حكم العمرة في شهر رجب
السؤال
البعض من الناس يفضلون العمرة في شهر رجب عن الأشهر الأخرى، فهل في هذا خطأ، أفيدونا جزاكم الله خيراً؟
الجواب
أنا قلت لكم: الأصل في العبادات وفي توقيتها وتحديد شكلها هو شرع الله عز وجل، ومعنى شهادة أن محمداً رسول الله أن لا نعبد الله إلا بما شرع، وعلى هذا فإن من أوقع العمرة في رجب إن كان جاء بدافع شهر رجب، ومخصصاً شهر رجب لهذا الأمر فهو مبتدع؛ لأن شهر رجب لم يرد في فضل العمرة فيه أي دليل، ولم يرد في أي شهر من الشهور إلا في شهر رمضان كما جاء في الحديث عن رسوله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (عمرة في رمضان تعدل حجة) أو تعدل حجة معي، أما ما سواه من الشهور فليس فيها وقت محدد للعمرة لا في شهر رجب ولا في شهر ربيع الأول الذي وافق مولد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا غير ذلك، فمن جاء معتمراً في شهر رجب؛ لأنه وافق فرصة له كإجازة الربيع أو ما أشبه ذلك أو لأي سبب من الأسباب فلا شيء عليه، لكن من جاء معتمراً في شهر رجب يقصد شهر رجب فهو مبتدع، فعليه أن يستغفر الله عز وجل ويتوب إليه، وأن لا يخصص للعمرة وقتاً معيناً، فإن العمرة جائزة في كل السنة.
أما شهر رجب فكونه يختاره لأنه موعد الإسراء والمعراج بالرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا وإن كان له أهمية لكنه ما ورد دليل على تخصيص هذه الفترة بنوع من أنواع العبادات، كليلة النصف من شعبان التي يتخذها بعض الناس وقتاً للعبادة لم يرد فيها دليل، وكما هو يوافق يوم ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم، كل هذه عبادات ما شرعها الرسول صلى الله عليه وسلم أبداً، وإنما الذي شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم أن تكون العمرة دائماً وأبداً، ولم يرد دليل إلا في شهر رمضان كما قلت لكم.(48/23)
حكم إهداء قراءة القرآن للميت
السؤال
ما حكم اجتماع جماعة من الناس لقراءة القرآن، وعند الانتهاء يهدون ثواب ما قرءوه إلى الأموات؟
الجواب
أما بالنسبة للاجتماع لقراءة القرآن فهذا طيب قال صلى الله عليه وسلم: (وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة)، إلى غير ذلك.
أما إهداء الثواب للميت فقد اختلف العلماء فيه، وأفضل وأعدل الآراء التي أعتقد إن شاء الله أنها خير أنهم قسموا العبادات إلى قسمين: عبادات مالية، وعبادات بدنية، أما العبادات المالية كالصدقة وألحقوا بها الحج؛ لأن فيه دليلاً عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذه العبادات إذا أهداها للميت فلعله أن يستفيد منها الميت، يعني: كأن تتصدق أو تحج أو تعتمر فقد وردت أدلة في إهدائها للميت، أما العبادات البدنية الأخرى فإنه لم يرد فيها دليل عن الرسول صلى الله عليه وسلم، والله تعالى يقول: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39]، كل إنسان له سعي يحاسب عن سعيه يوم القيامة.
وعلى هذا فإن من أهدى القرآن لميت لم يرد الدليل في ذلك فقد يدخل في البدع ولكن نقول: يا أخي! إذا ختمت القرآن فادع للميت؛ لأن الإنسان له عند ختم القرآن دعوة مستجابة، كما جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا خير من أن تهدي له هذه الختمة، أما إهداء الختمة فإنها عمل بدني محض لا يوجد دليل عن الرسول صلى الله عليه وسلم على جواز إهدائه، فالأولى ترك ذلك، أما الأعمال المالية والحج والعمرة والطواف فهذه أرجو من الله سبحانه وتعالى أن تصل إلى الميت ويستفيد منها، وقد وردت أدلة في ذلك.(48/24)
حكم التعامل مع شركة التأمين
السؤال
تحدثت عن معصية الربا، ولكن يجري الآن التسويق عن التأمين سواء داخل المكاتب أو في الشركات، السؤال: هل من كلمة حول التأمين على الحياة التأمين على المنازل التأمين على السيارات وغيرها، والتأمين على الحوادث؟
الجواب
أما بالنسبة للربا فتحدثنا عنه بما يكفي إن شاء الله، أما بالنسبة للتأمين فهو باطل من عدة وجوه أولاً: هو عدم ثقة بالله عز وجل، لماذا هذا الإنسان بدل أن يعتمد على شركة تأمين لا يعتمد على الله سبحانه وتعالى، وأن يحسن الظن بالله عز وجل؟! والله عز وجل يقول في الحديث القدسي: (أنا عند ظن عبدي بي)، لماذا تؤمن على حياتك وتؤمن على منزلك وعلى سيارتك؟ فهذا هو فقد ثقة بالله عز وجل.
ثانياً: هو من الميسر الذي يقول الله عز وجل عنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة:90]، والميسر مأخوذ من اليسر، فكل مال يحصل عليه الإنسان بيسر وسهولة هو نوع من الميسر، كيف يكون التأمين ميسراً؟ نعم، أنا قد أدفع طول عمري لشركة التأمين على بيتي أو على سيارتي ولا أحتاج منهم قرشاً واحداً في يوم من الأيام، إذاً بم يستحلون هذا المال الذي دفعته لهم طول عمري أو في سنوات معدودة؟ ثم بعد ذلك لا أستفيد منهم مرة واحدة، وقد يكون العكس، قد لا يدفع إلا مالاً قليلاً لهم ثم تصيب هذا الإنسان نكبة في سيارته أو في بيته أو في نفسه فيدفعون الدية وحينئذ يكون قد ظلمهم هو بدل أن كانوا ظلموه في الحالة الأولى، حيث أخذ منهم أكثر مما أخذوا منه، والميسر دائماً هو كل مال يؤخذ بيسر وسهولة دون أن يكون مقابله مشقة أو تعب يقدمه هذا الإنسان، وعلى هذا فإن القمار والمقامرة أمر محرم، إذاً: هذا التأمين وشركات التأمين إما أن تأخذ أموال الناس ولا تعطيهم مقابل ذلك حينما لا تصيبهم نكبة، وإما أن تعطيهم أكثر مما أخذت منهم فيكونون ظلموا هذه الشركة إذاً: هو مبني على الغرر، وكل معاملة بنيت على الغرر فإنها معاملة محرمة لاغية باطلة.(48/25)
حكم الصيام في رجب وشعبان
السؤال
هل الصيام في بعض أيام شهر رجب وشعبان أو تقديم بين يدي رمضان صيام، هل هناك ما يرغب في ذلك أم أن هذا بدعة؟
الجواب
علمنا الرسول صلى الله عليه وسلم مواقيت الصيام المسنونة، فمثلاً ثلاثة أيام من كل شهر، فلو صام الإنسان ثلاثة أيام من شهر رجب نقول: هذه سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو صام الإثنين والخميس من شهر رجب قلنا: هذه سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو صام شهر رجب كله قلنا: هذه هي البدعة، ما هو الدليل على بدعيته؟ الرسول صلى الله عليه وسلم ما ورد أنه صام أبداً شهر رجب كله، أنت أحدثت شيئاً في دين الله ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا فعله الخلفاء الراشدون، لكن لو صمت شهر شعبان كله قلنا: هذا طيب؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم حث على صيام شعبان، ولو صمت ستة أيام من شوال قلنا: هذه سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو صمت مثلاً يوم عرفة فهذه سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ورد فيها دليل، ولو صمت العشر الأول من ذي الحجة فهذه سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ورد فيها دليل، لو صمت يوم التاسع والعاشر من محرم، قلنا: هذه سنته صلى الله عليه وسلم، ورد فيها دليل، ولو صمت يوماً وأفطرت يوماً طول حياتك قلنا أيضاً هذا من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو صيام داود، لكن تصوم شهر رجب ما هو دليلك؟ لم يرد من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم تخصيص شهر رجب بالصيام، ولذلك فإني أنصح أي إنسان يعذب نفسه بهذا الصيام أنه فعل شيئاً ما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم، إذاً: هو غير متابع للرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما هو متبع أهواءً أو متبع طريقة ورثها من آبائه وأجداده أو من مجتمعه، والله تعالى يقول: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} [البقرة:170].
إذاً نقول: يا أخي! اتق الله حتى العبادات التي ترهق فيها نفسك وتتقرب فيها إلى الله لا بد أن تتحرى فيها متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلا فإنها بدعة وكل بدعة ضلالة.(48/26)
بيان معنى (وشهد شاهد من أهلها)
السؤال
لقد استمعت لشريط لك بعنوان: عبر من قصة يوسف عليه السلام، ولقد ذكرت في تلك المحاضرة الشخص الذي شهد على امرأة العزيز والذي قال الله تعالى فيه: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} [يوسف:26]، فالسؤال هو: هل هو طفل رضيع الذي شهد بذلك؟
الجواب
نعم الذي ورد في الأثر أنه طفل رضيع، ولذلك تعتبر آية ومعجزة ليوسف عليه الصلاة والسلام، ولذلك جاء في الحديث أنه ما تكلم في المهد إلا ثلاثة فذكر الرسول صلى الله عليه وسلم: صاحب جريج، وصاحب يوسف، وصاحب الأخدود الذي قال لأمه لما وقفت على حافة الأخدود: يا أماه! اقدمي ولا تقاعسي إنك على الحق المبين، والرابع هو عيسى عليه الصلاة والسلام، فهؤلاء هم الذين تكلموا في المهد.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(48/27)
كيف وأين يتربى الرجال؟ [1]
لقد خلق الله الخلق وجعلهم ذكوراً وإناثاً، وميز الذكور عن الإناث بصفات خَلْقية، وهناك صنف من الذكور تميزوا بأخلاق وقيم، وصفات وشيم، رفعتهم رتبة على بني جنسهم من الذكور، وهم الذين سماهم الله رجالاً، وهؤلاء الرجال لا يمكن أن يصيروا كذلك، إلا إذا تربوا في المساجد التي هي مصانع الرجال، ومنها يتخرج الأبطال.(49/1)
تربية الرجال في القرآن (سورة النور أنموذجاً)
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً، وأشهد أن لا إله إلا الله الذي خلق عباده حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، وحجة على الناس أجمعين، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده؛ فجزاه الله عنا وعن الأمة الإسلامية خير الجزاء، وصلى الله عليه وسلم وبارك، وعلى آله وأصحابه والتابعين إلى يوم الدين.
أما بعد: قبل الشروع في الحديث عن مواطن تربية الرجال أو عن مصانع الرجال، نستعرض آيات من كتاب الله عز وجل أشارت إلى هذا الموضوع بإسهاب، وبينت الجانب السلبي والإيجابي بالنسبة لتربية الرجال.
يقول الله عز وجل: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ َالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور:35 - 36].
تحدثت الآية الأولى عن نور الله في قلب المؤمن، وكيف ينمو ويترعرع هذا النور، وما شبهه بالنسبة لما يشاهده البشر في عالم الكون، وإن كان طائفة من العلماء قد ذهبوا في تفسير هذه الآية إلى أن المراد هنا: نور الله عز وجل الذي هو اسم من أسمائه، وصفة من صفاته، لكن ذلك بعيد؛ لأن نور الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يشبه أي شيء من المخلوقات، فالذي أميل إليه في هذه الآية: أن المراد بهذا النور المذكور هو نور الإيمان الذي يقذفه الله عز وجل في قلب المؤمن.
وقد جاءت هذه الآية بعد إسهاب طويل، وشرح مفصل عن الفاحشة، وعن أسبابها ووسائلها، وقطع الطرق الموصلة إليها، ابتداء من أول سورة النور: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور:1]، إلى آخر آية من المقطع الأول من هذه السورة: {وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِنْ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [النور:34].
وأنت ترى في الآية التي هي المطلع للسورة ((سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا))، والآية التي هي الخاتمة لهذا الجزء من هذه السورة: ((وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ))، وما بين هاتين الآيتين، تربية عظيمة على الأخلاق والفضيلة، ومحاربة فريدة للرذيلة وفاحشة الزنا التي هي أعظم الفواحش التي يفعلها الناس فيما بينهم! وقد تحدثت الآيات بإيجاز بسيط عن الحدود، ثم عن الحديث عن الفاحشة، وعدم إنكار هذا الحديث، وعدم وجود رادع يقابل هذا الحديث، ثم تحدثت بعد ذلك عن الاختلاط الذي أصبح الآن لوثة عصرية! ثم تحدثت -بعد ذلك- عن النظر وعن غض البصر، ثم تحدثت بعد ذلك عن الزواج الذي يعتبر الحصن الحصين لهذا الإنسان، فحينما يتزوج يكون في مأمن -بإذن الله عز وجل- من هذه الفاحشة.
فهذه تربية خلقية عظيمة، ومهما بذل المربون، وعلماء الاجتماع والأخلاق، فلا يمكن أن يصلوا إلى جزء منها.(49/2)
تفسير قوله تعالى: (الله نور السموات والأرض)
يقول تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور:35]، المراد بالنور هنا: نور الإيمان الذي يقذفه الله عز وجل في قلب المؤمن، أي: أن الذين لا يتأثرون بهذه المغريات التي تسبب الفاحشة والجريمة في المجتمع، هم الذين عصم الله عز وجل قلوبهم بالنور، فقال: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}، وهذا يؤيد هذا المعنى الذي اخترناه؛ لأن نور الله لا يشبه بمخلوق من المخلوقات، ويؤيد هذا المعنى قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: (القلوب أربعة -ثم ذكر من هذه القلوب- قلب فيه مثل السراج يزهر)، ويقصد بذلك عليه الصلاة والسلام نور الإيمان.
ونتعرض بإيجاز لمعنى هذه الآية التي هي آية النور: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}؛ حتى نصل إلى ما نريد.
{اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} أي: نوره في قلب المؤمن.
{مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} [النور:35] المشكاة: هي الكوة في الجدار التي لا تنفذ من الخلف، وتعكس الضوء إلى الأمام.
{فِيهَا مِصْبَاحٌ} [النور:35] المراد بالمصباح: السراج.
{الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ} [النور:35] الزجاج هو الأجسام الشفافة التي تشف عما وراءها، وتعكس الضوء بقوة.
{الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} [النور:35] الكوكب الدري: هو النجم المضيء في السماء، مأخوذ من الدَرّ: وهو الدفع، أو من الدُرّ: وهو اللمعان.
ثم يقول الله عز وجل في وصف هذا السراج: {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} [النور:35] أي: ليست بالشرقية فحسب، وليست بالغربية فحسب، بل هي شرقية غربية، أي: أن هذه الزيتونة تصيبها الشمس وقت الشروق وتصيبها وقت الغروب؛ فيكون أصفى لزيتها وأنقى له، وحينئذٍ يكاد هذا الزيت أن يضيء ولو لم تمسسه نار.
يقول الله عز وجل: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور:35] أي: نور السراج، مع نور الكوة التي تعكس الضوء، مع نور الزجاجة، مع نور زيت هذه الزيتونة الذي يكاد أن يضيء ولو لم تمسسه نار!(49/3)
الإسلام دين الوسطية والاعتدال
بعض علماء العصر ذهبوا في تفسير هذه الآية مذهباً آخر، فقالوا: هذا يحكي الملة المحمدية، فإنها ليست بشرقية وليست بغربية، لا تستمد منهجها من الشرق ولا من الغرب، ولكنها تستمد منهجها من الله عز وجل، ولربما يصلح هذا المعنى، خصوصاً في هذه الفترة التي شعر العالم الإسلامي فيها بالتبعية إما للشرق أو للغرب، ودين الإسلام -كما نعرف عن كل مناهجه وجزئياته وكلياته- دين وسط بين طرفي نقيض، فإذا كانت هذه الأنظمة المعاصرة تميل إما إلى اليمين أو إلى اليسار -كما اصطلح عليه علماء العصر- فإن ملة محمد صلى الله عليه وسلم ملة قائمة بذاتها ليست بالشرقية وليست بالغربية، وإنما هي ملة معتدلة بين طرفي نقيض، وهذا شيء مشاهد في دين الله عز وجل الذي هو دين الإسلام، فإنه لا يخضع للشرق ولا للغرب، كما أنه يكون دائماً وسطاً بين أنظمة الشرق وأنظمة الغرب.
على سبيل المثال: الغرب لم يضع نظاماً للمال أبداً! بل أطلق الحرية لهذا الإنسان، فله أن يكسب المال من الحلال أو من الحرام، من الربا أو من أي طريق آخر، وليس في المال حقوق ولا نفقات، ولا واجبات ولا زكاة.
وجاء الشرق بملة مضادة لهذه الملة فقال: إن المال ليس ملكاً لهذا الإنسان بمفرده، وإنما هو ملك للدولة ولجميع الناس.
وكلاهما انحرف وأخطأ، فإن الله عز وجل هو الذي أباح الملكية الفردية لهذا الإنسان، وجعل ذلك مطلباً من مطالب هذا الإنسان، وشرع قيوداً لكسب المال ولإنفاق المال.
وأيضاً: نجد أن الصوفية المعاصرة تقدس الروح وتهتم بها، وتهمل الجسد، وتقابلها الشيوعية الملحدة، فهي تقدس الجسد، وتهمل الروح، وأما الإسلام فإنه يعتني بالروح والجسد معاً، ويتوازن في معاملتهما.
وعلى هذا فقس في جميع الأنظمة القائمة، ولذلك فإن ملة الإسلام ليست شرقية ولا غربية وإنما هي دين وسط؛ ولذلك يقول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة:143]، سواء كانت في الجغرافية، أو في الأفكار، أو في العبادات، أو في المعاملات، أو في أي شيء.(49/4)
أين يتربى الرجال؟
هذا القلب الذي اتصف بهذه الصفات المذكورة في الآية، ضرب الله عز وجل له المثل بأقوى نور عرفه الإنسان وقت نزول الآية، والله تعالى لا يخاطب الناس بما لا يعلمون، فلا يعدو علم الإنسان -قديماً- بالنسبة للأضواء اللامعة من أن يرى سراجاً في كوة غير نافذة، وعليه زجاجة، وهذه الزجاجة لامعة مضيئة تعكس الضوء كاملاً، ويوقد هذا السراج من زيتونة لا شرقية ولا غربية.
هذا الخبر يثير تساؤلاً في نفس الإنسان، لا سيما من يبحث عن الحق، وهو أن هذا قلب طاهر وعظيم! فأين يوجد هذا القلب؟ وأين يتربى هذا القلب؟ وأين ينشأ؟ وأين يولد؟ وأين مكانه؟ والجواب في قوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36]، ومن هنا نعرف كيف يتربى الرجال؟ وأين يتربى الرجال؟ وأين يولد الرجال؟ {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ} [النور:36 - 37] , وعلى هذا يقول المفسرون في قول الله تعالى: ((فِي بُيُوتٍ)) أنها متعلقة بـ (يوقد)، وفي قراءة سبعية: (توقد)، أي: هذا النور يوقد في بيوت أمر الله عز وجل أن ترفع وتُعظم وتقام وتنظف وتطهر، وهي المساجد على رأي جمهور العلماء.
وعلى هذا: فإن المساجد هي مكان ولادة هذا النور، ونشأة هذا الإيمان، وتربية هؤلاء الرجال، ولعل ذلك يقابل ما مر في أول الآية حينما ذكر الله عز وجل الفاحشة، ومواطنها، وأسبابها، ووسائلها، ومقتضياتها، من النظر الحرام، والاختلاط الحرام، والحديث عن الجريمة والفاحشة الذي يسهل الوصول إليها، ويجعلها مألوفة تقبلها الآذان، ثم تتحدث عنها الألسن وتلوكها، ثم يصدق الفرج ذلك أو يكذبه؛ لعل هذا النور الذي ذكره الله عز وجل في المساجد يقابل تلك المواطن التي تنتشر فيها الفاحشة، وعلى هذا فإن من أراد التحصين لنفسه ولأمته ولنشئه، فعليه أن يربي هذا النشء في المسجد، {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36]، قال بعض المفسرين: (في بيوت) هي: متعلقة بـ (يسبح)، أي: يسبح له في بيوت رجال.
{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} أي: أمر وأوجب، ووصى وفرض؛ ولذلك فإن بناء المساجد أمر مرغب فيه، سواء في الآيات أو في الأحاديث النبوية، كما في الحديث: (من بنى لله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة)، وهذه المساجد هي بيوت الله عز وجل، ويجب أن تصان من كل ما لا يليق بها من الكلام الحرام، والعمل الحرام، وأحاديث الدنيا، وما أشبه ذلك مما يجب أن تنزه عنه المساجد.
وحينما تكون المساجد بهذا المستوى وهذا القدر فإنها تربي هؤلاء الرجال؛ ولذلك يقول الله تعالى: (يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ)، والمراد بالغدو أول النهار، والمراد بالآصال آخر النهار، أي أن المؤمنين في مداومة واستمرار على طاعة الله وذكره وتسبيحه؛ ولذلك فإن من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: (رجل قلبه معلق بالمساجد)، أي: دائماً ينتظر الصلاة، ويلازم المساجد، ويراقب مواعيد الصلاة والأذان، فقلبه معلق بالمسجد دائماً، كلما انتهى من صلاة ينتظر الصلاة الأخرى؛ فهذا من السبعة الذين يظلهم الله عز وجل في ظله يوم لا ظل إلا ظله، أي: في يوم القيامة.(49/5)
معاني الرجولة وصفات الرجال
تبين من الآية أن المقصود بـ (رجال) أهل المساجد، ومن يتربون في المساجد، وكلمة (رجال) لم ترد في القرآن العظيم إلا في ثلاثة مواضع، وكل موضع من هذه المواضع يدل على الثناء.
الموضع الأول: في قوله تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ} [النور:36 - 37].
الثاني: في قول الله تعالى عن الأنبياء الذين هم صفوة البشرية: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ} [الأنبياء:7].
الثالث: عند ذكر المجاهدين في سبيل الله، وهم الذين حققوا البيعة بينهم وبين الله عز وجل؛ فسماهم الله تعالى رجالاً، فقال: {مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} [الأحزاب:23].(49/6)
الرجال المستكملون سمات الرجولة
كلمة (رجال) تعطينا معنيين اثنين: المعنى الأول: الذكورة، أي: أنهم ليسوا بنساء، فإن الرجل خلاف المرأة، والرجل يقابل المرأة والمرأة تقابل الرجل، وهذا هو المتبادر إلى أذهان كل الناس؛ مثل أن نقول: صلاة الجماعة واجبة على الرجال وليست بواجبة على النساء.
المعنى الثاني: وهو المعنى الأعظم والأشمل، وهو أن الرجال هم الذين يحققون ويثبتون معنى الرجولة الحقة، فليس كل ذكر يكون رجلاً، فكم من الذكور من تنازل عن رجولته؟ وكم من الذكور من لم يصل بعد إلى دور الرجال؟! لأن كلمة (رجال) في الآيات الثلاث التي ذكرناها تعني الذين اكتملت فيهم سمات الرجولة وصفات الرجال، وحققوا معنى الرجولة، فهم الرجال حقاً! وهذا الشيء يشاهده الخاصة والعامة، فإذا أعجبك ولدك قلت له: أنت رجل؛ مع أنك تعرف أنه رجل، لكنك في الحقيقة تقصد بقولك له: رجل، أي: حققت معنى الرجولة، واكتملت فيك صفات الرجال.
وعلى هذا فإنك إذا أردت أن تمدح أحد الناس، فإنك تقول: فلان رجل! مع أن الناس يعرفون أنه رجل وليس بأنثى، لكنك تقصد بذلك أن صفات الرجال قد توافرت فيه، وهذا هو المعنى المقصود في هذه الآية، فليس معنى (رجال) ذكوراً، ولكن معناها: رجال استوفوا كل صفات الرجال، واستكملوا كل أخلاق الرجال، فهم أبعد الناس عن الأنوثة!(49/7)
ترفع الرجال عن التخنث والتشبه بالنساء
فهذه الكلمة لا يستحقها إلا أهل المساجد وعباد الله عز وجل، ونأسف جداً لأن كثيراً من أشباه الرجال لم يصلوا إلى الرجولة الحقيقية بعد، بل هم لا يفكرون في ذلك ولا يريدونه، وهذا شيء نشاهده في أوساط (أشباه الرجال!)، ممن تحولوا عن رجولتهم في عصرنا هذا، فأصبحوا يسابقون البنات إلى الموضات، حتى لبسوا الذهب والحرير، وضيقوا ملابسهم، وغيروا مشيتهم، ولبسوا الشعر الصناعي، ولربما يرققون أصواتهم كالمرأة، وهذا يعتبر حدثاً عجيباً في تاريخ البشرية، وإن كان قد ورد أن هؤلاء أشباه الرجال سوف يأتون في زمن متأخر كما ورد في أثر أنا لا أعرف صحته، لكن له شاهد من الواقع.
عمر بن الخطاب رضي الله عنه حدثه الرسول صلى الله عليه وسلم عما يحدث في آخر الزمان، فاستغرب عمر ما سيحدث؛ لأنه شيء لا يقبله العقل لولا أنه خبر من أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا عمر! ترك القوم الطريق) أي: سيتركون الطريق (وخدمهم أبناء فارس -ونحن نقول الآن: وبنات فارس- وتزين الرجل منهم بزينة المرأة لزوجها، يتأولون كتاب الله، يقولون: {مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ} [الأعراف:32])، وهذا أمر نشاهده في الواقع، فإن الذين نزلوا عن مستوى الرجولة يتأولون ذلك، وهم في كثير من الأحيان قد لا يعرفون من القرآن إلا هذه الآية، فيقولون: {مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ}، فهؤلاء يجب أن نلغيهم من قائمة الرجال! لكن لا ندري أين نضعهم؟! لأنهم لم يصلوا بعد إلى الأنوثة المكتملة! وهؤلاء أمرهم أعجب من أن تترجل المرأة، ولو أن المرأة أرادت أن تتشبه بالرجل، ما كان ذلك كتشبه الرجل بالمرأة؛ لأن المرأة تريد أن تعلو درجة! فإن الله عز وجل يقول: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة:228]، ويقول: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} [آل عمران:36]، مما يدل على أن الرجل أعلى درجة من المرأة، لكن حينما يريد الرجل أن يهبط إلى هذه الدرجة، يصبح الأمر عجيباً وغريباً، ولذلك يقول الشاعر: وما عجبي أن النساء ترجلت ولكن تأنيث الرجال عجاب أي: أن المرأة عندما تترجل، فليس هذا بعجيب، لكن الرجل أو الشاب حينما يتأنث يصبح الأمر عجيباً؛ إذ كيف يتنازل عن حق من حقوقه، وميزة من ميزاته التي اختصه الله بها؟! المهم أن كلمة (الرجال) تعطينا هذا المعنى المكتمل، وتعطينا هذه الحقيقة الواضحة، ولذا فإن أي إنسان -بعد أن يفهم معنى كلمة رجال وما يتميزون به- يتطلع إلى المواطن التي يتربى فيها هؤلاء الرجال، حتى لا يكون من أشباه النساء، وحتى يكون من الرجال الذين اكتملت رجولتهم وتمت شخصيتهم فلم يتنازلوا عن شيء منها أبداً، بل هم يتطلعون إلى مستوىً أعلى، فلو تيسر لهم أن يكونوا فوق مستوى الرجال فلن يبخلوا على أنفسهم بالتقدم!(49/8)
المساجد مواطن تربية الرجال
ننتقل إلى الموطن الذي يتربى فيه الرجال، والله عز وجل قد ذكر أين يتربى الرجال فقال: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور:36 - 37].
ومن هنا نعرف أن النور الذي ذكره الله عز وجل هو النور الذي اهتدى به هؤلاء الرجال، فعرفوا الله عز وجل به، وعرفوا مكانتهم في هذه الحياة، وعرفوا وزنهم وقيمتهم؛ لذلك فهم لا يبغون بها حولاً، ولا يرغبون عنها بدلاً.
هؤلاء الرجال الذين نشئوا في المسجد، فهم من أبناء المساجد، وقلوبهم معلقة بالمساجد، يتصفون بثلاث صفات: أولاً: هم يسبحون الله عز وجل في كل حال من أحوالهم، ويعظمون الله كما يليق بجلاله وعظمته.
ثانياً: هم رجال.(49/9)
لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن طاعة الله
ثالثاً: لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة.
ومن العجيب أن لهم تجارة، وأن لهم أموالاً، وأن لهم مصالح، لكن هذه المصالح، وهذه الأموال التي بأيدي هؤلاء الرجال الذين عرفوا الله عز وجل حق المعرفة، وآمنوا به حق الإيمان؛ لم تلههم، فهم لم يضعوا هذا المال وهذه المصالح في قلوبهم كما يضعها (أشباه الرجال) لكنهم يضعونها في أيديهم، ويضعون خشية الله عز وجل ومراقبته ومحبته في سويداء القلوب.
إذاً: هم رجال ليسوا عالة على غيرهم، كما يظن بعض الناس أن معنى قوله تعالى: {لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور:37] أنه ليست لهم تجارة، وليس لهم بيع، وليست لهم مصالح دنيوية، لا.
فالمسلم مطالب أن يعمر الحياة، وأن يعمل للحياة، وألا يكون عالة على غيره، وأن يكون عضواً فعالاً في هذا المجتمع، وأن يقدم الخدمات لنفسه ولأهله وذويه ولأمته، وأن يكون عنصراً نشيطاً حياً، لكن يجب عليه ألا يضع شيئاً من ذلك في قلبه! بل يجب أن يفرغ قلبه لخشية الله عز وجل وللحياة الآخرة، وعليه أن يضع هذه الأشياء في يده.
هذا هو المعنى المفهوم من قوله تعالى: (رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ) أي: لهم تجارة، ولهم بيع، ولهم دكاكين، ولهم مصانع، ولهم متاجر، ولهم أعمال، لكن هذه الأشياء كلها يعتبرونها وسيلة وليست بغاية، أما لو انزووا في زاوية من زوايا الحياة، وأصبحوا عالة على المجتمع، وأصبح غيرهم ينفق عليهم، وأصبحوا يتركون دفة الحياة يديرها من لا خلاق له ولا دين له، فإن هذا سوف يُحدث خللاً في المجتمع، فينتشر الفساد، وتنتشر المعاملات المحرمة كالربا، وتفسد الحياة كما هو حاصل في عصرنا الحاضر في بعض الأماكن.
هؤلاء الرجال لهم تجارة، ولهم بيع، والدليل على ذلك: أن أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مر ذات يوم بالسوق، وكان الناس قد فتحوا دكاكينهم يبيعون ويشترون، فإذا بالمنادي ينادي: حي على الصلاة! حي على الفلاح! وكان أحدهم قد رفع الميزان بيده لكي يزن البضاعة، فرمى بالميزان على الأرض، وأغلق الدكان، ومشى إلى المسجد، فقال الصحابي: انظر يا أخي! هؤلاء هم الذين قال الله عز وجل فيهم: (رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ).(49/10)
ليسوا عالة على غيرهم في الحياة
أما الذين يقبعون في زاوية من زوايا الحياة، ويصبحون عالة على غيرهم، ويظنون أن الدين رهبانية وانزواء! وأنه لا يسمح للمسلم بأن يزاول أي مهنة من المهن، أو أي صنعة من الصنعائع! حتى ظن بعض الناس أن شيئاً من هذه الصناعات يؤثر على السمعة وعلى الشرف؛ إذا اتجه الناس هذا الاتجاه، فإنهم قد خالفوا الشرع واتجهوا خلاف الشرع الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند ربه! (جاء ثلاثة نفر إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا لإحدى زوجاته: ماذا يعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم في السر؟ فأخبرتهم بعمله في السر، وأنه يعمل للدنيا وللآخرة، فكأنهم تقالوا هذا العمل، فقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل ولا أرقد، وقال الثاني: وأما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الثالث: وأما أنا فلا أتزوج النساء! فلما علم الرسول صلى الله عليه وسلم بمقالة هؤلاء غضب غضباً شديداً، ثم صعد المنبر وقال: أيها الناس! أما والله إني لأتقاكم لله وأخشاكم له، أما إني أصلي وأرقد، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني).
وقد ذكر الله في القرآن الكريم قصة الرجال العقلاء العلماء الذين كانوا يوجهون النصائح إلى قارون، وهو الرجل الذي تنكر لله عز وجل، ونسي النعمة والمنعم! فكانوا يوجهون له النصائح بأن يستغل هذه الثروة وهذا المال فيما يرضي الله عز وجل، فكان من نصائحهم: {وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا} [القصص:77]، قال بعض المفسرين: أي: خذ من الدنيا بنصيب، لكن لا تجعل الدنيا أكبر همك.
وهذه الوصية التي يجب أن نقدمها دائماً لمن أراد أن يصل إلى مصاف الرجال.
إذاً: هذه هي الصفة الثالثة من صفات هؤلاء الرجال: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} [النور:37]، فيشتغل للدنيا ويشتغل للآخرة، لكن عليه أن يضع كل واحدة في موضعها المناسب، بحيث لا تطغى إحداهما على الأخرى، وبحيث لا ترتفع إحداهما على كفة الأخرى.(49/11)
خشية هؤلاء الرجال وخوفهم من يوم القيامة
هؤلاء الرجال أهل الصلاح والاستقامة، عرفوا الله عز وجل حق المعرفة، وعبدوه حق العبادة، وكان المتوقع لمثل هؤلاء أن يطمئنوا ولا يخافوا؛ لأن الخوف يجب أن يكون من قوم يعيثون في الأرض فساداً، ويدمرون الأفكار والأخلاق، لكن العجب أن هؤلاء الذين هم في طاعة مستمرة لله عز وجل، وقد وصلوا إلى درجة الرجال، وشغلوا حياتهم بتسبيح الله عز وجل، وكانت لهم تجارة؛ وضعوها في أكفهم، وقدموا خشية الله على كل المصالح الدنيوية؛ يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار! ومن هنا على المسلم أن يأخذ درساً من هؤلاء، فمهما بلغ من الصلاح والتقى والإيمان والخشية لله عز وجل وتطبيق أوامر الله، فيجب عليه أن يكون خائفاً دائماً، قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: (إنه لا يأمن غداً إلا من خاف وحذر في هذا اليوم).
وجاء في الأثر: من فعل الذنب وهو يضحك، دخل النار وهو يبكي! المؤمن مهما يقدم من الطاعات والحسنات والخير، فإن عليه أن يكون خائفاً على الدوام، لا لأن الله عز وجل سوف يهضمه شيئاً من عمله، فإن الله عز وجل يقول: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً} [طه:112]، ولكنه يخشى من سوء الخاتمة يخشى ألا يتقبل الله عز وجل منه هذا العمل يخشى الرياء أو السمعة وغيرهما من مفسدات الأعمال يخشى ألا يكون قد أدى كل الواجب الذي أوجبه الله عز وجل عليه؛ لذلك فهو من الذين: {يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور:37].
يوم القيامة يوم عظيم يجعل الولدان شيباً، يقول الله عز وجل عن الصالحين: {يَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} [الإنسان:7]، ويقولون: {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} [الإنسان:10]؛ ولذلك فإن هؤلاء لا يلامون أن يخافوا؛ لأنه يوم تقفز فيه القلوب عن مواطنها من شدة الخوف إلى الحناجر، وهو يوم يرتفع فيه البصر من شدة الذعر والخوف إلى أعلى الرأس، وكأنه قد تحول من مكانه من شدة الخوف! وهذا الشيء نشاهده حينما نخاف من أي أمر من الأمور المخيفة، أما أولئك فإنهم يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار، تتقلب فيه القلوب؛ لأن القلوب ترى أشياء لم تكن تراها في الدنيا، وتتيقن منها، والأبصار تشاهد أشياء لم تكن تشاهدها في الدنيا، إنما كانت توصف لها وصفاً.
فالقلوب تتقلب، أي: تؤمن بأشياء ما كانت تؤمن بها من قبل، وهذه قلوب الملاحدة وأهل الشك، وكذلك الأبصار تشاهد أشياء ما كانت تراها في الدنيا، بل كانت تسمع عنها، فانقلب القلب إلى إدراك أشياء ما كان يدركها من قبل، وانقلب البصر إلى رؤية أشياء لم يكن يراها من قبل.
فالخوف صفة من صفات الرجال، وقد ورد وصفهم بالخوف في سورة المؤمنون في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون:60]، لما سمعت عائشة رضي الله عنها هذه الآية من رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: (يا رسول الله! (الَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) أهم الذين يسرقون ويزنون ويفعلون الفواحش فيخافون؟ قال: لا، بل هم قوم يصومون ويصلون ويتصدقون، ويخشون ألا يتقبل الله ذلك منهم).
إذا كان هؤلاء المؤمنون يخافون -وهم في غاية الإيمان والتقى والصلاح والاستقامة- فمن باب أولى أن يخاف أولئك المفسدون في الأرض من أصحاب الجرائم والكفر والإلحاد والطغيان والكبرياء، الذين ساموا المسلمين سوء العذاب، والذين طعنوا في دين الله، وشوهوا دين الإسلام أمام ضعاف الإيمان، وصالوا وجالوا وأفسدوا، وفعلوا ما فعلوا من الفواحش، وتركوا ما تركوا من الواجبات، لكنهم في غمرة الحياة الدنيا، ولذة العيش ومتاع الحياة؛ أصبحوا آمنين مطمئنين، ولكنهم سوف يخافون حينما يأمن الصالحون، وحينما ينجي الله المؤمنين من الفزع الأكبر {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء:103]، يومئذ يخاف أولئك ويطمئن هؤلاء.
هذه هي صفات هؤلاء الرجال: يسبحون، وهم رجال اشتملوا على معنى الرجولة، (ولا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة) وأيضاً: (يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار).(49/12)
هؤلاء الرجال يعبدون الله رغباً ورهباً ومحبة
نعود مرة أخرى إلى قوله تعالى: (يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار) لنستعرض رأي طائفة من غلاة الصوفية في أيامنا الحاضرة: غلاة الصوفية يقولون: نحن لا نعبد الله خوفاً من عذابه ولا طمعاً في جنته! ولا نبالي بالجنة ولا بالنار، وإنما نعبد الله محبة لله! وبعضهم يقول: إني أذوب في محبة الله! وهذا ليس هو الاعتقاد الصحيح، فهو كذب وافتراء، فأنا وأنت وكل مؤمن يجب أن نعبد الله محبة له، وخوفاً من عذابه، وطمعاً في جنته، وهؤلاء صفوة الرجال يقول الله عز وجل عنهم: {يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور:37].
بل إن هناك أفضل من هؤلاء، وهم المرسلون عليهم الصلاة والسلام لما ذكر الله عز وجل بعضهم بأسمائهم وصفاتهم في سورة الأنبياء قال عنهم: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90].
إذاً: الإنسان يعبد ربه محبة له، وخوفاً من عذابه، وطمعاً في جنته.
والله لولا جنة الله التي نرجوها وعذاب الله الذي نحذره ونخافه ما كنا بهذا المستوى، لكننا نعبد الله عز وجل محبة ورغبة ورهبة، وهذا هو منهج المؤمنين، (يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار).(49/13)
التربية بعيداً عن المسجد سبب الانحراف
الرجال لا يتربون إلا في المسجد، المسجد الذي يتعاهد الطفل منذ بداية تمييزه، منذ سن السابعة: (مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع)، الطفل حين يختلط بالصالحين، ويأخذ من أخلاقهم وسلوكهم، ويحضر مجالس العلم، ويعرف الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم حق المعرفة، ويعرف دين الإسلام بالأدلة، ويعرف كيف يعبد ربه، وكيف يخشى الله سبحانه وتعالى، ويجلس في حلق القرآن يقرأ ويتلو كتاب الله ويحفظه؛ حينئذٍ سوف يخرج رجلاً.
أما تربيته على خلاف هذه التربية فهذا هو ما أحدث الخلل في هذه الأمة الإسلامية، فالآن يتربى كثير من أبناء المسلمين بعيداً عن المساجد، لا يعرف أحدهم الطريق الموصلة إلى المسجد، ولربما لا يصلي إلا صلاة الجمعة أو بعض الصلوات! ولربما لا يدخل المسجد إلا حينما يموت فيقدم لتصلى عليه صلاة الجنازة! هذا واقع مشاهد لا أحد ينكره، لكن الخطر سيكون قبل أن يقف هؤلاء الناس للحساب بين يدي الله عز وجل، والنتيجة خطيرة في الدنيا قبل الآخرة.
هؤلاء الذين يتربون بعيداً عن المسجد، قد يتربون بين الأفلام والمواخير، ومراكز الشراب والبارات، والمحرمات، والعاهرات، والرقص، والغناء، لا نريد أن نستعرض هذه كلها، لكن أولئك هم الذين أصبحوا الآن يفسدون في الأرض هم الذين أصبحوا يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي الكافرين هم الذين يسعون الآن ليجروا عاراً على أمتهم لا ينسى إلى يوم القيامة هم الذين سوف يحلون قومهم دار البوار هم الذين يصفون هذا الإسلام بالتأخر، والرجعية، والتخلف، وأن هذه الأمة متخلفة، ويصفون المرأة المسلمة بالتأخر والتخلف، وينادونها إلى التحرر، ويزعمون أنهم أصحاب حقوقها، والمدافعون عنها وعن حريتها، والله يعلم أنهم لا يريدون بذلك إلا سوءاً وفساداً، يريدون أن تنحل المرأة وتنحرف؛ ليصطادوها في الماء العكر، ولتصبح لقمة سائغة بين أيديهم.
هم ينادون بهذه الحرية الكافرة الملحدة الآثمة الغاشمة في وقت أصبح فيه أعداء الإسلام الكفرة قد سئموا من أوضاعهم المنحرفة، فصاروا ينادون المرأة في بلادهم بأن تعود إلى الحشمة والكرامة والمحافظة! فهؤلاء جاءوا ليبدءوا من حيث ينتهي الناس، هؤلاء هم الذين تربوا بعيداً عن المسجد.
ولربما تطور الأمر بالنسبة لهم، فنسمع من أخبارهم ما يدمي القلب ويذيبه كمداً كالطعن في الإسلام، لا يكفيهم أن تتحرر المرأة -كما يزعمون- أو أن تنحرف، بل لا يقر لهم قرار إلا وهم يرون الأمة الإسلامية تعيش في المؤخرة، ولا يكفيهم هذا التخلف وهذا التقهقر الذي أصاب الأمة الإسلامية، وهذا النوع من البشر قد يتجرءون على دين الإسلام فيكونون من أئمة الكفر الذين أمر الله عز وجل بأن نقاتلهم في أي مكان نجدهم: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ} [التوبة:12].
ولربما يتجرءون أكثر من ذلك فيطعنون في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أخبار الحداثيين منا ببعيد، ولربما يتجرءون على الله عز وجل فيقولون كلاماً لا ينبغي لمسلم أن يقوله حتى على سبيل الحكاية! فلماذا هذا كله؟ لأنهم ليسوا من الرجال الذين تربوا في أحضان المسجد، وعرفوا الله عز وجل، بل لربما أن الرقابة الأبوية أو ما فوق الأبوية قد تساهلت في تربية هؤلاء، أو لربما أن هؤلاء غسلت أدمغتهم في بلاد الشرق أو بلاد الغرب، ونجح أعداء الإسلام في إفساد هؤلاء، فأرادوا أن يحققوا الفكرة التي تدور في أذهانهم، وهم يقولون: إنكم لا تستطيعون قطع شجرة الإسلام إلا بغصن من أغصانها!! ويقصدون بهذه الكلمة: ربوا من أبناء المسلمين من يقوم بهدم الإسلام! لكننا مطمئنون على شجرة الإسلام، وهذه الخفافيش والصراصير لن تؤثر فيها أبداً؛ لأن هذا نور الله عز وجل ودين الله الذي سوف يظهره على الدين كله ولو كره المشركون، ونحن مطمئنون إلى وعد الله عز وجل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، لكننا خائفون على الأمة من أن يتسلم شيئاً من مقاليد الأمور فيها نوع من هؤلاء الذين لا يعتبرون أشباه رجال، ولكنهم دون ذلك!(49/14)
تحقق حديث حذيفة بن اليمان في الفتن
روى حذيفة بن اليمان رضي الله عنه حديثاً عجيباً أراه اليوم يتحقق في هؤلاء الذين يحسبون على الإسلام، ويحملون الأسماء الإسلامية: أحمد ومحمد وعبد الله وعبد الرحمن وسعد وسعيد، وهم أكبر عدو وألد عدو للإسلام! ولو كان الإسلام يحارب كما في الجاهلية الأولى بـ أبي جهل وأبي لهب لكان الأمر سهلاً! لكنه يحارب بهؤلاء الذين يحملون الهويات الإسلامية، والأسماء الإسلامية، وتربوا في بيوت المسلمين، وهم من أسر إسلامية عريقة، ومع ذلك فهم أخطر على الإسلام من أبي جهل وأبي لهب في وقتهم، وأخطر على الإسلام من أعداء الإسلام الذين يأتون من الخارج!! يقول حذيفة: (كان الناس يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله! كنا في جاهلية وشر فجاء الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، فقلت: يا رسول الله! وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم وفيه دخن، قوم يستنون بغير سنتي ويهتدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر، فقلت: يا رسول الله! وهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال نعم: دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها، قال: يا رسول الله! صفهم لنا، قال: قوم من أبناء جلدتنا، وممن يتكلمون بألسنتنا) كيف ذلك؟ لو أردنا الآن أن نحصر ما كتبه المتمسلمون أو المنسوبون إلى الإسلام في الصحف وفي المجلات وفي المؤلفات من الطعن في الإسلام، ثم ننظر ما كتبه الأعداء الذين يأتون من الخارج، لوجدنا أن الأول أضعاف مضاعفة بالنسبة للثاني! بل وجدنا ممن يعتز بكفره وبجاهليته من غير المسلمين، من يثني على الإسلام! مع أننا لا نحتاج إلى ثنائهم، حتى قال برنارد شو: إن محمداً لو بعث اليوم لحل مشاكل العالم وهو يحتسي فنجاناً من القهوة!! فهذه كلمة يقولها رجل كافر يهودي، وتلك مقالات يقولها أناس يحسبون على الإسلام.
فالأمر خطير، والمصيبة داخل البيت! ولو كان العدو من الخارج لكان من السهل أن تحمى البلاد بالحصون، وأن يقف كل مسلم أمام داره ليحمي هذا البيت، ولكن المصيبة كما قال الشاعر: وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند فهذا مثل ضربناه لقوم يحسبون ويعدون من الرجال وما هم برجال! وقوم أيضاً يحسبون على الإسلام والإسلام منهم براء! وإنني لا أنسى حينما سمعت رجلاً ممن يعيش في أقرب المرافق المقدسة يقول مقالته المشهورة: منذ نزول سورة تبت ووجود الهاشمي -يقصد محمداً صلى الله عليه وسلم- أصبح العالم في تأخر! ثم يثني على أم جميل زوجة أبي لهب إلى غير ذلك.(49/15)
أثر المسجد في تخريج الرجال
لا نريد أن نطيل الكلام حول الذين لم يتربوا في المسجد؛ لأنكم سمعتم كثيراً من أخبارهم، لكن المهم: لماذا وصلوا إلى هذا المستوى؟ لأنهم ليسوا من الرجال الذين تربوا في المساجد، فلو تعلقت قلوبهم بالمساجد لأصبحوا رجالاً بكل ما تعنيه الكلمة، ولما كانوا على هذا المستوى.
فأين أبناء المساجد؟ وأين الرجال الذين يتربون في المساجد؟ هم موجودون والحمد لله، وهم هؤلاء الشباب الذين تتمثل فيهم الصحوة الإسلامية، ونعتز بهم، والذين هم مثل يحتذى به -والحمد لله- في صلاحهم واستقامتهم؛ هؤلاء هم أبناء المساجد، وهم الرجال الذين يقول الله عز وجل عنهم: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ} [النور:36 - 37]، وإذا أردت أن تجد برهاناً على ما أقول فاذهب إلى ساحة أفغانستان، والله لقد رأيت هذه الساحة فعجبت كثيراً! وقلت: أين ذهبت العصبيات القومية والإقليمية والشعوبية؟ فإنك لا تجد جنسية من جنسيات البلاد الإسلامية إلا وتجدها في تلك الساحة! حتى أبناء النعيم أبناء هذه البلاد ودول الخليج الذين عاشوا بين الثلاجات والمكيفات، والذين كان الناس يظنون أنهم لا يستطيعون تحمل مثل تلك المسئوليات، ووعورة الطريق، وشظف العيش، والحر والبرد، إلى غير ذلك تراهم يتسابقون إلى الشهادة في سبيل الله، وإذا أردت دليلاً على ذلك فاسأل الخطوط السعودية: كم يسافر يومياً من هنا إلى أرض أفغانستان؟! سأذكر لكم قصة شاب من هذه البلدة الطيبة -عنيزة- لا يتجاوز عمره العشرين، ذهب إلى هناك، واستبسل حتى استشهد وهو يقول: الله أكبر! فلم يكمل كلمة: الله أكبر حتى جاءته شظية وهو يطوق مطار جلال آباد حتى اقتلعت رأسه! فجاءني أخوه، وظننت أن أخاه سوف يقول لي: كيف غررتم بأخي؟ فإذا به يقول: أبشرك أن أخي استشهد؛ فقلت: الحمد لله رب العالمين.
فقال: وأنا سوف أذهب لأستشهد هناك، قلت: لا يا أخي! المصيبة جديدة، انتظر، قال: سأقدم الآن كل ما أملك من مالي في سبيل الله حتى يأذن الله لي بالذهاب لأكون شهيداً هناك.
الشاهد أن هذه تربية المساجد، وأما تلك فهي تربية غير المساجد.
والله إن من ذهب إلى تلك البلاد يرى العجب العجاب! ويرى شباب المسلمين يتسابقون إلى الحراسة في وقت الثلوج التي يتجمد فيها الإنسان قطعة من الثلج على رءوس الجبال في ظلام الليل بين العدو الحاقد الذي يريد أن يقضي على هذه الأمة لو تمكن من ذلك! ومع ذلك يتسابقون إلى الشهادة وإلى الجهاد وإلى الحراسة؛ لأنهم تربوا في المسجد؛ ولأنهم قد تحملوا هذه المسئولية، وأدركوها من خلال المسجد، فكان ذلك الإيمان -الذي ولد في المسجد وترعرع في المسجد- كما أخبر الله عز وجل: {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} [النور:35]، فمن خلال الزيت الذي أشعل في هذا السراج أصبحوا لا شرقيين ولا غربيين، ولكنهم أمة مسلمة؛ ولذا خاب ظن الذين يظنون أنهم قد وضعوا حواجز سياسية، وطبيعية وإقليمية، وشعوبية، وقومية بين المسلمين، وأنهم قد قطّعوا أوصال المسلمين، وحولوا الأمة الإسلامية إلى دويلات، هؤلاء الذين يظنون أنهم قد غرسوا حب القومية والشعوبية في نفوس هؤلاء الشباب؛ خاب ظنهم وهم يتتبعون أخبار أفغانستان، وكيف ينفر شباب الأمة العربية والإسلامية خفافاً وثقالاً يجاهدون في سبيل الله مع العجم الذين لا تربطهم بهم رابطة نسب ولا رابطة وطن، ولكن تربطهم بهم رابطة الدين والعقيدة.
هذا دليل من الواقع، وهذا نموذج من الواقع بالنسبة لرجال المساجد.(49/16)
رسالة المسجد في عهد السلف
لو رجعنا إلى الوراء قليلاً لوجدنا ما هو أعجب من ذلك! نجد رجالاً رباهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسجد، وعرفوا رسالة المسجد، لكن رسالة المسجد في أيامنا الحاضرة عند كثير من الناس أن تصلي وتخرج، وإذا تأخرت قليلاً سوف يغلق عليك المسجد، وبعد الصلاة ببضع دقائق تجد المسجد مغلقاً.
هذه ليست رسالة المسجد، بل رسالة المسجد أن يكون المسجد قطب رحى الحياة، وأن يكون المسجد كل شيء كما كان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مدرسة عسكرية، وكان مجلس شورى، وكان مسجد عبادة، وكان مقر اعتكاف، وكان ملتقىً للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، كان الرجل من الغرباء يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبحث عنه، فيعقل بعيره عند باب المسجد، ثم يدخل فكأنه دخل في قاعدة عسكرية لا يخرج منها إلا وقد علم كل أمور دينه ودنياه، وعرف كيف يحارب عدوه؟ هذا هو المسجد الذي يتربى فيه الرجال؛ ولذلك فإن لنا أملاً في الله عز وجل أن يؤدي المسجد هذه الرسالة، لاسيما ونحن نرى حلق الذكر ومجالس العلم بدأت تعود إلى المساجد.
ولو تأملنا في سير السلف من الصحابة ومن بعدهم لرأينا كيف كان أثر المسجد في تخريج الرجال، ولأخذنا درساً لا ينسى من أولئك الرجال الذين رباهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد.
فهذا أسامة بن زيد حينما كان عمره لا يتجاوز الثامنة عشرة، يجهزه الرسول صلى الله عليه وسلم ليقود جيشاً إلى بلاد الشام في أحلك عصور الإسلام وأشدها وأخطرها! وفي هذا الجيش كبار الصحابة كـ أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وغيرهما من الصحابة! وبعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير هذا الجيش، ويحقق معجزة في فترة من أشد فترات تاريخ الأمة الإسلامية اضطراباً، وهي أيام الردة.(49/17)
نماذج من رجال المساجد
خبيب بن عدي رضي الله عنه وقع أسيراً في أيدي المشركين، وفرح المشركون كثيراً حينما وقع خبيب في الأسر؛ لأنهم يريدون أن يتلذذوا ويتمتعوا بقتله، وتقطيع أجزائه، فخرجوا به خارج الحرم -احتراماً للحرم- ونصبوا له المشنقة، فبدءوا يساومونه على دينه، حتى قالوا له: أتود أن محمداً في مكانك هنا؟ قال: والله ما أود أن محمداً في مكانه تصيبه شوكة وأني في أهلي! وفشلت كل مساوماتهم معه، فرفعوه على المشنقة، وصاروا يمزقون جسده تمزيقاً، وهو لا ينصرف عن دينه، وكان يتوجه إلى الله عز وجل في أشد معاناته، ويقول: اللهم! أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً.
فهذا نموذج من نماذج رجال المسجد.
وهذا قتيبة بن مسلم رحمة الله عليه كان من القادة في بلاد الشرق، وممن تربى في المسجد، وهو الذي فتح بلاد ما وراء النهر، وهي تشمل الآن مناطق كثيرة من بلاد أفغانستان وجزءاً من روسيا؛ سأل جنوده: أي بلد أمامي الآن؟ قالوا: بلاد الصين، قال: والله لا أرجع إلى بلدي حتى أطأ بأقدامي هذه أرض الصين، وأضع وسم المسلمين على الصينيين، وآخذ الجزية! (إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره)، فبلغ الخبر إلى ملك الصين، فأرسل تراباً وصحافاً من ذهب وأموالاً طائلة إلى قتيبة، وقال: هذه صحاف من الذهب فيها تربة يطؤها قتيبة وهو في مكانه، وهؤلاء أولادي الأربعة يضع عليهم الوسم، وهذه هي الجزية كل سنة تصل إلى قتيبة ولا يأتي إلى بلادنا.
وهذا عقبة بن نافع بالجهة الغربية كان يسابق الشمس على مطالعها، ويفتح بلاد الله وينشر فيها الإسلام، يقول المؤرخون: لما وصل إلى القيروان، كانت غابة موحشة، وكان كل الفاتحين يرجعون دونها في تونس، فأراد أن يبني مدينة القيروان لتكون مركزاً للعالم الإسلامي في شمال إفريقيا، قيل له: أيها القائد يرحمك الله! هذه أرض يعجز عنها كل الفاتحين، فهي غابات موحشة مأسدة مخيفة، فوقف على حافة الغابة بإيمانه يخاطب الوحوش -مع أن الوحوش لا تفقه كلام الرجال، لكن الله سبحانه وتعالى قد يوقع رعب المؤمنين حتى في قلوب الوحوش- فقال: أيتها الوحوش! نحن أتباع محمد صلى الله عليه وسلم جئنا لننشر الإسلام هنا، يقول شاهد عيان: والله لقد رأينا الوحوش تحمل أولادها وتخلي الغابة لـ عقبة بن نافع.
وبعد أن بنى مدينة القيروان واصل سيره ليقف بقدمي فرسه على المحيط الأطلسي ويقول: والله الذي لا إله إلا هو لو أعلم أن وراء هذا الماء أحداً من البشر لخضته إليه بفرسي هذه! ثم بعد ذلك يرجع بعد أن أوصل الفتح الإسلامي إلى تلك البلاد.
ليس غريباً أن يربي المسجد مثل هؤلاء، ومثل خالد بن الوليد، ومثل أبي عبيدة بن الجراح، وغيرهم من الرجال، كما أنه ليس غريباً أيضاً أن تربي المواخير ودور الدعارة والفساد هؤلاء الذين أصبحوا يقودون أممهم إلى الهاوية وإلى الدمار! إذاً: ليس هناك سبيل إلى صلاح هذه الأمة إلا أن ترجع إلى المسجد، وتربي أبناءها في المسجد، وتعاد للمسجد رسالته التي سلبت منه، ويستعيد مهمته الكبرى التي أنيطت به، وإلا فإن الأمر خطير؛ ولذلك فنحن نتطلع دائماً وأبداً إلى هؤلاء الرجال الذين يقول الله عز وجل عنهم: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} [النور:36 - 37].(49/18)
أثر الابتعاد عن المسجد
نلقي نظرة عابرة إلى النوع الآخر، فبعد أن عرفنا الرجال وموطنهم، ومواقع وجودهم، وأماكن تربيتهم، ثم عرفنا بعد ذلك المثل الذي ضربه الله عز وجل لهؤلاء؛ ننظر بعد ذلك إلى نوعين من البشر، ليسوا من الرجال، وهذان النوعان أحدهما بحسن نية أو بسوء نية فعل ما فعل، وهو يزعم الإسلام، وهو إما أن يكون منافقاً أو متستراً، وإما أن يكون مرتداً وهو لا يدري أنه مرتد، وإما أن يكون علمانياً يريد أن يجعل ما لله لله، وما لقيصر لقيصر، ويريد أن يتستر بهذا الدين، فيصلي ويصوم ويحج، لكنه أبعد الناس عن الإسلام، ويطعن في الإسلام وهو يزعم الإسلام: {يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة:204]، أو لعله قد التبس عليه الأمر، فظن أن الدين لا يتعدى المسجد والعبادة، وأن الحياة يجب أن تسير بغير الدين.
لقد ضرب الله عز وجل لهؤلاء مثلاً بعد ذكر الرجال ومواطنهم، فقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} [النور:39] لهم أعمال صالحة لكنها {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} [النور:39].
حينما يسير الإنسان في شدة الحر في الصحراء الواسعة المستوية القيعة يرى أمامه إذا عطش شيئاً يتسرب بين السماء والأرض وكأنه واد يسيل ماء، وهو عطشان، ويريد أن يبحث عن الماء؛ فيركض وراء هذا الذي يظنه ماءً وهو ليس بماء وإنما هو سراب، وكلما دنا منه ابتعد هذا السراب حتى يهلك دونه.
فهذا مثل ضربه الله عز وجل لمن يظن أنه يحسن صنعاً وهو يسيء صنعاً، وإن من هؤلاء من أحدثوا في دين الله ما لم يشرعه الله، وأصبحوا يعبدون الله على غير بصيرة وعلى غير المنهج القويم الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند ربه، ويدخلون في هذا الدين البدع التي يسمونها حسنة! فكلما أدخلوا في دين الله بدعة خرجت منه سنة لتحل محلها هذه البدعة؛ لأن المجال محدود، حتى يصل بهم ذلك إلى الشرك بالله عز وجل، فقد عبدت القبور، وطاف بها الناس، وتمسحوا بها، فهؤلاء داخلون في هذه الآية دخولاً أولياً، فتكون أعمالهم: {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} [النور:39]؛ لأن العمل لا يقبل عند الله عز وجل إلا بثلاثة شروط: إيمان، وإخلاص، ومتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا هو معنى لا إله إلا الله، محمد رسول الله؛ فإن معنى لا إله إلا الله: الإيمان والإخلاص، ومعنى محمد رسول الله: المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم.
إذاً: هؤلاء الذين يريدون أن يدخلوا في دين الله عز وجل كل ما أعجبهم، الإسلام منهم براء؛ فدين الله كامل قبل أن يأتي هؤلاء منذ أربعة عشر قرناً من الزمان، آخر آية من القرآن أنزلها الله عز وجل على قول بعض المفسرين: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3]، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك)، أما أن يصبح هذا الدين وعاءً يتسع لكل ما أعجب الإنسان من عبادة فلا، يقول الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21]، والأصل في العبادات الحظر، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد).(49/19)
حكم العمل الصالح بدون إيمان
هناك نوع آخر من البشر وهم الذين يقول الله عز وجل فيهم: {أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} [النور:39]، يؤدون الطاعات لكن بغير هدف الإيمان، يتصدق أحدهم فيقول: هذه عاطفة، ويساعد الفقير فيقول: هذه إنسانية، وهكذا ويسمون هذه الأشياء بأسماء جذابة، لكن قلوبهم خراب من الإيمان؛ فلذلك أصبحت أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ، ولكن الله عز وجل لا يظلم مثقال ذرة، فهذه الأعمال -بالرغم من أنها فاسدة- ما دامت تنفع الناس فلها وزن عند الله عز وجل، لكن وزنها في الدنيا لا في الآخرة؛ ولذلك فإن صاحبها لا يغادر الدنيا حتى يأخذ جزاءه كاملاً، ويقدم على الله عز وجل بدون حسنات، ولذلك يقول الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} [هود:15] أي: بعمل الآخرة، {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} [هود:15]، أي: في الحياة الدنيا، {وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ} [هود:15]، أي: في الحياة الدنيا {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ} [هود:16]؛ لأن العمل غير صحيح؛ فهو غير مقبول، مادمت تنفق بدافع إنسانية، وتنفق بدافع رياء وسمعة؛ وليثني عليك الناس، ولذلك فإن أول من تسعر بهم النار ثلاثة: رجل شجاع استشهد في سبيل الله، ورجل عالم بذل العلم، ورجل صاحب مال كان ينفق في كل طرق الخير، لكن لما فسدت النية، وفسد القصد؛ صاروا أول من تسعر بهم النار يوم القيامة.(49/20)
تفسير قوله تعالى: (أو كظلمات في بحر لجي)
هناك نوع آخر يعرف أنه يسيء صنعاً، ولا زال يراكم سيئات خلف سيئات، ومظالم وطغياناً وكفراً وترك واجبات، وكلما عن في نفسه معصية من المعاصي فعلها، حتى يصبح كما وصفه الله عز وجل بقوله: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور:40].
لو أن واحداً منا نزل في بحر عميق لجي -كثير الماء- ثم كانت هناك أمواج تضرب الماء فتحركه لتخفي ضوء الشمس، وكان فوق هذه الأمواج أمواج ثانية تتضارب فتخفي ضوء الشمس، ثم فوق ذلك سحاب يحول بين الشمس وبين البحر؛ فإن هذا الإنسان في قعر البحر لا يستطيع أن ينظر إلى أقرب الأعضاء إليه وهي يده إذا أخرج يده لم يكد يراها فضلاً عن رؤيتها.
هذا المثل ضربه الله عز وجل لأصحاب الكبائر والسيئات والكفر والطغيان، الذين يجعلون حياتهم من أولها إلى آخرها سيئات تتعاقب، ومعاصي وآثاماً وإجراماً يركب بعضها على بعض حتى يصبح هذا القلب مظلماً، فيكون خلاف القلب الذي تربى في المسجد، وخلاف القلب الذي عرف الله عز وجل حق المعرفة، فإذا كان قلب ذلك الإنسان يشبه سراجاً في كوة غير نافذة في الجدار، وعلى السراج زجاجة، والزجاجة كأنها كوكب دري، يوقد مصباحها من زيتونة ليست بشرقية ولا غربية؛ فيكون القلب مضيئاً، أما ذلك القلب فكأنه يعيش في قعر بحر عميق، فيه أمواج، وفيه ظلمات، وفوق هذا سحب تحجب عنه الشمس، فالفرق بعيد بين هؤلاء وأولئك! أولئك أهل المساجد المؤمنون الصالحون الأتقياء، وهؤلاء الكفرة الفجرة الذين يجدون حسابهم عند الله عز وجل.(49/21)
قوله سبحانه: (ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور)
ختم الله عز وجل هذا المقطع من هذه السورة بقوله: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40]، حتى لا يظن الناس أن النور يكتسب بالذكاء أو يكتسب بالأمجاد، فذاك ابن الأكرمين يجب أن يكون أقرب الناس إلى الله، لا، هذه منة من الله عز وجل، وفضل يعطيه الله عز وجل من يشاء من عباده، وليس في ذلك دليل للجبرية الذين يقولون: الإنسان مجبور على أعماله! لا.
فالإنسان له إرادة، لكن مادام الله عز وجل لم يمنح هذا الإنسان نوراً، فلا يمكن أن يحصل على النور، ولو كان ابن الأكرمين، ولو كان من قريش! فهذا النور ما اهتدى إليه أبو جهل، ولا أبو لهب، ولا أبو طالب، واهتدى إليه بلال، وصهيب، وعمار وفقراء المسلمين؛ لأن هذا النور يمنحه الله عز وجل لمن يشاء من عباده؛ ولذلك يقول الله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ).
المسجد هو قطب رحى الحياة، ومن أراد لنفسه ولذريته الصلاح والاستقامة، ليكونوا رجال المستقبل، وليكونوا بُناة المستقبل المشرق؛ فعليه أن يربيهم في المسجد، في حلق الذكر، ومجالس العلم، حتى يخالطوا الصالحين، ويؤدوا الواجبات.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(49/22)
كيف وأين يتربى الرجال؟ [2](50/1)
ذكر كلمة (رجال) في القرآن الكريم
السؤال
ذكرتم أن كلمة (رجال) لم ترد في القرآن إلا ثلاث مرات! وذكرتم الآيات، مع العلم بوجود آيات أخرى مثل قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء:34]، وقوله تعالى أيضاً: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:23]، وغيرها من الآيات! فما تعليقكم؟
الجواب
أحسنت! أولاً: آية: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} المقصود بالرجال هنا: الذكور، وإن كانت تعطي المعنى الآخر أيضاً؛ لأن الرجل الصحيح هو الذي لا يسلم القوامة لغيره، فأنا نسيت ذكرها.
وأما الآية الثانية: {مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:23]، فقد ذكرتها، وهي الآية الثالثة، وأنا أتراجع عن قولي: إن كلمة (رجال) لم تذكر إلا ثلاث مرات في القرآن، وقد كنت لا أتذكر غيرها.
وعلى كل إذا كان قد وردت في القرآن كلمة (رجال) في غير هذه المواضع، أو في الحديث، فهي لا تدل إلا على نوع من الرجال الذين أخذوا هذه الصفة واستغرقوا ما فيها من معنى؛ لأن (أل) في كلمة (الرجال) للاستغراق.
وكلمة (رجال) في تلك المواضع الثلاثة في القرآن المراد بها الذين استكملوا صفات الرجال، ولم يكتفوا بالذكورية التي تفرق بين الرجل والمرأة فقط.(50/2)
معنى قوله تعالى: (الله نور السماوات والأرض)
السؤال
ألم يرد في تفسير قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ َالأَرْضِ} [النور:35] أي: هادي السماوات والأرض؟
الجواب
هناك تفاسير كثيرة، وفي بعض القراءات: (الله نَوَّرَ السماوات والأرض)، ولا أمانع أن يكون المراد به نور الله عز وجل حقيقة، لكن ما تنور به هو موضع الإشكال، مع أن القاعدة: أن الضمير يعود إلى أقرب مذكور؛ فيكون النور الثاني هو النور الأول، الأول هو: (الله نور السماوات) والثاني هو: (مثل نوره) فالأولى أن يكون قوله: (مثل نوره) يرجع إلى النور الأول لوجود الضمير، والنور الأول يصلح أن يكون لله عز وجل، بمعنى أنه اسم من أسماء الله؛ لأن من أسماء الله عز وجل النور، والثانية لا تصلح؛ لأن فيها تشبيه، والتشبيه لا يليق بجلال الله.
وأما قراءة: (الله نَوَّرَ السموات والأرض)، فهي تؤيد أن المراد بالنور: النور المخلوق لا النور الذي هو اسم من أسماء الله عز وجل؛ لأن الله تعالى نورها بهذه الأشياء المضيئة.
وعلى كل حال فالمعنيان ذكرهما المفسرون، لكن قوله الله تعالى: (مَثَلُ نُورِهِ) ذكر فيه التشبيه، وقد أشارت إليه الآية الثانية: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور:36] وبجمع الآية الثانية بالآية الأولى يلزم أن يكون المراد نور الإيمان؛ لأن نور الإيمان يكون في بيوت أذن الله أن ترفع.(50/3)
صون المساجد عما لا يليق بها من أمور الدنيا
السؤال
كثر الحديث في أمور الدنيا في المساجد، فما توجيهكم؟
الجواب
هذا من الخطأ، وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المساجد: أنها لا تصلح لشيء من ذلك، إنما هي لذكر الله والصلاة والتسبيح، ونحو ذلك، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن من علامات الساعة أن ترتفع الأصوات في المساجد، وإذا كانت المساجد موضع حديث الناس في أخذهم، وعطائهم، ومصالحهم، وبيعهم، وشرائهم؛ فإن هذا من الخطأ، ويجب أن تصان المساجد عن كل ما لا يليق بها، كالحديث في أمور الدنيا، ويجب أن تكون كما قال الله عز وجل: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} [النور:36 - 37]، يجب أن تكون المساجد للعبادة، لكن يجب أن تكون المساجد منطلقاً للحياة، بشرط ألا تكون للبيع وللشراء، ولأمور الدنيا.
وكما ذكرنا أن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مركزاً عسكرياً يدرب فيه الرجال، وكان أيضاً سجنٌ، وكان أيضاً مأوىً لفقراء المسلمين، وكان أيضاً مكاناً لحل كل مشاكل المسلمين، وكان أيضاً مركزاً لحكم الأمة الإسلامية، فقد كان مركز الرسول الله صلى الله عليه وسلم هو المسجد؛ ولذلك فإن العلماء يقولون: يجب أن تصان المساجد من كل ما يشينها، فلا تنشد فيها الأشعار، ولا تنشد فيها الضالة، والرسول صلى الله عليه وسلم أمرنا إذا وجدنا أحداً ينشد ضالته في المسجد أن نقول له: (لا ردها الله عليك).
وأيضاً: يمنع الصبيان الذين لا يتورعون من احترام المساجد من دخولها، كما ورد في الأثر: جنبوا صبيانكم مساجدكم، والمقصود بالصبيان هنا من هم دون التمييز ممن لم يؤمروا بالصلاة، خصوصاً أن الصبي لا يتنزه من نجاسة، ولا يعرف حقيقة النجاسة.
واختلف العلماء هل النوم في المسجد يتنافى مع قوله تعالى: {أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور:36]؟ وهناك أدلة تدل على أن النوم في المسجد لا بأس به، كما كان أهل الصفة ليس لهم مكان إلا المسجد، وهناك من يمنع إلا في حال الضرورة والحاجة.(50/4)
أحوال المجاهدين في أفغانستان والمصادر الموثوقة لتلقي الأخبار
السؤال
ما هي المصادر التي نستقي منها الأخبار عن أفغانستان، خاصة ونحن لا نثق ببعض وسائل الإعلام؟ وما هي أوضاع المسلمين في أفغانستان في هذا الوقت؟ حبذا أن تتحدث عن بعض كراماتهم، وبعض ما شاهدت هناك؟
الجواب
أولاً: إعلام العالم الإسلامي كله يلام؛ لأنه لم يعط أفغانستان ما تستحق، فإننا نرى أموراً تافهة توضع لها صفحات خاصة، وصفحات أخرى للفن وغيره، وتصل أخبار العالم والسلفادور إلى الناس في كل يوم، لكن أخبار أفغانستان أصبح كثير من المسلمين لا يرى منها إلا القليل، وأخبار مختصرة وفي زوايا خاصة، وهذا خطأ، حيث لم يعط إخواننا الأفغان ما يستحقون من عناية وتعظيم.
أما بالنسبة للمصادر التي نعتمد عليها في نقل أخبار إخواننا في أفغانستان فتكاد أن تنحصر في مصدرين: المصدر الأول: المجلات التي يصدرونها هم، وقد بلغت الآن سبع أو ثمان مجلات والحمد لله، وكلها منتشرة في العالم الإسلامي، وتنقل الأحداث بالخبر وبالصورة إلى غير ذلك.
المصدر الثاني: الإخوة القادمون من هناك، فإنهم ينقلون الأخبار طرية، وهذا -والحمد لله- يتكرر دائماً وباستمرار.
وعلى كل حال فإن قضية أفغانستان قضية كبيرة، وسيعلم الناس نبأها بعد حين! بل قد رأى كثير من الناس آثارها، فلقد أحدثت خللاً في صفوف العدو وفي أنظمتهم وفي أوضاعهم، إخواننا الذين يسكنون في داخل روسيا يبلغون خمسين مليوناً من المسلمين! لم يفكروا أن يأخذوا حريتهم إلا في هذه الأيام، وقد أُعطوا شيئاً من الحرية خوفاً من أن يتحركوا كما تحرك الإخوة الأفغان! لا سيما وأن الحدود إليهم مفتوحة، ولنا إخوة يبلغون مائة مليون في الصين الشعبية، كانوا محرومين من بناء المساجد والمدارس، وما كان لهم أي وزن في هذا العالم، ولم يكن أحد يطالب بحقوقهم، والآن -والحمد لله- بدءوا يبنون المساجد، ويفتحون المداس، ويأخذون شيئاً من حريتهم وإن كان شيئاً قليلاً.
أيضاً: ما حدث في فلسطين يعتبر ثمرة ونتيجة مما حدث في أفغانستان.
ومن المبشرات أيضاً: أنه من المتوقع حدوث ما هو أكبر من ذلك في إريتريا التي مضت عليها مدة من الزمن في وضع لا تحسد عليه، والجبهات المنحرفة تفعل الأفاعيل في الإريتريين أكبر مما كان يتوقع الإريتريون أن تفعله بهم أثيوبيا الكافرة! وعموماً: فإن قضية أفغانستان لها آثار طيبة إن شاء الله، وستكون الثمرة قيام دولة إسلامية على الجهاد في سبيل الله، يتفيأ ظلالها كل فرد من المسلمين المستضعفين، وكما يلجئون إلى بلادنا هذه الآمنة المطمئنة -ولله الحمد- سوف يلجئون إلى تلك البلاد التي تقوم على الجهاد في سبيل الله.
أما الكرامات فأنا لا أريد أن يعتمد الناس عليها، فالمسلم يجب عليه أن يدخل ساحة الجهاد وهو يعرف أنه سيواجه عدواً قد أملى الله سبحانه وتعالى له، وأعطاه من القوة المادية ما قد يفتك به وبغيره -وإن كنا لا ننكر الكرامات- فالكرامات ربما تزيد في مثل هذه الفترة التي طغت فيها المادية، وقلت فيها الروحانية، والكرامات موجودة، لكنا لا نريد استعراض الكرامات التي ذكرها المجاهدون، وألفوا فيها كتباً أو ترد في مجلات المجاهدين، إنما سأذكر لكم كرامة واحدة، وكلكم ترونها وأنتم هنا، وهي أن عدداً قليلاً في عدده وفي سلاحه وفي مستواه الثقافي -بل في كل مستوياته- استطاع أن يدوخ أكبر أمة في التاريخ المعاصر يبلغ سكانها ثلاثمائة مليون لا تصنع إلا آلات الدمار ووسائل القتال!! ولقد رأيت العدو بعيني في ذلك المكان يظهر أنه في الليل مستيقظ يخشى أن يداهمه المجاهدون، فكانت طلقات النار لا تهدأ دقيقة واحدة، فلما سألنا: ما هو السر في ذلك؟ قالوا: يثبتون أنهم صاحون حتى لا يهجم عليهم المجاهدون في سبيل الله، وهذه نعتبرها أكبر كرامة في الحقيقة؛ فمتى كان هذا العدد القليل يفكر أنه سيقضي على أكبر قوة عاتية في الأرض، ما تركت وسيلة من وسائل الدمار إلا واستعملتها في أفغانستان، حتى أنهم استخدموا أسلحة لم يستخدموها في الحروب العالمية، هناك الكمندوز الذين رباهم الروس من أبناء الزنا واللقطاء لم يستعملوهم في الحرب العالمية، واستعملوهم في حرب أفغانستان! وهم قوم كالوحوش لا يعرفون أسرة، ولا يعرفون أباً، ولا أماً، ولا زوجة، ولا أطفالاً، أبوهم الدولة، وقد تربوا على الدماء، ودربوا سنين طويلة على أفتك أنواع الأسلحة، ومع ذلك -والحمد لله- أطاح بهم المجاهدون من أبناء العرب والمسلمين الذي عاشوا هنا وهناك.
فهذه تعتبر أكبر كرامة أن تُستذل هذه الدولة التي تزعم زعامة العالم في مثل هذه الأيام، ثم تضعف أمام هذا العدد القليل من هؤلاء الرجال الذي يفقدون أبسط أنواع الأسلحة، والله المستعان!(50/5)
الجهاد في أفغانستان ليس قائماً على المصالح
السؤال
هناك من يقول: إن الجهاد الأفغاني قائم على مصالح، وليس قائماً على الجهاد الإسلامي! ويذكر بعض الإخوة أنه يوجد فئات متشددة في أفغانستان كما تزعم بعض وسائل الإعلام، ومنهم المعتدل، فما رأيكم في ذلك؟
الجواب
أولاً: كلمة (مصالح) من يفكر أن في جبال أفغانستان مصالح؟ حتى روسيا حينما تفكر بأفغانستان لا تريد مصالح، وإنما تريد أن تتخذ من أفغانستان جسراً تعبر به إلى الباكستان، ثم تتخذ الباكستان جسراً آخر، وتعبر به لا إلى المياه الدافئة كما يقول بعض المحللين؛ لأن المياه الدافئة ليست هدفاً، الهدف هي هذه المقدسات التي نسأل الله سبحانه وتعالى أن يحميها ويحفظها، والله تعالى كشف هذه المؤامرة فقال: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217]، وقال: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120].
إذاً: ليس هناك مصالح في أفغانستان، لا للمجاهدين ولا لغير المجاهدين، فهي أرض قاحلة صحراء جبال موحشة مخيفة! ليس فيها أي شيء من هذه المصالح، وإنما هو الجهاد في سبيل الله، ومنذ أمد بعيد، منذ أن انتهت الخلافة الإسلامية إلى يومنا هذا، ما سمعت مثلهم في أفغانستان! ولو كانت القضية قضية مصالح فلماذا يأتي رجل من بلاد المغرب ويقطع آلاف الأميال ليذهب إلى أفغانستان، وكذلك من الدول الأخرى مثل دول الخليج وغيرها من دول الرخاء؟ فليست المصالح موجودة هناك، بل إنهم يتركون المصالح ويذهبون إلى هناك، فترى الشباب يتسابقون إلى الشهادة.
وبالنسبة للأفغان أنفسهم فليست لهم مصالح، ولو أرادوا أن يعيشوا في باكستان أو في أي دولة إسلامية لعاشوا مرفوعي الرءوس؛ لأن أكثرهم عندهم إمكانات ثقافية تؤهلهم للعيش كما يعيش سائر الناس.
إذاً: ليس هناك مصالح سوى السعي لرضا الله عز وجل، وكسب الشهادة، وإقامة الدولة الإسلامية، وليست هناك مصلحة أخرى، ومن ظن غير ذلك فإما أن يكون جاهلاً أو هو عدو للإسلام!! أما بالنسبة لوجود أطراف مختلفة، فنعم! هناك أطراف مختلفة، فهناك السلفيون في الدرجة الأولى، وهناك أناس لا نرضى عن شيء من سلوكهم بالنسبة للعقيدة، وهناك أناس كثيرون معتدلون.
وعلى كل حال: فإن كل هذه الأطراف لا تتهم أبداً، فكلها تسعى لتحارب كفراً وإلحاداً؛ لأن العدو المشترك يقول: لا إله والحياة مادة، وما دام العدو بهذا المستوى فنحن نتغافل عن بعض الأشياء ولا ننساها ونتركها، ولكن نقول: لربما تستقر الدولة الإسلامية -إن شاء الله تعالى- فيتفقد كل إنسان أحواله، وإن كنا نتمنى أن يبدأ السير من أول نقطة على منهج كتاب الله وسنة رسوله، لكن هذا هو ما نرجوه فيما بينهم.(50/6)
واجب المسلمين تجاه إخوانهم في فلسطين
السؤال
ما واجبنا تجاه إخواننا المسلمين في فلسطين؟ ونرجو أن تحدثنا عن جهادهم بشكل مختصر؟
الجواب
في الحقيقية: ليست كابل بأحب إلينا من القدس! ولا أحد ينكر ذلك، وقد يظن البعض حينما نكثر الكلام عن أفغانستان ولا نتحدث عن القدس أن عندنا شيئاً من التحيز.
والواقع أن ما حدث في أفغانستان شد انتباه الناس، وما حدث في فلسطين في السنين الأخيرة، هو ثمرة من ثمرات الجهاد الأفغاني فلا أحد ينكر ذلك، والجهاد الذي قام الآن في إريتريا هو ثمرة من ثمرات الجهاد في أفغانستان، وستكون هناك ثمار كثيرة إن شاء الله.
الجهاد الفلسطيني جهاد مقدس، ويجب أن يكون له موقع عظيم في قلوبنا قبل أي مكان آخر؛ لأن هذه هي الأرض التي بارك الله عز وجل فيها، وهي مهبط الرسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن لما كان إخواننا الفلسطينيون لا يملكون القاعدة والمنطلق، ولا يستطيعون أن يحملوا السلاح بحرية كاملة، فلا ندري كيف يستطيعون قتال عدوهم بالحجارة، والعدو يملك أكبر وسائل الدمار والحرب! لكنا نرجو من الله سبحانه وتعالى أن يفيق إخوانهم المسلمون المجاورون لهم، فيعطوهم المكان والمنطلق؛ ليفعلوا كما فعل إخواننا في أفغانستان.(50/7)
الجهاد في إرتيريا
السؤال
ماذا عن الجهاد في إريتريا، نرجو أن تحدثنا عن بوادر هذا الجهاد، وعن منطلقه الإسلامي؟
الجواب
في الواقع أن إريتريا بالرغم من قربها منا، إلا أننا نجهل كثيراً من أوضاعها، والذي أعرفه -فقط- عن إريتريا: أنها دولة صغيرة، ضعيفة، هزيلة، استضعفتها أثيوبيا فاستولت عليها لتكون وسيلة لوصولها إلى البحر الأحمر! ومنذ قرابة ثلاثين عاماً وهي تعيش تحت الحكم الإثيوبي والاستعمار الكافر، نام المسلمون وتركوا هذا الأمر مدة طويلة من الزمن! فقام مجموعة من النصارى وغيرهم من أشباههم، وكونوا ما يسمى بالجبهة الشعبية، والجبهة الشعبية نسمع عنها أخباراً لا تسر الصديق.
وكانت هناك دول ساهمت في ذلك كإريتريا والعراق وغيرها من الدول التي أرسلت جماعات، وما ندري ما نقول عن هذه الجماعات، المهم أن علماء المسلمين من إريتريا والصالحين والأتقياء تنبهوا إلى أن قضية إريتريا لا يحلها إلا الإسلام، ولا يقضي على العدو إلا الإسلام، فعلمت أخيراً أن علماء المسلمين تجمعوا في بعض البلاد المجاورة هناك -كالسودان وغيرها- وقد بدءوا يفكرون في إعلان الجهاد في سبيل الله، وهم الآن يستأذنون من الدول التي يعيشون فيها لتسمح لهم بالجهاد في سبيل الله، ولو قام الجهاد في سبيل الله لحلت المشكلة إن شاء الله.(50/8)
التوفيق بين التربية داخل المسجد واحتياجات العصر
السؤال
كيف تكون التربية داخل المسجد؟ وهل هي في حضور الجماعات أم ماذا؟ وكيف يكون ذلك والعالم الإسلامي يحتاج الآن إلى معارف وعلوم شتى لا يمكن أن تكون داخل المسجد؟ وأنتم قد ذكرتم أن السلف تربوا داخل المسجد ونشروا الإسلام من داخل المسجد؟
الجواب
المسجد من أوله إلى آخره مركز تربية؛ ولذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أمرنا بأن نختار السن المناسبة لتربية الطفل، وهي التي ذكر علماء التربية أنها من سن السابعة، فنأمره بالصلاة، ومعنى ذلك أننا نذهب به إلى المسجد ليتربى هناك، والمسجد سواء كان في حضور صلاة الجماعة، أو في اللقاء بالصالحين، أو في تلاوة وتعلم القرآن، أو في التسبيح ومعرفة عظمة الله سبحانه وتعالى، أو في حلق الذكر ومجالس العلم، فهذا كله يعتبر تربية.
ونحن حينما نتحدث عن التربية في المسجد لا نريد أن نحصر العلوم كلها في المسجد، وإن كنا نتمنى أن يكون المسجد منطلقاً لكل علوم الإسلام وعلوم الدين والدنيا، لكنا نقول في أيامنا الحاضرة: لا يلزم أن يكون المسجد وحده هو المنطلق، بل يجب أن يكون هو المنطلق الأول! ونحن لا نقول للناس: ابقوا في المسجد، واتركوا طلب العلم، والكسب، والتحصيل، ولكنا نقول: خذوا من المسجد بالنصيب الأكبر، ونافسوا الناس على أمور الدنيا بحدود، وادخلوا الكليات العلمية: كالطب، والهندسة، وغير ذلك، لكن يجب أن تكون قلوبكم معلقة بالمساجد دائماً، واحذروا أن تضيعوا صلاة من الصلوات الخمس في المسجد؛ لتكون تربيتكم مرتبطة بهذا المسجد، أما أن نقول للناس: يجب أن تكون الجامعات والكليات كلها داخل المساجد، فهذا لا يلزم، وإنما الذي يلزم هو أن يكون للمسجد أوفر نصيب، أما في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فما كانت هناك دور للعلم سوى المساجد، فكان المسجد يؤدي الدور الكامل، سواء من ناحية التربية العسكرية، أو التربية الدينية، أو ما أشبه ذلك.
المهم! أن المسجد له دور عظيم، ودوره ما زال باقياً، وسيبقى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وذلك لا يمنع أن يساهم الإنسان في أي جانب من جوانب الحياة الأخرى.(50/9)
خطر انتشار اللهجة العامية وترك اللغة العربية
السؤال
زادت في العشرين السنة الماضية الكتابة والنشر في الصحف والمجلات العامة وغيرها باللهجة العامية في المملكة، واليوم يعقد لها ندوات ومحاضرات، فما أثر هذا على الإسلام؟
الجواب
هذا خطير على الإسلام؛ لأن محاربة اللغة العربية تعتبر محاربة للإسلام، واللغة العربية هي لغة القرآن، ولغة الرسول صلى الله عليه وسلم والعرب الذين بلغوا دعوة الإسلام إلى العالم؛ لأن الله تعالى يقول: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم:4]، وطالب الله عز وجل العرب -بصفة خاصة- والمسلمين -بصفة عامة- أن يبلغوا دعوة الإسلام، وأعداء الإسلام الذين يطعنون في الإسلام لا يتركون جانباً من جوانب حرب الإسلام إلا ويتطرقون له، ويأخذون منه بنصيب، فكان من أهم الجوانب التي دعوا إليها الشعر الحر! والدعوة إلى العامية، وما أشبه ذلك.
وليس عجيباً أن تعقد لها مؤتمرات وندوات، والشعر الحر يجد رواجاً، ويحمل رموزاً تنذر بخطر، فإن خلال الرماد وميض نار، وعلى هذا أقول: إن محاربة اللغة العربية يعتبر محاربة للإسلام، وإن الدعوة إلى العامية تعتبر محاربة للغة العربية، والله المستعان.(50/10)
دين الإسلام شامل لجميع جوانب الحياة
السؤال
ما هو الرد على هذا التساؤل: المتدينون في أغلبهم درجوا على جعل الإسلام عاماً لجميع جوانب الحياة والحضارة، وهذا أدى إلى الطعن في الإسلام من قبل الكفار والمنافقين؟
الجواب
دين الإسلام دين عالمي، ومنهجه منهج حياة متكاملة، يقول الله عز وجل: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38]، وقال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89].
ولذلك فإن دين الإسلام دين عالمي حضاري، فيه: منهج حياة، واقتصاد، وسياسة، وأخلاق، واجتماع، إلى غير ذلك، فقد ربى أمة فهمت هذا كله من الإسلام، ثم درج المسلمون على ذلك مدة طويلة من الزمن، ويعتبرون الإسلام هو مصدر الحضارة، والقرآن هو مصدر الرقي والتقدم، ولم يطرقوا جانباً من جوانب الحياة إلا بهدي من كتاب الله عز وجل، والله تعالى يقول: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9] أي: للطريقة التي فيها سعادة الدنيا والآخرة.
