائم ، ففركوا عيونهم وتنفسوا الصعداء .
وأدركت قريش الحقيقة بعد ما مضى محمد ، وعم الصريخ مكة وضواحيها ، وخرج القرشيون فرساناً ومشاة يُركضون خيولهم ، ويَعْدون إلى كل ناحية ، يتلفتون مذعورين .
ما لهم ؟ ما لهم وهم حماة الديار ، وفرسان المعارك ، قد أطار الفزع ألبابهم وصدع الذعر قلوبهم ؟
ما لكم يا ناس ؟ قالوا خرج محمد !
وماذا تطلبون منه ؟ أخذ أموالكم ؟
قالوا : معاذ الله ، إنه الأمين المأمون أداها عن آخرها .
أجرم جريمة فأنتم تطلبونه بها ؟
قالوا : حاشا لله ، إنه أحسن الناس خلقاً ، وأطهرهم يداً ،
ماذا تريدون منه ؟ قالوا : انه سيجند الدنيا كلها ، لمحاربة أربابنا وأصنامنا وجهلنا وكبريائنا ، سيضطرنا إلى هدم الحجارة الجامدة ، وعبادة الله الواحد ، واتباع سبيل الهدى ، والخير والسداد .
أهذا الذي تنقمون من محمد ؟
وسخر التاريخ من قريش مرة ثانية !
وعادت قريش بخزيها ، وأهاجت الجزيرة ضد محمد ، ووضعت الجوائز ، مئة ناقة لمن يأتي بمحمد حياً أو ميتاً .
وكان محمد وصاحبه في الغار فلحقهم فارس ، وخاف أبوبكر وقال : والله ما على نفسي خفت ، ولكن عليك ، فأجاب محمد بالكلمة التي تجمع وحدها معجزات الايمان كلها ، مهما تعددت صورها ، من الشجاعة والتضحية والثبات والإيثار ، قال : لا تحزن ؛ إن الله معنا .
إن الله مع من يكون مع الله ، إن الله ينصر من ينصره ، فلا يحزن من كان الله معه . إن جبهة معها الله لا تنكسر ، ولو كان ضدّها الوجود كله ! .
ومشى الموكب إلى الدنيا الواسعة . موكب صغير ، ولكنه أجلُّ من أعظم موكب ، أحست بوطأته هذه الكرة التي نمشي على ظهرها ، ولم تعرف موكباً أنبل منه قصداً ، وأبعد غاية ، وأخلص نية ، وأعمق في الأرض أثراً .
موكب صغير يمشي في الصحراء الساكنة ، لا رايات ولا أعلام ، ولا أبواق ولا طبول ، ولا تقوم له الجند على الصفين ، ولا يصفق له الناس من النوافذ ، ولكن تصفق الرمال فرحاً بالذي سيضفي عليها ثوب الخصب والنمو ، وتزهى الجبال طرباً ، بالذي سيقيم عليها أعلام النصر والعز ، وتبرز من بطن الغيب جحافل القواد والعلماء والأدباء الذين أنبتهم مسير محمد في هذه الصحارى . حتى أشرف على المدينة، وأقبلت جموع كالجموع التي خلفوها في مكة، ولكن تلك كانت للشر ، وهذه للخير . وتلك تنادي بالموت لمحمد ، وهذه تنادي بالحياة لرسول الله .
وكانت هذه نقطة التحول في التاريخ الإسلامي .
كل ما قبلها هزائم ، وما بعدها إنما هو نصر إثر نصر، ولذلك جعلناها عيدنا الأكبر ، وجعلناها ابتداء تاريخنا . ها نحن أولاء الآن على أبواب المدينة ، وقد خرجت كلها تستقبل محمداً ، ولو استطاعت من الحب لفرشت له الطريق بقِطع أكبادها ، حتى يمشي على قلوبها ، وكانت تنشد نشيد الاستقبال :
طلع البدر علينا من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ما دعا لله داع
وها هم الناس يسألون : أيهم هو ؟ أيهم محمد ؟
لا يعرفونه ، لأنه لم يكن ملكاً ، ولا يلبس الحرير ، ولا تلوح عليه شارات الملك ، ولا يتألق على جبينه التاج ، بل كا عبداً متواضعاً ، يلبس ما يلبس الناس ، ويأكل ما يأكلون ، ويجوع إن جاعوا ، يشبع إن شبعوا ، ولقد كان في أصحابه الأغنياء الموسرون ، ولكن محمداً أحب أن يعيش فقيراً وأن يموت فقيراً.
وحسبوا أبا بكر هو النبي ، فكانوا يسلمون عليه ، وهو يشير إلى الرسول ، يقول لهم بيده : ها هو ذا محمد . وأقبلوا يدعونه لينزل فيهم يتسابقون على هذا الشرف الخالد .
فماذا صنع ؟ انظروا إلى لطفه ولباقته ، أنه لا يريد أن يؤذي أحداً بالرفض ، فقال : اتركوا الناقة ، فإنها مأمورة ، ومشت الناقة حتى بركت عند دار أبي أيوب الأنصاري . أبو أيوب ، الذي كتب الله له أن يحضر بعدُ حربَ القسطنطينية وأن يوغل في الهجوم يريد أن يموت في أبعد مكان ، فمات ودفن على ضفاف البوسفور ، وبقي قبره يدعو المسلمين إلى فتحها قروناً طوالاً ، حتى كتب الله هذا الثواب للسلطان محمد الفاتح .
نحن الآن مع محمد - صلى الله عليه وسلم - في المدينة . أنه يؤسس الدولة الجديدة ، فبم ترونه يبدأ ؟ بمهرجان فخم يبايعونه فيه بالمُلك ؟ إنه لا يريد الملك ! يبني ثكنة باحتفال عظيم ويجيّش جيشاً ؟ إنه لا يبتغي العلو في الأرض ! يفرض الضرائب ؟ لا ، ولكن يبدأ بعمارة المسجد .
إنها ظاهرة عظيمة يحسن أن يقف القاريء عندها . يبدأ بالمسجد ، كما بُدىء الوحي بآية ( القراءة ) و ( التعليم ) بالقلم .
بدأ بالمسجد ، والمسجد في الإسلام ، هو ( رمز ) الإيمان ، وهو البرلمان ( رمز ) العدل ، وهو المدرسة ( رمز ) العلم .
ولم يغصبه بل شراه بالمال وذلك ( رمز ) الإنصاف ، ولم يأمر ببنائه ويقعد ، بل شارك أصحابه العمل ، وحمل الحجارة بيده ، وهذا ( رمز ) التواضع ، وبناه من اللبن والطين . بلا زخارف ولا نقوش وهذا ( رمز ) البساطة
فكان من هذه ( الرموز ) الإيمان والعدل والعلم والإنصاف و التواضع والبساطة مجموعة شعائر الاسلام .
ــــــــــــ(1/92)
تعرض النبي - صلى الله عليه وسلم - للأذى بسبب دعوته ...
الرياض - وائل الظواهر
ا صدع النبي - صلى الله عليه وسلم - بدعوته لقي من قريش عنتا وشدة وأوذي في سبيل الله إيذاء شديدا ما بين سب وشتم وغير ذلك خاصة عندما عاب آلهتهم فعند ذلك أعظموا هذا الأمر وأنكروه وأجمعوا على خلافه وعداوته . فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال انظروا قريشا كيف يصرف الله عني شتمهم ولعنهم يشتمون مذمما ويلعنون مذمما وأنا محمدا . أخرجه البخاري وقد قيض الله جل وعلا لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - عمه أبو طالب - وكان مشركا على دين آبائه - ليمنعه ويحميه من أذى قريش له فلما رأت قريش أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - يعيب آلهتهم ولا ينتهي عن ذلك ورأوا أن عمه أبو طالب يمنعه ويحميه منهم مشوا إلى أبي طالب فكلموه وقالوا إما أن تكفه عن آلهتنا وعن الكلام في ديننا وإما أن تخلي بيننا وبينه فقال لهم قولا رفيقا وردهم ردا جميلا فانصرفوا ثم بعد ذلك أكثرت قريش من ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - وحض بعضهم بعضا عليه ومشوا إلى أبي طالب مرة أخرى فقالوا إن لك نسبا وشرفا فينا وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا وإنا والله ما نصبر على شتم آلهتنا وتسفيه أحلامنا حتى تكفه أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين ثم انصرفوا عنه فعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوته لهم ولم يطب نفسا أن يسلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهم ولا أن يخذله فدعا محمدا فقال يا ابن أخي إن قومك قد جاءوا إلي فقالوا كذا وكذا فأبق علي وعلى نفسك ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق فظن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قد بدا لعمه بداء وأنه خاذله ومسلمه فقال يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه فيه ما تركته ثم استعبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قام فلما ولى ناداه أبو طالب فقال أقبل يا ابن أخي فأقبل إليه فقال اذهب فقل ما أحببت فوالله لا أسلمك أبدا . ثم إن قريشا أتوا أبا طالب فقالوا يا أبا طالب هذا عمارة بن الوليد أنهد فتى في قريش وأجمله فخذه فلك عقله ونصرته واتخذه ولدا فهو لك وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي قد خالف دينك ودين آبائك نقتله فإنما رجل كرجل فقال بئس والله ما تسومونني أتعطوني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه هذا والله ما لا يكون أبدا فقال المطعم بن عدي والله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك وشهدوا على التخلص مما تكره فما أراك تقبل منهم شيئا فقال والله ما أنصفوني ولكنك قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم علي فاصنع ما بدا لك . وهذه بعض النماذج من إيذائه على الصلاة والسلام عن ربيعة الدؤلي قال رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - بسوق ذي المجاز يتبع الناس في منازلهم يدعوهم إلى الله ووراءه رجل أحول تقد وجنتاه وهو يقول لا يغرنكم عن دينكم ودين آبائكم قلت من هذا قالوا أبو لهب. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال أبو جهل هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم قيل نعم فقال واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته ولأعفرن وجهه فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي ليطأ على رقبته فما فاجأهم إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه فقيل له ما لك قال إن بيني وبينه لخندقا من نار فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لو دنا لاختطفته الملائكة عضوا عضوا , أخرجه مسلم . وذكر ابن إسحاق عن ابن عباس أن أبا جهل قال يا معشر قريش إن محمدا قد أبى إلا ما ترون من عيب آلهتنا وإني أعاهد الله لأجلسن له غدا بحجر فإذا سجد فضخت به رأسه فليصنع بعد ذلك بنو عبد منا ف ما بدا لهم فلما أصبح أبو جهل أخذا الحجر وجلس وأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقام يصلي بين الركنين الأسود واليماني وكان يصلي إلى الشام وجلست قريش في أنديتها ينظرون فلما سجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - احتمل أبو جهل الحجر ثم أقبل نحوه حتى إذا دنا منه رجع مرعوبا منتقعا لونه قد يبست يداه على حجره حتى قذف به من يده وقامت رجالات قريش فقالوا ما لك يا أبا الحكم فقال قمت إليه لأفعل ما قلت لكم فلنا دنوت منه عرض لي فحل من الإبل والله ما رأيت مثل هامته ولا قصرته ولا أنيابه لفحل قط فهم أن يأكلني وعن عبد الله بن عمرو قال بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ساجد وحوله ناس من قريش وبالقرب منه سلى بعير - أي أمعاءه وأحشاءه - إذ قالوا من يأخذ سلى هذا الجزور فيقذفه على ظهره فجاء عقبة بن أبي معيط فقذفه على ظهره - صلى الله عليه وسلم - وجاءت فاطمة فأخذته عن ظهره ودعت على من صنع ذلك قال عبد الله فما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا عليهم إلا يومئذ فقال ( اللهم عليك بالملأ من قريش اللهم عليك بأبي جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وعقبة بن أبي معيط وأمية بن خلف . قال عبد الله فلقد رأيتهم قتلوا يوم بدر وألقوا في القليب غير أن أمية كان رجلا بدينا فتقطع قبل أن يبلغ به البئر . متفق عليه . ومن المواقف التي تدل على شدة إيذاء كفار قريش لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما رواه الزبير أنه قال لعبد الله بن عمرو ما أكثر ما نالت قريش من النبي - صلى الله عليه وسلم - قال حضرتهم يوما وقد اجتمع أشرافهم في الحجر يوما فذكروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من أمر هذا الرجل قط قد سفه أحلامنا وسب آلهتنا وفعل وفعل فطلع عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستلم الركن وطاف بالبيت فلما مر غمزوه ببعض القول فعرفت ذلك في وجهه فلما مر الثانية غمزوه فلما مر الثالثة غمزوه فوقف فقال ألا تسمعون يا معشر قريش أما والذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح قال فأخذت القوم كلمته حتى ما فيهم رجل إلا كأن على رأسه طائر وقع حتى إن أشدهم فيه وطأة ليسكنه بأحسن ما يجد من القول حتى إنه ليقول انصرف يا أبا القاسم فوالله ما كنت جهولا فانصرف - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا كان من الغد اجتمعوا في الحجر وأنا معهم فقال بعضهم لبعض ذكرتم ما بلغ منكم وما بلغ عنكم حتى إذا بادءكم بما تكرهون تركتموه فبينا هم في ذلك إذا طلع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوثبوا إليه وثبة رجل واحد فأحاطوا به يقولون أنت الذي تقول كذا وكذا فيقول نعم فلقد رأيت رجلا منهم أخذ بمجمع ردائه فقام أبو بكر دونهم يبكي ويقول ( أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله ) ثم انصرفوا عنه فحدثني بعض آل أبي بكر أن أم كلثوم بنت أبي بكر قالت رجع أبي يومئذ وقد صدعوا فرق رأسه مما جذبوه بلحيته وكان كثير الشعر . وقال ابن إسحاق لما مات أبو طالب نالت قريش من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأذى ما لم تكن تطمع فيه في حياة أبي طالب حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش فنثر على رأسه ترابا فدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيته والتراب على رأسه فقامت إليه إحدى بناته فجعلت تغسل عنه التراب وهي تبكي ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لها لا تبكي يا بنية فإن الله مانع أباك. قال وكانت امرأة أبي لهب أم جميل أروى بنت حرب بن أمية أخت أبي سفيان تحمل الشوك وتضعه في طريق النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى بابه ليلا وكانت امرأة سليطة تبسط فيه لسانها وتطيل عليه الافتراء والدس وتؤجج نار الفتنة. ولما سمعت ما نزل فيها وفي زوجها من القرآن أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو جالس في المسجد عند الكعبة ومعه أبو بكر الصديق وفي يدها حجارة فلما وقفت عليهما أخذ الله بصرها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا ترى إلا أبا بكر فقالت يا أبا بكر أين صاحبك قد بلغني أنه يهجونا والله لو وجدته لضربته بهذا الحجر فاه ثم انصرفت فقال أبو بكر يا رسول الله أما تراها رأتك فقال ما رأتني لقد أخذ الله ببصرها عني. وكان جيران النبي - صلى الله عليه وسلم - أبو لهب وعقبة بن أبي معيط وعدي بن حمراء الثقفي وغيرهم يؤذون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي فكان بعضهم يطرح عليه رحم الشاة وهو يصلي وربما طرحوها في برمته - أي القدر - إذا نصبت حتى إنه عليه الصلاة والسلام اتخذ حجرا ليستتر به منهم إذا صلى وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا طرحوا ذلك الأذى عليه يخرج به على العود فيقف على بابه ثم يقول يا بني عبد مناف أي جوار هذا ثم يلقيه في الطريق . وقد تعرض عليه الصلاة والسلام لكثير من الأذى غير ما ذكرنا من شتم وسب ووصف بالجنون والسحر والكهانة وغير ذلك . ومع إيذاء كفار قريش للنبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أن الله جل وعلا قد حفظ نبيه وأيده بل وجعل الرعب في قلوب أعدائه ومما يدل على ذلك ما رواه إسحاق قال جاء رجل من إراش بإبل له إلى مكة فابتاعها منه أبو جهل فمطله الثمن فأقبل الإراشي حتى وقف على ناد من قريش ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ناحية المسجد جالس فقال يا معشر قريش من رجل يعينني على أبي الحكم بن هشام فإني رجل غريب ابن سبيل وقد غلبني على حقي فقال له أهل المجلس أترى ذلك الرجل الجالس - يعنون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اذهب إليه فإنه يعينك عليه - ويقصدون بذلك السخرية منه عليه الصلاة والسلام لما يعلمون ما بينه وبين أبي جهل من العداوة - فأقبل الإراشي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال يا عبد الله إن أبا الحكم بن هشام قد غلبني على حق لي قبله وأنا رجل غريب ابن سبيل وقد سألت هؤلاء القوم عن رجل يعينني عليه يأخذ لي بحقي منه فأشاروا لي إليك فخذ لي حقي منه يرحمك الله فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معه فلما رأى ذلك أهل المجلس قالوا لرجل ممن معهم اتبعه فانظر ما يصنع فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى جاء أبا جهل فضرب على بابه فقال من هذا قال محمد فاخرج إلي فخرج إليه وقد انتقع وجهه فقال أعط هذا الرجل حقه قال نعم لا تبرح حتى أعطيه الذي له فدخل فخرج إليه بحقه فدفعه إليه ثم انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال للإراشي اذهب لشأنك فأقبل الإراشي حتى وقف على
