التحذير من اتخاذ المساجد لغير ما أعدت له
قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (وظهرت الأصوات في المساجد) المساجد بيوت الله يجب أن تعظم وأن تحترم، فلا يجوز أن يكون فيها شيء غير ذكر الله وما قرب إليه، أما أن تصبح المساجد سوقاً للبيع والشراء والمزاد، وما أشبه ذلك من أحاديث الناس التي لا تقربهم من الله عز وجل، أو تكون ميداناً للغو واللعب والسباب والنزاع والخصام والشجار، أو تكون مرتعاً للجهال والعابثين فإن ذلك يعتبر ظهوراً للأصوات في المساجد، وظهور الأصوات في المساجد يعتبر سبباً من أسباب عقوبة الله عز وجل.(26/9)
الآثار المترتبة على انتشار الخمور وشربها
يقول الرسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآيات والعلامات: (وشربت الخمور) فمن هذه الخصال الخمس عشرة شرب الخمور، والخمر ما خامر العقل وغطاه، والإنسان مطالب أن يواجه هذه الحياة مواجهة حقيقية بعقله، ومن أجل ذلك منح الله عز وجل هذا الإنسان العقل، ولذلك نجد أن العقل محترم، والخطاب دائماً يتوجه إلى العقل، يقول عز وجل: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد:4] ويقول سبحانه: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [البقرة:269] وأولو الألباب هم أصحاب العقول.
من هنا كان العقل هو مناط التفكير، وكان الإنسان أفضل مخلوقات الله عز وجل على الإطلاق بهذا العقل، فقد فضل الله بني آدم وكرمهم وحملهم في البر والبحر، ورزقهم من الطيبات، وفضلهم على كثير ممن خلق تفضيلاً.
لولا العقول لكان أدنى ضيغم أدنى إلى شرف من الإنسان أي: لولا العقل لكان الأسد أفضل من الإنسان؛ لأن الأسد أقوى من الإنسان.
والفيل أكبر جسداً من الإنسان، لكن تجد هذا الإنسان بعقله يسيطر على هذه المخلوقات كلها بإرادة الله عز وجل، ولولا وجود العقل لما شرع التكليف، فالعقل هو مناط التكليف، وبهذا العقل يحاسب الإنسان وحده يوم القيامة دون هذه البهائم التي أصبحت في خدمة الإنسان.
ثم يأتي إنسان ليتعدى على هذا العقل بما حرم الله، وقد حرم الله عز وجل الخمر وكل ما خامر العقل وغطاه، والخمر من أكبر البلايا التي حلت بهذه الأمة، ولذلك تجد أن هذه الخمرة الخبيثة عالج القرآن أمرها علاجاً طويلاً، وتدرج في تحريمها تدرجاً مكيناً، حتى يقتلعها من قلوب الناس، وكان هذا التدرج في التحريم على أربع مراحل: الأولى: قوله تعالى: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل:67] هذه إشارة.
ثم جاءت المرحلة الثانية {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة:219].
ثم جاءت المرحلة الثالثة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء:43].
فحرمت الخمر في بعض المواقع وفي بعض الأوقات ليكون تمهيداً للحكم النهائي الكريم، وهي المرحلة الرابعة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ} [المائدة:90 - 91] فقالوا: (انتهينا انتهينا) ولما نزلت الآية الأخيرة كانت كئوس الخمر عند شفاه بعض هؤلاء الناس فأراقوها اتباعاً وخضوعاً واستسلاماً لأمر الله عز وجل، وكان بعضهم قد شرب الخمر فأدخل أصبعه في فاه ليستقيء ما شربه، بل زيادة على ذلك سألوا عن مصير الذين ماتوا وفي أجوافهم شيء من الخمر قبل أن تحرم، فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة:93] يعني: قبل التحريم {إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة:93].
أيها الأخ الكريم! هكذا تستجيب النفوس المؤمنة لأوامر الله فوراً، فلا تقدم على أمر الله عز وجل أي شهوة أو رغبة أو هوى، ثم يدور الفلك دورته ويعيد الزمان سيرته، وتخلف خلوف ينتشر فيها الخمر في أيامنا الحاضرة، ومن العجيب أن المروجين لها يحببونها إلى الناس ويسمونها مشروبات روحية.
فما معنى روحية؟ أي أنها تطرب الروح وتؤنسها.
ولذلك يقولون في بعض الأحيان: ممنوع تناول المشروبات الروحية.
قاتلها الله وقاتل من سماها مشروبات روحية، كيف تكون روحية؟! هي ضد الروح، وضد الخلق، وضد العقل، لكنها سميت مشروبات روحية كما سمي الغناء في أيامنا الحاضرة فناً، وكما سمي الربا اقتصاداً، وكما سمي النفاق مجاملة، وكما سمي الكذب دبلوماسية، وهكذا، أصبحت المحرمات تغير أسماؤها مع بقاء حقائقها؛ لأجل تلطيفها وتحبيبها إلى النفوس الخبيثة.
فليس الغناء فناً، وليس الربا اقتصاداً، وليست الخمر مشروبات روحية، لكن لا تعجب، فنحن اليوم نعيش فترة من آخر فترات التاريخ في حياة البشرية، فقد تنتشر فيها الخمر، ولربما توضع في ثلاجات البيوت، تراها النساء ويراها الأطفال، ليشب الطفل وهو يشك في تحريمها أو يعتبرها من أطيب الطيبات.
لا تعجب وأنت تسير في أرض الله الواسعة في جل العالم الإسلامي فترى اللافتات واللوحات تقول: هذا ضار.
أو ما أشبه ذلك، لا تعجب حينما ترى الخمر توزع على الركاب مجاناً على متن الهواء في كل طيران العالم إلا في طيران بلادنا -والحمد لله- أسأل الله أن يحفظها.
المشركون الأولون كانوا إذا ركبوا على سطح الماء دعوا الله مخلصين له الدين، أما هؤلاء فلا أظن إلا أن الإيمان بالله عز وجل قد فقد من قلوبهم، أو من قلوب كثير منهم، فيعصون الله على متن الهواء بين السماء والأرض، على بعد آلاف الأمتار من الأرض، فتشرب الخمور وتعرض المضيفة التي ليس لها شرط إلا أن تكون جميلة وقادرة على فتنة الناس، تسرح شعرها، وتلبس الملابس القصيرة إلى ما فوق الركبة، وتختلط بالركاب في الطائرات، وتوزع البسمات على الناس، ولربما لا يحصل ذلك إلا لركاب الدرجة الأولى الذين يدفعون أجرة أكثر، أما الدرجة السياحية فإنهم لا يستحقون مثل هذا، إلى غير ذلك.
أيها الأخ! إذا شربت الخمور بجميع أنواعها فقد آذن هذا العالم بخراب، صحيح أن المخدرات تجد مكافحة اليوم، وتستحق أن تكون لها مكافحة، حتى الأمم الكافرة والدول الكافرة تعاقب على تناول المخدرات، وهذا يجب أن يكون؛ لأنها تفسد الأمم والشعوب، وتجمد العقول، لكن يجب أن يجد الخمر مثل هذا المكافحة ومثل هذه المحاربة؛ لأن الخمر هي الأصل والمخدرات تقاس عليها قياساً، هذا هو الواقع.
وأقول لإخواني المسلمين: حاربوا الخمور واكشفوا مواقعها، وتعاونوا مع الدولة والمسئولين؛ لأنها ما انتشرت في أمة من الأمم إلا وسقطت من عين الله عز وجل، ولأن انتشار الخمور في بلاد المسلمين يؤدي إلى انهيارها وتدهورها ودمارها، نسأل الله العافية والسلامة.(26/10)
الآثار المترتبة على اتخاذ المغنيات وآلات اللهو وحكم اتخاذها
قوله: (واتخذت القينات والمعازف) القينات: المغنيات الراقصات.
سواءٌ أكن يرقصن أمام الناس مباشرة، أم يرقصن في أفلام مصورة يعرضن فيها مفاتنهن وجمالهن في هذه الحياة.
والمعازف: هي آلات اللهو والغناء.
إذا انتشرت هذه وتلك فهي بداية العقوبة، وهي علامة من علامات غضب الله عز وجل، ويخشى أن تأتي بعدها المصائب التي ذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم.
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ليكونن في أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف) رواه البخاري.
والحر: الفرج، والمراد بالحر الزنا، والزنا الآن مستحل في جل بلاد العالم الإسلامي، وله أماكن معروفة، وأخوف ما أخاف أن كثيراً من شبابنا يرتادونها؛ لأننا نراهم حينما تكون هناك العطل والمناسبات يشدون الرحال إلى تلك البلاد بطريقة جنونية.
وكذلك الحرير، وهو من المحرمات على الرجال، والخمر، فهذه الثلاثة أجمع علماء المسلمين على تحريمها.
وكذلك المعازف، والمراد بالمعازف الموسيقى.
والعلماء يقولون: إن دلالة الاقتران تدل على التحريم، فإذا عطف شيء على شيء أخذ حكمه، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (الحر والحرير والخمر)، ثم قال: (والمعازف) ودلالة الاقتران عند جمهور علماء المسلمين دلالة قوية.
وعلى كل لا أظن أن أحداً يخالف إلا من شذ في تحريم المعازف والموسيقى، لكن تعال معي -يا أخي! - لنرى أن الموسيقى اليوم في بيوت المسلمين وفي أسواق المسلمين وفي سياراتهم وفي دكاكينهم حتى في هواتفهم، الموسيقى التي أصبحت الآن في الإذاعة وفي التلفاز وفي المسجلات وفي أشياء كثيرة، أصبحت الآن وسيلة تسلية، عندما تطلب من إنسان أن يعطيك فرصة دقيقة أو أقل من دقيقة ليحولك على رقم آخر فإنك تسمع الموسيقى؛ لأنهم يعتبرون الموسيقى وسيلة تمتيع لهذه النفوس، وهكذا النفوس حينما تنحرف عن الجادة المستقيمة تتمتع بما حرم الله عز وجل.
أضف إلى ذلك القينات والمغنيات اللاتي تتبرم إحداهن وتتمايل وتولول الليل كله، بحيث تنحرف معها النفس الضعيفة، هذا شيء منتشر ولا يحتاج إلى دليل ولا أحد يكذب به، ولو عملنا إحصائية في جل بيوت المسلمين لوجدناها مملوءة بهذه الأشياء مع الأسف، والذي لا يملك التلفاز عنده الإذاعات تغني، أو أشرطة قينات ومعازف، لكن ما هو الحل؟! وكيف المخرج؟ إن الأمر خطير، فالرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بأن هؤلاء الأقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف، وقال هنا في هذا الحديث: (وانتشرت القينات والمعازف).
والله تعالى حرم الغناء -كما يقول العلماء- في ثلاث آيات من القرآن الأولى: قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} [النجم:61] والسمود معناه: الغناء واللهو.
كما يقول علماء اللغة.
الثانية: قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [لقمان:6] ويقسم عبد الله بن مسعود بالله تعالى على أن هذه الآية في الغناء، وهو من خيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الثالثة: قوله تعالى: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ} [الإسراء:64] يقول العلماء: إنها في الغناء.
أما بالنسبة للأحاديث فهي كثيرة في تحريم الغناء وآلات الموسيقى واللهو.
أما الواقع فإنه لا يبرر حل هذه الأشياء، فنحن نأسف كثيراً أن تكون بيوت المسلمين التي كانت إلى عهد قريب لا تسمع لها إلا دوياً كدوي النحل في جوف الليل الآخر، وبكاء من خشية الله عز وجل، وتلاوة للقرآن، أما اليوم فبيوت المسلمين إلا ما شاء الله حتى بيوت كثير من العلماء والصالحين قد ابتليت بفتنة الغناء والموسيقى، فأصبحت لا تسمع إلا رنين الموسيقى، ولربما تسمع الرقص والغناء في الأشرطة وجميع الوسائل الأخرى.
أما الفيديو فهو الذي جاء يعرض الجنس الآن، حتى على متن الهواء تعرض أفلام الجنس، فهؤلاء ألا يتقون الله عز وجل؟! ألا يكونون -على الأقل- مثل المشركين الذين إذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين؟! ألا يتركون هذه الأشياء ولو في الساعات الحرجة الخطيرة التي لربما تتحطم فيها الطائرة في لحظة واحدة فتكون نكبة على مئات البشر؟! إن هذا يدل على الضعف من خشية الله عز وجل في نفوس كثير من الناس.
لقد اتخذت القينات وأصبحت الأفلام والفيديو والأجهزة الأخرى التي نعلمها تشترى بالأموال الطائلة، هذا أمر خطير، فما على هؤلاء الناس إلا أن يتوبوا إلى الله عز وجل.
يا أخي! عندك في بيتك نساء، والنساء يتأثرن سريعاً بهذه الأفلام والموسيقى والرقص والغناء، فاتق الله في النساء، وفي بيتك أطفال، أترضى أن تنشأ هذه الناشئة من الأطفال وهي تحفظ من الأغاني أكثر مما تحفظ من كتاب الله؟ أنت مسئول عنهم بين يدي الله عز وجل يوم القيامة، أترضى أن يكون أول ما تنفتح له آذان هؤلاء الأطفال آلات اللهو والرقص والغناء والموسيقى، وتنفتح أعينهم على المومسات والفاسقات والراقصات والمغنيات والممثلات في مسرحيات وتمثيليات فاضحة كلها عشق وغرام واختلاط ودعوة إلى الإباحية؟! اتق الله -يا أخي- في هذه الأمانة، فأهلك أمانة ائتمنك الله عليهم فلا تفرط فيهم؛ فإن الله عز وجل يقول لك ولي وللناس أجمعين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6].
أتستطيع أن تتحمل هذه النار التي وقودها الناس والحجارة؟ إنها نار أوقد عليها ثلاثة آلاف عام حتى أصبحت سوداء مظلمة تذوب الحجارة من حرها، فكيف بجسد هذا الإنسان؟! اتق الله -يا أخي- في هذه الأمانة، وحارب هذه المنكرات وطهر بيتك منها، وأنت مسئول عن رعيتك داخل البيت؛ لأنك إن عجزت أن تصلح أوضاع الناس في خارج هذا البيت فليس لك عذر بين يدي الله عز وجل يوم القيامة إن أهملت بيتك ولم تصلحه، فالله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:27 - 28].
إن وجود هذه المنكرات في بيوت المسلمين أمر خطير أياً كان منشؤها، أنت مسئول وحدك يوم القيامة، وتموت وحدك، وتدفن وحدك، ويأتيك الملكان في قبرك وحدك، وتبعث يوم القيامة وحيداً، وتوزن أعمالك وحدك، إذاً أنت عليك أن تخلص نفسك.
ويحك يا أخي! بادر إلى التوبة، وطهر هذا البيت من القينات والمعازف، فإن وجود هذه الأشياء في بيت من بيوت المسلمين يسبب غضب الله عز وجل، إضافة إلى ما يلاقيه أولادك وأهلك وذووك من فتنة ينشأ عليها الصغير ويشب عليها الشاب ويهرم عليها الشيخ، ولربما يأتي ذلك اليوم الذي لا تنكر النفس هذه الأشياء، وأظن أنه قد وجد اليوم من لا ينكر هذه الأشياء، والله عز وجل ذكر أسباب ومراحل المعصية فقال: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} [الأنعام:113] وهذه هي المرحلة الأولى، ثم قال: {وَلِيَرْضَوْهُ} [الأنعام:113] وهذه هي المرحلة الثانية، ثم قال: {وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام:113] حينئذ يقل الحياء، فإذا قل الحياء وقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم بقوله: (إذا لم تستح فاصنع ما شئت).(26/11)
العقوبات المترتبة على ظهور الزنا والصلة بينه وبين اتخاذ المغنيات والمعازف
أخي في الله! من علامات العقوبة ومن أسباب العقوبة إذا اتخذت القينات والمعازف ظهور الزنا، إذاً الصلة بين اتخاذ القينات والمعازف وبين ظهور الزنا واضحة، فإن النظرة الحرام يعقبها الفعل الحرام، والسماع الحرام يعقبه الفعل الحرام، ولذلك الله عز وجل ذكر الزنا في سورة النور ثم قال بعده بآيات: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30] وقال: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:31] وقال بعد ذلك: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور:31] فقد نهيت المرأة أن تحرك رجلها لتضرب الأرض بشدة، حتى لا يسمع صوت الخلخال رجل فيفتن بهذه المرأة التي سمع في رجلها صوت الخلخال، فكيف بالمرأة التي ترقص وتغني وتتمايل وتهتز بثياب عارية؟! إن النتيجة خطيرة، ولذلك دعا الله عز وجل في آخر الآيات التي تأمر بغض البصر إلى التوبة فقال: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31].
إن ظهور الزنا نتيجة حتمية من نتائج انتشار القينات والمعازف، وإن الفتن يجر بعضها بعضاً، يقول الشاعر: كل الحوادث مبدؤها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر فالشرارة الصغيرة تحدث حريقاً يلتهم مدينة بأكملها، والنظرة الصغيرة تلتهم الأخلاق والفضائل، وتحط هذا الإنسان من عين الله عز وجل، فعلينا أن نبادر بالتوبة حتى لا يظهر الزنا، وإذا أردت دليلاً على ذلك فانظر إلى من سبقنا إلى هذه الأشياء بمدة وجيزة من الزمن، حين انتشرت القينات والمعازف وفسد الإعلام، ماذا كانت النتيجة؟ لقد انحرفت المرأة، وفتحت دور الدعارة أبوابها علناً في وضح النهار، وانتشر زواج الذكر بالذكر باسم القانون الذي تحميه تلك الدول التي سبقت إلى الفساد والمعصية، وأصبحت قوانين تلك الدول تتردى، فكلما هبط هذا الإنسان درجة واحدة عن إنسانيته هبط القانون أكثر مما يهبط هذا الإنسان.
أيها الأخ الكريم! علينا أن نخشى الله عز وجل، فنحن نعيش في نعمة وفي رخاء وفي رغد من العيش وفي أمن وطمأنينة، ويتخطف الناس من حولنا، ونحن نرفل بنعمة الله في ظل شريعة الله عز وجل، فلنحافظ عليها ولنتمسك بها؛ لأنه إذا ظهرت القينات والمعازف ظهر الزنا، وإذا ظهر الزنا انتشرت الأمراض والأوبئة، يقول عليه الصلاة والسلام: (لم تظهر الفاحشة في قوم قط إلا فشا فيهم الأوجاع والأمراض التي لم تكن في أسلافهم) والأوجاع التي لم تكن في أسلافنا والتي كانوا لا يعرفونها قد كثرت اليوم وانتشرت، ولم يستطع الطب الحديث علاجها، بالرغم مما يقدمه الطب الحديث من خدمات متوافرة، وهذه الأمراض تسابق الشمس على مطالعها، بسبب انتشار الزنا الذي هو من أقبح القبائح وأعظم المحرمات.(26/12)
الآثار المترتبة على إكرام الرجل مخافة شره
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: (وأكرم الرجل مخافة شره).
في واقعنا اليوم يكرم الرجل مخافة شره، هناك رجال كثيرون يكرمون مخافة شرورهم، يقول الشاعر: ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى عدواً له ما من صداقته بد وهذا أعظم شيء على النفس، واليوم نجد أن كثيراً من الناس يحترمون لا حباً لهم في دينهم ولا في دنياهم، وهناك من لا خير فيه ولا صلاح ولا استقامة، ثم إذا بهؤلاء يحتفى بهم في المجالس وتصفق لهم الجماهير، وتفتح لهم الطرقات في جل العالم الإسلامي، والعجيب أن هؤلاء الذين يحترمون مخافة شرورهم، لم يسلم المسلمون بعد من شرورهم، فالطغيان قد انتفخ في أرضنا اليوم، وامتلأت السجون في جل العالم الإسلامي، وكان المفروض أن تكون تلك السجون سجوناً للجامحين والمنحرفين، فإذا بها تتحول معتقلات للأتقياء والصالحين والدعاة والمصلحين.
يكرم الرجل مخافة شره؛ لأنه رجل طاغية مفسد ذو بطش وإفساد في الأرض، أو لأنه عين يتجسس وينقل أخبار المسلمين مقلوبة إلى ولاة الأمر وإلى أصحاب الحل والعقد، كأن يقول لهم: إن هذا يحرض.
أو: إن ذاك يدعو إلى نزع يد الطاعة.
وما علم أولئك الولاة أن هؤلاء الذين يعتلون المنابر -وأقسم على ذلك- أنهم أكثر إخلاصاً من هؤلاء الذين ينقلون الأخبار إليهم.
وإذا كان أولئك الولاة مستقيمين على شرع الله ممتثلين أمره فهؤلاء الذين يعتلون المنابر يعلمون أن في أعناقهم لهم بيعة، وهذه البيعة يحرم عليهم نقضها بأي حال من الأحوال؛ لأنهم يعلمون أن الفتن لا تجر وراءها إلا فتناً أعظم منها، ومع ذلك كله فهناك كثير من هؤلاء الذين يتولون أمر المسلمين يفقدون الثقة بهؤلاء الدعاة والمصلحين، وفي المقابل فأصحاب المنابر والدعاة يفقد كثير منهم الثقة بالولاة، وما علموا أن دينهم يلزمهم بالطاعة ويحرم عليهم نزع يد الطاعة، إلا أن يروا كفراً بواحاً عندهم فيه من الله عز وجل برهان.
وعلى هذا نقول: إذا حصل إكرام الرجل مخافة شره في المسلمين دل دلالة واضحة على انحراف عريض في الأمة الإسلامية وفي المجتمع الإسلامي، ودل دلالة واضحة على أن هذه الأمة ليست بخير، وأنها معرضة لعقوبة الله عز وجل، وإنما يجب أن يكرم الرجل لتقواه؛ لأن الله تعالى يقول: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] ولأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، وعلى هذا يجب أن يكون التقدير للصالحين والأتقياء، وبمقدار ما يزيد صلاح هذا الإنسان يجب أن يرتفع في أعين الناس أكثر فأكثر، وحينما ينحرف فيجب على المسلمين أن يسقطوه من حسابهم حتى يرجع إلى الجادة، أما أن يكرم الرجل مخافة شره وبمقدار ما يقدمه من أذية لهؤلاء الناس يكرمونه ويقدرونه فهذا -كما قلنا- يدل دلالة واضحة على أن هذه الأمة قد انحرفت عن خطها المستقيم.(26/13)
من علامات نزول العذاب بالناس أن يسود القبيلة الفساق
قوله: (وساد القبيلة فاسقهم) القبيلة يجب أن تكون لها قيادة، ويجب أن يكون العقلاء هم أصحاب الحل والعقد؛ لأنهم الذين يضبطون الأمور ويحلون المشاكل، ويحقون الحق ويبطلون الباطل، ولأنهم الذين يديرون دفة هذه القبيلة وهذه العشيرة، حينئذ لابد من أن تكون القيادة لهؤلاء الصالحين، لكن إذا كانت القيادة لغير الصالحين وساد القبيلة فاسقهم، وكان الفسقة هم أصحاب الحل والعقد في القبيلة وفي الأمة فحينئذ يصبح الأمر خطيراً؛ لأن الحياة سفينة، ولأن هذه السفينة تحتاج إلى قيادة حكيمة، وهذه القيادة هي التي تسير بهذه السفينة في خضم هذه الحياة إلى ساحل النجاة، فإذا كان ربان هذه السفينة منحرفاً ضالاً عاصياً فاسقاً فإن هذه السفينة ستصاب بعطل، أو ترسو في غير مكانها، وحينئذ تفسد الحياة ويتنغص العيش، ولربما تغرق السفينة، أما إذا ساد القبيلة صالحوها فذلك دليل على أن هذه القبيلة قد عرفت كيف تتعامل مع الله عز وجل، وكون زعيم القبيلة هو الأصلح والأتقى فذلك هو الأحق والأولى.(26/14)
الآثار المترتبة على كون زعيم القوم أرذلهم وواجب المسلمين تجاه ذلك
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (وكان زعيم القوم أرذلهم).
الزعيم هو صاحب السلطة أياً كانت هذه السلطة، سواءٌ أكانت سلطة كبرى أم دونها، والسلطة في العالم الإسلامي وفي الدولة الإسلامية يجب أن تكون للصالحين، فإبراهيم عليه الصلاة والسلام كما حكى الله عنه قال: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [البقرة:124] فكان جواب الله تعالى له أن قال: {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:124].
إذاً يجب أن تكون السلطة في أيدي الصالحين؛ لأنهم الذين يطبقون شرع الله ويحكمون بما أنزل الله ولا يبغون به بدلاً؛ لأنهم يعلمون أن من حكم بغير ما أنزل الله فهو كافر مرتد، وذلك لقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] {هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45] {هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47].
وهذه السلطة تعتبر نيابة من الله عز وجل واستخلافاً لرسوله صلى الله عليه وسلم في هذه الأرض، فهو الخليفة الأول صلى الله عليه وسلم لهذه الأمة، وما زال الخلفاء الراشدون ومن بعدهم يتوارثون هذا الحكم حسب المصلحة، حتى وصل إلى واقعنا اليوم.
يجب أن يكون أصحاب السلطة هم أقرب الناس إلى الله عز وجل؛ لأن الله تعالى يقول: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ} [البقرة:44] لكن حينما يكون زعيم القوم فاسقهم تأتي البلية، ولربما يكون منهم كفرة طغاة كما نشاهده اليوم في جل العالم الإسلامي، فهؤلاء الزعماء يحكّمون شريعة الطاغوت وقوانين البشر، ويحكُمون الناس بالظلم والاستبداد، ويريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون ولو كره المشركون.
وانظر -يا أخي- لترى من الذي يتولى أمور المسلمين اليوم في جل العالم الإسلامي؟! من هؤلاء؟! وستجد الجواب واضحاً حين تنظر إلى أفعال هؤلاء الحكام، إننا نخشى نزول العذاب إلا أن يعفو الله عز وجل ويتجاوز ويصفح؛ لأنه إذا كان زعيم القوم أرذلهم فحينئذ يأتي البلاء وتأتي الفتنة.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يهدي قادتنا وولاة أمر المسلمين كافة إلى الطريق المستقيم وإلى الجادة، فنحن نشكر الله على تطبيق كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في بلادنا، ونرجو من الله عز وجل أكثر من ذلك، ونرجو أن يحارب الفساد في الأرض؛ فإن الله تعالى يقول لولاة المسلمين كافة: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:41].
ولا أزيد على ذلك في هذا الموضوع، وإنما نحن نبحث عن العافية، لكن ليعلم أنه إذا ساد القبيلة فاسقها فانتظر العقوبة، وإذا أردت الدليل على ذلك فليس هناك أدل من كلام الله وكلام رسوله، فانظر ماذا حدث في لبنان؟ وماذا يحدث في كل مكان من الأرض؟ أين الأندلس؟ وأين فلسطين؟ وأين أماكن كثيرة؟(26/15)
الآثار المترتبة على لعن آخر هذه الأمة أولها
قوله: (ولعن آخر هذه الأمة أولها) ما هو الجزاء المترتب على ذلك، إنه كما قال صلى الله عليه وسلم: (فانتظروا عند ذلك ريحاً حمراء) هل يمكن لآخر هذه الأمة أن تلعن أولها وأولها هم الذين أخذوا هذا الدين من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم طرياً ونقلوه إلينا، ونقل عنهم حتى وصل إلينا في أيامنا الحاضرة وكأننا نعيش مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهاً لوجه؟! هل يمكن لآخر هذه الأمة أن تلعن أولها وأولها هم الذين أقاموا دولة الإسلام السامقة التي رفرف علمها على جل المعمورة؟! نعم يوجد في آخر هذه الأمة في أيامنا الحاضرة من يلعن أولها، أول هذه الأمة وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل لم يسلم منهم خيرة الصحابة، وهم أبو بكر وعمر.
لقد أصبح كثير من آخر هذه الأمة في وقتنا يتجردون من كل قديم، فهؤلاء الحداثيون قد لوثوا وجه التاريخ في أيامنا الحاضرة، فهم يلعنون أول هذه الأمة، إن لم يلعنوهم بألسنتهم فإنهم يلعنونهم بأحوالهم وواقعهم، فهم يخرجون على كل قديم ويريدون كل جديد أياً كان هذا الجديد.
نقول لهؤلاء: نحن نرحب بأي جديد إذا كان لا يتنافى مع المنهج الصحيح الذي جاء به محمد عليه الصلاة والسلام من عند ربه، ونرفض كل جديد يتنافى مع ما جاء به منهجنا الصحيح، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح أولها.
هل من المعقول أن يقول أحد الحداثيين: منذ نزول سورة تبت ومجيء محمد صلى الله عليه وسلم ونحن في تأخر؟! نعم.
يقول ذلك.
إذاً هؤلاء الذين يعتبرون أنفسهم مجددين يلعنون أول هذه الأمة ويسبونها، ويعتبرون أنها نقطة تخلف، حتى قال قائلهم ذات يوم: إنك لا تتصور تطلعنا وتلهفنا إلى حياة إنسانية منظورة منذ ثلاثة آلاف عام.
انظر إلى هذا الحد، حتى فترة التاريخ الإسلامي عند هذا وغيره يعتبرها في تخلف.
وهذا داروين الملحد الملعون يقول: كان الإنسان قرداً فصار إنساناً، أو كان حشرة تعفنت على وجه الأرض فصارت إنساناً.
فقول هذا القائل: نحن ما زلنا نتطلع إلى حياة إنسانية يعني: لم نصل بعد إلى ما قاله دارون الملحد الملعون.
إنها مصيبة وبلية.
إذاً إذا لعن آخر هذه الأمة أولها، واعتبروا كل قديم متخلفاً، ورحبوا بكل جديد دون أن يعرضوه على الفكرة الصحيحة وعلى المنهج الصحيح فانتظر عند ذلك ريحاً حمراء وزلزلة وخسفاً ومسخاً وآيات تتابع كنظام قطع سلكه فتتابع.
أيها الأخ الكريم! لا ننسى ولا نتغافل هذه الصحوة الإسلامية المباركة التي أسأل الله عز وجل أن يحفظها وأن يبارك فيها، وأن يهدي المسئولين والقادة ليحيطوها بسياج منيع حتى تؤدي ثمارها، وبالرغم من وجود هذه الصحوة الإسلامية المباركة في هذه الفترة العصيبة من فترات التاريخ فإننا نرجو من الله عز وجل مزيداً من الخير والاستقامة؛ لأن الله قد وعدنا بإظهار هذا الدين فقال: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33] وقال سبحانه: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51].
أخي في الله! العقوبات متوقعة في مثل هذه الفترات من فترات التاريخ، ولولا رحمة الله عز وجل وكرمه ومنته وفضله وإحسانه لكانت هذه الأمة أثراً بعد عين، فهذا الربا قد أعلن عنه في وضح النهار أمام المسلمين، وأصبحنا بين كل فترة وأخرى نرى أرباع وأعشار متعلمين ممن يفتون بحل الربا، ويقولون: ليس هناك رباً إلا ربا الأضعاف المضاعفة، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:278 - 279]، ويقول: {وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:275].
ذنوب عظيمة أسأل الله عز وجل أن يرزقنا سرعة التوبة والإنابة منها.
كما أسأل الله عز وجل أن يوفق القادة والمسئولين وأصحاب الحل والعقد في بلادنا الطيبة المباركة التي تهوي إليها أفئدة العالمين أجمعين، والتي يستقبلها العالم الإسلامي في كل يوم خمس مرات في أفضل وأعظم فريضة أسأل الله تعالى أن يوفقهم للضرب بيد من حديد على كل من تسول له نفسه العبث بالأخلاق أو بالفضائل أو بالمعتقدات.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(26/16)
أخطار تهدد الأسرة المسلمة
إن المرأة جوهرة ودرة وكنز ثمين، وقد حفظها الإسلام وصانها ووضع سياجاً منيعاً من أجل الحفاظ عليها، فأمرها بالقرار في بيتها، وشرع لها الحجاب، ومنعها من الاختلاط بالرجال، إلا أن أعداء الله من الكفرة المجرمين، والمنافقين الشهوانيين ما فتئوا يكيدون ليلاً ونهاراً للوصول إلى هذه الدرة؛ كي يشوهوا جمالها وبهاءها، ويلبسوها العار والمذلة، فبثوا قنواتهم، ونشروا مجلاتهم، وعرضوا أزيائهم، حتى يفتنونها عن دينها.(27/1)
تجنيد المرأة لهدم المجتمعات
الحمد لله الذي خلقنا من نفس واحدة وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً، والحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق الناس ليبلوهم أيهم أحسن عملاً، وأصلي وأسلم على عبد الله ورسوله محمد الذي أرسله الله رحمة للعالمين، وحجة على الناس أجمعين، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن آله ومن دعا بدعوته وعمل بسنته ونصح لأمته إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن الصراع بين الحق وبين الباطل قديم قدم الحياة الدنيا، وباق إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
الصراع بين الحق والباطل بدأ منذ اللحظة التي خلق الله فيها آدم وتمرد إبليس عن السجود له وأهبط الله الجميع إلى الأرض، {قَاْلَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [البقرة:36]، ومنذ ذلك الوقت والصراع بين الحق والباطل باق وقديم، وسيبقى هذا الصراع، وسيكون للحق أعوان وأنصار وللباطل أعوان وأنصار {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء:76]، الصراع بين الحق والباطل قديم وباق، ويختار الله عز وجل للحق أنصاراً، ويجند أقوام أنفسهم -أيضاً- للدفاع عن الباطل، لكن الباطل مهما ظهر ومهما انتفخ ومهما غر ضعاف العقول فإن مصيره إلى الزوال؛ لأن الله تعالى يقول: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء:18]، ومن هنا نستبشر برحمة الله وفضله.
أخي في الله! يقول الله عز وجل مبيناً أن أعداء الإسلام والمروجين للباطل سيتخذون من المرأة وسيلة لتدمير المجتمعات الإسلامية، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب:59]، ثم يشير الله عز وجل إلى مواقف المبطلين فيقول: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا * سُنَّةَ اللَّهِ} [الأحزاب:60 - 62].
وقوله تعالى: (سُنَّةَ اللَّهِ) دليل على أن هذا العمل من الله عز وجل سنة ماضية في القديم والحديث {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الأحزاب:62].
ولذلك فإن الصراع بين الحق والباطل كثيراً ما يستخدم فيه الباطل المرأة لتكون له حبائل، ولتكون لأهله شراكاً يصطادون فيه المسلمين عن طريق الشهوة؛ لأن الله عز وجل ركب الرجل والمرأة على هذه الشهوة التي فيها من الجاذبية والشدة والقوة الدافعة ما لا يتوافر في أي جانب آخر، ولذلك فإن الله تعالى قدم شهوة النساء على كل شهوة، فقال: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} [آل عمران:14]، فأول هذا المتاع هو شهوة النساء، ولذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء)، ويقول عليه الصلاة والسلام مبيناً أن المرأة تساوي فتنتها جميع الفتن، وأن كل الفتن في كفة وأن فتنة المرأة في كفة واحدة، وأن كفة المرأة تكاد أن ترجح بكل كفة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله تعالى مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء)، فالدنيا تساويها كلها فتنة النساء.
ولذلك اهتم الإسلام بتربية المرأة والعناية بها اهتماماً بالغاً، حتى لا تكون فتنة أو وسيلة دمار، ولذلك ما قدم القرآن ذكر المرأة في أي موقف من المواقف إلا في موقف واحد، وهو الزنا، فنجد أن المرأة في كل الأمور يقدم الرجل عليها إلا في الزنا فقد ذكرها الله عز وجل قبل الرجل فقال: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور:2]؛ لأن المرأة لديها من الدوافع والجاذبية إلى الزنا وفاحشة الزنا -نسأل الله العافية- ما لا يتوافر في أي شيء آخر، وإن امرأة واحدة لو خرجت متبرجة بين أمة لاستطاعت أن تفتن الكثير منهم إلا من عصم الله، ومن هنا قدمت المرأة على الرجل، وما قدمت في شيء آخر غير ذلك.
أما أعداء الإسلام فقد أدركوا خطر هذه المرأة، وقال قائلهم: إنه لا أحد أقدر على جر المجتمعات إلى الدمار من المرأة.
فاستعملت المرأة في هذا الأمر، لذلك لا نستغرب ونحن نرى أن المرأة اليوم قد أصبحت لعبة وأضحوكة ودمية بيد هؤلاء العابثين، وإذا أراد الإنسان أن يروج بضاعته وضع صورة امرأة على غلاف منتجه، حتى المجلات الساقطة التي ليس لها نصيب من الناس لابد أن توضع فيها صورة امرأة جميلة في مقدمتها حتى تكون جاذبة للمشترين، والطائرة أول ما تقابلنا فيها المرأة، وإذا كان قد ظهر الفساد في البر والبحر من قبل؛ ففي أيامنا الحاضرة ظهر حتى في الجو، والمرأة التي تشاهدها في الطائرة والله ما جاءت للخدمة؛ لأن الرجال ليس فيهم قلة، فالعالم كله يشتكي من قلة العمل، ومن شدة المئونة وقلة الوظائف إلى غير ذلك، والمرأة ليست بأقوى من الرجل، بل هي أضعف من الرجل في هذه الأمور، إنما وضعت للتسلية؛ لكي يتمتع بها هؤلاء الركاب، وبمقدار ما تتسابق شركات الطيران لتختار أجمل النساء بمقدار ما تكسب عدداً أكثر من الزبائن كما يقولون! ولقد رأيت بعيني في دولة من الدول التي تعيش بجوارنا إعلان عن اختيار مضيفات في الطائرات، ويقولون: ندفع كذا بدل تبرج! مما يدل على أن التبرج هو المقصود في هذا العمل، ولذلك إذا ركبت الطائرة ورأيت هذا العدد الهائل وهذا الطاقم الكبير من النساء لا تجد لهن شغلاً، إلا أن شركات الطيران تتسابق في اختيار أي النساء أجمل، ومع ذلك يقولون: إنهم من أنصار المرأة! حالوا بينها وبين عواطفها وأهلها وأولادها والزواج ومتاع الحياة الدنيا، ووضعوها معلقة بين السماء والأرض، واستخدموها وجعلوها دمية يتمتع بها الناس ووسيلة تسلية، ويقولون: إنهم من أنصار المرأة! هذا أكبر دليل على أن هذا العصر عصر إهانة المرأة، لا كما يزعمون أنهم من أنصار المرأة، ومن الباحثين عن حقوق المرأة وحريتها.
المهم أن أعداء الإسلام أدركوا أن الخطر يكمن في الشهوة، وأن أي أمة تعرض أمامها الشهوة تنزلق قدمها فيها، لما لهذه الشهوة من الجاذبية ما لا يعلمه إلا الله تعالى، وما لا يحول بينه وبين الوقوع في الفاحشة إلا الإيمان القوي، استخدموا المرأة في هذا الأمر، ولقد استخدمها بنو إسرائيل قبل ذلك، والأمم التي أرادت أن تفسد المجتمعات كانت تستخدم المرأة، وفي أيامنا الحاضرة يركز على المرأة تركيزاً عظيماً لا يساويه شيء في عظمته.
من هنا نقول: إن أعداء الإسلام أدركوا الخطر الذي تشكله المرأة على المجتمع، فجندوا المرأة لهدم المجتمعات الإنسانية، وأي أمة تقع في الفاحشة فإنها تسقط من عين الله، وهذا شيء مشاهد، ونلمسه من أن أي شباب من شبابنا يتجهون إلى الفساد الجنسي، تفسد عقيدتهم، وإذا لم يعتنقوا ديانة يهودية أو نصرانية أو إلحاداً فإنهم سيتخلون عن الإسلام في الغالب، وإذا أردت أن تعرف ذلك فانظر إلى شبابنا الذين يذهبون إلى البلاد المنحلة، تجد هذا الشاب لا يرجع منحل الأخلاق فقط، وإنما أيضاً منحل العقيدة، وهذا هو الهدف الذي يسعى إليه أعداؤنا في هذا الجانب.
وعلى كلٍ فإن المرأة استهدفت في مثل هذه الأيام، وقامت جمعيات للمرأة الهدف من ورائها انحلال وإفساد المرأة، وإن من يسافر إلى البلاد المتبرجة يجد أن المرأة قد فقدت كل شخصيتها، وأصبحت لا تبالي حتى لو خرجت عارية، ولذلك انتشر الفساد في الحدائق والأسواق وأماكن كثيرة في البلاد الغربية التي وصلت إلى آخر مستوى، وصارت قوانينها تهبط كلما هبط هذا الإنسان، وهبط القانون حتى أصبحنا نسمع في بعض البلاد أن الشذوذ الجنسي، وزواج الذكر بالذكر ونوادي العراة أصبحت شيئاً رسمياً في تلك البلاد لا غبار عليها، والمنافقون في كل بلد الذين ينعقون ويبحثون عن حرية وحقوق المرأة يريدون ذلك، مصداقاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سَنَنَ من كان قبلكم).
وعلى كل فإن البلاد التي لا تستطيع أن تقول: نريد نوادي للبنات -وإن كانت تقال في بعض الأحيان، ولكن الظروف لا تسمح للاستجابة لها- فإنها تقول: نريد جمعيات خيرية نسوية.
يصبغونها بهذه الصبغة الطيبة، ويقصدون بالجمعيات الخيرية النسوية أن تخرج المرأة في شيء يشبه الأندية الرياضية للشباب، لكنها مغطاة ومطلية بهذا الطلاء، وملفوفة بهذا الغلاف الكاذب، هذه الجمعيات النسوية التي تخرج المرأة، ولذلك في البلاد التي هي قلب بلاد الإسلام لو تتبعت أخبار بعض الجمعيات لوجدت ما يدمي القلب.
وعلى كل فهذه التسمية ليست غريبة، فإن كثيراً من الآثام والجرائم التي انتشرت في المجتمعات الإسلامية اليوم سميت بغير أسمائها، فهم يسمون الخمر مشروبات روحية، والغناء فناً، والنفاق مجاملة، والكذب دبلوماسية، من خلال ذلك أيضاً سموا إخراج المرأة من بيتها جمعيات خيرية نسوية، والله تعالى يعلم ما يحدث وراء ذلك.
اتهموا الإسلام أيضاً بأنه ظلم المرأة، ونصبوا أنفسهم أنصاراً للمرأة، ويقولون: الإسلام ظلم المرأة، وأباح تعدد الزوجات، وجعل الطلاق بيد الرجل، وفعل فعل إلى غير ذلك.
فقالوا: إنه(27/2)
المرأة في الجاهلية
المرأة في الجاهلية قبل الإسلام -باختصار- ما كانت إنساناً معترفاً به، فكان كثير منهم يشك: هل المرأة لها روح -كما عند الرومان-؟ وهل هي إنسان؟ وهل هي من فصيلة الحيوان؟ وبعضهم يعتبرها من فصيلة الجن والشياطين، وبعضهم يعتبرها فتنة فقط لا تعدو غير ذلك، وكانت المرأة في الجاهلية الأولى تتفسخ وتنحل، كما أشار الله عز وجل إلى ذلك لما قال: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33]، ثم جاءت الجاهلية الثانية كرد فعل للجاهلية الأولى، فبالغوا في إحكام القبضة على المرأة قبل الإسلام، فكانوا يعتبرونها من أشر خلق الله، وكانوا يحرمونها من أبسط الحقوق، حتى قالوا: لا ترث.
فلا يرث عند أهل الجاهلية إلا من حمل السلاح وركب الفرس وعمل وعمل، أما عن المرأة فيقولون: هي إنسان ناقص ليس مكتملاً، فلا ترث.
إلى أن أنزل الله عز وجل قوله في سورة النساء: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ} [النساء:7] حتى الإبرة يجب إذا مات الموروث أن تأخذ المرأة نصيبها منها، {مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء:7]، فقد أكده الله سبحانه وتعالى، وسنتحدث في آخر الحديث إن شاء الله عن بعض الشبهات التي يثيرها الأعداء بالنسبة للميراث.
كانت المرأة تورث أيضاً، فكان الزوج في الجاهلية إذا مات عن زوجته فإن أقرب أولاده من غيرها يرثها، فكانوا يتسابقون حينما تخرج روح الميت، فأول من يلقي عليها رداءً يكون أحق بها، ويحق له أن يتزوجها ويتمتع بها، أو يبيعها أو يتصرف بها كما يحلو له، مثلها مثل سائر المتاع الذي يورث، هذه الزوجة كانت في الجاهلية، إلى أن أنزل الله عز وجل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} [النساء:19]، فأصبحت المرأة إنساناً في نظر الإسلام، بل إنساناً مكتمل الإنسانية فلا تورث.
وأعظم من ذلك وأفظع منه أنها كانت توأد في الجاهلية، فقد مرت فترة طويلة في الجاهلية كان إذا بشر أحدهم بالأنثى يصير حاله كما أخبر الله عز وجل {ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} [النحل:58]، يعني: يتألم ويشعر بالخيبة وبالخجل أمام الناس إذا بشر ببنت ولدت له {وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ} [النحل:58 - 59] يختفي عن أعين الناس؛ لأنه أصيب بمصيبة {مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ} [النحل:59]، ويكون بين أحد أمرين: {أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ} [النحل:59] فهو يمسك هذه البنت ويحتفظ بها وهو يشعر بالذلة بين قومه {أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} [النحل:59] يعني: بعض الأحيان يمسكها على هون وتأخذه العاطفة، فيبقيها وهو يشعر بأنه ذليل؛ لأنه ولدت له بنت، أو يدسها في التراب بأن يحفر لها وهي حية ويدفنها، وهي الموءودة التي يقول الله عز وجل عنها: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:8 - 9].
وبقي الناس على هذا الأمر طول أيام الجاهلية، إلى أن شع نور الإسلام فأصبحت المرأة إنساناً محترماً، ومع ذلك يقولون: المرأة مظلومة في الإسلام!(27/3)
حفاظ الإسلام على حقوق المرأة
لقد حافظ الإسلام على حقوق المرأة من عدة جوانب: منها: أن الإسلام اعترف بالمرأة إنساناً له حقوقه وحريته وأخذه وإعطاؤه وبيعه وشراؤه، وله جزاؤه في الآخرة، كما قال: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران:195]، فشعرت المرأة بأن حقها محفوظ عند الله عز وجل في الآخرة، أما في الدنيا فلها أن تزاول كل الأعمال التي تختص بالنساء من البيع والشراء والأخذ والإعطاء والاستئجار والإيجار إلى غير ذلك من المعاملات التي أعطاها الإسلام في إطار محدود، بحيث لا يؤدي ذلك إلى فساد المرأة ولا إلى فساد المجتمع.
ومنها: أن الإسلام ألزم الرجل بعشرة المرأة عشرة حسنة، وحرم العشرة السيئة، فقال الله عز وجل: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19]، وأثبت لها حقاً كحق الرجل، فلما ذكر الله عز وجل حقوق الرجل على المرأة ذكر أن مثل هذه الحقوق للمرأة على الرجل لكنها بالمعروف، كما في قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228]، حتى لا تطلب المرأة حقاً لا يتناسب مع تفكيرها وتركيبها وما أراده لله عز وجل لها في هذا المجتمع، ولذلك فإن الإسلام أمر بالعشرة وحرم الظلم، وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن: (من كانت له زوجتان ومال إلى إحداهما دون الأخرى يأتي يوم القيامة وشقه ساقط أو مائل)، وأمر بالإحسان إليها، وبالنفقة عليها، حتى قال علماء الإسلام: إن الرجل إذا عجز عن النفقة على زوجته -ولو كانت غنية- فلها أن تطالبه بذلك وتحتفظ بحقها وبمالها، وإلا فلها أن تطلب الطلاق منه، وللقاضي وللمحكمة أن تجبر الزوج الذي عجز عن النفقة على زوجته أن يطلقها إجباراً لتختار زوجاً موسراً.
أي حق أكثر من هذا الحق تريده المرأة؟! ثرية وزوجها فقير ويلزم بالنفقة عليها من غير مالها، ويجبر على طلاقها إذا عجز عن النفقة عليها! هذا حق من حقوقها الذي أثبته الإسلام، كما أن الإسلام ألغى استعباد المرأة، فالمرأة -كما عرفنا- كانت مستذلة مستعبدة، فجعلها الإسلام إنساناً كاملاً له حقه وحريته في حدود.
كما أثبت لها حق الميراث، فأعطاها نصف حق الرجل في بعض الأحيان, وفي بعض الأحيان تساوي الرجل، وفي بعض الأحيان قد تزيد على الرجل، وعلى كل فإن هذا الميراث -أيضاً- إنصاف للمرأة، وسيأتينا ضمن الشبهات التي يثيرها القوم في آخر الحديث إن شاء الله.
وأعطاها الإسلام أيضاً حرية اختيار الزوج، لكن الزوج الصالح، فلا يجوز لأبيها أن يجبرها على رجل هي لا تقبله، صحيح أنه يجب على الأب أن يرفض اختيارها الرجل غير الصالح، لكن حينما يتقدم رجلان صالحان يستويان في الكفاءة والصلاح فالحق لها في اختيار أيهما تريد، أما لو اختارت رجلاً فاسقاً فمن باب مصلحتها أن الإسلام لا يعطيها الحرية في اختيار الزوج في مثل هذه الحال، أما إذا تقدم لها رجلان صالحان فلها أن تختار أيهما تريد إذا استويا في الصلاح أو تقاربا في الصلاح.
كذلك أيضاً احترم الإسلام عواطفها الإنسانية، أما في أيامنا الحاضرة فإن الشيوعية الملحدة هي أكبر من يهين المرأة ويخرج على عواطفها ورغباتها وشهواتها الفطرية، فالشيوعية تريد من المرأة أن تكون وسيلة تفريخ، تلد الأولاد وليس لها حق العاطفة مع هؤلاء الأولاد، النساء كلهن أزواج لكل الرجال، فليس لرجل ما زوجة تخصه، هذا في نظر الشيوعية الملحدة آخر مخطط من مخططاتها، فيلغون الزواج بحيث تصبح كل امرأة في المجتمع زوجة لكل رجل من رجال المجتمع، المهم أن تنتج هذه الشيوعية الملحدة من هذه المرأة أطفالاً يكونون رجالاً لهذه الدولة، هذا هو ما يحدث الآن حتى في روسيا، ولذلك إخواننا الأفغان أكثر ما واجههم من العتو والنفور كان عن طريق جنود يسمون (الكمندوز) أبناء الزنا في روسيا، يدخلون الرجل على المرأة فتلد طفلاً فتأخذه الدولة ملكاً لها، فتربيه تربية خاصة جسمية وعقلية وحربية، ثم تزج به في الحرب، ولذلك أكثر ما استعمل هؤلاء الرجال في حرب الأفغان، وهم الذين يسمون الكمندوز، الذين -والحمد لله- أفناهم إخواننا الأفغان عن آخرهم في هذه الحرب، وقطعوهم تقطيعاً.
المهم أن المرأة في نظر الشيوعية وسيلة تفريخ، بقطع النظر عن عواطفها ورغباتها وشهواتها، من أراد أن ينزو عليها من هؤلاء الرجال فله ذلك، أما هؤلاء الأولاد فإنهم يأخذون منها، ويحال بينها وبين هذه العاطفة التي هي عاطفة البنوة، التي هي أكثر ما تسعى إليه المرأة في كل فترة من فترات التاريخ، أما الإسلام فقد احترم هذه العاطفة، ولذلك حرم الزنا، وتحريم الزنا يعتبر احتراماً لهذه العاطفة؛ لأن الولد الذي تلده المرأة عن طريق الزنا لا تتمكن من الحياة معه, ولا تعترف به ولا يعترف بها، ولذلك حرم الزنا من أجل أن يبني عشاً طاهراً عن طريق الزواج، ومن أجل أن تنجب هذه المرأة أطفالاً صالحين تشبع بهم رغباتها وعواطفها، وتعيش معهم ويعيشون معها، تؤدي الواجب نحوهم في أيام طفولتهم، ويؤدون الواجب نحوها في أيام كبرها.
هذه العاطفة لم يحترمها منهج ولا نظام كالإسلام، ولذلك إذا قرأنا نظرة الإسلام إلى النواحي الاجتماعية والعواطف الزوجية والبنوة وحق المرأة في هؤلاء الأطفال لا نجد نظاماً غير نظام الإسلام يحترم هذه العاطفة، والدليل على ذلك أننا إذا ضربنا صفحاً عن الشيوعية الملحدة التي لا تحترم عواطف المرأة وإنما تعتبرها وسيلة تفريخ فإننا سننظر إلى البلاد الغربية -مثلاً- ونترك البلاد الشرقية؛ لأن هذه بلاد على خلاف الفطرة، والبلاد الغربية أيضاً على خلاف الفطرة، فالولد يختفي ويغيب عن عيني والديه مدة طويلة من الزمن، ثم يقابلهما فلا تزيد مقابلته لهما على أن يشير إليهما بيده من بعد وكأنه رآهما قبل دقائق، مع أنه مضى بينه وبينهما سنوات لم يرهما؛ لأن العواطف الإنسانية قد فقدت في هذه المجتمعات الغربية.
ولقد اعتنق شاب من النصارى الأوروبيين الإسلام، وسألته: لماذا اعتنقت الإسلام؟ قال: والله ما كنت أتصور أن هذه العواطف تحترم في دين كدين الإسلام، كنت أقابل أمي في مقهى أو مطعم في أوروبا بعد سنين وبعد غيبة فلا أزيد على الإشارة باليد، ولما عشت في بلاد إسلامية فرأيت الولد يأتي في الصباح فيقبل رأس أبيه، ويقبل رأس أمه، ولا يستطيع أن يعيش بعيداً عن أبيه وأمه، عرفت أن الإسلام هو دين الفطرة، وأنه هو الذي يحترم هذه العواطف.
ولذلك في نظام الغرب الآن البنت إذا بلغت ثماني عشرة سنة فعليها أن تغادر البيت وتبحث لها عن مأوى غير هذا البيت، ولو على حساب عرضها وشرفها، وليس هناك عرض ولا شرف يحافظ عليه، وكذلك الابن.
وعلى كلٍ فنشكر الله سبحانه وتعالى على نعمة الإسلام، ولذلك الذين يريدون أن يخرجوا بالمرأة عن المجتمع الإسلامي إلى المجتمع الكافر يريدون أن يقضوا على عواطف المرأة، وعلى أبسط الحقوق التي يتمتع بها حتى الحيوان، فالحيوان يتمكن من أن يعايش طفله مدة طويلة من الزمن، وتشعر بالعاطفة بين الحيوان وبين طفله وأنت تتابعهما بنظرك، أما المجتمعات الكافرة فإنها أسقط وأذل من الحيوان، ولذلك صدق الله عز وجل الذي يقول: {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف:179].(27/4)
الأخطار التي تحيط بالمرأة
هي أخطار كثيرة، ولا نستطيع أن نتحدث عنها في مناسبة واحدة، ولكنا نريد أن نختار منها أهم هذه الأخطار، ولعلك تشاهد هذه الأخطار قد بدأت بالظهور في المجتمعات الإسلامية، بل بدأت تنتشر وتكثر.(27/5)
دعاة الضلال
أهم هذه الأخطار دعاة الضلال، وما أدراك ما دعاة الضلال! دعاة الضلال الذين يريدون أن يصرفوا الناس عن المنهج الصحيح ويفسدوا الفطرة، أرادوا أيضاً كذلك أن يحولوا بين المرأة وبين دينها، فقام دعاة الضلال -سواءٌ أكانوا من أعداء الإسلام الذين يأتون من الخارج، أم من أفراخهم الذين يولدون ويعيشون بيننا ويتسمون بأسماء المسلمين من أحمد ومحمد وعبد الله وعبد الرحمن- في كثير من الأحيان يتحدثون عن المرأة، ويقولون: نريد حرية المرأة، نريد حقوق المرأة، نريد أن يتنفس المجتمع برئتين بدل أن يتنفس برئة واحدة، نريد ونريد إلى آخره.
هؤلاء الدعاة خدعوا بعض النساء، فقالوا: الصحيح أن الإسلام ظلم المرأة.
والصحف تتكلم عن ظلم المرأة، والمجلات والكتب بل وبعض الخطباء، ويقولون: حقوق المرأة ضاعت، وحرية المرأة ضاعت، ونحن نحافظ عليها.
وهم أكبر عدو للمرأة.
هؤلاء دعاة الضلال سواء أكانوا من الخارج أم الداخل هم أخطر شيء على المرأة في أيامنا الحاضرة، ولذلك اغتر بعض النساء بهذه الدعايات المضللة، فتبرجت المرأة وتفسخت، وخرجت عن الإطار الذي رسمه الله عز وجل لها، وتنكبت الطريق الذي اختاره الله عز وجل لها، وهذا يعتبر من أخطر وأعظم الأمور، مرة يقولون: الحجاب تقوقع ورجعية وتخلف، الحجاب موروث من القرون الوسطى، الحجاب موروث من دولة كذا، الحجاب ليس من الإسلام! ومرة أخرى يقولون: المرأة عليها أن تقود السيارة، وتشتغل مع الرجل، المرأة إنسان كامل إلى آخره.
هؤلاء -والله- لا يريدون خيراً للمرأة، ولو أرادوا الخير لوجدوا أن أعظم نظام وأعظم منهج يحترم المرأة هو هذا الدين.(27/6)
الإعلام
الإعلام، وما أدراك ما الإعلام! وإذا قلنا: الإعلام فالمراد به المسموع والمقروء والمرئي، وكلها في أيامنا الحاضرة تكالبت على المرأة، وأعطت كل جانب من جوانب الدين نصيبه من الهدم والتخريب، لكن أعطت المرأة الجانب الأكبر، ولذلك فإن الإعلام قد فسد في كل بلاد المسلمين -ولعله يكون في جلها-، هذا الإعلام الذي أصبح الآن يواكب التطور العلمي، واستطاع أن يشبك الدنيا كلها في شبكة واحدة، فلا يحدث شيء في الغرب إلا ويصل إلى الشرق ماراً بالوسط، ولا شيء في الشرق إلا ويصل إلى الغرب ماراً بالوسط -نحن-، هذا الإعلام الذي يظهر تلك المجلات التي تبدأ من صورة الغلاف، وهي تعرض زياً للمرأة منحرفاً كله فسق ومعصية، بعد اختيار أجمل فتاة متفسخة في جزء من لباسها قد أخرجت كل مفاتنها، فإذا بكثير من النساء اللاتي ضعفت شخصيتهن أمام هذا الغزو الفكري إذا بهن يتأثرن بهذا المنظر، ثم ما بعد هذا الغلاف إلى غلاف آخر كله -إلا ما شاء الله- في كثير من الصحف هدم للأخلاق والفضائل، سواء في ذلك الشباب والشابات.
نرجع مرة أخرى إلى الإذاعة والأغاني التي كلها تكسر وتخنث وانحراف، إلى التلفاز الذي يعتبر أكبر فتنة حلت بالأمة في أيامنا الحاضرة، وما تركت بيت شعر ولا مدر إلا دخلته إلا ما شاء الله، إلى غير ذلك.
ونقول: من هو المسئول عن هذه الأشياء؟ المسئول هو الدولة، فهي مسئولة بين يدي الله عز وجل عما يحدث، لاسيما وأن أكثر ما يحدث تحت أعين بعض المسئولين، وهم العقلاء من هذه الأمة، فالعقلاء إذا لم يستيقظوا وينتبهوا لهذا الخطر، ويقف كل واحد على الأقل على باب بيته شاهراً سلاحه فلا تتسرب إليه هذه الأزياء فهو مطالب أن ينكر المنكر في كل مكان من الأرض؛ لأن الله تعالى يقول: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]، وكل واحد منا مسئول على قدر استطاعته وإمكانيته، مسلسلات كلها عشق وغرام تعلم المرأة كيف تخون الزوج، كيف تتصل بالصديق، كيف تغازل، كيف تنظر، كيف تتصرف، وأقل ما تفعله هذه المسلسلات أن تعرض لنا مجتمعاً من المجتمعات الغربية زي المرأة فيه زي سافر خطير، لا يستر إلا جزءاً من بدنها، ولربما يشوهون التاريخ الإسلامي، فكثيراً ما نسمع عن مسلسلات يعرضون فيها سير بعض الصالحين ومعه زوجته سافرة، وكأنهم يشوهون تاريخ الإسلام، ويقولون: المرأة مع الرجل يسيران جنباً إلى جنب.
وربما يعرضون صورة عمر بن عبد العزيز الرجل الصالح أو فلان من الصالحين أو من السلف أو من الذين جاءوا بعدهم ومعه زوجته، من قال: إن المرأة كانت تختلط بالرجل في الإسلام؟! ما حدث هذا إلا في الجاهلية، سواء أكان في الجاهلية الأولى أم المعاصرة.
إذاً عرض السفور والاختلاط والمسلسلات هذا كله من الإعلام المنحرف الذي يسبب خطراً على المرأة، بل هو من أكبر الأخطار؛ لأن كثرة المساس -كما يقال- تذهب الإحساس، ولذلك النساء اللاتي صرن يتابعن هذه المسلسلات أعتقد أن كثيراً منهن قل فيهن الحياء، والتي لم يقل فيها الحياء من المؤكد أنها أصيبت بفتنة، أصبحت المرأة تقرأ فتصل المجلات إليها في قعر بيتها، وهذه المجلات من العجيب أنها تتحدى كل الحواجز السياسية والجغرافية، وتصل إلى بيوت المسلمين، ولا ندري أين ذهبت هذه الرقابة! وأول من يتجرع كأس هذا الإعلام الذي قد انحرف في أيامنا الحاضرة هي المرأة؛ لأنها غالباً ما تكون داخل بيتها، وغالباً المرأة لديها من الشخصية ما هو أضعف من الرجل، بحيث تتقبل كل ما يعرض أمامها، ولديها من العواطف ما تصدق به كل ما يعرض أمامها، فتعتبره من الإسلام إذا كان يخالف الإسلام، وهكذا.
إذاً هذا الإعلام يعتبر من أخطر الأمور التي غزيت بها المرأة، ووصل إلى قعر البيت، فأصبحت المرأة تشاهده وهي في خدر بيتها.(27/7)
التعليم
ونعني بذلك التعليم الذي لا يقف عند حد، والتعليم نحن -والله- لا ننكره، وهو حق للرجل وللمرأة، ولكن أي تعليم هذا الذي يجب أن يكون حقاً للرجل والمرأة؟ معرفة الله، ورسوله، ودين الإسلام، والحلال والحرام، وشيء من العلوم العصرية التي تستفيد منها المرأة.
لكن قل لي بالله -يا أخي! -: هذه المرأة التي لا تريد أن تقف إلا عند آخر جدار في هذا التعليم، لا تقف حتى تحصل على الدكتوراه، وتدرس في الجامعات كل الفنون وكل العلوم، إذاً أين المرأة؟ ومن للبيت ولتربية الأطفال؟ ومن ومن إلى آخره.
التعليم يجب أن يكون بمقياس معين، أو بحد معين، وإلى حد ومستوى معين، أما أن تكون المرأة ذات طموح بحيث لا تقف عند حد ولا شهادة ولا مؤهل ولا نوع من الفنون التي لا تحتاج إليها فهذا خطر من نواحٍ كثيرة: الناحية الأولى: أنه يذهب بزهرة شبابها، فلا تكاد تكمل المرحلة التي تطمح إليها إلا وقد كبرت سنها فأصبحت لا يرغب فيها الرجال، وهذا أول خطر من الأخطار، وهذه هي المشكلة التي عاناها العالم عن أيماننا وشمائلنا، فأصبح النساء الجامعيات ومن وراء الجامعات مكدسات، وأدى ذلك إلى فساد فيهن؛ لأن الرجال لا يرغبون فيهن؛ لأن السن أصبحت متأخرة.
الناحية الثانية: أن المرأة درست كل شيء فأصبحت تتطلع لرؤية ما درسته، درست جغرافيا العالم كله، فأصبحت تتطلع إلى أن ترى هذا العالم، درست تاريخ العالم كله، فأصبحت تتطلع إلى أن ترى هذا الشيء، درست لغات أجنبية، فتريد أن تطبق هذه اللغات في مجتمعاتها التي تعيش فيها، وعلى هذا أصبح تعليم المرأة الذي لا يقف عند حد معين ولا عند نوع معين من التعليم أصبح يشكل خطراً عليها.
الناحية الثالثة: أن النساء اللاتي بلغن القمة في التعليم أصبحن يتمنين ولو ربع زوج أو ثلث زوج أو نصف زوج، فلا يحصلن عليه، وهذا يعتبر من الأخطار التي لا تدركها المرأة إلا بعد أن تصل إلى الذروة والنهاية.
الناحية الرابعة: العزوف عن الزواج، وهو يعتبر فرعاً عن التعليم طويل المدى الذي لا يقف عند حد ولا عند نوع معين، فأدى إلى عزوف كثير من الشباب عن الزواج، ولربما تصاب هي بعزوف من الزواج فتصبح عانسة، ثم تكون نهايتها بعد ذلك أرملة.
الناحية الخامسة: المغالاة في المهور، وهذه اصطنعها أقوام لديهم من الجشع الذي لا يقف عند حد، ونسوا قول الله عز وجل: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32]، ونسوا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (أكثرهن بركة أقلهن مئونة).
وقد مُني عصرنا هذا بالمغالاة في المهور، ويا ليت هذه المهور وهذه الأموال التي تبذل تصبح ملكاً للمرأة تتمتع بها في حياتها، وتقدم منها ما تشاء من أفعال الخير، بل أصبحت هذه الأموال تقدم لتحرق في ليلة واحدة في أكثر الأحيان، واذهب إلى قصور الأفراح وانظر إلى النعم والخيرات التي تضيع، واللحوم التي ترمى، والأطعمة التي تهراق في الأسواق، والمسلمون في مجاعة وشدة لا يعلمها إلا الله عز وجل.
هذه المهور وهذه المغالاة في المهور التي أصبح كثير منها يصرف على اللهو واللعب والمحرمات أصبحت تشكل خطراً على الرجل والمرأة، فأصبح كثير من الشباب لا يستطيع جلب هذه المهور، وأي حل يسعى إليه؟ إما أن يذهب إلى الفساد هنا وهناك، وسيجد الوسائل ممهدة، الطائرات يومية، التذاكر مخفضة، الجوازات جاهزة، وإما أن يذهب ليتزوج من الخارج بامرأة غريبة عنه وعن مجتمعه، ولربما لا يتأكد صلاحها، وهذه كلها أخطار تحيط بالمرأة، أما المرأة هنا فإن جشع وليها ومطالبه الكبيرة التي لا تقف عند حد أصبحت تحول بين هذه المرأة وبين الزواج.(27/8)
السفر إلى الخارج
اعتادت بعض الأسر أن تذهب في فصول ومناسبات الصيف والعطل وغير ذلك بمجموعها رجالها ونسائها إلى البلاد المتحللة، وترى هذه المرأة أو هذه الفتاة المحاطة بسياج من المحافظة مدة طويلة من الزمن ترى هذه المجتمعات المنحلة وكأنها طير فر من قفص، حتى إذا أراد صاحبه أن يدخله القفص مرة أخرى لا يستطيع ذلك، ولذلك نشاهد في كثير من الأحيان حينما نسافر إلى بعض البلاد نشاهد كثيراً من الفتيات اللاتي نعرف أنهن من هذه البلد المحافظة، وأنهن أجبرن على شيء ما كن يعتدنه، وأن هذه الأيام التي مرت بهن في تلك البلاد استطاعت أن تؤثر عليهن يوماً بعد يوم، وإذا بها تصبح كأنها امرأة شرقية أو غربية سواء بسواء، هذه مشكلة كبيرة نرجوا الله سبحانه وتعالى أن يوفق المسئولين للانتباه لها بحيث لا يتيسر السفر لهذه الأسر إلى الخارج لغير حاجة، لما للسفر من ردود فعل وأضرار واضحة.(27/9)
التقليد
طبيعة البشر -خصوصاً الضعفاء- تقليد الأقوياء، هذه قضية تاريخية مسلمة، والمرأة بصفة خاصة أقرب الناس إلى التقليد والتشبه وأخذ صفات وسمات غيرها لتتسم وتتصف بها، ولذلك فإن هذا التقليد يعتبر من أخطر الأمور التي تهدد هذه الأمة خصوصاً النساء، ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحذر ويقول: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة.
قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟) يعني: نعم.
اليهود والنصارى، ولذلك في كثير من المجتمعات الإسلامية لا تكاد تفرق بين المرأة المسلمة والكافرة، بل إن المجتمعات الإسلامية والدول الإسلامية لا تكاد تفترق عن الدول الكافرة سواءً بسواء، فإذا فتحت المسارح ودور اللهو واللعب والرقص والغناء والمحرمات في بلاد الكفر فتح مثلها في بلاد الإسلام إلا ما شاء الله.
وعلى هذا نقول: إن التقليد -سواءٌ أكان على مستوى الأفراد أم الجماعات أم الدول- من مصائب هذا العصر، ولذلك فإنه يعتبر من أكبر الأخطار التي تهدد المرأة بصفة خاصة.(27/10)
حرص الإسلام على صيانة المرأة
لماذا الإسلام شدد في أمر المسلمة؟ ولماذا أصبح أمر المرأة حساساً لا كالرجل؟ نقول: لأن المرأة عارها كبير إذا انحلت أخلاقها، ومصيبتها كبيرة، ولذلك الإسلام حرم الزنا، وما شدد القرآن في موضوع بعد الشرك بالله على شيء أكثر من الزنا، بل نهى عن أن نقرب الزنا، فقال: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:32]، ولم يقل: ولا تفعلوا الزنا.
وإنما قال: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:32] وقربان الزنا يعني الدنو منه، والدنو منه يعني القرب من هذه الفاحشة.
واقرأ سورة النور، فلما حرم الله عز وجل الزنا وكانت أول آية في السورة {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور:1] جاء الحديث عن الزنا، ولما جاء الحديث عن الزنا جاء بعد ذلك الحديث عن طرق الزنا، وكيف سد الإسلام طريق الفاحشة، وأول أمر سد به الإسلام الزنا هو الحدود، فذكر الله عز وجل الحد {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2]، ثم بعد ذلك ذهب إلى الحديث عن الزنا والحديث عن الفاحشة؛ لأن الحديث عن الشيء يسهله ويبسطه، فجاء الحديث عن القذف {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور:4]، ثم استثنى الله عز وجل رمي الزوجة؛ لأن رمي الزوجة قد يكون ضرورة لدى الرجل، ثم جاء الحديث عن الاختلاط؛ لأن كل هذه طرق توصل إلى الزنا وكلها لمصلحة المرأة {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور:27] يعني: تستأذنوا {وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27]، ثم جاء الحديث عن غض البصر، وكل واحد من هذه الأشياء لو فتح المجال فيه لوصل الناس إلى الزنا.
ثم قال الله عز وجل في آخر الآيات: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32 - 33]، هذه وسائل جاءت كلها في النصف الأول من سورة النور، كلها من أجل أن لا يقرب الناس الزنا، أما أعداء الإسلام فإنهم قد هتكوا كل هذه الحجب، وفتحوا كل هذه الطرق، فعطلت الحدود أولاً، واعتبر تطبيق الحدود وحشية وتخلفاً ورجعية في أكثر البلاد الإسلامية، وجاءت قوانين البشر تحكم الناس بما تزعم أنه الرحمة، ولكنه الإجحاف والظلم والعدوان، ثم أصبح الحديث عن الفاحشة ميسراً، والله تعالى حرم أن يتحدث الإنسان أن فلاناً زنا إلا إذا كان عنده أربعة شهود يشهدون بذلك.
إذاً معنى ذلك أن الحديث عن الفاحشة حتى لو كان حقاً منهي عنه إلا بأربعة شهود {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور:4] إذاً الحديث عن الفاحشة في المسلسلات يعتبر أخطر؛ لأن الهدف من وراء ذلك ليس هو إنكار المنكر، وإنما الهدف إشاعة المنكر، والله تعالى يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:19].
ثم بعد ذلك نتكلم عن الاختلاط، فالله تعالى يقول: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27]، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما جعل الاستئذان من أجل البصر) حتى لا يرى عورة، أو حتى لا يختلط جنس بجنس آخر ليس من محارمه، ونجد الآن دعوات كثيرات للاختلاط، حتى قال بعضهم: إن خلط الرجل مع المرأة يزيل هذه الوحشة بينهما.
ولذلك يقولون: لو تساهلنا وخلطنا البنين والبنات في المدارس والمكاتب وغير ذلك أصبحت هذه الشهوة مفقودة وتصبح طبيعية.
هذه الدعوة الشيطانية كاذبة، والدليل على كذب هذه الدعوة الشيطانية التي يزعمونها أن المجتمعات التي اختلط فيها الرجل والمرأة هي أكثر الدنيا فساداً.
ولذلك نقول: هذه كلها من مكائد أعداء الإسلام.
ثم بعد ذلك لما أمر الإسلام بغض البصر نجد أن المرأة في المجتمعات الإنسانية والإسلامية أيضاً -إلا ما شاء الله- نجد أنها تكشفت، فأصبحت تمشي سافرة في جل البلاد الإسلامية، وليست سافرة في وجهها فحسب، ولكنها قد كشفت عن ساقها وعن شيء من فخذها ونحرها وعضديها وذراعيها وعنقها إلى آخره، حتى أصبحت المرأة لا تعيش إلا في جزء من لباسها في كثير من البلاد، والله تعالى يقول: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30] وقوله تعالى: {يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30] دليل على أن هناك صلة وثيقة بين النظر وبين الفاحشة، فقال: {يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30]، {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:31]، والشاعر يقول: كل الحوادث مبداها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر أيضاً نقول بعد ذلك: المرأة المسلمة أمامها خياران، وليس معنى قولنا: خياران أنها مخيرة في أحد الأمرين، بل أمامها طريقان: إما طريق السلامة وطريق الجنة، وهو الطريق الذي اختاره الله عز وجل لأفضل نساء العالمين، لزوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومواصفاته نجدها في قول الله عز وجل: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32] فلا ترقق كلامها ولو بتلاوة القرآن، أي: لو أرادت أن تقرأ القرآن فلا ترقق صوتها إن كان يسمعها أجنبي منها، فكيف بها تغني أمام رجال أجانب؟! إن الفرق بين الأمر وبين الواقع كما بين المشرق والمغرب، الله تعالى حرم عليها أن ترقق صوتها ولو بتلاوة القرآن، وهي الآن تتكسر وتغني يراها الرجال أمامهم ويسمعون صوتها، والله تعالى حرم عليها أن ترقق صوتها في أي كلام {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:32 - 33].
فالله تعالى يقول: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33] وأعداء الإسلام يقولون: تخرج المرأة، ويجب أن تشتغل، ويجب أن تنافس الرجال، ويجب أن يتنفس المجتمع برئتين.
وأنه تعالى يقول: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا * وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33 - 34] يعني: بلغن دعوة الإسلام، فكما أن الرجل مكلف بتبليغ دعوة الإسلام، فكذلك أيضاً المرأة مكلفة بتبليغ دعوة الإسلام هذا هو الخط الأول الذي يعترض سبيل المرأة.
وهناك خط معاكس يسعى إليه أعداء الإسلام اليوم لتسلكه المرأة، والعجيب أنهم يظهرون هذا المظهر وكأنهم أصدقاء وأحباء المرأة والمخلصون للمرأة، فهو طريق أهل النار وطريق نساء النار، وهذا الطريق هو الذي يقول الرسول صلى الله عليه وسلم عنه: (صنفان من أمتي لم أرهما بعد: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس) يعني: معهم عصي يضربون الناس ظلماً، يفقدون الناس حريتهم التي أرادها الله عز وجل لهم.
(ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رءوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا).
أمام المرأة هذان الطريقان: الطريق الأول: طريق الجنة، والطريق الثاني: طريق جهنم نعوذ بالله منه، ونعيذ بالله النساء المسلمات منه.(27/11)
المرأة في المملكة العربية السعودية
لا أظن أن امرأة في العالم أدركت شرفاً أو حقاً أو حرية كمثل المرأة في بلادنا، وإذا أردت دليلاً على ذلك فاسأل إدارة تعليم البنات: كم تتقاضى البنت التي تدرس بعيداً عن بلدها قليلاً، وكم يتقاضى أخوها الذي يحمل نفس المستوى وفي نفس السن؟ تجد أن المرأة بعض الأحيان تأخذ ضعفي راتب أخيها الذي يساويها في المستوى، إذاً أي حقوق أكثر من هذه الحقوق؟ نأتي إلى الزواج، يقولون: المرأة في بريطانيا مهرها نصف جنيه استرليني.
أي: ثلاثة ريالات، وبعض الأحيان تكلف هي بدفعه، فكم مهر المرأة في بلادنا؟ المرأة في بلادنا يأتيها رزقها في قعر بيتها، والمرأة في بلاد الغرب لابد أن تلهث وراء لقمة العيش، ولقد رأيت بعيني النساء وهن يركضن وراء الباصات ولو أن تتعلق إحداهن خلف السيارة لتصل إلى بيتها، ولكنها لا تصل إلى بيتها إلا في المساء، فهي تعيش معذبة طوال حياتها، والمرأة في بلادنا -والحمد لله- أميرة في بيتها، تتوافر لها كل وسائل الراحة والمتاع، وعلى الزوج أن يذهب بنفسه ليأتي بكل شيء إليها في بيتها.
وبالرغم من هذا فإن أعداء الإسلام يعتبرون هذا تخلفاً ورجعية، ويعتبرون المرأة مظلومة في بلادنا، ولذلك -يا أخي- اقرأ حتى صحفنا -ولا نريد أن نجابي- فستجد هذه الصحف العجيبة تتكلم عن أن المرأة مظلومة، فالمجتمع الذي لا يتنفس إلا برئة واحدة، لماذا لا تقود المرأة السيارة؟ لماذا المرأة لا تشارك في العمل؟ أي عمل أكبر من هذا العمل الذي تشارك فيه هذه المرأة في بلادنا؟! المرأة تربي رجالاً، المرأة مفتوحة لها المدارس، لكن يجب أن يكون لذلك كله حدود، أما أولئك فإنهم يريدون أن تتيسر لهم المرأة في بلادنا كما تتيسر في بلاد أخرى، فبدل أن يأخذوا هذه المراحل الطويلة يجدون المرأة في متناول أيديهم، هذا هو هدفهم حسب ما نعتقد، ولذلك فإن الله تعالى يحكم بيننا وبينهم وهو خير الحاكمين.(27/12)
بعض الشبهات التي يثيرها أعداء الإسلام عن المرأة في الإسلام
يقولون مثلاً: المرأة مظلومة.
وما دليل ذلك؟ يقولون أول ما يقولون من هذه المشكلات: تعدد الزوجات ظلم للمرأة! نقول: أولاً: نريد أن نناقشكم نقاشاً لفظياً قبل أن نناقشكم نقاشاً شرعياً، المرأة التي يتزوجها رجل ومعه زوجة هل سلبها من إنسان يريد أن يتزوجها ويستقل بها؟ لا.
هي امرأة جالسة في بيتها، وهي زيادة، وهذه الزيادة شيء مشاهد، فإن عدد النساء في كل مجتمع أكثر من الرجال، ولذلك فإن حكمة الله عز وجل أن جعل للرجل أربع زوجات؛ لأن المرأة في كل مجتمع أكثر من الرجل، ولذلك تقول الإحصائيات الرسمية: إن في ألمانيا المرأة تساوي ثلاثة أرباع المجتمع، والرجل يساوي الربع، ولذلك لا يمكن استيفاء النساء في ألمانيا إلا إذا تزوج الرجل ثلاث زوجات.
هذا شيء مشاهد دائماً، فانظر إلى سائر الإناث دائماً تجد أن الإناث أكثر عدداً من الذكور، إذاً: ما هو العلاج لهذا الأمر؟ العلاج لهذا الأمر أحد ثلاثة أشياء: إما أن تفسد المرأة، فجزء من النساء يستقل بالرجال، ويتزوج كل واحد واحدة وتبقى البقية للفساد، وإما أن تبقى للعنوسة، فتفقد عواطفها أيضاً، وإما أن تتزوج بزوج تشاركه فيها زوجة أخرى أو زوجتان أو ثلاث.
ومن حكمة الله عز وجل أن جعل هذا الأمر في الرجال والنساء، علماً أن الرجال يتعرضون للموت وللفناء أكثر مما يتعرض له النساء، فهم أكثر أسفاراً، وهم الذين يتعرضون للحروب وللنكبات أكثر من النساء، وعلى كل فإن هذا الواقع ليس له علاج إلا تعدد الزوجات.
نأتي إلى نواحٍ أخرى تتناسب مع عواطف المرأة: إن أكبر هدف للمرأة في الزواج هو إنجاب الأولاد؛ لأن الأولاد عاطفة تحبها المرأة كما يحبها الرجل، وإن المرأة إذا كانت مع زوج تشاركها فيه زوجة أخرى لا يؤثر ذلك على إنجابها، فإن الرجل الذي لديه أربع أو ثلاث زوجات أو زوجتان أو زوجة واحدة كل واحدة تأخذ بنصيب من النسل بحيث لا تأخذ واحدة منها حق الأخرى، وإن أخذت شيئاً من العشرة أو الاتصال.
إذاً أي ذنب في التعدد؟! الذنب في التعدد الذي يذكره هؤلاء لا حقيقة له، وعلى كل لو قلنا: إن فيه نقصاً لحق المرأة فالمرأة بحاجة إلى التعدد، ولولا أن الله عز وجل أباح التعدد لما كان كل النساء يتمتعن بالرجال، اللهم إلا عن طريق غير مشروع، وهذا هو الخطر الذي يحاربه الإسلام، ولذلك فإن المجتمعات التي قامت وحاربت التعدد أصبحت نسبة النساء فيها تفيض بشكل لا يتصوره أحد، حتى أدى ذلك إلى فساد عريض في تلك المجتمعات، فأصبحت المجتمعات الكافرة تطالب في أيامنا الحاضرة في بعض الأحيان بتعدد الزوجات من أجل استهلاك هذه الطاقة النسوية الموجودة.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفق حكومتنا للأخذ على أيدي المخربين والسفهاء، وأسأله سبحانه أن يوفق الشعوب الإسلامية كلها إلى الالتزام بالمنهج الذي رسمه الرسول صلى الله عليه وسلم لهذه الأمة، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها.(27/13)
الأسئلة
يقولون مثلاً: المرأة مظلومة.
وما دليل ذلك؟ يقولون أول ما يقولون من هذه المشكلات: تعدد الزوجات ظلم للمرأة! نقول: أولاً: نريد أن نناقشكم نقاشاً لفظياً قبل أن نناقشكم نقاشاً شرعياً، المرأة التي يتزوجها رجل ومعه زوجة هل سلبها من إنسان يريد أن يتزوجها ويستقل بها؟ لا.
هي امرأة جالسة في بيتها، وهي زيادة، وهذه الزيادة شيء مشاهد، فإن عدد النساء في كل مجتمع أكثر من الرجال، ولذلك فإن حكمة الله عز وجل أن جعل للرجل أربع زوجات؛ لأن المرأة في كل مجتمع أكثر من الرجل، ولذلك تقول الإحصائيات الرسمية: إن في ألمانيا المرأة تساوي ثلاثة أرباع المجتمع، والرجل يساوي الربع، ولذلك لا يمكن استيفاء النساء في ألمانيا إلا إذا تزوج الرجل ثلاث زوجات.
هذا شيء مشاهد دائماً، فانظر إلى سائر الإناث دائماً تجد أن الإناث أكثر عدداً من الذكور، إذاً: ما هو العلاج لهذا الأمر؟ العلاج لهذا الأمر أحد ثلاثة أشياء: إما أن تفسد المرأة، فجزء من النساء يستقل بالرجال، ويتزوج كل واحد واحدة وتبقى البقية للفساد، وإما أن تبقى للعنوسة، فتفقد عواطفها أيضاً، وإما أن تتزوج بزوج تشاركه فيها زوجة أخرى أو زوجتان أو ثلاث.
ومن حكمة الله عز وجل أن جعل هذا الأمر في الرجال والنساء، علماً أن الرجال يتعرضون للموت وللفناء أكثر مما يتعرض له النساء، فهم أكثر أسفاراً، وهم الذين يتعرضون للحروب وللنكبات أكثر من النساء، وعلى كل فإن هذا الواقع ليس له علاج إلا تعدد الزوجات.