هذا فهم المسلمين في القديم وفي الحديث، ثم أراد أعداء الإسلام أن يطعنوا في الإسلام ويفصلوا الإسلام عن الحياة، وجاءوا بما يسمونه بالعلمانية التي يقولون فيها: ما لله لله وما لقيصر لقيصر! هذه كلمة قيلت قبل الإسلام، لكنها لا تصلح للإسلام؛ لأن الإسلام منهج حياة متكاملة، يقول الله تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [البقرة:284]، فليس هناك شيء لله وشيء لقيصر، بل الأمر كله لله عز وجل، {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ}، وعلى هذا نقول: إن الدعوى التي تزعم أن توسيع مسئولية الإسلام هي التي سببت الطعن في الإسلام أو الخروج عن الإسلام باعتبار أنه تعدى الحدود! دعوى خاطئة.
نقول: لا، فهذه كلها في حدود الإسلام، والله عز وجل هو الذي شرع الشرائع، وهو الذي سن القوانين والأنظمة، وسأضرب لكم مثلاً: هناك آيات في القرآن تتحدث عن العبادات ثم تتحدث عن العشرة الزوجية وأنظمة الحياة، كما تجدونها في آخر الجزء الثاني من سورة البقرة، حيث ذكر الله تعالى العبادات ثم ذكر بعدها الأنظمة، ثم يذكر العبادات، ثم يعود مرة أخرى إلى الأنظمة، ليعلم الناس أن الإسلام نظام حياة، حينما يتكلم عن العلاقات الزوجية يقول الله تعالى بعد ذلك: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ * فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} [البقرة:238 - 239]، إلى غير ذلك، ثم يذكر الله عز وجل مرة أخرى أحكام العلاقات الإنسانية.
وهناك آية في القرآن قسمت إلى ثلاثة أقسام، وهي قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ} [المائدة:3]، وآخر الآية: {فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:3].
فهذه الآية أول ما نزل أولها، ثم نزل بعد ذلك آخر جزء منها: (فَمَنْ اضْطُرَّ)، وأما وسط هذه الآية فإنه نزل في آخر ما نزل من الإسلام في حجة الوداع: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3]، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن تشطر تلك الآية وتوضع هذه الآية في وسطها؛ حتى يعلم الناس أن الإسلام ليس منهج عبادة فقط، بل هو منهج حياة متكاملة، ولذلك جمع بين العبادات والمعاملات والسلوك والأخلاق والأنظمة، وعلى هذا نقول للذين يزعمون أن توسيع دائرة الإسلام هو الذي أدى إلى ضياع بعض المسلمين، وانحرافهم عن الدين: ليس الأمر كذلك، بل هذا هو الذي زاد المسلمين ثقة بدينهم وبربهم وبكتاب ربهم سبحانه وتعالى، أما الذي حرفهم عن التمسك بالدين فهم شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً.(50/11)
نبذة عن حياة الشيخ عبد الله الجلالي
السؤال
هلا ذكرتم لنا نبذة مختصرة عن حياتكم؟
الجواب
أنا أخوكم: عبد الله الجلالي، تخرجت من كلية الشريعة في عام (1381هـ)، ودرست في المعاهد العلمية، ودرست بعض الدراسات العليا في الأزهر، وكنت أدرس في السنوات الماضية في جامعة الإمام، لكن هذه السنة ما سمحوا لي، وما أدري ما هو السبب؟!(50/12)
موقف الإسلام من العلمانية
السؤال
تحدثت قبل قليل عن العلمانية، فما موقفنا منهم؟
الجواب
موقفنا منهم العداء، فهؤلاء العلمانيون هم أعداء دين الله عز وجل؛ لأنهم يريدون أن يحصروا الدين في المسجد، ولا يخرجوه للحياة، ويقولون: الدين يجب أن يبقى في المسجد، ويدير الحياة الدينية فقط، ويقال: هذا مطوع، أو هذا من رجال الدين -كما هو حال النصارى- وإلى غير ذلك.
وإذا أراد الإنسان الخروج عن هذا النطاق اعتبروه متعدياً للحدود، فهؤلاء هم أعداء الله عز وجل، وهؤلاء اتهموا دين الله بأنه دين قاصر لا يصلح للحياة، ونشأ عن ذلك شرع القوانين الوضعية التي صاروا يحكّمون فيها البشر؛ لأنهم يرون أن شرع الله لا يصلح إلا في عهد الخيمة والبعير، أما في عهد الطائرة والصاروخ والمركبة الفضائية إل، فلا يصلح هذا الدين، ويقولون: قد استنفد أغراضه، فهؤلاء لم يتركوا الدين حتى في المسجد، فلما حصرهم المسجد بدءوا يطاردونه داخل المسجد.
وعلى كل حال نقول: يجب أن يكون موقفنا منهم أنهم مرتدون؛ لأنهم يرون أن شرع الله لا يصلح للحياة، ويرون أن شرع الله لا يمكن أن يتدخل في أمور الدنيا، وأن شرع الله قاصر وحكم الله لا يصلح لحل مشاكل البشر!! والله تعالى حكم عليهم بالردة والكفر فقال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ [المائدة:44]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47]، وقال في سورة النور: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمْ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمْ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ} [النور:48 - 50]، فهؤلاء الذين لم يريدوا لشرع الله عز وجل أن يخرج من المسجد، بل لا يريدونه أن يبقى حتى في المسجد؛ مرتدون، ولا يجوز أن نعتبرهم في حساب المسلمين، وكلمة علمانية في بعض الأحيان يلطفونها، لكنهم يكلون كل شيء للعلم، أما دين الله عز وجل فإنه يجب أن يكون خاصاً بالطقوس والتعبدات والسلوك والأخلاق والفضائل! ولذلك لا يسمح العلمانيون للخطيب أو المتحدث أن يتحدث في أمور الدين في بعض الدول الإسلامية التي تبنت العلمانية، وسأضرب لكم مثلاً في واحدة منها: أندونيسيا كادت أن تحكمها الشيوعية فترة من الزمن ثم تغيرت المعايير، فحكمها نوع آخر من الكفر وهو العلمانية، ولو ذهبت إلى أندونيسيا لرأيت العجب العجاب! تخرج إلى الشارع فترى الأمة متفسخة منحلة! ثم تدخل إلى المسجد فترى هذه الأمة المتفسخة تدخل المسجد، وتصلي النساء في مساجد خاصة في مؤخر المساجد، ثم تخرج هذه الأمة إلى الشارع فتعود إلى تفسخها وإلى خلاعتها، والله يعلم ما وراء ذلك.
فهذه كلها من نتائج العلمانية، ولذلك أقول: إن دين الله عز وجل دين كامل لا يهمل أي جانب من جوانب الحياة كما قال تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [البقرة:284]، فما دامت هذه الأشياء داخل السماوات والأرض؛ فيجب أن يكون الحكم فيها لله، ويجب أن يكون التصرف فيها لله عز وجل، فالعلمانية مرفوضة شرعاً وعقلاً.(50/13)
حكم لبس خاتم الفضة
السؤال
هل يجوز لبس خاتم الفضة؟
الجواب
لبسه جائز، بل هو أقرب ما يكون إلى السنة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم فعله، وإذا فعله الرسول صلى الله عليه وسلم -وإن كان فقط من عاداته الخاصة لا من التعبدات- فهو أقرب إلى السنة منه إلى الجواز، أما خاتم الذهب فهو محرم بلا خلاف بين العلماء، وقد شبهه الرسول صلى الله عليه وسلم بالجمرة يضعها الإنسان في يده، وخاتم الذهب يستعمله الآن بعض الرجال، وأنا أحذر هؤلاء من هذا العمل.(50/14)
متى يجوز الجمع والقصر للمسافر؟
السؤال
من خرج من مدينته يريد النزهة خارج المدينة لمدة ثلاثة أيام، وعلى بعد ثمانين كيلو متر، فهل يجوز له جمع الصلاة وقصرها؟
الجواب
الشرع لم يحدد مدة في السفر، ولا حدد مسافة، والعلماء اختلفوا في المسافة، لكن الذي يظهر أنه ليست هناك مسافة محددة، فله أن يقصر إذا لم ينو الإقامة الطويلة، فإن بعض العلماء يرى أن ما يسمى سفراً عرفاً يعطى حكم السفر دون أن يحدده بالمسافة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحدد بالمسافة ولا بالوقت، فنعرف حد السفر بحسب العرف بين الناس، فإذا كان يعتبر عند الناس سفراً فإنه يأخذ كل أحكام السفر من الفطر والقصر والجمع والمسح على الخفين لمدة ثلاثة أيام إلى غير ذلك.
أما الجمع فيرى بعض العلماء أنه صلى الله عليه وسلم ما كان يجمع إلا إذا كان على ظهر مسير؛ لأن الجمع من أجل التيسير للمسافر بدل أن ينزل مرتين ليصلي الظهر والعصر، ينزل مرة واحدة فيصليهما جميعاً في آن واحد، فالأحوط ألا يجمع الإنسان وإن كان يقصر، إلا إذا كان ماشياً في الطريق.(50/15)
الإسلام منهج حياة متكاملة
السؤال
الحركات الدينية حولت الدين إلى فكر سياسي أيديولوجي من خلال الطرح لعدد من الآراء والأفكار من قبل بعض الكتاب من أمثال: سيد قطب، والمودودي، والنبهاني وغيرهم، فطرح هؤلاء أفكاراً في: السياسة، والاقتصاد، والاجتماع وغيرها، ووضعوا الحدود والفواصل بين النساء والرجال، وانطلاقاً من أن هذه الأفكار لا تعدو كونها مجرد اجتهادات شخصية من هذا وذاك، أفلا يحق لكل ذي رأي مناقشة هذه الآراء والأفكار من أجل تقويمها؟
الجواب
نعم يحق لأي إنسان ذلك، لكن الحقيقة أن دين الإسلام دين حركي وليس ديناً خاملاً، وعلى هذا نقول: إن الإسلام منهج سياسة واقتصاد وأخلاق، وليس عجيباً أن يتجه المودودي، والندوي، وسيد قطب، وكل هؤلاء يرحمهم الله تعالى ليبينوا للناس أن الإسلام منهج حياة متكامل، وأن الإسلام يرفض كل حكم غير حكم الله عز وجل، ويرفض كل حاكم لا يحكم بشرع الله عز وجل، هذا هو منهج الإسلام الصحيح، وهؤلاء لم يجتهدوا من عند أنفسهم، وإنما أخذوا هذا المسار وهذا المنهج من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأخلاقه ومعاملاته للناس، فالقرآن منهج سياسة: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الشورى:38]، ومنهج شورى، ومنهج حياة، والإسلام منهج اقتصاد: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} [الفرقان:67]، فشرع الزكاة، وشرع الواجبات، وحدد طرقاً مباحة لكسب المال، وحرم الطرق المضرة، والإسلام منهج أخلاق وفضيلة، واقرءوا إن شئتم سورة النور في نصفها الأول وستجدون كيف اهتم الإسلام بالأخلاق الفاضلة.
والإسلام نظام اجتماعي عالمي لا يساويه أي نظام، واقرءوا ما ورد من حقوق الوالدين وصلة الرحم وحقوق الجوار إلى غير ذلك، وبعد ذلك كله، هل يليق بأي واحد من الناس أن يظن أن الإسلام ليس منهج حياة متكاملة؟! هؤلاء الكتاب الذين أبرزوا صورة الإسلام الحقيقية يعتبرون قد اجتهدوا أو سلكوا مسلكاً أيديولوجياً كما يقال، والناس والعلماء يختلفون على مستويات متعددة ومختلفة في فهم حقيقة الإسلام، وهؤلاء يعتقد أنهم عاشوا في فترة بين الجاهلية والإيمان، وهذه الفترة استطاعت أن تعطيهم هذه الدروس، فهم عاشوا في فترة بين أمتين، وعاشوا مخضرمين بين الفترة التي نشأت فيها القوانين والأنظمة، وتمرد فيها كثير من الناس على شرع الله عز وجل، فكانوا -بحق- مجتهدين، لكنهم مجتهدون بمقدار ما فهموا من كتاب الله عز وجل وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا نقول: الإسلام دين حركي، ومنهج حياة متكاملة، ومن ظن غير ذلك فإن عليه أن يراجع فهمه أو إيمانه.(50/16)
خطر القنوات ووسائل الإعلام على تربية الناشئة
السؤال
ماذا عن تربية الأبناء في ظل هذا الإعلام؟ وما رأيكم فيما سمع عن نية إطلاق قمر صناعي يبث في الخليج وغيرها من المناطق؟
الجواب
الحقيقة أن العلم الحديث جر آثاراً سيئة بمقدار ما جاء بحسنات، فالعلم الذي نقل الأفكار من الشرق إلى الغرب بواسطة التسجيل والمذياع والوسائل الأخرى، هو الذي جاء أيضاً بهذه الوسائل التي لها أخطار كبيرة على الناشئة، بل إنه أحدث ازدواجية في نفوس طائفة من الشباب والأطفال الذين لا يدرون أيصدقون ما يجدون من اللهو واللعب بجوار ما يسمعون من الخير والحكمة؟! أهذا المقصود أم ذاك؟! ولربما يخرج هذا الطفل وهو لا يميز بين النافع والضار، والحلال والحرام، والخطر والمفيد.
وعلى كل حال فإن وسائل الإعلام أخطارها معروفة، لأنكم أدركتموها، ودور كل واحد منا أن يتقي الله عز وجل في أمانته، وأن يحول بين أهله وذريته وبين الوسائل التي أصبحت تجر كثيراً من الأخطار على الناشئة.
أما بالنسبة للقمر الصناعي فهو سيأتي بجديد من الأخطار بلا شك، لكننا نقول من جهة أخرى: وسائل النقل التي تنقل الناس أصبحت الآن متوافرة، وتصوروا كم نسافر يومياً من البلاد الإسلامية المحافظة إلى البلاد التي لا ترعى إلاً ولا ذمة في دين الله، آلاف الشباب يومياً يسافرون؛ حتى انتشرت المخدرات والمحرمات بسبب هؤلاء، ولربما انتقل شيء من الأمراض والأوبئة التي جاءوا بها من تلك البلاد.
المهم أن هذا سيضيف شيئاً جديداً، بحيث يصبح الإنسان الذي كان لا يشاهد من وسائل الإعلام إلا ما يخضع لشيء من الرقابة، التي ما أدت دورها، سوف يأتي يوم من الأيام وبإمكانه أن يشاهد كل شيء، والسبيل للنجاة لا يخلو من أحد أمرين: الأمر الأول: هو الحق، الثاني: فيه بعض الحل للمشكلة.
أما الأول: فهو أن يكون المؤمن قوياً في شخصيته، يحرس بيته وأهله وأسرته بالإيمان، ولا يسمح لأي شر أن يتسرب إلى بيته.
أما الشيء الآخر: فهو -على الأقل- أن يراقب هذه الأشياء، وأن يحاول أن يخفف من مصائبها لعل الله سبحانه وتعالى أن يقيه من هذه الفتن.
0 وأول ذلك وآخره هو أن نربي الناشئة على طاعة الله عز وجل؛ حتى يستطيعوا أن يعرفوا النافع من الضار، إضافة إلى ما نقدمه من الحيلولة بينهم وبين هذه الوسائل القديمة أو الجديدة.(50/17)
معنى قوله تعالى: (يدنين عليهن من جلابيبهن)
السؤال
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59]، هل معناها: الأمر بالحجاب، وأن كشف الوجه للمرأة غير جائز؟
الجواب
انقسم العلماء في فهم هذه الآية على فريقين: بعضهم يقولون بوجوب الحجاب كاملاً، وأنه لا يجوز للمرأة أن تكشف وجهها ولا يديها، وهذا يمثل رأياً لبعض العلماء.
يقول بعضهم: تدني الحجاب على وجهها فلا يظهر شيء من ذلك، وبعضهم استثنى عيناً واحدة لتنظر فيها، وهؤلاء لهم مأخذ من هذه الآية، لكن الآية الأخرى أوضح استدلالاً، وهي قوله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31] قالوا: إن الخمار -وهو ما يغطى به الرأس- لا يمكن أن يصل إلى الجيب إلا ماراً بالوجه.
والرأي الآخر يرى أنه لا بأس بكشف الوجه والكفين، وهو رأي طائفة من العلماء، إلا أنهم مجمعون -الأولون والآخرون- على أن كشف الوجه واليدين إذا كان يؤدي إلى الفتنة فإن ذلك لا يجوز، والفتنة لا شك أنها موجودة؛ لأن الوجه هو موضع الفتنة، وعلى هذا يكاد يكون العلماء متفقين على تغطية الوجه؛ لأن الفتنة ستلازم كشف الوجه.
والذين يقولون بعدم تغطية الوجه يقولون في معنى: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59]: تدني من الجانب الأيمن فتغطي شيئاً من الخد، ومن الجانب الأيسر فتغطي شيئاً من الخد، ولا يمنع أن يخرج شيء من الوجه؛ لأن الله تعالى ما قال: تحتجب وإنما قال: يدنين، والإدناء معناه: التقريب لا التغطية.
على كل حال، هذا مأخذ بعيد، والأدلة كثيرة على تغطية الوجه والكفين، وأن المرأة لا يجوز أن يرى منها أي شيء من بدنها، وعلماء المسلمين أجمعوا على أنه في حال الفتنة لا يجوز للمرأة أن تكشف شيئاً من وجهها، والفتنة تلازم الوجه؛ لأن الوجه هو موضع الفتنة، فالعينان والأنف والفم والخدان وكل مراكز الجمال تتجسد وتجتمع في الوجه.
وعلى كلٍ فإن الاحتياط واجب، بل هو الأمر اللازم، وهو الحجاب الكامل، وهو حجاب المرأة المسلمة، والنبي صلى الله عليه وسلم ذكر أنه يأتي نساء في آخر الزمان كاسيات عاريات، ومعنى كاسيات عاريات أي: تخرج شيئاً من بدنها وإن كانت قد كست شيئاً من جسدها، والحجاب هو الذي يعلم المرأة الحياء، والحياء هو خلق هذه الأمة كما جاء في الحديث: (إن لكل أمة خلقاً، وإن خلق هذه الأمة الحياء) والمرأة إذا أخرجت وجهها تعتبر هذه هي المرحلة الأولى بالنسبة لما سيحدث بعدها، فبإخراج الوجه يخرج ما بعده، ويقل الحياء، فلربما تكشف عن شعرها بعد ذلك، أو عن نحرها، أو عن ذراعيها، أو عن ساقيها، وهذا هو ما حدث بالفعل، فإن العالم الإسلامي ما انتشر فيه هذا التبرج إلا بعد ما كشفت المرأة وجهها، والذين يطالبون المرأة بكشف الوجه لا أظن أنهم سوف يقفون عند هذا الحد، بل إنهم يعتبرون هذا هو المرحلة الأولى، والخطوة التي يبدءون وينطلقون منها.
والله المستعان.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(50/18)
اتقوا ربكم
شرع الله عز وجل للناس شرائع، وحد لهم حدوداً، وعظم سبحانه تلك الشرائع والحدود، وأمر باحترامها والمحافظة عليها، وتوعد من تعداها بالوعيد الشديد، كما شرع الله سبحانه وتعالى التوبة لمن تعدى شيئاً من هذه الحدود، وبين شروط ومقومات هذه التوبة.(51/1)
تعظيم حدود الله وشرائعه
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونثني عليه الخير كله، ونشكره ولا نكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله ومن دعا بدعوته ونصح لأمته إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الإخوة! هذه هي الحلقة الثانية من سورة النساء، ابتداءً من قول الله عز وجل: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [النساء:13] إلى آخر الثمن.
وقد تبين لنا من حدود الله عز وجل في الثمن الأول من هذه السورة أمور عظيمة هي من حدود الله سبحانه وتعالى التي أمر الله سبحانه وتعالى باحترامها والمحافظة عليها في هذه الآية، من تلك الحدود: صلة الرحم، والمحافظة على حقوق الأيتام، وحقوق النساء ومهورهن؛ حتى لا يتلاعب بهن الإنسان، ومن تلك الحدود: احترام تشريع الله عز وجل حينما أباح للرجل أكثر من زوجة؛ محافظة على المجتمع من الانهيار والفساد والتفكك، ومن حدود الله عز وجل: حفظ أموال الناس وأموال الدولة؛ بحيث لا تصبح بأيدي السفهاء يتلاعبون بها، وذلك في قوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء:5]، ومن حدود الله: أحكام المواريث التي لم نتعرض لها؛ لأنها تحتاج إلى بحث خاص.
هذه الحدود عظمها الله عز وجل فقال: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} [النساء:13]، والإشارة بالتاء مع اللام -لام البعد- مع كاف الخطاب يدل على عظمة المشار إليه وعلى أهميته.
والحدود معناها: الحواجز، أي: الأمور العظام التي وضعت حاجزاً أمام النفس البشرية لا تتعداها؛ لأنها من أوامر الله سبحانه وتعالى.
ثم أخبر الله عز وجل أن هذه الحدود من التزم بها، ووقف عندها، ولم يتعداها؛ فإنه مطيع لله ولرسوله، فقال: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [النساء:13]؛ فالذين يتبعون حدود الله وأوامره، ويقفون عند نواهيه، ويلتزمون بحدوده فلا يتعدونها، ويعصون في ذلك نفوسهم والشيطان، ويطيعون أمر الله عز وجل وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، هم الذين يستحقون هذه الجنة التي تجري من تحتها الأنهار.
أما النوع الثاني: فهم الذين يريدون أن يتجاوزوا حدود الله في مثل هذه الأوامر وغيرها؛ فيقطعون الرحم، ويعترضون على حكم الله عز وجل الذي أباح للرجل أربع نساء، أو لا يقفون عند حدود الله في معاملة النساء والعدل بينهن، أو لا يقفون عند حدود الله في حقوق اليتامى، أو الأموال، أو المواريث، فيقول الله عز وجل عن هؤلاء: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء:14]، هذه هي عقوبة الذي يتعدى حدود الله، وتلك للذين يلتزمون بحدود الله ويقفون عندها.(51/2)
حد الزنا وأحكامه في الإسلام
ذكر الله عز وجل بعد ذلك شيئاً من الحدود، بعد أن أمر بالالتزام والوقوف عند حدوده سبحانه وتعالى، فذكر أمر النساء اللاتي يقعن في الفاحشة، فكما عظم الله عز وجل أمر النساء، وأمر بعشرتهن، والإحسان إليهن، وإتيانهن حقوقهن، هنا عظم الفاحشة وهي: فاحشة الزنا، والعجيب أن أمور الزنا والفواحش دائماً يبدأ فيها بالنساء قبل الرجال، وليست الفاحشة مقصورة على المرأة؛ بل لا تكون إلا بين الرجل والمرأة، ولكن لما كانت المرأة أعظم شناعة، وأشد قبحاً، وأعظم خطراً؛ فإن الله تعالى يقدم في مثل هذه الأمور المرأة على الرجل، كما قدمها في سورة النور في قوله سبحانه وتعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2]، فقدم الزانية على الزاني، وهنا قدم حكم النساء أيضاً على حكم الرجال فقال سبحانه: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء:15].(51/3)
حد الزنا المنسوخ
وهذه من الآيات المنسوخة حكماً، فقد كان في أول الإسلام وقبل أن تنزل الحدود، وقبل أن تشرع، بما في ذلك حد الزنا الذي يقول الله عز وجل عنه في سورة النور: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2]، ويقول في سورة الأحزاب في آية منسوخة اللفظ: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة)، وهناك أحاديث صحيحة وردت برجم الزاني المحصن، وجلد وتغريب الزاني والزانية غير المحصنين، فقبل أن ينزل ذلكم الحكم كان الأمر كما ذكر الله عز وجل هنا: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} [النساء:15]، والمراد بالفاحشة هنا: فاحشة الزنا على رأي جمهور علماء التفسير، وإن كانت قد فسرت عند طائفة منهم بفاحشة الخطأ، أي: الفحش في القول بالنسبة لمعاملة الرجل للمرأة، لكن الفاحشة حينما تذكر مطلقة إنما يراد بها فاحشة الزنا، ويؤيدها الحديث الذي سوف نذكره إن شاء الله.
إذاً: المراد بالفاحشة هنا فاحشة الزنا، وهذا في أول الإسلام، فقد أمر الله عز وجل أن نستشهد على المرأة إذا وجدناها تمارس فاحشة الزنا أربعة من الشهود، وإن كان قد نسخ لفظ هذه الآية وحكمها، لكنه بقي الاحتفاظ بالشهود الأربعة، فنجد هنا الأربعة الشهود، ونجد في سورة النور: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2]، ثم يذكر الله عز وجل الأربعة الشهود: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور:4].
ثم يذكر بعد ذلك آية الملاعنة؛ حيث خفف الله عز وجل عن الزوج حينما يشك في صلاح زوجته واستقامتها، وحينما يجد عندها -نسأل الله العافية والسلامة- رجلاً في فعل الحرام؛ فإنه يكلف بأربعة أيمان بدل أربعة شهود، وعلى هذا فإن الزنا لا يثبت إلا بأربعة شهود يشهدون شهادة واضحة على فعل الرجل أو فعل المرأة الفاحشة، وحينئذٍ يقام الحد.
ويكفي عن هؤلاء الشهود الأربعة أربعة اعترافات، كما حصل من ماعز بن مالك رضي الله عنه حين وقف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! إني زنيت، فأعرض عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم قالها ثانيةً، وثالثة، حتى إذا كررها في الرابعة قال صلى الله عليه وسلم: أبك جنون؟ هل فعلت كذا) إلخ، ثم أقام عليه الحد.
وهنا ذكر الله عز وجل حتى في الآية المنسوخة أن الحكم يكون بأربعة شهود، فقال: (فاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ)، أي: أربعة شهود عدول، و (منكم) الضمير يعود إلى المسلمين، وعلى هذا فإنها لا تقبل شهادة الكافر، كما لا تقبل شهادة الفاسق؛ فالكافر لا تقبل شهادته في حدود الله عز وجل، كما أن الفاسق الذي عرف منه فسق وتعدٍ لحدود الله عز وجل لا تقبل شهادته، فإن الضمير في قوله: (منكم) يعود إلى المسلمين العدول.
قال تعالى: {فَإِنْ شَهِدُوا} [النساء:15]، أي: شهدوا بأنها فعلت الفاحشة، {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء:15]، هذه الآية -كما قلت لكم- منسوخة بما في سورة النور: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2]، وبالأحاديث الصحيحة في رجم الزاني، وقد كان ذلك في أول الإسلام، فقد أمر المسلمون أن يعاملوا الزانيات بأن يمسكوهن في البيوت، وأن يؤذوا الرجال، كما في الآية الثانية، حتى نزلت آيات الحدود، فقال عليه الصلاة والسلام: (خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم)، وقوله عليه الصلاة والسلام: (قد جعل الله لهن سبيلاً)، إشارة إلى قول الله تعالى: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء:15]، فتكون هذه الآية منسوخة بآية النور وبالأحاديث الصحيحة.(51/4)
حد الزنا المحكم غير المنسوخ
وعلى هذا فإن الأذى والحبس في البيوت كان في أول الإسلام، أما وقد استقر الحد فإن عقوبة الزاني إن كان ثيباً محصناً أن يجلد ويرجم.
واختلف العلماء في الجلد، واتفقوا على الرجم إذا كان محصناً، والمحصن: هو من وطئ زوجته المسلمة بنكاح صحيح وهما بالغان عاقلان حران، فإن المحصن الذي عرف قدر نعمة الغيرة على المحارم، والذي قد أتم الله عز وجل عليه النعمة الحلال، ثم يجنح إلى الحرام؛ فإن عقوبته أن يرجم، أما البكر من الرجال والنساء فإن عقوبتهما الجلد مائة جلدة، مع التغريب سنة.
واختلف العلماء أيضاً بالنسبة لجلد المحصن قبل الرجم، فقالت به طائفة كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكما هو رأي طائفة من العلماء، ولذلك يقول الله تعالى عن الرجل والمرأة: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ} [النساء:16]، أي: يأتيان فاحشة الزنا، والضمير في (منكم) أي: من المسلمين، والخطاب دائماً يعود للمسلمين، مع أن عقوبة الزاني وردت في الكتب السماوية التوراة والإنجيل والقرآن كما في قصة اليهوديين.
{وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} [النساء:16]، المراد بالأذى: التعيير واللوم والعتاب والتشنيع والسب، {فَإِنْ تَابَا} [النساء:16]، أي: رجعا إلى الله عز وجل، {وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} [النساء:16]، أي: أصلحا العمل، ودائماً تقرن التوبة بالإصلاح، أي: أن التوبة التي لا تقترن بعمل صالح قد تكون توبة غير صحيحة.
ولذلك يكلف العبد إذا تاب إلى الله عز وجل أن يصلح العمل، كما قال الله عز وجل في سورة هود: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114]، ولذلك كلما فعل الإنسان سيئة فعليه أن يعمل بجوارها حسنة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها)، وعلى هذا فإن الإصلاح أمر مطلوب كما أن التوبة أمر مطلوب، والدليل على صدق التوبة وحسنها هو: إصلاح العمل، ولذلك على من وقع في معصية من معاصي الله ثم تاب ورجع إلى الله عز وجل أن يكثر من الأعمال الصالحة، عسى الله أن يتجاوز عنه.
ولما تخلف كعب بن مالك رضي الله عنه عن غزوة تبوك، ثم أنزل الله عز وجل توبته في سورة التوبة: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة:118] إلى آخر الآيات، جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! إن من توبتي -أي: من شكر نعمة الله علي بالتوبة- أن أنخلع من مالي كله لله عز وجل، فقال له عليه الصلاة والسلام: أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك).
وعلى هذا فإن من صمم وعزم على التوبة، وصدق في توبته إلى الله عز وجل؛ فإن عليه أن يصلح العمل، وأن يبادر بالإكثار من الصالحات من نوافل العبادة، إضافة إلى فرائض العبادة، ولكن لا يبدأ بالنوافل ويضيع الفرائض، فإن الله عز وجل يقول في الحديث القدسي: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه).
قال تعالى: {فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا} [النساء:16]، أي: أصلحا العمل، {فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} [النساء:16]، أي: بالنسبة للأذى؛ لأن الله تعالى قبل التوبة، ولأن الناس عليهم أن يقبلوا هذه التوبة، ولأنه لم تنزل هناك حدود في هذا الأمر قبل سورة النور.
{إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء:16]، وكلمة (كان) إذا جاءت في لغة العرب معناها: مضى وانتهى، لكنها إذا جاءت بالنسبة لله عز وجل وأسمائه وصفاته فإنها تدل على الاستمرار والدوام، أي: ولا يزال الله عز وجل تواباً يقبل التوبة، (رحيماً)، أي: يرحم عباده فيقبل توبتهم.(51/5)
التوبة حقيقتها ووقتها
بعد ذلك ذكر الله تعالى التوبة الحقيقية: ما هي؟ وما وقتها؟ وما شكلها؟ قال الله: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} [النساء:17]، و (إنما) هنا للحصر، والتوبة معناها: قبول التوبة من الله عز وجل، واختلف العلماء بالنسبة لتفسير كلمة (على)؛ لأن (على) تدل على الوجوب، فيقول بعض المفسرين: إن الله تعالى قد أوجب التوبة على نفسه، أي: أن يقبل توبة من تاب إليه، بدليل قوله تعالى: (على الله)، ولم يقل: (من الله)؛ فـ (على) تدل على الوجوب، وليس هناك شيء واجب على الله عز وجل، ولكن لكرمه وإحسانه، وليطمئن ذلك العاصي الذي انغمس في الرذيلة والمعصية إلى ذقنه أن يطمع في الله عز وجل، وألا يقنط من روحه، فقال سبحانه وتعالى: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ)، فـ (على) وإن كانت للوجوب لكن وجوبها من الله عز وجل للعبد شيء أوجبه على نفسه سبحانه وتعالى؛ ولذلك فإن هذه الآية تعتبر أرجى الآيات بالنسبة لقبول التوبة من الله عز وجل على العبد؛ لأن الله تعالى فرضها وأوجبها على نفسه.
(إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ) لمن؟ {لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} [النساء:17]، ولعل أحداً من الناس حينما يسمع (بجهالة) ويسمع (من قريب) لربما ييأس بعض من انغمس طوال عمره في معصية الله عز وجل، وهو على علم ويقين من أنه عصى الله سبحانه متعمداً، لكننا نطمئنك بأن قوله تعالى: (بجهالة) ليس معناه بجهل، فحتى من عصى الله بعلم؛ فإن الله عز وجل يقبل توبته كما وعد.
ولا يجوز أن نفسر الجهالة بالجهل؛ لأن الجاهل غير مؤاخذ، فكل من جهل ذنباً فلا تسجل عليه المعصية، وإنما المراد بالجهالة أي: في أيام الجهل والغفلة، والضياع، والسفه، والشباب والصبوة في أيام مضت غفل فيها عن الله عز وجل، فأصبح كأنه جاهل؛ لأنه يعيش عصرا ًجاهلياً؛ وعلى هذا فليطمئن الذي أمضى عمره كله أو جله في معصية الله عز وجل، ثم أقبل على ربه سبحانه وتعالى؛ فليبشر بأن الله تعالى قد أوجب على نفسه سبحانه وتعالى أن يقبل هذه التوبة.
أما في قوله تعالى: (ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ)، فقد يظن بعض الناس أنه لابد إذا فعل الذنب أن يقول في الحال: تبت، ويتوب حقيقة، وإلا فإن التوبة لا تقبل، وهذا فهم خاطئ؛ فإن المراد بالقريب في مثل هذه الآية: ما قبل الموت، فما قبل الموت كله يعتبر قريباً وإن طال الزمن على المعصية، بشرط: أن يكون هذا الإنسان دائماً وأبداً على وجل، وأن يحرص على المبادرة، وألا يهمل ويسوف في التوبة؛ لأن البعيد قد يكون قريباً، ولأن الناس يعيشون في مثل هذا الزمن الذي نعيشه يفاجئون بالموت مفاجأة وعلى غير استعداد، فقد كان آباؤنا وأجدادنا لا يموتون غالباً إلا على فراش الموت، بعد أن يمضوا مدة من الزمن تكون لهم معذرة وتنبيهاً، أما وقد أصبح الرجل يخرج من بيته فلا يرجع، ويقوم ولا يقعد، ولا يستطيع أن يرقد؛ فإن عليه أن يبادر بالتوبة؛ لأن هذا العصر الذي نعيشه هو عصر يفاجأ فيه الناس بالأجل على غير استعداد في كثير من الأحيان.
ولو عملنا إحصائيات للذين يموتون على الفرش، أو الذين يموتون في حوادث السيارات أو السكتات القلبية، أو الموت المفاجئ جملة؛ لوجدنا أن الأخير أكثر بكثير من النوع الأول، مما يفرض على هذا الإنسان أن يبادر بالتوبة والإنابة، لكن معنى قوله تعالى: (ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ)، أي: قبل الموت، بدليل الآية التي بعدها: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} [النساء:18].
إذاً: فهمنا من الآية الثانية أن المراد بالقرب هو ما قبل الموت، فلو أمضيت حياتك كلها في معصية الله عز وجل ثم تبت قبل الموت، فنعتبرك قد من الله عز وجل عليك فأمهلك فتبت من قريب، ولكن لا تظنن أن استمرارك على المعصية هو خير لك، بل هو مخاطرة في حسن الخاتمة، فلربما يدركك سوء الخاتمة.
(فَأُوْلَئِكَ) أي: الذين يعملون السوء بجهالة في فترة جهل وانصراف وإعراض وسفه، ويتوبون من قريب، {فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [النساء:17]، ولذلك جاء التعظيم لهم في قوله تعالى: (أولئك)؛ لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له.
وعلى هذا فإن الله عز وجل قد يمن على العاصي بأن يقلب كل سيئة عملها في أيام جهله -إذا صدقت توبته- إلى حسنة، كما قال في سورة الفرقان: {فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:70]، أما هنا فيقول الله تعالى: {فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [النساء:17]، أي: يقبل توبتهم، {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء:17]، يضع الأمور في مواضعها.
{وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ} [النساء:18]، في تلك الساعة لا تقبل التوبة، ولذلك جاء في الحديث: (إن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يغرغر)، والمراد بالغرغرة: أن يضع الإنسان في حلقه ماءً يرجه رجاً، لكن المراد بالغرغرة هنا: أن تصل الروح إلى آخر مرحلة من مراحل الجسم، ولا يبقى إلا أن تخرج، كأنه يغرغر بالماء، ويغرغر بروحه؛ لأنها تريد الخروج، أو إن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم تبلغ الروح الحلقوم، وهذا هو الأجل النهائي الذي لا تقبل فيه التوبة؛ لأن الإنسان في ساعة الموت يرى ملائكة الرحمة ويرى ملائكة العذاب، ويرى مقعده من الجنة ويرى مقعده من النار، ولذلك فإنه يكشف عنه الحجاب في تلك الساعة، وحينئذ لا تقبل التوبة.
أما التوبة العامة فقد وضع الله عز وجل لها أجلاً أيضاً، وهو: طلوع الشمس من مغربها، وطلوع الشمس من مغربها آخر علامة من علامات الساعة، كما أخبر الله عز وجل عن ذلك في قوله: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:158]، وفسر الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الآية بأنها طلوع الشمس من مغربها.
إذاً: هناك أجل لأي واحد منا ما لم تبلغ الروح الحلقوم، وهناك أجل لكل الناس: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام:158]، أي: يوم تطلع الشمس من مغربها، {لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:158].
{وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ} [النساء:18]، الآن لا تقبل التوبة، ولذلك فرعون لما أدركه الغرق قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ} [يونس:90] لما قال هذا الكلام قال الله تعالى له: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:91] الآن تتوب؟! ولذلك جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (علامة النور التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل نزوله)، وقد أخبر الله عز وجل عن قوم أنهم لا يتوبون إلا حينما يحضر الأجل: {حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ} [النساء:18]، ففي مثل هذه الساعة لا تقبل التوبة، والله تعالى يقول: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [الزمر:56 - 57]، إلى غير ذلك، والله تعالى يقول: {بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الزمر:59].(51/6)
حرمة إرث النساء في الإسلام
بعد ذلك لما ذكر الله تعالى التوبة، وحث عليها، وذكر موعدها الذي تقبل فيه والذي لا تقبل فيه، عادت الآيات مرة أخرى تبين أشياء من حدود الله عز وجل، فقال سبحانه وتعالى عن هذه الحدود: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء:19].
يدعي أقوام في عالمنا اليوم أنهم أنصار المرأة، وأنهم يدافعون عن حقوق المرأة، ويتهمون دين الله عز وجل الحق بأنه هضم المرأة حقها، أو نقصها شيئاً من حقها، وهنا يذكر الله تعالى شيئاً من حقوق المرأة كان مهضوماً في كل الجاهليات، وحتى في جاهلية اليوم المعاصرة هو مهضوم هضمت هذه المرأة فأصبحت لا شيء في نظر تلك الجاهليات.
وفي الجاهلية الأولى كانت المرأة إذا مات زوجها يتسابق أولاده من غيرها، فأيهم سبق الآخر ووضع عليها رداءً كان أحق بها؛ إن شاء ملكها، وإن شاء تزوجها، وإن شاء زوجها، وهي زوجة أبيه، وهذا لا شك أنه محرم من عدة جوانب: الجانب الأول: أنه إهانة للمرأة.
الجانب الثاني: أن فيه نكاحاً لزوجة الأب، والله تعالى حرم من المحرمات -التي سوف نتعرض لها إن شاء الله تعالى- زوجة الأب كما حرم الأم، ووضعها مع الأم في آية واحدة.
إذاً: هذه العادة من عادات الجاهلية وهي أن يتسابق أولاد الميت من غيرها إليها، فأيهم وضع عليها الرداء كان أحق بها، وإن استطاعت أن تهرب قبل أن يضع أحد منهم الرداء كانت حرة، فأنزل الله عز وجل تحرير هذه المرأة، فلا يحق لأحد أن يتسلط عليها، أو أن يضع عليها الرداء، أو يتملكها، أو يكون أحق بها، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} [النساء:19]، أي: مكرهين لهن، وليس معنى ذلك: أنه بواسطة غير الإكراه له أن يرثها، لكن ذلك حكاية واقع؛ لأنهم يعملون ذلك كرهاً.
(لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ) أي: تتملكونهن، وهذه الآية تعرضت لتحرير المرأة من أن تورث هي، وقد مرت بنا آية تعرضت لحق المرأة في الميراث في قوله تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء:7]، وعرفنا أن سبب نزول تلك الآية: أنهم كانوا في الجاهلية لا يورثون المرأة، وإنما يورثون الرجل فقط، إضافة إلى أنهم يرثون المرأة كما يورث سائر المتاع، فالله عز وجل حرم أن تورث المرأة من زوجها؛ فإنما هي إنسان حر كالرجل، وحرم أن تمنع من ميراث زوجها أو أحد أقاربها؛ لأن الله تعالى يقول: {وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء:7]، إذاً: هي لا تورث بل ترث كما يرث الرجال، ولها في كل صغير وكبير مما خلفه الميت حق، حتى لو كانت الإبرة أو ما كان أقل من ذلك.(51/7)
حرمة عضل النساء ومنعهن من الزواج
قال تعالى: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ} [النساء:19]، والمراد بالعضل هنا: المنع من الزواج، وهذا الخطاب ربما يكون موجهاً إلى أولياء النساء، فقد حرم الله عز وجل على ولي المرأة أن يعضلها، ومعنى: (يعضلها)، أي: يمنعها من الزواج، فإن الزواج يعتبر حصناً منيعاً للرجل والمرأة، وربما يتسلط بعض الأولياء خصوصاً إذا كانوا من الآباء الذين لهم سلطة أكبر على منع هذه البنت من الزواج بعد أن تبلغ سن الزواج؛ فتكون المصيبة العظمى، ويكون البلاء والفتنة، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد عريض).
وربما تكون هناك مطامع مادية يطمع فيها ذلك الأب، كأن تكون ذات مرتب، أو لها دخل أو مال، فلا يريد أن يزوجها من أجل أن يتمتع ويستفيد من مالها، وهذا هو العضل الذي حرمه الله عز وجل في قوله تعالى: (وَلا تَعْضُلُوهُنَّ)، وقال في سورة البقرة: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:232].
وتلك الآية لها سبب: أن رجلاً طلق زوجته، وبعد مدة من الزمن فكر في إعادتها إليه والعقد عليها مرة أخرى؛ لأنه بعد انتهاء العدة لابد من عقد جديد إذا لم تكن الطلقة الثالثة، فاتفق الزوج والزوجة، ورفض الأب، فأنزل الله تعالى تلك الآية في سورة البقرة، أما هذه الآية فإنها عامة في ابتداء أو إعادة الزواج، ولذلك لا يحل للولي أياً كان حتى لو كان الأب أن يعضل موليته، أو يعضل الأب ابنته ويمنعها من الزواج؛ لأن الله تعالى قال: (وَلا تَعْضُلُوهُنَّ)، والعضل معناه: المنع بقوة.
وعلى هذا يقول فقهاء المسلمين: إن المرأة إذا بلغت سن الزواج وتقدم إليها من يخطبها، وتبين أن وليها قد عضلها -ولو كان الأب- ومنعها من الزواج بدون سبب، وكان ذلك الخاطب كفؤاً؛ فإن للحاكم أن يزوجها دون إذن أبيها؛ لأن الله تعالى حرم العضل، فإذا عضل وصمم على العضل لأي مصلحة من مصالحه الخاصة فإن ذلك ليس له، إلا إذا كان ذلك الخاطب غير كفء.
(وَلا تَعْضُلُوهُنَّ)، وقد يكون هذا الخطاب للأزواج، فقد يكره الزوج الزوجة ويصمم على أن يحتفظ بها من أجل أن يأخذ منها شيئاً من المال، فيحبسها وهو يكرهها حتى تفتدي وتطلب الطلاق بنفسها منه ابتداءً، فتقدم المال من أجل أن يأخذ بعض أو كل ما آتاها وهو المهر، وهذا أيضاً من الأعمال المحرمة، فإذا بدأت الكراهية من الزوج فإنه يحرم عليه أن يأخذ منها شيئاً، أو يعضلها حتى تقدم شيئاً من المال افتداءً لها، بخلاف ما إذا كرهته هي؛ فإن ذلك موجود حكمه في سورة البقرة؛ فله أن يأخذ منها المهر، كما في قصة صاحب الحديقة.
يقول الله تعالى: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} [النساء:19]، أي: لتأخذوا بعض أو كل المهر أو أكثره حينما تطلب منه الفداء، وهو عوض الخلع، فقد يمسكها ليضرها، وهذا من الأمور التي حرمها الله عز وجل، وقد أخبر الله تعالى أنه لو آتاها قنطاراً ثم فكر في طلاقها بدون أن يكون السبب من عندها؛ فإنه يحرم عليه أن يأخذ منه شيئاً، ولو كان شيئاً قليلاً.
يقول الله تعالى: (وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ) أيها الأزواج، أي: بعض المهر، حتى تفتدي لتتخلص من مشكلة ذلك الزوج الذي كرهها هو، وهو الذي فكر في طلاقها دون أن تكون منها رغبة هي، فإنه في مثل هذه الحال لا يجوز له أن يعضلها أو يأخذ شيئاً مما أعطاها.
{إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء:19]، فإذا فعلت الفاحشة؛ سواءً كانت فاحشة الزنا التي هي أعظم الذنوب؛ فله أن يؤذيها من أجل أن تفتدي ليسترجع حقه؛ لأنها هي التي أفسدت عليه فراشه، أو كانت الفاحشة فاحشة الأذى أيضاً، وهي ما دون فاحشة الجريمة، بأن تكون بذيئة اللسان، مؤذية كارهة له؛ فله أن يطلب منها الفداء، كما في سورة البقرة.(51/8)
وجوب معاشرة النساء بالمعروف
يقول الله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19] أي: كما أن المرأة مطالبة بأن تحسن العشرة للزوج؛ فإن الزوج أيضاً مطالب بأن يحسن عشرة الزوجة، وهذا الإحسان بالمعروف، أي: بما جرت به العادة وبالعرف، فلا يجوز له أن يترفع عليها، أو يؤذيها، أو يقصر في حقها أو في نفقتها، أو حتى في زيه ولباسه، وحينما يسيء في معاملتها من ناحية النظافة أو ما أشبه ذلك، فإن عليه لها حقاً كما أن له عليها حقاً، ولذلك يقول عبد الله بن عباس رضي الله عنه: (إني لأحب أن أتزين لزوجتي كما أحب أن تتزين هي لي).
وعلى هذا فإن الزوج مطالب بالعشرة من جميع النواحي، فإذا كلمها يكلمها بأدب واحترام، كما أنها مطالبة أيضاً بذلك، وإذا لزمت النفقة فإن عليه أن ينفق بما يناسب مقام هذه المرأة، وإذا أخطأت فإن عليه أن يتحمل شيئاً من الخطأ، وإذا أحسنت إليه فإن عليه أن يقابل هذا الإحسان بإحسان مثله، وهذا هو معنى قوله تعالى: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)، أما الذين يسيئون إلى المرأة ويمتهنونها ويحتقرونها ويذلونها، فإنهم قد عصوا الله عز وجل؛ لأن الله تعالى يقول: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ).(51/9)
الندب إلى احتمال المرأة والصبر عليها إذا كرهها الرجل
قال تعالى: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ} [النساء:19] أي: كره الزوج الزوجة، ويريد فراقها، فالله عز وجل يأمره أن يتأنى في الأمور وألا يستعجل، فقد يكره هذه المرأة لسوء معاملتها، لكن فيها خير كثير لا يعرفه عنها، وقد يكرهها لشكلها أو لقلة جمالها، فالله عز وجل يقول له: انتظر، فربما تأتي بولد صالح يعجبك فينسيك ما ينقصها من جمال، وربما يكرهها في نسبها، أو في قلة ذات يدها، أو في أي أمر من الأمور التي يكره الرجال النساء بسببها؛ فإن الله عز وجل يأمر هذا الرجل بالتأني وألا يتسرع في فراق هذه المرأة؛ لأن الله تعالى يقول: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء:19]، ولذلك صح في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يفرك مؤمن مؤمنة -أي: لا يؤذيها أو لا يفارقها- إن كره منها خلقاً رضي منها آخر).
وقد يبتلى بعض الرجال بامرأة فاقدة الجمال، أو أي مقوم من مقومات العشرة الزوجية؛ فيكرهها من أول ليلة يدخل بها، فإن كان عاقلاً فإن عليه أن يتبع أمر الله عز وجل، وينتظر لعل الله عز وجل أن يأدم بينهما، وأن ييسر منها خيراً، أو يهب له منها أبناءً صالحين، وقد يتسرع بعض الرجال فيفارقها من أول وهلة، وهذا هو أبغض الحلال إلى الله عز وجل؛ لأن الله تعالى يبغض شيئين: الطلاق، والإكثار من الطعام، وقد أباحهما الله عز وجل، كما جاء في الحديث: (إن الله لا يبغض شيئاً أعطاه إلا هذين الأمرين).
وعلى هذا فإن الطلاق يهدم البيوت، ويشرد الأسرة والأطفال، وربما يسبب العقد النفسية عند الأطفال، ويفسد العلاقة بين أهل الزوج والزوجة، وبين الزوج والزوجة، والمرأة المطلقة -غالباً- في المجتمع تكون امرأة سائبة يندر أن يقدم عليها أحد من الرجال، ولذلك يكره الله عز وجل الطلاق، ويعالج الحياة الزوجية بعدة أمور، ومن أمور المعالجة: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء:35].
وقد أمر قبل ذلك سبحانه وتعالى بأن يؤدب هذه المرأة قبل أن يفارقها، {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء:34]، وقبل ذلك يأمرنا الله عز وجل أن نتحمل كما قال في هذه الآية: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء:19].
إذاً نقول: أي امرأة تكرهها لسبب من الأسباب ولسلبية من السلبيات فإن فيها من الإيجابيات ما فيه مصلحتك، فعليك أن تنظر إليها بالعينين الاثنتين كاملتين، لا تنظر إليها بعين السيئات وإنما بعين الحسنات، فقد تكون غير جميلة لكنها ذات خلق حسن ونسب ودين، وقد تفقد واحداً من هذه الأشياء لكن فيها أمور سوف تعجبك مستقبلاً، حيث يهب الله عز وجل لك منها أبناءً صالحين، لكن حينما تكون منحرفة في دينها وتعجز عن تقويمها؛ فإن لك الحق في رفضها فوراً حتى لا تفسد عليك بيتك وفراشك.
(فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا)، و (عسى) إذا جاءت من عند الله عز وجل فليست للترجي كما هو في معناها اللغوي، لكن معناها: التحري والتوقع، أي: إن كرهتموهن فحري بكم أن تكرهوا شيئاً لكن فيه خير كثير، وهذا الخير الكثير لم تعثروا عليه بعد، فلا تتسرع في مفارقة امرأة تكرهها في جمالها، أو نسبها، أو بذاءتها، أو أي أمر من أمورها، وعليك ألا تتسرع حتى لا تقدم على الطلاق الذي هو حلال يبغضه الله عز وجل.
ثم ذكر الله عز وجل أن هذا الخير كثير، لكنك لا تتوقعه؛ لأنك لا تنظر إلا إلى أمور سطحية، أما الله عز وجل فإنه يعلم ما تخفيه هذه القلوب، وما تكنه الضمائر، كما أنه تعالى يعلم ما في المستقبل، كما يعلم ما في الحاضر.(51/10)
حرمة أخذ المهر من المرأة إذا طلقها الرجل
إذا صمم الرجل على طلاق امرأته برغبته هو لا برغبتها هي، وقد أعطاها من المال الشيء الكثير؛ فإنه يحرم عليه أن يأخذ منها فلساً أو قرشاً أو درهماً أو ديناراً، ما دام هو الذي كرهها ولم تكرهه هي، وهو الذي رغب في فراقها ولم ترغب هي في فراقه، وبذل لها ما بذل من المال فإن عليه أن يتأنى، فإذا عزم على ذلك؛ فإن عليه ألا يأخذ مما آتاها شيئاً، بل عليه أن يمتعها، والتمتيع: هو شيء من المال يعطى للمرأة المطلقة عند الطلاق إذا كان الرجل هو الذي كرهها، وهذا المال من أجل إرضائها وجبر خاطرها، ولذلك يقول الله تعالى عن هذا الأمر: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} [النساء:20]، والمراد بالزوج هنا: الزوجة، وكلمة (زوج) تطلق على الذكر والأنثى، فإذا عزم الإنسان على تطليق زوجته ليستبدلها بزوجة أخرى، أو لا يريد أن يستبدلها إنما يريد أن يطلقها، وإنما ذكر هذا على مجرى الغالب؛ لأن من يريد أن يطلق لا بد أن يتزوج غالباً غيرها، فسماه الله تعالى استبدالاً، أي: بحيث يطلق الأولى؛ لأنه يكرهها في دينها أو خلقها أو أي أمر من أمورها، فإذا أراد أن يستبدل زوجاً مكان زوج وقد أعطى السابقة قنطاراً، والقنطار: هو مبلغ ووزن كبير من الذهب، فلو أعطيتها المال العظيم فلا يجوز لك أن تأخذ من هذا المال شيئاً أبداً.
(وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ) أي: التي تريدون تطليقها، (قِنطَارًا) أي: مالاً عظيماً من الذهب، (فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا)، أي: حرام عليكم أن تأخذوا منه شيئاً، ولذلك يتلاعب طائفة من الرجال بحقوق النساء، فيتمتع بالمرأة ما شاء أن يتمتع بها، حتى إذا أراد أن يفارقها ليأتي بزوجة جديدة ضيق على المسكينة السابقة من أجل أن تكرهه، من أجل أن تقدم له شيئاً من المال لتفتدي نفسها بهذا المال، فالله تعالى حرم هذا الأمر تحريماً عظيماً وقال: (فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا)، وهذا من المال المحرم الذي لا يحل للزوج ما دام هو الذي كره المرأة ولم تكرهه المرأة، أما إذا كرهته المرأة فله أن يطالبها بالمهر أو أكثر أو أقل، وأن يتمسك بها حتى تدفع ذلك، وخير له أن يعفو عن كل ما أعطاها؛ لأنه: (ما عفا رجل عن مظلمة إلا زاده الله عز وجل بها عزاً)، كما جاء في الحديث.
(فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا)، حتى لو كان شيئاً قليلاً، فلو دفعت لها مائة ألف ريال، وأردت أن تأخذ ريالاً واحداً، فإن هذا الريال حرام عليك ما دمت أنت الذي عزفت عنها، وأنت الذي لم ترغب في البقاء معها.
ثم يعظم الله تعالى هذا الأمر ويقول: {أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء:20] أي: هل تأخذونه؟! وهذا استفهام إنكاري لتعظيم هذا الأمر، والمراد بالبهتان: الظلم، والإثم معناه: الذنب، أي: أخذ هذا المال بعد هذا التمتع بهذه المرأة، وبعد الخلوة بها، أخذ هذا المهر أمره عظيم عند الله، وأخذه يعتبر بهتاناً عظيماً.(51/11)
مشروعية تخفيف المهور
أخذ العلماء من هذه الآية: جواز تعظيم المهور والمغالاة في المهور، ولكن في اعتقادي أن هذه الآية ليست دليلاً على المغالاة في المهور؛ لأن قوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا} [النساء:20]، ليس معناه: أن هناك من النساء من تعطى قنطاراً من الذهب؛ لأن القنطار من الذهب يساوي مالاً عظيماً، وإن كان يجوز أن يكون المهر كثيراً، لكن الأفضل هو تخفيف المهور، فالمبالغة في المهور لها سلبيات عظيمة، وأهم سلبياتها: عدم البركة بين الزوجين؛ لأنه من كانت أقل مهراً كانت أكثر بركة، كما صح في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أقلهن مئونة أكثرهن بركة)، وهذا شيء نشاهده، فالذين يبذلون الملايين من الريالات للمرأة غير أكفاء كما يتصورون هم وكما هو حقيقة؛ لأنهم لو كانوا أكفاء لهذه المرأة لما بالغوا في هذا المهر.
الأمر الثاني: أن كثرة المهر هي التي تسلب البركة في هذا الزواج، فقد أجمع علماء المسلمين على أفضلية تخفيف المهور، لكن اختلفوا في جواز الزواج بالمهور الكبيرة، فأخذ طائفة من العلماء من هذه الآية جواز المغالاة في المهور، وهناك من بذل مهوراً في السابق وفي اللاحق، والأصل هو التخفيف.
كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يخطب، ففكر أن يحدد المهور ذات يوم، فصار يخطب على المنبر ويقول: أيها الناس! خففوا المهور، لا تغالوا في المهور، فقامت امرأة عجوز وقالت: يا أمير المؤمنين! أتحرمنا شيئاً أعطانا الله عز وجل إياه، والله تعالى يقول: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا} [النساء:20]؟ فقال عمر: أخطأ عمر وأصابت امرأة، كل الناس أصابوا إلا عمر.
وبالرغم من أن عمر رضي الله عنه حينما كان يريد أن يخفف المهور إنما هو لمصلحة الأمة، لكننا نستطيع أن نأخذ من هذا نتيجة: أن بعض العلم قد يخفى على الأكابر ويعلمه الأصاغر، كما أن ولي الأمر عليه أن يقف عند حدود الله عز وجل حينما تبلغه من أي إنسان كائناً من كان، ولو كان دونه في المستوى والعلم والسياسة، فإن هذه المرأة استطاعت أن توقف الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو الثاني من الخلفاء الراشدين الذين خلفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ).
فكون امرأة تقول: أخطأت يا عمر! وهو يخطب على المنبر، يعطينا دليلاً على أن ولي الأمر مهما كان مركزه في هذه الحياة؛ فإن عليه أن يقبل النصيحة إذا أسديت إليه من أي واحد كائناً من كان، فإن كانت حقاً فعليه أن يقبلها، وإن كانت باطلاً فإن عليه أن يناقش صاحب هذا الباطل، وإذا قيل له: اتق الله! ولم يقبل هذه النصيحة، فعليه خطر، ولا خير في الناس إن لم يقولوا له: اتق الله، ولا خير له إن لم يقبلها من هؤلاء الناس، فـ عمر رضي الله عنه يقول: (كل الناس أصابوا إلا عمر).
وعلى هذا نقول: إن تخفيف المهور هو الأفضل، وإن ذكر الله عز وجل القنطار ليس معناه: أن هناك من يدفع لها من النساء قنطار من الذهب، وإنما ذلك من باب المبالغة، والمعنى: ولو كان المال عظيماً فلا تأخذ منه شيئاً، كما قال عليه الصلاة والسلام: (من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة)، وليس هناك بيت يساوي مفحص القطاة، أي: مربض القطاة، ولا أحد يستطيع أن يصلي في مربض القطاة، وإنما ذلك من باب الحد الأدنى وهذا على الحد الأعلى، أي: ولو كان مالاً كثيراً.
وعلى كل أيها الإخوة! مصلحة الأمة أن تخفف المهور، وأن يتزوج الشباب العزاب والعوانس اللاتي يبلغن سناً متأخرة داخل البيوت، وخطر على الأمة أن يعزف شبابها عن الزواج، وخطر على الأمة أن تعزف نساؤها أو تتعلق بالتعليم أو بالوظيفة عن الزواج، وحينئذ يحدث خلل في المجتمع لا يعلم مقداره إلا الله عز وجل.(51/12)
أسباب تحريم أخذ المهر من المرأة بعد طلاقها
ثم قال الله تعالى بعد ذلك: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء:21].
(وكيف): هذا استفهام إنكاري، وقوله تعالى: (أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا) يبين أن هذا أمر عظيم، أن تفضي إليك المرأة بجسدها وتفضي إليها بجسدك، وتحصل هذه العلاقة بينك وبينها وتلك الثقة، ثم تسلب منها المهر مرة ثانية! ولذلك اختلف العلماء في معنى الإفضاء، فقال بعضهم: أن يكشف وجهها، كما جاء في الحديث: (إذا كشف وجهها ونظر إليها؛ فقد وجب المهر).
وقيل: المراد بالإفضاء: أن تنزع ثيابها وينظر إلى عورتها، فهل يستطيع أحد أن يتزوج امرأة ثم ينظر إلى داخل جسدها، ثم يفكر هو دون رغبة منها هي في طلاقها، ثم بعد ذلك يقول: أعطيني هذا المهر بعد هذا النظر، وبعد الميثاق الغليظ الذي أخذته هذه المرأة على هذا الرجل وهو عقد النكاح؟! وقيل: مجرد النظر إليها.
وقال بعضهم: هو الخلوة.
وقال بعضهم: هو الجماع، فإذا جامعها يستقر الأمر.
ولكن الأولى أن نقول: هو الخلوة؛ لأنه إذا خلا بها وأغلقت الأبواب بينه وبين الناس معها فقد أفضى إليها، وحينئذ يحرم عليه أن يأخذ المهر إذا كان الطلاق برغبته هو.
والإفضاء مأخوذ من الفوضى؛ لأن الفوضى معناها: اختلاط الأمر، نقول: يعيش العالم في فوضى، أي: في اختلاط من الأمر، والمراد بالإفضاء: الفوضى، أي: خلوه بها وخلوها به بحيث لا يكون بينهما أمر حاجز.
(وَأَخَذْنَ)، أي: أخذت النساء منكم، (مِيثَاقًا غَلِيظًا)، والميثاق الغليظ -والله أعلم- المراد به عقد النكاح، فإنه ميثاق غليظ، كما أشار إليه الرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع حيث قال: (فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بعهد الله)، وعلى هذا فإن هذا الميثاق الغليظ قول الولي: زوجتك هذه المرأة، فتقول: قبلت، هذا ميثاق غليظ يزيل كل الحواجز بين هذا الرجل وتلك المرأة، ثم إذا بهذا الرجل الذي أفضى إليها ويرغب في زواج امرأة أخرى بدلها، ويعزف عنها، ولربما أنه تمتع بها، ولربما أنها أنجبت له من الأولاد ما أنجبت، ثم إذا به يريد أن يأخذ هذا المهر بعد أن تمتع بهذه المرأة مقابل هذا المهر، فهذا أمر عظيم عند الله سبحانه وتعالى.(51/13)
تحريم نكاح زوجة الأب
ثم يذكر الله عز وجل أيضاً شيئاً من حدوده في قوله تعالى: {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} [النساء:22]، ذكرنا في الآية السابقة أنهم كانوا في الجاهلية إذا مات الزوج يتسابق أولاده من غيرها إليها، فأيهم وضع الرداء عليها كان أحق بها، أو يطؤها أو يملكها أو يزوجها، المهم يكون حراً في التصرف فيها، فلما حرم الله عز وجل هذا الأمر على الناس وكان موجوداً في الجاهلية، بدءوا يعقدون على زوجات الآباء، ويقول: أنا لا آخذها بالقوة وإنما آخذها بالعقد، والعقد حرام في مثل هذه الحال؛ لأن زوجة الأب كالأم لا يجوز للابن أن يقربها؛ لأنها من محارمه، فلما فعل القوم ما فعلوا بأن بدءوا يعقدون على زوجات آبائهم بدلاً من كانوا يرثونهن ميراثاً؛ أنزل الله عز وجل هذه الآية التي تحرم حتى العقد على زوجة الأب.
وكيف يقدم إنسان على زوجة أبيه؟! هذا مقت شديد، وإثم عظيم، وقد كان ذلك أيضاً موجوداً في الجاهلية، ولذلك يقول الله تعالى: (وَلا تَنكِحُوا)، أي: لا تتزوجوا، والمراد بالنكاح هنا العقد، (مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ) أي: ما عقد عليها الأب وتزوجها، (إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ) (إلا) هنا استثناء منقطع، أي: لكن ما قد سلف لا تؤاخذون عليه؛ لأنه كان في أمر الجاهلية، أما بعد أن نزلت هذه الآية فإنه يحرم على أي واحد منكم أن يتزوج زوجة أبيه؛ لأن زوجة أبيه بمنزلة أمه.
(إنه كان فاحشة)، كالزنا، (ومقتاً)، ممقوت عند الله عز وجل، وممقوت أيضاً في أذواق الناس، فإن الأذواق البريئة النزيهة الطاهرة لا تقدم على مثل هذا العمل؛ بل هي تمقته وتسبه، وبطبيعة الإنسان البشرية أن ينفر من زوجة أبيه كما ينفر بفطرته عن أمه؛ لأن كل واحدة منهما تعتبر فراشاً لأبيه، فهو ممقوت، ولذلك كانوا يسمون في الجاهلية الولد الذي ينشأ عن زواج الولد بزوجة أبيه: الولد المقيت أو الممقوت.
(وَسَاءَ سَبِيلًا)، أي: سبيلاً سيئة وفرجاً حراماً، كيف يقدم عليها هذا الإنسان بعد أن أقدم عليها أبوه؟!(51/14)
المحرمات من النساء بالنسب والرضاعة والمصاهرة
يقول الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ} [النساء:23] إلى آخر الآية، ذكر الله تعالى في هذه الآية سبع محرمات بالنسب وسبع محرمات بالرضاعة والمصاهرة، وبعض هؤلاء محرمة إلى الأبد كالمحرمات في النسب، وهناك جزء محرمات إلى وقت محدد كالجمع بين الأختين، فإذا طلق إحداهما تحل له الأخرى بعد انتهاء العدة.
يقول الله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ)، الأم: هي كل من انتسب إليها الإنسان بولادة، سواء كانت أماً أو جدة أو جدة جدة، وسواء كان ذلك من قبل الأم أو الأب، أو من قبل الرضاعة، أو ما أشبه ذلك.
(وَبَنَاتُكُمْ)، والبنت تشمل جميع البنات من انتسبت إليه بأبوة؛ سواء كانت من بناته، أو بنات بناته، أو بنات أولاده إلى ما لا نهاية.
(وَأَخَوَاتُكُمْ)، والأخوات كل من شاركته في أب، أو أم، أو في الاثنين جميعاً، سواءً كانت الأخت لأب، أو لأم، أو شقيقة، أو كانت أختاً من الرضاعة.
(وَعَمَّاتُكُمْ)، وهي كل من انتسبت إلى أبيه بأخوة، أو إلى جده وأجداده بأخوة؛ سواء كان أجداده من قبل الأب أو من قبل الأم، فهؤلاء كلهن يعتبرن من العمات، فلا يجوز الزواج بواحدة منهن.
(وَخَالاتُكُمْ) الخالات كل من انتسبت إلى أمه بأخوة، أو جدته أو جداته، فإنها تدخل في هذا الأمر.
(وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ)، بنات الأخ: هي كل من انتسبت إلى أخيها بنسب أو رضاع وبناتها وإن نزلن، وكذلك بنات الإخوة.
(وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ)، الأم وأمها وجداتها، كل هؤلاء يحرمن على هذا الرجل الذي رضع من واحدة منهن.
(وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَة)، الأخت من الرضاعة سواء كانت قريبة أو بعيدة، فكل من أرضعتك أمها أو رضعت هي من أمك فإنها تحرم عليك.
(وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ)، والمراد بأم المرأة: الأم المباشرة أم زوجتك وجدتها، سواء كانت من قبل الأم أو الأب، فكل ذلك داخل في هذا التحريم.
(وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ)، الربيبة: هي بنت الزوجة، وسميت بنت الزوجة ربيبة؛ لأن الزوج يربيها في حجره، والمراد بالحجر: وسط الثوب، أي: يضعها كما يضع أولاده، وجمهور العلماء على أن هذا القيد لا مفهوم له، فسواء عاشت في حجره أو بعيدة عنه ما دامت بنتاً لزوجته، سواء كانت قبل أن يتزوج بها أو بعد أن فارقها وتزوجت برجل آخر فأنجبت بنتاً، فإنها تعتبر ربيبة له، وهي محرم من محارمه تحرم عليه، ولا يجوز له أن يتزوج بها، إلا الظاهرية فإن طائفة منهم اشترطوا أن يكون قد رباها ذلك الزوج وعاشت عنده، لكن هذا القيد في الحقيقة لا مفهوم له، وهذا القيد لا أثر له، سواء كانت في حجره أو لا؛ بل لو كانت من زوج تزوج أمها بعده؛ فإذا طلق امرأة وتزوجت رجلاً بعده فأنجبت بنتاً، فإن هذه البنت تعتبر ربيبة له وإن لم يرها، فتعتبر ربيبة تحرم عليه، وتعتبر من محارمه؛ لأنها بنت زوجته.
{وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء:23]، فإذا كانت بنت زوجة لم تدخل بها أنت فإنها تحل لك، وعلى هذا فإن العقد على الأم لا يحرم البنت، بخلاف العقد على البنت فإنه يحرم الأم عند جمهور العلماء، فإذا عقد رجل على امرأة ولم يدخل بها لم تحرم بنتها عليه؛ لأنها لا تعتبر ربيبة؛ لأنه لم يدخل بالأم؛ لأن الله تعالى يقول: (مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ)، والمراد بالدخول هنا: الجماع أو الخلوة، فإذا خلا بالأم أو وطئها فإن البنت تعتبر ربيبة بالنسبة له، وتحرم عليه، وتعتبر من محارمه، أما لو عقد على الأم فقط ولم يدخل بها ولم يخل بها؛ فإن هذه الربيبة لا تعتبر ربيبة بالنسبة له، فيجوز له أن يتزوجها وإن كان قد عقد على أمها؛ لأنه لم يدخل بها؛ لأن الله تعالى يقول: (اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ)، أما لو عقد على البنت فجمهور العلماء على أنها لا تحل الأم ولو لم يدخل بالبنت؛ لأن أم الزوجة تحرم منذ أن يعقد على ابنتها، أما بنت الزوجة فإنها لا تحرم -التي هي الربيبة- إلا إذا دخل بأمها؛ لأن الله تعالى هنا يقول: (مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ)، ما دامت المسألة فقط عقداً بدون دخول فيجوز له أن يتزوج بنت الزوجة؛ لأنها لا تسمى ربيبة في مثل هذه الحال.
كذلك من المحرمات: حلائل الأبناء، قال تعالى: (وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ)، والحليلة: هي الزوجة، وسميت الزوجة حليلة؛ لأنها تحل وترتحل مع زوجها متى حل وارتحل، أو من الحلال، والمراد بها هنا زوجة الابن، فإذا تزوج ابنك امرأة وطلقها فقد أصبحت هذه المرأة حراماً عليك، وأصبحت من محارمها وهي من محارمك.
لكن هذا القيد في قوله تعالى: (وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ)، ما مفهوم هذا القيد؟ يقول العلماء: إنما هذا لنفي أولاد التبني، فقد كان هناك في الجاهلية إذا أعجب الرجل طفل تبناه ونسب إليه، حتى حرمه الله عز وجل بقوله: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40]، فأصبح التبني محرماً، وعلى هذا فإن زوجة الابن بالتبني يجوز لمن تبناه أن يتزوجها، والدليل على ذلك: أن الرسول صلى الله عليه وسلم تزوج زوجة من تبناه زيد بن حارثة رضي الله عنه، وهي زينب بنت جحش لما طلقها زيد رضي الله عنه، حتى يثبت للناس أن زوجة الابن بالتبني لا تحرم على الأب، ولذلك يقول الله تعالى: {لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} [الأحزاب:37].
وهنا يقول: (الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ)، والمراد بالأولاد: أولادك أنت وأولاد أبنائك وبناتك؛ إذ كل هؤلاء داخلون في قوله تعالى: (الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ)، فزوجات هؤلاء يعتبرن محارم للأب؛ فلا يتحجبن عنه، ولا زوجة ابن ابنه ولا زوجة ابن بنته، كلهن يعتبرن من المحارم، وتعتبر هذه المرأة حراماً عليه إذا طلقها ذلك الابن.
بقي الخلاف في الأولاد من الرضاعة: هل الأولاد من الرضاعة تعتبر زوجاتهم محارم؟ اختلف العلماء في ذلك، فبعض العلماء أخذ من قوله تعالى: (الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ)، إخراج الأولاد من الرضاعة، فزوجاتهم لا يعتبرن محارم للآباء من الرضاعة، وعلى هذا يجوز التزوج بهن، لكن من باب الاحتياط، وهو رأي طائفة من العلماء: أن الأولاد من الرضاعة كالأولاد من النسب، وأن زوجاتهم تعتبر محارم للأب من الرضاعة، وهذا هو الاختيار.
وأقل ما يكون في هذا الأمر لو تحجبت عنه ألا يتزوجها، وعلى هذا يصبح أولاد الرضاعة كأولاد النسب في هذا الأمر؛ لما في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب)، وعلى هذا فإن هذه القاعدة تعتبر في كل نسب تنتقل بمثله من الرضاعة، فالأولاد وأولاد الأولاد والآباء والأبناء من النسب ينتقل هذا الحكم بالنسبة لهم من الرضاعة، وهؤلاء اللاتي حرمن بالنسب ينتقل الأمر فيهن كالعمة والخالة والأخت من الرضاعة، وبنت الأخت وبنت الأخ وهكذا ينتقل الأمر، وكذلك زوجة الابن من الرضاعة تعتبر حراماً على الأب.
قال تعالى: (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ)، كانوا في الجاهلية يتزوج أحدهم أختين شقيقتين أو لأب أو لأم، وفي الإسلام حرم الله عز وجل الجمع بين الأختين، وهذا هو النكاح المحرم إلى أمد، فأخت الزوجة محرمة حتى تطلق هذه الزوجة السابقة وتنتهي عدتها، ولذلك الرجل يلزم بالعدة في حالتين: الحالة الأولى: إذا كانت معه أربع زوجات وطلق الرابعة، فلا يجوز له أن يتزوج حتى تنتهي عدة الرابعة، ويعتبر شريكاً لها في هذه العدة.
الحالة الثانية: إذا كان قد طلق زوجته وأراد أن يتزوج أختها أو عمتها أو خالتها؛ فإنه لا يجوز له أن يتزوج الثانية حتى تنتهي عدة الأولى، واختلف العلماء في الطلاق البائن، أما الطلاق الرجعي فاتفق علماء المسلمين على أن من تزوج زوجة خامسة قبل أن تنتهي عدة الرابعة والطلاق رجعي بأن هذا قد أقدم على عمل محرم، وأن هذا يشبه الزنا، وكذلك الجمع بين الأختين حتى تنتهي عدة السابقة، فإذا انتهت عدة السابقة فله أن يتزوج أختها.
وعلى هذا فإنه لا يجوز الجمع بين الأختين، سواء كان بنسب أو برضاع، على رأي طائفة من العلماء، ولذلك يقول الله تعالى: (وَأَنْ تَجْمَعُوا)، أي: وحرم عليكم أن تجمعوا بين الأختين.
(إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ)، أي: لكن ما قد سلف في الزمان السابق في الجاهلية فأنتم مسامحون فيه، (إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا).
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(51/15)
الأسئلة(51/16)
حكم عدم العدل بين النساء في الجماع
السؤال
ما حكم الشرع فيمن لديه زوجتان يعدل بينهما إلا في الجماع؛ لأنه لا يستطيعه مع أحدهما لأسباب، رغم أنه يحاول ولكن دون جدوى، أي: لا يطيق ذلك، لكنه في الأمور الأخرى يعطيها كامل حقها؟
الجواب
ذلك داخل في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (اللهم هذا عدلي فيما أملك، فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك)، فمسألة الجماع والشهوة وهذه الأمور الخاصة بالنساء التي لا يطيقها الرجل فلا يؤاخذ فيها، ولكن عليه ألا يهجرها هجراً كاملاً، أما بالنسبة للمبيت والنفقة وما أشبه ذلك من الأمور والعشرة فيجب عليه أن يعدل بينهما؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من كانت له زوجتان فمال إلى إحداهما دون الأخرى جاء يوم القيامة وشقه مائل)، أما بالنسبة لمحبة القلب والجماع وما أشبه ذلك من الأمور التي يغلب عليها الإنسان، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها.(51/17)
حكم إعطاء الزوجة باقي المهر إذا طلقها الرجل
السؤال
تزوجت بمبلغ خمسين ألف ريال، ودفعت منها أربعين ألفاً، وبقيت عشرة آلاف، وقد طلقت الزوجة، فهل يلزمني دفع المبلغ الباقي؟
الجواب
نعم، يلزمك؛ لأن الوفاء بشروط الزواج أعظم أنواع الوفاء، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن أحق الشروط بالوفاء ما استحللتم به الفروج)، فما دمت قد التزمت لها بهذا المبلغ، وأنت الذي طلقتها بإرادتك لا بإرادتها هي؛ فعليك أن تعطيها كل حقوقها، وتزيد نفقة العدة على العشرة الآلاف، والتمتيع أمر مطلوب ومحبوب.(51/18)
حكم امتناع الأب من تزويج ابنته بحجة إتمام الدراسة
السؤال
ما قولك عن الرجل التي تخطب ابنته ويرفض بحجة إكمال الدراسة، حتى ولو بقي عليها القليل؟ وكثير من الناس يقول: الأب أدرى بمصلحة ابنته في إكمال الدراسة؟
الجواب
الحقيقة أن الزواج عبادة لله عز وجل، وعمارة للكون، وعفة للمجتمع، فهو غاية، أما التعليم فإنه وسيلة، والغاية تقدم على الوسيلة، وليس معنى ذلك أن نهون من شأن التعليم، ولكن التعليم الذي لا يقف عند حد ولا مرحلة، بل ويضيع فترة الزواج، ويضيع على الفتاة أغلى فترات عمرها، هذا أمر نعتبره جناية على المرأة، وعلى هذا فإننا نقول لذلك الأب: أخطأت يا أخي! فيمكن أن تزوجها ويمكنها ذلك الزوج من مواصلة الدراسة، لاسيما إذا كانت هذه الدراسة تتعدى حدود الحاجة، فإذا كانت هذه البنت لا تريد أن تتزوج حتى تحصل على آخر مرحلة من مراحل التعليم فربما تذهب زهرة شبابها، وأنتم تدركون أن المرأة فترتها للولادة وللتمتع محدودة أقل من الرجل، ولربما أنها تطمع في العمل والوظيفة حينما تكمل هذه الدراسة.
ولذلك فإني أقول: بادر يا أخي! بتزويج ابنتك، وخصوصاً إذا كانت لها الرغبة هي في ذلك، وإذا كان عندها من الطموح ما يرغبها في مواصلة الدراسة فإن عليها أن تتفاهم مع ذلك الزوج حتى تكمل الدراسة، أما أن تعطل النساء داخل البيوت حتى تكمل أعلى مرحلة في التعليم، ثم يتلو ذلك أن تعمل مدة من الزمن؛ فإن هذا يعتبر في الحقيقة جناية على المرأة، وجناية على المجتمع.(51/19)
حكم الخلوة بالمخطوبة
السؤال
أنا شاب ملتزم والحمد لله، وخطبت بنتاً من عائلة معروفة، ولكن هذه العائلة نساؤهم لا يتحجبن، وقالوا لي: البنت تريد أن تتكلم معك وتتحدث وتخرج وتمزح معك، ووالدي يؤيدهم على عملهم هذا، ويقول لي: هذه خطيبتك ولابد أن تفعل ذلك معها، فما رأيكم؟
الجواب
أما بالنسبة لعدم تحجب هذه العائلة فليست عائلة محافظة، خصوصاً في بلادنا هنا -والحمد لله- أن أي امرأة لا تتحجب لا نعتبرها من عائلة محافظة، وربما يكون ذلك في بعض البلاد الأخرى، فقد تكون محافظة وتكشف الوجه والكفين أخذاً برأي له احترامه، لكنه لا يجوز في حال الفتنة، والفتنة ملازمة للمرأة.
أما أن يصل الأمر إلى أن يمزح معها وينفرد بها، فإن هذا من الأمور المحرمة؛ لأنها ليست زوجة له، وبعد العقد يكون ذلك، أما قبل العقد فإنه لا يكون ذلك، و (ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما).
ولكني أنصح ذلك الأخ الخاطب الذي وصل الأمر بالنسبة له إلى أن يطلب منه إلى أن يخلو معها أو يمزح معها أو تمزح معه، أن ينصرف عن هذه المرأة؛ لأنها امرأة عندها شيء من الانحراف.(51/20)
حكم صلة مطلقة الأب المتوفى
السؤال
رجل تزوج امرأة ثم طلقها، وبعد ذلك توفي عنها، يسأل ابنه ويقول: هل علي أن أصلها وتكون من صلة الرحم؟
الجواب
نعم، إن كانت زوجة أبيك فإنها تعتبر من محارمك، ولو طلقها أبوك ولو مات عنها، فتبقى هذه المحرمية مدى الحياة؛ لأنها محرمة عليك، والمحرمية مربوطة بتحريم الزواج، فكلما كان الزواج محرماً بين رجل وامرأة فإن المحرمية تعتبر باقية، فهي من محارمك وصلتها طيبة؛ لأنها من صلة أبيك.(51/21)
حكم من جامع امرأة في الظلام يظنها زوجته
السؤال
إذا أتى رجل إلى بيته وظن أن زوجته في البيت، فجامع امرأة وهو لا يدري أنها زوجته بحجة الظلام، أو أنه لم يرها جيداً في الظلام، ثم تبين أنها غير زوجته، فما الحكم؟
الجواب
يا أخي! هذا لا يقع، لكن لو حدث هذا بدون إرادة، إذا كانت هي عالمة فإنها زانية، أما بالنسبة له إذا كان غير عالم فإنه يعتبر وطئاً بشبهة، لكن هذا لا يقع أبداً إلا في أمور مدبرة مسبقاً؛ لأن الجماع له مقدمات، والإنسان يستقبل زوجته ويراها وينظر إليها وتنظر إليه، فلا يبدأ الأمر هكذا مباشرة.(51/22)
حكم من أسقط جنيناً عمره شهران
السؤال
أنا شاب متزوج وسبق لي أن زنيت وأنا متزوج، وحملت مني، وبعد شهرين طلبت منها أن تسقطه، وفعلاً حصل الإسقاط، والآن بعد التوبة والندم على ما فات ماذا يجب علي: هل أصوم شهرين كفارة لقتله، أو ماذا أفعل؟
الجواب
هذا الذنب عظيم، زنا وقتل نفس! لكن لعل قتل النفس التي لم تتجاوز شهرين أمره أسهل، فأعتقد أن مثل هذا لا يوجب الكفارة؛ لأن الطفل في حدود شهرين لم يكمل فيه خلق الإنسان، ولم تنفخ فيه الروح، أما الذنب فإنه عظيم جداً، وعليك أن تصدق في هذه التوبة، وأن تكثر من الأعمال الصالحة، عسى الله أن يتجاوز عنك، كما أن على المرأة أن تفعل شيئاً من ذلك هي أيضاً.(51/23)
حكم كشف المرأة شيئاً من بدنها للطبيب للضرورة
السؤال
أنا امرأة متزوجة من أحد الشباب الملتزمين، ولكنني مريضة بمرض في القلب، وزوجي يمنعني من العلاج عند الدكتور الأخصائي الذي في المستشفى، وهو الذي يشرف على علاجي، بحجة أنه رجل وسوف يكشف عورتي، علماً بأنه سمح له بمرافقتي عند دخول الدكتور علي، مع العلم بأن مرضي نادر ولا توجد دكتورة متخصصة فيه، أفيدوني جزاكم الله خيراً؟
الجواب
أما إذا لم توجد طبيبة فإنه يجوز لمثل هذه المرأة أن تكشف للطبيب، خصوصاً أن مرض القلب لا يصل إلى حد العورة المغلظة، وإنما يصل إلى كشف شيء من الجسد، لكني أرجو من المسئولين في هذه الدولة في وزارة الصحة أن يتقوا الله عز وجل، فإن كل الناس يتذمرون من إدخال نسائهم على الرجال، وأعظم من هذا في أمراض النساء الداخلية، وفي حالات الولادة، وصدقوني يا إخوتي! أن أكثر مستشفيات الولادة يتولى التوليد فيهن رجال، ونحن في بلد والحمد لله عندنا من الخير والنعمة والرخاء ما نستطيع أن نجذب فيه كل طبيبات العالم، علماً أن الطبيبات في العالم يساوين الأطباء أو يزدن.
وعلى هذا فإني أقول لوزير الصحة ولكل مسئول في وزارة الصحة: اتقوا الله عز وجل، فإن الله سبحانه وتعالى قد ائتمنكم على عورات هؤلاء النساء، وإن أكثر الذين يولدون أو يعالجون أمراض النساء والولادة من الرجال، وهذه مسئولية عظيمة يتقلدها كل مسئول في الدولة يستطيع أن يغير هذا الوضع.
أما أنت يا أختي السائلة! فيجوز لك في مثل هذا الحالة أن تقنعي الزوج، وعليه أن يقتنع ما دامت ليست هناك أخصائية، والمسألة وصلت إلى حد الضرورة، وليس هناك كشف للعورة المغلظة، وإنما هو فقط للصدر وما حوله، ففي مثل هذه الظروف يتسامح في هذا الأمر عند الضرورة، ويتحمل المسئولية بين يدي الله عز وجل وزير الصحة وكل مسئول في هذه الدولة يستطيع أن يغير هذا الوضع.(51/24)
حكم مصافحة بنات الخال والعم
السؤال
أنا شاب ملتزم وعندي أقرباء لا يتحجبون، فإذا أردت أن أزور خالتي أو عمتي خرجن إلي بناتهن، ويصافحنني ويتكلمن معي، ويكشفن وجوههن عندي، فما أستطيع أن أفعل شيئاً، وإذا لم أزرهم هل أكون قاطعاً للرحم؟
الجواب
بنات الخالة والخال وبنات العمة والعم لسن من المحارم، وعلى هذا فلا تجوز مصافحتهن، ولا يجوز أن يكشفن الوجوه ما دام لم يكن هناك رضاع ولا نسب يبيح كشف الوجه، فليست هناك محرمية، وأعظم من ذلك إذا كانت هناك خلوة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إياكم والدخول على النساء، فقال رجل: يا رسول الله! أرأيت الحمو؟ فقال: الحمو الموت).
فعلى هذا أقول: لا يجوز لك يا أخي! أن تصافحهن، ولا أن تنظر إلى وجوههن، وتحرم عليك الخلوة بهن تحريماً مغلظاً.(51/25)
الجمع بين حديث: (لو لم تذنبوا) وبين آيات الوعيد
السؤال
كيف نوفق بين قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وأتى بقوم يذنبون) الحديث، ومن الآيات الواردة في الزنا والربا والأقوال الفاحشة وغيرها؟
الجواب
بالنسبة للحديث: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم)، أي: أن فطرة البشر أنهم معرضون للذنب، وليس معنى ذلك: أن الذنب قربة لله عز وجل، وإنما هذه فطرة بشرية؛ لأن الله تعالى جرت سنته في هذه الحياة أن يكون هناك مذنبون، وأن يكون فريق في الجنة وفريق في السعير، والحكمة تتعطل لو أن الناس كلهم يعيشون حياة ملائكية، ولذلك فتح الله تعالى باب التوبة.
أما الآيات والأحاديث في عقوبات المذنبين، وفي تحريم الذنوب؛ فهي باقية على طبيعتها ولا إشكال فيها، إنما سنة الله أن يبقى في هذا العالم من يذنب ويعصي ويطيع.
والله أعلم.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(51/26)
الولاء والبراء
الولاء والبراء أصل من أصول الدين، فيجب على المسلم أن يؤمن به، وأن يطبقه في واقعه وحياته، فيوالي أولياء الله ويحبهم، ويعادي أعداء الله ويبغضهم، فمن كان كذلك فقد استكمل الإيمان، ومن لم يكن كذلك بأن والى أعداء الله، أو عادى أولياء الله، فإنه على خطر عظيم، وهو إلى النفاق والريبة أقرب منه إلى الإيمان.(52/1)
وجوب تميز الأمة الإسلامية بهويتها
قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ * قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة:51 - 59].
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونثني عليه الخير كله، ونشكره ولا نكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله ومن دعا بدعوته وعمل بسنته ونصح لأمته إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الإخوة في الله! هذا هو موقف الأمة الإسلامية من أعدائها، والأمة الإسلامية أمة ذات عقيدة جاءت من عند الله ناسخة لكل الأديان، وحيث إن هذه العقيدة أُنزل فيها أعظم وأحسن كتاب أنزل إلينا من ربنا، فإن الأمة الإسلامية يجب أن تكون لها شخصية مستقلة تنفرد بها، ولا تذوب في الأمم، لاسيما من أعدائها الكافرين، وهذه الآيات التي سمعتموها حدد الله عز وجل فيها موقف المسلمين من جميع فئات الكفر: من أهل الكتاب اليهود والنصارى، ومن المشركين الوثنيين، ومن المنافقين، ومن المرتدين من المسلمين المارقين عن الإسلام.
ولذلك فإن هذه الآيات حددت موقف المسلم من كل هذه الفئات، فلا تظنوا أن موقفنا واضح مع اليهود والنصارى أو مع الوثنيين فقط، لكن حتى مع المنافقين العلمانيين والمندسين في صفوف الأمة الإسلامية والمرتدين عن الإسلام، قال عز وجل: {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54]، حتى لو كان يحمل في جيبه الهوية الإسلامية، ولو كان يعيش في بيت مسلم ومن أبوين مسلمين، لابد أن يناله نصيبه من هذا الولاء والبراء إذا انحرف عن دين الله عز وجل.(52/2)
الولاء والبراء من أصول العقيدة الإسلامية
والولاء والبراء أمرهما عظيم في دين الإسلام، فليسا من الفروع كما يظن بعض الناس، لكنهما من أصول العقيدة؛ فقد يرتد المسلم -نعوذ بالله- ويخرج من الإسلام بسبب ولائه وبرائه، ولذلك فإن الولاء بين المسلمين والكافرين أو بين المسلم والكافر أمر خطير جداً، وسوف نذكر شيئاً من معاني هذه الآيات مع التعليق، فالولاء أمره خطير، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم عنه: (أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله)، وكيف كان أوثق عرى الإيمان؟
الجواب
لأنه يمس أصل العقيدة وأصل الدين، لا الفروع.(52/3)
تحريم ولاية المسلمين للكافرين
يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51].