ذلك المجلس فقال جزاه الله خيرا فقد والله أخذ بحقي . ثم إن الرجل الذي أرسله أهل المجلس جاء فقالوا له ويحك ماذا رأيت قال عجبا من العجب . والله ما هو إلا أن ضرب عليه بابه فخرج إليه وما معه روحه فقال له أعطه حقه فقال نعم لا تبرح حتى أخرج له حقه فدخل فخرج إليه بحقه فأعطاه إياه . ثم لم يلبث أبو جهل أن جاء فقالوا له ويلك مالك والله ما رأينا مثل ما صنعت قط قال ويحكم والله ما هو إلا أن ضرب علي بابي وسمعت صوته حتى ملئت رعبا ثم خرجت إليه وإن فوق رأسه لفحل من الإبل ما رأيت مثل هامته ولا قصرته ولا أنيابه في فحل قط والله لو أبيت لأكلني . فتأمل في هذا الحدث لتعلم أن الله جل وعلا قد جعل الهيبة من النبي - صلى الله عليه وسلم - في قلوب أعدائه والمواقف الدالة على ذلك كثيرة مر بعضها وسيأتي البعض الآخر . عناد الكفار للنبي - صلى الله عليه وسلم - ورفضهم الإيمان به مع يقينهم بأنه مرسل من عند الله . هذا وقد علم كثير من كفار قريش أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسل وأن ما جاء به إنما هو وحي من الله لكن منهم الكبر عن الاستجابة للحق وكم تأثر بعضهم لسماعه للقرآن ولان قلبه لكن صناديد الكفر لم يتركه بل سارعوا إلى إغوائه وإبعاده عن التأثر بهذا الدين من ذلك ما رواه البيهقي عن ابن عباس رضي الله عنه أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقرأ عليه القرآن فكأنه رق له فبلغ ذلك أبا جهل فقال يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا قال لم قال ليعطوك فإنك أتيت محمدا لتعرض لما قبله قال قد علمت أني من أكثرها مالا قال فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر لها أو أنك كاره له قال وماذا أقول فوالله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار مني ولا أعلم برجزه ولا بقصيدته مني ولا بأشعار الجن والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا والله إن لقوله الذي يقول حلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله وإنه ليعلو وما يعلى وإنه ليحطم ما تحته قال لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه قال فدعني حتى أفكر فيه فلما فكر قال هذا سحر يؤثر يأثره عن غيره فنزلت "ذرني ومن خلقت وحيدا" المدثر . وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال قال أبو جهل والملأ من قريش لقد انتشر علينا أمر محمد فلو التمستم رجلا عالما بالسحر والكهانة والشعر فكلمه ثم أتانا ببيان من أمره فقال عتبة لقد سمعت بقول السحرة والكهانة والشعر وعلمت من ذلك علما وما يخفى علي إن كان كذلك فأتاه فلما أتاه قال له عتبة يا محمد أنت خير أم هاشم أنت خير أم عبد المطلب أنت خير أم عبد الله فلم يجبه قال فبم تشتم آلهتنا وتضلل آباءنا فإن كنت إنما بك الرياسة عقدنا لك ألويتنا فكنت رأسنا ما بقيت وإن كان بدا لك في الباءة زوجناك عشرة نسوة تختار من أي أبيات قريش شئت وإن كان بك المال جمعنا لك من أموالنا ما تستغني به أنت وعقبك من بعدك ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ساكت فلما فرغ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " بسم الله الرحمن الرحيم * حم * تنزيل من الرحمن الرحيم " حتى بلغ "أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود" سورة فصلت . فأمسك عتبة على فمه وناشده الرحم أن يكف عنه ولم يخرج إلى أهله واحتبس عنهم فقال أبو جهل يا معشر قريش والله ما نرى عتبة إلا قد صبأ إلى محمد وأعجبه طعامه وما ذاك إلا من حاجة انطلقوا بنا إليه فأتوه فقال أبو جهل والله يا عتبة ما حسبنا إلا أنك صبوت فإن كانت بك حاجة جمعنا لك ما يعنيك عن طعام محمد فغضب وأقسم بالله لا يكلم محمد أبدا وقال لقد علمتم أني من أكثر قريش مالا ولكني أتيته فقص عليه القصة فأجابني بشيء والله ما هو بسحر ولا شعر ولا كهانة قرأ "بسم الله الرحمن الرحيم * حم * تنزيل من الرحمن الرحيم * كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون* بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون" حتى بلغ "فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود" فأمسكت فيه وناشدته الرحم أن يكف وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب فخفت أن ينزل بكم العذاب . وفي رواية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما بلغ السجدة سجد ثم قال له قد سمعت يا أبا الوليد فأنت وذاك فقام إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض نحلف بالله لقد جاءكم أبا الوليد بغير الوجه الذي ذهب به فلما جلس قالوا يا أبا الوليد ما وراءك قال ورائي أني سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي خلو بين الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه فوالله ليكونن لقوله نبأ فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم وكنتم أسعد الناس به . قالوا سحرك والله بلسانه قال هذا رأي فاصنعوا ما بدا لكم . ومما يدل على قناعة كفار قريش برسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلمهم بأنه رسول مرسل من الله عز وجل وامتناعهم عن اتباعه كبرا وعنادا ما رواه ابن إسحاق عن الزهري قا ل حدثت أن أبا جهل وأبا سفيان والأخنس بن شريق خرجوا ليلة يلتمسون يتسمعون من النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي بالليل في جوف بيته وأخذ كل رجل منهم مجلسا وكل لا يعلم بمكان صاحبه فلما أصبحوا تفرقوا فجمعهم الطريق فتلاوموا وقالوا لا نعود فلو رآنا بعض السفهاء لوقع في نفسه شيء ثم عادوا لمثل ليلتهم فلما تفرقوا تلاقوا فتلاوموا كذلك فلما كان في الليلة الثالثة وأصبحوا جمعهم الطريق فتعاهدوا أن لا يعودوا ثم إن الأخنس أتى أبا سفيان في بيته فقال أخبرني عن رأيك فيما سمعت من محمد فقال يا أبا ثعلبة والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها فقال الأخنس وأنا والذي حلفت به ثم أتى أبا جهل فقال ما رأيك فقال ماذا سمعت تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف أطعموا وأطعمنا وحملوا فحملنا وأعطوا فأعطينا حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا منا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك هذا والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه فقام الأخنس عنه . وأخرج البيهقي في سننه من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال إن أول يوم عرفت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أني كنت أمشي أنا وأبو جهل بن هشام في بعض أزقة مكة إذ لقينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي جهل يا أبا الحكم هلم إلى الله عز وجل وإلى رسوله أدعوك إلى الله قال أبو جهل يا محمد هل أنت منته عن سب آلهتنا هل تريد إلا أن نشهد أنك بلغت فنحن نشهد أن قد بلغت فوالله لو أني أعلم أن ما تقول حقا ما اتبعتك . فانصرف عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - قال وأقبل علي فقال فوالله إني لأعلم أن ما يقول حق ولكن بني قصي قالوا فينا الحجابة فقلنا نعم فقالوا فينا الندوة فقلنا نعم ثم قالوا فينا اللواء فقلنا نعم قالوا فينا السقاية فقلنا نعم ثم أطعموا وأطعمنا حتى إذا تحاكت الركب قالوا منا نبي والله لا أفعل . فهذا أبو جهل يقسم بالله أنه يعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صادق في دعوته وفيما يقوله ولكنه يرفض الإيمان به كبرا وعنادا ليس إلا . الدروس والعبر: أن في استنكار الكفار لدعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومحاربتهم لها رد على بعض دعاة القومية الذين يزعمون أن محمدا عليه الصلاة والسلام إنما كان يمثل في رسالته آمال العرب ومطامحهم حينئذاك . وهذا زعم مضحك ترده وقائع التاريخ الثابتة كما رأينا وما حمل هذا القائل وأمثاله على هذا القول إلا الغلو في دعوى القومية وجعل الإسلام أمرا منبثقا من ذاتية العرب وتفكيرهم وهذا إنكار واضح لنبوة الرسول وخفض عظيم لرسالة الإسلام (الأستاذ مصطفى السباعي) أن ما أصاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - من ابتلاءات عزاء لكل مؤمن فيما يصيبه في هذه الحياة من بلاء ومصائب . (د. مهدي رزق الله أحمد) يؤخذ من موقف أبي طالب في الدفاع عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الله تعالى قد امتحن قلبه بحبه عليه الصلاة والسلام حبا طبيعيا لا شرعيا وكان استمراره على دين قومه من حكمة الله تعالى ومما صنعه لرسوله من الحماية إذ لو كان أسلم أبو طالب لما كان له عند مشركي قريش وجاهة ولا كلمة ولا كانوا يهابونه ويحترمونه ولتجرؤوا عليه ولمدوا أيديهم وألسنتهم بالسوء إليه وربك يخلق ما يشاء ويختار . (الحافظ ا بن كثير) أن في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك القول لعمه أبي طالب وفي رفضه ما عرضت عليه قريش من مال وملك دليل على صدقه في دعوى الرسالة وحرصه على هداية الناس وكذلك ينبغي أن يكون الداعية مصمما على الاستمرار في دعوته مهما تألب عليه المبطلون معرضا عن إغراء المبطلين بالجاه والمناصب فالمتاعب في سبيل الحق لدى المؤمنين راحة لضمائرهم وقلوبهم ورضى الله وجنته أعز وأغلى عندهم من كل مناصب الدنيا وجاهها وأموالها . (مصطفى السباعي) في حديث المغيرة بن شعبة نجد النبي - صلى الله عليه وسلم - يخاطب أبا جهل بكنيته (يا أبا الحكم ) والنداء بالكنية تكريم عند العرب وقد تناسى النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك مواقفه السيئة في سبيل الدعوة . وهذا درس مهم يستفيد منه الدعاة إلى الله تعالى في ضبط النفس ومحاولة التودد إلى الناس من أجل الإسلام وإن سبقت منهم مواقف مؤلمة . (د. عبد العزيز الحميدي)
تلاحق المهاجرين إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة
قال ابن إسحاق : وتلاحق المهاجرون إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يبق بمكة منهم أحد، إلا مفتون أو محبوس ولم يوعب أهل هجرة من مكة بأهليهم وأموالهم إلى الله تبارك وتعالى وإلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أهل دور مسمون بنو مظعون من بني جمح ; وبنو جحش بن رئاب، حلفاء بني أمية ; وبنو البكير، من بني سعد بن ليث، حلفاء بني عدي بن كعب، فإن دورهم غلقت بمكة هجرة ليس فيها ساكن.
عدوان أبي سفيان على دار بني جحش والقصة في ذلك
ولما خرج بنو جحش بن رئاب من دارهم عدا عليها أبو سفيان بن حرب، فباعها من عمرو بن علقمة أخي بني عامر بن لؤي ; فلما بلغ بني جحش ما صنع أبو سفيان بدارهم ذكر ذلك عبد الله بن جحش لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (ألا ترضى يا عبد الله أن يعطيك الله بها دارا خيرا منها في الجنة ؟ قال بلى، قال فذلك لك).
فلما افتتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة، كلمه أبو أحمد في دارهم. فأبطأ عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال الناس لأبي أحمد يا أبا أحمد إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكره أن ترجعوا في شيء من أموالكم أصيب منكم في الله عز وجل فأمسك عن كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال لأبي سفيان
أبلغ أبا سفيان *** عن أمر عواقبه ندامه
دار ابن عمك بعتها ***تقضي بها عنك الغرامه
وحليفكم بالله رب *** الناس مجتهد القسامه
اذهب بها، اذهب بها ***طوقتها طوق الحمامه
انتشار الإسلام ومن بقي على شركه
قال ابن إسحاق : فأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة إذ قدمها شهر ربيع الأول إلى صفر من السنة الداخلة حتى بني له فيها مسجده ومساكنه واستجمع له إسلام هذا الحي من الأنصار، فلم يبق دار من دور الأنصار إلا أسلم أهلها، إلا ما كان من خطمة وواقف ووائل وأمية وتلك أوس الله وهم حي من الأوس، فإنهم أقاموا على شركهم.
تواضع القيادة
قيادات الحركة : هم النموذج الأمثل ، والتطبيق العملي لمبادئها ، وما ينادون به ، ويطالبون الآخرين بالتزامه .
فإذا كانوا قدوة حسنة : كان ذلك دليلا جيدا وبرهانا واضحا على صحة المسيرة ، ونجاح الغاية ، وقرب الوصول إليها .
وإذا كانوا غير ذلك : اضطربت الحركة ، وتلاطمت بها الأمواج ، وتفرقت بأفرادها الأهواء ، وفقدت سبيل الهدى والرشاد .