نأتي إلى نواحٍ أخرى تتناسب مع عواطف المرأة: إن أكبر هدف للمرأة في الزواج هو إنجاب الأولاد؛ لأن الأولاد عاطفة تحبها المرأة كما يحبها الرجل، وإن المرأة إذا كانت مع زوج تشاركها فيه زوجة أخرى لا يؤثر ذلك على إنجابها، فإن الرجل الذي لديه أربع أو ثلاث زوجات أو زوجتان أو زوجة واحدة كل واحدة تأخذ بنصيب من النسل بحيث لا تأخذ واحدة منها حق الأخرى، وإن أخذت شيئاً من العشرة أو الاتصال.
إذاً أي ذنب في التعدد؟! الذنب في التعدد الذي يذكره هؤلاء لا حقيقة له، وعلى كل لو قلنا: إن فيه نقصاً لحق المرأة فالمرأة بحاجة إلى التعدد، ولولا أن الله عز وجل أباح التعدد لما كان كل النساء يتمتعن بالرجال، اللهم إلا عن طريق غير مشروع، وهذا هو الخطر الذي يحاربه الإسلام، ولذلك فإن المجتمعات التي قامت وحاربت التعدد أصبحت نسبة النساء فيها تفيض بشكل لا يتصوره أحد، حتى أدى ذلك إلى فساد عريض في تلك المجتمعات، فأصبحت المجتمعات الكافرة تطالب في أيامنا الحاضرة في بعض الأحيان بتعدد الزوجات من أجل استهلاك هذه الطاقة النسوية الموجودة.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفق حكومتنا للأخذ على أيدي المخربين والسفهاء، وأسأله سبحانه أن يوفق الشعوب الإسلامية كلها إلى الالتزام بالمنهج الذي رسمه الرسول صلى الله عليه وسلم لهذه الأمة، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها.(27/14)
حكم الجمعيات النسوية
السؤال
أشرتم أثناء الحديث إلى وجود جمعيات نسوية، وقد كثر التساؤل حول هذه الجمعيات، ونرجو مزيد الحديث عنها؛ لأنها في الحقيقة لها أعمال جيدة، وملموس فيها فائدة، فما رأيكم فيها؟
الجواب
الحقيقة أنا لا أعرف ما يحدث وراء هذه الجمعيات، ولا ما تزاوله النساء داخل مراكز هذه الجمعيات، لكن من المؤكد الذي لا شك فيه -أولاً- أن إخراج المرأة من البيت بهذا الشكل فيه أخطار كثيرة، والله تعالى يقول للنساء: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33]، وهذا يؤدي إلى خروج وخروج طويل.
ثانياً: تربية عواطف الأولاد؛ يلزم المرأة بأن تبقى في بيتها، ولذلك أعداء الإسلام الذين حالوا بين الطفل وبين أمه أخرجوا طفلاً لا إنسانياً ولا دينياً، الشيء المؤكد أيضاً داخل هذه الجمعيات -أو المتوقع- أن يكون هناك توسع واختلاط بين أنواع من النساء، فهناك المحافظة والمنحلة، وهناك المعتدلة والمتوسطة، وهناك ما هو أقل من ذلك، وأخشى أن تنصهر كل واحدة في الأخرى، وعلى كل فإني أخشى من أن تكون بدلاً عن الأندية الرياضية التي كنا نخاف على الشباب منها، وكانوا يقضون وقتاً طويلاً داخل أسوار هذه الأندية، وإذا كنا نخاف على الشباب فمن باب أولى أن نخاف على الشابات؛ لأن فتنة النساء لا تساويها فتنة، وعلى كل فأعتقد أن البعد عنها خير من القرب.(27/15)
شروط خروج المرأة للأسواق
السؤال
هل يجوز للمرأة أن تخرج إلى الأسواق لقضاء ما تحتاجه بدون محرم، علماً بأنها ترى بعض النساء يخاطبن الباعة وجهاً لوجه، وفي إحدى زوايا المحل؟
الجواب
المحرم لا يلزم إلا في حالتين: الحالة الأولى: السفر، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا ومعها ذو محرم).
الحالة الثانية: الخلوة بالرجل الأجنبي، لا يجوز لرجل أن يخلو بامرأة إلا ومعها ذو محرم, وعلى كل فإن ذهابها إلى السوق إذا كان لحاجة ملحة وبأدب وبلباس ساتر، وبدون طيب، وبدون ملابس ضيقة ولا شفافة، وبحياء وبدون صوت جذاب فهذا شيء لا بأس به، لكن بهذه الشروط كلها، أما إذا كانت هناك نساء يخرجن ويكلمن الرجال بصوت رقيق فإن على هذه أن تبتعد، وأن تقدم النصح لهؤلاء النساء، أما منع النساء من الخروج فإن هذا لا أصل له في الشرع، فالأصل إباحة الخروج للمرأة، إلا أنه يجب أن يكون بهذه الشروط، ولكني أنا أدعو الرجال إلى أن يقوموا بحاجات النساء؛ لأني أجد كثيراً من النساء -وخصوصاً الفتيات- يتزاحمن أمام الخبازين وأمام الدكاكين، ويدخلن داخل المعارض البعيدة المدى، والتي فيها مداخل يميناً وشمالاً، وهذا كله خطر، فأنا أدعو الرجال إلى أن يقوموا بحاجات نسائهم حتى لا يحتجن إلى هذا الخروج.(27/16)
حكم تزويج المصرين على الكبائر والفجور
السؤال
ابتليت بصهر يزاول شرب الخمر، ويُخشى على ابنته من بقائها معه أن يحصل لها شيء غير سوي، فهل يحاول طلاقها أم ماذا يفعل؟
الجواب
الحقيقة أن هذه المشكلة تتكرر دائماً الأسئلة عنها، وكثيراً ما نسمع عن رجال تأخذهم العواطف غير الدينية ليزوجوا رجالاً لا دين لهم، وهناك ما هو أكبر، هناك من يزوج من لا يصلي، وبعض الأحيان نتصل بالتلفون ونقول: اتق الله، هذا الرجل لا يصلي! فيقول: ما لك ولي.
فيزوجه وهو لا يصلي، وهذا خطر كبير، فيجب أن نبدأ من الصلاة قبل أن نبدأ بالخمر مع خطورته، فالشاب الذي لا يصلي لا يجوز أن نزوجه امرأة مسلمة؛ لأن الله تعالى حرم علينا أن نبقي المسلمة مع الكافر، فكيف نزوجه ابتداءً، والله تعالى يقول: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة:10]، والرجل الذي لا يصلي مرتد كافر خارج عن دين الإسلام، وعلى هذا نقول: إن عليك -يا أخي- أن تحتاط لابنتك، فهذه أمانة في عنقك، احذر أن تقدم المال أو النسب أو المركز أو الشهرة أو المظهر على الدين، فإنك لو قدمت أحد هذه الأشياء على الدين ندمت.
ونقول: لقد ابتلي أناس بأناس يشربون الخمر فزوجوهم بناتهم، ابتلي أناس بأناس لا يصلون ولا يعرفون الله طرفة عين وزوجوهم بناتهم، وبعض هؤلاء عقلاء، لكن فقدوا هذا العقل أيام الخطبة، لكن بعد ذلك أدركوا فأصبحوا في حيرة من أمرهم، ثم أنجبت هذه البنت أولاداً، ماذا يعمل بهذا الرجل الذي لا يصلي؟ ماذا يعمل بهذا الرجل الذي يشرب الخمر؟ الحل: الوقاية خير من العلاج، فإذا أردنا أن نزوج بناتنا فعلينا أن نبحث عن الأتقى، ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقل عبثاً وإنما قال: (إذا خطب منكم من ترضون دينه وخلقه)، وأنت -يا أخي- لو أردت أن تشتري داراً فإنك تبحث عن جيرانها، وهذا أولى من الجار، ولو أردت أن تشتري سلعة فإنك تبحث عن كل ما فيها من العيوب، وهذه البنت هي أول من يجب أن تهتم به ويجب أن تحافظ عليه؛ لأنها أمانة في عنقك، ولذلك أقول: عليك أن تحتاط احتياطاً كبيراً، فإذا خطب منك رجل ولو أحسنت الظن به فعليك أن تسأل عنه أياماً، من يجالسه، ماذا يستعمل، في أي مسجد يصلي، من يعرف.
أما إذا تساهلت فالمصيبة ستقع، وإنا لنسمع عن أناس يفعلون الفواحش والنساء قد ضاقت منهن، ولا تدري كيف تتصرف المرأة، ويومياً يتصل بنا نساء يقول بعضهن: زوجي لا يصلي.
زوجي يشرب الخمر.
والعلاج صعب في مثل هذه الحالة، العلاج نملكه يوم كنا نملك رأس الخيط ونمسك برأس الخيط، فحين خطب ننظر هل يصلح أو لا يصلح، أما بعد ذلك فهناك علاج، لكن هذا العلاج يحتاج إلى قوة وشجاعة، والعلاج أنه إذا كان لا يصلي يجب أن تطلب المرأة الطلاق، أو يجب أن يطلب وليها الطلاق، بل لا يجوز للولي أن يسكت عن هذا الذي لا يصلي؛ لأن بقاء هذه المرأة المسلمة في عصمة هذا الرجل الكافر لا يجوز، حتى قال بعض العلماء: حتى الأولاد الذين ينجبهم هذا الرجل وهذه المرأة أولاد غير شرعيين، هذا رأي لبعض العلماء المعاصرين، وهم يشبهون أولاد الزنا، ما دام هو كافراً وهي مسلمة لا يجوز هذا؛ لأن هذا زواج غير شرعي، والزواج غير الشرعي يكون الأولاد فيه غير شرعيين، وعلى هذا نقول: الأمر خطير، فإذا أردت أن تزوج فابحث، وإذا ابتليت بمثل هذا فإن كان لا يصلي فعليك أن تطلب الفراق فوراً، أو يرجع إلى الإسلام، وإذا كان يشرب الخمر فعليك أن تعالج المشكلة قدر الاستطاعة؛ لأن هذه الخمرة الخبيثة ستنتقل بواسطة النطفة إلى أولاد بنتك، فيكون لك أسباط منحرفين، وربما يصابون بالجنون أو بالخبل، فعليك أن تسعى قدر الاستطاعة لإصلاح هذا الرجل ما استطعت وإلا فعليك أن تسعى في التفريق، خصوصاً قبل أن يوجد الأولاد، هذا هو ما أعتقده، والله هو المستعان.
وينبغي أن يعلم أن هناك مصائب أخرى للخمر، منها تهديد أمن المرأة، ففي أي لحظة إذا كان زوجها يتناول الخمر -ولأنه يفقد عقله- ربما يقتلها في يوم من الأيام، وفي أقل الحالات أنه سوف يؤثر على عقلها وشخصيتها، وأخطر هذه الأمور: أنه ربما ينتقل هذا البلاء بواسطة النطفة إلى ذرية هذه البنت، فيكون أسباطك مصابون بمشكلة إدمان الخمر، نسأل الله العافية؛ لأن هذا يؤثر حتى على العقل.(27/17)
حكم أخذ الزوج جزءاً من راتب المرأة
السؤال
امرأة موظفة لها راتب، وزوجها يريد أن يأخذ نصفه، فهل يحق له ذلك شرعاً؟
الجواب
لا يحق له شرعاً، إلا إذا كان هناك شرط، مع أن هذا الشرط أعتقد أنه شرط غير صحيح وشرط فاسد، راتبها حق لها ولا يجبرها على أن يأخذ شيئاً منه، إلا إذا تطوعت هي فأعطته إياه، فلها ذلك، أما أن يجبرها فليس له ذلك أبداً، لكن له حق إجبارها على منعها من العمل هذا إذا لم يكن هناك شرط مشروط عليه.(27/18)
رد شبهة أن كشف الحجاب يزيل الوحشة بين الجنسين
السؤال
هناك مشكلة تثار، وهي أن الحجاب هو سبب الفتنة، أما لو نزع الحجاب فسيكون الأمر طبيعياً، فما هو الحكم في هذا؟
الجواب
هذا غير صحيح، والدليل على أنه غير صحيح أن أناساً يزعمون أن خلط الرجل بالمرأة يزيل الوحشة، ويزيل الشهوة بين الرجل والمرأة، وهم كاذبون بدليل الواقع، ولذلك نقول: نستطيع أن نرد على هذه الشبهة بالسؤال المطروح: هل المجتمعات التي أزيل فيها الحجاب فقدت منها الفتنة؟ الفتنة في البلاد التي تكشفت فيها المرأة وتبرجت أضعاف مضاعفة، بخلاف المجتمعات التي تحجبت فيها المرأة، والدليل على ذلك أيضاً أن الله سبحانه وتعالى قال: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30] فهو دليل على أن هناك اتصالاً بين النظر وبين الزنا، سواء في ذلك الرجل والمرأة، وعلى كلٍ فإنها دعوى كاذبة، ونقول: هاتوا برهانكم.
أما المجتمعات التي تبرجت فيها المرأة وكشفت عن وجهها وأسفرت عن كثير من جسدها فقد زادت فيها الفاحشة أضعافاً مضاعفة، ولكن لم يكن أمام أولئك إلا أن يفتحوا السبيل لهذه الفاحشة.(27/19)
تفسير قوله تعالى: (والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات)
السؤال
نرجو تفسير هذه الآية، وهي قول الله عز وجل: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور:26]؟
الجواب
هذه الآية جاءت في آخر آيات الإفك، وآيات الإفك معروفة في سورة النور، فلما اتهم بعض المنافقين -واغتر بهم بعض المسلمين- زوجة الرسول صلى الله عليه وسلم عائشة، واتهموها بالزنا كما هو معروف في قصة الإفك، وأنزل الله عز وجل براءتها، وتحدث عن قصة الإفك أراد الله عز وجل أن يثبت دليلاً على كذب هؤلاء الذين يزعمون الفاحشة في بيت الرسول صلى الله عليه وسلم، وجاء لهم بهذا الدليل العقلي، فقال: {الطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور:26] يعني: الرسول صلى الله عليه وسلم طيب، ولا يمكن أن تكون زوجته إلا طيبة، وهو طاهر ولا يمكن أن تكون زوجته إلا طاهرة.
وكذلك الخبيث دائماً يوفق لامرأة خبيثة، والمرأة الخبيثة توفق لرجل خبيث، فهذا دليل على أن بيت الرسول صلى الله عليه وسلم بيت نظيف نزيه، لم يحدث فيه ما قاله هؤلاء المنافقون المروجون لهذه الفاحشة، ولكن القاعدة في التفسير أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولذلك فإن الله عز وجل حرم أن يتزوج العفيف بزانية حتى تتوب، كما حرم أن تتزوج العفيفة بزان حتى يتوب، كما في قوله تعالى: ((الزَّانِي لا يَنكِحُ)) [النور:3] أي: لا يتزوج {إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور:3]، ومعنى ذلك أن هذا الحكم أصبح عاماً، فيجب أن تكون العفيفة للعفيف، والطيبة للطيب.(27/20)
حكم تعليق الصور
السؤال
أنا -ولله الحمد- بار بوالدي كثيراً، وقد علقت بعض صورهما في غرفتي، فهل هذا من البر في شيء؟
الجواب
هذا ليس من البر، البر له حدود، البر هو أن تحسن إلى والديك، تتلطف معهما في الكلام، تنفق عليهما، تكرم صديقهما إذا كانا ميتين، تصل الرحم التي لا توصل إلا بهما إذا كانا ميتين، إلى غير ذلك من أنواع البر والإحسان والعطف واللطف والتلطف مع الأبوين.
أما تعليق الصور فأصله منهي عنه، وأول ما بدأت عبادة الأصنام بتعليق الصور، ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة حطم الأصنام وصوراً كانت قد علقت في الكعبة، وبدأ يكسرها ويقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ} [الإسراء:81] وعلى هذا فإن تعليق الصور في البيوت يعتبر خطراً كبيراً وخطأ، ولذلك فإني أقول: إن تعليقها وسيلة وذريعة إلى خطر أكبر، كما أن أصل التصوير بدون سبب وبدون فائدة منهي عنه، إذاً فتعليق الصور بهذا الشكل -خصوصاً الصور المكبرة، وأفظع من ذلك وأعظم من ذلك صور النساء- يعتبر من الأمور المنهي عنها.(27/21)
حكم عمل المرأة ممرضة
السؤال
ما رأيكم في عمل المرأة ممرضة في المستشفيات لرعاية النساء المريضات فقط؟
الجواب
الإسلام لا يعارض تعليم المرأة، كما أنه لا يعارض عمل المرأة، فقد كان من النساء المسلمات من تخرج في أيام الغزو مع الرسول صلى الله عليه وسلم لتمريض الجرحى، وعلى كل نقول: دخول المرأة في مدرسة للتمريض، أو اشتغالها بالتمريض، أو دخولها في مستشفى للتمريض هذا الأصل فيه الحل، لكن له ضوابط وشروط وقيود، وأهم هذه الشروط أن تكون متحجبة محافظة لا تختلط برجال، ولا تخرج إلى هذا المكان إذا كان بعيداً عنها إلا بمحرم، ولا تستعمل أي نوع من المحرمات، لا تستعمل الطيب، ولا الملابس الشفافة الضيقة والقصيرة، وإذا التزمت بهذه الأشياء وكانت مع النساء وكانت محاطة بعيدة عن الرجال فأرجو أن يكون هذا من باب الحاجة والضرورة، أما إذا اختل واحد من هذه الشروط فإن النهي يأتي عن طريق هذا الشرط الذي فقد.(27/22)
الزواج في سن مبكر
السؤال
أنا طالب جامعي وحيد أسرتي، ويطلبون مني أن أتزوج، مع العلم أني لا أستطيع أن أنفق على هذه الزوجة، فهل تنصحوني بأن أتزوج، أم أصبر حتى تنتهي الدراسة ثم أتوظف وآخذ الراتب؟
الجواب
ننصحه بأن يبادر كما نصح الرسول صلى الله عليه وسلم الشباب، فإنه قال في الحديث الصحيح: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج).
وأقول: إن المبادرة بالزواج تعتبر من أهم الأمور التي تحصن هؤلاء الشباب، خصوصاً في وقت الفتنة الذي نعيشه اليوم، فإنه وقت خطير جداً فيه وسائل مغرية وفتن.
فأقول: بادر -يا أخي- بالزواج، وإذا كان يحول بينك وبين الزواج شيء من المال فإننا ندعوا إخواننا المحسنين والذين منَّ الله عليهم بهذا المال أن يقدموا المساعدات لمثل هؤلاء، وإذا كان العائق أمام هذا الأخ أن يبني بيتاً، أو يشتري سيارة جميلة أو ما أشبه ذلك فإني أقول: اتق الله يا أخي؛ فإن الزواج يقدم على كل هذه الأشياء، فباستطاعتك أن تستأجر بيتاً، وباستطاعتك أن تملك سيارة أقل مما تفكر فيه.
إن الزواج له أهمية لا تساويها أي أهمية أخرى، إن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا تزوج العبد فقد حفظ شق دينه، فليتق الله في الشق الآخر) يعني أن الزواج يساوي نصف الدين، وعلى هذا فإن كثيراً من الشباب نلاحظهم في أيامنا الحاضرة إذا قيل لأحدهم: تزوج قال: أريد أن أُكَوِّن نفسي.
إلى غير ذلك من الأعذار، إن الزواج يسبب الثراء، ويسبب توافر الخير بيد هذا المتزوج، والله تعالى يقول: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32]، هذا وعد من الله سبحانه وتعالى لمن تزوج وهو فقير أن يغنيه الله، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (ثلاثة حق على الله أن يعينهم) منهم الرجل يتزوج يريد إعفاف نفسه.
فأقول: أرجو -يا أخي- أن تكون من هؤلاء الثلاثة، ولو كنت لا تملك إلا شيئاً يسيراً فإن الله عز وجل يقول: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6]، فأنت لن ترزق المرأة حينما تتزوج بها، وإنما رزقها سيأتيها من عند الله عز وجل مباشرة، وسيفتح الله عليك طرقاً من الرزق ما كنت تفكر فيها قبل أن تتزوج، فبادر يا أخي.(27/23)
حكم قص المرأة شعر رأسها
السؤال
هل يجوز قص المرأة المتزوجة شعر رأسها، ونتف شعر وجهها وحاجبيها، وهل هذا يعتبر من الفتنة في شيء؟
الجواب
الذي أعتقده أن المتزوجة وغير المتزوجة على حد سواء، وأن شعر الرأس إذا كانت المرأة تريد أن تقص مقدمته أو مؤخرته أو أي جهة فإنا نقول: ما هو الهدف؟ فإذا كان الهدف هو التشبه بالكافرات فهذا ممنوع ومحرم؛ لأنه لا يجوز أن يتشبه المؤمن بالكفار والمؤمنة بالكافرة.
وإذا كان الهدف هو التجمل لزوجها إذا كانت متزوجة، أو لتخطب إذا كانت ستتزوج، ولا يأتي في ذهنها التشبه بالكافرات فأرجو أن لا يكون في ذلك بأس؛ لأن القاعدة: (الأصل في العبادات التحريم إلا ما جاء به الشرع، والأصل في العادات الحل إلا ما ورد الشرع بتحريمه) ولم يرد الشرع بتحريم أن تقص المرأة رأسها، بل قد روي خلاف ذلك، روي أن بعض زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم فعل بعضهن شيئاً من ذلك، وعلى كل فإن الأصل هو الإباحة إلا إذا كان قصد هذه المرأة التشبه بالكافرات فإن هذا ممنوع، لا لذاته وإنما لغيره؛ لأنها تريد أن تتشبه بامرأة كافرة، أما الأصل فأعتقد أنه هو الإباحة، والله تعالى أعلم.(27/24)
حكم إضاعة الأموال في تتبع الموديلات والأزياء
السؤال
هناك بعض النساء ترهق زوجها وتغضبه، وتجهد نفسها في شراء آخر موديلات الملابس، فما هو الحكم؟
الجواب
هذه من أكبر الأخطار، تتبع الموديلات والأنواع من الألبسة التي تواجد في الأسواق، وأخطر من ذلك هؤلاء الذين يروجون هذه الأشياء، حتى كان من هذه الموديلات ما يثير الفتنة في الرجال على النساء بسبب هذه الملابس، وعلى كل فأول وأقل ما في هذه الأمور هو تضييع المال، وهذا المال هو مال الله عز وجل؛ لأن الله قال: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:7]، فدل على أن هذا المال مال الله، فلا يجوز لأحد أن يتصرف فيه إلا فيما يرضي الله سبحانه وتعالى وفي المباح، والمغالاة في الألبسة والذهب والموديلات والموضات يؤدي إلى إفساد هذا المال، وهذا المال فيه حقوق كثيرة، فلنا إخوان كثيرون يفقدون لقمة العيش، ومن الذي يستفيد من هذه الأشياء؟! مصانع تكون في بلاد الكفر، وربما تذهب كل هذه الأموال أو جل هذه الأموال إلى بلاد الكفر التي تصدر لنا هذه الألبسة وهذه الأقمشة.
وعلى كل فإني أقول: نحن ملزمون بالاقتصاد، حتى لو كانت المرأة ذات مال وتحصل على المال بنفسها فإنها ملزمة بهذا المال أن تحافظ عليه وفق شرع الله عز وجل، أو كان هذا المال لزوجها فلا ترهق هذا الزوج بما لا تستفيد منه، أو بما لا يستفيد منه المجتمع، ولها أن تأخذ بنصيب من هذه الزينة؛ لأن الله تعالى يقول: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف:32]، لكن ليس لها أن تبالغ كما يبالغ كثير من النساء في أيامنا الحاضرة، فتغير الذهب بعد كل فترة، فتخسر فيه أموالاً كثيرة، وتغير الألبسة، وتهجر هذه الملابس الجديدة التي تغيرت الموضة بالنسبة لها وجاءت موضة جديدة، هذه من أكبر الأخطار وأكبر الفتن، أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفق النساء للالتزام والمحافظة.(27/25)
حكم أخذ الولي مهر موليته
السؤال
هل يجوز لولي أمر المرأة أن يأخذ مهرها وينفقه في مصالحه، وأن يدخل ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: (أنت ومالك لأبيك)؟
الجواب
هذا لا يجوز، والصداق للمرأة، فالله تعالى يقول: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء:4] دليل على أنه حق للمرأة، حتى الأب لو كان أنفق عليها وخسر أموالاً كثيرة على تربيتها ليس له حق في هذا المهر؛ لأن هذا الإنفاق واجب على الرجل يوم كان ينفق عليها؛ لأنه أمر بالإنفاق على ابنته كما أمر بالإنفاق على سائر من تلزمه النفقة عليهم، وعلى كل فإن هذا المهر للمرأة، ولا يجوز للرجل أن يأخذه بدون إذنها إلا إذا رضيت هي، كما لا يجوز للرجل أن يصرفه على موائد وحفلات الزواج بدون إذنها وبدون إرادتها، ولكن لها أن تتطوع فتقدم لأبيها أو لأي واحد من أقاربها شيئاً من هذا المهر، أما إذا كانت لا ترضى ذلك فإنه لا يجوز؛ لأنه حق لها وليس حقاً له هو.
أما قوله صلى الله عليه وسلم: (أنت ومالك لأبيك) فهذا له شروط، يقول العلماء: من شروطه أن لا يأخذه فيضر بالولد، وأن لا يأخذه ليتملكه ولد آخر؛ لأن فيه ظلماً، فإذا كان هذا الأب مضطراً وليس له غير هذه البنت وهو مضطر إلى النفقة، وإلى أن يعيش بشيء من هذا المال فلربما يتسامح في شيء من ذلك، أما الأصل فإنه مال للمرأة، فلا يجوز أن يأخذه ليتملكه ولد آخر، أو إذا كان يشاركه أولاد آخرون في هذا المال فكذلك لا يجوز أن يأخذه؛ لأن هذا ظلم لهذه المرأة أن يأخذه منها ليعطيه أولاده الآخرين.(27/26)
إلزام الزوج بنفقة زوجته العلاجية
السؤال
علاج المرأة هل هو على الأب أم على الزوج؟
الجواب
الأصل أن كل النفقة على الزوج، والعلاج جزء من النفقة، وعلى هذا نقول: إن المرأة إذا تزوجت أصبح الأب غير مسئول عنها، وأصبح الزوج ملزماً بالنفقة على زوجه في كل صغيرة وكبيرة، اللباس والعلاج والسكن والنفقة وغير ذلك من الأشياء التي لابد منها للإنسان، فالأب غير مسئول منذ أن يعقد الزوج على هذه البنت، وتصبح المسئولية هي مسئولية الزوج.(27/27)
مجمل الأخطار التي تحيط بالمرأة
السؤال
ما هو مجمل الأخطار التي تلاحق المرأة؟
الجواب
نستطيع أن نلخصها في أمور: فمن هذه الأخطار: دعاة الضلال الذين يخدعون المرأة باسم حقوقها وحريتها، وهؤلاء يكثرون في أيامنا الحاضرة تحت ستار تعليم المرأة، فتعليم المرأة حق من حقوقها، لكن هذا التعليم يجب أن تكون له ضوابط، فيجب أن يقف عند حد معين بحيث لا يتعارض مع سن الزواج الذي يرغب فيه في هذه المرأة, وأيضاً أنواع المعلومات ليست كلها من اختصاص المرأة، فالمرأة تختص بما تعرف فيه دينها، وتربية أولادها، والإعداد في بيتها إلى غير ذلك، مع بعض الأمور العصرية التي تحتاج إليها.
كذلك العزوف عن الزواج، وهذه من الأخطار، وهذا قد يكون عن طريق المرأة نفسها أو عن طريق الرجال، وطريق الرجال كما عرفنا يكون في عنصر من هذه العناصر، وهو غلاء المهور.
ومن هذه الأشياء المغالاة في المهور، وهذا قد يكون من جانب الأب أكثر؛ لأن البنت غالباً لا تطلب مقداراً معيناً من المهر، فقد يكون هذا الأب هو الذي يتسبب في المغالاة في المهور، فتفقد البركة بين الزوج والزوجة في هذا الزواج، ولذلك يكثر الطلاق بمقدار ما تزيد المغالاة في هذه المهور.
كذلك تقليد الأعداء، فهذه من أكبر الأخطار، والمرأة لديها من العواطف وضعف الشخصية ما هو أكثر من الرجل، بحيث تصاب المرأة بالتقليد أكثر مما يصاب به الرجل.
وأنبه على أن العزوف عن الزواج يعتبر من أكبر المشاكل، وربما تكون له أسباب تكوينية في هذه المرأة، وهذا لا تؤاخذ عليه المرأة أو الرجل، وإنما إذا كانت الأسباب عن طريق الإنسان نفسه يصطنعها ليؤدي ذلك إلى العزوف عن الزواج، وأهمها: إذا كان التعليم لا يقف عند حد، أو كانت هناك مغالاة في المهور تؤدي إلى أن ينصرف الناس عن هذه المرأة، أو كانت هناك مغالاة في النسب، بحيث يشعر هذا الرجل بأنه أعلى الناس نسباً، ولا يريد إلا نوعاً يشابهه في هذا النسب، فإذا جاءت هذه الأمور أدت إلى انصراف الناس عن هذه المرأة، فيؤدي ذلك إلى عنوستها.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(27/28)
السعي المشكور
لقد استنفر الله سبحانه وتعالى هذه الأمة للجهاد في سبيله، ورتب عليه العزة في الدنيا، والفوز في الآخرة، ومن الجهاد في سبيل الله: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهو سفينة النجاة للمجتمعات والأمم، وهو صمام أمان من الهلاك والعقاب، وله شروطه وضوابطه التي حددها الشرع، والتي ينبغي على من يتعدى له أن يتعلمها ويلتزم بها.(28/1)
همة النصارى وكسل الدعاة إلى الله
نحمد الله حمداً طيباً مباركاً فيه، ونثني عليه الخير كله، ونشكره ولا نكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله ومن دعا بدعوته، ونصح لأمته إلى يوم الدين.
أما بعد: فكل الناس يعملون، منهم من يعمل للدنيا، ومنهم من يعمل للآخرة، ومنهم من يسعى ليدمر أخلاق الأمة، ومنهم من يسعى لحماية هذه الأمة من مزالق البلاء والدمار، ومنهم من التبس عليه الأمر فأصبح سعيه في نظره مقبولاً وعند الله مرفوضاً، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:204 - 205].
ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (كل الناس يغدو -أي: يسير ابتداءً من الصباح منطلقاً مبكراً للعمل- فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها) إما أن يبيعها الله عز وجل ويعتقها من النار، وإما أن يوبقها، وكلهم يعملون، ولربما يتعب أعداء الإسلام الذين يحاربون الإسلام ولا يرجون الجنة أكثر من أن يتعب دعاة الخير والصلاح، لكن الفرق بيننا وبينهم: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ} [النساء:104].
وإن أعجب ما أتعجب له حينما أدخل في مجاهل أفريقيا في غابات موحشة، فأرى فتياناً وفتيات من النصارى يأتون من قلب أوروبا ومن روما، يركبون البقر، ويتجولون في الغابات الموحشة، ويشربون المياه الآسنة، مع شظف العيش والبعوض والحر والمخاوف والمخاطر وهم في سن مبكرة في أيام الشباب والنعومة، ثم أتعجب وأتساءل: لماذا جاء هؤلاء؟ لماذا هؤلاء لم يتمتعوا ببلادهم التي هي متعة الناس، وهم لا يرجون الجنة؟! فأتذكر قول الله تعالى: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ} [النساء:104] وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال:36].
لكني أعجب من كون هؤلاء أبناء النصارى وبنات النصارى الذين لم تبق فطرتهم السليمة، بل حيل بينهم وبينها، وهم حطب لجهنم إلا إذا دخلوا في الإسلام، وأسأل مرة أخرى وأقول: أين أبناء المسلمين؟ بل أين أبناء الجزيرة العربية؟ أين أبناء مكة والمدينة وما حولها الذين هم أول من حمل هذه الرسالة وأول من كُلف بها، وهم أول من يُسأل عنها يوم القيامة؟! فلا أستطيع أن أجيب نفسي؛ لأني لا أرى إلا نادراً من أولئك، أما الكثرة الساحقة فهم أبناء النصارى الذين يعيثون في الأرض فساداً.
قلت: سبحان الله! سنة الله في الذين خلوا من قبل: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ} [النساء:104].
وصدقني -أخي الكريم- أن هناك غابات في وسط أفريقيا ندخلها لا نصل إليها إلا بشق الأنفس، بسيارات جيب خاصة جداً، تخترق الرمال والوحوش والأمور المخيفة، ثم نجد هؤلاء الذين يعيشون طيلة حياتهم قد تطوعوا سنين طويلة في حرب أبناء المسلمين على الفطرة، يأخذون الأطفال من أمهاتهم الفقيرات، فيربون الأطفال، تربيهم المرأة على الحليب المركز، وتحتضن هذا الطفل الأسود وهي أشد بياضاً من الشمس، فتربيه كأنها تربي طفلها الذي خرج من جوفها، وأبناء المسلمين أكثرهم يغطون في نوم عميق!(28/2)
شروط العمل المقبول عند الله تعالى
يذكر الله عز وجل شروطاً للعمل المقبول، بعد أن ذكر أقواماً همهم الدنيا كالآلة التي تدور وتتحرك في الوقود بدون إرادة، لا يشتغلون إلا بالدنيا، ولا يريدون إلا العاجلة، ولا يفركون في غير المتاع، يسمنون أنفسهم وأهليهم كما تسمن الماشية، لا يهتمون إلا بالطعام والشراب والجنس وما أشبه ذلك، ثم إذا قدموا على الله عز وجل إذا هم على أسوأ حال، يقول الله عز وجل عن هؤلاء: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء:18] ما يشاؤه الله تعالى لا ما يشاءونه هم، وليس كل ما يريدون، بل ما يريده الله سبحانه وتعالى، والنتيجة: {ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء:18] هؤلاء هم أصحاب العاجلة، وهؤلاء هم الذين ليس لهم هم إلا هم البهائم السائمة {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} [الأحقاف:3].
أما النوع الثاني فهم أقوام عرفوا الهدف الذي من أجله خلقوا، والحكمة العظيمة التي من أجلها كانوا، فعرفوا أن الدنيا دار ممر وليست دار مقر، وأن الآخرة هي الحيوان، فعلموا بعين البصيرة الحكمة التي من أجلها خلقوا، فكانوا كما أخبر الله عز وجل: {وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء:19]، فهذا هو السعي المشكور، وهذا هو الجهد المدخر عند الله سبحانه وتعالى، وهذا هو العمل الذي يجب أن يكون همَّ كل الناس، لا سيما في هذه الأيام التي تبين فيها -والحمد لله- الرشد من الغي.
خمسة شروط -يا أخي- لا بد منها في صحة العمل وقبوله عند الله سبحانه وتعالى.
خمسة شروط إذا أردت أن يقبل منك العمل فلا بد من أن تهتم بهذه الشروط الخمسة، ولا بد أن تتأكد من صحة وجودها في عملك، وإلا فإن الله تعالى أخبر أن هناك أقواماً يوم القيامة يصلون النار وقد كانوا في الدنيا خاشعين عابدين، قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية:2 - 4] يعني: بالرغم من أنها خاشعة في الدنيا وعاملة تعمل الصالحات (ناصبة) تبذل جهداً كبيراً ومشقة في سبيل العمل الصالح لكنها تصلى ناراً حامية، لماذا؟! لأن هذا العمل لا يقوم على أساس عقيدة صحيحة سليمة، ولأن هذا العمل لا يوافق منهجاً سليماً جاء به محمد عليه الصلاة والسلام من عند ربه، فكانت النتيجة: {تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية:4].
أما هؤلاء القوم فخمسة شروط تتحقق في أعمالهم، ويكون سعيهم مشكوراً.(28/3)
قصد وجه الله تعالى والدار الآخرة بالعمل
قال تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ} [الإسراء:19] أي عمل لا يراد به وجه الله والدار الآخرة لا ينفع صاحبه، ولذلك الله تعالى يقول عن قوم كفار عملوا خيراً: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النور:39]، تسير في الصحراء في شدة الحر فترى كأن أمامك ماءً، وينخدع ذلك العطشان بذلك الماء ويركض، كلما قرب منه ابتعد السراب الذي على وجه الأرض، حتى يهلك هذا الإنسان وهو يتبع ذلك السراب: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} [النور:40] وقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} [إبراهيم:18] أين ذهب هذا العمل؟ كأنه رماد خفيف الحجم والوزن هبت عليه ريح شديدة فطار في الهواء؛ لأن هذا العمل رماد وليس بنار، ولأن هذا العمل صورة وليس بحقيقة.
إذاً لا بد من إرادة الآخرة، والمنافقون لا يريدون الآخرة، وإنما يعملون العمل تقية حتى يعيشوا في المجتمع مع الناس، ولذلك الله تعالى لا يتقبل شيئاً من أعمالهم، قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23] العلمانيون -عليهم جميعاً لعنة الله إلى يوم القيامة- لا يعملون للآخرة، وإذا عملوا فإنما يعملون أموراً هم يستحسنونها فقط، فيقولون: هذا الدين عبادة فتذهب إلى المسجد، وتحج إذا جاء موسم الحج، وتتصدق على الفقراء من باب الإنسانية، وتصوم إذا جاء رمضان، لكن ما الذي يدخل الدين في أنظمتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاق؟! كل ما شئت، واشرب ما شئت، وافعل ما شئت، ولا تتقيد بهذا الدين في أي نظام؛ لأن هذا الدين للعبادة.
ويقولون: (ما لله لله وما لقيصر لقيصر) ولكن الله عز وجل يقول: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [البقرة:284] ولذلك أعمالهم كسراب بقيعة.
وهكذا سائر الملل والفرق التي تعبد الله سبحانه وتعالى بدون إرادة الآخرة، يتصدق فيقول: إنسانية وهكذا يؤوِّل كل عبادة من العبادات لمصلحة الدنيا لا لمصلحته هو في الآخرة.
العمل الصالح لا يصح إلا بإرادة ونية صادقة لا يريد من ورائها جزاءً ولا شكوراً من الناس، وإنما من الله سبحانه وتعالى، لا يبغي بها ثناءً من البشر، وإنما من الله عز وجل، إرادة جازمة للآخرة، هذه الإرادة لما كانت جازمة وثابتة في أعماق الفؤاد لا يستطيع أحد أن يطاردها ولو بقوة الحديد والنار، ولذلك تجد أنه كم بذل العدو في سبيل مطاردة هذا الدين فلم يفلح؛ لأنه وجد أمماً كالجبال لا يتحولون عن مواقعهم، قال الله عن مكرهم: {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم:46] لكنهم وجدوا أقواماً عرفوا الله عز وجل حق المعرفة، وآمنوا به حق الإيمان، فما استطاع العدو أن ينال منهم منالاً واحداً، ولا أن يكسب منهم فرداً أبداً.
ولقد كسب العدو أقواماً إيمانهم بسيط، إيمان تقليدي وراثي، ورثه هذا الإنسان من المجتمع الذي يعيش فيه، فأصبح هذا الإيمان غير ثابتٍ في أعماق القلب، وليست له جذور، فأدى ذلك إلى أن يتأثر هذا الإيمان بأول هزة، وكم نسمع أن فلاناً من الناس اهتدى واستقام، ثم نفاجأ بعد مدة وجيزة أنه استقام ورجع واستقام ورجع، السر في ذلك أن هذا الإيمان لم يتعمق في القلب، ولو تعمق في القلب ووصل إلى سويداء القلب ما كان أحد يستطيع أن يؤثر على هذا الإيمان، وسوف أضرب بعض الأمثلة: المثال الأول: أبونا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وصل إلى درجة من الإيمان لم يصل إليها إنسان قط إلا ما شاء ربك، يلقى في النار فيأتيه ملك من ملائكة الله فيقول: ألك حاجة؟ فيقول: أما إليك فلا، وهو في طريقه يهوي إلى نار تحرق الطير في السماء، يقول: أما إليك فلا.
ما خاف من النار؛ لأنه يعرف أن النار بيد الله سبحانه وتعالى، يؤمر بترك ولده الصغير الوحيد الطفل هو وأمه ليضعهما في مكة بواد غير ذي زرع، فيستجيب لأمر الله، وما قال: تأكل الطفل السباع أو تأكل أمه.
وإن كان الاحتياط مطلوب في الأصل، لكن استجابة لأمر الله سبحانه وتعالى.
ويؤمر بذبح ولده وقد بلغ معه سن السعي ثم يستجيب لأمر الله، ولم يقل: هذا ولدي الوحيد، ولقد بلغ سن السعي وأنا بحاجه إليه.
فيعلم الله صدق إيمانه فيفديه بذبح عظيم، ما هو السر في ذلك؟ هل إبراهيم عليه السلام ولد في بيئة متدينة، وعاش عيشة متدينة، وجد الأب يصلي والأم تصلي وقلدهما، أم أن إبراهيم عليه السلام ولد في بيئة كافرة كل من فيها كافر، ليس فيها رجل واحد مؤمن إلا إبراهيم عليه السلام؟ ولذلك الله تعالى يقول: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل:120] هو أمة والعالم كله أمة، وهكذا يكون الرجل المؤمن أمة في عالم يخالفه في المنهج والعقيدة؟! إبراهيم عليه الصلاة السلام ولد في بيئة كافرة، وأقرب الناس إليه وأكثر الناس عداوة له أبوه، قال الله تعالى: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم:46] لكن السر في ذلك أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام بحث في هذا الكون لينظر من يستحق أن يعبد، فنظر مرة إلى الكوكب فقال: {هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:76 - 79]، هنا يكون الإيمان القوي، ولذلك الله تعالى يقول لنا وللناس كافة: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الأعراف:185] ويقول تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [آل عمران:190 - 191].
مثل آخر: السحرة الذين جاء بهم فرعون ليقابلوا آية الله التي جاء بها موسى عليه الصلاة والسلام، سحرة ولدوا في بيئة كافرة، بيئة سحر، ومنذ طفولتهم وهم يتدربون على السحر، ويعيشون مدة طويلة من الزمن حتى كبر سنهم وهم لا يعرفون إلا السحر والكفر بالله سبحانه وتعالى، لكن هذه آية رأوها بأعينهم واستطاعت أن تمحو وتزيل كل آثار التربية السيئة التي ألفوها مدى الحياة، الذي حدث أن موسى عليه الصلاة والسلام ألقى العصا وهي آية الله العظمى لموسى عليه الصلاة والسلام، فرأوا أن مثل هذا لا يكون سحراً، وإنما هي آية من آيات الله عز وجل؛ لأنها فوق مستوى السحر، فإنهم قد فهموا السحر وهضموه هضماً كاملاً، فلما رأوا الآية تغير كل ما في عقولهم من التفكير السابق والتربية التي حقنت في دمائهم منذ الطفولة وقبل الطفولة وبعد الطفولة إلى تلك اللحظة، والفطرة موجودة في قلب كل واحد من الناس، لكن ما الذي حدث؟! كانوا قبل لحظات يقولون: (بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} [الشعراء:44] فماذا قالوا بعد ذلك لما رأوا الآية وماذا قال فرعون؟ خروا ساجدين لله تعالى، وهي السجدة الأولى والأخيرة بالنسبة لحياتهم العبادية، تصور -يا أخي- هذا التحول العجيب الذي يحصل! ثم ليس العجيب في أن يسجدوا لله عز وجل؛ لأن السجدة ما تكلف الإنسان جهداً كبيراً، العجيب أن أكبر طاغية في الأرض يحمل السكاكين والجلادين ويقسم لهم بأنه سوف يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، ويصلبهم في جذوع النخل، فماذا تتصور يا أخي! ساحر ما مر على إيمانه إلا دقائق، وكل حياته في الكفر، فماذا تتصور والسكاكين أمامه والجلادون والسيوف والحراب مجهزة لتقطيعه؟! أول ما يتبادر للذهن أن هذا سيرجع؛ لأن التربية القديمة قد غلبت عليه، ولكن ما الذي حدث؟!! الذي حدث أنهم استهانوا بكل الحياة وما فيها؛ لأنهم رأوا بأعينهم آية من آيات الله، آية واحدة!! كم نرى نحن من آيات! وكم مضى علينا ونحن نعيش في ظل هذا الدين! وكم تربينا في بيئات مسلمة! لكن هؤلاء ما مرت عليهم إلا دقائق، تصوروا أنه لما قال لهم: {فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} [طه:71] ماذا قالوا؟ قال تعالى: {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه:72] (ما) اسم موصول تفيد العموم، كل ما تريده اعمله، لكنها للاستهانة التي لغير العاقل، أي: نحن نستهين بك وبتهديدك، وبالجلادين الذين أشرعوا السيوف لتقطيع الأيدي والأرجل، وأقبلنا على الله عز وجل، ما تستطيع أن تؤثر على هذا الإيمان.
ثم تجد الاستهانة بالدنيا {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه:72] أي: اقض ما شئت.
ثم قالوا: (إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72] (إنما) للحصر، أي: الأمر الذي تريده منا بسيط، اقتلنا، وقطع رءوس مائة ألف ساحر، وقطع أيديهم وأرجلهم حتى يموتوا، لكن الإيمان لا تستطيع أن تصل إليه، فهم استهانوا وقالوا: {إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72].
وقالوا: {إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا ل(28/4)
السعي للآخرة
أول نقطة وأول شرط من شروط السعي المشكور الإرادة، وليست كل إرادة، هناك أناس يريدون الدنيا، فلا بد من إرادة الآخرة إرادة جازمة صادقة.
وهل الإرادة وحدها تكفي؟ لا تكفي وحدها، بل لا بد من السعي، والشجرة الباسقة ذات الجذور العميقة في قلب الأرض الفائدة منها محدودة إذا لم تكن لها ثمرة، والأعمال الصالحة هي ثمرة الإيمان، ولذلك الله تعالى يقول: (وَسَعَى) أي: بالأعمال الصالحة، يقول عليه الصلاة والسلام: (اغتنم خمساً قبل خمس: صحتك قبل مرضك، وحياتك قبل موتك، وشبابك قبل هرمك، وفراغك قبل شغلك، ودنياك قبل آخرتك) كم من الناس من يتغنى ويتحدث عن الإسلام اليوم لكن العمل قليل، ونحن لا نريد أن نقول ما لا نفعل {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف:3] لابد من العمل، عمل فيما بينك وبين الله، وعمل فيما بينك وبين الناس، عمل يسعدك أنت في دنياك وآخرتك، وعمل أيضاً يسعد الأمة التي أنت تعيش فيها والجيل الذي سيأتي بعدك، وهو عمل الجهاد في سبيل الله تعالى؛ لأن هذا الدين وضعه الله عز وجل في أعناق هذه الأمة جيلاً بعد جيل، فإن حمله الجيل الأول جنى ثمرة حمله الجيل الذي يأتي بعده، وإن ضيعه الجيل الأول تكبد مصيبته الجيل الذي يأتي بعده، ولذلك كم عاش الناس في ظل الدولة الإسلامية الوارفة التي بناها سلفنا الصالح رضي الله عنهم، وبقي المسلمون يتفيئون ظلها مئات السنين، ويسيرون أرجاء المعمورة قد رفعوا رءوسهم، إذا قيل لأحدهم: أين تذهب؟ - قال: إلى بلاد الإسلام؟ وإن قيل: من أنت؟ قال: أنا المسلم.
وإن قيل: ما جنسيتك؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
وإن قيل: ما هويتك؟ قال: أنا مسلم.
ليست هناك حدود تفرق بين الأمة الإسلامية، هذه ثمار عمل قدمها سلفنا الصالح، فماذا حدث بعد ذلك حينما نام من بعدهم؟ لم يستيقظوا إلا على الجماجم والأشلاء، ضاعت الأندلس، وضاعت دول كثيرة من بلاد المسلمين، وفي كل يوم يسقط حصن من حصون المسلمين، وفي كل يوم يتسلط الأعداء ويخرج عدو بلون جديد، حتى من أبناء جلدتنا.
ما هو السر في ذلك؟ هو النوم الذي أصاب هذه الأمة إذاً لا بد من أن تستيقظ هذه الأمة، لا بد من أن تعمل لآخرتها، لا بد من أن تعمل لدنياها، لا بد من أن تعمل للجيل الذي سوف يأتي بعدها، وهذه الصحوة الإسلامية المباركة -والحمد لله- ما تركت صقعاً من أصقاع هذا العالم إلا وأخذ منها بنصيب، فلا بد من أن ترعى هذه الصحوة، لا بد من أن تقدم لها النصيحة، ولا بد من أن تقدم لها الخدمات، ولا بد من أن تقدم لها الرعاية والتربية والعلم حتى تكون ثابتة، وتكون قاعدة لمن يأتي بعدها من الأجيال اللاحقة.
فهذه ثمرة الإيمان أيها الأخ المسلم، أما الإيمان التقليدي، إيمان: (وجدنا آباءنا على أمة)، إيمان (وجد أمه، تصلي فصلى مثلها) (وجد أباه يصوم فصام مثله) دون تصور لمعنى هذا فهذا الإيمان ضعيف يهتز في أي صدمة من الصدمات الصغيرة فضلاً عن الصدمات الكبيرة.
لما جاءت الصحوة الإسلامية استيقظ كل أعداء الإسلام، فالنصارى كانوا إلى عهد قريب يبيعون الكنائس، ويقولون: لسنا بحاجة لنحجزها بالملايين، ولا يحضر إليها إلا كبار السن في يوم الأحد.
وأول من تخلى عن هذا الدين الدول الكبرى التي كانت ترعاه، كأمريكا ودول أوروبا، فلما رأوا اتجاه المسلمين إلى الإسلام عادوا إلى دينهم المحرف المكذوب الذي ليس من دين الله المسيحي بشيء؛ لأنه محرف، وأصبحت الآن هناك عصبية دينية، وإذا أردت دليلاً على ذلك فانظروا إلى ما يوجد في بلاد الصرب الكفرة الفجرة مع إخواننا في البوسنة، وانظر إلى ما يوجد الآن في إرتيريا والحبشة ممن يسمون أنفسهم بالجبهة الشعبية وهم صليبيون، حتى إن رئيس الحبشة الجديد اسمه: ملس زيناوي ومعناه: معيد عصر النصرانية.
وهذا ليس هو اسمه، لكنه تسمى بهذا الاسم (ملس زيناوي) أي: معيد عصر النصرانية.
أي: سيعيد عصر هيلاسيلاسي الذي كان يذبح المسلمين بالآلاف في يوم من الأيام.
فلينتبه المسلمون، مع أن في الحبشة وحدها ثلاثين مليون مسلم، وليس فيها إلا عشرة ملايين نصراني، فالمسلمون ثلاثة أرباع السكان، فليسوا أقلية، ومع ذلك يعيشون أذلة؛ لأن المسلمين تركوا الجهاد في سبيل الله، وليس هناك طريق إلى النصر إلا الجهاد في سبيل الله، وإريتريا أكثرها مسلمون، ويحكمها النصارى الصليبيون الذين يعيثون في الأرض فساداً.
إذاً المسألة مسألة استيقظ فيها النصارى وخافوا أن يتساهل المسلمون بشأنهم، وماذا حدث في الفلبين؟ مائة ألف صليبي يطوقون منطقة المسلمين، ولا تظن أن المسلمين قلة في الفلبين، فعددهم ثلاثة عشر مليوناً من المسلمين والحمد لله، وأبشرك بأن أكثرهم في خير، فعندما تدخل ديار بعضهم في بعض المناطق الجبلية يفتشون السيارة حتى لا يكون فيها دخان؛ لأنه ممنوع التدخين داخل تلك البلاد، لكن عندما نزور مستشفياتنا ومراكزنا لا نرى فيها من الفلبينيين إلا النصارى، فما هو السر في ذلك؟ السر في ذلك أن المسئولية أصبحت خطيرة، فيندر أن نرى تايلاندياً أو فلبينياً مسلماً في موقع عمل حساس.
وفي تايلاند ثمانية ملايين مسلم في دولة كاملة في دولة (فطاني) التهمتها سيام بما يسمى الآن (تايلاند) أي: أرض الحرية.
وثلاثة عشر مليوناً من خيار المسلمين، وكما أن هناك من خيار المسلمين في تايلاند فالذين يأتون بالعمال لا يفكرون بهؤلاء المسلمين إلا في آخر وقت.
إذاً هذه أمور تتطلب منا أن ننتبه للخطر الذي يحيط بالأمة الإسلامية، وهذه أمثلة وهناك ما هو أكثر من ذلك.
إذاً: أنت -أيها الأخ المسلم- مطالب إلى أن تسعى، سواءٌ أكان لمصلحتك أم لمصلحة دينك، أم لمصلحة إخوانك المسلمين، وكلمة (سعى) ليس معناها مجرد عمل، معناها عمل جاد، وهناك فرق بين المشي والسعي، أقول: مشيت إلى مكتبي وسعيت إلى المسجد، ولذلك تجد أكثر الآيات والأحاديث التي تتكلم عن العمل للآخرة تأتي بلفظ السعي: {وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} [الإسراء:19] {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148] {وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [آل عمران:114] {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الحديد:21] (سارعوا) دائماً هكذا.
لكن تعال إلى الحديث عن الدنيا، يقول تعالى عنها: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} [الملك:15] لم يقل: (فاسعوا في مناكبها) وليس معنى ذلك أن تعطل الدنيا، لا، وإنما معنى ذلك أن نفرق بين اتجاهنا للحياة الدنيا وبين الحياة الآخرة، فإذا اتجهنا للحياة الآخرة فبركض وسعي، وإذا اتجهنا للحياة الدنيا فبمشي؛ لأن الله تعالى تكفل بالرزق للإنسان، ولكن لم يتكفل له الجنة، وعلى هذا فإن الله تعالى يقول: {وَسَعَى} [الإسراء:19] فلا بد من الأعمال الصالحة.
إذاً التحدث عن الإسلام والدندنة عن الإسلام والكتاب والسنة ما نريده إلا إذا كان معه حقائق وكان معه تطبيق على جميع المستويات الرسمية والشعبية، ما نقبل إلا ما كان مصدقاً بالعمل، وأنت -يا أخي- حينما تتحدث عن الإسلام فالإسلام كثر الكلام عنه هذه الأيام، لكن نريد تطبيقاً، نريد حياة عملية تعلمنا وتعلم الأجيال التي اتجهت إلى الله تعالى العمل للإسلام، وما هو الإسلام حقيقة، لا نريد أن تكون هناك ازدواجية في حياة الأطفال الذين يولدون في أيامنا الحاضرة ويسمعون الحديث عن الإسلام، فلا يرون العمل للإسلام إلا قليلاً، إذاً لا بد من سعي، لا بد من عمل جاد، لا بد من استغلال الفرصة قبل أن يهجم العدو على بقية بلاد المسلمين كما هجم على الكثير منها، حتى لا تكون هناك أندلس كبلاد الأندلس التي بلغت من الرقي والحضارة ما لم تبلغه حضارة اليوم، ومع ذلك لما نام المسلمون على الراحة والدعة لم يستيقظوا إلا على الدماء، ولربما يوجد في قادة الأمة الإسلامية من يريد أن يخدر هذه الشعوب، بل يوجد كثيرٌ، جلهم يخدر هذه الشعوب بالترف والنعيم والرخاء والوسائل حتى ينام هؤلاء المسلمون ولا يستطيعون الجهاد في سبيل الله، ولا يريدون أن يغيروا الأوضاع الراكدة التي ينعمون بها، وهذا خطر، فـ كعب بن مالك رضي الله عنه وصاحباه من خيار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فـ كعب بن مالك كان له بيت رشته إحدى زوجاته بالماء فأصبح بارداً، فجلس في الجو البارد والرسول صلى الله عليه وسلم ذاهب إلى تبوك، وقعد مثله صاحباه، فما الذي حدث؟ الله تعالى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يهجرهم، كما في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ} [التوبة:118]، بسبب تخلف عن غزوة واحدة.
أنت -أيها الأخ المسلم- مطالب بالسعي، وأوصيك بالدعوة إلى الله تعالى، والجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى؛ فإنه سبيل العزة والكرامة.(28/5)
الإخلاص لله سبحانه
ثم يقول سبحانه وتعالى: (وَسَعَى لَهَا) والجار والمجرور هنا يعطينا شرطاً جديداً، قد يكون هناك سعي لكنه ليس لها، وإنما لغيرها، فالمنافقون يسعون لا للآخرة وإنما للدنيا، والعلمانيون يريدون أن يتخذوا مما يشبه السعي للحياة الآخرة جسراً وممراً لخديعة الناس بأنهم مسلمون ومتدينون، وهكذا كل الفئات الأخرى، فلا بد أن يكون السعي ابتغاء مرضاة الله عز وجل ومن أجل إعزاز هذا الدين.
(سَعْيَهَا) وهذا شرط رابع أيضاً، فالأسلوب والمعنى يتم (وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ) الكلام تام، لكن قوله تعالى: (وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا) يعطينا شرطين جديدين: أن يكون السعي خالصاً لوجه الله عز وجل، وأن يكون سعياً لها، ما يناسب حجمها، وكم من الناس من يسعى الآن، لكن ليس هو سعيها الذي يوصل إليها، وإننا لنمر ببعض الأضرحة من أجل العبرة لنرى ماذا يعمل المسلمون حول الأضرحة والقبور، فنرى أموراً عجيبة لا أطيقها أنا ولا أنت ولا أتقى الناس، حركات وعبادة من أول الليل إلى آخره حتى الصباح، يهزون أجسامهم، ويرهقونها، لكن ليس سعياً للآخرة، وإن كان في ظاهر أمره حسب ما يعتقدون أو يموهون بأنه هو السعي المطلوب، يتمسح بالقبر ويطوف حوله، يخشع ويسجد، ويتمرغ بالأتربة حوله، إلى غير ذلك.
وكذلك أصحاب البدع الذين يبذلون أموالهم وجهدهم في سبيل بدعة من البدع، هذا هو ليس سعيها، سعيها هو كما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم، تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، حتى إذا قلنا لأحدهم: لا تذهب -يا أخي- إلى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم وتسأل حاجتك من دون الله، واذهب إلى الله، فقد قال تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:50]، والرسول صلى الله عليه وسلم نفسه كان يفر إلى الله، ويقول: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [الأعراف:188] إذا قيل لهم ذلك قالوا: أنتم لا تحبون الرسول عليه الصلاة والسلام.
نقول: أنتم الذين لا تحبونه؛ لأن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم ليست محبة عاطفة كمحبة الزوجة، ومحبة الأولاد، وإنما هي محبة عاطفة ومحبة متابعة، والله تعالى يقول: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31].
إذاً نحن مطالبون بأن نسعى لها سعيها لا سعياً لغيرها، سعياً يناسب حجم الآخرة وطريق الآخرة الطويل، وسعياً أيضاً يناسب المنهج الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم خالصاً صواباً، وهذا هو معنى شهادة أن محمداً رسول الله التي نرددها في الأذان، وفي الإقامة، وفي الصلاة وفي كل شيء، معناها: طاعته وتصديقه واتباعه، وأن لا نعبد الله إلا بما شرع، فمن عبد الله على غير ما شرع الرسول صلى الله عليه وسلم فأعماله كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً.
ومن عبد الله على غير ما شرع الرسول صلى الله عليه وسلم فهو العدو اللدود للرسول صلى الله عليه وسلم وإن كان عمله في الظاهر يعجبك وكأنه عبادة، لكن لا بد أن يكون موافقاً صواباً لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وإن عملنا عملاً لم يعمله الرسول صلى الله عليه وسلم فهو مردود علينا، ومن عمل عملاً ليس عليه أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ولا سلفنا الصالح -لا سيما الخلفاء الراشدون المهديون من بعده أبو بكر وعمر وعثمان وعلي - وعلى غير المنهج الصحيح فإن الله تعالى يرده على صاحبه ولا يقبله، لماذا؟ لأن من يفعل ذلك يتهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالتقصير، وأنه ما بلغ الرسالة كلها، فـ أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ما كانوا يقيمون مولد ذكرى مولد الرسول صلى الله عليه وسلم، ويأتي شخص بعد أربعة عشر قرناً من الزمن يقول: لا، إن من احترام الرسول صلى الله عليه وسلم أن نقيم مولده! والرسول صلى الله عليه وسلم ما عمل في ليلة النصف من شعبان أو ليلة الإسراء والمعراج أو ما أشبه ذلك عبادة حتى نحييها نحن فنقول: بدعة حسنة.
والرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول في كل خطبة جمعة: (وكل محدثة بدعة).
إذاً هو يكذب الرسول صلى الله عليه وسلم عندما يقول: هذه بدعة حسنة.
ويتهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالتقصير حينما يأتي بعبادة ما فعلها الرسول صلى الله عليه وسلم ولا السلف الصالح، ويدعي أن يحب الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر من محبة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم حينما يحدث عبادة ما فعلها هؤلاء.
فالمسألة خطيرة، بل إنه تكذيب للرسول صلى الله عليه وسلم حينما قال: (تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها) بل تكذيب لله عز وجل حينما قال سبحانه وتعالى في آخر آية نزلت من القرآن عشية عرفة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة:3]، ولذلك هؤلاء لا يستطيعون أن يدخلوا بدعة في دين الله إلا ويخرجوا مقابلها سنة؛ لأن الدائرة مقفلة وضيقة ومحدودة، لا تتسع لغير ما جاء من عند الله سبحانه وتعالى، فلا يمكن أن يدخل بدعة في وسط هذه الدائرة إلا ويميت سنة من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم.
إذاً لا بد من تنفيذ قوله تعالى: (وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا) ليس سعياً كما يروق لك، وكما يعجبك، العبادات مشروعة من عند الله عز وجل، وعلماء المسلمين يقولون: الأصل في العبادات التحريم، أي عبادة محرمة إلا إذا ورد دليل عليها، بخلاف العادات فالأصل فيها الإباحة إلا ما ورد دليل بتحريمه، فلو أن واحداً من الناس قال: الصلوات الخمس أنا أؤمن بها، لكني أريد أن أضع صلاة سادسة لأنه يوجد فصل طويل بين الصبح والظهر، وأريد أن أضع الصلاة السادسة بين الظهر والصبح في منتصف الضحى نقول: أنت مبتدع وكافر، وأنت مرتد عن دين الله.
مع أنه أحدث عبادة صلاة سادسة، فنقول: لا.
الله تعالى يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3].
فلو أن أحداً قال: أنا سوف أعتاد عمرة في يوم من الأيام أعتمر فيه نقول: العمرة عبادة، لكن لما وضعتها في وقت معين من دون دليل يحدد ذلك الوقت فإن هذا بدعة، وكل بدعة ضلالة، وهكذا.
إذاً -أيها الأخ الكريم- لا بد من أن نسير على منهج الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا بد من أن نسعى لها سعيها، لا سعياً كما يعجبنا نحن، بل كما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم.(28/6)
من شروط العمل المقبول الإيمان
الشرط الأخير قوله تعالى: (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) مصدق مقتنع، فلا نريد إيماناً كإيمان أبي العلاء المعري، فـ أبو العلاء المعري له قصيدة يقول في مضمونها في آخر حياته لما تاب: أنا سوف أعمل ولا يضرني هذا العمل الصالح، إن كان ما جاء به حق فأنا عملت، وإن كان ما جاء به باطل فأنا ما تكلفت شيئاً.
وهذا ليس من الإيمان، الإيمان أن تعمل وأنت مقتنع بأن هذا هو الدين الحق، أن تعمل وأنت تعرف أنه ليس هناك طريق للجنة إلا من خلال هذا الدين.
(وَهُوَ مُؤْمِنٌ) إيماناً جازماً، لو قطعت في سبيل هذا الإيمان وفي سبيل هذا المنهج والمبدأ الذي هداك الله عز وجل إليه فإنك لا تبالي، كما قال السحرة: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72].
أيها الأخ الكريم! يقول تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء:19] هذا السعي المشكور الذي يشكره الله سبحانه وتعالى ويقبله، ويرضاه، ويثيب عليه، ويعطي عليه الجنة، أما السعي الذي تختاره أنت لنفسك لا يرتبط بمنهج مرسوم من لدن حكيم خبير، ولا بطريقة الرسول صلى الله عليه وسلم التي هدانا الله عز وجل إليها وأرشدنا إليها صلى الله عليه وسلم وتركنا عليها في أولها وآخرها الجنة، فمن سعى غير هذا السعي وسلك غير هذا المسلك فسعيه غير مشكور.(28/7)
الأسئلة(28/8)
حكم إهداء ثواب قراءة القرآن للميت
السؤال
ما حكم إهداء قراءة القرآن للميت، ويذكر في ذلك حديث: (يس قلب القرآن، اقرءوها على موتاكم)؟
الجواب
أولاً: نبدأ من آخر السؤال: (يس قلب القرآن، اقرءوها على موتاكم) هذا حديث لم يثبت، وفيه ضعف، ولو صح هذا الحديث فمعناه: اقرءوا على الموتى في ساعة الاحتضار؛ لأنها تخفف نزع الروح.
أما بالنسبة لإهداء القرآن للميت فنحن ملزمون باتباع منهج الرسول صلى الله عليه وسلم، والله تعالى يقول: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39]، واختلف العلماء في العبادات البدنية والمالية أيها يصل إلى الميت، ويكادون أن يكونوا قد اتفقوا على وصول العبادات المالية كالحج لأنه يعتبر عبادة مالية، وإن كان عبادة بدنية لكن الأصل فيه المال، أن تحج عن أبيك وعن أمك، فهذا ورد فيه أدلة خاصة، كذلك الزكاة والصدقة، كأن تبني مسجداً وتهدي ثوابه لأبيك الميت، أو لأمك الميتة، وتتصدق على فقير عن أبيك أو أمك، فهذا يكاد يجمع علماء المسلمين على وصوله إلى الميت، وإنما اختلفوا في العبادات البدنية، وهناك أدلة تدل على أن العبادات البدنية لا تصل، اللهم إلا إذا كانت قضاءً، كمن مات وعليه صوم فصام عنه وليه قضاء، أما أن تهدي عبادة هكذا فأعتقد أنها ليست من شرع الله، ولا تصل إلى الميت العبادات البدنية، تقول: أصلي وأهدي هذه الصلاة إلى الميت لا يجوز هذا ولا تصل إليه، وإنما تصل إليه العبادات المالية، أما البدنية فالذي أعتقده أنها لا تصل.
لكن يمكن أن تقرأ القرآن وتدعو للميت أو للحي قريبك أو غير قريبك، يمكن أن تختم القرآن وعند ختم القرآن دعوة مستجابة تدعو لأبيك الميت أو لأمك الميتة، أما أن تهدي ثواب القرآن فالقرآن ليس مالاً يهدى.(28/9)
حكم حج المرأة بدون محرم
السؤال
أنا امرأة لست متزوجة، وحججت مع نساء بدون محرم، هل حجي صحيح؟
الجواب
السفر بدون محرم لا يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا ومعها ذو محرم) والرجل الذي اكتتب غازياً قال: يا رسول الله! إن زوجتي خرجت حاجّة.
فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع عن الغزو مع أن الجهاد في سبيل الله أفضل الأعمال- ليحج مع زوجته، فهذا أكبر دليل على أنه لا بد من المحرم.
لكن نقول للأخت السائلة: لعلها إن شاء الله على حج صحيح، خصوصاً أنها جاءت من جدة، وجدة قريبة، لكن نحن ننصح الأخوات أن لا يأتين حتى من جدة إلا مع محرم؛ لأن هذه عبادة، لكن المسلمين وقعوا اليوم في أمور خطيرة جداً يجب أن يسأل عنها، فما مقدار الإثم الذي يكسبه ذلك الرجل الذي يستورد من الفلبين أو من أندونيسيا امرأة تقطع آلاف الأميال بدون محرم؟ هذا هو الإثم الحقيقي.
وكذلك نقول للأخت الحاجّة: أرجو أن تحتاط في المستقبل هي أو غيرها، بحيث لا تحج إلا ومعها محرم حتى ولو كانت من جدة؛ لأن جدة عند بعض العلماء مسافة سفر، لكن نقول لهذه الأخت: لعل الله أن يتقبل منها، وحتى لو قدر أن الحج بدون محرم لا يؤثر على الحج، فالحج مقبول عند الله سبحانه وتعالى ولو بدون محرم، لكن فيه إثم ومعصية للرسول صلى الله عليه وسلم الذي أمر بالمحرم، أما الحج فهو صحيح.(28/10)
حكم من حاضت ولم تطهر إلا ليلة عرفة وأرادت القران
السؤال
امرأة أتاها الحيض ولم تطهر إلا ليلة عرفة، ونوت الحج مفرداً، وتريد أن تجعل النسك قراناً، وقد طافت وسعت يوم الحادي عشر، فهل يمكن تحويل النسك إلى القران بدلاً من الإفراد؟
الجواب
يظهر أنها متمتعة في الأول، والتمتع يحول إلى قران ولا يحول إلى إفراد، ونقول: تلقائياً أنت عندما حضت تحولت إلى قارنة لا مفردة، أما أنها نوت الإفراد فهذا خطأ؛ لأنها جاءت بحج وعمرة، فما يمكن أن تحول إلى حج فقط، فأنا أقول: تحولت إلى قارنة تلقائياً، وتحويلك إياه إلى مفردة خطأ، إذاً أنت قارنة فعليك دم القران؛ لأنك فاتتك العمرة وعملت الحج، وأعمال القارن والمفرد متساوية، ليس بينهما فرق إلا بالنية والدم، فعليك دم القران، فأنت قارنة إن شاء الله، ولك أجر الحج والعمرة، وليس عليك شيء في ذلك.(28/11)
حكم من نزلت منها قطرات الدم قبل طواف الإفاضة ثم نزل الدم غزيراً بعد الطواف
السؤال
تناولت حبوباً لتأخير موعد الدورة، وأثناء تناولي نزلت بعض نقاط الدم قبل موعد طواف الإفاضة الذي لا يوافق موعد الدورة الشهرية، ثم توقف هذا الدم في يوم الطواف، وبعد أن طفت زادت كمية الدم، مما يدل على أنها قد تكون دورة شهرية رغم تناول الحبوب، فما حكم هذا الطواف؟
الجواب
الحبوب هذه تغير مجرى العادة، وتؤثر على رحم المرأة.
وعلى كلٍ فهذه الأخت أنا أنصحها بأن تطوف ما دامت باقية وهي طاهرة قبل أن تسافر، إذا ذهبت تطوف طواف الوداع وتنوي به طواف الإفاضة، ويكفي عن طواف الوداع؛ فإنها إذا فرضنا أنها طافت وهي غير طاهرة تعوض بطواف آخر؛ لأنها ما سافرت، فما دامت موجودة فأنا أنصحها بأنها إذا طهرت أن تذهب لتطوف، ويكفيها عن طواف الوداع، وطواف الإفاضة معروف وقته إلى آخر شهر ذي الحجة ليس مقيداً بوقت معين.(28/12)
حكم تأخير الحاج طوافه وسعيه حتى تطهر زوجته ليطوفا ويسعيا مترافقين
السؤال
إذا حاضت المرأة فهل يجوز لزوجها أن يؤخر معها الطواف والسعي؛ لأنها لم تطهر إلا في اليوم الرابع عشر من ذي الحجة؟
الجواب
نعم.
فإن شهر ذي الحجة كله وقت للطواف، فإلى آخر يوم من شهر ذي الحجة يصح الطواف، فالزوج والزوجة لو أخرا الطواف -ولو بدون سبب- إلى يوم أربعة عشر أو خمسة عشر أو إلى يوم عشرين أو تسعة وعشرين جاز، المهم أنه لا يسافر إلا بعد أن يطوف طواف الإفاضة، وأن تسافر هي إلا بعد أن تطوف طواف الإفاضة، سواء أخرا يوماً أو أكثر، ولا يقرب الزوج زوجته حتى ينهيا أعمال الحج؛ لأن الطواف ركن من أركان الحج وليس فيه تحلل نهائي.
ولهما أن يرجعا إلى جدة إذا كان لضرورة مثل أن تطول المدة، لكن على أن لا يقربها الزوج حتى يرجعا إلى مكة لأداء الطواف بعد أن تطهر؛ لأن طواف الإفاضة ركن من أركان الحج.(28/13)
حكم من طاف للإفاضة ناوياً معه الوداع
السؤال
من طاف طواف الإفاضة مع طواف الوداع ثم أتى بسعي هل يجزئه، علماً بأن آخر عهده السعي وليس الطواف؟
الجواب
الحقيقة هذا السؤال معقول، والأمر مشكل وكثير السؤال عنه، لكن العلماء الذين يفتون بجعل طواف الإفاضة مغنياً عن طواف الوداع ولو كان السعي بعده فالقاعدة المعروفة أنه لا يجوز طوف الوداع إلا بعد انتهاء كل أعمال الحج، فلو طفت قبل أن ترمي لا يصح طواف الوداع، فكيف إذا طفت قبل أن تسعى وهو ركن من أركان الحج، وكأنك ودعت وبقي عليك ركن من أركان الحج وهو السعي.
إلا أن العلماء يقولون: إن الطواف والسعي مرتبط أحدهما بالآخر، فالسعي يعتبر آخر عهده بالبيت، فلا يمنع ذلك أن يسعى بعد طواف الوداع الذي هو طواف الإفاضة؛ لأنه آخر عهده بالبيت، ولأن السعي مرتبط بالطواف، حتى إن العلماء يقولون: لا يصح السعي إلا بعد الطواف، فهذا دليل على أن أحدهما مقترن بالآخر.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(28/14)
الوصايا العشر
إن شرع الله عز وجل كامل وشامل لجميع نواحي الحياة، فما من خير إلا ودلنا عليه، وما من شر إلا وحذرنا منه، ومن تلك الأوامر والنواهي ما ذكره الله عز وجل في في سورة الأنعام من الوصايا، فقد ذكر فيها مجمل أحكام الشرع.(29/1)
أهمية التمسك بدين الله عز وجل منهجاً وسلوكاً وعبادة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، والحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، قيماً لينذر بأساً شديداً من لدنه، ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيراً، وتبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراًَ، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً، ونشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، الذي أرسله الله عز وجل رحمة للعالمين وحجة على الناس أجمعين، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، اللهم! صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك ونبيك محمد، وارض -اللهم- عن آله ومن دعا بدعوته وعمل بسنته ونصح لأمته وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فنشكر الله سبحانه وتعالى على نعمه وفضله وإحسانه، ونسأل الله تعالى أن يوفق العاملين لتبليغ دعوة الله عز وجل لتصل إلى قلوب الناس بعد أن تصل إلى مسامعهم، كما أسأله أن يوفقنا جميعاً لأن نكون من الذين قال الله عز وجل عنهم: {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:17 - 18].
أيها الأخ الكريم! لقد كنت أفكر كثيراً في اختيار موضوع يتناسب والوضع الذي نعيشه اليوم، لاسيما أن الوضع الذي نعيشه اليوم وضع قد انفتحت فيه كثير من الثغرات، فأصبح المتحدث في أي مناسبة لا يدري ما يقول؟ ولا يدري من أين يبدأ؟ وهنا ثغرات واضحة فتحها أعداء الإسلام في أوساط المجتمعات الإسلامية، فوفقت إلى آيات تتحدث عن عشر نصائح وعشر وصايا، يسميها علماء التفسير (الوصايا العشر)، ويقول فيها عبد الله بن مسعود رضي الله: (من أراد أن ينظر إلى وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه فليقرأ هذه الآيات الثلاث في سورة الأنعام: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:151 - 153]).
هذه هي الوصايا العشر التي يعنيها عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، والتي يقول عنها: (هي وصية رسول صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه).
ونحن في مجتمع إسلامي اختلط حابله بنابله، نكاد أن نفقد كثيراً من هذه الوصايا العشر في غمرة الحضارات الملفقة التي وفدت على بلاد المسلمين من الشرق والغرب، ولكننا لا نتشاءم، بل نتفاءل ونحن -والحمد لله- نرى هذه الصحوة، وهذا الشباب الذي رفض كل هذه المبادئ وأقبل على دينه، وأقبل على ربه وعلى كتاب ربه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم منهجاً وسلوكاً وعبادة، فأعداء الإسلام وإن كادت أن تفلس -أو قد أفلست- مطامعهم في بلاد الإسلام إلا أنهم لن يألوا جهداً في سبيل عرقلة مسيرة هذه الصحوة الإسلامية، وصدق الله العظيم الذي يقول: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النساء:26]، ويقول: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} [النساء:27]، وبمقدار ما تتجه الشعوب إلى دينها وإلى ربها وإلى سنة نبيها محمد صلى الله عليه وسلم تزيد هذه العراقيل في طريقها، وتتجه أنظار الطامعين وأنظار المفسدين إلى هذه البلاد، وبلادنا هذه -والحمد لله- هي البلاد الوحيدة التي تطبق شرع الله في الأرض، وهي البلاد الوحيدة التي لم تدنسها أقدام الاستعمار لحظة من الزمن، وهي البلاد الوحيدة التي ليس فيها كنيسة ولا معبد لغير الإسلام، ولذلك فإن التركيز عليها يكاد أن يكون أكثر من أي بلد آخر، ولعلنا نشاهد ذلك حينما يتصارع الحق والباطل، ولكن الباطل هو كما أخبر الله عز وجل عن مصيره: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء:18].(29/2)
أهمية التوحيد وفضله، وخطر الشرك وضرره
نعود إلى الوصايا العشر بشيء من التفصيل؛ لأن واحدة منها تستغرق عدة دروس، ولكني سأمر عليها مرور الكرام، ولربما يستوقفني بعضها حينما يكون لها صلة بالواقع المرير الذي يعيشه كثير من العالم الإسلامي، وهذه الوصايا العشر علينا أن نصغي وأن نصيخ بأسماعنا لها، خاصة أن الله عز وجل يقول في مقدمتها: {قُلْ تَعَالَوْا} [الأنعام:151]، وأصل كلمة "تعال" في اللغة العربية من العلو، وهو: الارتفاع، وإن كانت الصيغة تستعمل لمطلق النداء، فإذا ناديت أحداً -ولو كان في مستواك- تقول له: تعال.
إلا أن معناها اللغوي قد يكون مقصوداً في مثل هذه المناسبة، فعلى المسلم إذا أراد أن يسمع كلام الله عز وجل أن يتعالى عن المجتمع الآثم وعن الأفكار المنحطة وعن الأوضاع الساكنة، من أجل أن يسمع كلام الله عز وجل، أما أن يسمعه بأذن قد أقفلت فإنه لا يكاد أن يسمع كلام الله عز وجل أبداً.
وقوله تعالى: {أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [الأنعام:151] هذه الوصايا العشر تبدأ بالتوحيد، والتوحيد ليس بالأمر السهل، فأمر التوحيد عظيم؛ فإن التوحيد هو القاعدة وهو الركيزة التي تُبنى عليها عبادة الإسلام، وتُبنى عليها عقيدة المسلم، وأي بناء ليس له أساس فإنه قابل للانهيار، والتوحيد استحق أن يبقى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة في حياته المكية لمدة ثلاث عشرة سنة وهو يقول للناس: (قولوا: لا إله إلا الله) لا يزيد على ذلك، ولربما يلفت الأنظار طول هذه المدة، ولكن حينما نرى أثر التوحيد في العبادة وضعف العبادة بدون توحيد لا نستكثر هذه المدة، فإنها مدة استطاعت أن ترسي عقيدة التوحيد بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله.(29/3)
أهمية التذكير بقضية التوحيد والتحذير من الشرك
قد يقول بعض الناس: إن الحديث عن قضية التوحيد الآن أصبح لا فائدة فيه، وكثير من المغفلين يقول: قضية التوحيد اليوم لا حاجة لها، ولم تعد الآن اللات والعزى ومناة وهذه الأصنام التي تحدث عنها القرآن الكريم تُعبد من دون الله، فالعقلية الإنسانية الآن تطورت، ووصل الإنسان إلى سطح القمر، ويفكر فيما فوق ذلك، ووصل إلى أعماق الأرض، فلا يتوقع في يوم من الأيام أن ينحت الإنسان معبوداً له من الحجارة أو من الحديد أو من الخشب ليعبده من دون الله! وهذا فيه شيء من الحق وفيه شيء من الباطل، فحقاً أننا لم نر اللات والعزى ومناة تعبد، وهذا لن يعود مرة أخرى، ولكننا نرى أوثاناً تنتشر في العالم الإسلامي تعبد كاللات والعزى ومناة.
فإن من يسافر خارج المنطقة التي انتشرت فيها دعوة الحق ودعوة التوحيد ليذهب قريباً إلى الحدود يوافقني على ما أقول، حيث يرى هناك أوثاناً تُعبد من دون الله، فوالله لقد رأيت بعيني أناساً يسجدون أمام القبور، ويولون ظهورهم نحو الكعبة المشرفة، ويسيلون ويذرفون الدموع أكثر مما يذرف حول كعبة الله المشرفة! ولقد رأينا بأعيننا أناساً يطوفون بالقبور، ولا يُسمح لهم إلا بشوط واحد من كثرة الزحام، فيقول الذين يتولون سدنة هذه القبور: اعمل شوطاً وسر! لا يسمحون إلا بشوط من شدة الزحام، ولقد رأينا أناساً يعفرون وجوههم بأتربة هذه القبور، ويخضعون لهؤلاء الأموات، ويمدون أكف الضراعة لغير الله عز وجل، وينحرون الذبائح، وينذرون النذور! إن هذا الواقع واقع مرير، وإذا قيل لأحدهم: اتق الله يا أخي، أين معنى قولك: لا إله إلا الله يقول: هؤلاء قوم صالحون نرجو شفاعتهم يوم القيامة.
فنقول له: يا أخي -إن صح التعبير بكلمة يا أخي لمثل هذا-! إن الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا إذا أصابتهم الشدة يفزعون إلى الله وحده، ولكن مثل هؤلاء ينسون الله عز وجل وتوحيده في الرخاء وفي الشدة، ويقول المشركون الأولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]، وما أشبه كلامك بكلام أولئك! فأنت تقول: هؤلاء رجال صالحون نرجو شفاعتهم، وأولئك المشركون الأولون الذين حُكم بخلودهم في نار جهنم يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]، فمن يستطيع أن يفرق بين المقالتين؟! ولذلك فإن العالم الذي يقف اليوم على حافة الهاوية أشرك بالله عز وجل، وأصبح يعبد هؤلاء الأموات من دون الله عز وجل، وهذا الشرك ما زال يزيد وينمو، وكنت في تصوري السابق أظن أنه سينتهي في عصر العلم والتطور، فإذا بي حينما أسير إلى أي بلد من البلاد الإسلامية سوى بلد الحرمين الشريفين -حماها الله تعالى بعقيدة التوحيد- أجد كثيراً من هذا الأمر، إلا ما شاء ربك.
وهذا نوع من الشرك، والله عز وجل يقول: {أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [الأنعام:151]، فكلمة (شيئاً) لها معنىً جديد؛ لأن النكرة في سياق النفي تعم، و (شيئاً) هنا قد نفهم منها التحقير، وقد نفهم منها التعظيم، أي: حتى لو كان شيئاً حقيراً أو شيئاً عظيماً.
ولا تعجب يا أخي؛ فإنه دخل النار رجل في ذباب، وذلك بأنه قرب ذباباً لغير الله عز وجل فدخل النار، فأصبح مخلداً في نار جهنم.(29/4)
ذكر بعض أنواع الشرك
إن الذين يذبحون الذبائح أمام القبور ولأرواح الأموات وينسون الخالق سبحانه وتعالى المتفرد بالوحدانية أشركوا بالله عز وجل، فأصبحوا حطباً لجهنم، وصاروا مخلدين في نار جهنم بنص القرآن: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} [المائدة:72].
وهذا نوع من الشرك لا يجوز أن نترك التحذير منه، وبمقدار ما نستطيع من قوة يجب أن نوقظ هؤلاء الذين ما زالت في قلوبهم جذوة الإيمان تلتهب، فما دفعهم إلى هذا العمل إلا روحانية في نفوسهم، لكنها روحانية غير مبنية على علم، بل هي تقوم على أساس الجهل، ومن هنا فهؤلاء المساكين يرهقون أنفسهم في شيء يشبه العبادة، لكن ذلك لم يخلصهم من عقاب الله عز وجل؛ لأن الطريق واضحة، ومثلهم كمثل الذين قال الله عز وجل فيهم: {أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور:39]، ومثلهم كمثل الذين قال الله عز وجل فيهم: {أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ} [إبراهيم:18]، وقال: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف:103 - 104].