هنا حرم الله عز وجل الولاية بين المسلمين وبين اليهود والنصارى، والمراد بالولاية: المحبة والاعتماد والتعلق والركون والضعف أمام هؤلاء من اليهود والنصارى، فبعض الناس اليوم يعتبرون اليهود والنصارى والكفرة والوثنيين والمارقين من الدين هم المخلصين في أعمالهم، وينبذون المسلمين الذين يُحصى عددهم في أيامنا الحاضرة بأكثر من ألف مليون مسلم، وكثير منهم يموتون جوعاً وهم بحاجة إلى أموال المسلمين، فهنا يحذر الله عز وجل الأمة الإسلامية فيقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} [المائدة:51]، أي: ركناً تركنون إليه وتعتمدون عليه.(52/4)
ولاء اليهود والنصارى بعضهم لبعض
ثم يقول الله عز وجل بعد ذلك: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51]، أي: بعض اليهود أولياء بعض من اليهود، وبعض النصارى أولياء بعض من النصارى، ويمكن أن يقال: (بعضهم) يرجع إلى اليهود والنصارى، و: (أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) أي: من اليهود والنصارى، على خلاف بين علماء المسلمين: هل هناك ولاء عميق بين اليهود والنصارى، مع أن الله تعالى قال: {وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ} [البقرة:145]، أم أن اليهود والنصارى فرقة واحدة؟ وهم يرجعون إلى أصل واحد؛ لأنكم تعرفون في تاريخ الأديان أن النصارى فرقة من اليهود؛ لأن عيسى عليه الصلاة والسلام حينما بعث إلى اليهود آمن به من آمن فسموا أنفسهم نصارى، فكان الذين اتبعوا عيسى عليه الصلاة والسلام من اليهود هم النصارى، والذين بقوا على دينهم ورفضوا ملة عيسى عليه الصلاة والسلام هم اليهود، لكن بالرغم من أن هناك صلة في النسب ولربما أن هناك عداءً في الأصل لكنهم يتفقون في حرب الإسلام، وصحيح أنه ربما تكون بينهم بعض الفوارق وبعض الحساسيات فيما بينهم، أي: فيما بين اليهود والنصارى، لكنهم يتفقون على حرب الإسلام، ولذلك لهم مواقف سجلها التاريخ اشتركت فيها جميع فئات الكفر، سواء كان ذلك في غزوة الأحزاب، أو كان ذلك في الحروب الصليبية، فنصارى العرب وضعوا أيديهم في أيدي نصارى الغرب، وفتحوا لهم البوابة التي هي لبنان، والتي هي دائماً مدخل البلاء والفتن على بلاد المسلمين، فتحوا تلك البوابة فجاءت هذه الأعداد الهائلة والسيل الكاسح من النصارى من بلاد الغرب، ونفذوا إلى المسلمين من جهة لبنان، واتخذوا من النصارى العرب جسراً للعبور إلى بلادهم، ولذلك نعتبر نصارى العرب هم أخبث أنواع النصارى؛ لأنهم يعيشون في بلاد الإسلام ولا يرعوون ولا يرجعون؛ ولأن قوميتهم ووطنيتهم التي يزعمونها لم تغن عنهم شيئاً.
يقول الله تعالى: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51]، أي: بعض اليهود أولياء بعض، وبعض النصارى أولياء بعض، واليهود والنصارى أيضاً أولياء بعض حينما يريدون أن يتفقوا على حرب الإسلام، وإن وجد بينهم ما وجد من شيء من الخلافات السياسية أو المذهبية أو ما أشبه ذلك فإنما هي وقتيه، لكن حينما يكون الأمر في حرب الإسلام فإنهم أولياء بعض، كما أخبر الله عز وجل.
ولذلك في الحروب الأخيرة في حرب المسلمين مع أعدائهم نجد أن فئات الكفر كلها تتفق في صف واحد، فلم يبق هناك إلا معسكران: معسكر الإسلام ومعسكر الكفر، ومعسكر الكفر تلتقي فيه حتى الشيوعية وما يسمى بالوفاق الدولي الذي سقطت فيه الشيوعية من أجل أن تنضم إلى المعسكر الغربي من أجل حرب الإسلام، وهذا في الحقيقة أكبر دليل يوضح لنا قول الله عز وجل: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51]، وكان بعض الناس يظن أن الكفر ملل، لكن الحقيقة أن الكفر ملة واحدة، لا تختلف يهوديته عن نصرانيته عن شيوعيته عن وثنيته عن علمانيته عن نفاقه عن أي بلاء من أنواع هذا البلاء.
ولذلك حكم الله تعالى بأن بعضهم أولياء بعض، والله تعالى هو أصدق الحاكمين وأصدق القائلين، ولذلك يجب علينا أن نقبل هذا الحكم حتى لا نغتر بنوع من أنواع الكافرين، فابتسامة النصارى في وجوه المسلمين ربما تخدعهم، فأصبح النصارى في نظر طائفة كثيرة من الناس أنهم إخوة للمسلمين، وأنهم يعطفون على الأمة الإسلامية، أما اليهود فإنهم يحاربون الإسلام.(52/5)
حقيقة مواقف النصارى من المسلمين
الحقيقة أن مواقف النصارى في الحروب الصليبية أعظم بكثير من مواقف اليهود في الأيام الحاضرة، بالرغم من أن اليهود والنصارى كلهم ملة واحدة، لكن اليهود والوثنيين أعدى وأقسى في حرب الإسلام، كما قال الله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} [المائدة:82]، وبعض الناس يفهم هذه الآية خطأً، ويظن أن هذه الآية تثني على النصارى وتقول: إن النصارى قريبون من الإسلام، وليس كذلك؛ فهذه الآية لا تثني على النصارى، وإنما تبين أن عداوة اليهود أخطر من عداوة النصارى، وإلا فعداوة اليهود والنصارى كلها ثابتة لا شك فيها؛ لأن الله قال: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً} [المائدة:82]، فالمسألة مسالة تفاضل في شدة العداوة وخفتها.
إذاً: العداوة بالمفهوم موجودة من اليهود والنصارى على حد سواء، لكنها في اليهود أشد وأقسى، علماً أن هذه الآية: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة:82] نزلت في مناسبة، حتى لا يظن بعض الناس أنها هي صفة دائمة للنصارى، وأنهم دائماً يتعاطفون مع الإسلام؛ بل هم أعداء للإسلام، فالآية نزلت في مناسبة اعتناق النجاشي رضي الله عنه الإسلام، وكان من زعماء النصارى في الحبشة، وبكى حينما سمع القرآن، فأنزل الله تعالى في حقه: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة:82] الآية، صحيح أن القاعدة الأصولية: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالعداوة موجودة في اليهود والنصارى، لكنها بالنسبة لليهود أشد، أما النصارى فعندهم عداوة وحقد شديد على الإسلام، لكن حقد اليهود أشد من حقد النصارى على الإسلام.
ولذلك ينخدع بعض المسلمين بالابتسامة التي يشاهدونها من بعض هؤلاء النصارى، لاسيما حينما يأتون إلى بلاد الإسلام، ولاسيما بلاد الإسلام المحافظة كبلادنا هذه؛ حيث نجد أنهم يبرزون كأنهم مخلصون، وكأنهم يريدون أن يقدموا خدمة، وهذا في الحقيقة أكبر دليل على حقدهم على الإسلام؛ لأنهم لا يستطيعون أن يدخلوا بلاد الإسلام، ولا أن يعيشوا مع المسلمين إلا من هذا الجانب حينما يظهرون الولاء، وحينما يظهرون العطف والرقة مع المسلمين، وهؤلاء ابتسامتهم تتغير حينما تتغير المعايير في يوم من الأيام، فقد ابتسم نصارى لبنان قبل الحروب الصليبية في وجوه المسلمين مدة طويلة من الزمن، حتى إذا جاء موعدهم مع نصارى الغرب كانوا هم أكبر معول يهدم في بلاد الإسلام، وهكذا قبل ذلك في بلاد الأندلس؛ فحينما فتح المسلمون بلاد الأندلس وتركوا الجبال الوعرة -وهي ما تسمى بجبال البرتغال في أيامنا الحاضرة- احتقاراً لشأنها، خضع النصارى لحكم الإسلام، وصاروا يشعرون بالولاء، ويشعرون المسلمين بالطاعة واللين، إلى أن تمكنوا من رقاب المسلمين فانقضوا على الأمة الإسلامية، فسقطت الأندلس وقامت دولتا أسبانيا والبرتغال.
وهكذا هي دائماً مواقف الكافرين أياً كانوا يهوداً أو نصارى، فلا تغتروا بالابتسامة؛ فإن الله تعالى يقول: {يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ} [التوبة:8].
إذاً: المسألة هي مسألة إرضاء بالأفواه، أما الأصل فإن اليهود والنصارى كلهم أعداء للإسلام، ويكفينا دليلاً هذا الدليل الواضح: (بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)، فهذا حكم الله، والله تعالى هو الذي خلق القلوب، وخلق البشر، وخلق الإنسان ويعلم ما توسوس به نفسه، وهو سبحانه وتعالى الذي يقول لنا: (بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ).
إذاً: ليس هناك عداء بين اليهود والنصارى، فلا تغتروا أيها المسلمون! حينما ترون النصارى يتقربون إلى الإسلام، وأعمالهم لا تخفى عليكم الآن، فهم الذين يسومون المسلمين سوء العذاب في كل بلاد المسلمين، هم الذين يسعون الآن من أجل أن ينحرف أبناء المسلمين، كما قال عز وجل: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء:27]، وأعمالهم لا تحتاج إلى كثير من التفصيل فهي معروفة.
إذاً: على المسلمين أن يراجعوا تاريخ هذه الأمة من النصارى؛ حتى لا يغتروا بهم ولا يتخذوهم بطانة، فقد امتلأت بلاد المسلمين بالنصارى، لكن الظروف السياسية لا تسمح لليهود، أما بالنسبة للنصارى فقد امتلأت بلاد المسلمين بالنصارى؛ بل وامتلأت بيوت المسلمين بالنصارى، فمن يصدق أن الأسر الإسلامية أصبحت الآن تأتي بخادمات من بلاد النصارى والوثنيين، كبلاد الفلبين التي هي أحقد بلاد تذبح المسلمين هناك كالغنم، فيؤتى من هناك مربيات ومربون من أبناء النصارى يربون أبناء المسلمين على غير الفطرة! فعلى المسلمين أن يراجعوا تاريخ هذه الأمة، فالله تعالى هنا يقول: (بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ).(52/6)
حكم تولي اليهود والنصارى وغيرهم من الكفار
ثم يأتي وعيد أشد: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51]، فهذه ردة عن الإسلام، وهذا دليل على أن تولي اليهود والنصارى، واتخاذهم بطانة من دون المؤمنين، والثقة بهم وتوليتهم مقاليد الأمور إنما هو ردة عن الإسلام بنص القرآن: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ)، والضمير في: (مِنْكُمْ) يعود إلى المسلمين، وقوله: (فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) يعود إلى اليهود والنصارى، أي: إذا توليت اليهود والنصارى واعتمدت عليهم واتخذتهم بطانة من دون المؤمنين فأنت منهم، فأنت يهودي أو نصراني، فهذا نص القرآن لا يحتمل التأويل، فعلى المسلم أن يراجع حياته مع هؤلاء القوم؛ فإن الله عز وجل يقول: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51]، ما هو السبب؟ {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51].
فالذي ظلم نفسه هو الذي ربط نفسه بعجلة اليهود والنصارى، واتخذهم بطانة، وجاء بهم إلى بلاد المسلمين، وكثر سوادهم في بلاد المسلمين، وولاهم مقاليد الأمور، وهذا خطر شديد جداً، فعلى الأمة الإسلامية أن تعود إلى ربها حتى لا تقع في الردة، فالله تعالى يقول: (فَإِنَّهُ مِنْهُمْ)، وأكد ذلك بقوله: (فَإِنَّهُ)؛ لأن كلمة (إن) لفظ من ألفاظ التأكيد، حتى لا يظن أحد أن الأمر ملتبس، بل هو مؤكد بـ (إن)، وقوله: (فَإِنَّهُ)، أي: الذي يتولى هؤلاء، (مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).(52/7)
ولاء المنافقين لليهود والنصارى
لما نزلت هذه الآية كان المنافقون في المدينة -مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم- يعايشون المسلمين، ويندسون في صفوف المسلمين، واليهود كانوا موجودين في المدينة، واليهود يعتبرون أنفسهم أكثر أهل المدينة في ذلك العصر، وفيهم ثلاث قبائل: بنو قريظة، وبنو النضير، وبنو قينقاع، وهي من أكبر قبائل اليهود في المدينة، لما نزلت هذه الآية قال عبد الله بن أبي لعنه الله -كما يقول ذلك أيضاً المنافقون في أيامنا الحاضرة- قال: نحن لا نثق بمحمد، فمحمد ليس ركناً نعتمد عليه، نريد أن نعقد حلفاً مع بني قريظة وبني النضير، نخشى أن تصيبنا دائرة! ومعنى هذا الكلام: أنه يقول: نحن في المدينة مهددون بعدما جاء محمد صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فيقول: نريد أن نعقد حلفاً مع اليهود، ونريد أن نربط أنفسنا باليهود، ولو كان الله يقول: {لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى} [المائدة:51]، فهو يقول: لا، سنتخذ اليهود أولياء؛ لأننا نخشى أن تصيبنا دائرة، فيهجم علينا أحد من أعدائنا من الخارج، فنستعين بهؤلاء اليهود، ولما قال هذه المقالة الخبيثة التي يقولها اليوم كثير من الناس، الذين لا يثقون بالله عز وجل، ولا يثقون بقوة الله ولا بنصر الله، ويقولون: نريد أن نعقد حلفاً مع أولئك القوم؛ لأننا نخشى أن يهجم علينا أحد من جيراننا أو من الأباعد، فنعقد مع هؤلاء حلفاً أو صلحاً أو هدنة أو تعاوناً أو ما أشبه ذلك؛ لأننا نخشى أن تصيبنا دائرة.
والله تعالى أنزل قرآناً يُتلى إلى يوم القيامة في ابن أبي، ومن سار على شاكلته من الذين يشعرون بالضعف، ولا يعتمدون على الله عز وجل في أمورهم، ثم على أنفسهم بعد ذلك، يقول الله تعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [المائدة:52]، أي: نفاق {يُسَارِعُونَ فِيهِم} [المائدة:52]، أي: يسارعون في اليهود، وربما في اليهود أو في النصارى، فهذا ابن أبي يقول: أنا أعقد حلفاً مع اليهود؛ أخشى أن تصيبني دائرة.
قال الله تعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [المائدة:52]، أي: نفاق، {يُسَارِعُونَ فِيهِم} [المائدة:52]، وانتبه يا أخي! إلى قوله: (فِيهِم)، ولم يقل: (إليهم)، والفرق بين (إليهم) و (فيهم) بعيد جداً، فـ (إليهم) تعني: يذهبون إليهم ويعقدون معهم صلحاً، لكن (فيهم) أي: يدخلون في وسطهم، فكأن هؤلاء ما اكتفوا بأن يعقدوا معهم حلفاً، وإنما اعتبروا أنفسهم جزءاً منهم، ولذلك ارتدوا عن الإسلام؛ لأنهم دخلوا في وسط اليهود، وأصبحوا -أي: المنافقون- يهوداً مثلهم؛ لأنهم يخشون أن تصيبهم دائرة، ولذلك قال الله تعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم} [المائدة:52]، ولم يقل: إليهم، لماذا؟ لأنهم: {يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} [المائدة:52]، أي: نخاف أن يهجم علينا أحد أو أن تصيبنا مصيبة ونحن ما استعددنا للقتال، وما عندنا إمكانات ولا عندنا أسلحة ولا تدريب، فنريد أن نعقد الحلف مع اليهود؛ حتى لو هجم علينا أحد من خارج المدينة نستطيع أن ندافعه بهؤلاء اليهود باعتبارهم داخل المدينة، فقال الله تعالى: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة:52]، عسى من الله واجبة.
وعسى في اللغة العربية تأتي بمعنى الترجي، لكنها من الله عز وجل ليست بهذا المعنى، وإنما (عسى) بمعنى: حري وقريب أن يأتي فتح من الله عز وجل، والمراد بالفتح: عز الإسلام وظهور الأمة الإسلامية، واستعداد الأمة الإسلامية لعدوها في أنفسها واعتمادها على أنفسها بعد الله عز وجل، وهذا يعني قرب ظهور الإسلام في الأرض، وبذلك يفشل عبد الله بن أبي لعنه الله ومن على شاكلته من المنافقين، ويتحطم اليهود أمام قوى المسلمين، وهذا هو الذي حدث بعد مدة وجيزة، فلم تمض سنوات قصيرة إلا وقد تحطمت كل فئات الكفر الثلاث المسيطرة على المدينة، فكلها تحطمت تحت أقدام المسلمين، حتى كان آخرهم بني قريظة الذين حكَّم الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم سعد بن معاذ، فحكم فيهم بأن يقتل كل رجل بالغ، وتسبى النساء والذرية، وتصير أرضهم ملكاً للمسلمين.
إذاً: هذا تحقيق لخبر الله عز وجل؛ لأن (عسى) وإن كان أصلها في اللغة العربية للترجي، لكنها إذا جاءت من عند الله فمعناها التحقق والتأكد، أي: حري ومؤكد أنه سوف يأتي يوم يندم فيه كل إنسان يربط نفسه بعجلة الكافرين ويخشى أن تصيبه دائرة، وذلك حينما يأتي نصر من عند الله عز وجل، وإذا جاء نصر من عند الله يصبح هؤلاء القوم على ما أسروا من النفاق حينما ربطوا أنفسهم بالكافرين: {فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة:52].
وظهر الإسلام والحمد لله، وأصبح اليهود عبيداً يباعون ويشترون ويشغلون قسراً في بلاد المسلمين، وصارت أراضيهم ملكاً للمسلمين في المدينة وخيبر، وتحقق هذا الوعد، ويتحقق هذا الوعد دائماً وأبداً، ويعود الكافرون أذلة أمام المسلمين حينما يصدق المسلمون مع الله عز وجل، أما حينما يشعر المسلمون بالذلة والمهانة وهم في بلادهم وفي أرضهم، ويستخدمون عدوهم ليدافع عنهم وهم عاجزون، فهذا هو العار الذي يصيب الأمة الإسلامية في أيام تخلفها.
أما الله عز وجل فقد حكم بأنه سوف يظهر هذا الإسلام بالرغم من الذلة التي يشعر بها المسلمون في يوم من الأيام، فسوف يظهر هذا الإسلام، ويندم الذين كانوا بالأمس يعتمدون على غير المسلمين من دون الله عز وجل.
وقوله: (فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ)، أي: ظهور الإسلام، (أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ)، أي: أمر لا يعلمه الناس، فقد تكون العلامات والأدلة تدل على أن المسلمين متخلفون، سواء كان في الصناعة أو في الإنتاج أو في التكتيك العسكري أو في التجنيد أو ما أشبه ذلك، لكن الله عز وجل له جنود السماوات والأرض، فعليهم أن يتجهوا إلى الله عز وجل، وأن يرتبطوا بالله عز وجل، وحينئذ يأتي أمر من عنده لا يعلمه الناس، وبعد ذلك إذا جاء أمر الله تتغير وجهة نظر أولئك الذين كانوا يريدون أن يربطوا أنفسهم بعجلة الكافرين ويقولون: (نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ)، وحينئذٍ (فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ).(52/8)
التحذير من حسن الظن بالكافرين
هكذا يعلمنا الله عز وجل كيف نحسن الظن به سبحانه وتعالى، أما أن نسيء الظن بالله عز وجل، وأما أن نحسن الظن بأعدائنا ونعتمد على أعدائنا فهذا لا يجوز، وقد أصبحت بلاد المسلمين الآن مرتعاً لكل كافر وطاغوت من طواغيت البشر ومن شذاذ العالم، وأصبحت بلاد المسلمين يرفع هؤلاء الكفار رءوسهم بها، ولربما يخفض كثير من المسلمين رءوسهم في بلاد المسلمين؛ بل لربما يخفض العلماء والدعاة والمصلحون رءوسهم في بلاد المسلمين، في وقت نجد أن شذاذ العالم والكفرة والمارقين من كل بلاد العالم يجوبون خلال الديار قد رفعوا رءوسهم في بلاد المسلمين! وهذه هي المصيبة، وهذه هي البلية، وهذه كلها ترجع إلى سوء الظن بالله عز وجل وحسن الظن بالكافرين، فحسن الظن بالكافرين جعلهم يعتمدون على غير الله عز وجل وعلى غير المؤمنين، ويتخذون بطانة من دون المؤمنين، وسوء الظن بالله عز وجل جعلهم لا يعتمدون على شيء من أمر الله سبحانه وتعالى، فتنكب المسلمون كثيراً عن دين الله عز وجل، وربطوا أنفسهم في عجلة الكافرين، وهؤلاء الكافرون بالرغم من أنهم ربما يمدون يد العون للأمة الإسلامية لمصالح مؤقتة، لكنهم يحملون الحقد الدفين على هذه الأمة، وهذا هو الشيء الذي يجب أن نؤمن به، ويجب أن نأخذه من كتاب الله عز وجل مباشرة: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة:52].(52/9)
ولاء العلمانيين والقوميين ونحوهم للكافرين
وبعد ذلك ربما تنضم جبهات تزعم أنها على الإسلام إلى الكافرين؛ لتقول للكافرين: اضربوا الإسلام ونحن معكم! فسيأتي اليوم الذي تكون فيه القوة للأمة الإسلامية، وحينئذٍ يوجد المنافقون، لكن قد توجد فئات أخرى تشبه المنافقين من القوميين والعلمانيين والملاحدة والمتربصين والانتهازيين، إلى غير ذلك من الألقاب الجديدة، وهؤلاء هم لا يبالون بالأمة الإسلامية، ولا ينافقون، لكنهم يندسون في المجتمع الإسلامي ويقولون للكفار: افعلوا ما شئتم في الأمة الإسلامية فنحن معكم، وربما يربيهم الكفار في بلادهم، ثم يدسونهم في المجتمعات الإسلامية؛ ليخربوا صف الأمة الإسلامية، ولينتهزوا الفرص التي يجب أن تتحد فيها الأمة الإسلامية، فيتحرك أولئك كالجرذان كما رأينا في العام الماضي؛ فحينما انشغلت الدولة في حرب ألد أعدائها، وحينما كشر العدو عن أنيابه في عدة مناطق من بلاد المسلمين ضد هذه الدولة؛ نجد أن هؤلاء الفجرة تحركوا ليربكوا نظام الدولة، ومن أجل أن يستغلوا هذه الفرصة، ومن أجل أن يشوهوا سمعة المسلمين والدعاة إلى الله عز وجل، فهؤلاء لا يخفون على الله عز وجل، ولا يخفون أيضاً على المؤمنين.
ولذلك الله تعالى يكشفهم هنا فيقول: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا}، وهم على ثقة من إيمانهم ودينهم بالله عز وجل، أي: المؤمنون يقولون للكفار: {أَهَؤُلاءِ} [المائدة:53]، أي: يشيرون إلى المنافقين أو المندسين في صفوف المسلمين، الذين استعملهم الكفار لضرب الأمة الإسلامية من أبناء الجلدة، وقد يكونون من أبناء الجلدة، وغالباً يكون المنافقون هم من أبناء الجلدة؛ لأنهم يندسون في المجتمع من أجل أن يفسدوا الصف، وهم الذين أخبر عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم: بأنهم سوف يأتون في آخر الزمان وهم قوم من أبناء جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا -أي: باللغة العربية الفصحى- دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها، فهؤلاء الدعاة يبرزون في نقط وفي مواقع سوداء من تاريخ الأمة الإسلامية، وكلما شعروا بضعف الأمة الإسلامية أو بضعف الدعاة، أو كلما توقفت الدعوة نشطوا هم من الجانب الآخر، كما شاهدتموهم في العام الماضي، فهؤلاء المؤمنون يستهينون بهم، اسمعوا ماذا يقولون عنهم: (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا)، أي: للكافرين، (أَهَؤُلاءِ)، وهذا من باب التحقير: {أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ} [المائدة:53]، أي: تعتمدون أيها الكفار! على هؤلاء الذين حلفوا يميناً مغلظة بأنهم سوف يتعاونون معكم ضد الإسلام وضد الأمة الإسلامية، وهؤلاء لا خير فيهم، ولا قيمة لهم، ولا نقيم لهم وزناً ولو كانوا من أبناء المسلمين، ولو كانوا يتسلمون مناصب مهمة في بلاد المسلمين، فهؤلاء لا وزن لهم ولا قيمة، وسوف يكونون هم الضحية الأولى -إن شاء الله- حينما يأتي الله بالفتح أو أمر من عنده.
وقوله: (أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ)، أي: كانوا يتظاهرون بالخير، (جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ)، أي: يغلظون الأيمان المتكررة، (إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ)، أي: ضدنا نحن المؤمنين، (حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ)، أي: لا خير فيهم، وسقطت أعمالهم وبطلت.
واختلف المفسرون في قوله تعالى: (حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ)، أهي من كلام المؤمنين أم من كلام الله عز وجل؟ فيُحتمل أنها من كلام المؤمنين يتهمون ويقولون للكفار: إن من تعاون معكم من أبناء جلدتنا من المنافقين المندسين في الصفوف الإسلامية هؤلاء لا قيمة لهم ولا وزن، ثم أيضاً هم مرتدون عن الإسلام؛ لأن معنى (حَبِطَتْ) أي: بطلت بسبب أنهم ارتدوا عن الإسلام.
وقوله سبحانه: {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} [المائدة:53]، لأنهم خسروا الدنيا وخسروا الآخرة، خسروا قومهم فانضموا إلى معسكر العدو، وخسروا الآخرة لأنهم ارتدوا عن دين الإسلام، فأصبحوا حطباً لجهنم، والعياذ بالله! هذا هو موقفنا مع الانتهازيين ومع العلمانيين ومع المتمسلمين، الذين يندسون في صفوف المسلمين يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي الكافرين؛ موقفنا معهم واضح كموقفنا مع اليهود والنصارى وجميع فئات الكفر، فموقفنا مع اليهود والنصارى أننا نقول: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51]، ولا نتولاهم ونركن إليهم، ولا نعتمد عليهم في أمر من الأمور، وموقفنا مع هؤلاء المحسوبين على الإسلام والذين يندسون في صفوف المسلمين من المخربين، موقفنا معهم الاستهزاء والسخرية، وأنهم لا خير فيهم، والدليل أنهم لا خير فيهم: أنهم يخربون على أنفسهم وعلى أبناء جلدتهم، ثم أيضاً هم مرتدون عن الإسلام بانضمامهم إلى الكافرين.(52/10)
وعد الله تعالى بنصر الإسلام وتمكين أهله
بعد ذلك يقول الله تعالى للعالم الإسلامي كله: لا تخافوا على الإسلام، فالإسلام دين الله ظاهر، وحتى لو قدر أنه وجد من أبناء المسلمين من المنافقين وأشباههم الذين يزعمون الإسلام، وهم أبعد عن الإسلام مما بين المشرق والمغرب، لو وجد هؤلاء فلا تخافوا منهم؛ لأن لله جنود السموات والأرض، فلو ارتد من ارتد من المسلمين عن الإسلام فأصبحوا حرباً ضد الإسلام؛ فإن لله خلقاً لا تعلمونهم أنتم، وهؤلاء الخلق سوف يأتون في الفترة التي توجد فيها الردة عن الإسلام.
والله إن هذه الآية كأنها تخاطب أهل هذا الزمان الذي نحن نعيش فيه؛ فإننا نرى في هذا الزمان قوماً ارتدوا عن الإسلام، وما ارتدوا عن الإسلام فأصبحوا يهوداً أو نصارى فقط؛ لكنهم أصبحوا شوكة تؤذي الأمة الإسلامية، وأصبحوا حجر عثرة في تاريخ الأمة الإسلامية، ووالله يا إخوان! إن الإسلام يُحارب في أيامنا الحاضرة بهم أكثر من أن يحارب باليهود والنصارى، ولا أكتمكم سراً حينما نقرأ عن رجل يقال له: محمد يقول: إن محمد الهاشمي وسورة (تبت) هي سبب تأخر المسلمين! فهذا رجل اسمه محمد، وفي نفس الوقت نقرأ في تاريخ اليهود الذين هم أحقد الناس على الإسلام أن رجلاً يُدعى برنارد يهودي يقول: لو بُعث محمد اليوم لحل مشاكل العالم وهو يحتسي فنجاناً من القهوة! قارن يا أخي! بين محمد وبين برنارد، محمد رجل مسلم من أهل المدينة، وبرنارد رجل يهودي من الحاقدين على الإسلام، وبرنارد يقول: لو بعث محمد اليوم لحل مشاكل العالم وهو يحتسي فنجاناً من القهوة.
يعني: يستطيع أن يحل مشاكل العالم كلها وهو يشرب فنجاناً من القهوة.
إذاً: لو ارتد من ارتد من المسلمين عن دين الله فلا تخافوا على هذا الدين؛ فإن هذا الدين تكفل الله عز وجل بحفظه، وتكفل برعايته حتى يسلمه كل جيل إلى الجيل الذي بعده؛ لأنه آخر دين في هذه الحياة؛ ولأن رسالته آخر رسالة؛ ولأن كتابه أشرف وآخر كتاب، فسيبقى هذا الدين، ولو ارتد كل العالم الإسلامي عن الإسلام؛ فإن لله قوماً سوف يوجدون في هذه الفترة التي تُوجد فيها الردة.
وتعال معي يا أخي! إلى العالم الإسلامي في السنوات الأخيرة، قبل سنوات كانت التخمينات الضائعة الضالة تقول حتى للمسلم: فلان وفلان وفلان سوف يهلكون عن الوجود وينتهي الإسلام عن هذه الأرض، والله لقد كنا نسمع هذا الكلام يا إخوان! حتى المفسدون في الأرض كانوا إذا جاءوا بأفلام قيل لهم: متى هذه الأفلام؟ قالوا: ما جاء موعدها حتى الآن؛ انتظروا موعدها قريباً سيأتي؛ ومعنى ذلك: أنه سينحرف العالم الإسلامي، وتنحرف البلاد التي تطبق الإسلام! وهذه الأفلام ستطبق حتى هنا، وكان هنا أقوام يأتون بأفلام ما وصلنا إليها حتى الآن، ولا وصلت إلينا والحمد لله، فإذا قيل لهم: متى تنشر هذه الأفلام؟ يقولون: ما جاء وقتها، بقي عليها وقت قصير، ويتصورون أن الإسلام انتهى من هذه الحياة وبقي فلان وفلان في هذا العالم الإسلامي ينتهون وبعد ذلك تعود هذه الأرض كفراً بواحاً.
لكن ما الذي حدث يا إخوان؟! في العشر السنوات الأخيرة التي كانت تقال هذه المقالات، وكانت تؤلمنا حينما نسمعها، ولولا ثقتنا بالله عز وجل وبدين الله سبحانه وتعالى لكنا نصدق بهذه الأخبار فنخاف على الأمة الإسلامية، لكن اليقين بالله عز وجل يطمئننا على هذا الدين فنقول: إن الله عز وجل يقول: {َلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الفتح:7]، ويقول: {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [المنافقون:7]، ويقول: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة:33]، ويقول: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173].
هذه الآيات تتردد أمام مخيلتنا دائماً وأبداً، فنثق بوعد الله عز وجل، فإذا بنا -والحمد لله- نعيش اليوم صحوة إسلامية جعلت السقف يخر عليهم من فوقهم، ويأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون، أعني المتربصين بالإسلام الذين ينتظرون نهاية الإسلام في سنوات قريبة، فإن عاقبتهم كما قال الله عز وجل: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ} [النحل:26]، فنشأت ناشئة -والحمد لله- إسلامية وشباب إسلامي متدين متمسك بدينه، نشئوا على إسلام ليس متطرفاً كما يقولون عنه، وليس أصولياً، اللهم إلا إذا كانت الأصولية في معناها الصحيح وهو: أنه يرجع إلى الأصل في دينه، وليس متزمتاً، وليس منحرفاً، وليس متشدداً، ولكنه شباب يعيش إسلام الفطرة، لكن لما بعد الناس مدة طويلة من الزمن عن الفطرة الصحيحة ظنوا أن هذا الشباب متهور، وأنه متطرف، وما هو بمتهور ولا متطرف، فإذا به يأتي هذا الشباب، وأرجو أن يكون هذا هو وعد الله عز وجل في قوله: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54].
إذاً: من هنا نطمئن على دين الله عز وجل، لا نخاف على الإسلام؛ فالإسلام يقول الله عز وجل عنه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، ولا نخاف على الأمة الإسلامية إذا تمسكت بدينها؛ فإن الله تعالى يقول: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55].
إذاً: هذا الوعد يطمئننا على هذه الأمة الإسلامية، أما الإسلام فنحن مطمئنون عليه اطمئناناً كاملاً.(52/11)
إذا ترك المسلمون دينهم فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه
ما هو الطريق لو انحرف العالم الإسلامي كله عن دينه؟ الطريق: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54]، {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38]، وهذا هو الواقع، فلما تنكرت الأمة كثيراً للإسلام في أيامنا الحاضرة، وظن طائفة من الناس من ضعاف الإيمان أن الإسلام قد استنفذ أغراضه، وأنه سوف يخلي هذه الحياة؛ ليكون البديل هي الملل المنحرفة الكافرة، وخرج دعاة الباطل من الخارج ومن الداخل، وتضافرت الجهود، وانتشر الطغيان والفساد في الأرض، ولكن في هذه الفترة وجد هؤلاء القوم: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54].
ولذلك يبين الله عز وجل أن الخير لا يأتي إلا إذا استحكمت حلقات اليأس والمصائب، فالخير لا يأتي إلى الناس إلا حينما يكاد الخير أن يودع الأرض، ويكاد الشر أن يسيطر على كل الحياة، كما قال سبحانه وتعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ} [يوسف:110]، وقال سبحانه: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214]، ومن هنا يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} [المائدة:54]، أي: من يخرج عن دين الإسلام ويظن أن الإسلام سيضيع إذا خرج عنه، ولكن لو خرج كل الناس عن الإسلام {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54].(52/12)
صفات القوم الذين يحبهم الله عز وجل ويحبونه
لقد ذكر الله عز وجل لهؤلاء القوم ست صفات، لابد لأي واحد منا يريد أن يكون جندياً من جنود الله عز وجل أن يسجل نفسه في هذه القائمة، وأن يتسم بالصفات الست التي ذكرها الله عز وجل هنا، وهذه الصفات هي: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54]، ست صفات لابد أن يتصف بها هؤلاء القوم الذين هم بديل عن القوم الذين تنكروا لدين الإسلام، وهؤلاء هم الذين سوف يمثلون الصحوة الإسلامية الصحيحة، وهؤلاء هم الذين سوف يقضي الله عز وجل بهم على هؤلاء المفسدين في الأرض.
الصفة الأولى: (يُحِبُّهُمْ)، ومحبة الله عز وجل تتطلب الطاعة المطلقة التي لا ترتبط بقيد ولا شرط أبداً لله عز وجل ولرسوله.
الصفة الثانية: (وَيُحِبُّونَهُ)، ومن محبتهم لله عز وجل أنهم آثروا دين الله سبحانه وتعالى على أي ملة، وعلى أي منهج، ولربما تقدم لهم إغراءات في هذا السبيل يسيل لها لعاب كثير من الناس، لكنهم يرفضونها، ويقول قائلهم بلسان الحال وبلسان المقال في جانب الله عز وجل: فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب فهم يتمثلون بهذا الأمر، وحينئذ يحبهم الله عز وجل، ويحبونه سبحانه وتعالى، ومن محبتهم له سبحانه وتعالى أنهم يتفانون في سبيل الدفاع عن دين الله عز وجل، وهب أن أحدهم لقي الله عز وجل في سبيل هذا الدين إنما لقي الله بأجله لا بأجل إنسان آخر؛ فإن الله تعالى يقول: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34].
الصفة الثالثة: (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ)، والذلة معناها: الخضوع، فهو يخضع للمؤمنين ويرق ويلين، فإذا أراد أن يتعامل مع مسلم مع مؤمن مع تقي تجده أرق من القطن؛ فحينما يريد أن يتعامل مع هؤلاء المسلمين يخضع لهم، ويحبهم، ويقدم لهم الطاعة في طاعة الله عز وجل، لكن حينما يريد أن يتعامل مع الكافرين يكون عزيزاً.
الصفة الرابعة: (أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ)، أي: أقوياء، والعزة معناها: القوة، فهو يتعامل مع المسلمين بلين وسهولة، ويتعامل مع أعدائه بخشونة وقوة، وليس معنى ذلك أنه يظلم الكافرين، فإن الله عز وجل حرم علينا أن نظلم كافراً إذا كان مستأمناً في بلاد المسلمين، ولذلك يقول الله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} [الممتحنة:8]، وأنتم تعرفون كيف يتعامل الإسلام مع الكافر إذا كان يريد أن يعيش في بلاد المسلمين مستأمناً معاهداً، لا يتدخل في أمور المسلمين، وأصبح المسلمون مضطرين إلى بقائه في بلاد المسلمين، لاسيما إذا جاء ليدرس الإسلام ليدخل في الإسلام، فإنه يجب على الأمة الإسلامية أن تحافظ عليه، ولا يُؤذى، لكنه لا يرفع رأسه في بلاد المسلمين، فلو رفع رأسه في بلاد المسلمين يجب أن يقمع حتى لا يتولى منصباً حساساً، كما هو الآن في كثير من بلاد المسلمين أو في جل بلاد المسلمين؛ حيث يتولون مناصب حساسة، فوالله لقد رأيناهم يا إخواني! يسومون المسلمين سوء العذاب حينما يتولى أحد منهم منصباً من المناصب، لاسيما نصارى العرب الذين تمكن طائفة منهم من بعض المناصب، فأصبحوا في بلاد المسلمين يذلون الأمة الإسلامية، ويتحكمون في مصير وأرزاق المسلمين.
لكن الحقيقة أنه يجب أن تكون هذه العزة ليست على حساب الكافر الذي لا يحارب الإسلام؛ بل يجب أن تكون هذه العزة قوة في المسلم حينما يريد هذا الكافر أن يتمرد في بلاد المسلمين، أو أن يعلو في بلاد المسلمين، أو أن يرفع رأسه، فالله تعالى يقول: (أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ)، أي: أقوياء على الكافرين.
الصفة الخامسة: (يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)، أي: يبذلون الجهد من أجل إعزاز دين الله، إذا تطلب الموقف أن يحمل السلاح في وجوه الكافرين حينما تكون الحرب بين المسلمين وبين الكافرين فإنه أسرع الناس إلى حمل السلاح، وإذا تطلب الموقف الدعوة إلى الله عز وجل بالحكمة والموعظة الحسنة فهو أسبق الناس إلى الدعوة إلى الله عز وجل، وإذا تطلب الموقف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإنه هو الجندي من جنود الله عز وجل يستميت في سبيل الدفاع عن محارم الله عز وجل وعن محارم المسلمين.
الصفة السادسة: (وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ)؛ لأن المشكلة التي تعترض كثيراً من الدعاة أو كثيراً من المصلحين أو الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر هي خوف لومة لائم، فبعض الناس يظن أن رزقه بيد البشر، وينسى أن الله تعالى يقول: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6]، وبعض الناس يظن أن حياته بيد البشر، وينسى أن الله تعالى يقول: {كِتَابًا مُؤَجَّلًا} [آل عمران:145]، ويقول: {لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34]، وبعض الناس يظن أن مصيره بأيدي البشر فيخاف، أما المؤمن الحق فإنه لا يخاف لومة لائم.
وكلمة (لومة) كافية في المعنى، فما فائدة (لائم) في قوله: (وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ)؟ أي: كائناً من كان هذا اللائم، ومهما كان مستواه، ومهما كان مركزه في هذه الحياة، فهم لا يخافون منه؛ لأنهم يعرفون أن كل شيء بيد الله عز وجل، كما قال صلى الله عليه وسلم: (وأن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف).
إذاً: يجب عن المسلم ألا يخاف لومة لائم حينما تنتهك محارم الله عز وجل، فيغضب لله عز وجل غضبة لا يمكن أن تقف هذه الغضبة حتى تعود الأمور إلى طبيعتها، والمياه إلى مجاريها، أما أن يساوم في دين الله فهذا هو الأمر الخطير في حياة البشر، ولذلك أخبر الله تعالى بأن هناك مؤمنين لكنهم مؤمنون يرجعون من منتصف الطريق فقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ}، أي: أذى الناس، {كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} [العنكبوت:10]، يقول الله تعالى: {أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت:10].
إذاً: هؤلاء الذين يرجعون من منتصف الطريق لا يصلحون لمثل هذه الحياة التي يرتد فيها أقوام عن الإسلام، ويتقدم أقوام يدافعون عن دين الله عز وجل وعن الأمة الإسلامية، يقول الله فيهم: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54]، أما إذا كانوا يخافون لومة لائم فإنهم لا يدركون محبة الله عز وجل؛ لأن هذا يعني عدم الثقة بوعد الله عز وجل، وعدم الاعتماد على وعده سبحانه وتعالى.
إذاً: المسلم لا يخاف في الله لومة لائم، فلو تنكرت كل الدنيا في وجهه وهو يعرف أنه على طريق مستقيم فلا يبالي ولا يتوقف، وهذا بخلاف ذلك الذي يعبد الله -نعوذ بالله- على حرف وعلى طرف بين الإيمان والكفر: {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ} [الحج:11].
إذاً: هذه الصفات الست هي: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54]، ويمكن أن نضيف إلى هذه الصفات الست صفة سابعة وهي: الاجتماع على كلمة الحق لقوله: (بقوم)، فالله تعالى لم يقل: أفراد؛ لأن العمل الفردي في سبيل الدفاع عن هذا الدين ربما يصعب على المسلم، لكن العمل الجماعي من أجل رفعة هذا الدين، ومن أجل حماية هذا الدين من المفسدين في الأرض لابد منه، ولابد أن يتولى ذلك قوم، وهم الذين أشار الله عز وجل إليهم في سورة آل عمران بقوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ} [آل عمران:104]، أي: لا أفراد، وقال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران:110]، ودائماً الإسلام يخاطب المجموعة، ويريد أن تكون الأمة مجموعة لا متفرقة.(52/13)
فضل الله عز وجل لا يكتسب بالمجد ولا بالنسب
يقول الله عز وجل: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:54]، وهذا لا يكتسب بالنسب ولا بالأمجاد ولا بالآباء ولا بالذكاء، إنما هذا فضل من الله سبحانه وتعالى، ولذلك لا تتعجبوا يا إخوان! إذا صدقناكم القول وقلنا: إن أبناء العلماء في أيامنا الحاضرة هم أقل الناس في هذه الساحة دخولاً في قوله سبحانه: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54]، ووالله يا إخوان! لقد وجد في أيامنا الحاضرة من أبناء الفسقة والمدمنين للخمور وأصحاب السجون من يدافع عن هذا الإسلام أكثر مما وجد في أبناء العلماء وأبناء الصالحين، فالمسألة ليست متوارثة، وليست تكتسب بالآباء والأمجاد وبالأصول، وإنما تكتسب بفضل من الله عز وجل، ولذلك يقول الله تعالى: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:54].(52/14)
من هو الذي يجب أن نواليه؟
إذاً: من هو الولي الذي يجب أن نربط أنفسنا به، وأن نحبه، وأن نعطيه الولاء الكامل بعد الله عز وجل وبعد رسوله عليه الصلاة والسلام؟
الجواب
هو المؤمن التقي، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تصاحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي)، فلا بد للمسلم ألا يركن إلا إلى المؤمنين.
ولما حرم الله عز وجل على الأمة الإسلامية أن تركن إلى الكفار أياً كان هؤلاء الكفار: يهوداً أو نصارى أو وثنيين أو ملاحدة أو لا دينيين أو علمانيين، أو متمردين على الإسلام أو مرتدين؛ بين من هو الذي يجب أن يكون له الولاء بين المسلم والمسلم، فقال الله عز وجل: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة:55].
إذاً: من أراد أن يتولى وأن يتخذ بطانة وأن يتخذ أحباباً وجلساء وإخواناً يحبهم في الله عز وجل بعد الله ورسوله فهم المؤمنون؛ فالولاية يجب أن تكون لله ولرسوله وللمؤمنين، أما الكفار فإنهم يفسدون على الإنسان دينه.
وهل سمعتم بقصة القوم الذين دخلوا في الإسلام وهم كثيرون، ثم إذا بهم يُحاربون من قبل جلسائهم، كـ عقبة بن أبي معيط الذي بصق في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم عياذاً بالله! فإنه حينما دعاه الرسول صلى الله عليه وسلم للإسلام وحضر مائدته عيره قومه وقالوا: يا عقبة! والله لا نكلمك أبداً حتى تطأ على عنق محمد، وتبصق في وجهه، وتعلن ردتك عن الإسلام، ففعل ذلك البعيد ما طلبوا منه، فأنزل الله عز وجل فيه قوله تعالى في سورة الفرقان: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي} [الفرقان:27 - 29]، ثم قال الله عز وجل: {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا} [الفرقان:29]، فهذا بسبب المجالسة.
وأبو طالب في آخر ساعة من حياته لو قال: لا إله إلا الله لأصبح من أهل الجنة، وهو عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وشقيق أبيه، يقول عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنه في ضحضاح من نار، وعليه نعلان من نار يغلي منهما دماغه)؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم جاءه في ساعة احتضاره وقال: (يا عم! قل: لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله، فالتفت إلى جلسائه يميناً وشمالاً فقالوا: أترغب عن ملة عبد المطلب؟! قال: هو على ملة عبد المطلب - نعوذ بالله -، فخرجت روحه وهو يقول: على ملة عبد المطلب)، فحرم الله عز وجل على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يستغفر له فقال: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113].(52/15)
صلة الدين مقدمة على صلة القرابة والنسب
فالمسألة ليست مسألة قرابة، صحيح أن القرابة محترمة، وأن الرحم أمر الله عز وجل بصلتها، وأمر ببر الوالدين والإحسان إلى الأقارب والعشيرة، لكن ذلك حينما يكون الدين واحداً، أما حينما يتفرق الناس في دينهم فإن الله تعالى يقول: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة:22]، ويقول سبحانه: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة:24]، وهذا وعيد شديد على من ربط نفسه بغير المؤمنين.
وهذا نوح عليه السلام يسأل الله عز وجل نجاة ابنه لما رفض أن يركب السفينة، وأن يدخل في دين نوح عليه الصلاة والسلام فقال: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} [هود:45]، فقال الله عز وجل له: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:46].
وإبراهيم لما كان يستغفر لأبيه منعه الله تعالى من ذلك وبين عذر إبراهيم فقال: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة:114]، وقال لنا: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4].
إذاً: هذا هو الذي يربطنا بالناس أو يحل الرباط بيننا وبين الناس، ولذلك لا تعجبوا يا إخوتي! فالرسول صلى الله عليه وسلم كانت بطانته بلال بن رباح وصهيب الرومي وسلمان الفارسي وغيرهم رضي الله عنهم، وكانوا قد جاءوا من بلدان بعيدة عن بلاد العرب، لكن أين أبو جهل وأبو لهب أقاربه؟! قال الله عز وجل: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1].
فالمسألة ليست مسألة قرابة، وإنما هي مسألة إيمان؛ فهو الذي يربطنا بالصالحين، أو يفرق بيننا وبين الفاسقين أياً كانت درجتهم في القرابة، ولذلك يقول الله تعالى: (إِنَّمَا)، و (إنما) للحصر، أي: ليس هناك ولاية إلا من هذا الطريق، ومن أراد أن يضع ولاية بينه وبين إنسان أياً كان هذا الإنسان حتى لو كان أقرب الناس منه فعليه أن يراجع هذه الآية: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة:55] فقط.(52/16)
حرمة موالاة الكافرين بأي نوع من أنواع الولاية
أما الكفار فلا تجوز أن تكون بيننا وبينهم ولاية أو محبة أو عشرة أو أخوة، أو أي علاقة من العلاقات التي تربط بين البشر فيما بينهم، ولذلك يقول الله تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود:113]، حتى لو كان ركوناً بسيطاً؛ بل حتى لو كان ميلاً، فإن الله عز وجل قال لرسوله صلى الله عليه وسلم في شأن الكافرين: {لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} [الإسراء:74 - 75]، ففي هذه الآية: أولاً: أن هذا رسول الله.
ثانياً: كون الركون شيئاً قليلاً.
ثالثاً: أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما فكر في الركون إليهم من أجل أن يدافع عن الإسلام فقط، وإنما يريد أن يكسبهم إلى الإسلام، ومع ذلك قال الله تعالى له: {لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا} [الإسراء:74 - 75]، يعني: لو فعلت ذلك يا محمد! وركنت إليهم ولو شيئاً قليلاً، {لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} [الإسراء:75]، يعني: عاقبناك في الدنيا عقوبة مضاعفة، وعاقبناك في الآخرة عقوبة مضاعفة.
إذاً: المسألة مسألة عقيدة، فالصلة بالكفار وبالمؤمنين مسألة عقيدة، وليست مسألة فرعية، وإنما هي عقيدة تخرج الإنسان من دائرة الدين أو تدخله في دائرة الدين، وهنا يقول الله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة:55]، ليس فقط الذين آمنوا باللسان، بل حتى المؤمن الذي لا تربطنا به علاقة إلا إذا طبق هذا الدين تطبيقاً حقيقياً.(52/17)
صفات المؤمنين الذين تجب ولايتهم
يقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة:55]، فلابد من تطبيق تعاليم الإسلام، وأن يكون ذلك الذي نربط أنفسنا به مطبقاً لهذا الإيمان ومقيماً لتعاليم هذا الدين، فمن صفاته: أنه يقيم الصلاة، فغير المصلي مرتد عن الإسلام، ولا تجوز ولايته بأي حال من الأحوال، وقد لعن الله عز وجل بني إسرائيل مع بعضهم حينما كان بينهم ولاء على غير هذا المبدأ، وإن كان أحدهم ينهى الآخر عن المنكر، لكن ما كان ليفارقه؛ بل كان هو جليسه وأكيله وشريبه وهو يجده على المنكر، فالله تعالى يقول: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ} [المائدة:78 - 79].
ثم قال بعد ذلك: {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [المائدة:80]، فالتولي لعن فيه اليهود لما تولوا كفاراً تمردوا على دين اليهود.
إذاً: نقول: ما رأيك يا أخي! في الأمة الإسلامية لو تمردت أو ربطت أنفسها بمن تمرد على دين الإسلام؟ تكون المصيبة أكبر؛ لأن دين الإسلام له احترام أكثر من الأديان كلها، فالله تعالى يقول: {وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة:48]، فهو مهيمن على كل الأديان، ولذلك يقول الله تعالى عن المؤمنين الذين يجب أن تكون الولاية بيننا وبينهم وثيقة: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [المائدة:55]، حتى ولدك يا أخي! إذا وجدته لا يصلي -وهذه ردة عن الإسلام عند جمهور العلماء- فليس من أوليائك؛ بل يجب عليك أن تحاربه، وإذا عجزت عن إصلاح هذا الولد -لاسيما إن كنت فرطت في أيام شبابه وطفولته- فلا يجوز لك أن تواليه بأي حال من الأحوال؛ لأن الله تعالى يقول: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ)، وحتى الصلاة وحدها لا تكفي؛ بل لابد أن تكون صلاة قيمة مستقيمة كاملة، (وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ)، فإن عدم إتيان الزكاة أيضاً خطر، (وَهُمْ رَاكِعُونَ)، أي: وهم خاضعون لله عز وجل.
إذاً: من لم يخضع لله ولا لدينه سبحانه وتعالى فإننا لا نقبله لأن يكون ولياً لنا أياً كان، حتى لو زعم الإسلام، ولو كان من أبناء المسلمين الذين يزعمون أنهم مسلمون، ويحملون الهوية الإسلامية في جيوبهم، فهؤلاء ما دمنا نرى تصرفاتهم تناقض الإسلام فليسوا بأولياء، ولا تجوز موالاتهم في أي حال من الأحوال، وإنما الولاية لله ولرسوله وللمؤمنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون.(52/18)
حزب الله تعالى هم الغالبون
ثم قال سبحانه: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:56]، وفي هذا إشارة إلى أول الآيات، فأول الآيات تقول: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم} [المائدة:52]، أي: يشعر بعض المسلمين بالضعف في بعض الأحيان، لاسيما إذا أهملوا الأمر ولم يستعدوا لقتال العدو، فيربطون أنفسهم بالكافرين خوفاً من عدو، فالله تعالى هنا يبين في هذه الآية أن الغلبة إنما هي للمؤمنين، ولو كان العدد قليلاً، ولو كان العدو كثيراً، وإن كان الأصل أنه يجب الاستعداد للعدو، كما قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60]، لكن حينما لا يكون هذا التكافؤ، فيجب على الأمة الإسلامية مهما قل عددها وعدتها، ومهما شعرت بالضعف يجب عليها أن تشعر بالقوة؛ لأنها تستمد القوة من الله عز وجل؛ ولأن قلوب الخلائق ونواصي الخلائق في قبضة الله سبحانه وتعالى.
إذاً: لا يجوز للمسلم أن يخاف من عدوه أبداً؛ فإن الله تعالى يقول: (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ)، أي: جماعة الله، (هُمُ الْغَالِبُونَ)، أي: أن الذين يرتبطون بالله عز وجل مباشرة، ويعتمدون على الله في كل أمورهم هم الغالبون، ولو كانوا قلة في العدد أو في العتاد، فالله تعالى يقول: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:249]، ويقول: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْن} [الأنفال:65]، فالأمة الإسلامية لا تقاس بعدوها من الناحية العَددية أو العُددية، وإنما تقاس بعدوها من ناحية الإيمان وتطبيق هذا الدين أو عدم تطبيقه، فبمقدار ما تطبق من دين الله عز وجل يكون نصيبها من النصر، فجند الله عز وجل هم الغالبون.(52/19)
تحريم موالاة المستهزئين بدين الله عز وجل
ثم يقول الله تعالى بعد ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ} [المائدة:57]، إنه تعبير عجيب! فقوله: (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ) أي: منكم أنتم، فالمسألة ليست مسألة يهود ونصارى، وإنما المسألة مسألة خروج عن هذا الدين؛ سواء كان هذا الخارج عن الدين انتسب إلى دين سماوي منسوخ كاليهود والنصارى، أو انتسب إلى ملة منحرفة ككفرة هذا العصر الذين لا ينتسبون إلى مبدأ ولا إلى دين، فهناك ملاحدة لا دينيون، لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يؤمنون بالأديان، ولا بالبعث بعد الموت، ولا بالمرسلين، ويسخرون أيضاً من الدين والعياذ بالله! وهؤلاء أيضاً هم عدو لنا أخطر من عدونا من اليهود والنصارى، ولذلك يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا} [المائدة:57].
فهم يهزءون بالدين والعياذ بالله! ويقول أحدهم ساخراً: انظر إلى لحية فلان! انظر إلى ثوبه القصير! انظر كيف يصلي ويضع يديه على صدره! وهذه كلها يا أخي! من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، غفل عنها الناس مدة من الزمن، ويأبى الله إلا أن تعود هذه السنة في هذا العصر المظلم، ولذلك نجد هذا الطعن في الدين يكثر في أيامنا الحاضرة، فيصل إلى درجة خطيرة جداً! والله تعالى حكم على الذين يسخرون من الدين بأنهم أئمة الكفر فقال: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} [التوبة:12]، ولم يقل: كفرة، وإنما قال: {أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} [التوبة:12]؛ لأنهم قادة الكفرة، {إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ} [التوبة:12]، أو (لا إيمان لهم) في قراءتين سبعيتين.
إذاً: القضية قضية كفر، وليست قضية يهود أو نصارى فقط؛ بل ومن ينتسب إلى الإسلام أخطر على الإسلام من اليهود والنصارى، ولذلك يقول الله تعالى: {لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ} [المائدة:57]، فالذين أوتوا الكتاب من قبل هم كفار أيضاً؛ لأن دينهم منسوخ، وقوله: (وَالْكُفَّارَ) أي: من بعدكم وممن كان فيكم، فهؤلاء هم الكفار حقيقة؛ لأنهم كفروا نعمة الله عز وجل بعدما رأوا الدين والخير والنور، وصار حالهم كما قال الله عز وجل: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ} [البقرة:17]، وما هؤلاء المرتدون عن دين الإسلام المارقون عن الدين إلا هؤلاء الذين يقول الله عز وجل عنهم -والله أعلم بأسرار كتابه- أنهم هم الكفار بعد ذكره لليهود والنصارى.
قال الله عز وجل: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا} [المائدة:57 - 58]، فاليهود والنصارى والمشركون كانوا يسخرون من الرسول صلى الله عليه وسلم إذا نادى للصلاة، يقولون: (قاموا لا قاموا)! وهم يسخرون من المسلمين حين يصلون في المسجد الحرام، فإذا بدءوا يصلون بدءوا يضحكون ويسخرون منهم.
ومن أبناء المسلمين الآن من يفعل ما هو أكبر من ذلك، ومن يسخر من هذا الدين، ويسخر من أبيه وأمه ومنهجه ومجتمعه، لاسيما الشباب الذين انفتحوا فجأة واحدة، والذين انطلقوا في هذا العالم بعدما كانوا مضبوطين في مجتمع خاص.
إذاً: المسألة خطيرة أيها الإخوة! فهؤلاء الذين يسخرون علامتهم أنهم يسخرون من الصلاة.
وقوله: (وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) أي: إذا سمعوا الأذان: {اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} [المائدة:58]، وليس معناه: أنهم ليس لهم عقول؛ بل لهم عقول، لكن هذه العقول ما استعملت فيما خلقت له، بل استعملت في غير ذلك؛ فبعضهم قد يكون أذكى الناس في العلوم التي يبرز فيها الذكاء، لكن عقله محدود لا يؤمن إلا بالمحسوسات، كما أخبر الله عز وجل عن هؤلاء بقوله: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7].
أقول قولي هذا، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يحفظنا والأمة الإسلامية -ولا نقول: الإسلام؛ لأن الإسلام محفوظ- من كيد الكائدين، سواء كانوا من اليهود أو النصارى أو الوثنيين أو العلمانيين أو المندسين في صفوف المسلمين، والله المستعان: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21].
والحمد لله رب العالمين.(52/20)
الأسئلة(52/21)
حكم موالاة الكفار بحجة أنهم قد يقفون مع المسلمين أحياناً
السؤال
فضيلة الشيخ! ما هو موقفنا من بعض جهلة المسلمين الذين يقولون عندما نناقشهم في مسألة الولاء والبراء: إن الكفار قد ناصرونا ووقفوا معنا، بعكس بعض المسلمين الذين وقفوا ضدنا، فكيف نجيبهم، وجزاكم الله خيراً؟ الجوب: نقول: وهذه من الفتنة؛ فإن الأمة الإسلامية حينما تحتاج إلى عدوها لتنتصر به في وقت نجد أن أقرب الناس قد خذلها تُعتبر من الفتنة، فالله تعالى يقول: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان:20]، أي: هل تتحملون هذه الفتنة؟ فنقول: هذه من الفتنة، لكن بالرغم من ذلك تأكدوا أن أعداء الإسلام لا يمكن أن يمدوا لنا يد العون حباً ولا ولاءً، وإنما لمصالح أخرى، لكن ذلك لا يجوز أن يكون سبيلاً للمحبة، فالمحبة لا سبيل إليها مع الكفار؛ لأن الله تعالى يقول: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51]، والله تعالى حرم الموادة، لكنه ترك المودة، فالمودة تغلب الإنسان، فهي قهرية بدون إرادة، أما الموادة -وهي: تبادل المحبة- فهذه هي الخطيرة، ولذلك يقول الله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ} [المجادلة:22]، فالموادة غير المودة، فالموادة: هي تبادل المحبة وإظهارها، أما المودة: فإنها شيء فطري، وهي خطيرة، اللهم إلا إذا كانت موافقة للفطرة؛ كأن يكون لأبوين كافرين.(52/22)
الموقف من وجود الكفار في جزيرة العرب
السؤال
ما موقف العلماء وطلبة العلم والمسلمين عامة من كثرة النصارى والشيوعيين والوثنيين في جزيرة العرب، علماً بأنهم كثير في هذه البلاد لا كثرهم الله، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يجتمع دينان في جزيرة العرب)؟ الجوب: الحقيقة أن هذه أيضاً من الفتن الكبرى، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب، لا يجتمع في جزيرة العرب دينان)، وليس المعنى أنهم لا يجتمعون؛ لأنه لو كان المعنى: لا يجتمعون فسيكون خبراً، وقوله: (لا يجتمعْ) إنشاء، أي: أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ألا يجتمع في جزيرة العرب دينان، وعلى هذا نقول: إن هذه من الفتن، والأمة الإسلامية حقيقة ليست بحاجة إلى هؤلاء الكفار، ولنا أمل في الله عز وجل أن يوفق المسئولين إلى أن يقللوا سواد هؤلاء في بلاد المسلمين، أو أن يقضوا عليهم نهائياً، أما وجودهم فهو فتنة، وهذا هو ما نشكوه إلى الله عز وجل، ولا نستطيع أن نقول في ذلك أكثر من ذلك.(52/23)
حكم الملابس التي تحمل صوراً لمدن وأشخاص غير مسلمين
السؤال
نجد في الأسواق كثيراً من الملابس قد كتب عليها أسماء مدن غربية، أو تحمل صوراً لأشخاص من الكفار، وهذه الملابس غالباً ما تكون ملابس أطفال أو نساء، فهل في هذه الملابس إذا استخدمها أهل بيوتنا نوع من الولاء للكفرة، مع العلم أن بعض الأطفال قد يلبس هذه الملابس ويسأل عما كتب عليها من كتابات، فإذا أخبرته باسم هذه المدينة أو باسم هذا الشخص فإنه يجد تكبراً في نفسه، أو يكبر في عينه ذلك الشخص، علماً أن كثيراً من ملابس الأطفال لا تخلو من الصور، فماذا تنصحونا وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
البحث يشمل أمرين: الأمر الأول: الصور، وهذا محرم، لاسيما أنها صور رسوم باليد، وهذه لا خلاف بين علماء المسلمين في تحريمها، والرسول صلى الله عليه وسلم أمر بهتك الصورة بحيث تقطع إلى قطعتين، فهذا أمر منهي عنه إذا كانت صورة ترسم باليد، وهذا هو الواقع بالنسبة للصور التي توجد في الملابس.
أما الأمر الآخر: فهو ضعف في الشخصية الإسلامية تجاه الكفار، وهذا أمر أخطر من الأول، ولذلك فإن تربية الأطفال وإن ميول النساء إلى اقتناء هذه الصور، أو الاعتزاز بها من صور غير المسلمين أمر خطير، والأمة الإسلامية مطالبة -لا نقول: بأن تضع صور أبطال الإسلام في ملابسها- ولكن بأن تهتك هذه الصور، وأن تقاطعها، ولا تشتريها، وحينما تقاطع فإنها لن تنتشر في أسواق المسلمين، وإنما تنتشر في أسواق المسلمين حينما لا تكون هناك مقاطعة، وهذا دليل أكيد على ضعف شخصية الأمة الإسلامية.(52/24)
حكم المداينة مع الكفار
السؤال
أنا موظف في أحدى الدوائر الحكومية، ولدينا الكثير من الجنسيات ومن الديانات الأخرى، وأنا أقوم أحياناً بإقراض هؤلاء الموظفين من المال، وهذه الديانات منها النصارى والمجوس والهندوس، أفتوني جزاكم الله خيراً؟
الجواب
أما بالنسبة للإحسان فالله تعالى يقول: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} [الممتحنة:8]، والمراد بالبر: الإحسان إليهم، فحينما يفتقر في بلاد المسلمين رجل كافر فالأمة الإسلامية لا تُنهى أن تحسن إلى هذا الرجل الكافر، كما كان يفعل ذلك عمر رضي الله عنه في خلافته، أما أن يصل الأمر إلى ولاء ومحبة وتبادل هدايا أو أقراض وقضاء حاجات وذوبان مع هؤلاء فذلك لا يجوز، أما إذا كان الأمر فقط مجرد إحسان تستطيع من خلال هذا الإحسان أن تجذبه إلى الإسلام، وأن تحبب له دين الإسلام، فهذا أمر طيب ولا بأس به، أما أن تريد أن تذوب حتى لا تفرق بين مسلم وكافر وثنياً أو يهودياً أو نصرانياً فهذا هو الأمر الخطير.
لكن يجب أن يكون السؤال: لماذا بلاد المسلمين ولماذا الدوائر الحكومية يكون فيها الوثنيون واليهود والنصارى؟! فهناك مليار من المسلمين أكثرهم يموتون جوعاً في بلاد البنغال وغيرها، فلماذا لا تكون العمالة من بلاد المسلمين؟! فمثلاً: التمريض الآن لا نكاد أن نجد فيه خمسة في المائة مسلمات، مع أن هناك في بلاد الفلبين اثني عشر مليوناً من المسلمين، ولكن كم رأينا من المسلمات الممرضات أو من المسلمين الممرضين من يؤتى به إلى هنا؟ فالسؤال يجب أن يقال: لماذا هؤلاء يكثرون في دوائر الحكومة؟! ولماذا هؤلاء يكثرون في العمالة وفي المؤسسات؟! ولماذا لا يستبدل هؤلاء بالمسلمين، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} [آل عمران:118]؟! ولماذا نكثر سوادهم ونعطيهم أموال المسلمين، وبأموال المسلمين يُذبح المسلمون في الهند وُيذبح المسلمون في الفلبين وفي مناطق كثيرة؟! فهذا السؤال يجب أن يكون دائماً أمام أي واحد من المسلمين ليجيب عليه، ويجب على العالم الإسلامي أن يرجع إلى هذا الدين الصحيح حتى لا يعتمد على غير المسلمين بعد الله عز وجل.(52/25)
حكم قول (سيستر) للممرضات الكافرات
السؤال
كثير من النساء وكذلك الرجال ينادون الممرضات اللواتي يعملن في المستشفيات بقولهم: (سيستر)، بمعنى: يا أخت! فما هو الحكم من حيث الولاء والبراء، مع العلم أنهن كافرات، وقد تساهل كثير من الناس في ذلك، وفقكم الله؟
الجواب
الحقيقة أن هذه من الأخطاء الشائعة الكبيرة، فالله تعالى يقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، فليس الكافر أخاً للمسلم، وعلى هذا نقول: يجب أن تُستبدل هذه الكلمة ما دمنا مجبرين على أن نعيش مع هؤلاء ونحتاج إليهم بكلمات لا تدل على الولاء ولا على المحبة، وإنما تكون كلمات فقط كافية للنداء.(52/26)
حكم تأجير البيوت وغيرها للكفار
السؤال
هل يجوز أن أؤجر بيتي على غير مسلم؟ وإذا كان عندي مستأجر غير مسلم فهل أخرجه أم ماذا، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
التعامل مع غير المسلمين الذين لا يحاربون الإسلام أمر جائز، فالرسول صلى الله عليه وسلم مات ودرعه مرهون عند يهودي، لكن حينما يكون المسلم بحاجة إلى بيتك أو بحاجة إلى مالك أو إلى أمر من أمورك فهو أحق بهذا الأمر، لكن هذا الكافر ما دام قد سُمح له بالبقاء في بلاد المسلمين فإن استطعت ألا يكون قريباً منك فافعل، أما إذا كان هذا البيت ملاصقاً لك أو ملاصقاً لأسرة مسلمة فلا تفعل ذلك؛ حتى لا يؤثر على هؤلاء المسلمين، وأما إذا كان في منأى عن البلد ولا يختلط بالمسلمين فلعل ذلك يجوز، وذلك كأمر ضروري فقط، وإلا فالأصل أن الإنسان يجب ألا يتعاون مع هؤلاء في أي أمر من الأمور.(52/27)
حكم الإعجاب بالكفار، وأثر ذلك على الدين والأخلاق
السؤال
نلاحظ في هذا الزمان أن كثيراً من المسلمين -هداهم الله- وخاصة الشباب الذين درسوا في بلاد الغرب قد أعجبوا بأخلاق أولئك القوم من الغرب والشرق؛ حتى إننا نسمع كثيراً أن فلاناً من الناس يتحدث عن هؤلاء الكفرة، بل ويصفهم بالمحافظة على الوعد ودقتهم في ذلك، وفي المقابل نجده يقارن ذلك بحال المسلمين، وأن معظمهم لا يهتم بالوفاء بالوعد وغير ذلك، وأنهم همج، فما تعليقكم على ذلك؟ الجوب: الحقيقة أن الإعجاب بالكافرين هو أكبر سبيل للذوبان في أخلاقهم وسلوكهم، ولذلك فإن الثناء عليهم لا يجوز، ويقابل ويصطحب هذا الثناء سب المسلمين، فالذين يأتون بالعمالة الكافرة إذا قيل لهم: اتقوا الله، يقولون: هؤلاء يصدقون بالوعد، والمسلمون خونة، والمسلمون يضيعون الوقت في الصلاة وفي الصيام! نعوذ بالله! وهذا الأمر خطير جداً، ولربما يكون هناك شيء من الصحة أن هؤلاء الكفار قد يوفون بالوعد وغير ذلك، والسر في ذلك يرجع إلى أنهم يشعرون بالنقص، فهم يريدون أن يكملوا، لاسيما إذا أرادوا أن يحرفوا الأمة الإسلامية، فإنهم من خلال هذه الأخلاق يستطيعون أن يؤثروا على الأمة الإسلامية، إضافة إلى أن الكافر قد انتهى منه الشيطان، فلماذا يأمره بإخلاف الوعد أو بالخيانة أو ما أشبه ذلك؟ وماذا يفعل الشيطان بالبيت الخرب، كما جاء في الأثر؟ وعلى كل: أيها الإخوة! إن كانت هناك بعض الصفات صحيحة بالنسبة لهؤلاء فيجب عدم الاهتمام بها؛ لأن الإسلام فوق ذلك كله، وإن كانت الأمة الإسلامية مطالبة بالوفاء بالعهد وبجميع مكارم الأخلاق، أما أن تكون هذه الصفة من صفات الكفار، أو الذين ذهبوا إلى بلد الكفار وصاروا يشرحون أوضاعهم ويبينونها للناس هنا إنما يريدون أن يبثوا دعاية لهؤلاء الكافرين، وهؤلاء لا خير فيهم، فننصح الإخوة أن يتعاملوا بمثل هذا التعامل؛ لأن ذلك يؤدي إلى الثناء على من لا يستحقون الثناء من أولئك الذين طردهم الله عز وجل من رحمته.(52/28)
أهمية اعتزاز المسلم بدينه
السؤال
حبذا لو أشرتم إلى عزة المسلم، وأن النصر للمسلمين، وما ذاك إلا لبعث الهمة في قلوب المسلمين؛ لتنطفئ نار التعلق والاتكال على الكافرين؟
الجواب
ما علينا إلا أن نقرأ القرآن بتفهم وتدبر فسنجد كيف أن الله عز وجل يعد المسلمين بالفرج والنصر، كما قال عز وجل: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} [المائدة:52]، وقال: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173]، إلى غير ذلك من الآيات، لكن الشيطان يخوف أولياءه؛ فإذا ضعف الإيمان في ذهن واحد من الناس وفي عقل واحد من الناس بدأ الشيطان يخوفه بأعداء الله عز وجل، أما الأمر الذي يجب أن نتأكد منه فهو أن النصر بيد الله وليس بيد البشر، وأن الله عز وجل يؤتيه من يشاء، كما قال عز وجل: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:249]، وعلى هذا فإن الاعتماد على ما في أيدي الكافرين وأعداء الإسلام إنما هو ذلة ومهانة، وما في يد الله عز وجل هو الأمر الحق.(52/29)
الفرق بين الحب والبغض في الله وبين الولاء والبراء
السؤال
هل الحب والبغض في الله هو نفسه الولاء والبراء، أي: أنهما لفظان لمعنىً واحد، أم أن المعنى يختلف؟
الجواب
نعم هما لفظان متباينا اللفظ، لكنهما متفقان في المعنى، فالحب في الله معناه: الولاء، والبغض في الله معناه: البراء من الكافرين ومن الفسقة المجرمين.
والولاء والبراء والحب والبغض في الله سبحانه وتعالى هو أن الإنسان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ويكره الإنسان من أجل بعده عن دين الله عز وجل، هذا هو معنى الولاء والبراء، ومعنى الحب والبغض في الله سبحانه وتعالى، والأولان هما اللذان جاءا في القرآن في قوله تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54]، وهكذا البغض أيضاً.(52/30)
حكم طاعة الأخ الذي يأمر بمعصية
السؤال
فضيلة الشيخ! أخي يمنعني عن حضور بعض المحاضرات، وكذلك يمنعني من الخروج مع الناس الذين نحسبهم والله حسيبهم من الصالحين، بل ويحذرني منهم، مع العلم أنه غير محافظ على الصلاة، بل ولا يبالي بكثير من المعاصي التي يقترفها، فما هي الطريقة التي أستطيع أن أوجهه أو أتخلص من كلامه لي؟
الجواب
هذا ليست له طاعة؛ لأمرين: الأمر الأول: أنه منحرف بفطرته وبطبيعته.
الأمر الثاني: أنه هو بنفسه يأمر في غير طاعة الله عز وجل، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق؛ فإن حضور مجالس الذكر، والخروج مع الإخوة الصالحين الذين تأنس بهم وتطمئن إليهم وتستفيد من أخلاقهم وسلوكهم، إنما هو عبادة، وما دام الأمر عبادة فلا طاعة لهذا الأخ، لاسيما وأنه منحرف، وعلى هذا نقول: عليك أن تعصيه في مثل هذه الأمور أياً كان هذا الإنسان ما دام ذلك في طاعة الله عز وجل، أما هو فيجب عليك أن تحذره ما دام لا يحافظ على الصلاة ولا على طاعة الله تعالى، وما دام يتعاطى أشياء من المحرمات.(52/31)
حكم موالاة عصاة المؤمنين
السؤال
ما حكم موالاة عصاة المؤمنين؟
الجواب
إذا كانت المعصية صغيرة فلا بأس في موالاتهم مع النصيحة، أما إذا وصلت إلى درجة الكبائر فعليك أن تنصحهم مرة بعد أخرى، فإذا عجزت فعليك أن تقاطعهم، وأن تبتعد عنهم، وهذا هو الهجر الذي أمر الله عز وجل به، والذين قال فيهم الله عز وجل: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام:68]، وعلى هذا فإننا نقول: تجب مقاطعة هؤلاء، لكن يجب أن تقدم النصيحة من حين لآخر إلى هؤلاء؛ لعل الله أن يهديهم، فإذا عرفت أنهم لا يستفيدون أو أنك ربما تتأثر بمجالستهم فعليك أن تبتعد عنهم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(52/32)
الغربة
لقد بدأ الإسلام غريباً، ثم انتهت تلك الغربة بأن نصر الله عز وجل دينه، وأعلى كلمته، وأيد أولياءه، وذلك حين صبر المسلمون، وجاهدوا في سبيل الله، وضحوا بأنفسهم وأموالهم من أجل هذا الدين، وفي هذه الأيام نشهد غربة عظيمة مستحكمة كالأولى، وقد تكون أشد وأقسى، ولن تنتهي هذه الغربة إلا إذا سلكنا طريق الغرباء الأولين، وحينئذ سنظفر بما ظفروا به، ويكون النصر والسؤدد حليفنا بإذن الله مولانا.(53/1)
تعريف الغربة وواجب المسلم تجاهها
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونشهد أن لا إله إلا الله، حكم بالعزة له ولرسوله وللمؤمنين، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله الذي جاهد في الله حق جهاده، فبلغ رسالة ربه، وأدى الأمانة ونصح الأمة، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن آله ومن دعا بدعوته وعمل بسنته ونصح لأمته إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الإخوة في الله! إن الحديث عن الغربة حديث يؤلم القلب ويجرح النفس، لكنه حديث عن الواقع، ولذلك فإن المسلم لا يجوز له أن يكون نصيبه من هذا الدين هو التلاوم والتباكي على الواقع المرير الذي يعيشه العالم الإسلامي؛ لأن ذلك لن يحول بين الناس وبين عقوبة الله عز وجل، فالله تعالى يقول: {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأعراف:5]، وذكر بعد ذلك ما حل بهم من النكال والعذاب حيث قال: {جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ} [الأنبياء:15].
فالتلاوم لا يغني من الله شيئاً، ولكن المسلم مطالب في أن ينظر في الواقع، ثم عليه أن يغير في نفسه وفي بيته وفي مجتمعه وفي الناس أجمعين؛ لأنه تحمل هذه الأمانة التي وضعها الله تعالى في عنقه.
أما الحديث عن الغربة بمعناها اللغوي، فمعنى الغربة: أن يكون الشيء غير مألوف في مكانه أو في زمانه، ولذلك فإن غربة الإسلام معناها: أن يكون الإسلام غير مألوف في مكانه أو في أرضه أو في زمانه في فترة من الفترات، ولذلك فإن منطلقنا من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء)، وفي رواية: (الذين يصلحون إذا فسد الناس)، وفي رواية أخرى: (الذين يصلحون ما أفسد الناس)، ولذلك فإن حديثنا عن هذا الحديث الشريف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيكون الحديث في هذا الموضوع مكوناً من خمسة منطلقات: المنطلق الأول: الغربة الأولى.
المنطلق الثاني: موقف سلفنا الصالح من تلك الغربة.
المنطلق الثالث: كيفية اجتياز سلفنا الصالح لهذه الغربة.
المنطلق الرابع: شدة الغربة وقسوتها في أيامنا الحاضرة.
المنطلق الخامس: كيف نجتاز هذه الغربة؟(53/2)
الغربة الأولى
أما الحديث عن الغربة الأولى فهو حديث يتكرر في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي كتب السيرة، فحينما نقرأ سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده، والسلف الصالح المهديين؛ نجد غربة الإسلام واضحة، خصوصاً في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي أول خلافة الخلفاء الراشدين، هذه الغربة نجدها ماثلة منذ أن قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس بدعوة الإسلام سراً، ولم يؤمن معه إلا عدد قليل من المسلمين الأوائل، حتى إذا أعلن دعوة الإسلام بعد نزول قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر:94] حينها صعد على الصفا ونادى بطون قريش: يا بني فلان! ويا بني فلان! ويا بني فلان! حتى إذا اجتمعوا حوله قال لهم: (أرأيتكم لو أخبرتكم أن عيراً من وراء هذا الوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، ما عهدنا عليك كذباً، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد).
ومنذ تلك اللحظة قامت المعركة بين الإسلام وبين الجاهلية، المسلمون يريدون أن يجهروا بكلمة التوحيد؛ امتثالاً لأمر الله عز وجل، واتباعاً لنبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، والكفر قد ألف عبادة الأوثان والأصنام، فقامت المعركة بين الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من جانب، وبين الكفر بجميع ملله وأشكاله من جانب آخر، ولقد أوذي المسلمون في تلك الفترة أذىً شديداً، عبر عنها القرآن العظيم في مواقع كثيرة من كتاب الله، تجد ذلك في قول الله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214]، ففي تلك المرحلة يستبطئ الرسول والمؤمنون معه النصر ويستعجلون النصر؛ لأن الأمر قد وصل بهم إلى درجة لا تطاق.
وعبر عنها القرآن في موضع آخر بقوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:142].
وفي موضع ثالث: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} [التوبة:16].
وفي موضع رابع: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ} [يوسف:110].
وفي موضع خامس يقول الله تعالى: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:1 - 3]، إلى آخر الآيات التي نزلت في مناسبة واحدة.
وعلى كل فقد صور القرآن لنا المستوى الذي وصل إليه المؤمنون في تلك الفترة التي جهر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعوته، وهذه الصور تتكرر مع كل رسول مع أمته حينما يجهر بدعوته.
وهذه الغربة تطورت حتى صورها لنا حديث خباب بن الأرت رضي الله عنه حيث قال: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات مرة ما كنا نجده من أعدائنا -يعني: في مكة- فجئنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا: يا رسول الله! ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان متكئاً فقال: لقد كان يؤتى بالرجل ممن كان قبلكم فيوضع المنشار على مفرق رأسه إلى قدميه -يعني: يقسم قسمين- ولقد كان يمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه لا يصرفه ذلك عن دينه، ولكنكم قوم تستعجلون، ووالله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه).
ويتحقق هذا الوعد في تلك الفترة العصيبة الحالكة من تاريخ الإسلام، ولقد وعد صلى الله عليه وسلم أن ينطلق الإنسان في الجزيرة العربية لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه، ولقد كان الصحابة يصدقون وعد الله ووعد رسوله، فكانوا ينتظرون هذا الوعد وهم في أشد ظروف الحياة.(53/3)
موقف سلفنا الصالح من تلك الغربة
لقد بلغ الأذى بالمؤمنين في تلك الفترة وفي تلك الغربة ما لا تطيقه الجبال الرواسي، بل لقد كان المؤمنون أقوى من الجبال؛ لأن الله تعالى يقول عنهم: {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم:46]، أي: وما كان مكر الماكرين لتزول منه الجبال، والمراد بالجبال الصحابة رضي الله عنهم.(53/4)
صور من صبر الصحابة على تعذيب المشركين وأذاهم لهم
من صور التعذيب والأذى الذي حصل للصحابة: ما وقع لـ بلال رضي الله عنه، فقد كان المشركون يخرجون بـ بلال بن رباح رضي الله عنه في شدة الحر إلى بطحاء مكة المحرقة، فيبطح على بطنه، ثم يأتون بالحجارة الحارة فتوضع على ظهره، ويقول له سادته: لا نزيل عنك هذا العذاب حتى تكفر بمحمد، فلا يزيد على أن يقول: أحد أحد، أحد أحد، لا يصرفه ذلك عن دينه.
ولقد أتي بـ عمار بن ياسر رضي الله عنه وأمه وأبيه وجميع الأسرة، فوقعوا تحت عذاب المشركين في تلك الفترة، ولقد مات طائفة منهم تحت العذاب، ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يمر بهم فلا يزيد على أن يقول لهم: (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة).
ثم بعد ذلك يفكر المسلمون بالهجرة، وكان من بين المهاجرين الأتقياء صهيب الرومي رضي الله عنه، فيأخذ شيئاً من ماله ويلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، فيعترض المشركون سبيله ويقولون له: يا صهيب! أنت رجل صانع فينا، أتيتنا فقيراً وأنت اليوم تملك هذه الأموال، فيقول لهم: وماذا تريدون مني وألحق بمحمد صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نريد منك أن تدلنا على كل أموالك، فيقول: هذه أموالي كلها، خذوها واتركوني ألحق بمحمد صلى الله عليه وسلم، فيسلمهم كل ما يملك؛ فراراً بدينه ولحوقاً بمحمد صلى الله عليه وسلم، فلا يكاد يصل إلى المدينة المنورة حتى يسمع المسلمين يتلون فيه قرآناً يتلى إلى يوم القيامة، ويبشره الرسول صلى الله عليه وسلم بما نزل في شأنه وهو قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي} [البقرة:207]، أي: يبيع {نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة:207] هذه الآية نزلت في صهيب رضي الله عنه؛ لأنه باع نفسه لله عز وجل بكل ما يملك من أموال الحياة الدنيا.(53/5)
صور من الأذى الذي تعرض له الرسول صلى الله عليه وسلم في تلك الغربة
يتطور الأمر ويصل العذاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الغربة، فيقاسي من آلام العذاب ما لم يقاسه أحد، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحمل الأذى ويمسح الدم عن وجهه بسبب جراحات قومه ويقول: (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)، ويسيل الدم من عقبه وتكسر ثنيتاه، وتجرح وجنته، ويقول المجرم أبو جهل عليه لعنة الله إلى يوم القيامة ذات يوم: إذا رأيتم محمداً يصلي فأخبروني، حتى إذا دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة نادوه: يا أبا الحكم! هذا محمد يصلي، فيأتي ويقبل عليه ثم يدبر ثم يقبل عليه ثم يدبر، يريد أن يطأ على عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل له: ماذا جرى لك؟ فقال: والله لقد رأيت بيني وبينه فحلاً قد فغر فاه يريد أن يأكلني.
ثم بعد ذلك ينزل الله تعالى في شأنه: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى} [العلق:9 - 10].
ثم بعد ذلك يتطور الأمر فيلاقي من أهله وذويه عليه الصلاة والسلام كل جفاء، فيبصق في وجهه أبي بن خلف عليه لعنة الله إلى يوم القيامة، وقصته معروفة: حينما دعا أبي بن خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مائدة طعام ذات يوم، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحضر طعامه حتى يشهد أبي أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم يشهد أبي أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم مائدته، ثم يلومه المشركون من قرناء السوء وأصحابه وجلسائه ويقولون: أتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟! والله لا نكلمك أبداً حتى تذهب وترتد عن الإسلام وتبصق في وجه محمد، ثم يذهب فيبصق في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويرتد عن الإسلام، ويرد الله تعالى بصاقه إلى وجه أبي، فتصبح علامة فيه إلى أن مات.
هكذا تتطور الغربة وتزيد الغربة قسوة أن يحارب الرسول صلى الله عليه وسلم ويحارب المؤمنون معه من أهلهم وذويهم، وكما يقول الشاعر: وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على الحر من وقع الحسام المهند وعلى هذا فقد قامت كل المساومات لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليتنازل عن دعوته، ولكنه يرفض كل هذه المساومات، ويقول لعمه الذي كان مندوب هذه المساومة: (والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه).(53/6)
كيفية اجتياز السلف الصالح للغربة الأولى
هذه هي المرحلة الأولى لغربة الإسلام؛ تصوروا قسوتها أيها الإخوان! وأنتم تعيشون اليوم غربة أخرى تزيد قسوة وضراوة على هذه الغربة في كثير من أحيانها، لكن كيف استطاع المؤمنون الأوائل أن يجتازوا تلك الغربة وأن يصلوا إلى ساحل النجاة والأمان؛ ليرتفع دين الله عز وجل وينتشر في الأرض، وتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى؟ بأي شيء استطاعوا أن يجتازوا تلك الغربة؟ لقد شمر القوم عن سواعد الجد، وعاهدوا الله عز وجل على الجهاد، ورفضوا كل الإغراءات والمساومات التي عساها أن تصرف اليوم كثيراً من الناس عن اجتياز غربتنا اليوم، لقد تركوا الوطن والأهل والعشيرة حينما فرض عليهم ذلك، وكانوا يتمنون تلك الساعة التي ينتقلون فيها إلى المدينة؛ ليقيموا دولة الإسلام، ولو خرجوا من أموالهم وأهليهم وكل ما يتمتعون به، لقد خرجوا وتركوا الوطن، وتحول الأغنياء إلى فقراء، وتركوا كل ما يملكون من متاع الحياة الدنيا وزينتها، تركوه في مكة وانتقلوا بإيمانهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
لقد أعلن الصحابة الجهاد في سبيل الله، وأبرموا العقد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجهاد، حينما أنزل الله عز وجل هذه الوثيقة التزموا بها، فوقعوا عليها وصدقوا الله ما عاهدوه عليه، هذه الوثيقة نقرؤها في سورة التوبة: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ} [التوبة:111]، بل لقد فرح المسلمون بهذه البيعة، حتى قام عبد الله بن رواحة رضي الله عنه لما سمع هذه الآية يتلوها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! ما لنا إذا قتلنا في سبيل الله؟ قال: الجنة، فقال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه والمؤمنون من ورائه: يا رسول الله! ربح البيع، والله لا نقيل ولا نستقيل).
لقد فرحوا بهذه البيعة التي لها ثمن ومثمن وبائع ومشتر: أما البائع فهو المؤمن، وأما المشتري فهو الله عز وجل، وأما الثمن فهو النفس والمال، وأما المثمن فهو الجنة، ولقد صدق الله عز وجل هذه الوثيقة في التوراة والإنجيل والقرآن؛ حتى لا يكون لأحد من الناس عذر في ألا يفي بهذه البيعة.
إخوتي في الله! هكذا اجتاز سلفنا الصالح تلك الغربة، وشمروا عن سواعد الجد، وتحملوا الأذى في سبيل الله، وتركوا الأهل والوطن والعشيرة، وصدقوا الله عز وجل ما عاهدوه عليه، قال عز وجل: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا * مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ} [الأحزاب:22 - 24].