يقول - صلى الله عليه وسلم - : " خيار أئمتكم : الذين تحبونهم ويحبونكم ، ويصلون عليكم وتصلون عليهم ، وشرار أئمتكم : الذين تبغضونهم ويبغضونكم ، وتلعنوهم ويلعنوكم " " 63 "
وفي فتح الباري :يقول أبو بكر رضي الله عنه . . لمن سأله قائلا :ما بقاؤنا على هذا الأمر الصالح الذي جاء الله به بعد الجاهلية ؟ قال : بقاؤكم عليه ما استقامت عليه أئمتكم . . . " الحديث "64"(1/93)
ولعل هذا أحد الأسباب الرئيسية في بقاء حركات ، ونجاح استمرارها ضد معاول الهدم والإفناء ، وكذلك : في ضياع حركات ، وفشلها في القيام بمهمتها ، وأداء رسالتها .
ولذلك : كان لابد من توافر صفات خاصة فيمن تقع عليهم مسئولية القيادة ، ويناط بهم رفع ألوية الحركة ، وحمل أمانتها .
ومن هذه الصفات :
تبسط القيادة ، وتواضعها ، في سلوكياتها ، وأمور حياتها الخاصة ، عن قناعة وصدق وإيمان ، وليس عن تكلف وتصنع .
حيث إن ذلك : فضلا عن أنه صورة عملية لما تؤتمن عليه ، وتنادي به من مبادئ وتعاليم . . فإنه خير عون على نجاح الدعوة ، وترابط الصف ، وإخلاص الجنود ، وسعادتهم بأداء الواجبات ، ورضاهم بتحمل الأعباء والقيام بالمشقات .
وخير قائد علمنا ذلك . . ! !
بل خير قائد فعل ذلك . . ! !
هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
ففي البخاري . . " . . وطفق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أن وصل المدينة _ ينقل معهم اللبن في بنيانه _ أي المسجد النبوي _ ويقول :
اللهم إن الأجر أجر الآخرة . . . فارحم الأنصار والمهاجرة . " 14 "
إلى أن اغبر صدره - صلى الله عليه وسلم - من كثرة ما حمل ونقل . . ! !
حتى دفع ذلك بعضهم إلى أن يقول :
لئن قعدنا والنبي يعمل . . . لذاك منا العمل المضلل
فصار الصحابة ينشدونها ، ويتغنون بها وهم يعملون .
وكان - صلى الله عليه وسلم - : يأبى إلا أن يكون واحدا منهم ، يعمل كما يعملون ، وينشد كما ينشدون ، ويأخذ بحظه _ من ثواب الله _ كما يأخذون .
وهكذا . . كلما كان القائد قريبا من جنوده : كلما كان محبوبا لديهم ، وكلما كان بسيطا في حياته متواضعا في سلوكه : كان قدوة صالحة إليهم ، بقربه منهم : يألفونه ، وبأدبه معهم : يحبونه ، وبمشاركته أفراحهم ، ومقاسمته أتراحهم : يفتدونه .
بأمره : يطيعون ، وبسلوكه : يقتدون ، وبعلمه : ينتفعون ، ولأعلام الدعوة يرفعون ، ولكلمات الله يعلون ، وبشرعه يلتزمون .
وبهذا النسيج : يتلاحم القائد مع جنوده ، ويتماسك الصف ، ويصير كالبنيان المرصوص ، وتصبح الشورى منهجا ، والقوة مكسبا ، ورهبة الأعداء مغنما .
أما إذا ترفع القائد _ وتكبر _ على جنوده ، وأفراد دعوته ، أصبح الأمر قسرا ، والطاعة كرها وقهرا ، وساد سوء التقليد ، وتقليد السوء ، وتمزق الصف ، وتفرقت الجماعة ، وتنوسيت المبادئ ، وتأخر النصر .
ولأهمية هذا الدرس : لم ينبه عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - مشافهة ، بل مارسه عمليا ، وعاشه بنفسه بين أصحابه حتى صار واضحا لهم ، جليا لكل من يأتي من بعدهم .
توافر الحس الأمني
الحس الأمني : شعور يكتسبه العاملون في حقل الدعوة ، من خلال : سعة أفقهم ، وصدق وعيهم ، وحسن فهمهم لتاريخ الدعوة ومدى ما تعرض له أبناؤها منذ الأيام الأولى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإلى يومنا هذا .
وكذلك : يكتسبونه من شدة حرصهم على نشر مبادئها ، ورفع رايتها ، وإعلاء شأن العاملين بها والمنتسبين إليها ، واستمرار مسيرتها ، وعدم توقف العمل ، أو تعطيله ، عن تحقيق ذلك _ أو بعض ذلك _ كله .
وليس ذلك الشعور ، خوفا على أنفسهم _ وإن كان ذلك أمر مطلوب _ بالقدر الذي فيه الخوف على : ما يحملونه من مبادئ تهدي للتي هي أقوم ، وما يريدون تحقيقه من خلال هذه المبادئ في دنيا الناس وواقعهم .
ولذلك : لابد من توافر هذا الحس ، لدى العاملين في حقل الدعوة الإسلامية ، كل حسب البيئة التي يعيش فيها ، والمجتمع الذي يخالطه ، والقوى التي تواجهه ، خوفا على الدعوة من أن يحال دون توضيح معالمها ، ونشر مبادئها ، وتكثير أتباعها ، وكذلك : خوفا على رجالها ، من كيد الأعداء ، وبطش الطغاة .
وليست هذه دعوة للجبن أو التقاعس ، ولكنها دعوة لليقظة والحذر ، وفهم الواقع ، حرصا على نجاح الدعوة ، وانتشارها ، وتعميم خيرها في دنيا الناس أجمعين .
وإذا كان المسلم _ دائما _ يسأل الله العافية ، فهو لا يبخل أن يجود بنفسه في سبيل نصرة هذا الدين إذا ما دعي الداعي لذلك .
ولست أبالي حين أقتل مسلما على أي جنب كان في الله مصرعي
ومن العجيب : أن هذا الإحساس كان في أعلى درجاته عند هؤلاء النفر ، الذين دخلوا هذا الدين حديثا ، والذين جاؤا من المدينة لملاقاة الرسول ، - صلى الله عليه وسلم - ، بمنى .
يقول ابن اسحق : قال كعب بن مالك " . . . فرحل إليه منا سبعون رجلا ، حتى قدموا عليه في الموسم " " 48 "
ثم يقول : " فواعدناه شعب العقبة "
ثم يقول : فنمنا تلك الليلة مع قومنا ، في رحالنا ، حتى إذا مضى ثلث الليل : خرجنا من رحالنا ، لمعاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، نتسلل تسلل القطا ، مستخفين ، حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة ، ونحن ثلاثة وسبعون رجلا ، ومعنا امرأتان من نسائنا : نسيبة بنت كعب " أم عمارة " ، وأسماء بنت عمرو بن عدي " أم منيع "
هذا خروجهم من رحالهم ، ومن بين زملائهم ومرافقيهم من أهل بلدهم وأقاربهم . !
فكيف كان وصولهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ودخولهم عليه . . ؟
يقول : فاجتمعنا عندها _ أي العقبة _ من رجل ورجلين حتى توافينا _ أي اكتمل عددنا _ فقلنا يا رسول الله ؛ علام نبايعك . . ؟ " 48 "
يا سبحان الله . . ! !
لم يخرجوا لملاقاة النبي - صلى الله عليه وسلم - علانية ، أو في وضح النهار ، أو في أوقات حركة الناس ونشاطهم .
بل كان خروجهم :
أ _ قرب منتصف الليل ، وبعد أن آوى الناس إلى فراشهم ومضاجعهم .
ب _ تسللا حذرا ، هادئا متخفيا ، حتى لا يشعر بهم أهلوهم وبنو وطنهم ، فيسألونهم عن وجهتهم ، أو يعرفون وجهتهم ، وقد يمنعونهم ، أو يفشون سرهم ، وبذلك تفشل مهمتهم .
ج _ لم يسيروا في الطريق جماعة ، بل كانوا متفرقين ، حتى لا يلفتوا الأنظار ، أو يجذبوا أي انتباه إليهم ، مع أن الحجاج كثيرون ، والمكان مكان تجمع وحركة ، والناس في عبادة ، وقد لا ينتبه إليهم أحد ! !
ولكنه الحذر والدقة والحرص . . ! !
وكذلك : هو الحس الأمني الذي تربى لديهم عندما سكن حب الدعوة والخوف عليها وعلى قائدها شغاف قلوبهم .
ثم وصلوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يدخلوا جماعة . . ! !
فكيف كان دخولهم ؟
يقول " فاجتمعنا عندها _ أي العقبة ، التي اجتمعوا عندها برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من رجل ورجلين " حتى اكتمل عددهم ، ثم بدؤوا فيما يهدفون إليه .
وينبغي أن يلاحظ جيدا
أنهم لم يدخلوا عليه جميعا دفعة واحدة ، أو عشرة عشرة . . ! !
وكان خروجهم من رحالهم على هذا النحو . . ! !
وكان سيرهم في الطريق على هذا النحو . . ! !
وكان دخولهم على النبي - صلى الله عليه وسلم - على هذا النحو . . ! !
وكان ذلك : حتى لا يثيروا الانتباه ، ويلفتوا الأنظار إليهم ، ويجلبوا المتاعب عليهم ، ويضيع هدفهم ، ويخيب سعيهم ، وقد يبطش بهم أعداؤهم ، ويؤذون صاحبهم ، دون ذنب جنوه ، أو مكسب حققوه ، ولذلك _ لما تصرفوا على هذا النحو - وصلوا إلى غرضهم ، ونجوا من عدوهم
هذا . .والذي لفت نظرنا إلى هذا الدرس من دروس الهجرة النبوية : أنه ما خلا عصر ، وما سلم مصر من الكيد لهذه الدعوة ، والتربص برجالها ، منذ يوم هؤلاء النفر من الأنصار ، وإلى يومنا هذا ، وإلى يوم الدين ، وهذه هي حكمة الله تعالى ( يريدون أن يطفؤا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا آن يتم نوره ) " 49 "
كما أن توافر الحس الأمني ، الداعي إلى الحرص الواعي الشديد : ينبغي أن يتحلى به العاملون في الحقل الإسلامي ، الداعون لإعادة الحياة إلى حمى الإسلام ، أو إعادة الإسلام للهيمنة على الحياة ، وإنقاذ أهلها من الضياع ، الداعون للدولة الإسلامية ، الساعون لرفع رايتها .
خاصة : وأن البعض منهم قد لا يعير هذا الأمر انتباها أو اهتماما ؛ نظرا : لعدم أهميته وضرورته فيما يرى ، أو لعدم درايته بالجو العام المحيط بالدعوة وأهلها في _ هذا الزمان، و _ كل زمان .
ولذلك : قد يصاب بما يؤذيه ، بل قد يناله ما يفتنه ، مما كان هو في غنى عنه لو حرص على توافر هذا الحس الأمني لديه
وكذلك : قد يصاب غيره _ بسببه _ بما يؤذيه ، أو بما يعوقه عن أداء ما تتطلبه منه الدعوة ، بشكل أو بآخر ، ولزمن قد يطول وقد يقصر .
ومن جهة ثالثة : قد يصاب الصف كله بسبب عدم حرصه هذا ، بعرقلة المسيرة ، أو بتعطيلها وتأخير وصولها إلى الغرض المنشود .
* * * *
وليس الذي نقول : هو من باب إنكار الابتلاءات ، أو التهرب منها ، حيث إنها سنة إلهية للاختبار والتمحيص ، والنجاة منها ، أو النجاح فيها : منة من الله تعالى على أصحاب الدعوات .
( ألم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ) " 50 "
(أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين)" 51 "
إنما هو من باب : سؤال الله العافية عملا ، لا قولا فقط ، ومن باب : حث المسلم على سعة الأفق ، ودرايته بالواقع المحيط به وبدعوته وبأصحابها ، وكذلك من باب الحرص على عدم تعرضه ، أو تعريض غيره ، أو دعوته ، للضرر ، دون أن يدري * * * *
ولذا : فعلى أصحاب الدعوة : فهم هذه الفائدة جيدا ، والحرص الدائم على التحلي بها وعدم التخلي عنها ، والتعامل مع الأجواء والظروف المحيطة بهم وبدعوتهم ، بكياسة المؤمن وفطنته ، وخوفه على دينه ، وحرصه على نجاح ونشر دعوته .
حدث الهجرة ماض مشرق وحاضر مظلم
قبل ألف وأربعمائة وعشرين سنة هاجر محمد - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى المدينة فاراً بدينه، ومتوكلاً على ربه بعد أن ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وتمالى أئمة الكفر وصناديد الباطل على محاولة قتله، وتخطف دهاقنة الجاهلية أصحابه وآذوهم وعذبوهم بغية فتنتهم عن دينهم، وإرجاعهم لعبادة الأصنام والأوثان من جديد بعد أن منّ الله عليهم بنعمة الهداية، وأخرجهم من ظلام الجاهلية، وأنقذهم من براثن الكفر .
وشاء الله عز وجل - بحوله وقدرته- وبعد اخذ رسوله صلوات الله وسلامه عليه بأسباب التمكين أن يكون حدث الهجرة نقلة نوعية، ويشكل تحولاً تاريخياً في تاريخ الدعوة الوليدة لتنتقل بعدها من مرحلة بناء الجماعة إلى مرحلة تأسيس الدولة، ومن رفع شعار "كفوا أيديكم" بمكة إلى "الآن نغزوهم ولا يغزونا" بالمدنية، ومن الصبر على إيذاء الكفار وتحمل تعذيبهم وتهجمهم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحبه الكرام إلى تجيش الجيوش، ورفع الرايات، وعقد البيعات على الموت لمجرد أن مسلماً قتل أو أشيع أنه قتل على أيدي أعداء الإسلام، فعزَّ الإسلام والمسلمون، وذلّ الكفر والكافرون، وارتفعت راية لا إله إلا الله عالية خفاقة تناطح قمم الجبال، وتبلغ عنان السماء، وغدا نشيد الكون وحداؤه: إسلامية .. إسلامية .. إسلامية
واليوم ونحن نستقبل عاماً هجرياً جديداً - 1421هـ- بدأت تطل علينا أيامه، وترمقنا دقائقه ولحظاته، نقف لتأمل ما انبثق عنه حدث الهجرة -قبل أربعة عشر قرناً- الذي قلب الأوضاع كافة رأساً على عقب بحيث صار للمسلمين دولة قوية مهيبة تنافح عنهم، وتتحدث باسمهم، وتحفظ حرماتهم ومقدساتهم، ويحسب لها الأعداء ألف حساب وبين ما أسفر عنه دخول العام الهجري الجديد، فنرى الفرق هائلاً، والبون شاسعاً، والمسافة بين الحدثين كبعد السماء عن الأرض ، وإذا أمعنا البحث في أحوال المسلمين ودققنا فيها النظر، فلن نجد إلا ما يقطع نياط القلوب، ويمزق أوصال النفوس، ويملأها حسرة وحزناً وكمداً، فمقدسات المسلمين ديست، وأعراضهم انتهكت، وأرضيهم احتلت، وأموالهم سلبت، ودماؤهم أريقت حتى تحققت فينا نبوة رسولنا - صلى الله عليه وسلم - (يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق، كما تداعى الأكلة على قصعتها) وسبب حصول هذا التداعي، كما أوضحه قائدنا محمد صلوات الله وسلامه عليه (لحبكم الدنيا وكراهيتكم الموت
لقد اتفقت دول الكفر قاطبة على حرب الإسلام بغية استئصال شأفة المسلمين، وطمس معالم دينهم، مستعينين بحكام العرب الخونة وأئمة الكفر العتاة الذين نصبوا أنفسهم آلهة تعبد من دون الله، لا ترضى أن يعصى لها أمر، أو يعارض أحد لها رأي، ومن خرج على سلطانها، وحارب باطلها، وصدع بكلمة الحق في وجهها، فسلخانات التعذيب في انتظاره، وحبل المشنقة من ورائه، وفتاوى بعض علماء السوء تبرر - بل توجب - قتله لخروجه على طاعة (ولي الأمر) وسلوكه غير سبيل المؤمنين ومن يتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا !!. إن المتأمل في حال أمتنا الإسلامية -خاصة في السنوات الخمس الأخيرة- يلحظ هجمة لا مثيل لها، ويرى تعاوناً لا شبيه له بين الحكومات العربية التي أعلنت - بدعم ومساندة وتأييد قوى الكفر العالمية من يهود ونصارى وغيرهم- حرباً لا هوادة فيها ضد الحركات الإسلامية لاسيما الجهادية منها، وسارعت الى عقد عشرات المؤتمرات تحت شعار "مكافحة الإرهاب" ووقعت العديد من الاتفاقيات تحت باب "تنسيق الجهود الأمنية" لغرض التضييق على تلك الحركات والإيقاع بأفرادها، وتسليمهم لبلدانهم رغم حدة الخلافات وشدة العداوات فيما بينها، والتي تبدو ظاهرة للعيان كالشمس في رابعة النهار، لكن لما كان الأمر متعلقاً بحفاظ هؤلاء الطواغيت على عروشهم، وخوفهم من فقدهم لكرسي الحكم، اتفقوا فقط في هذا الباب، وبدا ذلك واضحاً من خلال استمرار مؤتمر وزراء الداخلية العرب في الانعقاد بصورة دورية دون أن تحل به لعنة الخلافات، أو تمسه آثار العداوات في حين تبقى مسألة عقد قمة عربية لهؤلاء الطواغيت لمناقشة أي قضية طارئة في إطار الأخذ والعطاء، وتستغرق للتحضير و الإعداد لها زمناً طويلاً، وفي غالب الأحيان تلغى ويرمى بها إلى سلة المهملات ولا من باكٍ أو متحسر عليها .