ووالله العظيم إننا لا نُجدّ في عبادتنا كما يُجدّ هؤلاء، ولكن لما كانوا على غير بصيرة من أمرهم، وعلى غير حقيقة من منهجهم لم يغن ذلك عنهم من الله عز وجل شيئاً.
فهذا نوع مما يُعبد من دون الله، وهناك أنواع كثيرة، هناك أوثانٌ تعبد، وهناك زعماء يشرعون للناس ما لم يأذن به الله، ويقولون للناس: هذا حلال وهذا حرام.
ثم يتبعهم الناس على بصيرة أو على غير بصيرة، فيضل الناس الطريق وراء هؤلاء الزعماء الذين جاءوا بقوانين وأنظمة وأفكار ومذاهب وضعوها للبشر، ووضعوا كتاب الله عز وجل وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، فهذه أوثان تُعبد من دون، ولذلك لما قرأ الرسول صلى الله عليه وسلم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31]، قال عدي بن حاتم: والله -يا رسول الله- ما عبدناهم.
قال: (أليسوا يحلون ما حرم الله فتطيعونهم؟! ويحرمون ما أحل الله فتطيعونهم؟! قال: بلى.
قال: فتلك عبادتكم لهم) أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي أيامنا الحاضرة يكاد أن يجمع أكثر العالم الإسلامي على تحكيم آراء البشر، ويضعون كتاب الله عز وجل وراء ظهورهم.
وهذا نوع من الشرك الأكبر؛ فإن صاحبه إن اعتقد بأن هذه القوانين وهذا الأنظمة هي خير من القرآن والسنة أو تساويهما فهو كافر مرتد، وهو مخلد في نار جهنم.
وهناك عبادة أنواع من الزعماء بتقديم أوامرهم على أوامر الله عز وجل، ويخافون من البشر أكثر مما يخافون الله عز وجل، ولربما تفتي طائفة من علمائهم خلاف حكم الله عز وجل ابتغاء مرضات هؤلاء الزعماء، وهذا نوع من العبادة، وهذا نوع من الشرك، وأولئك نوع من الأوثان.
وهناك عبادة الدنيا وعبادة المادة تنتشر في كثير من الناس، فأحدهم يبيع دينه بعرض من الدنيا، يسمع أن مركزاً من مراكز الربا يعطيه شيئاً من المال أكثر ولو كان ذلك حراماً، ولو كان بنص القرآن أنه حرام، ولو أجمع علماء المسلمون على تحريم الربا، لكن حبه لهذه الشهوة أصبح يعمي بصره ويضله الطريق، وهذا على خطر، فإذا امتلأ قلبه بحب الدنيا وغفل عن الله عز وجل وعن الحياة الآخرة فقد يقع في قلبه نوع من هذا الشرك الذي نهى الله عز وجل عنه بقوله: {أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [الأنعام:151].
وأيضاً هناك الوظيفة والمركز يُعبدان من دون الله عز وجل، ولربما يتنازل طائفة من الناس عن كل ثروة في الحياة من ثروات دينه، وعن كل مطلب نبيل من مطالب دينه في سبيل وظيفته أو في سبيل مركز يحصل عليه، وهذا أيضاً على خطر أن يدخل في شرك العبادة أو في شرك العمل، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الخميصة، تعيس عبد الخميلة) فعبد الخميصة هو الذي يعبدها ويحب من أجلها ويبغض من أجلها، قال صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة، تعس وانتكس).
وهناك من يعبد الهوى ويعبد الشيطان، ولذلك الله تعالى يقول: {أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} [الجاثية:23]، ويقول الله عز وجل: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يس:60] وعبادة الشيطان هي أن تطيعه فيما يأمرك به لتغفل عن أمر الله عز وجل في سبيل طاعتك للشيطان والهوى والشهوة.
وكل هذه آلهة ما زالت على قيد الوجود، ولربما ينمو جزء منها في كثير من العالم الإسلامي بسبب غفلة المسلمين عن دينهم، وبسبب إهمال كثير من علماء المسلمين في تبيين الحق والباطل لهؤلاء الناس حتى ضلوا الطريق من هذا الجانب.
أيها الأخ الكريم! إذاً نفهم من قول الله عز وجل: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) أن كلمة (شيئاً) وراءها معانٍ عظيمة، فإذا فقدت آلهة كانت تعبد بالأمس، وحطمها الإسلام، وحينما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة فاتحاً حطمها بسيفه وقرأ قوله تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} [الإسراء:81]، فإن في أيامنا الحاضرة آلهة لا يقل خطرها عن تلك الآلهة التي كانت تُعبد من دون الله عز وجل.
بل إن الذين بُعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يعطون الولاء لهذه الآلهة مع الله عز وجل لا من دون الله، ويعطونها هذا الولاء في فترات الرخاء، أما في فترات الشدة فإن الله عز وجل يقول فيهم: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت:65]، أما هؤلاء ففي فترة الرخاء والشدة ما يزالون يعبدون هذه الآلهة، وما زالوا يعطونها الولاء من دون الله، لا مع الله عز وجل! فهذه هي الوصية الأولى من وصايا الله عز وجل في هذه الآيات، ولا أريد أن أطيل فيها أكثر من ذلك.(29/5)
الوصية بالوالدين
ثم جاءت الوصية الثانية: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الأنعام:151]، فحق الله عز وجل هو الحق الأول، وحق الوالدين يأتي بعد حق الله عز وجل مباشرة، بشرط أن لا يتعارض مع حق الله، فإذا تعارض مع حق الله فإنه مرفوض؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولذلك يقول الله عز وجل: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [العنكبوت:8]، ويقول عز وجل: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان:15].
إذاً حق الوالدين حق عظيم، لكنه خاضع لحق الله عز وجل، ولذلك لا يجوز أن يطغى، ولذلك لما أسلم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أعرضت أمه عن الطعام، وقالت: يا سعد! والله! إن الطعام والشراب حرامان علي حتى تترك دين محمد.
فصار هذا الرجل بين عاطفة الأمومة وبين عقيدة الإيمان التي استنار بها قلبه، فوقف عند أمه ونفسها تتقعقع، واستمرت أمه على إعراضها عن الطعام، ولكن العقل غلب العاطفة، فقال: اسمعي يا أماه: والله لو كانت لك مائة نفس خرجت واحدة بعد الأخرى ما تركت ديني؛ فإن شئت فكلي وإن شئت فلا تأكلي.
فأكلت، فأنزل الله تعالى فيه: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [لقمان:15] إذاً علينا أن نرعى حق الوالدين، ولكن علينا أن نضعه في المرتبة الثانية.(29/6)
تحريم قتل الأولاد خوف الفقر
ثم قال تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ} [الأنعام:151]، هذه الآية يقول الله تعالى فيها: (مِنْ إِمْلاقٍ)، وقال في آية أخرى في سورة الإسراء: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء:31].
فالإملاق -الذي هو: الفقر- موجود في هذه الآية، ولذلك الله تعالى قدم هنا رزق الآباء على رزق الأبناء؛ لأن الإملاق موجود، فقال: {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُم ْ)) [الأنعام:151]، ولكن في سورة الإسراء لما كان الفقر متوقعاً لا محققاً قدم الله عز وجل رزق الأبناء على رزق الآباء، فقال: {نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} [الإسراء:31].
وهذه عادة خبيثة كانت في الجاهلية، حيث كان أحدهم يخشى أن يزيد عدد أولاده، وليس هناك إيمان بالله عز وجل ويقين، فكان يقتل بعضاً من الأولاد خشية الفقر، كما كان أحدهم يقتل البنت خشية العار في بعض الأحيان، ولذلك الله تعالى هنا خلص الإنسان من أن يستذله أبوه بالقتل، وتكفل الله عز وجل برزق الأب وبرزق الابن في آنٍ واحد، كما قال: {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام:151].(29/7)
تحريم الفواحش ووجوب الحذر من فعل أسبابها
ثم قال سبحانه وتعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام:151]، والفواحش: جمع فاحشة.
والفاحشة في اللغة العربية هي الشيء الواسع، والفاحشة في اصطلاح الشرع هي الذنب العظيم، لكن يغلب إطلاق الفاحشة على فاحشة الزنا؛ لأنها تعتبر من أعظم الذنوب، إن لم تكن أعظم الذنوب بعد الإشراك بالله عز وجل.
ومن دقة القرآن العظيم أن الله عز وجل قال: (لا تقربوا)، ولم يقل: ولا تفعلوا الفواحش.
فنريد أن نحدد الفرق بين الفعل والقربان، فالفعل هو الاقتراف، والقربان معناه الدنو، وعلى هذا فإن قول الله عز وجل: (ولا تقربوا) يعطينا معنىً آخر حتى نحتاط لهذه الفاحشة، فلا ندنو منها؛ لأننا حينما ندنو منها نقع فيها غالباً، إلا من عصمه الله عز وجل، كما قال صلى الله عليه وسلم: (كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه)، وإذا كان الذنب فاحشة فإنه تستحق هذه الفاحشة أن يمنع عن الدنو منها فضلاً عن مواقعتها.
ولذلك أقول وبكل لوعة: مُهدت اليوم في العالم الإسلامي كل سبل الفاحشة، فأصبح الدنو منها وشيكاً، وأصبح الناس على خطر من الوقوع في هذه الفاحشة، كيف ذلك؟ سخرت أكمل وسائل هذه الحياة من أجل وقوع الناس في هذه الفاحشة، كما قال الله عز وجل: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} [النساء:27].
فإن قيل: كيف ذلك؟ فنقول: إنك حينما تلقي نظرة سريعة على واقع العالم الإسلامي اليوم -ونكاد أن نقول: كله.
وإذا حابينا نقول: جله- تجد أنه قد وجد فيه السبيل لهذه الفاحشة.
فحين نأتي إلى فاحشة الزنا -مثلاً- نجد أن وسائل الإعلام أكثرها يخدم هذه الفاحشة باسم التسلية، وباسم الترفيه، وأصبح الإعلام يقرب من هذه الفاحشة، وما عليك إلا أن تحرك موجات التلفاز أو موجات المذياع، أو أي وسيلة من وسائل النشر والإعلام لترى فيها الدعاية لهذه الفاحشة، سواء أكانت بصورة مباشرة أم غير مباشرة، وبصورة مقصودة أم غير مقصودة.
إن السبل قد مُهدت، حيث نجد تلك السبل في كثير من وسائل الإعلام -خاصة المرئية- التي غُزي بها المسلمون في عقر دارهم، وأصبحت خطراً لم يترك بيت شعر ولا مدر إلا دخله، وأصبح من الصعب أن يتقي الإنسان هذه الوسائل، وأصبحت تأتينا بأفلام رخيصة فيها رقص واختلاط ومسرحيات تمهد للجريمة، وتعلم المرأة الخيانة الزوجية، وتعلمها كيف تتخلص من هذه الضوابط التي يسمونها قيوداً لتقع في فخ أعداء الإسلام، وهذه المسرحيات لو أمسكتها من أول خيط إلى آخر خيط فيها -إلا ما شاء الله- لوجدتها تهدم الأخلاق والفضائل، وتعلم المرأة الخيانة الزوجية، وهذا ينتشر في التلفاز في كثير من الأحيان في أكثر العالم الإسلامي.
ثم تأتي أغانٍ خليعة صفيقة مؤلمة جارحة لقلب المؤمن، فتجدها تنتشر في بيوت المسلمين حتى تغيرت وانقلبت كثير من بيوت المسلمين رأساً على عقب، فتلك البيوت التي كان بالأمس لا يُسمع فيها إلا دوي القرآن ما بين راكع وساجد في الليل منيبين إلى الله عز وجل تغيرت، فلا تكاد تقف أمام بيت من بيوت المسلمين إلا وتسمع الرقص والموسيقى والمسرحيات والأغاني والأمور الفظيعة، مما يدمي قلب المؤمن ويخيفه على دينه، إلا أن الله عز وجل تكفل بحفظ هذا الدين وبحفظ منهجه فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].
فهذا يأتي عن طريق هذه الوسائل، وأخطر من ذلك تلك الوسائل التي ليست عليها رقابة، والتي تتسرب إلى بيوت المسلمين ومجتمعاتهم بطريقة سرية، فمن رآها يخبر بأنه رأى فيها ما هو أكبر من ذلك من الفواحش المكشوفة التي تعلم الإنسان كيف يفعل الفاحشة مباشرة.
وكثير من المجلات تهدف إلى هذا الهدف الخبيث، وتقرب الناس من الفاحشة، ابتداءً من صورة الغلاف، حينما يختارون لها أجمل فتاة في شكل عارٍ، إلى آخر سطر من أسطرها، فكلها دعاية، حتى الدعايات للبضائع التي تُباع أصبحت تبث من خلال المرأة وجمالها وتفسخها، وعلى حساب أخلاقها وحريتها من قوم يزعمون أنهم يبحثون عن حقوق المرأة وعن حرية المرأة، حتى الجو لم يخل من ذلك، فإذا كان قد ظهر الفساد في البر والبحر فقد ظهر الفساد أيضاً في الجو، فلا تكاد تركب طائرة بتاتاً حتى تقابلك فتاة وضعت من أجل جذب أبصار هؤلاء الركاب، ومن أجل إيجاد شيء في نفوسهم من الفتنة، وليس لها هم إلا أن تمشط شعرها، وأن تعرض جمالها، وأن تستعمل الأصباغ والأدهان من أجل أن تزيد مرضاً من في قلبه مرض! فهذه مصائب كلها عمت وطمت، لا يجوز أن نغمض أعيننا عنها مهما كان الثمن، ومهما عز المطلب؛ لأننا أمة يجب أن نقول كلمة الحق في المنشط والمكره وفي العسر واليسر.
وهذا كله داخل في قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ} [الأنعام:151]، وأي سبيل للبعد عن الفواحش وأنت لا تستطيع أن تركب الطائرة إلا وأمامك فتاة، وعن يمينك فتاة، وعن شمالك فتاة؟! وأي وسيلة للبعد عن هذه الفاحشة ولا يكاد -إلا ما شاء ربك- أن يخلو بيت من بيوت المسلمين من هذه الوسائل التي أصبحت نقطة وصل بين الإنسان وبين الفاحشة إلا من عصمه الله تعالى؟! ولذلك تعبير القرآن تعبير دقيق، فلم يقل الله عز وجل: ولا تفعلوا الفواحش.
حتى لا يقول إنسان من الناس: أنا أريد أن أدنو من الفاحشة حتى لا يكون بيني وبينها إلا ذراع، وعلي أن أضبط وأن أكبح جماحي حتى لا أقع في هذه الفاحشة.
ولكن الأمر كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه).
فلنحذر هذه المقدمات؛ لأنها ستؤدي إلى هذه النتائج، ولقد نشأ عن هذه المقدمات مرض في نفوس كثير من الناس، فأصبحوا كمن يشرب الماء المر ولا يروى أبداً، ولذلك فإن هؤلاء مطالبهم لا تقف عند حد؛ لأن هذا الفساد وصل إلى بيوتهم، ثم وصل إلى قلوبهم، ثم ما زالوا يريدون أكثر من ذلك، فهم غير راضين عن هذه الأوضاع، ويعتبرون أن هذه الأوضاع مازالت تعيش تخلفاً وتأخراً، فعلينا أن نأتي بالضربة القاصمة، وذلك عن طريق حرية المرأة وحقوق المرأة، فقامت دعوات في الصحف التي تنشر في البلاد الإسلامية تتهم الحجاب بأنه تقوقع، وتتهم الحجاب بأنه من مخلفات القرون الوسطى، ويهاجمون دين الله، والله عز وجل يقول: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30]، ثم يقول: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:31]، ويقول هؤلاء: يجب على المرأة أن تشارك الرجل في كل أمر من أمورها، ويجب أن ترفض هذا الحجاب؛ لأن هذا الحجاب إنما هو إهانة للمرأة، وحينما ترفض هذا الحجاب عليها أن تشارك الرجل في كل عمل من أعماله، بحيث لا يختص الرجل بعمل وتختص المرأة بعمل آخر.
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه).(29/8)
وجوب الحذر من دعاة الانحراف والانحلال
وفي الوقت الذي تنادي فيه الأمم التي سبقتنا إلى هذا الانحراف بضبط هذه المرأة حتى لا يقع الناس فيما وقعوا فيه، ثم يتراجعون عن هذه المسيرة المنحرفة إلى طريق الاستقامة في هذه الفترة ما زال فينا دعاة يدعون إلى انحراف المرأة باسم حقوق المرأة وحريتها، ولا أدري أي حقوق وأي حرية هم يدعون إليها؟! ولا أظن أن المرأة ستعيش مكرمة ومعززة أكثر منها في بلادنا، وبمقدار محافظة المرأة على دينها تكون أكثر تعظيماً وأكثر تقديراً.
إن المرأة في بلاد الكفر لا يمكن أن تحصل على لقمة العيش حتى تكدح ليلها مع نهارها، وإن المرأة لا تستطيع أن تحصل على لقمة العيش حتى تتنازل عن شرفها وعرضها، ولكنها في بلادنا -والحمد لله- تحصل على كل وسائل المتاع والراحة وهي في قعر بيتها.
ولا أدل على ذلك من هذه المهور، فإن أي بلد تنحل أخلاقها وتتخلف فيها المرأة تسقط فيها المهور، وبمقدار محافظة البلد على المرأة ترتفع المهور، وهذا يدل على ثمنيتها ونفاستها في نفوس القوم.
إن علينا أن لا نغتر بهذه الدعوات؛ لأن هذه الدعوات وليدة تلك الأمراض التي وصلت إلى قعر بيوت هؤلاء، أو وليدة تلك الأمراض التي حُقنت وغسلت فيها أدمغة كثير من القوم الذي عاشوا في بلاد الكفر، ودرسوا أفكار القوم، وعاشوا هناك مدة من الزمن، فرجعوا متنكرين لدينهم، فأصبحوا عوامل هدم في بلادهم يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي الكافرين.
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، وهذا الحديث يتجسد اليوم تجسداً واقعياً في أرض المسلمين، يقول حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: (كان الناس يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني.
قال: فقلت: يا رسول الله! كنا في جاهلية وشر، فجاء الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم.
قال: فقلت: يا رسول الله! وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم وفيه دخن.
قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يستنون بغير سنتي، ويهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر.
قال حذيفة رضي الله عنه: فقلت: يا رسول الله! وهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها.
فقال حذيفة رضي الله عنه: صفهم لنا يا رسول الله! قال: قوم من جلدتنا) فأسماؤهم محمد، وعبد الله، وأحمد، وليس منهم أحد يدعى أبا جهل أو يدعى أبا لهب، ولكن اسمه محمد وأحمد وعبد الله وعبد الرحمن، وتربى في أحضان أبوين مؤمنين، ولكن تربية الكافرين قد ملأت مخه وغسلته, وأزالت ما فيه من خير, وملأته شراً وحقداً على أمته, قال: (دعاةٌ على أبواب جهنم, من أجابهم إليها قذفوه فيها, قال: قلت: يا رسول الله! صفهم لنا.
قال: قوم من جلدتنا, ويتكلمون بألسنتنا) , فهم ينطقون اللغة العربية, ولا يحتاجون إلى ترجمة, ولذلك فإن هؤلاء أخطر على المسلمين من أعدائهم الذين يحيطون بهم من كل جانب؛ لأن هؤلاء يندسون في المجتمعات الإسلامية, ويفسدون من حيث يصلح الناس.
فلننتبه لهؤلاء الناس, ولنحذر هؤلاء الهدامين, وما أكثرهم بين المسلمين اليوم! ولقد حاول هؤلاء أن يحققوا لأعدائهم مطالبهم حينما قال أحدهم: إنكم لن تستطيعوا أن تقطعوا شجرة الإسلام إلا في غصن من أغصانها.
وهم الآن يحاولون أن يقطعوا شجرة الإسلام في غصن من أغصانها، ولكن الله متم نوره وغالب على أمره.
وبمقدار ما ينشط هؤلاء الهدامون يتجه الناس إلى دين الله عز وجل، وهذه سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً.
إذاً علينا أن نحذر هؤلاء، كما أن علينا أن نحذر من أن نقرب من الفاحشة، فالاختلاط الآن يُخطط له في كثير من أرض المسلمين، فكثير من البلاد التي لم يعد الاختلاط فيها منهجاً رسمياً يُخطط له فيها، وهؤلاء من خبثهم وحقدهم على الإسلام واستغفالهم للمسلمين الواعين يقولون: إن خلط الرجل مع المرأة إنما يعطي هذا الرجل وهذه المرأة مناعة، بحيث تزول هذه الحواجز، وتتحطم هذه الأمور المخيفة، فيصبح الأمر طبيعياً.
ولقد كذبوا، فبمقدار ما أزالوا هذه الحواجز زادت الجريمة، وانتشرت الفاحشة بين المسلمين، وهذه هي مقاصد أعداء الله، وهذه هي تربيتهم، أما تربية الله عز وجل لهذه المرأة فعلينا أن نعيها، فإن الله عز وجل يقول: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:30 - 31] أي: إلا ما ظهر قهراً وقسراً لا ما أظهرته هي.
{وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31]، إلى قوله في آخر الآية: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور:31]، فإذا كانت المرأة نهيت عن أن تضرب برجلها على الأرض بشدة حتى لا يُسمع صوت الخلخال فكيف بها تخرج ترقص وتغني أمام الناس، ويسمعون صوتها، ويرون جسمها ومفاتنها؟! وما الفرق بين أمر الله عز وجل وبين واقع كثير من أبناء العالم الإسلامي الذين نسأل الله سبحانه وتعالى أن يردهم إلى الجادة وإلى الطريق المستقيم؟!(29/9)
خطر الاختلاط
ويزيد الأمر خطورة، ويأبى أعداء الإسلام إلا أن يوجد الاختلاط في أكثر بيوت المسلمين، ثم تنفتح مادة على قوم كانوا يعيشون في فقر ومسغبة، ويفجِّر الله عز وجل لهم ثروة من وراء آلاف الأقدام، فيتحول الفقير إلى غني، فيأبى إلا أن يكفر نعمة الله عز وجل، فهذه فتاة خادمة يؤتى بها من أقصى البلاد في جمالها وفي عنفوان شبابها لتعيش مع أبناء هذا الرجل أو معه، وليخلو بها، ولتسافر معه، وكأنها زوجة من زوجاته! ثم يأتي الآخر بقائد للسيارة ليسلم له أغلى وأشرف ما يملك في هذه الحياة من شرفه وكرامته، فيغدو بالبنات وبالزوجة إلى هنا وهناك، وعلى ساحل البحر، وفي أي مكان من الأرض، ويخلو بإحداهن وتخلو به في البيت وخارج البيت! ويأتي ذاك بمربية لتربي أولاده على خلاف الفطرة، وكثيراً ما تكون مشركة أو كافرة، وهب أنها مسلمة، فإن تقاليدها وأخلاقها تختلف كثيراً عن الأوضاع التي يجب أن يعيشها المسلمون في مثل بلادنا، وكل ذلك يحدث في غمرة الثراء وفي غمرة النعمة وفي غمرة الرخاء الذي اُبتلي به القوم، وصدق الله عز وجل حيث أخبرنا بأنه يبتلي هذا الإنسان بالفقر والمسغبة، حتى إذا لم يُجْدِ فيه ذلك شيئاً يفتح له أبواب النعيم، حتى إذا لم يرع ويرجع إلى الله عز وجل فإن عقوبة الله أقرب إليه من شراك نعله، فلننتبه لهذا؛ فإني أخشى أن تنطبق هذه الآيات على مثل مجتمعنا في مثل هذا البلد الذي كان بالأمس يعيش في فقر وفي خوف وذعر، وهو اليوم تنفتح عليه خزائن الحياة الدنيا من كل جانب، يقول الله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} [الأعراف:94]، فقر ومصائب، حتى إذا لم تجد هذه فيهم شيئاً كانت العاقبة: {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ} [الأعراف:95]، فبدل الفقر أصبحت عندهم مليارات وملايين وأرقام في بنوك يعجز الناس عن إحصائها، وأمم تموت حولنا في أفريقيا جوعاً، ولكن يأبى كثير من الناس إلا أن تبقى هذه الأرقام يحاسبون عليها بين يدي الله عز وجل يوم القيامة بعدما تفسدهم في هذه الحياة الدنيا إلا ما شاء ربك، قال تعالى: {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوا} [الأعراف:95]، فقد زاد المال، وزاد العدد، وزاد الرخاء، وإذا قيل لأحدهم: اتق الله؛ فهذه نعمة لها ضد يقول: ضدها قد انتهى.
والله عز وجل يحدثنا عن ذلك قبل أن يقوله الناس: {حَتَّى عَفَوا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ} [الأعراف:95]، ما هي النتيجة؟ {فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [الأعراف:95].
وهكذا الله عز وجل يمتحن الناس بالمصائب والآفات والفقر والمسغبة، وإذا لم ينفع ذلك فيهم فإن لله خزائن السماوات والأرض، والدنيا لا تساوي عند الله عز وجل جناح بعوضة، فيفتح لهم أبواب الخيرات وأبواب النعيم ابتلاء من الله عز وجل، فإذا لم ينفع الثاني بعدما لم ينفع الأول فإن الله عز وجل يقول: {فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [الأعراف:95].
وكل هذه الأمور علينا أن ننتبه لها، وإذا كان منا من اُبتلي بشيء من ذلك فعليه أن يتقي الله عز وجل، وعليه أن يحذر سخط الله، وأن لا يستعمل نعمة الله عز وجل في معصيته، فيا أخي! بأي وسيلة تحل لك فتاة تأتي بها من الهند أو من مصر أو من جنوب شرق آسيا، أو من أي مكان من الأرض ليست منك ولست منها، وليس معها محرم؟! أيها الأخ الكريم! إن الله عز وجل يحذرنا من الفواحش فيقول: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} [الأنعام:151]، ولذلك الله تعالى هدد هؤلاء القوم الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوعدهم بالنار، وكان أحدهم يقتل بنته خشية العار، علماً أن الدوافع مطلوبة ونبيلة؛ لأنه فعل ذلك محافظة على عرضه، لكن في ذلك مبالغة في هذا الأمر، وهذا هو شأن الجاهلية الثانية؛ حيث إنها جاءت ترد فعل الجاهلية الأولى، حيث تفسخت فيها المرأة، أما الجاهلية الأولى فإن أحدهم كان يكره المرأة، فإذا ولدت له فتاة إما أن يدسها في التراب، وإما أن يمسكها على هون خشية أن تصيبه بعار في يوم ما، ولذلك الله عز وجل قال: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} [الأنعام:151]، والمراد بالنفس التي حرم الله تعالى النفس المعصومة التي لا يحل قتلها، والمراد بالحق ما أباح الشرع، وما أمرنا به من إقامة القصاص، ومن إقامة الحدود، ومن قتل القاتل، فهذه سنة الله تعالى التي تضبط الحياة والتي تحفظ للحياة توازنها واستقامتها.(29/10)
تحريم أكل مال اليتيم بغير حق
ثم قال: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الأنعام:152]، فإن مال اليتيم حرام على الإنسان أن يتعدى عليه إلا لمصلحة اليتيم، وذلك كما إذا أراد تنميته.(29/11)
وجوب إيفاء الكيل والميزان، ووجوب القول بالعدل
ثم قال تعالى: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} [الأنعام:152]، والله عز وجل عذب أمة لأنها نقصت المكاييل والموازين.
ثم قال تعالى: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام:152]، فإذا قلت أي مقالة -يا أخي- فعليك أن تخشى الله عز وجل، وعليك أن تستعمل العدل في هذا الأمر؛ لأن العدل أمر لابد منه، ولا تكون الأمور إلا به.(29/12)
وجوب الوفاء بالعهد
ثم قال سبحانه: {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} [الأنعام:152]، فلا تعاهدوا الله عز وجل وتنقضوا هذا العهد والميثاق، {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأنعام:152].(29/13)
وجوب الاستقامة على صراط الله المستقيم
ثم جاءت الوصية العاشرة لتكون طابعاً، ولتكون جامعة لكل الوصايا السابقة، فقال الله عز وجل فيها: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153]، ولما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية الأخيرة خط خطاً طويلاً مستقيماً وقال: (هذا صراط الله.
ثم خط عن يمينه وعن شماله خطوطاً فقال: هذه هي السبل.
ثم قرأ هذه الآية، وقال: وعلى كل سبيل منها شيطان، وعليها سدل مرخاة، وفي هذا السبيل -أي: المستقيم- منادٍ ينادي، فإذا أراد أحد أن يلج إحدى هذه السبل قال له: ويحك! لا تفتحه؛ فإنك إن تفتحه تلجه إلى يوم القيامة)، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذه الآية ذكرت أن سبيل الله عز وجل واحدة، وأن السبل الملتوية المنحرفة كثيرة جداً، ولعل واقعنا اليوم -ونحن نعيش أحزاباً وفئات وأفكاراً ومذاهب شتىً- يجعلنا نتصور معنى هذه الآية تصوراً كاملاً، وكيف لا والرسول صلى الله عليه وسلم قد فسر لنا هذه الآية في قوله عليه الصلاة والسلام: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة.
قالوا: من هي يا رسول الله؟! قال: من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي)؟! فما عليك -يا أخي- وأنت تبحث عن سبيل النجاة، وأنت تبحث عن سبيل السعادة وأنت تطلب وتنشد طريق الجنة إلا أن تفتش في نفسك، وإلا أن تفتش في بيتك، وإلا أن تفتش في أولادك وأهلك، فإن كانوا على المنهج الذي جاء به رسولنا صلى الله عليه وسلم دون زيادة أو نقص فعليك أن تشكر الله، وأن تسأل الله عز وجل الثبات على هذا الأمر، وإن كنت في أهلك أو في نفسك أو في بيتك على غير المنهج الذي جاء به رسولنا صلى الله عليه وسلم فعليك أن تخشى الله في نفسك أولاً، ثم تخشى الله في هذه الذرية وفي هؤلاء الأهل الذين استرعاك الله عز وجل عليهم، لتعود إلى الطريق المستقيمة التي أمرك الله عز وجل بسلوكها في قوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153].(29/14)
وجوب الحذر من الغلو في الدين
إن مما يحزن أنه في أيامنا الحاضرة توجد مذاهب وأفكار تنتسب إلى الغلو وتزيد في دين الله عز وجل، وإذا مُني ديننا وإذا مُنيت أمتنا الحاضرة وإذا مُني زماننا الحاضر بأناس خالفوا أوامر الله عز وجل وتنكبوا عن منهجه فلقد مُني بما هو أخطر من ذلك، حيث مُني بأناس يغيرون ويبدلون في شرع الله عز وجل، ويشرعون للناس ما لم يأذن به الله، ويغلون في دين الله عز وجل، ويأتون بأشياء ما فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقسم بالله العظيم على أنه لو بُعث فينا اليوم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لحمل السلاح على هؤلاء الذين يشرعون في دين الله ما لم يأذن به، وهؤلاء الذين يأتون بعبادات ما شرعها الله عز وجل ولا شرعها رسوله، قبل أن يحمل السلاح على الملاحدة والشيوعيين الذين ينكرون الخالق والدين؛ لأن أولئك أناس أعلنوا كفرهم بالله عز وجل، أما هؤلاء الذين غلوا في دين الله فصاروا يضيفون إلى دين الله أشياء لم يشرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كذبوا الله عز وجل الذي قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، واليوم هو يوم عرفة في حجة الوداع، {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، وكذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال: (تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك)، فقالوا: هذه عبادة، وهذه بدعة حسنة، وهذا أمر محبوب، فندخل هذا وهذا في دين الله عز وجل.
حتى كاد دين الله أن لا يثبت في أذهان هؤلاء، وأن لا يقر له قرار في نفوسهم.
وهذا أمر ينتشر في كثير من بلاد المسلمين، حيث تراهم يشرعون أموراً لم يشرعها الله عز وجل، وإني خائف عليهم من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة)، أما تلك الواحدة فإن منهجها واضح، وإن دينها بين، فهذا كتاب الله عز وجل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد أكبر منهج لدين الله، وهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما زالت وستبقى إلى يوم القيامة غضة طرية، وهذا تاريخ المسلمين في الصدر الأول الذي أمرنا بالاقتداء بهم من الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، أما هؤلاء الذين جاءوا ببدعة سموها بدعة حسنة فنسوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار) فقالوا: لا يا رسول الله، ليست كل بدعة ضلالة، بل هناك بدعة حسنة.
فكلما استحسنته نفوسهم جاءوا به وأضافوه إلى دين الله، فأصبح هذا الدين غير ثابت في نفوس هؤلاء، وهذا أمر خطير انتبهوا له أيها المسلمون، وقفوا عند حدود الله؛ فإن الزيادة في دين الله أعظم عند الله عز وجل من النقص في دينه؛ فإن من زاد في دين الله فقد وضع نفسه إلهاً يشرع لنفسه وللناس، وأما من نقص في دين الله فإنه عاصٍ، وهو تحت مشيئة الله عز وجل وإرادته، إن شاء غفر له وإن شاء عذبه.
إذاً علينا أن ننتبه لهذا الخطر، وأن نحذر، وأن نسلك سبيل الله، فإن سبيل الله واحدة، وليس هناك إلا سبيل واحدة، ولذلك جاءت السبيل هناك مفردة وجاءت السبل متعددة، فقال الله عز وجل: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153].
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يرد المسلمين إلى دينه رداً جميلاً، وأن يوفقهم للوقوف عند حدود الله وعند أوامر الله، فلا يزيدون في دين الله ما لم يشرعه الله عز وجل أياً كانت هذه الزيادة، ولا ينقصون في دين الله.
فيتعرضون لعقوبة الله عز وجل وسخطه، كما أسأل الله تعالى أن يرد المسلمين إليه رداً جميلاً في مشارق الأرض ومغاربها، وأن يوفق ولاة المسلمين لرفع راية الإسلام على الوجه الذي يرضيه عنا وعنهم، وأسأله سبحانه وتعالى أن يجعل أمرنا وأمر المسلمين كافة فيمن خاف الله عز وجل واتقاه، ونفذ أحكامه، وحكَّم شرعه ظاهراً وباطناً في كل صغيرة وكبيرة، وأن يقينا جميعاً ولاة السوء الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(29/15)
الأسئلة(29/16)
نصيحة للشباب
السؤال
ما هي نصيحتك للشباب التي يجب أن يلتزموا بها، وأن يقوموا بها في هذا العصر؟
الجواب
نصيحتي للشباب ولغير الشباب أن يثبتوا أقدامهم على هذه الأرض التي أصبحت اليوم تهتز بكثير من الناس، وأصبح كثير من الناس الآن على مفرق طريقين بين الحق والباطل، فأوصي هؤلاء الشباب أن يثبتوا أقدامهم، وأن يلتزموا بأوامر الله عز وجل، وأوصيهم بما أوصى به رسول صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان، فإن حذيفة بن اليمان لما أخبره الرسول صلى الله عليه وسلم بما سيحدث قال: (يا رسول الله! فماذا تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم.
قال: قلت: يا رسول! وإن لم يكن يومئذ للمسلمين جماعة ولا إمام؟ قال: فاهرب بدينك، ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يأتيك الموت وأنت على ذلك).
ولكن جماعة المسلمين ستبقى -بإذن الله- إلى يوم القيامة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبرنا في الحديث الصحيح فقال: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين حتى يأتي أمر الله -أو حتى تقوم الساعة-) ولذلك فإني أقول لهؤلاء الشباب: عليهم أن يلتزموا، وأن لا يتسرعوا في مفهومهم أو في تصوراتهم أو في أي أمر من أمورهم، كما أن عليهم أن لا يغتروا بهذه الحضارات الملفقة التي جاءت من الشرق والغرب، فإنما هي -كما أخبر الله عز وجل- كسراب بقيعة، والحق هو الذي يبقى، وهذه ستزول؛ لأن الله عز وجل قد حكم بأن هذا الدين سيبقى إلى يوم القيامة، ولذلك فإني أدعو هؤلاء الشباب إلى أن يثبتوا على دين الله عز وجل، خاصة هؤلاء الشباب الذين منَّ الله عليهم بالاتجاهات الخيرة، فأصبحنا نتفاءل بهم كثيراً، وقد كان كثير من الناس يتشاءم، ويظن أن فلاناً وفلاناً من الناس فقط هم الذين سيحرسون دين الله في الأرض، فإذا بالأمر يأتي فجأة، فيتجه شباب المسلمين إلى الله تعالى في كل مكان من أرض الله الواسعة، حتى في بلاد الكفر، فقد ذهب كثير من أبناء المسلمين إلى هنالك، ولربما تكون هناك نوايا سيئة لطائفة من الناس، ويتوقعون أن فلانا سيفسد حينما يذهب إلى بلاد الكفر، فإذا به يعود قد زاد إيماناً وصلابة في دينه وقوة في عقيدة، فأوصي هؤلاء وأولئك جميعاً بأن يثبتوا على دين الله، وأن لا يتأثروا بما يحيط بهم من أخطاء وأخطار، وأن يتمثل أحدهم بقول الشاعر قاصداً ربه عز وجل: فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب كما أدعوا هؤلاء الشباب إلى أن يثقفوا وأن يوعوا إخوانهم الذين أُصيبوا بما أصيبوا به من تخلف أو ضرر في دينهم.(29/17)
نصيحة للنساء
السؤال
كثير من الأخوات المسلمات بحاجة إلى توجيه نصيحة لهن، خاصة من تخلط في أمورها بين التبرج وغيره من الأمور التي اُبتلي بها كثير من النساء في هذا العصر؟
الجواب
نقول للأخوات: عليهن أن يعلمن أنهن يُغزين في أيامنا الحاضرة أكثر مما يُغزى غيرهن، فتزهد إحداهن في الدين في كثير من الأحيان، ويقال لها: إن هذا الدين قد كبح جماح المرأة، وقد أغلقها عن الناس، وقد عطل نصف المجتمع، وقد ذهب الناس بحرية المرأة في أيامنا الحاضرة، والدين يكبت هذه المرأة.
وغير ذلك من الكلمات التي نسمعها وتسمعها المرأة، وهذه في الحقيقة لا أعتقد أنها ستؤثر على المرأة المؤمنة التي تقرأ كتاب الله عز وجل؛ لأنها تعرف حقوق المرأة قبل أن يأتي هذا الدين، وتعرف حقوق المرأة بعد أن جاء هذا الدين، فتتصور واقعها يوم كانت في الجاهلية، حيث كانت تُدفن خشية العار، وكانت لا ترث حتى ورثها الله عز وجل، بل كانت تُورث، فكانت المرأة إذا مات زوجها يتسابق أحد أولاده من غيرها فأيهم وضع عليها رداءاً كان أحق بها، حتى أنزل الله عز وجل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} [النساء:19]، فلا أعتقد أن واحدة من الأخوات المسلمات تتأثر بذلك، خاصة أننا نعيش في فترة قد تعلمت فيها المرأة وتثقفت، فأصبحت تعرف ما لها وما عليها، وتعرف ماضيها وحاضرها، فأدعو هذه المرأة إلى أن لا تنخدع بهذه الدعايات المضللة التي تفد إلينا من الشرق أو من الغرب أو تصنع في بلادنا وفي صحفنا، وعليها أن لا تغتر بشيء من ذلك، فإن الله عز وجل قد أكرمها بالإسلام، كما أدعوها إلى أن لا تتنازل عن شيء من كرامتها، أو شيء من حجابها، أو تظهر شيئاً من زينتها؛ لأن الله عز وجل قد ضرب لها مثلاً بأفضل النساء، ونادى أفضل النساء بأعظم نداء، فعلى هذه المرأة أن تلتزم بهذا النداء، وهو قول الله عز وجل: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ إِنْ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب:32 - 33]، ثم لا ننسى الآية الآتية بعدها: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34]، فعلى المرأة المسلمة أن تبلغ دين الله عز وجل إلى النساء الأخريات؛ لأن معنى قوله تعالى: (واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة) معناه أمر للمرأة المسلمة -خاصة زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم- بأن تبلغ دين الله عز وجل لهذا العالم، وأسأل الله تعالى أن يثبت أقدام النساء كما أسأله أن يثبت أقدام الرجال.(29/18)
حكم التمسح والطواف بالأضرحة
السؤال
بعض الفرق التي تعيش معنا اليوم وتتمسح بالأضرحة وتسألها الحاجات من دون الله يقول بعض أفرادها: إن الآيات التي وردت في بيان أن عبدة الأصنام يعبدونها لتقربهم إلى الله زلفى نزلت في قوم معينين، وهم كفار مكة أو مشركوا قريش الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فما هو ردكم؟
الجواب
الحقيقة أن هذا الكلام خطير؛ لأن معنى ذلك أن القرآن سيُحصر في وقت معين، والله تعالى يقول: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} [الأعراف:158]، فالرسول صلى الله عليه وسلم هو رسول الله إلى يوم القيامة، وأي آية نزلت في فترة فإنها تتحدث عن كل الفترات إلى يوم القيامة، وعلى هذا فإننا نقول لهؤلاء: اتقوا الله عز وجل، ولا ترموا المسلمون وتقذفوهم في النار، وعليكم أن تبينوا لهم طريق الحق، وعليكم أن تبينوا لهم أن الأوثان التي تُعبد من دون الله أياً كانت هذه الأوثان فإنها أوثان، وإذا كان هؤلاء يعتقدون أنها تقربهم إلى الله عز وجل يوم القيامة ويرجون شفاعتها فإن هذه الكلمة لا تختلف أبداً عن قول المشركين: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]، فالمشركون قالوا: (نعبدهم)، وهؤلاء قالوا كلمة غير كلمة (نعبدهم)، فالاختلاف لفظي، أما الحقيقة فإن ما يفعله كثير من الناس اليوم حول الأضرحة بل حول قبر الرسول صلى الله عليه وسلم هو شرك، ولو ذهب أحدنا الآن إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم لرأى طائفة من الناس قد أداروا ظهورهم إلى كعبة الله المشرفة، واتجهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم خاشعون، ويقولون: يا رسول الله! أعطنا كذا.
فمن كان يتصور أن هذا سيوجد في المسلمين فضلاً عن أن يوجد في بقعة من أفضل بقاع الأرض وهي مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي مسجده، فالشرك قد عاد برمته، ولما قال رجل للرسول صلى الله عليه وسلم وهو حي: ما شاء الله وشئت أنكر عليه وقال: (أجعلتني لله نداً؟!) فكيف والرسول صلى الله عليه وسلم ميت؟! والعجيب في هؤلاء أننا إذا قلنا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم ميت قالوا: لا.
الرسول حي.
فنقول: كفرتم بالله إذا قلتم: إن الرسول حي؛ لأن الله تعالى يقول: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30]، فكيف يقول الله تعالى: إنه ميت وأنت تقول: هو حي؟ وقال تعالى: {أَفَإِْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران:144]، ولذلك لما اضطرب الناس عند أن مات رسول صلى الله عليه وسلم، وبعضهم أنكر موت رسول الله صلى الله عليه وسلم قام أبو بكر رضي الله عنه على الملأ وقال: (من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات).
والله عز وجل قد حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء، ولكنه ميت، وهو حي حياة برزخية، حتى وفي حياته قبل موته صلى الله عليه وسلم لا يستطيع أن يعطي الإنسان كل شيء.
إذاً ليس هناك الآن لنا سبيل إلى أن نسأل الرسول صلى الله عليه وسلم حاجة من الحاجات، وإنما علينا أن نتقرب إلى الله عز وجل بحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالصلاة عليه، وبالسلام عليه، وتكون محبتنا ليست محبة عاطفة، فليست محبتي ومحبتك لرسول الله صلى الله عليه وسلم كمحباتنا لأزواجنا ولأولادنا، بل محبتنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم محبة متابعة يجب أن تكون أعظم من العاطفة ومن غيرها، وهؤلاء إذا قيل لهم: اتقوا الله، لا تتمسحوا بقبر رسول الله، هذا أمر لا ينفع ولا يضر، لا تسألوا الرسول عليه الصلاة والسلام، بل اسألوا الله قالوا: أنتم لا تحبون الرسول صلى الله عليه وسلم.
ووالله إننا لأشد حباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم منهم، ولذلك فإن علينا أن نلتزم، فهؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قائلهم: (ألا إني متبع، ولست بمبتدع).
ونحن علينا أن نتبع وأن لا نبتدع؛ لأن كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، أما الاتباع فقد أمرنا به، كما قال عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31]، ولذلك فإني أرجو من الله سبحانه وتعالى أن يهدي هؤلاء الذين ضلوا الطريق ففهموا هذا الدين على غير حقيقته إن أحسنا بهم الظن، وإلا فإنهم قد أساءوا إلى هذا الدين، وصرفوا أنواعاً من العبادة لا تكون إلا لله سبحانه وتعالى صرفوها لمخلوق من المخلوقين، أسأل الله أن يهدينا وإياهم سواء السبيل.(29/19)
حكم تفضيل الكفار على المسلمين
السؤال
هناك من المسلمين من انخدعوا بحضارة الغرب الزائفة وبهرتهم، فأصبحوا يفضلون النصارى على المسلمين بدعوى أن النصارى يصدقون في الحديث، ولا يخلفون الوعد، وشيء من هذا القبيل، فيقولون: إن النصارى أفضل من المسلمين، ولا ينقص النصارى إلا أن يصلوا ويصوموا ليكونوا في غاية الكمال البشري، فما رأيكم في هذه المقالة الخبيثة؟
الجواب
تفضيل النصارى أو غير المسلمين على المسلمين كفر وردة، والله تعالى نهانا عن موالاة غير المسلمين فقال: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [المائدة:55]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة:1]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنْ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} [الممتحنة:13]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} [المائدة:51]، ولو أردنا أن نحصر الآيات في مثل هذه المواضيع لوجدناها كثيرة، وهذه الحجة الشيطانية انخدع بها طائفة من ضعاف النفوس من المسلمين، فقالوا: إن هناك أخلاقاً وفضائل يتمتع بها النصارى أكثر من المسلمين، وهذا فيه شيء من الحق، وفيه شيء من الباطل، أما أنهم أفضل من المسلمين فهذا أمر باطل، وأما أن هناك أخلاقاً يتمتع بها النصارى -هي في الحقيقة من أخلاق المسلمين- فهذا فيه شيء من الحق وماذا يريد الشيطان من البيت الخرب، فما دامت نفوسهم قد خربت ومصيرهم إلى النار فالشيطان لا يتوعد إلا أن يخرج الناس من الجنة، ومادام قد أخرج هؤلاء من الجنة وأدخلهم النار فإنه قد انشغل بغيرهم من المسلمين، فغيَّر كثيراً من أخلاقهم وفضائلهم، أما أولئك فإن ما لديهم من الفضائل لا ينفعهم عند الله عز وجل شيئاً، ولذلك الله تعالى يقول: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} [هود:15] أي: بعمله، كأن يبني المساجد، ويبني المدارس، ويبني المستشفيات، لكنه غير مؤمن {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} [هود:15]، أي: نعطيهم الجزاء في الدنيا؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يظلم أحداً.
فلا يغتر أحد بعمل هؤلاء الكافرين، فإنه يُعجل الجزاء لهم في الحياة الدنيا حتى لا يبقى لهم نصيب في الحياة الآخرة، وما لديهم من الأخلاق والفضائل فإنما هو موروث من أخلاق المسلمين يوم استقر المسلمون في بلاد الغرب، وحينما فتح المسلمون مناطق كثيرة من بلاد الكفر، ثم بعد ذلك انتشرت هذه الأخلاق وهذه الفضائل وهذه العادات، حتى إذا تقلص الإسلام من نفوس هؤلاء بقيت تلك الأخلاق.
وعلى كلٍ فإن الشيطان لم يحارب هذه الأخلاق في نفوس هؤلاء؛ لأنه سواء استقاموا على هذه الأخلاق والفضائل أو انحرفوا عنها فهم حطب لجهنم.(29/20)
حكم الغلو في الأنبياء والصالحين
السؤال
هناك من يغالي في الأحياء، فيتمسح ببعض الأحياء كالعلماء -مثلاً- ويقبل أقدامهم، ويكاد يسجد لهم من دون الله، فنرجو إلقاء الضوء على هذه المسألة؟
الجواب
الخضوع لغير الله لا يجوز، إلا فيما أباح الشرع من أن يتواضع الإنسان لوالديه أو العلماء من باب التقدير والاحترام فقط، أما أن يصل إلى تقبيل الأقدام أو أن يصل إلى الانحناء كما يفعله طائفة من الناس إذا أراد أحدهم أن يحيي الآخر فينحني أمامه فإن هذا لا يجوز؛ لأن هذا لا يكون إلا لله عز وجل، فإذا كان الله تعالى قد نهانا أن نعبد غيره أو أن نصرف نوعاً من العبادة لغيره فإن ما نقدمه للأحياء أو للأموات على حد سواء، فكل ذلك صرف نوع من أنواع العبادة لغير الله عز وجل، فإذا انحنيت أمام قبر ميت أو أمام أعتاب حي أو أمام أي مخلوق من المخلوقات انحناءً لا يكون لله عز وجل فقد صرفت نوعاً من العبادة لغير الله، وهذا أيضاً يدخل في باب الشرك، إلا أن هذا يوجد أمام الأموات أكثر من الأحياء، كما يحصل عند الولي فلان والسيد فلان، بل عند الرسول صلى الله عليه وسلم الذي قال: (اللهم! لا تجعل قربي وثناً يُعبد) ويقولون: لا.
لابد أن يُعبد قبرك يا رسول الله.
فيذهبون وينحنون أمام قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويذرفون الدموع، ولا يقولون كما أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن نسلم عليه أو نصلى عليه: (السلام عليك يا رسول الله)، وإنما يقولون: يا رسول الله! أعطنا كذا.
يا رسول الله! أعطنا كذا.
والله تعالى أخبرنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يملك نفعاً ولا ضراً لأحد، إلا أن يهتدي الناس بما جاء به من الهدى، كما قال عز وجل: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:188]، وإذا كان هؤلاء يقولون: إن رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم يستطيع أن يغيثنا في هذا الأمر وهو ميت فإنهم ينكرون وفاته، ويكفرون من هذه الناحية؛ لأنهم ينكرون آيات كثيرة من كتاب الله تخبرنا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد مات كما يموت سائر البشر، إلا أن الله تعالى يرد عليه روحه إذا سلم عليه أحد ليرد عليه السلام، وحفظ جسده من أن تأكله الأرض، أما الرسول صلى الله عليه وسلم فهو ميت، ولربما يغالي أحدهم ويقول: إن الرسول خُلق من نور، والله تعالى يقول له: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الكهف:110]، والبشر يختلف عن النور؛ لأن البشر هو الذي له جسم يباشر الأشياء، ويقولون: لا.
فالرسول خلق من نور، وليس له ظل.
فنقول لهؤلاء: اتقوا الله! فأنتم تكذبون الله عز وجل الذي يقول: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الكهف:110]، وتكذبون رسولنا صلى الله عليه وسلم الذي يقول: (ألا إنما أنا بشر)، ويقول أحدهم: هو أول المخلوقات.
ونقول له: كذبت، فالرسول صلى الله عليه وسلم ليس أول المخلوقات، ويزيده شرفاً أن يكون آخر الرسل، وهو أعظمهم وأفضلهم عند الله عز وجل، وهو سيد ولد آدم، وهؤلاء يأتون بأشياء ليس لها أدلة، ويشرعون في دين الله ما لم يأذن به الله، ومن هنا ضل القوم الطريق، نسأل الله لنا ولهم الهداية والاستقامة.(29/21)
الجمع بين حديث: (كل بدعة ضلالة) وحديث: (من سن في الإسلام سنة حسنة)
السؤال
يشكل على بعض الناس الجمع بين قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل بدعة ضلالة)، وبين قوله صلى الله عليه وسلم: (من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة)، فما هو الجمع بينهما؟
الجواب
ليس هناك إشكال بين الحديثين، وكلاهما حديثان صحيحان، فقوله صلى الله عليه وسلم: (كل بدعة ضلالة) حديث صحيح، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يخطب به يوم الجمعة، وقوله صلى الله عليه وسلم: (من سن في الإسلام سنة حسنة) هذا أيضاً حديث صحيح، وله مناسبة.
وأما كيف نجمع بينهما فنقول: كل بدعة ضلالة، لكن السنة إذا غفل عنها الناس ونسيها الناس ثم جاء أحد المسلمين وذكر المسلمين بهذه السنة فحينئذٍ نقول: سن في الإسلام سنة حسنة؛ لأن الحديث الذي فيه: (من سن في الإسلام سنة حسنة) سببه أن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا إلى الإنفاق والبذل، فقام رجل ومعه صرة من مال كادت يده أن تعجز عن حملها، فسلمها للرسول صلى الله عليه وسلم أمامه علناً، فقام الناس وتدافعوا، وصار كل واحد منهم يقدم شيئاً من المال، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (من سن في الإسلام سنة حسنة ومن سن في الإسلام سيئة).
إذاً من أحيا سنة غفل عنها الناس فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن أمات سنة عمل بها الناس وجعل البدعة بدلها فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، أما الأصل فإن الدين كامل، وكل بدعة ضلالة.
والله أعلم.
والحمد لله رب العالمين.(29/22)
دروس وعبر من قصة يوسف عليه السلام
إن قصة يوسف من أروع القصص وأعجبه في القرآن الكريم؛ وذلك لما فيها من العبر والعظات، وأنواع التنقلات من حال إلى حال، ومن ذل إلى عزّ، ومن فرقة وشتات إلى اجتماع وائتلاف، وفيها يظهر لطف الله تعالى وعنايته بأوليائه وأصفيائه، وتأييد الله لهم في أحلك الظروف وأشدها، وغير ذلك.(30/1)
بين يدي سورة يوسف عليه السلام
الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونثني عليه الخير كله، ونشكره ولا نكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه، ومن دعا بدعوته وعمل بسنته ونصح لأمته إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن قصة يوسف عليه الصلاة والسلام مليئة بالوعظ والتذكير، والترغيب والترهيب، ويتبين من خلالها الفرج بعد الشدة، وتيسير الأمور بعد تعسرها، وحسن العواقب المشاهدة في هذه الدار.
فيجب علينا أن نأخذ من هذه القصة العظة والعبرة، لا سيما وأن المبتلى في هذه القصة نبي من خيار أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام.
وقد اشتملت على محن وعلى أمور عظام تعجز عن حملها الجبال، ثم يتحملها ولي من أولياء الله عز وجل؛ لنأخذ من قصته الدروس والعبر، وهذه السورة نستطيع أن نلخص محتواها في جزء من آية وردت فيها، فإن يوسف عليه الصلاة والسلام حينما انكشف أمره لإخوته قال لهم: {أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:90] ونستطيع أن نلخص هدف السورة في قوله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:90]، فالتقوى والصبر هما سبب السعادة في الحياة الدنيا وفي الآخرة، فقصة يوسف عليه السلام من أروع وأعجب القصص التي وردت في القرآن الكريم، لما فيها من أنواع التنقلات من حال إلى حال، ومن محنة إلى محنة، ومن ذل إلى عز، ومن فرقة وشتات إلى انضمام وائتلاف، فتبارك من قصها وجعلها عبرة لأولى الألباب.
وسنتحدث عما تيسر من الدروس والعبر المستفادة من قصة يوسف عليه السلام.(30/2)
ضرورة العدل بين الأولاد
في قوله تعالى: {لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} [يوسف:8] ذهب طائفة من المفسرين إلى أن إخوة يوسف الأحد عشر أنبياء، وهم الأسباط الذين يذكرهم الله عز وجل في كل آية يعدد فيها الأنبياء، فقد أخذتهم الغيرة بسبب تقديم يعقوب عليه السلام يوسف في المحبة، فإن يوسف عليه الصلاة السلام نال من أبيه محبة شديدة، حتى ما كان يسمح ليوسف عليه السلام أن يخرج مع إخوته لرعي الغنم، وهذه المحبة كانت من أكبر الأسباب التي أوغرت صدور إخوة يوسف ضد أخيهم يوسف عليه السلام.
ولذلك فإن العدل بين الأولاد يعتبر أمراً مهماً لا يجوز تضييعه، ولا يجوز تفضيل بعضهم على بعض، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي النعمان بن بشير رضي الله عنهما: (إني لا أشهد على جور، اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم) حينما أراد أن يفضل أحد الأولاد على بعض، ولذلك ما يحدث من العقوق من الأولاد لربما يكون أكبر أسبابه هو عدم العدل بين الأولاد، فهؤلاء بينوا العلة التي جعلتهم يغارون من أخيهم يوسف عليه السلام حيث قالوا: {لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} [يوسف:8] حتى قالوا لأبيهم عليهم الصلاة السلام جميعاً: {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [يوسف:8] ثم أدى ذلك إلى أن يفكروا في قتل أخيهم، فقالوا: {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ} [يوسف:9] وهذا دليل على أن تفضيل أحد الأولاد دون الآخرين يغرس الحقد والكراهية لهذا الولد المفضل، ولربما يصل إلى ذلك الأب فيكون سبباً من أسباب العقوق.(30/3)
الصبر على الابتلاء وعدم الجزع
المسلم عند البلاء لابد أن يصبر، فإن الله سبحانه وتعالى خلق هذه الحياة وهي مبنية على الأكدار، يقول الشاعر: بنيت على كدر وأنت تريدها صفواً من الآفات والأكدار فمن أراد أن تصفو له الحياة فعليه أن يراجع حسابه؛ لأنه يحاول أمراً مستحيلاً، فالدنيا مليئة بالمصاعب والمتاعب التي تعكر صفو هذه الحياة، وأما الراحة الأبدية والسعادة السرمدية ففي الآخرة في جنة عرضها السماوات والأرض، ولذلك أنبياء الله عليه الصلاة والسلام يلاقون في هذه الدنيا من العناء والتعب ما لا يتحمله غيرهم، ولكنهم يقابلون هذه البلايا وهذه الفتن بالصبر، ولذلك لما فوجئ يعقوب عليه السلام بالقصة المكذوبة المصطنعة في أن يوسف قد أكله الذئب قال: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18]، والصبر الجميل هو الذي لا يكون معه جزع، وما ورد من حزن يعقوب عليه السلام على ولده يوسف فإنما هي عاطفة الأب نحو ابنه، فالصبر هو طريق الفرج، وهو طريق الجنة {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10]، فإذا ابتلي الإنسان بمصيبة أو بنكبة في نفسه أو ماله أو أهله أو في أي شيء من الأمور.
فعليه أن يصبر الصبر الجميل، ويعقوب عليه الصلاة والسلام قال لما فقد ابنه يوسف: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18] وقال لما فقد ابنه الآخر: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا} [يوسف:83].(30/4)
لطف الله وعنايته بأوليائه
لما عدل أخوة يوسف عن قتل يوسف عليه السلام بناءً على مشورة أخيهم وألقوه في البئر ما كانوا يظنون أن يوسف عليه السلام سيخرج من هذه البئر حياً، بل كانوا يظنون أنه سيلقى حتفه في ذلك البئر، وما كان يوسف عليه الصلاة والسلام -لولا يقينه بربه- يظن أنه سوف يخرج من هذا البئر، ولكن الله تعالى له لطف خفي، وهذا اللطف لربما يتأخر ولا يأتي إلا في ساعة الصفر، وفي آخر لحظة من لحظات احتياج هذا الإنسان إلى رحمة الله عز وجل.
من يصدق أن يوسف عليه السلام يلقى في البئر طفلاً ليصبح في يوم من الأيام ملك مصر؟ إنها آية من آيات الله عز وجل، فعلى المؤمنين أن يتمسكوا بطاعة الله، وعليهم التسليم والرضا بقضاء الله عز وجل وقدره في أي أمر من الأمور التي تصيبهم، فإذا كانوا كذلك فليبشروا من الله عز وجل بالفرج، فلما ألقي يوسف عليه السلام في البئر جاءت قافلة تريد مصر، فأرسلوا واردهم الذي يطلب لهم المياه فأدلى دلوه فتعلق به يوسف عليه السلام، كما قال تعالى: {وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [يوسف:19]، ولما ذهب به السيارة إلى مصر وباعوه بها اشتراه عزيز مصر، وأوصى ملك مصر زوجته به خيراً {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [يوسف:21] ثم علمه الله عز وجل الحكمة وتأويل الأحاديث، وهذا كله من لطف الله عز وجل بأوليائه الصالحين، فالمرء إذا تعرف إلى الله عز وجل في حال الرخاء عرفه الله عز وجل في حال الشدة، وإذا أعرض عن الله سبحانه وتعالى في حال الرخاء فإن الله عز وجل يتركه في وقت الشدة، ولذلك يوسف عليه الصلاة والسلام أنقذه الله عز وجل من كل هذه المحن والشدائد العظام والأحداث الجسام، قال الله عز وجل: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الزمر:61].
فقد نرى ولياً من أولياء الله يحيط به العدو من كل جانب، وتتكالب عليه فتن الحياة الدنيا ومصائبها وآفاتها، حتى يظن الناس أنه قد هلك، وأنه لا يستطيع الخلاص من ذلك كله، فإذا به يتخلص بقدرة الله عز وجل وفضله وكرمه، كما قال عليه الصلاة والسلام: (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)، فيوسف عليه الصلاة والسلام عرفه الله عز وجل في وقت الشدة والضيق وخلصه، وندب إليه سيارة من الناس كانوا يسيرون في صحراء سيناء، ووقعوا على تلك البئر فأخرجوه منها، ثم أصبح هذا الغلام في يوم من الأيام ملكاً على مصر.(30/5)
استشعار رقابة الله تمنع العبد من الوقوع في المحرمات
عرضت امرأة العزيز نفسها على يوسف، وطلبت منه أن يفعل بها الفاحشة، وكانت من أجمل النساء، إضافة إلى أنها سيدته، والمسيطرة عليه وعلى شئون البيت، بل وعلى العزيز نفسه، وكان يوسف عليه السلام شاباً في ريعان شبابه، وبحاجة إلى هذا الأمر وإلى إشباع غزيرته، وشهوة الجنس شهوة سريعة الاشتعال، لا تعطي المرء فرصة للتفكير، ولربما يغفل المرء عن إيمانه فيقع فيما حرم الله.
ولكن يوسف عليه الصلاة والسلام -بحفظ من الله عز وجل- لما عرضت عليه هذه الشهوة في خلوة لا يطلع عليه إلا الله عز وجل قال: {مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف:23].
فالإنسان في مثل هذه المواقف عليه أن يراقب الله عز وجل، لاسيما إذا عرضت عليه هذه الشهوة وهو بعيد عن أعين الناس، ولذا كان أحد السبعة الذين يظلهم الله عز وجل في ظل عرشه يوم القيامة، كما في الحديث: (ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله).
وتأمل معي هذا الموقف! رجل تدعوه امرأة إلى الفاحشة، والمرأة ذات مكانة عالية، ولربما فرضت نفسها بالقوة على هذا الرجل، إضافة إلى أنها باهرة الجمال، والجمال كما هو معلوم من أشد ما يغري الرجل بالمرأة، ولكن مع ذلك كله رفض فعل الفاحشة، وقال: إني أخاف الله.
فكان جزاؤه أن جعل الله عز وجل له جنتين جنة لسكنه، وجنة لأزواجه وخدمه، وإنما كانتا اثنتين ليضاعف له السرور بالتنقل من جهة إلى جهة، قال تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46] فلابد من أن يتفكر العبد ويتذكر ساعة الوقوف بين يدي الله عز وجل، ولذلك مدح الله تعالى الذين يخشون ربهم بالغيب فقال جل جلاله: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [الملك:12] غابوا عن أعين الناس، ولكنهم استشعروا عظمة نظر الله إليهم، وذلك كله يدل دلالة واضحة على ثبات نبي الله يوسف عليه السلام في مثل هذه المواقف، التي لا يثبت فيها إلا من زكى الله قلبه وطهر نفسه.(30/6)
تأييد الله لأوليائه في أحلك الظروف وأشدها
جعل الله عز وجل لأوليائه الصالحين في أحلك المواقف وأصعب الظروف فرجاً ومخرجاً، ويتضح هذا الأمر بجلاء من خلال ما حصل من امرأة العزيز مع يوسف عليه السلام، لما جاء العزيز زوجها ووجد المرأة تلاحق يوسف عليه السلام داخل الدار، فقلبت القضية وجعلت يوسف عليه السلام كأنه هو الذي يراودها عن نفسها، وهذا الظلم شديد الوقوع على النفس {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء:112] فقلبت القضية ضد يوسف عليه السلام، وادعت أن يوسف عليه السلام يلاحقها ويراودها عن نفسها، وليس لدى يوسف عليه السلام من الأدلة ما يستطيع أن يبرئ به نفسه؛ لأنه ضعيف مغلوب على أمره، خادم داخل البيت كالرقيق يباع ويشترى، من سيدافع عنه في مثل هذه الحال؟ ومن سيعيد إليه ماء وجهه وكرامته؟ ومن سيرد إليه اعتباره؟ فتلك المرأة اتهمته زوراً وبهتاناً حيث قالت: {مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يوسف:25].
ولكن الله عز وجل الذي بيده مقاليد السماوات والأرض أنطق طفلاً رضيعاً مازال في المهد في بيت امرأة العزيز، وشهد شهادة حق، وجعل هذه الشهادة مؤيدة بالبينات الواضحة {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف:26 - 27] فأصبح العزيز أمام الأمر الواقع، فعرف أن الذي فعل هذه الجريمة هو زوجته وليس يوسف عليه الصلاة والسلام.
فأظهر الله عز وجل براءة يوسف عليه السلام بطريقة ما كان أحد يفكر فيها أو يتصورها، وما كان يوسف عليه السلام يظن أن طفلاً في المهد سوف ينطق ليشهد ببراءته، فإن هذه تعتبر آية من آيات الله عز وجل، وهكذا يظهر الله عز وجل الحق على لسان ذلك الطفل الرضيع.
ولقد وصل ضعف الغيرة ببعض الرجال إلى أنه يرى زوجته تراود شاباً ثم لا يتمعر وجهه ولا يغضب لمحارمه فضلاً أن يغضب لله عز وجل، ولذلك تجد أن العزيز لم يغضب لما تأكد أن زوجته فيها فساد في فطرتها وانحراف في أخلاقها، وإنما قال: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ} [يوسف:29] وهذا في الحقيقة ليس موقف الرجال حينما يرون الخنا في أهليهم، نسأل الله السلامة والعافية، وهذه الدياثة التي يقول عنها الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة ديوث) فالرجل العاقل ذو الغيرة عليه أن يغضب في مثل هذه الأمور، وأن يضع حداً لهذه الزوجة التي تسعى إلى الفاحشة بنفسها، نسأل الله السلامة والعافية.(30/7)
تحمل المؤمنين للأذى وثباتهم على الحق
في المرة الأخرى أمرت امرأة العزيز يوسف عليه السلام أن يفعل معها الفاحشة بالقوة وهددته بالسجن إن امتنع من فعل الفاحشة، فجمعت النساء اللواتي كن يلمنها على حب يوسف عليه السلام لتريهن ما فيه من جمال {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف:31] فأغرين امرأة العزيز بهذا الشاب، {قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ} [يوسف:32].
ففي المرة الأولى كان عرضاً سريعاً خفيفاً، لكنه في هذه المرة أصبح عرضاً إجبارياً، إما أن يفعل بها الفاحشة أو السجن، ولكنه فضل السجن على الوقوع في الفاحشة، فقال: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف:33] فابتلى يوسف عليه السلام بحب النساء له؛ لأنه فيه نضارة، فتوسل إلى الله عز وجل بأن يصرف عنه مكر النساء، حتى لا يقع فيما حرم الله، لكنه فضل العيش في السجن على الوقوع في شيء مما حرمه الله عز وجل.
ولقد أصبح كثير من الناس اليوم لا يطيق السجن ولا ساعة من نهار، ولربما يترك كثيراً من أوامر الله عز وجل مخافة أن يدخل السجن، وأصبح كثير من الدعاة في أيامنا الحاضرة يتأخرون عن واجبهم خشية أن يدخلوا السجن، وأصبح كثير من المصلحين يرجعون من منتصف الطريق حتى لا يتعرضوا للأذى، وهذه من أكبر البلايا التي أصيب بها الناس في هذا العصر.
يوسف عليه الصلاة والسلام فضل العيش في السجن على أن يفعل شيئاً حرمه الله عز وجل، وهؤلاء استرخوا وناموا واستلذوا العيش الطيب وركنوا إلى الحياة الدنيا، فلا يقومون بواجبهم في الدعوة إلى الله تعالى، لا سيما من كان منهم من العلماء الذين أخذ الله عز وجل عليهم العهد والميثاق، ولكنهم لم يصدعوا بكلمة الحق خوفاً من البشر، قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران:187] فالناس اليوم أحوج ما يكونون إلى معرفة الحق، وحاجتهم إلى ذلك أشد من حاجتهم إلى الطعام والشراب والهواء.
ولذلك ذكر الله عز وجل عن قوم يبدءون مشوارهم بالإيمان، ولكنهم يرجعون من منتصف الطريق دون أن يكملوا مسيرتهم إلى الله عز وجل والدار الآخرة، فإذا أوذي أحدهم بسبب إيمانه ارتد عن الدين، وجعل ما يصيبه من أذى الناس سبباً صارفاً له عن الإيمان كعذاب الله الشديد الذي يصرف الإنسان عن الكفر، وكان مقتضى إيمانهم أن يصبروا ويتشجعوا، ويروا في العذاب عذوبة وفي المحنة منحة، فإن العاقبة للمتقين، يقول الله عز وجل عن هؤلاء: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت:10] إن الذي يرجع من منتصف الطريق دون أن يكمل مشواره كالذي يكون على طرف من الجيش فإن أحس بظفر أو غنيمة استقر وإلا فر، قال تعالى: {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ} [الحج:11].
والمؤمن بمقدار ما تزيد الفتنة والبلاء والعذاب أمامه بقدر ما يزيد إيمانه ويقينه بالله والثقة بنصره عز وجل، والمؤمن الحق حينما يرى العقبات في طريقه يزداد ثقة بالطريق الذي يسير فيه، وإذا رأى الطريق ممهدة مفروشة بالورود والرياحين فإنه يشك في صحة هذا المسار، وهذا هو الصحيح بالنسبة لسير المسلم إلى ربه سبحانه وتعالى، ولذلك وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ الذين تحزبوا ضدهم وأحاطوا بهم من كل جانب قالوا: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [الأحزاب:22] أي: من المحنة والابتلاء، ثم النصر على الأعداء {وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا * مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:22 - 23].
وفي عصرنا الحاصر نصبت العقبات في طريق الدعاة والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وتحولت السجون إلى معتقلات للمؤمنين، ولربما لو عملنا إحصائية في سجون العالم الإسلامي هل الذين يدخلونها أكثر من الجامحين الفسقة المجرمين أم من الدعاة الصالحين لرأينا أن جُلّ من يدخل هذه السجون هم المصلحون والدعاة إلى الله تبارك وتعالى، وهذا دليل على صحة الطريق إلى الله عز وجل والدار الآخرة.
فعلى الداعية المخلص أن يصدع بكلمة الحق، وأن يتحمل في سبيل ذلك كل ما يلاقيه حتى لو تحمل السجن مدى الحياة، وعليه أن يتحمل الأذى ما دام ذلك في ذات الله؛ لأن الله عز وجل قد اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة.
فعلى الدعاة أن يعلموا أن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم في بيعة سابقة مصدقة في التوراة والإنجيل والقرآن، فليس هناك خيار في مثل هذا العمل، وإنما الأمر هو جبن يصيب بعض الناس فيرجع من منتصف الطريق، يخشى على نفسه أو على ماله أو على أهله، أو يخشى أن يدخل السجن، وما عرف أن يوسف عليه الصلاة والسلام لبث في السجن بضع سنين، وأن موسى عليه الصلاة والسلام قال له الطاغية الجبار: {لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء:29] وأن محمداً صلى الله عليه وسلم لبث في السجن ثلاث سنوات مقاطعاً في الشعب.
المسألة هي مسألة ابتلاء، والله عز وجل ليس عاجزاً أن ينصر أولياءه، وإنما الله تعالى يريد أن يتميز المؤمن الصادق من الكاذب المنافق، يقول تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران:179] فتمييز الخبيث من الطيب لا يكون إلا عند الشدائد وعند الأمور العظام، أما إذا كان الناس كلهم على مستوى كامل في الإيمان وكلهم أتقياء وليس هناك من يؤذي الدعاة والمصلحين لو كان الأمر كذلك لكان الناس كلهم دعاة ومصلحين، ولتعطلت الحكمة من خلق النار، والله عز وجل يقول: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود:119].
إذاً التهديد لا يضير المؤمن، والمؤمن كذلك لا يقدم شهوة حاضرة على غيب تأكد من أنه سوف يلاقيه، ولذلك لما هددت امرأة العزيز يوسف عليه السلام بالسجن قال: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف:33] وهذا يعتبر في الحقيقة أعلى درجات الإيمان، يرفض الشهوة في الحرام، ويتحمل في سبيل هذا الرفض أن يكون سجيناً ذليلاً طريداً عن ملك العزيز، لكنه يعرف أنه ما زال يعيش في ملك الله عز وجل وفي كنفه وحفظه، وفعلاً يدخل يوسف عليه الصلاة والسلام السجن، ويبقى في السجن بضع سنين؛ لأنه رفض الحرام، ولأن الله عز وجل يريد أن يبتلي يوسف عليه السلام، ويريد أن يعلم الناس كيف يواجهون الطغاة والمتجبرين في الأرض، وكيف يواجهون الشهوات التي تعترض طريقهم، وأنه لا سبيل للخلاص منها إلا بالإيمان بالله والاعتصام به جل جلاله.(30/8)
الإحسان وأثره العظيم في كسب قلوب المدعوين
لربما يفكر أحد الناس بأن يكون من المصلحين، لكنه لا يقدم للناس وللمجتمع خيراً ولا خدمة، ولا يمتلك موهبة جذب قلوب الناس إليه، وليس عنده لباقة، مثل هذا لا ينجح في مهمته، ولذلك تأثر السجناء بدعوة يوسف عليه الصلاة السلام لما رأوا من إحسانه، فلما جاءوا إليه قالوا: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:36] فإحسان يوسف عليه السلام هو الذي جذبهم إليه فجعلهم يذعنون لنصائحه وتوجيهاته {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف:39] وغيرها من التوجيهات التي كان يمليها عليهم يوسف عليه الصلاة والسلام.(30/9)
اقتناص الفرص المناسبة لبذل النصيحة
على الداعية أن يقدم النصيحة مع حاجة الناس إليه، حتى يتقبل الناس هذه النصيحة بدافع الحاجة، ويكون من المحسنين فيقبلون عليه، فإذا أقبل الناس عليه فإن عليه أن يستغل فرصة ما يقدمه من خدمة في سبيل الدعوة، ولذلك لما قال الغلامان: {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ} [يوسف:36] استغل الفرصة يوسف عليه الصلاة والسلام، وقدم لهما من النصائح ما يستفيدان منها مقابل أن يقضي حاجتهما، فقال: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف:39]، فهما ما جاءا ليعظهما وإنما جاءا ليعبر لهما الرؤيا، لكنه رأى أنه يقدم هذه النصيحة قبل أن يعبر لهما الرؤيا؛ لأنهما بحاجة ماسة إلى أن يعبر ويفسر لهما رؤياهما التي رأياها في المنام، وهذا أيضاً منهج في الدعوة إلى الله تعالى، كما أن المنهج الأول ينبني على أن الداعية أن يقدم بين يدي دعوته إحساناً ومعروفاً لهؤلاء الناس حتى يكون محبوباً لدى الجميع فإن عليه أيضاً أن يقدم النصيحة وهي ملفوفة بلفائف حاجة هؤلاء الناس.(30/10)
العبادة والحكم صنوان لا يفترق أحدهما عن الآخر
ومن هذه النصائح التي قدمها يوسف عليه الصلاة والسلام أن العبادة والحكم صنوان لا يفترق أحدهما عن الآخر {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف:40].
ومعنى ذلك الكلام أن الحكم يجب أن يكون لله كما أن العبادة لله، فالحكم جزء من العبادة، والعبادة أصل يدخل فيها الحكم، وعلى هذا فإن من حكم بغير ما أنزل الله فهو كافر لا شك عندنا في ذلك، فإذا كانت العبادة لله فالحكم يجب أن يكون لله، ولذلك الذين يحكمون بين الناس بآرائهم ويأتون بقوانين البشر وآراء الرجال إنما هم من رءوس الطواغيت؛ لأنهم يدعون الناس إلى عبادتهم، ومن دعا الناس إلى عبادة نفسه فهو أحد رءوس الطواغيت الخمسة الذين أخبر عنهم النبي صلى الله عليه وسلم.
وبذلك يتضح ضلال العلمانيين -قاتلهم الله أنى يؤفكون- الذين يزعمون أن العبادة لله والحكم ليس لله، والله تعالى يقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف:40] فليس هناك فرق بين الحكم وبين العبادة، فالحكم جزء من العبادة، والعبادة أصل، ومن فروعها الحكم، فمن عبد معبوداً فإن عليه أن يخضع لحكمه، فالذين يستمدون أنظمتهم من فرنسا ومن بلاد الكفر هم عباد لهؤلاء الكفرة، ومن أخذ حكمه من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهو عبد لله عز وجل، وبمقدار ما يدنو المرء من العبودية لله سبحانه وتعالى بمقدار ما يزيد شرفه، كما قال الفضيل بن عياض رحمه الله: ومما زادني شرفاً وتيها وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا لكن ذلك الذي يكون عبداً لمخلوق من المخلوقين يأخذ قوانينه وأنظمته وتشريعاته منه هو عبد لذلك المخلوق.
فالحكم والعبادة لا ينفصل أحدهما عن الآخر، ولذا كان من وصايا يوسف عليه الصلاة والسلام: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف:40] فهذا أمر من أوامر الله عز وجل ويجب على المسلمين أن يحكموا شرع الله في كل صغيرة وكبيرة، فالحاكم بغير ما أنزل الله من رءوس الطواغيت، قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] والمتحاكم إلى غير الله عز وجل يصدق فيه قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء:60].(30/11)
ظهور الحق ولو بعد أمد
الحق لابد من أن يظهر وإن اختفى مدة من الزمن، فقد بقي يوسف عليه الصلاة والسلام في السجن بضع سنين، وأصبح الناس في أرجاء مصر يتحدثون بأن يوسف يهوى امرأة العزيز، وأصبح يوسف عليه الصلاة والسلام مشوه السمعة، ولم يُقَلْ عنه: إنه سجن لأنه رفض الفاحشة خوفاً من الله عز وجل.
وبقيت سمعته ملطخة مدة من الزمن إلى أن أظهر الله عز وجل الحق، فالحق لابد أن يظهر وإن غطاه ما غطاه من ظلام الليل، ولذلك اعترفت امرأة العزيز بالحقيقة وقالت: {الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} [يوسف:51 - 52] فاعترف المجرم بجريمته وأثبت نزاهة المتهم الذي ما كان موضعاً للتهمة في يوم من الأيام، وهذه سنة من سنن الله في خلقه، فعلى المؤمن أن يتحمل ويصبر على ما يلاقيه من أذى وفتن وتهم في سبيل دينه دعوته، حتى يأتي ذلك اليوم الذي يظهر الله عز وجل فيه براءته على الملأ أجمعين، قال تعالى: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة:52].(30/12)
النهي عن أن يمدح المسلم نفسه
لا يجوز للمسلم مهما كان تقياً نقياً أن يزكي نفسه، بل عليه أن يكون على خوف من أن يقلب الله قلبه؛ لأن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، ولأن الله عز وجل هو الذي يزكي من يشاء، ولذلك نجد أن امرأة العزيز لما قالت: {الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف:51] قال يوسف عليه السلام: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} [يوسف:53] على خلاف بين المفسرين هل هذا من كلام يوسف عليه السلام أو من كلام امرأة العزيز، فنفس أي إنسان معرضة للفتنة، ومعرضة للبلاء، ومعرضة للمعصية إلا إذا رحم الله عز وجل هذه النفس، فإذا رحم الله عز وجل هذه النفس زكاها وطهرها وحفظها من الفتن، كما حفظ الله جل جلاله نفس يوسف عليه الصلاة والسلام أمام أشد أنواع الفتن التي اعترضت سبيله.(30/13)
جواز طلب الولاية لمن علم من نفسه الكفاءة
هناك نصوص تنهى المسلم عن طلب الولاية، فقد ورد أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى أبا ذر رضي الله عنه عن طلب الولاية، كما نهى أيضاً عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه عن ذلك وقال له: (يا عبد الرحمن بن سمرة! لا تطلب الإمارة؛ فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها) فطلب الإمارة يعتبر خلاف الشرع؛ لأن الذي يطلب الإمارة إما أنه يريد أن يرتفع على الآخرين في هذه الحياة، ومن منطلق القوة ربما يبطش بهؤلاء البشر، أو أنه يزكي نفسه، وكلاهما خطأ، ولكن يوسف عليه الصلاة والسلام طلب الولاية على بيت المال وعلى وزارة المالية في مصر، فقال: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55] فكيف نستطيع أن نجمع بين هذه الآية وبين ما ورد في الأحاديث من النهي عن طلب الإمارة؟ يمكن أن نوجهها بأن القاعدة الشرعية تنص على أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه، وقد ورد شرعنا بخلافه، وهذا في شريعة يوسف عليه الصلاة والسلام.
ونستطيع أن نقول -وهو الأقرب والله أعلم-: إن يوسف عليه الصلاة والسلام رأى أن البلد قد أقبلت على خطر، وأقبلت على مجاعة شديدة لربما أهلكت البلاد والعباد من خلال الرؤيا التي رآها العزيز، حينما رأى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف، فرأى أن يتولى أمر مالية مصر لتكون الخزانة محفوظة لا يتلاعب بها أحد كما يتلاعب كثير من الناس بأموال الدول الإسلامية اليوم، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (وإن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق لهم النار يوم القيامة) لأن مال المسلمين محترم أكثر من مال الفرد، فكما أنه تقطع يد السارق إذا سرقت مال الفرد فإن أموال الدولة والمسلمين محترمة أكثر من ذلك؛ لأنها يدلي فيها كل واحد من هؤلاء المسلمين، فرأى يوسف عليه الصلاة والسلام أن العالم قد أقبل على هاوية وعلى مجاعة، وأنه لو تولى أمر هذه البلاد فإنه سوف يصلح الأمور، ولذلك يقول العلماء: إذا علم من يطلب الولاية أنه يستطيع أن يقوم بها على خير وجه، وأن غيره ربما يقصر فتتدهور الأمور ففي مثل هذه الحال يطلب الإمارة ويطلب الولاية ويطلب السلطة.
كما قال يوسف عليه الصلاة والسلام: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55].(30/14)
لا تحمل نفس ذنب غيرها
كان أهل الجاهلية يغيرون على قوم فيبيدونهم عن آخرهم بسبب ذنب رجل واحد، وكذلك اليوم لا تسل عما يحدث، أمم تباد بسبب أخطاء أفراد، ويؤخذ الكثير بجريرة رجل واحد.
أما في دين الله عز وجل فإن كل امرئ بما كسب رهين في الدنيا والآخرة، فلا يؤخذ أحد بذنب غيره، ولذلك لما قال إخوة يوسف ليوسف عليه الصلاة والسلام: {فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ} [يوسف:78 - 79] مع أنهم عرضوا عليه أن يأخذ أحدهم ليكون بدلاً عن الذي وجدوا المتاع عنده وهو أخو يوسف، لكنه سبحانه وتعالى يريد أن يصدر تشريعاً عاماً إلى يوم القيامة، فقال حكاية عن لسان يوسف عليه الصلاة والسلام: {مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ} [يوسف:79] فالذي يأخذ غير المذنب يعتبر ظالماً لنفسه وظالماً للأمة.