هكذا أيها الإخوان! يجتاز المؤمن الأمور الصعبة؛ لأن الأمور الصعبة لا يمكن أن يجتازها الناس بالنوم والراحة والمتاع والدعة؛ لأن الجنة كما أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم غالية نفيسة، يقول عليه الصلاة والسلام: (من خاف أدلج)، أي: مشى بالليل، والمراد بالإدلاج هنا: السعي الحثيث إلى الآخرة، (ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة).(53/7)
نصر الله تعالى للمؤمنين وتمكينه لهم بعد تلك الغربة
لقد اجتاز سلفنا الصالح تلك الغربة، وقدموا كل ما يملكون من نفس ونفيس، لقد قدموا الأرواح لله عز وجل، فدخلوا المعركة وهم يحملون أرواحهم على أكفهم، ابتغاء مرضات الله عز وجل، وطلباً للشهادة والجنة، لقد صدقوا الله عز وجل ما عاهدوه عليه، ولم ينكثوا ولم ينقضوا ذلك العهد، فأعطاهم الله عز وجل سعادة الدنيا والآخرة، وكان جهالهم يقولون في يوم من الأيام: {إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} [القصص:57]، والله عز وجل جعلهم يتخطفون من أرضهم؛ ليكونوا قادة العالم وسادة الحياة الدنيا، بعد أن قدموا عشرات الآلاف من القتلى والشهداء في سبيل الله عز وجل، فهذه بلدة واحدة -وهي بلاد الشام- لم يستطع المسلمون أن ينشروا الإسلام فيها إلا بعد أن قدموا خمسة وعشرين ألف شهيد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا الثمن وإن كان كثيراً لكنه ثمن قليل بالنسبة لعزة الإسلام وقيام دولة الإسلام، ولذلك فقد كانت النتيجة مشرفة، وكان الأمر واضحاً، وكانت العزة -كما وعد الله عز وجل- لله ولرسوله وللمؤمنين.
لقد شعر المسلمون بالعزة، ولقد تفيئوا ظلال هذه العزة وهم في عنفوان حياتهم، بعد أن أصبحت دولة الإسلام ترفرف أعلامها على عالم عظيم من أرجاء هذا الأرض، فامتدت دولة الإسلام من بلاد الصين شرقاً إلى المحيط الأطلسي غرباً، إلى ما يقرب من باريس اليوم شمالاً، إلى أكثر هذا العالم جنوباً؛ لأن المسلمين صدقوا بوعدهم لله عز وجل فصدقهم الله عز وجل وعده، الذي سطره في سورة النور في قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ} [النور:55]، وكأن هذه إشارة إلى الغربة الجديدة، {وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55].(53/8)
تأييد الله عز وجل للمؤمنين بالكرامات وخوارق العادات
أيها الإخوان! لا تعجبوا حينما تقرءون في التاريخ خوارق للعادة! لا تعجبوا حينما تقرءون في تاريخ الإسلام أن نواميس الحياة وأنظمة الدنيا قد انقادت للمؤمنين الذين صدقوا في وعدهم لله عز وجل! لا تعجبوا يا إخوتي! حينما تسمعون أن سعد بن أبي وقاص في أيام عنفوان الدولة الإسلامية يتجمد له نهر دجلة ويعبر عليه، حينما انتهت معركة القادسية، وأراد أن ينتقل إلى المدائن عاصمة الفرس لم يكن لديه في ذلك الوقت سفن ولا قوارب يعبر فيها هذا النهر، فيسأل قومه: ماذا يقع أمامنا؟ فيقولون: المدائن والقصر الأبيض الذي يسكنه يزدجرد، فيقول: والله لأعبرن على هذا الماء ولو على ظهور الخيل، فيتجمد نهر دجلة ويعبر من القادسية إلى المدائن، ويقبلون على أهل المدائن فيظن أهل المدائن أن هؤلاء شياطين وقد أقبلوا عليهم، فيقولون: جاءكم الشياطين -بلغتهم الخاصة- فيتركون المدائن، ويدخل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قصر المدائن القصر الأبيض -الذي هرب منه يزدجرد - وهو يتلو قول الله عز وجل: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ} [الدخان:25 - 28].
لم يدخل بنشوة الطرب والغناء تتقدمه الراقصات والمغنيات، كما يفعله الذين يزعمون بأنهم من الفاتحين في أيامنا الحاضرة، وإنما يعترف لله عز وجل بالفضل والنعمة، وهو يردد أن هذه نعمة الله عز وجل.
لا تعجبوا يا إخوتي! حينما تسمعون عبر التاريخ أن عقبة بن نافع رضي الله عنه، وهو يفتح في شمال أفريقيه في أيام عز الإسلام وذروته أيام دولة بني أمية، فيقبل على بلاد تونس الحالية ويريد أن يبني قاعدة للإسلام هناك، ثم يسأل: ما هذا المكان الذي يقع أمامنا؟ فيقولون: أيها القائد يرحمك الله! إنها غابة القيروان التي عجز الفاتحون كلهم عنها؛ لأنها مقر للوحوش الكاسرة المفترسة، فيقف عقبة بن نافع رضي الله عنه ويقول: أيتها الوحوش! نحن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم جئنا لنشر الإسلام هنا.
تصوروا أن الوحوش قد سمعت هذه المقالة، وأن الله عز وجل الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى قد ألهمها ما يقول عقبة.
يقول شاهد عيان: والله لقد رأينا الوحوش تحمل أولادها تخرج من الغابة، فيدخل عقبة بن نافع الغابة ويقيم فيها مدينة القيروان؛ لتكون مركزاً للمسلمين في شمال أفريقيا.
ثم يواصل البطل المسلم سيره حتى وصل إلى حافة المحيط وقال: والله لو أعلم أن وراء هذا الماء بشراً لخضت إليهم على فرسي هذه.
ولم تكن قد اكتشفت الأمريكتان في ذلك الوقت بعد.
ثم أيضاً لا تعجبوا حينما نسمع قصة قتيبة بن مسلم رضي الله عنه، وهو يفتح بلاد ما وراء النهر، وقد أقبل على بلاد الصين بعد أن فتح لنا هذه المنطقة الواسعة التي تجتاحها الشيوعية في أيامنا الحاضرة -نسأل الله أن يرد المسلمين إلى دينهم لتعود لهم قوتهم الأولى- فيسأل قتيبة: ماذا يقع أمامنا من البلاد؟ فيقولون: بلاد الصين، فيقول: والله لا أرجع إلى وطني حتى أطأ بقدميَّ هاتين أرض الصين، وحتى أضع وسام المسلمين على أهل الصين، فيصل الخبر إلى ملك الصين وما يقوله قتيبة، فيخاف ملك الصين من المسلمين، فيقول: هذه تربة في صحاف من الذهب، اذهبوا بها إلى قتيبة وهو في مكانه ليطأها وليبر بقسمه، وهؤلاء أولادي الأربعة ليضع عليهم قتيبة وسام المسلمين، وهذه الجزية ندفعها كل عام لـ قتيبة ولا يدخل إلى بلادنا.
هكذا ينصر المسلمون بالرعب حينما يصدقون مع الله عز وجل.
أيها الإخوان! أما سمعتم حينما امتدت دولة الإسلام تسابق الشمس على مطالعها؛ وذلك عندما رفع هارون الرشيد -أحد خلفاء دولة بني العباس- رأسه إلى السماء ليخاطب قطعة من السحاب تمر من فوق رأسه ويقول: أيتها السحابة! أمطري أنى شئت، فسيأتيني خراجك ولو بعد حين.
وذلك لأن هذه السحابة ستمطر في أي بقعة من بلاد الإسلام الواسعة.
هكذا بلغت دولة الإسلام، وهكذا امتدت.(53/9)
عودة الغربة وقسوتها في أيامنا الحاضرة
يدور الزمان دورته، ويعيد التاريخ سيرته، وينام المسلمون على المتاع والراحة والدعة، ولا يستيقظون إلا وهم في غربة أقسى من تلك الغربة الأولى، ينام المسلمون حينما أتتهم الدنيا بشهواتها وملذاتها وهي راغمة، وحينما يغرق طائفة من المسلمين بالمتاع الحلال أو بالمتاع المشتبه، وما يدريك لعلهم قد غرقوا في كثير من المتاع الحرام.
ثم رفع الله عز وجل يده عن هؤلاء الناس بعد أن كانت دولة الإسلام تمتد من الصين إلى المحيط الأطلسي، وهي دولة واحدة يحكمها رجل واحد، يسير فيها المسلم مرفوع الرأس، لا تستوقفه إدارة جوازات تسأل عن هويته، ولا تستوقفه مراكز شرطة وأمن تسأل عن إقامته أو عن جواز سفره أو عن جنسيته، أما المسلم اليوم فيعيش في دولة صغيرة من مائة دولة أو أكثر في أيامنا الحاضرة في هذه المساحة؛ لأن الله عز وجل يقول: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الأنفال:53]، ويقول تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرعد:11].
ومن هنا تمزقت الدولة الإسلامية على أيدي أعداء المسلمين الذين يتربصون بهم الدوائر، ليتحقق في المسلمين قول الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} [هود:102 - 103] إنها دروس وعبر يرويها لنا التاريخ.
ومن هنا فقد المسلمون كثيراً من بلادهم، بل لقد أصبحت مواطن الإسلام الأولى الآن تهتز عروشها في كثير من البلاد الإسلامية تحت أصحابها؛ لأن الله عز وجل قد عاقب هؤلاء الذين عاثوا في الأرض فساداً، والذين أصبحوا قد تجرد كثير منهم عن دينه، واتجهوا إلى الشرق والغرب في أفكارهم وفي مللهم، وفي أحكامهم وفي تشريعهم، فالله عز وجل عاقبهم، ولذلك تسمعون أخبار هذا العالم عبر الأثير وفي الصحف وفي المجلات، وهذا العالم قد غرق في دمه إلى الركب، تسمعون أخبار لبنان، وتسمعون ما يحدث في العراق وما يحدث في إيران، وما يحدث في مناطق كثيرة من بلاد الله عز وجل الواسعة؛ لأن هؤلاء قد عصوا الله عز وجل؛ ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول فيما يروي عن ربه سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: (إذا عصاني من يعرفني سلطت عليه من لا يعرفني).
هذه الفتن تحل قريباً من دارنا، ولنا في ذلك عظة وعبرة، فليس بيننا وبين الله عز وجل عهد ولا ميثاق، فعلينا يا إخوتي! أن نستقيم على دين الله عز وجل، وأن نناصح القادة والمسئولين، وأن نقول لهم: اتقوا الله عز وجل، فإن ما يحدث قريباً منا ليس منا ببعيد، فعلينا أن نخشى الله.
لقد عادت الغربة في واقع المسلمين، فنجد أن هذه الغربة لم تترك جانباً من جوانب الحياة عند المسلمين إلا وأثرت فيه، لقد غزت المسلمين في اقتصادهم وفي أخلاقهم وفي أنظمتهم الاجتماعية وفي سلوكهم وفي رجالهم وفي نسائهم وفي حكامهم وفي شعوبهم، وكما تكونون يولى عليكم.(53/10)
مظاهر الغربة في هذا الزمان(53/11)
انتشار الربا بين المسلمين
إن كل ما كان في جاهلية الأمس عاد في جاهلية اليوم، فنجد أن الربا الذي كان بالأمس نظاماً من أنظمة الجاهلية قد عاد اليوم بجميع أشكاله وأنواعه: ربا الفضل، وربا النسيئة.
في البنوك يدفعون مائة ريال ليأخذوا مائة وعشرة، يحاربون الله عز وجل علناً، يقول عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:278 - 279]، ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان يوم القيامة قيل لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب) أي: حارب الله عز وجل، ومن يستطيع أن يحارب الله؟ {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21].
وهناك ربا الحيل المكشوفة، كأن يقولوا: خذ هذه الكمية من الخام أو من الأرز وبعه في الحال، ثم خذ ثمنه، ثم اخرج بضع دقائق وائت بشيء من المال، فهذه حيل مكشوفة تلف بلفائف كاذبة، كأنهم يخادعون الله عز وجل وهو خادعهم.
كذلك ربا الصاغة الذين يبيعون ويشترون الذهب بالكلام وبالتلفون وبدون نقد.
وكذلك ربا العينة الذين يبيعون الشيء بثمن مؤجل ثم يشترونه بأقل منه حالاً.
كل أنواع الربا واقعة، حتى ربا الأضعاف المضاعفة الذي هو أخبث أنواع ربا الجاهلية، الذي يقول الله عز وجل عنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ} [آل عمران:130]، وربا الأضعاف المضاعفة: هو أن يعطي إنسان إنساناً مالاً بزيادة، حتى إذا حل الدين قال: إما أن تسدد وإما أن نزيد، وهذا هو ما تستعمله البنوك في أيامنا الحاضرة علناً وفي وضح النهار، ويسجل في الدفاتر، ويستحق هؤلاء الذين يسجلونه لعنة الله ولعنة رسوله؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم: (لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم في الإثم سواء)، وهذا من الحيل المكشوفة بحيث إذا حل الدين ولم تسدده يوجله عليك ويزيد.
هؤلاء يتلاعبون بحرمات الله عز وجل وحدوده، ويظنون أنهم يخادعون الله تعالى فيها والله خادعهم.
هذا الربا أصبح نظاماً اقتصادياً، وبدل أن يسمى رباً سمي: اقتصاداً، وأصبحت الحياة في مفهوم عالمنا اليوم لا تقوم إلا على هذا النظام الاقتصادي الربوي؛ لأن كل المعايير قد تغيرت، فسمي الربا اقتصاداً، وسمي النفاق مجاملة، وسمي الكذب دبلوماسية، وسميت الخمر مشروبات روحية، وسمي الغناء والرقص فناً، يريدون أن يجملوا هذه الأشياء بهذه الأسماء، فنقول: وإن غيرت الأسماء فلن تتغير هذه المسميات.(53/12)
انتشار الرشوة
أيها الإخوان! إن هذه الغربة حلت في سويداء أنظمتنا كلها، حيث انتشرت الرشوة التي لعن الرسول صلى الله عليه وسلم فيها الراشي والمرتشي والواسطة، واستخف كثير من الناس بالأيمان وبشهادة الزور في سبيل مصالح مادية، وأكلت الأموال بطرق حرام متشتتة ومتعددة، تحقيقاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يأتي على الناس زمان كلهم يأكلون فيه الربا).(53/13)
تفكك الأسر والمجتمعات
لقد حلت هذه الغربة في أنظمتنا الاجتماعية فتقطعت أوصال الأسر، وأصبح العقوق منتشراً بين كثير من الناس، وقطعت الرحم بسبب مصالح مادية تافهة؛ بل لقد عاد الجار في كثير من الأحيان لا يعرف من هو جاره، وتمضي سنون وهو لا يعرف جاره؛ لأن جاره في الغالب لا يحضر الصلاة في المسجد، فيعيش سنين طويلة لا يرى في المسجد مرة واحدة، ولربما لا يدخل المسجد إلا حينما يقدم لتصلى عليه صلاة الجنازة، نسأل الله العافية! تقطعت الأوصال الاجتماعية بين الناس، وحلت هذه الغربة في الأنظمة الاجتماعية، فأصبح الأمر خطيراً.(53/14)
تفسخ الأخلاق وانتشار الرذيلة
لقد حلت هذه الغربة في الأخلاق، حيث غزت هذه الغربة أنظمة الأخلاق؛ بل لقد تعمقت في هذه الأخلاق، فتفسخت المرأة وتبرجت وأخرجت كثيراً من مفاتنها، وصارت النساء الكافرات تجوب خلال الديار الإسلامية طولاً وعرضاً، لا يستطيع أحد من المسلمين أن يرفع رأساً وأن يقول: إن هذه امرأة يجب أن تقف عند حدودها، إلا ما شاء الله.
لقد تبرجت المرأة المسلمة تقليداً للمرأة الكافرة، وأظهرت مفاتنها، وانتشر الفساد في البر والبحر، وانتشر الفساد أيضاً حتى في الجو يا إخوان! في الجو وعلى متن الهواء وعلى بعد آلاف الأمتار من الأرض يعصى الله عز وجل، حيث توضع نساء في الطائرات متبرجات أعظم من تبرج الجاهلية الأولى، تخرج سيقانها وركبها وشعرها وعضدها ونحرها وتقصد الركاب، وأهل الجاهلية الأولى قد كانوا خيراً منا في هذه الناحية، فقد كانوا إذا ركبوا في البحر دعوا الله مخلصين له الدين، يقول عز وجل عنهم: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:67]، ونحن على متن الهواء تعرض الأفلام الفاضحة الهابطة، والله لقد رأيت بعيني أفلاماً كلها جنس تعرض والناس بين السماء والأرض معلقين برحمة الله عز وجل، والمشركون وهم على الماء يدعون الله مخلصين له الدين في حال الشدة.
إذاً: جاهلية اليوم أخطر وأخبث من جاهلية الأمس، فجاهلية الأمس كانوا يعرفون الله عز وجل في وقت الشدة ويغفلون عنه في وقت الرخاء، وفي أيامنا الحاضرة يغفل عنه كثير من المسلمين في أيام الرخاء والشدة.
ثم إن المرأة قد قام لها أناس يطالبون بحقوقها وبحريتها، ولم يكتفوا بما وصلت إليه اليوم، فهاهم اليوم يقولون: نريد من المرأة أن تقود السيارة، ويقولون في الغد: نريد من هذه المرأة أن تأخذ كل ما يأخذه الرجل، وأن تختلط بالرجل في المعمل، وفي المكتب، وفي السوق، وفي المدرسة، وفي كل أمر من الأمور، هذه مطالب لا يقف أعداء الإسلام عند حد فيها، وهم الآن يتربصون بنا الدوائر، ويظنون أن دولة الإسلام شمس تكاد أن تأفل اليوم، فهم ينتظرون ساعة الصفر التي يعلنون فيها ما في قلوبهم من غل، ولكن الله عز وجل يقول: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة:52].
ولقد كانوا ينتظرون زوال فلان وفلان من الناس الذين هم حجر عثرة في سبيل تقدمهم كما يزعمون، ولكن خر عليهم السقف من فوقهم، ونجد والحمد لله في كل العالم اليوم صحوة إسلامية، تبين أن دولة الإسلام قد عادت كل العودة، وأن الغربة بدأت الآن ترتحل من أرض الله الواسعة لتترك مكانها لدين الإسلام.
هذه الصحوة الإسلامية التي يتمتع بها شبابنا اليوم وفتياتنا، والذين يرفضون كل هذه التقاليد، ويرفضون كل تلك السموم، ويريدون أن تكون العزة لله عز وجل بحق، ويريدون أن تعود دولة الإسلام كما كانت في أيامها السابقة، ونسأل الله أن يحقق الخير على أيديهم.
إخوتي في الله! إن غربة الإسلام اليوم قاسية، لكن لا نتناسى هذه الصحوة الإسلامية التي -والحمد لله- تعيش معنا اليوم ونعيش معها، ونسأل الله أن يثبت أقدامها، وأن يرزقها الاتزان والصبر والتحمل، لكن بالرغم من ذلك كله فما زلنا نعيش هذه الغربة، نعيشها في أخلاق الناس اليوم، وإني لأعجب كل العجب أن تصل هذه الغربة إلى أعماق رجولة الرجال، فقد رأينا كثيراً أو طائفة من الشباب يتنازلون حتى عن رجولتهم، وما كان ذلك في غربة الأمس؛ بل لقد كان العربي يعتز برجولته بالأمس بالرغم من أنه رجل جاهلي، ولكننا في أيامنا الحاضرة نجد كثيراً من الشباب بدءوا يتنازلون عن رجولتهم، يتأنثون كما تتأنث النساء، ويزاحمون النساء على موضاتهن وأشكالهن وصفاتهن في الابتسامة وفي الضحكة وفي الصوت وفي ضيق الملابس وفي شفافية الملابس، وربما يلبسون شيئاً من الذهب! وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم حينما سأله عمر عما سيحدث، فقال: (يا عمر! ترك القوم الطريق وخدمهم أبناء فارس) انظروا إلى أبناء فارس الآن، هم الذين يقودون السيارات ببناتنا ويذهبون بهن إلى المدرسة وإلى الأسواق في كثير من الأسر؛ بل وبنات فارس الآن تعيش في قعر بيوت المسلمين من الفلبين ومن كوريا ومن كل بلاد الكفر، وبلاد الإسلام التي قد فقدت الإسلام الصحيح، وهب أنهم مسلمون ما داموا غير محارم لهؤلاء النساء فهذا عار وهذه مصيبة.
وكذلك عندما يتزين الرجل منهم بزينة المرأة لزوجها، يتأولون كتاب الله، حيث يرددون قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} [الأعراف:32].
أيها الإخوان! في جاهلية الأمس كان الرجل يعتبر أن من عرف اسم ابنته أو اسم أخته أو سمع صوتها عاراً، ويقول قائلهم: إياك واسم العامرية إنني أخشى عليها من فم المتكلم واليوم تسمعون وترون بأعينكم أخبار هؤلاء النساء إلا من رحم الله.(53/15)
طرق ووسائل اجتياز المسلمين للغربة التي يعيشونها
إن جاهلية اليوم أخبث بكثير من جاهلية الأمس، وغربة اليوم أقسى بكثير من غربة الأمس، وإذا كان في غربة الأمس يحارب الإسلام بـ أبي جهل وأبي لهب وأبي بن خلف، فإن في جاهلية اليوم يحارب الإسلام بعبد الله وعبد الرحمن وأحمد ومحمد، تحقيقاً لوعد أعداء الإسلام الذين قال قائلهم: إنكم لا تستطيعون أن تقطعوا شجرة الإسلام إلا بغصن من أغصانها.
إن الذين يظنون أنهم سيحكمون المسلمين بقوة الحديد والنار مخطئون؛ لأن الإيمان أقوى من الحديد والنار، وإذا أردتم شاهداً على ذلك فانظروا إلى أفغانستان، لقد قدموا أكثر من مليون من الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله، ومع ذلك ما لان القوم بقوة الحديد والنار؛ بل يقاتلون الأعداء بالحجارة وأعداؤهم يقاتلونهم بالمواد السامة وبأحدث أنواع الأسلحة.
الإيمان أقوى من الحديد والنار، والذين يريدون أن يطوعوا المؤمنين بالترف والميوعة والفساد والمعصية مخطئون؛ لأن هذه الشعوب ستستيقظ في يوم من الأيام فلا تقبل هذا الترف ولا تقبل هذه الميوعة ولا تقبل هذا المتاع، لكن كيف نجتاز هذه الغربة التي نعيشها اليوم؟ وبأي شيء نستطيع أن نحكم هذا العالم؟ نحكمه بدين الله عز وجل، وحينئذ تمشي هذه الشعوب وتسير وراءنا بحق، وهكذا يستطيع القادة أن يحكموا العالم الإسلامي، ولذلك فإن التاريخ أكبر شاهد على ما نقول، فما استطاع أحد أن يحكم هذا العالم، وأن يذلل هذه الصعاب، وأن يجعل هذه البوادي وهذه الصحاري مدناً إلا حينما دعاها إلى دين الله عز وجل، ولعلنا نجد في سيرة الملك عبد العزيز رحمة الله عليه أكبر دليل على ذلك، فإنه ما استطاع أن يطوع هذه البوادي الجافة الجافية إلا بدين الله عز وجل، ولذلك فنحن نقول لخلفه من بعده: إنكم لن تستطيعوا أن تحكموا هذا العالم إلا بدين الله عز وجل، فنوصيكم بالثبات على دين الله عز وجل، وبتحكيم شرع الله عز وجل، ومن هنا نستطيع أن نجتازه هذه الغربة التي نعيشها اليوم.
ثم أيضاً بالجهاد في سبيل الله نستطيع أن نجتاز هذه الغربة كما اجتازها سلفنا الصالح؛ وذلك حينما أعلنوا الجهاد في سبيل الله، وجعلوا حياتهم كلها في مرضاة الله عز وجل.
أسأل الله تعالى أن يثبت الأقدام، وأن يرزقنا الاستقامة حتى نجتاز هذه الفتن التي أخبر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم بأنها: (فتن كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا).
نسأل الله أن يحفظنا وإياكم من هذه الفتن، وأن يرزقنا القوة والصلابة في الدين، حتى نكون من المؤمنين الأقوياء من أجل أن نجتاز هذه الغربة، وحينئذ فإن الخير أمامنا بإذن الله كما كان أمام أسلافنا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(53/16)
الأسئلة(53/17)
معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (بدأ الإسلام غريباً)
السؤال
أليس معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ) أنه سوف يعود إلى قوته وعزته الأولى كما كان ضعيفاً في بدايته، وذلك أننا نشاهد ولله الحمد الصحوة الإسلامية لدى الشباب اليوم؟
الجواب
بالنسبة لمعنى الحديث هو لا يدل على أنه سيعود إلى قوة أخرى، وإنما يدل الحديث على ثلاث مراحل: غربة، ثم عودة القوة للإسلام، ثم غربة، وهذه المراحل الثلاث كلها مرت وعاشها الناس، لكن القوة الثانية في الغربة الثانية وإن لم يتعرض لها الحديث في لفظه وفي منطوقه لكنه تعرض لها في مفهومه؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم: (فطوبى للغرباء) يدل على أن الغربة الثانية لها رجال، كما أن للغربة الأولى رجالاً اجتازوها.
وعلى هذا فإن هؤلاء الرجال سيرجعون للإسلام عزته وقوته مرة أخرى، ومن هنا نستطيع أن نأخذ أن القوة الثانية بعد الغربة الثانية ستأتي على أيدي هؤلاء الغرباء الذين يجتازون الغربة الثانية، وعلى كل فإن هذه قد بدأت الآن بوادرها تظهر، كما يلاحظ في الصحوة الإسلامية الموجودة في أيامنا الحاضرة، التي سيكون فيها إن شاء الله خير كثير، وأيضاً قول الله تعالى: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140]، وإخبار الرسول صلى الله عليه وسلم بأن الإسلام سيعود إلى عزته وقوته في أحاديث كثيرة، وأن المسلمين سيقاتلون اليهود ويختبئ اليهود وراء الشجر والحجر، هذه أدلة على قوة الإسلام وعزته.
وعلى هذا فإن الغربة الثانية لها قوم يجتازونها، فيصلون بالإسلام إلى مرحلة القوة مرة أخرى.(53/18)
طرق إصلاح الأهل والأقارب
السؤال
أنا شاب ملتزم ولله الحمد، أسأل الله لنا ولكم الثبات على ذلك، ولكنني أريد إصلاح أهلي وأقاربي، فكيف السبيل لذلك؟ وما هو أول شيء أبدأ به؟ جزاكم الله خيراً.
الجواب
أما السبيل فهو الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، فالله تعالى يقول: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214]، وهذه الآية وإن كانت نزلت على الرسول صلى الله عليه وسلم مع أهله، لكن حكمها باق إلى يوم القيامة، فالإنسان أول ما يبدأ بأهله وأولاده وأهل بيته وأسرته، ثم يتوسع حتى يصل إلى كافة المجتمع، والسبيل إلى هذا الأمر هو استعمال طرق الدعوة الصحيحة، وأهمها: الحكمة، ومعاملة الأهل باللين والإحسان إليهم؛ حتى تستطيع أن تملك قلوبهم، ثم بعد ذلك توطن هذه الدعوة وتزيل الجفوة التي بينك وبينهم بإذن الله تعالى من هذا المنطلق.
ثم أيضاً عليك أن تبدأ بالأهم فالأهم، فإذا كانت في بيتك أو في أهلك معاصٍ كبيرة فعليك قبل ذلك أن تقوي الإيمان في قلوب هؤلاء الأهل؛ لأنك حينما تقوي الإيمان ستزول هذه المعاصي وهذه الأشياء الممقوتة فيهم بطبيعتها؛ لأن ما حدث في بيوت المسلمين من المعاصي اليوم بسبب ضعف في الإيمان، وبسبب ضعف في اليقين، وبسبب ضعف في تصورهم لحقيقة هذا الدين وللحياة الآخرة، فعليك يا أخي! أن تقوي الإيمان، وأن تقوي اليقين في قلوبهم، وحينئذ بإذن الله ستستطيع أن تزيل ذلك بالتدريج.(53/19)
حقيقة ظهور الصحوة الإسلامية
السؤال
نرى في هذه السنوات الأخيرة أن كثيراً من شباب اليوم -ولله الحمد والمنة- قد التزموا بدينهم، فبماذا تفسر هذه الصحوة؟
الجواب
هذه الصحوة لم تأت فلتة، وإنما هي وعد من الله سبحانه وتعالى وعدنا بها حيث قال: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69]، وأخبرنا بأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، وأخبرنا الله عز وجل بأن الأيام يداولها بين الناس، فبمقدار ما نرى مما نكره سنرى ما يسرنا بإذن الله تعالى.
وهذه الصحوة ليست وليدة عمل كبير، وإن كان هناك عمل، لكن هذه الصحوة وجدت في فترة استقرار وفترة خمول في كثير من الأحيان، وهذا دليل على أن دين الله سبحانه وتعالى ظاهر، سواء دعا الناس إليه واجتهدوا في العمل له أو لم يجتهدوا.
علماً بأن هذه الصحوة والحمد لله لها خطباء استطاعوا أن يؤثروا على الناس، ولها موجهون ولها مربون.
إذاً: هذه إرادة غالبة لله سبحانه وتعالى، حيث ظهرت الصحوة في هذه الفترة التي خاف فيها كثير من الناس على ضياع دين الله، والله عز وجل أعلمهم بدليل من الواقع يلمسونه بأعينهم ويشاهدونه بأن هذا الدين سينتصر، ورغم هذه الجفوة الشديدة التي أصيب بها المسلمون, ورغم هذا التسلط الشديد الذي مني به المسلمون على أيدي قادة كثيرين من العالم الإسلامي؛ ومع ذلك كله وجدت هذه الصحوة وفرضت نفسها في هذه البلاد الإسلامية والحمد لله؛ ولذلك لا تسافر إلى أي بلد من بلاد الله الواسعة -حتى في بلاد الكفر- إلا وتجد هذه الصحوة، بحيث لو ذهبت إلى أمريكا ستجد هذه الصحوة والحمد لله، وستجد كثيراً من شباب المسلمين يتمتعون بهذه الصحوة، نسأل الله تعالى أن يحفظهم، ولذلك فإنا لا نفسرها التفسير الحقيقي إلا أن الله أراد أن يظهر دينه، وأراد أن يعطينا درساً بأن هذا الدين باق، وأنه سيتغلب على كل الصعوبات وعلى كل المشاكل وعلى كل التحديات التي توجد في أيامنا اليوم.(53/20)
تفسير قوله تعالى: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم)
السؤال
قال الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55]، أرجو شرح هذه الآية؟
الجواب
شرح هذه الآية يحتاج إلى ليال، لكن ممكن أن نشرحها بإشارة يسيرة، يقول تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ} [النور:55] قوله: (مِنْكُمْ) خطاب للمسلمين خاصة، وهذا الوعد من الله سبحانه وتعالى له ثلاثة شروط وفيه ثلاث نتائج، إذا وفى المسلمون بالشروط الثلاثة حصلت النتائج الثلاث: الشرط الأول: (آمَنُوا).
الشرط الثاني: (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ).
الشرط الثالث: (يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا)، وكلمة: (شَيْئًا) في اللغة العربية نكرة جاءت في سياق النفي، والنكرة إذا جاءت في سياق النفي تعم، أي: باللات والعزة ومناة وهبل ونائلة وإساف، لكن يوجد الآن فلان وفلان من الناس يعبدون من دون الله في كثير من العالم الإسلامي، يوجد زعماء وضعوا أنفسهم مشرعين للبشر ويطيعهم الناس، حيث تركوا أوامر الله سبحانه وتعالى وتحاكموا إلى شرع هؤلاء الرجال.
إذاً: هؤلاء الناس الذين يعبدون من دون الله من الشيء الذي قال الله عز وجل فيه: {لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55].
كذلك توجد الآن القبور التي تعبد من دون الله في كثير من البلاد الإسلامية، كذلك الدنيا تعبد من دون الله تعالى الآن، كذلك المال يعبد من دون الله تعالى الآن، كذلك الوظيفة تعبد من دون الله، بحيث تجد الشخص يتنازل عن دينه، حتى لا يحرم من وظيفته، ولو حلت عليه لعنة الرسول صلى الله عليه وسلم لا يبالي ما دامت هناك وظيفة وما دام له مرتب، وما دام يستفيد من ذلك مادياً، هذا كله يخشى أن يكون داخلاً في الشرك الذي يقول الله عز وجل فيه: {يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55].
أما النتائج التي وعدها الله تعالى لهؤلاء الذين اتصفوا بالشروط الثلاثة فهي: (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ)، أي: تكون لهم الخلافة والقيادة في الأرض، ولذلك لما حقق سلفنا الصالح هذه الصفات تحققت لهم هذه النتيجة، فاستخلفهم الله تعالى، فكانت لهم الخلافة ولهم القيادة.
وكذلك من النتائج: أن يمكن الله لهم دينهم الذي ارتضاه لهم، ومن النتائج: أن يبدلهم الله عز وجل بعد خوفهم أمناً.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(53/21)
الاستقامة
الاستقامة على دين الله تعالى تعني الالتزام به وعدم الانحراف عنه طرفة عين، وهي سبب من أسباب النجاة من عذاب الله تعالى وغضبه في الدنيا والآخرة، فمن استقام على دين الله ثبته الله تعالى بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ومن زاغ عن الصراط المستقيم أضله الله تعالى، وأهلكه في الدنيا والآخرة، وللاستقامة أسباب لابد منها لمن أرادها: كالصبر، وإقامة الصلاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك.(54/1)
الاستقامة على دين الله من أسباب النجاة من عذاب الله وغضبه
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونشكره، ونثني عليه الخير كله ولا نكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، البشير النذير، والسراج المنير، الذي أرسله الله رحمة للعالمين أجمعين، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته الطيبين الطاهرين، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون.
أما بعد: فأيها الإخوة! أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجمع القلوب على طاعته كما جمعنا في هذا المكان المبارك، وأن يجمعنا جميعاً في مستقر رحمته مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
موضوع هذا الدرس هو: الاستقامة، وما أحوج المسلمين اليوم إلى الاستقامة والثبات على المنهج الصحيح، قال الله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ * وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:112 - 117].
إنّ هذه الآيات تلزم المسلمين بستة أوامر من أوامر الله عز وجل، وهي سبب السلامة والعافية من غضب الله تعالى وعقابه، وقد جاءت هذه الآيات في ختام سورة هود، وما أدراك ما سورة هود! إنها السورة العظيمة التي تحدثت عن هلاك كثير من الأمم، ولقد شيبت ناصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي الحديث: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (شبت يا رسول الله! فقال: شيبتني هود وأخواتها) أي: وأخواتها من السور التي تتحدث عن مصارع الظالمين، ونهاية المجرمين والمفسدين في الأرض.
وكان آخر هؤلاء الظالمين آل فرعون، فاتبعوا فرعون في طغيانه وظلمه ودعواه أنه رب العالمين، فأهلكه الله عز وجل في عنفوان قوته وملكه الذي كان يفتخر به ويقول: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51]، ولذلك قضى الله تعالى بأخذ هؤلاء الطغاة، {فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ * يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} [هود:97 - 98].
قال الله تعالى بعد ذكره أخبار هذه الأمم التي أهلكها في سورة هود التي تضمنت -كغيرها- أحسن القصص: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود:112] إذاً: فطريق السلامة طريق واحدة، وليس هناك طريق أخرى للسلامة من عذاب الله عز وجل في الدنيا والآخرة، هذه الطريق هي: الاستقامة على دين الله.
وإنّ ما أصاب تلك الأمم من سخط الله عز وجل وأليم عقابه إنما كان سبب ذلك أنهم لم يستقيموا على دين الله ومنهجه، فإذا كنت -يا محمد- تريد السلامة لك ولأمتك فاستقم كما أمرت، وإذا كنت -أيها الأخ المسلم- تريد العافية من عذاب الله فاستقم كما أمرت، ومن هنا نعرف أن هذه العناصر الستة التي احتوتها هذه الآيات تبدأ بالاستقامة.(54/2)
معنى الاستقامة وفضلها ولوازمها
الاستقامة معناها: عدم الانحراف عن المنهج الصحيح، فإن الله تعالى -بحكمته- قد رسم لكل مخلوق في هذه الحياة -بما في ذلك الإنسان- طريقاً معتدلة مستوية لا انحراف فيها، قال سبحانه: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153]، ومن حاد عن هذه الطريق التي رسمها القرآن فإنه يسلك طرقاً متعددة منحرفة كلها تنتهي إلى النار؛ ولذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لما قرأ هذه الآية: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا) رسم خطاً مستقيماً وقال: (هذا صراط الله ينتهي إلى الجنة، ورسم عن يمينه وشماله طرقاً منحرفة وقال: هذه السبل، وعلى كل واحد منها شيطان، وعليها سدل مرخاة، فإذا أراد أحد أن يفتح طريقاً من هذه الطرق قال له منادٍ: يا عبد الله! لا تفتح، فإنك إن تفتح تلج إلى يوم القيامة)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
إذاً: هذا الطريق المستقيم طريق واضح لا اعوجاج فيه ولا انحراف، ولكن ربما يكون هناك غبش على العيون، أو التباس في العقول؛ فيضل هذا الإنسان عن الطريق المعتدلة إلى طرق منحرفة، فحينئذٍ لا يلوم إلا نفسه، أما الأصل فهو الاستقامة، وهي المحجة البيضاء التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله، وما ترك شاردة ولا واردة، ولا صغيرة ولا كبيرة يحتاج إليها هذا الإنسان في دينه إلا وقد وضحها.(54/3)
الدعوة إلى الله من لوازم الاستقامة
إنّ الاستقامة هي الثبات، والثبات: هو لزوم الطريق، وأهم شيء في لزوم هذا الطريق: الدعوة إلى الله عز وجل، فمن لم يقم بهذا الواجب فما استقام على هذا الطريق؛ ولذا يندر أن تذكر الاستقامة في القرآن إلا وتذكر معها الدعوة إلى الله تعالى، كما قال تعالى في سورة الشورى: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ} [الشورى:15]، فقدم الدعوة على الاستقامة، وهنا قال: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود:112]، وقال في آخرها: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:117]، وقال سبحانه وتعالى أيضاً في سورة فصلت: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:30]، ثم قال بعدها: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} [فصلت:34].
ومن هنا نعرف صلة الدعوة إلى الله عز وجل بالاستقامة، وأنها صلة وثيقة، وأن من فرط في الدعوة إلى الله عز وجل، وترك أمر المسلمين يلتبس عليهم، وغفل عن هذا الواجب المقدس الذي هو ميراث المرسلين عليهم الصلاة والسلام؛ فإنه ما استقام حق الاستقامة، ما دام أنّه يستطيع أن يبلغ عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم ولم يفعل.(54/4)
الاستقرار من لوازم الاستقامة
اعلم أنّه لابد في الاستقامة من الاستقرار، وذلك بأن يثبّت الإنسان أقدامه على هذا الطريق؛ لأن في هذا الطريق مزالق، ولأن في هذا الطريق عقبات، ولأن في هذا الطريق أموراً تكرهها النفوس البشرية بطبيعتها، فلابد من الثبات على هذا المنهج، وأهم ما في هذا المنهج: الدعوة إلى الله عز وجل.(54/5)
الاستقامة هي المخرج من الفتن
لقد كثرت في عصرنا الحاضر التقلبات والاتجاهات، وظهرت أفكار جديدة لم تُعهد من قبل، تسربت هذه الأفكار إلى المسلمين وكأنها جزء من هذا الدين، وقد يتباكى أصحابها على الإسلام في الظاهر، ويلفون هذا الجرائم وهذه الأفكار المنحرفة بلفائف ظاهرها فيه الرحمة وباطنها من قبله العذاب، ثم يغتر كثير من الناس بهذه الدعايات، لاسيما إذا كان أصحاب هذه الدعايات من أبناء جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا.
إذاً: فما هو المخرج؟ المخرج قوله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود:112].
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن من ميزة آخر زمان هذه الأمة أن تكثر الأهواء والفتن، وأن يكون لهذه الفتن آثار في حياة الناس، وهذه الآثار تبرز في استقامة هؤلاء الناس، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ستكون فتن كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا) وقال: (ألا إنها ستكون فتن، ثم ألا إنها ستكون فتن، ثم ألا إنها ستكون فتن، قالوا: وما المخرج منها يا رسول لله؟ قال: كتاب الله وسنتي).
وهذه الفتن التي نعيشها اليوم هي -والله- كقطع الليل المظلم، يرقق بعضها بعضاً كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا جاءت الفتنة قال المرء: هذه مهلكتي، فإذا جاء ما بعدها قال: تلك أهون من هذه.
والخلاص منها يكون بالاستقامة على دين الله، فإنّ الدين واضح، والمحجة بيضاء لا يزيغ عنها إلا هالك.
وقد نلاحظ في حياة الناس هذا التقلب في كثير من الأحيان، ولا يكاد الإنسان يسر بأن فلاناً من الناس قد استقام على دين الله بعد أن كان منحرفاً، إلا ويفاجأ -في بعض الأحيان- بأنّ فلاناً قد انحرف عن هذا الدين؛ لنشاط دعاة الباطل، وضعف دعاة الحق، ولوجود بيئة متلوثة في العالم الإسلامي كله، وهذه البيئة المتلوثة فيها من الفتن ما قد يؤثر على عقول كثير من أبناء المسلمين.
إنّ المؤمن مطالب بالاستقامة والثبات على الحق ولو انحرف كل الناس، بحيث لا يرتبط هذا المرء بغيره من الناس ارتباطاً يجعله ينحرف معهم، وإنما يرتبط بهم ارتباطاً يجعله يستقيم معهم إذا استقاموا، فإذا انحرفوا لزم المنهج الصحيح ولو لم تكن الدنيا معه بل ضده، ويتمثل بقول الشاعر في حق الله عز وجل: فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب(54/6)
الاستقامة سبب للنجاة والسلامة في الدنيا والآخرة
إنّ الاستقامة والثبات عليها أمر لا مناص منه للمؤمن، خصوصاً في زمن التقلبات والأهواء والفتن، وفي زمن المساومة على دين الله تعالى في كثير من الأحيان من قبل كثير من المسلمين، تلك المساومة التي يسيل لها لعاب كثير من الناس، ولكن المسلم حقاً لا يمكن أن يرجع من منتصف الطريق، بل يكمل هذا المشوار إلى ربه وإلى الدار الآخرة، وهذه الاستقامة هي أفضل سلاح يستطيع المؤمن من خلاله أن يتخطى هذه العقبات التي تقف في طريقه وتعترض سبيله، وحينئذٍ لا يضره من خالفه ولا من خذله حتى يأتي أمر الله تعالى.
هذه الاستقامة هي التي تؤمن الإنسان في ساعة الموت، كما أنها تؤمنه في هذه الحياة الدنيا، فإذا كان مستقيماً على المنهج الصحيح لا يغير ولا يبدل، ولا يقبل المساومة، ولا يقبل أي منهج غير هذا المنهج الذي اقتنع به، وعرف أنه هو المنهج الصحيح الذي جاء به المرسلون من عند الله عز وجل؛ فإنّه يبشر في ساعة الموت بجزاء هذه الاستقامة، فتنزل عليه ملائكة تبشره في ساعة الاحتضار حينما تلتف الساق بالساق، وحينما تكون رجل في الدنيا ورجل في الآخرة، وحينما يريد أن يلفظ أنفاسه الأخيرة مدبراً عن الحياة الدنيا، ومقبلاً على الله عز وجل والدار الآخرة، في ساعة رهيبة يفكر فيها الإنسان فيما أمامه من مخاوف: من حياة البرزخ وما فيها من الأهوال والمخاوف، والقبر وضمته، وسؤال الملكين، وما بعد حياة البرزخ من الصحف التي تسجل فيها الأعمال، والموازين التي توزن فيها الأعمال، والصراط والأمور الهائلة في ذلك الموقف.
وهو أيضاً يتصور هذه الحياة الدنيا وما فيها من أهل ومتاع، ويريد أن يودعه، فمن استقام على دين الله فإنه في ذلك الموقف الرهيب تنزل عليه الملائكة مبشرة له، كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [فصلت:30 - 31] أي: كنا معكم، وكنا -بأمر من الله عز وجل- نثبتكم، {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} [فصلت:31]، هذا جزاء الاستقامة، وإذا ثبّت الله عز وجل الإنسان في الحياة الدنيا ثبته في ساعة الموت، وثبته حينما يريد العبور على الصراط الدحض المزلة، الذي ورد وصفه بأنه أدق من الشعر وأحد من السيف، ويغطيه دخان جهنم.
فالمستقيم يثبته الله على الإيمان، فلا تستطيع هذه الفتن العاصفة، وهذه الأهواء المضلة، وهذا الزمان المغبر المخيف المرهق أن تغير مبدأ هذا المسلم الذي عرف الله عز وجل، واقتنع بهذا المبدأ، ورضي بالله رباً، وبمحمد نبياً، وبالإسلام ديناً، ويثبته الله عز وجل في المواقف العصيبة.(54/7)
الاستقامة هي أخذ الدين من جميع جوانبه دون استثناء
إن الاستقامة التي يطالب الله عز وجل الناس جميعاً أن يثبتوا عليها بقوله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود:112]، وقوله: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ} [الشورى:15] هي أخذ الدين من جميع جوانبه، لا أن يتتبع المرء ما سهل عليه أو وافق هواه؛ لأننا حينما نأخذ من هذا الدين ما رق ولان، ومن هذه الأحكام ما سهل، ومن هذه العبادة ما تيسر، ونترك ما شق على النفوس؛ لم نكن مستقيمين، ولكن الاستقامة أن يأخذ بهذا الدين في المنشط والمكره، وأن يثبت على هذا المبدأ ولو تخلف عنه الناس أجمعون، فهو يسير على هذا المبدأ القويم ويستقيم عليه حتى يلقى ربه سبحانه وتعالى.
ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم -وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم- يقول: (اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) أي: أنّه يطلب من الله أن يستقيم على هذا الدين، وتقول له عائشة في ذلك: (كيف تخاف على نفسك يا رسول الله؟! قال: إن قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء).(54/8)
الاستقامة المحمودة هي التي تكون حتى الممات
لقد زلت القدم بأقوام كانوا على منهج قويم، وكانوا على حال مشرفة، لكن الله تعالى كتب لهم الشقاوة في الخاتمة، وكل ميسر لما خلق له، فمن خلق للسعادة مات عليها، نسأل الله ذلك! ومن خلق للشقاوة وللنار فإنه يموت على الشقاوة، ولو كانت حياته كلها في طاعة الله عز وجل، والعبرة بالخواتيم، الله تعالى يقول: {وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، وقال يعقوب عليه السلام حينما حضرته الوفاة: {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132]، فالعبرة هنا على ساعة الموت لا على مدة الحياة، وهذا هو معنى الاستقامة؛ لذا لا تعتبر الاستقامة استقامة إلا مع حسن الخاتمة.(54/9)
الاستقامة أمر وسط بلا إفراط ولا تفريط
نستطيع من خلال كلمة (فاستقم) أن نأخذ معنىً آخر وهو: أن دين الإسلام دين وسط بين طرفي نقيض دائماً وأبداً، فإذا نظرت إلى الأفكار العصرية والأفكار القديمة والمذاهب والملل وجدت أنها على طرفي نقيض دائماً، فجانب إلى اليمين وجانب إلى الشمال، والإسلام وتعاليمه يمثل جانب الوسط، وهو جانب الاستقامة، وإليك بعض الأمثلة على ذلك: فهناك جانب يقدس الروح ويهمل الجسد، وهو منهج الصوفية، ويقابله جانب آخر يقدس الجسد ويهمل الروح، وهو عالم المادية الطائشة في أيامنا الحاضرة، بينما نجد أن الإسلام يستقيم في معاملة الاثنين جميعاً، فلا يهمل الروح ولا يهمل الجسد، ولكنه يربي الروح والجسد، فيعطي الروح حقها، لكن لا يكون ذلك على حساب الجسد، ويعطي الجسد حقه ولا يكون ذلك على حساب الروح، فلا هو بالصوفية الموغلة التي لا ترعى حقاً للجسد، ولا هو بالمادية المنحرفة التي لا تعطي الروح شيئاً من حقها.
وفي جانب الاقتصاد نجد أن في عالمنا نظامين كافرين: نظاماً يسمى بالشيوعية الاشتراكية، يبتز أموال الناس لا للفقراء، ويقابله في الطرف الآخر نظام آخر، وهو الرأسمالية في مفهومه العصري، لا يبالي من أين يكسب المال ولو كان عن طريق الربا أو المحرمات، المهم أن يكون هناك مال، ولا يحترم هذا المال، ولا يعتبر فيه حقاً للسائل والمحروم من الزكاة وغيرها.
ونجد في الوسط دين الإسلام، فهو ملة وسط، فلا هو بالذي يأخذ أموال الناس بغير حق، ولا هو بالذي يجعل الأمر مفتوحاً لهذا الإنسان أن يكسب المال متى شاء ومن أي طريق شاء، إذاً فهو الطريق الوسط المستقيم.
وفي باب المعتقد نجد المعطلة والمشبهة على طرفي نقيض، ونجد أن الجانب الوسط هو إثبات ما أثبته الله عز وجل لنفسه من غير تشبيه ولا تعطيل، وهكذا دائماً نجد الإسلام ديناً وسطاً مستقيماً بين طرفي نقيض، وهو ما أشار الله عز وجل إليه بقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143] أي: عدولاً، ومنهجكم منهج الوسط، فلا هو بالجانب المنحرف ذات اليمين، ولا هو بالجانب المنحرف ذات الشمال.(54/10)
الاستقامة كما أمر الله لا كما تشتهيه الأنفس
إن هذه الأمة مطالبة بأن تسير على هذا المنهج القويم: (فاستقم كما أمرت)، وهذه الاستقامة مقيدة هنا بقوله تعالى: (كما أمرت)، فهل هناك استقامة منحرفة؟! نعم، فقد تكون الاستقامة في الظاهر، لكنها منحرفة وليست كما أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم، حتى الرسول صلى الله عليه وسلم ليس له حرية في أن يختار طريق الاستقامة؛ بل الأمر كما قال الله تعالى: (كما أمرت).
أيها الإخوان! إن من يسير في العالم الإسلامي سيرى أقواماً أحدثوا عبادات لو نظرت إليهم من أول وهلة لقلت: هؤلاء هم عبّاد الله في الأرض، وإذا نظرت إليهم بعين البصيرة وجدت أنهم من أبعد الناس عن دين الله عز وجل، كما قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية:2 - 4]، والعجيب أنها عاملة خاشعة ناصبة تقية -في الظاهر- لكنها تصلى ناراً حامية!! لأنها لا تسير على المنهج الصحيح الذي جاء من عند الله عز وجل، يحدثون في دين الله، ويشرعون لأنفسهم من العبادات ما لم يأذن به الله، وكلما أعجبتهم عبادة قالوا: هذه بدعة حسنة، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (كل بدعة ضلالة)، فليس هناك في الإسلام بدعة حسنة، وقد تطورت هذه البدع إلى أن وصلت إلى درجة الشرك بالله عز وجل، فتعبد الأصنام الآن من خلال ما يسمونها بالبدعة الحسنة! لقد رأينا أُناساً يسجدون للقبور، وقد ولوا ظهورهم صوب الكعبة، ووجوههم -وهم ساجدون لغير الله عز وجل- صوب القبور والأضرحة، يعبدون أناساً قد صاروا تراباً، ويسجدون لهم من دون الله عز وجل، وحينئذٍ نعرف أن الشرك قد عاد على أشده، فإنّ أكبر مرحلة وصل إليها الشرك في آخر أيام الشرك يوم فتح مكة، وهي آخر لحظة من لحظات الشرك، وكان عدد الأصنام ستين وثلاثمائة صنماً تعبد من دون الله، وقد كسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانتهى الأمر، وأما في وقتنا الحاضر فإنّ الإحصائيات تقول: إن في العالم الإسلامي أكثر من عشرين ألف ضريح يعبد من دون الله.
وقد رأيت أنا بعضها؛ فيها حجاج من جميع بلاد العالم، ويحجون إليها أكثر ممن يحج إلى الكعبة المشرفة، والطواف حولها أكثر من الطواف حول الكعبة المشرفة، وتراهم يريقون الدموع في ذلك الموقف، ويتوسلون، ويدعون، ويخشعون، ويذبحون ويريقون من الدماء أكثر مما يفعله المسلمون في أيام منى! فقلت: سبحان الله! لقد عاد الشرك الآن على أشده، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن تلك الغربة ستعود أعنف مما كانت، وبلادنا هذه -والحمد لله- لا تعرف الشرك بهذا المعنى، فقد حماها الله سبحانه وتعالى من هذا الشرك بدعوة سلفية صالحة، نسأل الله أن يثبتنا على التوحيد، لكن نريد أن نصلح ما دون ذلك.
والخلاصة -أيها الإخوة- في قول الله تعالى: (كما أمرت): ألّا تستقيم كما يروق لك، حتى رسول الله وخاتم الأنبياء وخير المرسلين، قال له ربه: استقم كما أمرت، أي: لا كما تريد، ولا كما يحلو لك.
إن الاستقامة لها قيود وشروط، والعبادة لها ضوابط، وقد أكمل الله تعالى هذا الدين بحيث لا يصبح أُلعوبةً لبعض المسلمين يزيد فيه وينقص، ويتهم الله عز وجل بعدم إكمال هذا الدين، وهو الذي يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3]، ويتهم النبي صلى الله عليه وسلم بعدم تبيين هذا الدين، وهو الذي يقول: (تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها).(54/11)
الطغيان من أسباب الهلاك والعذاب
الأمر الثاني من هذه الأوامر: (ولا تطغوا)، والطغيان في اللغة العربية معناه: تجاوز الحد، سواء كان ذلك في العبادة أو في المعصية، فتجاوز الحد في المعصية يعتبر طغياناً في الأرض، فالمتجبرون الذين يسومون الناس سوء العذاب، والذين يريدون أن تخضع لهم هذه الشعوب على غير منهج الله عز وجل، هم طغاة البشر.(54/12)
خطر الطغيان والغلو في جانب العبادة
هناك طغيان في العبادة، والمراد به: تجاوز الحد، أي: كونوا وسطاً؛ ولا تتعدوا هذه الحدود ولو كان ذلك في أمر العبادة؛ ولذلك فكل أوامر الإسلام مضبوطة ببداية ونهاية، وبحدود وحواجز؛ لئلا يفكر أحد من الناس أن يزيد فيها أو أن ينقص، فإنّ من زاد في شرع الله فإجرامه أكبر مِن إجرام مَن نقص منه؛ لأن من نقص من شرع الله فهو عاصٍ، وأما من زاد فيه فإنه يضع نفسه في مقام الربوبية التي لا تجوز لأحد إلا لله سبحانه وتعالى وحده، وهذا هو الطغيان، ولهذا فإن أوامر الإسلام محدودة: خمس صلوات لا نزيد عليها كفرائض، وصيام رمضان لا نزيد عليه، حتى إنّ من صام اليوم الذي يشك فيه قبل رمضان فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم، فلا نزيد يوماً قبله ونعتبره من رمضان، ولو كان ذلك اليوم يوم شك على سبيل الاحتياط فيه، ولا يجوز أن نصوم يوم العيد؛ لأنه يزيد في رمضان، وهكذا كل العبادات تجدها قد رُسم لها طريق بداية ونهاية وحدود، بحيث لا يستطيع أحد من الناس أن يزيد فيها أو أن ينقص، ولذا قال الله تعالى: (ولا تطغوا) أي: لا تتجاوزوا الحدود في هذا الأمر، فإن الإفراط أخطر على حياة المسلم من التفريط.
جاء ثلاثة نفر إلى بيوت النبي صلى الله عليه وسلم فسألوا عن عمله، فذكر لهم عمله، فكأنهم تقالوا هذا العمل، فقال أحدهم: (أما أنا فأصلي الليل ولا أرقد -أي: يصلي كل الليل- وقال الثاني: وأما أنا فأصوم النهار ولا أفطر، وقال الثالث: وأنا لا أتزوج النساء، -أي: يريد أن يتبتل وينقطع عن العبادة- فلما علم الرسول صلى الله عليه وسلم بقولهم غضب غضباً لم يغضب مثله، وقال: أما إني أتقاكم لله وأعلمكم بالله، وإني أصلي وأرقد، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني).
إذاً: فالإفراط وتجاوز الحد والطغيان في العبادة أمر لا يقل خطراً عن أمر التقصير في العبادة، بل يزيد خطره على ذلك.
وهنا ننبه على أمر يقع فيه كثير من الناس وهو: أنّ كثيراً من شباب المسلمين -الآن- حينما يتجهون إلى الله عز وجل فإنهم يوصفون بالتطرف، أو يوصفون بالتشدد، وما هذا الأمر بتشدد في الحقيقة، إنما هو دين، لكن لما غفل الناس عن هذا الدين مدة طويلة من الزمن، وهدى الله عز وجل هذه الشبيبة المسلمة؛ ظن كثير من الناس أن هذا تجاوز وتعدٍّ للحدود، فصاروا يسمونه تطرفاً، ومرة أخرى يسمونه وسواساً، وحيناً يسمونه شدة في الدين إلى آخر ذلك، حتى إنهم يسمونه في بعض الأحيان رجعية وتخلفاً، وهذا حقيقته الطعن في الدين، وهذا هو ما يحدث بالنسبة لمن يسنون الشرائع الأرضية، والقوانين البشرية، فإنهم يقولون: هذا الدين لا يصلح لهذه الحياة، إذاً لابد أن يأتوا بقوانين وآراء الرجال، ويضلون الأمة عن الطريق المستقيم {وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود:112].(54/13)
الركون إلى الظالمين من أسباب الهلاك والعذاب
قال تعالى في الأمر الثالث: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود:113]، اعلم أنّ كلمة (الظلم) تأتي في الشرع على ثلاثة معانٍ: فتأتي بمعنى: التعدي على حقوق الناس، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من ظلم من الأرض قيد شبر) الحديث، وتأتي بمعنى: الشرك بالله عز وجل، يقول الله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] وتأتي بمعنى: المعصية؛ صغيرة كانت أم كبيرة، كقوله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} [فاطر:32]، فلها معان متعددة؛ ولذلك فإن الظالم -بكل معانيه- لا يجوز لأحد أن يتعاون معه، أو يركن إليه، أو يجالسه، أو يشاربه، أو يعاونه في أي أمر من الأمور، فمن عاونه مسته النار.
إنّ الميل إلى الظالمين يسبب مس النار والإحراق في نار جهنم، فكيف بالظالم نفسه الذي يتعدى على حرمات المسلمين وأموالهم وحرياتهم وحقوقهم وأعراضهم، وغير ذلك؟!! فالأمر خطير جداً، ولذلك فإن هذه الآية: (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) تحذر المسلمين من أن يميلوا إلى طغاة البشر أو أن يتعاونوا معهم، كما تحذر المسلمين من أن يميلوا إلى الكافرين، وتحذرهم أيضاً من مخالطة الفسقة والعصاة؛ لأن ذلك يسبب فسقاً وعدواناً في الأرض؛ ولذا فإن الله عز وجل عاتب نبيه صلى الله عليه وسلم حينما فكر تفكيراً بعيداً في أن يجذب القوم إلى الإسلام عن طريق الميل القليل إليهم؛ كأن يخصص لهم مجلساً، أو أن يلين مع كفار قريش من أجل أن يجذبهم إلى الطريق المستقيم، يقول الله تعالى له: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} [الإسراء:74 - 75]، فالركون شيء قليل، والعذاب مضاعف في الحياة الدنيا وبعد الموت، مع أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم!! إنّ نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم -وهو خير البرية المبلغ من عند الله- عندما فكر في أن يركن إليهم شيئاً قليلاً، هدده الله تعالى بالعقوبة ضعف الحياة وضعف الممات، إذاً فماذا نقول في ركون المسلمين إلى الكافرين هذا الركون الطويل العريض، حتى أصبح بعضهم يسب الإسلام من خلال أخلاق هؤلاء الكافرين، ويسب المسلمين تصنعاً لهؤلاء الكافرين، بسبب ابتسامتهم في وجوهنا، ويقول هذا المسلم الخائن: الكفرة خير من هؤلاء؟! كلمات نسمعها دائماً وأبداً، ولربما يزيد الأمر خطورة حينما يصل إلى درجة محبة هؤلاء.
إذاً: فالأمر خطير، الله تعالى يقول: {لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا} [الإسراء:74 - 75]، والتنوين في (إذاً) يسمى بتنوين العوض، والمعنى: إذاً لو ركنت إليهم شيئاً قليلاً {لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} [الإسراء:75]، أي: عاقبناك عقاباً شديداً مضاعفاً في الحياة الدنيا وبعد الموت.(54/14)
ضرورة استقلال الشخصية الإسلامية وعدم ركونها إلى غيرها
لقد أمر الله سبحانه وتعالى الشخصية الإسلامية أن تستقل عن غيرها، وأمر المسلمين ألا يستعينوا بالكافرين، وألا يركنوا إليهم وألا يميلوا إليهم، وألا تكون هناك محبة أو موالاة لهم، قال الله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة:22] وهم الكفرة {وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22]، يعني: لا تواد من حاد الله ورسوله ولو كان أباً لك، وانظر إلى امتثال ذلك في حال إبراهيم عليه الصلاة والسلام حينما تبرأ من أبيه لأنه رجل كافر، قال تعالى عنه: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة:114].
وهذا نوح عليه الصلاة والسلام يلومه الله تعالى أن مال قليلاً إلى ابنه الكافر: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:46]، ثم يقول: {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود:46]، فيعتبرها نوح عليه الصلاة والسلام ذنباً عظيماً اقترفه في جنب الله فيقول: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود:47].
وهذا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ينزل الله عز وجل في عمه أبي لهب قرآناً يتلى إلى يوم القيامة: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1]، وأدنى النبي عليه الصلاة والسلام الأباعد من الرجال، وأبعد الأقارب؛ لأن أولئك الأقارب الذين أبعدهم أعداء لله ولرسوله، ولأن أولئك الخيار الذين أدناهم من أولياء الله تعالى {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:55 - 56].
ولما أنزل الله عز وجل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} [المائدة:51] قال المنافق عبد الله ابن أُبي بن سلول لعنه الله: نريد أن نعقد حلفاً مع اليهود؛ فإنا نخشى أن تصيبنا دائرة، يعني: نخاف من أيام الدنيا فنستعين بهم على نوائب الحياة، مع أنهم يسكنون المنطقة التي يعيش فيها المسلمون، فينزل الله تعالى آية أخرى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [المائدة:52] أي: المنافقين {يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} [المائدة:52] أي: في ولاية الكافرين، {يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} [المائدة:52] فما هو الحل؟ الحل: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة:52].
إذاً: فالركون إلى الكافرين محبةً وموالاةً أمر خطير جداً، قال الله: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود:113]، فإن العقوبة شديدة وليست هينة، فالمس هنا معناه: الإحراق بالنار.(54/15)
خطورة مجالسة الفسقة والعصاة والركون إليهم
مجالسة الفسقة والعصاة أمر خطير جداً؛ فإن الله تعالى يقول: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام:68]، ويقول: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ} [النساء:140]، وكم يسخر أعداء الإسلام من هذا الدين، ويضحكون من المتدينين، وكم يتفكه كثير من أصحاب المجالس -وإن كانوا من المنسوبين إلى الإسلام- بالدين والمتدينين، حتى إذا ذهب أحدهم إلى أهله انقلبوا فكهين! فيضحك مع زوجته قائلاً: والله! ابن فلان من الناس كأنه مصاب بعقله، أراه قد قصر ثوبه، وأرخى لحيته! كذا يسخر من دين الله عز وجل، وربما يقول: فلان أصيب بالوسواس.
حتى ربما يسخر من ولده حينما هدى الله سبحانه وتعالى أبناء المسلمين إلى الفطرة في أيامنا الحاضرة، وهذا هو معنى قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} [المطففين:29 - 33]، ولكن هذه السخرية وهذا الضحك تنقلب رأساً على عقب في يوم القيامة: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} [المطففين:34 - 35]، فيطلعون عليهم وهم في نار جهنم، ويأتي دور المؤمنين في الضحك، فيضحكون منهم.
أيها الإخوة! إنّ من البلاء مخالطةَ الظلمة ومجالستهم، والاطمئنان والركونَ إليهم، والله تعالى يقول: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ} [هود:113]، ولذلك فإن المسلم مطالب ألاّ يركن إلى الكافرين، أي: لا يتخذ ركناً يعتمد عليه بعد الله إلا في المؤمنين {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ} [المائدة:55]، {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} [التحريم:4]، ولا يركن إلى الفسقة وإن كانوا مسلمين.(54/16)
اتخاذ بطانة الشر من الركون إلى الظالمين
الركون معناه: أن تتخذ هذا الرجل أو هذا الإنسان كالركن تعتمد عليه كما تعتمد على الجدار أو على الركن، أي: فتتخذ هذا الرجل الكافر أو الفاسق أو الظالم أو الطاغية ركناً تعتمد عليه من دون المؤمنين، وهذا هو الخطر، وهذه هي البطانة التي حذر الله عز وجل من اتخاذها في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} [آل عمران:118] أي: من غيركم ممن لا يوافقكم في دينكم وعقيدتكم، فإنّ اتخاذهم بطانة أمر خطير جداً؛ ولهذا فإن كثيراً ممن وقعوا في سخط الله عز وجل إنما وقعوا في ذلك بسبب هذه البطانة، ولم يوفقوا إلى جلساء صالحين، ولعل السر في ذلك: أنهم أعرضوا عن شرع الله عز وجل، فقيض الله تعالى لهم هذه البطانة، وهذا ما أشار الله عز وجل إليه بقوله: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف:36]، سواء كان من شياطين الإنس أو من شياطين الجن، (فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) أي: لا يتركه حتى يكبَّه في نار جهنم.
فالأمر خطير، يقول الله تعالى: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود:113]، فمصاحبة الفسقة أمر خطير، يذهب بالإنسان مذاهب خطيرة، فهؤلاء الفسقة ربما يفسدون على الرجل الصالح -الذي لم يحسن اختيار الجلساء- صلاحه ودينه، فلا يدعوه حتى يخرجوه من الملة، ولذلك فإن المسلم مطالب بألّا يخالط إلا الأتقياء، وألّا يأكل طعامه إلا الصالحون، وألّا يأنس إلا بأولياء الله عز وجل الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فإن رغب عن هذا المنهج فإنه على خطر، ويكون من الذين ركنوا إلى الذين ظلموا؛ فتمسه النار، {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ} [هود:113] أي: ليس لكم أي ولي من الأولياء، و (من) هنا زائدة للتأكيد، والمعنى: أن هؤلاء الذين ركنتم إليهم لا يستطيعون أن يدفعوا عنكم ضراً أو يجلبوا لكم نفعاً، أياً كان هذا النفع وأياً كان هذا الضر؛ لأن دخول (من) في هذا المكان بعد النفي تفيد العموم المطلق، والمعنى: أي ولي اعتمدتم عليه غير الله، فإن هذا الذي اعتمدتم عليه ليس ولياً يركن إليه، وإنما هو عدو لهذا الذي ركن إليه.
ولذلك يقول الله تعال: {ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} [هود:113] أي: لا يستطيع ذلك أن ينصركم من دون الله، ولذا شبّه الله تعالى الذين اعتمدوا على غيره، وركنوا إلى غير الركن الشديد، واتخذوا بطانة من غير المؤمنين؛ شبههم بالعنكبوت حينما تبني لها بيتاً تدافع به عن نفسها، وتتحصن به في وقت الشدائد، فلا يستطيع هذا البيت أن يحمي هذه العنكبوت، فهؤلاء أشبه ما يكونون ببيت العنكبوت، قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:41]، وقد جاءت هذه الآية بعدما أخبر الله عز وجل بأنه أهلك الأمم الذين اتخذوا بطانة من غير المؤمنين، وصرفوا العبادة لغير الله، وظنوا أن هذه الآلهة تدفع عنهم ضراً أو تجلب لهم نفعاً، قال تعالى: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ * مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:40 - 41].(54/17)
وجوب الركون إلى الله تعالى دائماً وأبداً
يجب على المسلم أن يركن إلى الله عز وجل دائماً وأبداً، في حال الشدة وفي حال الرخاء، ولا ينسى ربّه في حال الرخاء فيتخلى الله عز وجل عنه في وقت الشدة؛ بل عليه أن يتعرف إلى الله في وقت الرخاء حتى يعرفه في الشدة، وأخطر الأمور كلها: أن يَنسى الله في وقت الرخاء وفي وقت الشدة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)، ويقول سبحانه وتعالى: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ} [الزمر:61]، فما دام أنهم اتقوا الله في أيام الرخاء ينجيهم الله عز وجل في وقت الشدة في الأمور المخيفة التي لا يستطيعون أن يدفعوها عن أنفسهم، وإنما يدفعها الله عز وجل بمقدار ما تقربوا إليه في وقت الرخاء واتقوه.(54/18)
خطر تقليد الآباء والأجداد في الدين
أيها الإخوة! إن من أخطر الأمور أن يميل المسلم إلى الكافر، أو أن يأخذ دينه من غير المنهج الصحيح، وذلك حينما يقلد الآباء والأجداد، ولذلك فإن حال الكافرين الأولين، وكذلك المشركين في أيامنا الحاضرة: {وإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا} [البقرة:170] أي: ما وجدنا، فقال الله تعالى: {أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [البقرة:170] أي: لو كان الآباء قد ضلوا الطريق فإن الأبناء سيضلون الطريق؛ بسبب تمسكهم بمنهج آبائهم ولو كان آباؤهم على غير الدين والمنهج الصحيح!! وهذا هو السبب في انحراف كثير من الناس، وهو الذي جعل لجهنم ملأها، وهو الذي جعل الكبر يملأ قلوب وعقول أولئك الناس الذين لا يريدون أن يتبعوا المنهج الصحيح، وإنما يتبعون ما وجدوا عليه الآباء والأجداد، حتى لو كان الآباء والأجداد لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون.(54/19)
خطر موالاة الكافرين
إنّ المسلم مطالب بألّا يعتمد إلّا على الله عز وجل، وألّا يركن إلا إلى المؤمنين، وألا يتخذ البطانة إلا من المؤمنين، وألّا يوالي الكافرين؛ فإن موالاتهم أمر خطير يجب على المسلم أن يحذره، وأن يعلم أن أعداء الإسلام وإن ابتسموا في وجوه القوم فقلوبهم مملوءة حقداً على هؤلاء الناس، كما قال تعالى: {يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ} [التوبة:8]، فكم ابتسموا في وجوه الناس وفي وجوه المسلمين ثم قلبوا لهم ظهر المجن في لحظة سريعة.
فمن الذي يجوب خلال ديار المسلمين اليوم، وينشر الفساد في الأرض، ويهلك الحرث والنسل في بلاد المسلمين؟! ومن الذي استولى على بلاد المسلمين مائة وسبعين عاماً والدماء تجري كالأنهار؟! حتى نصارى العرب لم تغن عنهم قوميتهم من دون الله عز وجل شيئاً، فهم الذين فتحوا الباب للصليبيين حينما قدموا عن طريق لبنان، وهذا يشهد به التاريخ.
الرابطة هي رابطة العقيدة، والأخوة هي الأخوة في الله عز وجل، وهي أوثق عرى الإيمان، لكن الله تعالى يقول لنا: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} [الممتحنة:8]، فإذا كانت المسألة مسألة عدل وإنصاف فحينئذٍ لا يجوز للمسلم أن يميل مع المسلم ضد الكافر إذا كان الحق لغير المسلم.(54/20)
الصلاة من أسباب النجاة من غضب الله تعالى وعقابه
قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود:114] إنّ الصلاة على طرف نقيض مما سبق من الركون إلى الكافرين؛ لأن الصلاة ركون إلى الله عز وجل، واستمداد للقوة من الله سبحانه وتعالى مباشرة، وتتجدد وتتكرر كل يوم خمس مرات، فكلما ضعف اليقين في قلب هذا الإنسان، أو ضعفت قوته وخارت؛ فإنه يرتبط بالله عز وجل، ويقف بين يديه؛ ليستمد منه العون والتوفيق، فيخشع بين يدي الله خمس مرات، وينحني له، ويضع جبهته خضوعاً لله عز وجل، ويتوسل إلى الله عز وجل بآياته، ويعظم الله بالتكبير والتهليل والتحميد والتسبيح، وهذه أفضل العبادات التي يتقرب بها الإنسان إلى ربه سبحانه وتعالى.
ولذلك لما ذكر الله تعالى موالاة الكافرين بيّن كيف يجب أن تكون الموالاة له وحده فقال: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود:114]، وطرفا النهار: صلاة الفجر وصلاة المغرب والعشاء، أو صلاة الفجر والمغرب، (وزلفاً من الليل) هي صلاة العشاء، وتدخل صلاة الظهر وصلاة العصر في الطرف الثاني من النهار، فالمراد هنا بالصلاة: الصلوات الخمس التي هي أعظم فريضة شرعها الله على عباده، وقد فرضت فوق السماء السابعة، وهي أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة من أعماله، وهي آخر ما يفقد من هذه الأمة، وأي أمة تُفقد فيها الصلاة فلا حظَّ لها في هذا الدين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر).
لقد غفل بعض المسلمين عن أولادهم فارتدوا عن الإسلام حينما تركوا هذه الصلاة المكتوبة، وهذا أمر خطير جداً، ليس الأمر مجرد معصية فحسب، ولكنه يتعداها إلى درجة الكفر والردة عن الإسلام، نسأل الله العافية والسلامة!(54/21)
الصلاة طهارة من الذنوب الآثام
إنّ الصلاة صلة بين العبد وربه سبحانه وتعالى، وتطهر الإنسان من الآثام كنهر غمرٍ بباب أحدنا يغتسل منه خمس مرات كل يوم فهل يبقى من درنه شيء؟ وقد نزلت هذه الآية في رجل من الصحابة رضي الله عنه فعل ذنباً، وهو أنه قبل امرأة، فجاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! عملت ذنباً عظيماً، قبلت امرأة، فأمره الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجلس، فأنزل الله تعالى في حقه وفي حق جميع المسلمين إلى يوم القيامة لتكفير صغائر الذنوب: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] فلما نزلت هذه الآية تلاها صلى الله عليه وسلم على هذا الرجل، فقال: يا رسول الله! ألي خاصة أم لجميع الأمة؟ قال: بل لجميع أمتي)، وهذه من نعمة الله سبحانه وتعالى أن شرع لنا هذه الصلاة العظيمة التي يكفر الله عز وجل بها هذه السيئات التي يقترفها الإنسان في حين غفلة، أو في حين انحراف، ولذلك يقول الله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114].(54/22)
خطر السهو عن الصلاة وتأخيرها عن وقتها
الصلاة أمرها عظيم، وشأنها خطير، وقد يتأخر عنها الإنسان بعض الوقت، فيؤدي ذلك إلى أن يتساهل في مواقيتها؛ بحيث يصليها في غير وقتها، فيكون من الذين قال الله عز وجل فيهم: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إِلَّا مَنْ تَابَ} [مريم:59 - 60]، فإذا كان هذا الأمر في تأخير الصلاة عن وقتها، فكيف بتركها كلية؟! نعوذ بالله من ذلك! وقال الله عز وجل في سورة الماعون: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:4 - 5]، والويل هو العذاب الشديد، فإذا كان العذاب الشديد للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون، فما هو مصير الذين لا يركعون لله ركعة واحدة، ولا يعرفون الطريق إلى المسجد إلا حينما يقدّمون جنازة يصلي عليه المسلمون؟! نسأل الله السلامة والعافية! وهذا كثير فيمن ينتسب إلى الإسلام في أيامنا الحاضرة، نسأل الله لنا ولهم الهداية والاستقامة.(54/23)
أهمية الصلاة ووجوب إقامتها على كل حال
أيها الإخوة! إنّ الصلاة هي رأس العبادات البدنية، وقد فرضها الله عز وجل من فوق السماء السابعة، بينما كل شرائع الإسلام فرضت على الأرض؛ ليعرف هذا الإنسان أهمية هذه الصلاة التي لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يتركها في أي حال من أحواله، حتى في ساعة المعركة والنفوس تختطف، والرءوس تقطع، قال الله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} [النساء:102]، ثم قال بعد ذلك: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة:239]، ولو كنت تركض على الأقدام فلابد أن تصلي، ولو كنت على البعير أو على الدابة، لا تترك هذه الصلاة أبداً في ساعة المعركة ولو كنت على أي وسيلة من وسائل القتال، لابد أن تؤدي هذه الصلاة، ولا تسقط حتى في حال المرض، فإذا كان الصيام يؤخر في حال المرض كما قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184]، والحج يؤخر إلّا لمن استطاع إليه سبيلاً، لكن الصلاة يقول صلى الله عليه وسلم فيها: (صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب)، ولو أن يومئ إيماءً، أو يحرك عينيه حركة، فلابد أن يشعر أن هذه الصلاة فريضة، وشعيرة عظيمة، لا تسقط بأي حال من الأحوال ما دامت الروح في الجسد.
ولذلك لا تتعجبوا أيها الإخوة! حينما يقول الله تعالى في وسط هذه الأوامر العامة: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ)، وكلمة (أقم) لها معنى غير معنى (صل)، فمعنى (صل) أي: أدَّ الصلاة، لكن معنى: (أقم) أي: ائت بها مستقيمة كاملة غير ناقصة.(54/24)
الصلاة تكفر صغائر الذنوب
قال الله: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114]، كم يقترف الناس من السيئات التي قد يشعرون بها أو لا يشعرون.
فأعطاهم الله عز وجل هذه الصلاة العظيمة التي تكفر عنهم هذه الصغائر، وأما الكبائر فتحتاج إلى توبة، وهذه التوبة بابها مفتوح حتى تطلع الشمس من مغربها، هذا بالنسبة إلى عامة الناس، وأما بالنسبة لخاصة الناس -أي: لكل واحد من الناس- فما دامت هذه الروح في ذلك الجسد فباب التوبة مفتوح إلى قبل الموت {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء:17]، فقوله تعالى: (من قريب) أي: قبل الموت، فلا يفرط الإنسان في هذا العمر، ولا يمهل، ولا يغتر بالصحة والعافية والقوة والشباب، لا يؤخر التوبة فقد يهجم عليه الموت على غرة فلا يستطيع أن يستعتب، ويقول وهو في حسرات الموت وفي سكرات الموت: {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:99 - 100]، فيقال له: {كَلَّا} [المؤمنون:100] أي: لا ترجع أبداً، يقول الله تعالى: {إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100].(54/25)
خطر ترك الصلاة
أيها الإخوان! إن ترك الصلاة ردة عن الإسلام، يقول العلماء: من ترك الصلاة فإنه كافر مرتد، وإذا كان في عصمته امرأة مسلمة فإنه يجب أن يفرق بينهما؛ لأن الله تعالى يقول: {فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة:10]، ويقول بعض العلماء: إنّ الأولاد الذين يولدون في فترة عدم صلاته موضع شك هل هم أولاد شرعيون أم هم غير شرعيين؟! ويقولون: لا يكفن، ولا يغسل، ولا يقبر في مقابر المسلمين، ولا يصلى عليه، ولا يدخل المسجد، فالأمر خطير يا إخوان! وكثير من الذين يتركون الصلوات الخمس، أو يتركون بعضها يغفلون عن هذا الأمر الخطير، ويغفلون عن هذه المسئوليات الكبيرة، ويصبح أولادهم موضع شك بالنسبة لإلصاقهم بهم من الناحية الشرعية، ويفرّق بينهم وبين زوجاتهم، فالمراد أنّ حياتهم تتغير تغيراً كاملاً، نسأل الله أن يهدي ضال المسلمين إلى الحق، وأن يجعلنا وإياكم وذرياتنا ممن يقيم الصلاة، ويخشى الله سبحانه وتعالى.(54/26)
فضل الصلاة مع الجماعة
ومن مظاهر الاستقامة: إقامة الصلاة، وهي أعظم وأهم مظهر من مظاهر الاستقامة على دين الله تعالى، ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، بل إن من ترك الصلاة مع الجماعة فإنّه يخاطر بدينه، فتراه يسمع المنادي يقول له: حي على الصلاة، حي على الفلاح، وكأنه لا يسمع، فإذا جاء يوم القيامة قيل له: اسجد لله ما دمت لم تسجد، فلا يستطيع السجود؛ لأن الظهر يعود طبقاً واحداً، فينكب على وجهه في نار جهنم، وهذا هو معنى قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا} [القلم:42 - 43] أي: في الدنيا {يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم:43]، إنّهم معافون الأجساد، ومع ذلك لا يستجيبون، والمنادي ينادي من جانب داره كل يوم خمس مرات: حي على الصلاة، حي على الفلاح، فلا يرفعون لذلك رأساً، ولا يقيمون له وزناً، فيكشف عن ساق يوم القيامة، ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون السجود.
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في وصف المجتمع الإسلامي الذي عاشه: (إن الله عز وجل شرع لنبيكم سنن الهدى، وإن هذه الصلوات الخمس من سنن الهدى، ولو صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم)، والصلاة في البيت تؤدي إلى ترك الصلاة نهائياً؛ لأنه عصى الله تعالى، والله يقول: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5]، {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14]، قال: (ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم).
ثم يقول عن مجتمعه: (ولقد رأيتنا -ونحن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم- وما يتخلف عنها -أي: في المسجد- إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان يؤتى بالرجل منا يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف) أي: أنه لا يستطيع المشي، فيحمله اثنان حتى يقيمانه في الصف، مع أن صلاة الجماعة غير واجبة عليه، لكنه لا يريد أن يتخلف عن الصلاة مع المسلمين.(54/27)
بيان أهمية الصبر وأنه من لوازم الاستقامة
يقول تعالى: {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [هود:115] أي عبادة من العبادات لابد أن يكون من أهم مقوماتها الصبر، والصبر معناه: حبس النفس، وعدم الشكوى.
والاستقامة تحتاج إلى صبر؛ لأن الإنسان ربما يكون في مجتمع يرهقه أن يكون مثل هذا الرجل الصالح فيهم، فيضايق؛ فلابد له من الصبر، وقد يفسد المجتمع فتحتاج الاستقامة إلى شيء كثير من الصبر والمصابرة، ودائماً الصبر هو طريق الفوز بسعادة الدنيا والآخرة.
إن الركون إلى الكافرين قد تفرضه بعض الظروف على المسلم، فهو مطالب أن يصبّر نفسه حتى لا يركن إلى الكافرين، والصلاة تحتاج إلى صبر؛ لأنها عبادة تتكرر كل يوم خمس مرات، ولا يطيقها إلا الصابرون الذين يصبرون أنفسهم على طاعة الله وعن محارم الله، وهكذا يكون الصبر دائماً هو طريق الفوز والسعادة في الدنيا والآخرة.(54/28)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أسباب النجاة من غضب الله تعالى وعذابه
يقول الله تعالى: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ} [هود:116]، أي: لم يكن في الأمم السابقة من ينهى عن الفساد في الأرض إلا قليلاً، وهؤلاء القليل لو تتبعتهم لوجدتهم هم الذين ينقذون أنفسهم وينقذون العالم من عذاب الله عز وجل؛ ولذلك إذا أنزل الله تعالى العقوبة فإنه لا يسلم منها إلا الذين ينهون عن السوء، (فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ) أي: فهلا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية (يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ) أي: لم يكن فيمن قبلكم من ينهى عن الفساد في الأرض، فلا تكونوا مثلهم فيعاقبكم الله كما عاقبهم، ولكن كونوا ممن ينهى عن الفساد في الأرض؛ لأن ذلك هو سبب سلامة العالم صالحهم وفاسقهم، وهو سفينة النجاة، فإذا تُركت هذه السفينة يعبث بها السفهاء، ونام العقلاء عن ذلك، واستطابوا العيش الرغيد، ولم يفكروا في أن يغيروا شيئاً من الأوضاع التي ألفها الناس؛ لأنهم يريدون أن يعايشوا هذا المجتمع معايشة سليمة خالية من التنغيص، ولو كان ذلك على حساب الدين، ولو كان ذلك على حساب بقاء الأمم وهلاكها؛ كان ذلك سبب هلاك وفناء هذا العالم.
(فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ) أي: لم يكن هناك من ينهى عن الفساد إلّا قلة، وهؤلاء القلة هم الذين أنجاهم الله عز وجل، وهم المرسلون ومن آمن بالمرسلين.
ثم قال الله تعالى: {إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:116 - 117]، فالله تعالى لا يظلم مثقال ذرة، ولم يقع في تاريخ البشرية أن الله تعالى أهلك أمة مصلحة، ولكن أهلك المفسدين، وأهلك معهم الذين يسكتون عن الفساد في الأرض، أما المصلحون فإذا وُجِدوا في الأرض فإنهم يكونون من الأمم التي ينجيها الله عز وجل.
فإذا كان الأمر كذلك فلماذا يؤذى المصلحون في الأرض؟ ولما يتعرض المصلحون في الأرض من الذين يدعون إلى الله تعالى، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر للأذى، وهم سبب بقاء هذا العالم، وسبب بقاء هذه الدول التي وجد فيها المصلحون؟!! إن وجود هؤلاء المصلحين في أمة أو في دولة هو علامة على بقائها.(54/29)
صلاح الأمم بوجود المصلحين وهلاكها بفقدهم
إنّ المصلحين إذا فُقدوا من الأرض، أو تهاونوا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإن الجو يخلو للمفسدين ليعثوا في الأرض فساداً، وإذا كان الأمر كذلك فإنه بداية النهاية، وهو سبب دمار العالم، ولذلك نقول للناس: اتقوا الله وكونوا من المصلحين، ونقول: إن الله تعالى مدح المصلحين ولم يمدح الصالحين، فالصالح بنفسه الذي لا يصلح أوضاع الناس قد لا يخلص نفسه من عذاب الله عز وجل، فضلاً أن يخلص غيره؛ لأن الله تعالى يقول: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:117]، فكون أهلها صالحين لا يكفي، بل لابد أن يكون أهلها مصلحين، فإذا وجد المصلحون فهم علامة بقاء هذه الأمة، ومع ذلك فإني أعجب كل العجب كيف يكافَح المصلحون في الأرض؟! وكيف توجه لهم التهم؟! وكيف يوجه لهم الأذى؟! وكيف تشل حركة الدعوة إلى الله؟! وكيف تشل حركة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهم سبب بقاء هذا العالم؟!! واعلم أنه بمقدار ما يكون في الأمة من المصلحين يكون نصيبها من الخلود والبقاء في الأرض، ونقصد بالخلود طول العمر، وبمقدار ما يُفْقَدُ هؤلاء المصلحون تكون هذه الأمة هينة، ولا يبالي الله عز وجل بها أبداً، وتسقط من عين الله تعالى.
أسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم من المصلحين، وأن يوفق للأمة الإسلامية قادة رشداء، وأن يهيئ لها أمراً رشيداً يعز فيه أهل طاعته، ويذل فيه أهل معصيته، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، وأن يجعل ولاة أمرنا وولاة أمر المسلمين كافة من الذين قال فيهم: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:41].
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(54/30)
فاستمسك بالذي أوحي إليك
القرآن الكريم فيه صلاح الفرد والمجتمع، وفيه صلاح البشرية جمعاء، من تمسك به ساد، ودانت له العباد والبلاد، ومن حكم به عدل، ومن قال به سُمع لقوله، ومن تخلق به كُسيَ ثوب المهابة والوقار، وانصرف عنه كل شر وعار، به تُنقذ البشرية من الضياع والضلال، ومن التنازع والاقتتال، ومن كل سوء ووبال، وبه تنشرح الصدور، وتمتلئ بالفرح والحبور، وتزول عنها الهموم والغموم، ولا يقربها الشيطان المرجوم؛ فيجب على أمة الإسلام أن تتمسك به، وأن تعض عليه بالنواجذ، وأن تسعى جاهدةً في أن تسقي بقية الأمم الأخرى من هذا المعين الصافي.(55/1)
أمر الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ولأمته بالاستمساك بالقرآن
نحمد الله تعالى ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونثني عليه الخير كله، ونشكره ولا نكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله ومن دعا بدعوته وعمل بسنته ونصح لأمته إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن الحديث في هذه الليلة عن عظمة هذا القرآن العظيم الذي أنزله الله تعالى حجة لهذه الأمة أو حجة عليها، والله تعالى يقول: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف:43 - 44].
أما قوله تعالى: (فَاسْتَمْسِكْ) فإنه يختلف عن قوله تعالى: فأمسك؛ لأن الإمساك أقل من الاستمساك، والاستمساك معناه: العض عليه بالنواجذ، وأخذه بقوة، كما قال تعالى: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:12].
والله عز وجل أمر الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، وأمر هذه الأمة عامة أن تستمسك بهذا القرآن، وأن تعض عليه بالنواجذ، وأن تحمله حملاً يختلف عن حمل اليهود والنصارى للتوراة والإنجيل؛ ذلك أن هذا القرآن العظيم هو خاتم الكتب السماوية، وأن حامله محمداً صلى الله عليه وسلم هو آخر الأنبياء وخاتم الأنبياء، وأن أمة القرآن هي آخر الأمم، فهي مسئولة عن حمل هذا القرآن وتبليغه للعالم أجمع في أرجاء الدنيا، وذلك جيلاً بعد جيل.
إذاً: هي مسئولية عظيمة، فيلزم هذه الأمة أن تستمسك به استمساكاً قوياً متيناً؛ حتى لا ينفلت منها.