إن حدث الهجرة وما تبعه من أحداث غيرت كل الموازين، وقلبت كافة المعادلات في جزيرة العرب، لم يأت من فراغ، ولم يتحقق دون جهد ونصب، فلقد كابد رسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وعانى الأمرين من أجل إقامة دولة يأزر إليها المسلمون، ويحتمي بها الخائفون، ، وسعى هنا وهناك باحثاً عن النصرة، وطالباً للمؤازرة والمنعة حتى تعرض بسبب ذلك للإيذاء ، ونال منه السفهاء والرعاع كما حصل له في رحلته إلى الطائف ، لكن الرسول الكريم لم يدع اليأس يطرق قلبه، ولا الوهن يصيب فؤاده، رغم ضخامة المهمة، وجسامة التكليف، ووعورة الطريق، ولهذا رأيناه بعد سنتين من حادثة الطائف ينجح في الحصول على المنعة والنصرة من الأوس والخزرج، ويحكم على ضوء ذلك خطته، ويعد أصحابه إيذاناً بقرب انبلاج فجر الإسلام، وانقشاع ظلام الجاهلية.. وقد كان .
لقد كانت الهجرة أهم حدث في تاريخ الدعوة الإسلامية، ومن خلالها ظهر الكيان السياسي للامة الإسلامية (ولأهميته كان التأريخ بالهجرة ولم يكن بغيرها من الأحداث الهامة كالميلاد والبعثة أو وقعة بدر أو ما شابهه) والمسلمون اليوم بحاجة ماسة إلى استذكار معاني الهجرة واستحضار دروسها لان الإسلام لا يرضى لاتباعه أن تحكمهم قوانين الكفر، ولا أن تظلهم أحكام الجاهلية كما هو حاصل الآن، بل لابد من الهجرة إلى دار الإسلام ليكونوا من جنودها، ويقاتلوا تحت رايتها، وينعموا بالأمن والسلام فيها، وإذا عدمت هذه الدار -كما هو حاصل الآن- فإن المسلمين مدعوون لإيجادها ، وإعداد العدة والجهاد في سبيل الله، والتعاهد على نصرة هذا الدين بأموالهم وأنفسهم تماماً كما فعل الأنصار قبل أربعة عشر قرناً .
ــــــــــــ(1/94)
يا أيها الذين ءامنوا كونوا أنصار الله
حدث الهجرة
بعد النجاح الذي حققته الهجرة الأولى والثانية إلى الحبشة،وبرغم الاضطهادات التي تعرض لها الصحابة منذ فجر الإسلام، جاءت الهجرة النبوية إلى المدينة، لتكون منطلقا للدعوة الإسلامية، أسست لمرحلة جديدة وجدت فيها الدعوة أرضا خصبة، بعد أن لم يتأت لها ذلك بين جبال مكة .
طلائع الهجرة النبوية إلى المدينة
بعد أن تمت بيعة العقبة الثانية، وتمكن الإسلام من وضع اللبنة الأساسية لوطنه في يثرب، دعا النبي عليه الصلاة والسلام مسلمي مكة وأذن لهم بالهجرة إلى المدينة وقال: "إن الله قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون بها"1 فخرجا أرسالا وأقام النبي بمكة ينتظر أن يأذن له ربه في الخروج، وكان أول مهاجر إلى المدينة أبو مسلمة بن عبد الأسد، وبعد شهرين من بيعة العقبة، لم يبق في مكة من المسلمين إلا النبي وأبو بكر وعلي، ومن منعه المشركون من الخروج.
ولم يهاجر أحد من الصحابة إلا مستخفيا، غير عمر بن الخطاب الذي خرج أمام الملأ ... وقد كان أبو بكر يستأذن النبي عليه الصلاة والسلام في الهجرة فيقول له: لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحبا، فطمع أبو بكر أن يكون النبي ذلك الصاحب، فاشترى لذلك راحلتين وجهزهما استعدادا للهجرة.
تآمر قريش على قتل رسول الله ص
ولما رأت قريش أن محمدا قد صار له شيعة وأنصار في يثرب، وأن من آمن به من أهل مكة قد خرجوا إليهم وعرفوا أنه لاحق بهم لا محالة، فاجتمعوا في دار الندوة، وتشاوروا في حبسه أو نفيه فاقترح عليهم"أبو جهل" قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - بطريقة تمنع عشيرته من الثأر من قاتليه، وذلك بان تختار كل قبيلة شابا جلدا ذا نسب، ثم يعطى كل واحد منهم سيفا صارما، ثم يعمدون إليه فيقتلونه جميعا. فيفرق دمه في القبائل، ولا يقدر أهله على محاربتهم جميعا، ويرضون عندئذ بالدية. ولما تم اتخاذ القرار الغاشم بإعدامه - صلى الله عليه وسلم - نزل جبريل بأمر مدبر حكيم، فأخبره بمؤامرة أكابر قريش، وان الله قد أذن له في الخروج، وقال له: "لا تبت هذه الليلة في فراشك الذي كنت تبيت فيه".
الخبر يصل إلى أبي بكر
قال ابن إسحق: حدثني من لا أتهم عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان لا يخطئ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأتي بيت أبي بكر أحد طرفي النهار، حتى إذا كان اليوم الذي أذن فيه لرسول الله بالهجرة والخروج من مكة، أتانا بالهاجرة في ساعة كان لا يأتي فيها، فلما رآه أبو بكر قال: ما جاء رسول الله عليه الصلاة والسلام هذه الساعة إلا لأمر حدث2 ..... فلما تم الاتفاق على متى وكيف الخروج، قال أبو بكر: يا نبي الله أن هاتين راحلتان قد أعددتهما لهذا الغرض، ثم استأجر دليلا اسمه عبد الله بن أريقط، ليدلهما على الطريق.
نجاته عليه الصلاة والسلام من مكر الماكرين
رجع النبي عليه الصلاة والسلام إلى بيته، حتى إذا كانت عتمة الليل، اجتمع فتيان قريش على باب بيته يترصدونه حتى ينام ليقتلوه، فلما رأى عليه الصلاة والسلام مكانهم، أمر عليا أن ينام على فراشه وأخبره أنه لن يصل إليه أي مكروه، وأمره برد الودائع للناس، حيث كان أهل المدينة يضعون عنده ودائعهم، لما يعرف عنه من صدق وأمانة.
الرسول وأبو بكر في الغار
خرج النبي عليه الصلاة والسلام، وشباب قريش بالباب يترصدونه، فأخذ حفنة تراب وجعله على رؤوسهم وهو يتلو قول الله عز وجل: يس والقرآن الحكيم...إلى فأغشيناهم فهم لا يبصرون3، ثم انصرف فلم يروه، واتى أبا بكر فخرجا ليلا من خوخة في ظهر بيت أبي بكر، حتى لا يراهما أحد، وسلكا طريقا غير معهودة، وما يزالا يسيران في ظلمة الليل بين الرمال والصخور حتى وصلا غار ثور، فدخلاه، وكان قد دخل أبو بكر أولا، ليتأكد من خلوه من الهوام والمؤذيات، وكان عبد الله بن أبي بكر يأتيهما بأخبار قريش، وما يسمعه منهم بشأنهما، كما كان عامر بن فهيرة مولى أبي بكر يأتيهما بلبن من غنمه4.
المشركون يبحثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهكذا، يطلع النهار فيكشف كفار قريش أن محمدا قد نجا، وأن الذي كان على فراشه هو علي بن أبي طالب، فداءا وإخلاصا له عليه الصلاة والسلام، فكان ذلك مفاجأة لهم ، فحددوا مكافأة سخية لمن يرده عليهم، فينطلق الطامعون في البحث عنه حتى يصعدوا الجبل الذي لجأ إليه عليه الصلاة والسلام وصاحبه، ويمرون على باب الغار الذي دخلاه، فتحاذي أرجاهم مدخل الغار ولا يرونهما، حفظا من الله عز وجل لهما، فيقول أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو أن أحدا نظر إلى موطئ قدميه لأبصرنا، فيجيبه عليه الصلاة والسلام: يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ لا تحزن إن الله معنا.
خروجهما من الغار
بعد ثلاث ليال في الغار خرجا، خرج النبي عليه الصلاة والسلام وصاحبه من الغار، بعد أن يئس المشركون من الوصول إليهما، ثم أتاهما الدليل بالراحلتين وسلكا بهما طريقا غير معهودة، من ناحية الساحل قاصدين يثرب، وانطلق سراقة يطاردهما لعله يحظى بالجائزة، ولما رأى أبو بكر فارسا مدججا بالسلاح يقترب منهما، أفزعه ذلك، أما النبي عليه الصلاة والسلام فسار سيرا عاديا مطمئنا، لا يفتر عن قراءة القرآن والدعاء، وبينما كان سراقة يجد السير ويقترب منهما، إذ كبت به فرسه وساخت قوائمها حتى الركب في الأرض وألقته بعيدا، هنا تطير سراقة وأدرك أنه فاشل في محاولته، فطلب من النبي عليه الصلاة والسلام أن يكتب له كتاب أمن يكون آية بينهما، فأمر النبي عليه الصلاة والسلام عامر بن فهيرة فكتب له هذا الكتاب، فأخذه وعاد أدراجه، وأخذ يضلل من يطاردون رسول الله صلى الله عليه وسلم.
بناء مسجد قباء
قال بن إسحاق: نزل النبي عليه الصلاة والسلام في بني عمرو بن عوف يوم الإثنين، وأسس مسجده، وأخرجه الله من بين أظهرهم يوم الجمعة، فأدركت رسول الله عليه الصلاة والسلام الجمعة في بني سالم بن عوف، فصلاها في المسجد الذي في بطن الوادي، فكانت أول جمعة صلاها في المدينة5. ومن الملاحظ أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يذكر في خطبته أهل مكة ولا ما كان من عنادهم، وهدا في الواقع غاية الأدب ومنتهى ما يصل إليه حلم الحليم، وصدق الله عز وجل إذ يقول: « وإنك لعلى خلق عظيم».
النبي - صلى الله عليه وسلم - في يثرب
بعد أن أدى عليه الصلاة والسلام صلاة الجمعة، تابع سيره حتى وصل يثرب، فخرج أهلها لاستقباله، وهم يقولون: الله أكبلا جاء رسول الله، وكان ذلك يوما مشهودا بالبهجة والفرح لم تكتحل المدينة برؤية مثله في تاريخها، وقد طمع كل صاحب بيت أن يقيم النبي عليه الصلاة والسلام عنده، لكنه ألقى لناقته خطامها تمشي على هواها، وقال للحشود: دعوها فإنها مأمورة، ومضت حتى وصلت إلى مربد، قبالة منزل أبي أيوب الأنصاري، وهناك بركت، وكان المربد لغلامين يتيمين، فاشتراه عليه الصلاة والسلام من وليهما، وشيد فيه مسجده ونزل عليه الصرة والسلام في ضيافة أبي أيوب الأنصاري ريتما يبني بيته بجوار المسجد، فكان دخوله عليه الصلاة والسلام إلى المدينة صباح خير في تاريخها.
أولى أعماله عليه الصلاة والسلام
لما قدم عليه الصلاة والسلام المدينة، كان أول عمل قام به هو إقامة الأسس الهامة لبناء دولة إسلامية، والمتمثلة فيما يلي:
أولا: بناء المسجد المعروف اليوم بالحرم النبوي.
ثانيا: المؤاخاة بين المسلمين عامة، والمهاجرين والأنصار خاصة، قال ابن اسحق: وآخى رسول الله عليه الصلاة والسلام بين أصحابه من المهاجرين والأنصار فقال،: فما بلغنا: تآخوا في الله أخوين أخوين ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب، فقال: هذا أخي.
ثالثا: كتاب وثيقة"دستور" قال ابن اسحق: وكتب عليه الصلاة والسلام كتابا بين المهاجرين والأنصار وادع فيه يهود وعاهدهم وأقرهم على دينهم وأموالهم وشرط لهم واشترط عليهم6.
وهكذا تم على أساس العقيدة إنشاء نواة دولة جديدة ستتطور لتصبح نواة أمة عظمى.
قال تعالى: «لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه»7.
الفهرس:
1- سيرة ابن هشام بشرح الروض الانف ج 2/ ص 153
2- سيرة ابن هشام بشرح الروض الانف ج 2/ 292
3- يس 9
4- السيرة النبوية لأبي شهبة 1/477
5- سيرة ابن هشام بشرح الروض الانف ج 2/ 332
6- سيرة ابن هشام بشرح الروض الانف ج 2/ 332
7- يوسف
ــــــــــــ(1/95)
حماية القيادة
صرف القيادات عن أهدافها ، بالترغيب أو بالترهيب ، وكذلك إبادة القيادات ؛ بالاغتيال أو بالإعدام : غاية ، يسعى إليها ، ويعمل بجد لها أعداء الإسلام ، وشانئوا الحركة الإسلامية
وهؤلاء وهؤلاء يظنون أنهم بصرف هذه القيادات ، أو إبادتها : ستموت المبادئ ، وينقرض حاملوها .