فلا يؤخذ الابن بذنب الأب، ولا يؤخذ الأب بذنب الابن، فـ الحجاج بن يوسف وهو أشد رجل عرفه تاريخ الإسلام قساوة، كان قد أصدر ذات يوم قراراً بأنه إذا فقد الرجل فسوف يأخذ كل أهله وذويه حتى يجد ذلك الرجل، فقالوا له: لكن الله تعالى يقول: {مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ} [يوسف:79] فقال: كذب الحجاج وصدق الله.(30/15)
الشكوى إلى الله لا إلى الخلق
الشكوى يجب أن تكون لله عز وجل وحده، وهذا هو منهج الأنبياء والمصلحين وكل مؤمن، فالشكاية التي ترفع لغير الله عز وجل مذلة، ولذلك فإن يعقوب عليه الصلاة والسلام بالرغم مما أصابه من الحزن، وبالرغم من أنه يعلم أن يوسف ما زال موجوداً على قيد الحياة لأن الله تعالى أوحى إليه بذلك لكنه لم يشك إلى أحد أولاده الأحد عشر مع أنهم يستطيعون أن يبحثوا عن يوسف، وإنما قال: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [يوسف:86] لأن الشكاية لغير الله عز وجل مذلة، ومن نزلت به بلية أو فتنة أو مصيبة فأنزلها بخلق الله لم يزيدوه إلا ضعفاً، ومن أنزلها بالله عز وجل فإن لله خزائن السماوات والأرض، وهو وحده القادر على تنفيس الهموم وتفريج الكروب.(30/16)
عدم اليأس من روح الله سبحانه وتعالى
لا يجوز اليأس ولو قامت كل الأسباب التي تدل على أن هذا الأمر ليس له حل؛ لأن اليأس معناه القنوط من رحمة الله، والله سبحانه وتعالى هو مسبب الأسباب وهو قادر على إيجاد الحلول لكل المعضلات والملمات، وكل شيء عنده بمقدار وبأجل مسمى، فاليأس من روح الله ومن رحمة الله كفر بالله عز وجل، كما قال الله تعالى: {وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87] والمسلم عليه مهما تأخرت إجابة دعوته أو حصول مطلوبه في هذه الحياة أن يطرق باب الكريم سبحانه وتعالى دائماً وأبداً بالدعاء والتضرع، وبمقدار ما يتوسل ويتضرع بين يدي الله عز وجل بقدر ما يحصل مقصوده وينال مراده؛ فإن الله سبحانه وتعالى كريم جواد، ولذلك فإنه لا يجوز اليأس من روح الله سبحانه وتعالى.(30/17)
التقوى والصبر مفتاح كل خير
أعتقد -والله أعلم- أن القصة كلها تدور حول التقوى والصبر، وأنها مفتاح لكل خير، فما حدث ليوسف ولأبيه يعقوب، وما حصل من الفتن العظيمة من إلقائه في البئر، ومن بيعيه وشرائه، ومن أذية يوسف عليه الصلاة والسلام في بيت العزيز، ومن السجن، ومن الأذى الشديد كل ذلك درس من دروس هذه الحياة، من أجل أن يعلم الله عز وجل الناس الصبر، وأن طريق الجنة صعبة وعرة، فالجنة حفت بالمكاره، فهذا نبي من أنبياء الله لقي من الأذى ولقي من الفتن والبلايا ما لا يتحمله إلا عظماء الرجال.
ولذلك الله تعالى أخبر أن هناك عاملين هما السبب في أن يصل يوسف إلى ما وصل إليه من حكم بلاد مصر هما التقوى والصبر، فالذي لا يتقي الله عز وجل لا يدرك مطلوبه، والذي لا يصبر ويتحمل في سبيل دينه كل مشقة وكل عناء قد ينقلب على عقبيه، ولذلك الله تعالى قال: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:90].
ولذلك تعتبر هذه الآية هي خلاصة القصة والهدف منها، ولا يمكن أن يصل العبد إلى مطلوبه وينال مراده إلا بالتقوى والصبر.(30/18)
العفو عند المقدرة
العفو عند عدم المقدرة أمر يسير؛ لأن الإنسان عاجز عن أن ينال من عدوه، لكن حينما يظفر بعدوه ثم يعفو ويتجاوز عنه ويبحث عما عند الله من الجزاء فإن هذا يعتبر أفضل طريق إلى الله عز وجل والدار الآخرة، ولذلك فإن يوسف عليه الصلاة والسلام بالرغم مما فعل به إخوته من إلقائه في البئر، والمخاطرة بحياته، ثم أذية أبيه بفقد يوسف هذه المدة الطويلة التي قال بعض المفسرين: إنها بلغت أربعين سنة حتى ذهب بصره، ومع ذلك كله عفا عن إخوته رغم قدرته على إنزال أشد العقوبات قساوة بهم، وقابل إساءتهم بالإحسان {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ * قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:91 - 92] وهذا هو العفو عند المقدرة، فإن هذه صفات العظماء الأجلاء، الذين يتحملون في سبيل دعوتهم كل أذى، ولذلك فإنه عفا عنهم وقال: (لا تثريب) و (لا) هنا نافية للجنس، نفى هنا حتى العتاب، أي: لا أعاتبكم أبداً.
وكونه ينفي العتاب دليل على أنه قد تجاوز عن هذا الذنب الذي فعلوه معه.
إن العفو عند المقدرة هو أفضل طريق يستطيع أن يكسب فيه المرء القلوب، ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم لما ظفر بأهل مكة يوم الفتح، وكان يستطيع أن يقطع رءوس القوم الذين آذوه لمدة ثلاث عشرة سنة إضافة إلى ثماني سنوات وهو مطارد في المدينة، ثم لما دخل مكة فاتحاً قال عليه الصلاة والسلام في خطبته: (أيها الناس! ما تظنون أني فاعل بكم؟ فقالوا: أخ كريم وابن أخ كريم.
قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء) ولذلك دخل الناس في دين الله أفواجاً بسبب العفو عند المقدرة، ولذلك يوسف عليه الصلاة والسلام عفا أيضاً عند المقدرة، وقال لإخوته: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ} [يوسف:92].(30/19)
قصة يوسف منهج لكل داعية يريد نجاح دعوته
قصة يوسف عليه الصلاة والسلام منهج لكل داعية يريد أن ينجح في دعوته في هذه الحياة، ومنهج لكل مصلح يريد أن يكون لإصلاحه أثر في هذه الحياة، ولذلك الله تعالى يقول: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} [يوسف:108] أي: قل يا محمد: سبيل يوسف عليه السلام هي سبيلي أنا أيضاً في الدعوة إلى الله عز وجل {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108].
هذا هو سبيل المرسلين عليهم الصلاة والسلام، فلا بد أن نتقيد بهذا السبيل، ونتقي ونصبر ونحسن العمل، ونتحمل الأذى في سبيل الله عز وجل، ونتحمل كل ما نلاقيه في ذات الله عز وجل ومن أجل دين الله عز وجل، وهذا سبيل يوسف عليه الصلاة والسلام، وهذا سبيل محمد صلى الله عليه وسلم وسبيل جميع المرسلين، وهي سبيل كل داعية، أما الداعية الذي يريد أن يسير في ركب هذه الدعوة دون أن يتحمل سجناً، أو دون أن يتحمل أذى، أو دون أن يبتلى في دينه، أو دون أن تعرض عليه شهوات الحياة الدنيا من نساء ومال ومركز وأذى وقتل وتعذيب فمثل هذا لا يسير على سبيل معتدلة، بل على سبيل معوجة، أما السبيل المعتدلة فهي ما عرفناه في قصة يوسف عليه الصلاة والسلام {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108].
ولذلك فإن السبيل الذي يجب أن يأخذ منه الدعاة بصفة خاصة والمسلمون بصفة عامة منهجهم كتاب الله عز وجل، فإنه فيه خبر ما قبلنا ونبأ ما بعدنا.(30/20)
مجيء النصر في آخر أشواط الكفاح
النصر قد يتأخر، فتضيق صدور، وييئس أقوام، ويرجع أقوام كثر من منتصف الطريق، ويرفع كثير من الناس أيديهم عن الدعوة، وقد يتراجع الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر دون أن يكملوا المشوار، وقد يستكثر الدعاة المصلحون المجاهدون في سبيل الله مدة الجهاد، وكل ذلك لا يجوز في حياة المسلمين أبداً بأي حال من الأحوال؛ لأن النصر لا يأتي إلا في آخر شوط من أشواط الكفاح والجهاد، فإذا اشتدت الأمور وعظمت، ووصل الأمر إلى حد اليأس من بعض الناس حينئذٍ يأتي النصر، ولا يأتي النصر في أول الطريق إنما يأتي في آخر الطريق، ولو جاء في أول الطريق لما كان هناك كفاح وجهاد، ولكنه يأتي في آخر شوط من أشواط الكفاح {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} [يوسف:110] والله عز وجل يقول في آية أخرى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214].
علينا أن نوطن أنفسنا ونحن نضع أول قدم نسلكها في هذا السبيل إلى الله عز وجل والدار الآخرة والكفاح في سبيل حياة الأمم وسعادتها في الدنيا والآخرة، نوطن أنفسنا على أن الطريق وعرة، وأنها مملوءة بالعقبات، لكن لنتأكد أنه في آخر شوط من أشواط هذا الطريق سوف يأتي نصر الله عز وجل {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:110].
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول رب العالمين، سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(30/21)
غربة الإسلام
لقد جاء الإسلام والناس في غربة شديدة، فثبت الصحابة رضوان الله عليهم أمام تلك الغربة وأهلها، وتمسكوا بدين الله عز وجل رغم ما لاقوه من شدائد وآلام، حتى تغلبوا على تلك الغربة، وقضوا عليها في مدة وجيزة، وأقاموا دولة الإسلام، ولكن أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم أن الغربة سوف تعود، وهاهي قد عادت بكل مظاهرها، فلزاماً على المسلم الحق أن يقف أمام هذه الغربة، وأن يثبت في وجهها، وذلك بالثبات على دين الإسلام كما ثبت عليه الصحابة رضوان الله عليهم.(31/1)
الغربة الأولى
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، والشكر لله الذي يجمع القلوب ويوحد بينها، {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:63] وأصلي وأسلم على البشير النذير، الذي أرسله الله رحمة للعالمين، وحجة على الناس أجمعين، فبلغ رسالة ربه، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله عليه وعلى آله ومن دعا بدعوته وعمل بسنته ونصح لأمته إلى يوم الدين.
أما بعد: أحبتي في الله! أشكر الله تعالى ثم أشكر لكم هذا الحضور المبارك، سائلاً الله عز وجل أن يجعلني عند حسن ظنكم بي، وأنا دون ما تظنون بكثير، ولكني أسأل الله تعالى أن يوفقنا للحكمة وفصل الخطاب.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء) وفي رواية: (الذين يصلحون إذا فسد الناس) وفي رواية: (الذين يصلحون ما أفسد الناس).
إننا نستطيع أن نتكلم عن هذا الحديث من خلال عدة عناصر: أولاً: الغربة الأولى.
ثانياً: كيف اجتاز سلفنا الصالح تلك الغربة فقامت دولة الإسلام السامقة.
ثالثاً: كيف نام المسلمون فعادت الغربة مرة أخرى.
رابعاً: غربتنا اليوم وأهم مظاهرها.
خامساً: كيف نستطيع أن نجتاز الغربة التي نعيشها اليوم.
من خلال هذه العناصر نستطيع أن نتحدث قليلاً عن هذا الموضوع المهم، لا سيما في هذه الظروف العصيبة من تاريخ أمتنا الإسلامية، علماً أننا لا نتناسى ولم نتناس هذه الصحوة المباركة، التي أرى اليوم أهم مظاهرها في الشباب الملتزم بدينه، وأسأل الله أن يثبت الأقدام.
أخي في الله! الغربة الأولى لا تحتاج إلى مزيد حديث، فلقد حدثنا التاريخ عنها حديثاً طويلاً، وكيف كان المستضعفون من المسلمين في صدر الإسلام الأول يلاقون من العناء، لا سيما بعد أن جهر الرسول عليه الصلاة والسلام بدعوته، وأنزل الله عز وجل عليه قوله: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر:94] فصعد الصفاء وقال: (يا بني فلان، ويا بني فلان) حتى اجتمع القوم حوله فقال: (إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد)! فبدأ الصراع بين الحق والباطل، علماً أن الصراع بين الحق والباطل قديم قدم الحياة الدنيا، وسيبقى حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
يقول الله تعالى لأبينا آدم وإبليس مخبراً عن قدم الصراع بين الحق والباطل: {اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [طه:123] ثم إن إبليس طلب من الله أن يؤخره ويمهله إلى يوم يبعثون، فأعطاه الله عز وجل المهلة إلى يوم الوقت المعلوم.
كل هذه الفترة الطويلة ميدان للصراع بين الحق والباطل، ولا يمكن للحق أن يهادن الباطل ولا يمكن للباطل أن يهادن الحق، سنة الله في هذه الحياة، ولكن لله جنود السماوات والأرض.
ومن هنا بدأ الصراع في حياة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بين الحق والباطل، حتى لقي الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته من الأذى في سبيل الدعوة مالا يخفى على أحد من المسلمين، كما سطره لنا تاريخ الإسلام، وكما أشارت إليه السنة النبوية، بل كما أشار الله عز وجل إليه في القرآن.
صور الله عز وجل لنا تلك المرحلة -وهي مرحلة سوف تتكرر عبر التاريخ- صورها الله عز وجل بقوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} [البقرة:214]، ثم يقول الله عز وجل: {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214].
تصوروا مقدار المحنة التي مرت بالأمة (حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله).
فقوله: (وَزُلْزِلُوا) أي: كأن الأرض تضطرب بالمسلمين من شدة ما يلاقونه من عدوهم.
ثم أيضاً تزيد هذه الشدة إلى أن يتساءل الرسل ويتساءل أتباع الرسل: (مَتَى نَصْرُ اللَّهِ)؟ وتصور حينما يقول الرسول: متى نصر الله؟ استبطاء للنصر لا يأساً منه.
وتصور حينما يقول المؤمنون الذين يأخذون الوحي طرياً من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم: متى نصر الله؟ فهذا يدل على أن الأمة قد وصلت إلى مستوى لا يطاق وإلى شدة لا تتحمل، ثم يجيب الله عز وجل بقوله: (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ).
ثم يصور لنا خباب بن الأرت رضي الله عنه مستوى المحنة التي وصل إليها المسلمون في الصدر الأول بقوله: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد رداءه في ظل الكعبة، فقلنا: يا رسول الله! ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ فقعد الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: لقد كان يؤتى بالرجل ممن كان قبلكم، فيحفر له في الأرض، فيوضع المنشار على مفرق رأسه فيفلق فلقتين، ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه، ما يصرفه ذلك عن دين الله، ووالله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون).
هذه هي المحن التي تعترض سبيل المؤمنين دائماً وأبداً، فالله تعالى يقول للمؤمنين: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان:20] وهذا الاستفهام استفهام توبيخي وإنكاري بحيث يجب أن نصبر؛ لأن الله عز وجل قد امتحن المؤمنين بأعدائهم دائماً وأبداً، ولولا ذلك لما كانت الجنة للمؤمنين؛ لأن الجنة سلعة الله وهي غالية، ومن خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل، والجنة لا تدرك إلا بمثل هذه الخطا الحثيثة، فليس طريق الجنة مفروشاً بالورود والرياحين ولكنه محفوف بالمكاره والأمور العظام.(31/2)
كيفية اجتياز السلف للغربة وإقامة الدولة الإسلامية القوية
لقد أدرك سلفنا الصالح كيف يتجاوزون مرحلة الغربة، وكانوا يتطلعون إلى الجهاد في سبيل الله، والله تعالى يقول لهم: {كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ} [النساء:77] حتى إذا أذن الله عز وجل لهم بالجهاد في سبيل الله قامت دولة الإسلام في أقرب وأسرع وقت عرفه التاريخ، فكان سلفنا الصالح يتسابقون إلى الجنة أكثر من تسابق الناس في أيامنا الحاضرة إلى الحياة الدنيا ومتاعها.
كان أحدهم يقول ومعه تمرات: (والله إنها لحياة طويلة إن عشت حتى آكل هذه التمرات وكان شابان من شباب المسلمين يتسابقان في وسط المعركة كل منهما يبحث ويقول: أين أبو جهل؟ لا عشت إن عاش؛ لأني علمت أنه يؤذي رسول الله) ثم ينقضان عليه كالصقرين يتسابقان إلى قطع رأسه.
أدرك المسلمون كيف يجتازون تلك المرحلة، وإذا أردت دليلاً على ذلك فسل: أين قبور أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين بلغ عددهم في حجة الوداع ما يزيد على مائة ألف؟! إنها متناثرة في أرض الله الواسعة تحت الشمس، انطلقوا يبشرون هذا العالم بدين الله عز وجل، ولم تمض إلا مدة وجيزة حتى رفرف علم الإسلام على أكثر المعمورة، حينما علم المسلمون الأوائل كيف يتجاوزون هذه المرحلة، رفرف علم الإسلام على أكثر المعمورة، حتى كان أحد خلفاء الدولة الإسلامية في بغداد -وهو هارون الرشيد - يرفع رأسه إلى السماء ويقول: أيتها السحابة أمطري حيث شئت، فسيأتيني خراجك ولو بعد حين.
ويذهب قتيبة بن مسلم إلى جهة المشرق ويفتح البلاد، ويستقر في بلاد ما رواء النهر ثم يجلس ذات يوم مع أصحابه ويقول: يا قوم! أي بلاد أمامي؟ فيقولون: يرحمك الله أيها القائد، إنها بلاد الصين.
فيقول: والله لا أرجع إلى بلادي حتى أطأ بقدمي هاتين أرض الصين، وأضع وسام المسلمين على الصينيين، وأفرض عليهم الجزية.
ثم تصل الأخبار إلى ملك الصين، ويخاف من هذا الجيش اللجب الذي أقبل يحمل أرواحه بأكفه، فأرسل إلى قتيبة يقول: هذه تربة من أرضنا بصحاف من ذهب يطؤها قتيبة وهو في مكانه، وهؤلاء أولادي الأربعة يضع عليهم الوسام، وهذه الجزية وستصل إليه كل عام في بلاده.
من منطلق القوة والعزة التي هي لله عز وجل ولرسوله وللمؤمنين.
أما عقبة بن نافع فقد سار في بلاد المغرب وفتح شمال أفريقيا ووصل إلى تونس الحالية، وعزم وصمم على أن يبني مدينة القيروان، حتى إذا أقبل عليها وصمم على بنائها أتى إليه أهل البلد وقالوا: يرحمك الله أيها القائد، هذه أرض مخيفة ومسبعة، كل الفاتحين يرجعون دونها، ابحث عن مكان آخر.
فيقول: والله لا بد من أن أبني مدينة هنا لتكون معقلاً للمسلمين مهما كلف الثمن ومهما عز المطلب.
ثم يقف على جانب الغابة ويقول: أيتها الوحوش! نحن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم جئنا هنا لنشر الإسلام.
ومن يستطيع أن يخاطب الوحوش؟! وكيف تفهم الوحوش كلام عقبة بن نافع؟ يقول شاهد عيان -كرامة من الله عز وجل لهذا القائد المخلص-: والله لقد رأينا الوحوش تحمل أولادها من الغابة وتتركها لـ عقبة بن نافع.
ثم يسير عقبة بن نافع رضي الله عنه إلى بلاد المغرب ويغرز قوائم فرسه في المحيط الأطلسي ويقول: والله لو أعلم أن وراء هذا الماء بشراً لخضته إليهم على فرسي هذا.
هكذا قامت دولة الإسلام بالجهاد، وهكذا استطاع المسلمون بمعونة الله عز وجل أن يجعلوا تاريخهم مضيئاً مشرقاً في صفحات هذه الحياة، ثم يدور الفلك دورته ويعيد التاريخ سيرته، وينام المسلمون على اللهو والمتاع كما هو الحال اليوم، ولا يستيقظون إلا على الأشلاء والجماجم والدمار، تضيع بلاد الأندلس وتضيع الحضارات، وتضيع الأمم، وتصبح وصمة عار في تاريخ البشرية كلها، ويتقلص المسلمون في مواقع محدودة من بلادهم، وتتمزق هذه البلاد حتى تصبح ما يقرب من مائة دولة.
بعد ذلك تعود هذه الغربة العنيفة التي لا تساويها غربة أبداً في تاريخ البشرية، ولذلك فقد عادت الغربة التي حدثنا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بجميع حذافيرها، وأصبحت هناك مظاهر نستطيع أن نقول من خلالها: إن هذه الغربة سوف تكون بداية النهاية إن لم ينتبه المسلمون لهذه الغربة.(31/3)
غربتنا اليوم وأهم مظاهرها
يمكن أن نصف أهم مظاهر الغربة في أمور:(31/4)
توسيد الأمر إلى غير أهله
إن توسيد الأمر إلى غير أهله في هذه الغربة الجديدة ما كان ليوسد لولا أن الله عز وجل له في كل يوم شأن ويصرف الأمور لحكمة، وقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن الأمر إذا وسد إلى غير أهله فإن ذلك يعتبر بداية النهاية، ويعتبر علامة من علامات الساعة، ويعتبر ضياعاً لأمور المسلمين، وحقاً نقول: إن أكثر أمور المسلمين الآن موضوعة في غير أهلها.
وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة) يقول شراح الحديث: يشير إلى أن أمر المسلمين يصبح كالوسادة يعتمد عليها الإنسان ويتلذذ بأمور المسلمين، بدلاً من أن يجعلها عبئاً ومسئولية.
كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه في مستهل خلافته: (ألا إني لست بخيركم، ولكني أثقلكم حملاً) ولكن هذا الحمل الذي أشار إليه أبو بكر الصديق رضي الله عنه أصبح الآن كالوسادة، فإن كثيراً من ولاة أمر المسلمين اليوم يتمتعون بهذا الأمر، ويعتبرونه منطلقاً لشهواتهم وإشباع رغباتهم، ولو كان الأمر بيد أهله في بلاد المسلمين لما حدث ما حدث من الأحداث المؤلمة التي تعتبر في الحقيقة أثراً أسود وصفحة سوداء في تاريخ الأمة الإسلامية.
ومن هنا نستطيع أن نقول: لا يمكن أن تعود الأمور إلى نصابها حتى يكون الأمر في كل بلاد المسلمين بيد أهله الشرعيين الذين يحكمون بما أنزل الله عز وجل، والذين يقودون سفينة الحياة إلى ما يرضي الله سبحانه وتعالى.(31/5)
تنحي علماء المسلمين عن القيادة
يعتبر هذا مظهراً من مظاهر الغربة التي أصيبت بها الأمة الإسلامية في أيامنا الحاضرة، والعلماء دائماً وأبداً في كل عصر وفي كل بلد هم الذين يجب أن يقودوا العالم، ويجب أن يتحملوا المسئولية كلها ليقولوا للمخطئ: أخطأت.
لكن حينما يتخلى العلماء -وهذا هو ما يحدث في جل العالم الإسلامي- حينما يحدث التخلي من علماء المسلمين إما أن يتقلد الأمر غير أهله وهذا أمر خطير، ولذلك نشاهد هذا في جل الأحيان، وإما أن يكون الحمل الثقيل على من دون هؤلاء العلماء من طلبة العلم فيكونوا عبئاً ثقيلاً، وحينئذ يؤدي بهم هذا إلى أذى يوجه إليهم من كل جانب، وإلى نقد وإلى سجون وإلى معتقلات؛ لأن هؤلاء العلماء الذين تخلوا وهم أهل لهذه المسئولية وهم الواجهة بين أي دولة وبين أي حكومة وبين شعبها حينما يتخلون عن هذه المسئولية يصعب الأمر ويثقل الحمل.(31/6)
المطالبة بحقوق المرأة التي ليست لها
إن من المظاهر التي يمتاز بها عصرنا وتمتاز بها غربتنا ظهور المرأة ومطالبتها بحقوق ليست لها، أو وجود أشخاص يندسون في المجتمع يطالبون بأن تعطى المرأة حقوقاً ليست لها، وهؤلاء المندسون يتهمون المجتمع الإسلامي بالتخلف، بل يتهمون الله عز وجل بالظلم، ويتهمون نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بالظلم، ويتهمون كتاب الله عز وجل الذي أنزله تبياناً لكل شيء بأنه لم يعط المرأة حقها.
ولذلك فإننا نشاهد ونسمع ونقرأ وصكت آذاننا كلمات منذ سنين طويلة تقول: حرية المرأة.
وتقول: النصف الثاني من المجتمع معطل، فالمجتمع لا يتنفس إلا برئة واحدة.
وتتحدث عن التخلف والرجعية، إلى غير ذلك من الأمور التي جعلتنا نسأم حديث هؤلاء وننفر منه.
والسبب في ذلك أن أعداء الإسلام يقرءون تاريخ البشرية أكثر مما نقرأ، فيقرءون أن المرأة حينما تنحرف ينحرف المجتمع كله من ورائها، وأنهم حينما يدفعونها إلى الوراء ويتظاهرون بأنهم يدفعونها إلى الأمام لتطالب بحقوقها وحريتها أو لتلقي الخمار أو لتفعل شيئاً من ذلك إنما يفسدون المرأة، وحينئذ تكون في متناول أيديهم ويصطادونها في الماء العكر، ويعلمون أن أي أمة من الأمم لا تسقط من عين الله إلا حين تنحرف فيها المرأة، أو حين تخرج المرأة متبرجة، وإذا أردت الدليل على ذلك فاقرأ ما فعله بنو إسرائيل في عهد موسى عليه الصلاة والسلام، واقرأ ما يكتبه أعداء الإسلام: لا أحد أقدر على جر المجتمع إلى الدمار من المرأة، فعليك بالمرأة، اتخذوا من المرأة وسيلة لإفساد المجتمعات.
يقول أحدهم: إن كأساً وغانية يستطيعان أن يفعلا بالمسلمين أكثر مما يفعله ألف مدفع.
وغير ذلك من الأمور التي كانوا يعرفون أنها سوف تسبب هذه المشاكل للأمة الإسلامية.
ونحن أيضاً نسينا أن فتنة النساء أعظم فتنة، وأن رسولنا صلى الله عليه وسلم يقول: (ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء)، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام جعلها في كفة والدنيا بكل زينتها ومتاعها في كفة أخرى فقال: (فاتقوا الدنيا واتقوا النساء) علماً أن النساء يدخلن في الكفة الثانية؛ لأنهن جزء من الحياة الدنيا.
هذه الأمور كلها دفعت بأعداء الإسلام -سواءٌ أكانوا من الداخل أم من الخارج- إلى أن يستخدموا المرأة وسيلة لتدمير المجتمعات، وأكبر ظني -بل أنا لا أشك- بأن هؤلاء هم أعداء الدولة، ولربما لا تدرك الدولة أن هؤلاء هم أعداؤها إلا حينما يقع ما نحاذره، نسأل الله أن يقينا ويقي الدولة شره، إن هذه الأمور يسعى هؤلاء إلى تحقيقها، نسأل الله أن يبطل مساعيهم حتى لا ينجحوا في مهمتهم.
أيها الأخ الكريم! المرأة أكرمها الإسلام، ولا يمكن أن يكون هناك نظام من أنظمة الحياة أو دستور من دساتيرها يعطي المرأة حقاً أكثر مما يعطيه كتاب الله عز وجل، فالمرأة كانت في يوم من الأيام متاعاً يورث، وكانت لا ترث إلى أن أنزل الله عز وجل في ميراثها قوله: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء:7] والمرأة كانت إذا مات زوجها يتسابق أولاده من غيرها عليها فأيهم ألقى عليها رداءه أولاً فهو أحق بها يتصرف بها كيف يشاء، ولو أراد أن ينكحها فله ذلك، أو أراد أن يبيعها فهي سلعة له رخيصة، حتى أنزل الله عز وجل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} [النساء:19].
لقد احترم القرآن المرأة ووضع لها من الحقوق ما لا يمكن أن تحصل عليها من أي جهة أخرى، وهذا القرآن كما قال الله عز وجل عنه: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89] وقال: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1] وهؤلاء يعرفون أن المرأة لم تكن تدرك في جاهليتها جزءاً مما أدركته في إسلامها، لكنهم يريدون أن تنحرف المرأة لينحرف المجتمع، ولتتدهور الأمور، ولتكون النهاية هي البوار والدمار، ولذلك فإننا نقول لهؤلاء الذين يدعون إلى حقوق المرأة وإلى تحريرها وإلى أمور لا تخفى نقول لهم: اخسئوا؛ فإن الله عز وجل هو الذي أكرم المرأة واحترمها، وأعطاها حقوقها كاملة، لكنكم حينما تطالبون بحرية المرأة وبحقوقها إنما تريدون أن تجعلوها لقمة سائغة لكم؛ لأنكم أشربتم وأشربت نفوسكم حب الفاحشة، وتريدون من هذه المرأة المسلمة أن تسقط كما سقطت المرأة في كثير من البلدان إلا ما شاء الله.
ومن حيث يعود أعداؤنا وينادون بحفظ المرأة وصيانتها ينطلق هؤلاء فيبدءون من حيث ينتهي عدوهم، وهذه تعتبر فتنة وبلية ومصيبة لا بد من أن ننتبه لها، وتعتبر أهم مظاهر الانحطاط في هذا العصر، وتعتبر أيضاً أهم مظاهر الغربة التي نعيشها اليوم.
ولا تستطيع المرأة أن تقود المجتمع أو يكون لها كيان؛ لأن الله عز وجل يقول: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء:34]، فيجب أن تكون القيادة بيد الرجال، ولكن ذلك لا يعني أن تهان المرأة بل يجب أن تكرم.(31/7)
محاولة تغيير هوية الإسلام
نجد في هذه الغربة ونلاحظ أن أعداء الإسلام يحاولون كل المحاولات وبشتى الوسائل أن يغيروا الهوية الإسلامية، سواء في الشكل والصورة أو في الأنظمة أو في أي أمر من الأمور، حتى لقد رأيناهم يسمون الأمور التي يتحاشى المسلم أن يفعلها بغير أسمائها حتى يلطفوها، فهم الذين سموا لنا الخمر مشروبات روحية، وهم الذين سموا لنا اللهو واللعب والفسوق فناً، وهم الذين سموا لنا النفاق مجاملة، والكذب دبلوماسية، وغير هذا من الأمور والألقاب التي أحدثوها من أجل أن يقضوا على الهوية الإسلامية حتى في ألفاظها، ولذلك فإنهم يحسنون هذه الأمور بهذه الألفاظ وهذه الأسماء التي يختارونها في هذا العصر، وهي تعتبر من مظاهر غربة الأمة الإسلامية في تاريخها الحاضر.(31/8)
وجود أناس يفتون بغير علم
حين يبرز على الساحة الإسلامية أناس يدعون أنهم مصلحون وأنهم علماء فمثل هؤلاء يقول الله عنهم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} [البقرة:11 - 12] هؤلاء الذين ما تركوا باباً من أبواب المحرمات إلا وفكروا فيه وبحثوا فيه بغير علم وروية، ولكن بجهل وحقد على الإسلام، حتى لقد سمعنا منهم من يكتب عن الربا ويقول: الربا نظام اقتصادي لا تستغني عنه الحياة، والربا مباح سوى الأضعاف المضاعفة.
وأكبر ظني أن هذا -بل لا أشك- لو استطاع أن يتخلص من تحريم الربا بالأضعاف المضاعفة لتخلص منه.
ولقد عجبنا كثيراً حينما يظهر ويبرز مثل هؤلاء الذين يريدون أن يخرجوا على إجماع المسلمين، ويريدون أن يكونوا من الذين قال الله عز وجل فيهم: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115] فهم لا يتكلمون عن الربا وحده، ولكن هناك من يطرق باب الربا ليحله للناس، وهناك من يطرق باب حرية المرأة وحقوقها ليقول للناس: إن المرأة مضطهدة ومظلومة.
وهناك وهناك، ولذلك فإنهم هم الذين يتسلمون أكثر أمور الحياة في أيامنا الحاضرة، حينما تخلى العلماء والمصلحون عن هذه الحياة.(31/9)
تحول السجون إلى معتقلات للمؤمنين
لم يعرف الناس السجون إلا وسائل إصلاح للفاسدين والمفسدين، الذين إذا انتشروا في المجتمع أفسدوا في المجتمع، ثم إذا بهذه السجون تتحول إلى معتقلات في جل العالم الإسلامي للمؤمنين، ولو قمت بإحصائية عن الذين يدخلون السجون اليوم لوجدت أكثرهم من الصالحين والمصلحين في جل بلاد الله عز وجل الواسعة، وكأن هذا التاريخ يعيد نفسه حينما لبث يوسف في السجن بضع سنين، وحينما قال فرعون لموسى: {لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء:29] وهذا مما يدل على انحراف في استعمال السجن.
وهؤلاء الذين تفتح لهم السجون في أيامنا الحاضرة أكثرهم المؤمنون الذين يقولون للناس: اتقوا الله تعالى.
ومن يفعل شيئاً من ذلك فإنه سوف يسقط من عين الله، ولربما دعوة مظلوم في جوف الليل الآخر في سجن من هذه السجون تطيح بأمة وتسقط دولة؛ لأن الله تعالى يرفع دعوة المظلوم فوق الغمام، ثم يقول: لأنصرنك ولو بعد حين.
وحينئذ لا تعجب حين ترى أمور الأمة الإسلامية تنهار يوماً بعد يوم بسبب سوء استعمال هذه السجون وتحويلها إلى معتقلات.(31/10)
السخرية والطعن في الدين
إن السخرية والطعن في الدين ليس جديداً، بل هو موجود في كل عصر، وذلك حين تنحرف الأمة عن منهج الله عز وجل، فنقرأ عن تاريخ المشركين الأولين في الغربة الأولى قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ} [المطففين:29 - 31] فيقول الله عز وجل {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} [المطففين:34].
وفي الحياة الآخرة إذا أدخل الله عز وجل هؤلاء الساخرين من دين الله نار جهنم قال لهم: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون:109 - 111].
هذه قضية تمر في كل فترة تضعف فيها الأمة الإسلامية، يسخر أعداء المسلمين من الإسلام، مثل أن يقول أحدهم: انظر إلى لحيته! انظر إلى ثوبه القصير! إلى غير ذلك، كما يسخرون من الحجاب ومن المرأة المحجبة.
وهذه السخرية خطيرة جداً، بل هي ردة عن الإسلام، بل إن فاعلها عند الله عز وجل من أئمة الكفر وليس من الكافرين فحسب، فالذي يسخر من اللحية أو الحجاب مرتد عن الإسلام؛ لأنه حينما يسخر من رجل مسلم بسمات الإسلام الموجودة في شكله أو في ثوبه أو في أي أمر من أموره إنما يسخر من الإسلام، والله تعالى قال: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ} [التوبة:12] وفي قراءة: (إنهم لا إيمان لهم لعلهم ينتهون) جردهم الله عز وجل من الإيمان، وجعلهم من أئمة الكفر، وأمرنا بأن نقاتل هؤلاء الذين يسخرون من الإسلام ويضحكون منه، ولكن الله عز وجل يسخر منهم أيضاً.(31/11)
جعل المنكر معروفاً والمعروف منكراً
إن جعل المنكر معروفاً والمعروف منكراً قد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن ذلك سوف يوجد في فترة من الفترات وفي عصر من العصور، وذلك في المرحلة الأخيرة من حياة الأمة الإسلامية، أي أن النهاية قد قربت حينما يعود المعروف منكراً والمنكر معروفاً.
ولو أردنا أن نستعرض حياة الأمة الإسلامية في أيامنا الحاضرة لرأينا ذلك، كان المفترض أن يتحرك المصلحون ليصلحوا فساد الفاسدين، فإذا بنا نرى كثيراً من المصلحين ينامون إما خوفاً على الحياة، وإما طعماً في المال، وإما لهدف من الأهداف الأخرى، ثم إذا بأعداء الإسلام يستأسدون، فبدل أن يتحرك المصلحون للإصلاح تحرك المفسدون للإفساد، وهذه سنة الله عز وجل في الحياة لا بد من أن تنشغل هذه الحياة بأي أمر من الأمور، فإما أن تنشغل بالإصلاح وإما أن تنشغل بالإفساد، وهؤلاء المفسدون كالفئران، فالفئران لا تتحرك إلا حينما يسكن لها الجو وحين لا تسمع صوتاً، حينئذ تتحرك وتفسد وتقرض في المتاع وتهلك الحرث والنسل.
والخفاش أيضاً لا يتحرك ولا يطير من وكره إلا حينما يخيم الظلام، وحينئذ يعود المعروف منكراً والمنكر معروفاً، ولذلك لو نظرنا الآن إلى النقد الذي يوجه من الناس إلى الناس لوجدنا أن الفسقة أكثر ما يوجهون اللوم والعتاب إلى الصالحين، أكثر من أن يوجه الصالحون العتاب واللوم إلى أولئك الفسقة والعصاة، بل إن السخرية من دين الله عز وجل والضحك على أذقان المسلمين والتحرك المشين في كل نواحي الحياة أصبح الآن بيد هؤلاء إلا ما شاء الله، ولذلك عاد المعروف منكراً الآن والمنكر معروفاً.
ولربما تنشأ ناشئة في هذه الفترة فلا تعرف المنكر ولا المعروف بسبب مشاهدتها للمنكر حين يغزو المعروف ويظهر المعروف بصورة الضعيف الذي لا يصمد أمام المنكر ولا يدحره.(31/12)
فساد وسائل الإعلام
إن فساد وسائل الإعلام من أخطر الأشياء على الأمة؛ لأن الإعلام بتقنيته الحديثة وصل إلى قعر بيوت المسلمين، وأصبح البيت بكامله بنسائه وأطفاله يشاهد أفلاماً أتت من بلاد لا تؤمن بالله ولا باليوم الآخر، وهذه الأفلام تفتقد الرقابة التي تخشى الله عز وجل في كثير من الأحيان، فتصل هذه الأفلام إلى قعر بيوت المسلمين فتنشأ ناشئة من أبناء المسلمين تشاهد الرقص والغناء في مستهل حياتها وفي أيام نعومة أظفارها، ولربما تصاب بالازدواجية في فهمها حينما ترى هذه الناشئة القرآن يتلى بجوار أغنية، أو حديث الرسول صلى الله عليه وسلم بجوار مسرحية مختلطة أو ما أشبه ذلك، فتنشأ هذه الناشئة لا تفرق بين الحلال والحرام، ولا تعرف الخير من الشر؛ لأن هذه الازدواجية قد انطبعت في أذهانها منذ طفولتها ومنذ أيامها الأولى.
فإعلام المسلمين عندما يصنع في بلاد الكافرين يؤثر في حياة كثير من الأمم، ولعل أكثر ما يحدث من الفتن التي تشمئز لها القلوب المؤمنة والتي تحاول أن تخرج المرأة من إطارها لعل ذلك جاء من وسائل الإعلام، بل لا شك أنه جاء من وسائل الإعلام، فشوهت الحقائق، حيث جعل الإعلام تعدد الزوجات جريمة في المجتمع، والإتيان بفتاة أجنبية من الخارج أجمل من الزوجة لتقوم بالخدمة داخل البيت يعتبر هذا تطوراً وتقدماً، وكذلك الإتيان بسائق يخلو بالأهل من زوجة وأخت وابنة ويذهب بهن إلى المدرسة وإلى السوق يعتبر هذا من التطور والرقي والتقدم إلى غير ذلك، إضافة إلى ما تبثه وسائل الإعلام من اختلاط بين الجنسين تثبت للناس أن الاختلاط ليس بشيء مشين وإنما هو رقي وتقدم، وأن الذين يدعون إلى عزل المرأة عن الرجال إنما هم أعداء للمرأة، وأن المرأة باستطاعتها أن تنتج أكثر مما ينتجه الرجال، إلى غير ذلك من الأمور التي وصلت إلى قعر بيوت المسلمين.
فمن كان يتصور أن بيوت المسلمين -بل أقول: وجل بيوت العلماء والصالحين إلا ما شاء الله- انتشرت فيها هذه الأفلام، ووصلت إلى قعرها هذه المسلسلات؟ من كان يتوقع هذا في يوم من الأيام؟! لقد مضت فترة ليست بالبعيدة كنت تقف عند بيت رجل من هؤلاء الصالحين أو العلماء لا تسمع إلا دوياً كدوي النحل من تلاوة كتاب الله والبكاء من خشية الله عز وجل، ثم إذ بهذه البيوت تتحول إلى هذا المستوى، حتى في الثلث الأخير من الليل لا تسمع إلا اللهو واللعب والرقص والموسيقى، فهذا من أعجب الأمور التي ما كان للعقل أن يتصورها لولا أن أصبحت خبراً وأمراً لا شك فيه.
حتى على متن الهواء في الطائرة على بعد آلاف الأمتار عن الأرض تنشر هذه الأفلام، وفيها الجنس وفيها الحرام، وفيها أمور تقشعر منها نفوس المؤمنين، وكان المشركون قبلنا إذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين، فهل المشركون الذين يعبدون الأصنام من دون الله وهم على سطح الماء يخافون من الله عز وجل أكثر ممن يخاف هؤلاء الموحدون وهم على متن الهواء بين السماء والأرض؟! إن دل ذلك على شيء فإنما يدل على أن كثيراً من القلوب قد أشرب بمعصية الله عز وجل، وأن هذه الأمة يخطط لها تخطيطاً رهيباً، وأنها قد فقدت -أو كادت أن تفقد- خشية الله عز وجل حتى على متن الهواء بين السماء والأرض.
إن وسائل الأعلام خطيرة، وإن أكثر الفساد الذي حل في المجتمعات الإسلامية بصفة خاصة والمجتمعات الإنسانية بصفة عامة من وسائل الإعلام، وإني أحذر من هذه الوسائل التي لم تدع بيت شعر ولا مدر إلا دخلته، فاحذرها وحاربها بكل ما أوتيت من قوة.(31/13)
فساد الاقتصاد
إن من مظاهر هذه الغربة فساد الاقتصاد الذي أصبح الآن يسمى اقتصاداً ولكن الله عز وجل يسمي هذا النوع المنحرف رباً، واعتبر الله عز وجل الربا من أكبر المحرمات، وجعله حرباً لله ورسوله، قال تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا} [البقرة:279] أي: تتركوا الربا {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279].
ثم أيضاً يتهدد ويتوعد الله عز وجل من يداوم على أكل الربا بالخلود في نار جهنم، مع أن الخلود في نار جهنم من خصائص الكافرين والمشركين، يقول عز وجل: {وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:275].
ومن هنا نقول: إلى متى تتعامل الأمة الإسلامية بالربا؟ وإلى متى ونحن لا نرى الأمة الإسلامية تقلع عن هذا الجرم العظيم وعن هذه الحرب لله ورسوله؟ أليس الله عز وجل الحكيم الخبير الذي شرع أنظمة الحياة ووضع أموراً للتعامل بهذا المال كأي شيء آخر؟ فلماذا لا يستغني المسلمون بما أباح الله عز وجل عما حرم الله؟ أقول: يجب على الأمة الإسلامية أن تنظر في اقتصادها، وأن لا تتعامل بما حرم الله، وعلى المسلم أن يقاطع البنوك التي أعلنت حرباً لله عز وجل وحرباً لرسوله، أن يقاطعها مقاطعة تامة، وأن ينمي أمواله فيما أباح الله عز وجل، وإلا فإن الربا من لم يأكله أصابه من غباره أو دخانه، والرسول صلى الله عليه وسلم: لعن في الربا آكله وموكله، وكاتبه وشاهديه، وقال: (هم في الإثم سواء).
لا بد من أن تقيم الأمة الإسلامية نظام اقتصادها على ما أباح الله عز وجل، لا بد من أن يشكل في كل بلد إسلامي بصفة عامة وفي بلد الحرمين الشريفين بصفة خاصة لجنة شرعية تخاف الله عز وجل وعندها وعي واطلاع على الأنظمة الاقتصادية التي أباحها الله عز وجل، لتقيم نظامها الاقتصادي على وفق شرع الله وما أباح الله، قبل أن تصهر هذه الأجسام التي أكلت الربا بالنار؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (أي جسم نبت من سحت فالنار أولى به).
فالربا أمره خطير ويتساهل فيه كثير من الناس، وأنظمة العالم اليوم تكاد تجمع على أنها لا تستطيع أن تقيم نظام اقتصادها إلا على هذا الربا، ولكننا على ثقة من أن الله عز وجل الذي حرم الربا وسد أمامنا هذه الطريقة المنحرفة أنه فتح لنا آلاف الأبواب لننمي أموالنا فيما أباح الله عز وجل.(31/14)
التبرج
نقصد بالتبرج هذه الخلاعة المشينة التي بلي بها عالمنا اليوم، فإننا نرى تبرجاً فظيعاً لم يمر مثله حتى في الجاهلية الأولى، يقول الله عز وجل: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33]، هذا التبرج الذي أخذت كل بلد منه بنصيب، وبمقدار ما يكون لهذه الدولة ولهذه الأمة من نصيب من المحافظة يكون نصيبها أقل بالنسبة للتبرج، حتى وصل الأمر إلى عراء كامل في بعض بلاد الله عز وجل، لا سيما في البلاد غير الإسلامية، وهذا التبرج من أكبر وسائل الوقوع في الفاحشة، والوقوع في الفاحشة يسقط الإنسان من عين الله عز وجل، ولذلك لا تعجب حينما ذكر الله عز وجل الزنا في سورة النور ثم ذكر وسائل الوقاية إلى أن قال: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} [النور:31] إلى آخر الآية، وهذا التبرج أدى إلى فساد عريض، وأدى إلى فتنة عمياء انتشرت في العالم الإسلامي، وهذا التبرج خلاف ما كان معروفاً في الجاهلية الثانية؛ لأن الجاهلية الثالثة التي نعيشها اليوم أبعد بكثير عن الإسلام في هذا الأمر من الجاهلية الثانية.
تصور أنه حينما كانت الجاهلية الأولى خرجت فيها المرأة عارية تطوف حول البيت، وانتشر الفساد في الأرض، ثم جاءت الجاهلية الثانية التي كانت قبيل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم فبالغت في صيانة المرأة خوفاً عليها من الفساد، حتى وأدوا الفتاة وهي حية، قال الله عز وجل: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ} [التكوير:8].
لكن في أيامنا الحاضرة تبرجت المرأة خلاف ما كان في تلك الجاهلية، وأبرزت زينتها، وطالبت بحقوقها، وأيضاً هي لا تقف عند حد، فكلما أعطيت من الحرية المزعومة طالبت بما هو أكثر من ذلك، ولذلك فإن التبرج الذي شاهدته نساؤنا في وسائل الإعلام أصبح موضة من موضات هذا العصر، فإن لم يكن موجوداً فلا بد من أن تكون هي المطالبة به.(31/15)
محاربة الإسلام بأبنائه ومن ينتسبون إليه
الأمر الأخير من مظاهر هذه الغربة -وهو أعجبها وأقساها وأعنفها- أن يحارب الإسلام بأبناء الإسلام، ومن كان يصدق بذلك؟! ما كنا -والله- نصدق، حتى لقد كنا نسمع مقالات تقال من أعدائنا مفادها أن شجرة الإسلام شجرة سامقة عميقة في الأرض، لا تستطيعون أن تقطعوها إلا بغصن من أغصانها، وما كنا نعلم ماذا يقصدون بهذه المقالة، حتى رأينا من أبناء الإسلام من تربى على أعين هؤلاء الأعداء ليكون هو الغصن الذي يحاول أعداء الإسلام أن تقطع به هذه الشجرة.
إن أعداء الإسلام الذين يتربصون بنا الدوائر، والذين كانوا يغزون بلاد المسلمين من الشرق والغرب يريدون أن يطيحوا بالأمة الإسلامية وأن يزيلوا هويتها من هذا الوجود، إنهم قد ربوا أفراخاً لهم في بلادهم، وغسلوا أدمغتهم في بلاد الشرق والغرب، وملئوا قلوبهم حقداً على الأمة الإسلامية، فجاءوا وهم يحملون هذا الحقد الدفين، وصار همهم أن يهدموا هذا الإسلام بأيديهم وأيدي الكافرين، وإن هذا من أعجب الأمور، يقول الشاعر: وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند وحينما كان الإسلام يُحارَبُ بـ أبي جهل وأبي لهب في أيامه الأولى كان الأمر واضحاً، ولكن حينما أصبح الإسلام في أيامنا الحاضرة يحارب بأحمد ومحمد وعبد الله وعبد الرحمن وسيف الدين وسعد الدين وعماد الدين أصبح الأمر مصيبة كبرى، وصدق الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، فلقد حدثنا عنه حذيفة بن اليمان رضي الله عنه في حديث طويل معجزة للرسول صلى الله عليه وسلم يحكي واقعنا اليوم، يقول حذيفة: (كان الناس يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني.
قال: فقلت: يا رسول الله! كنا في جاهلية وشر فجاء الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم.
قال حذيفة: فقلت: يا رسول الله! وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم وفيه دخن.
قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يستنون بغير سنتني، ويهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر.
قال: فقلت: يا رسول الله! وهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم قذفوه فيها.
قال: قلت: يا رسول الله! صفهم لنا؟ قال: قوم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا) قوله: (من جلدتنا) أي: من أبناء المسلمين، ويحملون في جيوبهم الهوية الإسلامية، ولربما يكونون من أبناء الصالحين والعلماء، ومن لهم مجد عريق في حماية هذا الدين، ثم إذا بهؤلاء الأبناء معولاً هداماً في شجرة الإسلام السامقة.
قوله: (ويتكلمون بألسنتنا) أي: باللغة العربية الفصحى.
فلم يأتوا من الشرق ولا من الغرب، ولكن نشئوا في بيوت المسلمين، فهذا هو سوء التربية، وهذا هو الواقع الذي نعيشه.
وأيم الله إن الإسلام في أيامنا وفي بلادنا هذه بصفة خاصة يحارب بأبناء المسلمين أكثر من أن يحارب بالكافرين؛ لأن أعداء الإسلام وثقوا بهؤلاء الذين سوف يقومون بهذه المهمة، ولذلك سلموهم الأمر وأصبحوا يراقبونهم من بُعْدٍ.
ومن خلال ذلك لا تعجب وأنت ترى من ينتسب للإسلام يطعن في الإسلام من الأمام ومن الخلف، ولكن هذا هو الوعد الذي أخبر الله عز وجل عنه، والذي ينتظر من زمن بعيد، قال عز وجل: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22]، فإذا كانت هناك غيرة على دين الله، وإذا كان هناك غضب لله عز وجل فإن هذا اليوم هو يومه، فالعالم الإسلامي جله يحارب فيه الإسلام من أبناء جلدتنا ومن يتكلمون بألسنتنا، وإذا لم يغضب المسلمون لدين الله عز وجل ولله عز وجل فويل يومئذ للفضيلة من الرذيلة.(31/16)
طرق ووسائل التخلص من الغربة
نتحدث عن العنصر الأخير من عناصر هذا الحديث، وهو: كيف الخروج من هذا المأزق؟! وكيف نستطيع أن نجتاز هذه المرحلة العصيبة من مراحل هذه الغربة التي لم يمر في تاريخ البشرية مثلها منذ أن خلق الله عز وجل الأرض ومن عليها؟ ليس هناك سبيل إلا الجهاد، وليس هناك سبيل إلا أن نتوجه إلى أولي الأمر، لا سيما في بلاد الحرمين التي تعتبر جزيرة آمنة مطمئنة، يأوي إليها المستضعفون من كل بلاد العالم، فما يكاد أحد يؤذى في بلده إلا ويأوي إلى هذا البلد الذي جعله الله عز وجل مأمناً ومهوىً لأفئدة المسلمين أجمعين، وجعل لنا فيه حرماً آمناً، ويتخطف الناس من حولنا، وأرغد لنا في العيش، وأنعم علينا نعمه تترى، يقول الشاعر: أرى خلل الرماد وميض جمر ويوشك أن يكون لها ضرام وإن النار بالعودين تذكى وإن الحرب أولها كلام فإن لم يطفها عقلاء قومي يكون وقودها جثث وهام فعلينا أن نتقدم إلى المسئولين في بلادنا بطلبات واقتراحات ورجاء، ونقول لهم بلسان الحال وبلسان المقال: {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} [غافر:29].
فهناك فساد عريض انتشر في هذه الأرض، سافر -يا أخي- إلى أي سفارة من سفاراتنا في الخارج، والله لقد رأيت إحدى سفاراتنا يؤكل فيها بأوانٍ من الفضة التي يقول عنها الرسول صلى الله عليه وسلم: (الذي يأكل في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم) ولدي دليل على ذلك، وعليها شعار الدولة، وقد رأيت في سفاراتنا سكرتيرات من أجمل البنات، وكذلك الخطوط السعودية في كل مكان من الأرض يديرها فتيات، لتأتي المصائب والبلاء، وآخر حدث افتتاح في مدينة عنيزة لمستشفى جديد، وهذا المستشفى يديره صليبيون نصارى، مدير المستشفى صليبي نصراني، ومدير الإدارة صليبي نصراني، ورئيس التنفيذ صليبية نصرانية، حتى المحاسب صليبي نصراني، إلى هذا الحد وصل بنا الأمر! وأظن أن سبب حصول مثل هذا هو أننا لا نناصح ولاة الأمر.
وأكبر ظني أنهم لا يدرون عن كثير من هذه الأمور، ولو قمنا لله مثنى وفرادى وزاحمنا ولاة الأمر الذين يقولون: إنهم قد فتحوا أبوابهم لكل من يريد أن يدلهم على خير.
لو فعلنا ذلك فلا أظن أنهم سوف يردون طلباً، لا سيما وأننا في أيام محنة وفتنة لا يخلصنا منها إلا أن نعود إلى ربنا سبحانه وتعالى.
وأقسم بالله على أن المضيفات في الخطوط السعودية لا يساوي لباسهن أي لباس في أي دولة من دول العالم في قصر الثياب وفي التبرج، وهذه مصيبة وهذا بلاء، فلنناصح المسئولين عن الخطوط السعودية لعلهم يتقون الله عز وجل.
وهناك أمور كثيرة لا بد من أن نقوم لها غاضبين لله عز وجل، ولكن بعقل وحكمة، وأقصد بالحكمة وضع الأمور في مواضعها، لا بد من أن نقول للمحسن: أحسنت.
ولا بد من أن نقول للمسيء: أسأت.
ولا بد من أن نناصح المسئولين؛ لأن هذا واجب، والنصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم واجبة، أما إذا سكتنا عن النصيحة فويل يومئذ للفضيلة من الرذيلة، وكذلك إذا لم يقبل ولاة الأمر نصيحتنا فويل لهم؛ لأن الله عز وجل يقول: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ} [البقرة:206]، أما أن نخاف البشر وأن نجابي في دين الله فحينئذ لا تبقى بقية من ديننا، فما هو موقفنا بين يدي الله عز وجل الذي يقول: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:41]؟ أخي الكريم! الأيام التي نعيشها عصيبة، وما نزل عذاب إلا بذنب، ولن يرفع إلا بتوبة، فهل سنجدد التوبة مع الله عز وجل؟ فالعدو يحيط بنا من كل جانب، من حدود العراق إلى البحر الأحمر إلى الجنوب الغربي إلى الشرق، في كل مكان عدونا يحيط بنا، الذين أكلوا خيراتنا وأموالنا هم الآن الذين يحملون الحقد، فإلى أي طريق نفر؟! أين المفر؟! قال تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات:50].
وأقول: أيها المسلمون! أصلحوا أوضاعكم، وناصحوا المسئولين وراسلوهم، وقولوا لهم: اتقوا الله فإننا نعيش في أمن ورخاء وسلام ويتخطف الناس من حولنا، ووالله الذي لا إله غيره إن لم نقم لله مثنى وفرادى دعاة ومصلحين فإن العذاب أقرب إلى أي واحد منا من شراك نعله.(31/17)
الأسئلة(31/18)
فساد الأنظمة الاقتصادية والسياسية الأسباب والعلاج
السؤال
ما الرد على من يقول: إن سبب فساد بعض الأنظمة الموجودة كالنظام الاقتصادي والسياسي، وسبب وجود الغربة هو تخلف العلماء وعدم المشاركة في القرارات الشرعية التي تساير ما أتت به هذه الحضارة الحديثة، ويضرب مثالاً لذلك بوجود الأنظمة الاقتصادية الحالية، والسبب هو عدم وضع البديل الإسلامي المناسب، ومن أقواله أيضاً: إن تدريس الفقه الإسلامي ومناهجه يعتبر خاطئاً، بسبب بقاء التدريس على كتب القدماء؟
الجواب
هذا الكلام فيه نقد للقدماء، وهذا خطأ بين؛ لأن القدماء خدموا الإسلام، وهم في قرن خير من قرننا، وإن كان في قرننا خير والحمد لله، لكني أوافق الأخ السائل على بعض ما يقول، فالعلماء قصروا في هذا الجانب، ولم يقدموا الحلول الشرعية لدولة ما من الدول التي فسد اقتصادها أو قام على الربا وما حرم الله، وأكبر ظني أن كثيراً من هؤلاء العلماء في عزلة عن الأنظمة الحديثة، ولكن هناك أمر آخر لا نغفل عنه، وهو أن هؤلاء العلماء أكثرهم ما أُخذ رأيه في هذه الأمور، وهذه أنظمة اقتصادية جاءتنا من الخارج، وقيل لنا: إن نظام الحياة لا يقوم إلا عليها.
ولو كانت جائرة ولو كانت ربا ولو كانت حرباً لله ورسوله، وإن كان طائفة من العلماء أرادوا أن يغيروا، لكنهم لم يغيروا إلا شيئاً يسيراً، ونحن هنا نستطيع أن نقترح على الدولة -وهي لا شك أمثل دولة نعتمد عليها بعد الله سبحانه وتعالى- أنها إذا كانت تريد أن تحارب هذا الربا العظيم الذي هو حرب لله ورسوله فباستطاعتها -لا سيما في هذا العصر الذي -والحمد لله- كثر فيه علماء الاقتصاد الإسلامي الواعون- أن تشكل لجنة ونخبة من صالحي العلماء المدركين للأوضاع الاقتصادية وأنظمة الحياة الحديثة وأن تكلفهم بهذه المهمة، وقد سبق أن كتبنا لبعض المسئولين واقترحنا عليهم أشخاصاً معروفين، ولهم وزن وثقل في المجتمع، وأعتقد أن مثل هؤلاء لو وكل إليهم الأمر لأغنوا هذه البلاد عن الأنظمة الاقتصادية المنحرفة المحرمة التي تحارب الله عز وجل ورسوله.
وأملنا في الله عز وجل ثم في الدولة كبير، لا سيما أنها دائماً وأبداً -إن شاء الله- سوف تبحث عن الحلول التي تخلص فيها هذا البلد مما حرم الله سبحانه وتعالى، فالعلماء مسئولون عما انتشر من الربا، سواء أكانت هذه المسئولية بإيجاد الحلول للدولة، أو بمطالبة الدولة أو أي دولة في بلاد العالم الإسلامي أن تزيل الربا، ولكنهم لم يعطوا الأمر حقه حتى يستطيعوا أن ينطلقوا منطلقاً قوياً، ولكن لنا أمل في الله عز وجل أن تشكل الحكومة في هذه الظروف لجنة من العلماء المدركين المخلصين الذين يهتمون بهذه الأمور ليقوموا بهذا العمل، أما الأصل فإن العلماء أكثر ما يغزى الإسلام من قبلهم حينما يتهاونون في الأمر، ولذلك ما حلت أنظمة البشر وقوانين الرجال في بلاد من بلاد الله إلا بسبب ضعف القضاة أو تساهلهم في أمر من أمور القضاء، فتكثر القوانين الوضعية حينما يفسد نظام الحياة، وحينما يعجز القضاة الشرعيون عن حلها، فحينئذ يظهر الفساد في السياسة وفي الاقتصاد وفي كل الأنظمة، والله المستعان.(31/19)
اقتراح بدعوة الجاليات غير المسلمة إلى الإسلام
السؤال
لقد عرف عن فضيلة الشيخ عبد الله أنه يرحل إلى الخارج للدعوة إلى الله، لكن ألا يعد وجود الجاليات الكبيرة داخل المملكة من الفرص الكبيرة التي يمكن من خلالها أن ننظم حلقات للدعوة، حيث ندعو هؤلاء إلى الإسلام إذ هم موجودون في داخل المملكة؟ وهل هناك جهود في هذا الأمر؟
الجواب
الصحيح أن هذه فرصة فاتتنا من سنين طويلة، فبدل أن نغزوهم في بلادهم من منطلق قوتهم لا نستطيع أن نؤثر إلا على المسلمين منهم، ولكن وجودهم في بلادنا هذه ومنذ سنوات طويلة غفل عنه كثير من المصلحين، فما رأينا واحداً من هؤلاء -إلا في النادر في السنوات الماضية- دخل في الإسلام، وإننا كثيراً ما نرى من أبناء المسلمين من يرتد عن الإسلام على أيدي هؤلاء، سواء أعلن ردته أو لم يعلن ردته، ولكن -والحمد لله- في هذه الأيام الأخيرة افتتحت في كل مدن المملكة -بل وفي بعض القرى- مكاتب للجاليات من غير المسلمين، لتعليمهم أمور الدين الإسلامي، ودعوتهم إلى الله عز وجل، ونشر المطبوعات، ورئاسة البحوث وعلى رأسها سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله وجزاه الله خيراً قدمت جهداً في هذا الأمر، فطبعت بجميع لغات العالم مطبوعات، وأعطت تراخيص لمكاتب في كل مدن المملكة وبعض قراها لتقوم بهذه المهمة باسم مكاتب لتوعية الجاليات، ولكن نرجو المزيد من ذلك، ونرجو أن لا يدخل في بلادنا كافر إلا ويخرج منها وهو مسلم، وهذا ليس بغريب؛ لأن هذه أرض طاهرة، وكذلك لا يجوز أن نجمع فيها أكثر من دين، فيجب أن نقلل فيها من عدد اليهود والنصارى والوثنيين، والله المستعان على ما يحدث، لكن إذا وجدوا يجب أن ندعوهم إلى الإسلام لعلهم يرجعون إلى أهلهم مؤمنين.(31/20)
علاج الحيرة الموجودة عند شباب الصحوة
السؤال
نحن شباب الصحوة أحياناً نصاب بشيء من الحيرة هل نكون مع بعض الدعاة الذين يسمون معتدلين عند بعض الناس، أم نكون مع بعض الدعاة المجاهدين المخلصين، فما هي حقيقة هذا الأمر؟ وكيف تزول هذه الحيرة عند كثير من الشباب؟!
الجواب
الإنسان إذا أراد أن ينضم إلى مجموعة ما فلينضم إلى جماعة المسلمين، هذا هو ما أوصى به الرسول صلى الله عليه وسلم حذيفة، قال حذيفة: (فقلت: يا رسول الله! فماذا تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: الزم جماعة المسلمين) ولذلك فإننا نقول: على المسلم أن يلزم جماعة المسلمين، وأن يختار أفضل فئة تدعو إلى الله عز وجل وتدافع عن هذا الدين، ولعل هذه الظروف التي نعيشها الآن جعلت هذا النوع من هؤلاء الدعاة في نظر طائفة من الناس متشددين أو متطرفين كما يسمونهم، والحقيقة أن هذا هو الإسلام الذي نعرفه في شرع الله عز وجل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لكن وجوده في هذه الفترة التي منيت بالانحراف جعل هؤلاء كأنهم متطرفون أو متشددون.
والحقيقة أن الإنسان إذا أراد أن يبحث فليبحث عن أفضل فرقة، أن يبحث عن الفرقة التي تغضب لله عز وجل إذا رأت محارم الله عز وجل تنتهك، لكن لا تفقد الحكمة، والحكمة لها معنيان: الحكمة وضع الأمور في مواضعها، والحكمة بمعنى اللين، وأقصد بالحكمة وضع الأمور في مواضعها؛ لأن الأمة الإسلامية لا بد من أن تكون لها قوة تحمي هذا الدين، وليس غريباً أن ينزل الله عز وجل الحديد كما أنزل الكتب السماوية فقال: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} [الحديد:25]، فوضع الحديد بجوار الكتب السماوية، وهذا يدل على أن المسلمين لا بد من أن تكون لهم قوة، ولا نعني -أيضاً- بذلك أن نكون أناساً ثوريين وأن نحطم ونكسر ونقتل لا، لا نفعل شيئاً من ذلك، وإنما علينا أن نغضب لله عز وجل بحيث تكون قوتنا كقوة الحديد والنار حينما تنتهك محارم الله عز وجل، يقول حسان: لا خير في حق إذا لم تحمه حلق الحديد وألسن النيران فالقوة هي المطلوبة، لكن يجب أن تكون هذه القوة باعتدال وبتوازن وبانضباط، حتى لا تجر مشاكل على الأمة الإسلامية، وحتى لا تفسد عليها أمنها.(31/21)
حقيقة الجهاد في أريتريا وواجب المسلمين نحوهم
السؤال
لقد علمنا أنك اعتنيت كثيراً بمشكلة المسلمين في أريتريا والجهاد في أريتريا، ونود أن تعطينا فكرة عن الجهاد الإسلامي في أريتريا حتى تتضح الأمور في أذهانهم؟
الجواب
هذا حديث يطول، لكن ألخصه في كلمات: أريتريا منذ ثلاثين عاماً وهي مبتلاة بألد أعداء الله عز وجل، ولعل أحدنا يظن أني أعني الحبشة وليس كذلك، فالحبشة عدو حاقد نصراني شيوعي ملحد، لكن ابتليت أريتريا بما هو أشد من ذلك من أبناء جلدتها، من الذين تقدموا ليحرروا البلاد فإذا بهم يزيدون الطين بلة، وخلال السنوات الثلاثين التي مضت والأمور تتردى في أريتريا، حتى وصل الأمر إلى خبر نشرته صحيفة (المسلمون) منذ سنتين تقول فيه: إنه تؤخذ الفتيات من البيوت قهراً ويقتل الآباء الذين يعارضون، ويوضعن في مواطن تفريخ -أي: في معسكرات- لينزوا عليهن من لا أقول: البر والفاجر؛ لأن الكل فاجر، بل المسلم والنصراني، ويلدن أولاداً، ويعتبرون هؤلاء الأولاد صغار الثورة، ويرجون من وراء ذلك أن تحول أريتريا إلى بلد إلحادية.
هذا الأمر دفع كثيراً من علماء المسلمين الأريتريين الذين درسوا في الجامعات الإسلامية هنا وهناك وفي كل مكان إلى أن اجتمعوا وتعاهدوا على الجهاد في سبيل الله، وجمعوا منظمات متفرقة في منظمة واحدة اسمها: (حركة الجهاد في سبيل الله) ويديرها واحد وخمسون من علماء أريتريا في مجلس شورى، وهؤلاء الآن يكادون أن ينجحوا في مهمتهم لو قيض الله عز وجل لهم مالاً، وبقي دوركم أنتم -أيها الإخوة المسلمون- يا من تملكون المال، فلماذا لا تتقدمون لهؤلاء بالمال لعل الله سبحانه وتعالى أن يفتح على أيديهم أريتريا؟ وهي ليست بأقل خطراً من أفغانستان علينا، بل إن أريتريا لا تبعد عنا إلا عشرات الأميال فقط، وهي تشكل خطراً لا سيما في هذه الجبهات التي تكافح فيها الاحتلال الأثيوبي.
وعلى كلٍ فالجهاد في سبيل الله قائم هناك، ولكنه يفقد المال، بل يفقد لقمة العيش الضرورية، بل إن الأريتريين الذين يزيدون على مليون مسلم يعيشون الآن داخل السودان يموت عدد منهم جوعاً في هذه الأيام أكثر من أي مجاعة مرت عليهم في تاريخهم، حتى المجاعة التي سمعنا أخبارها منذ سنوات هم الآن يعيشون مجاعة أشد من تلك لأسباب كثيرة، ولعل من أهم أسبابها أحداث الخليج، وغلاء الأسعار هناك، حتى أصبح المسلمون يموتون جوعاً، فهم بحاجة إلى طعام إضافة إلى أنهم بحاجة إلى سلاح يقاتلون به عدوهم.
وعلى كل فإني أدعو المسلمين إلى المساهمة لمساعدة إخوانهم الأريتريين، فهم أحوج ما يكونون إلى المال، لعل الله أن يفتح على أيديهم، ولعلنا نتقي شر تلك المنطقة وما يسمى بالقرن الأفريقي الذي يهدد أمن المنطقة كلها.(31/22)
واجب المسلمين تجاه المجاهدين في أفغانستان وغيرها
السؤال
مع الأحداث الأخيرة صرفت أذهان كثير من المسلمين -مع الأسف الشديد- عن الجهاد في فلسطين، وعن الجهاد الأفغاني الكبير الذي ما يزال يحاول أن يقتلع الإلحاد من بلاد الأفغان، فنود لو يذكر الناس قليلاً بواقع الجهاد الأفغاني؟
الجواب
حينما نتحدث عن الجهاد في بلد لا نتحدث عنه لأنه الوحيد في الساحة، لا، فالجهاد في أفغانستان لا ننساه ولن ننساه أبداً، والجهاد في فلسطين لا يمكن أن يغيب عن عقولنا، وأيضاً لا ننسى إخواناً لنا في جنوب الفلبين يجاهدون في سبيل الله، كل هؤلاء لا نغفل عنهم ولا ننساهم.
أما الجهاد في أفغانستان فإننا نسمع أخباره -والحمد لله- وهو مرفوع الرأس، حتى لقد كان من الأخبار التي وردتنا أن عدو الله الحاكم في أفغانستان ظلماً وعدواناً يراسل القادة الذين يحيطون بكابل ويقول لهم: أنتم إخواني وأنا أخوكم أصلي وأطبق شعائر الإسلام، فارحمونا فقد أزعجتمونا ودعونا.
فماذا رد الأخ القائد جزاه الله خيراً عليه؟ هل رد عليه يقول: نقتسم البلاد نحن وأنت؟! لا.
وإنما كتب في أسفل خطابه -كما يقول شاهد عيان-: بسم الله الرحمن الرحيم.
من فلان إلى عدو الله {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39] التوقيع: فلان.
وهذا يدل -والحمد لله- على أنه صادر من منطلق قوة، لكن المال هو الذي يسير هذا الجهاد، والحمد لله على أن أكثر من سير الجهاد في أفغانستان هم شباب المملكة العربية السعودية، وهم أكثر الناس شهداء من غير الأفغان في تلك المناطق والحمد لله، وإننا نرجو المزيد من ذلك، وهذا يدل على وعي شباب المملكة العربية السعودية.
إذاً لا بد من المال؛ لأن المال هو الذي يقوم بالجهاد، لا سيما أن أيام الشتاء إذا أقبلت فالثلوج ترتفع في تلك الجبال إلى أمتار من شدة البرودة، وربما تبلغ درجة البرودة إلى عشر أو عشرين درجة تحت الصفر في بعض الأحيان، فمن يستطيع مواجهة ذلك؟! إنهم القوم الذين عاهدوا الله على الجهاد، وهم أيضاً بحاجة إلى شيء من مالنا يتقون به البرد والعدو، والله المستعان.(31/23)
كيف حافظ الإسلام على الفضيلة وحارب الرذيلة
لقد دعا ديننا إلى الفضيلة، وأرشد إليها، وحث عليها، ومدح أصحابها، وحارب الرذيلة، وحذر منها، وشنع على مرتكبيها، فإن داعي الفطر السليمة، والنفوس المستقيمة يدعو إلى الفضائل والمكارم، ويكره الرذائل ووسائلها وما يؤدي إليها، لذلك فديننا يوافق الفطر الصافية.
فعلى المسلم أن يحذر من الوقوع في الرذيلة ومن نشرها، لما يترتب على ذلك من مفاسد عظيمة، بل عليه أن يتحلى بالفضائل، وينشرها في الخافقين.(32/1)
مجمل الاحتياطات التي وضعها الإسلام لمحاربة الرذيلة
الحمد لله الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، والحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، وتبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وبارك، وعلى آله ومن دعا بدعوته وعمل بسنته ونصح لأمته إلى يوم الدين.
أما بعد: أحبتي في الله! القرآن هو منهج الحياة، والأمة في العصور الماضية ما كانت تفكر أن هناك نظاماً سوف ينافس القرآن، ونحن الآن نتأكد أنه لن ينافس القرآن شيء، لكن ظن أعداء الإسلام أنهم سوف ينافسون القرآن وينازعونه بأنظمتهم وقوانينهم ولكن يأبى الله إلا أن تتعقد الحياة ويختلط الحابل بالنابل حتى يعود الناس إلى كتاب الله جملة واحدة قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:209] أي: في جميع شرائع الإسلام.
ولذلك لا تعجبوا يا إخوتي! وأنتم ترون العالم اليوم وقد أمسك بالزناد ينتظر حروباً دامية، بل لا تكاد تسمع أخبار العالم عبر الأثير إلا وتسمع المجازر والمذابح، هذا ليس غريباً؛ لأن الناس إذا أعرضوا عن كتاب الله عز وجل سوف يحدث أكثر من ذلك؛ لأن الله تعالى قال: {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:38] وبالمفهوم من أعرض عن هدى الله فعليهم الخوف وعليهم الحزن.
وفي آية أخرى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:132 - 124].
يقول الله تعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} [البقرة:137] (فَإِنْ آمَنُوا) أي: العالم (بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ) أيها المسلمون (فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ) ولذلك يحاول الغرب عبثاً أن يقودوا هذا العالم على غير عقيدة، وعلى غير منهج من عند الله، ويأبى الله ذلك حتى يعود الناس كلهم إلى كتاب الله وإلى تشريعه.
ليعلم الناس أجمعون وليبلغ الذين يسمعون من لا يسمعون أن هذه الأمة لا تتفق إلا على منهج صحيح؛ ولذلك هنا في بلدنا هذه لها من الأمن بمقدار ما تطبق من شرع الله، قال سبحانه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] كما أنها لو تخلفت ولم تطبق شرع الله فسيكون نصيبها من ضياع الأمن ووجود شيء من الفوضى، فلينتبه الغافل وليعلم الجاهل.
أيها الإخوة: الحلقة التي اخترناها في هذه الليلة هي: كيف حافظ الإسلام على الفضيلة وحارب الرذيلة، ولذلك اخترت لكم النصف الأول من سورة النور؛ لأن سورة النور سورة عظيمة جداً وكل القرآن عظيم، لكن لفت القرآن نظرنا إلى عظمة سورة النور، فبدأها بقوله تعالى: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [النور:1] وكان هذا اللفت للنظر يثير الانتباه، بحيث يجب على المسلمين أن يقرءوا سورة النور، ولربما يكون في سورة النور شيء يجرح المجرمين، لكنه في الحقيقة يصلح المجتمع، ولذلك فسورة النور في نصفها الأول تحارب الرذيلة التي لها دعاة في أيامنا الحاضرة، لكنهم لا يقولون: نحن نريد الرذيلة ونريد أن ينتشر الزنا في المجتمع، وهم في الحقيقة إنما يريدون ذلك؛ لأنهم حينما يكثرون علينا في أمر المرأة، المرأة، المرأة، والله ما يريدون خيراً للمرأة، وإنما يريدون للمرأة أن تفسد فيفسد المجتمع، فتخف وطأة الطريق الطويلة التي يبحثون فيها عن الفاحشة، فتكون هذه المرأة في متناول أيديهم، ولكن يأبى الله إلا أن تبقى هذه الأمة -لاسيما في جزيرة العرب منشأ الإسلام- آمنة مطمئنة محافظة على دينها وأخلاقها، رغم أنوف هؤلاء الحاقدين.
اخترت لكم النصف الأول من سورة النور والعجيب أن هذا النصف بدأ بما يلفت النظر وختم بمثل ذلك، فأول آية فيها: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور:1] وآخر آية في هذا النصف: {وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [النور:34].
هذه السورة كلها مدنية، ونصفها الأول يركز على موضوع واحد وهو موضوع الأخلاق والفضائل واحترام المرأة ومحاربة الزنا، وإقرار قواعد الفضيلة ومحاربة الرذيلة، فيقول الله عز وجل في مطلع هذه السورة: (سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا).
ثم يبين أسساً تكفي لحماية أي مجتمع من العابثين الذين يريدون أن تشيع فيهم الفاحشة، فأول آية بعد هذه الآية قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2].
إذاً: هي ركزت على محاربة الزنا، وأول احتياط جاء في هذه السورة هو الحد، وسميت الحدود حدوداً لأنها حواجز أمام النفس البشرية تمنع من الوقوع في الفاحشة؛ لأن النفوس البشرية في طبيعتها تهوى هذا الأمر؛ لأن الشهوات قد ركب عليها الإنسان وكذلك كل مخلوقات الله تعالى الحية ركبت على هذه الشهوة، ولا بد من حماية جانب الأخلاق ما دامت هذه الشهوات موجودة.
إن إقامة الحدود أمر عظيم، وما حصل في العالم الإسلامي اليوم من خلل فإن أكبر أسبابه تعطيل هذه الحدود، تراهم يتعاطفون مع المجرم ويقولون: إن تطبيق الحدود من قطع يد السارق، ورجم الزاني، وقتل القاتل، فيها قسوة ووحشية، أهذه هي الوحشية.
أم الوحشية العبث في أخلاق الناس وفي أموال الناس وفي أمن الناس وفي أعراضهم؟! الأخيرة هي الوحشية حقيقة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (حد يقام في الأرض خير لها من أن تمطر أربعين خريفاً).
إذاً: الاحتياط الأول: هو الحد: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ).
الاحتياط الثاني: هو المحافظة على سمعة المجتمع بحيث يصبح هذا المجتمع لا يتحدث فيه عن الرذيلة، لأن الحديث عن الرذيلة يخفف وطأة الجريمة على الإنسان، ولم تعد كلمة الزنا تصك الآذان؛ لأنها أصبحت مبذولة وأصبحت سهلة مألوفة لدى الناس، لذلك جاء الاحتياط الثاني: وهو حد القذف، قال عز وجل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور:4].
الاحتياط الثالث: في جانب الاختلاط، ولذلك لا تعجبوا يا إخوتي حينما جاء أعداء الإسلام ونشروا الاختلاط في الجامعة وفي المدرسة وفي السوق وفي المكتب وفي كل شيء؛ لأنهم يعلمون أن هذا تمهيد للفاحشة.
أما الإسلام فقد حارب الاختلاط كما في قوله تعالى: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27].
الاحتياط الرابع: هو غض البصر؛ لأن النظرة سهم مسموم كما أخبر الله عز وجل في الحديث القدسي بقوله: (النظرة سهم مسموم من سهام إبليس، فمن تركه من أجلي، أبدلته إيماناً يجد لذته في قلبه).
الاحتياط الخامس: الزواج، الذي يدعو إلى هجره كثير من أعداء الإسلام، ويقولون: العشق خير من الزواج، وهنا كلمة عند الإنجليز متداولة عند بعض شباب المسلمين: إذا كان اللبن يباع في الأسواق فلا حاجة إلى أن تشتري بقرة، يقولون هذا بلغتهم الخاصة.
إذاً: لا حاجة إلى الزواج ما دمت تستطيع أن تشبع هذه الرغبة من غير زوجة ترتبط بها وترتبط بك، وتطالبك بالنفقة وغيرها من التكاليف، وربما تنجب لك أولاداً وهؤلاء الأولاد يكلفونك تكاليف كثيرة لا حاجة إليها، يقولون ذلك من أجل أن ينشروا الجريمة في المجتمع.
أما الإسلام فقد ركز على هذه الأمور الخمسة وهي التي ستكون إن شاء الله موضوع حديثنا في هذه الليلة، مع مراعاة بعض الألفاظ اللغوية أو بعض الألفاظ النحوية التي تعرض لنا في هذه الآيات، وكذلك بعض الأحكام مع إشارة يسيرة إلى بعض الخلافات التي ربما نضطر إليها لتوضيح أمر من الأمور، التي أصبحت مثار جدل ككشف الوجه والكفين وما أشبه ذلك من الأمور التي يناقش فيها طائفة من الناس اليوم، وهم لا يريدون الوجه والكفين حقيقة، وإنما يريدون أن تتفسخ المرأة، لكنهم يبدءون بالوجه والكفين، ولذلك هم يقولون: إن كشف الوجه والكفين جاء به القرآن؛ لأن الله تعالى قال: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31] كما سيأتينا إن شاء الله في الآية، وهؤلاء لو كانوا يقفون عند حد الوجه والكفين لكان الأمر معقولاً؛ لأن هذا الرأي قديم لبعض العلماء، لكن هم يريدون أن يكون هذا مدخلاً للتفسخ؛ لأن كشف الوجه يعتبر إزالة للحياء من وجه المرأة، فإذا كشفت الوجه تفعل ما تشاء.(32/2)
حماية الفضيلة ومحاربة الرذيلة بتشريع حد الزنا
يقول الله تعالى: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} [النور:1].
(سورة): خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هذه سورة.
والسورة مأخوذة إما من السوار، وهو ما يحيط باليد، أو من السور وهو الجدار المرتفع؛ لأن كل سورة من القرآن أحيطت بسور منيع من أولها إلى آخرها، فهي كالسور المنيع الذي يلتجئ إليه الخائف.
قوله تعالى: (أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا) نفهم منها: أن القرآن منزل غير مخلوق، خلاف ما يقوله المبتدعة الذين أحدثوا في دين الله تعالى.
أما الفرض فمعناه في اللغة: القطع أي: قطعنا بها، والمراد بقوله: (وفرضناها) أي: ألزمنا المسلمين بها إلزاماً مع أن القرآن كله ملزم، لكن لما كانت هذه السورة تحمل أهمية خاصة في حياة الأمم وفي شرف الأمم، قال الله تعالى: (وَفَرَضْنَاهَا).
قوله: (وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ) والمراد بالآيات البينات ما سنذكره إن شاء الله من الأحكام والأخلاق والفضائل في النصف الأول من هذه السورة، أو ما يأتي في آخر السورة من الآيات الكونية التي وضعها الله عز وجل في هذا الكون، لتكون علامة على قدرة الله ووحدانيته تعالى.
وقوله: (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (لعل) أصلها للترجي في لغة العرب، لكن إذا جاءت من الله عز وجل فليست للترجي وإنما هي للتوقع، أي: يتوقع تذكركم إذا قرأتم هذه السورة وعملتم بها؛ لأن الترجي لا يكون إلا من الأدنى إلى الأعلى، أما من الله سبحانه وتعالى فإنه لا يترجى وإنما يفرض أمره فرضاً، ولذلك يكون (لعل) هنا بمعنى اللام: (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي: لتتذكروا.
بدأت الأحكام في هذه السورة بقوله سبحانه: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2] هنا شيء يلفت النظر في هذه الآية، لا تجد آية في القرآن ولا حديثاً من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم بدأ بالمرأة وإنما يبدأ بالرجل؛ يقول الله تعالى: {ولَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} [آل عمران:36]، ويقول سبحانه: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة:228] وليس معنى ذلك أن المرأة محتقرة، لكن هما شيئان أحدهما أفضل من الآخر، ويبدأ بالأفضل، ولذلك جاءت هذه الآية على خلاف المعروف في آيات القرآن العظيم، حيث بدأ بالمرأة ولم يبدأ بالرجل فقال: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) مع أننا نجد في سورة المائدة: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة:38] فلماذا بدأ بالمرأة؟ لأن المرأة عندها من الدوافع إلى الزنا أكثر مما عند الرجل، لكن من نعمة الله عز وجل أن جعل المرأة لا تتحرك إلا إذا حركت، كما أن المرأة عندها من القدرة على نشر الفاحشة في المجتمع أكثر من قدرة الرجل، لو أن واحداً من الناس فسدت أخلاقه نعوذ بالله، وانحط في المجتمع، فإنه يفسد فرد وحده، لكن تصوروا امرأة واحدة لو فسدت في أمة لأفسدت أمة بأكملها، لو امرأة خرجت متبرجة في أكبر سوق من أسواق مدينة ما، فإنها ستفتن دين أمم ورجال كثيرين.
ولذلك قدمت المرأة على الرجل إشارة إلى أن عرض المرأة حساس، فهي إن وقعت في هذه الفاحشة نعوذ بالله سوف تدخل أولاداً على زوجها إن كان لها زوج ليسوا منه، وتدخل على مجتمعها وعلى بيتها أولاداً ليسوا شرعيين، لا تجد من يتزوجها إذا عرف أنها وقعت ذات يوم في فاحشة، بخلاف الرجل قد يُنسى أمره؛ ولذلك قدم الله تعالى المرأة على الرجل هنا من أجل أن يعلم الناس حساسية عرض المرأة، فهو أكثر حساسية من الرجل وأكثر خطورة من الرجل.
الرجل يمكن أن يفسد امرأة أو امرأتين لكن المرأة باستطاعتها أن تفسد آلاف الرجال معها.