والصراط المستقيم في قوله تعالى: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) هو الطريق الذي لا انحراف فيه ولا اعوجاج، فدين الإسلام صراط مستقيم يبدأ في الدنيا، وينتهي في الجنة، كما قال سبحانه وتعالى عنه: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153].
وأنت يا أخي المسلم! في كل ركعة من صلواتك الخمس ونوافلك تسأل الله عز وجل أن يهديك هذا الصراط المستقيم الذي هو طريق الإسلام، وهو الطريق الذي يوصل إلى الجنة، فتقول في كل ركعة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:6 - 7] وهم المسلمون، أي: ليس بصراط اليهود المغضوب عليهم، ولا النصارى الضالين.
إذاً: من استمسك بهذا القرآن فهو على صراط مستقيم.(55/2)
القرآن الكريم شرف لهذه الأمة وتبليغه مسئوليتها
لقد بين الله عز وجل في الآية الثانية أن القرآن العظيم شرف لهذه الأمة من جانب، وهو -أيضاً- مسئولية عظيمة من الجانب الآخر فقال سبحانه وتعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف:44]، فهذه نعمة، أما المسئولية فبينها تعالى في قوله: {وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف:44].
والمراد (بالذكر) هنا: الشرف على أصح أقوال المفسرين، فهذا القرآن شرف لهذه الأمة.(55/3)
تشريف أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالإسلام والقرآن
كانت هذه الأمة قبل هذا الكتاب العظيم أمة تعيش في غي وضلال، قد أهملها التاريخ، وانزوت بين جبال مكة ووهادها وفيما حولها إلى أن بُعث فيها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولما بعث محمد صلى الله عليه وسلم ودعا الناس إلى أن يقولوا: لا إله إلا الله، ظن العرب أنهم سوف يتخطفون من أرضهم، وأنهم سيكونون لقمة سائغة للعالم حينما يستقلون بهذا الدين الجديد: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} [القصص:57]، فإذا بهم يتخطفون من أرضهم ليكونوا قادة العالم، وذلك حينما أخذوا بهذا الدين، فكان فيهم من يرفع رأسه إلى السماء كـ هارون الرشيد ويخاطب السحابة وهو في بغداد ليقول لها: أيتها السحابة! أمطري أنى شئت، فسيأتيني خراجك ولو بعد حين.
وذلك لأن الأرض أصبح أكثر أهلها يعيش تحت ظل هذا الدين، وكان فيهم قتيبة بن مسلم القائد الأموي، فقد كان في بلاد ما وراء النهر يفتح البلاد، ويسأل قومه حين وقف على مشارف الصين: أي بلدة أمامنا؟ فيقولون له: يرحمك الله أيها القائد! هذه بلاد الصين، فيقول رحمة الله عليه: والله لا أرجع من هذه الأرض إلى بلدي حتى أطأ بأقدامي هذه أرض الصين، وأضع الوسام -يعني: وسام المسلمين- على الصينيين، وأفرض عليهم الجزية.
فوصل الخبر إلى ملك الصين فقال: قولوا لـ قتيبة يبقى في مكانه، ثم أرسل إليه بتربة أرض الصين وقال: هذه تربة الصين في صحاف من ذهب ليطأها قتيبة وهو في مكانه، وهؤلاء أربعة من أولادي يضع عليهم الوسام، وسام المسلمين، وهذه هي الجزية، وسوف تصل إليه في مكانه في كل عام.
هنا يتخطف المسلمون من أرضهم ليكونوا قادة العالم، وليقف عقبة بن نافع رحمة الله عليه وهو في بلاد شمال أفريقيا ينشر الإسلام، ويفتح البلاد، فوقف على حافة غابة القيروان -وهي غابة موحشة وأرض مسبعة- حين أراد أن يبني مدينة القيروان الحالية في تونس لتكون مركزاً للمسلمين في تلك البلاد، فقال له أهل البلاد: يرحمك الله يا عقبة! كل الفاتحين يرجعون دون هذه الغابة؛ لأنها أرض مسبعة، فقال: والله لا أرجع حتى أبني فيها مدينة تكون مقراً للمسلمين هنا، ثم وقف رحمة الله عليه على حافة الغابة وخاطب سباعها ووحوشها قائلاً: أيتها السباع! نحن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم جئنا هنا لنشر الإسلام، فقال شاهد عيان: والله لقد رأينا الوحوش تحمل أولادها من الغابة تخليها لـ عقبة بن نافع ليبني فيها مدينة القيروان.
ثم يواصل السير إلى أن يصل إلى بلاد المغرب، ثم إلى المحيط الأطلسي ليغرز قوائم فرسه في ماء المحيط ويقول: والله الذي لا إله غيره! لو أعلم أن وراء هذا الماء -أي: ماء المحيط الأطلسي- أقواماً لخضته على فرسي هذه إليهم.
هكذا حصل المسلمون على الشرف، والذين اعتنقوا هذا الدين أدركوا هذا الشرف الذي يقول الله عز وجل عنه: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف:44] أي: شرف، ولذلك فإن الله عز وجل أكرم من أكرم من صناديد العرب وغيرهم بهذا الدين، ونقلهم نقلة عظيمة من عالم إلى عالم أعظم، فأصبح أهل مكة وأهل المدينة وأصبح العرب بصفة عامة هم قادة العالم، وهذا من الشرف الذي أكرم الله عز وجل به هذه الأمة حينما أخذت بهذا الدين، ثم ما زال هذا الشرف تتوارثه أجيال إثر أجيال في هذا العالم وعلى هذا الكوكب، حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ولا تزال أمة إثر أمة تملك زمام الأمور، وتستقر لها الأوضاع، وتسود العالم، وتثبت عروشها بمقدار ما تأخذ من هذا الدين، وبمقدار ما تتمسك به، وبمقدار ما تستنير به من نهج كتاب الله عز وجل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
هذا الشرف وهذا الذكر الذي أشار الله عز وجل إليه في هذه الآية ليس لجيل من الأجيال، ولا لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فحسب؛ بل هو شرف وذكر لكل من رفع راية الإسلام، واستنار بنور القرآن.(55/4)
مسئولية تبليغ هذا الدين إلى جميع الأمم
وكما أن هذا الدين شرف فهو أيضاً مسئولية، فإن الله عز وجل قد شرف العرب داخل الجزيرة العربية وخارجها بهذا القرآن، وهو أيضاً قد حملها مسئولية لم تتحملها أمة من الأمم قبل هذه الأمة، ولذلك يقول الله تبارك وتعالى عن هذه المسئولية: {وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف:44]، وقال في سورة آل عمران: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] أي: كما أُخرج اليهود والنصارى والأمم قبلهم لأنفسهم؛ فإن هذه الأمة أخرجت للناس ولم تخرج لنفسها فحسب، ولذلك فإن مسئوليتها عظيمة جداً أمام الله عز وجل يوم القيامة، فليعِ كل مسلم -حسب موقعه في هذه الحياة، وحسب قدرته وإمكانياته- عظمة المسئولية (وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ).
ولربما تسأل الأمم قبل الأنبياء، بل لابد من ذلك؛ لأن الله تعالى قدم سؤال الأمم على سؤال الأنبياء فقال سبحانه وتعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ} أي: الأمم {وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف:6]، فكما أن المرسلين تحملوا مسئولية، فإن الأمم أيضاً تتحمل مسئولية لاسيما في أمة الإسلام التي يقول الله عز وجل عنها: {أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]، فهي لم تخرج لنفسها وإنما أخرجت للناس.
وأيضاً: فإن أمة الإسلام قد أعطيت من الميزات ما لم تعطه أمة من الأمم، فهي آخر الأمم، ونبيها محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء، وهو عليه الصلاة والسلام أول من يأخذ بحلقة الجنة، وأمته أكثر الأمم دخولاً الجنة، وهو عليه الصلاة والسلام خاتم النبيين؛ فلا نبي بعده، وأعطي خمساً لم تعطها أمة من الأمم، كما أشار إلى ذلك صلى الله عليه وسلم في قوله: (أعطيت خمساً لم تعطها أمة قبلي).
وعلى هذا فإن مسئولية هذه الأمة عظيمة، وكما أخبر الله تبارك وتعالى في القرآن أنها أمة مشرفة، وأمة مكرمة؛ أخبر كذلك أنها أمة ذات مسئولية كبيرة، وذات عبء ثقيل، وهذه المسئولية سوف يسأل عنها كل واحد حسب موقعه في هذه الحياة: الملوك والقادة والرؤساء عليهم مسئولية؛ لأن الله تعالى يقول: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:41]، ومن دونهم ممن يتحملون مسئولية الأمم هم أيضاً يتحملون هذه المسئولية، وهم داخلون في قوله تعالى: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ) بمقدار ما لهم من السلطة، وأنا وأنت يا أخي! وكل واحد من المسلمين أيضاً على ثغر من ثغور الإسلام؛ لأن أي أحد منا يؤمن إيماناً لا يخالطه شك أنه لن يبعث في هذه الأمة نبي بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولن ينزل عليها كتاب بعد القرآن، ولن تنزل عليها ملائكة من السماء تدعو إلى الله عز وجل، ولكنها المسئولية التي أحيطت بعنق كل واحد منا: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ} [الحج:78]، {وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف:44].
إن الذين يموتون على الكفر في أيامنا الحاضرة سوف نسأل عنهم بين يدي الله عز وجل؛ لأن الله تعالى يقول: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، ولن يبعث رسول بعده صلى الله عليه وسلم، ولكن أمته هي التي تحمل هذه الرسالة، فهؤلاء سلفنا الصالح من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغ عددهم مئات الآلاف، وكان عدد الذين حجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع مائة ألف وأربعة عشر ألفاً، ومع ذلك لا نجد قبورهم في مكة والمدينة إلا قليلاً، فأين قبورهم؟ لقد تفرقت قبورهم في الأرض؛ لأنهم خرجوا يرفعون راية الإسلام وينشرون هذا الدين، ويبينون للناس طريق الجنة، ولذلك فإن قبورهم في كل مكان من الأرض، ثم بعد ذلك ارتفعت راية الإسلام بفضل الله عز وجل، ثم بسبب جهود سلفنا الصالح رضي الله عنهم الذين حثوا الخطى، وضربوا آباط الإبل حتى نشروا الإسلام في هذه الأرض، ودخل الناس في دين الله أفواجاً.
هذه مسئولية يجب أن يفهمها كل الناس حتى يكون هناك شعور بالواجب.(55/5)
آثار غفلة المسلمين عن دين الله عز وجل
لقد غفل الناس كثيراً في أيامنا الحاضرة عن دين الله عز جل، ثم كان لهذه الغفلة آثارها الخطيرة والتي منها:(55/6)
ظهور الوثنية من جديد في بلاد الإسلام
انتشار الشر والوثنية في بلاد المسلمين، وحصل مروق من الدين في طائفة من المسلمين، ولقد كانت عبادة الأوثان في يوم من الأيام في أوج انتشارها، ومع ذلك لم تزد الأصنام عن ستين وثلاثمائة صنماً فقط، وقد كسرها حبيبنا صلى الله عليه وسلم بسيفه يوم الفتح حينما دخل مكة فاتحاً وهو يتلو قول الله تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} [الإسراء:81]، وهذا أرقى وأبعد ما وصلت إليه الوثنية في آخر أيامها، ولكن في أيامنا الحاضرة تقول الإحصائيات الرسمية: إن في العالم الإسلامي اليوم أكثر من عشرين ألف ضريح تعبد من دون الله، وهذه الأضرحة هي عبارة عن قبور لأولياء صالحين أو غيرهم تنصب فوقها الأضرحة التي تناطح السحاب، ثم يأتي ضعاف الإيمان والعقول يتمسحون بها، ويطوفون بها، ويذبحون لها الذبائح، ويتقربون إليها بالقرابين، حتى لقد رأينا بعضاً منها يطوف حوله أقوام كثر، ولا يسمح في بعض الأحيان والمناسبات للطائفين حولها إلا بشوط واحد فقط بسبب كثرة الزحام!! والمسلمون في غفلة عما يحدث في هذا العالم، وبلدنا هذه -والحمد لله- أرض التوحيد والعقيدة، وأرض الوحي، والأرض التي عاش فيها خير البرية محمد صلى الله عليه وسلم، قد حفظها الله عز وجل من هذه الأمور، ولكن أين المسئولية التي يقول الله عز وجل عنها: {وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف:44]؟ ولو انطلق أهل هذه البلاد -أرض التوحيد والعقيدة والإيمان والنور- إلى أرجاء العالم يبلغون دعوة الله تعالى، وينشرون دين التوحيد مرة أخرى من جديد؛ لما كان يوجد في العالم عشرون ألف ضريح تعبد من دون الله تعالى (وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ).(55/7)
خروج المستضعفين من المسلمين من دين الله
هنالك أمم في الأدغال، وفي الغابات، وفي مخيمات المهاجرين المسلمين الضعفاء، يكفرون وينصرون ويمرقون من دينهم على أيدي المنصرين، والمسلمون كثير منهم في نوم عميق، يتفننون في بناء المساكن واقتناء المراكب الوثيرة والمتاع القليل، وأمم كثيرة تموت على الكفر، وأمم أخرى تمرق من الدين بسبب التنصير، حتى إنه في دولة إسلامية يسكنها ما يزيد عن مائة وستين مليوناً من المسلمين، نقص منهم ما يزيد على اثني عشر مليوناً الله أعلم بمصيرهم، ولربما أن كثيراً منهم قد ارتد عن الإسلام، وما ذاك إلا بسبب غفلة المسلمين عنهم، وعدم الشعور بالمسئولية تجاههم.
أما أعداء الإسلام فعلى الرغم من أنهم لم يتحملوا هذه المسئولية، إلا أنهم يحثون الخطى في أرض المسلمين لينصروا المسلمين، حتى لقد رأينا في دولة إندونيسيا وحدها -وهي الدولة المسلمة التي يوجد فيها أكثر عدد من المسلمين- أكثر من مائة مطار للتنصير، وما يزيد عن مائة وخمسين طائرة مجهزة بكل الوسائل؛ وذلك لدعوة المسلمين إلى النصرانية.
إذاً: لا تعجب من أن يتنصر فيها ما يزيد عن اثني عشر مليوناً من المسلمين، ويتركوا دينهم.
فالمسئولية كبيرة، وحمل هذا القرآن في مجاهل أفريقيا وفي العالم كله هي مسئولية العلماء والدول الإسلامية، وكل من يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله.(55/8)
القرآن الكريم شرف ومسئولية
أيها الأخ الكريم! لقد أخبر الله تعالى أن القرآن شرف، وأخبر أيضاً بأنه مسئولية عظيمة تحملها هذه الأمة، وسوف تسأل عنها يوم القيامة، فما موقفي وموقفك يا أخي المسلم! بين يدي الله عز وجل يوم القيامة حينما يحضر الملايين من البشر ممن مات على غير ملة التوحيد والإسلام، فيقولون: يا رب! ما جاءنا من بشير ولا نذير، فيسأل الله عز وجل هذه الأمة: هل بلغتم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم إلى هذا العالم؟
و
الجواب
أن كثيراً منهم لم يقم بهذا الدور، حتى أصبح المسلمون يعيشون في فتنة في كل العالم الإسلامي، وأصبحت للمسلمين في كل أرض قضية ومشكلة، وبلغ عدد المهاجرين من ديارهم عشرات الملايين، وعدد الذين يهددهم الجوع والفقر والمسغبة من المسلمين مئات الملايين، والمسلمون -والحمد لله- يملكون أكبر ثروة موجودة على وجه الأرض، هذه الثروات التي هي أيضاً مسئولية ثانية سوف نسأل عنها بين يدي الله عز وجل يوم القيامة.
إذاً: يا أخي المسلم! كما أن القرآن شرف لي ولك وللعالم كله، وبصفة خاصة للذين أنزله الله عز وجل بلغتهم فقال سبحانه وتعالى {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:195]، وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم:4] أي: بلغة قومه ليبين لهم، فشرفنا الله عز وجل نحن العرب بصفة عامة، وأهل الجزيرة بصفة خاصة، بأن أنزل القرآن بلغتنا، فأصبحنا نفهمه فهماً جيداً دون كلفة أو مشقة، فهو أيضاً مسئولية حملنا الله أمر تبليغها؛ حتى يفهم العالم كله هذا الدين.
واعلم أن ما يحدث من عداء لهذا الدين من قِبَل أعداء الإسلام إنما هو بسبب تفريط هذه الأمة، وضعفها في تبليغ هذه الرسالة.
أيها الإخوة الكرام! إن هذا القرآن العظيم قد أعجز الله فيه أرباب البلاغة والفصاحة، ولو ترجمناه -أي: نقلناه- بلغات هذا العالم، وفهم الآخرون حقيقته؛ لما وجدنا من يعادي هذا الدين؛ لأنه دين يوافق الفطرة، ودين لا يقبل الله عز وجل يوم القيامة سواه، ولو أفهمنا هذا العالم حقيقة هذا الدين، وعلمناهم هذا الكتاب العظيم الذي أنزل علينا وعليهم، ومنهج الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، وعلم العالمون كلهم أن محمداً عليه الصلاة والسلام إنما هو رحمة لكل العالم كما قال الله عز وجل عنه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]؛ لأنه ينقذهم من النار ويدخلهم الجنة، لو علم العالم هذه الحقيقة لما انتفخ الكفر في أيامنا الحاضرة، ولما شعر المسلمون في كثير من أرجاء هذا العالم بالضعف والذلة.
ولا أزال أتذكر كلمة لأخٍ لنا في الإسلام، وهو أمريكي، كان يتحدث في أحد المساجد ذات يوم، فكان يخاطب الحاضرين ويقول لهم: السلام عليكم أيها الظالمون! أنتم ظلمة أيها المسلمون.
ويقول: نحن الأمريكان صنعنا الطيارة والسيارة، وصنعنا الثلاجة والغسالة وجميع وسائل الراحة، وأرسلناها لكم؛ لأنها كل ما نملك، وهي ثروتنا، ولربما تتمتعون بها أكثر مما نتمتع بها نحن، أما أنتم أيها المسلمون! فلديكم الإسلام منذ أربعة عشر قرناً من الزمان، وفيكم بعث محمد صلى الله عليه وسلم، وما بلغتمونا دعوة الإسلام في أمريكا، ولقد مات أبي وجدي وأمي وجدتي وكثير من الناس على غير الملة، إذاً أنتم ظلمتمونا حينما لم تبلغونا دعوة الإسلام.
ثم يستطرد هذا الأخ الكريم ويقول: بلغونا دعوة الإسلام، فليس الإسلام ملكاً لكم أيها العرب -أو أيها المسلمون- ولكنه للعالم كله، فبلغوا دعوة الإسلام في بلادنا، ثم قال بعد ذلك: قفوا! نحن لا نحتاج إلى تبليغكم، فإن الإسلام ينتشر عندنا في أمريكا أكثر مما ينتشر في البلاد الأخرى؛ لأن الأمريكان يقول: بدءوا يتعقلون ويفكرون في الأمور، فصاروا يدخلون في دين الله، حتى بلغ عدد المسلمين في أمريكا أكثر من عشرين مليوناً في أيامنا الحاضرة، ثم قال: نريد منكم شيئاً واحداً فقط، وهو ألا تكون هناك ازدواجية في بلادنا بسببكم، فنحن بدأنا ننشر الإسلام في أمريكا ونقول: إن الإسلام يحرم الخمر والزنا والخنزير وكل المحرمات، فيرون بعض أبنائكم الذين جاءوا من بلاد العرب يفعلون هذه الأشياء، فلا يصدقوننا في أن الإسلام يحرم هذه الأشياء، فامنعوا عنا أبناءكم؛ فإن ذلك أفضل دعوة تقدمونها لنا.
هكذا يتحدث هذا الأخ الكريم، نسأل الله لنا وله الثبات ولأمة الإسلام كلها.(55/9)
وجوب التضحية والجهاد في سبيل تبليغ هذا الدين
أيها الأخ الكريم! إن تبليغ دعوة الإسلام شرف من جانب، ومسئولية من الجانب الأخر، وهذه المسئولية ثقيلة؛ لأن لها متطلبات، فهي تحتاج إلى سفر طويل وصبر ومصابرة، وتحتاج إلى جهود مضنية، كما أنها قد تضطر المسلمين في يوم من الأيام إلى الجهاد في سبيل الله، وإلى الوفاء بالبيعة التي أبرمها المسلم المؤمن مع الله عز وجل في سورة التوبة، في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} [التوبة:111].
فهي يا أخي الكريم! مسئولية عظيمة تنتهي بأن تقدم نفسك ومالك ودمك من أجل هذا الدين، وفاء بالبيعة التي أبرمتها مع الله عز وجل في التوراة والإنجيل والقرآن، أي: في كل الكتب السماوية صُدِّقت هذه البيعة، فأصبحت أمراً لا بد منه، لا سيما في مثل هذه الظروف التي نعيشها، والتي لا أعتقد أنه مرّ في تاريخ البشرية أقسى منها على الأمة الإسلامية عبر التاريخ الطويل، وسوف أذكر لكم بعض الأمثلة: هل تصدق يا أخي! أن بعض الأيام تمر -بل أكثر الأيام- ويقتل في بلاد إسلامية صغيرة كطاجاكستان أكثر من عشرة آلاف مسلم! ويفعل مثل هذا العمل أو أكثر منه -مع انتهاك الأعراض وامتهان الأمة الإسلامية- في البوسنة والهرسك! وهل تصدق يا أخي! أن المسلمين في جنوب الفلبين يزيدون على ثلاثة عشر مليوناً، ورغم ذلك فلا أعتقد أن أحداً -إلا الندرة القليلة- يعرف شيئاً من أوضاعهم، أو فكر في زيارتهم ومواساتهم، علماً بأنهم يطبقون تعاليم الإسلام كاملة غير منقوصة في كثير من أحيانهم، ومع ذلك فإنهم مطوقون في تلك المنطقة بأكثر من مائة ألف صليبي حاقد على الإسلام.
وتعال معي إلى ما يحدث في كشمير وفي الحبشة وفي إريتريا وفي فلسطين وفي كل مكان من الأرض، والمسلمون في غفلة، والله تعالى يقول: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ} [النساء:75]، فالقتال في سبيل المستضعفين من المسلمين أمر كالقتال في سبيل الله؛ لأن الله عز وجل أمرنا بأن ندافع عن المستضعفين والمستذلين في الأرض من أبناء هذه الأمة، فهو أمر مطلوب كالجهاد في سبيل الله، فكما أنك مطالب بأن تفتح الطريق، وتزيل العقبات من طريق هذه الأمة إلى الله عز وجل وإلى دينها، وتقدم النفس والمال والروح من أجل أن ينتشر وينتصر هذا الدين؛ فأنت أيضاً مطالب بالدفاع عن الأمة المسلمة المستضعفة التي استرخص الآخرون دمها في أيامنا الحاضرة، بينما لو اعتدى إنسان على يهودي أو نصراني في أي مكان من الأرض لقامت الدنيا ولم تقعد، ولعلكم تعرفون سبب دخول الاستعمار الإنجليزي حينما دخل إلى مصر، فقد كان سببه: أن رجلاً إنجليزياً كان يصطاد، فلحقه الفلاحون دفاعاً عن مزارعهم، فهرب وهلك في الصحراء، فكان ذلك سبباً في دخول الاستعمار الإنجليزي الذي أهلك مصر إهلاكاً لمدة طويلة من الزمن؛ لأن رجلاً إنجليزياً واحداً مات من حر الشمس حينما هرب من الفلاحين الذين طاردوه دفاعاً عن مزارعهم.
ومكث الاستعمار الإنجليزي مدة طويلة أذل فيها مصر المسلمة، وغير فيها كثيراً من مجرى تاريخها، من أجل رجل واحد! فمن للملايين من المسلمين الذين يموتون اليوم؟! فقد مات ملايين المسلمين على أيدي الشيوعيين الحاقدين في روسيا أيام الحكم الشيوعي للبلاد الإسلامية فيما يسمى بآسيا الوسطى، وما زالت المجازر بعشرات الآلاف يومياً في بلاد المسلمين على أيدي الجيش الروسي الحاقد إلى يومنا هذا! وفي إريتريا قتل في يوم واحد عشرة آلاف من المسلمين، ولو قتل في ذلك اليوم عشرة آلاف كلب، أو عشرة آلاف قط لقامت جمعية الرفق بالحيوان تحتج على ذلك؛ بل لو قتل يهودي واحد أو نصراني واحد لكان ما كان.
إذاً: فالمسئولية عظيمة، وهي تبدأ من التربية والدعوة إلى الله، وتنتهي بالجهاد في سبيل الله الذي هو ذروة سنام الإسلام، كما أخبر الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام.(55/10)
نصر الله تعالى لعباده كائن لا محالة
أيها الأخ الكريم! إن هذا القرآن يطالبك أن تفي بالبيعة التي بينك وبين الله عز وجل، وحينئذ تكون من المؤمنين؛ لأن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم، و (ال) هنا للاستغراق، وليست لنوع واحد من المؤمنين، وإنما هي لجميع المؤمنين، فكل من آمن بالله عز وجل سوف يتحمل مسئولية هذه البيعة، وسوف يطالب بالوفاء بهذه البيعة، هذا جانب يجب أن نفهمه حتى لا نظن أن الدين سهل ميسر؛ بل هو سهل ميسر في الحقيقة ولكنه يحتاج إلى جهد، وإلى بذل للطاقة؛ لأنه دين عزيز على كل واحد من المسلمين؛ ولذلك أخبر الله تعالى في هذا القرآن أن طريق الجنة طريق وعرة، وأن فيها عقبات وزلازل وخوفاً وذعراً، وأن فيها اضطراباً، حتى قال الرسول: (مَتَى نَصْرُ اللَّهِ)؟! وحتى قال المؤمنون أيضاً: (مَتَى نَصْرُ اللَّهِ)؟! وكما قال سبحانه وتعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} [البقرة:214].
فإذا وصل الأمر إلى هذا الحد جاء نصر الله، قال الله عز وجل: {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214]، حتى لا ييأس المؤمنون من نصر الله سبحانه وتعالى.(55/11)
لابد من ظهور هذا الدين مهما حاربه الأعداء
إن هذا الدين لابد أن يظهر رغم أنف كل حاقد، ولو نام المسلمون أجمعون عن هذا الدين لأتى الله عز وجل بأقوام يرفعون راية الإسلام، ولذلك يقول الله عز وجل: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة:33]، والمراد بالدين هنا كل المعتقدات، ويقول عليه الصلاة والسلام: (حتى لا يبقى بيت شعر ولا مدر إلا أدخله الله عز وجل هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز به أهل طاعته، وذلاً يذل به أهل معصيته).
ولذلك نرى في وقتٍ تكالب فيه الأعداء على الأمة الإسلامية من كل جانب، وأحيطت الأمة الإسلامية بكل عدو، بل وتحرك الأعداء من الداخل كما تحرك الأعداء من الخارج، وتحرك الأعداء من أبناء الأمة ممن مرق من الدين وهو يحسب على الإسلام، ويحمل الهوية الإسلامية، وينطق باللغة العربية! فبدءوا ينخرون في هذا الدين، ويخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي الكافرين! وبالرغم من ذلك كله، وبالرغم من اتحاد العالم كله حول راية واحدة لمحاربة هذا الدين؛ يظهر هذا الدين بقدرة قادر سبحانه وتعالى! مما يدل على أصالة هذا الدين، ومما يدل على أن هذا الدين سوف يظهر ويؤكده قول الله عز وجل: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة:33].
فنرى الصحوة الإسلامية قد انتشرت، وليس الأمر كما يقول أعداء الإسلام: إنها جاءت في غير موعدها؛ بل نحن متأكدون أنها جاءت في موعدها المحدد؛ لأن الله تعالى يقول: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140]، فبالرغم من أن العالم كله يتكالب على الأمة الإسلامية رأينا الإسلام يظهر في أيامنا الحاضرة والحمد لله، والشباب يقبلون على هذا الدين، والصحوة الإسلامية العارمة تظهر يوماً بعد يوم رغم أنوف الحاقدين، وتزيد وتتضخم، ويصلب عودها، وتقوى قاعدتها وتتسع والحمد لله، بالرغم من أن هناك أقواماً كانوا يظنون أنها فترة وجيزة حتى يستنفد الدين أغراضه ويخلو المكان -كما يعتقد هؤلاء الذين في قلوبهم مرض- لملة أخرى.
إن الشيوعية التي حكمت كثيراً من العالم ثلاثة أرباع قرن من الزمان سقطت في لحظة واحدة؛ لأن الله عز وجل يقول: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ} [الأنبياء:18].(55/12)
شمولية دين الإسلام لكل مناحي الحياة
إن هذا الدين الذي شرفك الله به يا أخي! وذلك القرآن الذي أكرمني وأكرمك الله عز وجل به مسئولية عظيمة، فلا تظنن أنه منهج عبادة فحسب؛ بل هو في كل شيء، كما قال عز وجل: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89]، وقال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38].
إذاً: حينما يقول لك أعداء الإسلام: دع ما لله لله، وما لقيصر لقيصر!! فقل لهم: كذبتم؛ بل لله ما في السماوات والأرض، وهذا الدين منهج حياة كاملة، وجاء هذا القرآن ليهدي البشرية إلى ما فيه صلاح دينها ودنياها، ولذلك أشرنا آنفاً كيف تطور العالم حينما أخذ بهذا الدين، فصار الجيش الإسلامي ينصر بالرعب مسيرة شهر، وكانت الحصون تتساقط وتندك حينما تقبل عليها جيوش الأمة الإسلامية التي هتافها: الله أكبر، ولله الحمد.
فهذا الدين منهج حياة متكامل، نعمت به البشرية عبر القرون الماضية في ظل الدول الإسلامية التي تمسكت به، فكانت لها القيادة والسيادة والسلطة على العالم، وكان الناس يأتون إليها يبايعونها على الإسلام، ويدخلون في دين الله أفواجاً.
فهو منهج حياة متكامل لا يفرق بين العبادة والمعاملة والسلوك والأخلاق، لا كما يقول العلمانيون عليهم لعنة الله إلى يوم القيامة: إنما هو منهج عبادة فقط ولا يتدخل في شئون الحياة الأخرى؛ لا نظام الحكم، ولا الأنظمة الاقتصادية، ولا السلوك والأخلاق، ولا غير ذلك، إنما هو عبادة، فإذا أردت هذا الدين فعليك أن تبحث عنه في المسجد، وليس لك أن تبحث عنه في مجلس الشورى -كما يقولون- أو في البرلمان، أو في مجلس الأمة!! ويا ليتهم تركوا هذا الدين في المسجد غير مطارد! ولكنهم يطاردونه ويتابعونه في المسجد، وتحصى فيه أنفاس الدعاة والمصلحين في جل العالم الإسلامي.
إذاً: هم لم يعطوه الحرية حتى في المسجد، ولو أعطوه الحرية في المسجد لاستطاع أن ينقل الناس من الركود إلى الخير والسعادة، وإلى جنة عرضها السماوات والأرض، ولكنه سوف يحقق ذلك بإذن الله عز وجل رغم أنوف الحاقدين.(55/13)
لا فرق بين العبادات والمعاملات في دين الإسلام
أيها الإخوة! إن هذا القرآن منهج حياة، فكما أنه يأمر بالصلاة والصيام والحج والزكاة والعبادة، فهو أيضاً ينظم الحياة الاجتماعية وفق منهج قويم متماسك، حتى رأينا بعض الآيات لا تفرق بين العبادة وبين التعامل الأسري، اقرأ إن شئت في سورة البقرة حينما تحدث الله عز وجل عن العلاقات الزوجية ثم قال بعدها: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ * فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة:238 - 239]، ثم عاد مرة أخرى بعد أن أدخل آيات العبادات بين آيات التعامل بين أفراد الأسرة، فتحدث عن العلاقات مرة أخرى فقال سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة:240].
إذاً: لا فرق بين آيات الصلاة وآيات المعاملة؛ بل إن هناك آية واحدة نزلت مرتين، فنزلت الآية التي في سورة المائدة تتحدث عن المحرمات، وهي قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:3]، هكذا نزلت الآية في أول الإسلام في بداية تشريع الأحكام، ثم نزل جزء آخر في حجة الوداع على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بعيره يقرر حقوق الإنسان، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر من الله عز وجل أن تشطر الآية السابقة وأن يدخل هذا الجزء في وسطها: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) فكان تتمة الآية: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:3].
ومن هنا فإننا نتأكد أن القرآن ليس منهج عبادة فحسب، وليس في المسجد فقط، ولكنه في المسجد والسوق والبرلمان ومجلس الوزراء والمحكمة والبيت، وفي كل حالة من حالات الإنسان، فهو تبيان لكل شيء كما أخبر سبحانه وتعالى.
إذاً: يا أخي الكريم! يجب أن نفهم هذه القضية؛ حتى لا نخدع في عصر الدعاية المسمومة، والأفكار المشبوهة، والحرب الباردة التي فشلت، ولكنها ما زالت تطارد المسلم في كل حالة من حالاته، وتريد منه أن يمرق وأن يخرج من دينه دين الإسلام، ولكن الله تعالى غالب على أمره.(55/14)
الحكم بما أنزل الله من دين الإسلام
ثم أيضاً يا أخي المسلم! يجب أن تفهم أن الإسلام الذي شرع الصلاة هو الذي أمر بالحكم بما أنزل الله عز وجل، لا فرق بين واحد منهما، فكما أن الصلاة -وهي الركن الأعظم بعد الشهادتين- من تركها فقد كفر، فكذلك {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]، لا فرق بين الأمرين.
فهو منهج حكم لهذه الحياة وهذه الأمة لا يمكن أن تنضبط ولا يمكن أن تنقاد إلا لحكم الله عز وجل، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47]، ولما جاء أقوام يحكمون شرع الله حسب مصالحهم، فإذا تعارض مع مصالحهم ضربوا بشرع الله عرض الحائط، قال الله عز وجل فيهم: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} * {وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} * {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [النور:48 - 50].(55/15)
أهل الأهواء والشهوات وموقفهم من أحكام الدين
إن المارقين اليوم من الإسلام يرفضون هذا الدين حينما يتعارض مع مصالحهم؛ لأن أهواءهم ومصالحهم التي تمليها عليهم الأهواء لا تقف عند حد ولا قيد، فهم يرفضون هذا الدين وهذا المنهج إذا تعارض مع مصالحهم، ولكن إذا كانت مصلحتهم من خلال هذا المنهج فإنهم يرجعون إليه، وسوف أضرب لكم أمثلة كثيرة وربما أنكم تعايشون كثيراً منها: فالعالم اليوم بأسره -إلا من حكم شرع الله- يرفض قتل القاتل، ويقول: هذا تخلف ورجعية ووحشية أن نقتل قاتلاً لنضيف إلى المقتول الأول مقتولاً ثانياً، لكن تعال معي يا أخي! حينما يريدون أن يثبتوا عرشاً لأحد منهم فإنهم يقتلون مئات البشر؛ بل ملايين البشر! وكم قتل في الحرب العالمية الأولى والثانية من البشر! فإن الدول التي تزعم أنها متحضرة، وتعتبر قتل القاتل تخلفاً، وأعظمها الدولة الكبيرة التي تفرض الآن سلطتها على العالم، فإنها في لحظة واحدة -منذ عشرات السنين قبل أن يتطور هذا العالم ويتوسع- قتلت ثمانين ألفاً من البشر الأبرياء في لحظة واحدة بالقنبلة الذرية التي ألقيت على اليابان، حتى غيرت تلك القنبلة كثيراً من معالم تلك الأرض التي سقطت عليها، لماذا هذا؟ لأنهم يريدون أن يفرضوا سلطتهم، لكن لو قيل: هذا زانٍ محصن أفسد الأعراض، ودمر الحرث والنسل، والله عز وجل أمر بقتله في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني) فإنهم يقولون: هذه وحشية، رجل فرغ شهوة من شهواته فقط، أتقبل بهذه الطريقة؟! وإذا ارتد رجل عن دينه ونريد أن نقيم عليه حد الردة لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه)، ولكن لا أرى في العالم الإسلامي -اللهم إلا النادر القليل- من يقيم حد الردة، فلو قيل: هذا مرتد، لقيل: أنتم تحاربون الحرية الشخصية وحرية الاعتقاد، بينما هم يقتلون -كما ترون وتسمعون- الآن ملايين البشر، ففي أفغانستان وحدها قتل في أيام الحكم الشيوعي ما يقرب من مليونين من المسلمين، مع أن هؤلاء لم يزنِ منهم واحد، ولم يقتل، ولم يرتد عن دينه، ولكنهم يقولون: ربنا الله، فأبيد هؤلاء من أجل أن تفرض الشيوعية في بلادهم.
فأي ذلك أعظم هذا أو قتل مرتد يريد أن يشوه هذا الدين بعد أن هداه الله عز وجل للفطرة، فأصبح حرباً على هذا الدين، وقد يكون من أبناء المسلمين؟! وبعد ذلك يقال: إن قتل هذا وحشية وتخلف، أما قتل الملايين من البشر في سبل أخرى غير سبيل هذا الدين فيعتبر تقدماً وتطوراً وإنسانية.
وكذلك قطع يد السارق، فالله تعالى يقول: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38]، ويأتي ذلك الرجل الكافر الملحد ويقول: إن الله يريد أن نقطع أيدي الشعب!! وما علم ذلك الملحد أن هذه اليد التي تقطع سوف تؤمن الناس على نفوسهم وعلى أموالهم مدة طويلة من الزمن، حتى قال أحد الكتاب المسلمين: إن أربع أيد قطعت في العالم الإسلامي منذ بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى نهاية القرن الرابع الهجري، وفي العالم الإسلامي كله على امتداده من الصين شرقاً إلى المحيط الأطلسي غرباً، وتصور يا أخي! الأربع الأيدي هذه كم أمنت العالم الإسلامي في أرجائه المتباعدة على نفسه وعلى ماله وعلى أعراضه، وهكذا فقس.(55/16)
دين الإسلام أمان للبشرية
إذاً: نقول: هذا الدين هو أيضاً منهج أمنٍ لهذه الأمة، وحينما يجلد شارب الخمر إنما يحافظ على الأمن وعلى العقول، وحينما يجلد الزاني إنما يحافظ على الأعراض وعلى الأنساب، وحينما يجلد القاذف إنما يحافظ على السمعة، وحتى لا تكون الفاحشة ألعوبة يتحدث بها كل الناس بدون دليل، وحينما يقتل المرتد إنما يحافظ على المعتقدات حتى لا تتخذ لعبة، ولذلك فالإسلام يعطي غير المسلم حرية التفكير ليختار هذا الدين الجديد العظيم، لكنه حينما يدخل في هذا الإسلام ثم يريد أن يخرج منه نقول له: (من بدل دينه فاقتلوه).
وهكذا نجد أن الإسلام يؤمن هذا الإنسان على حياته وعلى عقله وعلى جسده وعلى سمعته وعلى معتقده وعلى ماله، قال الله عز وجل: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة:33] إنما يريد الله عز وجل بذلك -والله أعلم بمراده- أن يؤمن هذه الأمة حتى تنطلق في هذه الأرض لا تخشى إلا الله عز وجل؛ ولذلك أمر بعقوبة المحاربين وهكذا.
إن البشرية جميعاً بحاجة إلى هذا القرآن لتحكمه من أجل أن تأمن وتطمئن، والعالم الذي قدم أكثر من ثلاثين مليوناً من البشر في الحربين العالميتين يريد أن يؤمن نفسه، ومع ذلك لم يستطع أن يحقق لنفسه الأمن، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم حينما دعا إلى هذا الدين في أرجاء هذا العالم إنما أراد الأمان لهذا العالم، ولذلك الله تعالى يقول: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55]، وقوله تعالى: (فِي الأَرْضِ) أي: في كل الأرض، ولذلك يقول خباب بن الأرت رضي الله عنه: جئنا ذات يوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة وهو متوسد بردة له تحت الكعبة نائم، فأيقظه الصحابة رضي الله عنهم وقالوا: (يا رسول الله ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ -وهم يلقون ما يلقون من المشركين من الأذى- فجلس الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: لقد كان يؤتى بالرجل ممن كان قبلكم، فيحفر له في الأرض، فيوضع المنشار على مفرق رأسه، فيقسم إلى قسمين، ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه ما يصرفه ذلك عن دين الله، ووالله! ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم قوم تستعجلون).
إذاً: الأمن جاء مع هذا الدين، والأمم التي تبحث عن الأمن في وسائل الدمار لم تحقق الأمن لنفسها ولا لغيرها، والأمم التي تريد أن ينام الناس على اللهو واللعب وعلى المحرمات من أجل أن يتخدروا لا تستطيع أن تكون آمنة؛ لأن هذه الشعوب لربما تستيقظ في ساعة من الزمن ولكن على الجماجم والأشلاء.
فالأمن لا يتحقق إلا بتطبيق شرع الله عز وجل، وبتحكيم كتاب الله سبحانه وتعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولذلك يقول الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:179]، كان العرب يقولون في الجاهلية: القتل أنفى للقتل، وقال الله تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) أي: سعادة، فلو كان هناك رجل معتدٍ وقاتل ومتمرد، فهذا يقتل، وحينئذ تتحقق الحياة، وتحقق الرفاهية والأمن والطمأنينة لهذه الأمة.(55/17)
لا يمكن تحقق الانضباط للأمم إلا بالإسلام
وعلى هذا فنقول: إن هذه الأمة لا يمكن أن تنضبط إلا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن أراد أن يحكمها بغير شرع الله عز وجل فإنه سوف يحدث هذه الفوضى التي عمت أرجاء العالم اليوم، فأصبح التمرد والخروج على السلطات المنحرفة، والقتل والنهب والفوضى والاضطرابات، كلها بسبب إعراض هؤلاء الناس عن شرع الله عز وجل، ولذلك الله تعالى يقول: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه:123 - 124]، وذكر الله تعالى هو القرآن، {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124]، له معيشة ضنك في هذه الدنيا، ويوم القيامة يحشر أعمى، ويسحب على وجهه في النار، لماذا؟ لأنه أعرض عن ذكر الله عز وجل، ولذلك فإن المعيشة الضنك لا تحتاج إلى طويل بحث اليوم، ونحن نشاهدها في عالمنا اليوم قد عمت أرجاء العالم، فقامت الاضطرابات والفوضى والقتل والنهب والسلب، وهذا جزء من المعيشة الضنك، إضافة إلى ما صار يشعر به ذلك الإنسان البعيد عن الله عز وجل، وعن كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من ضيق النفس، والحرج والمشقة التي لا يجد لها علاجاً، ولكن علاجها: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9]، أي: السعادة في الدنيا، والفلاح في الآخرة.(55/18)
الإسلام منهج سياسة
إن هذا الدين منهج حكم، ومنهج حياة، ومنهج سياسة، وأي سياسة لا تقوم على هذا القرآن، ولا على هذا المنهج؛ فإنها سياسة ضالة، سياسة ممقوتة مرفوضة لا تصلح لقيادة هذه البشرية، ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى حكم بأنها معيشة ضنك؛ حتى يعود الناس كلهم إلى دين الله، وإلى المنهج الصحيح، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (تركت فيكم ما إن اعتصمتم به لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله، وسنتي)، ويقول عليه الصلاة والسلام: (ألا إنها ستكون فتن، ثم ألا إنها ستكون فتن، ثم ألا إنها ستكون فتن، قالوا: فما المخرج منها يا رسول الله؟! فقال: كتاب الله، وسنتي)، فهذا هو المخرج من هذه الفتن التي يقول عنها الرسول صلى الله عليه وسلم: (يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا).
فلو حكم الإسلام العالم كله لكان كل التعامل وفق شرع الله عز وجل كما جاء في القرآن العظيم، وفي سنة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، وما كان الناس يجدون الربا في بلادهم، ولا دور الربا التي أصبحت تناطح السحاب، وهي حرب لله عز وجل: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279] ثم التهديد {وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:275].(55/19)
الإسلام منهج إعلام مفيد هادف
ولو كان شرع الله يحكم هذا العالم ما رأينا هذا الإعلام الذي أصبح يصل إلى عقر بيوت المسلمين من خلال الأطباق المعلقة فوق المباني وغيرها لنرى زبالات ونفايات العالم.
فلو كانت هناك خشية لله عز وجل، وكان هذا القرآن هو الذي يحكم هذا العالم؛ لما رأينا المسلم يختلط بالكافر في كل أمر من أموره حتى لا تكاد -في كثير من بلاد المسلمين- أن تفرق بين المرأة المسلمة والمرأة الكافرة، زوجة المسلم وزوجة الكافر لا تكاد أن تفرق بينهما في كثير من الأحيان؛ بسبب التبرج والخلاعة وما أشبه ذلك من الأمور التي أحدثت خللاً في أخلاق الناس، وانتشرت الفواحش، وتلاها ظهور أمراض أصبحت تسابق الشمس على مطالعها في هذه الأرض، حتى سمعنا أن ملايين البشر أصيبوا بمرض الإيدز الذي يعتبر هلاكاً للعالم لو انتشر، نسأل الله العافية والسلامة.
وهذا بسبب ما أحدثه هؤلاء الناس، وبسبب ما أحدثه ذلك الإعلام المنحرف في بلاد المسلمين من الفساد والانحراف، كل ذلك يرجع إلى الإعراض عن هذا الشرف العظيم الذي يقول الله عز وجل فيه: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف:44].
وما يدريك يا أخي! لعلها المسئولية في الدنيا، والعقوبة التي دفع ثمنها كثير من المسلمين حينما تنكبوا عن شرع الله عز وجل.(55/20)
الإسلام منهج اقتصاد متكامل
إن هذا القرآن منهج حياة في الاقتصاد، يعلمنا كيف نكسب المال؛ فلا نكسبه من الغش، ولا نكسبه من الربا: {اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} [البقرة:278]، ولا نكسبه من الخداع، ولا نكسبه من أي طريق محرم.
وحينما نملَّك هذا المال نعتبره نعمة من نعم الله عز وجل سوف نسأل عنه يوم القيامة، فنؤدي حق هذا المال في الإنفاق، فلا نسرف {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان:67]، ثم نؤدي حقه من الزكاة {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة:34 - 35]، ثم أيضاً نعرف قدر هذا المال، وحق إخواننا المسلمين في العالم الذين يموت طائفة منهم جوعاً، وطائفة ترتد عن الإسلام بسبب المجاعات، وبسبب التضليل الذي يأتي بلقمة العيش وبالخبزة ويقدمها وعليها الصليب، وحينئذ يقدم دينه كله ذلك المسكين من المسلمين مقابل تلك اللقمة التي قدمت وقد رسم عليها الصليب، إذاً: هو مطالب بأن يرتد عن دينه مقابل ذلك، وكثير من المسلمين يملكون الثروة -والحمد لله- ولربما طائفة منهم لا يقدمون ما أوجب الله تعالى عليهم.(55/21)
وجوب تطبيق القرآن والعمل به في كل شئون الحياة
أيها الأخ الكريم! إن هذا القرآن هو مصدر سعادة البشرية، وشرف لكل عصر وفي كل جيل، ولذلك فإننا في عصرنا الحاضر، وفي عصورنا السابقة، لا يمكن أن ندرك الشرف، ولا يمكن أن ننال السعادة والحياة الطيبة في الدنيا والآخرة إلا بمقدار استمساكنا بهذا القرآن الذي أوحي إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.(55/22)
العمل بالقرآن في واقع النفس والأهل
وحينئذ على كل واحد منا أن يجسد هذا القرآن في واقعه وفي حياته، بحيث يبحث عن نفسه: ماذا أخذ من تعاليم هذا القرآن وماذا أبقى: صدق في المعاملة، وصدق في الحديث، وضبط للأمور كلها، وتطبيق كامل على النفس.
ثم أيضاً عليه أن ينظر مرة أخرى في واقع أهله وبيته؛ علهم أن يكونوا قد نسوا شيئاً من أوامر الله عز وجل التي هي شرف لهذا البيت، وما يدريك لعل هذه البيوت التي غرق بعضها في كثير مما حرم الله عز وجل، لربما أن ذلك أنساها كثيراً مما كلفها الله عز وجل به، فغفل كثير من الناس عن تربية الأبناء والأهل، ونسوا قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، حينئذ يلزم هذا الإنسان نفسه، ويعاهد ربه سبحانه وتعالى على أن يطهر هذا البيت وينقيه؛ حتى لا يتحمل غداً المسئولية الكبرى التي لا يستطيع أن يتحملها بين يدي الله عز وجل حينما يوقفه الابن، وتوقفه البنت والزوجة والأخت وسائر أفراد الأسرة على شفير جهنم بين يدي الله عز وجل: (قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا).(55/23)
تبليغ القرآن للمجتمع كله
وعلى المسلم -حينما يستنير بنور هذا القرآن، ويستظل بظله الوارف- أن يشعر بالمسئولية أيضاً تجاه المجتمع، وبواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحينئذ يشمر عن ساعد الجد؛ حتى لا تغرق السفينة التي تكاد الآن أن تغرق حينما تضربها الأمواج من كل جانب، والعالم كله -أسفل السفينة وأعلاها- عليه أن يقوم بدور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ استجابة لقول الله عز وجل: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104].
ثم حينما ينظر المسلم إلى دائرة أوسع، وإلى واجب أكبر، وهو ما فرضه الله عز وجل تجاه إخوانه المسلمين في العالم؛ فإنه يشمر عن ساعد الجد، فإن كان من أرباب العلم والمعرفة فعليه أن يبلغ الناس الدين الصحيح والعقيدة السليمة السلفية التي تركنا عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي المحجة البيضاء ليلها كنهارها، وحينئذ عليه أن يكون داعية خير، وإن كان من أصحاب السلطة والذين مكن الله عز وجل لهم في الأرض، فإن عليه أن يؤدي هذا الدور الذي يتناسب مع حاله ومركزه، وإن كان من عامة الناس، فإن الجهاد في سبيل الله عز وجل أمر باق ما بقيت السماوات والأرض حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ولا تزال طائفة على الحق ظاهرة حتى يأتي أمر الله.
أما الطريق فإن فيه عقبات، والمسلم لا يبالي، ومنهجه دائماً: فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضابُ وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خرابُ وهكذا يسير المسلم في طريقه إلى الله عز وجل لا يخشى على نفسه؛ لأن الآجال مقدرة من عند الله سبحانه وتعالى، ولا يخشى على ماله؛ لأن الله تعالى يقول: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود:6]، إنما هو أجل ومقدار للرزق، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها).
أخي المسلم! لابد من العودة إلى كتاب الله عز وجل عودة حميدة، ولابد من الاستمساك لا مطلق التمسك، فإن الإمساك يختلف عن الاستمساك، فلابد أن نأخذ هذا الكتاب بقوة، ولابد أن نطبقه في كل صغيرة وكبيرة من أمرنا {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلًا} [النساء:84].
وبعد: يقول الله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16]، نعم، لقد آن، بدليل قوله تعالى بعد ذلك: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الحديد:17]، فكما أن الله عز وجل يحيي الأرض بعد موتها فهو أيضاً يحيي القلوب بعد موتها وبعد غفلتها.
أقول قولي هذا، ولا أعلم أحداً منكم أكثر تقصيراً وإساءة مني، ولكني أستغفر الله لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(55/24)
الأسئلة(55/25)
دور المسلم تجاه المنكرات الموجودة وتجاه مخططات أعداء الإسلام
السؤال
ما هو دور الشاب المسلم منا ذي الإمكانيات المحدودة تجاه كثير من المنكرات حوله -أي: في إنكارها- من جنس وربا وضياع للأوقات وهكذا؟ وأيضاً ما هو دوره تجاه تخطيط الأعداء لتدمير الإسلام والمسلمين؟
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم، دور المسلم العاجز تجاه المنكرات الموجودة في بلاد المسلمين، ودور المسلم تجاه المخططات التي دبرت للأمة الإسلامية كالآتي: أما الأول: فإن الله تعالى يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، ويقول عليه الصلاة والسلام: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان).
إذاً: فالمجال مفتوح حسب الاستطاعة، لا حسب الرغبة، وقد يكون عند الإنسان استطاعة ولكنه لا رغبة عنده لتحمل بعض المسئوليات، فنقول: إنكار المنكر حسب الاستطاعة: إن استطعت بيدك -إن كنت من أصحاب السلطة- فعلت، وإذا ما استطعت ولست من أهل السلطة فباللسان، وهذا يستطيعه كل أحد، وأما آخر شيء فهو بالقلب، وذلك إذا كان الإنسان في بلد لا يمكنه أن يقول لصاحب المنكر: هذا منكر، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (وذلك أضعف الإيمان).
وهذا للتدرج وليس للتخيير؛ لأن الإنكار باللسان مجال يقدر عليه كل الناس في بلاد المسلمين، وليس معنى الإنكار باللسان أن يكون بقسوة وعنف؛ بل قد يكون باللسان وبطريقة فيها لين، مثل أن تقول: يا أخي! اتق الله، هذا منكر، هذا محرم إلخ.
أما بالنسبة للمخططات ضد الإسلام من أعداء المسلمين، فللمسلم تجاه ذلك أدوار كثيرة: أولاً: عليك أن تحصن نفسك من هذه المخططات والمكائد التي يدبرها أعداء المسلمين، وذلك بالعلم النافع؛ لأن العلم هو السلاح، وأيضاً تحصن بيتك ومن لك سلطة عليه، بحيث لا تسمح لهذه المنكرات أو لهذه المخططات أن تصل إليهم.
ثم بعد ذلك يكون عليك دور أوسع وأكبر، وذلك بأن تسير في أرض الله سبحانه وتعالى تبين للناس طريق الحق وطريق الصواب، وتوضح وترسم مخططات الأعداء حسب استطاعتك، والله أعلم.(55/26)
الطرق التي تبلغ بها دعوة الله عز وجل
السؤال
ما هي الطرق التي يمكن للمسلم أن يبلغ بها دعوة الله عز وجل؟ الشيخ: الطرق التي يمكن للمسلم أن يبلغ بها دعوة الله عز وجل كثيرة، منها: وسائل الإعلام، فلو كان المسلمون الخلص يملكون وسائل الإعلام الموجودة لكانت هذه أفضل طريقة لتبليغ دعوة الله عز وجل، ولكن قد سحبت هذه الوسائل من المسلمين في كثير من الأحيان، حتى إن المساجد التي تعتبر أفضل وسيلة إعلامية يمكن أن تبلغ بها دعوة الله، أصبح المسلم -في كثير من الأحيان- لا يتمكن من استخدامها لتبليغ دعوة الله إلا في حدود ضيقة، فما دام الأمر كذلك فإن الوسائل غيرها -والحمد لله- كثيرة: كأن تسير في أرض الله فتطلع على أحوال إخوانك المسلمين، وأن تنشر العلم بالكتاب والشريط قدر استطاعتك، وأن تربي مجموعة من الشباب هنا أو هناك وترسلهم إلى بلادهم ليبلغوا دعوة الله عز وجل، وأن يكون لك لقاء مع بعض الراغبين في هذا الخير من أجل أن تبلغهم ليبلغوا بأي وسيلة من الوسائل؛ سواء كانت خطية أو مسموعة أو مقروءة أو ما أشبه ذلك.
فالطرق ميسرة -والحمد لله- لتبليغ دعوة الله في أيامنا الحاضرة، ولكني أنصح أن يقوم بذلك جماعات من المهتمين بالعلم، أو ممن عندهم شيء من العلم يمكّنهم من تبليغ دعوة الله؛ لأن هناك أموراً بديهية وأموراً أولية نسيها كثير من المسلمين في بلاد المسلمين يمكن أن يبلغها، ولذلك كما قلت لكم: أن الشرك بالله عز وجل -الذي هو نقيض ما فطر الله الناس عليه من توحيد- عاد الآن إلى بلاد المسلمين مرة أخرى، وقلت لكم: الآن في بلاد المسلمين أكثر من عشرين ألف ضريح تعبد من دون الله، ولو وقف مسلم أمام هذه الأضرحة يقول للناس: يجب أن نعود إلى هذا المنهج الذي دعانا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلخ، بكلمات معقولة لبقة؛ لأمكن أن يؤثر، وأن يفيد في كثير من الأحيان.
فيا أيها الأخ المسلم! الوسائل كثيرة، لكن عليك ألا تختار أسهلها، وإنما عليك أن تختار ما تستطيعه من هذه الوسائل.(55/27)
وجوب تبليغ العلم وعدم كتمانه
السؤال
دار حوار بيني وبين أخ لي في الله وهو لديه علم يحتاجه كثير من الناس، ولكنه يكتم هذا العلم، وقد دار هذا الحوار حول قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ} [البقرة:159]، فقال الرجل: أنا لم أكتم الناس العلم؛ لأن لديهم ما يقوِّمون به دينهم، وكل أمر دينهم واضح، فما الجواب لهذا ومثله؟
الجواب
هذه الآية نزلت في اليهود والنصارى، ولكن القاعدة دائماً في القرآن: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فقد تنزل آية بمناسبة، أو في قوم معينين، ويكون حكمها لكل الناس إلى يوم القيامة، وعلى هذا نقول: هذه الآية وأمثالها عامة في كل تبيين للحق للناس ولو كان نزولها في اليهود والنصارى، فيا أخي المسلم! لابد من تبليغ العلم، وأما قول الأخ: الناس قد عرفوا الحق، فنقول: نعم، عرفوا الحق والحمد لله، فقد أصبح الطالب الآن في المرحلة الابتدائية يستطيع أن يعرف الحلال والحرام والعبادة، لكن ربما تكون هناك أهواء وشهوات تحول بين الناس وبين تطبيق هذه الأمور، فأنت حينما تبينها لهم -وإن كانوا يعلمونها- فإنما تذكرهم بشيء قد نسوه أو غفلوا عنه، فالتبيين أمر مطلوب.(55/28)
حكم إحياء ليلة النصف من شعبان
السؤال
هل لليلة النصف من شعبان فضيلتها الخاصة؟ وهل يجوز إحياء هذه الليلة وتخصيصها بالذكر والقرآن والذهاب إلى المسجد الحرام وغير ذلك؟ نرجو من فضيلتكم تفصيل القول في هذه المسألة.
الجواب
ليلة النصف من شعبان ورد فيها دليل ضعيف: أن القرآن نزل فيها، لكن المؤكد أن القرآن نزل في رمضان، بدليل قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:186]، فالرأي القائل بأن القرآن نزل في ليلة النصف من شعبان يعتبر غير صحيح.
وحتى لو ورد فيها أفضلية، أو نزل فيها القرآن، فلم يرد لنا دليل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن سلفنا الصالح أن ليلة النصف من شعبان -أو غيرها من الليالي التي لم يرد دليل في إحيائها- لها عبادة خاصة، ولذلك فإن من صام يوم النصف من شعبان لأنه اعتاد أن يصوم أيام البيض فهذه سنة، لكن لو خص يوم النصف من شعبان بصيام فإننا نعتبره مبتدعاً في دين الله تعالى، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار).
إذاً: لم يرد في ليلة النصف من شعبان، ولا في يوم النصف من شعبان أي دليل، وعلى هذا فإن ليلة النصف من شعبان كسائر الليالي، ويوم النصف من شعبان كأي يوم من أيام النصف في الأشهر الأخرى، لا يجوز تخصيصه بعبادة، ونحن عندنا قاعدة: أن الأصل في العبادات هو التحريم، ولذلك لا يجوز لأي إنسان أن يحدث عبادة ليس عنده فيها دليل، بل إن من أحدث عبادة بدون دليل يكون أعظم عند الله عز وجل ممن ترك عبادة ورد فيها الدليل.
أعني: لو أن واحداً أفطر يوم النصف من رمضان، وآخر أحيا ليلة النصف من شعبان بدون عبادة، نقول: الأول أقل خطراً من الثاني؛ لأن الأول عاص، وأما الثاني فمبتدع، والبدعة أعظم عند الله عز وجل من المعصية، ولذلك فإن أصحاب النار إذا ألقوا في النار يقولون لمن أغواهم: {إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} [الصافات:28] أي: عن طريق الطاعة، أي: أغويتمونا بطاعات ما ورد عليها دليل من شرع الله سبحانه وتعالى.
وعلى كل يا أخي! الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام يقول: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، ويقول: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، فنقول: ما دام أنه لم يرد دليل في تخصص ليلة النصف من شعبان بعبادة، أو ليلة مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو ليلة سبع وعشرين من رجب أو يومها، أو ما أشبه ذلك، ما دام لم يرد دليل فإن العبادة التي يحدثها الناس فيها تعتبر بدعة، وتعتبر ضلالة، وهي خطر أيضاً.
فأدعو إخوتي المسلمين أن نتقيد جميعاً بأوامر الله عز وجل، وأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن عمل عملاً ليس عليه أمره صلى الله عليه وسلم فهو مردود عليه.
فصوم يوم النصف من شعبان بصفة خاصة، إلا إذا جعله من أيام البيض أو من العبادات التي كان يعبد الله بها، وأحياء ليلة النصف من شعبان تعتبر من البدع التي هي ضلالة.(55/29)
فضل صلاة الفجر وكيفية دعوة الآخرين للمحافظة عليها في جماعة
السؤال
كيف أدعو والدي إلى المحافظة على صلاة الفجر في المسجد مع الجماعة حيث إني سلكت معه أنواعاً مختلفة من الدعوة، وأريد أن أستخدم معه أسلوب الجفاء، فماذا تقول في ذلك؟ وما دور الجار تجاه جاره من ناحية أخرى؟
الجواب
صلاة الفجر هي أعظم الصلوات الخمس؛ بدليل قوله تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78]، والمراد بـ (قُرْآنَ الْفَجْرِ) صلاة الفجر، وسماها الله تعالى قرآناً؛ لأنها تطول فيها القراءة، وهذا سنة، قال تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء:78] جاءت بالنص، أي: والزم قرآن الفجر، وهذا القطع يدل على أهمية صلاة الفجر، ولذلك فهي تعتبر أفضل الصلوات الخمس، وتلتقي فيها ملائكة الليل وملائكة النهار، ولا تصعد ملائكة الليل حتى تنزل ملائكة النهار، ويجتمعون في صلاة العصر وصلاة الصبح، وعلى هذا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من صلى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله).
فعليك يا أخي! أن تعود نفسك وأهلك على المحافظة على صلاة الفجر، وعلى أن يصلي الذكور مع الجماعة.
أما أبوك فقد لا تملك الأمر في إلزامه، ولكن عليك يا أخي! أن تعظه وتخوفه دائماً بالله تعالى، خصوصاً أن كثيراً من الذين يتخلفون عن صلاة الفجر في المسجد لربما يؤخرونها إلى ما بعد طلوع الشمس، وهذا خطر عظيم يدخلهم في الوعيد: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم:59]، فحافظ يا أخي! على صلاة الفجر، واؤمر أباك وجيرانك وأولادك ومن تستطيع بذلك، ولكن بالأسلوب الذي يناسب كل واحد منهم.(55/30)
حكم ابتداء الرافضي بالسلام ورده عليه
السؤال
ما حكم الإسلام في رد السلام وإلقائه على الرافضة؟
الجواب
كلمة الرافضة كلمة عامة، فما نستطيع أن نقول: الرافضة كفرة، كما يُطلق ذلك طائفة من الناس؛ لأن الرافضة أنواع: فمن يعتقد منهم أن الرسالة ليست لمحمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر، ومن يؤله علياً رضي الله عنه فهو كافر، أما أن نطلق ونقول: الرافضة كلهم مارقون من الإسلام، فلا نستطيع أن نقول ذلك، وهو خطأ، ولذلك فإن الأصل أن يسلم على المسلم، ويرد عليه السلام، ما دام أنه لم يتبين شيء من أمره، حتى نتأكد من أن منهج هذا الإنسان بعينه هو الرفض.(55/31)
حكم وضع العشب الأخضر على القبر بعد دفن الميت
السؤال
يوجد عندنا في مكة بدع، منها: أنه عندما يدفن الميت يوضع على قبره حزمة من العشب الأخضر، وعندما توجه النصيحة إليهم يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد فعل هذا، وذلك عندما شق الجريدة في الحديث المعروف، وبعضهم يقول: إنما يوضع هذا لكي يمنع التراب عن الميت، فما قول العلماء؟
الجواب
البدع منتشرة في أكثر بلاد المسلمين، وبلادنا هذا -والحمد لله- أقل بلاد المسلمين بدعاً، لكن نحن لا نزكي أنفسنا؛ بل علينا إذا رأينا مثل هذا الأمر -ما دام أنه لم يرد فيه دليل عن النبي صلى الله عليه وسلم- أن ننهى عنه، ولكن يجب أن يكون بأسلوب رقيق.
أما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم حينما أخذ جريدة فشقها شقين، ووضع على كل قبر منهما جزءاً، فإن هذا في سبب معين، كما أشار صلى الله عليه وسلم بقوله: (أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة بين الناس، وكان الآخر لا يستنزه من البول)، ولا أدري هل تعتبر هذه حجة أو ليست بحجة، وأعتقد أنها لا تصلح حجة.
وعلى كل حال: فإن الأصل في العبادات المنع إلا إذا ورد دليل، وتغليب جانب المنع في أمر العبادات أفضل من تغليب جانب الإباحة.(55/32)
حكم الإفطار للمريض بفشل الكلى عند عملية الغسيل
السؤال
رجل مصاب بفشل كلوي، ويغسل الدم يوماً بعد يوم، وهو يريد أن يصوم رمضان، فماذا عليه في اليوم الذي يفطر فيه؟
الجواب
نقول: إن الله سبحانه وتعالى قد خفف عن المريض الصيام فقال: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184]، وهذا من نعمة الله سبحانه وتعالى، فإذا كان هذا الأخ يغسل الكلى فهو لا يستطيع الصوم؛ لأنه يوصل الماء إلى جوفه، وما أدري: هل الطريقة التي يغسل بها مفطرة أو غير مفطرة؟ ولكن الأقرب أنها مفطرة، فنقول: في ذلك اليوم الذي يغسل فيه، إذا كان يفطر بالغسيل ولا يحتاج إلى الطعام ضرورة أو الشراب، فإنه يكتفي بهذا الغسيل، ويكلف بقضاء ذلك اليوم الذي أفطر فيه، كما لو احتاج إلى إبرة مغذية؛ لأن الإبرة المغذية أيضاً تفطر، فلو احتاج إلى إبرة مغذية فإننا نقول له: تفطر ذلك اليوم إذا كنت مضطراً لها في النهار، وتصوم بدل ذلك اليوم يوماً آخر من أيام السنة.
ثم نقول: إن أمكنه أن يغسل بالليل حتى لا يضطر إلى الفطر فهو أفضل، والله أعلم.(55/33)
التحذير من خروج النساء إلى الأسواق متبرجات
السؤال
فضيلة الشيخ! أدعوك إلى توجيه نصيحة إلى أخواتنا النساء اللاتي يخرجن إلى الأسواق وهن متبرجات ومتعطرات ليفتنّ من بالأسواق، وكذلك توجيه نصيحة للباعة الذين في الأسواق، وجزاك الله خيراً.
الجواب
ما أشار إليه الأخ السائل من التبرج موجود -ومع الأسف- حتى في مكة التي فيها السيئة مضاعفة؛ لأن الله تعالى يقول: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25]، فالله تعالى لا يؤاخذ على الإرادة إلا في مكة؛ مما يدل على أن المعصية في مكة أسوأ منها في أي مكان آخر.
وعلى هذا نقول للأخوات المتبرجات: اتقين الله سبحانه وتعالى، فإن التبرج صفة من صفات الجاهلية الأولى، فعلى المرأة إذا اضطرت إلى الخروج أن تخرج محتشمة، ولا يجوز لها أن تتبرج.
ثم أيضاً: أكبر من ذلك ما يشاهد من التبرج -في بعض الأحيان- حول الكعبة بين الطائفين، والملاصقة بين الرجال والنساء، والازدحام الشديد، فعلى المرأة أن تبتعد عن مواطن الزحام، وخصوصاً عند الحجر الأسود، فإننا نلاحظ عند الحجر الأسود زحاماً شديداً، علماً أن تقبيل الحجر الأسود سنة وليس بواجب، فكيف نسعى لفعل سنة يترتب عليها الوقوع في المحرم من زحام بين الرجال والنساء؟! فنقول للأخوات: اتقين الله عز وجل دائماً وأبداً، وفي مكة بصفة خاصة؛ لأن السيئة فيها أعظم منها في أي مكان آخر؛ لا سيما حول الكعبة في حال عبادة الطواف أو الصلاة وما أشبه ذلك، ويجب الحجاب وستر الزينة، وأعظم الزينة هو الوجه، وقد أصبح السفور الآن شيئاً مألوفاً حتى حول الكعبة، والله المستعان.
ثم أيضاً ننصح الإخوة الباعة أن يتقوا الله عز وجل في أمر محادثة النساء، أو استثارتهم لهن، أو ما أشبه ذلك من الأمور التي ربما يستعملها بعض الباعة فتكون سبباً في فساد عظيم، كما أن ذلك البائع مطالب أن يغض البصر، وأن يتقي الله عز وجل، فإن النظرة سهم مسموم من سهام إبليس، ومن تركها من أجل الله عز وجل أبدله الله تعالى إيماناً يجد لذته في قلبه، كما جاء ذلك في الحديث القدسي عن الله سبحانه وتعالى.(55/34)
حكم من ترك الصلاة فترة من الزمن لأنه كان مريضاً
السؤال
رجل مات بمرض القلب وهو لم يصل منذ سنة بسبب هذا المرض، فما الحكم في تركه الصلاة لمدة سنة؟
الجواب
إذا كان تركها متعمداً فهو كافر مرتد، نسأل الله العافية والسلامة، ونخشى أن يكون مصير من يفعل ذلك إلى النار؛ لأن مرض القلب لا يمنع من الصلاة، والله تعالى يقول: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران:191]، فالمسألة ليست مسألة أن يصلي قائماً فقط، بل الأمر أوسع من ذلك، كما قال صلى الله عليه وسلم: (صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب)، ولو أن يشير الإنسان بعينيه إشارة إلى الصلاة.
إذاً: هذه العبادة لا تسقط بأي حال من الأحوال؛ لأنه لا يوجد أحد لا يستطيع أن يصلي وهو على جنبه، أو وهو نائم، فنقول: تركه للصلاة إن كان جهلاً فنسأل الله أن يتجاوز عنه، وإن كان عمداً فنخاف عليه أن يكون قد ارتد عن الإسلام.(55/35)
هيئات الإغاثة الإسلامية هيئات مأمونة للتبرع بالمال
السؤال
ما قولك في هيئات الإغاثة كالهيئة العليا لجمع التبرعات للبوسنة والهرسك، وهيئة الإغاثة لجمع التبرعات للمسلمين، وهل هي محل ثقة حتى نتبرع لها بشيء من المال وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
نعم هي محل ثقة، لكن أنا أفضل لمن كان عنده مال كثير أن يوصله بنفسه بدلاً من أن يسلمه للهيئات المتطوعة، ونحن لا نتهم هذه الهيئات، فهي موضع ثقة إن شاء الله، ونرجو أن يكون ما يصل إليها يصل بسرعة إلى الجهات التي وجه إليها هذا المال.
لكن عليك يا أخي! إذا كنت تستطيع أن توصل هذا المال بنفسك فخير لك أن توصله بنفسك؛ حتى تكون أكثر طمأنينة.
وفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضاه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(55/36)
مشاهد الآخرة في القرآن
ذكر الله تعالى في كتابه الكريم صوراً من مشاهد يوم القيامة، وهي مشاهد شديدة الأهوال، عظيمة الفزع، ومن تلك المشاهد مشهد قرناء الدنيا حينما يلتقون في الآخرة، فإن كانوا من أهل الجنة فإنهم يفرحون بدخولها، ويذكرون نعمة الله عليهم، ويحمدونه أن أدخلهم الجنة، وإن كانوا من أهل النار فإنهم يلوم بعضهم بعضاً، ويتبرأ بعضهم من بعض.
وهناك مشاهد أخرى، كساعة الموت، والقدوم على الله، والبعث والنشور، والصراط والميزان، وشهادة أعضاء الإنسان عليه، وخراب هذا الكون وتدميره(56/1)
كثرة الحديث عن الآخرة في القرآن الكريم
إخواني في الله! إن الحديث عن القيامة حديث مهم جداً؛ ذلك أنها كما قال الله عز وجل: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} [الأنبياء:1 - 3]، ومن هذا المنطلق لابد أن يكون هناك حديث بين حين وآخر عن يوم القيامة، لاسيما إذا كان الحديث عن تصوير القرآن لتلك المشاهد والمواقف، وأنتم تعلمون أن القرآن جاء ليربط الدنيا بالآخرة، وليشد القلوب إلى الله وإلى الإيمان به، من أجل ذلك كان الحديث عن القيامة والحياة الآخرة طويلاً ممتداً في القرآن العظيم، ولعلنا نقول: إن السور المكية في أكثرها تتحدث عن مشاهد القيامة في القرآن إن لم تكن كلها، والآيات المكية أكثرها يركز على هذا الجانب، لا سيما أن هذه الأمة -أقصد أمة محمد- قد ابتليت بكثير من الذين استعملوا المقاييس المادية، سواء كان ذلك في ماضيها أو حاضرها، فقد قال قائلهم في القديم: {مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ} [الجاثية:24]، وقال قائلهم في الحديث: إن هي إلا أرحام تدفع، وأرض تبلع، وليس هناك حياة آخرة، أو بداية أو نهاية.
ومن هنا كانت الحياة الإنسانية منغصة بدعايتين: الأولى: عن قدم هذا العالم وعدم فنائه.
أما القدم فإنه ادعى أن هذا الإنسان لم يوجد في فترة معينة، وإنما وجد نتيجة التفاعل الكيماوي والحيوي، كما تقول الشيوعية الملحدة، وكما يقول داروين ومن على شاكلته -عليهم لعنة الله إلى يوم القيامة-: إن هذا الإنسان وجد نتيجة التعفن على هذه الأرض، ومعنى ذلك: أن الإنسان ولد كما تتولد الحشرات الضارة، كشيء من الطعام طال عليه الزمن فتولدت منه حشرات، فنمت هذه الحشرات حتى وصلت إلى قرد، ثم صارت إلى إنسان، وهاتان النظريتان نقضهما العلم، وهما: نظرية التفاعل الكيماوي والحيوي، ونظرية التطور، والله تعالى قد أخبرنا في القرآن كيف خلق هذا الإنسان.
الثانية: أنكر كثير من القوم في القديم والحديث البعث بعد الموت، وأنكروا حياة البرزخ والحياة الآخرة، وقالوا: {مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ} [الجاثية:24]، وعلى هذا فإن القرآن قد ركز -خصوصاً في الآيات المكية، أي: قبل أن يصل المسلمون ويقيموا دولتهم في المدينة- على هذا الجانب، كما ركز على جانب الوحدانية؛ لأن جانب البعث بعد الموت أمر ينكره القوم وقتئذٍ، فكانت أكثر وجُلّ السور والآيات المكية تتحدث عن هذا الموضوع، ولذلك لا تكاد تقرأ السورة من سور القرآن إلا وتجد فيها الحديث عن الحياة الآخرة والبعث والجنة والنار والحساب والصراط، وغير ذلك من الأمور التي تنتظر هذا الإنسان بعد حياته.(56/2)
الرد على من ينكرون حياة البرزخ والحياة الآخرة
إخواني في الله! قد لا تتسع بعض العقول لمثل هذه الأشياء، وقد يستعمل أقوام المقاييس المادية ويقولون: أين حياة البرزخ؟ ولو فتشنا عن أي إنسان في قبره لما وجدنا أن هناك منكراً ولا نكيراً، ولا أنه يسأل، ولا أنه يجيب، ولا وجدنا أي شيء من ذلك، ولو وضعنا جهازاً للتسجيل لما التقط هذا الجهاز أي شيء مما تقولون! يريدون بذلك أن يقيسوا الحياة الدنيا بالحياة الآخرة.
والحقيقة أن هؤلاء الذين يقولون مثل هذه المقالات يرد عليهم من وجوه: الأول: أنهم لم يستطيعوا أن يعثروا على كثير من أسرار الحياة الدنيا، بل على جُلّ أسرارها، فكيف يفكرون أن يعثروا على أسرار الحياة الآخرة وحياة البرزخ؟! الأمر الثاني: أن الله عز وجل ألقى بيننا وبين حياة البرزخ وبين الحياة الآخرة هذا الستار المتين؛ بحيث يكون الابتلاء والامتحان، ولو كان الأمر مكشوفاً كما يريد هؤلاء لما حصلت الحكمة من هذا الامتحان، ولكن الله عز وجل يريد أن يمتحن العقول والإيمان.(56/3)
الإيمان بالآخرة يجعل الحياة حياة طيبة
من هنا كان الإيمان بالحياة الآخرة صفة من صفات المؤمنين فقط، ولا يوفق لها إلا هم، ولذلك اعتبرها الله تعالى من الحياة الطيبة، أما حياة أولئك فإنها حياة بهيمية، فالحياة الطيبة هي التي تقضى بالإيمان بالحياة الآخرة، وبحياة البرزخ والبعث بعد الموت، ولذلك يقول الله عز وجل عن هذه الحياة الطيبة: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97].
إن العالم الذي يعيش الآن في أمريكا وبلاد الغرب والشرق قد وصلوا إلى غاية الترف المادي، لكنهم ما وفقوا للحياة الطيبة؛ لأن الحياة الطيبة لا تكون في متاع الأجساد وإنما تكون في متاع الأرواح، ولذلك فالمؤمن مهما عاش في شظف من العيش، ولو كان في غياهب السجون، وتحت مطارق الأعداء يسام سوء العذاب، فإنه يعيش في ظل هذه الحياة الطيبة التي يقول الله عز وجل عنها: (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً)؛ لأن الحياة الطيبة معناها: الإيمان، وتصور الحكمة من هذا الوجود، وإدراك أسرار هذا الكون، وإدراك النهاية، والإيمان بتلك النهاية التي تنتظر منذ البداية.
يقول الله عز وجل أيضاً عن ذلك: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا} [هود:3]، أي: بالحياة الطيبة في ظل الإيمان، {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود:3]، أي: في الحياة الآخرة.
فلا نتعجب إذا سمعنا أخبار هذا العالم المتحضر حضارة مادية، ولكنه خال من كل الروحانيات، لا نتعجب إذا سمعنا أخباره عن الانتحار، وتأتينا إحصائيات الانتحار: بأنه في كل كذا من الدقائق تكون عملية انتحار، وفي كل فترة من الزمن تكون عملية قتل، لماذا؟ لأنهم فقدوا هذه الحياة الطيبة، ويعيشون في قلق وهم وغم، ولكن المؤمن -والحمد لله- مهما يلاقي في هذه الحياة؛ فإنه ينتظر حياة أفضل من هذه الحياة، بل يعتبر ما يصيبه من نصب وهم ومصائب في هذه الحياة الدنيا غنيمة يكسب بها أجراً عند الله سبحانه وتعالى في الحياة الآخرة، ولا يعيب نفسه، ولا يؤنب ضميره حينما يصيبه قدر من أقدار الله؛ لأنه يؤمن بالقدر، أما ذلك فإنه يندب حظه، ويندب نفسه: كيف فعلت كذا ولم أفعل كذا؟ لأنه لا يؤمن بالقضاء والقدر.
وهكذا نعرف الفرق بين المؤمن وغير المؤمن، ومن هنا يقول أحد الصالحين: والله لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن عليه من لذة الإيمان لجالدونا عليها بالسيوف.
ويقول ابن القيم رحمة الله عليه: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة.
ويقصد بجنة الدنيا لذة الإيمان، ولذة انتظار الحياة الآخرة، ولذة مناجاة الله عز وجل والوقوف بين يديه، وانتظار وعده، هكذا تكون جنة الدنيا، أما جنة الآخرة فإنها جزاء لتلك الجنة.
إذاً: الحديث عن حياة البرزخ والآخرة حديث طويل جداً في القرآن.(56/4)
مشاهد قرناء الدنيا في الآخرة
لعلنا لا نطيل في المقدمة، ولنتحدث عن مواقف من يوم القيامة، وسأختار لكم جزءاً منها يتعلق بالقرناء في الدنيا: ما موقف بعضهم من بعض في الحياة الآخرة؟ حتى لا نسيء اختيار الجلساء والقرناء، ومن أجل أن نختار الصالحين من عباد الله.(56/5)
تبرؤ المتبوعين من أتباعهم في الآخرة
من هذه المواقف والمشاهد في القيامة التي تتحدث عن الجلساء، يقول الله عز وجل: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} [البقرة:165 - 167]، أي: يا ليت لنا رجعة إلى الدنيا، {فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمْ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ} [البقرة:167].
معنى هذه الآيات: أن الناس في هذه الدنيا أتباع ومتبوعون، والأتباع: هم غالب وعامة الناس، والمتبوعون: هم قادة الكفر والضلال والانحراف والإلحاد والمعصية؛ ففي الدنيا يؤيد بعضهم بعضاً، ويدعو بعضهم بعضاً إلى الانحراف والضلال والغواية، ويقولون لهم في الدنيا: اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم، ويزينون لهم طريق الفسق والفجور والمعصية والإثم والعدوان، حتى إذا كان الموقف الأكيد الصادق يوم القيامة بين يدي الله عز وجل، يتبرأ المتبوعون من التابعين، فيتمنى التابعون أن يعودوا إلى الحياة الدنيا مرة أخرى ليتبرءوا من أولئك كما تبرءوا منهم في ذلك الموقف، والله عز وجل يقطع أسباب العودة ويقول لهم: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ} [البقرة:167]، أي: لا الأتباع ولا المتبوعون.
يقول الله: (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا)، أي: فعلوا المعصية والكفر والشرك والعدوان، (إذ يرونَ العذاب)، أي: عذاب النار وهم على حافة جهنم، نسأل الله العافية! (أن القوة لله جميعاً)، ليس هناك ما يخلصهم إلا رحمة الله عز وجل، (وأن الله شديد العذاب)، أي: لا يستطيع المتبوعون أن يتحملوا هذا العذاب الشديد عن التابعين كما كانوا يزعمون ذلك في الحياة الدنيا.
قال الله: (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا)، وفي قراءة بالعكس: (إذا تَبرأ الذين اتَبَعُوا من الذين اتُبعوا)، وكلا القراءتين تدل على أن العداوة قد قامت بين الصديق وصديقه، والخل وخليله على معصية الله، على الإثم والعدوان؛ بدأت العداوة وخرجت الآن، (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ) أي: رأى التابع والمتبوع العذاب، (وتقطعت بهم الأسباب)، أي: ليس هناك وسيلة للخلاص، (وقال الذين اتبعوا)، أي: المساكين الذين ما استعملوا قوتهم العقلية ولا المعايير والمقاييس الحقيقية، وإنما كانوا في ذيل القافلة، ما دام هؤلاء مسئولون فهم يسيرون وراءهم دعاة الضلال يقودونهم إلى جهنم وهم يركضون وراءهم، دعاة الضلال يزينون لهم الخبيث وهم يركضون وراءهم، لماذا؟ لأن دعاة الضلال قد استغلوا كل وسائل الإعلام العالمي، فصاروا يخادعون الناس، فمرة يتكلمون على الإسلام بأنه تخلف ورجعية، ومرة يتكلمون عن الحجاب بأنه تقوقع وانحراف وتخلف، ومرة يتكلمون عن الحدود بأنها وحشية لا تصلح لهذا الزمان ومرة ومرة إلخ، حتى انخدع الناس بهذا السراب، فصاروا يسيرون معهم ويقدمونهم، ثم في ذلك اليوم يندمون على ما فعلوا في الحياة الدنيا.
هذا مشهد من مشاهد القيامة كأننا نشاهده الآن أمام أعيننا، وكأننا نرى أمماً عظيمة تشبه السراب في كثرته وقلة أهميته تتبع أمماً أخرى كانت معها أدلة كاذبة، وكانت معها أقوام منحرفة؛ فيسير هؤلاء وراء أولئك، حتى إذا كان يوم القيامة، وبدت المعايير الحقيقية؛ حينها يتبرأ الذين اتُبعوا من الذين اتبَعوا، ويتمنى التابعون أن يعودوا إلى الدنيا ولو لحظة واحدة من أجل أن يتبرءوا من المتبوعين، ومن أجل أن يسيروا في فلك وخط المؤمنين المصلحين، ولكنهم لا يستطيعون ذلك في ذلك اليوم؛ لأن الله عز وجل حكم على من وصل إلى الحياة الآخرة ألا يعود الدنيا مرة أخرى، ولذلك يقطع الله تعالى أمل هؤلاء ويقول: (وما هم بخارجين من النار)، فيقطع آمالهم، ويثبت خلود هؤلاء وأولئك في النار.(56/6)
نداءات الفريقين في الجنة والنار
أخبر الله تعالى بنص الآيات أنه سوف يكون بين الفريقين نداءات ثلاثة: الأول: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ} [الأعراف:44]، انظر يا أخي! إلى هذا النداء بما فيه من السخرية! كان المجرمون من قبل يسخرون في الدنيا من المؤمنين، فإذا بالمعايير تنقلب، وإذا بالمقاييس تتغير؛ فيسخر المؤمنون في ذلك الوقت من أولئك الكافرين الذين كانوا يسخرون منهم في الدنيا، ماذا يقولون وهم في الجنة ما بين أنهارها وبساتينها وأشجارها يطلون على أهل النار؟ وإن كان المشوار طويلاً، لكن الله عز وجل بقدرته يوصل كلام هؤلاء إلى هؤلاء، وبغية هؤلاء إلى هؤلاء، فيقول أهل الجنة لأهل النار: {قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً} [لأعراف:44]، وهم يعرفون أنهم وجدوا ما وعدهم ربهم، فيقول أهل النار: نعم، وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً، لماذا؟ لأن الله عز وجل قد أخبرنا خبر صدق في هذه الدنيا؛ فلابد أن يكون حقيقة في الآخرة.
النداء الثاني: يأتي النداء الثاني من قوم بين الجنة والنار، وهم من على الأعراف، والأعراف كما يقول القرآن: مكان مرتفع، وهو في اللغة: المكان المرتفع أيضاً، وهؤلاء أقوام تخلصوا من النار لكن أعمالهم لم تؤهلهم بعد لدخول الجنة، فهم يقفون على الأعراف ينظرون إلى أهل الجنة وإلى أهل النار، ماذا يقول أهل الأعراف لأهل النار وأهل الجنة؟ قال تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [الأعراف:48]، جماعة يتألمون بلهب نار جهنم -نعوذ بالله- وقد كانوا في الدنيا معروفين بسيماهم، إذا مر الواحد صفقت له الجماهير، وفتحت له الطرق، لكن لم تخلصهم هذه السلطة ولا هذه المكانة من عذاب الله عز وجل، ولذلك فإن أصحاب الأعراف يسخرون منهم: أين الهيمنة في الدنيا؟ وأين تلك الموائد؟ وأين تلك الجماهير التي تفدي بالدم وبالروح؟ أين هي الآن؟ لم لا تخلصكم من عذاب الله؟ ماذا يقول أصحاب الأعراف؟ {وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأعراف:48]، أين الجمع؟ أين المال العظيم؟ أين الكبرياء؟ أين العظمة؟ أين الحرس؟ أين الجيش؟ كل ذلك كما يقول الله عز وجل عنه: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:94]، كما خرجت من بطن أمك بدون لباس قدمت على الله مرة أخرى بدون لباس، ليس هناك ثوب ولا سراويل؛ بل حفاة عراة غرل كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم يلتفتون إلى أصحاب الجنة فيقولون لأهل النار وهم ينظرون إلى أهل الجنة: {أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمْ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ} [الأعراف:49]، كنتم في الدنيا تقولون: إنهم متطرفون، ومنحرفون، وضالون، وكنتم تودعونهم السجون، وتسلطون عليهم كل وسائل العذاب والدمار، وتضلونهم في الدنيا، انظروا إليهم الآن في الجنة: (أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمْ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ)، كنتم في الدنيا تقولون: هؤلاء لا يستحقون الرحمة، قال لهم الله عز وجل: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [الأعراف:49].
إذاً: تغيرت المعايير، وأصبح الرجل الضعيف الذي كان في الدنيا مدفوعاً بالأبواب، نجده في ذلك اليوم قد أصبح رجلاً عظيماً عملاقاً، أصبح ينظر ويطل على أهل النار ويسخر منهم ينظر إلى أولئك الطغاة والمتكبرين والفسقة والعتاة، فيجدهم يتقلبون في نار جهنم ويلاقون الحسرة.
النداء الثالث: ويأتي بعد ذلك من أهل النار، وهو المرحلة الأخيرة، فأهل النار وهم في أشد العذاب -نسأل الله لنا ولكم العافية وللمسلمين- لا يجدون سلطة ولا مكانة، ولا يفكرون في كراسيهم ولا مراكزهم ولا سلطانهم ولا أموالهم ولا قصورهم، وإنما يفكرون فقط في أحد شيئين: إما في شربة من الماء يسدون بها العطش الشديد، وإما في أي شيء من أشياء هذا النعيم الذي يتمتع به أهل الجنة، ولذلك يمدون أكف الذل والمهانة إلى أهل الجنة: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنْ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ} [الأعراف:50]، لكن هل تظنون أن أهل الجنة الذين كانوا يعيشون معذبين تحت مطارق هؤلاء من أهل النار أنهم سيعطونهم شيئاً من الماء أو مما رزقهم الله؟ لا، لقد استهلكوا كل حسناتهم ونعيمهم، وعجلت لهم في الدنيا؛ فأصبحوا الآن يقاسون كل أنواع العذاب، ولذلك يرد عليهم أهل الجنة بقولهم: {إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ * الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا} [الأعراف:50 - 51].