ولذلك : فهم لا يكلون ، ولا يملون من محاولات الوصول إلى هذا الهدف في كل العصور منذ القائد الأول محمد - صلى الله عليه وسلم - .
ولذلك : كان وجوب حماية القيادات ، وافتداؤها بالغالي والنفيس : أمرا شرعيا ، وواجبا دينيا ، حماية للمبادئ ، وحفاظا على مسيرة الدعوة .
وهذا درس واضح كل الوضوح في هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - .
يظهر ذلك جليا في كل هذه التدابير والاحتياطات التي تفنن فيها الأفراد الذين علموا بتفاصيل وخطط الهجرة النبوية ، والذين أحاطوها بالكتمان والسرية ، والحذر الشديد الواعي ، لحماية هذا القائد - صلى الله عليه وسلم - من أن تغتاله أيدي الطغاة .
خاصة : وأن هذا الأمر بات قرارا ، لكفار مكة ، لا رجعة فيه ، بعد أن اجتمعوا في دار الندوة ، لم يتخلف أحد من ذوي الرأي والحجى منهم ، ليتشاوروا في أمره ، - صلى الله عليه وسلم - . . وبعد أن قال أبو جهل : " والله إن لي فيه رأيا ما أراكم وقعتم عليه بعد ، قالوا : وما هو يا أبا الحكم . . ؟ قال : أري أن نأخذ من كل قبيلة فتى شابا جليدا نسيبا وسيطا فتيا ، ثم نعطي كل فتى منهم سيفا صارما ، ثم يعمدوا إليه فيضربوه بها ضربة رجل واحد ، فيقتلوه ، فنستريح منه ، فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعا" "66"
ولذلك _ وكما توضح كتب السيرة _ كان الكتمان الشديد ، والحرص الدقيق ، والتخطيط المحكم ، لتنفيذ الهجرة .
وهذه الحماية ، وهذا الافتداء : يتجلى في أعلى وأحلى صوره فيما يلي :
أ _ في نوم علي رضي الله عنه على فراش النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الليلة العصيبة الرهيبة التي أجمع كفار مكة فيها على قتل صاحب هذا الفراش ، وقد تقع الواقعة ، قبل أن يكتشفوا أن النائم ليس محمدا - صلى الله عليه وسلم - ، وبالضرورة سوف يحدث ، فغياب المقصود بالقتل عن فراشه هذه الليلة بالذات ، ونوم آخر مكانه ، أمر لا يخطر على بال أحد منهم أو من غيرهم .
ومع ذلك : لم يرفض علي رضي الله عنه ، ولم يناقش ، ولم يكشف عن نفسه لهم لينجو ، ولم يرتجف ، بل كان سعيدا لأن الفرصة واتته ، والأقدار قد شرفته بمناسبة يحمي فيها القائد ويفتديه بحياته .
ب _ وفي الطريق إلى الغار : " رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أبي بكر عجبا ، رآه يسير مرة أمامه ، ومرة يسير خلفه ، ومرة عن يمينه ، ومرة عن شماله .
فسأله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : عن هذا . . ! ! ؟
فقال : يا رسول الله . . ! ! أذكر الطلب _ أي طلبهم لك _ فأمشي خلفك ، وأذكر الرصد _ أي ترصدهم لك _ فأمشي أمامك ، ومرة عن يمينك ، ومرة عن شمالك ؛ لا آمن عليك . " " 67 "
وهكذا : حماية ، وافتداء للقيادة من الشباب والشيوخ ، خوفا على القائد وحبا فيه ، وحرصا على الدعوة وصيانة أمرها ، وحبا في الله تعالى وإعلاء كلمته .
ج _ ولا يقف الأمر عند حماية القيادة من القتل والاغتيال فقط ، بل حمايتها من كل مكروه ، صغر أو كبر ، قل أو كثر
يذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لما مشي على أطراف أصابعه _ وهو في الطريق إلى الغار _ لئلا يظهر أثر رجليه على الأرض ، وحفيت قدماه ، ولم يصل إلى الغار حتى تقطرت دما ! ! حمله أبو بكر _ وهو يشتد به _ حتى أتى الغار ، فأنزله . " 68 "
الله أكبر ! ! لهذه الدرجة يفتدي شيوخ الحركة شبابها إذا كانوا هم القادة . . ! ! ؟
د _ لما وصلا للغار : وأراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينزل فيه : قال له الصديق . . مكانك حتى استبرئ لك ، فإن كان به أذى نزل بي قبلك ، ثم نزل فتحسس الغار ، فلم يجد به شيئا ، فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقد بلغ منه الإعياء والتعب مبلغه ، فما إن دخلا حتى توسد الرسول - صلى الله عليه وسلم - قدم أبي بكر ونام .
وما كل هذه الصور _ وغيرها كثير _ إلا لأنهم علموا جيدا أن اغتيال القيادة وإنهاءها ، هو هدف رئيسي بالنسبة للعدو
* * *
وهذا درس يجب أن يعيه شباب الحركة الإسلامية ، فيحمون قادتها ، ويفتدونهم بالغالي والنفيس .
خاصة : وهم يرون " المحاولات _ الكثيرة _ اليائسة ، التي يقوم بها أعداء الإسلام لإنهاء الحركة الإسلامية ، عن طريق قتل قيادتها إعداما ، أو اغتيالا . " " 59 "
" والذي يلحظ الحاكمين وهم يواجهون الحركة الإسلامية رغم اختلاف مشاربهم ، ونوازعهم ، يجدهم يلتقون جميعا على قتل هذه القيادات .
ومما ينبغي الانتباه له : " أن أعداء الإسلام يخطئون كثيرا ، حينما يتصورون أن انتهاء القائد ، يعني انتهاء المواجهة والجهاد _ وبالرغم من خطورة هذا الأمر ، والدور الرئيسي للقيادة ، كما يقول : الأستاذ منير الغضبان _ فهو لا يصح بشكل دائم ، إنه قد يعيق الحركة . . . ولكن المعاني المتغلغلة في نفوس شباب الدعوة ، لا يمكن أن تنتهي بانتهاء القيادة " " 59 "
ولذلك . . ومن هذا الدرس . . نرى أن حماية القيادة ، وافتداءها : فريضة دينية ، وضرورة سياسية .
ــــــــــــ(1/96)
دروس تربوية من الهجرة النبوية
إعداد : معاوية محمد هيكل
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
ففي تاريخ الأفراد والأمم والجماعات أحداث لها أثرها ودورها البالغ في تغيير دفة الحياة وتاريخ أمتنا- التي نعتز بها ونفتخر- يزخر بالأحداث العظام التي غيرت وجه التاريخ، ولعل من أبرزها وأعظمها أثرًا على الإطلاق في حياة الأمة حادث الهجرة المباركة، فالهجرة لم تكن حدثًا عاديًا ولا عابرًا كغيره من أحداث التاريخ، بل كانت بمثابة محور الارتكاز ونقطة الانطلاق والتحول، والحد الفاصل في مصير هذا الدين العظيم ومساره، وإيذانًا بميلاد فجر جديد لدولة التوحيد، أشرق على الكون نوره بعد مخاض ليل طال على الأتباع معاناته وآلامه.
ونظرًا لهذه المكانة السامية التي تبوأتها الهجرة النبوية واحتلتها كأعظم حدث في تاريخ الدعوة الإسلامية، فقد اعتبره المسلمون الأوائل معلمًا بارزًا من أهم معالم حضارتهم، فأرخوا به لأحداثهم ووقائعهم، ولم يؤرخوا بتأريخ غيرهم، حفاظًا على هويتهم واستقلالهم وتميزهم.
وحَدَثٌ هذا شأنه حري بنا وجدير أن نقف على معانيه، نستلهم منه الدروس والعظات والعبر.
أولاً: الهجرة سنة ماضية:
فبهذه الهجرة تمت لرسولنا - صلى الله عليه وسلم - سنة إخوانه من الأنبياء، فما من نبي منهم إلا نَبَتْ به بلاد نشأته وأخرجه أهلها فهاجر عنها من لدن إبراهيم عليه السلام أبي الأنبياء وخليل الله، إلى عيسى كلمة الله وروحه، كلهم على عظيم درجاتهم ورفعة مقامهم- أهينوا من عشائرهم، فصبروا ليكونوا مثالاً لمن يأتي بعدهم من متبعيهم في الثبات والصبر على المكاره ما دام ذلك في ذات الله.
قال تعالى: وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا {إبراهيم: 13}، وقال تعالى عن قوم لوط: فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون {النمل: 56}، وقال تعالى عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - : وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين {الأنفال: 30}.
ولذلك قال ورقة بن نوفل للنبي - صلى الله عليه وسلم - : "ليتني فيها جذع ليتني أكون حيّا إذ يخرجك قومك". فقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - : "أَوَ مخرجي هم؟" قال: نعم؛ لم يأت رجلٌ قط بمثل ما جئت به إلا عودي".
{الحديث رواه البخاري (1-30، 31)}
ثانيًا: في الهجرة تأمين للدعوة وحماية للدين:
فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يخرج من بين قومه إلا بعد أن تمالأ المشركون على قتله، منعًا له من الدعوة إلى الحق، كما أوصلوا إليه ما لا يحتمله غيره من الأذى، وفي هذا عبرة لمن دعا إلى دينه أن يصبر على أذى المدعوين، حتى يخشى على نفسه الهلاك فيفر بدينه إلى حيث يرجو أن تثمر دعوته.
فحيثما كان العبد في مكان لا يتمكن فيه من إظهار دينه، فإن له متسعًا وفسحة من الأرض يتمكن فيها من عبادة الله.
هجرة الموحدين المضطهدين.. جهاد لا فرار:
فهجرة الموحدين المضطهدين بدينهم في كل زمان ومكان ليست هروبًا ولا نكوصًا ولا هزيمة، إنما هو تربص بأمر الله، حتى يأتي أمر الله.
فقد خرج أصحاب الكهف من الدنيا على رحابتها إلى كهف ضيق فرارًا بدينهم، واعتزالاً للشر وأهله، وخروجًا من الواقع السيئ، وطلبًا للسلامة، فكانت هجرتهم محمودة ومشروعة، وكذلك فعل الصحابة رضوان الله عليهم هاجروا من مكة إلى الحبشة مرتين، ثم هاجروا إلى المدينة تاركين أوطانهم وأرضهم وديارهم وأهاليهم، رجاء السلامة بالدين والنجاة من فتنة الكافرين.
دروس للدعاة
لذلك فإن الهجرة تعلمنا درسًا هامًا، وهو كيف أن على الدعاة إلى الله أن يبحثوا دائمًا عن أماكن خصبة للدعوة.
ثالثًا: العقيدة هي الدافع والأساس:
أثبتت الهجرة النبوية أن الدعوة والعقيدة يتنازل لهما عن كل حبيب وعزيز وأليف وأنيس، وعن كل ما جبلت الطباع السليمة على حبه وإيثاره والتمسك به والتزامه، ولا يتنازل عنهما لشيء.
وقد كانت مكة- فضلاً عن كونها مولدًا ومنشأ للرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه- مهوى الأفئدة والقلوب ففيها الكعبة البيت الحرام الذي جرى حبه منهم مجرى الروح والدم، ولكن شيئًا من ذلك لم يمنعه وأصحابه من مغادرة الوطن ومفارقة الأهل والسكن حين ضاقت الأرض على هذه الدعوة والعقيدة وتنكر لها أهلها، وقد تجلت هذه العاطفة المزدوجة عاطفة الحنين الإنساني وعاطفة الحب الإيماني في كلمته التي قالها مخاطبًا مكة: "والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله ولولا أني أخرجت منك ما خرجت". {صحيح الترمذي: 3082}. وذلك عملاً بقوله تعالى: يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون {العنكبوت: 56}.
رابعًا: معية الله وحفظه وتأييده لأنبيائه وأوليائه:
قال الله تعالى: إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم {التوبة: 40}، فالله عز وجل أرحم بنبيه وصاحبه من أن يجعلهما نهبًا لعدوهما، كما تؤكد الآية كذلك حماية الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ونصره وتأييده حين تخلت عنه قوة الأرض، والجنود التي يخذل بها الباطل وينصر بها الحق ليست مقصورة على نوع معين من السلاح ولا صورة خاصة من الخوارق، إنها أعم من أن تكون مادية أو معنوية، وإن كانت مادية فإن خطرها لا يتمثل في فخامتها، فقد تفتك جرثومة لا تراها العين بجيش عظيم، وما يعلم جنود ربك إلا هو {المدثر: 31}.
فتعمية أبصار المشركين عن رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه في غار "ثور" وهم عنده، مثل تخشع له القلوب من أمثلة عناية الله بأنبيائه ورسله ودعاته وأحبائه، فما كان الله ليوقع رسوله - صلى الله عليه وسلم - في قبضة المشركين، فيقضوا عليه وعلى دعوته، وهو الذي أرسله الله رحمة للعالمين، وليس في نجاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه بعد أن أحاط بهما المشركون في غار ثور إلا تصديق قوله تعالى: إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد {غافر: 51}، وقوله تعالى: إن الله يدافع عن الذين آمنوا {الحج 38}.
فالدعاة إلى الله بحاجة دائمًا إلى أن يكون راسخًا في أعماقهم عون الله لهم حين تعجز قوتهم البشرية عن إدراك ما يخطط لهم العدو بعد استنفاد الطاقة واستفراغ الوسع، وأن تكون لديهم القناعة التامة، أن النصر أولاً وأخيرًا من عند الله. قال تعالى: وما النصر إلا من عند الله {آل عمران:126}.
خامسًا: يتجلى في الهجرة بروز عنصر التخطيط وأهميته في حياة المسلمين:
فكان الهدف محددًا والوسائل كذلك والعقبات مأخوذة بالحسبان واختيار الطريق والمكان والتموين ومن يحمل الأخبار والدليل، كل ذلك مُؤَمَّنٌ مع إحاطة ذلك بالسرية والحيطة والحذر، وكل ذلك ينبئ عن تخطيط وتنظيم وترتيب لا مثيل له.
الأخذ بالأسباب والتوكل على الله
فالأخذ بالأسباب مطلوب ومشروع ولا ينافي ذلك الإيمان والتوكل على الله، فعدم الأخذ بالأسباب قدح في التشريع، والاعتماد على الأسباب قدح في التوحيد، لذلك فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أحكم خطة هجرته وأعد عدته، فأعد الراحلتين وترك عليًا مكانه، وسلك الطريق الجنوبي للتغرير بالمشركين، واستأجر ماهرًا خبيرًا يدله على الطريق، وكانت أسماء رضي الله عنها تأتيهما بالطعام، ودخل غار ثور، فعل ذلك وهو النبي المؤيد من ربه.