والزنا في الشرع معناه: هو الوطء في فرج حرام، هذا يسمى زنا.
(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) والجلد معناه: ضرب الجلد، ومائة جلدة هذا حكم خاص بالزاني غير المحصن؛ لأن الزاني في شرع الله عز وجل على نوعين: محصن، وغير محصن.
فالمحصن هو الذي تزوج ووطأ زوجته التي يوطأ مثلها بنكاح صحيح، وهما بالغان عاقلان حران.
أما غير المحصن فهو الذي لم تتوافر فيه هذه الشروط، والمحصن يرجم بعد أن يجلد، وغير المحصن يجلد مائة جلدة ويغرب سنة، هذا شرع الله عز وجل في حكم الزاني المحصن وغير المحصن، مع اختلاف بين العلماء في الجلد قبل الرجم.
أما بالنسبة للجلد والتغريب فهذا ورد في الشرع بأدلة كثيرة، وبعض العلماء يرى أن سجن المرأة لمدة سنة يكفي عن التغريب، المهم أن تغيب عن المجتمع التي فعلت فيه هذه الفاحشة.
قوله تعالى: (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ) هذا خطاب للحكام وللقضاة ولعامة الناس، ولذلك يا أخي! إذا مررت بامرأة تجلد أو رجل يجلد؛ بسبب الزنا فلا تجعل الرحمة في قلبك وتقول: والله هذا مسكين، أو هذه مسكينة، فتخالف أمر الله عز وجل، ولكن قل: هذا شرع الله الذي يطهر المجتمع، كما أن هذه الرأفة والرحمة لا يجوز أن تأخذ القضاة أو الحكام إلى أن يتساهلوا في تنفيذ هذه العقوبات.
والرأفة معناها: الرحمة والرقة، مع أن الله أمر المؤمنين دائماً وأبداً بالرحمة، لكن في باب الحدود لو طبقت هذه الرحمة لعطلت الحدود؛ ولذلك أصحاب القوانين الوضعية -قاتلهم الله أنى يؤفكون- في أيامنا الحاضرة يظهرون العطف على المجرم ويقولون: شهوة واحدة صغيرة في لحظة نرجم بسببها إنساناً أو نجلده مائة جلدة، هذه عقوبات قاسية، يسمونها العقوبات البشعة، وكأنهم أرحم من الله عز وجل الذي يعلم ما يصلح البشر.
والحقيقة أنهم كاذبون فليست هذه رحمة، وإنما هذا تفلت من حكم الله عز وجل؛ لأنهم ابتلوا بهذه الجرائم بأنفسهم.
قوله تعالى: (إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) هذا خطاب للمؤمنين، وهذا لإثارة الإيمان في النفس أي: إن كنت مؤمناً فلا تتعاطف مع أهل الرذيلة، كما تقول لفلان: إن كنت رجلاً فافعل كذا، تريد أن تثير حمية الرجولة في نفسه.
أيضاً عقوبة أخرى يقول عز وجل: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2] لا يكون الجلد داخل مكتب الشرطة، ولا يكون داخل مركز الهيئة، وإنما يجب أن يكون على مرأى من الناس؛ لأن الفضيحة التي يشعر بها صاحب الجريمة يجدها في نفسه أشد من الجلد؛ والستر مطلوب دائما وأبداً، لكن إذا بلغت الحدود السلطان فلا يصلح الستر ما يقال: هذا ابن فلان أو ابن الأكرمين، أو ابن الرجال أو ابن الملوك أو ابن الأمراء يجلد داخل مكان كذا، بل يجب أن يكون على مرأى من الناس، ولا بد أن تشهد هذه العقوبة.
قوله: (طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي: من المسلمين المطبقين لأوامر الله عز وجل؛ لأجل أن يشعر هذا بالفضيحة فيرتدع، ومن أجل أن يرتدع من يرى هذه الحدود وهي تقام.
وإقامة الحدود تقر عيون المؤمنين دائماً وأبداً، ولذلك يجب أن يشهد هذه العقوبة طائفة من المؤمنين.
أمر الحدود انتهينا منه في هذه الآية، أي: استقر الأمر أن يرجم الزاني إذا ثبت الزنا وكان محصناً، أو يجلد مائة جلدة إن لم يكن محصناً.
يا إخوتي! لا تظنوا أن الإسلام حينما يشرع هذه الحدود إنما يقيم مجازر، فالإسلام الذي وضع هذه العقوبة شدد في أمر ثبوت الزنا، ولذلك فإن الزنا في تاريخ الإسلام الطويل منذ أن نزلت هذه السورة إلى يومنا هذا ما ثبت بالشهادة، مستحيل أن يثبت بالشهادة؛ لأن الشهادة ليست في حد الزنا أن يرى الرجل على المرأة، وإنما هي أن يرى ذكره في فرجها عياناً، وأن يراه أربعة، حتى لو رآه واحد أو اثنان أو ثلاثة لا تقبل شهادتهم، بل لا بد من أن يكونوا أربعة شهود.
إذاً معنى ذلك: أن حد الزنا لم يثبت بالشهادة وإنما ثبت بالاعتراف، أو بالتهمة، والتهمة لا تأخذ حكم الحدود وإنما تأخذ حكم التعزير، كما يفعله القضاة والحكام من وضع عقوبات للزناة في أيامنا الحاضرة، إما أن يكون تعزيراً على تهمة أن فلاناً وجدت عنده فلانة في بيته، وهذه مظنة الزنا، لكن لا يقام عليه الحد، وإنما يعزر تعزيراً بحيث ينقص عن مقدار الحد، ولكن يجوز للقضاة والحكام التعزير وليس له حد محدد.
وإما أن يعترف الزاني، وهذا لم يثبت إلا نادراً في تاريخ الإسلام كما حدث في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات: قصة ماعز رضي الله عنه.
وقصة المرأة الغامدية.
وقصة الرجل الذي قال: (يا رسول الله! إن ابني هذا كان عسيفاً عند فلان فزنى بامرأته)، وقد حكم الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لكن بعد أن اعترفت المرأة واعترف الرجل.
إذاً: لم يثبت الزنا إلا بطريق الاعتراف؛ لأن الاحتياطات التي وضعت في طريق هذه الحدود عظيمة وشديدة، حتى قال العلماء: لو اعترف الإنسان بالزنا ثم تراجع عن اعترافه يترك ولو بدأنا في رجمه أو جلده؛ لأنه جاء في قصة ماعز رضي الله عنه أنه لما جاء فاعترف، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يرجم، فلما بدءوا يرجمونه أوجعته الحجارة فهرب فقضوا عليه، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (هلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه)؛ لأنه جاء معترفاً، فهنا تراجع عن اعترافه.
قوله تعالى: {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور:3] هذه جاءت بين حد الزنا وحد القذف، هذه الآية لها سبب في نزولها، وهو (أن امرأة تدعى أم مهزول كانت مشهورة عند الناس بالزنا نعوذ بالله، فجاء رجل من المسلمين ليخطبها، فاستشار الرسول صلى الله عليه وسلم، فنهاه عن نكاحها، فأنزل الله تعالى فيه هذه الآية: (الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ)).
فلا يجوز أن يتزوج امرأة عفيفة وهو ما زال مكباً ومصراً على الزنا حتى يتوب، فلا يجوز له أن يتزوج إلا امرأة زانية مثله مشهورة بالزنا،(32/3)
حماية الفضيلة ومحاربة الرذيلة بتشريع حد القذف
بعض الناس عنده غيرة، ولا يلام على هذه الغيرة، لكن قد تصل هذه الغيرة إلى القذف بدون دليل، وهذا أمر خطير لا يقل خطورة عن أمر الزنا، كأن يقول: إن فلانة زنت، أو فلاناً زنى، وليس عنده دليل، فالله تعالى وضع عقوبة للقاذف تساوي عقوبة الزاني سوى عشرين جلدة فقط.
إذاً: القاذف عقوبته ثمانون جلدة، والزاني مائة جلدة، بل قد تكون عقوبة القاذفين مضاعفة لو أن ثلاثة شهدوا أن فلاناً زنى وليس عندهم رابع يشهد، في هذه الحالة كل واحد منهم يجلد ثمانين جلدة، يكون المجموع مائتين وأربعين جلدة على هؤلاء الثلاثة، أكثر من عقوبة الزاني بما يساوي مرتين ونصف.
إذا: ً حتى لا تنطلق الألسن بالحديث في الأعراض بدون بينة، وضع الله تعالى عقوبة القاذف بجوار عقوبة الزاني، ووضع عقوبة يقارب مقدارها مقدار عقوبة الزاني.
القذف معناه: الرمي، والمراد به هنا القذف بالزنا نعوذ بالله، والقذف من أكبر المعاصي عند الله عز وجل؛ لأن الله وضع له حداً، والكبيرة هي التي لها حد في الدنيا أو وعيد في الآخرة.
حرم القذف لأسباب كثيرة: السبب الأول: أنه ينفر الناس من المرأة التي قذفت، بحيث لا أحد يتزوجها في يوم من الأيام؛ ولذلك شدد الله تعالى في هذا الأمر وخص المرأة بذلك قال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور:4] مع أن الرمي للمحصنات وللمحصنين الرجال على حد سواء كله محرم وكل فيه حد.
إن إشاعة الفاحشة في المجتمع تسهل الجريمة، فلو بدأ الناس يتحدثون: فلان زان، وفلانة زانية، يصبح الحديث عن الزنا أمراً ميسوراً، ولذلك فإن المسرحيات التي تنشر الآن أمام المسلمين في التلفاز وفي الإذاعة خطيرة جداً؛ لأنها تأتي بكلمات كلها عشق وغرام، ولأنها تمهد السبيل للفاحشة، لا سيما حينما تظهر الصورة وفيها رجل مختلط بامرأة، وأسوأ من ذلك ظهرت الصورة لرجل من الصالحين أو من التابعين وبجواره زوجته سافرة تختلط بالرجال، فهذا تشويه لتاريخ الإسلام، إضافة إلى أن فيه إشاعة للفاحشة فهو لا يقل جريمة عن القذف، وكذلك الحديث في المسلسلات التي تنتشر اليوم في بيوت الناس وفي أسواق الناس عبر وسائل الإعلام الحديثة، كلها في الحقيقة تمهد السبيل للجريمة، فالذي شرع الحد سبحانه وتعالى لمن يقذف امرأة محصنة، هو أيضاً يعاقب هؤلاء الذين ينشرون الفاحشة ويريدون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا.
قوله: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ) المحصن هو العفيف، والمحصنات هن العفيفات، لماذا سمي الرجل العفيف محصناً، وسميت المرأة العفيفة محصنة؟ كأنهم ركبوا حصاناً، والجندي إذا ركب الحصان صعب قتله، أو دخل في حصن فإذا دخل في حصن صعب قتله، وهي محصنة عفيفة محاطة بسياج منيع من حفظ الله عز وجل، ومع ذلك يقال: إنها زانية، إذاً: هذا خطير، فالله تعالى جعل عقوبة لمن يرمي المحصنة أو يرمي المحصن.
الله سبحانه وتعالى ذكر هنا المرأة ولم يذكر الرجل أبداً، ما قال: والذين يرمون المحصنات والمحصنين، وإنما قال: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ) دخل الرجل بطريق القياس والتبعية؛ لأن الرمي بالنسبة للمرأة أخطر من الرجل، لو قال واحد: بنت فلان زانية، لا يمكن لواحد من الناس أن يفكر بالزواج من هذه يوماً من الأيام، ولا يمكن لأي واحد من الناس أن يستعيد الثقة في هذه المرأة، لكن لو قال: فلان زان، قد ينسى عبر الأيام وكل الناس يزوجونه.
إذاً ذكر الله تعالى المحصنات وجعل الرجل تابعاً للمرأة في هذا الحكم؛ لأن حساسية وشفافية عرض المرأة أهم وأشد من عرض الرجل.
قوله: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ) أي: لابد من أربعة شهود، فلو جاء شخص وقال: رأيت بنت فلان تزني نعوذ بالله، نقول: بقي ثلاثة يشهدون مثل شهادتك، وإلا تجلد أنت حد القذف، ويروى: (أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جاءه ثلاثة فشهدوا على فلان من الناس بالزنا، فقال: إما أن تأتوا برابع وإما أن أجلد كل واحد منكم ثمانين جلدة، وقرأ عليهم هذه الآية).
ولكن ليس معنى ذلك يا إخوان أننا إذا رأينا الفاحشة في بيت من بيوت الناس نعوذ بالله، أو في بؤرة فساد أن نتركها تقديراً لهذا، ولا نقول: في هذا البيت فلانة زنت أو فلان زنى، وإنما نقول: في هذا البيت شبهة، وندعو الصالحين وأصحاب الحل والعقد والمسئولين ونقول: تفضلوا هذا البيت تدور حوله شبهة، وحينئذ نستطيع أن نوفق بين هذه الآية الكريمة وبين الواقع الذي أصبح كثير من الناس يتحاشى أن يكشف بؤرة فساد تفسد المجتمع؛ خوفاً من أن يقع في وعيد هذه الآية، فلو قال: هذا البيت مشبوه، فهو غير قوله: فلان من الناس زنى.
إذاً: يجب على كل واحد من الناس إذا شك في سلامة بيت من بيوت المسلمين، أن يدعو السلطة والمسئولين وأصحاب الحل والعقد، من أجل أن يكتشفوا بؤرة الفساد التي يتوقعها داخل هذا البيت، لكن عليه أن يتثبت وعليه أن يتأنى في هذا الأمر، وإذا تأكد من صحة هذا الأمر فيجب على السلطة أن تتعاون معه، ولكن حينما تتهاون السلطة في مثل هذا الموضوع تعتبر خائنة لهذه الأمانة التي استرعاها الله عز وجل عليها.
يقول الله عز وجل: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً) يعني: اضربوا كل واحد منهم ثمانين جلدة وليس كلهم تقسم عليهم ثمانين جلدة.
قوله: {اجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور:4]، انظر يا أخي! الزنا فيه عقوبة واحدة، لكن إشاعة الفاحشة في المجتمع فيه ثلاث عقوبات: الأولى: جلد كالزنا.
الثانية: إسقاط الشهادة: (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا).
(أبداً) هنا ظرف زمان أي: مدى الحياة إلا في حالة واحدة، إذا ظهر أنه تاب من هذا الذنب الذي عمله، فإنه تقبل شهادته.
الثالثة: {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:4] أي: يعتبر من الفاسقين، يقال: الذي شهد على فلانة أو فلان بالزنا وهو ليس بصادق أو لم يثبت على ذلك يسمى فاسقاً في المجتمع.
والفاسق هو المتمرد على طاعة الله عز جل.
قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النور:5]، فإذا تاب الإنسان قبلت شهادته، وانتفى عنه وصف الفسق، لكن لا يسقط حد القذف أبداً ولو تاب الإنسان؛ لأن حد القذف لله سبحانه وتعالى وللإنسان المقذوف، ويغلب فيه جانب حق الله عز وجل فلا يسقط.
(إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا) (تابوا) أي: بعد الفسق.
(وأصلحوا) أي: ظهرت علامات الإصلاح والتوبة، لكن لو قال: أنا تائب، لا نقبل توبته حتى نعرف أنه أصلح العمل، وأنه غير المنهج في قذف الناس بغير حق.
(فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) تبين لنا أنه لا يسقط حد القذف وإنما يسقط رد الشهادة والفسق؛ لأن مغفرة الله عز وجل للأمور المعنوية، والأمور المعنوية هي الفسق وسقوط الشهادة، أما بالنسبة للحق المشترك بين الله عز وجل وبين الإنسان وهو الجلد، فهذا لا يسقط بأي حال من الأحوال.(32/4)
حماية الفضيلة ومحاربة الرذيلة بتشريع حكم الملاعنة
يقول الله تعالى بعد ذلك: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ} [النور:6] عندما نزلت الآية السابقة شق ذلك على بعض المسلمين وخصوصاً الزوج، لو أن واحداً ابتلي بزوجة زانية؛ كأن وجد عند زوجته رجلاً في بيته وفي فراشه، ماذا يعمل؟ هل يصبر حتى يأتي بأربعة شهداء؟! ومن يستطيع ذلك؟ لأن الغيرة في قلب المؤمن لا تمهله حتى يأتي بأربعة شهداء.
لما نزلت الآية السابقة جاء هلال بن أمية يخبر أنه وجد عند امرأته رجلاً، فقال له رسول الله: البينة أو حد في ظهرك! ثم نزلت الآية.
من رحمة الله عز وجل أنه استثنى الزوج مع زوجته، لا حاجة إلى أربعة شهداء وإنما يأتي أمر آخر يسمى حد اللعان أو الملاعنة.
حد الملاعنة هذا استثني من حد القذف، فحد القذف حكم ثابت إلى يوم القيامة، ولا يستثنى منه إلا من وجد عند زوجته رجلاً أو اتهم زوجته بالفاحشة نعوذ بالله، الله تعالى سامحه عن الشهود الأربعة، وطالبه بأربعة أيمان بدل الأربعة الشهود، فلا بد أن يشهد أربع مرات أمام القاضي ويسميها: والله إنها لزانية، والله إنها لزانية، والله إنها لزانية، والله إنها لزانية أربع مرات، ثم يقول في الخامسة: لعنة الله علي إن كنت كاذباً فيما رميتها به.
إذا قال هذا الكلام فلا حاجة إلى أربعة شهود؛ لأن الله تعالى خفف على الزوج في قذف زوجته، خصوصاً إذا كان هناك ولد وهو يشك هل هذا الولد له أو ليس له؟ فهو يكره أن يدخل ولداً في بيته وفي أسرته ومع أولاده وليس من أولاده، وإن كان الحكم الشرعي (الولد للفراش)، لكن هو لا يريد أن يدخل هذا الولد في بيته ولا في أسرته.
والمرأة إذا سكتت فإنه يقام عليها الحد، ولكن لها مخرج من الحد أن تشهد أربع مرات: أشهد بالله إنه لكاذب فيما رماني به من الزنا، أشهد بالله إنه لكاذب، أشهد بالله إنه لكاذب، أشهد بالله إنه لكاذب، ثم تقول في الخامسة: غضب الله علي إن كان صادقاً.
هذا يسمى في حكم الشرع باللعان أو بالملاعنة.
إذاً: خفف الله تعالى عن هذه الأمة فاستثنى الأزواج مع زوجاتهم في هذا الحكم ويسمى حكم الملاعنة.
يقول الله تعالى عنه: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ) أي: يقذفون زوجاتهم بالزنا.
(وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ) (أنفسهم) هنا بالرفع بدل من شهداء لأن (إلا) هنا ملغاة تقدم عليها النفي.
(فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ) أي: يمين الزوج ضد زوجته يكفي بدل الشهادة.
وسماها الله تعالى شهادة مع أنها يمين؛ لأنها حلت محل الشهادة، ومحل أربعة شهود يشهدون بذلك.
(أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) أي: يقول: أشهد بالله إنها فعلت كذا وإني صادق فيما رميتها به من الزنا.
يقول الله تعالى: {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور:7] معطوف على ما قبله وهو قوله: (أربع) (والخامسة) وهي مرفوعة، أي: ويشهد الخامسة ويقول: لعنة الله علي إن كنت كاذباً، أو (والخامسةُ) هنا على الاستئناف.
قوله: (وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) أي: فيما رماها به من الزنا.
إذا قال هذا الكلام سلم من الحد، ويفرق بينه وبين هذه الزوجة، وله أن ينفي الولد؛ لأنه رأى رجلاً يزني بها في يوم من الأيام، أو أنها حملت بحمل يتبرأ منه بهذه الأيمان الأربعة التي أشهد الله تعالى عليها، ودعا على نفسه باللعنة في الخامسة إن كان كاذباً، ويقام عليها الحد إلا إذا شهدت هي أربع شهادات مثله كما سيأتينا.
قوله تعالى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور:8] (ويدرأ) أي: يدفع ويزيل، والمراد بالعذاب هنا حد الزنا، أي: ويدفع الله عنها حد الزنا بشهادتها أربع مرات بأن تقول: أشهد بالله إنه لكاذب فيما رماني به من الزنا، أربع مرات.
قوله تعالى: (وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ) أي: يدفع عن هذه المرأة المرمية بالزنا الرجم؛ لأنها محصنة.
(أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ) أي: تشهد أربع شهادات حتى يدفع عنها الحد، وإلا فإن الحد لا بد من أن يقام عليها.
(أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ) تقول: أشهد بالله إنه لكاذب فيما رماني به من الزنا، ثم تكمل الخامسة.
قال الله تعالى: {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور:9] (والخامسة) هنا منصوبة معطوفة على (أربع شهادات).
(وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا) والغضب أشد من اللعنة، لماذا كان هنا الغضب وكانت هناك اللعنة؛ لأن زنا المرأة أخطر من زنا الرجل؛ ولأن الحد الذي سوف يدفع عن المرأة أشد من الحد الذي سيندفع عن الرجل؛ ولذلك جاءت اللعنة وهي الطرد من رحمة الله بالنسبة للرجل، وجاء أشد من ذلك وهو الغضب إن كانت كاذبة فيما شهدت به.
(وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ) إذا قالت هذا الكلام يفرق بينهما، ويجب على القاضي في مثل هذه الحالة أن يخوفهما بالله، ويبين لهما أن عذاب الدنيا أسهل من عذاب الآخرة، ويقول للزوج: لا حاجة إلى أن تلاعنها يا أخي؛ لأنك لو لاعنتها وأنت كاذب سوف تحل عليك لعنة الله.
وكذلك المرأة لو كانت كاذبة فسوف يحل عليها الغضب.
يقول الله تبارك وتعالى بعد ذلك في ختام آيات الملاعنة: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ} [النور:10].
أي: أن الله تعالى برحمته هو الذي شرع حد اللعان؛ ليكون تخفيفاً على الأزواج.
(لولا) هنا حرف امتناع لوجود (فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) وجوابه محذوف، أي: لعاقبكم ولم يسامحكم أيها الأزواج ويعطكم هذه المسامحة التي لم يعطها عامة الناس.(32/5)
حادثة الإفك ووجه تعلقها بالقذف والدروس المستفادة منها
قصة الإفك هي نوع من القذف، وأنواع القذف ثلاثة: الأول: قذف عام، قذف المرأة والرجل.
الثاني: قذف الزوجة من قبل الزوج وعرفنا حكمه.
الثالث: هو أخطر أنواع القذف كلها، وهو قذف زوجة من زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن ذلك يؤدي إلى عذاب عظيم، ولذلك تجدون في قصة قذف زوجة الرسول صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:23] هذا في الدنيا أما في الآخرة: فقال سبحانه: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور:24].
قصة قذف عائشة رضي الله عنها استغلها بعض المنافقين، كما يستغل الآن المنافقون الفرص من أجل أن يدخلوا في المجتمعات ليشوهوها، ففي غزوة بني المصطلق وتسمى أيضاً غزوة المريسيع، والنبي صلى الله عليه وسلم كان قد خرج بـ عائشة معه، وهو راجع من هذه الغزوة، في آخر مرحلة من مراحل الطريق نزل الرسول صلى الله عليه وسلم هو والجيش في الليل، وعرسوا -أي: ناموا في الليل- فلما كان الصباح وكانت عائشة رضي الله عنها تحمل في هودج ذهبت لقضاء حاجتها، ثم رجعت ورأوها رجعت، ولكنها لما رجعت وجدت أنها فقدت عقدها، فرجعت تبحث عنه، فحملوا الهودج ووضعوه على البعير وهم يظنون أن عائشة رضي الله عنها موجودة فيه، ومشت القافلة وعائشة ليست معهم في القافلة، رجعت عائشة رضي الله عنها ووجدت القوم قد رحلوا، فقالت: حسبي الله ونعم الوكيل، وعرفت أنها فتنة حصلت.
كان صفوان بن المعطل السلمي رضي الله عنه يسير وراء القافلة في المؤخرة، فرأى سواداً، فنظر فإذا هي زوجة الرسول صلى الله عليه وسلم فاسترجع وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزل عن بعيره وركبت، وصار يقود البعير أمامها حتى لحق بالقوم، فاتخذها المنافقون فرصة ليطعنوا في عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتولى كبره عبد الله بن أبي ابن سلول لعنة الله عليه رأس المنافقين، وشاركه في ذلك بعض المؤمنين جهلاً، فقالوا: إنها تواعدت مع صفوان بن المعطل السلمي وتأخرت للفاحشة، وانتشر ذلك نعوذ بالله في المدينة، وما علمت عائشة إلا مؤخراً، والرسول صلى الله عليه وسلم سمع الكلام فاعتزل عائشة رضي الله عنها، حتى أنزل الله عز وجل هذه الآيات براءة لها: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:11] إلى آخر الآيات)، ويمكن أن نمر عليها بسرعة.
والمراد بالإفك هو: أشد أنواع الكذب، والعصبة هي الجماعة، وقوله تعالى: (لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ) الخطاب لـ عائشة ولأبيها وللمسلمين، أي: هذه القصة وإن كانت شوهت عائشة في الظاهر، لكن فيها خير وهذا الخير رآه المسلمون بعد ذلك، ألا وهو انكشاف أهل النفاق كـ عبد الله بن أبي وجماعته.
وأيضاً نزلت براءة عائشة رضي الله عنها، ونزل فيها قرآن يتلى إلى يوم القيامة، وثبت الله عز وجل المؤمنين، وعلمهم كيف يتعاملون مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وحصل خير كثير من هذه القصة، فالله تعالى يقول: (لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) أي: فيه خير وإن كان في الظاهر شراً، وقد يكره الإنسان أمراً من الأمور ويكون له في هذا الأمر خير.
ثم يقول الله تعالى بعد ذلك: (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ) أي: من المؤمنين.
قوله: (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ) الذي هو عبد الله بن أبي الذي أشاع الفاحشة (له عذاب عظيم).
ثم علم الله تعالى المؤمنين في مثل هذه الحال بقوله: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا} [النور:12] أي: إذا رأيتم رجلاً صالحاً يقذف أو امرأة صالحة تقذف فلا تصدقوا، لاسيما إذا كانت زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف يقع الزنا في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! هذا مستحيل.
(ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ) أي: كما قال بعض الصحابة لزوجته وقالت له: (قالت المرأة: هل سمعت ما قيل في عائشة؟ قال: نعم سمعت، فقال لها: هل تفكرين أنت في هذه الفاحشة؟ قالت: لا والله ما أفكر بها، قال: إذاً عائشة أفضل منك).
إذاً: قوله تعالى: (ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا) أي: كما أنك تظن بنفسك خيراً وبأهلك خيراً، فأولى أن تظن خيراً بزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك فإن قذف واحد من المؤمنين يؤثر على سمعة كل المسلمين إذا كان بغير حق.
قال الله تعالى: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور:13] أي: هلا جاءوا، مع أنهم لا يستطيعون الإتيان، ولا يمكن أن يأتوا بأربعة شهداء يشهدون على ذلك، اللهم إلا إذا كانوا شهداء زور كما يزور طائفة من الناس الذين لا دين لهم الشهادة.
يقول الله تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:14] أي: أن الله تعالى رحمكم، وهذا الكلام الذي نشرتموه لولا أن الله رحمكم لأنزل على الجميع عقوبة، أي: كيف يتهم بيت الرسول صلى الله عليه وسلم وفراش الرسول صلى الله عليه وسلم؟! ثم يبين الله عز وجل لنا موقفنا حينما نسمع الإشاعات الكاذبة عن الصالحين والصالحات يقول الله عز وجل: {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور:16] وهذا موقف يجب أن يفقهه المسلم أمام أي فتنة من الفتن تشاع، ضد واحد من الصالحين أو واحدة من الصالحات.
يقول الله بعد ذلك: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا} [النور:17] أي: احذروا، وهذا تحذير للمؤمنين الذين حينما نزلت هذه الآيات تابوا فالله تعالى قبل توبتهم وقال: (يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ).(32/6)
عقوبة من يحبون إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا وضرورة الحذر منهم
يقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:19].
الذين يريدون أن تخرج المرأة عن الإطار الذي رسمه الله عز وجل لها، أو كما يزعم طائفة من الناس أنهم يطالبون بحقوق المرأة، وأن المرأة يجب أن تقود السيارة وتزيل الحجاب، فالهدف من وراء ذلك كله هو إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، وهدفهم أن تنتشر هذه الفاحشة، وإذا انتشرت هذه الفاحشة هلك الحرث والنسل، يقول الله سبحانه وتعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ) والمراد بالفاحشة هنا فاحشة الزنا.
قوله: (فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ) عذاب الدنيا الجلد؛ لأن القاذف يجلد، وعذاب الآخرة نعوذ بالله شديد لا سيما إذا كان المقذوف زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [النور:21]؛ لأن الذين بدءوا يصدقون بهذا الإفك، أو يصدقون المروجين للفساد اتبعوا خطوات الشيطان؛ لأن هؤلاء شياطين الإنس، وشياطين الإنس ينثرون الفساد في الأرض وينشرونه، ويمشي وراءهم ويتبع خطواتهم ضعاف الإيمان.
أو شياطين الجن الذين يقذفون هذه الشبهة في المجتمعات وهؤلاء يصدقون.
يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) أي: الذي يسير وراء الشيطان في كل صغيرة وكبيرة.
يقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:19] تصور يا أخي! الذين يريدون أن تشيع الفاحشة اليوم في الناس، والذين يريدون أن تخرج بنات المسلمين فاجرات داعرات منحرفات، هم لا يقولون ذلك بلسان المقال، لكن أرى من خلال تصرفاتهم أنهم يريدون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا؛ لأنهم يريدون أن يخرجوا المرأة المسلمة من إطارها، ويريدون أن ينقضوا على آخر معقل من معاقل الإسلام في جزيرة العرب وفي أرض المقدسات، ولقد ساءهم كثيراً أن فسدت المرأة في الدنيا كلها إلا هنا، فأصبح هناك تركيز كما هو حاصل في الصحف والمجلات كثيراً وكثيراً، يجب أن تكون المرأة كذا، الحجاب كذا، التستر كذا، التقوقع، التخلف إلى غير ذلك من الأمور التي أصبحت الآن تصك آذاننا، ويشهد الله عز وجل أننا قد سئمناها كثيراً، لكن لماذا هؤلاء يحبون أن تشيع الفاحشة؟ لأسباب من أهم هذه الأسباب: الأول: أن تكون المرأة لقمة سائغة في متناول أيديهم يفعلون بها الفاحشة.
الثاني: إن قلوب هؤلاء انقلبت وفسدت، وأدمغتهم غسلت في بلاد الكفر، أو من خلال أفكار ترد إليهم هنا، ففسدت فطرتهم؛ فيضايقهم أن تبقى المرأة المسلمة متمسكة بدينها؛ ولذلك تجد العلمانيين والمنحرفين والكفرة والفجرة وهم من أبناء جلدتنا يتكلمون بألسنتنا، يحبون أن تشيع الفاحشة في المؤمنين، ولربما أن أحدهم لا يبالي أن تنتشر الفاحشة ولو في أهله نعوذ بالله؛ لأن فطرته فسدت.
ومن المؤكد أن من يريد أن تنتشر الفاحشة في بيت من بيوت المسلمين؛ فإنه لا يبالي أن تنتشر الفاحشة في بيته في يوم من الأيام؛ لأنه يعرف أن المجتمع كله سلسلة متصلة الحلق ملتحمة ملتصق بعضها ببعض؛ ولذلك هو يريد أن تنتشر الفاحشة بأي وسيلة من الوسائل في العالم كله.
هؤلاء لنا معهم موقف ولنا معهم حساب، ونرجو الله أن يحكم بيننا وبينهم بالحق وهو خير الحاكمين.
وهؤلاء لهم عقوبتان: عقوبة في الدنيا، وعقوبة في الآخرة، يقول الله تعالى: (لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ) أما عذاب الدنيا فإننا إن شاء الله في القريب العاجل ننتظر أن يكون على أيدي الولاة الصالحين الذين سوف ينتبهون حينما يرون الخطر قد داهمهم، أو على أيدي المؤمنين الذين يغضبون لله عز وجل، ووالله إن هذا ليوشك أن يكون، لولا وجود العلماء والصالحين الذين صاروا كوابح أمام هؤلاء الشباب المندفع لدينه والذي يغضب لربه، حتى لا ينتقم من هؤلاء الذين يحاولون الإفساد في الأرض، ونرجو أن يكون ذلك على أيدي السلطة المؤمنة، بحيث يوقفون هذا التيار المنحرف الجارف، الذي يريد أن يفسد على الأمة دينها وأخلاقها.
أما عذاب الآخرة فهو أشد من عذاب الدنيا وهو النار التي أعدت للكافرين، وأعدت أيضاً لهؤلاء الذين يسيرون ويسلكون مسلك الكافرين.
فلنحذر يا إخوتي هؤلاء الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، فهم الآن كثير وهم يظهرون التباكي على حقوق المرأة، حرية المرأة، المجتمع معطل، نقول لهم: إن الرجال لم يعمل منهم إلا أقل من عشرين بالمائة، فالمجتمع ليس معطلاً ولا حاجة إلى أن نشغل المرأة في أمور لا تهمها.
المهم يا إخوتي! انتبهوا لهذه الآية التي بينت أن فينا من يحب أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، فهل نقف أمام هؤلاء مكتوفي الأيدي أو لنا معهم حساب في الدنيا، أو لنا معهم حساب في الآخرة؟! لا شك أن لنا معهم موقفاً أمام الله عز وجل في الآخرة، ونرجو أن يكون لنا معهم موقف في الدنيا أمام السلطة العادلة.
والله يا إخوان: تكاثرت الظباء على خراش.
حقيقة نحن الآن لا ندري ماذا نقول؟ كل يوم نفاجأ بما يحاك ضد الفتاة من مؤمرات، فالعلمانيون يريدون إخراجها واختلاطها بالرجال في النوادي والمسابح وغير ذلك، ينبغي أن نعلن حالة الطوارئ، كيف نستمتع بالأكل والشرب والنوم وهناك عدو في الداخل وعدو في الخارج، يطوقنا من كل جانب، ويتربص بنا الدوائر.
ينبغي أن نتوجه إلى الله سبحانه وتعالى بالدعاء والتضرع: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [الأنعام:44].
نحن نسمع كثيراً هذه الأشياء ونقرؤها في الصحف، ومع ذلك لا نقول: حسبنا الله ونعم الوكيل.
وهؤلاء الذين بدءوا يحركون الأخطار من الداخل أقسم بالله إنهم أعداء الدولة، فكما أن الدولة محاطة بالعدو من الخارج فهم يريدون أن يربكوها من الداخل، كما عمل اليهود داخل المدينة يوم جاءت الأحزاب، وطوقت المدينة من كل صوب، بدأ العدو في الداخل يتحرك فقام بنو قريظة وبنو النضير وبنو قينقاع، وصاروا يحركون المنافقين في الداخل ضد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن هناك عدواً يطوقه من الخارج.
أنا أحذر المسئولين أن يتركوا هؤلاء يعبثون، وأظن أن المسئولين فيهم خير كثير إن شاء الله، ولكن التقصير منا، وأنا لاحظت شيئاً من تقصيري أنا حينما زرت بعض المسئولين الكبار، وجدت أنه لا تصل إليهم كل هذه الأخبار ولا يصل إليهم الناس.
أقول: يا إخوتي! أحذركم أن تتساهلوا في هذا الأمر، أو تتركوا هذا العدو يعبث من الداخل، ويشغل الحكومة عن عدوها الأكبر من الخارج، والله سبحانه وتعالى لن يتركهم يعبثون؛ لأنه تعالى له مقاليد السماوات والأرض.(32/7)
الأسئلة(32/8)
شروط وضوابط عمل المرأة في الإسلام
السؤال
هل عمل المرأة الذي يدندن به كثير من الناس اليوم يعتبر باباً للرذيلة؟ الشيخ: نحن لا نعارض عمل المرأة، والإسلام لا يعارض ذلك أيضاً، لكن عمل المرأة له شروطه وضوابطه، المرأة يجب أن تكون بعيدة عن الرجال، وفي عمل يناسب تركيبها الجسمي ووعيها وفطرتها، المرأة لا تعمل في المناجم وفي المصانع، كما أنها لا تدرس كل شيء، المرأة يجب أن تكون لها دراسات خاصة، ولذلك يا إخوان! البنات اللاتي درسن بدون قيد ولا شرط هن اللاتي أحدثن الفوضى في البلاد، وبالتالي يجب أن تكون دراسة المرأة تناسب تركيبها الجسدي، وتناسب فطرتها، وتناسب حاجة البلد إليها.
أما عمل المرأة مطلقاً بهذا الشكل فهذا يعارضه الإسلام، كما قلنا: لا بد أن يوضع له قيود؛ ولا بد أن يكون عمل المرأة في حدود وفي إطار معين، ولا بد أن يكون في منأى عن الرجال، بحيث لا يؤدي إلى ضياع البيت وضياع الأسرة، وكم من الأطفال الآن من فسدت تربيته؛ بسبب خروج المرأة بدون قيد ولا شرط! يا أخي! المرأة لها عمل أكثر من عمل الرجل داخل البيت، من الذي يربي الأجيال؟ إنها المرأة، ولذلك لا نقول: المرأة طباخة أو خادمة داخل البيت، هذا ليس في الإسلام، بل نقول: المرأة مربية وإن كانت تؤدي هذه الأدوار أيضاً، لكن من باب التبع، ولها شرف أن تكون خادمة في بيتها ولا تحتاج إلى خادمة، لكن هي في الحقيقة تربي الجيل، يقول الشاعر: الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت جيلاً طيب الأعراق إذاً: لابد أن نعدها لتعد لنا الجيل.
إن الذين يريدون أن تعمل المرأة بدون قيد ولا شرط لهم أهداف سيئة، وأهم أهدافهم أن تبتعد عن البيت وأن يفسد المجتمع، أو أن يتربى الأطفال على أيدي مربيات بعيدات عن الله سبحانه وتعالى، أو أن يفقد الطفل الحنان والعطف الذي لا يجده إلا عند أمه، فبعض النساء لا تعرف طفلها إلا حينما تضعه، ثم لا تراه بعد ذلك إلا نادراً! ترضعه امرأة وتربيه أخرى إلى غير ذلك، حتى يخرج هذا الطفل بعيداً عن العاطفة حتى عن الإنسانية.
يا إخوان! تصوروا في البلاد التي سبقتنا إلى هذا العمل، ليس هناك عاطفة بين الولد وبين أمه، أو بين البنت وبين أمها؛ ولذلك يقولون هم أنفسهم: إن أحدنا يقابل أمه بعد سنوات من غيابه ثم لا يسلم على أمه إلا إشارة بيده من بعيد، وهذه تكفي تحية.
أنتم تشعرون تجاه الأم بالعاطفة؛ لأنكم تربيتم مع أمهاتكم ومع آبائكم؛ ولذلك من مخططات العدو فصل الولد أو البنت عن أمه منذ أيام الطفولة، ويحتجون بالعمل.(32/9)
حكم إثبات الزنا بالتصوير أو تقرير الطبيب الشرعي
السؤال
إذا وقع الزنا، فهل يقام الحد بموجب تقرير الطبيب الشرعي، أو بالكاميرا وما أشبه ذلك؟
الجواب
لا يقع إلا بأربعة شهود أو بأربعة اعترافات، ولذلك ماعز رضي الله عنه لما جاء وقال: (يا رسول الله! إني زنيت -ليس هناك أبلغ من هذه العبارة- فانصرف عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، وجاء من الواجهه الأخرى وقال: يا رسول الله! إني زنيت أربع مرات، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم بعدما اعترف ماعز: لعلك قبلت؟ قال: لا، بل زنيت، فقال صلى الله عليه وسلم: هل دخل ذلك منك في ذلك منها، قال: نعم يا رسول الله!) أي: أنه أقر على نفسه، والرسول صلى الله عليه وسلم ينصرف عنه، لكن لما اعترف أربع مرات ثبت الحد.
إذاً: لا يجوز لنا أن نبحث نحن بطريق التصوير أو بطريق الكشف الطبي، ولو وجد شيء من ذلك فإنه لا يثبت الحد وإنما يثبت التعزير فقط، كما لو خلا الرجل بامرأة دون أن تكون هناك صورة، أو دون أن يكون هناك شهود أربعة.
إذاً: ينبغي ألا نتتبع عورات الناس، إلا إذا كانت هناك خلايا تفسد المجتمع، وبيوت مشبوهة فإنه يجب أن نراقبها ونتتبعها ونهجم عليها ونضايقها قدر الاستطاعة، لكن أن نتتبع إنساناً لا نعرف ما يحدث داخل بيته، لا يجوز، بل في مثل هذه الحال يحرم أن نتابع هذا الإنسان ما لم يكن مفسداً في المجتمع، أو لم يكن فعل الفاحشة.
أما لو كان الإنسان داخل بيته فإننا لا نتسلق عليه البيت ولا نصور ما يفعل، لا نذهب به إلى الطبيب، إلا إذا اعترف، اللهم إلا إذا كان الموقع موقع شبهة فإننا نقيم عليه التعزير، وهذا أساس من أسس الإسلام، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (ادفعوا الحدود ما وجدتم لها مدفعاً)، لكن يجب أن يؤدب ويعزر كل واحد يريد أن يفسد في المجتمع.(32/10)
حكم الشرع في بيع أشرطة الفيديو الخليعة ومشاهدتها
السؤال
لقد انتشرت في الآونة الأخيرة محلات الفيديو التي تبيع أشرطة الفساد والخلاعة، والتي هي في الحقيقة من أكبر دواعي الزنا، بل تعتبر هي الخطوة الأولى للزنا، ففي هذه الأشرطة تجد الرجل وهو يمسك بالمرأة ويقبلها ويضمها، بل وينام معها في فراش واحد، وهما على هذه الحالة، وتسمع منهما الكلام الساقط وهذا من أقل الأمور، والغريب يا فضيلة الشيخ أن مثل هذه الأشرطة مسموح بيعها، وقد رخص لها، فما تعليقكم عليها لا سيما وقد تهاون بها كثير من الناس؟
الجواب
هذه أيضاً حلقة في هذه السلسلة سواء كانت الصور الثابتة أو المتحركة، الله تعالى حرم النظر وقال: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30] ولماذا وضعت الفروج بجوار غض البصر؛ لأن النظرة سهم مسموم والشاعر يقول: كل الحوادث مبدؤها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر شرارة صغيرة تسقط على متاع أو على بيت تحرقه بكامله، ونظرة صغيرة في رأي العين تحرق أمة بكاملها، ولذلك أقول: أيها الإخوة! ما أشار إليه السائل مصيبة وبلاء حل بالأمة الإسلامية، وحقيقة أن الرقابة تغفل عن هذه الأمور، ولا أظن إن شاء الله أن المسئولين الكبار يسمحون بذلك؛ ولعل ذلك يعتبر تساهلاً من المسئولين الذين هم دونهم، ولكن هب أن المسئولين الكبار والصغار اتفقوا على ذلك، فهو لا زال محرماً والخطر موجوداً، ونحن مطالبون بأن نحمي بلادنا وأن نحمي أمتنا وأن نحمي بيوتنا من هذه الأخطار.
ولذلك أقول: إن الذي يبيع هذه الأفلام ماله محرم وكسبه نجس، وقد أخذ مالاً مقابل ضياع عرض وأخلاق أمته، وهذا من أكبر المخاطرات، وكذلك فهو يربي جسده وجسد أولاده من هذا الحرام.
أقول له: يا أخي! اتق الله ودع ما تفعل، ولا تتعامل بهذه الأشرطة وهذه الأفلام وهذه الصور؛ لأنها فتنة، والله تعالى يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [النور:19]، فأنت حينما تساهم في الإتيان بشريط من هذه الأشرطة، أو صورة من هذه الصور فإنه ينطبق عليك الوعيد المذكور في هذه الآية، أسأل الله لي ولك وللمسلمين العافية.(32/11)
حكم قيادة المرأة للسيارة والرد على من أفتى بجوازها
السؤال
قرأنا قبل أيام مقالاً لـ محمد الغزالي يخالف فيه علماءنا الأفاضل من حيث تأييده للنساء في قيادة السيارة، ولهذا الداعية أفكار غريبة يستسيغها كثير من الناس، ويدندنون بها، وقد رفعه فئة من الناس في هذه المجتمعات؛ لذا نرجو من فضيلتكم نصيحة الشباب وتوجيههم لما فيه صالحهم، وفقكم الله؟
الجواب
أولاً: الشيخ محمد الغزالي رجل لا ننكر أنه داعية وله سابقة في الدعوة، ولكن القلوب أولاً بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء.
ثانيا: ً الغزالي وغيره من علماء المسلمين ليسوا معصومين، فقد يخطئ ويصيب، ونحن نأخذ من كلامه الصواب ونترك الخطأ، وكل يؤخذ من قوله ويرد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا أمر يجب أن نسلم به.
أما لو أن محمداً الغزالي أو كل علماء المسلمين أجمعوا على قيادة المرأة للسيارة، فنحن عندنا مقياس ثابت وهو شرع الله عز وجل، ولننظر إلى المصائب التي تترتب على قيادة السيارة من الخلوة، والسفر، والذهاب إلى محطة البنزين، والذهاب إلى الورشة، والذهاب إلى غير ذلك، كل هذه تتوقعه المرأة، ولذلك لا يفكر عاقل في أن تقود المرأة السيارة في مجتمع مسلم، هذا أمر ندعه، لكن أنا متأكد أن محمداً الغزالي والذين تساهلوا في أمر قيادة السيارة للمرأة ما عرفوا ما وراء ذلك، ظنوا أن المسألة فقط نساء خرجن يطالبن بقيادة السيارة، المخطط أكبر من ذلك، المخطط رهيب يا إخوان، إنه خروج على أوضاع قائمة وتحطيمها، وتكون هذه كواجهة فقط أو كمنظر خارجي، وهو المطالبة بقيادة السيارة، لكن الله تعالى يعلم ما في هذه القلوب.
ولذلك نحن نقول للغزالي ولغيره: نحن أدرى بمجتمعنا منك، ومجتمعنا مجتمع محافظ لا يقبل هذه الأشياء، وأنت رجل كواحد من البشر تخطئ وتصيب، نأخذ الصواب من قولك ونرفض ما يخالف ذلك، لكني أرى خلف قيادة السيارة أموراً خطيرة أسأل الله أن يجنبنا إياها؛ لأن المسألة ليست مجرد مطالبة بقيادة السيارة وإنما مطالبة بالخروج على أوضاع قائمة عشناها أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمان، وهؤلاء يريدون أن يغيروا وأن يحطموا هذه الحواجز بين الرجل وبين المرأة.(32/12)
حكم خروج المرأة مع السائق الأجنبي بمفردها
السؤال
إن من دواعي الزنا خلوة الرجل بالمرأة الأجنبية، ولقد انتشر في الوقت الحاضر خروج المرأة مع السائق وحدها، وتتعذر بقصر المسافة، فنرجو من فضيلتكم تبيين هذه النقطة؛ لأنها انتشرت انتشاراً عظيماً في هذه البلاد؟
الجواب
الخلوة أمر خطير، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إياكم والدخول على النساء، قال رجل: يا رسول الله! أريت الحمو؟ قال: الحمو الموت) الحمو هو كل قريب للزوج، وهو أشد خطراً من غيره.
إذا اختلى رجل بامرأة لا شك أن الشيطان ثالثهما كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن اثنين ثالثهما الشيطان لا تسأل عما سيحدث، ولو كان المشوار قصيراً أو المدة قصيرة؛ لأن الشيطان يستغل الفرص.
على كل نحن نقول: إن الخلوة محرمة، ونحن عندنا أمران يجب أن نراعيهما: السفر بدون محرم، والخلوة ولو في غير سفر، ولو كانت المسافة قصيرة، كلاهما جاء فيه خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم بأنهما محرمان؛ ولذلك أنا آسف جداً أن رجلاً عنده غيرة المؤمنين من أخ وأب وزوج ثم يسلم زوجته أو أخته أو بنته لسائق يذهب بها إلى المدرسة ويعود بها إلى البيت، أنا أتعجب أن يوجد مثل هذا في المسلمين! يا أخي! يجب أن تقضي حاجتك بنفسك، وتبقى المرأة في بيتك حتى يتوافر لها من محارمها من يستطيع أن يذهب معها، إن فساد هذه المرأة خطر عظيم، وما تجنيه من خروجها سواء كان للمدرسة أو لغير ذلك، لا يساوي (1%) أو أقل من ذلك بالنسبة لما سوف تجنيه من هذه المرأة لو سقطت في غضب الله عز وجل.(32/13)
طرق ووسائل دفع الفتن ومواجهتها والداعين إليها
السؤال
في هذا الزمن الذي كثر فيه الفتن، وازدادت فيه دواعي الفاحشة بين الناس، كيف للمسلم أن يقف أمام تلك المغريات؟! بل كيف يردع أفواج الناس المنطلقة للمعصية الملهية عن تلك القضايا الأساسية في المنهج القرآني الكريم؟! وكيف نقف أمام هذه الأفواج وفقكم الله يا فضيلة الشيخ، لا سيما وأننا نرى المنافقين يبثون دعاياتهم لها ليلهوا شباب الأمة عن الأمر الأعظم ألا وهو الجهاد في سبيل الله؟
الجواب
أولاً: موقفنا كما أخبر الله عز وجل: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22]، ووالله ما كان هؤلاء يغيبون عن عقولنا طرفة عين، بل كنا نحسب لهم ألف حساب يوم كانت الأمور تسير في مجراها الطبيعي؛ لأن الله تعالى يقول: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2]، ولذلك فإنه يجب أن يكون لنا موقف، وهذا الموقف يجب أن يكون حازماً، ويجب أن يكون جاداً مع هؤلاء الذين يريدون أن تتحطم سفينة الحياة في هذا المحيط المتلاطم الأطراف، يجب ألا نحقر أنفسنا، فإن الله تعالى يقول: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:249].
ثانيا: ً يجب أن نتوجه إلى الله عز وجل بالدعاء والتضرع، ونقول كما قال المؤمنون وهم قلة أمام عدو كاسر حينما رأوهم: {قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة:250]، ثم كانت النتيجة: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:251]، وعلى هذا نقول لكم: أيها الإخوة المؤمنون! العدو لا يرحم، والعدو يتربص ونحن نيام طيلة السنين الماضية، ولربما حدث أمر تكرهه النفوس يسبب يقظة لهؤلاء الناس الغافلين النائمين، والآن جد الجد ويجب على كل مسلم أن يجند نفسه للجهاد في سبيل الله عز وجل، جهاد الكافرين والمتكبرين، والذين يريدون أن يفسدوا على الأمة أمر دينهم وحياتهم وعقيدتهم، لا بد أن نقف أمام هؤلاء وأولئك، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة:73] فكما نجاهد الكفار أيضاً نجاهد المنافقين، ولربما يندس المنافقون في المجتمع الإسلامي، ويتباكون على الإسلام في بعض الأحيان، لكن الله تعالى يقول: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد:30]، ولربما أن هذه الأحداث الأخيرة قد كشفت لنا كثيراً من المنافقين، وجزى الله الشدائد كل خير.(32/14)
حكم السفر للمعصية والمجاهرة بها
السؤال
ما حكم الذين يسافرون إلى بلاد الدعارة، ويزنون هناك جهاراً نهاراً، ويتفاخرون إذا رجعوا إلى بلادهم، ودليل ذلك ما يحملون معهم من صور وأشرطة وغير ذلك؟! فما هو العمل تجاههم، لا سيما وأننا نجد بعض أوليائهم أو بعض الصالحين من إخوانهم يتربون على أظهرهم، ويدعون لهم بالسلامة بعد عودتهم، دون الوقوف أمامهم وردعهم مما هم عليه؟
الجواب
الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين) فهناك معصية، وهناك معصية أكبر منها وهي المجاهرة بها نعوذ بالله، وإذا وصل الأمر إلى المجاهرة بالمعصية جاء الخطر، ولذلك ذكر الله تعالى ثلاث مراحل للخطر في القرآن: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام:113] قوله: (وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ) أي: الميل طبيعي في النفوس.
(وَلِيَرْضَوْهُ) وهذا هو الفعل.
(وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ).
فالذي يعصي الله عز وجل ويستر على نفسه ويبادر بالتوبة والإنابة إلى الله عز وجل، فالله تعالى يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعافي، أما الذي يرتكب المعصية ويضيف إلى المعصية معصية أكبر منها وهي المجاهرة بها فهذا لا يعافى؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين).
نقول لهؤلاء: اتقوا الله فلكم أهل ولكم زوجات، ولربما لكم بنات ولكم أخوات ولكم عشيرة، أما تخشون على هؤلاء من أن يقعوا فيما حرم الله عز وجل؟! والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (عفوا تعف نساؤكم) نسأل الله العفة والعافية والسلامة.
ونقول لهؤلاء الآباء: اتقوا الله فلا يذهب أولادكم إلى تلك البلاد، لا سيما الشاب الأعزب الذي لم يعرف قدر الغيرة على المحارم، والذي يرى أمام عينيه هناك أعداء الله وقد فتحوا أبوابهم لسلب أموال المسلمين وأخلاق المسلمين، اتقوا الله فلا تشجعوا هؤلاء الأولاد، ونقول للمسئولين أيضاً: اتقوا الله، فيجب أن تكون هناك عراقيل أمام سفر هؤلاء إذا كنا نخشى عليهم، والخشية موجودة والفطرة البشرية تدعو إلى ذلك.(32/15)
ضرورة منع دخول المجلات الخليعة إلى بلاد المسلمين
السؤال
المجلات المنتشرة في الأسواق، التي تدخل بشكل دوري إلى المملكة أسبوعياً وأحياناً شهرياً، فإن فيها دعايات وإعلانات للعطور تظهر فيها صور نساء سافرات لرءوسهن وأفخاذهن وغير ذلك، فما واجبنا نحو ذلك؟! وهل تتأثر المرأة بالمقابل بصور الرجال التي تعرض في هذه المجلات، أرجو من فضيلتكم تبيين هذا الأمر الذي دهم كثيراً من البيوت وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
الله المستعان! هذه حلقة من سلسلة طويلة ومخطط رهيب لإفساد الأخلاق، في التلفاز، في الإذاعة، في الصحف، في المجلات، في الكتب، في الأفكار المنحرفة، وما ذكره الأخ السائل من وجود هذه الصور حقيقة ليست دعاية للعطورات؛ لأنها مواد وأمور تافهة، وإنما هي دعاية لهدم الأخلاق، لكن هؤلاء يتخذون هذه الأمور وسيلة ليدخلوا بواسطتها إلى إفساد أخلاق الناس ودينهم.
وعلى كل نقول: إن نشر الصور الفاتنة التي أصبحت الآن تنشر الفساد في الأرض أمر خطير، ونرجو الله سبحانه وتعالى أن يوفق المسئولين والمراقبين على هذه المطبوعات إلى أن يمنعوا دخولها، وأن يهتموا بهذا الجانب.
لكن المشكلة أن كثيراً من هؤلاء الذين يراقبون هذه المطبوعات لا يهتمون إلا بالكلمات التي تمس أناساً معينين، أما التي تمس الدين، فإنه في النادر أن تمنع، وهذا أمر خطير يا إخوان! والله إن محارم الله وشعائر الله ودين الله أعز علينا من كل شيء في هذه الحياة، لماذا لا يشدد في هذا الجانب؟! لماذا نرضى أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا؟! لماذا تدخل هذه الصور الفاتنة إلى بيوت المسلمين؟! لماذا يشتريها الأب لأولاده؟! أيرضى الفاحشة بأهله فيكون ديوثاً؟! ولا يدخل الجنة ديوث، أم يتسبب في هذه الدياثة، أم يخاطر ويغامر بهذا البيت من أجل رغبة بنت سفيهة أو ولد سفيه يطلبان منه هذه الصورة! الأمر خطير يا إخوان! نرجو الله سبحانه وتعالى أن ينبه الناس إلى هذا الخطر وأن يوفقهم لتدارك الأمر.(32/16)
من هم الرجال؟
للرجولة معنيان: الأول: الذكورة التي هي ضد الأنوثة، أما الثاني فالمقصود به أولئك الذين وصفهم الله عز وجل بأنهم لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكره، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار، وهم الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلاً.(33/1)
حقيقة الرجال في كتاب الله عز وجل
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، والشكر لله الذي يجمع القلوب ويؤلف بينها، قال تعالى: {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال:63]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم الذي أرسله الله رحمة للعالمين، وحجة على الناس أجمعين، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، فجزاه الله عنا وعن الأمة الإسلامية خير الجزاء، أما بعد: فإن عنوان الكلام لو أجبنا عنه بأي جواب لنازعنا عليه الناس؛ لأن أصحاب الفن يقولون: نحن الرجال.
ولأن أصحاب اللهو واللعب يقولون: نحن الرجال.
ولأن أصحاب المال والثراء يقولون: نحن الرجال.
وهكذا كل يزعم أنه هو الذي على مستوى الرجولة الحقة، لكن نحن لن نخبر عن أنفسنا أو عن أحد من الناس بأننا نحن الرجال أو هم الرجال، بل ندع القرآن هو الذي يجيب على هذا
السؤال
من هم الرجال؟ ومن هذا المنطلق نريد أن نتحدث لنعرف حقيقة الرجال، ولنزن الناس بهذا الميزان، فمن كان على هذا المستوى فهو في مستوى الرجولة، ومن كان دون ذلك فهو لم يصل بعد إلى مستواها، وبإمكانه أن يصل إلى هذا المستوى.(33/2)
معنى قوله تعالى: (الله نور السموات والأرض)
يقول الله عز وجل: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور:35] وفي قراءة: (الله نَوَّرَ السموات والأرض)، وفي قراءة ثالثة: (الله منور السموات والأرض) {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور:35 - 37].(33/3)
المراد بالنور في قوله تعالى: الله نور السموات والأرض
اختلف المفسرون في معنى الآية الأولى: (الله نور السموات والأرض) فمنهم من قال: إن المراد بهذا النور هو صفة من صفات الله عز وجل واسم من أسمائه، كقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن)، والنور لا شك أنه من أسماء الله عز وجل وصفاته، ولكننا نميل إلى غير هذا الرأي؛ لأن مثل هذا الرأي يؤدي إلى شيء من التشبيه؛ لأننا حينما نقول: إن المراد بالنور هنا هو اسم من أسماء الله أو صفة من صفات الله فهذا لا يصلح على مذهب أهل السنة والجماعة؛ لأن صفات الله عز وجل وأسماءه لا يشبهها شيء، والله تعالى يقول: (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ)، اللهم إلا إذا قلنا: إن هناك انفصالاً بين النور المذكور في أول الآية وبين ما جاء في وسط الآية، فيكون قوله تعالى الله: (اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) هو النور الحق الذي هو اسم من أسمائه، وقوله: (مثل نوره) هذا لا شك أنه مخلوق؛ لأن الله تعالى شبهه بمشكاة فيها مصباح، وأسماء الله عز وجل وصفاته لا يشابهها شيء.
والرأي الذي نميل إليه أن المراد بهذه الآية هو النور المخلوق، شبه الله عز وجل نور الإيمان الذي يقذفه في قلب العبد المؤمن بأقوى نور عرفه الإنسان وقت نزول الآية، حيث قال: (كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ).(33/4)
تشبيه الله عز وجل لنوره بمشكاة فيها مصباح ووجه التشبيه في ذلك
قوله: (كمشكاة) المشكاة هي الكوة في الجدار التي لا تنفذ إلى الوراء؛ لأنها تعكس النور إلى الأمام، هذه هي المشكاة، أو المراد بالمشكاة فتيل السراج.
قوله: (فِيهَا مِصْبَاحٌ) المصباح معناه السراج.
(الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ) والزجاجة هي الأجسام الشفافة التي تشف عما وراءها؛ لأنها تزيد الضوء ضياءً.
قوله: (الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ) الكوكب معناه: النجم، أو النجم الكبير، وفي قراءة سبعية (دريء) بالهمز، من الدرء، ومعناها: قذف الأنوار القوية.
ثم وصف الله عز وجل السراج مرة أخرى فقال: (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ) أي: والذي يوقد هو السراج، والشجرة المباركة هنا هي شجرة الزيتون.
ثم وصف الله عز وجل شجرة الزيتون التي يؤخذ منها الزيت الذي يوضع في هذا السراج بالذات، حيث يقول: (لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) والشرقية هي الشجرة التي تصيبها الشمس في وقت الشروق، والغربية هي الشجرة التي تصيبها الشمس في وقت الغروب، لكن هذه الشجرة ليست شرقية فحسب، وليست غربية فحسب، لكنها شرقية غربية، أي أن شجرة الزيتون إذا طلعت الشمس أصابتها في وقت الشروق، ولا تغيب عن الشمس حتى تغرب فتصيبها في وقت الغروب؛ لأنها شجرة منفصلة عن غيرها، فيحسن زيتها ويحسن ثمرها، فيصبح زيتها لماعاً، بحيث لو نظرت إليه لرأيت كأنه يضيء دون أن تمسه النار، فكيف إذا وضع في السراج ومسته النار؟! ثم وصف الله عز وجل هذا الزيت بقوله: (يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ)، فالنور الأول هو نور الكوة غير النافذة التي تعكس الضوء، مع نور آخر وهو نور الزجاجة، مع نور السراج الذي وضع فيه زيت شجرة الزيتون التي ليست بشرقية فقط ولا غربية فقط لكنها شرقية غربية، فهذه أنوار شديدة.
وهذا هو المشبه به، فأين المشبه؟ المشبه هو قلب المؤمن، أو الإيمان الذي يقذفه الله عز وجل في قلب المؤمن.
فتقدير هذه الآية: مثل نور الله عز وجل المخلوق الذي وضع في قلب المؤمن حتى يعرف به الحلال من الحرام، والضار من النافع، والخير من الشر، كمثل نور ذلك المصباح الذي وضع في كوة غير نافذة، ووضعت عليه زجاجة وأشعل فيه زيت زيتونة ليست شرقية فحسب ولا غربية فحسب، ولكنها شرقية غربية.
هذا هو المشبه وهذا المشبه به، ووجه الشبه هو اللمعان الشديد.(33/5)
تحديد مكان تخرج الرجال ووجه علاقة الآية بالتي قبلها
يقول عز وجل في الآية الثانية: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور:36]، يقول علماء التفسير: هذا جواب استفهام بياني، كأن سائلا يسأل ويقول: أين يوجد هذا الإيمان العظيم الذي هو كسراج يضيء بهذه الأوصاف المذكورة؟ فالله تعالى أجاب على هذا السؤال فقال: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ) ومن هنا نعرف أين يتربى الرجال، وأين يولد الإيمان، وأين يترعرع الإيمان، وأين ينمو، كل هذا (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ) وهذه البيوت هي المساجد.
قوله: (أذن الله أن ترفع) أي: تبنى وتشيد, وليس المعنى أن تزخرف وتوضع فيها الكتابات التي تلهي الناس، أو الفرش المزخرفة أو الألوان المزخرفة التي عمد إليها الناس في أيامنا الحاضرة، حتى لقد عددت في مسجد واحد قريب أكثر من ثلاثمائة قنديل يُضيء، وليس فيه إلا عشرة رجال يصلون، وهذا خلاف المألوف.
فهذه البيوت هي المساجد، وقد أذنَ الله تعالى أن ترفع حقيقة بناءً وتنظيفاً وتشييداً وتطهيراً واحتراماً وتقديساً، فلا يكون فيها لغو ولا لعب ولا كلام من كلام الدنيا، ولا بيع ولا شراء ولا إنشاد ضالة، ولا أي شيء من هذه الأشياء التي نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عنها، وإنما ترفع بذكر الله عز وجل وتطهر لتصبح صالحة للصلاة، ولذلك من علامات الساعة أن يتباهى الناس بالمساجد، فيقال: مسجدنا أجمل من مسجدكم.
بينما لا يقال: مسجدنا أكثر جماعة من مسجدكم.
وكذلك يقال مسجدنا أكثر زخرفة من مسجدكم، ومسجدنا أفضل فرشاً وأحسن ألواناً من مسجدكم.
وهكذا.
أما الإسلام فإنه ينظر إلى الكيف لا إلى الكم، وإلى الحقيقة لا إلى الصورة، ولذلك الله تعالى قال: (أَنْ تُرْفَعَ) والمراد بها الرفعة الحسية المعقولة، والرفعة المعنوية الحقيقية.
قوله: (في بيوت) يقول المفسرون: هذه جملة متعلقة بقوله (يوقد) أي: يوقد هذا الإيمان وينشأ هذا الإيمان ويترعرع هذا الإيمان في هذه المساجد التي أذان الله أن ترفع.
قوله: (وَيُذْكَرُ فِيهَا اسْمُهْ) هذه هي الرفعة المعنوية.
ثم بين بعد ذلك التربية الحقيقية والمكان المناسب لهذه التربية فقال: (يسبح له فيها بالغدو والآصال) والمراد بالتسبيح هنا الصلاة؛ لأن التسبيح كثيراً ما يذكر في القرآن والمراد به الصلوات الخمس، وإن كان يطلق أيضاً على ذكر الله عز وجل عامة.
قوله: (يسبح له فيها بالغدو والآصال) الغدو: هو أول النهار.
والآصال: آخر النهار.
فالغدو صلاة الفجر؛ لأن الغدو يبدأ من نصف الليل إلى نصف النهار، والأصيل يبدأ من نصف النهار إلى نصف الليل، ولو نظرت إلى نصف الليل الأخير ونصف النهار الأول فإنه ليس فيهما إلا صلاة واحدة وهي صلاة الفجر، وكأن صلاة الفجر أصبحت تساوي الصلوات الأربع الأخرى، بل جعلت صلاة الفجر في كفة؛ لأنها تقع في وقت الغدو، وجعلت الصلوات الأربع -الظهر والعصر والمغرب والعشاء- كلها في كفة أخرى؛ لأنها تقع في وقت الأصيل كلها، ثم قدمت صلاة الفجر على الصلوات الأربع، مما يدل على أهمية صلاة الفجر.
ولا نرى في المساجد من المسلمين في صلاة الفجر إلا قليلاً! أليست صلاة الفجر هي التي يقول الله عز وجل عنها: {وَقُرْآنَ الْفَجْر} [الإسراء:78] أي: وأمدح قرآن الفجر.
{إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} [الإسراء:78]، أي: تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار.
ويقول عنها الرسول صلى الله عليه وسلم بمعنى هذه الآية: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، فيصعد الذين كانوا فيكم فيسألهم الله عز وجل وهو أعلم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون)، أي: في صلاة العصر وصلاة والفجر.
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لو يعلمون ما فيهما -أي: العشاء والفجر- لأتوهما ولو حبواً)، وأثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ويقول عليه الصلاة والسلام: (من صلى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله).(33/6)
معنى قوله تعالى: رجال لا تلهيهم تجارة
قوله تعالى: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور:37].
قوله: (رجال) هذه الكلمة لها معنيان: الأول معروف، والثاني لا يعرفه إلا القليل من الناس، والمقصود هنا الاثنان جميعاً.
المعنى الأول: كلمة رجل ضد الأنثى، تقول: هذا رجل وهذه امرأة.
وهذا المعنى يعرفه كل الناس.
المعنى الثاني: أن كلمة رجل تدل على تعظيم هذا الجنس من الرجال، ولذلك لا ترد أو قل أن ترد كلمة (رجال) في القرآن أو في السنة إلا وتدل على معنىً آخر غير معنى الذكورية زيادة على معنى الذكورية، مثلاً: ابنك أعجبك عمله فتقول له: أنت رجل.
فأنت لا تقصد بقولك: (أنت رجل) ضد الأنثى، لا؛ لأنه يعرف أنه رجل، وأنت تعرف قبل ذلك أنه رجل، لكنك تقصد بذلك أنه قد اكتملت فيه معنى الرجولة فأصبح في مستوى الرجال، ولذلك قوله: (رجال) هنا ليس معناها ذكوراً فقط، وإن كانت تعطينا معنىً وحكماً شرعياً بأن صلاة الجماعة لا تجب على الإناث وإنما تجب على الذكور فقط، لكن كلمة (رجال) تعطينا معنىً آخر، وهو أنه قد استكملوا صفات الرجولة فأصبحوا في مستوى الرجال وفي مصاف الرجال حقاً، ولذلك لم ترد إلا نادراً كلمة (رجال) في القرآن كهذه؛ لأنها مدحت أهل المساجد فقالت: (رجال) وفي ذكر الأنبياء: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً} [يوسف:109]، وفي ذكر المجاهدين في سبيل الله: {مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:23]، ووردت في صفة أهل الأعراف: {وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ} [الأعراف:46]، وهذه كلها تدل على تعظيم ورفع مستوى هؤلاء الرجال، أي: ليسوا ذكوراً فحسب ولكنهم رجال، ولذلك جاءت بلفظ التنكير، والتنكير دائماً يدل إما على التحقير أو على التعظيم، والمراد به هنا التعظيم.
إذاً قوله: (يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ) أي: ذكور وصلوا إلى مستوى الرجال حقاً، فأصبحوا يستحقون كلمة (رجال) التي لا يستحقها كثير من الناس.(33/7)
صفات الرجال الذين تربوا في المساجد
ما هي صفات هؤلاء الرجال؟ انظر إلى صفات هؤلاء الرجال، لعل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا منهم وممن يربي أولاده حتى يكونوا في هذا المستوى من الرجولة.
أولاً: (لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ).
ثانياً: (يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ) هاتان صفتان لهؤلاء الرجال في الدنيا، أما جزاؤهم في الآخرة فيقول سبحانه عنه: {لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:38].(33/8)
عدم انشغالهم بالدنيا عن ربهم وطاعته وذكره
الصفة الأولى: (رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ).
يقول المفسرون: إن هؤلاء الرجال لهم تجارة ولهم بيع وشراء وأموال ومصانع ومتاجر ومزارع، لكنهم يضعونها في أيديهم، ويضعون الحياة الآخرة في قلوبهم، ولذلك لما رأى أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد المسلمين كان قد رفع الميزان في يده يزن البضاعة للمشتري، فلما سمع المؤذن يقول: (الله أكبر) وضع الميزان دون أن يكمل الوزن، ثم هرول إلى المسجد وأغلق دكانه، فقال: (هؤلاء هم الذين عناهم الله عز وجل بقوله: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} [النور:37]).
ولا يظنن أحد أن المراد بهؤلاء أنهم قوم يعيشون عالة على الناس ويتكففون الناس، وأنهم يعيشون على أوساخ الناس وفتات الصدقة، لا، ولكنهم قوم لهم أعمال، إلا أنهم جعلوا هذه الأعمال المادية الدنيوية في أيديهم والآخرة في قلوبهم، ولذلك وصفهم الله عز وجل بهذه الصفات: (رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ).
أيها الأخ الكريم! نحن الآن نعيش على طرفي نقيض في هذه الحياة، فمن الناس من أغرق في المادية إغراقاً كاملاً وأهمل الروح، وهذا يتمثل في الإلحاد والشيوعية الحاقدة الكافرة، فقدسوا المادة وأهملوا الروح، وأصبحت المادة هي منتهى أمنياتهم.
وهناك آخرون أوغلوا في الروحانية وألغوا المادة إلغاءً نهائياً، وصار دينهم، أما دين الإسلام فإنه يوجب على المسلم أن تكون له صنعة وأن تكون له تجارة وأن تكون له وسيلة كسب، لكن هذه كلها لا تلهيه عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ولذلك الله تعالى جعلنا -أمة المسلمين- أمة وسطاً بين طرفي نقيض، فلسنا بالأمة المادية التي تقدس المادة وتعبد المادة ولا تعترف إلا بها، ولا بالصوفية التي تهمل الجسد وتقدس الروح، ولكننا أمة كما يقول الله عز وجل: (رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ).
وهنا كلمة نقولها لإخواننا التجار: اصدقوا في المعاملة، وتعاملوا مع الناس بأمانة وصدق، واكسبوا هذا المال من الحلال، وأنفقوه في وجوه الخير، واحذروا كسب الحرام، واحذروا أن تلهيكم هذه الأموال عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وحينئذٍ أبشروا فإن الله عز وجل قال للرجل الغني الشاكر الذي فتح الله له كنوز الدنيا: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:30]، كما قال للرجل الفقير الصابر: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:44].
وعلى هذا نقول: هؤلاء الرجال لهم تجارة، ولكن تجارتهم في أيديهم وليست في قلوبهم، فإذا دخل أحدهم في الصلاة وقال: (الله أكبر)، لا تأتي هذه التجارة في مخيلته، فلا يبيع ولا يشتري ولا يأخذ ولا يعطي وهو يصلي، بل هو واقف بين يدي الله عز وجل كما أمر الله عز وجل، لكنه حينما ينصرف من صلاته فإنه الرجل الذي يتعامل مع الناس بأمانة وصدق، والتاجر الصدوق له أجره عند الله عز وجل، وهنا مدح الله المؤمنين وهم أصحاب تجارة فقال: (لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ)، والفرق بين التجارة والبيع أن التجارة هي التي تكون بالإيراد والاستيراد والبيع الإجمالي، أما البيع فالمراد به البيع الذي يتعاطاه الناس فيما بينهم.(33/9)
خوفهم من يوم القيامة
الصفة الثانية: (يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ).
إن الناظر إلى واقع الناس اليوم -مقارنة بما في هذه الآية- يجد الفرق البعيد الواضح، قوم تربوا في المساجد وقلوبهم معلقة بالمساجد، ولا يعرفون أي طريق إلا طريق الجنة، ولا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ثم هم يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار، وفي المقابل هناك قومٌ يفسقون ويفسدون ويركبون كل المناكر، ولا يتركون معصية من معاصي الله عز وجل إلا ويركبونها، ثم تجدهم يضحكون بملء أفواههم، الصنف الأول قوم يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار، وهؤلاء في غفلة لا ينتبه أحدهم إلا حينما يأتي ملك الموت ليجلس عند رأسه ويقول: (أيتها الروح الخبيثة! اخرجي إلى سخط من الله) أما الصنف الأول فإنه كما أخبر الله عز وجل عنهم أنهم يخشون الله عز وجل ويبيتون لربهم سجداً وقياماً ويخافون من النار ويقولون: {رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ} [الفرقان:65] ولذلك من خاف أدلج، يقول عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: إنه لا يأمن غداً إلا من خاف وحذر في هذا اليوم.
أما الذين يلهون ويلعبون ويضحكون ويسرحون ويمرحون دون قيود ودون ضوابط لا ينتبه أحدهم إلا في ساعة الموت، فالويل لهؤلاء إن لم ينتبهوا قبل ذلك.
وهنا يقول الله عز وجل عن هؤلاء المتقين: (يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ) هذه ناحية.
الناحية الأخرى التي يجب أن نفهمها من هذه الآية: أن غلاة الصوفية يقول قائلهم: أنا أعبد الله لا خوفاً من عذابه ولا طمعاً في جنته.
وكيف تعبد الله؟ قال: أعبد الله محبة له.
وهذه كلمة يقولها غلاة الصوفية، كما كانت تقول رابعة العدوية: والله ما عبدت الله خوفاً من ناره ولا طمعاً في جنته وإنما عبدته محبة له.
فهذه كلمة ساقطة؛ فالمؤمنون الرجال الذين تربوا في المساجد يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار، بل أعظم من هؤلاء المرسلون عليهم الصلاة والسلام، لما ذكرهم الله عز وجل في سورة الأنبياء قال في آخر قصصهم: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً} [الأنبياء:90] (رغباً ورهباً) أي: رغبة مما عند الله من المثوبة، وخوفاً فيما عند الله عز وجل من العذاب.
هذه هي صفة المؤمن، ونحن نعبد الله محبة له، لكن -أيضاً- نعبده خوفاً من ناره وطمعاً في جنته، ولذلك الله تعالى يقول عن هؤلاء الأتقياء الصالحين: (يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار).
قوله: (يخافون يوماً) ما هو هذا اليوم؟ هو يوم القيامة الذي يغفل عنه كثير من الناس، فلا يتصورون ساعة القدوم على الله، ولا يتصورون ساعة الموت، ولا يتصورون ساعة القبر، ولا يتصورون يوم يقوم الناس لرب العالمين، ولا يتصورون يوم تتطاير الصحف فآخذ كتابه بيمينه وآخذ كتابه بشماله من وراء ظهره، ولا يتصورون الوزن الذي يقول الله عز وجل عنه: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} [الأعراف:8]، ولا يتصورون الصراط الذي يقول الله عز وجل عنه ويقسم على ذلك: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} [مريم:71 - 72]، هنا الله تعالى ذكر صفات المؤمنين الذين تربوا في المساجد.
قوله: (يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ) ما معنى: (تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ)؟ أي: من شدة الخوف يضطرب القلب حتى يتحرك بشدة، فينتقل من مكانه إلى الحنجرة.
وهذا هو معنى قوله تعالى: {إِذْ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ} [غافر:18]، وذلك من شدة الخوف، فانظر -يا أخي- حينما تخاف أو حينما يزعجك أمر كيف يضطرب قلبك بسرعة حتى ينسد النفس؟! إذاً يتقلب القلب في ذلك المكان وفي ذلك الزمان حتى يصل إلى الحنجرة، والأبصار -أيضاً- تتقلب فتقفز من أماكنها إلى أعلى الرأس، وهذا شيء نشاهده حينما يصاب الإنسان بذعر، يرتفع بصره إلى السماء، وكأن البصر قد قفز من مكانه إلى أعلى الرأس، هذه هي صفات المؤمنين الذين تربوا في المساجد، رجال يسبحون الله دائماً وأبداً ويخافون من الله عز وجل.(33/10)
جزاء الرجال الذين تربوا في المساجد عند الله
أما الجزاء والنتيجة والثمرة لهذا الخوف فيقول الله: {لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:38]، فالله تعالى كريم لا يضيع عمل عامل منا من ذكر أو أنثى {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه} [الزلزلة:7 - 8].
ولذلك الله تعالى يقول: (لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا) أي: يجازيهم بالحسنات ويتجاوز عن السيئات، والسيئات المراد بها هنا الصغائر، أما الكبائر فإنها تحتاج إلى توبة، ولكن لو قدم هذا الإنسان على الله عز وجل بملء الأرض خطايا وهو على ملة التوحيد ولا يشرك مع الله عز وجل أحداً كائناً من كان، ولا يكون هناك في قلبه ند لله عز وجل فإنه يقدم على رب رحيم غفور، يقول عز وجل في الحديث القدسي: (يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة)، وهذا من فضل الله عز وجل، وهذا دليل على أهمية التوحيد في حياة الناس، فإذا صلح التوحيد صلحت الأعمال بعد ذلك كلها، لكن إذا اختل جانب التوحيد ولو اختلالاً يسيراً فإننا نخاف على المخل حينئذ، فاهتم بالتوحيد أخي الكريم، ولا تصرف نوعاً من العبادة لغير الله كائناً من كان هذا المخلوق، ولو كان أفضل البرية محمداً صلى الله عليه وسلم، ولذلك أقول: إن علينا أن ننزه الله عز وجل تنزيهاً كاملاً، وأنا آسف كثيراً لما نراه من اتجاه طائفة كثيرة من المسلمين إلى أصحاب الأضرحة والقبور، وأصبحت الأضرحة يطاف بها ويتمسح بها وتسأل منها الحاجات من دون الله عز وجل، وتقرب لها القرابين وتنذر لها النذور وتصرف الأموال وتذرف الدموع حولها، ويطوف الناس بها كما يطوفون حول الكعبة، وهذا موجود في جل بلاد الإسلام، ونشكر الله عز وجل، فبلدتنا حماها الله عز وجل بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، نسأل الله أن يجزيه عنا وعن المسلمين خير الجزاء، حفظها الله عز وجل بسببه، ولذلك فإن أهل العالم المتحضر الآن يسألون أصحاب القبور ويطوفون حول قبورهم كما يطوف المسلمون حول الكعبة المشرفة، ولا يرى ذلك إلا من يسافر خارج هذه البلاد المباركة.
ولكني أقول: هناك وسائل يسيرة وقليلة بدأت الآن تغزو مساجدنا وبيوتنا نريد أن ننزه المسلمين منها، وعلى سبيل المثال: نجد في بعض المساجد مكتوباً (الله، محمد)، ولو قلنا لواحد من الناس الجهال -لا أقصد العقلاء-: لماذا هذا الفعل؟ لقال: أنتم لا تحبون الرسول صلى الله عليه وسلم.
نقول: والله ما دفعنا إلى هذا القول إلا محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه هو الذي دعانا إلى التوحيد، وقضى ثلاثة عشرة سنة وهو يقول للناس (قولوا: لا إله إلا الله)، أما أن نضع اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم بجوار اسم الله عز وجل سواء بسواء دون أن نرفع أحدهما على الآخر فإن هذا أخشى أن يكون وسيلة في يوم من الأيام إلى البدعة أو الشرك.
وهناك أناس كثيرون يقولون: يا الله.
يا رسول الله.
وأخشى من هذه المعلقات التي تعلق في المسجد وفيها (الله) و (محمد) بجوارها أن يأتي يوم من الأيام يضاف إليها (ياء) كما يصنع أصحاب المذاهب الهدامة الذين يعبدون الرسول صلى الله عليه وسلم، وايم الله لو بعث الرسول صلى الله عليه وسلم فينا اليوم لقطع رءوس هؤلاء قبل أن يقطع رءوس الملاحدة والفسقة والعصاة؛ لأن الشرك أمره خطير، ولإن التوحيد هو مفتاح الجنة، ولا يدخل الجنة إلا موحد, فقد حرم الله على النار من قال: (لا اله إلا الله).
قوله: (لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) أي: فيعطيهم الله أكثر مما عملوا.
ولذلك يقدم المرء يوم القيامة على الله عز وجل فيجد أعمالاً كالجبال قد سجلت في صحائف أعماله, فيقول: والله -يا رب- ما عملت هذه الأعمال.
فيقول: بلى، كنت تفعل كذا، وكنت تقضي حاجات الناس، وكنت إلى آخره.
فلا تحقر من المعروف شيئاً ولو أن يلقى المسلم أخاه المسلم بوجه طليق, فإن هذه تحسب حسنة له يجدها يوم يقدم على الله عز وجل.
قوله: (لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) هذا هو مثل المؤمنين، وهؤلاء هم الأتقياء الذين تربوا في المساجد.(33/11)
المخالفون للتربية المسجدية(33/12)
المخدوعون
يقول تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} [النور:39] هذا القسم مخدوع يظن أنه يعمل الصالحات، لكن عمله لا يقبل عند الله لأحد ثلاثة أسباب: إما أن هذا العمل يفقد الإيمان, أو أن هذا العمل يفقد الإخلاص لله عز وجل، أو أنه يفقد المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن أي عمل لا تتوافر فيه هذه الشروط الثلاثة -إيمان، وإخلاص، ومتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم- لا يقبل عند الله عز وجل، وهذا هو العمل الصالح الخالص الذي يقوم على قاعدة الإيمان.
قد يقدم المرء كل ماله ويفتح به المدارس والمستشفيات ويبني القناطر والترع والجسور، ويقدم كل أفعال الخير للناس، لكنه يقدم ذلك بدافع الإنسانية، وقد يصوم ويصلي ويؤدي الواجبات، لكنه غير مؤمن في قرارة نفسه وغير مقتنع بالدين من أصله، وقد يؤدي أعمالاً نعجز نحن أن نؤدي جزءاً منها، لكنها لا تبدأ ولا تنتهي بمتابعة النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كلما أعجبه شيء من هذه الأعمال فعله، ونسي أن الله تعالى يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3]، فكلما أعجبه شيء من العبادات فعله، وهكذا حتى إذا قدم على الله لا يجد شيئاً من هذه الأعمال أبداً.
فما هو مثل هذه الرجل الذي لا يقوم عمله على الإخلاص والمتابعة والإيمان؟ مثله كمثل إنسان كان يسير في صحراء فعطش وليس معه ماء، وكان في شدة القيظ والحر، فرأى من بعيد شيئاً كالماء على سطح الأرض يسميه أهل اللغة (السراب) وسمي السراب لأنه يتسرب كما يتسرب الماء، وإذا كان ممتداً بين السماء والأرض يسمونه (الآل) فصار يركض وراء هذا السراب, وكلما قرب من هذا السراب ابتعد هذا السراب، حتى يهلك دون هذا السراب، حتى السراب لم يجده فضلاً عن أن يجد الماء, هذا هو المثل الذي ضربه الله عز وجل لمن عمله ظاهره الخير وباطنه الفساد.