هكذا تصور لنا هذه الآيات في سورة الأعراف هذا الموقف العجيب، أمم في الدنيا تسير وراء أمم على غير بصيرة؛ فتجتمع جميعاً، وتكون كلها جثياً لنار جهنم، وأمم يخلصها الله عز وجل لا بعقليات كثيرة، وإنما بتوفيق من الله سبحانه وتعالى، فإذا بها تصبح في القمة في ذلك الوقت، وأمم في الدنيا كانت لها هيمنة ومكانة وسلطة وحشم وحرس، فإذا بها اليوم تقول لأصحاب الجنة وللفقراء المسلمين: (أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنْ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ)، فيردون عليهم بالرفض: (إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ).
إذاً: أيها الإخوان! هذا موقف ومشهد عظيم من مشاهد يوم القيامة، لا يجوز لنا أن نغفل عنه أو أن نتغافله؛ لأن مثل هذا الموقف نحتاج إليه دائماً، ونحن اليوم أحوج ما نكون إليه ونحن نعيش في أمة قد علا فيها الطغيان وانتفخ وعظم أمره، ونرى كثيراًَ من المؤمنين -الذين هم من خير عباد الله- يعيشون معذبين تحت مطارق الكافرين، ولكن المؤمن عليه أن يثبت في طريقه، ويصبر ويحتسب.(56/7)
تلاوم الأتباع والمتبوعين في النار
في سورة الصافات موقف آخر يشبه هذا الموقف، يقول الله عز وجل عن هذا الموقف: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الصافات:22]، معنى احشروهم أي: اجمعوهم بقوة، {وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات:22]، أي: أشكالهم ونظراءهم ومن يشابههم في المبادئ والأفكار وما أشبه ذلك: {وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الصافات:22 - 23]، من أصنام وآلهة وزعماء كانوا يشرعون لهم من دون الله، والمراد بالحشر: السوق بشدة، والجمع في مكان ضيق، بحيث يزدحم بعضهم مع بعض: {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات:23]، أي: دلوهم إلى طريق جهنم، أيضاً: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات:24]، حتى قبل دخول النار هناك سؤال، ولكنه سؤال يختلف عن الأسئلة كلها، سؤال لا يحتاج إلى جواب؛ لأنه سؤال تبكيت وتوبيخ، وحينما يوبخ وهو على حافة جهنم يزيد الألم معه أكثر من ذلك، ولذلك يقول الله عز وجل: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ} [الصافات:24 - 25]، يعني: في الدنيا كنتم تتناصرون، وكان أحدكم إذا قام وأعلن الباطل وانتفخ باطله، طوقه أقرانه وناصروه، فإذا بكم اليوم لا تناصرون، وكل إنسان يستقل بنفسه، ولا يفكر إلا في نفسه، لماذا لا تتناصرون اليوم؟ أين نصرتكم التي كانت في الدنيا؟ وأين دفاع بعضكم عن بعض؟ كان أحدهم إذا كتب عن سوء في صحيفة أو كتاب أو مجلة، فإذا بشياطين الإنس والجن كلها تتعاون في مساعدة هذا الباطل وفي الدفاع عنه، كان أحدهم في الدنيا يزعم أنه يفدي ذلك الإنسان بكل ما يؤتى من قوة، فإذا بكل واحد منهم الآن يستسلم، يقول الله تعالى: {بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} [الصافات:26]، أي: لا أحد يدافع عن أحد.
بعد ذلك أخبرنا الله بأن هناك موقفين: فيقول عن الموقف الأول في تلك اللحظة: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات:27]، انقسموا الآن إلى قسمين، فذهب أهل النار إلى النار، وذهب أهل الجنة إلى الجنة، (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ)، وهذا تساؤل لوم وعتاب، كل واحد يلعن الآخر ويسب الآخر: أنت الذي أغويتني، أنت الذي كنت سبباً في شقائي إلى آخر ذلك، (قَالُوا)، أي: قال بعضهم لبعض: {إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} [الصافات:28]، يقول الأتباع للمتبوعين: كنتم أيها المتبوعون تأتوننا عن اليمين، هم لم يقولوا لهم: اسلكوا معنا طريق جهنم، ولكن يقولون لهم: هذا هو طريق السعادة.
هذا هو طريق الرقي والتقدم.
أما إذا سلكتم ذلك الطريق فأنتم رجعيون متخلفون، اسلكوا معنا هذا الطريق السديد، ولربما يقول بعضهم لبعض: هذا هو الطريق في أمور تشبه الطريق الصحيح، وإذا نظرنا إلى باب البدع والخرافات والشرك نجد أن كثيراً من الناس اتبعوا آخرين في طريق يشبه طريق العبادة، لكنه في الحقيقة طريق مسدود، وليس طريقاً إلى الجنة، بل طريق إلى النار.
ماذا يقول بعضهم لبعض وهم يتلاومون في جهنم؟ {قالوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ}، أي: عن طريق الطاعة لا عن طريق المعصية، ماذا يرد عليهم أولئك؟ {قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الصافات:29]، أي: أنتم ما كنتم مؤمنين أصلاً، أنتم ضالون ونحن ضالون، فضللنا جميعاً الطريق، {فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ} [الصافات:31]، أي: كلنا أصبحنا نذوق هذا العذاب جميعاًً.(56/8)
تساؤل أهل الجنة في الجنة
ومثل هذا التساؤل تساؤل آخر في الجنة تقصه علينا نفس الآيات في سورة الصافات أيضاً، يقول الله بعد ذلك: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ} [الصافات:50] أهل الجنة وهم في الجنة، وذلك لما انتهى التساؤل بين أهل النار جاء التساؤل بين أهل الجنة، {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات:50]، أي: أهل الجنة، {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} [الصافات:51]، يقول: في يوم من الأيام كان لي صديق، وانتبهوا في اختيار الأصدقاء! كان لي صديق مشيت معه مدة من الزمن، وكان يقول: لا يوجد بعث ولا جنة ولا نار ولا عذاب، ودعنا نمتع أنفسنا ونتمتع بشبابنا وشهوات الحياة، والعمر ينقضي والشهوة تنقضي.
هكذا كان حاله مدة من الزمن، وحال هذا يشبه حال دعوات تقوم الآن في أيامنا الحاضرة.
يقول بعضهم لبعض: {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ} [الصافات:51 - 52]، فأراد الله وصف حال هذا الصديق الذي أغواه صديقه، فأراد الله الهداية للثاني حتى يتعظ من الأول، وقيض الله له رجالاً صالحين انتشلوه من هذا الموقف فأخذوه إلى طريق الجنة، ولذلك هو يعبر بنفسه عن هذا الموقف فيقول: {إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ} [الصافات:51 - 52]، أي: هل تصدق ببعث وجنة ونار؛ فهو ينكر هذه الأشياء كلها.
بعد ذلك يقول لأصدقائه في الجنة الذين هداه الله على أيديهم، فذهبوا جميعاً إلى الجنة، يقول: ابحثوا لي عن هذا الصديق الذي كان في الدنيا يريد أن يغويني، ويريد أن يوردني المهالك، ويريد أن يكبني في النار، فصاروا يبحثون عنه وينظرون إليه من شرفات الجنة، فيجدوه يتقلب في نار جهنم -نعوذ بالله- فيطل عليه ويسخر منه، اسمعوا ماذا يقول الله عز وجل: {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ * قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ} [الصافات:51 - 54]، أي: أنه رأى ذلك الرجل الذي كاد أن يكون سبباً في شقائه في ذلك الموقف، رآه يتقلب في وسط جهنم، ماذا قال له؟ {قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ} [الصافات:56]، يا عدو الله! كدت أن تدخلني معك النار، لولا أن الله تعالى رحمني بلطفه وهدايته، {وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي} [الصافات:57] بأن هداني، {لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [الصافات:57]، لكنت مثلك اليوم، {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ} [الصافات:58]، أنت في الدنيا تقول: ما نحن بميتين ولا بمبعوثين، والدنيا لا تنتهي، فالآن انتهت الدنيا وجاءت الحياة الآخرة، {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [الصافات:58 - 59]، ثم يقول الله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الصافات:60]، هذه هي البداية الصحيحة التي أنقذت مثل هؤلاء من عذاب أولئك.
هذا موقف علينا أن نهتم به، لاسيما وأننا نبتلى اليوم بجلساء وأصدقاء أشقياء يوشكون أن يكونوا سبباً لدمار وهلاك كثير من الناس، إذا لم يهيئ الله عز وجل لهم أسباب الهداية، ويقيض الله عز وجل لهم جلساء صالحين فينقذونهم من مثل هذه المآزق التي تكاد أن تمزق كثيراً من الشباب اليوم شر ممزق.(56/9)
شهادة الأعضاء على صاحبها يوم القيامة
هذا مشهد من مشاهد يوم القيامة أيضاً يصور لنا ما هو أعجب من ذلك!! يصور لنا هذا الإنسان وقد وقف على حافة جهنم، تشهد عليه أعضاؤه بكل أفعاله، حينئذ كيف يستطيع أن يتخلص من شهادة هذه الأعضاء، ويتعجب كيف تشهد هذه الأعضاء! ثم بعد ذلك يزيل الله تعالى هذا العجب بأنه ليس عجيباً أن تشهد الأعضاء؛ لأنك في الدنيا ما كنت تختفي عنها، بل كانت هي التي تمارس المعصية، وتزاول الإثم.
يقول الله عز وجل عن هذا الموقف الرهيب من مواقف يوم القيامة: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا} [فصلت:19 - 20]، يعني: حتى إذا جاءوا جهنم ووقفوا على حافتها، {شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ} [فصلت:20 - 21]، من باب التعجب: {لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا} [فصلت:21]، أي: وأنتم ستلاقون العذاب، {قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [فصلت:21]، ثم يرد الله تعالى عليهم فيقول: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ} [فصلت:22]، في الدنيا إذا أردتم فعل المعصية وممارسة الإثم ما كنتم تستترون وتختفون عن عين الله عز وجل، بل الله عز وجل كان يراقبكم، وما كنتم تستترون أيضاً عن أعضائكم؛ إذ هي التي كانت تمارس المعصية، {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} [فصلت:22 - 24].
هذا موقف يجدر بك أن تتصوره وأنت تمارس المعصية من معاصي الله عز وجل، أو وأنت تتخلف عن واجب من واجبات الله عز وجل التي افترضها الله عليك، وتصور أقرب حاسة وأدناها وأبسطها عندك أنها تشهد عليك، وحينئذٍ لا تستطيع أن تتخلص من شهادتها يوم القيامة ولا أن تمنعها؛ لأن الله تعالى يعلم هذه الأشياء قبل أن تعملها الجوارح.(56/10)
قيام الساعة وأهوالها
موقف آخر من مواقف يوم القيامة، يقول الله عز وجل عن هذا الموقف، وهو يصور لنا هذه الدنيا وهي في ضجة ورجة شديدة، وذلك حنيما تقوم الساعة وتتغير أنظمة هذا الكون، يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج:1]، والزلزلة معناها: الرجة الشديدة، {يَوْمَ تَرَوْنَهَا} [الحج:2]، يعني: الساعة، {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} [الحج:2]، من يتصور أن الأم وهي أشفق الناس بولدها تنشغل عنه بشيء من الأشياء؟! ولكن يوم القيامة لشدته ولهوله ولعظمته تذهل هذه الأم المرضعة عما أرضعت وهو ولدها! بل إذا كان ولدها في جوفها فإنها تضعه قبل أن تتم المدة لماذا؟ لأن عذاب الله شديد: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2].
أيها الإخوان! هذا الموقف الذي يصل إليه الناس وهم مرتبكون، وهم في أشد وأحلك وأصعب ساعات حياتهم، وهم يسمعون القيامة بآذانهم، ويشاهدونها بأعينهم، ويرون هذه الأمور التي تحدث، والتي لا تطيق الأسماع أن تسمعها، ولا الأبصار أن تدركها، يرونها رأي العين ويسمعونها سماعاً حقيقياً؛ لأن هذا وعد لا يمكن أن يتخلف أبداً.(56/11)
ساعة الموت والقدوم على الله تعالى
يشبه هذا الموقف أيضاً قول الله عز وجل وهو يصور لنا ساعة الموت، وساعة القدوم على الله عز وجل، وساعة الحساب في سورة (ق)، فيقول: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ * وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [قّ:16 - 19]، كأن الإنسان قد شرب خمراً؛ لأنه قد ذهب عقله، وفقد توازنه، ولذلك فإن الله عز وجل سمى ساعة الموت سكرة، فقال: (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ)، أي: أنها شيء ثابت لابد منه أن يقع.
ثم يقول الله عز وجل عن هذه السكرة وعن هذا الموت: (ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ)، يعني: مضى عمرك وأنت تحيد عن الموت، إذا قيل لك: إن في هذا الطريق خطراً سلكت طريقاً أخرى، حتى لا تقع في الخطر، وحتى لا يصيبك الموت، وإذا قيل لك: إن فيك مرضاً خبيثاً؛ ذهبت تعالج نفسك، ولا تلام على ذلك، وإذا قيل لك: إن هناك خطراً في مكان ما؛ هربت من هذا المكان، كنت تحيد، لكنك اليوم لا تحيد؛ لأن الموت قد حان أجله وجاء موعده؛ فأصبح لزاماً أن تتجرع كأس الموت، ولذلك الله تعالى يقول: (ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ).
والموت بداية وليس نهاية، وإن كان الموت نهاية في نظر الملاحدة الماديين الذين ينكرون حياة الآخرة؛ فإنه في نظر المؤمنين بداية لا نهاية، ولذلك ذكر الله تعالى البداية مع هذه الصورة التي قد صورها الملاحدة فقال: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ} [قّ:20]، أي: بدأت حياة أخرى، والصور أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الملك ينتظر أن ينفخ فيه، فينفخ فيه ثلاث نفخات: النفخة الأولى نفخة الفزع، ثم نفخة الفناء، ثم نفخة القيام من القبور.
هذه النفخات الثلاث ذكرها الله تعالى في القرآن: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} [النمل:87]، {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68]، وعلى هذا فإن الله عز وجل يقول: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [قّ:19] {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ} [قّ:19 - 20]، اليوم الذي وعد الله عز وجل هؤلاء الناس.
يروى أن عائشة رضي الله عنها لما حضرت أبا بكر الوفاة كانت عنده، فلما غشي عليه تمثلت بقول الشاعر: لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر أي: حشرجت الروح عند الخروج، فقال رضي الله عنه: يا ابنة الصديق! لا تقولي هكذا، ولكن قولي كما يقول الله عز وجل: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق:19 - 21]، سائق يسوقها إلى المحشر من الملائكة، (وشهيد): يشهد على أعمالها، وقد كان في الدنيا يحصي أعمالها وحسناتها وسيئاتها، ولذلك فإنه يشهد عليها يوم القيامة، ماذا يقال له وهو في هذا الموقف الحرج الشديد؟ {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} [ق:22]، كنت في الدنيا مشغولاً بمالك، وبعمائرك، وبسلطانك، وبمركزك، وبترفك ولهوك ولعبك ومعصيتك، كنت في غفلة فكشف عنك هذا الغطاء، فليس اليوم بينك وبين الحياة الآخرة إلا هذا الغطاء، وليس بينك وبين كشف هذا الغطاء إلا لحظة الموت؛ فإن لحظة الموت هي التي تنقلك نقلة بعيدة من الدنيا إلى الآخرة، وتزيل هذا الغطاء الذي قد وضع على وجهك؛ فأصبحت تسمع عن الحياة الآخرة لكنك لا تراها بعينيك، لكن اليوم أصبحت تراها؛ لأن بصرك اليوم حديد -حاداً قوي- فبصرك في الدنيا كان ضعيفاً لا ترى به الحياة الآخرة، لكن اليوم أصبح بصرك حاد فأصبحت ترى الحياة الآخرة، ما رأيك في هذا؟ بعد ذلك يبدأ الخصام بينه وبين الملك: {وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} [ق:23]، يعني: هذه سيئات هذا الرجل وهذه حسناته، هذه أعماله أمام الله عز وجل في سجلات محفوظة.
ثم يقول الله بعد ذلك: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} [ق:24]، وألقيا بألف الاثنين، أو ألقيا معناها ألقين، وهذا التساؤل من الملائكة إلى الله عز وجل {فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} [ق:24]، أول من يدخلون النار الذين يكفرون نعمة الله، ويجحدون حق الله، ويعاندون الله عز وجل ورسله وأنبياءه وأولياءه، {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ} [ق:24 - 26].
بعد ذلك يبدأ الخصام بينه وبين قرينه في الدنيا، سواء كان من شياطين الإنس أو شياطين الجن، يقول الله عز وجل: {قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} [ق:27]، يعني: ما أنا الذي أضللته بل هو كان ضالاً بطبيعته، ثم يرد الله عز وجل عنهم جميعاً فيقول: {قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيد * يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ * وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [قّ:28 - 31].
هذا أيضاً موقف لا يجوز لنا أن نغفل عنه، بل نتصوره؛ لأنه يصور لنا ساعة الموت وساعة القدوم والصحف التي سجلت لنا أو علينا.(56/12)
خراب الكون واختلال نظامه
الموقف الأخير الذين نختم به هذا الحديث: موقف يصور لنا هذا العالم بنجومه وكواكبه وأفلاكه ونظامه ودقته وقد خرب هذا النظام كله لماذا؟ لأن هذا النظام متاع للحياة الدنيا، وحينما ينتقل الناس من الحياة الدنيا إلى الحياة الآخرة يفسد هذا النظام كله ويتساقط.
يعبر الله عز وجل عن هذا الموقف بقوله: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ} [التكوير:1 - 4]، ويقول الله سبحانه وتعالى في سورة أخرى: {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ} [الانفطار:1 - 4]، إلى آخر الآيات.
هذا الأكوان أيها الإخوان! خلقت لمدة محددة، وحينما ينتهي وقتها فإن النجوم تتساقط على الأرض، ثم لنتصور هذه البحار وقد أشعلت وأصبحت ناراً تتلهب، ثم تصوروا هذه الأرض وقد مدت وأصبحت واسعة تتسع لهؤلاء الخلائق، منذ أن خلق الله هذا الكون إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، تصوروا هذه الأنظمة وقد تعطلت وتبدلت وتغيرت.
ثم عليك يا أخي! أن ترجع لأمر واحد مهم، وهو أن تعتبر هذه الأشياء سبيلاً إلى الحياة السعيدة، وإلى تلكم السعادة.
إخواني في الله! ربما يستعمل طائفة من الناس شيئاً من المقاييس المادية، وحينئذٍ تكون هذه المقاييس سبباً في ضلالهم وشقائهم، وحينئذٍ ينكرون الحياة الآخرة، فيخسرون الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين، أما الحقيقة التي يجب أن نؤمن بها، فإن هذا وعد الله عز وجل الذي لا يتغير.
هذا أولاً.
ثانياً: أن الحكمة تقتضي بأن تكون هناك حياة آخرة، وأن تكون هناك حياة برزخ، وأن تكون هناك جنة ونار، المنطق والعقل والحكمة كلها تقضي بذلك، وإلا فلا فائدة في هذا الوجود، والله عز وجل منزه عن العبث، ولذلك يقول سبحانه وتعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115]، فالدنيا وما فيها من أنظمة، وما فيها من أدلة، كلها تدل على أن هذا الإنسان لم يخلق عبثاً، ولم يترك سدى.
وعلى ذلك فإنه لا يتصور وجود عاقل يبني قصراً ثم يدعه للجرذان تعبث فيه، وإنما لابد أن يصون هذا القصر، والله سبحانه وتعالى هو الذي خلق هذه الحياة الدنيا، وإنما خلقها لتكون وسيلة وجسراًَ وممراً للحياة الآخرة، فنملأ قلوبنا يا معشر الشباب! بالإيمان بتلك الحياة الآخرة، ولنتصور أنفسنا ونحن واقفون بين يدي الله عز وجل للحساب وهو يناقشنا ويحاسبنا، ونتصور حقيقة أن هذا الكون كله إنما خلق من أجلنا، وأننا خلقنا من أجل أمر عظيم ومهم، لذلك لا نغفل عن الحياة الآخرة، وما ضل ضال عن الطريق، ولا انحرف منحرف، ولا أخطأ مخطئ إلا لغفلته عن هذه الحياة الآخرة، وبمقدار ما يغفل الناس عن هذه الحياة الآخرة تكون المصائب التي لا تساويها مصائب، وبمقدار ما يؤمن الناس بهذه الحياة الآخرة، تعود المياه إلى مجاريها، ويكون الإنسان إنساناً طبيعياً محترماً ملتزماً متزناً.
وإذا أردت دليلاً على ذلك: فانظر إلى هؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة، وانظر إلى أعمالهم، الوحوش والله لا تستطيع أن تفعل مثل أفعالهم، لو نظرنا إلى ما يفعله الروس الشيوعيون الملاحدة في بلاد أفغانستان؛ لعرفنا أن الإيمان بالحياة الآخرة أمر ضروري لو لم يكن لوجب أن يكون، أولئك الذين لا يؤمنون بالآخرة والله لا تستطيع الوحوش الكاسرة أن تفعل مثل أفعالهم، لم يستطيعوا أن يبيدوا هذا الإنسان بالآلاف وبالمئات وبالملايين إلا لغفلتهم عن الإيمان بالحياة الآخرة وإنكارهم لها، ثم انظر يا أخي! إلى هؤلاء الذين قلدوا الملاحدة في إلحادهم؛ فأنكروا الخالق سبحانه وتعالى، وأنكروا نواميس كل هذه الحياة؛ انظروا إليهم ماذا يفعلون بالمؤمنين، ثم انظر أخرى إلى هؤلاء الطغاة المتجبرين الذين فقدوا هذا الإيمان.
ومن هنا ندرك أن الإيمان لذة ومتعة، وأن الإنسان لا يمكن أن يكون إنساناً حتى يؤمن بالحياة الآخرة، لكنه حينما يغفل أو ينكر الحياة الآخرة، فإنه شر خلق الله؛ فهو شر من الحشرات والوحوش، ولذلك يقول الله عز وجل: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنفال:55]، {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف:179]، ولذلك لا نستغرب هذه الأفاعيل التي تحدث من ظلم الناس اليوم على أيدي أولئك الكفرة الملاحدة؛ لأنهم بمقدار ما يغفلون ويبتعدون عن الإيمان بالحياة الآخرة تعود إليهم شيطانيتهم، وتعود إليهم وحشيتهم وأفعالهم التي ينكرها العقل والضمير.
أسأل الله تعالى أن يثبت أقدامنا، وأن يحفظ إيماننا حتى نلقى الله عز وجل مؤمنين، كما أسأله سبحانه أن يرد المسلمين إليه رداً جميلاً، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(56/13)
الأسئلة(56/14)
ترتيب مواقف يوم القيامة
السؤال
ما هو ترتيب مواقف يوم القيامة حسب ما ورد في الشرع؟
الجواب
يقول الله تعالى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً} [الانشقاق:8 - 11] إلخ.
يأتي بعد ذلك وزن الأعمال، هذه الأعمال التي في الصحف توزن، والوزن موقف من مواقف يوم القيامة ورد خبره في القرآن والسنة، يقول الله عز وجل عنه: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47]، {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَظْلِمُونَ} [الأعراف:8 - 9]، ويقول الله عز وجل أيضاً عن الوزن: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [القارعة:6 - 7]، إلى آخر الآيات.
ويأتي بعد الوزن الصراط، والصراط: جسر ممدود على متن جهنم، بعيد المدى، يعبر عليه الناس بقدر أعمالهم، ويعطى كل واحد منهم نوراً يسير به على هذا الصراط، فيؤمرون بالعبور على هذا الصراط، والعبور على الصراط معناه التنقية، أي: تمييز أهل النار من أهل الجنة، فمن وقع في النار فهو من أهل النار، ومن سلم حتى عبر هذا الصراط فهو من أهل الجنة، إلا إذا كان من أهل الأعراف الذين أشرت إليهم أولاً، وأهل الأعراف أيضاً مصيرهم إلى الجنة، كما تدل على ذلك الآيات؛ لأن كل من عبر على الصراط لا يمكن أن يرجع إلى النار أبداً.
وقبل ذلك الحوض، والحوض لا يكون إلا للمؤمنين، ولا يرده إلا هم.
هذه هي المواقف حسب ترتبيها كما يدل على ترتيبها الشرع، والله أعلم.(56/15)
موقف الناس يوم القيامة
السؤال
أين يقف الناس يوم القيامة؟
الجواب
كل الناس يوم القيامة حينما يبعثهم الله عز وجل يحشرون ويصفون في مكان واحد وهو مكان الحساب، كما تدل عليه الأدلة، فيوقفون مدة من الزمن، وتدنو الشمس من الرءوس كما في الحديث، ويلجمهم العرق من شدة الحر، ثم بعد ذلك يستغيثون بالله عز وجل، ويطلبون من الأنبياء أن يشفعوا لهم، فآخر من يشفع وتقبل شفاعته محمد صلى الله عليه وسلم، ثم يكون بعد ذلك الحساب.(56/16)
كلام الناس يوم القيامة
السؤال
ماذا يقول الناس يوم الجزاء أو القيامة؟
الجواب
بالنسبة لغير المؤمنين أثبت الله تعالى بأنهم لا يتكلمون قال تعالى: {إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً} [النبأ:38]، ولا يسألون أيضاً، ولا يطلب منهم الجواب عليها، وإن كان هناك أسئلة لكن لا يطلب منها لها جواب: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف:6]، ولذلك يقول الله تعالى: {وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً} [المعارج:10]، وقال: {وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القصص:78]، فليس هناك سؤال، وإذا كان هناك سؤال فإنه لا يراد له الجواب، وإنما هو سؤال توبيخ.(56/17)
كيفية حشر الناس يوم القيامة
السؤال
كيف يحشر الناس يوم القيامة؟
الجواب
معنى يحشر الناس، أي: يجمعون والحشر معناه: الجمع في اللغة والاصطلاح، يقول الله تعالى: {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ} [المرسلات:38]، فهم يجمعون في مكان واحد كما تدل على ذلك الأدلة، ينفذهم الصوت ويسمعهم الداعي، وعلى هذا فإنهم يحشرون على طبقات كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، طبقة واقفون، وطبقة راقدون، وقوم -نسأل الله العافية- يسحبون على وجوههم، كما أخبر الله عز وجل عنهم أنهم يسحبون في النار على وجوههم، هذه طريقة الحشر تكون على ثلاث مراتب كما أخبر الحديث.(56/18)
مكان الرسل يوم القيامة
السؤال
أين يكون الرسل والأنبياء يوم القيامة؟
الجواب
بالنسبة للحشر فهم مع الناس، أما بالنسبة للصراط فقد ورد في الحديث أنهم يكونون على جنبتي الصراط ويتكلمون ولا يتكلم يومئذٍ إلا الرسل، ويقولون: اللهم سلم سلم، هذا كلام الرسل، والرسول صلى الله عليه وسلم واقف يبحث عن أمته، ولذلك فإنه يقف على حوضه كما ورد في الحديث، ثم يأتي أقوام من أمته صلى الله عليه وسلم فيصرفون عن الحوض، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (فأقول: يا رب! أمتي أمتي، فيقال له: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، إنهم لم يزالوا مرتدين منذ فارقتهم)، وكل ذلك يدل على أن الرسل يكونون مع الناس، لكنهم يكونون في مقام الشفاعة لأممهم.(56/19)
تنقية أهل الجنة عند القنطرة قبل دخول الجنة
السؤال
قرأت في أحد أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم عن وجود ما يعرف بقنطرة، فما هي القنطرة؟ وهل هي بعد الصراط كما أشار الحديث؟
الجواب
هذه القنطرة يقولون: هي موضع للتنقية؛ لأن أهل الجنة قد تكون فيما بينهم حقوق لبعضهم، وكلهم يستحق دخول الجنة، أي: أن هذه الحقوق لا تحول بينهم وبين دخول الجنة، وعلى ذلك فإن هذه القنطرة تعتبر موضعاً للتنقية، بحيث يقتص لبعضهم من بعض قبل أن يدخلوا الجنة، وينقون قبل أن يدخلوا الجنة، فإذا نقوا وأخذ نصيب بعضهم من بعض، أذن للجميع من له أو عليه حقوق بدخول الجنة، لكن ذلك كله يكون في الحقوق التي لا تصل إلى إحباط الأعمال، وإنما هي حقوق محدودة، تنقى في هذه القنطرة التي تكون بين الجنة والنار، كما دلت على ذلك الأدلة.(56/20)
أحوال أخبار الفاسقين في نصوص الشرع
السؤال
ذكر الله تعالى في كتابه أحوال المؤمنين الخلص، وأحوال الكافرين الخلص في الآخرة، لكننا لا نجد الكلام على الفاسقين من أهل الملة، فما هي الحكمة من ذلك؟
الجواب
لا؛ بل نجد أخبار الفاسقين، كما نجد أخبار الكافرين والمؤمنين، فالناس على ثلاث طبقات: طبقة مخلدة في نار جهنم: وهم الكافرون والمشركون، والذين يموتون على غير الملة، وطبقة في الجنة: وهم المؤمنون الموحدون الذين تخلصوا من المظالم والحقوق والمعاصي، وطبقة ثالثة: وهم المؤمنون الموحدون الذين لهم شيء من المعاصي، ذكر الله تعالى أخبارهم في القرآن، قال تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان:72]، وقد قال الله تعالى عنهم بعد ذلك: {وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً} [الفرقان:68]، وذكر الله تعالى كثيراً من أخبار الذين يفعلون المعصية، لكن ذنوبهم تحت مشيئة الله تعالى وإرادته، فما داموا قد ماتوا على التوحيد وعلى ملة الإيمان بالله عز وجل وعليهم معاصٍ وحقوق، فهذه الحقوق إما أن تؤخذ حسنات مقابل هذه السيئات وهذه الحقوق، وإما أن تكون حقوقاً لله عز وجل، وإذا كانت حقوقاً لله عز وجل فإنها تبقى تحت مشيئة الله وإرادته، إن شاء عذب هؤلاء إذا كانت لهم الكبائر العظيمة، ثم يكون مصيرهم إلى الجنة، وإن شاء غفر لهم، وأشار الله عز وجل إلى ذلك بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، وقوله تعالى: (ما دون ذلك)، أي: ما دون الكفر والشرك، وقوله تعالى: (لمن يشاء) أي: لمن أراد أن يعفو عنه، أما من لم يعف الله عز وجل عنه فإنه قد يعاقبه بمقدار ذنوبه، ثم يكون مصيره إلى الجنة.(56/21)
المقصود بيوم القيامة
السؤال
هل المقصود بيوم القيامة ما يحصل من التغيرات الكونية حال قيام الساعة، أم المقصود ما يقع من أحداث بعد نفخة البعث، أفيدونا جزاكم الله خيراً؟
الجواب
الذي يظهر والله أعلم أن يوم القيامة يبدأ من الموت إلى ما لا نهاية له، كله يسمى يوم القيامة كما دلت الأدلة على ذلك، كما أنه يطلق على قيام الساعة التي هي لحظة بعث الإنسان تسمى: يوم القيامة، كما أنه يطلق على البعث ويسمى يوم القيامة والحياة الآخرة.(56/22)
نصيحة لمن يسمع أهوال الآخرة فلا يخشع
السؤال
من لا يتأثر بالحديث عن أهوال يوم القيامة، هل يكون عليه شيء من الذنب؟ وماذا تنصحه أن يعمل حتى يخشع قلبه لهذه الأهوال؟
الجواب
المؤمن بطبيعته إذا سمع مثل هذا الحديث، ومثل هذه المواقف، لابد أن يخشع، وإذا كان من الناس من ابتلي بأنه لا يخشع فعليه أن يراجع إيمانه، وعليه إذا سمع ذكر يوم القيامة أن يتصور المواقف، لا أن تمر عليه فقط، بل لابد أن تنفذ إلى قلبه، فيصور نفسه وهو واقف بين يدي الله، وبين كفتي الميزان، وعلى حافة الصراط، ويسير على الصراط، ويخرج من قبره إلخ، يتصور هذه المواقف فيخشع قلبه لا محالة إذا تصور هذه المواقف، أما أن يسمعها كأخبار وكقصص؛ فإن هذه الأشياء قد لا تؤثر فيه.(56/23)
كيف يجد الإنسان لذة الإيمان؟
السؤال
كيف يجد الإنسان لذة الإيمان؟ فأنا شاب متدين ولا أزكي نفسي، ولكني لا أجد في الحقيقة اللذة التي أخبرت عنها، والجنة التي ذكرها ابن القيم رحمه الله في الدنيا، مع العلم أنني أحاول جاهداً البحث عن هذه اللذة، ما هو الطريق الصحيح لهذه اللذة، حفظكم الله ورعاكم؟
الجواب
هذه اللذة لا تحتاج إلى بحث؛ لأنها مثل الإيمان، تصور يا أخي! حال اثنين: أحدهما يؤمن بالحياة الآخرة، والثاني لا يؤمن بالحياة الآخرة، وكل واحد منهم أصابته مصيبة، تجد أن الذي لا يؤمن بالحياة الآخرة يعيش بقلق، لماذا أصابه هذا المرض؟ ولماذا أصابته هذه الفاقة؟ أما الثاني: فإن اللذة تبرز حينما يقول: الحمد لله ما دامت ما أصابتني هذه النعمة في الدنيا، وما دمت حرمتها في الدنيا فلن أحرم منها في الآخرة إن شاء الله، وما دامت أصابتني هذه المصيبة فأنا أحتسب أجرها عند الله سبحانه وتعالى، هذه هي حقيقة المتعة واللذة.
ولذلك قلت لكم: إن الأمم التي لا تؤمن بالحياة الآخرة هي التي لا تتخلص من مشاكل الحياة إلا بالانتحار، فأقول: إن لذة الإيمان أمر لا يحتاج إلى بحث وجهد، وإنما هو بطبيعته يبحث عن الإنسان، وحياة المؤمن دائماً يشعر فيها بهذه اللذة، لكن لو أن واحداً من الناس يعتبر نفسه مؤمناً ولكنه لا يشعر بهذه اللذة، فنقول له: يا أخي! عالج نفسك وعالج قلبك، أكثر من تلاوة القرآن، تتبع أخبار يوم القيامة وأخبار الحياة الآخرة، وابحث عنها وصورها أمامك، وحينئذٍ تجد هذه اللذة، وتجد لذة الخلود التي لا يشعر بها إلا المؤمنون، وأما غير المؤمنين فليس لهم خلود إلا في نار جهنم، أما المؤمنون فإنهم يشعرون بالخلود؛ لأن الموت لا يعتبرونه فناء أو نهاية، وإنما يعتبرونه بداية النعيم بالنسبة لهم، ومن هنا تبرز هذه اللذة في حياة المؤمن.(56/24)
معنى قوله تعالى: (ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين)
السؤال
قال تعالى في سورة غافر: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر:11]، فما هي الموتتان وما هي الحياتان؟
الجواب
هذه السورة لا يقال لها: الزُمُر، وإنما يقال: الزُمَر؛ لأن الزمَر جمع زمرة، والزمرة هي الجماعة، وقولهم: (أمتنا اثنتين) الموتة الأولى: في الرحم، والموتة الثانية في الدنيا، (وأحييتنا اثنتين) الحياة الأولى في الرحم حينما نفخ الله تعالى فيه الروح، والحياة الآخرة في البعث، ومع ذلك هم في الدنيا لا يعترفون إلا بموتتين وحياة واحدة، وينكرون حياة البعث، فالآن اعترفوا بحياة ثانية فقالوا: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر:11]، ومعنى ذلك: أننا اعترفنا الآن بأن هناك بعثاً بعد الموت، هذا معنى الآية.(56/25)
مقدار يوم القيامة
السؤال
سمعت من أحد الناس بأن طول يوم القيامة خمسون ألف سنة، فهل هذا صحيح أم لا، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
كيف يا أخي سمعت من الناس؟! نحن سمعنا من القرآن من الله سبحانه وتعالى: {في يوم كان مقداره أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة:5] وغيرها من الآيات، لكن الخلاف: هل الطول في الزمن، أو الطول في الشدة؟ فإذا كان الطول في الزمن؛ فعلى ذلك ستكون ساعات هذا اليوم طويلة، ولكن والله أعلم أن المراد بالطول طول الشدة؛ لأن اليوم الشديد يصبح طويلاً، ولذلك سماه الله تعالى في القرآن: {يَوْمًا ثَقِيلًا} [الإنسان:27]، {يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان:7]، {يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} [الإنسان:10]، كل هذه الأوصاف في وصف هذا اليوم، ولذلك الله تعالى ما قال: وإن يوماً عند ربك ألف سنة، بل قال: {كَأَلْفِ سَنَةٍ} [الحج:47]، ولعل المراد هنا بالطول والله أعلم طول الشدة؛ لأنكم تلاحظون في الدنيا اليوم الذي تكونون فيه متمتعين تشعرون فيه بقصر هذا اليوم، واليوم الذي تكونون فيه في تعب ومشقة أو مرض يشعر الإنسان بطول هذا اليوم.
فلعل المراد -والله أعلم- بالطول الطول المعنوي لا الحسي، ولذلك أخبر الله أن المؤمنين هذا اليوم لا يساوي عندهم إلا ساعات قصيرة، مثلما يقيلون في بيوتهم، ففي نصف النهار من أيام الدنيا يكونون قد وصلوا إلى منازلهم، ولذلك يقول الله تعالى عن المؤمنين: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} [الفرقان:24]، ومعنى (مقيلاً): وقت القيلولة، وليس في الآخرة قيلولة، ولا في الجنة قيلولة، لكن مع ذلك معنى القيلولة: النوم وسط النهار، وليس هناك أيضاً نوم في الجنة؛ لأن متاع الجنة لا ينتهي أبداً، ولا ينقطع بنوم ولا بأي شيء آخر، لكن مع ذلك فهم -أي: أهل الجنة- في أقل من نصف النهار يصلون إلى منازلهم.(56/26)
معنى قوله تعالى: (وإن منكم إلا واردها)
السؤال
قال تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم:71]، هل الآية معناها: أن المؤمن والكافر يدخلون جهنم، أم ماذا؟
الجواب
المراد بالورود هنا: المرور على الصراط، (وَإِنْ مِنْكُمْ) هذا قسم، فالله تعالى يقسم بأن كل الناس يردون جهنم، لكن المراد بالورود: هو المرور على الصراط بالنسبة للمؤمنين، أما بالنسبة لغير المؤمنين فإن الله تعالى قد أخبر فقال: {وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} [مريم:72]، أي: يكونون حطباً في وسط جهنم، وعلى هذا فإن المراد بالورود هو المرور على الصراط وليس هناك آية تدل على أنه ليس هناك طريق للجنة إلا عن طريق الصراط، الذي قد مد على متن جهنم، فيمر المؤمنون كالبرق الخاطف، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كأجاود الخيل، ومنهم من يحبو حبواً، وعلى هذا فإن المراد بالمرور هنا بلا خلاف: العبور على الصراط.(56/27)
موقف الشاب الملتزم ممن يسخرون منه لالتزامه بالدين
السؤال
بعض الناس يسخر من الشباب الملتزم وخاصة في أمر اللحية، فماذا تنصحون الشباب الملتزم أن يفعله إزاء ذلك؟
الجواب
إذا وصل الأمر إلى أن يسخر أحدهم من أحد في لحيته، فيكون شرفاً للمسخور به بنص القرآن، الله تعالى قد سمى المسخور به مؤمناً، وسمى الساخر مجرماً، سنة الله تعالى في الحياة قديمة وباقية إلى يوم القيامة: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} [المطففين:29]، انظر إلى لحيته! وانظر إلى ثيابه! أو إلى كذا، هذا كثيراً ما نسمعه في أيامنا الحاضرة: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} [المطففين:29 - 30]، كل واحد يغمز للآخر، يقول: انظر إليه! {وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ} [المطففين:31]، حتى إذا دخل بيته بدأ يضحك ويقول: فلان طويلة لحيته قصيرة ثيابه! عجيب أمر فلان! حتى إنه ليخبر أهله ولا يكتفي بأصدقائه، {وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} [المطففين:31 - 33]، ولكن إذا تغيرت المعايير يوم القيامة، {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} [المطففين:34]، سمى الله تعالى هؤلاء المؤمنين، وسمى أولئك بالكفار نعوذ بالله.
فالسخرية من المؤمنين بسبب إيمانهم خطر عظيم، نحذر من يفعل ذلك من فعله، خصوصاً إذا وصل إلى الطعن في الدين: رجعي متخلف أو ما أشبه؛ لأنه ليس طعناً في الشخص، وإنما هو طعن في دينه، ولذلك الله تعالى سمى الذين يطعنون في الدنيا أئمة الكفر فقال: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ} [التوبة:12]، وفي قراءة: (إنهم لا إيمان لهم لعلهم ينتهون)، وعلى هذا نقول: شرف لك يا أخي! أن يسخر بك الفسقة، وخطر عليك أن يكونوا مسرورين منك، فهم لا يخالفونك إلا إذا كنت على حق، ولا يوافقونك إلا إذا كنت على باطل، فلذلك يعتبر هذا شرفاً، وهذه نعمة من الله سبحانه وتعالى.(56/28)
حكم من أسلم ثم كفر ثم مات على الإسلام
السؤال
إنسان كان مسلماً ثم كفر، ثم رجع إلى إسلامه، فمات على ذلك، هل يكون مسلماً؟ وهل يحبط أجره قبل كفره؟
الجواب
الأعمال بالخواتيم، يقول الله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]، بشرط: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} [الزمر:54]، وعلى هذا فإن من آمن ثم كفر، ثم آمن ثم كفر، ثم آمن، إن ختم له بالإيمان فنرجو له خيراً؛ لأن الأعمال بالخواتيم، ولكننا نخشى على ذلك المتذبذب الذي لا يثبت على طريقة؛ نخشى عليه من سوء الخاتمة.
وعلى كلٍ فإن الله تعالى يقول: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً} [الجاثية:21]، لا يمكن أن يستويان، لكن ذلك الذي ختم الله تعالى له بخاتمة الإيمان، نرجو له من الله المغفرة، وتتوقع له المغفرة؛ لأن الأعمال بالخواتيم.(56/29)
حكم مشاهدة البرامج الإسلامية في التلفاز
السؤال
ما حكم مشاهدة البرامج الإسلامية في التلفزيون؟
الجواب
البرامج الإسلامية هي وغيرها لا نستطيع أن نقول فيها شيئاً، مشاهدة البرامج الإسلامية أمر طيب، ولكن خير للناس أن يأخذوا دينهم من مصدره الأصلي، لا من برامج مختلط خيرها بشرها؛ لأني أخشى أن تكون هذه البرامج إما مدسوس فيها شيء، أو تكون على الأقل ملوثة بما يحيط بها من مسرحيات وأغاني.(56/30)
حكم محادثة النساء في التليفون
السؤال
ما حكم مكالمة النساء غير المحارم في التليفون؟
الجواب
إذا كان ليس فيه غزل أو رقة، أو أمور محظورة، فهذا لا بأس به، لا فرق بين أن تكلمها في التليفون، أو من خلف الباب، أو في أي حال من الأحوال، فهذا أمر لا بأس به، بشرط أن لا يصل إلى درجة الأمور المنهي عنها التي قد تحدث المرض في قلوب الناس، خصوصاً إذا كانت المرأة ترقق صوتها أو ما أشبه ذلك؛ لأن الله تعالى يقول: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32].(56/31)
حكم استعمال عطور النساء للرجال والعكس
السؤال
هل يجوز استعمال عطور النساء للرجال والعكس؟
الجواب
نعم، العطر سواء، بل الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بأنه يوم الجمعة إذا بكر ومس من طيب امرأته، فليس هناك عطر خاص بالمرأة، وليس هناك عطر خاص بالرجل، فالأمر مشترك.(56/32)
كرامات الجهاد الأفغاني
السؤال
سمعنا عن بعض الكرامات في أفغانستان، نرجو من فضيلتكم أن تتحدث عن هذه الكرامات، ولكم جزيل الشكر؟
الجواب
الكرامة باقية إلى يوم القيامة في أولياء الله الصالحين، هذه لا نتساءل عنها، والمعجزة خاصة بالرسل، والكرامة في الصالحين باقية إلى يوم القيامة، وما يحدث في أفغانستان من الكرامات مما يتحدث عنه بعض الكتاب، أنا لا أقول: كله حقيقة، وإن كان هناك أشياء لا يقرها العقل، لكن أقول: لا شك أن جزءاً منها حقيقة، وذلك أن شعب أفغانستان شعب يستحق -بإذن الله- هذه الكرامات؛ لأنه لا يقاتل في سبيل قومية، ولا وطن ولا دم، ولا عرق أبداً، هذه الأشياء لا نسمع بها بين المجاهدين الأفغان كما نسمع بها بين الفئات الأخرى التي تزعم أنها تجاهد في سبيل الله، وعلى هذا فإني أقول: المجاهدون الأفغان يستحقون منا كل عناية وتقدير، وما يروى عنهم من بعض الكرامات التي تحدث بالنسبة لهم، نحن لا نستنكرها إذا كانت توافق العقل، أما إذا كانت لا توافق العقل فلسنا ملزمين بالتصديق بها.
وعلى كلٍ فإننا نقول: إن بعض الكرامات تحدث حقيقية، كما يحدثنا أشخاص منهم بأنها تحدث، ولكن علينا أيضاً أن نستعمل عقولنا في جزء منها.(56/33)
علاج الوساوس في الصلاة
السؤال
إذا شرعت في الصلاة بدأت بي الوساوس من كل جانب، فأرجو أن تنصحني ماذا أفعل، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
هذه من الأمراض التي تصيب أكثر الناس إن لم تصب كل الناس، وعلى هذا فإني أقول: إن الشيطان حريص على إفساد أفضل عبادة يؤديها المسلم وهي الصلاة، ولذلك فإنه لا يتمكن من المسلم أكثر مما يتمكن منه وهو في وقت الصلاة، ولكن نقول: عليك أن تجاهد هذه الوساوس، وأن تتصور عظمة الموقف، وأنك تقف بين يدي الله عز وجل، وأنها فرصة قد لا تتاح لك مرة أخرى أن تقف فيها بين يدي الله عز وجل، فلا تضيعها في الوساوس، كما أن عليك أن تنتبه، وعليك أن تخبر عقلك، وبمقدار ما تزيد الوساوس تنقص الصلاة، وإن كانت الصلاة صحيحة إن شاء الله، وبمقدار ما تقل فإن الصلاة تكمل، وعلى هذا فإني أقول: علينا أن نحارب الوساوس ودائماً نخشع، وإذا أردنا أن ندخل في الصلاة فعلينا أن نجرد أذهاننا وعقولنا من مشاغل الحياة الدنيا حتى نتفرغ للصلاة.(56/34)
انضباط الصحوة الإسلامية واستقامتها
السؤال
نلاحظ في الوقت الراهن كثرة الشباب المتدين، وهو ما يسمى بالصحوة الإسلامية، ولكن مع الأسف الشديد تم التركيز على كثرة الكم لا على الكيف، فنجد الكثير من الشباب ينقصهم الكثير من أخلاق الشاب المسلم، فما هو الطريق الصحيح لإصلاح هذا الشباب المتدين، والمتقبل للموعظة والنصح؟
الجواب
أنا أخالف الأخ بأن الكم موجود والكيف موجود والحمد لله الآن، وأتوقع أن جل النوعية الموجودة -إن لم تكن كلها- من النوع الجيد، والدليل على ذلك: أن هذه الصحوة الإسلامية ما وجدت في فترة كانت الأمور فيها أبسط وأحسن من ذلك، وإنما وجدت في فترات حينما أصبح الحق لابد أن يظهر، ولذلك فإني أقول: إن هذه الصحوة -والحمد لله- طيبة سواء في كمها أو كيفها، وأرجو الله سبحانه وتعالى أن يوفقها للانضباط والاستقامة والالتزام، وأرجو الله سبحانه وتعالى أن يحفظها من أعدائها، وأن يزيد في عددها، وأن يقوي شخصية هؤلاء الشباب الذين يتمتعون بهذه الشخصية.
وهذه الصحوة الإسلامية والحمد لله ليست مقتصرة على بلد ما، فكل بلاد العالم نجد فيها هذه الصحوة، حتى في بلاد الكفر والإلحاد نجد أن كثيراً من المسلمين الذين كانوا قد انغمسوا في الرذائل في تلك البلاد، نجدهم الآن -والحمد لله- اتجهوا هذا الاتجاه الطيب المبارك، ونسأل الله لنا ولهم الثبات.(56/35)
حكم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة
السؤال
ما حكم إذا كان الإنسان يصلى وذكر قول الرسول صلى الله عليه وسلم، هل يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم أم لا؟
الجواب
لا أظن أن ذلك يصح، فالذي ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا مر بآية رحمة سأل، وبآية عذاب استعاذ، وعلى هذا فإن الإنسان لا يزيد على ذلك؛ لأن الصلاة يجب أن يكون فيها القول محدوداً وفق الأوامر التي جاءت من عند الله سبحانه وتعالى ومن عند رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فإني أقول: لا نصلي على الرسول صلى الله عليه وسلم بألسنتنا وإنما بقلوبنا إذا ورد ذكره في الصلاة؛ لأننا نسمع أن قوماً إذا سمعوا قوله تعالى: {صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى:19] قالوا: وعليهم الصلاة والسلام، وأنا لا أرى أن يقولوا ذلك.(56/36)
دعاة الضلال
السؤال
من هم دعاة الضلال؟
الجواب
دعاة الضلال هم الذين يسعون لانحراف المسلمين عن الجادة المستقيمة، والذين يريدون أن يدخل الناس في نار جهنم، سواء كانوا من الكافرين أو من المسلمين الذين ينسبون إلى الإسلام والإسلام منهم براء، أو من الذين يفعلون هذه الأشياء بدون إرادة وبدون قصد، ولكنهم يحرفون الناس عن الطريق المستقيم، كل أولئك يسمون من دعاة الضلال.(56/37)
ثمرات الإيمان بالآخرة
السؤال
دائماً يذكر الله سبحانه وتعالى الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخرة، فما هي ثمرات الإيمان بالآخرة حتى تجعل لها هذه الأهمية، علماً بأن هناك من يؤمن بها ولكن لا يرتدع عن المعاصي؟
الجواب
الإيمان بالله والإيمان بالحياة الآخرة متقاربان؛ لأن كل واحد منهما بيننا وبينه حجاب وستار، والإيمان بالمغيبات شيء واحد، فالذين لا يؤمنون بالآخرة لا يؤمنون بالله سبحانه وتعالى، وقد يؤمنون بالله سبحانه وتعالى إيماناً ضعيفاً لكنهم لا يؤمنون بالآخرة، كما وجد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم إذا سألتهم: من خلق السماوات والأرض؟ يقولون: الله، لكن لما كان إيمانهم بالله سبحانه وتعالى ضعيفاً لم يمكنهم ذلك من الإيمان بالحياة الآخرة.
أما الإيمان بالحياة الآخرة فإن له من الأهمية بمقدار ما للإيمان بالله عز وجل من الأهمية؛ لأن الإنسان إذا آمن بالله ولم يؤمن بالحياة الآخرة، أصبح كما فعل المشركون الأولون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقولون: {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24]، وعلى هذا فلابد من الإيمان بالحياة الآخرة، والإيمان بالحياة الآخرة يعتبر هو الحاجز الطبيعي الحقيقي الذي يحول بين الإنسان وبين المعصية، وإذا كان هناك من يؤمن بالحياة الآخرة ولا يعمل للحياة الآخرة، فنقول: إيمانه كاذب؛ لأن الإيمان بالشيء يؤدي إلى الاستعداد له.(56/38)
حكم من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم دون سائر الأنبياء
السؤال
رجل نظر إلى الأديان كلها، ويزعم أن جميع الأديان تجعل نهاية الإنسان في موته، وعندما نظر في الدين الإسلامي فإذا فيه الوعد والوعيد بعد الموت، فقال: سأعمل ما يوجبه الإسلام، وإن كان الذي أخبر به الرسل لا يوافقه؛ فلعلي أن أكون من أهل النعيم، فهل هذا يغني عن عذاب الله؟
الجواب
أولاً: كل الرسل يدعون إلى الإيمان بالحياة الآخرة، وقالوا لأقوامهم: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأعراف:59]، فيدعون إلى الإيمان بالحياة الآخرة، ودين الإسلام ليس هو فقط الدين الذي يدعو إلى الإيمان بالحياة الآخرة، بل إن الإيمان بالحياة الآخرة فطرة، وأمر معقول لابد منه، وما فائدة هذا الوجود إذا لم تكن هناك حياة آخرة؟! ثانياً: أن ذلك الذي رفض الإيمان بالرسل وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم هو كافر مرتد؛ لأنه لا يكون الإنسان مؤمناً مسلماً إلا إذا آمن بالأنبياء قبل محمد صلى الله عليه وسلم، الإيمان الضعيف كإيمان أبي العلاء المعري الذي يقول: إن كان ما يقال عن الحياة الآخرة حق فأنا ما خسرت شيئاً، وإن كان غير حق فأنا لم أخسر شيئاً.
هذا ليس إيماناً حقيقياً، الإيمان الحقيقي هو الذي أخبر الله عز وجل عنه كإيمان الصحابة ومن سار على نهجهم، قال تعالى: {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم:46]، أي: ما كان مكرهم لتزول منه الجبال؛ لأن الجبال لا تزول عن أماكنها، فإيمان المؤمنين لا يزول عن مكانه، وعلى هذا فنقول: المؤمن لا يقول: أنا أريد أن أعمل الصالحات؛ لأنه إن كانت هناك حياة آخرة فما تعبت، وإن لم تكن هناك حياة آخرة فأنا أيضاً ما خسرت، وأيضاً أكون ما خاطرت بنفسي، هذا في الحقيقة منطق من مناطق الضالين، أما المؤمن الحق فإنه يؤمن بالحياة الآخرة إيماناً كاملاً، وعلى هذا فإنه يعمل انطلاقاً من هذا الإيمان.(56/39)
من صور مساعدة المجاهدين
السؤال
المسلم عندما يسمع ويقرأ ما يقاسيه إخواننا المجاهدون الأفغان؛ فإنه يجد الألم والضيق في قلبه، ولا يدري ما الوسيلة المناسبة لمساعدتهم، وهل يكفي المساعدة بالمال أو يلزم الجهاد بالنفس؟
الجواب
الحقيقية أن شعوره بالضيق يدل على وجود الإيمان، وعلى هذا فإني أقول: إخوانك الذين يجاهدون في سبيل الله من الأفغان لهم حق عليك، فإذا كنت تستطيع أن تجاهد معهم بيدك وبجسدك، لكني أظن أنهم لا يحتاجون إلى شيء من فعلك ذلك، ولكن عليك أن تجاهد معهم بمالك، أو على الأقل بنقل أخبارهم، وبيان ما هم عليه من الحق، فإن هذا يعتبر نوعاً من الجهاد؛ لأني أرى أن كثيراً من الأفغان الآن يهضمون حقهم، ويقال عنهم أقاويل هم براء منها، وعلى هذا فإني أقول: نحن مطالبون بأن نساعد إخواننا في سبيل الله، والله تعالى قد أمرنا أن ننفر خفافاً وثقالاً لنجاهد في سبيل الله، ومن النفير: أن نقدم شيئاً من أموالنا، أو أن ندعو الناس إلى البذل في سبيل الله، ويكون ذلك من الجهاد في سبيل الله.(56/40)
من أسباب تقوية الإيمان
السؤال
نحن نؤمن بالله وبالدار الآخرة، ولكننا لا نزال نعصي الله عز وجل، فنتكبر ونعلم أنه لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، ونحب القرآن ولكن سماعنا للأناشيد أكثر وأرغب، ونحفظها ولا نحفظ القرآن، فما السبب وما الحل جزاكم الله خيراً؟
الجواب
إن المؤمن الذي يعمل الصالحات يستحق الجنة، والمؤمن الذي يكون عنده شيء من الأخطاء يكون تحت مشيئة الله وإرادته، ولكن ما ذكره الأخ لا أظن أنه حقيقة، فإن المؤمنين لا يتكبرون؛ فالكبر ليس من صفات المؤمنين، وما ذكره الأخ من أنهم يحفظون الأناشيد ولا يحفظون القرآن فهذا لا أقول: إنه حرام، ولكني أقول: يجب أيضاً أن نعدل من واقعنا فنحاول أن نحفظ القرآن، ولعل الأناشيد باعتبارها تأخذ في لب الإنسان ويأخذ صوتها بعقل هذا الإنسان، لعلها تكون أسهل في الحفظ، ولا يدل ذلك على انصراف هؤلاء عن القرآن، وإنما يدل على أن لدى هذا الإنسان شوق إلى الأناشيد، ولكن لا يمنع أن يكون عنده شوقاً للقرآن، فأدعو أيضاً الشباب إلى أن يحافظ، ويحاول حفظ ما يستطيع من القرآن خصوصاً في أيام شبابه، والله المستعان.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(56/41)
أسباب الاستقامة والانحراف
إن أعظم كرامة لزوم الاستقامة، وهناك أسباب للاستمرار في طريق الاستقامة، وهي تعتبر كالسياج للمحافظة على السير في هذا الطريق المستقيم، كما أن هناك أسباباً تدعو للانحراف والعدول عن هذا الطريق، والتخلف عن السير في هذا السبيل المبارك، فعلى المسلم لزوم أسباب النجاة، والحذر من أسباب الهلاك.(57/1)
الاستقامة هي الأصل في الفطرة الإنسانية
الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، والشكر لله الذي يجمع القلوب على طاعته {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال:63].
والصلاة والسلام على رسوله الذي بعثه الله رحمة للعالمين، وحجة على الناس أجمعين، فبلّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة.
اللهم! صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض -اللهم- عن آله ومن دعا بدعوته وعمل بسنته ونصح لأمته إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن الاجتماع في بيوت الله على ذكر الله وطاعته يبث السرور في النفس والغبطة في القلب، وما ذلك بجديد على الحياة، فإن الله تعالى قد أخبرنا أنه سوف يظهر هذا الدين على الدين كله ولو كره المشركون، ولكن الشيء الذي نستطيع أن نقول: إنه جديد هو أن الكثرة الساحقة والسواد الأعظم في مجالس الذكر هي من شباب المسلمين، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على عمق الصحوة الإسلامية المباركة، وأن لها جذوراً ضاربة في أعماق الأرض، وأن هذه هي الثمرة التي كنا ننتظرها منذ أمد بعيد، فأقرّ الله عيوننا بتلك الوجوه الطيبة.
ألا فليطمئن الناس على دين الله، بل إن دين الله عز وجل ليس بحاجة إلى الناس، ولكن الناس بحاجة إلى دين الله، وإن ما يحدث في هذه الأرض من انحرافات وانجرافات وراء التيارات إنما هو خلاف الفطرة، أما الفطرة فقد أخبر الله عز وجل بأنها هي التي ولدت مع هذا الإنسان، ولا تغيير لها أبداً، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:172].
هكذا ولدت الفطرة مع الإنسان، والفطرة باقية ثابتة {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} [البقرة:138].
إذاً نحن متفائلون، والخير في هذه الأمة إلى يوم القيامة، وإذا رأينا الخير في الشباب فلنعلم يقيناً أن الصحوة متزنة من جميع نواحيها، ولذلك فليفرح اليوم المؤمنون بنصر الله، ينصر من يشاء.
ولا نريد أن نذهب بعيداً عن موضوعنا الذي حددناه، فهو عن أسباب الاستقامة وأسباب الانحراف، ولنأخذ ذلك كله من قول الله عز وجل: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود:112]، ثم نأخذ بعد ذلك جزاء هذه الاستقامة، {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأحقاف:13]، وفي الآخرة أيضاً يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:30 - 32].
والاستقامة هي الالتزام، مِن (قام الشيء) بمعنى: اعتدل.
والانحراف معناه الاعوجاج، وهذان دليلان على أن الأصل في الأشياء كلها الاستقامة، وأن الانحراف إنما هو حادث وطارئ، كما عرفنا من خلال الآية الأولى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف:172]، كما أن الله عز وجل أشار إلى أن الاستقامة هي الأصل في قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [البقرة:213] أي: على ملة واحدة {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} [البقرة:213] أي: فانحرفوا فبعث الله مبشرين ومنذرين.
إذاً الاستقامة هي الأصل، والانحراف هو الذي يتنافى مع الفطرة ومع الأصل، ولذلك فإننا نقول: إن الذين يأخذون بهذا الحق وبهذا الدين هم الذين يسيرون على الطريق المستقيمة، لا شك ولا ريب في ذلك، وإن الذين ينحرفون عن هذه الطريق المستقيمة هم الذين تذهب بهم شياطين الإنس والجن هنا وهناك إلى مذاهب شتى.
ولذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنه: (قرأ قول الله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153] ثم خط خطاً طويلاً معتدلاً مستقيماً وقال: هذا صراط الله.
ثم خط عن يمينه وعن شماله طرقاً متعددة وقال: هذه هي السبل، وعلى كل سبيل منها شيطان، وعليها سُتُر مرخاة، فإذا أوشك الإنسان أن يفتح واحداً من هذه السُتُر المرخاة ناداه مُنادٍ: ويحك -يا عبد الله- لا تفتحه؛ إنك إن تفتحه تَلِجْه، وإن تلجه لا تخرج منه إلى يوم القيامة) أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.(57/2)
أسباب الاستقامة
نحن لا نستغرب وجود الاستقامة في الناس، ولكننا نستنكر بشدة الانحراف الذي يحدث في هذه الأرض؛ لأنه خلاف الفطرة، وعلى هذا فإن للاستقامة أسباباً وللانحراف أسباباً، ولعل دنيا الناس اليوم امتلأت بأسباب الاستقامة وأسباب الانحراف، وإن كان مما يخيف ضعاف الإيمان أن أسباب الانحراف أصبحت في واقع الناس وفي عالم الدنيا اليوم أكثر من أسباب الاستقامة، ولكننا مطمئنون لوعد الله عز وجل، فإنه هو الذي أخبرنا بأنه سيظهر هذا الدين على الدين كله، وأخبرنا رسوله صلى الله عليه وسلم بأن الخير في هذه الأمة إلى يوم القيامة، وعلى هذا نقول: لا مانع من أن نطرق شيئاً مما نلمسه في واقع الناس اليوم من أسباب الاستقامة وأسباب الانحراف.(57/3)
التربية الصالحة
أولاً: التربية الصالحة.
والتربية الصالحة تبدأ من اختيار الزوجة الصالحة؛ لأن الزوجة الصالحة تعتبر تربة طيبة لبذور صالحة، فإذا وضعنا هذه البذور الصالحة في تربة صالحة نضمن بإذن الله عز وجل وجود أولاد صالحين، ولذلك لا نعجب من اهتمام الإسلام باختيار الزوجة، فقد قال تعالى: {وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} [البقرة:221]، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (فاظفر بذات الدين) فيجب أن تكون التربة صالحة لتكون بيئة صالحة للذرية الصالحة.
ثم بعد ذلك يأتي دور التربية ابتداءً من سن الطفولة التي يقول علماء النفس وعلماء الاجتماع عنها: إن السن السابعة هي السن المناسبة لتربية الأولاد في البيت وفي المسجد أيضاً.
ويؤيدهم الحديث الصحيح: (مروا أبناءكم بالصلاة لسبع)، ثم لا يزال يلزم الرجل أن يتعاهد هذه الذرية تربية وإعداداً وتجهيزاً وإصلاحاً حتى يأتي سن العاشرة، فلا بد من أن يزيد في أمره لأولاده بالصلاة حتى يعيشوا مع الصالحين في المساجد، حتى إذا بلغ أحدهم الحلم فلا بد من أن يكون هناك المعيار الواضح بين الإيمان وبين الكفر.
إذاً التربية الصالحة لا بد منها، وهذه التربية أول من يبدأ بها الأم، ثم الأب، ثم المدرسة، ثم الجهات الأخرى التي لها دور في إصلاح هذه الذرية، ولذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا فقال: (كل مولود يولد على الفطرة).
إذاً أنت -أيها الأب- وأنتِ -أيتها الأم- لستما مسئولين عن أن توجدا الفطرة في قلب هذا الإنسان، ولكنكما مسئولان عن المحافظة على هذه الفطرة حتى لا تعتريها أشياء تخلّ بها، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) أي: بسوء التربية.
ثم إن هذه التربية أول من يستفيد منها ذلك الأب الذي ربى أولاده على طاعة الله، أو تلك الأم التي ربت أولادها على طاعة الله، وهذه الفائدة تكون في الدنيا بالبر والاستقامة والمحبة والتعاطف والتآلف، وفي حياة البرزخ يقول عليه الصلاة والسلام: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به من بعده، أو ولد صالح يدعو له) وتكون أيضاً في الحياة الآخرة، كما قال الله تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ} [الرعد:23 - 24].
بل إن الله عز وجل أخبرنا في آية أخرى أن الأب الصالح إذا خلف أولاداً صالحين صلاحهم لا يصل إلى درجة صلاح الآباء فإن الله بكرمه يرفع الأبناء درجة إلى درجة الآباء، ولا يخفض الآباء درجة إلى مستوى الأبناء، وذلك من أجل أن تقرّ العين، ولا يكون هناك ظلم ولا هضم، قال سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور:21] يعني: ما نقصنا الآباء عملهم فأنزلناهم إلى درجة الأبناء، ولكن حتى لا يتعلق الولد بأولاده ولا يتعلق الولد بآبائه يرفع الله تعالى الولد، ثم يقول الله تعالى بعد ذلك: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:21] حتى لا يقول أحد من الناس: إن أبي فلان الرجل الصالح، أو الرجل التقي، أو الرجل العالم.
ولكن يجب أن يكون القائل هو الرجل الصالح، أو الرجل الورع، أو الرجل التقي.
أيها الأخ الكريم! هذه هي نتيجة البر في الدنيا وفي الآخرة؛ ولذلك نقول: يجب أن تتضافر كل الجهود، فالمدرسة تقوم بشيء من هذا الدور، والمعلم أمين ومسئول بين يدي الله عز وجل عن هذه الأمانة التي يقوم بتربيتها وإعدادها، والوسائل التي أصبحت الآن لها دور في انحراف الشباب أو استقامة الشباب ستتولى هذه المهمة، وسيُسأل بين يدي الله عز وجل من يقوم عليها في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون عن الدور الذي تقوم به في تربية هؤلاء الأولاد أو في انحرافهم.
كذلك وسائل الإعلام، ووسائل النشر، والأندية الرياضية إلى غير ذلك من الوسائل التي أصبحت الآن تسيطر على عقول الناس أكثر مما يسيطر عليها الأب والأم، كلها ستتحمل بمقدار ما تقدمه من نفع أو ضر توجهه إلى هذا المجتمع، وما يكون لذلك من نتائج طيبة أو نتائج سيئة.
فالكل مسئول، والدولة بمقدار ما تستطيع أن تقدمه للمجتمع من وسائل هي مسئولة بين يدي الله عز وجل عما يحدث تحت ظلها من استقامة أو انحراف، وحينما يكون هناك أشياء تؤثر في الفطرة، أو يكون هناك دعاة للضلال يريدون أن يحرفوا الشباب والنشء عن منهجهم فإنه بمقدار ما يُعطَى هؤلاء الناس من الحرية المنحرفة فإن الله عز وجل سوف يسألهم يوم القيامة عن هذه المسئولية الكبرى.
إذاً حينما نقول: (التربية) فإننا نعني أكبر وسيلة من وسائل الاستقامة، ونقول: كل من استطاع أن يقدم جهداً في سبيل استقامة الناس فإنه يؤجر بمقدار ما يقدمه من هذا الجهد، وكل من أراد أن يقدم ضرراً وانحرافاً إلى الناس في المجتمع فإنه سيتحمل المسئولية بين يدي الله عز وجل.
ولذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته) وكلمة (كلّ) تعطينا أن كل واحد من الناس بمقدار مكانه وموضعه في هذا الوجود وفي هذه الدنيا سيتحمل من هذه المسئولية بمقدار ما مكّنه الله عز وجل، ولذلك فإن الله تعال مدح ولاة أمر المسلمين الذين يستقيمون على دين الله فقال: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:41].
فهذا يعتبر هو العامل الأول من عوامل الاستقامة، وهو: التربية الصالحة.(57/4)
التفكر في ملكوت السماوات والأرض
العامل الثاني: النظر في ملكوت السماوات والأرض.
هذا النظر الذي ينشأ عنه إيمان كالجبل الأصم الثابت الذي لا يستطيع أحد أن يزحزحه عن مكانه، وهناك فرق بين الإيمان الوراثي -الذي سنتحدث عنه إن شاء الله مع السلبيات- والإيمان الذي نشأ عن تفكير ورويةّ، وحينما نقول: (تفكير وروية) لا نقصد التفكير في ذات الله عز وجل، فإن الله سبحانه وتعالى فوق ذلك كله، وإنما تفكير في قدرة الله عز وجل، وفي آثار صنعه الذي وضعه في هذا الوجود وفي هذا الكون حتى يكون ذلك سبيلاً للإيمان.
هذا التفكير الذي يقول الله عز وجل عنه: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [يونس:101]، {أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:185]، والله سبحانه وتعالى دائماً يخاطب العقول؛ لأن هذه العقول هي التي تنظر إلى هذه الأشياء نظرة تفكير، يقول الله تعالى: {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك:3 - 4].
هذا النظر في ملكوت السماوات والأرض هو الذي يعطي هذا الإنسان أكبر دليل على وجود خالق متصرف قادر واحد ليس معه متصرف أبداً، وحينئذٍ يرجع بنتيجة واحدة، وهي أنّه ليس في هذا الكون متصرف إلا الله عز وجل.
ونضرب مثالاً لذلك: إبراهيم عليه الصلاة والسلام ما كان يشك في الله تعالى أبداً، حتى في أيام صبوته وأيام شبابه قبل أن يكون رسولاً، ولكنه ينظر إلى هذا الكون العظيم نظرة تفكير ليثبت لهؤلاء الناس أنّه ليس في هذا الوجود من يستحق أن يُعبد إلا الله سبحانه وتعالى، ثم يرجع إبراهيم عليه الصلاة والسلام بنتيجة حتمية، وهي أنه في ذات الله عز وجل لما صَلُبَ إيمانه وقوي جانبه أصبح يتحدى أقرب الناس منه، وهو أبوه الذي يعتبر ألصق الناس به، ومن منا يستطيع أن يكافح أباه إلى ما يكون مخالفه في دينه، وهو يتحدى العاطفة ويتحدى كل الأشياء التي تفرض عليه أن يسالم المجتمع.
إبراهيم عليه الصلاة والسلام ذكر الله لنا قصته في سورة الأنعام، كما يقول الله عز وجل: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:78 - 79] إلى أي شيء انتهى به الأمر؟ قال: {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [الأنعام:79] وتحدى كل ما يحيط به، حتى ذوي القربى الذين ظلمهم أشد مضاضة، كما يقول الشاعر: وظُلْم ذوي القربى أشد مضاضةً على النفس من وقع الحسام المهندِ فأصبح يتحدى أباه ويقول: {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مريم:45].
ثم إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام حينما أعطاه الله تعالى هذه الحجة على قومه أصبح إيمانه لا ينظر من خلاله إلى أي عذاب يحدث في هذا الوجود إلا كما ينظر الإنسان إلى وسيلة من وسائل المتعة.
فلم يبال حتى أشعلت له نار، هذه النار -كما قال عنها المفسرون-: كانت ناراً عظيمة، سماها الله تعالى جحيماً، فكان الطير إذا مرّ من السماء فوق هذه النار يحترق وهو في السماء، وإبراهيم ينظر عليه الصلاة والسلام إلى هذه النار فيستهين بها؛ لأنها دون نار الحياة الآخرة، حتى إذا ألقي في النار أصبح ذلك الإيمان قد غير له نواميس الحياة وأنظمة الوجود، فأصبحت هذه النار بأمر الله عز وجل برداً وسلاماً على إبراهيم، وهكذا الإيمان يغير كل أنظمة هذه الحياة التي ربما تتعقد أمام عيني هذا الإنسان حينما ينظر إليها، ثم إذا بها تتحول إلى خلاف ما كان يتوقعه هذا الإنسان.
فهذا مَثَل للنظر في ملكوت السماوات والأرض، ولذلك تجد فرقاً شاسعاً بين الإيمان الوراثي الذي يأخذه الإنسان عن أبيه وأمه وأسرته ومجتمعه وبيئته والإيمان الذي يكون وليد البحث والتفكير والقراءة والنظر في ملكوت السماوات والأرض، حينئذٍ يصبح هذا الإيمان كالجبل.
فلا بد من هذا النوع من الإيمان، سيما في فترة الامتحان التي يعيشها العالم الإسلامي، أو الشبيبة الناشئة التي أصبحت الآن بين الجاهلية والإسلام، بين دواعي النفس والشهوات والمغريات العظيمة التي يسيل لها لعاب كثير من الناس وبين داعي الإيمان والجنة الذي ينادي هؤلاء الناس إلى جنة عرضها السماوات والأرض.(57/5)
حرية الكلمة
العامل الثالث من عوامل الاستقامة: حرية الكلمة.
وماذا نقول عن حرية الكلمة؟ حرية الكلمة التي يجب أن يُفتح لها المجال، سيما في البلاد الإسلامية، ونحن لا نتخيل وجود حرية الكلمة كما كان في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يخطب فيتكلم في تحديد المهور، فتقوم امرأة وتقول: يا أمير المؤمنين! كيف تحدد المهور والله تعالى يقول: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا} [النساء:20].
قد يكون هذا من الصعب بمكان، ومثله ما كان من عمر رضي الله عنه حينما كان يخطب فقال للناس: (اتقوا الله) فقام رجل فقال له: يا أمير المؤمنين! عليك ثوبان ولنا من ثوبٍ واحد! ومثله كذلك حين قال عمر رضي الله عنه: (إذا رأيتم مني اعوجاجاً فقوموني) وكان هذا في أول خطبة خطبها، فيقوم رجل في المسجد يهز سيفه ويقول: يا أمير المؤمنين! والله! لو رأينا منك اعوجاجاً لعدلناه بسيوفنا هذه.
فلم يقل رضي الله عنه: أين السلطات الأمنية؟! وإنما قال: (الحمد لله الذي جعل في هؤلاء الناس من يعدّل عمر بسيفه).
إننا نعرف أن هذا شيء بعيد، وليس هو على الله عز وجل ببعيد، إلا أننا لا نريد أن يكون هناك فوضى، ولكن مقصودنا من حرية الكلمة أن ينطلق دعاة الإسلام بحرية؛ لأنهم أوثق من يؤتمن على دين الله عز وجل، ولأنهم أوثق من يؤتمن على الدولة المسلمة التي تطبق شرع الله عز وجل، ولأنهم يحافظون على العهد والميثاق وعلى صفقة اليد التي سلموها للسلطة الشرعية، ولذلك فإنهم لا يُتّهمون.
نحن لا نريد حرية الكلمة لقوم يسبون الخالق سبحانه وتعالى أو يسبون الرسول صلى الله عليه وسلم، أو يأتون برموز نحن لا نعرفها، فهذه تهدم الأخلاق وتهدم العقائد، كما أننا -أيضاً- لا نريد حرية الكلمة لقوم يصفون الحجاب بالتقوقع والتأخر والتخلف، ويقولون عن المجتمع المحافظ: إنه يتنفس برئة واحدة.
لأن هؤلاء لو أحضرناهم على مائدة المناقشة الصحيحة لما استطاعوا أن يثبتوا دليلاً واحداً على ما يقولون، ولكننا نحن نثبت بالأدلة الكثيرة أن الإسلام هو الذي رفع المرأة ورفع الرجل وأوجد من المجتمع الإسلامي مجتمعاً حقيقياً.
إذاً لا بد من حرية الدعوة، وهذه الحرية يجب أن تمنح للدعاة حتى لا يتحرك دعاة الباطل؛ لأن سنة الله عز وجل في هذه الحياة أنه لا بد من أن تكون هناك حركة، وهذه الحركة إما أن تكون بيد الصالحين المصلحين فتستقيم الأمم من ورائهم، وإما أن تكون بيد الفسقة فيضل الناس الطريق على أيدي هؤلاء.
وحينما لا تكون هناك حرية للكلمة الصالحة ولا حرية للدعوة الصحيحة، وحينما لا يتمكن الخطباء أن يقولوا للناس: اتقوا الله بملء أفواههم، وحينما يكون في أفواه الناس والخطباء ما لا يستطيعون أن يبوحوا به، أو إذا بدأ أحدهم يتحدث فإنه يتحدث وكأنه في مزالق، حينما يكون ذلك فإنها لا تقوم الدعوة إلى الله عز وجل.
ولذلك فإننا ننصح لمن يملك أمر المسلمين في كل مكان من الأرض أن يعطي الدعوة الإسلامية حريتها الكاملة حتى يختفي دعاة الباطل؛ لأن دعاة الباطل كالفئران، فحينما تسكن الحركة يتحركون، وكالخفافيش حينما يذهب الضوء تخرج في الظلام، لكن حينما تكون هناك دعوة إسلامية صحيحة على منهج كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، تختفي تلك الفئران التي لا تخرج إلا حينما تهدأ الأوضاع، وتختفي تلك الخفافيش التي لا تخرج إلا في الظلام، وحينما يختفي النور فإن الظلام يخيّم على هذه الأرض، وحينئذ تكون الحركة للخفافيش وحدها في هذا الوجود، ويختفي دعاة الحق عن الساحة، وحينئذ تكون فتنة في الأرض وفساد عريض.
وعلى هذا فإن حرية الكلمة يجب أن تكون للمسلمين، ويجب أن تكون للدعاة، لكن يجب أن تكون منضبطة بحيث لا تمس أحداً لا يقف في طريقها، أما من وقف في طريق هذه الدعوة فإنها دعوة الله تعالى سائرة في الأرض ولو أسكتت في الأرض كلها، فلا بد من أن تمضي هذه الدعوة؛ لأن هذه الدعوة لا تستغني عنها البشرية أبداً، ولو أن أمة من الأمم عطّلت دعوة الله عز وجل لأصبح دعاة الباطل يقومون على قدم وساق، وحينئذٍ تكون فتنة في الأرض وفساد عريض، وأخشى أن يكون أول من يقف في وجه هذه الدعوة هو أول من يتحمل مسئولية وثمن هذا الإسكات، بحيث يتحطم أمام هذه الدعوات الفاجرة؛ لأنها لا تريد الأخلاق ولا المبادئ ولا النظم ولا شرع الله عز وجل، ولا تؤمن بدولة تقوم على شرع الله عز وجل، فهي أكبر عدو لها، أما دعاة الحق فإنهم يحفظون هذا العهد الذي بينهم وبين الله عز وجل مع هؤلاء المسئولين.
إذاً لا بد من أن يفسح المجال لدعوة الله عز وجل، وإذا فتح المجال لدعوة الله عز وجل فإن هذا العالم كله سوف ينضم إلى هذه الدعوة، وستتحطم تلك الأفكار وتلك المبادئ، وحينئذ يكون الدين كله لله عز وجل وحده.(57/6)
الجليس الصالح
العامل الرابع من عوامل الاستقامة: الجليس الصالح.
الجليس الصالح الذي شبهه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه كبائع المسك، إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما -على الأقل- أن تجد منه رائحة طيبة، هذا هو الجليس الذي أُمر كل واحد من المسلمين أن يحسن اختياره، وأخبر الله عز وجل بأن أي صديقين في الدنيا سيكونان عدوين يوم القيامة، إلا إذا كانت هذه الصداقة والصلة في الله عز وجل، كما قال تعالى: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [الزخرف:67].
والرجل الصالح قد يغتر بصديقه الفاسق أو الملحد أو المجرم أو المنافق فيأخذ من سلوكه وأخلاقه وانحرافه فينحرف معه، ولَكَمْ نرى في دنيا الناس اليوم من الشباب الصالحين الذين أساءوا اختيار الأصدقاء والجلساء فكان ذلك سبباً في انحرافهم، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (لا تصاحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي) ونهى الله عز وجل عن موالاة الكافرين؛ لأن موالاة الكافرين سوف تحدث ذلك الانحراف، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة:1]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} [الممتحنة:13]، وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51]، وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [المجادلة:14] إلى غير ذلك من الآيات.
فالجليس الصالح هو الذي يصلح به جليسه ويطمئن إليه ويثق باستقامته وبخلقه ودينه وإيمانه, وحينئذٍ يكتسب منه استقامة إذا كان أقل منه استقامة.(57/7)
العلم
العامل الخامس: العلم.
إنَّ لنا مأخذ على بعض أفراد هذه الصحوة الإسلامية المباركة، وهو أن طائفة منهم لم يتزودوا بشيء من العلوم التي تنفعهم، لاسيما وأن هذه الصحوة عمت أصحاب العلم الشرعي وأصحاب العلوم الأخرى العصرية، وهذا كله خير، لكن المجال واسع لمن أراد أن يتعلم، فهناك المكتبات، وهناك العلماء، وهناك كل وسائل التعليم والإصلاح، فعلينا أن نأخذ بها، وحينما نقول: (العلم) لا نحصر ذلك على العلم الشرعي فقط.
والله تعالى قال: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] والأصل أن أول من يدخل في ذلك هم علماء شرع الله عز وجل، لكن ذلك لا يمنع أن يدخل في هذا الأمر العلماء العصريون الذين علموا شيئاً من علم الفلك، أو غاصوا في أعماق الأرض فعلموا شيئاً من علومها، أو اطّلعوا على أي نوع من العلوم في الهندسة أو في الطب أو في الكيمياء أو في أي شيء، كل هؤلاء في الحقيقة يُعتبرون علماء، وفي كل علم من هذه العلوم كنوز توصل هذا الإنسان إلى ربه عز وجل، وتعرفه بالله عز وجل، فالذين طاروا في الفضاء لو حكّموا عقولهم ونظروا نظرة مفكر متجرد لعرفوا الله عز وجل من خلال هذا الفضاء، والذين غاصوا إلى أعماق الأرض فرأوا شيئاً من مخلوقات الله عز وجل في هذا الوجود لو فكروا لعرفوا الله عز وجل حق المعرفة، والطبيب الذي يشرح هذا الجسم وينظر إلى العروق وإلى تلك الأجزاء أن كل واحد منها يؤدي دوراً لا يستطيع أن يؤديه جزء آخر يعرف الله عز وجل من خلال هذا العلم، وهكذا كل أصحاب الفنون يعرفون الله عز وجل.
ولذلك يقول الله عز وجل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، ويقول عن العلوم العصرية: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53]، ويقول عز وجل: {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:20 - 21].
فهذه العلوم بجميع أنواعها تعتبر وسيلة من وسائل الإيمان بالله عز وجل، وطريقاً من أبرز طرق الإيمان ومعرفة الله سبحانه وتعالى، ولذلك نقول: إن العلم هو أكبر وسيلة للاستقامة، ونخصّ بصفة خاصة العلم الشرعي الذي يُعرفّ الإنسان بربه سبحانه وتعالى، فيعرف ربوبية الله عز وجل من خلال مخلوقاته وآياته الكونية، ويعرف وحدانية الله عز وجل من انتظام هذا الكون، قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22]، ويعرف الله عز وجل من خلال ما في نفسه من الآيات، وحينئذ يكون مؤمنا فّذاً يعرف الله عز وجل بآياته فيؤمن به حق الإيمان.(57/8)
نظافة البيئة
من العوامل التي تسبب الاستقامة نظافة البيئة.
والمراد بنظافة البيئة: أن لا تكون متلوثة بالمعاصي، ولربما يعيا علماء الاجتماع وعلماء التربية والمحبين للإصلاح والتوجيه والتربية بأن يقوموا بمهمتهم في بيئة متلوثة بالمعاصي والأقذار، ولذلك فإن المسلمين أُمروا بأن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر من أجل أن يكون ذلك طاعة لله سبحانه وتعالى من ناحية، ومن ناحية أخرى من أجل أن يكون تنظيفاً للبيئة التي يعيش عليها المؤمنون حتى لا يتلوث إيمانهم بشيء من هذه المغريات أو شيء من هذه المحرمات.
ولذلك فإن كثيراً من المربين في أيامنا لحاضرة يشكون من تلوث البيئة ومن الفساد المنتشر في المجتمعات البشرية، وهم يريدون أن يربوا هذا النشء تربية صالحة، ولربما يضطر بعضهم إلى أن ينفرد بمجموعة مدة من الزمن، ويعزلهم عن هذه البيئة الموبوءة، حتى يستطيع أن يربيهم وأن يعدهم إعداداً كاملاً.
ولذلك لا بد من أن تكون هناك بيئة نظيفة لا تنتشر فيها الأغاني والمسرحيات والعشق والغرام والخيانات الزوجية، إلى غير ذلك من الأشياء التي انتشرت الآن من خلال هذه الأفلام المحرمة في حين غفلة من الرقابة، لا يجوز أن توجد هذه في بيئة يسعى من فيها من المصلحين إلى إصلاح هذا النشء وهذه الأمة، وحينما تنظف هذه البيئة وتصبح نقية طاهرة من هذه المعاصي حينئذٍ تكون جواً مناسباً لإصلاح هذا النشء وتربيته تربية صالحة.(57/9)
تلاوة القرآن الكريم
ومن أسباب الاستقامة: تلاوة كتاب الله عز وجل بتدبر وتفهم.
والقرآن هو الذي يقول الله عز وجل عنه: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9]، ومعنى: {لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9] أي: أصلح في الدنيا والآخرة.
ولذلك فإن في تلاوة القرآن تعريفاً لهذا الإنسان بربه سبحانه وتعالى، وربطاً له بالحياة الآخرة، وتنظيماً له -أيضاً- في الحياة الدنيا، وفيه أيضاً تعريف بدين الله عز وجل تعريفاً حقاً حينما يتدبره هذا الإنسان تدبراً يتناسب مع عظمة هذا القرآن.
ولذلك فإننا ندعو الشباب إلى حفظ القرآن ما داموا في أول الشباب، وحينما يعجزون عن هذا الأمر فإننا نطالبهم بأن يقرءوه قراءة صحيحة بتدبر وتفهم مع معرفة شيء من معاني هذا القرآن؛ لأن هذا القرآن هو الذي أنزله الله عز وجل ليكون شفاءً لما في الصدور وليكون وسيلة استقامة لهذه الأمة، وبمقدار إعراض الناس عن هذا القرآن تكون الشقاوة في الدنيا والآخرة، ولذلك يقول الله عز وجل عن هذا القرآن: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:123 - 124].
ولذلك فإننا نقول إن الفتن التي يعيشها الناس اليوم لا يخلصهم منها إلا الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فلقد أخبرنا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم بأنه: (ستكون فتن.
فقالوا: فما المخرج منها -وفي رواية: فما المخرج منها يا رسول الله-؟ فقال: كتاب الله وسنّتي) ويكفي أن الله تعالى يقول: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه:123] أي: لا يضل في الدنيا عن الطريق المستقيمة، ولا يشقى في الآخرة بالنار والعذاب -والعياذ بالله-، وإنما يسير وفق خط مستقيم وطريق معتدل، لكنه حينما يعرض عن هذا القرآن فإن له معيشة ضنكاً في الدنيا، وهذه المعيشة ليست معيشة الفقراء وهم يعيشون في الأكواخ أو في البيوت المتهدمة، أو يعيشون في غياهب السجون وهم يشعرون مع ذلك بلذة الإيمان، ليست هذه هي المعيشة الضنك وإنما المعيشة الضنك: هي التي يعيشها الإنسان داخل قلبه وإن كان في قصر منيف؛ لأن المعيشة الضنك داخل القلب لا على الجسد.
ولذلك فقد أخبرنا الله تعالى بأن لذة الإيمان تعطي المؤمنين أكبر وسيلة للسرور في هذه الحياة الدنيا، وأخبرنا الله عز وجل بأن هؤلاء الظلمة الفسقة العصاة وإن كانوا في أعلى مكان في هذه الأرض وفي أعظم متاع فإنهم يعيشون في ضنك، أما أولئك المؤمنون وإن كانوا في غياهب السجون وإن كانوا في أكواخ متهدمة فإنهم يعيشون في لذة الإيمان، يقول الله تعالى عن هذه اللذة: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97] وهذه الحياة الطيبة قد لا نشاهدها في بيته أو في أثاثه أو طعامه أو شرابه، وإنما هو يدركها في قلبه وهو يشعر بلذة الإيمان، ويقول الله تعالى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود:3].
إن لذة الإيمان هي اللذة التي يقول عنها إبراهيم بن أدهم رحمة الله عليه: والله لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من لذة الإيمان لجالدونا عليها بالسيوف.(57/10)
تذكر الحياة الآخرة
من عوامل الاستقامة: تذكر الحياة الآخرة.
وتذكر الحياة الآخرة ينغص على الطغاة عيشهم ولذتهم, وإن كان كثير منهم في غفلة لا يفكر ولا يتذكر الحياة الآخرة، وكثير منهم -أيضاً- لا يؤمن بالحياة الآخرة مطلقاً، لكن المؤمنون حينما يتذكرون الحياة الآخرة وما أعد الله عز وجل للمؤمنين من سعادة خالدة لا تنقضي أبداً: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ} [هود:108] يزيد ذلك في إيمانهم وفي إقبالهم على الله عز وجل وفي تمكنهم من دين الله سبحانه وتعالى وفي استقامتهم.