فشأن المؤمن مع الأسباب المعتادة أن يقوم بها كأنها كل شيء في الحياة، ثم يتوكل بعد ذلك على الله، لأن كل شيء لا قيام له إلا بإذن الله، فإذا استفرغ المرء جهده في أداء واجبه فأخفق بعد ذلك، فإن الله لا يعاقبه على هزيمة بلي بها، وكثيرًا ما يرتب الإنسان مقدمات النصر ترتيبًا حسنًا، ثم يجيء عون الله أعلى فيجعل هذا النصر مضاعف الثمار.
سادسًا: التضحية والفداء:
ومن دروس الهجرة: أن الجندي الصادق المخلص لدعوة الإصلاح يفدي قائده بحياته، ففي سلامة القائد سلامة للدعوة، وفي هلاكه خذلانها ووهنها، فما فعله علي رضي الله عنه ليلة الهجرة في بياته على فراش رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - تضحية بحياته في سبيل الإبقاء على حياة رسول اللَّه #؛ إذ كان من المحتمل أن تهوي سيوف فتيان قريش على رأس علي رضي الله عنه انتقامًا منه، لأنه سهل للرسول - صلى الله عليه وسلم - النجاة، ولكن عليا لم يبال بذلك، فحسبه أن يسلم رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - نبي الأمة وقائد الدعوة.
وكذلك موقف أبي بكر رضي الله عنه، فقد تجلى من معاملته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحب الصادق والتضحية بالنفس، وتجلى هذا في دخول الغار وعند الخروج منه وفي الطريق حينما كان يمشي تارة خلفه، وتارة أمامه، وتارة عن يمينه.
وهذه أمثلة في التضحية والفداء يندر أن نرى لها في الدنيا نظيرًا، ولكنه الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب.
سابعًا: مظاهر محبة النبي - صلى الله عليه وسلم - واستقبال أهل المدينة له:
تكشف لنا الصورة التي استقبلت بها المدينة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - عن مدى المحبة الشديدة التي كانت تفيض بها أفئدة الأنصار من أهل المدينة رجالاً ونساءً وأطفالاً.
قال ابن القيم رحمه الله واصفًا هذه المشاعر النبيلة: وبلغ الأنصار مخرج رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - من مكة، وقصده المدينة، وكانوا يخرجون كل يوم إلى الحرة ينتظرونه أول النهار، فإذا اشتد حر الشمس، رجعوا على عادتهم إلى منازلهم، فلما كان يوم الاثنين ثاني عشر ربيع الأول على رأس ثلاث عشرة سنة من النبوة، خرجوا على عادتهم، فلما حمي حر الشمس رجعوا، وصعد رجلٌ من اليهود على أطم من آطام المدينة لبعض شانه فرأى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، مُبيَّضين، يزول بهم السراب، فصرخ بأعلى صوته: يا بني قيلة، هذا صاحبكم قد جاء، هذا جدكم الذي تنتظرونه، فبادر الأنصار إلى السلاح ليتلقوا رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ، وسُمعت الرجة والتكبير في بني عمرو بن عوف، وكبّر المسلمون فرحًا بقدومه، وخرجوا للقائه، فتلقوه وحيوه بتحية النبوة، فأحدقوا به مُطيفين حوله، والسكينة تغشاه، والوحي ينزل عليه: فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير {التحريم: 4}. {زاد المعاد 3-52}
ثامنًا: الأخوة الصادقة وأمثلة نادرة:
قال تعالى: والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون {الحشر: 9}.
ففي مؤاخاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بين المهاجرين والأنصار أقوى مظهر من مظاهر عدالة الإسلام الإنسانية والأخلاقية البناءة، فالمهاجرون قوم تركوا في سبيل الله أموالهم وأراضيهم، فجاءوا إلى المدينة لا يملكون من حطام الدنيا شيئًا، والأنصار قوم أغنياء بزروعهم وأموالهم وصناعتهم، فكان أن حمل الأخ أخاه، واقتسم معه سراء الحياة وضراءها، وأنزله في بيته، وأعطاه شطر ماله، فأية أخوة في الدنيا تعدل هذه الأخوة.
لذلك أثنى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - على الأنصار ثناءً عظيمًا بعد ثناء الله عليهم فقال: "لولا الهجرة لكنت امرءًا من الأنصار". {البخاري: 3779}، وقال أيضًا: "لو سلكت الأنصار واديًا أو شعبًا لسلكت وادي الأنصار أو شعبهم". {البخاري: 3778}.
تاسعًا: الهجرة والإصلاح المنشود:
قال العلامة محب الدين الخطيب: لو أننا فهمنا الحكمة التي انطوت عليها حادثة الهجرة، وعلمنا أن كتاب الله الذي نتلوه قد أنحى باللائمة على جماعة من أصحاب رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - كانوا في مكة يصلون ويصومون ولكنهم ارتضوا البقاء تحت جناح أنظمة تخالف الإسلام، فلا قوة لهم على تغييرها، ولم يهاجروا إلى قلعة الإسلام ليكونوا من جنوده، لعلمنا أن الإسلام لا يكتفي من أهله بالصلاة
والصوم، بل يريد منهم مع ذلك أن يقيموا شرائعه وآدابه في بيوتهم وأسواقهم وأنديتهم، ومجامعهم ودواوين حكمهم، وأن عليهم أن يتوسلوا بجميع الوسائل المشروعة لتحقيق هذا الغرض الإسلامي بادئين به من البيت وملاحظين ذلك في تربية من تحت أمانتهم من بنين وبنات، ومتعاونين عليه مع من ينشد للإسلام الرفعة والازدهار من إخوانهم، حتى إذا عم هذا الإصلاح أرجاء واسعة تلاشت تحت أشعته ظلمات الباطل، فكان لهذا الأسلوب من أساليب الهجرة مثل هذه الآثار التي كانت لهجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الأولين.
روى مسلم في كتاب الإمارة من صحيحه عن أبي عثمان النهدي أن مجاشع بن مسعود السلمي قال: جئت بأخي أبي معبد إلى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بعد الفتح فقلت: يا رسول الله، بايعه على الهجرة، فقال عليه الصلاة والسلام: "قد مضت الهجرة بأهلها". قال مجاشع: فبأي شيء تبايعه؟ قال: على الإسلام والجهاد والخير. قال أبو عثمان النهدي: فلقيت أبا معبد فأخبرته بقول مجاشع فقال: صدق.
وفي كتب السنة وبعضه في الصحيحين عن عبد الله بن عمرو بن العاص وفضالة بن عبيد بن ناقد الأنصاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "المهاجر من هجر السيئات". فإلى الهجرة أيها المسلمون، إلى هجر الخطايا والذنوب إلى هجر ما يخالف تعاليم الإسلام في بيوتنا، وما نقوم به من أعمالنا، إلى هجر الضعف والبطالة والإهمال والترف والكذب والرياء ووضع الأشياء في غير موضعها. {من إلهامات الهجرة: ص11- 14}
فهل تأخذ الأمة من دروس الهجرة زادًا إيمانيًا تستعيد به مجدها المفقود، وهل نسترد دور الهجرة في حياتنا لنستأنف دورنا المنشود في قيادة البشرية من جديد، هذا ما نأمله ونرجوه.
نسأل الله أن يوفقنا لسلوك سبيل المؤمنين، وأن يعز الله بنا الدين كما أعزه بالسابقين الأولين من الأنصار والمهاجرين، وأن يجمعنا بهم مع سيد الأولين والآخرين يوم يقوم الناس لرب العالمين
ـــــــــــ
دروس من الهجرة النبوية
إبراهيم السيد العربي
بتاريخ
في ذكرى الهجرة وبداية عام هجري جديد يتذكر الإنسان هذه الذكريات فمن يقرأ كتب السيرة ويعيش مع حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ـ ويقرأ عن فترة البعثة الأولى يجد أن رسول الله تحمل من الأذى الكثير فلقد إتهم بأنه ساحر وبأنه شاعر إلى غير ذلك واستخدم كفار قريش كل الأساليب لكي يثنوه عن مبدأه فلم يرجع ولم يتهاون في تبليغ دعوة رب العالمين للناس ولذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأنبياء الخمسة الذين أطلق عليهم أولو العزم ـ والسبب صبرهم وتحملهم الكثير من الإيذاء والاضطهاد المستمر .
نتذكر في ذكرى الهجرة النبوية ـ مبدأ الثبات على المبدأ في سبيل هذا المبدأ تحمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المقاطعة هو والمسلمين صبروا وتحملوا وفي هذا نموذج للمسلم ألا يضعف أمام كيد الشيطان وأمام كيد اعداء الاسلام وطالما أنه على الحق فان الله سينصره ـ ويقتدى بذلك بهدى المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وفي ذكرى الهجرة يعلمنا رسول الله ان المسلم اذا عزم على فعل أمر من الأمور لابدان يخطط له ويدرسه ويستعين على قضاء حوائجه بالكتمان حتى يتم الأمر كما هو مرسوم له ـ وشيء مهم جدا أن يختار الرفيق قبل الطريق فعندما اختار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر الصديق ليكون رفيقا له في السفر كان الاختيار في محله فهذا أبو بكر عليه رضوان الله سخر كل ما يملك في خدمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سخر ماله وأولاده ليكونوا جنودا مجهولين في هذه المرحلة وبالفعل تحقق ذلك فعبدالله بن ابي بكر يرعى الغنم ويتسمع أخبار مكة ويبلغها للرسول ولوالده في الغار كل ليلة واشتغلت اسماء وعائشة رضي الله عنهما بتجهيز الطعام كل يوم ويحمله لهم عبدالله في المساء ثم لا مانع أن يدافع المسلم عن نفسه في الحرب بكل السبل التي تكفل له النجاح في مهمته وهذا ما كان عليه رسول الله مع صاحبه لقد اختار الصاحب الحقيقي الذي انطبقت عليه كل المواصفات فها هو ابو بكر رضي الله عنه في الطريق من شدة حبه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخوفه على حياته يمشى في الأمام ثم يرجع الى الخلف لظنه أن الأعداء سيأتون من الخلف أو الأمام ويدخل الغار قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لينظفه من كل شيء يمكن أن يضر بالحبيب - صلى الله عليه وسلم - ونتعلم من الهجرة النبوية مدى صدق رسول الله وأمانته فها هو يوصي سيدنا عليا كرم الله وجهه بأن يبيت في مكانه حتى يؤدى الصدقات والودائع لأصحابها حتى يكون كما هو عند حسن ظن الناس فمع أن كفار مكة كانوا يتهمونه بكل الاتهامات ومع هذا كان الواحد فيهم إذا اراد أن يضمن أمانته فلا يضمنها الا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان بإمكان رسول الله أن يأخذ هذه الوادئع عوضا عما تركه ولكنه القدوة العظمى لنا - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا ـ أدا الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك هذه بعض أخلاق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (لقد كان لكم في رسول الله اسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر).
ومن الدروس المستفادة من الهجرة نتذكر أن المسلم لا يضعف واذا لم يجد لنفسه مكانا في أرضه لكي يخدم دعوته فأرض الله واسعة قال تعالى: (ان الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيما كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن ارض الله واسعة فتهاجروا فيها) (النساء ـ 97).
الاسلام يعيب على المسلم أن يضعف ويستسلم ويقول كنت ضعيفا كلا المسلم قوى بعقيدته قوى بايمانه قوى بتوكله على الله قوى بإخوانه المسلمين في كل مكان فعندما وجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن مكة لم يعد فيها فرصة لتبليغ الدعوة تركها وهاجر للمدينة المنورة وهناك كان العوض والبديل في رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه وهم الأنصار عليهم رضوان الله أجمعين.
نتذكر في الهجرة النبوية في هذه المناسبة العظيمة نتذكر مدى حب المؤمن لأخيه المؤمن ولقد ضرب الأنصار أروع الأمثلة في التضحية والفداء لدرجة أن سعد بن الربيع يقول لأخيه عبد الرحمن بن عوف بعد أن آخى رسول الله بينهما هذه اموالي وعندى زوجتان اختر أيهما فاطلقها لك وبعد انتهاء عدتها تزوج منها أي ايمان هذا؟ أي ايثار هذا الله أكبر حب في الله ومن أجل الله تعالى ولذلك أثنى الله عليهم.
في مناسبة الهجرة النبوية ـ نتذكر كيف هاجر عمر بن الخطاب رضي الله فلقد ملأ الإيمان قلبه ولم يخف من أحد إلا من الله سبحانه وتعالى حتى تقلد سيفه وطاف بالكعبة ونادى على قريش وأخبرهم أنه نوى الهجرة فمن اراد ان يرّمل زوجته وييتم اطفاله فليلحق به وراء الجبل ولم يجرؤ واحد منهم ملاحقة عمر رضي الله عنه وأرضاه الله أكبر ولله الحمد ربما يسأل إنسان لماذا كانت هجرة رسول الله في السر وهجرة عمرا في العلانية هل يعني أن عمرا أشجع من رسول الله؟ الإجابة ان عمرا رضي الله عنه رأى بشرله من الحرية ان يختار طريقه بما يراه مناسبا لقوته ولعقيدته لكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت هجرته سرا لأنه لا يخطو خطوة الا بوحي من رب العالمين وهذا كان بأمر من الله حتى يعلم المسلمين أن السرية عند قضاء الأمر المهم مطلوبة ومستحبة بل إنها في بعض الأحيان واجبة.
نتذكر في هذه المناسبة كيف أن للمسجد رسالته ودوره الكبير في حياة كل مسلم ومسلمة وهذا يدل على ان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أول شيء عمله في يثرب هو بناء المسجد لأن المسجد يخرج الرجال العظماء العلماء الأقويا بعقيدتهم وبتمسكهم بمنهج رب العالمين.
نتذكر بركة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما حل بخيمة أم معبد هذه المرأة العربية الكريمة التي لم تبخل على النبي وصاحبه بشيء لكنها كانت لا تملك شيئا وجادت بالموجود فكانت مكافأة رسول الله لها بأن مسح على ضرع الشاة فأذن الله بنزول اللبن وشرب منه الحبيب المصطفى وشرب منه ابو بكر الصديق رضي الله عنه.
نتذكر في هذه المناسبة انك أخي المسلم اذا كنت مع الله كان الله معك واذا كان الله معك فلن يضرك أحد من البشر ـ فكن مع الله يكن الله معك والحمد لله رب العالمين
ــــــــــــ(1/97)
دروس من الهجرة النبوية الشريفة
تبدأ الدعوة الى الله تعالى وتنطلق فتلاقي في طريقها كل أصناف العذاب والاذى فلا يثني صاحبها
عن الاستمرار في تبليغ دعوة ربه ايمانا بنصر الله تعالى وثباتا على الحق رغم صنوف العقبات والام
العذاب
لكل الدعاة وعلى مر التاريخ وفي سيرة الانبياء جميعا عليهم الصلاة والسلام وأشد ما كان
من ذلك ما كان لنبينا عليه وآله الصلاة والسلام في مكة ومن أقرب الناس اليه من قريش.
وتنزل الايات على النبي تطمئنه بنصر الله ووعد الله تعالى له ويواسيه على ذلك الملائكة والمؤمنون.