فيكون العمل فاسداً ولو كان ظاهره الخير إذا فقد أحد ثلاثة شروط: الإيمان بالله عز وجل، والإخلاص لله سبحانه وتعالى، والمتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم, فبدون هذه الشروط يكون العمل كالسراب، وفي آية أخرى قال الله عز وجل: {كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ} [إبراهيم:18] فلو هبت الريح على رماد فإنها لا تترك منه ذرة واحدة.
قوله: (بقيعة) أي: أرض مستوية.
قوله: (يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً) أي: ولا سراباً.
أما في يوم القيامة فأعماله هذه يجدها، قال سبحانه: (ووجد الله عنده فوفاه حسابه) أي: لم يظلمه الله.
لكن عمله كان فاسداً؛ لأنه لا يقوم على قاعدة الإيمان والإخلاص والمتابعة، والله عز وجل لا يظلم مثقال ذرة، فأرسل المرسلين ليكونوا قدوة للبشر، ولينذروهم وليبشروهم.
وهذا المثل ضربه الله عز وجل للذي لا يأخذ منهجه من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنما أخذ منهجه من آبائه وأجداده، أو من مجتمعه ولو كان المجتمع منحلاً أو فاسداً، قال الله عنهم وعن رسولهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} [الزخرف:23 - 24].
إذاً المسلم يأخذ دينه من كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن العلماء الموثوقين الذين يثق بإيمانهم ودينهم، وليحذر التقليد، خاصة في أصول دينه؛ لأنه حينما يقلد في أصول دينه يسير على منهج آبائه وأجداده، وقد يضل الطريق من هذه الناحية، فيكون عمله -نسأل الله العافية والسلامة- كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً.(33/13)
المفسدون العصاة
هناك نوع آخر فاسد وعمله فاسد، ويعرف أن عمله فاسد، ومع ذلك يضع السيئة تلو السيئة والكبيرة فوق الصغيرة والأكبر من الكبيرة فوق الكبيرة، ولربما يمرق من الدين نعوذ بالله؛ لأن الله تعالى يقول: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14] فتراه يترك الواجبات ويرتكب كل المحرمات وهو يعرف ذلك، هذا ضرب الله عز وجل له مثلاً آخر غير مثل الرجل الأول، قال عز وجل: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ} [النور:40]، فلو أن واحداً منا غاص في بحر عميق كثير الماء عظيم اللجة، وكان البحر مضطرباً بالأمواج، وكان فوق هذه الأمواج أمواج أُخر، وكان فوق الأمواج الثانية سحاب وهو في قعر البحر فإنه يصبح وكأنه في أشد ما يكون من الظلام، بحيث لو رفع يده وهي أقرب أعضائه إليه لينظر إليها لم يرها، هذا هو المشبه به، والمشبه هو صاحب الكبائر الذي ركب كل الذنوب -نعوذ بالله- وأدبر عن الله عز وجل، وترك الواجبات وفعل المحرمات، إذا قدم على الله عز وجل لا يجد إلا ظلاماً في ظلام، إلا أن يعود إلى ربه قبل أن تعاجله المنية.(33/14)
الفرق بين رجال المساجد ورواد محاضن الفساد
إن أي قوم يتربون بعيدين عن المسجد فإن عاقبتهم وخيمة، وأي قوم يتربون في المساجد فهم الرجال الذين سيخلصون هذه الأمة في مستقبلها القريب والبعيد من أزمات كثيرة، ولذلك أقول: لا سبيل إلى إصلاح أبنائنا وإصلاح الأجيال القادمة والأمم اللاحقة إلا أن يتربى هؤلاء الشباب في المساجد في حلق الذكر ومجالس العلم، يتلون كتاب الله عز وجل ويتدارسونه فيما بينهم، ويحضرون الصلوات الخمس، ويقفون أمام الرجال العقلاء، ويعرفون الله عز وجل حق المعرفة، ويتصورون ساعة الوقوف بين يدي الله عز وجل، وحينئذٍ سيكون هؤلاء رجالاً.
أما لو ربينا أبناءنا في أماكن أخرى أمام الأفلام والمحرمات والمواخير ودور الفساد والخمر وما أشبه ذلك فستنشأ ناشئة لا تعرف الله عز وجل، ولا تعرف حق الآباء ولا حق الأهل ولا العشيرة، ولا حق الوطن، ولا حق المستقبل، ولا حق الأجيال اللاحقة.
فالشباب الذين يتربون في المساجد هم الذين يعمرون هذه الحياة، ولذلك فإنه يلزم أي واحد منا أن يربي أولاده في المسجد، وأن يأخذهم معه إلى المسجد حيث أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (مروا أبناءكم للصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع).(33/15)
نماذج من شباب ورجال المساجد
المساجد هي التي ربت الرجال، اقرأ تاريخ البشرية بصفة عامة، واقرأ تاريخ الإسلام بصفة خاصة لتعرف كيف ربى الإسلام الرجال، شباب في سن المراهقة، لكن كانت عقولهم ومستوياتهم فوق عقول الرجال في أيامنا الحاضرة، فهذا أسامة بن زيد رضي الله عنه حب رسول الله وابن حب رسول الله صلى الله عليه وسلم قاد الجيش إلى بلاد الشام وهو ابن ثماني عشرة سنة، وقد جهز هذا الجيش صلى الله عليه وسلم قبل وفاته، فلما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلف أبو بكر وعمر هل يسير هذا الجيش إلى بلاد الشام أو يبقى، فـ عمر رضي الله عنه يرى أن يبقى هذا الجيش لحراسة المدينة، وأبو بكر يرى أن يذهب هذا الجيش تحقيقاً لتجهيز رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره، وفعلاً يسير هذا الجيش ويظهر قوةً للأمة الإسلامية، ويبين للرومان أن الأمة الإسلامية بالرغم من وفاة رسولها صلى الله عليه وسلم أنها ما زالت بخير، وأنها أرسلت هذا الجيش الجرار إلى بلاد الشام من المدينة، ويقوده رجل لا يتجاوز الثامنة عشر من عمره.
وهذا محمد بن القاسم رحمة الله عليه رجل في السابعة عشرة من عمره قاد جيشاً إلى بلاد السند، وفتح لنا شبه القارة الهندية التي تعتبر الآن من أكثر بلاد الإسلام كثافة، فتحها هذا الشاب وهو لا يتجاوز السابعة عشرة من عمره.
ومن هؤلاء الرجال عقبة بن نافع رضي الله عنه، الرجل الذي كان يقود جيشاً في شمال أفريقية، ويسابق الشمس على مطالعها، ويصل بجيشه إلى تونس الحالية، وعندما أراد أن يبني مدينة القيروان لتكون قاعدة للمسلمين في شمال أفريقية أتى إليه أهل تلك البلاد وقالوا له: يرحمك الله أيها الأمير! هنا غابات رجع الفاتحون دونها, فلن تستطيع أن تبني فيها مدينة القيروان.
فيقول لهم: لابد من أن أبني فيها مدينة القيروان.
ويقف على جانب الغابة ويخاطب الوحوش ويقول: أيتها الوحوش! نحن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم جئنا هنا لننشر الإسلام.
يقول شاهد عيان: والله لقد رأينا الوحوش تحمل أولادها تخلي الغابة لـ عقبة بن نافع ليقيم عليها مدينة القيروان.
ثم يسير هذا البطل المؤمن ابن المسجد متجهاً إلى جهة الغرب حتى يغرز قوائم فرسه في مياه المحيط الأطلسي ويقول: لو أعلم أن وراء هذا الماء أحداً لخضته إليه على فرسي.
وينشر الإسلام في شمال أفريقية ويستشهد هناك.
أما قتيبة بن مسلم فإنه اتجه شرقاً, ففتح بلاد ما وراء النهر وتوغل فيها، ثم سأل أصحابه ذات يوم وقال: أي بلد أمامنا؟ فقالوا: يرحمك الله هذه بلاد الصين.
فقال: والله لا أرجع إلى أهلي حتى أطأ بأقدامي هذه أرض الصين, وأضع وسم المسلمين على الصينيين, وأفرض عليهم الجزية.
ثم تصل الأخبار إلى ملك الصين, فيخاف من قتيبة بن مسلم رحمة الله عليه, ويرسل صحافاً من الذهب قد ملئت بتراب الصين ويرسل أبناءه الأربعة ويرسل الجزية ويقول: هذه تربة الصين ليبر قتيبة بقسمه ويطأها وهو في مكانه, وهذه هي الجزية، وهؤلاء أولادي الأربعة يضع عليهم وسم العرب.
ثم يعود قتيبة بن مسلم إلى بلاده بعد أن نشر الإسلام في أقصى الشرق.(33/16)
أهمية المسجد في تخريج الرجال
المساجد مازالت -ولن تزال- وستبقى بإذن الله تربي الرجال حتى يرث الله الأرض ومن عليها, وإذا أردت دليلاً على ذلك فانظر إلى ما أحدثته المساجد في أيامنا الحاضرة, فهذه الصحوة الإسلامية المباركة العارمة التي أصبحت تقض على العدو مضجعه، فلا ينام من الليل إلا قليلاً, هؤلاء هم من إنتاج المساجد, أما إنتاج الأماكن الأخرى فلا أريد أن أذكره؛ لأن له مكاناً آخر.
إذاً المساجد هي بيوت الله, والرجال لا يتربون تربية حقة إلا في المساجد, والذين نشئوا في المساجد وعلقت قلوبهم بالمساجد هم خير البشرية، وهم الذين سيعيدون لهذه الأمة مجدها وعزتها وكرامتها، ويوم أعرض الناس عن المساجد مدة طويلة من الزمن، وقبل أن تكون هذه الصحوة الإسلامية المباركة رأينا المصائب تترى وتتوالى على هذه الأمة، فأصبحت بلاد المسلمين تتساقط بأيدي الكافرين حصناً بعد حصن، وبلداً بعد بلد، ودولة بعد دولة، وتقسم بلاد المسلمين بمقدار ما أعرض الناس عن هذه المساجد، ويوم يعود الناس إلى هذه المساجد يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء.(33/17)
ضرورة تربية النشء في المساجد والتحذير من التفريط عن ذلك
الأمانة التي بين أيدينا عظيمة، والله عز وجل سائلنا عن هذه الأمانة، ألا وهي الذرية، وهذه الذرية إذا تربت في المساجد فسنجني ثمارها بالبر والصلة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبرنا بأن الولد الصالح يستفيد منه أبوه في حياته بالبر ويستفيد منه أيضاً بعد موته، يقول عليه الصلاة والسلام: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له).
وفي الآخرة، يقول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور:21]، والمؤمنون هم الذين يفعلون الأسباب، وذلك بأن يربوا هذه الذرية وفق المنهج الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند ربه، وفي المسجد بصفة خاصة، ثم يمدون أكف الضراعة لله عز وجل ويقولون: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74].
أما النوع الآخر الذي يفرط في هذه الأمانة وينشغل بمتاع الحياة الدنيا عن تربية هذا النشء فإن أخوف ما أخاف عليه أن يجني ثمار هذا التفريط عما قريب، فيكون العقوق وتكون القطيعة، وأتوقع أن يكون هذا الولد مصيبةً على أبويه، أما في الحياة الآخرة فإنها المصيبة الكبرى، يوم يوقف هذا الولد وتوقف تلك البنت وهذا الأب وتلك الأم بين يدي الله عز وجل أحكم الحاكمين ويقول الولد لربه: يا رب! زد أبي هذا عذاباً ضعفاً من النار؛ فإنه خانني فلم يحسن تربيتي.
أخي الكريم! الرجال لا يتربون إلا في المساجد، فعلينا أن نبذل كل ما في وسعنا وطاقتنا لننشئ أولاداً صالحين تقر بهم أعيننا في الحياة الدنيا، وتقر بهم عيون المجتمع، وحينئذٍ فإن الله عز وجل بمقدار ما يقدمه هذا النشء الصالح الذي ربيناه في المسجد سيكتب لنا الحسنات؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة).
ألا فلنكن من الذين قال الله عز وجل فيهم: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور:21].
والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:27 - 28]، ويقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، فلنحفظ هذا النشء، ولنصن هذه الذرية من قرناء السوء، ومن هذا الفساد العريض الذي انتشر في المجتمعات الإسلامية، ولنحفظهم من الأفلام والمحرمات، ومن اللهو واللعب، ولنتق الله عز وجل في هذه الأمانة.(33/18)
الأسئلة(33/19)
البطاقة التعريفية للشيخ عبد الله الجلالي
السؤال
نريد من فضيلة الشيخ عبد الله أن يقدم لنا بطاقته الشخصية؟
الجواب
أخوكم عبد الله الجلالي، تخرجت من كلية الشريعة عام (1981م)، ودرست في المعاهد العلمية، والآن أدرس في جامعة الإمام أحياناً في القصيم في كلية الشريعة، وما عندي أكثر من هذا.(33/20)
المحافظة على الفرائض وترك المنكرات خير عظيم في الرجل
السؤال
أنا شاب ملتزم والحمد لله، ولكنني كسول في النوافل، فأنا قليل القراءة للقرآن الكريم، وقليل القيام في الليل، وقليل الصيام من النوافل، فهل أنا من الرجال مع وجود هذه العيوب، رغم أنني أصلي وأصوم ونسبة المعاصي قليلة ولله الحمد؟
الجواب
الله تعالى يقول في الحديث القدسي: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به) إلى آخر الحديث، فالفرائض إذا أديناها نرجو من الله عز وجل خيراً، ولا نعتمد على عملنا وإنما نعتمد على رحمة الله؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يدخل أحد الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته)، أما النوافل فإنها تزيد الإنسان قرباً من الله عز وجل، ولذلك -كما في الحديث القدسي- يقول الله عز وجل: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه) أسأل الله لي ولك -يا أخي- الثبات ما دمت تؤدي الفرائض وبعض النوافل، ولكن زد من النوافل بقدر الاستطاعة؛ لأن هذه النوافل تكمل بها الفرائض يوم القيامة، فإذا حاسب الله عز وجل عبده يوم القيامة ونقصت الأعمال قال الله عز وجل: (انظروا هل لعبدي من تطوع؟) فتطوع الصلاة تكمل به فرائض الصلاة يوم القيامة، وتطوع الحج يكمل به فريضة الحج يوم القيامة، وتطوع الصوم يكمل به فرض الصيام يوم القيامة، وهكذا سائر النوافل.
أقول: يا أخي! إن رأس الإيمان هو خشية الله عز وجل ما دمت قد تركت المنكرات وأديت الواجبات، لكن علينا أن نسابق إلى الخيرات ونسارع إليها؛ فإن الله تعالى يقول: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148] والخيرات يدخل فيها الفرائض والنوافل، ونسابق الناس إليها، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يتوفانا وإياكم على ملة التوحيد؛ لأن من مات لا يشرك بالله شيئاً مع ما يؤديه من الفرائض وكان قد تخلص من حقوق الناس نرجو له الخير عند الله سبحانه وتعالى.(33/21)
حقيقة المؤمن بين الدنيا والآخرة
السؤال
إن الرجال الذين يتربون في المساجد هم من المؤمنين، لكن هل يعني هذا أنهم يمكن أن يبتعدوا عن واقع الحياة والناس خارج المسجد؟
الجواب
هنا ذكر الله تعالى الرجال وقال: {لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ} [النور:37]، والعلماء والمفسرون ذكروا معنيين لهذه الآية: فبعضهم قالوا: ليست لهم تجارة وليست لهم أعمال.
على حد قول الشاعر: على لاحب لا يهتدى بمناره أي: ليس له منار يهتدى به.
وجمهور المفسرين على أن لهم تجارة، ويؤيد هذا الرأي سبب النزول، أو قول بعض الصحابة حينما رأى الصحابة وهم يغلقون متاجرهم ويهرولون إلى المسجد قال: (في هؤلاء نزل قول الله عز وجل: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} [النور:37]).
وعلى هذا نقول: إن هؤلاء لهم تجارة، لكن هذه التجارة لم تلههم عن ذكر الله عز وجل، أما أن ينعزل المسلم عن المجتمع فلا، لا ينعزل عن المجتمع، وإنما المسلم يتعامل مع الناس في حدود ما أباح الله عز وجل، لكن هذا التعامل لا يجوز أن يشغله عن ذكر الله عز وجل، فإن شغله عن ذكر الله عز وجل أصبح هذا التعامل حراماً لا لذاته وإنما لما ترتب عليه، ولذلك نعرف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحاب أموال، وأصحاب متاجر، وأصحاب أعمال، كـ عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وغيرهما، لكن هذه الأعمال كانوا يتخذونها قربة إلى الله عز وجل، ولذلك يقول الله تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} [الليل:17 - 18]، فدل على أن الأتقى قد يكون صاحب مال، والأتقى هو أفضل الناس وأكثرهم تقوى.
إن التجرد من الحياة الدنيا أمر غير مطلوب في شرع الله عز وجل، ونحن نعرف قصة الصحابة الثلاثة رضي الله عنهم الذين فكروا في شيء من التنطع في الدين فجاءوا إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألوا عن عمله في السر، فلما أخبروا قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل ولا أرقد، وقال الثاني: أما أنا فأصوم النهار ولا أفطر.
وقال الثالث: أما أنا فلا أتزوج النساء.
فلما علم الرسول صلى الله عليه وسلم غضب وقام خطيباً وقال: (أما إني أتقاكم لله وأخشاكم له، ولكني أصلي وأرقد، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني).
إذاً الرهبانية في الإسلام والانقطاع للعبادة وترك العمل هذا أمر غير مقبول، فالمسلم كما وصفه الله عز وجل بقوله {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201]، ونعرف الوصايا التي قدمها العقلاء لـ قارون -ولو قبلها لكان خيراً له- حيث حكى الله قولهم: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ} [القصص:77].
إذاً نقول لهؤلاء الناس: اشتغلوا في الدنيا بقدر الاستطاعة، لكن اشتغلوا للآخرة فوق ذلك، واجعلوا الدنيا في أكفكم والآخرة في قلوبكم.
أما أن تطغى وتزيد أعمال الدنيا على أعمال الآخرة، أو أن يتخذ الإنسان هذه الدنيا وسيلة لمعصية الله عز وجل فهذا الذي لا يصح من المؤمن، لكن إذا اتخذها وسيلة لطاعة الله عز وجل ومطية لحياة أفضل فهذه هي صفة المؤمن.(33/22)
كيفية تذوق طعم الإيمان
السؤال
إنني ملتزم منذ مدة طويلة ولله الحمد، ولكنني لم أتذوق حلاوة الإيمان حتى الآن، فكيف يتم ذلك؟
الجواب
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاًً)، فما دمت قد رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمدٍ رسولاً فأنت ذقت طعم الإيمان، والإيمان ليس طعماً يذاق ويشعر الإنسان أو كل الناس بطعمه، الإيمان في الحقيقة لذة لا تساويها أي لذة في هذه الحياة، ونعمة لا تساويها أي نعمة، ولكني أقول: ما دمت -يا أخي- قد بدأت الطريق إلى الله عز وجل، وسرت سيرة حميدة فلابد من أن تذوق طعم الإيمان، وإني أخشى من أنك لم تلتزم كل الالتزام؛ لأنك حينئذ لو التزمت كل الالتزام لذقت طعم الإيمان.
والحقيقة أن طعم الإيمان يدركه المؤمن، وطعم الإيمان هو هذه السعادة وهذه اللذة التي يشعر بها الإنسان داخل نفسه، وإن كان في مصائب خارج نفسه، وهي التي يقول الله عز وجل عنها: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97] ويقول عنها سبحانه وتعالى: {وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود:3].
ويقول عنها ابن تيمية رحمة الله عليه: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة.
ويقصد بجنة الدنيا لذة الإيمان.
ويقول عنها إبراهيم بن أدهم رحمة الله عليه: والله لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من لذة الإيمان لجالدونا عليها بالسيوف.
هذه اللذة تدركها يا أخي، فأنت تشعر بالراحة والطمأنينة، بل تشعر بالخلود؛ لأن غير المؤمن لا يشعر بالخلود، فهو يعتبر أن الموت هو النهاية، أما أنت -أيها المؤمن- فإنك تعتبر الموت هو البداية وليس النهاية، وتؤمن بقضاء الله وقدره، فإذا أصابتك مصيبة لا تجد جزعاً في نفسك؛ لأنك مؤمن، أما ذلك البعيد فإنه لا يستطيع أن يتحمل أي مصيبة من المصائب؛ لأنه لا يجد لذة الإيمان، وإذا أردت الدليل على ذلك فاقرأ أخبار العالم الذي تجرد من لذة الإيمان، كيف أصبح الانتحار عندهم يسجل بالثانية والدقيقة في هذا العالم؛ لأنهم لم يذوقوا بعض طعم ولذة الإيمان، أسأل الله أن يذيقني وإياك والمسلمين كافة طعم الإيمان.(33/23)
حقيقة البطل بين الماضي والحاضر
السؤال
كنا عندما تذكر البطولة والبطل لا تنصرف العقول إلا إلى حمزة وخالد وعلي وأسامة وأمثالهم، واليوم أصبحت العقول تنصرف إلى أبطال المصارعة والملاكمة والكرة، فما الفرق بين بطولة هؤلاء وبطولة أولئك؟
الجواب
الحقيقة أنه ليس هناك تقارب حتى يكون هناك فرق، وأن الفساد الذي بدأ يصور لنا البطولة في هذا النوع من أصحاب الملاكمة وغيرها إنما هو بسبب فساد في الأذواق وانحراف في الفطرة، حتى أصبحنا لا نتصور معنى البطولة، كما أصبحنا لا نتصور معنى الرجولة، وعلى هذا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبرنا بأن الأمانة سوف تفقد حتى يقال للرجل: ما أحلمه ما أعظمه وليس في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان؛ لأن الموازين والمعايير والمقاييس قد اختلت في أيامنا الحاضرة، فأصبحت هناك موازين ومقاييس غير الموازين والمقاييس التي يجب أن يأخذ بها الناس، لكن في إمكان الناس بأن يقرءوا تاريخهم الحق فيعرفوا من هو البطل ومن هم الرجال، ليعرفوا بعد ذلك الفرق بين البطل في الماضي والبطل في الحاضر.(33/24)
التحذير من قضاء الفراغ في الحرام والدعوة إلى استغلال الفراغ في المباح
السؤال
نريد إسداء نصيحة للشباب، خاصة في شأن الأيام التي تعتبر أيام إجازة مدرسية، وقد يستغلها بعض الشباب في اللهو الذي أدخلوا عليه كلمة (بريء) فما معنى بريء؟ وهل هناك بريء وغير بريء؟
الجواب
نعم هناك بريء وهناك غير بريء، بريء من الله وبريء من الدين، وهناك شيء غير بريء.
والحق أن الفراغ من أكبر العوامل التي تضر بالناس وبالشباب بصفة خاصة، كما قال الشاعر: إن الشباب والفراغ والجدة مفسدة للمرء أي مفسدة والذي حدث اليوم هو أن هناك فراغاًَ وأن هناك شباباً وهناك جدة، فأصبحت هذه الأشياء تستغل فيما لا يرضي الله عز وجل، سيما عند غفلة المصلحين والموجهين والمربين.
إن عشرات الآلف، بل مئات الآلاف من شباب المسلمين يذهبون اليوم إلى بلاد لا تعرف الله ولا تعرف الدين ولا تعرف الخلق ولا تعرف أي شيء من ذلك، ويكون الزحام على الطيران وعلى دوائر الجوازات على أشده، والمصيبة أن هناك خدمات تقدم لهؤلاء الشباب وتسهيلات وتخفيضات ودعايات ليُذهب بهم إلى تلك البلاد الكافرة، ولقد رأيت بعيني الشاب يتأبط الشابة في المطعم وفي السوق وأمام الناس دون حياء من الله عز وجل أو خجل من الناس، وهؤلاء الشباب هم من أبناء المسلمين، يرتدي أحدهم الشماغ والثوب والعقال ولا يبالي وكأنها زوجته، ولربما يخجل من أن يمسك يد زوجته أمام الناس، وهذا يحدث في مثل هذه الإجازات، وكثير من شبابنا يرقبون عقارب الساعة ينتظرون مثل هذه الفرص، وهذه من أكبر البلايا.
فالشباب المؤمن لا يعرف الفراغ، فحياته كلها مشغولة فيما يرضي الله عز وجل، وهناك فرص يجب أن يستغلها هؤلاء الشباب قبل أن يستغلها العدو لينفذ من خلالها إلى عقول هؤلاء الشباب، المكتبات الآن تعرض شتى أنواع العلوم والمعارف، وتشتكي إلى الله قلة الرواد، وكذلك مدارس تحفيظ القرآن، فنحن لا نريد أن نحجز الناس عن أماكن الترفيه، لكن نقول: يجب أن يكون في حدود المباح، أما إذا وصل الأمر إلى المحرم فهنا يكون الخطر.
وأنا أدعو إخواني المؤمنين إلى أن يتفقدوا شبابهم وأولادهم، وأن يُربوهم التربية الطيبة، وأن يختاروا لهم الرفقة الصالحة، وحينئذٍ سيكون ذلك كله -بإذن الله- حماية وصيانة لهؤلاء الشباب عن هذه الأشياء الخطيرة التي أشرت إلى شيء منها، والله المستعان.(33/25)
حقيقة الخشوع في الصلاة
السؤال
ورد عن عمر أنه كان يجهز الجيش وهو في صلاته، فكيف نجمع بين هذا وما عرف عنهم رضي الله عنهم من الخشوع؟
الجواب
لا شك أن الخشوع هو لب الصلاة، والله تعالى يقول: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1 - 2]، ولا أدري هل يصح هذا القول عن عمر أو لا يصح؟ ولو صح هذا القول عن عمر فيكفي أن عمر رضي الله عنه إنما يشتغل في الصلاة بما يرضي الله عز وجل، أما نحن فنشتغل بأعمالنا وحاجاتنا وببيعنا وشرائنا، هذا هو الذي يحدث كثيراً لدى كثير من الناس، لكني أشك في صحة ذلك عن عمر؛ لأن هذه الصلاة لا يجوز أن يكون فيها شيء غير الصلاة، بحيث يتصور هذا الواقف بين يدي الله عز وجل عظمة الموقف، فيتصور هذه العظمة فلا يفكر في أي شيء غير هذه الصلاة.(33/26)
حكم من يخرج بأهله إلى المحلات التجارية لشراء حاجاتهم
السؤال
ما الحكم في الظاهرة التي نشاهدها في هذه الأيام، عندما يأخذ الرجل زوجته أو أخته أو بنته إلى المحلات التجارية، وإن كان بزعمه أنها مغطاة، مع ما ينتشر في هذه المحلات من الأسباب التي تعرضها للفتنة؟
الجواب
هذا خير من الذي يترك زوجته أو أخته أو ابنته تذهب إلى المحلات التجارية لوحدها، وخير من هذا وذاك الذي يقضي حاجة أهله وهم في بيوتهم.
وعلى كلٍ فالعصر الذي نعيشه اليوم عصر فتنة، والمسلم مطالب بأن يتقي هذه الفتنة، والله تعالى يقول للنساء: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33] ويقول عن الرجال: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء:34] ومعنى ذلك أن الرجل مطالب بأن يحضر كل حاجات أهله، حتى لا يضطر أهله إلى الخروج من المنزل إلى مكان آخر، لكن يتسامح في هذا الخروج إذا كان يخرج معها محرمها وهي محجبة ولا ترى فتناً تعترض سبيلها، ولا تدخل المحلات التجارية التي لربما تؤدي إلى أن تستهين بالاختلاط بالرجال، فإذا وجدت كل هذه الاحتياطات فالأمر أسهل.(33/27)
حكم العادة السرية ونصيحة لمن يمارسها
السؤال
بعض الشباب يمارس العادة السرية، فما هي نصيحتكم لهؤلاء الشباب عافانا الله وإياهم؟
الجواب
لا شك أن العادة السرية مما نهى الله عز وجل عنه، فالله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ} [المؤمنون:5 - 7]، فقد حدد الله عز وجل الإباحة في أمرين: الزوجة وملك اليمين، وما سوى ذلك فقد عد الله تعالى فاعله من العادين، أي: متعدياً لحدود الله عز وجل.
والعادة السرية من التعدي لحدود الله عز وجل، لكن لا شك أنها أخف من الزنا، فلو رأى أنه سيقع في الزنا لا محالة في أي لحظة من اللحظات، وأراد أن يخرج هذا الماء بهذه الطريقة لكان أسهل؛ لأنه ارتكب أخف الضررين، لكن العادة السرية -كما يقول العلماء- لا شك أنها محرمة ومنهي عنها، ومضرة بالصحة وبالعقل أيضاً، ومضرة بالحياة التناسلية، وتؤدي إلى إفساد هذا الماء الذي يجب أن يكون لإنتاج الذرية الصالحة، وعلى هذا فإنها منهي عنها، فمن ابتلي بها فعليه أن يبادر بالتوبة، وأن يأخذ بالاحتياطات، وأهم هذه الاحتياطات هي الزواج، فالله عز وجل لما ذكر الزنا في سورة النور وذكر أسبابه، ذكر ما يحول بين المسلم وبين الزنا، وذكر آخرها وأهمها بقوله: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور:32]، ولذلك ندعو الذي ابتلي بهذه العادة إلى الزواج والمبادرة إليه؛ لأنه يعتبر حصانة، كما قال عليه الصلاة والسلام: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج).(33/28)
الآثار المترتبة على كثرة تكاليف الزواج
السؤال
نود الحديث عن تكاليف الزواج؛ حيث وإن المتزوج يكلفه الزواج إلى مائة وعشرين ألف ريال، وأنا أرغب في الزواج، ولكن ليس عندي هذا المبلغ، فلعل الله أن يهدي آباء البنات الذين حالوا بيننا وبين الحلال؟
الجواب
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أكثرهن بركة أيسرهن مئونة)، قوله: (أكثرهن بركة) أي: المرأة التي مهرها قليل تكون كثيرة البركة.
وبالمفهوم أن المرأة التي مهرها كثير تكون قليلة البركة، وهذا ما نشاهده، فالزوج الذي يستدين أموالاً كثيرة ليتزوج ثم يتزوج فإنه يعيش مع هذه المرأة ويشعر بأنها عبء ثقيل عليه؛ لأنها كانت سبباً في هذه الديون وهذه الالتزامات والقروض التي أصحبت في ذمته، ولعل هذه من أكبر الأشياء التي نشاهدها.
أما الطلاق فإنه من خلال تتبعنا لأحوال الناس نجد أنه يكثر بمقدار ما تكثر مئونة الزواج، فالذين يتزوجون في الفنادق الراقية ويذبحون الأنعام الكثيرة لا تبقى زوجاتهم معهم كثيراً، والذين يحصلون على المرأة بتكاليف أقل وأسهل غالباً يوفقون في زواجهم، ولذلك أقول: علينا أن نتعاون في هذا الأمر؛ لأنه ليس هناك إلا طريقان: طريق حلال وطريق حرام، فالطريق الحلال هو الزواج، والطريق الحرام هو الزنا، والطريق الحلال يحتاج إلى تعاون الناس أجمعين ليقع الزواج، اسيما ونحن في فترة كثرت فيها الفتن والمغريات، وعرضت المرأة أمام الناس، فأصبحت من أكبر المشاكل التي تعترض سبيل الناس وسبيل الشباب العزاب بصفة خاصة.
ففي الطائرة تعرض المرأة، وفي المحلات التجارية وفي غير ذلك، فهذه الفتنة لا يقضي عليها إلا الزواج، بحيث يستغني الإنسان بالحلال عن الحرام، وبالتعدد أيضاً، فنحن ندعو المسلمين إلى التعدد بمقدار ما تتوافر النساء، ندعوهم إلى زيادة عدد النساء؛ لأن حكمة الله عز وجل تقتضي ذلك، سيما في هذه الأيام المتأخرة؛ لأن نسبة النساء والبنات في الولادة أكثر من الأولاد، إضافة إلى عزوف كثير من شبابنا عن الزواج، إضافة إلى تزوج كثير من شبابنا من الخارج، إضافة إلى أسباب كثيرة، مثل كثرة القتل في صفوف الرجال بسبب الحروب، ولذلك نقول: الزواج سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة المرسلين من قبله، ولابد من أن نتعاون في إقامة هذه السنة، وأفضل طريق نتعاون فيه هو تخفيف هذه المهور.
وفي الحقيقة أنا أخالف الذين يقولون: إن المهور كثيرة.
لأني أرى كثيراً من الشباب يملك الواحد منهم سيارة قيمتها تساوي قيمة وتكاليف الزواج، لكني أقول أيضاً: على الآباء أن يخففوا هذه التكاليف، سيما الأموال الضائعة التي نشاهدها في بعض البيئات من إقامة الموائد الضخمة التي يرمى فيها اللحم للكلاب وجزء كبير من العالم الإسلامي اليوم يموت جوعاً، وهذا من الإسراف الذي حرم الله عز وجل، والتبذير الذي يقول الله عز وجل عنه: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء:27] أما لو كان المال يعود إلى حلي للمرأة وملابس أو أشياء تستفيد منها المرأة لكان الأمر أسهل، أما وقد عاد الأمر إلى موائد وإسراف وبذخ ومكابرة فإن هذا يصبح خطيراً.
أما ما أشار إليه السائل بأن تكاليف الزواج قد تصل إلى مائة وعشرين ألفاً فهذا من المصائب ومن البلايا، وأنا أحذر الولي الذي يريد أن يجعل زواج ابنته أو موليته بمائة وعشرين ألفاً أو أكثر أو أقل، أحذره وأخاف عليه أن يفشل هذا الزواج، فترد عليه بنته عما قريب وهي مثقلة بالأولاد الذين يحولون بينها وبين زواج آخر، لتصبح مطلقة في بيته، أقول: علينا أن نتقي الله عز وجل، وأن نخفف المهور والتكاليف، وأن نسن في المجتمع سنة حسنة، حتى يكون لنا أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، وأدعو العقلاء ورؤساء القبائل المسئولين وأصحاب الحل والعقد ومن يستطيع أن يتدخل في مثل هذه الأمور أن يقفوا أمام هذا النهم وهذه الشدة في تكاليف الزواج، حتى يتمكن كل الشباب من الزواج، وحينئذ نسلم من كثير من هذه الفتن التي غزيت بها بلادنا وغزي بها مجتمعنا، والله المستعان.(33/29)
المرأة وما يراد بها
إن الصراع بين الحق والباطل، والتدافع بين أهلهما على وجه هذه البسيطة سنة من سنن الله تعالى في خلقه، ومحاور هذا الصراع تختلف من حين لآخر، ولعل المرأة من أبرز محاوره، لذلك يسعى الأعداء لتسييرها خلف ركب العبث والشهوات، وأنى لهم ذلك وقد جعل الشرع لأتباعه سورة النور وغيرها من وسائل عدة يدفعون بها الباطل، ويردعونه، ويعيدون الأمور إلى نصابها.
وإن الباطل مهما صال وجال بشبهاته وشهواته إلا أنه زائل زاهق، وسيحق الله الحق وينصر جنده.(34/1)
سنة الصراع بين الحق والباطل
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1]، والشكر لله الذي يثبت المؤمنين بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ويضل الظالمين ويفعل ما يشاء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله؛ أرسله الله رحمة للعالمين، وحجة على الناس أجمعين؛ فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة؛ فجزاه الله عنا وعن الأمة الإسلامية جمعاء خير الجزاء، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله ومن دعا بدعوته وعمل بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الإخوة في الله! إن الله سبحانه وتعالى جعل للجنة أهلاً خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وجعل للنار أهلاً خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، سنة الله، {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الأحزاب:62].
وانطلاقاً من هذه السنة كان الصراع على أشده بين الخير والشر، وبين الإيمان والكفر، هذا الصراع بدأ مع بدء الخليقة الأولى: {َقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [البقرة:36]، ولن ينتهي أبداً حتى يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين، لكن سنة الله تقتضي أن يظهر الحق لا محالة، وأن يندحر الباطل لا شك، ولربما كانت هناك بعض إرهاصات أو أدلة تدل على أن الباطل ظاهر، لكن الشيء الذي يجب أن يؤمن به كل مؤمن: أن الدين لله عز وجل، وهو الذي يحميه، وأنه سوف يظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وأن الحق لا يستطيع أن يقف معه الباطل على رجليه؛ لأن الله تعالى يقول: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء:18]، ولربما تحيط بالأمة الإسلامية في فترة من فترات ضعفها أو امتحانها وابتلائها أشياء تخيف بعض الناس على مستقبل هذا الدين، ولكن الشيء الذي لا شك فيه: أن دين الله ظاهر، وأن الحق باق خالد، وأن الباطل زبد، وأن الزبد سيذهب جفاء ويبقى ما ينفع الناس في الأرض، وهذا هو ما نشاهده من خلال الأحداث التي تبدو في أول أمرها رهيبة مخيفة لكنها زبد كما أخبر الله عز وجل.
أيها الإخوة! من خلال هذه السنة أن يكون الصراع بين الحق والباطل باقياً حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ومن أجل أن يكون لله عز وجل جنود في الأرض يبرزون، وأن يتخذ منهم شهداء؛ كان هذا الصراع لابد منه، وهذا الصراع يختلف حسب فترات التاريخ، فلربما تكون دولة هذا الصراع بأيدي المؤمنين، ولربما تكون دولته بأيدي غيرهم، أي أن الله عز وجل يداول هذه الأيام بين الناس كما قال سبحانه: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140].(34/2)
الوسائل الحديثة التي يحارب بها العدو الإسلام
وهذا الصراع أيضاً يختلف؛ فلربما يكون بالقوة المسلحة، وهذا هو ما درج عليه التاريخ الأول، فكان أعداء الإسلام يقفون أمام قوة الإسلام بقوة، فإذا بقوة هذا العدو تنهار وتتحطم أمام قوة الله عز وجل؛ لأن الله تعالى يقول: {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [البقرة:165]، فتتحطم أمامه هذه القوى بكل ما أوتيت من قوة وشجاعة وسلاح وعتاد وعدد وفير، ولو كانت قوة الإسلام حسب رأي العين صغيرة الحجم لكنها عظيمة في الحقيقة.(34/3)
لجوء العدو إلى سلاح محاربة الأفكار والقيم
ومن أجل ذلك التحطم للعدو الذي وقف أمام الجحافل الإسلامية، بدأ يفكر في طرق ملتوية يظن أنه سوف يستطيع أن يدمر بها القوى الإسلامية، فلجأ أخيراً إلى ما يسمى بالحرب الباردة أو حرب الأفكار، فكان الصراع بين فكر وفكر، ولو كان هذا الصراع متجرداً لكانت القوة والأفكار الإسلامية بلا شك هي الغالبة، ولكن حينما تكون هناك عوائق في طريق الفكر الإسلامي وهو يصارع الأفكار المنحرفة، فربما تتمكن الأفكار المنحرفة فترة من الزمان في صقع من أصقاع الأرض، إلا أن النهاية: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ} [الأنبياء:18]، بإذن الله تعالى.
ومن هذا الصراع الفكري الذي يقوم على أشده في هذه الفترات المتأخرة من تاريخ البشرية، كانت هناك وسائل يتخذها العدو من أجل القضاء على الأمة الإسلامية، ولربما ينخدع بعض المسلمين بهذه الأفكار، ولذلك يقول الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء:26 - 27].
ومن هذا المنطلق نعرف أن أهداف العدو ليست مكتفية بمقدار من الانحراف لهذه الأمة، وإنما يريدون أن نميل ميلاً عظيماً؛ فالله تعالى أكد الميل بقوله: (مَيْلًا)، ثم وصفه بقوله: (عَظِيمًا)، وهذا يدلنا على أن العدو لا يرحم، وأنه لا يقبل منا إلا أن يتخلى المسلم عن دينه، وينحرف عن مبادئه، ولذلك بث كل وسائله وأفكاره، وأعلن على الملأ بأنه لا يستطيع أن يقطع شجرة الإسلام إلا في غصن من أغصانها، ومن هنا دبر المؤامرات والمكائد من أجل حرف أبناء المسلمين عن دينهم.(34/4)
استخدام العدو سلاح الشهوة الجنسية والمرأة في محاربة الإسلام
لما علم العدو الحاقد أن الأمة تقاس بشبابها، وأن الشباب هم عنوان الأمة، وأنه إن استطاع أن يقوض بنيان الشباب استطاع أن يقضي على هذه الأمة من أصولها؛ لما علم ذلك سلك المسلك الخبيث، واتجه إلى غصن الشباب، ثم أيضاً كانت هناك دراسات نفسية متعمقة تبحث في الميول والوسائل التي يستطيع بها العدو أن يقتنص أبناء المسلمين، فاتخذ كل الوسائل من أجل أن يقضي على شباب الأمة الإسلامية، وركز على جانب الشهوة في ذلك.
جانب المرأة يعلم الأعداء علم اليقين أنها أكبر وسيلة يستطيع أن يصطاد بها الشباب عن طريق الشهوة الجنسية الفطرية التي ركبها الله عز وجل في الإنسان: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} [آل عمران:14]؛ فأولى هذه العوامل النساء، ولذلك فإن العدو قد اتخذ من المرأة وسيلة في اقتناص شباب الأمة الإسلامية ورميهم في الحضيض.
لذلك أيها الأخ المسلم! يجب أن تدرك أن العدو إنما يريد الشباب، وأنه يريد أن يقضي عليه بأسرع وقت ممكن، وأنه قد سبر غور هذه الحياة، واستطاع أن يدرس نفسيات الأمم، وأنه ينطلق من خلال دراسة وافية يظن أنه يستطيع بها أن يقوض بنيان الأمة الإسلامية من أصوله وأساسه، فمن خلال الشباب نجد التركيز على المرأة في بلاد الكفر بل وفي بلاد الإسلام.
ومن هنا كان وضع المرأة وضعاً خطيراً، وكانت المرأة مستهدفة استهدافاً خاصاً لذاتها ولغيرها، أي: من أجل القضاء عليها هي شخصياً، ومن أجل القضاء على شباب الأمة الإسلامية؛ ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى يعلم ما يصلح البشرية وما يفسدها.(34/5)
كيف حارب الإسلام الرذيلة وعالج الشهوة
لقد عالج الله مشكلة الشهوة والنساء علاجاً لن يستطيع أحد أن يقدم للبشرية علاجاً ناجعاً مثله، وذلك في النصف الأول من سورة النور، وهذا ليس غريباً فإن الله تعالى يقول عن القرآن: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1]، وهذه السورة العظيمة في مطلعها ما يلفت النظر، وفي منتصفها أيضاً ما يلفت النظر، وأحيطت الآيات التي تدور حول الشرف والفضيلة ومحاربة الرذيلة بهاتين الآيتين اللتين يلفتان النظر، أول آية من هذه السورة: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور:1]، وآخر آية في هذا النصف الذي يعالج مشكلة الأخلاق والانحراف والفضيلة: {وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [النور:34]، وما بين هاتين الآيتين كله علاج ومحاربة للرذيلة حتى لا تحل في أمة من الأمم؛ لأن أعداء الإسلام سوف يركزون على هذا الجانب من جوانب الرذيلة؛ فيستطيعون أن يصطادوا الرجل من خلال المرأة في الماء العكر.(34/6)
معالجة الإسلام للشهوة بمنع الزنا وإقامة الحد عليه
ولقد ذكرت السورة في نصفها الأول جوانب مهمة يجب أن يفهمها المسلم، لاسيما وأن الله تعالى قال قبل ذكر هذه الجوانب: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [النور:1]، مع أن كل القرآن أنزله الله عز وجل وفرضه وأنزل فيه آيات مبينات، لكن لما كانت هذه الآيات لها أثر عميق في دنيا البشرية وفي عالم الناس؛ كانت تستحق هذا المطلع، ولذلك وضعت الطرق والوسائل التي تضمن للأمة الإسلامية الاحتفاظ بأخلاقها وفضائلها حتى لا تقع في حبائل العدو.
وأول شيء ذكره الله عز وجل: هو الحد؛ لما ذكر الزنا الذي هو ضد الفضيلة ذكر الحدود التي هي حواجز أمام النفس البشرية حتى لا تقع في هذه الجريمة، والتي يقول عنها الرسول صلى الله عليه وسلم: (لحد يقام في الأرض خير لها من أن تمطر أربعين خريفاً)، أي: أربعين سنة؛ فالحدود رحمة للبشرية.
ودع عنك هؤلاء الفجرة سواء كانوا من أعدائنا الكفرة، أو من المنسوبين إلى الإسلام من الخارج، أو من أبناء جلدتنا والذين يتكلمون بألسنتنا، والذين يعتبرون الحدود وحشية وتخلفاً ولا تصلح لهذا العصر، أما الله سبحانه وتعالى فإنه يعتبرها رحمة كما اعتبر القصاص حياة، وأي رحمة هي؟! إنها رحمة تضمن سلامة الأخلاق والفضائل، وصيانة العقول والأديان والأنساب والسمعة، إلى غير ذلك.
ولذلك الوسيلة الأولى من وسائل محاربة الرذيلة والحفاظ على المرأة وكرامتها ومحاربة الزنا الذي هو من أعظم الفواحش عند الله عز وجل: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء:32].
الوسيلة هي قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور:2]، يعني: حتى الرحمة يجب أن يتجرد منها الإنسان في مثل هذا المكان؛ لأن الرحمة التي يزعمها أعداء الإسلام حينما يتعاطفون مع المجرم، أو حينما يقولون: إن الحدود وحشية، هم يعرفون أنهم ليسوا بأرحم به من الله عز وجل الذي هو أرحم الراحمين، ولكنهم يريدون أن يشوهوا الإسلام من هذا الجانب، والله تعالى يقول: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور:2]، ثم قال: {إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النور:2].(34/7)
منع الإسلام من الكلام في الأعراض وإقامة حد القذف
لابد من وجود عامل صيانة المرأة واحترامها ومحاربة الرذيلة وفاحشة الزنا حتى لا تنتشر في المجتمع، وهو جانب السمعة؛ لأن الإنسان بسمعته الحسنة وإن لم يكن لديه دين، أو كان لديه دين لكنه ليس على مستوى يحول بينه وبين هذه الشهوة الصارخة، قد يحافظ على شرفه وكرامته وسمعته، لكن سمعته وشرفه وكرامته حينما تنخدش، يصبح كما قال الشاعر: من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلام وحينئذ لا يبالي أن يفعل الفاحشة أو يتركها ما دامت هذه السمعة قد تلوثت وما دامت هذه الصفة قد انحرفت، ولذلك يشدد الله تعالى في هذا الجانب ويضع عقوبة على من يقذف إنساناً بالزنا دون أن يكون لديه أربعة شهود، فمن شهد على إنسان بالزنا ولم يستطع أن يكمل أربعة شهود يشهدون على ذلك؛ فإنه يستحق الجلد ثمانين جلدة حتى ولو كان صادقاً، حتى لو رأى هذه الفاحشة بعينيه، محافظة على السمعة؛ لأن بقاء السمعة الطاهرة في مجتمع من المجتمعات إنما يعني ذلك أن هذا المجتمع مجتمع محافظ، ولأن سقوط واحد من الناس في سمعته في المجتمع يؤدي إلى أن لا يبالي في سمعته بعد ذلك، مثل الثوب الأبيض النظيف يحافظ عليه صاحبه ما لم يصب بدنس بسيط، لكنه حينما يصاب بدنس لا يبالي صاحبه أن يصاب بعد ذلك بأي نوع من أنواع الدنس، ولذلك الله تعالى وضع حد القذف ثمانين جلدة، فليس بينه وبين حد الزنا إلا عشرون جلدة، حتى لو كانوا ثلاثة شهود يشهدون فإنهم يجلدون مائتين وأربعين جلدة كل واحد منهم يجلد ثمانين جلدة، من أجل أن تبقى السمعة طيبة في المجتمع، ومن أجل ألا تكون الأعراض مهانة، فيتحدث هذا أن فلاناً زنا، وذلك يتحدث أن فلانة زنت، دون أن يكون هناك أدلة ثابتة، ولذلك الله تعالى وضع حد القذف احتياطاً حتى لا يكون الزنا.
وحينما يضع الله عز وجل حد القذف لا يريد من الناس أن يدسوا رءوسهم بالرمل وهم يرون الفاحشة أمام أعينهم، ولكنه يطالبهم بأن يثبتوا هذه الفاحشة بأربعة شهود، أو بأربعة اعترافات حتى تبقى السمعة طيبة، أو حتى يقام الحد، أما أن يشاع عن جريمة تحدث في المجتمع ولا يكون لها حد؛ لأنها لم تثبت بأربعة شهود أو بأربعة اعترافات؛ فهذا يؤدي إلى أن يستسهل الناس هذه الجريمة وتلك الفاحشة.
إذاً أيها الإخوان: ما يحدث في المجتمع اليوم من أحاديث العشق والغرام والخيانات الزوجية والمسرحيات الصارخة، والأفلام المنحرفة، هذه كلها تعتبر سبيلاً تمهد الطريق إلى الزنا، ولو أن الإسلام أقيم حقاً في العالم الإسلامي لأقيم الحد على هؤلاء الذين يتحدثون عن هذه الفاحشة بصدق أو بكذب بهزل أو بجد، هذا جانب من الجوانب المهمة التي سد الإسلام فيها طريق الفاحشة.(34/8)
منع الاختلاط والتحذير منه
الاختلاط هو: أن يختلط الذكر بالأنثى سواء كان بخلوة أو بدون خلوة، لكنه اختلاط يؤدي إلى تقارب بين الرجل والمرأة، هذا الاختلاط حاربه الإسلام، وأعطى المسلم ما يسميه العصر الحديث بحرية المأوى، ونهى الإنسان أن يدخل على إنسان آخر قبل أن يستأذن ويسلم؛ حتى إذا كانت هناك عورة مكشوفة أو إذا كان أصحاب بيت لا يرغبون في دخول هذا الداخل يطلبون منه الرجوع، حتى قال الله عز وجل في هذا الاستئذان: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور:28]، هكذا الإسلام يحارب الاختلاط بين الذكر والأنثى؛ لأن الاختلاط يؤدي إلى هذه الجريمة الشنعاء، نعوذ بالله من شرها.
ونعني الاختلاط بجميع أنواعه، والخلوة بجميع أنواعها: (لا يخلون رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما)، ونهى الرسول صلى الله عليه وسلم أن تسافر المرأة إلا ومعها ذو محرم؛ حتى يتميز الإنسان بأهله وبشرفه عن إنسان آخر، ولذلك فإن الاختلاط من أخطر الأمور.
وتقوم في أيامنا الحاضرة دعايات مضللة، تقول: إن الوحشة بين الرجل والمرأة هي السبب في وقوع الفاحشة، ونستطيع نحن أن نقضي عليها بالاختلاط وبالسفور وبالتبرج، يقولون ذلك عدواناً وبهتاناً وزوراً، ونقول لهم: كذبتم، إن المجتمعات الفاسدة التي انتشر فيها الاختلاط والتبرج، وأصبح فيها السفور نظاماً شائعاً، واختلط فيها الطالب بالطالبة على مقاعد الدراسة ومدرجات الجامعة والعمل إلى غير ذلك، هي المجتمعات التي أعطت الرقم القياسي في الانحراف والفساد، إذاً هم كاذبون؛ لكنهم كما قال الله عز وجل: {شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام:112].
إذاً: الاختلاط بين الجنسين والخلوة سواء كان داخل البيت كما يوجد في أيامنا الحاضرة بين الخادمة ورب البيت، وبين سائق السيارة وبنات المنزل حيث يخلو بالبنت ويذهب بها إلى المدرسة والسوق، كل ذلك من الاختلاط الذي حرمه الله عز وجل، وأشار إليه سبحانه وتعالى بقوله: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور:27]، وما دام الله عز وجل هو الذي يقول: (ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ)، فنتأكد أن هذا هو الخير، وأن المصلحة في هذا الأمر.(34/9)
الأمر بغض البصر عن المحرمات
من الأمور المهمة الشريفة التي تحافظ على الأعراض والبيوت والأسر وتحارب الفاحشة منع النظر، الذي يقول الله عز وجل عنه في الحديث القدسي: (النظر سهم مسموم من سهام إبليس، من تركه من أجل مخافتي أبدلته إيماناً يجد حلاوته في قلبه)، ولذلك فإن النظر من أخطر الأمور، والنظر كما يقول عنه العلماء: إنه بريد الزنا.
بل إن الله عز وجل قرن في آيات القرآن بين النظر وبين فاحشة بين الزنا؛ فقال: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:30 - 31]، ما صلة الأول بالثاني؟ لأن النظرة هي التي توصل غالباً إلى الفاحشة، وإلى فعل الجريمة، لذلك يقول الشاعر: جل الحوادث مبداها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر شرارة صغيرة يحتقرها الإنسان تطير على متاعه فتحرق البيت والحي كله، ولربما تحرق المدينة كلها وهي شرارة صغيرة في أولها، ونظرة يلقيها الإنسان دون أن يحسب لها أي حساب؛ وربما تحدث ما هو أكبر من ذلك، ولذلك فإن من الوسائل التي اتخذها الإسلام لحماية المجتمع من الفاحشة ولصيانة المرأة المسلمة من الفاحشة، هو غض البصر سواء في ذلك الرجل والمرأة، ولذلك قال تعالى عن الرجل: {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:30]، يعني: لا تخفى على الله النظرة الصغيرة التي يلقيها الإنسان، وقال أيضاً عن المرأة: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31]؛ لأن إبداء الزينة هي سبب للفت النظر.
ولذلك لا تعجوا حينما نجد أن الزنا -نعوذ بالله من شره وسوئه- هو الجريمة الوحيدة التي قدم الله تعالى فيها المرأة على الرجل، فإنك لا تجد في الكتاب ولا في السنة آية أو حديثاً نبوياً قدمت فيه المرأة على الرجل إلا في آية واحدة في سورة النور: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور:2]، ما قال الله تعالى: الزاني والزانية، لماذا؟ لأن المرأة قد تملك أكثر الأسباب التي تؤدي إلى الفاحشة، ولذلك قدمها الله تعالى، لكن نجد في باب السرقة مثلاً أن الله تعالى قدم السارق على السارقة، وفي كل الآيات يقدم الله تعالى الرجل على المرأة، لكن قدمها في باب الزنا لأن امرأة واحدة باستطاعتها أن تفتن أمة أو أمماً، ولذلك هنا نقول: إن المرأة وضعها خطير.(34/10)
الحث على الزواج
يأتي بعد ذلك دور مهم من أدوار حماية المجتمع من الفاحشة وهو دور الزواج: يقول الله عز وجل عنه وهو يثبت أنه آخر وسيلة من وسائل حماية المجتمع من الفساد: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور:32]، وفي نفس السورة: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32 - 33].
إذاً: خمسة أشياء جاءت في هذه السورة آخرها الزواج.
والإسلام دين واقعي يواجه الأمور على حقيقتها، وليس ديناً يعيش في عالم الخيال كما توجد أنظمة صنعها البشر للبشر لا تقدر العاطفة، ولا الواقع، ولا تواجه الأمور على طبيعتها، فالشهوة طبيعية وفطرية في هذا الرجل بل وفي المرأة، ولما حرم الإسلام الزنا لابد أن تصرف هذه الشهوة مصرفاً طبيعياً مباحاً، لذا كان الزواج هو الطريقة الوحيدة لصرف هذه الشهوة فيما أباح الله عز وجل، ولذلك ذكر الله تعالى الزنا في أول هذه الآيات، وذكر الزواج في آخر هذه الآيات؛ حتى يعرف الإنسان كيف يتصرف، وكيف يشبع هذه الشهوة الفطرية مما أباح الله عز وجل بدلاً مما حرم الله سبحانه وتعالى؟ ولذلك نقول: الزواج حصن منيع كما أخبرنا الله عز وجل، فقال سبحانه وتعالى للمتزوجات: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:24]، وسمى المتزوج أيضاً محصناً، وقال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج)، ومعنى أحصن: أي كالحصان، فالإنسان المقاتل إذا ركب الحصان يمتنع ويحمي نفسه من القتل غالباً، وكالحصن الذي يتستر فيه الإنسان في المعركة، فيحميه من وقع السهام، فالمتزوج كأنه وقع في حصن، أو كأنه ركب حصاناً فيتقي شر عدوه، ولذلك نقول: الزواج هو الوسيلة الخامسة من الوسائل الخمس التي أرشد إليها الله عز وجل لمكافحة الجريمة، هذا هو المنهج السليم الذي دعانا الله عز وجل إليه، وبعد ذلك لنعرج إلى موضوعنا الذي اختاره الإخوة، وهو المرأة المسلمة وما يراد بها.(34/11)
ضياع حقوق المرأة في مجتمع الحضارة
إن أعداء الإسلام يكرهون المرأة والرجل، ويكرهون الإسلام كله، ويريدون أن نضل السبيل، {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء:27]، إنهم يناقضون كل هذه الأشياء، فيقولون عن الحدود بأنها وحشية وقسوة، وإن كانت تصلح في عصر الخيمة والبعير لكنها لا تصلح في عصر الطائرة والصاروخ والمركبة الفضائية؛ هكذا يقولون، ونسوا أو تناسوا أن هذا القرآن من لدن حكيم خبير، يعلم ما حدث في الماضي، وما يحدث في المستقبل، وما يصلح البشرية! ثم قالوا أيضاً عن القلب: لا مانع أن يتمتع المجتمع ولو عن طريق السماع، فكانت هناك مسرحيات، وكانت هناك أمور هائلة ومصائب كبيرة تصك أذان المؤمنين من خلال وسائل الإعلام تتحدث عن الفاحشة والجريمة والخيانات الزوجية، إلى غير ذلك مما هو في الأفلام، وقالوا عن الاختلاط: إنه رقي وتحضر، وإن المجتمع الذي لا يختلط -كما ذكرت لكم سالفاً- تصبح فيه وحشة بين الذكر والأنثى، ويصبح هذا الرجل دائماً يلهث وراء هذه المرأة، لكنه حينما يختلط بها ويندمج معها، ويراها مكشوفة أمام عينيه، وتكون سهلة له، يصبح الأمر طبيعياً فتزول هذه الوحشة! كما يقولون.
ونحن نقول لهم: كذبتم ورب الكعبة؛ لأن المجتمعات التي تساهلت في شأن المرأة، والتي تفسخت فيها المرأة واختلطت بالرجل، هي المجتمعات التي أثبتت الرقم القياسي في الانحراف في الفاحشة والجريمة، ولذلك فإن البلاد التي يقولون عنها إنها راقية، فيها إحصائيات للاختطاف وللخيانات الزوجية وللفواحش وللقتل وللسلب تسجل بالدقيقة أو بالثانية، وأصبح الأولاد غير الشرعيين في البلاد التي يزعم أهلها بأنها بلغت مستوى عالياً من الحضارة والتقدم، فاستطاعت أن تقضي على الوحشة بين الرجل والمرأة، أصبحت المحاضن ودور الأيتام والأطفال اللقطاء والأولاد غير الشرعيين تشتكي من هذا الفيض العظيم الذي لا تستطيع أن تتحمله.
والبلاد التي تبرجت فيها المرأة وانحلت، بلغت أيضاً مستوى من الرذيلة لا نظير له، وهذه مشكلة، والمشكلة الأكبر منها أن تقوم في المجتمعات الإسلامية أمم منحرفة تطالب بشيء كان العدو وما زال يحذرنا منه، حيث وقع فيه فأصبح يعض أصابع الندم، ويضرب يداً بيد على ما كسبت يداه، ويريد هؤلاء المنحرفون أن يبدأ المسلمون من حيث ينتهي العدو، وهذه تعتبر من أطم البلايا وأكبر المصائب، ولذلك فإنهم يتهمون المجتمع الإسلامي بأنه مجتمع متقوقع متخلف، أصبحت فيه المرأة كما يقولون: سوداء مظلمة، أصبحت معطلة وطاقة لا يستفاد منها، مجتمع لا يتنفس إلا برئة واحدة، مجتمع منحرف ضال متخلف؛ لأن المرأة لا تقود فيه السيارة؛ لأن المرأة لا تشتغل فيه بجوار الرجل، وكما يقول الشاعر: أرى خلل الرماد وميض نار ويوشك أن يكون لها ضرام وإن لم يطفها عقلاء قوم يكون وقودها جثث وهام ولنا درس في الأمم التي سبقتنا إلى هذا الأمر، تلك الأمم التي أصبحت المرأة لا كيان ولا وجود لها، بل إن القوانين التي تتابع المجتمع المنحرف في سيره أصبحت تهبط بمقدار ما يهبط هذا الإنسان، فإذا هبط الإنسان درجة هبطت هي درجتين من أجل أن تحقق للإنسان في أنظمتها الأشياء التي يريدها هذا الإنسان المنحرف، حتى لقد سمعنا في الأخير نواد للعراة في بعض دول الكفر، وسمعنا الشذوذ الجنسي، وزواج الذكر بالذكر أصبح أمراً رسمياً في بعض البلاد الكافرة، ورأينا بأعيننا دوراً للدعارة في وضح النهار، وتحمل تصريحات من الدولة في بعض البلاد الإسلامية، وتحرسها عيون تلك الدول بل رأينا ما هو أخطر من ذلك، رأينا شباباً ألهبته هذه الأفلام الجنسية الصارخة التي جاءت بمهمة خطيرة في البلاد المحافظة كبلادنا هذه، فرأينا كثيراً من الشباب يرقبون عقارب الساعة، وينتظرون الفرص التي تسنح لهم ليذهبوا إلى بلاد لا تعرف أعرافاً ولا أخلاقاً ولا ديناً.
فرأينا مع الأسف الشديد الخطر الداهم، ونحن نرى أبناء المسلمين يذهبون إلى بلاد الدعارة والمخدرات وبلاد والفساد إلى آخره، حتى رأينا هذه الطائرات وهي تستعد قبل هذه المواسم بمدة طويلة، وهي تسجل هؤلاء الشباب ليذهبوا إلى بلاد لا تعرف خلقاً ولا ديناً ولا فضيلة، والضحية في ذلك كله هي المرأة، بل إن الأمة الإسلامية كلها تعتبر ضحية لهذا الواقع الأليم، فانتشرت المخدرات في بلاد المسلمين بسبب هذه البلاد التي لا تحترم أي فضيلة ولا تحسب لها أي حساب.
وفي هذه الفترة التي رأينا المرأة تباع وتؤجر، ويتعامل فيها بعض هؤلاء الناس كما يتعاملون بأبسط الأمتعة؛ رأينا مع ذلك كله ضجة كبرى وصحية عارمة تزعم أنها تسعى لحقوق المرأة، وهل حرية المرأة أبقت للمرأة أي حقوق؟ هل تعلمون أيها الإخوان! أن في تايلاند البلد الكافرة التي يسافر لها شباب المسلمين بالآلاف يومياً، هل تعلمون أن البنت هناك تباع كما تباع الماعز في الأسواق، وتؤجر كما تؤجر الشقق بأبسط الأثمان؟ أم هل علمتم أيها الإخوان! أن المخدرات في تلك البلاد تباع كما تباع المشروبات المباحة في بلادنا؟ إذاً: لماذا يذهب شبابنا إلى هناك؟ ولماذا تسقط المرأة إلى هذا المستوى؟ وإذا كانت المرأة قد سقطت على أيدي هؤلاء المخربين إلى هذا المستوى ودون ذلك، فلماذا يزعم مدعو الحضارة أن للمرأة حقوقاً، وأنهم يطالبون بهذه الحقوق؟ أي حقوق بقيت؟ إن الله تعالى هو الذي أثبت حقوق المرأة، فكانت المرأة تورث في يوم من الأيام، إلى أن أنزل الله عز وجل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} [النساء:19]، فكان الرجل إذا توفي وله أولاد من غير هذه المرأة التي خلفها وراءه؛ يتسابق أولاده فأيهم وضع عليها رداءه يكون أحق بها؛ إن شاء تزوجها، وإن شاء نكحها بدون زواج، وإن شاء باعها، وإن شاء فعل فيها ما يريد، إلى أن أنزل الله عز وجل قوله: (لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا).
وأرى المرأة في عالم الحضارة المزعومة في القرن العشرين حضارة الجاهلية الثالثة التي لم تسبق مثلها جاهلية قط في انحرافها أرى المرأة قد سقطت عن ذلك المستوى بكثير، فأصبحت المرأة تباع وتشترى، وتؤجر وتمتهن وتحرم حتى متعة الحياة الزوجية الراشدة الثابتة التي تبنى على قواعد سليمة، وعلى عش سليم حتى يكون لها أولاد، وحتى تتحقق لها العاطفة التي أعطاها الله عز وجل حتى للحيوان؛ التي هي عاطفة الإنجاب والأولاد، لكن المرأة في عصر الحضارة المزعومة تحرم من ذلك كله في كثير من الأحيان، لقد سقطت المرأة فأصبحت في بريطانيا لا تساوي نصف جنيه إسترليني تدفعه هي لتبحث عن زوج لعلها تجد فيه عشاً آمناً.
والمرأة في بلادنا مكرمة والحمد لله، ولكن يقوم اليوم أناس على قدم وساق من مدعي الحفاظ على حقوق المرأة وعلى حرية المرأة يقولون: إنها امرأة مهضومة، مع أنه لا يحصل عليها الرجل غالباً إلا بأموال طائلة، لنفاستها وعزتها وكرامتها.
إذاً أيها الإخوان: المرأة يريد لها أعداؤها كما يقول الله عز وجل: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء:27]، ويريد الله لها عز وجل العزة والكرامة: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء:26].
إذاً: علينا أن نعرف أعداء المرأة، وعلى المرأة أن تعرف أعداءها، وألا تنسى أعداءها أو تتجاهلهم في غمرة الادعاءات الكاذبة المزعومة التي كثر فيها أنصار المرأة، ولكن لا نجد لها نصيراً إلا دين الله عز وجل، الذي أنزل حقها في الميراث، وكانت محرومة عبر القرون الماضية؛ حتى أنزل الله عز وجل قوله: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ} [النساء:7]، حتى الإبرة يجب أن تقاسمها إخوانك: {مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء:7]، كل ذلك يؤكد حقها.(34/12)
أعداء المرأة وشبهاتهم حولها
أيها الإخوان! أعداء الإسلام الذين يكرهون المرأة والمجتمع والأخلاق هم على نوعين: نوع من الخارج يسهل اتقاؤه والحذر منه.
ونوع من الداخل وهم الذين يقول عنهم الشاعر: وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على الحر من وقع الحسام المهند فإذا كان الإسلام يحارب بيد أبنائه فهنا يكمن الخطر، ومن هنا تأتي المصيبة والبلية، ولذلك فكثيراً ما نجد هؤلاء الذين ينتقدون الإسلام بتشريعاته -وهم من أبناء جلدتنا وممن يتكلمون بألسنتنا- نجدهم يضعون شبهات وعراقيل في طريق المرأة المسلمة، حتى يحولوا بينها وبين ربها، وبينها وبين دينها، وبينها وبين كتاب ربها سبحانه وتعالى، وهو القرآن الذي هو دستور الأمة الخالد، وذلك من خلال شبه يقذفونها في هذا المجتمع، فمن الأشياء البسيطة التي وجدت الآن: عراك عنيف في الصحف والرسوم الكاريكاتيرية والإذاعات وغيرها عن تعدد الزوجات على سبيل المثال، حتى أصبح الأمر الآن أمام طائفة من الناس أعظم من الزنا، بل إن أحدهم لو سمع أن أحداً زنى ألف زنية -نعوذ بالله- لكان ذلك أسهل في نظره من أن يتزوج بزوجة أخرى، ويقولون: هذا إهانة للمرأة.(34/13)
شبهة تعدد الزوجات والرد على أباطيلها
الحقيقة أن هؤلاء لا يستحقون الرد، ولكننا نريد أن نضع على هذه الشبهة شيئاً من الضوء حتى يبين لهؤلاء الأعداء إن كانوا يبحثون عن الحق -وأظنهم لا يبحثون عنه- شيئاً من حكمة الله عز وجل التي تتجلى في هذا الأمر.
نقول: تعدد الزوجات أمر مستحب ومسنون، والذي بواسطته نستطيع أن نستهلك الطاقة البشرية النسوية التي تكثر في أيامنا الحاضرة ويقل معها الرجال، وقلة الرجال سواء كان في حصول الولادة، أو في الأحداث التي تطحنهم أكثر من النساء سواء كان في الحروب أو في الحوادث المفاجئة، أو لأي سبب من الأسباب، ولذلك أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه في آخر الزمان يقل الرجل وتكثر النساء، حتى يصل الحد إلى أن يكون لخمسين امرأة الرجل الواحد يلذن به من قلة الرجال، وهذا شيء نشاهده، وطبيعة في خلق الله عز وجل كله، فالإناث دائماً أكثر من الذكور، ولو نظرت إلى الدجاج كنموذج واضح، وأردت أن تعد نسل الدجاجة لتحصي الذكر من الأنثى لوجدت الذكر لا يساوي إلا العشر تقريباً بالنسبة لإنتاج الدجاجة، وهكذا سائر الحيوانات، وبنو آدم أيضاً لهم نصيب من هذه الكثرة وتلك القلة.
وما هو السبيل الذي نستطيع أن نكفل به حماية المجتمع من الفساد، وإغناء هذه النساء اللاتي يزداد عددهن أضعافاً مضاعفة عن الرجال؟ ثم أيضاً إعطاء كل واحدة منهن الفرصة لتتمتع برجل أو بنصف أو بثلث أو بربع رجل، والفرصة الكبرى التي تنشدها المرأة هي أن تعيش في عش زوج على قواعد صحيحة، وأن تنجب أولاداً تشبع بهم عاطفتها، وليس هناك طريق لتحقيق هذا إلا أحد سبيلين: إما الزنا وإما التعدد.
والزنا هو فساد الأمم وفساد المجتمعات، والتعدد هو الحكمة التي أرشدنا الله عز وجل إليها في قوله: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3]، والعجيب أن أعداء الإسلام لا يغفلون في مخيلتهم هذه القاعدة وهذا الاختلاف في التوازن في عدد الرجال والنساء، وهذه العاطفة الشهوانية التي فطر الله عليها الناس، وهذه الحاجة الملحة التي تفرض على الرجل أو تبيح له أكثر من زوجة حتى يستطيع أن يسد حاجة نفسه وغيره، ولكن لما كانوا أعداءً حاقدين على الإسلام كانوا يتناسون ذلك كله، ويعتبرون ذلك تخلفاً ورجعية وإهانة للمرأة، وتضييعاً لحقوقها.
إذاً: هم يريدون من المرأة أن تكون منحرفة، ولا يريدون منها أن تكون مستقيمة، ويريدون منها أن تنجب أولاداً بالسفاح بدل أن تنجب أولاداً بالنكاح الصحيح، ولذلك يحاربون تعدد الزوجات حتى أصبح في مجتمع بعض البلاد الإسلامية -إن لم أقل في مجتمعنا هنا- من السهل أن يأتي الرجل بشابة من الفلبين أو من أي بلد، وهي فتاة جميلة يضعها في بيته ويخلو بها هو أو أولاده، وهذا يعتبر تحضراً ورقياً وأمراً يفرضه العصر كما يقولون، البيوت الواسعة النظيفة المفروشة تفرض علينا أن نأتي بهذا، لكن لو أن واحداً من الناس فكر في زوجة أخرى لأصبح هذا في نظر طائفة من هؤلاء الناس متخلفاً وليس بتقدمي.
وهكذا تنعكس المفاهيم، وذلك مصداق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: بأنه سيأتي زمان يعود فيه المنكر معروفاً والمعروف منكراً، فأصبح المعروف الذي هو تعدد الزوجات، والذي تطالب به بعض بلاد الكفر كألمانيا في أيامنا الحاضرة؛ لأن نسبة الرجل إلى المرأة يساوي ثلاثة الأضعاف، لكن في بعض بلاد الإسلام يعتبرون تعدد الزوجات تخلفاً، والرقي والتقدم هو أن نجمل بيوتنا بشيء من هذه الخادمات، وكأنها أثاث يوضع مع البيت، ونختارها من أجمل وأصغر الفتيات، ونأتي بها من وراء آلاف الأميال، بعيدة عن أهلها وطبيعتها لنضعها في مجتمع محافظ، أسال الله سبحانه وتعالى أن يحفظه من أيدي هؤلاء المخربين.
إذاً: أصبح الإتيان بخادمة ولو كانت كافرة تربي الأطفال على خلاف الفطرة، هو التقدم والرقي، وأصبح تعدد الزوجات الذي شرعه الله عز وجل من فوق سبع سماوات من أجل أن يكون هناك تناسق بين الذكر والأنثى، ومن أجل أن يكون هناك استهلاك للطاقة البشرية إذا زاد أحد الجنسين على الآخر، يعتبر هذا هو التخلف! ولذلك فإنهم يريدون بالمرأة سوءاً.
ومن إرادتهم للمرأة سوءاً أن يشغلوا زوجها بخادمة أجمل منها، فلقد تكون هذه المرأة عجوزاً، أو مريضة، أو لا تستطيع أن تقوم بحقوق الزوج، لكنهم يحرمونه في نظرهم من زوجة أخرى على فراش مباح طاهر، ولربما يعيش مع تلك المرأة التي جاءت باسم مربية أو خادمة، ومن هنا ينتشر الفساد العريض في الأرض، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض).
ولقد انخدعت طائفة من النساء بهذه الدعايات، وقلن: إن تعدد الزوجات أمر يضر بالمرأة، وهؤلاء النساء لا ينظرن إلى هذه الحياة إلا من زاوية ضيقة، فحقدت بعض النساء اللواتي لا يفهمن الإسلام على الإسلام، كيف يبيح تعدد الزوجات، ولكني أرى الكثير الغالب والحمد لله لم يتأثر بهذه الدعايات المضللة؛ لأننا نعيش فترة وعي بالنسبة للمرأة، فلقد تعلمت المرأة وقرأت وكتبت وفهمت دينها، فأصبح كثير منهن لا يتأثرن بهذه الدعايات المضللة.
ولكننا نقول: إن علينا أن نكون على حذر من هؤلاء الذين يلفون الباطل بلفائف مكشوفة في الحقيقة يريدون أن يروجوا هذا الباطل.(34/14)
شبهة جعل الطلاق بيد الرجل
أيها الإخوان! إن الذين يشوهون الإسلام يقولون مثلاً: لماذا الطلاق؟! وإذا كان ولا بد من الطلاق فلماذا يكون بيد الرجل فقط؟! وهم يريدون من ذلك أن تقوم المرأة التي لا تفهم الإسلام كما قام في باكستان مجموعة من النساء اللواتي لم يفهمن الإسلام فهماً صحيحاً يقلن: لماذا الطلاق بيد الرجل ولا يكون بيد المرأة؟ ونسي هؤلاء أو تناسوا العقلية الكبيرة التي يمتاز بها الرجل على المرأة، والتأني والتؤدة التي يعطيها الله عز وجل بعض خلقه دون بعض، ولذلك يقول علماء النفس: لو كان الطلاق بيد المرأة لوقع في اليوم عدة مرات؛ لأن المرأة بعواطفها وبتسرعها واستجابتها لرغباتها، وانصياعها أمام شهواتها دفعة واحدة، قد تفعل شيئاً من ذلك، ولذلك فإن حكمة الله عز وجل تتجلى حينما أعطى الطلاق للرجل لا للمرأة؛ لأن الرجل إذا أراد أمراً فكر فيه وتأنى؛ ولأن الله عز وجل لا يريد أن يقع الطلاق؛ لأن الطلاق يهدم الأسر، ويقوض البيوت، ولذلك نجد أن القرآن عالج مشكلة الطلاق علاجاً لا يمكن أن يكون مثله في أي نظام من أنظمة الأرض وأنظمة البشر التي يصنعونها لأنفسهم أو لغيرهم، الإسلام أمر الرجل بأن يصبر على المرأة ولو كرهها كراهية شديدة: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء:19]، الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يفرك مؤمن مؤمنة؛ إن كره منها خلقاً رضي منها خلقاً آخر)، وإذا توترت العلاقات يقول الله عز وجل بعد ذلك: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء:34]، كل هذا من باب التأديب، وإذا توترت العلاقات وزاد الأمر سوءاً: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء:35].
إذا أعيت كل هذه الحلول وكان لابد من الفراق، حينئذ يكون الطلاق هو الحكمة والمصلحة؛ لأنه هو آخر علاج يجب أن يقدم لهذين الزوجين ما داما قد تنغص عندهما العيش، وما دامت الحياة الزوجية قد فسدت، ولابد إذاً من حل هذا الزواج، ولكن يجب أن يكون على قواعد أخرى ثابتة، فيكون هناك طلاق السنة وطلاق بدعة، وحينئذ من أراد أن يطلق فإنه يتحرى طلاق السنة، ولربما في هذه الفترة التي ينتظر فيها طلاق السنة تعود الأمور إلى مجاريها.
ثم أيضاً إذا طلق يجب أن تكون طلقة واحدة، ويعطى ثلاثة أشهر أو ثلاث حيضات وأطهار حتى ينظر في أمره، ويجب عليها أن تبقى في بيت زوجها حتى ينظر إليها دائماً لعله يرغب فيها في يوم من الأيام: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ} [الطلاق:1]، وحينئذ يعطيه الله عز وجل الطلقة الأولى والطلقة الثانية، وإذا كانت الثالثة كان الفراق الأبدي حتى تنكح زوجاً غيره.
كل ذلك علاج حتى لا يكون الطلاق بسرعة، ولو كان الطلاق بيد المرأة لكانت المرأة لا تملك هذه القوى العقلية بطبيعتها وفطرتها، وإن كان منهن من يملك ذلك لكن النظر إلى الغالب، فلربما يقع الطلاق فجأة وتتهدم البيوت وتنهار الأسر، ثم أيضاً لا يعتبر الطلاق فساداً للعلاقات، وإنما يقول الله: {وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة:237]، ويعد الله عز وجل كل واحد من المطلق والمطلقة أن له نصيباً في هذه الحياة، {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا} [النساء:130].
إذاً: الطلاق الذي شرعه الله عز وجل بعد علاج طويل، وسعي حثيث حتى تعود هذه العلاقات إلى طبيعتها؛ وهو يعتبر في الحقيقة من فضائل هذا الدين، وحينما يعتبرونه من التخلف أو الوحشية فقد كذبوا على الله عز وجل، وكذبوا على دين الله.(34/15)
شبه في حقوق المرأة المالية والاجتماعية
يريدون من المرأة المسلمة أيضاً: أن تخرج على الأوضاع الاقتصادية، ويقولون: أيتها المرأة! لماذا يعطيك الإسلام نصف ما يعطي الرجل من الميراث؟ ألست إنساناً كالرجل له حقوقه ومتطلبات حياته؟ ونسي هؤلاء أو تناسوا التكاليف المالية التي يطالب بها الإسلام الرجال ولا يطالب بها النساء، فالله سبحانه وتعالى يطالب الرجل بتكاليف الزواج، فالمهر يدفعه الرجل ولا تدفعه المرأة، مؤن البيت والسكن والكسوة والنفقة، كل ذلك يلتزم به الزوج ولا تلتزم به الزوجة، الدية يطالب بها الرجال ولا تطالب بها النساء، وهكذا كثير من الأمور التي تلزم الرجال ولا تلزم النساء، ولو عملنا حساباً لرجل وامرأة أخوين ورثا أباهما فأخذ الابن الثلثين وأخذت البنت الثلث، ثم نظرنا إلى هذا المال بعد مدة قصيرة من الزمن، لوجدنا أن ثلث المرأة لم ينقص درهماً واحداً، وأن ثلثي الرجل قد استهلك كله في مؤن وتكاليف الزواج ومصاريف البيت وغير ذلك من الأمور التي تلزم الرجال ولا تلزم النساء.
وهذه حكمة الله سبحانه وتعالى، فهو يعطي الرجل بمقدار ما يعطي المرأة مرتين، ويعطي المرأة نصف ما يعطي الرجل مراعاة لهذه الظروف التي تتطلب مالاً من الرجل ولا تتطلب مالاً من المرأة.
ويقول الذين يريدون سوءاً بهذه المرأة: إن الإسلام يظلم المرأة، لماذا لا يقبل شهادتها في كثير من الأمور؟ وإذا قبل شهادتها في الأمور المالية، لماذا يعتبر شهادتها نصف شهادة الرجل؟ يقولون هذا الكلام، ونسوا ما فطر الله عز وجل عليه المرأة من عواطف رقيقة لا تستطيع فيها أن تتحمل حتى الشهادة.
فمثلاً في الجنايات والحدود والقصاص، المرأة لا تستطيع أن تنظر إلى شيء من ذلك؛ لأنها سريعة التأثر، فلو نظرت إلى رجل يقتل إنساناً أو يجرحه أو يضربه، أو رأت قصاصاً أو أي جريمة من الجرائم وحد من الحدود لا تستطيع أن تنظر إليها؛ لأن عواطفها رقيقة، ولذلك لم يقبل الله عز وجل شهادتها في مثل هذه الأمور، وإنما قبل شهادتها في أمر واحد فقط، وهي في الأمور المالية محافظة على أموال الناس، ولكن الله عز وجل أيضاً لم يظلمها ولم يبخسها حقها حينما اعتبر شهادتها نصف شهادة الرجل؛ لأن الله تعالى بين السبب في ذلك وقال: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا} [البقرة:282]، أي لئلا تضل إحداهما، أو كراهية أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى، والمرأة بطبيعتها ومشاغلها وشئونها الخاصة والعامة لا تستطيع أن تضبط كل هذه الأمور كما يضبطها الرجل، ولذلك جعل الله تعالى شهادة امرأتين تساوي شهادة رجل واحد في الأمور المالية فقط من أجل مراعاة هذه العواطف، ومراعاة لهذه الذاكرة التي امتلأت بأشياء كثيرة أكثر من الرجل.(34/16)
ثياب أعداء المرأة الجدد
على كل أيها الإخوان: المرأة مستهدفة، وأعداء الإسلام يركزون على المرأة؛ لأنهم يعرفون خطورتها في المجتمع، ولذلك يقول قائلهم: إنه لا أحد أقدر على جر المجتمع إلى الدمار من المرأة؛ فعليكم بالمرأة، فاتخذوا من المرأة وسيلة ولكنهم تفننوا فلم يأتوا باسم إهانة المرأة، وإنما جاءوا باسم حقوق المرأة، وحرية المرأة، وما أشبه ذلك.
أي حق للمرأة، وأي كرامة للمرأة الكافرة أو المسلمة التي انخدعت بالدعايات المضللة ونحن نراها بهذا الشكل؟ أصبحت لعبة بأيدي الرجال، حتى أنها فقدت كل عواطفها الإنسانية وأصبحت وسيلة تسلية، انظر إليها وهي في الطائرة تقوم بدور الخدمة، وأنت تلاحظها وكأنها وضعت دمية يتسلى بها هؤلاء الرجال، أو انظر إليها في المتاجر التي تعرض بضائعها من خلال فتاة جميلة يعتبرونها وسيلة للإغراء، إذاً: أصبحت المرأة دمية ولعبة بأيدي هؤلاء العابثين، في وقت يزعمون فيه أنهم يدافعون عن حقوقها وحريتها.
أما المرأة المسلمة فقد أكرمها الله عز وجل وصانها عن ذلك، وأمرها بأن تلتزم حتى تكون في مصاف زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال لها كما قال لزوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [الأحزاب:32]، لا ترقق صوتها مع الرجال الأجانب حتى تثير الفتنة، {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33]، لا تذهبن إلى العمل، فالرجال هم الذين يقومون بهذا الدور، وحينما يقول الله عز وجل: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33]، لا يريد المرأة أن تكون خادمة فحسب في البيت، وإنما يريد أن تكون مربية في البيت، ولذلك الذين يزعمون أن المرأة قد عطل منها المجتمع، فشغلوا المرأة، ولم يستطيعوا أن يعوضوا هذا البيت إلا بخادمتين أو بثلاث أو بأربع مربيات يقمن بالدور الذي كانت تقوم به هذه المرأة في بيتها يوم كانت تقوم بدورها حقيقة، فالله تعالى يقول لهن: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33]، يقول العلماء: إما من الوقار أو من القرار، فإذا كان من الوقار فبقاء المرأة في بيتها هو الوقار، وإذا كان من القرار فإن بقاء المرأة في بيتها أيضاً هو المصلحة.
{وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33]، وأظن أن التبرج الموجود الآن لا يقل عن تبرج الجاهلية الأولى، ولذلك فإن الجاهلية الثانية وهي ما جاء قبيل الإسلام شددت في أمر المرأة، حتى قال قائلهم وإن كنا لا نوافقه على ذلك: إياك وشم العامرية إنني أخشى عليها من فم المتكلم وكانوا يقتلون البنت خشية العار، وخوفاً مما حدث في الجاهلية الأولى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} [النحل:58]، والله تعالى يقول: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33]، وإذا كانت هذه هي الوسائل التي يذهب فيها الله عز وجل الرجس عن أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن أي رجل يريد أن يذهب الرجس عن بيته فإن هذه وسائل إذهاب الرجس عن أي بيت من بيوت المسلمين.
ولذلك أيها الإخوان! يجب أن لا نخسر هذه المرأة، بل نقوم بتربيتها وفق منهج صحيح جاء من عند الله عز وجل، ولا نغتر بأعداء الإسلام فإن أعداء الإسلام والله لن يرحمونا ولن يتركونا حتى نكون مثلهم، وحتى نضل السبيل، والله عز وجل حذرنا من موالاتهم ومشابهتهم، فقال سبحانه وتعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود:113]، لا نركن إليهم بتقليد، ولا بتشبه، ولا بأي أمر من الأمور.
أيها الإخوان! أعداء المرأة هم الذين يظهرون اليوم بثياب أنصار المرأة، وبأنهم يدافعون عن حقوق المرأة وعن حريتها، ولكننا على ثقة أن كل من طالب بحقوق المرأة لا يستطيع أن يعطيها جزءاً بسيطاً مما أعطاها الله عز وجل الذي كرمها، فقال سبحانه وتعالى: {لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران:195].
ولذلك نقول: لا ننخدع بهذه الدعايات المضللة، المرأة المسلمة عليها أن تعرف عدوها، وعليها أن تقرأ كتاب ربها سبحانه وتعالى بتفهم وتدبر ويقظة، وعليها أن تعرف عدوها من صديقها، وحينئذٍ فإننا على ثقة -بإذن الله- أنها لن تنخدع بهذه الدعايات المضللة.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(34/17)
الأسئلة(34/18)
خطر الخلوة المحرمة وعلاقتها بالزنا
السؤال
هل تعتبر الخلوة جانباً من جوانب الزنا؟
الجواب
أنا ما قلت إنه جانب من جوانب الزنا، وإنما قلت: وسيلة من وسائل الزنا، فالله تعالى حرم الخلوة، وقال: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} [النور:27]، وحرمها الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: (لا يخلون رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما)، وإذا كان الشيطان هو الثالث لاثنين؛ فإن ذلك يسبب فتناً كثيرة؛ لأن الشيطان لن يترك الأمور تمشي بطبيعتها.
ولذلك أقول: اجتنب هذه الخلوة سواء كانت في سيارة، أو مصعد، أو داخل بيت، أو أي مكان، وحينما يحدث شيء من ذلك نحن لا نقول: إن الفاحشة ستحدث لا محالة، ولكننا نقول: هذه الحال خطر؛ لأن الشيطان سيكون ثالث الرجل والمرأة إذا انفردا، فعليك أن تبتعد سواء كان في المصعد أو غيره، فإذا دخلت المصعد ودخلت عليك امرأة تترك المصعد لها، إلا إذا كان معكما أحد ثالث، وحينئذ تفقد الخلوة، إما أن تخلو بها فالشيطان قد يلعب على أحد منكما، أو عليكما جميعاً.(34/19)
حكم ذهاب المرأة إلى المسجد الحرام برفقة زوجها
السؤال
أنا شاب متدين ومتزوج من فتاة متدينة -ولله الحمد- ونحن سعيدان في حياتنا؛ إلا أنني أسكن في مكة، وكلما أردت الذهاب للحرم المكي أرادت زوجتي الذهاب معي، ونظراً لصعوبة الدخول مع طفلها أطلب منها أن تلزم بيتها، أجابت بالحديث الشريف: (وليسعك بيتك)، فماذا تقول لها ولأمثالها، وبماذا تنصحني؟
الجواب
الحديث: (وليسعك بيتك)، حديث صحيح، والرسول صلى الله عليه وسلم سئل عن السلامة من الفتن فقال: (ابك على خطيئتك، واحفظ عليك لسانك، وليسعك بيتك)، وهذا عام للرجل والمرأة، وكلمة: (ليسعك بيتك)، ليس معناها: لا تخرج، وإنما معناه: لا تخرج إلا لحاجة، وذلك يكون عند الفتن، والحمد لله هذه الفتن التي أشار إليها الحديث لم توجد بعد، وعلى كل فإن المرأة خير لها بقاؤها في بيتها كما في قول الله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33]، وحتى خروجها للمسجد جائز، لكن بقاؤها في بيتها أفضل لها، كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وبقاؤها في قعر البيت أفضل لها من بقائها في طرف من أطراف البيت، وصلاتها في أقصى خدرها في بيتها أفضل لها، لكن لا يجوز منعها من المسجد كما جاء ذلك في الحديث: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وصلاتهن في بيوتهن خير لهن).
وعلى هذا نقول لك: جائز أن تذهب بها إلى المسجد الحرام، وذلك لا ينافي السنة، لكن بشروط: أن تكون غير متطيبة، وغير متبرجة، ومحتشمة، وحينئذ لا تمنعها من ذلك إذا كنت تستطيع إيصالها بأي وسيلة من الوسائل، لكن ذلك أمراً ليس بلازم؛ لأن صلاة الجماعة إنما هي واجبة على الرجال دون النساء؛ لأن الله تعالى يقول عن المساجد: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ} [النور:36 - 37]، أي: لا نساء؛ لأن النساء لا يطالبن بصلاة الجماعة، لكن ما دامت ترغب في الذهاب إلى المسجد الحرام فحاول ألا تمنعها؛ لأن في ذلك مضاعفة للحسنات بالنسبة لها؛ لأن الصلاة في المسجد الحرام أي مسجد الكعبة الذي ترى فيه الكعبة يساوي مائة ألف صلاة فيما سواه.
وعلى هذا نقول: إن الذهاب بها أفضل، ما دامت هذه المضاعفة موجودة، ولكن ذلك لا يلزمك؛ لأنه ليس من الواجبات بالنسبة لك.
أما إذا كان هناك خطر على الطفل، أو خطر عليها هي، أو خطر من أي شيء من الأشياء، فهذا يكون سبباً من الأسباب التي تمنع من الذهاب بها إلى المسجد، لكن إذا لم يكن هناك سبب يحول بينها وبين الذهاب إلى المسجد الحرام، فالأفضل أن تذهب بها ولك أجر وهي لها أجر لمضاعفة الحسنات.(34/20)
دور المرأة في المجتمع
السؤال
يقال: إن المرأة نصف المجتمع، ما هو قول فضيلتكم حيال ذلك المعنى، وجزاكم الله خيراً؟ الجوب: حقيقة هي نصف المجتمع؛ لأن النساء شقائق الرجال، فهي نصف المجتمع من حيث العدد أو الأهمية أو المسئولية، حيث يتعاون الرجل والمرأة على أعباء هذه الحياة، لكنها مهمة أيضاً في المجتمع؛ لأنها تقوم بدور تربية الأولاد، خلاف ما يظنه أعداء الإسلام من أننا نبقيها للخدمة فقط، والحقيقة أن الخدمة أيضاً أمر تؤجر عليه المرأة في بيتها، لكنها تقوم بدور أهم من الخدمة وهو تربية الأولاد، ولذلك فإن الأم لها دور في تربية أولادها وإعدادهم إعداداً صالحاً سليماً أكثر من دور الزوج أيضاً، وذلك إذا تولت الفترة الأولى التي يندر أن يكون الأب مع أولاده فيها التي هي فترة الطفولة إلى حد التمييز، ولذلك تكاد أن تنفرد بتربية الأولاد في هذه الفترة، بل إنها أيضاً تتولى ما بعد ذلك، ولذلك فإن لها دوراً هاماً يجب أن تقوم به.(34/21)
التبرج والسفور ودور الرجال والنساء في الحدِّ منه
السؤال
نظراً لكثرة التبرج، وخروج النساء كاسيات عاريات، حتى المتحجبة قد تتحجب بحجاب بعيد عن الشروط الشرعية، وهذا يدل على مستوى الجهل الذي حل بالنساء، فما الحل، وما دور المرأة المتدينة تجاه ذلك، وما دور الرجال تجاه ذلك أيضاً؟
الجواب
الحل هو العودة إلى حكم الله عز وجل، وإلى القرآن الذي أرشد المرأة إلى سبل الفضيلة، وكما قلت لكم: إن الله عز وجل ذكر التبرج كسبب من أسباب الزنا؛ لأن الله تعالى لما ذكر في سورة النور الزنا ذكر له أسباباً، وذكر من أسبابه التبرج، وذكر من أسباب العفة غض البصر وإحصان الفرج، ولذلك نقول: هذا التبرج الذي أشار إليه الأخ السائل أصبح الآن خطيراً، سواء كان في صور المواجهة التي يشاهدها الإنسان من هذه المرأة وجهاً لوجه، أو من الصور المتحركة التي يشاهدها كثير من الناس من خلال الأفلام، أو من خلال الصور الثابتة، أو من جهات أخرى.
ولذلك نقول: إن التبرج محرم، والتبرج معناه: إظهار الزينة.
من البرج وهو المكان المرتفع الذي يرى من بعيد، والتبرج له طرق شتى ووسائل متعددة، سواء في ذلك إخراج زينة البدن، أو إخراج الثياب الجميلة، أو لبس الملابس الرقيقة أو الضيقة أو ما أشبه ذلك من الطرق الأخرى، وعلى هذا نقول: إن المرأة المسلمة لا تتبرج ولا تخرج شيئاً من جسدها ولا تفتن الناس.
وهي حينما تفتن هؤلاء الناس تسأل يوم القيامة عن كل من كانت سبباً في فتنته وضلاله، ولذلك تتحمل هذه المسئولية، وتتحمل هذا الأمر الذي تنشره في هذا المجتمع.
والتبرج أيضاً ورد فيه أحاديث شديدة منها قوله صلى الله عليه وسلم: (صنفان من أمتي لم أرهما بعد؛ رجال معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات، رءوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا).
والمرأة المسلمة أنصحها بأن تقتدي بزوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي ما أشار الله عز وجل إليه بقوله: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32]، يعني: لا ترقق صوتها: {وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب:32 - 33]، ثم قال بعد ذلك: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34]، أي: تبليغ دعوة الإسلام.
ولذلك فإنا ننصح الفتيات المؤمنات اللاتي هداهن الله عز وجل في هذه الفترة أن يقمن بدور الدعوة والإصلاح، فإن المرأة تتقبل من المرأة أكثر مما تتقبل من الرجل، وأن تكون داعية إصلاح وعفة وطهارة، والله تعالى يكتب لها أجر الجهاد في سبيل الله تعالى، كما ندعو أيضاً الآباء والأولياء والرجال عامة أن يربوا هذا النشء تربية إسلامية صحيحة، حتى لا يكون في هذا المجتمع هذه الأشياء التي نحذرها ونخاف من نتائجها.
هذه النساء أمانة أيها الرجل! أيها الولي! أباً كنت أو أخاً، أو مسئولاً أي مسئولية من المسئوليات، هذه أمانة في عنقك: عليك أن تخشى الله عز وجل، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، الأب راع في بتيه ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، وكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)، وهذه المسئولية تكون بين يدي الله عز وجل يوم القيامة؛ فإن الله تعالى إذا أوقف الناس بين يديه للحساب يوم القيامة، جاءت هذه البنت وقالت لله عز وجل: يا رب! زده عذاباً ضعفاً في النار -تعني أباها- إنه خانني، ولم يربني تربية صالحة، فلنتق الله عز وجل في هذه الذرية، فلا تبرج، ولا سفور، ولا ازدحام مع الرجال، ولا اختلاط، ولا نغتر بهذه الدعايات فإن أعداء الإسلام يريدون أن نضل السبيل، والله المستعان عليهم.(34/22)
حكم ولاية المرأة في الإسلام
السؤال
ينقل عن الكاتب خالد محمد خالد مقولة مفادها: بأن تعيين رئيسة وزراء باكستان لرئاسة المسلمين من الرجال والنساء أمر لم يحرمه الإسلام، بدليل أن بلقيس كانت ملكة على أهل سبأ، واستشهد الكاتب بأن عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كن النساء شقائق الرجال، واستشهد بمقولة عمر بن الخطاب: (أصابت امرأة وأخطأ عمر)، وحديث: (النساء شقائق الرجال)، وفسرها بأنها تعطي حقاً للمرأة في ولاية المسلمين، فما رأيكم جزاكم الله خيراً في ذلك؟
الجواب
خالد محمد خالد لا تغتروا به، وقد كان رجلاً منحرفاً ويقال: إنه استقام، وكان من قبل رجل يحارب الإسلام، وإن كان ينتسب فترة من الزمان إلى علماء الإسلام، وهو يحارب الإسلام، وحتى بعد أن هداه الله إلى الإسلام -كما يقول- من يقرأ كتبه مثل رجال حول الرسول وما أشبه ذلك يجد في الرجل أنه لم يلتزم بعد، ولذلك إذا مر بالمتقشفين من الصحابة رضي الله يزيد عليهم؛ لأنه رجل كأنه داعية للاشتراكية، وعلى كل فالله تعالى هو الذي يتولى حساب هذا الرجل، فلا نغتر به ولا بأمثاله، ولا نأخذ ديننا من الناس وإنما نأخذه من كتاب الله تعالى وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
والرسول صلى الله عليه وسلم الهادي لنا يقول: (ما أفلح أمر ولوا أمرهم امرأة)، ويكفينا ذلك، ولذلك أول مرة في تاريخ الإسلام تحكم امرأة بلداً إسلامياً، أما استدلال هذا الرجل بقصة بلقيس، فـ بلقيس امرأة كافرة، بدليل قولها بعد ذلك: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل:44]، والله تعالى يقول عنها قبل ذلك: {إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ} [النمل:43]، إذاً: كيف نستدل بها، ونحن الآن نناقش قضية إسلامية لا قضية عالمية.
أثر عمر رضي الله عنه لما أراد أن يحدد المهور كما استدل الكاتب هذا، فلم تحكم، وإنما كانت تبدي رأيها، ونحن نقبل رأي المرأة كما نقبل رأي الرجل إذا أرادت أن تبديه، وقد تصيب المرأة ويخطئ الرجل لا شك في ذلك.
أما حديث: (النساء شقائق الرجال)، فصحيح أنهن شقائق الرجال، لكن أن تحكم المرأة على الرجال! هذا خلاف المألوف في تاريخ الأمة الإسلامية، ولذلك نقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)، وأولئك الذين تولى أمرهم امرأة الله تعالى يتولى شأنهم نحن لا ندري ماذا في الغيب، ولكننا نقول: الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة).
أما خالد محمد خالد فأنا لا أحذركم من كتبه، ولكن أقول: لا تطمئنوا إلى كتبه، ولا تنسجموا معها، فالرجل يقول: إنه استقام، وكان منحرفاً وأظنه هو الذي قال: لا يؤمر بقطع يد السارق كما لا يؤمر بقطع ذكر الزاني؟ اعتراض على الله سبحانه وتعالى.
وعلى كل فإننا نقول: حتى لو قدرنا أن هذا الرجل استقام، فهو بشر يخطئ ويصيب، لكني أنا أشك في كتبه وآمر بالحذر لمن أراد أن يقرأ كتب خالد محمد خالد أو غيره من الذين مروا بفترة من الفترات التي فيها انحراف، والله المستعان.(34/23)
حكم لعن النساء المتبرجات
السؤال
بعض الشباب يلعن النساء المتبرجات عندما يراهن، فهل هذا يجوز، مستدلاً بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (العنوهن فإنهن ملعونات)؟
الجواب
هذا لا يجوز، والرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن لعن المرأة الزانية، لما رجم الرسول المرأة الغامدية وقد زنت واعترفت بالزنا وولدت من الزنا، ولعنها أحد الصحابة لما أصابه شيء من دمها وهو يرجمها، قال: (لا تلعنها فإنها تابت توبة لو قسمت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم).
وعلى كل فإن لعن الحي لا يجوز حتى لو كان كافراً بعينه؛ لأن اللعن معناه التسبب بالطرد والإبعاد عن رحمة الله سبحانه وتعالى، ويا حبذا لو دعونا لهن بالهداية.
أما أن الرسول قال: (العنوهن فإنهن ملعونات)، أظنه ليس في المرأة المتبرجة، وإنما في المرأة التي تريد أن تنافس الرجل على طبيعته وفطرته لا المرأة المتبرجة، أما المرأة المتبرجة فإنها امرأة عاصية، نسأل الله تعالى أن يردها إلى الطريق المستقيم، ونرشدها نحن إلى الطريق المستقيمة، أما اللعن فإنه ليس من صفات المؤمن: (ليس المؤمن باللعان ولا الطعان).(34/24)
حكم الخلوة بالمرأة في السفر
السؤال
هل يجوز لي أن أحمل معي في السيارة نساء لسن بمحارم لي ومعهن أحد محارمي كأمي أو زوجتي أو أختي؟
الجواب
نعم يجوز إذا لم يكن ذلك سفراً، المهم ألا تكون واحدة؛ لأنها لو كانت واحدة لكانت خلوة والخلوة محرمة، أما أن يكون العدد أكثر من واحدة، حتى لو لم يكن معك أحد من محارمك، إلا أن الاحتياط أن يكون معك من محارمك من تستأنس به، المهم ألا تكون خلوة وألا يكون هناك سفر، فإذا كانت هناك خلوة فإن هذا محرم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يخلون رجل وامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما)، وإذا كان هناك سفر فلا يجوز ولو كان عدد من النساء ما دمن لسن من المحارم، ولو كانت معك محرم من محارمك كزوجتك أو أختك؛ لأن النساء اللاتي يسافرن معك بدون محرم عملن محرماً، وأنت أيضاً عملت محرماً؛ لأن في هذا معصية لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم حينما نهى أن تسافر المرأة بدون محرم.
وهناك رأي لبعض العلماء يقولون: إذا كانت هناك رفقة نساء فيجوز أن تسافر معهن امرأة ليس معها محرم ما دامت مع نساء ولو كان سفراً طويلاً، لكن هذا الرأي وإن كان صاحبه محترماً إلا أنه خلاف الحديث: (لا يحل لامرأة أن تسافر إلا ومعها ذو محرم)، والرسول صلى الله عليه وسلم علم أن رجلاً اكتتب في غزوة كذا وكذا لما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرأة أن تسافر إلا ومعها ذو محرم، قال: يا رسول الله! اكتتبت في غزوة كذا وكذا، وزوجتي ذهبت حاجة، قال: ارجع فاذهب مع زوجتك فحج معها)، كون الرسول صلى الله عليه وسلم يرد رجلاً عن القتال في سبيل الله من أجل أن يحج مع زوجته حتى لا تسافر إلا مع محرم دليل قاطع على أنه لا يحل للمرأة أن تسافر إلا ومعها محرم ولو كان معها رفقة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يسأل صاحب هذه المرأة أمعها رفقة أم ليس معها رفقة؟ والله أعلم.(34/25)
حكم تعدد الزوجات وأدلة ذلك
السؤال
ذكرتم أن تعدد الزوجات من السنة، ومن الأشياء المحببة إلى الله، ونحن قد سمعنا من بعض العلماء ورجال الدعوة من ينكر على من تزوج فوق امرأته الأولى دونما سبب.
أفتونا في هذا جزاكم الله خيراً؟
الجواب
الذي ينكر على من تزوج نعوذ بالله من حاله: وهو إما أن يكون رجلاً جاهلاً، وإما أن يكون رجلاً مرتداً عن الإسلام، ومن أنكر تعدد الزوجات فهو مرتد عن الإسلام؛ لأنه أنكر صريح القرآن، ومن أنكر شيئاً من كتاب الله عز وجل فهو مرتد كافر يجب أن يستتاب في الحال فإن تاب وإلا قتل، إلا إذا كان مثله يجهل.
وعلى كل نقول: الذي يدل عليه القرآن والسنة أن تعدد الزوجات سنة وليس بمباح، وهذا الذي أعتقده أنا بأدلة: أولاً: أن الله تعالى قدم التعدد على الإفراد في قوله تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء:3].
ثانياً: أن الله تعالى أمر بالواحدة في حال الخوف، مما يدل على أنه حينما يؤمن الخوف يكون التعدد أفضل؛ لأن القاعدة أن كل شيء نهي عنه في حال الخوف فغيره أفضل في حال عدم الخوف.
ثالثاً: أن الله تعالى حرم الميل بجميع أنواعه، ولكنه أباح شيئاً من الميل مع التعدد، مما يدل على أهمية التعدد فقال الله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} [النساء:129]، يعني بعض الميل الذي هو ميل القلب لا يؤاخذ عليه الإنسان ولذلك أبيح؛ لأن مصلحة التعدد أكبر.
رابعاً: وهو الدليل القاطع الذي يجب أن نؤمن به جميعاً: أنه هو الذي فعله الرسول صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يفعل إلا الأفضل، ولو لم يكن خيراً لما سبقنا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.(34/26)
نصيحة جار لديه مسبح عائلي
السؤال
لدي جار وفي بيته مسبح للسباحة، وشقتي تطل على جانب منه مثلها مثل شقق كثيرة غيرها، ويسبح الجار مع زوجاته وبناته في المسبح، فما دوري كي أنهيه؟
الجواب
أولاً: عليك يا أخي! ألا تطل عليه؛ لأن هذه عورات لا يجوز للإنسان أن ينظر إليها.
ثانياً: على هذا الرجل أن يتقي الله عز وجل، وإذا كان اتخذ مسبحاً في بيته أن يظلله وأن يغطيه حتى لا ينظر إليه أحد.
وعليك يا أخي! أن تنصحه؛ لأنك حتى لو غضضت عنه البصر، فلربما يأتي جار أو إنسان آخر لا يغض البصر، نقول: انصحه، وعليه ما دام قد اتخذ هذا المسبح ويسبح فيه هو وزوجته فعليه أن يظلله وأن يغطيه حتى لا تصل إليه أعين الناس.(34/27)
حكم زيارة الأهل مع ما هم فيه من المنكرات
السؤال
زوجتي إذا ذهبت إلى أهلها فإن في ببيت أهلها تلفاز، والموسيقى والغفلة، وإني أعلم منها عدم استطاعتها على إنكار ما عندهم من منكر، وأيضاً هم لا يقبلون منا النصيحة، فماذا أفعل، أفيدونا جزاكم الله خيراً؟
الجواب
أولاً: هي لا يجوز لها أن تقاطع أهلها؛ لأن صلة الرحم أمر مطلوب، كما أن عليها أن تغض بصرها فلا تنظر إلى التلفاز ولا إلى غيره بما فيه الصور الفاتنة، فتذهب لزيارة أهلها ولا تقطعها عن زيارة أهلها، وعليها أن تجتنب المنكر كما أن عليها أن تقدم النصيحة بين فترة وأخرى لأهلها، وتستعين بالله على ذلك.(34/28)
وأد المرأة في الجاهلية
السؤال
بعض الناس ممن يحسبون أنفسهم مثقفين يقولون: إن وأد النساء وعدم إعطائهن بعض ما يكرمهن مما ذكره القرآن والسنة قد بالغ فيه الإسلام، على حين أنه كان يحدث بشكل بسيط جداً، وأنه كانت هناك حقوق للمرأة في الجاهلية؟
الجواب
صحيح أن وأد البنات ليس صفة من صفات أهل الجاهلية كلهم، لكن لا شك أنه صفة من صفات بعض الناس في ذلك الوقت، والله تعالى يقول وهو أصدق القائلين: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:8 - 9]، وذكر المؤرخون أنهم كانوا يئدون البنات، بل إن الله تعالى قال: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى} [النحل:58]، فكلمة، (أَحَدُهُمْ)، تدل على الكثرة، {ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ} [النحل:58 - 59]، يعني: على ذلة، {أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} [النحل:59]، الذي هو الوأد.
وعلى كل حتى المؤرخين قالوا: إن الوأد لم يقع في أشراف القوم وعليتهم، وإنما وقع في بعضهم، لكن الإسلام ما قال: إن كل النساء كانت توأد في الجاهلية، حتى يقول هذا الأخ: إن الإسلام بالغ، وإنما ذكر الله عز وجل أن هناك من يئد النساء، ولو كن النساء كلهن يوأدن في الجاهلية ما بقي نسل بني آدم في تلك الفترة، وعلى كل فإننا نقول: الله عز وجل لا شك أنه أكرم المرأة، وحتى لو قلنا: إن امرأة واحدة كان نصيبها أن توأد في الجاهلية ثم جاء الإسلام فأنقذها، فإن الإسلام يعتبر هو محرر المرأة، وهو الذي أثبت حقوقها، ويكفيكم أن الله سبحانه وتعالى أعطاها كل حقوقها من الميراث والإنسانية والبشرية والبيع والشراء والتعامل، هذه كلها حقوق؛ إذ كل حقوقها قد ضمنها الإسلام، ولكن الإسلام أيضاً لم يترك ثغرة لهؤلاء الناس الذين جاءوا في هذا العصر وفي هذه الفترة ليزعموا أنهم أنصار المرأة أو أنهم يدافعون عن حقوق المرأة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(34/29)
شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن
خص الله تعالى شهر رمضان بخصائص عظيمة، وميزه بمميزات جليلة، أعظمها أنه أنزل فيه القرآن، فينبغي للمسلم أن يكثر من قراءة القرآن ومدارسته فيه، فقد كان صلى الله عليه وسلم يلتقي بجبريل عليه السلام ليالي رمضان فيدارسه القرآن، وهذا هو دأب الصحابة والتابعين، وهو شأن العلماء الربانيين، فقد كانوا يتركون حلق العلم في رمضان؛ ليتفرغوا لقراءة القرآن.
وتلك القراءة قراءة تدبر وتفكر تورث الخشوع والخضوع والعمل والانقياد، والقرآن ليس للقراءة فقط بل يقرأ لتحكيمه والعمل به والدعوة إليه.(35/1)
شدة إقبال الناس على الطاعات بأنواعها في رمضان
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، قيماً لينذر بأساً شديداً من لدنه، وتبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وبارك، وعلى آله ومن دعا بدعوته وعمل بسنته ونصح لأمته إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الأحبة في الله! إنها لفرصة عظيمة في موسم عظيم بجوار كعبة الله المشرفة في ليالي رمضان المبارك، في ليلة تدلف كثيراً إلى ليلة بدر الكبرى التي سمى الله عز وجل يومها: يوم الفرقان، لذلك فإنه يحسن بنا اليوم أن نصيخ بالآذان وأن نفتح القلوب والأفئدة، لاسيما في فترة أقبلت الأمة فيها إلى ربها سبحانه وتعالى وعلى ملتها الإسلام، لكنها فترة فيها ما فيها من التخلف ومن الفتن والمصائب التي تطغى على الأمة الإسلامية، إلا أن إقبال مثل هؤلاء الشباب -الذين أشاهد كثيراً منهم أمامي- في هذه اللحظات على الخير والعلم والمحاضرات الإسلامية يدل دلالة واضحة على أن العودة إلى الله عز وجل وشيكة، وأن هذه الأمة لا تزال في خير حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
أيها الإخوة! وكلما أقبل على المسلمين شهر رمضان المبارك تاقت نفوسهم إلى موسم من مواسم العبادة، وإلى فرصة من فرص الخيرات، التي يمن الله عز وجل بها على عباده، لاسيما وأن شهر رمضان العظيم المبارك فيه فرص لمغفرة الذنوب، وفتح أبواب الجنة، وإغلاق النار وأبوابها، وتصفيد مردة الشياطين، وهو أيضاً مجال وفرصة للتقوى لله عز وجل، ولذلك يقول الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183].
فلا تعجب يا أخي المسلم! وأنت ترى المساجد تكتظ بالمصلين وبالتالين لكتاب الله عز وجل، وترى المسجد الحرام عن يمينك وهو يكتظ بالمسلمين من كل فج عميق، إنها التقوى التي أخبر الله عز وجل عنها في قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183].
ثم لا تعجب يا أخي! وأنت ترى أبواب الخير الأخرى تفتح نفسها على مصراعين واسعين بالبذل والعطاء والسخاء والكرم، حينما يمد أصحاب الأموال أيديهم إلى إخوانهم المضطرين وما أكثرهم في العالم الإسلامي، ثم لا تعجب! وأنت ترى في هذه الحقبة من التاريخ وفي شهر رمضان بصفة خاصة كثرة التائبين والعائدين إلى الله عز وجل، إنها نعمة من نعم الله عز وجل، ومنحة يمنحها الله عز وجل لهؤلاء المسلمين لاسيما في شهر رمضان.(35/2)
رمضان والجهاد في سبيل الله
أما شهر رمضان فإنه شهر خير، وله على هذه الأمة أيادي بيضاء، لعل من أهمها ما كتبه الله عز وجل من النصر المؤزر لهذه الأمة في أيامه المضيئة ولياليه الساهرة على عبادة الله عز وجل، إنك لتعجب حينما تقلب صفحات تاريخ أمتنا التي أخذت بهذا الدين، وعضت عليه بالنواجذ، وأنت ترى في شهر رمضان مثل غزوة بدر الكبرى، التي تعتبر غرة في تاريخ الأمة الإسلامية، علماً أنها أول غزوة في تاريخ هذه الأمة يلتقي فيها عدد قليل من المسلمين عزل من السلاح مع عدد كبير مدجج بأرقى أنواع أسلحة ذلك العصر، ثم تكون النتيجة النصر للأمة الإسلامية والهزيمة للكافرين: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ} [آل عمران:13].
تلكم المعركة التي سماها الله عز وجل الفرقان؛ لأنها فرقت بين الحق والباطل، وكانت في ليلة السابع عشر من شهر رمضان، والتي نزلت فيها الملائكة تقاتل مع المسلمين قال تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال:12 - 13]، يقول أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصف لنا مجريات المعركة: (والله إننا لنرى الرأس يطير من مكانه، ونرى اليد تطير ولا نرى من يقطعها)؛ لأن الله تعالى يقول: (فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان).
وفي ليلة العشرين من رمضان في السنة الثامنة من الهجرة فتح المسلمون بقيادة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم مكة المكرمة، وغيرّ ذلكم الفتح مجرى تاريخ الحياة كلها حتى تحولت مكة من أرض للوثنية يعبد فيها غير الله عز وجل في ستين وثلاثمائة صنم إلى أرض يعبد فيها الله، وصار الناس بعد ذلك يدخلون في دين الله أفواجاً.
وفي رمضان فتح المسلمون بلاد الأندلس ودخلوها، وفي شهر رمضان وقعت موقعة عين جالوت التي انتصر فيها المسلمون بقيادة قطز على التتر، وكان المثل السائد وقتئذ: إن التتر لا يغلبون.
وهكذا يجب أن يفهم المسلمون كافة أن شهر رمضان ليس موسم نوم وموائد خاصة، ولكنه موسم عبادة وجهاد في سبيل الله تعالى، حينما يدرك المسلمون هذه الدروس، وهم يضمدون الجراح التي تتكرر في كل يوم، بل في كل لحظة على الأمة الإسلامية، حينئذ ينهضون من جديد ليكون الدين كله لله: {حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة:193].(35/3)
رمضان والقرآن العظيم
إن الفرصة العظمى والهدية الكبرى من الله عز وجل في شهر رمضان المبارك هي نزول القرآن العظيم، الذي يقول الله عز وجل عنه: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185]، ولعل هذه الفقرة هي موضوع حديثنا في هذه الليلة بإذن الله تعالى.(35/4)
هداية القرآن والآثار المترتبة على تحكيمه
لأي شيء نزل القرآن؟ العلمانيون عليهم لعنة الله إلى يوم القيامة يقولون: نزل القرآن للعبادة فقط، فهو عندهم منهج عبادة وليس منهج حياة، لا يتدخل في أنظمة الحكم أو السياسة أو الاقتصاد أو الأخلاق أو الأنظمة الاجتماعية، بل يقتصر على المسجد فحسب ولا يتعدى المسجد، لكن الله عز وجل يقول عنه: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَان} [البقرة:185].
ومن هنا ندرك أيها الأخ الكريم! أن هذا القرآن ليس منهج عبادة فحسب؛ لكنه منهج حياة متكاملة كما قال عنه سبحانه وتعالى الذي أنزله: (هدى للناس).
وهدى: نكرة، أي: هدى للناس في كل أمر من الأمور، هدى للناس في منهج حياتهم الفردية الخاصة، ومنهج حياتهم الأسرية، ومنهج حياتهم الاجتماعية والعالمية، هدى للناس في نظام الحكم والسياسة، وأي سياسة وأي حكم لا يستمد من كتاب الله عز وجل فهو حكم كافر مارق عن الدين، لا يصلح أن يقود الحياة؛ ودليلنا على ذلك واقع العالم الذي انحرف عن منهج الله عز وجل في أيامنا الحاضرة، فإننا نرى أمماً تسير إلى الهاوية من جانب، كما أنها تقود نفسها إلى الدمار والبوار من جوانب كثيرة، تتعقد الحياة وتلتبس عليهم السبل؛ لأنهم يفقدون القيادة الحكيمة الرشيدة التي تستمد من كتاب الله عز وجل، وهذا شيء مشاهد في تاريخ البشرية في القديم والحديث.
بل إن الله عز وجل أخبرنا بأن هذا العالم سوف يبقى في شقاق ونزاع؛ حتى يحكم نفسه بشرع الله عز وجل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وحينئذ يكون الأمن والطمأنينة، وتكون الحياة الرخية السعيدة الآمنة المطمئنة، يقول سبحانه وتعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} [البقرة:137]، هكذا الأمم تهتدي وهكذا تنحرف عن منهج الهداية فتكون في شقاق.
بل إن الله سبحانه وتعالى يكفل سعادتين اثنتين لمن انقاد لكتاب الله عز وجل وسار على منهجه، وشقاوتين لمن انحرف عن هذا المنهج القويم، يقول سبحانه وتعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:123 - 124]، والمعيشة الضنك التي يعيشها العالم بصفة عامة، ولربما يعيشها العالم الإسلامي بصفة خاصة، إنما هي جزاء بمقدار انحراف الأمة عن هذا المنهج القويم، فقر ومسغبة وجهل وتنصير يسابق الشمس على مطالعها في بلاد المسلمين، وأمور عظام وسفك للدماء وانتهاك للأعراض وسلب للأموال والحريات في أكثر العالم الإسلامي، وهذا كله بسبب إعراضه عن كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، معيشة ضنك هذه عقوبة الدنيا، أما العقوبة في الآخرة فهي أن يحشره يوم القيامة أعمى.
إذاً: الأمة الإسلامية مطالبة بمجموعها وأفرادها، بحكامها وشعوبها، أن تحكم هذا العالم بشرع الله عز وجل.
القادة مطالبون بذلك والشعوب أيضاً مطالبون؛ لأن تحاكم الشعوب إلى غير شرع الله يعتبر أيضاً كفراً وردة: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:60].
إذاً: يا أخي الكريم! ما يحصل اليوم من الأخبار المؤلمة التي يدمى لها قلب المؤمن، إنما هي بسبب إعراض هذا العالم عن منهج الله وعن دين الله عز وجل، ولن تعود للأمة الإسلامية هيبتها وعزتها وكرامتها إلا بمقدار ما تعود إلى الله عز وجل، وتحكم دينه وشرعه في كل صغيرة وكبيرة.
أما هؤلاء الحكام الذين نرى أكثرهم يفكر أن يخدر هذه الشعوب، إما باللهو والترف أو بالمعصية، ثم بعد ذلك يظنون أن الشعوب قد نامت على هذا المتاع، صحيح قد تنام مدة من الزمن، لكنها لا بد أن تستيقظ وإذا استيقظت فإن عظمة هذا الدين هي التي تحرك الهمم وتقود هذه الشعوب إلى طريق أفضل، وحينئذ تكون الأمور كما تسمعون عنها أمم خدرت مدة طويلة من الزمن، لكن الفطرة ما زالت موجودة فيها والخير مركوز في سويداء قلوبها، فإذا بها تستيقظ هذه اليقظة التي تسمعون أخبارها في الجزائر أو في مصر أو في تونس أو في أي مكان من الأرض، بالرغم من التمهيد الطويل في ضياع هذه الشعوب، لكنها لا بد أن تستيقظ؛ لأن دين الله عز وجل فطرة فطر الله عز وجل الناس عليها.
إذاً: ليس هناك طريق تستطيع أي قيادة أن تقود الشعوب من خلاله إلا بحكم الله عز وجل، وإلا بمنهجه القويم الذي أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير، ومن هنا نقول: إن السياسة جزء من هذا الدين، وإن الحكم يجب أن يكون لله عز وجل، وإن الشعوب لا تخضع ولا تقاد إلا بشرع الله عز وجل، ومن فكر في غير ذلك فعليه أن يصحح مساره.
أما حكم العالم الإسلامي بغير شرع الله فهو الكفر والردة والظلم والفسق والخروج عن الطاعة: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47]، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [النور:48 - 50]، ومن هنا ندرك جانباً من معاني قول الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ} [البقرة:185].
إذاً: القرآن مصدر هداية تنطلق منه سياسة الأمم المسلمة وسياسة القيادات المسلمة، وأي قيادة لا تنطلق من شرع الله عز وجل فإنها فاشلة، لا يمكن أن يكون لها البقاء، لاسيما حينما تستيقظ الشعوب، ونحن اليوم في عصر الصحوة الإسلامية التي ظهرت بوادرها في أيامنا الحاضرة.(35/5)
هداية القرآن وتعلق الأمن به
أيضاً هو هدى للناس في كل أنظمة الحياة، فمثلاً: كل العالم يسعى إلى الأمن ويطلب الأمن، ويقدم كل ما يستطيع من أجل أن يتحقق الأمن لأمة من الأمم، الدول الكبرى الكافرة خاضت منذ عشرات السنين حربين عالميتين، خسرت من خلالهما عشرات الملايين من البشر؛ بحثاً عن الأمن، ولكن الأمن لا يتحقق لها.
الإحصائيات الرسمية تسجل الجريمة في الدقيقة والثانية في بلاد التطور التي صنعت كل وسائل الاكتشاف، ومع ذلك لا تملك الأمن من خلال الحروب المدمرة أو الصناعات المتطورة أو العقول المفكرة، وإنما تملك الأمن من خلال عقيدة صحيحة؛ لأن الله تعالى يقول: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82].
الأمن على الأموال: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} [المائدة:38].
الأمن على الأعراض: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2].
الأمن على السمعة: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور:4].
الأمن على المعتقدات: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ} [التوبة:12].
(من بدل دينه فاقتلوه).
الأمن على العقول في جلد شارب الخمر.
الأمن على الأمن في عقوبات قطاع الطريق: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة:33].
إذاً: الأمن إنما هو من خلال هذا الدين.
الأمن على الدماء في القصاص، وقديماً كان العربي يقول قبل الإسلام: القتل أنفى للقتل، حتى أنزل الله عز وجل ما هو أبلغ من ذلك: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة:179] قتل القاتل الذي يريد أن يهدد أمن الأمة أو يفسد في هذه الأرض، فهذا القتل وهذا القصاص هو حياة للأمة؛ لأن الذي يفكر في القتل حينما يعلم أن مصيره القتل يكف عن قتل غيره؛ ليحفظ دمه، يقول الله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة:179].
إذاً: هذا القرآن منهج أمن، يقول الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ} [الأنعام:82] و (ال) في الأمن هنا: للاستغراق، كما أنه أمن في الدنيا أيضاً هو أمن في الآخرة {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} [الأنبياء:103].
إذاً: هذا القرآن هدى للناس؛ لكن بشرط أن يستهدي به هؤلاء الناس، وأن يرفعوه فوق رءوسهم وأن يطبقوه، ولا يكفي في تطبيقه أن يحفظ أو تكثر حلق حفظ القرآن، ولكن يجب أن يحمل في القلوب وأن يطبق في المجتمعات، وحينئذ يتحقق الهدى الذي يقول الله عز وجل عنه: (هدى للناس).(35/6)
هداية القرآن وتنظيم الأموال من حيث الاكتساب والإنفاق
القرآن أيضاً نظام حياة اقتصادية، فيهتدي الناس من خلاله إلى أفضل طريق في تنظيم الأموال، وذلك في طريق الحصول عليها بحيث لا يكسبونها من الحرام؛ لأن كسبها من الحرام والربا يعرضها للتلف والدمار، يقول الله تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} [البقرة:276].
كما أن هذا القرآن ينظم الأموال في طرق استعمالها بحيث تدور بين الناس وتنتقل من طبقة إلى طبقة وفئة إلى فئة وإنسان إلى إنسان وجيل إلى جيل حتى يرث الله الأرض ومن عليها، بطريقة مباحة من النفقات والكفارات والزكوات وما أشبه ذلك.
ثم هو أيضاً هدى للناس بطريق صرف هذه الأموال، فلا تصرف فيما حرم الله عز وجل ولا فيما يضر بالفرد أو بالمجتمع، يقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان:67].(35/7)
هداية القرآن وتنظيم حياة الناس الاجتماعية
وهو هدى في تنظيم حياة الناس الاجتماعية، فيرتبط الابن بأبيه، والفرد بالأسرة، والأسرة بالأسرة الأخرى، والمجتمع بالمجتمع، والعالم الإسلامي كله؛ من خلال روابط وشيجة هي روابط الأخوة في الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10].
إذاً: أقام القرآن العلاقات بين الناس: علاقة المسلم بالمسلم وعلاقته بغيره في أي مكان من الأرض، بنظام رتيب لا يدرك عظمته إلا الله عز وجل، فهو نظام اجتماعي يفرض الاحترام من الابن للأبوين: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23] وفقاً للعواطف البشرية التي فطر الله عز وجل الناس عليها، كذلك بين الأب وأبنائه، بين الإخوة والعشيرة وبين أفراد المجتمع المسلم كله، ليس لابن بيضاء على ابن سوداء فضل إلا بالتقوى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13].
والقرآن هدى للناس ونظام في كل جوانب حياتهم وفي الأخلاق والسلوك، فقد شرع هذا القرآن العظيم من الأخلاق والسلوك والآداب والأنظمة ما لا تستغني عنه أمة من الأمم، مهما كان موقعها في هذه الحياة، فنهى الله عز وجل عن التبرج وأمر بغض البصر وحفظ الفرج، فقال سبحانه وتعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:30 - 31] إلى آخر الآية.(35/8)
هداية القرآن وتنظيم الصفوف وتوحيدها بتشريع العبادات والمعاملات
إن القرآن شرع من العبادات ما توحد الصف وتلم الشعث وتربط القلوب بين المسلم والمسلم فالصلاة يقف فيها المسلمان مهما اختلفت طبقاتهما جنباً إلى جنب في صف واحد، الكل ينحني ويسجد لله عز وجل في آن واحد.
كذلك الصيام يكف الناس عن الطعام في لحظة واحدة ويتناولونه في لحظة واحدة.
الزكاة وهي تكفل حق الفقير في مال الغني.
الحج الذي يلتقي فيه المسلم مع المسلم الآخر في أي مكان من الأرض على صعيد واحد، وهكذا سائر العبادات.
أما المعاملات فقد جاء هذا القرآن العظيم بأفضل طريق للتعامل بين المسلم والمسلم، ووضع ضوابط وأسساً وقواعد لا تستغني عنها أمة من الأمم، ومن هنا نستطيع أن ندرك قول الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ} [البقرة:185] فهو مصدر هداية لا تستغني عنها الأمة، ولو أن هذه الأمة فكرت في الاستغناء عن هذه الهداية أو استبدالها بأي نظام من الأنظمة الأخرى فحينئذ يحدث ما يحدث من الخلل، كما يحدث في عالمنا اليوم وفي دنيا الناس اليوم، ويأبى الله عز وجل أن يختلط الحابل بالنابل، وذلك حتى يعود الناس جميعاً إلى دين الله سبحانه وتعالى.
أختم حديثي هذا سائلاً الله عز وجل أن يرد المسلمين إليه رداً جميلاً، وأن يأتي الوقت الذي يقول الله عز وجل فيه: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16]، لقد آن وليس غريباً أن تعود القلوب القاسية إلى الله عز وجل؛ لأن الله تعالى يقول: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الحديد:17] أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(35/9)
الأسئلة(35/10)
بيان مصارف الزكاة وحكم إعطائها لهيئة الإغاثة لتوزيعها خارج البلاد
السؤال
شهر رمضان هو شهر الزكاة، نرجو بيان نصيب كل فرد في الزكاة، وهل يمكن إخراجها لهيئة الإغاثة لتوزيعها لمستحقيها خارج البلاد؟
الجواب
هذه الزكاة بين مصارفها الله تعالى فقال: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ} [التوبة:60] والمراد بالصدقات هنا الزكاة الواجبة، {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} [التوبة:60]، هؤلاء هم أهل الزكاة، وهذه الآية ذكرت أصحاب الزكاة، لكن طريق إخراج الزكاة يختلف في كل عصر، المهم أن تصل إلى هؤلاء، سواء كانت تصل من يدك إلى يد واحد منهم مباشرة أو عن طريق هيئات رسمية إذا كانت موثوقة.
فالأخ يسأل عن هيئة الإغاثة، أنا لا أزكي هيئة الإغاثة وإن كنت أحد أعضائها المسئولين عن اللجنة الشرعية، لكني أقول: فيها خير إن شاء الله، لكن إن استطعت يا أخي أن توصل زكاتك مباشرة إلى الفقير فذلك خير، وإلا فهذه الهيئات ربما تخدمك، لكن علينا أن نشترط كيف تصرف هذه الأموال حينما نسلمها للهيئة.
والشيء الذي يجب أن ننتبه له اليوم أن الزكاة تتعدى الحواجز السياسية والطبيعية والجغرافية التي صنعها البشر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول عن الزكاة: (تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم) والضمير هنا ليس السعودية أو مصر أو الجزائر أو اليمن، قوله: (من أغنيائهم) أي: من أغنياء المسلمين قوله: (وترد على فقرائهم) أي: على فقراء المسلمين.
إذاًَ: هذه الآية تعتبر فوق الحدود التي صنعها البشر، وعلى المسلم إذا أراد أن يؤدي زكاته أن يبحث عن مكان أفضل، لاسيما ونحن نسمع وأنتم تسمعون بل رأينا المجاعات والنكبات والكوارث التي تحل في العالم الإسلامي في كل يوم وفي كل ساعة، ولربما يرتد كثير من أبناء المسلمين عن دينهم في بعض المناطق كبعض دول أفريقيا التي اشتغل فيها التنصير على قدم وساق، وما أشبهها من المناطق الأخرى.
إذاً: أقول: يا أخي! لا يمنع أن تخرج زكاتك خارج بلادك، بل هي بلادك ما دامت بلاد المسلمين، لكن احذر أن تقع في يد الكافرين؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من أغنيائهم) الضمير يعود للمسلمين: (وترد على فقرائهم).
ثم أيضاً عليك يا أخي! أن تبحث عن المكان الأحوج، صحيح حينما يتساوى فقراء بلادنا بفقراء المسلمين في المناطق الأخرى أن فقراء بلادنا أحوج، لكن إذا كان وضعنا كوضعنا الحاضر بحيث أصبح فقراؤنا في كثير من الأحيان على مستوى الأغنياء، فلا يمنع أن تخرجها يا أخي إلى بعض بلاد المسلمين الأخرى، بل ذلك خير.(35/11)
حكم الحج والعمرة عن الأم أو غيرها فريضة أو نفلاً
السؤال
ما حكم من يريد أن يعتمر عن أمه فريضة العمرة مع العلم أنها على قيد الحياة؟ وكيف يكون أداء العمرة؟
الجواب
أولاً يا أخي هل حجت أمك؟ وهل حججت عنها؟ إذا كانت أمك لم تحج وهي قادرة على الحج، فإنه يلزمها أن تحج، وإذا كانت عاجزة فلها أن توكلك وتحج عنها، والعمرة نفس الشيء، إذا كانت قادرة على العمرة فلتعتمر هي، وإذا كانت غير قادرة فاعتمر عنها، لكن إذا كانت أمك قد حجت واعتمرت وتريد أن تحج عنها تطوعاً، ففي مثل هذه الحال يجوز، فتخرج إلى التنعيم (مسجد عائشة رضي الله عنها)، أو إلى الجعرانة أو إلى أي حد من حدود الحرم، وتنوي العمرة عن أمك، وتلبي قائلاً: لبيك اللهم عن أمي فلانة، وتؤدي مناسك العمرة، فهذا جائز إذا كانت العمرة نفلاً، أما إذا كان الحج والعمرة فريضة فإنه لا يجوز، إلا إذا كانت أمك عاجزة عن الحج.(35/12)
حكم مشاهدة النساء للمحاضرات المصورة للمشايخ
السؤال
ما حكم مشاهدة النساء للمحاضرات التي يلقيها المشايخ الفضلاء؟
الجواب
مشاهدة المرأة محاضرات المشايخ من خلال التلفاز أسهل من مشاهدتها للمسرحيات، لكن نقول: لا حاجة إلى الصورة؛ لأن العبرة بالصوت لا بالصورة، فأرى أنها لا تحتاج إلى الصورة، لكن لو احتاجت إلى الصورة، وكانت الصورة طبيعية ليس فيها أمور تخالف المروءة، فلا بأس أن تنظر إلى الرجل، وليس صحيحاً ما يظنه بعض الناس من أن نظر المرأة إلى الرجل محرم، والحديث: (أفعمياوان أنتما؟) حديث ضعيف.
إذاً: يجوز للمرأة أن تنظر إلى صورة الرجل بشرط أن تكون الصورة طبيعية وبدون شهوة، لكن أقول: الأفضل للمرأة أن تستغني عن الصورة بسماع الصوت.
أما مشاهدة النساء للصور الفاتنة الموجودة في الفيديو والتلفاز وما أشبه ذلك، فهذا لا يجوز، وهو شيء خطير إذا كانت هذه الصور تلفت النظر.(35/13)
حكم تصوير المحاضرات بآلة التصوير في المسجد
السؤال
هناك جهاز تصوير داخل هذا المصلى لتصوير المحاضرات، ما رأيكم في ذلك حفظكم الله؟
الجواب
هذا في الحقيقة يستغنى عنه، لكن لا نقول: إنه محرم؛ لأن هذا يرجع إلى أصل الصورة، هل هذه تسمى صورة أو لا تسمى صورة، هذا مختلف فيه بين علماء العصر، قد لا تكون هذه الصورة حقيقية لكن الاستغناء عن هذا الشيء خير وأفضل، والصوت أنفع من الصورة؛ لأن الصورة يستغنى عنها بالصوت.(35/14)
حكم الخروج إلى الجهاد العيني والكفائي دون إذن الأم
السؤال
شاب يريد أن يذهب إلى ساحات الجهاد وأمه تمنعه فما الحكم؟
الجواب
إن كان هذا الجهاد فرض عين فإنك لا تلتفت إلى منع أمك، وإن كان فرض كفاية فعليك أن ترجع وتطيع أمك، ولا تذهب إلى ساحات الجهاد إلا بعد أن ترضى أمك بذهابك، والجهاد بالنفس في مناطق الجهاد الموجودة في العالم الآن كله فرض كفاية؛ لأن المناطق التي فيها الجهاد بعيدة منا، ولا يكون الجهاد فرض عين إلا في حالتين: الأولى: إذا هجم العدو على بلاد المسلمين، ففي هذه الحالة يصير كل واحد من المسلمين مطالباً بالدفاع عن أرض المسلمين وعن هذا الدين.
الحالة الثانية: إذا هجم العدو على جيراننا الذين لا يستطيعون دفع هذا العدو إلا عن طريقنا، ونحن أقرب الناس إليهم؛ ففي هذه الحالة يصير الجهاد في تلك البلاد فرض عين علينا.(35/15)
حكم من يكثر من النوم في نهار رمضان مع المحافظة على الصلوات
السؤال
هناك بعض الصائمين ينام من بعد صلاة الفجر حتى صلاة الظهر، ثم يصلي الظهر وينام حتى صلاة العصر، ثم يصلي العصر وبعدها لا يقرأ القرآن فما نصيحتكم لمثل هذا؟
الجواب
والله هذا أعتبره إن شاء الله من الصالحين ما دام أنه يصلي، أما من تسحروا قبل الفجر بساعتين وناموا إلى العصر نعوذ بالله، فهؤلاء أعتقد أن شهر رمضان لا يزيدهم من الله عز وجل إلا بعداً؛ لأنهم ناموا عن الصلاة المكتوبة، والصلاة أهم وأعظم عند الله من الصيام، أما الذي يقوم للصلوات ثم ينام؛ فهذا فرط في اغتنام الأوقات؛ لأنه أكثر من النوم، وأخشى ألا يستطيع النوم في الليل وأن يضيع الليل كما ضيع النهار، وخير لهذا المسلم أن يجعل له ساعات في قراءة القرآن كما كان سلفنا الصالح يقبلون على تلاوة القرآن في رمضان، ولقد كانوا يهجرون مجالس العلم في رمضان؛ ليتفرغوا لتلاوة القرآن والعبادة، فأقول: يا أخي! شهر رمضان ليس مجالاً للنوم، ولكنه مجال للعبادة.(35/16)
عدد ركعات صلاة التراويح
السؤال
هل لصلاة التراويح ركعات محدودة؟
الجواب
اختلف العلماء في صلاة التراويح، وكل على خير، فمن صلى إحدى عشرة ركعة فهو في خير، ومن صلى ثلاثاً وعشرين ركعة فهو في خير، حتى إن بعض العلماء زاد في العدد أكثر من ذلك، المهم أن تصلي خلف الإمام ما دام يصلي؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة) فما دام الإمام يصلي فصل معه.
لكن يأتي إشكال في الليالي العشر الأخيرة، فنجد ناساً مثلاً في المسجد الحرام يوترون مرتين، فنقول: احذر يا أخي! أن توتر مرتين؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن وترين في ليلة واحدة، فإذا أوترت في أول الليل فلا توتر في آخر الليل، وإذا لم توتر في أول الليل في صلاة التراويح فأوتر مع الإمام في التهجد في آخر الليل، ولربما يقول قائل: أنا أريد أن أصلي كل الركعات مع الإمام فكيف أفعل؟ نقول: إذا صليت الثلاثة والعشرين مع الإمام في صلاة التراويح شفعت الأخيرة بركعة بعدها مباشرة، وتجعل الوتر في آخر الليل، وحينئذ لا تكون ضيعت أي ركعة من ركعات الصلاة.(35/17)
حكم تكرار الاعتمار لأهل مكة
السؤال
هل على أهل مكة عمرة، أم أن هناك اختلافاً بين العلماء في هذه المسألة، أفيدونا جزاكم الله خيراً؟
الجواب
نعم، العمرة واجبة على كل المسلمين، حتى قال بعض العلماء: إنها كالحج مرة واحدة في العمر، والعمرة مشروعة في رمضان لمن هو مقيم في مكة؛ لكون العمرة في رمضان تعدل حجة، فنقول: تخرج في الوقت الذي يعجبك إلى الحل مثل: مسجد عائشة رضي الله عنها عند باب التنعيم، أو الجعرانة أو أي حد من حدود الحرم، وتنوي العمرة وتطوف وتسعى وتقصر أو تحلق وتكون بذلك قد أديت العمرة، هذا بالنسبة لأهل مكة الأصليين المقيمين، وقد روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه (أنه كلما جم رأسه -أي: نبت- خرج إلى الحل واعتمر) والله أعلم.(35/18)
حكم الاستمرار في مناصحة الإخوة الذين لا يصلون مع غضب الأم
السؤال
هذا شاب يقول: إن الله قد منّ عليَّ بالهداية بعد أن كنت على خلاف ذلك، ثم يقول: إني أعاتب إخوتي على عدم أدائهم الصلاة، ووالدتي غضبت مني بسبب ذلك وطلبت مني ألا أكلمها وأقسمت علي بذلك، فهل يجوز لي أن أهجرها وأعيش خارج البيت، أم أسكت عن ذلك وأعيش معهم؟
الجواب
لا يا أخي لا تسكت؛ لأنه كما جاء في الحديث: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) وما دام الأمر قد وصل إلى حد أن في البيت من لا يصلي فإنه إذا كان بالغاً فهو مرتد كافر، وحينئذ أنت مطالب دائماً وأبداً بأن تدعوهم إلى الله عز وجل وأن يقيموا الصلاة ولو أغضبت أمك في هذا الأمر؛ لأن هذا أداء ركن من أركان الإسلام، وأنت ربما تكون الأخ الأكبر، وما دام الله تعالى قد من عليك بالهداية فلا تغفل عن إخوانك، وأنت مطالب بأن تقدم النصيحة بين فينة وأخرى، لكن إذا رأيت تصميماً من هؤلاء على عدم تأدية الصلاة، وتصميماً من أمك على ألا تتدخل في شئونهم فاخرج من هذا البيت؛ لأني أعتقد أنه بيت فيه انحراف وفيه فتنة، عليك أن تبر بأمك بزيارتها حسب الحاجة والضرورة، وإلا فإني أنصحك أن تبقى في هذا البيت إلا إذا عجزت عن توجيه هؤلاء الذين لا يصلون.(35/19)
حكم العمل في المحاكم التي لا تحكم شرع الله
السؤال
ما حكم العمل في المحاكم التي لا تحكم بشرع الله؟
الجواب
لا يجوز العمل في المحاكم التي لا تحكم بشرع الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله عز وجل حذر من ذلك، فإذا كان قاضياً يحل القضايا على منهج غير شرع الله عز وجل فإنه لا يجوز؛ لأن هذا فيه إعانة على الإثم، والله تعالى يقول: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2].(35/20)
حكم تحية المسجد في المصلى خارج المسجد الحرام والاقتداء فيه بالإمام
السؤال
ما حكم تحية المسجد في هذا المصلى؟
الجواب
يجوز، لكن بالنسبة لمن يصلي في هذا المصلى مقتدياً بالإمام، نقول: يوجد بعض العلماء من أفتى بهذا الأمر، يعني لا حاجة إلى أن يربط هذا بالمسجد الحرام؛ لأنه لا يفصل طريق بينه وبين المسجد الحرام، على كل حال هذا الأمر لغيرنا، أما أن تقام فيه الصلاة بإمام مستقل فهذا لا شك في جوازه، ما دام حول إلى مسجد فله حكم المسجد، لكنه لا يأخذ حكم وأجر الصلاة في المسجد الحرام.(35/21)
حكم الجهاد من حيث العموم
السؤال
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: إن الجهاد فرض عين ما دامت الأندلس في يد الكافرين؟
الجواب
يا أخي! الأندلس ما سقطت في أيدي الكافرين إلا بعد وفاة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه فلا يصح أن يقال هذا الكلام عن ابن تيمية، على كل حال السؤال الذي ربما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه: هل الجهاد فرض عين أم لا؟ الذي يظهر أن آخر ما استقر عليه أمر الجهاد أنه واجب على الأمة الإسلامية، حتى يكون الدين كله لله، فما دام على وجه الأرض رجل كافر فالأمة الإسلامية مطالبة بالجهاد لا دفاعاً وإنما هجوم؛ لأن الله تعالى يقول: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة:193] أي: كفر {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39]، فما دام في الأرض كفر أو يعبد فيها غير الله عز وجل، فإن الأمة تعتبر مفرطة في أمر الجهاد.(35/22)
حكم البيع بأسعار مرتفعة عن قيمة الشراء
السؤال
هل يجوز لي أن أشتري قارورة بثمن خمسة ريالات وأبيعها بخمسة عشر ريالاً؟
الجواب
أحل البيع الله تعالى، لكن إذا كان هذا البيع بهذا السعر المرتفع عن طريق الخداع فإنه لا يجوز، كأن يبيع على نساء جاهلات أو على أناس مغفلين أو ما أشبه ذلك، أما لو كان الأمر مكشوفاً فالله تعالى أحل البيع، لكن بشرط ألا يكذب وألا يخادع وما أشبه ذلك، هذه كلها شروط وضوابط لا بد منها في مثل هذه المعاملة.(35/23)
نصيحة لشباب الصحوة في مصر وغيرها
السؤال
هذا الأخ يسأل عن وضع الشباب في مصر وكيف يستطيع أن يعمل؟
الجواب
يا أخي! القضية ليست فقط وضع الشباب في مصر، العالم الإسلامي أكثره معذب، المسلمون معذبون في مصر وغيرها، وسوف يجعل الله لهم فرجاً ومخرجاً بإذن الله سبحانه وتعالى؛ لأن هذا الضغط على المسلمين إنما جاء بعد ما منّ الله تعالى على شباب المسلمين بالصحوة الإسلامية، واستيقظوا بعد نوم عميق، فسيجعل الله لهم وللمسلمين كافة فرجاً ومخرجاً.
أما الشيء الذي ننصح به فهو أن يشتغلوا في الدعوة والتعليم، الشاب هناك يدعو المسلمين إلى العودة إلى الله عز وجل، قد تكون هناك غيبة طويلة وأخطاء كثيرة في مسار المسلمين إلى الله عز وجل.
لكن ليعلم أن تسلط الفسقة والطغاة على البلاد الإسلامية إنما هو بسبب ما كسبت أيدينا، وهذا شيء مشاهد، والصادقون من المسلمين يقولون: إن ما حدث ليس فلتة ولكن حينما كنا نذهب إلى المسجد فنمر بالخمارة أو بدار الفساد في طريقنا إلى المسجد فلا ننكر ذلك، حصل هذا التسلط بسبب أخطاء المسلمين، والله تعالى يقول: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام:129]، الطريق المثلى أن يعود الشباب إلى الله عز وجل، وأن يسعوا في تربية المجتمع وتوجيهه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحينئذ سوف يكشف الله عز وجل هذا الكابوس وهذا البلاء الذي حل بالأمة الإسلامية في مصر وفي غيرها في كثير من بلاد المسلمين.(35/24)
إخراج زكاة المال نقداً أو عيناً
السؤال
هل يجوز إخراج زكاة المال عينية أو نقدية؟
الجواب
يختلف المال، فإذا كان المال نقداً تخرج زكاته نقداً، كأن تملك مائة ألف ريال تخرج منها ألفين وخمسمائة ريال نقداً، ولا يجوز أن تخرجها عينية، إلا إذا كان هناك فقير أخرق لا يحسن التصرف، فيمكن أن تعطي هذه الزكاة إلى وكيل هذا الفقير الأخرق ليشتري له أرزاً وغيره من الحاجات الضرورية.
أما بالنسبة للبضائع والعينيات فإن شئت فزكها بالمال بأن تقدرها وتخرج ربع عشر القيمة، وإذا كانت من الأمور الضرورية فلك أن تزكيها بربع عشر كميتها، مثلاً: إنسان يبيع أرزاً نقول له: أخرج ربع عشر هذه الكمية، أو إنسان يبيع ملابس ضرورية يحتاج إليها الفقراء تخرج ربع عشر كمية هذه الملابس أو الأقمشة، فإذا كانت من الأشياء الضرورية فإنه يجوز أن تقيمها في وقت الزكاة وتخرج ربع عشر القيمة، وإن شئت أن تخرج ربع عشر الكمية نفسها.(35/25)
الطريق إلى التوبة
السؤال
شخص يريد التوبة ولكن لا يعرف الطريقة، فما هي الطريقة الصحيحة التي يستخدمها؟
الجواب
التوبة أمرها سهل، ليس هناك قيود ومراسيم، نحن لسنا كالنصارى الذين لا يتوبون إلا حينما يذهبون إلى من يعطيهم صكوك الغفران، ولسنا كاليهود الذين يقول الله تعالى لهم لما أرادوا التوبة: {فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُم} [البقرة:54] الحمد لله ليس بيننا وبين التوبة إلا أن نصدق في القصد، ونتجه إلى الله عز وجل ونقول: اللهم إنا نتوب بقلب صادق عازم على العودة إليك، ثم نصحح المسار؛ لأن الله تعالى يقول: {الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا} [البقرة:160].
لا يستكثر صاحبك يا أخي! الذنوب مهما كانت عظيمة، فأعظم ذنب فعله الإنسان هو الشرك بالله عز وجل، والله تعالى يقول: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53]، ويقول الله تعالى في الحديث القدسي: (يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة)، طريق التوبة واضح، عد إلى الله عز وجل، وتب إليه بقلب صادق، والله تعالى يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، لكن نقول: إذا أردت أن ترشد هذا الأخ فانظر إلى نقطة الضعف فيه كأن يكون له قرناء سوء أو ما أشبه ذلك، فتقول له بعد ذلك: تجنب هؤلاء، أو مثلاً: عنده منكرات داخل بيته تغويه وتفسد عليه دينه تأمره بأن يطهر بيته، هذه كلها تعتبر من مكملات التوبة.(35/26)
حكم الاعتكاف في المسجد الحرام مع الخروج لإمامة الناس في مسجد آخر
السؤال
أنا إمام مسجد وأريد أن أعتكف في المسجد الحرام، فهل يجوز لي أن أذهب إلى المسجد وأصلي بالناس التراويح، ثم أحضر لأكمل اعتكافي؟
الجواب
يا أخي! اعتكف في مسجدك فهذا أحسن لك، أما أن تترك مسجدك فهذا لا يصح؛ لأنك تترك واجباً وتعمل سنة، أما أن تعتكف في المسجد الحرام وتذهب في كل وقت لتصلي الصلوات الخمس وصلاة التراويح فأخشى أن يخل هذا بالاعتكاف، إذا اعتكفت في مسجدك كان ذلك أولى.(35/27)
كيفية الدعوة إلى الله عز وجل بين الأقارب
السؤال
وضح لنا كيفية الدعوة إلى الله في وسط الأقارب؟
الجواب
الدعوة إلى الله تعالى في وسط الأقارب كالدعوة إلى الله تعالى خارج الأقارب، بل ربما تكون الأولى أسهل، فتحضر يا أخي جماعاتهم وجلساتهم، وتقدم لهم النصيحة والأشرطة والكتب المفيدة، وتخوفهم بالله تعالى، وتذكرهم بالله واليوم الآخر والجنة والنار وما أشبه ذلك، وهذا طريق جيد في الدعوة إلى الله عز وجل، لكن يجب أن يكون بلباقة ورقة لا كما يعمله بعض الأبناء مع آبائهم وأهليهم حينما يهتدي هؤلاء الأبناء يصطدمون مع الآباء، ويستعملون الغلظة والشدة، وهذا لا يجوز.(35/28)
التعاون على إزالة المنكر بالحكمة والنصيحة
السؤال
يقول شخص: إنه شاهد في هذه العمارة مطعماً يختلط فيه الرجال بالنساء؟
الجواب
نعم أنا شاهدت ذلك، وأرى أن نقدم خطاباً إلى الأخ عبد الرحمن فقيه، وأنا أعرف أنه يحب الخير، ونقترح عليه أن يعزل مكاناً خاصاً للعائلات، ويكون أيضاً مغطى غير مكشوف كواقع هذا المطعم، والأخ الشيخ عبد الرحمن فقيه يحب الخير فلو قدم له خطاب موقع من عدد كبير من الإخوة، وطلبوا منه أن يعزل قسم العائلات عن القسم العام، أنا متأكد أنه سوف يستجيب، وأنا مستعد أن أساهم معكم في نصحه وتبليغه.(35/29)
حكم العمل في مؤسسات التأمينات الاجتماعية
السؤال
ما حكم العمل في المؤسسات العامة للتأمينات الاجتماعية؟
الجواب
يا أخي! ما أعرف أنا نظام التأمينات الاجتماعية الموجودة عندنا هنا، فإذا كانت تأمينات اجتماعية تؤمن مثلاً على الحياة أو تؤمن على البضائع، وتكون بالمغامرة والقمار والميسر فإن هذا العمل محرم، وفي اعتقادي أن التأمينات الاجتماعية التي تتعاطى هذه الطريقة، بأن يدفع التاجر مبلغاً من المال، وتضمن هذه الشركة الخسارة أو التلف للبضاعة أو على النفس أو ما أشبه ذلك، فهذا يدخل في الميسر الذي حرمه الله عز وجل، فإذا كان العمل محرماً فلا يجوز العمل فيه، كالعمل في البنوك مثلاً باعتبارها تحارب الله عز وجل بالربا فإنه لا يجوز العمل فيها.(35/30)
حكم مقاطعة المرأة لزوجها الذي أخطأ في حقها
السؤال
ما حكم مقاطعة المرأة زوجها، ولو كان الزوج هو الذي غلط عليها، أفيدونا بارك الله فيكم؟
الجواب
خير لها أن تصبر؛ لأن مقاطعته وأذيته يسبب الطلاق الذي هو من أخطر الأمور والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها) وكما أمر الله عز وجل الزوج أن يتحمل زوجته ويتحمل منها الأخطاء، كذلك أيضاً على المرأة من باب أولى أن تتحمل أخطاء الزوج، فأنا أرى أن تصبر وتحتسب وسوف يجعل الله لها فرجاً ومخرجاً.(35/31)
حكم تأدية صلاة الوتر ثلاث ركعات مستقلات
السؤال
ما رأيكم فيمن صلى الوتر ثلاث ركعات مستقلات؟
الجواب
نعم يجوز أن يصلي الوتر ركعة واحدة أو ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً أو تسعاً أو إحدى عشرة بسلام واحد دون فصل، المهم أن ينتهي بواحدة.(35/32)
حكم حديث: من صلى علي ثمانين مرة
السؤال
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من صلى علي ثمانين مرة غفرت له خطاياه ثمانين عاماً) نرجو من فضيلتكم شرح هذا الحديث مع حكم صحته؟
الجواب
هذا الحديث مؤكد أنه غير صحيح، لكن يقول عليه الصلاة والسلام: (من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً) هذا الحديث صحيح، أما ثمانون لم يمر علي، وواضح أن هذا الحديث غير صحيح.(35/33)
حكم العمل في المكاتب العقارية
السؤال
ما حكم العمل في المكاتب العقارية، مع أنه لو أجر لشخص شقة أخذ منه نقوداً؟
الجواب
إذا كانت هذه المكاتب العقارية تخادع الناس وتكذب على الناس وتأخذ أموالهم بطريقة غير شرعية لا يجوز العمل فيها، فعليك يا أخي! حين تمر بمثل هذه القضية التي فيها لعبة وأكل لأموال الناس بالباطل أن ترفضها.(35/34)
عقبات في طريق الشباب
إن مرحلة الشباب مرحلة مباركة، ففيها القوة والنشاط والحيوية والعمل، إلا أنها في المقابل تكثر فيها العقبات والمزلات، فإذا لم يكن الشاب مستقيماً على طاعة الله، ومعتصماً بربه، فإنه يزل ويضل، فلذلك كان على الشباب المسلم أن يستعينوا بالله في تذليل العقبات، وأن يسعوا في إزالتها بالطرق المشروعة، والابتعاد عن الأبواب الممنوعة.(36/1)
الصراع بين الحق والباطل سنة كونية
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، والشكر لله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، بيَّن الحجة، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن دعا بدعوته وعمل بسنته ونصح لأمته إلى يوم الدين.
أحبتي في الله! الموضوع هو: (عقبات في طريق الشباب)، نسأل الله أن يوفقنا للقول السديد، وأن يصلح البواطن، ويجعلها خيراً من الظواهر، ويجعل الظواهر صالحة، كما يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:18].
أيها الإخوة! منذ أن أهبط الله عز وجل أبانا آدم وزوجه حواء إلى الأرض والصراع بين الحق والباطل على أشده، قال عز وجل: {اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [طه:123]، هذا هو الصراع بين الحق والباطل، وبين الإيمان والكفر، بين جند الرحمن وجند الشيطان.
ولقد كتب الله عز وجل في هذا الوجود أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، والصراع الذي هو قديم قدم الحياة الدنيا بين الحق والباطل سيبقى حتى يرث الله الأرض ومن عليها، لكن هذا الصراع يتأثر بما حوله وما يحيط به من جنود لله عز وجل، فبمقدار ما يصمم المؤمنون على مصارعة الباطل ومجادلته ومجالدته ينخفض صوت الباطل، ويظهر صوت الحق، وبمقدار ما يضعف المؤمنون يتحرك دعاة الباطل في الظلام؛ لأنهم كالخفافيش لا يخرجون إلا حينما يُفقد الضوء، ولذلك كما أن لله جنوداً في السماوات والأرض فإن الحق ظهر، والحمد لله، وانقشعت سحابة الباطل يوم صمم المؤمنون على الجهاد في سبيل الله، والمسلمون في كل معركة من معاركهم يثبتون جدارة منقطعة النظير، والعدو الذي كان يخطط وينظم ويرتب لحرب الإسلام منذ غزوة الأحزاب وإلى يومنا هذا أظهر فشله وإفلاسه في حرب المواجهة، فاتجه العدو الحاقد للإطاحة بالأمة الإسلامية، كما قال تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ} [الصف:8].(36/2)
استخدام أعداء الإسلام الحرب الفكرية ضد المسلمين
ولذلك أيها الإخوة! يظهر الحق فتختفي تلك الجنود التي تحارب الإسلام، وتقوم بحرب باردة فكرية تمثل صراعاً عنيفاً من الداخل لا من الخارج.
ومن هنا استطاع العدو أن ينجح بعض النجاح في حرف كثير من أبناء المسلمين عن الجادة، ولقد أدرك العدو الحاقد أن الأمة إنما تقاس بشبابها، وإنما تتطور بأبنائها، وبمقدار ما تقدمه الأمة من خدمة لإخراج هذا الشباب وإظهاره بالمظهر اللائق يعجز دعاة الباطل عن النيل من الإسلام، فكانت هناك تخطيطات رهيبة من الداخل وأفكار وأدمغة وخبراء تشتغل في الظلام، تريد أن تطفئ نور الله، والله غالب على أمره.(36/3)
تركيز أعداء الإسلام في حربهم الفكرية على جانبي: المرأة والشباب
ولذلك نقول أيها الإخوة!: إن الحرب الفكرية التي بدأت منذ أن فشل العدو في حرب المواجهة كلها تتوجه في الغالب إلى أمرين أو إلى جانبين من جوانب هذه الأمة: الجانب الأول: المرأة.
الجانب الثاني: الشباب.
وليس صدفة اختيار هذين الأمرين؛ فالمرأة كما قال قائلهم: إنه لا أحد أقدر على جر المجتمع إلى الدمار من المرأة، فعليكم بالمرأة! وهذه حرب كان يتسلح بها أعداء الإسلام قبل الإسلام منذ أمد بعيد.
أما الجانب الآخر فهو التركيز على شباب الأمة الإسلامية؛ لأن حرف أبناء المسلمين يعني: حرف الأجيال اللاحقة كما يعتقد هؤلاء.
ومن هنا كان المخطط رهيباً وموجهاً للشباب، فلا تعجبوا أيها الإخوة! وأنتم ترون وسائل كثيرة كلها تخدم هذه المهمة، وتقوم بهذا الدور، ثم لا تعجبوا أيضاً من الجانب الآخر إذا رأيتم كثيراً من أبناء المسلمين قد انحرف عن الجادة! وأخطر وأخبث من ذلك أن يُتخذ هذا النوع من أبناء المسلمين شوكة في الجسم الإسلامي وغصناً -كما يقولون- من أغصان الشجرة الإسلامية به تقطع الشجرة الإسلامية كما يتوقع أولئك، وكما قالوا: إنكم لا تستطيعون أن تقطعوا الشجرة الإسلامية إلا بغصن من أغصانها، ويقصدون بذلك: تربون من أبناء المسلمين من يقوم بقطع هذه الشجرة، وهم غصن من أغصانها.
كل هذه الآمال وأكثر من ذلك قد خابت والحمد لله، ولذلك في الفترة التي كانت المقاييس المادية والنفوس الضعيفة تتوقع أن ينتهي الإسلام من الوجود، وأن يخلو من هذه الأرض، زدات الصحوة، فكل هذه المقاييس -والحمد لله- قد أظهرت فشلها، وكذب زاعموها، وفي هذه الفترة العصيبة التي جندت فيها كل وسائل التقنية وجميع وسائل الأعلام لإنتاج الوسائل التي تهدف إلى الإطاحة بالأمة الإسلامية زادت الصحوة الإسلامية، كما قال عز وجل: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} [التوبة:32]، وكما قال عز وجل: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ} [النحل:26]، وهذا بالنسبة لنا نحن ليس صدفة؛ لأننا لا نؤمن بالصدفة، وليس أمراً جاء فلتة؛ لأننا لا نؤمن بالفلتة، ولكن هذا الأمر هو نتيجة جهد من جانب، ومن الجانب الأعظم هو توفيق من الله عز وجل؛ فإن الله تعالى قد وعد بأن يظهر هذا الدين على الدين كله، وأن يمكنه في الأرض، وأن يبدل هذا الخوف أمناً بشرط: {يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55]، هذا وعد الله عز وجل لا يتخلف.
لذلك لا تعجبوا حينما ترون هذه الصحوة الإسلامية المباركة تحطم كل ما يقف في طريقها، وتبدأ بصغار الشباب بصفة خاصة، لا تعجبوا في هذه الفترة؛ فإن هذا هو أمر الله ووعد الله الذي لا يتخلف.
أيها الإخوة! بالرغم من هذه الصحوة الإسلامية المباركة وبالرغم من هذه اليقظة التي أثلجت صدور المسلمين في أبنائهم، إلا أن من العجيب أنها في أبناء عامة الناس أحسن منها في أبناء علماء المسلمين وأبناء الصالحين؛ ليثبت الله عز وجل لهؤلاء الناس أن القوة لله جميعاً، وأن الله غالب على أمره.(36/4)
العقبات التي تعترض سبيل الشباب وتعرقل مسيرة الصحوة
أيها الإخوة! بالرغم من هذه الصحوة الإسلامية ففي الساحة الإسلامية وفي دنيانا اليوم عقبات ما زالت تعترض سبيل الشباب، وتعرقل هذه الصحوة، ولولا أن الله سبحانه وتعالى يداول الأيام بين الناس لما رأينا هذا الالتزام وهذه الاستقامة في مثل هذه الفترة التي فيها من العقبات ما فيها، ولكننا نشكر الله سبحانه وتعالى أولاً وآخراً؛ فله الفضل من قبل ومن بعد.
وهناك عقبات كثيرة جداً سوف نتعرض لجزء منها في هذا الحديث، وأظن أنها قد أثرت على كثير من الشباب، حتى بعض الشباب الذين اتجهوا إلى ربهم، فلربما تجذبهم إليها جذباً في بعض الأحيان، فيكون هناك شيء من التقلب، وهذا التقلب حدثنا عنه الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم بقوله: (بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم؛ يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً؛ يبيع دينه بعرض من الدنيا).
فهناك عقبات في طريق الشباب كثيرة أهمها:(36/5)
حب المركز والجاه
حب المركز والعلو والسيطرة والجاه: وهذه تُعتبر من أكبر العوامل، وكم كان الناس يعلقون آمالاً عظاماً في شباب كانت لهم طموحات وفي رجال كانوا أصحاب فكرة، فإذا بهم يصلون إلى المركز، ثم يتغير شيء من مسارهم إن لم يتغير كله، وهذه من الفتن التي تفتن كثيراً من الناس عن دينهم.(36/6)
الشهوة المحرمة
ثانياً: الشهوة الحرام التي أصبحت تُعرض على كثير من شبابنا بهذه الأفلام، فلها آثار وخيمة في نفوس هؤلاء الشباب؛ مما أدى إلى أن تسقط بعض أخلاق هؤلاء الشباب، ثم لا يجدون مبرراً لواقعهم إلا أن يتخلصوا من الفكرة النبيلة التي من الله بها عليهم.(36/7)
الخوف من الموت
ثالثاً: خوف الموت: فقد ضعف اليقين في نفوس طائفة من شباب المسلمين، وظنوا أن الخوف يبعد الموت، وأن الإقدام يدني الموت، ونسوا أن الله عز وجل يقول: {كِتَابًا مُؤَجَّلًا} [آل عمران:145] وأن الله سبحانه وتعالى قد كتب أجل الإنسان كما كتب رزقه، وكما كتب عمله يوم كان في بطن أمه شقياً أو سعيداً، وأن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوا أحداً من الناس لم ينفعوه إلا بشيء قد كتبه الله له، ولو اجتمعوا على أن يضروه لن يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه، رفعت القلم وجفت الصحف، كما جاء معنى ذلك عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
فالأرزاق بيد الله عز وجل مقدرة من لدن حكيم خبير، والآجال كذلك مقدرة كما قدرت الشقاوة والسعادة، وعلى هذا فالأجل بيد الله عز وجل.(36/8)
قصة عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه مع قيصر
وتذكرني هذه العناصر الثلاثة بقصة شاب مؤمن عرضت عليه كل مغريات الحياة، وأهمها هذه الثلاثة: حب الحياة، وكراهية الموت، والمركز والشهوة التي تجذب إلى نفسها بقوة، فرفضها، وخرج من هذه الفتن الثلاث معافىً قد رفع رأس نفسه، ورفع الأمة الإسلامية جمعاء.
والقصة باختصار كما يرويها المؤرخون: أن رجلاً من قادة المسلمين في غزوة اليرموك في بلاد الشام يدعى عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه، أرسله عمر رضي الله عنه في جيش المسلمين، فوقع أسيراً في بلاد الروم، وكان شاباً يتقد ذكاءً وحماساً وتقىً واستقامة، فأعجب السجانون بهذا الشاب في عبادته وصلاحه واستقامته، فقيل لقيصر الروم الخبر عنه فقال: جيئوني به.
يريد أن يعرض عليه الفتن الثلاث التي أوردتها لكم.
فلما مَثُلَ رضي الله عنه بين يدي قيصر قال له: يا عبد الله! لو تنصرت لشاطرتك ملكي، فنظر إليه نظرة ازدراء واحتقار وقال: والله! لو كانت لي الدنيا بأسرها ما تركت شيئاً من ديني! هذه عقبة استطاع أن يتخطاها رحمة الله عليه, فشعر قيصر الروم بالذلة أمام هذا الرجل المؤمن العملاق، وقال: ردوه إلى السجن، وزيدوا في تعذيبه، بدل أن يكون مساعداً لقيصر الروم أصبح سجيناً معذباً، لكن ذلك في سبيل دينه، فقال قيصر: دلوني على طريقة أستطيع أن أفتن بها هذا الرجل، فقالوا: الشهوة، إنه شاب بعيد عن أهله منذ أشهر طويلة، وتستطيع أن تجذبه عن طريق الشهوة، فجاءت فكرة أخرى، فقال: جيئوني بأجمل فتاة في بلادي، فجيء بها، فأغريت بالمال لتفتن عبد الله، فجردت هذه الفتاة من كل ملابسها، وأُدخلت عليه، وهو منكب يتلو القرآن، فلما رآها قال: إنا لله وإنا إليه راجعون! إنها الفتنة، فأغمض عينيه، وصارت تتابعه وترمي نفسها في أحضانه، وهو مكبل بالأغلال، وكلما اتجهت إلى جهة انحرف إلى جهة أخرى، وبقيت مدة تطارده، وهو ينصرف عنها، فأيست منه، فقالت: أخرجوني، فلما أخرجوها قالت: والله! لا أدري أعلى بشر أدخلتموني أم على حجر، والله لا يدري أأنثى أنا أم ذكر! فيئست المحاولة الثانية التي تفتن اليوم كثيراً من أبناء المسلمين، وإذا أردتم الدليل على ذلك فاسألوا شركات الطيران: كم يسافر من أبناء المسلمين اليوم إلى أماكن فيها كثير من الفساد! فتحير قيصر الروم وقال: لابد أن تعطوني طريقاً أستطيع أن أفتن بها هذا الرجل، يريد أن يسترد ماء وجهه الذي ضاع أمام شاب من أبناء المسلمين، فقالوا: الموت، فكل الناس يفرون من الموت، فجيء بقدر عظيم، فأُشعلت تحته النار حتى تحول القدر إلى قطعة حمراء من النار، فقال: جيئوني بـ عبد الله بن حذافة ورجل من أصحابه الذين كانوا يلازمونه، فجيء بـ عبد الله بن حذافة رضي الله عنه وجيء بصديقه الذي لا يفارقه، فأمر قيصر أن يُؤخذ صديق عبد الله ويُرمى في القدر، فرُمي في القدر، فصار دخاناً، فسالت دمعة صغيرة من عين عبد الله رضي الله عنه، وكان قيصر يراقبه، فلما رأى الدمعة قد سالت من عين عبد الله ظن أن الرجل قد خاف من الموت، فالتفت إليه وقال: يا عبد الله! أنت ستكون بعده، قال: اخسأ يا عدو الله! لقد رأيتني أبكي، والله ما بكيت خوفاً من الموت، والله ما جئت إلى بلدك هنا إلا لأطلب الشهادة في سبيل الله، ولكني بكيت لأن صاحبي هذا كان من أعز الناس عليّ، وكان يسابقني إلى الجنة، وكنت أظن أني سوف أسبقه إلى الدار الآخرة، فكنت إذا صليت ركعتين في الليل صلى أربعاً فصليت ثماني ركعات في جنح الليل، وإذا صام في الهاجرة يوماً صمت يومين، وكان أمنيتي أن أسبقه إلى الجنة، فالآن أبكي لأنه سبقني إلى الجنة.