ولذلك أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بأن نكثر دائماً من ذكر هاذم اللذات، وهو الموت، والقرآن في كثير من آياته يحدثنا عن الموت وعن الحياة الآخرة، وعن البعث، والنشور، والميزان، والصراط، والجنة، والنار، وما أشبه ذلك من أمور الآخرة.
ولذلك فإن المؤمن حينما تقع هذه الأشياء في سويداء قلبه ويؤمن بها إيماناً كاملاً وكأنه ماثل بين يدي الله عز وجل للحساب، أو كأنه على حافتي الصراط، أو كأنه بين كفتي الميزان، أو كأنه يأخذ صحيفته بيمينه، حينما يتذكر هذه المواقف تهون في طريقه هذه الحياة الدنيا، وحينئذ يكون ذلك سبباً من أسباب استقامته بإذن الله عز وجل.(57/11)
التعرض للبلاء والمصائب والفتنة في الدين
ومن عوامل الاستقامة: الضغط على المؤمنين.
والحقيقة أن هذا السبب يصلح أن يكون عاملاً من عوامل الاستقامة، كما أنه قد يكون في بعض الأحيان عاملاً من عوامل الانحراف، فالمؤمن الحق حينما يتعرض للأذى في دينه ويُفتن في دينه وتفتح له السجون ويوجه له اللوم والعتاب والسخرية: انظروا إلى لحيته! انظروا إلى ثوبه القصير! انظروا إلى كذا، انظر إلى كذا، فالمؤمن لا يزيده ذلك إلا إيماناً بالله عز وجل، ويعرف أنه لولا أنه على حق لما كان يوجه إليه مثل هذا العتاب وهذا النقد؛ لأن الله تعالى قد أخبرنا فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} [المطففين:29 - 33]، ثم تتغير المعايير في الآخرة: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ} [المطففين:34 - 35]، والمسلم حينما يعيش حياة الضعط والإيذاء في دينه يعرف الله عز وجل حق المعرفة، ويعرف أنه ما أوذي في دينه إلا لأن هذا الدين فيه قوة وفيه صلابة، ولذلك يقول الشاعر: لولا اشتعال النار فيما جاورتْ ما كاد يُدرَى طيب عَرْفِ العودِ لو جئت بقطعة من العود الطيّب النفيس فشممته فإنك لن تشم له رائحة زكية طيبة حتى تشعل النار حوله وتضعه في هذه النار، فتخرج رائحة هذا العود أحسن ما كانت.
ولذلك جعل الله تعالى هذه الفتن تمحيصاً للمؤمنين وتقوية لإيمانهم، فإن الإيمان يضعف، ولذلك يقول الله تعالى عن هذا المبدأ: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} [البقرة:214] تصور أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: متى نصر الله؟! والمؤمنون وهم يرون الرسول صلى الله عليه وسلم بأعينهم يقولون: متى نصر الله؟! هذه فتنة لم يحصل لها نظير أبداً في عالم الناس اليوم ولا ما قبل هذا اليوم، إلى درجة أن الرسل أنفسهم يستبطئون نصر الله عز وجل.
ويقول سبحانه وتعالى في سورة العنكبوت: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:1 - 2]، ثم يقسم الله جل جلاله فيقول: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:3].
ثم يتوجه مرة أخرى إلى هؤلاء الذين يؤذون المؤمنين في دينهم، ولربما يصرفون طائفة من الناس عن دينهم بسبب هذه الفتن القاسية، وبسبب هذا الإيذاء العنيف الذي يوجهونه إلى المؤمنين، قال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [العنكبوت:4]، ثم إن هذه السورة تختم بمثل ما بدئت به: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] وفي وسطها قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} [العنكبوت:10] أي أن من الناس ضعاف الإيمان قوم لا يتحملون الفتن، فأحدهم يقول: أنا فررت من عذاب الآخرة إلى الجنة، وإذا كان في فراري هذا عذاب لي في الدنيا فأنا لا أتحمل -نعوذ بالله-، فأنا فررت من العذاب فكيف أوقع نفسي في عذاب الطغاة والمتجبرين! إذاً أتحمل عذاب الآخرة ولا أتحمل عذاب هؤلاء الطغاة؛ لأنه أمام عيني الآن.
يقول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ} [العنكبوت:10] أي: إذا أوذي من أجل الله عز وجل {جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ} [العنكبوت:10] أي: في الدنيا وعذاب الناس {كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت:10] في الآخرة.
إذاً طريق الجنة ليس مفروشاً بالورود والزهور والرياحين، طريق الجنة ليس معبداً وإن كان واضحاً، طريق الجنة فيه فتن، فما على هذا المسلم إلا أن يتحمل من أجل الله عز وجل وفي ذات الله، وحينئذٍ يستطيع أن يستحق الشهادة الكبرى من الله عز وجل بأنه من المجاهدين في الله عز وجل.
فمن الأسباب هذه الفتن التي تعترض طريق بعض المؤمنين في سبيلهم وسيرهم إلى الله عز وجل، والمسلم يجتاز هذه المرحلة كما اجتازها أسلافه الأوائل رضي الله عنهم، الذين عاشوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقد أتوا ذات يوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: (يا رسول الله! ألا تدعو لنا؟! ألا تستنصر لنا؟! فقال: لقد كان يؤتى بالرجل ممن كان قبلكم فيوضع في حفرة ثم ينشر نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه ما يصرفه ذلك عن دين الله، ووالله ليتمّنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون).
فالفتن يجب أن يتحملها المسلم إذا كانت في ذات الله عز وجل، وإن كثيراً من إخواننا في العالم الإسلامي يلاقون هذه الفتن، فمنهم من يصبر ويحتسب، ومنهم من يرجع من منتصف الطريق فيكون من الذين قال الله عز وجل عنهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} [الحج:11] أي: على طرف بين الإيمان والكفر {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11].(57/12)
سؤال الله عز وجل الثبات
كل ما ذكرنا كله يعتبر من أسباب الاستقامة، وآخر وأول سبب من أسباب الاستقامة هو سؤال الله عز وجل التثبيت.
والتثبيت يكون بنصر دين الله عز وجل، فإن من نصر دين الله صادقاً ثبّت الله أقدامه عند الفتن والمحن، كما قال تعالى: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7] والتثبيت هو الذي يجب على المسلم أن يسأله الله دائماً، فعلى المسلم أن يلح على الله بالدعاء أن يثبت قلبه على الإيمان حتى لا تضل به الأهواء، وحتى لا تنحرف به الفتن عن الطريق المستقيمة، والرسول صلى الله عليه وسلم خير البرية -وهو محمد صلى الله عليه وسلم الذي هدى الله البشرية على يديه- كان كثيراً ما يقول: (اللهم! يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على طاعتك)، وقال: (إن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء).
إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يسأل الله التثبيت فما على أي واحد منا إلا أن يسأل الله دائماً أن يثبته على هذا الدين وعلى هذا الإيمان حتى لا تضل به الأهواء، وحتى لا تؤثر فيه الفتن، وحتى لا يستطيع أحد أن يزيله من مكانه الذي ثبته الله تعالى عز وجل عليه، ولذلك يقول الله تعالى عن المؤمنين: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:27] وتثبيت الحياة الدنيا هو أن لا يتراجع عن طريقه الذي هداه الله عز وجل إليه.
وتثبيت الآخرة هو عند الموت وفي القبر، فالإنسان إذا ثبته الله تعالى في الحياة الدنيا على المنهج السليم أيضاً يثبته الله تعالى على المنهج السليم وهو في قبره، حينما يأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ ما دينك؟ من هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ ما علمك؟ فالمؤمن يثبته الله تعالى ويقول: ربي الله، وديني الإسلام، وهذا الرجل هو محمد صلى الله عليه وسلم، وقرأت كتاب الله وآمنت به.
وهناك طائفة من الناس لربما يغترون بمستوى الإيمان الذي وصلوا إليه، أو بمقدار العمل الذي هُدوا إليه، فيصابون بالغرور -نعوذ بالله من الغرور-، ثم إذا بهذا الغرور يفسد عليهم دينهم ودنياهم، فإذا بهم ينقلبون رأساً على عقب، لأنهم لا يسألون الله عز وجل أن يثبتهم على دين الإسلام، وأخشى أن يكثر هذا النوع المتقلب الذي نشاهده في بعض الأحيان، فلا نكاد نُسرّ باستقامة فلان من الناس إلا ونفاجأ بانحرافه.
ولذلك علينا دائماً أن نسأل الله عز وجل أن يثبت أقدامنا، فإن الأمة الإسلامية تعيش فترة لم يكن لها نظير في تاريخ البشرية أبداً، فترة يتجه فيها الناس إلى ربهم عز وجل، ثم إذا بالطغاة في جُلّ العالم يتجهون إلى صد هؤلاء الشباب عن دينهم، وإذا بمطارق الكافرين توجه إلى المؤمنين، وكل وسائل الدمار توجه إلى هؤلاء المؤمنين إلا ما شاء الله عز وجل، ولذلك نقول: نسأل الله تعالى أن يثبتنا وأن يثبت المسلمين على هذا الطريق المستقيم.(57/13)
أسباب الانحراف(57/14)
الجليس السيء
كما أن للاستقامة أسباباً فإن للانحراف أسباباً أيضاً.
فأهم أسباب الانحراف هو الجليس الفاسق أو الكافر، وكما عرفنا في أسباب الاستقامة الجليس الصالح بأنه مثل حامل المسك فإن الجليس الفاسق هو الذي شبهه الرسول صلى الله عليه وسلم بنافخ الكير، ونافخ الكير لابد من أن ينالك منه أذى لو جلست عنده، (فإما أن يحرق ثيابك) بما يقدم لك من المعاصي، (وإما أن تجد منه رائحة خبيثة)، إذا لم يصل إلى درجة إحراق ثيابك.
ولذلك نقول: إن هؤلاء الذين ضلوا الطريق على أيدي هؤلاء الفسقة حينما أساءوا اختيار الجلساء هؤلاء لا يلومون إلا أنفسهم، كما أننا نوجه كلمة إلى هؤلاء الآباء الذين استرعاهم الله عز وجل على هذه الذرية التي ربما أن كثيراً منها لم يُميز بعد بين الحق والباطل، نلوم هؤلاء الآباء حينما لا ينظرون فيمن يجالس أبناءهم، وحينما لا يعرفون من يخالط هؤلاء الأبناء.
فاحذر -أيها المسلم- من جلساء السوء، فإنهم ينتشرون في بلاد المسلمين كما يجري الشيطان من بني آدم مجرى الدم، بل إنهم هم شياطين الإنس الذين يقول الله عز وجل عنهم: {شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام:112]، ولعل أكبر سبب من أسباب مقارنة هذا الشيطان الفاسق لهذا الرجل الصالح ليحرفه عن الطريق هو أن ذلك الصالح عشا عن ذكر الرحمن، كما قال الله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} [الزخرف:36 - 38].
ولذلك ابتلي كثير ممن تولى أمر المسلمين بجلساء سوء وببطانة سوء بسبب إعراض أولئك عن دين الله عز وجل، والله تعالى يقول: ((وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا)) [الزخرف:36] فهذا الشيطان لا يفارقه حتى يدخله النار، ثم إذا أدخله النار بدأ ذلك المقارن يتمنى أن لو لم يغتر بهذا الجليس الفاسق.(57/15)
الاكتفاء بالتدين الوراثي
ومن أسباب هذا الانحراف الاقتصار على التدين الوراثي.
ومعنى التدين الوراثي أن يولد إنسان في بيئة متدينة، ولكن هذا الإنسان لم يفكر بعد في أصل دينه أو أوامر الله عز وجل وفي هذا الكون الفسيح الذي خلقه الله عز وجل، لكنه وجد أباه يصلي فصار يصلي كما يصلي أبوه، ووجد أمه تصوم فهو يصوم كما تصوم أمه، وأهله يذكرون الله فهو يذكر الله مثلهم.
تجد هذا النوع من الإيمان -الذي لم يتعمق في القلب ولم يصل إلى سويداء القلب- سريع التأثر وسريع الانحراف، ولذلك فإن كثيراً ممن عرفوا الله عز وجل من هذا الجانب، أو ممن تدينوا من هذه الناحية تجد أحدهم كثيراً ما يتغير ويتقلب، وإن لم يتغير أو يتقلب فإنه يصاب على أيدي هؤلاء المخربين الذين يفتنون الناس عند دينهم بكثير من الشكوك والفتن، ولربما ينتهي به المطاف -نسأل الله العافية- إلى أخطر انحراف، ولذلك فإن على هذا النوع من الشباب أن يعرف الله عز وجل من خلال آياته الكونية والتدبر في آيات القرآن الكريم.(57/16)
الازدواجية في حياة الناس
ومن الأسباب الخطيرة الازدواجية في حياة الناس.
ومعنى الازدواجية: أن يكون في عالم الناس خير وشر اختلط أحدهما بالآخر، ولم يتميز الخير عن الشر، ولم يتميز الشر عن الخير، فيصبح الطفل الذي ولد في عصر الازدواجية -كعصرنا الذي نعيشه اليوم- إن لم تتداركه عناية الله عز وجل ولم تسعفه قدرة الله عز وجل، وإن لم يوجه توجيهاً صحيحاً فإنه حينما يكبر وينمو ويترعرع وقد ولدت في عقله وفي مخيلته أمور لا يميز فيها الخير من الشر، فيكون هذا النوع غالباً ممن أصيب بهذه الازدواجية.
والحقيقة أن عصرنا الذي نعيشه اليوم فيه هذه الازدواجية، كما نرى أن فلاناً من الدعاة أو العلماء له ولد فاسق أو منحرف، والله أعلم بما يعمله، وفلان الذي هو من أصول عريقة طيبة أصبح يخالف هذه الأصول، وهكذا.
حتى في البرامج التي يشاهدها الناس أصبح يختلط فيها الخير والشر، فهذه أغنية وذاك حديث، وهذه آيات قرآنية وتلك مسرحية، والنشء لا يعرف الخير من الشر، ولربما يقع في ذهنه أن كل ما يشاهده شر، فيخرج مجرماً يكره هذا الدين، أو ربما يبقى هذا كله خيراً في ذهنه وفي عقله، وحينئذ يصبح لا يميز بين الخير وبين الشر.
ولذلك فإن هذه الازدواجية يجب أن يكون بجوارها رجال عقلاء يميزون لأطفالهم ولأبناء المسلمين الخير من الشر، حتى لا يختلط الخير بالشر؛ لأننا نرى في أيامنا الحاضرة اختلاطاً بين الخير والشر، فأصبح كثير من الناس لا يستطيع أن يميز بين هذا وذاك، ولهذا فإن الازدواجية تُكَوِّنُ شخصيتين متعارضتين في عقلية هذا الطفل، ثم ينشأ هذا الطفل وهو لا يميز بينهما، أو كلتاهما يعتبرهما فسقاً، أو كلتاهما يعتبرهما طاعة، ولربما يخرج وهو يظن أن الفسق طاعة أو أن الطاعة فسق، وحينئذ يصبح هذا الأمر خطيراً، فعلينا أن نحيط أبناءنا وشبابنا بحواجز منيعة عن هذه الازدواجية حتى لا تفسد عليهم دينهم وأخلاقهم.(57/17)
سوء التربية
ومن أسباب الانحراف سوء التربية.
فلَكَم رأينا في عالمنا اليوم من أبناء أهملهم الآباء وانشغلوا عنهم بحطام الحياة الدنيا وجمع هذه الغنائم التي أصبحت محط الأنظار، وغفلوا -أو تغافلوا- عن أغلى شيء في هذا الوجود، وهو هذه الذرية، فأصبح الأطفال يتولاهم مُربّ أو مربية، ولربما يذهب بهم بدل المدارس الإسلامية إلى مدارس يرعاها الفسقة أو الكفرة، فتنشأ الناشئة على الشر، والولي الذي يتحمل مسئوليتها بين يدي الله عز وجل يوم القيامة.
ولقد أمر الله عز وجل هذا الإنسان أن يربي ذريته وفق منهج صحيح حتى يجني ثمارهم في الدنيا وفي الآخرة، وكثيرٌ من الناس قد غفل عن أغلى شيء في هذا الوجود وهو الذرّية، فنشأت ذرية منفصلة حتى عن العواطف البشرية، بل عن العواطف التي أعطاها الله عز وجل للحيوان، فإن كثيراً من الآباء لا يرى ولده إلا نادراً، يربى في المحاضن، أو في رياض الأطفال، أو في غير ذلك، ثم إذا بهذا الطفل يخرج وهو لا يشعر بالعاطفة التي أعطاها الله عز وجل الحيوان.
فأهم شيء في هذا الوجود هو هذه الذرية؛ فإن رسالة الإسلام التي حملها الله تعالى هذه الأمة التي هي أفضل أمة وخير أمة أخرجت للناس ورسالتها آخر الرسالات وكتابها آخر كتاب لابد من أن تكون فيها تربية طيبة لهؤلاء الأطفال حتى يتحملوا هذه المسئولية فينقلوها من جيل إلى جيل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.(57/18)
نشاط دعاة الباطل
ومن أسباب الانحراف نشاط دعاة الباطل.
والله المستعان على ذلك، فدعاة الباطل ينشطون في أيامنا الحاضرة، ونشاطهم يتكثف بمقدار بما يضعف المسلمون عن الدعوة إلى الله عز وجل كما قلنا سابقاً، وهؤلاء الدعاة نستطيع أن نقسمهم إلى قسمين: القسم الأول: دعاة من الخارج يكرهون هذا الإسلام ويريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، وكانوا يعملون ضد هذا الدين منذ أمد بعيد، ومنذ أن قامت دعوة محمد صلى الله عليه وسلم وإلى يومنا هذا، ولكنهم خسئوا في طريقتهم حينما لجئوا إلى السلاح وحينما أرادوا أن يحاربوا الأمة الإسلامية بالقوة، وحينئذ عجزوا فقالوا: عليكم بالحرب الباردة -ويقصدون بهذه الحرب الباردة حرب الأفكار- ووجهوا كل الطاقات من أجل أن ينحرف أبناء المسلمين.
ولكنهم خسئوا -أيضاً- ونحمد الله عز وجل على ذلك، وإن كانوا قد نجحوا في بعض المجالات فربوا على أعينهم شباباً من أبناء المسلمين، وقال قائلهم بلفظته الصريحة: إنكم لا تستطيعون أن تقطعوا شجرة الإسلام إلا بغصن من أغصانها.
ويقصدون بذلك أن يربوا من أبناء الإسلام من يحارب الإسلام نفسه، ومن هنا قامت قائمة شنيعة فظيعة خبيثة ممقوتة، حيث أصبح الإسلام يحارب ببعض أبنائه، ولو كان الإسلام يحارب بـ أبي لهب وأبي جهل لكان الأمر أهون، لكن الإسلام في أيامنا الحاضرة أصبح يحارب بسعد وسعيد ومحمد وعبد الله وعبد الرحمن وأحمد، فأصبحت المصيبة أكبر.
لقد حققوا آمالهم في بعض هذا الأمر، ولكننا واثقون بإذن الله عز وجل أن الله تعالى سوف يتم نوره وسوف يظهر هذا الحق، وأن الله تعالى قال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، ولذلك فإننا على ثقة تامة بأنهم لن يستطيعوا أن يحاربوا الإسلام أبداً، وإن بذلوا الجهود المضنية فإنهم لا يستطيعون ذلك، ولقد رأيت بعينيّ شباباً من أبناء أفريقيا رُبّوا في بلاد الغرب، وصاروا قسساً فأصبحوا يُنصّرون أبناء المسلمين، ولكنهم لم يكسبوا في مدة طويلة مع إنفاق أموال باهظة صرفت في هذا السبيل إلا النزر القليل، مثلاً: يأخذون طفلاً يربونه من أيام طفولته على النصرانية، ولقد رأيت بعينيّ تسعة من أبناء أريتريا ربوا في إيطاليا، فرجعوا قسساً فنصّروا -كما يقولون-: ثلاثة عشر ألفاً، ثم هداهم الله للفطرة، فردّوا إلى الإسلام أضعاف من نصّروهم، رأيتهم بعيني وهم الآن يعيشون في بلاد السودان.
إذاً نحن مطمئنون، ولكننا نطالب الأمة الإسلامية بأن تكافح دعاة الباطل حتى لا تقوم لهم قائمة، وأن تبدأ بعبد الله وعبد الرحمن وسعد وسعيد وأحمد قبل أن تبدأ بالبعيد؛ لأن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة:123].
وبعد ذلك نقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبرنا بمعجزته، وإن هذه المعجزة التي تتحقق اليوم في عالمنا وفي واقعنا قد حدثنا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أربعة عشر قرناً من الزمان، فقد قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أمين سر رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله! كنا في جاهلية وشر ثم جاء الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم.
فقلت: يا رسول الله! وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم.
وفيه دخن.
قلت: وما دخنه يا رسول الله! قال: قوم يستنون بغير سنتي ويهتدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر.
فقلت: يا رسول الله! وهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم.
دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها.
قال حذيفة فقلت: يا رسول الله! صِفْهم لنا؟ قال: قوم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا).
فهم من جلدتنا لم يأتوا من أوربا ولا من أمريكا، ولكنهم من أبناء المسلمين ولدوا على الفطرة وفي بيوت الفطرة وفي بلاد الفطرة، ولربما يكون منهم من ولد في البلاد المقدسة، ولربما يكون ممن ولد حول الكعبة المشرفة، أو حول مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي الكافرين.
إذاً هذه المعجزة تعطينا علماً حتى لا نفاجأ حينما نعلم بأن فلاناً وفلاناً من الناس يسعون لهدم الإسلام بأيديهم وأيدي الكافرين، إما من خلال الصحف، أو من خلال المجلات، أو من خلال الكتب، أو من خلال جلسات سرية أو علنية.
ونحن نطالب المسئولين بأن يوجهوا كل العيون وكل الرقابة إلى هؤلاء، أما هؤلاء المؤمنون الذين يصعدون على المنابر ويقولون للناس: اتقوا الله فهؤلاء لا يحتاجون إلى مراقبة، والله الذي لا إله غيره إنهم مخلصون للدولة ما دامت تقيم شرع الله عز وجل، والله الذي لا إله هو إنهم يعتبرون في قلوبهم عقداً بينهم وبين الله عز وجل في الولاء للدولة التي تحكّم شرع الله عز وجل.
إذاً يجب أن يعرف المسئولون كيف يكافحون الشر والفساد، ولا يجوز أن توجه الرقابة إلى المساجد؛ فإن المساجد لا ينشأ منها إلا الخير والإيمان؛ لأن الله عز وجل يقول عن هذه المساجد: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36] حينما ذكر الإيمان الذي هو: {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} [النور:35] هذا هو الإيمان، لا يكون إلا في المساجد، فالمساجد لا تعطي الدنيا إلا الإيمان، ولا تعطي الحكومة إلا الولاء، ولا تعطي المسئولين إلا الطاعة حينما يستقيمون على دين الله عز وجل.
أما أولئك الذين يستغلون وسائل الإعلام، والذين يطعنون في دين الله عز وجل وفي الله عز وجل، ويطعنون في محمد الهاشمي صلى الله عليه وسلم كما سمعنا شيئاً من أخبارهم، ويمدحون أم جميل أروى بنت حرب زوجة أبي لهب فهم الذين يجب أن توجه إليهم الرقابة، نقول هذا الكلام، ونتحمل مسئوليته، ونسأل الله أن يعيننا على ذلك.
أسأل الله تعالى أن يثبت أقدامنا على الإيمان حتى نلقى الله عز وجل لم ننقض العهد الذي بيننا وبينه غير مغيرين ولا مبدلين.
كما نتوجه إلى الله عز وجل بأن يحفظ على الأمة الإسلامية دينها وأخلاقها، وأن يثبت أقدامها.
كما نسأله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يجعل أمرنا وأمر المسلمين كافة فيمن خافه واتقاه ونفذ أحكامه وأقام كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن يوفق حكومتنا ببطانة صالحة تدلها على الخير وتحذرها عن الشر.
كما نسأله سبحانه وتعالى أن يوفق الأمة الإسلامية وقادتها إلى ما يحبه ويرضاه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(57/19)
الأسئلة(57/20)
خطر الازدواجية بين الخير والشر
السؤال
نرجو توضيح دور الآباء أو ما يمكن أن يفعله الآباء في سبيل تجنيب أبنائهم الازدواجية الخطيرة بين الخير والشر وعدم التفريق بينهما والأخذ بأيديهم إلى بر الأمان؟
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم.
هذه الازدواجية خطيرة جداً؛ لأن الشر والخير دائماً في هذه الحياة يتصارعان، وهذه سنة الله في هذه الحياة، قال تعالى: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ} [هود:116]، وهذا دليل على أن الخير موجود والشر موجود في الأرض، لكن المعروف أن الفساد منعزل عن الخير والخير منعزل عن الشر، أما أن تكون ازدواجية بهذا الشكل فنفاجأ بإنسان نجده يمتاز بتدين وله أخلاق وله فضائل ثم نجده من جانب آخر له سيئات كبيرة فهذا نوع من الازدواجية، أو أشياء تصل إلى بيوت الناس من هذه الأفلام المحرمة فتقرن بين الخير والشر، ويختلط فيها الخير بالشر، فهذه أشياء يجب أن يميز كل واحد منها عن الآخر، وأنا ضد الذين يدعون إلى مزاحمة الشر بالخير، فأرى أن ينعزل الخير عن الشر، لكن حينما يكون ذلك فأنا أدعو الذين لهم سلطة أن يميزوا أحدهما عن الآخر، وإذا لم يكن ذلك فندعوا كل صاحب بيت إلى أن يميز أحدهما عن الآخر إن استطاع، وإن لم يستطع فإن عليه أن يجنب هذا البيت كل هذه الأشياء، وأن يقف سداً منيعاً على باب داره حتى لا تتسرب إليه هذه الأشياء فتوجد في نفوس أبنائه وذريته ونشئه هذا الخطر الشديد الذي أخشى منه أن يأتي يوم على هؤلاء الأطفال -حينما يختلط ذلك بعقولهم ودمائهم ولحمهم وعظامهم- لا يميزون فيه بين الخير والشر.(57/21)
خطر الفساد في وسائل الإعلام
السؤال
أكثر ما تحصل الازدواجية ويختلط الخير بالشر في وسائل الإعلام، سواء أكانت مقروءة أم مسموعة أم مرئية، فنريد توضيحاً أكبر لأولياء الأمور وما يقع عليهم من مسئولية تجاه هذه الوسائل، خاصة أنّا قد سمعنا كثيراً من علمائنا الذين نثق بعلمهم ودينهم أنهم يحرمون هذه الوسائل أشد التحريم لما فيها من الفساد؟
الجواب
حينما نتحدث عن الازدواجية فهي ليست خاصة بالوسائل المرئية، بل هي موجودة في المرئية وفي المسموعة وفي المقروءة وما أشبه ذلك، ولذلك أقول: إنك -يا أخي- حينما تشتري صحيفة أو مجلة تحتوي على هذا النوع فإنك حينما تضعها في بيتك ستوجد الفتنة بين أولادك، وحينما تأتي بوسائل تنشر لك هذه الأشياء فتخلط لك الخير بالشر وهي مرئية فإنها ستسبب لك هذا الخطر، وحينما تريد أن تقتني كتاباً في مكتبتك فعليك أن تحسن اختيار هذا الكتاب حتى لا يكون -أيضاً- من هذا النوع الذي نحذر منه.(57/22)
نصر الله قريب
السؤال
من أسباب الاستقامة نصر الله، فأرجو أن توضح لنا كيف ينصر الله عز وجل؟
الجواب
ليس من الأسباب نصر الله، ولكني أقول: إن نصر الله عز وجل هو الذي ننتظره، وهو الذي يخلص المسلمين من الفتن التي يعيشونها، والمراد بنصر الله سبحانه وتعالى ما يؤيد الله به أولياءه، سواءٌ أكان في المعركة مع العدو الكافر، أو مع العدو الحاقد الذي يلبس ثياب المسلمين ويحمل في جيبه الهوية الإسلامية، إن هذا هو النصر الذي ننتظره من الله سبحانه وتعالى.(57/23)
ضرورة الأخذ بوسائل الثبات ودعوة المنتكسين
السؤال
كان هناك شاب متدين، ثم ما لبث أن انتكس وكسب كثيراً من المعاصي، فنريد توجيهاً للشباب في هذا الأمر؟
الجواب
في الحديث (قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقبلها كيف يشاء) ولذلك نحن إذا رأينا إنساناً منحرفاً فلن نيأس منه، كما أننا إذا رأينا إنساناً مستقيماً فلن نشهد له بالجنة حتى يموت على ملة الإسلام، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: (من كان منكم مستناً فليستن بمن قد مات؛ فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة) وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (يا مقلب القلوب! ثبت قلوبنا على دينك).
ولذلك فإن علينا أن نقوم بعمل جاد لإرجاع مثل هذا الشاب إلى الحق، لاسيما أنه شاب رأى الحق بعينيه، وعاش معه فترة من الزمن وألفه، ولربما يكون تراجعه أيسر من كسب إنسان آخر جديد للاستقامة.
ومن خلال ذلك -أيضاً- أقول: يجب أن يجدّ الدعاة في كسب هؤلاء الشباب الذين لم يوفقوا بعد إلى هذه الصحوة المباركة التي منّ الله بها على كثير من شباب المسلمين، فلا بد من النشاط في الدعوة، والحمد لله فإن الوسائل ميسرة الآن، والدعوة إلى الله عز وجل هي أفضل السبل {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا} [فصلت:33].
وأقول أيضاً للإخوة: احذروا أن يكون مصير أحد منا كمصير ذلك الشاب، ولربما يكون هذا الشاب مرت به ظروف قاسية، أو أنه أصابه شيء، فعلينا أن ندرس نفسية مثل هذا الشاب ومن على شاكلته، حتى ذلك السبب الذي كان سبباً لانحرافه، فنرده من حيث خرج، ثم -أيضاً- نستفيد من خلال هذا الأمر بحيث نستطيع أن نحصن -بإذن الله عز وجل- مجموعة أخرى من الشباب من الخطر في عصر الفتن.(57/24)
جواز إعطاء المكافآت لمن يحفظون القرآن
السؤال
رجل عوّد أولاده على منح الجوائز لهم عند قيامهم بحفظ كتاب الله، ويريد أن يربطهم بالجزاء من الله لكي يكون عملهم خالصاً لوجه الله وليس لأجل المكافأة، فكيف يصنع؟
الجواب
الحقيقة أن هذه المكافأة والإغراءات طيبة جداً، وهذا من الجعل الذي جاء به الإسلام، ولذلك نرجو من الآباء أن يشجعوا الأبناء، ولو أدى ذلك إلى تمييز بعض الأبناء عن بعض في سبيل الاستقامة، دون أن يكون هناك شطط في الهبة؛ لأن الله تعالى حرم ذلك.
وعلى هذا نقول: إذا عودت أبناءك على أن تشجعهم على الاستقامة بشيء من هذا المال أو بشيء من المتاع فلا مانع من أن تسير في هذا الطريق، ولا يمنع ذلك أن تفضل أحداً منهم على أحد -دون إفراط- في سبيل دعوتهم إلى الاستقامة، ولو أردت أن تنتقل من هذا الطريق إلى طريق أخرى بحيث تردهم إلى الحق دون أن تكون هناك إغراءات أو مكافآت فأيضاً هذا أمر سهل؛ لأنك حينما ترغبهم بهذا الدين وتبين لهم أن الجزاء من عند الله عز وجل أفضل بكثير من هذه الإغراءات المادية التي تقدمها لهم فإنهم في مثل هذه الحالة يقتنعون بإذن الله تعالى.(57/25)
ضرورة اختيار الزوج الصالح
السؤال
رجل كانت له بنت صالحة، فزوجها رجلاً يشرب الخمر ويتهاون بالصلاة، فكيف تستطيع هذه المرأة أن تحسن تربية أبنائها؟
الجواب
الحقيقة أن هذه مشكلة يخطئ فيها كثير من الآباء، ولذلك أقول: من المؤسف أن طائفة من الآباء حينما يخطب منهم خاطب لا ينظر بعضهم إلا إلى جانب آخر، وهو إما المركز، وإما المال، وإما الشرف والنسب أو ما أشبه ذلك، وهذه بلية، فالرسول صلى الله عليه وسلم أمر بأن نختار الزوج الصالح، فقال: (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير).
وهذه الفتنة وهذا الفساد العريض هو الذي يسأل عنه مثل هذا الأخ، ونحن كثيراً ما نفاجأ من خلال الاستفتاءات بالتلفون بما هو من هذا، مثل بنت زوجها أبوها رجلاً يشرب الخمر، وأخرى زوجها أبوها رجلاً لا يصلي، وهكذا.
والحقيقة أن مثل هذا السؤال لا يجوز أن يكون في مثل هذا الوقت، وإنما يجب أن يكون في وقت الخطبة، فالله عز وجل جعلها أمانة في عنق هذا الأب لا يجوز أن يسلمها إلا لمن يستحق هذه الأمانة.
ولذلك نقول: إذا كانت تعيش مع رجل لا يصلي فإن الحياة محرمة في مثل هذه الحال، ويجب عليها فوراً أن تطلب الفراق، بل يجب على الأب قبل ذلك أن يطلب الفراق، والمحكمة إذا بلغها مثل هذا الخبر لا بد من أن تطلّق إذا لم يطلّق ذلك الإنسان؛ لأن المرأة المسلمة لا يجوز لها أن تبقى في عصمة رجل كافر؛ لأن الله تعالى نهى عن الاستدامة فكيف الابتداء، فقال: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة:10] وجمهور علماء المسلمين يقولون: إن ترك الصلاة كفر وردّة عن الإسلام؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول عن الصلاة: (فمن تركها فقد كفر).
ولذلك أقول: إذا زوجت ابنتك -يا أخي- برجل يشرب الخمر أو لا يصلي فعليك أن تبادر بحل عقدة النكاح قبل أن يكون هناك ولد، لكننا نطالبك قبل ذلك أن تبحث عن هذا الرجل الخاطب قبل أن تزوجه ابنتك، وقبل أن تسلم له فلذة كبدك، وحينئذٍ سينجب لها أولاداً فَسَقة؛ لأن الفسق قد ينتقل مع هذه النطفة، خصوصاً بالنسبة لمدمن الخمر، نسأل الله العافية والسلامة.(57/26)
حكم استخدام وسائل الترفيه للدعوة إلى الله
السؤال
يستخدم بعض الدعاة طرقاً خاطئة للدعوة إلى الله، ومن ذلك ما يدعو إليه بعض الدعاة من استخدام ما يسمى بالأناشيد الإسلامية، أو اللعب بالكرة، أو المسرح، ويزعمون أن ذلك من وسائل الدعوة إلى الله، مع أنها في الواقع قد جرت كثيراً من الشباب إلى نوع انحراف وفساد وترك للقرآن وتفضيل لهذه الأمور على حفظ القرآن، بل على الصلاة، فما رأيكم؟
الجواب
أنا أخالف هذا الرأي، وأقول: هذه وسائل وليست غايات، فإن هذه الأناشيد الإسلامية التي امتلأت بها المكتبات الصوتية -والحمد لله- أغنت كثيراً من الناس عن الأغاني، مع أنها تحمل معاني فاضلة، وتثير حماس المؤمنين لدينهم.
وكذلك ما أشار إليه الأخ السائل من الكرة، فنحن نقول: الكرة ليست لذاتها وإنما لغيرها؛ لأن كثيراً من الشباب أُشرب بحب الكرة وشيء من الترفيه واللعب، وما دامت تجذب لنا عدداً من هؤلاء الشباب فإننا نقول: إنها وسيلة طيبة لا مانع من أن يستخدمها الدعاة من أجل أن يجلبوا هؤلاء الشباب من مواقع معينة يقومون فيها بممارسة هذه الألعاب إلى مواقع أخرى نضمن فيها صلاح هؤلاء الشباب.
فنقول: هذه وسائل وطرق طيبة ما دامت وسائل وليست غايات، وهذه المسرحيات التي أشار إليها السائل التي يعملها هؤلاء الشباب ويقدمونها لبعضهم من أجل أن يثبتوا فكرة معينة في أذهان هؤلاء الشباب، أو من أجل أن يشغلوهم عن مسرحيات أخرى فيها ضرر كبير، أو من أجل يأخذوا هذا الشاب ويجذبونه من حيث يرغب، هذه كلها وسائل طيبة ما دام الهدف من ورائها طيباً، والله أعلم.(57/27)
تبرج النساء من أشد الفتن خطراً على المجتمع
السؤال
أحياناً يمر ببعض الشباب غفلة من كثرة تبرج النساء وعدم الاهتمام من الآباء بذلك، فيزداد الفساد، وتزداد الأمور شراً، فما قولكم؟
الجواب
الحقيقة أنني أعتبر التبرج من أخطر الأمراض التي تلوث البيئة، فمن أسباب الانحراف (تلويث البيئة)، ذلك أن الشهوة الجنسية البشرية التي ركبها الله في هذا الإنسان لها طاقة شديدة قد يندفع معها الإنسان ويتجرد من عقله وينطلق بعاطفته.
ولذلك أقول إن التبرج من أخطر الأمور التي توجد الفاحشة في المجتمع، ومن أكبر الأمور التي تصرف طائفة من الشباب عن دينهم ومبدئهم، فهي من أعظم المغريات.
والتبرج جعله الله تعالى سبباً من أسباب الزنا، ولذلك إذا قرأت سورة النور في نصفها الأول -حينما تكلم الله تعالى عن الزنا- ذكر من أسبابه (التبرج) فقال: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:30 - 31].
وقوله تعالى: {يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:31] يدل على أن هناك صلة وثيقة بين النظر وبين الفعل، وعلى هذا فإن التبرج من أخطر الأمور، وهو اليوم يبرز، ولعل بروزه مرتبط بهذه الصحوة الإسلامية، ذلك أن أعداء الإسلام الذين يكرهون الإسلام ويكرهون التوجّه إلى الله عز وجل، ويجدون أن هذه الصحوة الإسلامية عبئاً ثقيلاً عليهم أرادوا أن يبثوا هذا الفساد في هذا المجتمع، فيشجعون المرأة على التبرج.
ولذلك لا نفاجأ عندما نرى كثيراً من صحف المسلمين تتكلم عن حقوق المرأة وحرية المرأة، وأن المجتمع نصفه معطل، أو لا يتنفس إلا برئة واحدة.
إن الهدف من وراء ذلك هو كما قال الله تعالى: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء:27]، فهم لا يطالبون بحقوق المرأة حقاً، ولا يريدون حرية المرأة، بل هم أكبر عدو للمرأة، لكنهم يريدون أن تتبرج المرأة ليصطادوها في الماء العكر من جانب، ومن الجانب الآخر يفسدون هؤلاء الشباب الذين اتجهوا إلى الله عز وجل حينما تكون المرأة متبرجة.
والله تعالى هو المستعان عليهم.
ونقول للمرأة المسلمة: احذري أن تغتري بهذه الدعوة المضللة، فإن الله تعالى هو الذي أثبت حقوقك وحريتك، وكل شيء لك في كتاب أُحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(57/28)
العلاقات الاجتماعية في الإسلام
ديننا الحنيف دين الكمال والشمول، فقد جاء بما فيه خير وصلاح البشرية جمعاء، ولا أدل على ذلك من اهتمام الإسلام بالعلاقات التي تكِّون المجتمع الواحد المتماسك والدولة المتماسكة؛ بدءاً من الأسرة، وانتهاءً بالأمة كلها، فقد جاء الإسلام بالعلاقات التي تربط الأسرة ببعضها، وتربط المجتمع ببعضه؛ حيث أمر الإسلام ببر الوالدين، وصلة الرحم، وحسن الجوار، وبذل الإحسان، والعطف على المحتاج، والمؤاخاة بين المسلمين، وغير ذلك مما فيه صلاح الدنيا والآخرة.(58/1)
صفات المجتمع المسلم
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكون مجتمعاً تسوده المحبة والإخاء في ذات الله تعالى، كما وصفهم سبحانه بقوله: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54]، وكما وصفهم سبحانه وتعالى بقوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29].
ونصلي ونسلم على عبد الله ورسوله محمد بن عبد الله الذي أرسله هدى للعالمين، فكان مثلاً يقتدى به في أخلاقه وفي سلوكه، كما قال عز وجل عنه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، فقد تربى على تلك الأخلاق التي رباه الله عليها، فقاد أمة استحقت قيادة هذا العالم، بسبب ما حباها الله فيه من محبة وإخاء وتعاطف.
أيها الإخوة! إن الحديث عن العلاقات الاجتماعية في القرآن أو في الإسلام طويل، ويكفينا حينما نقرأ القرآن أننا نجد كثيراً من الصفات التي يدعونا الله عز وجل إلى الأخذ بها؛ حتى نكون مسلمين حقاً، ولعل الآيات التي في أول سورة البقرة ما يبين لنا صفات المجتمع المسلم، وذلك في قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:3 - 5]، وكثيراً ما نجد في القرآن الكريم تربية عالية للأمة الإسلامية، ولو قرأنا سورة الحجرات لوجدنا فيها كثيراً من الصفات الراقية التي يجب أن يتحلى بها المسلم؛ وحينئذ يكون مسلماً حقاً.(58/2)
مفهوم العلاقات الاجتماعية
أما المراد بالعلاقات: فهي الصلات التي تربط كل فرد من أفراد الأسرة، وكل أسرة بأسرة، وكل بلد ببلد، وفي آخر الدائرة تربط المسلم بالمسلم في أي مكان من الأرض، هذه هي العلاقة، والمجتمع معناه: مجموعة تلك الأسر التي تنتظم من أولئك الأفراد الذين رباهم الإسلام، فكوّنوا الأسرة المسلمة، وتكون من مجموع هذه الأسر المجتمع الإسلامي.(58/3)
نظرة إلى المجتمع الجاهلي قبل الإسلام
قبل أن نتطرق إلى العلاقات الاجتماعية في الإسلام، نريد أن نلمح لمحة من المجتمع الجاهلي الذي سبق الإسلام، والذي كان إرهاصاً لميلاد دين جديد، حيث بلغ السيل الزبا، وحيث وصلت الأمة العربية في ذلك العصر إلى وضع هو دون مستوى الحيوان في كثير من أحيانه، فإن الحيوان لا يئد بنته، ولا يقتل ولده، ولكن هذه الصفات قد امتاز أو اشتهر بها المجتمع الجاهلي فيما قبل الإسلام، فكانت علاقة الأب بأولاده علاقة سيئة، وقد قص القرآن علينا أخبارها في قوله تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} [النحل:58 - 59].
فكان الواحد منهم يشعر بالخجل حينما يبشر بأنه ولدت له بنت، فيسود وجهه أمام القوم، ثم يذهب إلى ابنته ليدسها في التراب -أي: ليدفنها- وهي حية، إلى أن جاء الإسلام فحاسب أولئك، وأفاد بأنهم يوم القيامة سيسألون عما فعلوا، كما قال عز وجل: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:8 - 9]، بل كانوا يقتلون حتى الأولاد الذكور في كثير من الأحيان، فإذا كان الرجل قليل ما في اليد -أي: ليس عنده مال- فإنه يقتل أولاده خشية الفقر، ويقول: إن ماله لا يكفي لأولاده؛ وهذا لأنهم فقدوا الاعتماد على الله أولاً؛ ولأنهم فقدوا العاطفة التي منحها الله عز وجل حتى للحيوان، فيخبر الله تعالى عنهم أنهم يقتلون أولادهم خشية الفقر، أو خشية الإملاق، ثم جاء الإسلام فأبدل هذه الخشية بالاعتماد على الله تعالى، وتكفل برزق الأبناء مع رزق الآباء، كما قال تعالى: {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام:151]، بل قدم رزق الأولاد على رزق الآباء في آية أخرى فقال سبحانه: {نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} [الإسراء:31]، وعلى هذا فلا يجوز في الإسلام أن يعتمد الإنسان على ماله أو على قوته، ولذا أخبر الله عز وجل أنه سيحاسب أولئك الذين قتلوا أولادهم خشية الفقر.
هذه هي العلاقة الجاهلية بين الأب وأولاده، وإن كان هناك من يتغنى بالأولاد، ويكمل التعطف عليهم، كما قال بعضهم: إنما أولادنا بيننا أكبادنا تمشي على الأرض لو هبت الريح على بعضهم لامتنعت عيني من الغمض لكن ذلك خلاف ما جاء من عادة النسبة لعادات الجاهلية، بل إن القرآن الكريم هو الذي أخبرنا بوضعهم مع أولادهم.(58/4)
علاقة العرب مع بعضهم في الجاهلية
أما بالنسبة لعلاقة العربي بالعربي فإنها على شقين: علاقة العربي بقبيلته، فيرى كل ما تفعله قبيلته حسناً، فعلاقته بها مبنية على الحمية الجاهلية وعنصريتها، وحالهم فيها كما قال الشاعر: لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا ولكنها بالنسبة للقبيلة الأخرى كانت أيضاً علاقة سيئة، ونحن نقرأ في التاريخ الجاهلي تلك الحروب الدامية التي خاضها العرب مع بعضهم في سبيل أشياء تافهة؛ لأنهم فقدوا الوازع، وفقدوا الضمير، وفقدوا الإنسانية، فأصبحوا أقل مستوى من الحيوان، فمثلاً: نجد أن حرب البسوس التي دامت ما يقرب من أربعين عاماً تطحن في العرب كان سببها تافهاً، وهكذا كانت كثير من الحروب التي كادت أن تكمل العرب، لولا أن الله تعالى تداركهم بالإسلام فأنزل هذا القرآن لينقذهم مما كانوا عليه، ولذلك فإن الله يأمرنا بشكر نعمته فيقول: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران:103]، وعلى هذا فإننا نعتبر الإسلام نعمة كبرى من الله تعالى، لا على المسلمين فحسب؛ ولكن على العالم أجمع، فقد أخرجهم به من الظلمات إلى النور.(58/5)
معاملة الجاهلية للزوجة
أما بالنسبة للزوجة فلقد كان وضعها أسوأ من وضع الولد، ولقد كانت متاعاً ممتهناً لدى هؤلاء؛ بل لقد كانت تورث ولا ترث، فقد حرموها من الميراث، حتى جاء قول الله تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء:7]، فصاروا يورثون المرأة في الإسلام بعد نزول هذه الآية، وأما قبل ذلك فكانوا في الجاهلية يرثونها هي، فإذا مات الزوج فإن أكبر أولاده أو أقرب أولاده إليه يلقي عليها رداءً، فإذا وقع عليها الرداء يصير أحق بها من سائر إخوانه، ويتملكها ويتزوجها إذا لم تكن أماً له!!(58/6)
تنظيم الإسلام للمجتمع المسلم وبناؤه للعلاقات الاجتماعية
أيها الإخوان! أما عندما نتحدث عن الإسلام كيف يبني المجتمع المسلم؟ وكيف يبني علاقته؟ فإنه وضع أسساً يطالب المسلمون بتطبيقها، ولو طبقوها لقضوا على جميع مشاكلهم، ولأصبحوا كذلكم المجتمع المسلم الذي رباه رسول الله صلى الله عليه وسلم على عينه، وبوحي من الله سبحانه وتعالى، ولو طبق المسلمون تلك القواعد التي جاء بها الإسلام لصنعوا مجتمعاً فريداً.(58/7)
العلاقة في الإسلام بين الحاكم والمحكوم
ثم بعد ذلك يأتي الحق بين الحاكم والمحكوم، وهذا حق أيضاً جاء به الإسلام، فإقامة حكم الله في الأرض مطالب به كل المسلمين، وهذا يتطلب أن تقوم الخلافة لله عز وجل في الأرض، وأن يكون هناك من يرعى هذا الأمر من أمور المسلمين، وهذا الحاكم الذي يقوم بهذا الأمر له حق وعليه حق، أما الحق الذي عليه فهو أن يحكم هؤلاء الناس بحكم الله عز وجل، بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإلا فإنه كافر مرتد.
وعلى المسلمين أمر يقابل هذا الأمر، فعليهم الطاعة لهذا الحاكم في حدود طاعة الله تعالى، فإذا لم تكن هناك طاعة لله في طاعته فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.(58/8)
حق الضيف في الإسلام
ثم بعد ذلك يأتي حق الضيف في الإسلام، وهو حق محترم كما قال صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه)، وفي حديث آخر قال عليه الصلاة والسلام: (فليكرم ضيفه جائزته: يومه وليلته)، وهذا أقل حق في الضيافة، وأتمه ثلاثة أيام بلياليها.(58/9)
العلاقات الزوجية في الإسلام
بعد ذلك يأتي دور العلاقات الزوجية في الإسلام، والعلاقات الزوجية في الإسلام متينة ومهمة؛ لأنها تبنى على ميثاق أخذه الله عز وجل على الرجال والنساء، كما أخذته النساء على الرجال، فإن الله تعالى قال: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء:21]، وفي قراءة: (وأخذنا منكم ميثاقاً غليظاً)، وإذا مددنا (نا) فيكون الذي أخذ الميثاق على هؤلاء الرجال هو الله عز وجل، وإذا قلنا: (وأخذن) فهي نون النسوة.
وعلى هذا فإن المرأة قد أخذت هذا الميثاق الغليظ على هذا الرجل، وهذا الميثاق الغليظ تجب المحافظة عليه، وحينئذٍ فإن للعلاقات الزوجية شروطها وآدابها؛ لتكون هذه العلاقة وثيقة ومتينة، وذلك حينما يكون الزواج بتراضٍ، ويا حبذا لو كان بنظر إلى المخطوبة! وهكذا توافر الصفات التي دعا إليها الإسلام، وحينئذٍ تبنى العلاقات الزوجية على المودة والرحمة، كما قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21]، وإذا لم تبن على هذين الأمرين جميعاً فعلى الأقل على الرحمة، فإذا فقدت المودة فلن تفقد الرحمة، وأما حينما تفقد المودة وتفقد الرحمة فهناك وسائل يجب أن يسلكها الزوجان: من الإصلاح، والتغاضي عن العيوب، وحينما لا يمكن ذلك يأتي دور الحكمين، كما قال عز وجل: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء:35]، وحينما لا يكون السبيل إلى ذلك يأتي دور الفراق: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا} [النساء:130].
هذه العلاقة تستحق الوفاء بالشروط التي اشترطت بين الرجل والمرأة، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج)، والمراد بالفروج: العلاقة الزوجية.
ثم بعد ذلك تأتي العشرة وحسن العشرة، فيشعر الرجل بأن له مثلما عليه؛ لأن الله تعالى يقول: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء:19]، ثم يقول: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228]، ويقول: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة:228]، فالعشرة بالمعروف حق للزوجة، كما أنه حق للزوج على الزوجة، وهناك حق كبير للزوج على الزوجة أجمله الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها) وذلك لما له عليها من الحقوق.
وكذلك يجب للزوجة حسن المعاشرة، والعاطفة والمحبة من الرجل؛ حتى تكون المحبة والعاطفة متبادلة بين الطرفين.(58/10)
حقوق الجار في الإسلام
بعد ذلك تأتي حقوق أخرى كحق الجيران، وحق الجيران حق فرضه الإسلام، كما قال سبحانه وتعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:36].
ويقول عليه الصلاة والسلام: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره)، ويقول: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره)، ويقول: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن من لم يأمن جاره بوائقه)، أي: غدراته وخيانته.
ولذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أثبت الحق للجار مهما كان هذا الجار، حتى ولو كان كافراً فإن له حق الجوار؛ فإن الجيران ثلاثة: جار له ثلاثة حقوق، وجار له حقان، وجار له حق واحد، أما الجار الذي له ثلاثة حقوق فالجار المسلم ذو القرابة؛ فله حق الجوار، وله حق الإسلام، وله حق القرابة، وأما الذي له حقان فهو الجار المسلم؛ فله حق الجوار، وله حق الإسلام، وأما الذي له حق واحد فهو الجار غير المسلم.(58/11)
الإسلام وصلة الرحم
ثم تأتي بعد ذلك صلة الرحم، والمراد بصلة الرحم: القرابة غير الوالدين، ولهم حق كبير أيضاً في الإسلام، ولذلك فإن الله تعالى لعن الذين يقطعون الرحم فقال: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22 - 23]، والرحم هم: الإخوة وأبناؤهم، والأعمام وأبناؤهم، والأخوال والأقارب، سواء كانوا من طريق الأم، أو من طريق الأب والأجداد وإن علوا، فهؤلاء كلهم يدخلون في الرحم، ولذلك فإن قطيعة الرحم تعتبر من أكبر الآثام، وحقيقة صلة الرحم أن تصل من قطعك، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها).(58/12)
أمر الإسلام للأبناء ببر آبائهم
أما بالنسبة للجانب الآخر، وهو حق الآباء على الأبناء، وهو البر والإحسان، فقد أمر الله عز وجل وقضى وحكم بأن يبر هؤلاء الأبناء بأولئك الآباء، كما قال عز وجل: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23]، ومعنى القضاء هنا: الإيجاب، وإن كان هناك من يخرج عن هذا القضاء فإنه قضاء شرعي؛ لأنه أمر ووصى وأوجب، وليس معنى ذلك أنه قضى كوناً؛ لأنه وجد من خالف هذا الأمر.
وكثيراً ما يقرن الله عز وجل حق الوالدين بحقه كما في هذه الآية، وكما في آيات أخر كقوله سبحانه: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان:14]، والرسول صلى الله عليه وسلم استأذنه رجل في الجهاد في سبيل الله فقال له: (أحي والداك؟ فقال: نعم، قال: ففيهما فجاهد).
ومعنى البر بالنسبة للأبناء: أن يحسنوا علاقاتهم بآبائهم، وأن يقوموا بما أوجب الله عليهم من الطاعة في حدود طاعة الله تعالى، أما إذا كانت طاعة الوالدين أو أي مخلوق مخالفة لطاعة الله تعالى؛ فإنه لا طاعة حينئذٍ لمخلوق في معصية الخالق؛ ولذلك يقول الله تعالى: (وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [العنكبوت:8]، ولقد نزلت هذه الآية حينما أسلم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، فغضبت أمه، وكانت على الكفر، فقالت: يا سعد! والله لا أكلمك أبداً، ولا آكل طعاماً حتى تكفر بمحمد! فصار يتودد إليها مرة بعد أخرى لتأكل الطعام، وهي مصرة، حتى كادت تخرج روحها من شدة الجوع، ولكنه لا يريد أن يترك دينه، فلما رآها على هذا الوضع قال: (يا أماه! والله لا أترك ديني، ولو كانت لك مائة نفس فخرجت كل واحدة بعد الأخرى ما تركت ديني، فإن شئت كلي، وإن شئت فلا تأكلي)! فحينئذٍ يئست منه فأكلت، فأنزل الله تعالى قوله: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [العنكبوت:8]، بعد أن قال في أول الآية: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [العنكبوت:8].
وإهمال حق الوالدين خطر كبير، ولذلك فإن الله تعالى نهى عن التأفف في وجوههما فقال: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء:23]، وإذا كان هناك من الآثام والمعاصي للوالدين أكثر من ذلك فإنه أكثر خطراً وأعظم إثماً.(58/13)
أمر الإسلام بحسن تربية الأولاد
الإسلام يبني علاقة الأب مع أولاده على المحبة والعاطفة، ولكنه يبني العاطفة على أنها لا تطغى على العقل فتضيع التربية، وإنما يجب أن يكون العقل له قيمته، وهذه العاطفة لها قيمتها.
ويبدأ ذلك من اختيار الزوجة الصالحة، واختيار الزوجة الصالحة سبب في صلاح هؤلاء الأولاد؛ لأنها هي التربة التي توضع فيها هذه البذور، وحينئذٍ فإن هذا الأب مطالب باختيار الزوجة الصالحة أولاً، ثم اختيار الاسم الحسن، ثم بالتربية بعد ذلك؛ بحيث لا يرفع سوطه عنهم أبداً، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال عليه الصلاة والسلام: (ما نحل والد ولده أفضل من خلق حسن).
ولهذا فإننا نجد تربية الأولاد تشغل جانباً وحيزاً كبيراً في القرآن العظيم وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، ثم يبين أن صفات المؤمنين أنهم يؤدبون أولادهم، ثم بعد ذلك يمدون أكف الضراعة إلى الله سبحانه وتعالى بأن يصلح هذه الذرية، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74]، ولكن ذلك يكون بعد العمل.
ثم أيضاً نجد أن الله تعالى يتكفل بعد ذلك لهؤلاء الآباء الصالحين الذين بذروا بذوراً حسنة في هذه الأرض وفي المجتمع الإسلامي بأن يهب لهم الأولاد الصالحين.
وحينما يحصل صلاح الأبناء وصلاح الآباء فإن الله تعالى يرفع الأبناء يوم القيامة درجة، ولا يخفض الآباء هذه الدرجة، فيرفع الأبناء حيث يصلون إلى درجة آبائهم، فتقر حينئذٍ عيونهم بهذه الذرية الصالحة، يقول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور:21]، أي: رفعناهم إلى درجة الآباء في الجنة، {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور:21]؛ لأن تنزيل الآباء عن الأبناء شيء من الظلم بالنسبة للبشر، ولكنها بالنسبة لله سبحانه وتعالى ليست ظلماً؛ لأن الله عز وجل منزه عن الظلم، فهو يرفع الأبناء إلى درجة الآباء، ولا يخفض الآباء إلى درجة الأبناء حينما يكون الأبناء أقل صلاحاً من الآباء.
ثم بعد ذلك يبين الله تعالى أن السعادة وقرة العين إنما تكون حينما يصلح الآباء مع الأبناء، فيقول الله عز وجل: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:23 - 24]، هذا إضافة إلى ما يناله الأب من البر بالنسبة لهؤلاء الأولاد الصالحين، وما تناله الأم أيضاً من البر بالنسبة لهؤلاء الأولاد الصالحين.
أما بالنسبة لحياة البرزخ فإن فيها سعادة لهذا الأب الذي يربي هؤلاء الأولاد؛ فإن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به من بعده، أو ولد صالح يدعو له)، فحينئذ يكون الإسلام قد طالب الأبناء بالنسبة لآبائهم، أو الآباء بالنسبة لأبنائهم في هذا الجانب.
ثم أيضاً على هؤلاء الآباء وعلى هذه الأمهات أن يكونوا عوناً لأبنائهم على البر، وذلك بحسن المعاملة والرقة وحسن العشرة والعدل، والعدل هو أكثر ما يحبب الآباء إلى الأبناء.(58/14)
الزواج عقبات وحلول [1]
من أعظم مصارف الزكاة في أيامنا الحاضرة مساعدة العزاب الذين يرغبون في الزواج، ليحفظوا دينهم وكرامتهم، لاسيما وكثير منهم لا يستطيع الزواج بسبب التكاليف الشاقة، فينبغي لأهل الثراء ألا ينسوا مساعدة هؤلاء العزاب، وحبذا أن يقام صندوق خيري لتزويج الشباب الصالح.(59/1)
فضل الزواج
بسم الله الرحمن الرحيم {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا * وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا * وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا * وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا * وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} [النساء:1 - 6].
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1]، والحمد لله الذي خلقنا من نفس واحدة، وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء، والشكر لله المتفضل بالحلال عن الحرام.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق هؤلاء الناس ليبلوهم أيهم أحسن عملاً، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، وحجة على الناس أجمعين، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين إلى يوم الدين.
أما بعد: إخواني في الله! إن أعظم ما من الله به على المسلم هو الخلق الفاضل، وطهارة العرض، ونزاهة النفس، وإن أخطر ما منيت به البشرية في تاريخها الطويل هو الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولذلك فإن الله عز وجل أغير من يغار، وإنه ليغار أن يزني عبده أو تزني أمته، وقد شرع سبحانه وتعالى الزواج؛ ليكون منفذاًَ للمسلم إلى الحلال بدل الحرام، وسيكون حديثنا في هذه الليلة إن شاء الله عن الزواج وما أحدثه الناس فيه، وما فرطوا تجاه هذا الزواج فكان سبباً في ضلال كثير من الناس، وانحراف كثير من الأخلاق، والغفلة عن كثير من الأحكام التي تتعلق بهذا الأمر، وعن الهدف النبيل من شرعية الزواج.
الزواج في اللغة العربية: ضد الإفراد، والزوج: ما يشكل رقمين.
والزوج له ثلاثة إطلاقات في اللغة العربية: يطلق على الذكر، ويطلق على الأنثى، ويطلق على الاثنين مجتمعين، تقول: هذا زوج فلانة، وتقول: هذه زوج فلان، وتقول للاثنين مجتمعين: هذان زوج، كما يطلق الزوج على الشبيه والنظير، قال الله تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات:22]، والمراد بإزواجهم هنا: أشكالهم.
والزواج في معناه الاصطلاحي: هو قران الذكر بالأنثى، والزِّواج بكسر الزاي معناه: الفعل، أما بفتحها فمعناه المصدر.
والزواج سنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد حث الله عز وجل عليه في قوله: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور:32]، وسماه نكاحاً فقال: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:33]، ولم ترد كلمة نكاح إلا بمعنى العقد إلا على رأي بعض المفسرين في قول الله تعالى: {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} [النور:3]، فقد قالت طائفة: إن المراد به هنا الوطء، وجمهور المفسرين على أن المراد به العقد، ويترتب على ذلك أحكام كثيرة.
وقد حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على الزواج وأمر بالمبادرة إليه فقال عليه الصلاة والسلام: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة -أي: تكاليف الزواج- فليتزوج، ومن لم يستطع -أي: التكاليف- فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء) أي: يحفظه من أن يقع في الحرام، ومعروف أن الصوم له هذه الفائدة.
وقال عليه الصلاة والسلام: (تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة).
وقال: (إذا تزوج العبد فقد أكمل نصف دينه، فليتق الله في النصف الآخر).
والزواج من سنن المرسلين قبل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فإن الله سبحانه وتعالى جعله أمراً لا تقوم الحياة إلا به، وكان المرسلون -وهم أسبق الناس إلى الفضائل- أكثر الناس أزواجاً، وأسرعهم إلى المبادرة بالزواج.(59/2)
أهمية الزواج
هذا الموضوع يجب أن يلقى أهمية لدى كل الناس الذين يريدون العفة والطهارة، ولذلك نقول: إن من وراء الزواج حكماً عظيمة، ومن أهم هذه الحكم: صيانة المسلم وحفظ مائه الطاهر حتى لا يقع في حرام، فإن الله سبحانه وتعالى خلق هذا الإنسان، وجعل فيه الشهوة البشرية القهرية التي لا يمكن للإنسان أن يتخلص منها ذكراً كان أو امرأة، وهذه الشهوة هي سبب تكاثر بني آدم على الأرض، وهذه الشهوة لابد أن تنصرف إما في حلال أو حرام، فإذا انصرفت في حرام فذلك الزنا وما شابهه، وإذا انصرفت في حلال فذلك الزواج.
الزواج المشروع يبنى به العش الطاهر، وتقوم به الأسرة الكريمة، وتتكون فيه المجتمعات الإسلامية الطاهرة، لذلك حينما نقرأ سورة النور في نصفها الأول إلى قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور:35] نجدها تهتم بهذا الجانب من جوانب الحياة.
بل إن مما يلفت النظر في سورة النور سواء في مطلعها: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور:1] أو في منتصفها حينما انتهى الحديث عن الفاحشة والجريمة والزواج: {وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [النور:34]، ثم قال بعد ذلك: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور:35]، وما بين هاتين الآيتين: (سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا)، وقوله تعالى: (وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ) كله يتحدث عن العفة والطهارة وأسبابها، ونجد أنه بدأ بالحد الذي يوقف المجرم عند حده حتى لا يقع في الفاحشة، ثم عرج على حكم الحديث عن الفاحشة حتى لا تصبح مألوفة أمام الناس فقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور:4] إلى آخر الآيات، ولم يستثن من هذا الحكم إلا الزوج مع زوجته حينما يتهمها بالفاحشة فقال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ} [النور:6]، ثم انتقلت الآيات بعد ذلك إلى الحديث عن الاختلاط بين الذكر والأنثى، ودخول البيوت دون استئذان وسلام، بحيث لا يتورع أحد عن أن يدخل بيت غيره فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27] أي: تستأذنوا.
ثم انتقلت بنا الآيات إلى النظر الحرام الذي هو سبب من أسباب الفاحشة، سواء في ذلك الرجل ينظر إلى المرأة أو المرأة تنظر بشهوة إلى الرجل، فإن النظر بحسب الفطرة البشرية يثير الشهوة؛ ولذلك ذكر الله تعالى النظر بجوار الفعل الحرام فقال: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:30] ثم قال: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:31]، ثم أمر المرأة بأن تتحفظ من أن ينظر إلى زينتها أحد من غير محارمها فيكون ذلك سبباً في الفاحشة، فقال سبحانه وتعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ} [النور:31] إلخ الآية.
وكل هذا يعتبر سداً منيعاً لمنافذ الجريمة حتى لا تنتشر في مجتمع من المجتمعات.
الشهوة فطر الله الناس عليها كما قال سبحانه: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ} [آل عمران:14]، ولابد أن يكون لها مصرف مباح، وإلا فسوف تتفرق في المجتمع فتحدث الفوضى والاضطراب، وتنشر الأمراض من الإيدز والسيلان والزهري وغيرها من الأمراض، وكذلك تنشر الأمراض الاجتماعية، وتوجد في المجتمع أولاداً غير شرعيين، وتسبب مشاكل وعقداً نفسية إلى غير ذلك.
إن الإسلام دين واقعي لا يحرم الإنسان من شهوته، لكنه ينظم هذه الشهوة، ولا يحول بين الإنسان وبين الشهوة الحلال لكنه يوجهها الوجهة الطيبة الصالحة السليمة، فشرع الزواج، وكان الأمر بالزواج سداً لآخر منفذ من منافذ الفاحشة والجريمة، ولذلك نجد آخر مرحلة من مراحل العلاج: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32 - 33]، ثم قال الله بعد ذلك: {وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [النور:34]؛ قال بعد ذلك: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} [النور:35]، وما طبق تلك الأوامر فإنه يقذف الله عز وجل في قلبه هذا النور، فيصبح في خير وسعادة.(59/3)
أهداف الزواج(59/4)
صرف الشهوة في الحلال
من أهم أهداف الزواج: صرف الشهوة من الحرام إلى الحلال، وتنظيم هذه الشهوة، وصرف هذا الماء الطاهر إلى رحم طاهر، بدل أن يكون مبعثراً يهلك الحرث والنسل، فالزواج يعتبر أول وأهم طريق من طرق العفة والطهارة.(59/5)
عمارة الكون
من أهداف الزواج: عمارة هذا الكون، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء:1]، وهذا هدف من أهداف الزواج، فإن عمارة الكون وتكثير النسل وبث الخلق في هذه الأرض يتطلب هذا التزاوج بين الذكر والأنثى، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا عن طريق الزواج، ولو لم يكن الزواج لانقطع نسل بني آدم على الأرض، ولذلك نوح عليه السلام لما أمره الله عز وجل أن يصنع السفينة ليهلك من في الأرض عقوبة ونكالاً أوحى إليه وقال: {احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [هود:40]؛ ليبقى هذا الوجود على وجه الأرض، فمن أهم وأعظم أهداف الزواج أن يكثر النسل، وأن تنتشر البشرية، حتى يعبد الله عز وجل في هذه الأرض، وتكون هناك نطف طاهرة صالحة تقيم شرع الله في هذه الأرض.(59/6)
السكن
السكن، والمراد بالسكن: الراحة والطمأنينة، فالزوج يسكن إلى زوجته، والزوجة تسكن إلى زوجها كما قال الله تعالى: {لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف:189]، وكما قال الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف:189]، والسكن معناه: الراحة والطمأنينة، ولذلك فإن الإنسان يرتاح كل الارتياح ويطمئن كل الطمأنينة حينما يأوى إلى زوجة صالحة يفضي إليها بأسراره، وتفضي إليه بأسرارها، يشكو إليها ما يجده من تعب ومشقة في هذه الحياة فتستقبل مشاكله كما تستقبل مشاكلها، ويتعاونا على حل هذه المشاكل، ويطمئن إليها وتطمئن إليه، وهذا هو معنى السكن الذي أشار الله عز وجل إليه في قوله: (لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا).(59/7)
التكافل الاجتماعي
التكافل الاجتماعي، فإن الله سبحانه وتعالى قد ركب كل واحد من الجنسين على فطرة وعلى طبيعة وعلى جبلة، فأعطى الرجل قوة في عضلاته وفي عقله، وجعله ينطلق في هذه الأرض ليبحث عن الرزق الحلال، ثم أعطى المرأة نعومة ورقة في جسدها ليتمتع بها هذا الرجل؛ ولذلك قد أخطأ ملاحدة هذا العصر الذين يريدون أن يتخذوا من المرأة وسيلة للكسب كالرجل سواءً بسواء، ونحن ندرك أن فطرة الرجل تختلف عن فطرة المرأة، وأن فطرة المرأة تختلف عن فطرة الرجل، والله تعالى أسكن آدم وحواء الجنة، وحذرهما من الهبوط للأرض؛ لأن الهبوط للأرض يعني: الكدح في طلب العيش، ولكن الهبوط سيكون للاثنين، وسيكون الشقاء في طلب العيش لأحدهما فقط وهو الزوج، اسمعوا إلى بلاغة القرآن، يقول الله تعالى: {فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه:117]، ولم يقل: فتشقيا، وهذا يعطينا حكماً شرعياً عظيماً وهو أن الذي سوف يشقى في طلب العيش هو الرجل؛ فالهبوط للاثنين جميعاً، والشقاء في طلب العيش إنما يكون للرجل وحده، فالمرأة سكن، وهي تقوم بدور عظيم في تربية الأطفال، وتنظيم وتدبير البيت، وذلك لا يعني أن سعي المرأة لطلب العيش حرام عليها، وإنما يعني أن المطالب من أول وهلة بالبحث عن العيش الحلال والرزق الحلال هو الرجل، ولذلك أجمع علماء المسلمين على أن الرجل مطالب بالنفقة على الزوجة، وأنه هو الذي يجب عليه أن يسعى لطلب الرزق، والله عز وجل يقول: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34].
أما حينما تضطر المرأة لطلب العيش فهذا أمر لا شك في جوازه، لكنه في حدود، والرجل هو الذي يسعى في طلب العيش، والزوج بصفة خاصة مطالب بالنفقة على الزوجة طوعاً أو كرهاً؛ ولذلك يقول علماء الإسلام: إن الزوج لو عجز عن النفقة على الزوجة ولو كانت هي غنية تستطيع أن تنفق على نفسها فلها أن تطالبه بالطلاق، ولو طالبته بالطلاق لألزمه الشرع أن يطلقها أو ينفق عليها، ولو كان لديها مال كثير؛ لأنها لا تطالب بالنفقة من مالها، ولذلك فإن الزواج يوجد تكافلاً اجتماعياً بين الرجل والمرأة، ويلزم الزوج بالنفقة، ويحثه على السعي لطلب الرزق الحلال، وأول من يبدأ بالنفقة عليه هي الزوجة، حتى أنها تقدم على سائر الأقارب من الأهل والذرية، مما يدل على أهمية وقوة الصلات بين الرجل وبين المرأة في هذه الحياة.(59/8)
ربط الأسر وتوثيق العلاقات الاجتماعية
من فوائد الزواج: ربط الأسر وتوثيق العلاقات الاجتماعية بين الناس، فلان يتزوج وهو من أسرة بعيدة بنت فلان، فتقوم هناك صلات وعلاقات وروابط بين فلان المتزوج وعشيرة فلانة المتزوج بها، ومن هنا تتقوى الرابطة بين المسلمين؛ ولذلك حرم الإسلام أن يتزوج كافر بمسلمة، وكره أن يتزوج مسلم بكتابية، وإن كان ذلك مباحاً إلا أن المسلمة أفضل، ولذلك جعل في الدرجة الثانية حتى تقوى الصلات بين المسلم والمسلم، وحتى تقوم هناك روابط وثيقة بين فئات الأمة وقبائلها؛ لتتحقق فيهم الأخوة والمساواة، ولتقوى الروابط الاجتماعية بين المسلمين، والله يقول: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات:13]، وحينئذ ينصهر بعضهم ببعض؛ فيزول التفاخر، ويقضى على المحن والضغائن.(59/9)
من أحكام الزواج(59/10)
أهمية اختيار الزوج الصالح والزوجة الصالحة
الزواج له أحكام، وله آداب، وله أخلاق، وله سلوك، وله واجبات، وله محرمات، وله مستحبات، وأهم أحكامه: اختيار الزوجين الصالحين، الزوج إذا أراد أن يتزوج عليه أن يبحث عن الزوجة الصالحة، والله تعالى يقول: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور:32]، والله عز وجل يقول أيضاً: {وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ} [البقرة:221]، (وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ) أي: لا تزوجوهم، ومعنى ذلك أن يختار الرجل الصالح.
والزواج بالمشركة لا يجوز بأي حال من الأحوال، وقد يقول قائل: الله تعالى أباح الزواج باليهودية والنصرانية مع أن اليهود والنصارى مشركون، فاليهود يقولون: عزير ابن الله، والنصارى يقولون: المسيح ابن الله، وهذا شرك، فكيف أباح الإسلام الزواج باليهودية والنصرانية مع أن ذلك ممنوع بين الموحد والمشركة؟! نقول: اليهود والنصارى أصحاب كتب سماوية، والشرك طارئ عليهم، بخلاف الوثنيين والبوذيين وأصحاب الشرك والوثنيات، فإن الشرك فيهم صار عادة وطبيعة؛ لأنهم ليسوا أصحاب كتب سماوية، وعلى هذا فإنه يجوز للمسلم أن يتزوج يهودية أو نصرانية، لكن الأولى ألا يتزوج إلا بمسلمة، أما العكس بأن يتزوج يهودي أو نصراني أو مشرك مسلمة فلا يجوز بحال من الأحوال.
أثيرت قضية ذات يوم فقال بعض أعداء الإسلام من اليهود أو النصارى: لماذا الإسلام يترفع فيبيح للمسلم أن يتزوج يهودية أو نصرانية، ولا يبيح لليهودي والنصراني أن يتزوجا مسلمة؟ والجواب واضح: المسلم يؤمن بدين اليهودية والنصرانية قبل التحريف، ويؤمن بنبي اليهود والنصارى عليهم الصلاة والسلام كموسى وعيسى وغيرهم من أنبياء بني إسرائيل، لذلك ليس غريباً أن يبيح للمسلم أن يتزوج يهودية أو نصرانية؛ لأنه لن يسب دينها؛ لأنه يعتبر الإيمان بدينها جزءاً من الإيمان بدينه، أما ذلك اليهودي البعيد أو النصراني البعيد فإنه لا يؤمن برسالة المرأة المسلمة التي هي رسالة محمد صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك فإنه معرض في كل حين أن يتناول دينها ونبيها وكتابها بالسب والطعن.
المهم أن أهم ذلك هو اختيار الزوجة الصالحة، لا يكفي أن تكون مسلمة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك)، ويقول عليه الصلاة والسلام: (إذا خطب منكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض)، تفكروا -أيها الإخوان- في حكمة التشريع العظيم حين قال: (دينه وخلقه)، نحن نعرف أناساً متدينين، لكنهم ليسوا على مستوى من الخلق، فلا يجوز أن نندفع لنزوج ذلك المتدين الذي لا يتمتع بالخلق الرفيع لنضحي بهذه الفتاة المسكينة البريئة، بل لابد من الدين والخلق.
كذلك المرأة لا تنكح إلا الصالح من الرجال، فكما يطالب الرجل بأن يختار الصالحة هي أيضاً مطالبة بأن تختار الصالح، فالفاسق العاصي المجرم المدمن صاحب الكبائر نخطئ حينما نزوجه، ونعرض هذه الفتاة المسكينة البريئة الطيبة الطاهرة إلى فتنة عظيمة، فلربما يؤدي ذلك إلى أن تتفسخ عن دينها بسبب معاشرة هذا الرجل الفاسق، وأخطر من ذلك أناس يندفعون وراء المادة أو وراء النسب إذا كانوا من طلاب النسب الرفيع أو وراء المركز إذا كانوا من عباد المراكز أو إلى أي هدف من الأهداف المادية، ويتناسون أموراً عظيمة لا يسألون عنها في مثل هذه المناسبات العظيمة، على سبيل المثال: الصلاة، توجه إلي أسئلة كثيرة في التلفون، وأفاجأ كثيراً أن امرأة تقول: زوجني أبي فلاناً وهو لا يصلي! إنا لله وإنا إليه راجعون، هذا مرتد عن الإسلام، اليهودي والنصراني خير منه؛ لأن اليهودي والنصراني يعتمد على دين سابق، وإن كان منسوخاً، لكن هذا مرتد عن الإسلام، هذا يجب أن يقتل فوراً إذا لم يتب ويعود إلى الله عز وجل؛ لأن ترك الصلاة يعتبر ردة عن الإسلام؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر)، ويقول: (من بدل دينه فاقتلوه)، وقال: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله إلا بإحدى ثلاث -وذكر منهم-: التارك لدينه، المفارق للجماعة).
إذاً: أيها الإخوان! يجب أن ننتبه لهذا الخطر، الذي لا يصلي لا يزوج أبداً من النساء المسلمات، وإذا زوج فيعتبر العقد لاغياً وخطأً؛ لأنه تزويج لامرأة مسلمة برجل مرتد دون مستوى اليهود والنصارى والملاحدة والوثنيين.
كذلك إذا ثبت لنا أنه لا يصلي بعد الزواج، فيجب أن نحول بينه وبين هذه المرأة المسلمة، ونطالبه بالطلاق فوراً أو يصلي ويعود إلى دينه، فإن أبى فإن على القاضي أو المسئول أن يطلقها منه قهراً؛ لأن الله تعالى يقول: {لا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة:10]، هذا أمر خطير أنبهكم عليه، فعند الخطبة حينما يتقدم إنسان عليك اسأله يا أخي عن دينه وصلاته وصلاحه واستقامته، أما أن تندفع وراء أمور تافهة كالمهر أو المال أو النسب أو المركز أو الكرسي أو الشهادة أو السمعة الظاهرة التي لا حقيقة لها فذلك أمر خطير.
أمر آخر: الشباب الذين يتناولون المخدرات والمسكرات احذرهم أشد الحذر؛ لأن علماء النفس والتربية يقولون: إن إدمان الخمر أو المخدرات ينتقل بواسطة النطفة إلى الجنين، فيخرج هذا الجنين فيكون إما مدمناً للخمر أو مجنوناً أو معتوهاً أو يصرع أو مجرماً يفسد الحرث والنسل.
أيها الإخوان! تأكدوا وتأنوا حينما يتقدم إليكم الناس، وتريدون أن تقدموا لهم فلذات أكبادكم، واختاروا الصالحين، فإن الرجل الصالح هو الكفء لهذه المرأة، وسيقوم بحقوقها خوفاً من الله عز وجل، ويراقب الله عز وجل في سره وعلانيته، وتنجب منه بإذن الله أولاداً صالحين يكونون قرة عين لك كما يكونون قرة عين لأبويهم، وأقل ما تستفيد من هذا الرجل الصالح أنه لن يؤذيها ولن يظلمها ولن يهضمها حقاً من حقوقها، إن رضيها أمسكها وإن كرهها طلقها بسلام دون مشاكل ودون خصام، هذا هو الغالب والكثير، أما الذين لا يحسنون اختيار الزوج أو اختيار الزوجة فإنهم يضعون بذوراً سيئة لهم، ولربما يعضون أصابع الندم ولات ساعة مندم.(59/11)
التراضي
من أحكام الزواج: التراضي، فلا يجوز أن نكره رجلاً أو امرأة على الزواج دون رغبة، ونحن نعرف قصة المرأة التي خيرها الرسول صلى الله عليه وسلم حينما قالت: إن أباها أكرهها على زوج لا تريده، فخيرها الرسول صلى الله عليه وسلم، ولعلنا نأخذ من كلمة أكرهها أنه ألزمها برجل مكروه، وليس معنى ذلك أنه مكروه لديه، بل هو مكروه طبعاً لديها، والسر في هذا التأويل أن المرأة لا تحسن اختيار الزوج؛ لأن المرأة بعقليتها المحدودة وبتفكيرها البسيط لا تدرك مصلحتها كاملة، ولذلك فإني أقول: إن علينا أن نبذل الجهد في اختيار الرجل الصالح ثم نعرض الأمر على المرأة نفسها؛ لأنها هي صاحبة الحق، ثم نوجهها إلى الرجل الصالح، وإذا تقدم لها أكثر من واحد نعرض لها هذا العدد ثم نبين لها الذي نختاره لها انطلاقاً من الخير والفضيلة، لا من المحسوبيات الأخرى والأشياء التي لا تدوم ولا تثبت.
لا يصلح أن تختار المرأة الرجل الفاسق، وتقول: لا أريد إلا هذا من الناس.
فإن اختارته فإنه يسقط اختيارها؛ لأنها أصبحت لا تحسن الاختيار، وأصبحت لا تحسن أن تتصرف في أمرها، وأصبحت لا تحيط بمصلحتها، والرجل بحكم احتكاكه بالرجال، ومعرفته لأنواع الرجال هو الذي يختار لها، المهم أن يكون لها شيء من الاختيار، وأن يكون لها اختيار لكن بحدود، أما الإكراه بحيث تدس المرأة دساً على رجل لا تعرف عنه أي شيء من الأشياء فإن ذلك يعتبر إهانة للمرأة، ويعتبر إحياءً لمشاكل قد تتولد بعد مدة وجيزة من الزمن.(59/12)
النظر إلى المخطوبة
من هذه الأحكام: النظر إلى المخطوبة، الرسول صلى الله عليه وسلم أمر الرجل الذي يريد أن يتزوج أن ينظر إلى مخطوبته، وهذا النظر يقع اليوم بين طرفي نقيض، هناك أمم أسرفت في هذا الأمر، وتعدت حدود الله تعالى، وجعلت للرجل أن يعيش مدة من الزمن مع المرأة في غيبة من أعين الناس، وهذا يوجد في البلاد التي تسير وفق نظام جاهلي، يمكن أن يعيش معها مدة من الزمن، وبعد ذلك يتم عقد القران! ولعل ذلك شبيه بما يحدث في بلاد الغرب الكافرة التي يحصل فيها اللقاء والمتعة وغير ذلك قبل أن يتم العقد، وهذا أمر خطير، وهذا من أكبر المحرمات.
وهناك أناس لا يسمحون بأي نظر إلى المخطوبة، فتترتب عليه مفسدة غالباً؛ لأن الإنسان حينما يقدم على امرأة لا يعرف شيئاً من أخلاقها ولا من جمالها ولا من شكلها ثم بعد ذلك يفاجأ بها وقد اختلفت كثيراً عما في ذهنه وعما يتصوره بالنسبة لهذه المرأة؛ يؤدي ذلك إلى فساد الزواج، وهذا أيضاً يكثر، إلا أنه أقل خطورة من الأول.(59/13)
الكفاءة في الدين
من هذه الأحكام: الكفاءة في الدين، فلا يتزوج المسلمة إلا مسلماً، ولا يتزوج المسلم إلا مسلمة أو كتابية، ويشترط أن تكون عفيفة طاهرة نقية، يطمئن إلى دينها وأخلاقها وسلوكها وفضائلها، ولربما فهم الناس عن هذه الكفاءة غير حقيقتها، فأصبح كثير من الناس لا يقيم وزناً للكفاءة الدينية، ويقيم وزناً للكفاءة الاجتماعية والنسبية، فوجد في المجتمع طبقتان في أيامنا الحاضرة، وظن بعض الناس أن هذه الطبقية جاء بها الدين، ومعاذ الله أن يأتي بها الدين! هذا خضيري وهذا قبيلي، هذا نسيب وهذا ليس بنسيب، ولربما توجد قبيلتان ويظن بعض الناس أن هذه أفضل من الأخرى، فيرى بعضهم أن هذه لا يمكن أن تزوج ذاك، وذاك لا يتزوج من هذه، وهذا خطأ، فمعيار الناس في دين الله واحد، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13]، وقوله: (عَلِيمٌ خَبِيرٌ) يعني: أن هذا الحكم جاء عن علم وخبرة، فالمسلمون طبقة واحدة، والكفاءة واحدة، ويكفي أن الله تعالى يقول: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى)، ولو استعرضنا كل هذا العالم وأردنا أن نرجعه إلى نسب واحد فلابد أن نرجعه إلى آدم وحواء، فليس هناك جنس ولد من أب وأم غير آدم وحواء.
ولقد اهتم الناس بهذه الطبقية، وقسموا الناس إلى قسمين، وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم غير ذلك، الرسول صلى الله عليه وسلم أدنى الأباعد منه وأبعد الأقارب من خلال هذا الدين، ولذلك فإن المسلمين كلهم أمة واحدة {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [المؤمنون:52]، وفي سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ما يثبت خلاف ما يصنعه هؤلاء الناس، الرسول صلى الله عليه وسلم زوج زينب بنت جحش وهي من صميم قريش بـ زيد بن حارثة، قد يقول قائل: إن زيد بن حارثة رجل عربي أصيل، نقول: نعم هو عربي أصيل، لكن طرأ عليه الرق مدة من الزمن، فأخذ أحكام الأرقاء، ومع ذلك تزوج زينب بنت جحش وهي من صميم قريش، وأيضاً هي بنت عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، زد على ذلك أنه لما طلقها زيد بن حارثة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال سبحانه: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} [الأحزاب:37]، وتوجد كثير من هذه القصص التي حصلت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عهد الصحابة، فـ بلال تزوج أخت عبد الرحمن بن عوف وهي من صميم العرب، وبلال رضي الله عنه رجل من الحبشة، ولم يضره نسبه لما كان من الصالحين ومن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أظن أن أكثركم لا يوافقني على هذا الرأي، والحق أن هذا هو الأصل، لكن لو سألني سائل: هل أزوج أختي أو ابنتي التي ترجع إلى أصل أصيل برجل لا يعرف أصله؟ أقول: لا، إلا أن يتفق المجتمع كله على إلغاء هذه التفرقة فحينئذ أنا أوافق، وأتمنى أن يتفق المجتمع كله على إلغاء هذه التفرقة العنصرية؛ لأنها من بقايا الجاهلية، أما وهي الآن على أشدها فأنا أقول لأي إنسان يفكر أن يخرج على هذه القوانين وعلى هذه الأنظمة السائدة القبلية الموجودة الآن: لا تزوج إلا من كان من قبيلة معروفة؛ لأنه قد يقع من خلال هذه الأمور فساد في العلاقات الزوجية، فقد يترفع الرجل على زوجته بنسبه أو هي تترفع عليه بنسبها كما فعلت زينب بنت جحش رضي الله عنها مع زيد بن حارثة رضي الله عنه، لكن لو كان ذلك نظاماً متأصلاً في المجتمع، وجعلناه نظاماً اجتماعياً، واتفق الناس عليه؛ فإن هذا هو المصلحة، وهذا هو الخير، وهذا هو الذي يتناسب مع منهج الإسلام الصحيح {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى).
إذاً: الكفاءة الأصل فيها الكفاءة في الدين، أما الكفاءة في النسب فقد فرضتها علينا الظروف الاجتماعية التي نعيشها، ونرجو من الله سبحانه وتعالى أن يوفق المسلمين حتى يعرفوا إلى أي أصل يرجعون، ويعرفوا من هو الكفء ومن هو غير الكفء.(59/14)
الولي والشهود
أيضاً من أحكام الزواج: الولي والشهود، والولي شرط من شروط النكاح، وكذلك الشهود، ويجب كذلك إعلان الزواج، وهذا يعتبر من مكملات الزواج، والولي لابد أن يراعى فيه المنهج الصحيح، فلا يزوج المرأة إلا أقرب أوليائها منها وهو الأب، وإن لم يكن الأب فالولد، وإن لم يكن الولد فالأخ الشقيق إلى غير ذلك حسب ترتيب العلماء لهذا الأمر، والشهود أيضاً لابد أن يكونوا عدولاً في هذا الأمر.(59/15)
المهر
ومن أحكامه: المهر، وهو: المال الذي يقدمه الزوج لهذه المرأة، وليس ثمناً، فإن المرأة إنسان حر لا تباع ولا تشترى، وإنما هي نفقة مقابل الاستمتاع بها، هذا هو معنى المهر في نظر الإسلام، لكن المهر أصبح في نظر كثير من الناس اليوم هو الثمن الباهض الذي يتحمله الزوج ليشتري به هذه المرأة من أبيها، وليتخذه ذلك الأب الشره وسادة يتوسد به ويتمتع به وكأنه مقابل النفقة التي قدمها لابنته مدى حياتها الأولى! هذا هو الفرق بين المهر في نظر الإسلام والمهر في نظر كثير من الناس، والحمد لله يوجد الصالحون الذين لا يقيمون وزناً لهذا المال، وهذا المهر في الحقيقة ليس للأب بل هو للمرأة، ولا يجوز للأب أن يأخذ منه درهماً واحداً إلا بإذنها، يقول الله: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء:4] والخطاب للأزواج، وأيضاً الآباء يدخلون فيه حتى لا يتعرضوا لهذا المهر، والصدقات: جمع صداق، وهو المهر، ومعنى (نِحْلَةً) أي: هبة وعطية، ولا يجوز لأحد أن يأخذ له شيئاً من المهر إلا إذا طابت نفسها بشيء من ذلك {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء:4].