يقول الله نعالى لنبيه عليه وآله الصلاة والسلام
فلا تذهب نفسك عليهم حسرات
فلعلك باخع نفسك على آثارهم ان لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا .. اي مهلكها
ويتعرض رسول الله لصنوف من الايذاء لم يتعرض لها احد قط فهذا عقبه ابن ابي معيط ياتي بامعاء جمل ميت ويلقيها علي رسول الله وهو ساجد فيظل الرسول وتاتي ابنته الزهراء سلام الله عليها وتمسح ما عليه وهو يقول لها لا تبكي فان الله ناصر اباكي
كذلك فقد غيروا اسمه صلي الله عليه وسلم فكانوا ينادونه باسم مذمم بدلا من محمد واشاعوا الاسم في مكه فاذا راوه قالوا حضر مذمم وراح مذمم وووو الخ والصحابه يتضجرون من هذا الاسم ورسول الله يقول لهم دعوهم فانما يدعون مذمما وانا محمدا
ويقولون عنه المجنون والكاهن والساحر وووو وهو ثابت علي مبداه وثابت علي دينه ثم تحبسهم قريش في شعب ضيق ثلاث سنين
في شعب أبي طالب
ثم يموت عمه وزوجته في عام واحد ويسمي عام الحزن وكذلك يؤمر صلي الله عليه وآله وسلم ان يذهب للطائف ليدعوهم الي الاسلام وهو يسير علي رجليه مسافه بعيده علي امل ان يجد من يقف بجانبه ويؤمن برسالته لكن يجد رسول الله مالم يكن يتوقعه منهم فهذا اولهم يقول له :-
الم يجد الله من هو خير منك ليرسله ؟؟؟ وهذا الاخريقول له والله لو وجدتك متعلق باستار الكعبه تقول انك نبي ما صدقتك والاخر يقول له
انا لن اكلمك فانت اما ان تكون صادق فانت اكبر من ان اكلمك او انك كاذب فانت احقر من ان اكلمك ... ثم لم يلقي من الناس الا ايذاء وسخريه واستهزاء وتسليط السفهاء عليه والاطفال والنساء ليلقوه بالحجاره حتي تدمي قدماه الشريفتان ولم يكتفوا بذلك بل ارسلوا لقريش يعلموهم ان محمدا جاء ليستنصر بهم وكذلك ظلوا يضربوه حتى دميت قدماه وزيد بن حارثة يقيه بنفسه حتى أصابه شجا في رأسه وآذوه أشد الأذى ثم يجلس الرسول ويدعوا بدعائه الشهير
" اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهواني على الناس أنت رب المستضعفين وأنت ربي ، إلى من تكلني ؟ إلى بعيد يتجهمني ، أو إلى عدو ملكته أمري ؟ إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي ، غير أن عافيتك هي أوسع لي . أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن يحل علي غضبك ، أو ينزل بي سخطك . لك العتبى حتى ترضى . ولا حول ولا قوة إلا بك "
ثم ياتي المدد من الله و ينزل جبريل عليه السلام ومعه ملك الجبال ينتظر امر رسول الله ليطبق عليهم الاخشبين لكن رسول الله يأبي ويقول له لعل الله يخرج من أصلابهم من يقول لااله الا الله .... انظروا لروعه الكلمه فقد قال رسولنا الكريم عسي ... أو لعل ... وكلمه عسي تفيد الرجاء في شيء مستقبلي فهو يرتجي شيئا قد يحدث .
أو يقول اللهم اهد قومي فانهم لايعلمون ...
ان ما كان بعد ثلاثة عشر سنة من الدعوة الى الله تعالى وما تخلل هذه السنين لدروس عظيمة للأمة لتتعلم منها كيف تتعامل مع كل حدث وكيف تصبر وكيف تجاهد وكيف تخطط وكيف تنفذ .
أمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا تتصرف من وراء عقلها ولا من غوغاء وثورة عاطفتها ولا من مبدأ
مصالح الفرد وعصبية القبيلة ومن جهوية الحزب وطائفية المذهب وعنصرية اللون واللغة والقبيلة.....
العمل الخالص لله تعالى انما الاعمال بالنيات وانما لكل امريء ما نوى فمن كانت هجرته الى الله ورسوله فهجرته الى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته الى ما هاجر اليه.
ــــــــــــ(1/98)
دروس من الهجرة..
للشهيد سيد قطب
إذا كنا نحتفل بيوم الهجرة فيجب أن نكون جديرين بالاحتفال بهذا اليوم، يجب ألا يكون احتفالنا بالهجرة النبوية ككل احتفالٍ بذكرى من الذكريات الأرضية أو بعملٍ من أعمال الناس، كما يجب أن يكون لهذا الاحتفال طابع خاص، وأن يكون لهذا الاجتماع جوٌّ خاص، وأن نُهيئ نحن أنفسنا لنكون جديرين بالاحتفال بهذه المناسبة الكريمة، ولن نكون جديرين بأن نحتفل بيوم الهجرة إلا حين نرتفع بأرواحنا، وحين نرتفع بأخلاقنا، وحين نرتفع بأعمالنا وقيمنا إلى هذا المستوى الشامخ الرفيع، مستوى الهجرة النبوية الشريفة.
الواقع الفعلي للسيرة
إنَّ سيرةَ الرسول- صلى الله عليه وسلم- وسيرة هذا الإسلام لا يجوز أن تكون تاريخًا يُتلى ولا أن تكون احتفالاتٍ تمضي، إنما يجب أن تكون حياةً تُعاد، وأن يكون واقعًا يُحقق.. إنما جاء الإسلام ليكون واقعًا حيًّا في تاريخ المسلمين، وإنما مضت هذه الأيام لتكون فيها إلى الأبد قدوةً وأسوةً لمَن يتبعون رسول الله- صلى الله عليه وسلم-
كيف نحتفل بالهجرة؟
يجب إذا حاولنا أن نحتفل بالهجرة أن نرتفع بأنفسنا إلى مستوى أيام الهجرة.. أن نرتفع بأرواحنا إلى مستوى أيام الهجرة.
الشهيد سيد قطب
فهذا الإسلام جاهزٌ وقديرٌ على أن يحقق ما حققه مرةً في تاريخ البشرية، إنه لم يجئ لفترةٍ ولم يجئ لمكان، لقد جاء للزمان كله.. وجاء للأرض كلها.. وجاء للبشرية كلها.
فإذا شئنا نحن اليوم أن نحتفل بيومٍ من أيامه، فلا يجوز أن نقرب هذا الاحتفال إلا إذا أعددنا أنفسنا كما يُعد المؤمن نفسه للصلاة بالوضوء، وكما يتهيأ بروحه ليقف بين يدي الله عز وجل.. يجب أن نرتفع إلى إدراك المعاني الكبيرة الكامنة في هذا اليوم الكبير.
ومعاني هذا اليوم لا تحصيها ساعة، ولا تحصيها خطبة، ولا يحصيها كتاب، فهي كتاب مفتوح للبشرية منذ 1400 عام، إنما نحاول أن نلخص شيئًا.. نحاول أن نُقلب صفحاتٍ قلائل من هذا الكتاب الضخم الذي لم تنته صفحاته على مدى 1400 عام، ولن تنتهي صفحاته حتى يرث الله الأرض ومن عليها: ?قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)? (الكهف).
الصفحة الأولى: التجرد
الصفحة الأولى من صفحات هذا اليوم المجيد في تلك الكلمات الخالدة للنبي- صلى الله عليه وسلم- تلك الكلمات التي فاه بها لسان محمد- صلى الله عليه وسلم- لقريشٍ بعظمائها وساداتها.. "يا بن أخي إن كنت تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد شرفًا سودناك علينا، وإن كنت تريد ملكًا ملكناك علينا"، فجاء الرد الحاسم:"والله يا عمِّ، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه".
كان يريد عقيدةً تُنتشر وفكرةً تسود ومجتمعًا يتكون وإسلامًا يقوم على وجهِ الأرض يُعلم الناس ما لم يتعلموه قبل هذا الإسلام العظيم.
هذه هي الذكرى الأولى، وهذه هي الخطوة الأولى التي استصعدنا بها محمد- صلى الله عليه وسلم- في بدء خطواته.. فلنوجه إليها قلوبنا ونحن نحتفل بهذا اليوم.
وإن وجدنا أننا لا نستطيع أن نرتفع هذا الارتفاع، ولكن نتطلع إلى هذا الأفق ليدفعنا إليه.. إذا وجدنا في أرواحنا خفةً للتحقيق.. إذا وجدنا في أنفسنا زهدًا في مال.. وزهدًا في منصب.. وزهدًا في جاه؛ لأننا نريد أكثر من المال والجاه والمنصب، إذا أحسسنا في أنفسنا هذا الإحساس.. كنا جديرين أن نحتفل بيومٍ من أيام محمد صلى الله عليه وسلم.
واجبنا نحو أيام محمد صلى الله عليه وسلم
ومنذ اليوم يجب أن نستحضر في أنفسنا هذا الملحاظ فلا نجرؤ على الاحتفال بيومٍ من أيام محمد- صلى الله عليه وسلم- إلا أن نكون على استعداد في ذوات أنفسنا أن نتطلع إلى فعل محمد صلى الله عليه وسلم.. إن ذكريات محمد- صلى الله عليه وسلم- لا يجوز أن ترخص.. لا يجوز أن تصبح سلعةً في السوق.. لا يجوز أن تكون مجالاً لأن يحتفل بها كل مَن يحتفل قبل أن يُعد نفسه لهذا المستوى الرفيع، لهذا المستوى الكريم الذي أعدَّ محمد - صلى الله عليه وسلم - نفسه له وهو يقول:"والله يا عمِّ، لو وضعوا الشمسَ في يميني والقمرَ في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه".
حقيقة طريق الدعوة
مَن شاء أن يسلك طريق هذه الدعوة فليعرف أنه لا يأتي إلى المال وليتأكد أنه لا يؤدي إلى منصب، وليوطد نفسه أنه لا يؤدي إلى جاه في الأرض وإن كان يؤدي إلى جاه عند الله.
مَن شاء أن يسلك طريق هذه الدعوة فليعلم أن الوزارة قد تفوته، وأن الإمارةَ قد تفوته، وأن المال قد يفوته، وأن الجاه قد يفوته.. ويبقى له ما هو أكرم من هذا كله.. ويبقى له وجه ربك ذي الجلال والإكرام.
الصفحة الثانية: إعداد النفس للتضحية
معنى آخر من معاني الهجرة يجب أن نستحضره في أرواحنا.. يجب أن نُعد أنفسنا له.. هو ما قاله الله عز وجل وهو يخاطب رسوله- صلى الله عليه وسلم- في أول الدعوة: ?يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5)? (المزمل)، لا في كلماته ولا في عباراته، فالله عز وجل يقول ?وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)? (القمر)، فألفاظ القرآن ميسورة وعباراته ميسورة، وهذا الثقل في القول ليس في ذات القول، ولكن في التبعة.. في المهمة.. في الواجب.. في المشقة التي يحملها هذا القول الثقيل.. ?إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً?.
إن الطريقَ شاقة، إن الطريقَ ليست مفروشةً بالزهور والورود، إن الطريق مليئةً بالأشواك.. لا.. بل إنها مفروشة بالأشلاء والجماجم، مزينةً بالدماء، غير مزينةٍ بالورودِ والرياحين.. إن الطريق شاق.. هذا هو المعنى الثاني الذي يجب أن نتذكره ونحن نتطلع ونحاول أن نرتفع إلى أفق الهجرة الكريمة.
إن سالكه لن يفوته المنصب وحده، ولن يفوته الجاه وحده، ولن تفوته السيادة وحدها في هذه الأرض، ولكن سيتحمل قولاً ثقيلاً، وسيتحمل جهدًا ثقيلاً، وسيجتاز طريقًا ثقيلاً.. فلنعد أنفسنا لما أعد محمد - صلى الله عليه وسلم - نفسه له لنكون جديرين بأن نحتفل بيومِ هجرته صلى الله عليه وسلم.. ?إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً?.
عظمة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحقيقة النصر
لقد كان نوح عليه السلام يملك أن يدعو على قومه فيهلكهم الله ليبدل الله الأرض قومًا غيرهم؛ لأن دعوته موقوتة لأنه جاء لقوم؛ لأنه جاء لدين، أما رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقد كان يعلم أن دعوته هي دعوة الأبد، وأن رسالته هي الرسالة الأخيرة، وأن السماء وقد تفتحت بنورها إلى الأرض لن تفتح بهذا النور إلى الأرض مرةً أخرى؛ لذلك لم يخترْ أن يدعو الله بالنصرِ فيرتاح في لحظته، إنما اختار طريق الجهاد؛ لأنه إن انتصر اليوم.. أن انتصر نصرًا يسيرًا.. إن انتصر نصرًا سهلاً، فمَن يُؤتي أمته ومَن يُؤتي الأجيالَ بعده هذا النصر السهل الرخيص.
إنَّ أمته يجب أن تُدرَّب.. يجب أن تُعد.. يجب أن تجد فيه قدوة.. يجب أن يكون لها قدوة في جهادٍ شاق طويل.. ?أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)? (العنكبوت).
لا بد من فدية.. لا بد من بلاء .. لا بد من امتحان؛ لأن النصرَ الرخيص لا يبقى؛ لأنَّ النصرَ السهلَ لا يعيش؛ لأن الدعوة الهينة يتبناها كل ضعيف، أما الدعوة العفية الصعبة فلا يتبناها إلا الأقوياء ولا يقدر عليها إلا الأشداء.
لمَن النصر
?أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)? (البقرة).
إنَّ نصرَ الله قريب، ولكن ممن احتملوا البأساء والضراء، ممن جاهدوا وبذلوا.. ممن لم يبقوا في طاقتهم قوة.. ممن احتملوا مشاق الطريق.
عندما يبذل الإنسان أقصى ما في طوقه، عندما يصل إلى نهاية الشوط، عندما يلقى بهمه كله إلى الله بعد أن لم يبقَ في طوقه ذرة عندئذٍ يتحقق وعد الله ?أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ?.
هذه هي الذكرى الثانية، هذا هو المعنى الثاني.. هذا هو المعنى الرفيع الذي يجب أن نُعد أنفسنا له ونحن نتطلع لكي نرتفع إلى ذلك الأفق السامي ونحن نحتفل بالهجرة الكريمة.
----------
? ألقى الشهيد سيد قطب هذه الكلمة في أحد الاحتفالات بذكرى الهجرة
ــــــــــــ(1/99)
دروس وعبر تضيء الطريق للأمة
تمر بنا في هذه الأيام مناسبة دينية عظيمة ،ألا وهي الهجرة النبوية الشريفة ،ولا شك انها تمثل مرحلة هامة وخطيرة في حياة الدولة الإسلامية، والعقلاء دائما ما يغتنمون اى مناسبة ليتوقفوا فيها على أهم مواقفها ودروسها ،وذلك لأن الله لم يشرع أو يأمر بشي لينتهي بإنتهاء وقته ،فسبحانه وتعالي يسوق إلينا الأمور لنقف عندها ،ونتدبر في أسرارها ومعانيها، ولنستفيد من كل الجوانب العطرة في السيرة النبوية الشريفة ..