وهؤلاء الذين يشترطون لأنفسهم من مهر المرأة آثمون، فيقول أحدهم: أنا أريد بيت، ابني يريد سيارة، أخوها الأصغر يريد كذا وكذا.
حتى أصبح المهر ليس مهراً، وإنما هو ثمن باهض، وأصبح اليوم يبلغ مئات الآلاف، وأدبر الشباب عن الزواج بسبب هذا المهر الباهض، وهذه مصيبة أيها الإخوان، وهذا يعتبر نوعاً من السرقة واللصوصية، وأخذه من المرأة يعتبر سبباً لفشل الزواج، ومن خلال اطلاعي على كثير من المشاكل الزوجية أستطيع أقول لكم: إن (80 أو 90%) من المشاكل الزوجية تبدأ من هذا المهر الباهض، كيف؟ قد يقام الزواج في الفنادق الراقية، وينفق عليه عشرات الآلاف من أجل الموائد والخراف التي ترمى بعد ذلك للكلاب، وتدفع مئات الآلاف مقابل هذه المرأة المسكينة التي قد لا يصل إليها من هذا المهر إلا جزء بسيط من الحلي، ثم إذا بهذا الزوج يفكر بأي ثمن جاءت هذه المرأة، والله لقد كلفتهم مئات الآلاف، فتصير امرأة ثقيلة على نفسه، وربما الديون أصبحت ثقيلة عليه، وكلما رآها تذكر تلك الديون وتلك القروض وتلك الأموال التي بذلها، فتصبح عبئاً ثقيلاً في نفسه، ويتوقع كثيراً أن يطلقها حينما تضيق به الأرض ذرعاً، لاسيما حينما يطالبه أصحاب القروض وأصحاب الديون، وهذا يحدث كثيراً، وهب أنه قدم هذا المال الكثير من ماله، فإنه يتصور أنه بذل فيها مالاً كثيراً فيريد أن يستغل هذا المال ولو على سبيل إهانتها وإهانة أبيها وأمها.
هذه نتيجة من نتائج المهر الذي يغالي فيه الناس، والمهر اليسير يزيد في البركة، فأي امرأة دخلت على زوجها بدون تعب ولا مشقة تكون محبوبة إلى نفسه، محببة إلى قلبه، ويجد أن بينه وبينها علاقات أخوية؛ لأنها لم تكلفه ذلك الثمن الباهض، ولم ير ذلك الأب قد صار يتمتع بذلك المال، ويشتري به قصراً أو يبني به بيتاً أو يحدث به مزرعة أو يلعب به، والمرأة هي التي تقاسي مشاكل ذلك المهر الذي تجاوز به الزوج الحدود، وأكثر ظني أنه لا يقدم المهر الكثير إلا الأناس الذين لا يرغبون في المجتمع، والذين يريدون أن يقيموا لهم قيمة من خلال هذا المال لا من خلال قيمتهم الاجتماعية، والرسول صلى الله عليه وسلم دعا إلى تخفيف المهر فقال: (أكثرهن بركة أيسرهن مئونة)، قلل المئونة وستجد البركة في ذلك، لا تطلب أيها الولي المال الكثير، ولا تطلبي أيها الأخت الراغبة في الزواج المال الكثير، وأنا أضمن البركة لكل هؤلاء الناس؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبر بذلك، وهو لا ينطق عن الهوى.
من خلال هذا الشره ومن خلال هذا البذخ الذي أصيب به المسلمون في حين غفلة منهم عن دينهم، كثرت المشاكل الزوجية، وهذه ناحية خطيرة، وأخطر منها أن البنات عنسن في البيوت، وماذا فعل الشباب؟ الشباب على قسمين: شباب صالح يتحمل ويتصبر ويقاسي آلام العزوبة وينتظر الفرج من الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله قال لهم: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:33]، هذا طالب لا يتقاضى إلا ثلاثمائة ريال، وذاك موظف لا يتقاضى إلا ألف ريال، أو هب أنه يتقاضى أموالاً كثيرة فهو بحاجة إلى أن يبني بيتاً، وأن يعد نفسه، فمتى يستطيع أن يجمع هذه الأموال الطائلة، الذي حدث أن هذا النوع الأول الصالح يعيش صابراً على أعصابه، لاسيما في عصر الفتنة التي نعيشها اليوم، من الإعلام الذي يعرض الفتن والنساء والصور والمجلات، وكلها تتعاون في هذه المهمة، ومع ذلك هو يتحمل ويعيش على أعصابه.
وهناك شباب كثير وأظنهم السواد الأعظم بدءوا يتفلتون عن القيد، وصاروا يسافرون بالآلاف وعشرات الآلاف ومئات الآلاف يبحثون عن الفاحشة، وهم غير معذورين، ولكني متأكد أن الذين كانوا سبباً في غلاء المهور ورفعها وإيجاد هذه النظم الجائرة في المجتمع سوف يتحملون بمقدار ما يتحمله هذا الشقي الذي صار يبحث عن الجريمة، ويسافر للجريمة، ويطارد النساء في الأسواق ويغازلهن، سيتحمل هؤلاء الذين أوجدوا هذا الخلل الاجتماعي في هذا المجتمع كما يتحمله ذلكم الشقي الذي يبحث عن الجريمة، وكل واحد من هؤلاء الناس سيتحمل المسئولية أمام الله عز وجل.
إخواني في الله! الرسول صلى الله عليه وسلم يروي عن الله عز وجل أنه يقول: (ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل باع حراً فأكل ثمنه) إلخ، وأظن أن الذي يطلب هذه المبالغ الطائلة إنما يجعل هذه المبالغ ثمناً لهذه البنت، فكأنه باع حراً فأكل ثمنه، ويكون خصمه الله عز وجل يوم القيامة.(59/16)
إقامة مشروع خيري لمساعدة الشباب على الزواج
إخواني في الله! لابد من تخفيف المهور، ومن خلال حياتي القصيرة في هذه المنطقة الطيبة المباركة أفاجأ بأسئلة أكثر ما تتحدث عن العادة السرية، هذه العادة السرية التي هي معصية وتعذيب للجسد وإرهاق له ومخاطرة بالعقل لا تحدث إلا في مجتمع قل فيه الزواج ولا شك، والله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون:5 - 6]، وأنت -أيها المتسبب- في غلاء هذه المهور أو المغالاة بهذه المهور مسئول بين يدي الله عز وجل يوم القيامة، جاء في الأثر: أن الرجل إذا منع موليته -بنته أو أخته أو من له ولاية عليها- من الزواج، فوقعت في شيء فعليه إثمها.
حينما تخرج إلى أي مكان فتقع في حرام أو تنظر نظرة حرام إلى شاب؛ لأن لديها من الغريزة كما لدى الرجال؛ فأنت مسئول بين يدي الله عز وجل عن هذا الأمر، إضافة إلى أن هذه الأمانة أنت مسئول أن تبحث عن كفئها وعن مكانها المناسب؛ ولذلك فإنك ستتحمل بين يدي الله عز وجل مسئوليتها يوم القيامة.
هذا أمر لابد أن ننتبه له، أنا أسمع بأن هناك أموراً في هذه البلدة الطيبة المباركة، وفي هذا الجزء الكريم من بلدنا الطاهر، فلماذا يوجد هذا الأمر؟ أتريدون أن يذهب أبناؤنا إلى الفساد؟! اليوم يسافر من البلاد الطيبة الطاهرة يومياً آلاف الشباب بحثاً عن الفاحشة، وهب أنه ليس بحثاً عن الفاحشة، فسيقع كثير منهم في هذه الفاحشة، وهذا أمر خطير أيها الإخوان! وأنتم مسئولون عنه.
أنا لا أدعو إلى تحديد المهور، وإن كان تحديد المهور أصبح أمراً مطلوباً في أيامنا الحاضرة، ولربما تكون الدولة والسلطة مسئولة عن تحديد المهور، وأشكر لإمارة هذه المنطقة جزاهم الله خيراً وعلى رأسها سمو الأمير؛ لأني أسمع أنه مهتم بهذه الناحية، لكني لن أتدخل في هذا الأمر، ولكن أقترح على إمارة المنطقة.
أيها الإخوان! لابد أن يتعاون الآباء في تخفيف المهور، وأقترح أن يكون هناك صندوق للزواج يبذل فيه الأغنياء شيئاً من أموالهم؛ لأن ذلك من أفضل أبواب الزكاة، وفيه عفة وفيه إغناء عن الحرام، يكون هناك صندوق في هذه المدينة يشرف على العزاب ويدرس أحوالهم، ويقدم لكل واحد منهم مساعدة مالية إذا أراد أن يتزوج، وثبت أنه كفؤ، وأنه يحافظ على الصلوات الخمس في المساجد، وأنه رجل صالح، وأنه لا يستطيع تكاليف الزواج، وأنا مستعد أن أساهم في هذا الصندوق في كل سنة بعشرين ألف ريال، وأقترح أن يكون الشيخ محمد البشري جزاه الله خيراً أميناًً لهذا الصندوق؛ لأني أعرف أن هذا الرجل فيه خير، ويبذل في سبيل الله أموالاً كثيرة، وأرجو ألا يعتذر، كما أرجو أن يضاف إلى هذا الرجل الصالح محمد البشري أيضاً إخوان من الإخوة الذين يتعاونون معه ثم يقدمون خطابات ورسائل إلى إخوانهم أصحاب الأموال، وهذا الصندوق يشرف عليه إخوة من إخوانكم الصالحين من طلبة العلم، وأنا واثق بأن إمارة هذه المنطقة وعلى رأسها سمو الأمير خالد جزاه الله خيراً سوف يتبنى هذا الصندوق، وأنه سوف يدعمه وسوف يقويه؛ لأني أسمع من أخباره أنه مهتم في أمور الزواج وتحديد المهور.
يبدأ التنظيم في الصندوق من هذه الليلة، ويعرض على إمارة المنطقة التي تهتم بهذا الجانب.(59/17)
أهمية التعاون على تزويج الشباب
نعود إلى موضوعنا أيها الإخوة! نقول: لابد أن تتضافر الجهود كلها في تزويج العزاب، وأعرف أن هناك مشاكل، ومن هذه المشاكل أن كثيراً من الرجال حينما يتقدم إليهم كفء يخطب ابنته قد لا يخبرها، وعدم إخباره إياها يعتبر خيانة لها إذا كان هذا الرجل كفئاً، أما إذا كان غير كفء فله الحق في ذلك، ولربما يقول بعضهم: لا أريد أن تخطب الصغرى وتبقى الكبرى، وهذا أيضاً ظلم للصغرى؛ لأن الله تعالى قد أعطى كل واحدة وكل واحد من هؤلاء الناس نصيباً في هذه الحياة، فحينما يتقدم فلان من الناس يريد فلانة وهو كفء لها وهي كفء له، فزوجها إياه، والذين أرادوا أن يبدءوا بالكبرى دائماً قبل الصغرى هم الذين بقيت بناتهم عوانس في بيوتهم؛ لأن الصغرى لحقت بالكبرى، ولحق بها من هو أصغر منها، حتى أصبح البيت مستودعاً لفتيات مظلومات يشتكين من العزوبة، ويردن عشاً صالحاً طاهراً، ويردن أن يتمتعن بالأطفال الذين هم ألذ وأشهى شيء في هذه الحياة خصوصاً بالنسبة للمرأة.
كما ألفت الأنظار أيضاً إلى عدم الإسراف في الموائد، أنا من خلال دخولي القليل لقصور الأفراح أرى إسرافاً في الموائد وبذخاً، وهذا لا شك أنه على حساب الزوج والزوجة، وليس على حساب الأب، ولذلك الأب لا يبالي أن يذبح مائة من الخراف أو عشرين أو أقل أو أكثر ما دام أن ذلك ليس من ماله، وقد أشرت لكم إلى أن المال ليس له، وإنما المال للبنت، حتى وليمة الزواج لا يجوز له أن يزيد فيها عن المعقول إلا بإذنها هي؛ لأن المال مالها وليس مال الولي.
أيها الإخوان! أبواب الزكاة ومصارف الزكاة ثمانية، وأظن أن أولاها في أيامنا الحاضرة هو مساعدة العزاب الذين يرغبون في الزواج؛ لأن أكثر الأبواب والحمد لله قد استغني عن كثير منها، فمثلاً الفقراء -والحمد لله- قلوا في بلادنا، والله! إن كثيراً من الفقراء في بلادنا لاسيما في المدن وفي مناطق معينة يملك قصراً أضخم من قصر رئيس دولة في بعض البلاد الإسلامية، وعنده من الأطعمة والخير الشيء الكثير، ولا أقول: إنه لا يوجد فقراء، وإن كنت أطالب إخواننا الأغنياء أن ينزلوا إلى أسافل الجبال ليجدوا هناك الفقراء، لكني أقول: إن الفقر نسبياً قد قل في بلادنا والحمد لله، وعدم في كثير من الأحيان، وأصبحت أكبر مشكلة أمام الناس هي موضوع تزويج هؤلاء العزاب.
ومن تسبب في زواج شاب صالح بامرأة صالحة له أجر عند الله عز وجل بمقدار ما يتمتع أحدهما بالآخر مدى الحياة وبمقدار ما ينجبون من الأولاد الصالحين الذين يكونون سبباً في عمارة هذه الحياة عمارة صالحة.
أدعو أصحاب الخير والثراء والجمعيات الخيرية التي تصل إليها أموالاً كثيرة والحمد لله من المحسنين أن يضعوا بنداً لمساعدة هؤلاء العزاب الذين هم بحاجة إلى الزواج؛ حتى يحفظوا أنفسهم وكرامتهم وطهارتهم، وقد نفذته كثير من الجمعيات الخيرية في بعض مناطق المملكة فرأينا خيراً كثيراً بسبب تبني هذا المشروع العظيم.(59/18)
وجوب المعاشرة بالمعروف بين الزوجين
بعد الزواج يجب على الزوج أن يحافظ على العشرة الزوجية بالمعروف، والله تعالى يقول عن العشرة الزوجية: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء:19]، فالعشرة الزوجية أمر مطلوب، والذين يتعاملون مع زوجاتهم بشراسة أو بظلم أو بتعدي يهضمون المرأة حقها، ويظلمونها، وسيحاسبهم الله يوم القيامة على ذلك، إضافة إلى أنهم يشوهون سمعة المسلمين لأنهم يحسبون من المسلمين، والعشرة الطيبة تعني القيام بالنفقة، وطلاقة الوجه، ودماثة الخلق، وبذل كل ما في الوسع من أجل أن تكون الحياة سعيدة بين الزوج والزوجة، إضافة إلى تقديم السكن والنفقة والكسوة، والله تعالى يقول: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7]، ثم يعد الله عز وجل بالفرج: {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق:7]، ويقول عن السكن: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق:6]، وكذلك الكسوة وكل ما تحتاجه هذه المرأة من أشيائها الضرورية والكمالية حسب نظام المجتمع، وحسب استطاعة هذا الإنسان، وحسب مستوى هذه المرأة في المجتمع، فلابد أن يقوم بهذا وإلا فإنه يعتبر مقصراً في حقها.(59/19)
الزواج عقبات وحلول [2]
للزواج في الإسلام منزلة عظيمة، ومرتبة كريمة، فهو نصف الدين، فبه يسلم المرء من شر الشهوة، فيصرفها في المكان الحلال، وبه بقاء النوع الإنساني، وبناء الأسرة والمجتمع، إلى غير ذلك من المصالح العديدة؛ ولذا فقد رغب الإسلام في الزواج، وأباح تعدد الزوجات، وشرع التيسير في الصداق؛ وبهذا يحصل الخير العظيم للأمة الإسلامية.(60/1)
تعدد الزوجات في الإسلام
نشير إلى شبهة يثيرها الناس في أيامنا الحاضرة تتعلق بالزواج، وهي تعدد الزوجات، فما حكم الله عز وجل في تعدد الزوجات؟ الله تعالى يقول: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء:3]، في أيامنا الحاضرة يثير أعداء الإسلام والمثقفون ثقافة إلحادية أو غربية أو شرقية زوبعة حول تعدد الزوجات، ويقولون: هذا ظلم للمرأة، وإهانة للمرأة، لماذا الرجل يتزوج أربع نسوة، وليس للمرأة أن تتزوج إلا زوجاً واحداً؟! انظر إلى هذه العقلية! لو تزوجت المرأة أربعة أزواج، فهل تنجب في تلك الفترة أكثر من ولد واحد؟ لن تنجب إلا ولداً واحداً، ثم إذا أنجبت ولداً واحداً لمن يكون هذا الولد ولها أربعة أزواج؟! عقول مطموسة، أما الإسلام فإنه أباح للرجل أن يتزوج بأكثر من زوجة إلى أربع، وأرجو ألا تغضب النساء؛ لأن ذلك ليس من مصلحتها، وأرجو من المرأة حينما تسمع هذا الكلام أن تتصور نفسها وهي عانس ليس لها زوج، وأمامها زوج معه زوجة أخرى؛ ألا تتمنى أن تكون هي الزوجة الثانية أو الثالثة أو الرابعة، ولا تكون عانساً حبيسة البيت؟! لاشك أن ذلك هو المنطق وهو العقل.
إذاً: عليها أن ترضى بقسم الله تعالى وقضائه وقدره، ولتفرض نفسها في هذا المستوى، أما الله عز وجل فإنه فضل التعدد على الإفراد؛ ولذلك لا أشك أن تعدد الزوجات سنة وليس رخصة مباحة فقط، والدليل أن الله تعالى قدم التعدد على الإفراد، والتقديم دائماً له حكم في نظر الشرع.
ثانياً: أن الله عز وجل لم يذكر الواحدة إلا في حالة واحدة وهي حالة الخوف من عدم العدل؛ لأن العدل مطلوب بين الزوجات، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من كانت له زوجتان فمال إلى إحداهما دون الأخرى جاء يوم القيامة وشقه ساقط)، هل تريد المرأة من الاحترام أكثر من هذا الأمر؟ الله تعالى قدم التعدد لأنه أفضل فقال: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء:3]، وما دام الله تعالى جعلها واحدة في حال الخوف، فنقول: من يستطيع أن يكفل أكثر من امرأة أو امرأتين أو ثلاث فإن ذلك هو الأولى لتكثير نسل هذه الأمة، والرسول صلى الله عليه وسلم سوف يكاثر بهذه الأمة الأمم يوم القيامة.
الرجل الذي يتزوج بأكثر من زوجة سيقوم بنفقتها وكسوتها وسكنها، وأيضاً سيشبع رغبتها، لاسيما ونحن نعيش في فترة قل فيها الرجال وكثر فيها النساء، وهذا أمر مشاهد بالطبيعة والفطرة البشرية، انظر إلى أي نوع من مخلوقات الله ستجد نوع الأنثى أكثر من نوع الذكر، على سبيل المثال: إذا كنت ممن يفرخ الدجاج انظر إلى عدد أفراخ الدجاج، وكم أعداد الإناث بالنسبة للذكور، وهذه حكمة الله عز وجل، لاسيما في آخر الزمان فقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أنه سيأتي يوم من الأيام يكون للخمسين امرأة الرجل الواحد القيم يلذن به من قلة الرجال، وهذا لعل آثاره قد بدأت بسبب الحروب الطاحنة، حينما تسمع أخبار العالم ترى أنه كله قد أمسك بالزناد، ويتوقع حروباً دامية، وكم يذهب ضحية هذه الحروب من الرجال! على سبيل المثال: أفغانستان في مدة عشر سنوات استشهد فيها ما يزيد عن مليون وخمسمائة ألف رجل، ويندر أن تكون فيهم امرأة، إذاً: أين بنات هؤلاء؟! وأين زوجات هؤلاء؟! هل تترك للضياع أم نقيم فيها حكم الله عز وجل: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3]؟! في الحرب العالمية قتل فيها أكثر من عشرين مليون رجل، وقطع وشوه وأقعد عشرات الملايين من الرجال، إذاً: ما مصير النساء؟! الذين يعترضون على تعدد الزوجات كثير منهم لا يتورعون من الفساد، والدليل على ذلك أنهم يطعنون في دين الله، وأكثرهم لا يتقيد بزوجة ولا زوجتين ولا ثلاث ولا أربع ولا عشر ولا عشرين، فكلما سنحت الفرصة الحرام لأكثرهم لا يفوتونها.
في أيامنا الحاضرة انتشرت الخادمات، ويندر في بيوت المسلمين من لا توجد فيه خادمة أو خادمتان أو مربية أو سمها بما شئت، ولو أن رجلاً من الناس جاء بفتاة من الفلبين كافرة ملحدة مشركة وثنية شابة، وكان في بيته يخلو بها أو يخلو بها أولاده؛ فهذا في نظر عصرنا الحاضر تطور وتقدم، ما سمعنا يوماً من الأيام مسرحية أو كاريكاتير أو أحد يتحدث عن تخلف هذا الرجل الذي جاء بهذه المرأة بهذا الشكل، لكن كم تتحدث المسرحيات والكاريكاتيرات والأفلام والمشوهون في الكتب وفي الصحف عن تعدد الزوجات! أظن أن هذا هو الوعد الذي أخبرنا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (يعود المعروف منكراً، والمنكر معروفاً)، صار الرجل الذي يريد أن يعف فتاة محبوسة في بيت أبيها، ويقيم معها عشاً طاهراً طيباً، وينشأ منهما أولاداً صالحين بإذن الله، ويقوم بكفالتها، ويخلص أباها من المسئولية أمام الله؛ يعتبر متخلفاً في نظر كتابنا في هذا العصر ومتحدثينا، ورجل يأتي بفتاة من الفلبين أو من أي مكان آخر من بلاد الانحلال والفسق والفجور يعتبر رجلاً متطوراً في نظر هذا العصر! انعكاس في المفاهيم! وبعض اللواتي لا يفهمن عن الإسلام إلا قليلاً أو لا يفهمن شيئاً أبداً ولا يقرأن القرآن إلا قليلاً، تقول بعضهن: صحيح أن الإسلام يهين المرأة! فتقول كما يقول هؤلاء العصريون والمتعصرون والمتمسلمون! وتقول: كيف يبيح للرجل أن يتزوج بأكثر من امرأة! ونسيت هذه المسكينة أنها ربما تكون في يوم من الأيام هي التي تتمنى أن يتزوجها رجل لتكون الثالثة أو الرابعة، حتى نسمع في أيامنا الحاضرة من الفتيات العاقلات اللاتي فهمن القرآن والسنة فهماً حقيقياً من تتمنى ولربما تكتب في الصحف وتقول: أتمنى ربع زوج أو ثلث زوج أو نصف زوج.
أيها الإخوة! سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي التعدد؛ ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي طبق هذه السنة، والله عز وجل أباح شيئاً من الميل في سبيل التعدد مع أن الميل محرم في كل حال من الحالات فقال: {فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} [النساء:129]، إذاً: أبيح شيء من الميل -وهو ما لا يملكه الإنسان- لأن فضل التعدد، ومصلحة التعدد تتغلب على مفسدة الميل القليل.
أيها الإخوان! الدعايات المضللة الآن أصبحت تشوه هذا الجانب من جوانب هذا الدين أو تسعى لتشويهه، لكن دين الله لن يتشوه بفعل هؤلاء، لكن هذا أدى إلى كراهية طائفة من النساء اللاتي لم يتثقفن ثقافة إسلامية لهذا الأمر من دين الله، والسر في ذلك هو هؤلاء الذين تبنوا هذه القضية، وسموها مشكلة من مشاكل هذا العصر.
إخواني في الله! لابد أن نوضح للنساء حكمة الله عز وجل وتشريع الله عز وجل في هذا الأمر حتى تستبين سبيل المجرمين.(60/2)
الأسئلة(60/3)
خطر السفر إلى الخارج للسياحة وطلب المتعة الحرام
السؤال
هل من كلمة -يا فضيلة الشيخ- للشباب الذين يسافرون للخارج طلباً للمتعة الحرام، رغم أن ظروفهم تساعدهم على الزواج، ولكنهم يفضلون الحرام، غفر الله لنا ولهم، وتاب الله علينا وعليهم؟
الجواب
أظن أن هذه الكلمة في هذا المكان لا تصلح؛ لأني لا أظن أحداً من الحاضرين من هؤلاء والحمد لله، والحقيقة أنا رجل كثير الأسفار، وزرت دولاً كثيرة فيها تحلل، ولما أمر بها لمهمة أرجو أن تكون لخدمة الدعوة أفاجأ برؤية كثير من شبابنا في أشياء لا ترغب، ومن خلال رؤيتنا للصحف العابرة نرى دعايات لهذا السفر، مثلاً: عشر فتيات جميلات توضع صورهن في الإعلان، وفي الوسط بادر بالسفر إلى سنغافورا، والشباب الجاهلون عندما ينظرون لهذه الصور يظنون أنهم يدعون إلى هذه الفتيات، وحصل أن آلاف الشباب يسافرون لأهداف سيئة، ورأينا بعضهم في مواقف نرجو الله أن يعافيهم منها ويهديهم، وأقول للدولة وفقها الله وهي خير دولة في الأرض تحكم بشرع الله: لابد أن يؤخذ على أيدي هؤلاء، وتثقل أمور السفر بالنسبة لهؤلاء، ويمنع الشباب من السفر لكن بشرط أن نحل مشاكلهم بالداخل، وقد انتشرت المخدرات في بلاد المسلمين والأمور العظيمة بسبب هؤلاء الذين يسافرون؛ لأنهم يسافرون إلى تلك البلاد التي لا ترعى في المسلمين إلاً ولا ذمة، ولا يوجد فيها شيء اسمه حلال واسمه حرام.
ثم أتوجه بعد ذلك لإخواني الشباب وأقول: اتقوا الله، والله تعالى يقول: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:33].
أيها الشباب الذين ابتلوا بهذه المصيبة! إن لكم أخوات، ولربما لكم بنات، ولربما لكم محارم، وأخاف أن يبتلى أحد منهم في أهله، وهذا هو أخطر وأخوف ما يخافه كل إنسان على محارمه بسبب هذه الفعلات.
أيها الشباب! احذروا أن تسافروا إلى بلد الفتنة، وقبل ذلك احذروا هذه المثيرات التي تثير الشهوة في نفوسكم من صحف ومجلات وأفلام وغير ذلك؛ لأن الوسائل لها أحكام المقاصد، وأقول لهؤلاء وأولئك: علينا أن نتعاون جميعاً حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله.(60/4)
حكم ظهور العريس مع زوجته أمام النساء
السؤال
ما هو رأي فضيلتكم في ظهور الزوج مع عروسته أمام النساء في صالات الأفراح؟!
الجواب
الزواج اليوم له أخطاء كثيرة يفعلها كثير من الناس، مما يتنافى مع حكمة الزواج الذي شرع للعفة والطهارة، من اختلاط في بعض الأحيان، وسهر إلى الثلث الأخير من الليل، وقد نرى النساء تتسرب إلى قرب الفجر من قصور الأفراح إلى البيوت، بل وجود قصور الأفراح يعتبر في الحقيقة تخلف وإسراف؛ لأن بيوت الناس اليوم أكثرها تحولت إلى قصور كبيرة، وأصبحوا ليسوا بحاجة إلى قصر أفراح مهما كان الجمع كبيراً، المهم أن هناك أخطاء كثيرة، ومن هذه الأخطاء ما أشار إليه الأخ السائل مما نسمع عنه كثيراً، وهو عرض المتزوجة والمتزوج أمام النساء، فنقول: أولاً: هذا الشيء ليس من منهجنا نحن الأمة الإسلامية؛ لأن منهجنا التستر، والزواج في أعرافه وقواعده ونظمه لا يعرف هذه الأشياء التي جاءتنا من بلاد أخرى.
ثانياً: لا يجوز للزوج أن ينظر إلى غير زوجته، وعرض الزوج والزوجة أمام النساء السافرات يجعله ينظر إلى غير زوجته، بل لربما يفاجأ برؤية فتاة أجمل من زوجته، فيزهد في زوجته، فيكون الطلاق السريع.
الزواج المقصود منه صيانة المسلم والمسلمة، ونشر العفة والطهارة، ولا يجوز أن نتوسع في أي أمر من الأمور المحرمة كالغناء والرقص والأشرطة التي أصبحت تنشر علناً في بعض الأحيان من مكبرات الصوت أو ترقص النساء وربما يشاهدهن الرجال من خلال ثقوب لا يعلمن بذلك، فيؤدي ذلك إلى فتنة.
وأنتم -أيها الإخوة- احفظوا نساءكم، ولا يجوز لكم أن تسمحوا لهن بالذهاب إلى مثل هذه المحافل ما دامت غير محفوظة.(60/5)
حكم تأخير زواج البنت لاستكمال الدراسة
السؤال
الكثير من الآباء والبنات يتعلل عن تأخير زواجها بمواصلة البنت للدراسة، فهل هناك من مناقشة لهذه الفكرة التي انتشرت لدى الكثير من الناس؟
الجواب
تعليم المرأة أمر مطلوب، والعلم مطلوب بالنسبة للرجل والمرأة، لاسيما والحمد لله في بلادنا؛ لأن بلادنا تحافظ على مدارس تعليم البنات محافظة ليس لها نظير في أي مكان آخر، لكن هناك طموحات في بعض الأحيان نفاجأ بها تقول: إن المرأة لا تقف عند حد من التعليم، ولا عند فن من الفنون، حتى تحصل على الدكتوراة وما دون ذلك وما فوق ذلك، ثم لابد من العمل، مع أن سن مرحلة الزواج بالمرأة والرغبة فيها محدودة! إذاً: كيف ندعها حتى تكمل دراستها إلى آخر مرحلة من مراحلها، ثم هي تطمح بعد ذلك إلى العمل دون قيد ولا شرط، وأكثر الرجال لا يريدون أن تعمل المرأة؛ لأنهم يريدون أن تكمل المتعة بينها وبينهم، ويريدون أن تكون امرأة تربي أولادهم وتنشئهم، فمتى يكون سن الزواج؟ ومتى تكون مرحلته؟ أظن أن المرأة لا يمكن أن تكمل آخر مرحلة من مراحل الدراسة على الأقل إلا بعد إكمال ثلاثين عاماً، ثم لربما تطمح إلى العمل عشرة أعوام، ولا تفكر بالزواج مندفعة بسبب العمل، فإذا صار لها أربعون سنة، من سيرغب في هذه المرأة التي بلغت من السن أربعين سنة؟! ثم ماذا بقي لها من فترة الإنجاب؟! أظنه لم يبق إلا سنين قليلة، ولربما تفوتها هذه السنون فتصبح أرملة المستقبل.(60/6)
حكم استئجار النساء للضرب بالدف في الزواج
السؤال
ما حكم استئجار النساء للضرب بالدف في الزواج؟
الجواب
هذه أخبث وأخس مهنة، وأي امرأة تقوم بهذه المهنة أعتقد أنها وصلت إلى أخس مهنة يمكن أن تكون للمرأة، ضرب الدف للزواج أمر مباح، لكنه بحدود، وقد توسع فيه كثير من الناس، أما وقد توسعوا فيه فإني أقول: يجب أن نرجع إلى الحق، وإلى منهج السلف، أما أن تكون هناك نساء تستأجر لهذه المهمة فهذه تعتبر أسفل مراحل تصل إليها المرأة.(60/7)
للأخ أن يعترض على أبيه إذا أراد أن يزوج أخته بغير كفء
السؤال
هل يجوز لي أن أعترض على زواج أختي من رجل ليس صالحاً؟
الجواب
نعم، فالأب الذي اختار لابنته رجلاً غير ملتزم وغير متدين لا يحسن الاختيار، وسوف يعرض ابنته لفتنة ولمعاصي ولأخطاء كثيرة، ولربما يكون هذا الأب إما جاهلاً وإما مندفعاً وراء مطلب من المطالب المادية أو ما أشبه ذلك، وأقول لك أيها الأخ: إذا كان أبوك يريد أن يزوج أختك برجل غير كفء فعليك أن توجه هذا الأب، ولا أقول: تعترض عليه؛ لأن الاعتراض ليس من البر، لكن حينما يصل الأمر إلى أن يصمم هذا الأب على تزويج هذا الفاسق الذي قد تأكد فسقه وانحرافه فإن عليك أن توقفه بالقوة عند حدوده، وذلك بأن تبلغ الجهات المسئولة بأن زوجها غير كفء لها.(60/8)
هل يجوز صرف الزكاة لمن يريد الزواج بثانية
السؤال
هل تجوز الزكاة لمن يريد أن يتزوج بثانية وثالثة؟
الجواب
ما دام الزواج بثانية وثالثة أمراً مباحاً، وهذا أقل ما قيل فيه، وأنا أعتقد أنه أمر مسنون، وفيه مصلحة للمجتمع؛ فإنه في حالة إقدامه على الزواج يرى أنه بحاجة؛ لأن هناك كثيراً من الرجال لا تسد حاجتهم امرأة واحدة، إضافة إلى ما يعترض سبيل المرأة من العادة الشهرية ومن النفاس ومن الأمراض ومن العزوف عن هذه الشهوة إلى غير ذلك مما قد يسبب لهذا الرجل الفتنة، فهو لن يقدم على هذا الزواج إلا برغبة يعتقد أنها هي المصلحة؛ لأنه لن يقدم عليه أحد يريد أن يستكثر من النساء دون حاجة، وما دام الأمر كذلك وقد أقدم على الزواج وهو بحاجة فلنا أن نصرف له من الزكاة بمقدار ما يؤهله لهذه المرأة، لكن علينا أن نقدم في هذه المهمة من أراد أن يتزوج الزواج الأول؛ ولذلك أقترح على الشيخ البشري وجماعته الذين سيتولون هذا الصندوق أن يحصروه فقط في الزواج الأول؛ لأنه غالباً لا يقدم أحد على الزواج الثاني إلا مع الاستطاعة، لكن تحل الزكاة لمن أراد أن يتزوج الزواج الثاني إذا كان لحاجة.(60/9)
حكم رقص الرجال في الأعراس
السؤال
يقول بعض الإخوة: العادة في القرى تجمع الرجال في مناسبة الزواج للرقص والعرضة وضرب الطبول وإنشاد الشعر، وربما ذلك سبب من الأسباب التي تهيج النساء إلى التطلع على الرجال، وفي هذا ما فيه من المفسدة، فما هو البديل الشرعي لذلك؟
الجواب
إظهار الفرح أمر لا بأس به في مثل هذه المناسبة، أما أن يصل إلى أن يرقص الرجال كما ترقص النساء، ويتمايلون كما تتمايل النساء، ويأتون بالأهازيج والشعر الغزلي المثير أو ما أشبه ذلك؛ فهذا أمر لا يجوز شرعاً، والبديل من ذلك هو أن يكون هناك حركات رجولية، وشعر حماسي مفيد أو مشجع على فعل الخير، وذلك يغني عن هذا التمايل وهذا التأنث الذي يفعله بعض الرجال أو بعض الشباب بصفة خاصة.(60/10)
زواج المرأة القبيلية برجل غير قبيلي
السؤال
لقد فهمت من كلامك أنك تدعو إلى العادات القبلية والاجتماعية في الزوج واختياره، وقد ضربت مثالاً على ذلك، أرجو من فضيلتكم زيادة التوضيح حتى تتجلى المسألة أكثر في ضوء الشريعة الإسلامية؟
الجواب
أنا ما أدعو إلى القبلية معاذ الله! (دعوها فإنها منتنة)، القبلية خطيرة، وما يدعو إليها أحد من المسلمين، أنا قلت لكم: العادة التي درج عليها الناس اليوم ألا يزوج القبيلي موليته إلا برجل قبيلي مثله، يعني: رجل من قبيلة معروفة، وقلت لكم: إن منهج الشرع خلاف ذلك {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، هذا هو الميزان الذي وضعه الله عز وجل للناس، وضربت لكم أمثلة من الزيجات التي تزوج فيها رجال أصابهم الرق بنساء عربيات من أصل العرب، بل من أفضل العرب من قريش، ومن أقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا هو الذي حدث يوم كان المسلمون يطبقون الإسلام تطبيقاً كاملاً، ما كانوا يقدمون القبلية، ولا كانوا يقدمون المركز ولا الشهادة ولا المال ولا أي شيء من ذلك، لكني قلت بعد ذلك: أخشى أن يؤدي كلامي هذا إلى إثارة فتن في المجتمع فقلت: لو أن رجلاً استشارني هل يزوج ابنته التي تنتسب إلى قبيلة عريقة رجلاً لا ينتسب إلى قبيلة أصيلة، أو ليس له أصل معروف لقلت له: لا تزوجه إلا بشرط أن يتفق المجتمع كله على أن يلغي هذه الطبقية، وحينئذ زوجه، ويكون لك أجر كبير، أما أن تزوجه والمجتمع كله ضدك فأخشى أن تثور فتنة بسبب هذا العمل، ولربما يتحرك أبناء عمك وأبناء عشيرتك وأولادك وأعمامك ويفسدون العلاقة بين الزوج والزوجة؛ فيسبب ذلك فتنة في المجتمع أو لربما تترفع هي على ذلك الرجل كما ترفعت زينب بنت جحش على زيد بن حارثة رضي الله عنهما، وإذا كان الأمر كذلك فإني أقول: المطلوب حلها على مستوى عام وفق المنهج الإسلامي، بحيث لا نجعل في المجتمع خضيرياً ولا قبيلياً، ونجعل الأمة كلها ترجع إلى أمة واحدة هي أمة الإسلام، فالذي يحمل هوية الإسلام ويطبقه نعتبره ينتسب إلى قبيلة؛ لأن النسب الصحيح للمسلم هو لا إله إلا الله، محمد رسول الله.(60/11)
حكم ضرب النساء للدفوف والرقص أمام النساء
السؤال
هل يجوز للنساء الرقص والتمايل على الدف؟ وما هي الصورة الشرعية لضرب الدف وتجمع النساء في الفرح في هذه المناسبات؟
الجواب
ليس الدف من السنة، بل هو من الأمور المباحة، وهو مباح في مسألة واحدة وهي إعلان الزواج، فالنكاح يعلن بالدف، لكن أظنه في أيامنا الحاضرة بدأ يعلن النكاح بأشياء كثيرة لا يحتاج فيها إلى الدف، من الأنوار الكاشفة الشديدة التي أصبحت الآن وسيلة من وسائل إعلان الزواج، والبطاقات التي تقدم للناس قبل الزواج لدعوتهم بمدة تعتبر من إعلان الزواج، والدف الآن ليس دوره هو إعلان الزواج كما هو الأصل في إباحة الشرع له، وإنما أصبح الآن فقط للعب، لكن ما دمنا نتسامح في إظهار الفرح فلا بأس به بحيث يدق النساء الدفوف، لكن بشرط ألا تتمايل النساء، وألا يراهن الرجال، وألا يظهر صوتهن للرجال، وألا يغنين بشعر غرام وعشق، وألا تكون هناك أشرطة يؤتى فيها بمغنية أو مطربة كما يقولون، هذه كلها شروط لابد منها، والله أعلم.(60/12)
المرأة في الإسلام ما لها وما عليها
لقد عانت المرأة ألواناً من الظلم والإهانة والحرمان من حقوقها، وذلك على اختلاف العصور والبلدان والمذاهب والأديان، فلم تزل تتعرض لأنواع الظلم والقهر والحرمان حتى وصل الأمر إلى إنكار حريتها وعدم الاعتراف بإنسانيتها، فقد كانت تدفن حية خوف الفقر والعار، حتى جاء الإسلام فرفع شأنها، وحررها من ذلك الظلم والقهر، وأعطاها حقها، فلم تستوفى حقوقها في دين غير دين الإسلام، ولم تنل كرامتها في بلاد غير بلاد الإسلام، وهذا هو الدين الحق الذي منحها كل ما تستحقه، ولم يكلفها من المهام والمسئوليات ما لا تطيق، ومن تأمل حالها في الأديان الأخرى، والمذاهب الهدامة بان له الحق، واتضح له الطريق.(61/1)
أهمية قضية المرأة في هذا العصر
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1]، نحمده ونشكره، ونثني عليه كما أثنى على نفسه، ونصلي ونسلم على عبد الله ورسوله محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فإن الحديث عن مشاكل المسلمين يطول، ومن يريد أن يتحدث عن مشاكل المسلمين لا يدري من أين يبدأ وإلى أين ينتهي! ولاشك أن موضوع المرأة من أهم المواضيع التي بدأ العالم يخوض فيها ويسلط الأضواء عليها، والحديث عن المرأة حديث طويل متشعب يحتاج إلى زمن ليس باليسير، وقضية المرأة قضية مهمة؛ فهي تشكل نصف المجتمع من حيث العدد، وأجمل ما فيه من حيث العواطف، وأعقد ما فيه من حيث المشكلات، وأخطر ما فيه من حيث العواقب والنتائج.
ولقد تميز عصرنا هذا بميزات أهمها: أنه عصر الدعاية والتضليل، وعصر الفتن بجميع أنواعها، وأخطرها على الرجال: فتنة النساء التي حذرنا منها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (فاتقوا الدنيا واتقوا النساء) فجعل الدنيا كلها في كفة، وجعل النساء في كفة أخرى؛ فالدنيا بجميع مفاتنها وما فيها من مال، ومناصب، وشبهات، وشهوات في كفة، والنساء في كفة أخرى.
كما أنه عصر برز فيه المنافقون بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، وخُدع الناس بهذه الحضارة والتمدن، وصارت القيادة في كثير من المواقع في أيدي غير الأمناء، فوجهوا الحياة وجهة غير سليمة، وأظهروا عطفهم على المرأة وهُم أعداؤها! واتهموا الإسلام بأنه ضدها، وأنه يسلبها كثيراً من حقوقها! ولقد بلي عصرنا هذا أيضاً بوسائل إعلام لا تتجه وجهة سليمة، ووسائل دعايات ونشر مضلة، وازداد تأثير هؤلاء، ووصلوا في دعاياتهم المضللة إلى قعر بيوت المسلمين، مهما اتخذ المسلمون من الحيطة والحذر، وكثيراً ما كان المسلمون هم السبب في إيصال هذه الدعايات إلى بيوتهم، ومن المؤسف جداً أن كثيراً من هؤلاء الرُّعَناء من أبناء جلدتنا، ومن الذين يتكلمون بألسنتنا!! وقد حدثنا عنهم الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام بقوله: (دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم قذفوه فيها)، ومما لا شك فيه أن هذه الفترة التي نعيشها هي تلك الفترة التي كان يعيش فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحينما نريد أن نتكلم عن المرأة نجدها اليوم قد صارت لعبة بأيدي العابثين والحاسدين، وقد تجرءوا عليها باسم حقوقها وحريتها وإنسانيتها وما إلى ذلك، فهم يريدون منها أن تكشف وجهها أولاً، ثم يريدون منها أن تتبرج بعد ذلك وتبدي زينتها؛ لتكون -في نهاية الأمر- صيدهم وفريستهم، وليحصلوا عليها بسهولة.
وإذا ناقشتَ هؤلاء وبيّنتَ لهم وجهة الإسلام في هذه الناحية قالوا: أنت متخلف!! أنت رجعي!! أنت عدو للمرأة!! أنت سفيه!! {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ} [البقرة:13].
وإذا قيل لهؤلاء لماذا تقلدون الكفرة وقد أمرنا الله عز وجل باتباع سبيل المؤمنين، ونهانا عن اتباع الكافرين، وقال {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود:113]؟ قالوا: هؤلاء صنعوا معجزات على ظهر الحياة! وما علم هؤلاء أن أولئك يضربون يداً بيد على ما كسبت أيديهم في شأن المرأة.
ولقد سلك هذا المسلك المنحرف أمم من قبلنا، فعضّوا أصابع الندم، وانفلتت من أيديهم أزمّة الأمور، وصاروا يودون لو تعود المرأة إلى السبيل القويم، وتبقى في بيتها، وهيهات لهم ذلك.
لقد حدث هذا في بلاد الغرب وفي بلاد الشرق أيضاً، بل وفي البلاد الإسلامية التي سبقتها إلى هذا النوع من الحضارة المزيفة، أو خطط الاستعمار مسيرتها من أجل أن يقذف بها في مكان سحيق، حتى إنك لا تكاد -وأنت في كثير من البلاد الإسلامية- تجد فرقاً واضحاً بينها وبين بلاد الكفر!! لأن الاستعمار هو الذي خطّط ورسم منهج الحياة فيها، ولقد بُلي عالمنا بالتقليد الأعمى، فلا يكاد المترفون يرون أو يسمعون بما في بلاد الكفر إلا ويريدون أن يوجد مثله في بلادهم! ومما يسر لهم ذلك انتشار وسائل الاتصال بأنواعها، ووسائل التنقل بين أجزاء هذا العالم، مما ييسر انتقال هذه العدوى، فتشابه هذا العالم كافره ومسلمه في كثير من الأشياء، حتى في الأزياء والعادات.(61/2)
موقف المنافقين والمرجفين من الإسلام حول قضية المرأة
وفي بلدنا هذا بالذات بدأنا نسير خلف الركب، وبدأنا نسير من حيث يتراجع أولئك!! وصار بلدنا اليوم يعيش ضجة كبرى حول المرأة؛ فهناك من يقول: إن الإسلام سوّى بين الرجل والمرأة في كل شيء!! وهناك من يقول: إنه ظلم المرأة وسلبها حقوقها!! وهؤلاء وأولئك يقولون في شرع الله بغير علم؛ فهو لم يسوّ بينهما في كل شيء، وهو أيضاً لم يظلم المرأة، بل أكرمها الله عز وجل بالإسلام، وهو الذي أخرجها بدينه من الظلمات إلى النور، وهؤلاء نوعان: نوع جاهل، بالرغم من هذه الشهادات الجامعية التي يحملونها، فإنهم -كما قال سبحانه وتعالى-: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7]، لأنهم درسوا كل شيء في هذه الحياة إلا العلم بالدين! وعرفوا كثيراً إلا ما له صلة بالدين! فضلوا وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل.
وهناك نوع مبغض هدفه الوحيد السعي إلى هدم قواعد هذا الدين، والإطاحة به ولو كان ممن ينتسب إليه، والله عز وجل يقول عن هؤلاء: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء:27].
وهؤلاء أيضاً على نوعين: هناك نوع يحمل الحقد الدفين على هذا الدين، ويعلم علم اليقين أنه بطريق المرأة يستطيع أن يهدم أعز شيء في هذا الوجود، لأن قائلهم يقول: لا أحد أقدر على جذب المجتمع من هذه المرأة.
ومن هنا خططوا ونظموا أمرهم، {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30]، ولقد بدأ تنفيذ هذا المخطط منذ أن ارتفع شأن الإسلام وعلمه في المدينة النبوية، يوم وصل إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقام هناك دولة التوحيد، حديث انبعث هناك حزب اليهود على يد عبد الله بن سبأ اليهودي الذي أسلم ظاهراً لهدف هدم الإسلام ثم جاء من بعده أتباعه يتواصون بهدم الإسلام، ويعقدون المؤتمرات، ويرسمون المخططات، وأهمها: حرب المسلمين بواسطة المرأة، ولم يصل النصيريون إلى حكم سوريا إلا بهذا الطريق أيضاً.
وهناك نوع مقلد، لكنه لم يفكر بهذه النتائج، حدثنا عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه).
وهذه الأصناف كلها وإن اختلفت مشاربها، وتفرعت سبلها تجتمع في مصب واحد وهو محاولة القضاء على الدين والأخلاق، ولكن الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون، ومتم نوره ولو كره الكافرون، {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33].
والمقلدون أخطر على الإسلام من الكفار لأنهم كما قال سبحانه وتعالى: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ} [الحشر:2]، ونحن نقول: وبأيدي الكافرين، وهؤلاء عاشت طائفة منهم هناك في البلاد الكافرة، وأعجبوا بأخلاقهم، وانغمسوا في فسادهم، حتى تمنوا لو أسرعت بهم الأيام وعادوا إلى بلادهم الطاهرة المتخلفة -كما يظنون- ولو سمحت لهم الظروف، ومكنتهم مراكزهم الوظيفية ومكانتهم الاجتماعية لقضوا على هذا الدين في أقرب وقت ممكن، ولقد تحقق لطائفة منهم سلطات ومناصب مختلفة، فصار كالسبع الجائع، سواء بواسطة الصحافة، أو الأفلام، أو غير ذلك من وسائل الإعلام الأخرى.
وأنتم تقرءون في بعض صحف العالم الإسلامي، وتدركون ما تحمله من الخطر في مقالاتها وقصصها من هجوم عنيف على الإسلام، وحرب شعواء على تعدد الزوجات، وذلك بطريق مفهوم التشجيع على الفاحشة، وتدخل في حكم الله في شئون الطلاق، واتهام لرسوله صلى الله عليه وسلم مع زوجاته، وسخرية من الحجاب وغير ذلك.(61/3)
حال المرأة في الأديان والبلدان المختلفة
حينما نريد أن نتحدث عن المرأة في نظر الإسلام، وعن حقوقها وميزاتها التي ميزها الله عز وجل بها في هذا الدين، وكيف أن الإسلام يعتبر متنفساً لها بعد طول إهانة وحرمان؛ نريد أن نُصدّر هذا البحث بحديث موجز عن حال المرأة في مختلف الديانات والمذاهب القديمة والجديدة، وكيف كانت المرأة مستذلة ممتهنة قبل الإسلام، وفي البلاد التي لم يدخلها نور الإسلام.(61/4)
المرأة عند الآشوريين والبابليين
كان الآشوريون والبابليون يبيعون المرأة بيعاً علناً كما يباع الرقيق في الأسواق! ويتولى ذلك الكهان والزعماء الروحيون، فكانت المرأة في نظرهم من سقط المتاع! وكانوا يهينونها إلى أخس درجات الإهانة.(61/5)
المرأة عند اليونان
كان اليونان يمنعون المرأة من التصرف في مالها، ولا يبيحون لها التملك والأخذ والإعطاء، بل يعتبرونها مملوكة للرجل يتصرف فيها كيف شاء، يبيعها ويشتريها ويؤجرها.(61/6)
المرأة عند الفرس
كان الفرس يقولون: إن المرأة من حقوق الرجل، فله قتلها متى شاء، ومتى بدا له ذلك! ولا حظّ لها في التعليم، ولا يجوز لها الخروج من البيت، وهي عرض من العروض تباع وتشترى!(61/7)
المرأة عند الأتراك القدامى
كان الأتراك القدامى يقدمون النساء جماعات لشهواتهم في الليل! وفي النهار كانوا يستعملونهن للحراسة كما تستعمل الثيران، وكما يستعمل سائر الحيوان! إلا أنهم كانوا يقدسون الأم فقط.
وعند بلوغ البنت تكون منبوذة لا يبيحون لها الزواج إذا طُلقت، وإذا مات زوجها فلا بد أن تحرق جثتها مع جثته! وزوجها يملكها في حياته كسائر المتاع.(61/8)
المرأة عند البربر
تعتبر المرأة عند البربر سمّاً للرجل، لا تكلمه ولا تأكل معه ولا تنطق باسمه، ويقولون: ليس السم والأفاعي والجحيم والموت أسوأ من المرأة.(61/9)
المرأة عند الصينيين
الصينيون كانوا يحتقرون المرأة، ويحرمونها من ميراث زوجها وأبيها، ويضاعفون عليها العقوبة أكثر من الرجل! وكان في بعض شرائعهم وأنظمتهم أنه يجوز للرجل أن يجمع إلى ثلاثين ومائة امرأة بعصمة رجل واحد!(61/10)
المرأة عند اليابانيين
بقيت المرأة لدى اليابانيين حتى عام 1875م لا وزن لها في المجتمع، فهي عندهم وسيلة متاع فقط، ويعتبرونها رجساً من عمل الشيطان! وتباع وتشترى في الأسواق كما يباع الرقيق!(61/11)
المرأة في شريعة حمورابي
كانت المرأة في شريعة حمورابي تعد من ضمن الماشية! حتى أن من قتل امرأة يسلم ابنته بدلها ويتصرف فيها ولي الدم كيف شاء، إن شاء قتلها، وإن شاء باعها، وإن شاء تمتع بها!(61/12)
المرأة عند قدماء المصريين
جرت العادة في مصر أنهم كانوا يقدمون فتاة من أجمل فتياتهم إذا توقف نهر النيل عن الجريان، ويتصورون أن نهر النيل يجري إذا قذفوا فيه هذه الفتاة البريئة! حتى فتح المسلمون مصر على يد عمرو بن العاص رضي الله عنه فطلبوا منه هذا الطلب حينما توقف نهر النيل، فكتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستأمره في هذا الأمر، فقال: هذا أمر لا يجوز، وأرسل ورقة صغيرة كتب فيها: بسم الله الرحمن الرحيم، من عمر بن الخطاب إلى نهر النيل، أما بعد: فإن كنت تجري بأمرك فلا تجر، وإن كنت تجري بأمر الله فاجر.
فجرى النهر، وزالت تلك الخرافة، وسلمت المرأة التي كانوا يقدمونها كل سنة ضحية لهذه الخرافة!(61/13)
المرأة عند اليهود
لم تسلم المرأة عند اليهود من الظلم، فكانوا يعتبرونها من القاصرين الثلاثة الذين لا بد أن يُحجر عليهم وهُم: الطفل والمجنون والمرأة، ولم يُعدّل هذا القانون إلا منذ أربعين سنة! ويعتبرونها في منزلة الخادم!! ويعتبرونها لعنة؛ لأنها هي السبب في إخراج أبينا آدم من الجنة، والله تعالى قد برأها بقوله: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]، وكما هو معروف في سياسة اليهود الخبيثة -إلى يومنا هذا- فقد جعلوها شبكة يصطادون بها ضمائر الرجال وأخلاقهم، ويأخذون بها ممتلكات المسلمين وبلادهم، ويفسدون بها المجتمعات، وهدفهم بذلك السيطرة على العالم، فهي وسيلة الصهاينة كما هي ضمن مخططات الماسونية العالمية للاستيلاء على العالم، والقضاء على الأديان والشعوب.(61/14)
المرأة عند النصارى
النصارى يعتبرون المرأة مصدر الشر والفساد! ويعدونها في أجسام الشياطين، والأمثال السائرة لديهم تدل على هذا الاحتقار المشين، يقول المثل الإيطالي: المهماد للفرس الجواد, والعصا للمرأة الصالحة والطالحة، ويقول المثل الأسباني: احذر المرأة الفاسدة ولا تركن إلى المرأة الصالحة!(61/15)
المرأة عند الإنجليز
يجوز عند الإنجليز بيع المرأة، ولقد حدد سعرها رسمياً بستة فلسات -أي: ما يعادل نصف ريال في عملتنا الحالية! - ولم يعدل هذا النظام أيضاً إلا منذ اثنين وأربعين عاماً!! والمرأة في بريطانيا إلى يومنا هذا ساقطة في الحضيض، فمن الصعب حصولها على زوج، وعندما يتحقق لها الزوج، وتحصل على هذا الحلم فإنها هي التي تدفع المهر! ومهرها لا يعدو بضعة جنيهات، وكان ذلك من أكبر أسباب انحطاط المرأة هناك، وأكبر أسباب فسادها.(61/16)
المرأة عند العرب قبل الإسلام
أما المرأة في البلاد العربية فقد وصلت في جزيرة العرب قبل الإسلام إلى أقصى درجات الإهانة والاحتقار، فكانت في كثير من الأحيان تعتبر من سقط المتاع! حتى لقد حرمتها طائفة من هؤلاء حق الحياة، فكانت تقتل بدون سبب، بل كانت تدفن حية -ويسمى الوأد- خشية العار والفقر، وقد أنزل الله فيها قوله تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [النحل:58 - 59]، فكانوا يفعلون ذلك خشية العار والفقر.
جاء قيس بن عاصم المنقري مسلماً، وطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يستغفر له، وقال: إنه قتل ثلاث عشرة بنتاً من بناته!! ولذلك يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما كنا نعد النساء في الجاهلية شيئاً حتى أنزل الله فيهن ما أنزل، وقسم لهن ما قسم.
وكانوا يكرهون ذكر المرأة في مجالسهم، حتى لقد كان قائلهم يقول: إياك واسم العامرية إنني أخشى عليها من فم المتكلم وهذا وإن كان فيه شيء من المحافظة والغيرة، إلا أنه يدل على الإهانة والاحتقار، وكان ذلك رد فعل لما حصل في الجاهلية الأولى من التبرج والفساد مما أخاف هؤلاء على بناتهم حتى اندفعوا إلى قتلهن ودفنهن خشية العار.
وكان هناك زواج البضاع في الجاهلية، ومعناه: أن يعجب رجل برجل فيرسل زوجته إليه من أجل أن يلقحها ولداً ليخرج ولداً لبيباً ذكياً -كما كانوا يعتقدون-!! وكان أيضاً هناك زواج الشغار وهو أن يزوج الرجل ابنته أو موليته لرجل يزوجه ابنته أو موليته مبادلة، وتحرم المرأة حينئذ من المهر، كما أنه لا يؤخذ رأيها في الزواج، حتى حرمه الإسلام احتراماً للمرأة، وأمر باستئذانها إن كانت بكراً، واستئمارها إن كانت ثيباً، كما في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تنكح الثيب حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن، وإذنها صماتها).
وكان أيضاً هناك زواج المتعة، وزواج المتعة مما تهان به المرأة، يعجب الرجل بالمرأة فيتزوجها أياماً أو شهوراً أو سنين معدودة ثم يطلقها بعد ذلك، فحرمه الإسلام احتراماً لها؛ حيث لا بد أن يكون الزواج لهدف السعادة لا لهدف الشهوة، وأخطر من ذلك أنه كانت هناك متاجرة في أعراض الإماء، فكان طائفة من الناس يشترون الإماء من أجل أن يؤجروا أعراضهن! حتى أنزل الله قوله تعالى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:33].
فكانت هناك إهانة حقيقية للمرأة، فلا وزن لها، ولا يقتص من الرجل لها إذا قتلها! ولا دية لها إذا قتلت! وتباع وتشترى وتعار وتستأجر، وكان أهل الدين الأولون أيضاً لا يعتبرون لها مكاناً في الجنة، ولا نصيب لها في نظرهم من رحمة الله؛ لأنهم يعتبرونها من فصيلة الحيوان كما هو رأي طائفة إلى اليوم في كثير من البلاد المتمدنة المتخلفة!! وإذا مات الزوج يرث زوجته أكبر أولاده من غيرها!! حتى أنزل الله قوله تعالى في هذا الأمر محرماً له: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} [النساء:19].
وكانوا يتشاءمون منها، وليس لها خيرة في أمر من الأمور! حتى جاء الإسلام فأثبت لها حقوقها وأثبت لها حق القصاص، {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45]، ويقول عليه الصلاة والسلام: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة) وأثبت لها دية إذا قتلت، وجعل لها حق التصرف في مالها، وأثبت لها حق الميراث مما قل أو كثر من التركة التي يخلفها الميت في قوله تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء:7]، وجعل لها حق التصرف الكامل، وجعلها بشراً سوياً له كل المقومات الإنسانية والحقوق.(61/17)
المرأة عند الشيوعيين
تعتبر المرأة في البلاد الشيوعية لا قيمة لها، فالشيوعيون قديماً وحديثاً لا ينظرون إلى المرأة نظرة إنسانية! فيعتبرونها متاعاً مطلقاً لأي إنسان، بل إن آخر شوط من أشواط الشيوعية أنهم يعتبرون المرأة متعة عامة، فهي كسائر المرافق العامة يفضي إليها الرجل ليقضي حاجته وشهوته، ثم بعد ذلك يحرمونها من عاطفة الولد التي جعلها الله عز وجل للناس جميعاً، وحببها إلى النفوس حتى للحيوان، فالطفل الذي ولدته ليس ابناً لها عندهم، ولكنه ابن للدولة!! فهي تعتبر عندهم جهاز تفريخ!! فهم يحرمونها أبسط حقوقها وهو الولد الذي جعل الله عز وجل محبته والميل إليه فطرة فطر النفوس عليها، قال سبحانه: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ} [آل عمران:14]، والمرأة تلاقي في سبيل الحصول على هذا الولد عناء شديداً من الحمل والوضع ولكنها في البلاد الشيوعية تحرم من هذه العاطفة، بعد أن تتحمل هذا العناء والتعب.
وكانوا قديماً يشكّون في إنسانيتها ووجود الروح فيها! كما يقول المثل الروسي: لا تجد في عشر نسوة إلا روحاً واحدة!! ونظرة الشيوعية للمرأة ليست غريبة؛ لأنهم يحقدون على جنس الإنسان كله! ومن مبادئها إبادة البعض في سبيل الدولة، والمرأة يعتبرونها هي المنتج لهذا الإنسان، وهم يكرهون هذا الإنسان ويحقدون عليه.
الغربيون يتظاهرون بإكرام المرأة والعطف عليها، فيعطونها من الحرية فوق المعقول، والحقيقة أن ذلك جناية عليها، ولقد استقدموها عاملة في المصانع بالرغم من أن تركيبها وقوّتها لا تصلح لذلك، كما أخرجوها من بيتها حتى اضطروها إلى تسليم أولادها إلى دور الحضانة، لتحرم من عاطفتها! وحملوها من العمل ما لا تطيق.
وأخيراً جعلوها وسيلة دعاية، ووسيلة متاع حتى فقدت مكانتها في الحياة!! حتى إذا انتهوا من حاجتهم منها رموها كما يرمى الثوب الخلق، ولربما كانوا السبب في عنوستها أو طلاقها وشقاءها حينما يشغلونها عن الزواج وتربية الأبناء بالعمل الدائب المستمر، وهذا واقع مشاهد.(61/18)
المكانة التي تبوأتها المرأة في ظل الإسلام
عرفنا فيما سبق كيف كانت المرأة في ظل المعتقدات الفاسدة في إهانة واحتقار، فلقد كانت تهبط عن مستوى الحيوان في كثير من الأحيان، فجاءت شريعة الله الخالدة، فأخرجها الله من هذا الظلم إلى عدل الإسلام، وأخرج هذا المجتمع من ظلمات الجهل إلى نور الإيمان، ومن ظلمات الكفر والإهانة والذل والاستعباد إلى نور الإسلام، لقد جاء الله بهذا الخير فتنفست المرأة الصعداء، ورأت حريتها في ظل دين الله القويم، وأنزل الله فيها آيات تتلى، بل خصها بسورة كاملة من أفضل سور القرآن وهي: سورة النساء، وسورة أخرى خصصها الله عز وجل للطلاق؛ لإنهاء قضايا الزوجية على قواعد متينة ثابتة، وكلها تعد بالفرج والمخرج، وتأمر بالرفق واللين.
لقد أنزل الله آيات في هذا الأمر كثيرة مفرقة في القرآن الكريم، كلها تبين حقوق المرأة، ومالها وما عليها، وجعلها في مرتبة الرجل في كثير من الأحيان، وميزها كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء:1]، وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، وجعل الله المرأة من أكبر نعمه: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21]، وجعلها سكناً للرجل ومرقداً له {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف:189]، وساوى بينها وبين الرجل في الذكر بالرغم من دخولها تبعاً معه في قوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب:35] إلى آخر الآية، وقد نزلت بعدما جاءت بعض نساء الصحابة رضي الله عنهن تذكر رغبتها في ذكر النساء كما ذكر نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله هذه الآية: ((إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ)) كما أمر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم بأخذ البيعة منهن كالرجال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ} [الممتحنة:12] إلى آخر هذه الآية حتى قال: {فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ} [الممتحنة:12].
وسمع الله مجادلة المرأة من فوق سبع سماوات حينما جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تجادل في شأن زوجها الذي ظاهر منها، وأن لديها ذرية لا تدري ماذا تفعل بهم، لو ضمتهم إليه ضاعوا، ولو ضمتهم إليها جاعوا! فأنزل الله قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة:1] إلى آخر الآيات.
وجعل لهن حقوقاً كاستغفار الرسول صلى الله عليه وسلم لهن كالرجال، {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} [محمد:19]، وجاءت السنة مؤكدة لهذه الحقوق، ومطالبة الرجال بحسن العشرة والمعاملة الحسنة، يقول عليه الصلاة والسلام: (استوصوا بالنساء خيراً، فإنهن خلقن من ضلع أعوج، وإن أعوج ما في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمها كسرتها وكسرها طلاقها، وإن استمتعت بها استمتعت بها وفيها عوج)، وفي حديث آخر: (الله الله في الصلاة وما ملكت أيمانكم)، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك في آخر لحظة من لحظات حياته! وفي حديث آخر أيضاً: (خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي)، ما أكرم النساء إلا كريم، ولا أهانهن إلا لئيم، وفي خطبة حجة الوداع يقول عليه الصلاة والسلام: (استوصوا بالنساء خيراً، فإنهن عندكم عوان لا تملكون منهن شيئاً غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة).(61/19)
إكرام الإسلام للمرأة بنتاً
ولقد اهتم الإسلام بالمرأة بنتاً، فأمر بالإحسان إليها، وقال عليه الصلاة والسلام: (من ابتلي بشيء من هذه البنات فأحسن إليهن كن له حجاباً من النار)، وشدد على هؤلاء الأثرياء الذين يئدون البنات كما قال تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:8 - 9]، ثم أمر عليه الصلاة والسلام بالتربية الحسنة لها حتى يسلمها لزوجها بحيث يسعى في سبيل البحث عن الرزق لها، ثم يسعى لإصلاح دينها وأخلاقها، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما نحل والد ولده شيئاً أفضل من خلق حسن) وجعل لها حقاً في الميراث مما قل أو كثر.(61/20)
إكرام الإسلام للمرأة زوجة
لقد أمر الإسلام باختيار الزوجة الصالحة مع عدم الاهتمام بالمال والمركز والجاه وغير ذلك، فيقول الله عز وجل: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32]، ويقول عليه الصلاة السلام: (إذا خطب منكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض).
وكما أمر باختيار الرجل الصالح للمرأة الصالحة، أمر أيضاً الرجل أن يختار المرأة الصالحة أيضاً، فيقول عليه الصلاة والسلام: (فاظفر بذات الدين تربت يداك) ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المرأة الحسناء الجميلة إذا نبتت في منبت السوء فيقول: (إياكم وخضراء الدمن) وهي المرأة الجميلة تنبت في منبت السوء.
ونهى عن العضل، وهو: منعها من الزواج حين يتقدم لها الكفء الصالح، قال الله عز وجل: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة:232]، ولقد نزلت هذه الآية حينما طلق أحد المسلمين زوجته، ثم انتهت العدة فأراد أن يتزوجها مرة أخرى، فرفض أخوها وأقسم ألاّ يزوجه إياها مرة أخرى بالرغم من أنها تريد الرجوع إلى زوجها الأول؛ فأنزل الله عز وجل هذه الآية.
إذاً: فلها الحق في اختيار زوجها السابق إذا رغبت فيه، واعتبر العاضل إذا منع موليته من النكاح مسئولاً عما تحدثه من فاحشة، يقول عليه الصلاة والسلام: (من منع موليته فوقعت في شيء فعليه إثمها).
وجعل لها الحق في اختيار الزوج الكفء؛ فلا يجوز إجبارها على رجل معين لا تريده، فيقول عليه الصلاة والسلام: (لا تنكح الثيب حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن).
وخيّر الرسول صلى الله عليه وسلم امرأة حينما زوّجها أبوها بدون إذنها، فخيرها بين الاستمرار أو الفسخ، فاختارت الاستمرار، وقالت: أريد أن يعرف الآباء أن ليس لهم أمر في إكراه بناتهم.
وجعل الصداق حقاً لها، فيقول الله عز وجل: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء:4].
وأمر الرجال بدفع المال للمرأة -إذا أراد أن يتزوجها- طيبة به نفسه، واعتبره ملكاً للمرأة نفسها تتصرف فيه كيف شاءت إذا أحسنت التصرف.
وحتى بعد الزواج فإن الإسلام لا يترك الرجل يعبث بحقوقها كما في أمر الجاهلية، بل هناك آداب حتى على فراش النوم! فأمر الله عز وجل بحسن المعاشرة، يقول سبحانه: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوف} [النساء:19]، وجعل لها مثل ما للرجل، إلا أنه جعل للرجل درجة في قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة:228]، ويقول سبحانه وتعالى: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} [آل عمران:36].
وأمر كلاً من الزوجين بحفظ سر الآخر ونهى عن إفشائه، ففي الحديث: (إن شر الناس يوم القيامة الرجل يفضي إلى المرأة، والمرأة تفضي إلى الرجل، ثم ينشر سرها) يعني: يعطيها أو تعطيه سراً لا يريدان أن يطلع عليه أحد.
وكان من صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يساعد أهله في بيته، ويقوم في خدمتهم، كما أنه أيضاً كان يتولى خدمة نفسه.(61/21)
مساواة المرأة بالرجل فيما لا يخرجها عن أنوثتها ولا يغمطها حقها
المساواة أساس من أسس الإسلام، فهو دين المساواة إلا أن الله تعالى فضل الرجال على النساء؛ لأن الرجال مطالبون بحقوق تقابل هذه الدرجة أو تزيد، فهم الذين يبذلون أموالهم عند الزواج، وهم الذين يسعون في سبيل الحصول على لقمة العيش، وهم مطالبون بالنفقة؛ يقول الله سبحانه وتعالى لآدم وحواء: {فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه:117]، ويقول المفسرون: إن الله قال: (فَتَشْقَى)، ولم يقل: فتشقيا.
وإن حذف الألف في هذه الآية يدل على أن الرجل -وحده- هو المطالب بالبحث عن العيش، لأن معنى قوله تعالى: (فتشقى) يعني في البحث عن العيش، لأنك في الآخرة قد كفيت العيش، وبهذا استدل العلماء على أن المرأة غير مطالبة بالنفقة، وأن الرجل هو المطالب بالنفقة عليها.
فالمساواة في الأصل ثابتة حقاً، يقول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الأعراف:189].
كذلك المساواة في العمل ثابتة أيضاً: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب:35] إلى أن قال الله في آخر الآية: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:35].
كذلك المساواة في جزاء الآخرة: يستوي في ذلك الرجل والمرأة، كل ينال نصيبه وجزاء عمله، {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرً} [آل عمران:30]، ويقول سبحانه: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران:195].
وكذلك المساواة في المعاملات: في البيع والشراء، والأخذ والإعطاء، والرهن، والقرض، وما أشبه ذلك.
وكذلك المساواة في التعليم: فالإسلام لم يحرم تعليم المرأة، لكنه يأمرها بالحشمة حينئذٍ والتستر، فهو يبيح لها أن تتعلم كل ما تستفيد منه، بل قد يوجب التعلم في كثير من الأحيان إذا كان دينها لا يقوم إلا به، إلا أنه ينهى عن المبالغة في التعليم حتى يطغى على سن الزواج، لأنه يفوّت فرصة من فرص الحياة التي لا بد للمرأة منها.
وإذا كانت هناك مطالب للمساواة غير ما سبق، فإنها ليست من مصلحة المرأة، وإنما تصدم مصالحها، ولن تعود عليها بخير؛ ولهذا فإن هؤلاء الذين يطالبون بالمساواة لم يخلصوا لها، بل هم عدوها اللدود؛ فهم يريدون مساواتها بالرجل في جميع وظائف الحياة، وهذا أمر لا يمكن؛ لأن تركيبها يختلف كثيراً عن تركيب الرجل، وعضلاتها تختلف، فلقد أثبتت التقارير العلمية الدقيقة أن هناك فرقاً كبيراً في الوزن، وحجم القلب، وتركيب الأعضاء، وغير ذلك بين الرجل والمرأة!! علماً أن مزاولتها لجميع الأعمال يعرضها للفتنة وانحطاط الخلق حينما تختلط بالرجال الأجانب، وقبل ذلك فهي مطالبة بأعمال لا يستطيعها الرجال من الحمل، والولادة، والرضاع، والحضانة، وتربية الأولاد، وغير ذلك.
وفوق هذا كله، فالمرأة مأمورة بعدم الخروج من البيت إلا بمقدار الحاجة والضرورة، والعمل غير المقيد يطالبها بالخروج المستمر، والله عز وجل يقول لها: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33]، ولا يجوز تكليفها بأي عمل يفرض عليها الخروج المستمر عن بيتها، ويعرضها للذئاب الجائعة.
وأخيراً نقول: ماذا تريد المرأة؟! أتريد المساواة الإنسانية في الأصل والنشأة مع الرجل؟ لها ذلك، وذلك ثابت لها في قول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الأعراف:189].
أم هل تريد المساواة في الاستقلال الاقتصادي، وحرية التملك والمعاملة والأخذ والإعطاء؟ لها ذلك.
أم هل تريد حق التعليم والعمل بضوابط وحدود؟ لها ذلك.
أم هل تريد حق اختيار الزوج الصالح؟ لها ذلك.
أم هل تريد العشرة الحسنة مع زوجها؟ لها ذلك.
أما إذا كانت تريد بالحرية التبرج، ومزاحمة الرجال، وإفساد المجتمع، فليس لها ذلك؛ محافظة عليها وعلى مجتمعها ودينها، ولا يعرف هذا الأمر إلا الذين اكتووا بناره، وتجرعوا غصّته، فصاروا ينادون بأعلى أصواتهم: خذوا منا عبرة، حافظوا على المرأة، احذروا أن تتركوها طليقة، احذروا أن تتركوا لها الأمر كما تريد!(61/22)
تنظيم العلاقة الزوجية في الإسلام يخدم المرأة ويرعى مصالحها
إن الإسلام يبني العلاقات الزوجية على المودة والرحمة، أو -على الأقل- على أحدهما، وإذا فقدت إحداهما بقيت الأخرى، أما إذا فقدت الاثنتان فلا خير في هذه العلاقات الزوجية، يقول سبحانه وتعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21]، وحينما تفقد المودة فستبقى الرحمة، أما حين تفقد المودة والرحمة فالفراق بينهما خير من البقاء.
أولاً: حقوق الزوج: لقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم المرأة أن تحافظ على حقوق الزوج محافظة كاملة، ولقد أجملت في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ملخصها أن تطيعه في حدود طاعة الله، أما إذا تعارضا فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
ثانياً: ألا توطئ فراشه من يكره، والمقصود بالإيطاء هنا: دخول البيت لا الفاحشة، لأن الفاحشة لا تجوز لمن يحب ولا لمن يكره، يقول عليه الصلاة والسلام: (إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وأطاعت زوجها، وحفظت فرجها؛ دخلت الجنة).
ثالثاً: أن تحفظ غيبته، فلا تخونه في أهله ولا عرضه ولا ماله، وهذا الحق ربما يكون في درجة حقوق الوالدين أو أكبر، يقول عليه الصلاة والسلام في بيان حق الزوج على المرأة: (لا يجوز لبشر أن يسجد لبشر، ولو صلح لبشر أن يسجد لبشر لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها).
رابعاً: أعظم ما يلزم الزوجة لزوجها تمكينه من نفسها إذا طلب ذلك منها؛ فهو أهم مقاصد الزواج، فلا يجوز الامتناع بدون عذر شرعي، فإن أبت أثمت، وسقطت حقوقها، يقول عليه الصلاة والسلام: (إذا دعا الرجل زوجته إلى فراشه فأبت أن تجيء فبات غضباناً عليها؛ لعنتها الملائكة حتى تصبح)، وفي حديث آخر: (إذا دعاها فلتأته ولو كانت على التنور).
خامساً: لا يجوز تكليفه من العمل والنفقة ما لا يطيق، وإيذاؤه بالسب أو الشتم أو بأي أمر من الأمور أو إلجاؤه إلى الطلاق أو استغلال فرص غضبه لتخرج منه ما لا يحب وما لا يطيق من الكلام.(61/23)
النشوز
معنى النشوز في اللغة: الخروج عن الطاعة، وشرعاً: خروج أحد الزوجين عن طاعة الآخر، والنشوز يكون من الرجل كما يكون من المرأة، أما نشوز الرجل فقد ذكره الله عز وجل بقوله: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ} [النساء:128] ومعنى ذلك: أنه يجب أن يسعى العقلاء إذا نشز الرجل عن زوجته للإصلاح فيما بينهما، كذلك النشوز يكون من المرأة أيضاً كما ذكره الله عز وجل في قوله: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا} [النساء:34]، وهذه الآية تدرجت في نشوز المرأة إلى ثلاث مراحل، وعلى هذا فالإسلام يعالج المشاكل الزوجية بحكمة، وينهى الرجل عن التسرع الذي يؤدي إلى هدم كيان الأسرة، مما يؤدي إلى تشتت الذرية وضياعها.(61/24)
حقوق الزوجة على زوجها
إن للمرأة حقوقاً تجب مراعاتها، ولا يجوز إهمالها، فلها حق العشرة، ويجب الإحسان إليها، وتجب النفقة لها ولو كانت موسرة، ولو كان الزوج فقيراً، ولها حق فسخ النكاح إذا عجز عن النفقة، كما أن لها حق المطالبة بعودته إذا سافر سفراً طويلاً وطلبت حضوره.
كما يلزمه أن يتزين لزوجته كما تتزين له، لكن ذلك في حدود، كما روى الطبري عن ابن عباس رضي الله عنه في معنى قول الله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة:228] قال: إني أحب أن أتزين لزوجتي كما أحب أن تتزين لي.(61/25)
إكرام الإسلام للمرأة أماً
لقد حث الإسلام على الإحسان إلى المرأة إذا كانت أماً، فقد سئل الرسول صلى الله عليه وسلم: (من أحق الناس بحسن صحابتي؟ فقال: أمك.
قال: ثم من؟ قال: أمك.
قال: ثم من؟ قال: أمك.
قال: ثم من؟ قال: أبوك).
وهذه العاطفة بالرغم من أنها إنسانية فطرية فهي لا تتحقق في الغالب إلا لمن كانت له عقيدة، مع أن هذه الفطرة موجودة في الحيوان أيضاً؛ لذلك فالبلاد الكافرة تفقد جانباً كبيراً من هذه الفطرة وهذه العاطفة التي منحها الله حتى للحيوان، فنجد أنها تفقد بين الأمهات والأبناء كثيراً؛ ذلك أن الأبناء يتربون في المحاضن بعيدين عن آبائهم وأمهاتهم، فتسلمه الأم في الصباح إلى سيارة المحضن كما تسلم نفايات البيت، ليعود إليها في المساء وهي مرهقة بسبب العمل في الوظيفة.
وسأذكر لكم قصة تدل على أن هذه الفطرة مفقودة في الأمم الكافرة: التقيت برجل انجليزي كان كافراً ثم أسلم، فسألته عن سبب إسلامه فقال: كنت أعيش في بلادي هناك، وأبتعد عن أمي أشهراً وأعواماً، ثم ألتقي بها بعد السفر، فلا أقابلها إلا بالإشارة، وعشت في الكويت مدة من الزمن لدى أسرة مسلمة، فرأيت العاطفة في الأسرة، ففي الصباح يأتي الأولاد يقبلون رءوس آبائهم، ولا يستطيعون فراقهم زمناً طويلاً، وعلمت أننا قد فقدنا هذه الفطرة، فعرفت أن الإسلام هو دين الفطرة، فكان ذلك سبباً في إسلامي.
وهذا شيء مشاهد، فإن الأمم الكافرة يعيش بعضها بعيداً عن البعض الآخر بالرغم من صلة القرابة الوثيقة، ثم بعد ذلك يلتقون فيكون اللقاء بارداً!!(61/26)
قانون معالجة المشاكل الزوجية في الإسلام يضمن للمرأة حقوقها كاملة
الحياة الزوجية -وإن كانت وثيقة- فهي معرضة للخلاف والنزاع والاضطراب، ولكن الرجل -باعتباره أقوى من المرأة أعصاباً وأكمل عقلية- مطالب بالتحمل والصبر وعدم التسرع، خصوصاً وأن تسرعه يؤدي إلى هدم الأسرة وتفكك أواصرها؛ لذلك فقد عالج القرآن هذه الظاهرة أحسن علاج على ست مراحل؛ حتى لا يقع الطلاق إلا بعد اليأس من الإصلاح.
أولاً: أمر الله عز وجل بالتحمل والتغافل عن بعض الأخطاء، وعدم التغافل عن حسناتها لعلها تقابل سيئاتها، يقول سبحانه وتعالى في هذا الأمر: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء:19] أي: ربما هذه الحسنات تقابل هذه السيئات.
ويقول عليه الصلاة والسلام: (لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقاً رضي منها خلقاً آخر) أي: لا يهينها ولا يذلها.
وأي المسلمين ليس له حسنات؟ وكفى بالمرء نبلاً أن تعد معايبه.
ثانياً: الوعظ: حينما ينفذ هذا الصبر يأتي دور الوعظ، يقول الله عز وجل: (فَعِظُوهُنَّ)، ومعناه: تذكيرها بحقه، وما له وما عليه، ووجوب طاعته، وبالوعيد على المرأة إذا خالفت أمره، وما أعده الله عز وجل للمرأة المطيعة من الثواب.
ثالثاً: الهجر: يأتي دور الهجر في قوله تعالى: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء:34]، بحيث يتجنبها بعض الشيء، ويستدبرها إذا نام في فراشه، ويجعل له فراشاً خاصاً بعض الوقت لعله أن يؤدبها بذلك.
رابعاً: الضرب: يقول الله عز وجل بعد ذلك ((وَاضْرِبُوهُنَّ))، أما الضرب الشديد فقد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (ولا تقبح ولا تضرب الوجه)، والضرب من باب التربية لا من باب العقوبة؛ لذلك يجب أن يكون ضرباً سهلاً إذا لم تنفع العلاجات الأولى.
خامساً: التحكيم بينهما: وهذا يكون إذا لم تنفع الوسائل السابقة، حينئذٍ يأتي دور العقلاء ليتدخلوا في إصلاح هذه العلاقة ما أمكن، يقول سبحانه وتعالى عن هذه المرحلة: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء:35]، ويقول سبحانه وتعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء:128]، وذلك إذا أمكن الصلح.
سادساً: الطلاق: وهو دور -وإن كان مكروهاً- فإنه يكون حين لا يمكن الإصلاح بأي وسيلة، وتظهر حكمة الإسلام في دور الطلاق حينئذٍ، ويكون نعمة من نعم الله عز وجل على الرجل والمرأة.
سابعاً: الفراق: والفراق حينما يتم فإن الله تعالى يعد كلاً منهما بالفرج والمخرج: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا} [النساء:130].
وحينئذٍ فلا مجال للطعن في الإسلام؛ ما دام قد بذل كل الوسائل ومهد كل التمهيد لعلاج العلاقة الزوجية قبل الفراق، علاجاً كافياً لحفظ نظام البيت ومنهجه.(61/27)
شبهات حول حقوق المرأة والرد عليها
هناك شبه كثيرة تدور حول حقوق المرأة، يطرحها أعداء الإسلام حول حقوق المرأة، وأعداء الإسلام اليوم يرمون هذه الشُبه في طريق الإسلام لينالوا من دين الله، وليصدوا الناس عنه {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:1]، فصاروا يقذفون بهذه الشبه في طريق الإيمان لاسيما في أمر المرأة، فهي أول من ينخدع بعدوه ويستجيب له، والله تعالى يقول: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران:7].(61/28)
شبهة تحريم ولاية المرأة
الشبهة الأولى: يقولون: إن الإسلام يحرم المرأة أن تتولى شئون الحياة، بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: (ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)، فلماذا؟! أليست إنساناً له عقل وحواس؟!
و
الجواب
أن النهي هنا أن تكون رئيسة دولة؛ بدليل سبب هذا الحديث، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أُخبر أن الفرس قد ولوا ابنة كسرى رئيسة عليهم، فقال عليه الصلاة والسلام: (ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)، وهذا أمر مشاهد، فرئاسة الدولة لا تصلح للنساء؛ لأنها تتطلب من الرئيس جهداً لا تطيقه المرأة، مع ملاحظة أن رئيس الدولة في الإسلام مطالب بإمامة الجمعة والأعياد وغيرها مما لا تصلح له المرأة؛ ولذلك فإن معنى الحديث واضح.(61/29)
شبهة ميراث المرأة
الشبهة الثانية: مسألة الميراث، فيقولون: لماذا يكون نصيب المرأة نصف نصيب الرجل؟
الجواب
أن الرجل يتحمل تبعات لا تتحملها المرأة من بذل للنفقات التي تجب على الرجال ولا تجب على النساء، بل تجب للنساء على الرجال، ومهر الزواج، والدية التي يتحملها الرجال فقط، علماً أن ميراث البنت يذهب خارج الأسرة إلى أسرة ثانية، وميراث الابن يبقى في العائلة يتوارثونه صغيراً بعد كبير، وقد حقد نصارى لبنان على الخليفة العثماني حينما شرع في تطبيق الشريعة الإسلامية عليهم، وقالوا: هذا يؤدي إلى أن نوّرث المرأة، والمرأة محرومة من الميراث عندنا، وحينما نورث المرأة يذهب المال إلى أسرة أخرى.
فلما ألزمهم بهذا الأمر وطبق فيهم شريعة الله صار الآباء يوزعون الثروة في الحياة قبل الموت!! ويلاحظ أن المرأة في بعض الأحيان تساوي الرجل في الميراث، كالأم والأب حينما يموت ميت ويترك عصبة أقرب من الأب، فإن الأم والأب يتساوون، ويكون لكل واحد منهما السدس، كما يلاحظ أن المرأة في بعض الأحيان تزيد على الرجل، فتأخذ البنت النصف، ويأخذ الأب السدس إذا لم يبق له عصبة، وعلى كل فإن هذا شرع الله لا يمكن أن نتدخل به، لأنه لحكمة يعلمها الله، ولربما ندرك بعضها؛ ولذلك يقول سبحانه وتعالى: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} [النساء:11].(61/30)
شبهة جعل شهادة المرأة نصف شهادة الرجل
الشبهة الثالثة: الشهادة، فيقولون: لماذا تجعلون شهادة المرأة نصف شهادة الرجل؟
الجواب
لقد بين الله سبحانه وتعالى العلة من ذلك بقوله: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة:282]، والعاطفة هي التي تؤثر على تحمل المرأة للشهادة، علماً أن المرأة يندر تحملها للشهادة؛ لأنها مستقلة في بيتها بعيدة عن المشاكل، فدخولها في باب الشهادات والمعاملات أمر نادر؛ ولهذا ذهب كثير من العلماء إلى عدم قبول شهادة المرأة في الجنايات؛ لأن أعصابها لا تتحمل مشاهدة الحوادث، وحتى حينما تحضر شيئاً من ذلك فإن العاطفة تتغلب عليها غالباً.(61/31)
شبهة جعل القوامة للرجل على المرأة
الشبهة الرابعة: القوامة، يقولون: إن الله تعالى يقول: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء:34] فلماذا تتأخر المرأة في هذه الناحية؟
الجواب
لأهمية تنظيم إدارة البيت والأسرة، فلا بد من قائد مسئول عن هذا التنظيم، وهو إما المرأة أو الرجل مع المرأة، أو الرجل وحده.
فالأول: فيه ضعف، والثاني: غير ممكن؛ لأنه مجال للفوضى والاضطراب، والثالث: هو المعقول؛ فالرجل مؤهل ليكون هو القائم؛ لذلك كانت القوامة للرجل على المرأة كما قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34]، علماً أن هذه القوامة -وإن كانت تحمل مبدأ التفضيل في بادئ الأمر- إلا أنها تحمل مسئولية وتحمل أعباء، فهناك السعي في الأرض والضرب فيها لطلب العيش، وهناك المطالبة بالحماية للمرأة من أي عدو، وهناك السعي في سبل الحياة من أجل تأمين حياة كريمة للمرأة.(61/32)
شبهة تعدد الزوجات
الشبهة الخامسة: تعدد الزوجات، ومن عجيب الأمر أن تقوم في هذه الأيام دعوى مسمومة حاقدة تحارب تعدد الزوجات، وتعتبره جناية على المرأة، وتتخذ هذه الزوبعة في الطعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقال: إنه لم يعدل ويقال: لماذا اتخذ تسع نسوة؟!
و
الجواب
أن تعدد الزوجات نعتبره إكراماً للمرأة، سواء كانت المرأة الأولى أم الثانية.
أما المرأة الأولى فإن وجود زوجة أخرى معها شيء ربما تفرضه الظروف على الزوج بسبب القوة البدنية أو الجنسية أو شيء خارج البيت كأن يغترب عنها، وهو أمام أحد أمرين: إما أن يطلقها، وهذا ما لا تقبله المرأة المحبة لزوجها، أو يسلك طريقاً غير مشروعة وهي طريق العشق والفساد، وهذا أيضاً لن تقبله أي امرأة، فالأفضل لها أن تعيش مع امرأة أخرى، وذلك أحسن الأمور، وفيه أفضل النتائج.
أما المرأة الجديدة: فهي إما أن تعيش بدون زوج، وتبقى محرومة من متع الحياة، وهذا ما لا تطيقه امرأة من النساء، وإما أن تعيش مع زوج على الأقل يهب لها نصف حياته، وهذا تستفيد منه المرأة، ولم يعلم في تاريخ البشرية أبداً أن امرأة تيسر لها زوج خاص، وفرض عليها زوج معه زوجة أخرى.
وفي التعدد مصالح كثيرة أيضاً، وهي من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أباح الله عز وجل شيئاً من الميل مع بعض الزوجات مما يدل على أنه الأفضل مع العدل.
أما هؤلاء الذين يطعنون في الإسلام من هذه الناحية الأخرى، فإن بعضهم قد يخالل أكثر من أربع نسوة، إضافة إلى زوجته التي معه، فلا نغتر بهذه الدعايات الباطلة.(61/33)