محيط : بدريه طه حسين
وباسترجاع المسلم لأحداث الهجرة يجد الكثير من الدروس والعبر التى تبرزها السيرة النبوية العطرة. ونحن عند احتفالنا بهذه المناسبة ،لانقف عند وقائعها وأحداثها التي تبدو أنها قد استهلكت وتكررت كثيراً ،وجميعنا يعرفها عن ظهر قلب ،ولكننا نستعرض هنا أهم الأسباب التى دفعت إلى الهجرة النبوية الشريفة ،ودروسها ،وأهم ما يمكن تطبيقه في حياتنا من أجل رفعة شأن امتنا الإسلامية .
أسباب الهجرة الشريفة
لاشك أن حدثا عظيم مثل الهجرة النبوية حين يكون تاريخاً للأمة أن هناك أمور جسام فرضت على النبى صلوات الله عليه القيام بها ، فقد جاءت الهجرة لتكون نقطة فارقة في حياة البشرية ،لتفرق بين الحق والباطل ، وتميز بين الخير والشر .. ولعل من أبرز الأسباب التى ادت لحدوث هجرة النبي من أحب بقاع الأرض إلى قلبه مكة المكرمة إلى المدينة المنورة :
1-شدة الاذى والاضطهاد الذي كان يتعرض له النبي صلى الله عليه وسلم.
فقد أوذي الرسول ايذاء شديدا لم يتعرض له نبي من الانبياء السابقين .. فقد تمادى ايذاء المشركون له لدرجة ينادونه بالمجنون كما قال الله تعالى عضنهم : وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون. كانوا يقولون عنه انه ساحر كذاب ، كما قال تعالى : "وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب" .
فقد كانوا لا ينظرون له الا نظرات كلها استحقار ، كما قال سبحانه :" وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون" ، ولعل من أكثر درجات الايذاء التى واجهت الرسول الكريم :هو ما قام به ابا لهب وهو عم النبي - صلى الله عليه وسلم - من تحريض لوديه عتبة وعتيبة ان يطلقا ابنتي النبي - صلى الله عليه وسلم - رقية وام كلثوم لما جاء بالدعوة وكان قد كتب كتابهما فقط .
وتتوالى سلسة ايذاء ابا لهب للرسول الكريم فعندما توفي عبد الله وهو الابن الثاني للنبي - صلى الله عليه وسلم - استبشر ابو لهب وقال لقومه : ابشروا فان محمدا قد صار ابترا يعني ليس له ولد يحمل ذكره من بعده . فنزل قوله تعالى :" إن شانئك هو الأبتر"، فقد حرض زوجته ابي لهب وهي اخت ابي سفيان على ان تحمل الشوك وتضعه في طريق النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى بابه ، ولذلك وصفها القران الكريم بانها حمالة الحطب .
ولعل من اشد انواع الايذاء التي تعرض لها النبي - صلى الله عليه وسلم - : الحصار في شعب ابي طالب ثلاث سنوات حتى اكلوا اوراق الشجر فصارت مخرجاتهم وفضلاتهم مثل الدواب حتى ان سعد بن ابي وقاص رضي الله عنه وجد في ليلة جلدة شاة فاخذها فوضعها على النار حتى تفحمت ثم اكلها وظل عليها ثلاث ليال لا ياكل شيئا .
ثم تاتي نهاية سلسة الايذاء عندما حاولوا قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - عدة مرات ، ففي يوم الخميس 26 صفر سنة 14 من البعثة اجتمع سبعة من كبار كفار قريش في دار الندوة وجاءهم الشيطان في صورة شيخ يريد نصحهم ودار نقاش طويل فقال احدهم : نحرجه من بيننا وننفيه من بلادنا .
فقال الشيطان : لا والله ما هذا لكم براي الم تروا حسن حديثه وحلاوة كلامه والله لو فعلتم ذلك فسينزل على حي من العرب فيتبعوه فيسير بهم اليكم فيقاتلوكم .
فقال ابو البختري : احبسوه في الحديد واغلقوا عليه الباب حتى يموت . فقال الشيطان : لا والله ، لئن حبستموه ليخرجن من وراء الباب .
فقال ابو جهل : ارى ان ناخذ من كل قبيلة شابا جلدا قويا فنعطي كل فتى منهم سيفا صارما فيضربوه ضربة رجل واحد فيتفرق دمه في القبائل فلا يقدر بنو عبد مناف على حربكم فيرضوا منا بالدية . هذا عن السبب الاول ويعتبر هو السبب الرئيسي من اسباب الهجرة .
2 قبول أهل المدينة الإسلام ودخولهم فيه :
فقد عرض الرسول صلى الله عليه وسلم، في موسم الحج سنة 11 من البعثة ،واثناء خروجه صلى عليه وسلم مع ابى بكر الصديق وعلي بن ابي طالب الى منى فسمع اصوات رجال يتكلمون وكانوا ستة نفر من شباب المدينة وكانت تسمى يثرب ، فعرض النبي - صلى الله عليه وسلم - الاسلام عليهم فاسلموا ، وحملوا الاسلام الى اهل المدينة حتى لم يبق بيت من بيوت الانصار الا وفيه ذكر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
في موسم الحج سنة 12 جاء 12 رجلا وبايعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - بيعة العقبة الاولى . وارسل النبي - صلى الله عليه وسلم - مصعب بن عمير معهم الى المدينة . في موسم الحج سنة 13 من البعثة جاء 73 رجلا وامراتان وبايعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - بيعة العقبة الثانية . وبذلك اصبح للاسلام قواعد وارضية صلبة يستند عليها في المدينة .
دروس وعبر للهجرة
لا احد ينكر أن لهذا الحدث العظيم دروس وعبر لابد ان يقف عندها كل مسلم ،ليتعلم منها ويتمعن في النظر اليها لتكون له نورا ونبرسا في حياتها ،ومما لاشك فيه انه من الصعب ان نحصر عدد الدروس التى نستمدها من الهجرة النبوية الشريفة ،ولكننا نعرض هنا اهم هذه العبر حتى تكون لنا نبرسا في حياتنا :
1- الاخذ بالاسباب والتوكل على الله :
ويتضح لنا هذا عندما وكل النبي - صلى الله عليه وسلم - علي بن ابى طالب للنوم مكانه ،واصطحب أبي بكر معه؛ حيث لم يهاجرا إلى المدينة مع المسلمين، فعليّ رضي الله عنه بات في فراش النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر رضي الله عنه صحبه في الرحلة. بالاضافة إلى استعانته "ص" بعبدالله بن أريقط الليثي وكان خبيراً ماهراً بالطريق. ويتجلى كذلك في كتم أسرار مسيره إلا من لهم صلة ماسّة، ومع ذلك فلم يتوسع في إطلاعهم إلا بقدر العمل المنوط بهم.
2-اخلاص العمل لله الواحد الاحد:
ويتجلي هذا الدرس في قوله - صلى الله عليه وسلم - حينما هم بالرحيل من مكة "إنك من أحب بلاد الله إلى قلبي، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت"، وهذا طبيعي فيها نشأ - صلى الله عليه وسلم - وترعرع، وفيها نزل عليه - صلى الله عليه وسلم - الوحي، ولكن رغم ذلك لم يستكين إلى حبها وفضل حب الله عز وجل ورضاه ودعا ربه" اللهم وقد أخرجتني من أحب البقاع إلي فأسكني في أحب البقاع إليك". وهذا درس بليغ.
3-الثقة بالله في السراء والضراء :
ونرى ذلك حينما خرج - صلى الله عليه وسلم - من مكة مكرهاً فلم يجذع، ولم يذل، ولم يفقد ثقته بربه، ولما نصره الله سبحانه وتعالى بالإسلام وظهور المسلمين لم يزده زهوا وغرورا ؛ فعيشته يوم أخرج من مكة كارهاً كعيشته يوم دخلها فاتحاً ظافراً، وعيشته يوم كان في مكة يلاقي الأذى من سفهاء الأحلام كعيشته يوم أطلت رايته البلاد العربية، وأطلت على ممالك قيصر ناحية تبوك.
4- اليقين بأن العاقبة للتقوى وللمتقين:
فالذي ينظر في الهجرة بادئ الرأي يظن أن الدعوة إلى زوال واضمحلال. ولكن الهجرة في حقيقتها تعطي درساً واضحاً في أن العاقبة للتقوى وللمتقين. فالنبي - صلى الله عليه وسلم - يعلّم بسيرته المجاهد في سبيل الله الحق أن يثبت في وجه أشياع الباطل، ولا يهن في دفاعهم وتقويم عوجهم، ولا يهوله أن تقبل الأيام عليهم، فيشتد بأسهم، ويجلبوا بخيلهم ورجالهم؛ فقد يكون للباطل جولة، ولأشياعه صولة، أما العاقبة فإنما هي للذين صبروا والذين هم مصلحون.
5- ثبات أهل الإيمان في المواقف الحرجة:
ذلك في جواب النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر رضي الله عنه لمّا كان في الغار. وذلك لما قال أبو بكر: والله يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى موقع قدمه لأبصرنا. فأجابه النبي - صلى الله عليه وسلم - مطمئناً له: { ما ظنّك باثنين الله ثالثهما }.
فهذا مثل من أمثلة الصدق والثبات، والثقة بالله، والإتكال عليه عند الشدائد، واليقين بأن الله لن يتخلى عنه في تلك الساعات الحرجة، هذه حال أهل الإيمان، بخلاف أهل الكذب والنفاق؛ فهم سرعان ما يتهاونون عند المخاوف وينهارون عند الشدائد، ثم لا نجد لهم من دون الله ولياً ولا نصيراً.
6- أن من حفظ الله حفظه الله:
ويؤخذ هذا المعنى من حال النبي - صلى الله عليه وسلم - لما ائتمر به زعماء قريش ليعتقلوه، أو يقتلوه، أو يخرجوه، فأنجاه الله منهم بعد أن حثا في وجوههم التراب، وخرج من بينهم سليماً معافى. وهذه سنة ماضية، فمن حفظ الله حفظه الله، وأعظم ما يحفظ به أن يحفظ في دينه، وهذا الحفظ شامل لحفظ البدن، وليس بالضرورة أن يعصم الإنسان؛ فلا يخلص إليه البتة؛ فقد يصاب لترفع درجاته، وتقال عثراته، ولكن الشأن كل الشأن في حفظ الدين والدعوة.
7-ملازمة الصبر في جميع أعمالنا:
قد كان هيناً على الله عز وجل أن يصرف الأذى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - جملة، ولكنها سنة الإبتلاء يؤخذ بها النبي الأكرم؛ ليستبين صبره، ويعظم عند الله أجره، وليعلم دعاة الإصلاح كيف يقتحمون الشدائد، ويصبرون على ما يلاقون من الأذى صغيراً كان أم كبيراً.
8- أن من ترك شيئاً لله عوّضه الله خيراً منه:
فلما ترك المهاجرون ديارهم، وأهليهم، وأموالهم التي هي أحب شيء إليهم، لما تركوا ذلك كله لله، أعاضهم الله بأن فتح عليهم الدنيا، وملّكهم شرقها وغربها.
9-تعظيم لدور المرأة في الاسلام :
ويتجلى ذلك من خلال الدور الذي قامت به عائشة وأختها أسماء رضي الله عنهما حيث كانتا نعم الناصر والمعين في أمر الهجرة؛ فلم يخذلا أباهما أبا بكر مع علمهما بخطر المغامرة، ولم يفشيا سرّ الرحلة لأحد، ولم يتوانيا في تجهيز الراحلة تجهيزاً كاملاً، إلى غير ذلك مما قامتا به.
10-تعظيم دور الشباب في نصرة الحق:
ويتجلى ذلك في الدور الذي قام به علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين نام في فراش النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الهجرة. ويتجلى من خلال ما قام به عبدالله بن أبي بكر؛ حيث كان يستمع أخبار قريش، ويزود بها النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر.
11- حصول الأخوة وذوبان العصبيات:
ويتجلي ذلك عندما قام الرسول الكريم بالموخاءة بين الانصار والمهاجرين ةايثار الانصار تجاه المهاجرين والذي يتجل ذلك في ان كان الفرد من الانصار يقول لاخيه المهاجر ان لي زوجتين اطلاق واحدة وتتزوجها انت .
تطبيقات للهجرة الشريفة
بعد ان تعرفنا على أهم الاسباب التى ادت الى حدوث الهجرة والدروس التى اثمرت منها يأتى الحديث عن كيفية تطبيق دروسها في تطبيقات حياتنا من أجل بناء أمة إسلامية عالية الشأن وتتمثل أهم تطبيقات الهجرة الشريفة في :
1- العمل على تنمية طاقات الشباب ودفعهم الى الامام واستغلال مابداخلهم من طاقة عظيمة تمكنهم من تغيير الوضع الحالي ، فقد قدم على بن طالب دورا عظيم في الهجرة حيث نام رضي الله عنه في مكان الرسول الكريم، وهو يعلم ان قريش ستهوى عليه ولكنه لايمانه بعظيم عمله ثبت وتشجع وادى دوره على أحسن وجه.
2_الرفع من شأن المراة وحثها على التقدم ،وعدم الاقل من شأنها في المجتمع فهي التى بامكانها ان تخرج لنا دعائم لبناء امة اسلامية قوية ،تعمل على رفع رايه الاسلام عالية مرفوعة ،ولا احد فينا يستنكر الدور الذي ادته اسماء ينت ابىبكر عندما صمدت امام قادة قريش وابت ان تفشي سر رسول الله ،علاوة على ماقامت به اثناء الرحلة العظيمة من حرصها على ان تقدم المؤن للرسول الكريم وتذهب له بالطعام والشراب .
3_الالتحام والتعاون فيما بينا المسلمين ،والثبات امام الازمات ،والحرص الدائم ان يكون هدفنا واحد ،نسعى دائما من اجل الوصول اليه ،وان نتخلي عن روح العصبية التى قد تؤدي بنا الى الانقسام ،ومن ثم الى الانهزام الذي لايجني ثماره الا نحن ،ولايخفى علينا ما كنا بين المهاجرين والانصار من تلاحم وايثار وهم ليسوا ابانا بلد واحد ،وانما قد جمعهم الاسلام ليوحد كلمتهم وهدفهم في الحياة الاوهو بناء دولة اسلامية عاية الشأن.
4_ان يتذكر شبابنا ان الصبر دايئما تكون نهايته سعيدة ، الا انه يجب ان يكون مصحوب بالتوكل على الله، والاخذ بالاسباب ،فعلى شبابنا ان يسعوا ويجتهدوا في عملهم مع الصبر ،وليعلموا دايئما ان بعد العسر يسر .
5_ان نضع ثقتنا في الله ،وان نكون على يقين تام بان الله سبحانه وتعالي سيخرجنا من حالنا هذا ،كما اخرج رسوله الكريم من ظلام الجاهلية الى نور الاسلام
نهاية يجب علينا ونحن نتعلم و نتابع هذه الدروس والاحداث ان الحب لرسول الله يبدأ من الاتباع والالتزام بكل ما جاء به الرسول وهذا التوجيه الرباني الواضح في ان حب الله عز وجل يبدأ ويتحقق باتباع الرسول الكريم والنبي العظيم صلى الله عليه واله وسلم ،فعلينا ان نلتزم بما جاء به الرسول نصره له ،ومن اجل رفع شأن امتنا .
ــــــــــــ(1/100)