انظروا عظمة الرجال أيها الإخوة! إنهم شباب في عقول رجال كبار، فتحير الرجل أمام هذا البطل المؤمن، ماذا يفعل؟ فقال: يا عبد الله! أريد منك شيئاً واحداً فقط، تقبل رأسي وأطلق سراحك، قال: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء:141] لن أقبل رأسك ولو قطعتني إرباً إرباً، قال: يا عبد الله! تقبل رأسي وأطلق جميع أسرى المسلمين في بلاد الروم، فانظر كيف أصبح الرجل يتنازل عن مطالبه؛ لأنه يريد فقط أن يسترد مكانته التي فقدها أمام هذا الشاب المؤمن، قال: ما دام الأمر بهذا الشكل أعطني فرصة ثلاثة أيام أستخير ربي، قال: لك ثلاثة أيام، فردوه إلى السجن وشددوا عليه، وجيء به بعد ثلاثة أيام فقال: رأيت ألا أقبل رأس رجل كافر، وافعل ما تشاء، قال: يا عبد الله! تضع شفتيك على رأسي وأطلق جميع أسرى المسلمين من بلاد الروم، فوضع شفتيه على رأسه، ويُقال: إنه رضي الله عنه بصق على رأسه، فأمر بإطلاق جميع أسرى المسلمين الذين كانوا في بلاد الروم.
وفي الطريق كانوا يلومون عبد الله ويقولون: يا عبد الله! كيف تضع شفتيك على رأس رجل كافر من أجلنا؟ فيقول: يا قومي! والله لقد بصقت على رأسه حينما وضعت شفتي على رأسه، فعلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو في المدينة بما فعله عبد الله بن حذافة، فقال لأهل المدينة جميعاً: إن على كل واحد منكم أن يخرج لاستقبال عبد الله بن حذافة، وأن يقبل رأسه.
فهذا نموذج من الشباب الذين يربيهم الإسلام، ويحتضنهم أولياء الله، وهؤلاء ما زالوا ولم يزالوا حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وهم قوة ضاربة في الأرض أمام الطغيان والكفر والجبروت، قال عز وجل: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} [الأحزاب:23].
وإذا أردتم دليلاً على ذلك فتتبعوا ما يحدث في الساحة الإسلامية تجدون العجب العجاب، فهؤلاء قوم لا يخافون من الموت؛ لأنهم يرون أن الموت في مثل هذا الطريق شهادة، والشهادة ترفع الإنسان في أعلى درجات الجنة يوم القيامة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله؛ ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض).
والجهاد في سبيل الله أنواع كثيرة، ولذلك عرفوا أن بينهم وبين الله عز وجل بيعة، وإذا أردتم نموذجاً واضحاً فتتبعوا أخبار أفغانستان في أيامنا الحاضرة فستجدون شباباً في مستهل العمر يؤكدون هذه البيعة بينهم وبين الله عز وجل، ولا يضنون بأنفسهم ولا بدمائهم ولا بأرواحهم.
أيها الإخوة! لكن هذه عقبات في الحقيقة لا ننكرها، وهي تعترض سبيل كثير من الشباب.(36/9)
سوء التربية
ومن هذه العقبات أيضاً: سوء التربية: وسوء التربية يعني أن المسئولين عن تربية هؤلاء الناشئة لا يقومون بالدور الذي أُنيط بأعناقهم، ولا يقومون بما أوجب الله عليهم تجاه إعداد النشء، وهذا تقصير مشترك بين الأب وبين المدرسة وبين البيئة وبين أناس كثيرين؛ ولذلك يجب على كل واحد من المسلمين أن يعد هذا الجيل إعداداً صالحاً مستقيماً وفق المنهج الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند ربه، وعلى منهج سلفنا الصالح، فالأب يشعر بهذه المسئولية، والمدرس يشعر أيضاً بهذه المسئولية، والأم تشعر بهذه المسئولية، وولاة الأمر أيضاً يشعرون بهذه المسئولية، وكل واحد من الناس يشعر بهذه المسئولية، فيقوم جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتنظف البيئة الإسلامية؛ بحيث تصبح تربة طيبة صالحة لهذه البذور الإسلامية الصالحة الموجودة.
ولذلك فإننا نقول: هناك تساهل في التربية أيها الإخوان! وهناك مسئولية عظيمة جداً، كما قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:27 - 28].
وليس هناك اختلاف بين الآية الأولى والثانية، فالآية الأولى تتحدث عن التربية عموماً، والآية الثانية تتحدث عن مسئولية الآباء تجاه الأبناء، ويقول الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6]، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (كلكم راعٍ، وكلكم مسئول عن رعيته)، فلو قام كل واحد منا بهذا الدور الذي وضعه الله عز وجل في أعناقنا وخاطبنا الرسول صلى الله عليه وسلم من منطلق الواجب لتضافرت الجهود في سبيل تربية هذه الناشئة، ولزالت هذه العقبة.(36/10)
ضعف دعاة الحق
ومن هذه العقبات: ضعف دعاة الحق: فدعاة الحق قد يَضعفون في بعض الأحيان، وقد يُضعفون، وقد تكون هناك عراقيل تُوضع في طريقهم، وهذا ليس عجيباً؛ لأن الجنة حفت بالمكارة؛ ولأن النار حفت بالشهوات، فدعاة الحق مسئولون عن أي تخلف يحصل في أبناء المسلمين.
أيها الإخوة! إنه لما نشط دعاة الحق كانت من ثمار نشاطهم هذه الصحوة الإسلامية المباركة، ولكن بمقدار ما يهبط دعاة الحق يقوم دعاة الباطل؛ لأن دعاة الباطل كالفئران، لا تتحرك إلا حينما يسكن الجو، فإذا سكنت الأصوات وهدأ الجو خرجت، ثم إذا سمعت الأصوات دخلت في جحورها؛ ولذلك لا تعجبوا يا إخوتي! فإن الساحة الإسلامية تغص بدعاة الباطل، وهم يستغلون كثيراً من الفرص وكثيراً من الوسائل، ولا يبالي كثير منهم، حتى وصلوا في هجومهم على الإسلام وعلى الدين إلى النيل من كرامة رسول الله صلى الله عليه وسلم خير البرية، وحتى سمعنا في أشعارهم الساقطة الهابطة من يتناول الله عز وجل! فلماذا وُجد هذا؟ وُجد لأن دعاة الحق تأخروا، والفارغ لابد أن يمتلئ، والساحة لابد أن يُوجد فيها شيء، فإذا تأخر هؤلاء قام أولئك، وإذا نشط هؤلاء تأخر أولئك.
إذاً: سنة الله تعالى في هذه الحياة أنه لابد أن تكون هناك حركة وعمل ودعوة ونشاط، وهذه إما أن تكون للحق أو للباطل، لكن من المؤكد أن الحق لو تحرك فإنه سوف يدمغ الباطل؛ لأن الله تعالى يقول: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء:18].
إذاً: ضعف دعاة الحق يُعتبر عاملاً من عوامل دعاة الباطل، ونشاطهم يُعتبر عاملاً من عوامل اندحار الباطل بإذن الله تعالى؛ والواقع أكبر دليل على ذلك.(36/11)
خطر دعاة الباطل وخاصة إذا كانوا من أبناء جلدتنا
تأتي المصيبة وتكون أكبر حينما يكون دعاة الباطل من أبناء جلدتنا وممن يتكلمون بألسنتنا، وأظن بل أتأكد أن المخربين الذين نذروا حياتهم للنيل من هذا الدين قد ربوا أفراخاً لهم في بلاد المسلمين، ورعوهم رعاية كاملة مدة من الزمن، سواء كانوا في بلاد المسلمين أو خارج بلاد المسلمين، ثم قذفوا بهم إلى بلاد المسلمين، وحينئذ قاموا بهذه المهمة، وصاروا يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي الكافرين.
وقد حدثنا حذيفة بن اليمان رضي الله عنه حديثا عجيباً فاسمعوه، يقول حذيفة عن هذا النوع من البشر الذين يفسدون ويخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي الكافرين: (كان الناس يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله! إنا كنا في جاهلية وشر، ثم جاء الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، قال حذيفة: فقلت: يا رسول الله! وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم، وفيه دخن، قال: وما دخنه يا رسول الله؟! قال: قوم يستنون بغير سنتي، ويهتدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر، يقول حذيفة: فقلت: يا رسول الله! -اسمعوا لهذه الفقرة الأخيرة- وهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها، قال حذيفة: فقلت: صفهم لنا يا رسول الله! قال: هم قوم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا).
ومعنى (من جلدتنا) يعني: من أبنائنا وأبناء أعمامنا ومن أبناء أخوالنا ومن أبناء أجدادنا ومن نفس الجنسية، لم يأتوا من الشرق ولا من الغرب، وإنما ولدوا في بلاد الفطرة، وعاشوا في بيوت الفطرة، لكن هذه الفطرة أُفسدت حين تعرضت لعوامل الفساد المعروفة.
وقوله: (ويتكلمون بلغتنا)، أي: اللغة العربية الفصحى، ولربما يتباكون في بعض الأحيان على الإسلام، ولربما يدبجون خطبهم أو أحاديثهم أو يستفتحون كتبهم أو مؤلفاتهم أو مقالاتهم بالتعاطف مع الإسلام؛ ليلفوا الباطل بلفائف من الحقيقة، لكنها مكشوفة.
وأظن هؤلاء لا يحتاجون الآن إلى بحث كبير، فهم يعيشون في بلاد المسلمين وبكل طلاقة، وربما يكونون أصحاب أمور مهمة، أو ربما يحصلون على مراكز كبيرة في بلاد المسلمين، ومن منطلق هذه المراكز يعملون، وهذا يوجد في كثير من بلاد المسلمين، وأكثر البلاد التي أصيبت بالنكبة أصيبت على أيدي شبابها.
قال حذيفة: (فماذا تأمرني يا رسول الله إن أدركني ذلك) انتبه رضي الله عنه، ونحن الآن أدركناهم وهي معجزة تحققت للرسول صلى الله عليه وسلم، قال: (الزم جماعة المسلمين وإمامهم، قال: فقلت: يا رسول الله! وإن لم يكن يومئذ للمسلمين جماعة، قال: فر بدينك، ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك)، لكن نحن لا ندعو المسلمين الآن إلى الفرار؛ لأن هذا يُعد من الفرار من الزحف؛ ولأن بقاء المسلمين والمجاهدين والعاملين والمصلحين في الساحة خصوصاً في هذه الظروف أصبح أمراً مطلوباً.
فدعاة الباطل هم أكثر من يشوهون الإسلام، لا سيما إذا كانوا من أبناء الجلدة، وممن يتكلمون باللغة، ولذلك يقول الشاعر: وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على الحر من وقع الحسام المهند إذ كون واحد بعيد منك ليس بغريب أن يظلمك، لكن حينما يظلمك واحد من قرابتك يصبح ذلك شديداً على النفس أشد من وقع السيف المهند الحاد الشديد على اللحم؛ لأن القرابة يجب أن يحموا هذه القرابة، ويجب أن يحافظوا على اللحم والدم، أما إذا كان من أبناء المسلمين من يطعن في الإسلام فهنا تأتي المصيبة والبلية، بل أنا متأكد أن الطعن الذي حصل من أبناء المسلمين على الإسلام أكثر مما حصل من أعداء الله عز وجل، وتحضرني مناسبتان في هذا: الأولى: هناك رجل اسمه محمد ممن ينتسب إلى الإسلام، وأظنه في مهد الإسلام الأول، يقول في قصيدة لا أستطيع أن أنطق بها، ولكن آتي لكم بشيء من ملخصها: إن تأخر البشرية بدأ من محمد الهاشمي، ومن نزول سورة (تبت)! تصوروا هذا الإفك العظيم، هذا أكثر من الردة؛ لأن الردة معناها: الخروج عن الإسلام، لكن هذا طعن في الإسلام، والله تعالى سمى من يقول مثل هذا المقال إماماً في الكفر، كما في قوله سبحانه: {وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} [التوبة:12]، يعني: هو وراء الردة بكثير؛ لأنه من أئمة الكفر.
وفي نفس الفترة يقول رجل كافر يهودي يدعى برنارد شو عن الإسلام: إن محمداً لو بعث اليوم لحل مشاكل العالم وهو يحتسي فنجاناً من القهوة.
فذلك مسلم ويدعى محمداً، وهذا عدو للإسلام يدعى برنارد شو، ذلك يقول: إن نزول سورة (تبت) ومجيء محمد الهاشمي سبب تأخر العالم! وهذا يقول: لو بعث محمد اليوم لحل مشاكل العالم وهو يحتسي فنجاناً من القهوة.
إذاً: لا حاجة إلى أن يشتغل أعداء الإسلام من الخارج للطعن في الإسلام وللنيل من الإسلام.
ونتعدى هذا الموضوع؛ لأن هذا موضوع شائك، وننتقل إلى موضوع آخر من الأمور التي تعرقل مسيرة هذا الشباب إلى ربه، وتكون عقبة في طريقهم.(36/12)
عدم استقامة إعلام المسلمين
من العقبات: عدم استقامة إعلام المسلمين: فالإعلام هو: الصحافة والكتاب والإذاعة والتلفاز والأشرطة والفيديو، والأشياء التي قدمتها لنا وسائل التقنية بكثرة وبسرعة وبتطور هائل، وهذه تستغل في بعض الأحيان في بلاد المسلمين استغلالاً سيئاً، بل في أكثر الأحيان، بل أظن أن هذه الوسائل لا يأتي بها الذين يصنعونها ويروجون لها في كثير من الأحيان إلا لتكون وسيلة دمار، مع أننا لا نجردها من أن تكون وسيلة للصلاح، فكثيراً ما تكون وسيلة للإصلاح.
لكن أنا أحكي عن الواقع لا عن المقصود، فهذه إذا استغلت استغلالاً سيئاً رديئاً تكون لها آثار وخيمة وسيئة، حتى ولو نشط المصلحون في الدعوة؛ لأن من شروط الاستقامة والالتزام والطاعة طهارة البيئة؛ لأن النفوس البشرية بطبيعتها تميل إلى هذه الأشياء، كما قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} [آل عمران:14]، وكل هذه الوسائل وكل هذه الأمور المحبوبة للنفوس يتقدمها النساء والشهوة.
وعلى كلٍ هذه الوسائل عرف صانعوها وعرف مروجوها الذين يكرهون الإسلام أنها وسيلة جذابة، ولذلك تجدون أن في أكثر المجلات ابتداءً من صورة الغلاف تُوضع صورة أجمل فتاة من أجل أن تكون جاذبة، ثم بعد ذلك يُوضع بين الدفتين ما الله به عليم، هذا بالنسبة للمجلات وللصحف.
وبالنسبة للوسائل المرئية والمسموعة فإنها أيضاً تحمل سموماً كثيرة، وهذه تلوث البيئة، حتى المصلحون لا ينجحون نجاحاً كاملاً وهذه موجودة في المجتمع؛ لأن من شروط نجاح الإصلاح أن تكون هناك بيئة نظيفة طاهرة، يلتقي الشاب بشيخه أو بزميله أو بالذي يوجهه، ثم ينطلق منه فيجد أمامه بيئة صالحة وبيتاً صالحاً نظيفاً طيباً طاهراً، أما أن يتأثر ثم يجد هذه الأشياء المغرية تفاجئه في الشارع وتفاجئه في البيت وتتابعه في كل ليلة وفي كل ساعة فهذه غالباً تؤثر، ولذلك استطاع العدو أن يستغل وسائل الإعلام في بلاد المسلمين، فجعل منها وسيلة من وسائل انحراف أبناء المسلمين.
وهذه الأفلام تأتي وتتعدى وسائل الرقابة، وتنتشر وتُباع بأثمان باهظة، ولا تتعجبوا من ذلك! لأن من ورائها أقواماً يحقدون على الإسلام، ويريدون أن يروجوها كما يروجون المخدرات التي أصبحت الآن تتسرب إلى بلاد المسلمين بطريقة يعجز عنها أي إنسان يحاول أن يقف في وجهها، وهذه الأفلام تتسرب أيضاً، وهي أخطر من المخدرات، ونحن نرجو من المسئولين الذين يحاربون المخدرات أن يحاربوا هذه التي تخدر الغيرة أيضاً، وتخدر الشاب، وتذيبه في مجتمع غير مجتمعنا؛ حتى أصبحت تعرض الجنس، وتعرض اللواط أمام الشباب، وتعرض أموراً خطيرة جداً! فهذه الأفلام أصبح يروجها أعداء الإسلام، وليس عجيباً أن يروجوها؛ لأن هذه مهمتهم، فهم يقومون بدورهم، والله تعالى يقول: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء:27] وهم يُعتبرون مخلصين في القيام بمهمتهم ودورهم، لكن نحن ما موقفنا من هذه الأشياء: هل قمنا بالدور الذي أناطه الله عز وجل في أعناقنا؟ قال عز وجل: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ} [البقرة:251]، وقال: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} [الحج:40]، فلابد من أن يكون هناك دفع يدفع الله عز وجل هؤلاء الناس بعضهم ببعض، وإلا فإن أعداء الإسلام لا يرحمون الأمة الإسلامية، ولا يفكرون إلا في انحرافها، ويخططون الليل والنهار ويشتغلون في ظلام الليل من أجل أن ينحرف أبناء الإسلام، وهم لا يرجون جزاءً ولا شكوراً، إنما مصيرهم إلى النار.
والله إننا نتعجب حينما نرى نشاط أعداء الإسلام في باطلهم وضعف المسلمين في مهمتهم! كنت ذات يوم في دولة من دول أفريقيا التي غزاها النصارى من كل فج عميق، ووصلنا إلى غابة من الغابات بعيدة، لم نصل إليها إلا بشق الأنفس، وبتعب شديد، بسبب وجود حر شديد، وبعوض، ومياه متكدرة، ومع ذلك لما وصلنا وجدنا من شباب أوروبا وشابات أوروبا فتياناً وفتيات أظنهم في سن العشرين كل واحد منهم قد احتضن طفلاً من أطفال المسلمين الضائعين الذين يهاجرون من دولة إلى دولة، فقلت: سبحان الله! كيف جاء هؤلاء؟ وماذا يريدون؟ هؤلاء هم بعيدون عن الجنة، ويعرفون بأنهم يدعون إلى دين فاسد؛ فهم يريدون أن ينَّصروا أبناء المسلمين وهم يعلمون أن النصرانية قد انتهت مهمتها في هذه الحياة، وأنها لن تعود مرة أخرى، بل أكثرهم ملاحدة.
ولكن أعجب من ذلك أني قلت: أين أبناء المسلمين؟ ولماذا لا يأتي من أبناء المسلمين الذين يزيدون عن المليار؟ وأين ثروات المسلمين وهم يملكون أكبر ثروة في العالم؟ ولماذا لا تصل إلى هذا المكان؟ ولماذا لا يصل أبناء المسلمين هذا المكان؟ حتى رأينا من أبناء المسلمين من يولد على الفطرة وينتهي يهودياً أو نصرانياً أو ملحداً على أيدي هؤلاء! وليس عجيباً! فهناك أب فقير ابتلاه الله عز وجل بكثير من الأولاد، وليس في يده شيء، ونام المسلمون على المتاع، وجاءه هؤلاء النصارى واليهود والبوذيون وربوا أبناءه، وساعدوه في تربية أولاده، فليس غريباً أن ينحرف هذا أو ينحرف أولاده، ولكن الغريب أن يتأخر المسلمون عن مهمتهم.
إذاً: أيها الإخوة! لم يقم المسلمون حقيقة بالدور الذي أناطه الله عز وجل بهم.(36/13)
سوء اختيار الصحبة
ومن هذه العوامل التي تؤثر الآن على كثير من الشباب: سوء اختيار الصحبة: فنرى كثيراً من الآباء منذ طفولة ولده وفي أول أيامه لا يبالي من يصاحب هذا الولد، ثم يكبر هذا الولد فلا يستطيع ذلك الأب أن يعزل هذا الولد عن هؤلاء الأصحاب الذين ألفهم منذ طفولته، ثم تكون هناك مشاكل وفتن كثيرة وخطيرة، فالله عز وجل حذرنا من موالاة هؤلاء، كما قال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة:1]، وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [الممتحنة:13]، ويقول الله عز وجل: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [المائدة:55]، ويحذرنا الرسول صلى الله عليه وسلم من مجالسة هؤلاء فيقول: (لا تجالس إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي).
والقرآن يحذر من صحبة هؤلاء تحذيراً شديداً، كما قال سبحانه: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا} [الفرقان:27 - 29].
فكل هذه النصائح غفل عنها كثير من الناس، واهتموا بالدنيا، وغفلوا عن الأولاد، فنشأت ناشئة وصلت إلى مستوىً من الفسق والانحراف لا يعمله إلا الله عز وجل، وكل ذلك بسبب هذه الصحبة، وتأكدوا أنه بمقدار ما يوجد من الشباب الذين اهتدوا وهم يسيرون الآن لهداية إخوانهم الشباب أنه يوجد أكثر منهم من يعمل عملاً مضاداً؛ ويسعى لحرف أبناء المسلمين، لا سيما في عصر هذه الفتن.
إذاً: أيها الإخوة! لابد أن نحسن الاختيار، وإلا فإن ذلك يعتبر عاملاً من عوامل انحراف الشباب؛ ولذلك فإن هذا الولد أمانة في عنق هذا الأب، عليه أن يراقبه أكثر بكثير من أن يراقب ماله أو يراقب شيئاً يستفيد منه في هذه العاجلة؛ لأن هذه أمانة كبيرة ومسئولية عظيمة.
أيها الإخوة! لابد أن تتضافر كل الجهود من أجل تعريف هؤلاء الشباب بربهم، وربطهم بعقيدتهم ربطاً كاملاً؛ حتى لا يتعرضوا لهذه الفتن وغيرها من الفتن الكثيرة.
أقول قولي هذا؛ وأستغفر الله لي ولكم، وأسأل الله تعالى أن يثبت الأقدام، وأن يحمي حوزة الدين من أعدائنا في الداخل والخارج، وأن يتوفانا على ملة الإسلام، وأن يلحقنا بالصالحين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(36/14)
الأسئلة(36/15)
انحرافات وتصرفات أبناء الإسلام لا تمثل الإسلام
السؤال
كثر الادعاء بالإسلام والتستر به، وأخذ بعضه وترك بعضه، فما هو موقف الشباب من هذه الاتجاهات والانحرافات؟
الجواب
هذه قد تكون موجودة، بل هي موجودة لا شك، لكن هذه لا تضير الدين، والشاب الذي يريد أن يفهم الإسلام من خلال المسلمين يخطئ، والمطلوب هو أخذ الإسلام من مصادره الصحيحة؛ لأن المسلمين حينما ينحرف منهم من ينحرف عن المنهج الصحيح لا يضير ذلك الإسلام، وإنما يضير هؤلاء الذين أصيبوا بهذه الفتنة.
وأقول: أيها الإخوة! إن الإسلام محفوظ في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن أراد أن يأخذه طرياً فليأخذه من الكتاب والسنة ومن العلماء المخلصين، ولا يأخذه من الواقع؛ لأن أخذه من الواقع يؤدي إلى أن يوجد ازدواجية في نفوس كثير من الشباب، ولا يلامون حينما يكون ذلك؛ فإنه حينما ينظر كثير من المسلمين إلى هذه الازدواجية التي توجد في حياة الناس لربما توجد خللاً في نفسه واضطراباً في يقينه بالله عز وجل؛ كيف فلان من الناس الذي يُعتبر مثالاً للإسلام يفعل كذا؟! وكيف فلان يفعل كذا؟! فهذه الأمور لا يجوز لأحد أن ينظر إليها، وإنما عليه أن يعتبر هؤلاء البشر يخطئون ويصيبون، وأن دين الله عز وجل محفوظ، وأن له مصادر أصيلة يجده فيها، ولا يكون الإسلام بالتقليد.(36/16)
الأمور التي ترجع إليها المعوقات
السؤال
عددتم معوقات الشباب، ألا يظن فضيلتكم أن جميع هذه المعوقات ترجع في مجملها إلى ضعف العقيدة الصحيحة التي تؤدي إلى ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
الجواب
بالنسبة لهذه الأمور كل واحد منفصل عن الآخر، لكن ربما ترجع إلى شيء واحد وهو ضعف الإيمان في النفوس، وإن كان الإيمان -والحمد لله- موجوداً، لكن هذا الضعف الذي بُلي به المسلمون كانت له آثاره على ذلك الجزء الذي أصيب بعدم المناعة، فأصبح الجسم يتأثر بأي نوع من الأمراض البسيطة، ويتضخم، حتى تصبح الأمراض كبيرة لضعف المناعة في هذا الجسم، ولكن الجسم لو كانت عنده قوة في المناعة لاستطاع أن يتخطى كل هذه العقبات، وكذلك المجتمع الإسلامي في أيامنا الحاضرة، وفيه مغريات، وفيه أمور توجهه إلى الله عز وجل، وهناك نفس لوامة، وهناك نفس أمارة، وهناك أيضاً نفس مطمئنة، لكن وجود هذه الأشياء -بالرغم من وجود إيمان ويقين- لا شك أنه يعرقل مسيرة الشباب إلى ربه، وهناك فرق بين بيئة نظيفة طاهرة لا توجد فيها هذه المغريات وبين بيئة متلوثة، إذ لا شك أن الثانية سوف تؤثر على أهلها ولو كان عندهم ما عندهم من الإيمان؛ لأن الإنسان بشر، والبشرية تتعرض بطبيعتها إلى أشياء كثيرة.
ولذلك هناك أناس عندهم رغبة في الخير وحب للخير واتجاه للخير، لكن يفاجئون بهذه الأشياء التي تنتشر في مجتمعهم، فتجدها تضعف من اليقين الموجود في قلوبهم، لكن لو كانت البيئة طاهرة ونظيفة من كل هذه المغريات لكان ذلك أقوى في إيمان هؤلاء الشباب، وأمثل في اتجاههم إلى ربهم، وإن كان المؤمن الحق ينظر إلى هذه الأشياء نظرة تافهة، ولا يقيم لها وزناً؛ لأنه مؤمن يقول: أنا مؤمن أبغي الحياة وسيلة للغاية العظمى وللميعاد فينظر إلى هذه المغريات نظرة احتقار، وهذا يوجد، لكن الكثير يتأثر بهذه المغريات.(36/17)
كيفية علاج الشهوات
السؤال
إذا وقع الشاب المسلم في الشهوات، وحاول أن يتخلص منها ولكنه لم يفلح، فما هو علاج مثل هذه الحال يا فضيلة الشيخ؟!
الجواب
ليست هناك شهوة محرمة وإلا ويقابلها شهوة مباحة، فالزنا -وهو من أعظم الشهوات- يقابله الزواج، قال عز وجل: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3]، والسرقة يقابلها الكسب الحلال، والربا يقابله البيع الشريف والشراء، وهكذا كل هذه الشهوات المحرمة والمغريات الموجودة في الحياة لها مقابل مما أباح الله عز وجل؛ لأن الله سبحانه وتعالى ما سد طريقاً أمام الناس إلا وفتح لهم أوسع منها، والإسلام لا يؤمن بنظرية: ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء بل يسد طريقاً ويفتح مائة طريق بدلها، وإذا كان هناك أحد الناس وقع في هذه الشهوات المحرمة ويريد أن يتخلص منها فنقول: طريق الخلاص واضح وبين، فعليك أخي! أن تبحث عن الحلال بدلاً من الحرام، فإذا كنت قد اُبتليت بمحرم فانظر إلى أقرب طريق يخرجك من هذا المحرم، وتصور يا أخي! عظمة الله عز وجل، ومن تعصي أنت؟! ثم تصور ساعة الوقوف بين يدي الله عز وجل، ثم تصور ساعة الموت قبل ذلك، وأن الموت يأتي فجأة لا سيما في أيامنا الحاضرة التي تُختطف فيها أرواح الشباب أكثر من أرواح الشيوخ، والأصحاء أكثر من المرضى، فتصور هذه الأشياء وبادر بالتوبة، ولا تسوف.
فيا أخي! بادر بالتوبة، وابحث عن البديل، ولا تسوف في التوبة، واعلم يا أخي! أن الله عز وجل يقول: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]، فبادر بالتوبة قبل أن يقفل الباب.(36/18)
معالجة النظر إلى النساء
السؤال
أنا شاب ملتزم والحمد لله، وأحافظ على الصلوات جميعها في المسجد، لكن مشكلتي هي أنني أطالع في النساء، ولا أغض بصري، رغم أني متزوج بزوجة صالحة إن شاء الله، وعندما أحاول غض بصري تراودني أفكار بأنني لا أقدر أن أغض بصري إلا بزوجة ثانية، وأكون متردداً وفي حيرة، وخوفي هو أن أتزوج وتستمر هذه العادة، أفيدوني أفادكم الله؟
الجواب
يقول الله عز وجل: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى} [النور:30]، وفي الحديث القدسي: (النظر سهم مسموم من سهام إبليس، من تركه مخافتي أبدلته إيماناً يجد حلاوته في قلبه).
ولا شك أن النظر خطير جداً، ويكفي أن الله سبحانه وتعالى ذكره في سورة تتحدث عن الزنا، وابتدأت بذكر الزنا: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور:2]، ثم تحدث الله بعد ذلك عن عوامل الزنا، فذكر من هذه العوامل القذف؛ لأن القذف يشيع الفاحشة، وذكر من هذه العوامل دخول البيوت فقال: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27]، ويدخل في ذلك الاختلاط ثم ذكر سبحانه من عوامل الزنا النظر فقال: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30]، ثم ذكر بعد ذلك الزواج مباشرة فقال: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور:32]، ونأخذ من خلال هذه الآيات المتتالية أن النظر يسبب الزنا، ولذلك يقول الشاعر: جل الحوادث مبدؤها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر والنكاح أو الزواج هو أكبر وسيلة للعفة؛ لأن الله تعالى لما ذكر النظر قال: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30]، وقال: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:31]، وذكر التبرج ثم قال: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور:32].
إذاً: الزواج يُعتبر وسيلة من وسائل غض البصر وحفظ الفرج، ولذلك أقول أيها الإخوة: إن الله عز وجل حكيم، ولا شك في أنه أحكم الحاكمين؛ ولذلك ما سد طريق الفاحشة وإلا وفتح أربعة طرق، وليس طريقاً واحداً، فأباح أربع زوجات لكل واحد من المسلمين.
ولا شك أن في أيامنا الحاضرة تقوم ضجة كبيرة ضد تعدد الزوجات، وتنفير الناس من تعدد الزوجات، ويعتبرون هذا ظلماً للمرأة، وهو في الحقيقة تكريم للمرأة، وليس ظلماً للمراة؛ لأن الزوجة الثانية لن يأخذها المتزوج من رجل متزوج بها، وإنما يأخذ امرأة ليس معها زوج، فيعف امرأة ثانية وثالثة ورابعة.
والمرأة حين تبقى مع زوج معه أكثر من زوجة خير لها من أن تبقى مطلقة أو تبقى أرملة أو تبقى عانساً.
وعلى كل أقول لهذا الأخ: الزواج هو طريق العفة، وقد سماه الله تعالى إحصاناً وسمى المتزوجة محصنة، يقول العلماء: لأنه كالحصن يتحصن به الإنسان من القتل أو كالحصان الذي يمنع صاحبه من أن يقع في الفاحشة؛ ولذلك نعتبر الزواج بواحدة إذا كانت تعف الإنسان أو باثنتين أو ثلاث أو أربع أمراً مطلوباً، وقد وضع الله عز وجل هذا العدد من أجل أن يستغني الإنسان بالحلال عن الحرام.
وعلى كل نقول: يا أخي! تزوج ثانية وتزوج ثالثة ورابعة حتى تعف نفسك، ولكن في نفس الوقت عليك أن تتصور أن هذا الأمر خطير جداً؛ لأنه يتبعه أشياء بعده أخطر منه، فهو يُعتبر بداية، وليس نهاية، فالنظر كما عرفنا سهم مسموم، فأقول لهذا الأخ: تزوج، واخش الله عز وجل بغض البصر، وأسأل الله أن يحفظني وإياك والمسلمين.
والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(36/19)
فاستقم كما أمرت [1]
لقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم ومن تاب معه بالاستقامة على أمره سبحانه، وذلك بالسير على منهج الله الرباني، وصراطه المستقيم، من غير انحراف أو غلو أو اعوجاج، فصراط الله معلوم، والاستقامة عليه مطلوبة، وتصحيح الطريق أمر ضروري لمن أراد اللحاق بركب المصطفى صلى الله عليه وسلم، والنجاة من عذاب الله.(37/1)
حقيقة الإنسان الذي أمر بالاستقامة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونثني عليه الخير كله، ونشكره ولا نكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، البشير النذير، والسراج المنير صلى الله عليه وسلم، وعلى آله، ومن دعا بدعوته، وعمل بسنته، ونصح لأمته إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الإخوة! قبل أن أحدثكم عن حقيقة الاستقامة، وعن مظاهرها التي يجب أن يتحلى بها المسلم، نعود قليلاً لنعيد عقارب الساعة إلى الوراء، ولنرى من هو هذا الإنسان الذي يقال له: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود:112]؛ لأن حكمة الله عز وجل اقتضت أن يكون هذا الإنسان على هذا الكوكب، وهذه الحكمة لا يعلمها إلا الله، فحينما خلق الله عز وجل الإنسان، واعتبره خليفة لأمم سكنت الأرض كما يقول طائفة من المفسرين عن قول الله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30].
كان هذا الإنسان أولاً غير مطالب بالعبادة، وإنما أسكنه الله عز وجل الجنة قال تعالى: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا} [البقرة:35]، لكن حكمة الله عز وجل أن يكون الابتلاء لهذا الإنسان، فيحذر الله عز وجل النبي الكريم آدم عليه الصلاة والسلام عن شجرة واحدة في الجنة، ويبيح له كل ما فيها من نعيم، وما ذلك إلا من باب الابتلاء، قال تعالى: {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:35].
ثم إن هذا العداء الذي وقع بين آدم وبين إبليس لحكمة يعلمها الله عز وجل، فأغواه ليأكل من هذه الشجرة فاستطاع أن يؤثر على آدم وحواء: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ} [الأعراف:21 - 22].
ومن هنا أهبط آدم وأهبطت حواء؛ لتكون ذريتهما هي التي تعمر هذه الأرض، وليكون الابتلاء، ولكن حكمة الله عز وجل أن تكون الفطرة هي الأساس المتين الذي ينشأ عليه بنو آدم، فالله عز وجل اقتضت حكمته أن يخلق فطرة التوحيد والإيمان في قلب كل واحد من بني آدم قال تعالى: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:30].
ثم أيضاً: نجد أن الله عز وجل أخبر أنه أخذ هذا العهد والميثاق على بني آدم جميعاً حينما استخرجهم من ظهره كالذر {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:172] فكانت الفطرة موجودة، كما أخبر الله عز وجل في الحديث القدسي حيث قال: (إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم)، وبقيت هذه الفطرة إلى أن تسلط عليها شياطين الإنس والجن؛ فكان الصراع بين المؤمنين ابتداء من آدم عليه الصلاة والسلام وفي ذريته إلى يوم القيامة، وبين الشياطين مستحكماً منذ أن أهبط آدم من الجنة، قال تعالى: {اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [طه:123]، وحتى يرث الله الأرض ومن عليها، وهذا الصراع سوف يستمر.
ولذلك فإن هناك عوامل مهمة خلقها الله عز وجل في هذه الحياة من أجل أن يكون الامتحان والاختبار، ومن أجل أن يكون فريق في الجنة وفريق في السعير، فاقتضت حكمته سبحانه وتعالى أن يقسم الناس إلى شقي وسعيد منذ أن كان هذا الإنسان جنيناً في بطن أمه، حينما يكتب الملك أربع كلمات منها: شقي أو سعيد، وعلى هذا يستمر الصراع بين الحق والباطل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وقد جعل الله عز وجل في هذه الحياة مغريات وأموراً تميل إليها النفوس البشرية بطبيعتها وفطرتها، ولكن الله عز وجل خلق العقل، وأعطاه ميزة تسيطر على هذه الشهوات في كثير من الأحيان، ولذلك فالصراع بين العقل والعاطفة والشهوة هو الذي يحدد مصير هذا الإنسان؛ ولذلك كان لا بد من الاستقامة؛ حتى لا تتغلب العوامل والشهوات على العقل الذي يخاطبه الله عز وجل دائماً، ويعتبره هو المعيار والفيصل بين الإنسان والحيوان، ويخاطبه الله عز وجل دائماً: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء:10]، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الروم:24]، {لِأُوْلِي الأَلْبَابِ} [ص:43] إلى غير ذلك.
فالخطاب في مثل هذه الأحيان يوجه للعقل حتى لا يلغي هذا الإنسان العقل، ولكن هذه العوامل ما زالت تتابع الإنسان، أي: عوامل الانحراف والخطأ كما هي الفطرة البشرية قال تعالى: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} [يوسف:53]، ومن هنا لا بد أن يكون للاستقامة دور، ولا بد أن تكون الاستقامة حينما توجد مثل هذه العوامل، لاسيما إذا كانت هذه العوامل عنيفة شديدة، قد تعصف بالإنسان، فيغفل عن عقله وتفكيره؛ لينسجم مع عواطفه، فيؤدي ذلك في كثير من الأحيان إلى الانحراف، فلا بد إذاً من الاستقامة.
وهذه العوامل العنيفة منها السلبي، ومنها الإيجابي، فالإنسان له شهواته ومطامعه، وله خوفه ورهبته؛ ولذلك فإن المسلم عليه إذا عن أمامه أمر من هذه الأمور التي ربما تعصف بعقله وتفكيره، وبأخلاقه وسلوكه لا بد أن يتذكر هذا عدوه اللدود الشيطان الذي يحذر الله عز وجل عنه فيقول: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:27].(37/2)
حقيقة الاستقامة وأهميتها وما يخل بها
وعلى هذا لا بد أن نعرف حقيقة الاستقامة، وأهم مظاهرها.(37/3)
الاستقامة طريق النجاة من عذاب الله
أولاً: قبل أن نبحث في معنى الاستقامة وفي الآيات التي تتحدث عن هذا الموضوع نعرف أن الأمر بالاستقامة في هذه الآيات جاء في آخر سورة هود، وسورة هود يكفي أنها هي التي شيبت رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قيل له: (يا رسول الله! شبت! قال: شيبتني هود وأخواتها) ولذلك حينما تقرءون سورة هود تجدون فيها من الوعد والوعيد، والأخذ الشديد للقوم الذين تنكبوا عن منهج الله، وعن دعوة المرسلين عليهم الصلاة والسلام.
ثم تعرج الآيات بعد ذلك للتحدث عن يوم القيامة: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود:105 - 107] إلى غير ذلك، ثم يقول تعالى بعد آيات: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود:112].
إذاً: الاستقامة هي الطريق الذي يكفل للإنسان السعادة في الحياة الدنيا، ويسلم من عذاب الله، وهي الطريق التي توصل الإنسان إلى الدار الآخرة وهو مؤمن فيسلم من عذاب الله، ويدخل الجنة خالداً فيها كما قال الله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود:107]، الطريق هو: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود:112]، وهذا يسميه علماء اللغة استفهاماً بيانياً وكأن سائلاً سأل: ما هو طريق الخلاص من عقوبة الدنيا والآخرة؟
الجواب
( فاستقم كما أمرت)، وهذا الخطاب وإن كان موجهاً في الأصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم لكنه في الحقيقة موجه لكل مسلم.(37/4)
حقيقة الاستقامة
والاستقامة حقيقتها: سلوك الطريق المستقيم، وأن نعرف أن في هذه الحياة طريقاً مستقيمة، وفيها طرقاً معوجة، ونفهم أن الطريق المستقيمة هي طريق واحدة، وأن الطرق المعوجة كثيرة جداً، ويدلنا على ذلك ما في آخر سورة الأنعام، قول الله عز وجل: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153]، ولذلك لما قرأ الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الآية في سورة الأنعام خط خطاً طويلاً مستقيماً وقال: (هذا صراط الله، وخط عن يمينه وشماله خطوطاً صغيرة وقال: هذه السبل، وعلى كل واحد منها شيطان، وعليها ستر مرخاة، وعليها شياطين يدعون إليها، وعلى الصراط المستقيم داعٍ إذا أراد أحد أن يسلك أحد هذه الطرق ناداه: يا عبد الله! لا تسلكه فإنك إن تسلكه تلجه، وإن ولجته لا تنتهي منه إلى يوم القيامة) أو كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، ولذلك يقول الله تبارك وتعالى: (فاستقم) يعني: ابحث عن الصراط المستقيم.
ثم نجد أن الطريق المستقيم واحد، وأن الطريق المنحرفة كثيرة التشعب، وهذا لا يحتاج إلى بحث وتفكير بعيد، لو رأيت الآن هذا العالم الذي يسلك طرقاً منحرفة كثيرة، ولا يجد أمامه طريقاً مستقيماً إلا طريقاً واحدة، فهمت معنى هذه الآية، وفهمت حقيقة الطرق المنحرفة؛ ولذلك بمقدار ما ينحرف الإنسان عن هذه الطريق المستقيمة يجد أن أمامه متاهات وطرقاً كثيرة منحرفة تتلقفه، ويتخبط فيها لا يكاد يخرج من طريق حتى يقع في طريق أخرى يضل من خلالها.
وعلى هذا فإن طريق الجنة واحد، ولذلك تجدون في الحديث الصحيح كيف أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (وستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة) هي صاحبة الطريق المستقيم، أما الاثنتان والسبعون فهم أصحاب الطرق التي تلف يميناً أو شمالاً عن الطريق المستقيمة.
(قالوا: من هم يا رسول الله؟! قال: من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي).
وعلى هذا فإن البحث عن الطريق المستقيمة لا يكلف المسلم جهداً طويلاً وإنما يبحث ماذا كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا يزيد ولا ينقص، إن نقص فهو عاص، وإن زاد فهو مبتدع.
فهذه هي حقيقة الاستقامة أي: سلوك الطريق المستقيم الذي نسأل الله في كل صلاة أن يهدينا له، وأن يثبتنا عليه، وأننا إذا زغنا عنه نسأل الله العافية والسلامة، فأمامنا طريق المغضوب عليهم، وطريق الضالين، والمغضوب عليهم هم اليهود، والضالون هم النصارى، والصراط المستقيم الذي نقول فيه: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] هو طريق الجنة؛ لأنه طريق غير معوج، ولذلك تلاحظ وأنت تسير في هذا الطريق أن فيه الاستقامة، وتدرك فيه عدم الاعوجاج، بالرغم من أن هناك أقواماً هم أعداء للبشرية يريدون أن نضل الطريق: {وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} [الأعراف:45] كما قال الله عز وجل.(37/5)
الاستقامة لا تكون إلا على هدي الله ورسوله
إذاً: هذه الاستقامة واضحة، وهي سلوك الطريق المستقيم، لكن ما معنى: (كما أمرت)؟ قد يلتبس الأمر على الإنسان عندما يرى طرقاً تشبه طرق الاستقامة، لكنها ليست كما أمر هذا الإنسان، ولذلك هذا الواقع هو أخطر شيء على حياة البشرية، وهو أكثر ما يدخل الناس النار، ويجعلهم حطباً لجهنم، أن يبحث عن طريق الاستقامة ومن خلال طريق الاستقامة ينحرف، أي: يضل عن طريق الطاعة، ولذلك تجدون في القرآن أقواماً يكبون على وجوههم في نار جهنم، هم ومن كانوا سبباً في إغوائهم وضلالهم عن الطريق، فيلتفون إلى قادتهم الذين كانوا سبباً في ضلالهم عن الطريق ويقولون لهم: {إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} [الصافات:28] أي: ما كنتم تأتوننا عن الشمال، ما معنى (عن اليمين)؟ أي: تأتوننا عن طريق الطاعة وما كنتم تأتوننا عن طريق المعصية، ولو جئتمونا عن طريق المعصية ما اتبعناكم؛ لأننا نعرف أن المعصية يكرهها الله عز وجل، لو أتيتم إلينا وجعلتمونا لصوصاً نسرق أموال المسلمين ما اتبعناكم، لو أردتم أن نكون فجرة وزناة نسرق أعراض المسلمين ما اتبعناكم، لكنكم جئتمونا عن طريق الطاعة؛ ولذلك الإتيان عن اليمين خطير جداً، بل لا يشك مسلم أنه أخطر من إتيان الناس عن طريق الشمال، أي: عن طريق المعصية.
وإذا أردنا أن ننظر إلى واقع الأمة الإسلامية إذا استثنينا النوع الذي هداه الله عز وجل إلى الفطرة وجدنا الناس على شقين: شق سلك مسلك المعصية، يعربد ويسرف على نفسه في المعاصي والآثام والفجور، لكنه يعرف بأنه يعصي الله عز وجل، ويعرف أنه سلك طريقاً غير طريق الاستقامة، ولربما يعد نفسه بالتوبة ويسوف، لكنه يعد نفسه أنه سوف يتوب في يوم من الأيام.
أيهما أخطر هذا المسلك أم أقوام عبدوا الله عز وجل على غير بصيرة، وهم ركع سجد لكنهم يعبدون الله على غير بصيرة، ويعبدون الله عز وجل على غير ما شرع رسوله صلى الله عليه وسلم؟ فهم في اعتقادي يمثلون أهل النار الذين يقولون لمن كانوا سبباً في ضلالهم: {قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} [الصافات:28]، وهذا هو طريق البدعة والانحراف عن منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولربما يأتي ذلك بدافع المحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنه حب غير صحيح؛ لأنه حب عاطفة وليس حب متابعة، والله تعالى يقول: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31].
وايم الحق سبحانه وتعالى لو بعث محمد صلى الله عليه وسلم في أيامنا الحاضرة ورأى هذا النوع الثاني من البشر الذي انحرف عن الطريق من حيث يزعم أنه يعبد الله، لقاتلهم، لأنهم يتحقق منهم قول الله عز وجل: {ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:104] فقد أسرفوا وبالغوا حتى رفعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مرتبة البشرية، حتى قال قائلهم: إنه ليس من فصيلة بني آدم، هو خلق من نور، ليس له ظل، هو خلق قبل آدم إلى غير ذلك من الكلام الذي هو كفر بالقرآن في الحقيقة؛ لأن القرآن أعلمنا أن أول الخلق في هذه الأمة آدم عليه الصلاة والسلام، أما محمد صلى الله عليه وسلم فهو لم يخلق من نور، وإنما خلق من لحم ودم، فهو أفضل من الملائكة الذين خلقوا من نور أضعافاً مضاعفة.
ومن قال: إن الخلق من نور يعطي المخلوق ميزة أكثر ممن خلق من اللحم والدم؟! فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (ألا إنما أنا بشر) بل إن الله عز وجل يقول له: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الكهف:110] والبشر معناه: الذي له بشرة أي: لحم ودم.
القضية أيها الإخوة ليست قضية تذوق وإنما هي قضية تعبد لله عز وجل بما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبما شرعه المرسلون من قبله، أما أن تكون المسألة محبة عاطفة فإن الله عز وجل يقول: (فاستقم كما أمرت) يعني: لا تستقيم كما يروق لك.
ومن هنا ندرك معنى قول الله تعالى: (كما أمرت) أي: حتى الاستقامة مضبوطة بحدود، وبدائرة لا يمكن أن يتعداها الإنسان ليبحث عن الاستقامة حسب رغبته وشهوته؛ ولذلك فإن هذا الدين محاط بحلقة مفرغة ليس فيها منفذ لأي واحد من الناس حتى يزيد أو ينقص في دين الله؛ ولذلك الله تعالى جعل آخر آية نزلت من القرآن على رأي جمهور المفسرين قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3].(37/6)
البدع وانتشارها مخالف للاستقامة
إذاً: ليس هناك مجال للاجتهاد، وليس هناك مجال للابتداع، أبو بكر وهو أفضل البرية بعد المرسلين عليه الصلاة والسلام يقول: (ألا إني متبع ولست بمبتدع)، فإذا كان لا يحق لـ أبي بكر رضي الله عنه أن يبتدع وهو الذي يقول عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ)، فهل يحق لواحد يأتي في القرن الرابع عشر من الهجرة النبوية الكريمة ليحدث في دين الله ثم يقول: إن هذه بدعة حسنة وتلك بدعة سيئة؟! هذا هو الذي نفهمه من قوله تعالى: (فاستقم كما أمرت).
الخطاب موجه في الأصل للرسول صلى الله عليه وسلم، حتى الرسول صلى الله عليه وسلم ليس له أن يستقيم كما يحلو له، بل كما أمر، والآمر هو الله عز وجل.
إذاً: هذه الاستقامة ليست مجرد تدين أو مجرد عبادة، وإنما هي عبادة مضبوطة محاطة بحلقة مقفلة ليس لأحد أن يتعداها أبداً؛ ولذلك تجدون في القرآن كثيراً ما يلوم الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم في بعض الاجتهادات في مواطن كثيرة قال تعالى: {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ} [الأنعام:35]، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [الأنعام:35] يقول الله تعالى للرسول صلى الله عليه وسلم: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى} [عبس:1 - 2].
هذا بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس له أن يبتدع في دين الله إلا ما أوحى الله عز جل إليه، ولذلك السنة هي الوحي الثاني من عند الله عز وجل، فالمسألة استقامة كما أمر هذا الإنسان، أما باب البدعة الذي انفتح اليوم على الناس، وجعل منه بدعة حسنة كما يقوله طائفة من الناس، بالرغم من أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في كل خطبة جمعة: (إن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة).
إذاً: (كل) من ألفاظ العموم لا تعطينا أي علم على أن هناك شيئاً يسمى البدعة الحسنة في أي حال من الأحوال.
ولربما يحتج هؤلاء بقصة عمر رضي الله عنه في التراويح حينما قال: (نعمت البدعة)، البدعة هنا ليس معناها البدعة التي أحدثت جديداً، بدليل أن التراويح ليس الذي أحدثها هو عمر رضي الله عنه، وإنما شرعها محمد صلى الله عليه وسلم، ولكنه تركها خشية أن تفرض على هذه الأمة، حتى جاء عهد عمر رضي الله عنه فأحياها؛ لأن التشريع توقف، فلا يخشى في يوم من الأيام أن تفرض، وسماها بدعة أي: سنة نسيت فأحياها عمر رضي الله عنه.
وهنا تكون البدعة حسنة أي: إذا كانت سنة نسيت فيحييها أحد من أهل الخير والصلاح، أما أن تكون هناك بدعة حسنة فليس هناك بدعة حسنة، وإنما كل محدثة في دين الله بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ولكن هذه البدعة -أيها الإخوة- تجر إلى بدعة أكبر منها نسأل الله العافية والسلامة، وهي الشرك بالله عز وجل، وسأعطيكم دليلين اثنين على ما أقول: الدليل الأول: أن الله عز وجل قرن البدعة بالشرك في آيتين من كتاب الله عز وجل، وعندما تقرأ قول الله تعالى في سورة النساء: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [النساء:115]، وهذا في البدعة، ثم قال بعد هذه الآية: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:116] هذا دليل من القرآن.
وأذكر لكم دليلاً من الواقع: حينما كثر الابتداع في دين الله عز وجل، وصار في قاموس هذا العصر ما يسمى بالبدعة الحسنة التي نعتبرها ضلالة، وكلما أعجبهم شيء في ظاهره عبادة فعلوه، وهو في حقيقته تعد على سلطة الله عز وجل، وهي الألوهية والتشريع التي يقول الله عز وجل عنها: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف:40]، {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة:3]، فيقولون بلسان الحال: ما أكملت لنا ديننا، ولا أتممت نعمتك علينا، بدليل أن هنا عبادات جديدة أوجدوها، ويكذبون الرسول عليه الصلاة والسلام الذي يقول: (تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك).
هل من المعقول أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلمنا كيف ندخل الحمام، وكيف نجلس عند قضاء الحاجة، وماذا نقول عند دخول الحمام، وكيف نلبس النعل والثوب، وندخل البيت ونخرج، وندخل المسجد، ولا يعلمنا أموراً مهمة أحدثها الناس اليوم في دين الله؟! ما الذي حدث؟ هذه البدع تطورت فأصبحت شركاً بالله عز وجل.
وإذا أردت يا أخي دليلاً على ذلك فسر في العالم الإسلامي وسوف تجد كيف تقترن البدعة بالشرك بالله عز وجل، فتبدأ من بدعة صغيرة -كما يقولون- إلى بدعة كبيرة إلى أن تصل إلى الشرك الأكبر نسأل الله العافية والسلامة! فبناء القبور في المساجد بدعة تؤدي إلى الشرك الأكبر، فتجد الطواف حول هذه الأضرحة التي يسمونها الأولياء، وتجد الدموع التي تراق عند هذه الأضرحة أكثر والله مما تراق عند الكعبة المشرفة، وتجد صناديق النذور التي تملأ كل ساعة بالأموال، وتصرف على هؤلاء المشعوذين في وقت العالم يهدد فيه بالمجاعة، فأصبحنا نسمع في قارة واحدة من قارات العالم التي انتشر فيها البدع والوثنية أكثر من مائتين وخمسين مليون إنسان أكثرهم من المسلمين يهددهم الجوع والموت.
والله يا إخوان رأيت بعيني هاتين رجالا ًفي آخر العمر ساجدين للقبور، ولوا ظهورهم صوب الكعبة، وولوا وجوههم جهة هذه القبور، ففهمت قول الله تعالى حينما ذكر مشاقة الرسول: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} [النساء:115] ثم ذكر الشرك بعد ذلك، وقد ذكرت لنا الإحصائيات الرسمية في أيامنا الحاضرة: أن في العالم اليوم أكثر من عشرين ألف ضريح يعبد من دون الله.
وهذه الإحصائية مضى عليها أكثر من عشر سنوات، فقارن بين هذا الرقم وبين آخر لحظة في آخر معقل من معاقل الوثنية يوم دخل الرسول صلى الله عليه وسلم مكة ليفتحها؛ لتتحول إلى دار إسلام، كم عدد الأوثان التي كانت تعبد من دون الله وهي معلقة في الكعبة كلها؟ كانت ستين وثلاثمائة صنم، قارن بين ذلك العدد، وبين هذا العدد، وعد مرة أخرى لتقارن لنا بين جاهلية اليوم وجاهلية الأمس.
إذاً: الأمر خطير أيها الإخوة! والعجيب أن كل من يريد أن يتحدث عن هذا الموضوع يتهم بأنه لا يحب الرسول صلى الله عليه وسلم أو لا يحب الصالحين.
أولاً: محبة الرسول عليه الصلاة والسلام ليست محبة عاطفة، وإنما هي محبة متابعة، فليست محبة الرسول صلى الله عليه وسلم كمحبة الزوجة والأطفال، وإنما محبة متابعة، وتأتي العاطفة بعد ذلك؛ لأننا نتقرب إلى الله عز وجل بحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى لا نؤمن إلا ويكون هو أحب إلينا من أنفسنا وأهلينا ووالدينا والناس أجمعين، هذا الشيء الذي نؤمن به، لكنها محبة متابعة أكثر من أن تكون محبة عاطفة، ثم يقولون: أنتم لا تحبون الأولياء، نقول: من هم الأولياء في مفهومكم وقاموسكم الجديد؟ يقولون: فلان وفلان من أصحاب الأضرحة، نقول: لا، نحن في مفهومنا -المفهوم الشرعي الصحيح- أن الأولياء هم المتقون، قال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62 - 63] فأنت وفلان وفلان من الصالحين نعتبركم أولياء، هذا في مفهوم الشرع، أما أن يصبح اسماً اصطلاحياً على قوم من الناس الله أعلم بولايتهم لله عز وجل، فلا نوافقهم على ذلك.(37/7)
الاستقامة على دين الله يعترضها الابتلاء
أيها الإخوة! الاستقامة معناها الالتزام بهذا الدين، لا سيما في فترة يتغير فيها الناس عن منهج الله ويتنكبون فيها عن دين الله، لا بد في مثل هذه الظروف من الاستقامة، لاسيما حينما تكون هناك ضغوط تضطر المسلم إلى أن ينحرف، وتكون هناك مغريات، لاسيما أهم عامل من عوامل الاستقامة الذي هو الصدع بكلمة الحق التي تعتبر أفضل نوع من أنواع الجهاد، لاسيما أمام سلطان جائر يريد أن يذل من أعز الله بطاعته، ويعز من أذله الله عز وجل بمعصيته، ففي مثل هذه الظروف يأتي ذلك المسلم ويستقيم على هذا المنهج، ويقول كلمة الحق ولا يبالي، وهذا أفضل نوع من أنواع الجهاد في سبيل الله تعالى.
ولذلك هذه العقبة كئود وشديدة إذا وصل الأمر إلى هذا النوع من الجهاد، لاسيما إذا تكالب الأعداء على الأمة الإسلامية وأصبحت الطريق وعرة وصعبة، ومن المؤكد أن هذه الطريق غير ممهدة ولا مذللة، ففيها عقبات فيها زلزلة فيها دماء تراق في سبيل الله فيها ابتلاء في الأهل والمال والولد، ولذلك وصف الله تعالى هذه الطريق ووعورتها بأنها شديدة كما في قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا} [البقرة:214] ما مقدار هذه الزلزلة؟ {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} [البقرة:214].
تصور يا أخي كيف يقول الرسول متى نصر الله؟! كيف المؤمنون مع المرسلين يقولون: متى نصر الله؟! و (متى) هنا ليست للاستفهام فقط، بل هي للاستبطاء، يعني: أبطأ نصر الله، ثم يأتي نصر الله في مثل هذه الظروف قال تعالى: {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214].
ولذلك فإن أكبر عقبة في طريق الاستقامة أن يتحزب أعداء الإسلام ضد هذا الدين، فلربما يؤدي ذلك إلى الخوف والرعب، والرجوع من منتصف الطريق، وإلى النكوص على الأعقاب نسأل الله العافية والسلامة! وكم من الناس من يبتلى في مثل هذه العصور بهذا النوع من الفتنة فيرجع من منتصف الطريق قبل أن يكمل المشوار إلى الله عز وجل؛ ولذلك يقول الله تعالى عن أقوام فكروا في الاستقامة على هذا المنهج لكنهم فوجئوا بأذى شديد في سبيل الله وفي ذات الله، وكان إيمانهم ضعيفاً مهتزاً لا يستطيع أن يتحمل هذا العبء الثقيل، فرجعوا من منتصف الطريق وقالوا: نحن هربنا من عقوبة يقصدون عقوبة الآخرة، ووقعنا الآن في عقوبة محققة مؤكدة نراها بأعيننا، من الأفضل أن نتحمل عقوبة موعودة ولا نستطيع أن نتحمل عقوبة حاضرة؛ لأن الإيمان ضعيف، وهؤلاء هم الذين قال الله تعالى عنهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ} [العنكبوت:10] أي: من أجل دين الله {جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت:10] أتدرون ما فتنة الناس؟ أي: عذاب الدنيا، سجون، أذى، قتل في سبيل الله إلى غير ذلك.
لكن هناك أقوام آخرون بمقدار ما يضرم الجو أمام أعينهم ويشتد الأمر تستبين لهم الطريق، ويطمئنون على صحة المسار، ويعرفون أنهم يسيرون على بصيرة بمقدار ما يؤذون في دين الله وذات الله، فيعتبرون هذا الأذى أكبر دليل على أن الطريق الصحيحة هي التي سلوكها، فيزدادون إيماناً وتسليماً، ولذلك يقول الله تعالى عن هذا النوع من البشر: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22].(37/8)
الاستقامة قد تؤدي إلى الاعتداء
إذاً: هنا تكون الاستقامة في مثل هذه الظروف، أما الانسجام مع هذه المغريات والشهوات التي ابتلي بها البشر في هذا العصر، فهي أخطر شيء على حياة الأمم، {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود:112] حتى الاستقامة لها ضوابط أيضاً ومعالم، {وَلا تَطْغَوْا} [هود:112] فقد تؤدي الاستقامة إلى الطغيان وتعدي الحدود، وأنا قلت لكم: إن دين الإسلام دين محصور في حلقة مقفلة، حتى الزيادة فيها لا تجوز، سواء كان في أمر العبادات أو في أي أمر من الأمور الأخرى، ولذلك قال الله تعالى: {وَلا تَطْغَوْا} [هود:112].
ولذلك ما غضب الرسول صلى الله عليه وسلم كغضبه يوم جاءه ثلاثة نفر ذات يوم إلى داره، فسألوا عن عمله في السر عليه الصلاة والسلام، فأخبرتهم إحدى زوجاته؛ فتقالوا عمل الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل ولا أرقد، وقال الثاني: أما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الثالث: أنا لا أتزوج النساء، يريدون أن يغلوا في هذا الدين.
نحن نتكلم عن الغلو، وإن كنا لا نعتبر في الساحة المعاصرة شيئاً من هذا الغلو إلا نادراً جداً في مواطن متخلفة، وإن كان يوصف المتدينون بعصرنا الحاضر مع الأسف بالتطرف والتخلف والرجعية إلى غير ذلك من الألقاب، نحن لا نعترف بها، لكن لا بد أن نتحدث أيضاً عن هذا الغلو في الدين؛ لأن الله تعالى يقول: (ولا تطغوا) حتى الطغيان في العبادة وتجاوز الحد في العبادة أمر محرم لا يجوز.
فلما علم الرسول صلى الله عليه وسلم بكلام هؤلاء الثلاثة غضب غضباً ما غضب مثله أبداً؛ فصعد المنبر، وحمد الله وأثنى عليه، وقال عليه الصلاة والسلام: (أما بعد: فإني والله أتقاكم لله وأخشاكم له، وإني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني).(37/9)
معنى الطغيان المضاد للاستقامة
والطغيان نستطيع أن نفسره بجانبين:(37/10)
من معاني الطغيان مجاوزة الحد في العبادة
الجانب الأول: هو تجاوز الحد في العبادة، ولذلك فإن العبادات محصورة في دائرة محدودة، لا تجوز الزيادة فيها كما لا يجوز النقص، ولذلك لو أن واحداً من الناس أراد أن يزيد على الصلوات الخمس صلاة سادسة قلنا له: أنت محدث في الدين، وأنت متجرئ على حدود الله عز وجل، وأنت تنصب نفسك في درجة الألوهية لا في درجة العبودية، فالله عز وجل حدد العبادات بمقادير معينة، فلم يفرض إلا خمس صلوات، ولذلك تجدون كيف يرعى الإسلام هذا الجانب، فلا يبيح للمسلم أن يزيد في العبادة.
فمثلاً: الله تعالى حدد لنا صيام رمضان الله تعالى بمدة معينة وحرم الزيادة، فحرم صيام يوم الشك كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم) بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تقدموا رمضان بصيام يوم أو يومين إلا رجل كان يصوم صوماً فليصمه) يعني: يصوم مثلاً الإثنين والخميس، أو يصوم يوماً ويفطر يوماً، فوافق يوم الشك، أما ما سوى ذلك فإنه لا يجوز صيام يوم الشك، ويوم العيد الذي هو بعد رمضان مباشرة حرم الله عز وجل صيامه.
إذاً: نجد أن رمضان عبادته حددت في أولها وآخرها، حتى لا تكون هناك زيادة فيؤدي ذلك إلى الجرأة على أوامر الله عز وجل، فيكون هناك مشرعون.
تعال إلى يوم الصوم نفسه، تجد أنه قد حدد ابتداؤه وانتهاؤه بوقت معين، وحث الشرع على تعجيل الفطر وتأخير السحور؛ حتى لا يفكر أحد ويقول: إني أزيد ساعة أو ساعتين من آخر الليل، وأزيد ساعة أو ساعتين من أول الليل؛ فهذه عبادة محددة من عند الله عز وجل لا يمكن أن تزاد في أولها ولا في آخرها، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر وأخروا السحور) وحرم الرسول صلى الله عليه وسلم الوصال، وقال: (إني لست كهيئتكم، إني أبيت يطعمني الله ويسقيني).
إذاً: هذا دليل على أن العبادات الأصل فيها التحريم كما قال علماء الأصول، فلا يجوز للإنسان أن يحدث عبادة إلا بدليل من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
أما ما سوى ذلك فإنا نعتبره مبتدعاً في دين الله، والله تعالى يقول: (ولا تطغوا) هذا جانب مفهوم من مفاهيم الطغيان، لاسيما أنه جاء بعد قول الله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود:112].(37/11)
من معاني الطغيان التعدي على حدود الله وخلقه
أما الطغيان في معناه الثاني فهو: تعدي حدود الله عز وجل، والتعدي على خلق الله، والاستبداد في هذه الحياة إذا خول الله عز وجل واحداً من هؤلاء الناس سلطة أو ملكاً أو أي مكانة، فاستغل هذه المكانة ليكون طاغية من طغاة البشر يستذل عباد الله؛ ليذل من أعزه الله، وليعز من أذله الله تعالى.(37/12)
مظاهر الاستقامة في سورة هود(37/13)
عدم الركون إلى الكفار
قال تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود:113]، وهذا أيضاً مظهر من مظاهر الاستقامة؛ لأن الأمة الإسلامية مطالبة بأن تكون لها شخصية مستقلة عن أن تذوب في شخصية الكفار، ولذلك يقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:73] يعني: إذا لم تعترفوا بهذا المبدأ بحيث يكون الكافر هو ولي الكافر، وبالمفهوم يكون المؤمن ولي المؤمن، ولا يكون ولياً لكافر، إن لم تفعلوا ذلك تكن فتنة في الأرض وفساد كبير، والفتنة معناها: الانحراف عن الدين، والفساد الكبير لا يعلم مقداره إلا الله عز وجل.
فالركون إلى الكافرين أمر خطير جداً، ولذلك تجدون أن الله تعالى يهدد رسوله عليه الصلاة والسلام لو ركن إلى الكفار ولو كان شيئاً قليلاً.
أولاً: الركون القليل غير مقبول، أياً كان هذا الركون.
ثانياً: الركون حتى لو كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم، رغم أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما فكر بالركون إلى الكفار، وإنما فكر أن يجذبهم إلى الحق بطريق اللين، فالله تعالى قال له: {لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} [الإسراء:74 - 75] يعني: عذاباً مضاعفاً في الحياة الدنيا، وعذاباً مضاعفاً في الحياة الآخرة أي: مكرراً، وأنت محمد خير البشر، عليه الصلاة والسلام.
إذاً: الركون إلى الكفار، والميل إليهم، وعشق أخلاقهم وسلوكهم، أو تقليدهم في أي أمر من الأمور لا يجوز في شرع الله عز وجل، ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يقول: (خالفوا المشركين) وكان يحرص دائماً على مخالفتهم، ومن ذلك حينما قدم الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة -يعني: مهاجراً من مكة- وجد اليهود يصومون يوم السبت فسألهم لماذا؟ قالوا: إنه يوم عظيم نجى الله فيه موسى ومن معه، وأهلك فرعون وجنوده، فقال: (نحن أحق بموسى منكم) وأمر المسلمين بصيام يوم عاشوراء، ثم أمر المسلمين بمخالفتهم فقال: (خالفوا اليهود صوموا يوماً قبله أو يوماً بعده) وقال: (لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع).
إذاً: المسألة مسألة مخالفة حتى في أمور العبادات، فدين الإسلام جاء لا ليوافق هؤلاء، وإنما ليخالفهم في كل أمر من الأمور، والذين يعشقون أخلاق الكفار، ويطمئنون إليهم، ولربما يستقدمونهم إلى بلاد المسلمين، ويكثرون سوادهم، لا سيما في جزيرة العرب التي يقول عنها الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يجتمع في جزيرة العرب دينان)، (أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب) يعتبر هذا الأمر أمراً خطيراً نسأل الله العافية والسلامة.
وعلى هذا: فإن الركون أمر محرم، وهو جانب مضاد لجوانب الاستقامة التي يقول الله عنها: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود:112].(37/14)
إقامة الصلاة
ويقول تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود:114]، وهذا جانب إيجابي، ومظهر من مظاهر الاستقامة الذي هو إقام الصلاة، والصلاة خصت هنا من بين العبادات؛ لأن الصلاة هي التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، فأي مجتمع يقيم الصلاة فإنه من المؤكد أنه مجتمع لا بد أن تحارب فيه المنكرات ولو على جانب معين، ولذلك أخبر الله عز وجل أن الصلاة تذهب السيئات.
ولذلك نزلت هذه الآية في رجل من المسلمين قبل امرأة تقبيلاً حراماً، فجاء وقال: يا رسول الله! عملت عملاً حراماً قبلت امرأة، فجلس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل فيه وفي أمثاله من الذين يعملون معصية من الصغائر قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود:114] وهذه تشمل الصلوات الخمس؛ لأن طرفي النهار صلاة الصبح والظهر والعصر والمغرب، الطرف الأول: الصبح والظهر، والطرف الثاني: العصر والمغرب {وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود:114] التي هي صلاة العشاء، ثم قال: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] فقال الرجل: يا رسول الله! ألي خاصة، أم لجميع الأمة؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (بل لجميع أمتي).
فالصلاة من ميزتها أنها تكفر صغائر الذنوب دون أن تحتاج إلى توبة، أما كبائر الذنوب فإنها تحتاج إلى توبة؛ ولذلك قال الله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114].(37/15)
لزوم الصبر
قال تعالى: {وَاصْبِرْ} [هود:115] وهذا جانب مهم من جوانب الاستقامة؛ لأن غير الصابر لا يستطيع في الحقيقة أن يستقيم في فترة لا سيما إذا كانت هذه الفترة من الفترات المظلمة في تاريخ البشرية، فالصبر هو السلاح المنيع الذي من خلاله يستطيع هذا الإنسان أن يشق طريقه في هذه الحياة، وأن يعبر هذا المعترك الشديد بأمن وسلام.
أما الذين لا يصبرون، والذين يجزعون لأي حدث أو أمر من الأمور التي تعترض سبيلهم فلا يمكن أن يحصلوا على جانب الاستقامة لاسيما في مثل هذه العصور، وعلى هذا فإن الصبر هو طريق الجنة، والله تعالى يقول: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10]؛ ولذلك لا تجد الجهاد يذكر في مكان إلا ويذكر معه الصبر، أياً كان هذا الجهاد سواء كان جهاد النفس، أم جهاد العدو المقنع الداخلي، أم جهاد العدو الخارجي، فلا بد من الصبر في كل مجال من مجالات الجهاد؛ ولذلك قال الله تعالى: {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [هود:115].(37/16)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
ثم بعد ذلك يأتي المظهر الأخير من مظاهر الاستقامة وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيقول الله عز وجل: {فَلَوْلا كَانَ} [هود:116] أي: فهلا كان {مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} [هود:116] أي: في الأمم كلها يقل جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتجه إليه إلا الذين يستحقون النجاة من عذاب الله عز وجل.
(إلا قليلاً ممن أنجينا منهم) فأنجاهم الله عز وجل من الخوف من البشر، وأنجاهم الله عز وجل من العذاب في الدنيا؛ لأن الله تعالى إذا أنزل عقوبته إنما ينزلها بالذين يفعلون الفواحش والذنوب، والذين يسكتون عليها.
أما الذين ينهون عن الفساد في الأرض فهم الذين ينجيهم الله عز وجل، وتدل أدلة كثيرة على أن الله سبحانه وتعالى لا ينجي من عذابه إذا أنزله بأمة من الأمم إلا الذين ينهون عن السوء، كما ذكر الله عز وجل في قصة أصحاب السبت قال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف:165].
وعلى هذا فإننا نقول: لا بد من أن تقيم الأمة الإسلامية جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا تكون الاستقامة في مجتمع من المجتمعات عطل فيه هذا الجانب العظيم، الذي هو في الحقيقة الذي يحمي هذا الدين؛ لأن هذا الدين يحمى بقوة البيان، ويحمى بقوة الحديد والنار؛ ولذلك أخبر الله تعالى أنه أنزل الكتب السماوية وفيها العدل والخير، لكنها لا بد أن تحمى بقوة الحديد والنار، وهو جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال عز من قائل: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد:25]؛ ولذلك يقول حسان بن ثابت رضي الله عنه: لا خير في حق إذا لم تحمه حلق الحديد وألسن النيران والذين يظنون أن هذه الأمة غير مطالبة بأن تتخذ جانب القوة لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وأنها تكتفي فقط بأن تقول: هذا منكر، أو هذا حق، إذا وصل الأمر إلى هذا الحد فإن الأمة تكون عطلت جانباً عظيماً من جوانب هذا الدين.
فالدعوة إلى الله غير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن الله عز وجل على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وزع المسئولية على ثلاث مراحل: الإنكار باليد، وهذا في الأصل للسلطة، ولكل من يستطيع أن ينكر باليد فإن عجز فعليه أن ينكر باللسان، فإن عجز عن ذلك -ولا يكون ذلك إلا في مجتمعات خاصة نسأل الله العافية والسلامة، وفي ظروف خاصة نسأل الله أن يحفظنا حتى لا ندركها- كان الإنكار بالقلب فقط.
ولذلك هذا يعتبر أضعف الإيمان، أما إذا وصل الأمر إلى أن تألف القلوب المنكرات؛ لأنها تعيشها مدة طويلة من الزمن، وتختلط بلحمها ودمها حتى لا تنكرها في القلب فذلك أخطر المراحل، وهو الذي أشار الله عز وجل إليه في قوله في سورة الأنعام: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ} [الأنعام:113] حينما يكون مألوفاً {وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام:113].
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقني وإياكم لأفضل طريق إلى الله عز وجل وإلى الدار الآخرة، وأن يثبت أقدامنا في عصر زلت فيه كثير من الأقدام، وأن يتوفانا وإياكم على منهج الاستقامة غير مضيعين ولا مبدلين.(37/17)
من مظاهر الاستقامة لزوم الصبر(37/18)
من مظاهر الاستقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر(37/19)
الأسئلة(37/20)
آخر أخبار الجزائر
السؤال
ما هي أخبار الجزائر في هذه الأيام، نود أن تحدثونا عنها بالتفصيل؟
الجواب
أخبار الجزائر حيل بيننا وبينها، إعلام المسلمين ما أعطانا صورة، سمعنا أخبار السلفادور والعالم كله، ولكن لا نسمع أخبار الجزائر، لكن الشيء الذي يجب أن تثقوا به هو أن إخواننا في الجزائر إذا صح قصدهم وهدفهم فلا بد أن يظهروا؛ لأن الله عز وجل يقول: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55].
وعلى هذا فإننا متأكدون أن إخواننا في الجزائر إن صح قصدهم وهدفهم -ونحسبهم كذلك والله حسيبهم- فإن الله تعالى سوف يظهرهم؛ لأن الله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69]، ونحن لا نشك بأن هدف إخواننا في الجزائر ليس هو طلب الملك، وإن كان أصحاب الملك يخافون على الملك دائماً وأبداً، وهذا ندركه حتى في القرآن في مواقف طغاة البشر، حينما يتسلطون على الناس يقولون: {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ} [الشعراء:35] فهم يخافون على الأرض، وإخواننا في الجزائر ليس لهم هدف الأرض، وإنما هدفهم أن يكون الدين كله لله؛ ولذلك كل المغريات التي وجهت إليهم، والتموينات والأطعمة قالوا: نحن نرفضها، نحن نريد أن يطبق فينا شرع الله، وأن نحكم بشرع الله، وهذا هدف يجب أن يكون هدف كل واحد من المسلمين.
على كل حال: الطغيان الذي يحكم الجزائر ويحكم أكثر الكرة الأرضية هو لا يريد أحداً أن ينازعه ملكه؛ لأنه يخاف على السلطة، أما إخواننا في الجزائر فهم لا يريدون إلا أن يحكموا بشرع الله عز وجل.
أما أخبارهم: فحسب ما يظهر من بعض إخواننا القادمين الذين يحدثون عن بعض الأخبار، أنهم يلاقون محنة شديدة، وابتلاء في دينهم، حتى سمعنا أن مكبرات الصوت في خطب الجمعة أصبحت لا يسمح لها أن تنتشر؛ حتى لا يسمعها الجنود فتتغير وجهتهم فيستسلموا لمطلب هذا الشعب؛ لأنه مطلب يرضي الله سبحانه وتعالى.
لكن ثقوا يا إخوتي أن هؤلاء القوم سوف يظهرون بإذن الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف:14]، وهذه سنة الله في الحياة إلى يوم القيامة.(37/21)
الفرق بين محبة العاطفة ومحبة المتابعة
السؤال
في حال سلوك الطريق السوي هل هناك ضوابط يلتزم بها المستقيم، ثم ما الفرق بين محبة العاطفة ومحبة المتابعة، بينوا لنا وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
هناك ضوابط يلتزم بها المستقيم، وأهمها: سلوك الطريق، والتأكد من صحة المسار، فإننا نعيش الآن فترة اختلط فيها الأمر على كثير من الناس، فأصبح كثير منهم لا يميزون بين طريق الجنة وطريق جهنم، وكما قلت لكم: والله يا إخواني رأيت أناساً عباداً تحتقرون عبادتكم بالنسبة لهم، لكنهم يسيرون إلى الله عز وجل على غير بصيرة، فأهم ضابط لذلك هو أن تبحث عن المنهج الذي عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وتلتزم به، وهذا هو أعظم ضابط، بل هو الضابط الوحيد الذي من خلاله تستطيع أن تتأكد من أنك تسير إلى الله عز وجل على بصيرة، وأنك تسير في طريق الجنة، والرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا فقال: (من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي).
وعلى هذا: فإن المنهج واضح، والطريق واضحة وليست ملتبسة، وكتاب الله باقٍ ما بقيت الدنيا، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم محفوظة، ولا تزال طائفة على هذا الطريق تسير حتى يأتي أمر الله.
أما الفرق بين محبة العاطفة ومحبة المتابعة فهو واضح: أنت تحب زوجتك محبة عاطفة، ولكن ليس محبة متابعة، تحب أطفالك محبة عاطفة، لكن ليس محبة متابعة، ولكن محبتك للرسول صلى الله عليه وسلم في الحقيقة يجب أن تكون في الأصل محبة متابعة، وتأتي محبة العاطفة بعد ذلك؛ ولذلك كثير من هؤلاء الذين ضلوا الطريق اكتفوا بمحبة العاطفة، فإذا رآك وأنت تدعو الناس إلى التمسك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حقيقة، قال: أنت لا تحب الرسول صلى الله عليه وسلم، أنت لا تطوف على قبره أو تتمسح على قبره، إلى غير ذلك، فنقول: يا أخي! أنا عدم فعلي هذا العمل هو محبة لرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك؛ ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد) فأنت يا من تزعم المحبة لكنها ليست محبة متابعة أنت الذي تكره الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنك تخالف أمره، ولأنك تأتي بشيء خلاف ما طلبه الرسول صلى الله عليه وسلم من ربه حينما قال: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد) وهكذا نستطيع أن نميز بين محبة العاطفة ومحبة المتابعة، ويكفينا في محبة المتابعة قول الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31].
إذاً: هذه هي المحبة التي يجب أن تكون لله عز وجل، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأيضاً: يجب أن تكون محبة العاطفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه هو سبب هداية هذه البشرية.(37/22)
أسباب الانحراف عن الدين
السؤال
ما هي أسباب انحراف من استقام على الطريق المستقيم ثم انحرف عن هذا الطريق، وأصبح بدلاً من ذهابه إلى المسجد يذهب إلى أماكن اللهو؟
الجواب
هناك عوامل كثيرة ترد الناس إلى الله عز وجل، وهناك عوامل أخرى تحرف الناس عن الطريق المستقيم، والتقلب سمة من سمات آخر الزمان، كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم: (بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا) ثم أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن المخرج من هذه الفتن (فقالوا: وما المخرج يا رسول الله منها؟ قال: كتاب الله وسنتي) كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم ستبقى حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
لكن لا ننسى أن هناك عوامل ومغريات في الحياة لربما تتغلب على العقل من خلال العاطفة؛ فتؤدي إلى انحراف المجتمعات، ويكفينا في واقعنا الآن ما فيه من المغريات، أصبحت البيئة غالباً ملوثة بالأفلام والمحرمات، وضعف جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى غير ذلك مما كان سبباً في وجود مغريات شديدة صرفت كثيراً من الناس عن الطريق المستقيمة؛ ولذلك لا تعجب حين تجد شاباً مستقيماً ثم تفاجأ في يوم من الأيام أنه انحرف عن هذه الطريق، لأن البيئة التي نعيشها في أيامنا الحاضرة بيئة فيها كثير من اللوث، وفيها كثير من الانحراف، مما قد يكون سبباً في انحراف كثير من أبناء الفطرة، لكن بالرغم من ذلك -والحمد لله- رأينا العكس من ذلك هو الكثير، لقد رأينا كثيراً من أبناء المسلمين، ولربما من أبناء الفسقة وغير المتدينين من اتجهوا في مثل هذه الظروف إلى الله عز وجل، وهذا يدل على أن الخير في هذه الأمة إلى يوم القيامة كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك.(37/23)
دورنا تجاه الشرك بالله وانتشار الأضرحة
السؤال
هذه الإحصائيات التي ذكرتها عن انتشار الأضرحة في العالم الإسلامي فاجعة كبرى، والسؤال: ما هو دورنا وقد سمعنا هذه الإحصائيات؟
الجواب
أزيدك يا أخي علماً، ذات ليلة في جوف الليل الآخر مررت بأحد هذه الأضرحة فوجدت الزحام من السيارات التي تنزل الحجاج كما يقولون إلى هذا الضريح -واحد من هذه الأضرحة- والله لا تكذبني حينما أقول لك: إنه أكثر من العدد الذي يأتي إلى مكة حرسها الله بحفظه.
على كل: يا أخي! الطريق واضحة، وهي الدعوة إلى الله عز وجل والجهاد: {انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} [التوبة:41] ننصح كل شاب من شباب المسلمين لاسيما هنا في بلاد الفطرة التي فطرت على التوحيد والعقيدة السليمة، ننصحهم أن يسيروا في هذه الأرض؛ ليبينوا للناس الطريق التي يجب أن يسلكوها؛ وليبينوا للناس خطر الشرك بالله عز وجل، فإنه أعظم شيء، فالله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48].
ويجب على أبناء هذه الأمة وأبناء هذه البلاد بصفة خاصة أن ينتشروا في أرض الله الواسعة، يعلمون الناس كيف يعبدون الله عز وجل، وسوف تسقط هذه الأضرحة كما سقطت الأوثان التي كانت معلقة في الكعبة، يوم كسرها الرسول صلى الله عليه وسلم بسيفه وهو يتلو قول الله تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} [الإسراء:81].
فمن كان عنده علم، ومن كانت عنده شخصية متينة قوية يستطيع من خلالها أن ينفع ولا يتأثر، وأن يؤثر ولا يتضرر هو بنفسه، أنصح أي شاب يستطيع أن يسافر إلى هناك؛ ولذلك فإن الناس رغم تعصب كثير منهم لما ألفوه من حيات آبائهم وأجدادهم، فإن هناك أيضاً كثير من هؤلاء المسلمين يقبلون الحق، ولذلك تجدون كثيراً من الذين أولعوا بالذهاب إلى هذه الأضرحة، وعاشوا حياتهم كلها بين تلك الأضرحة حينما يأتون إلى بلادنا هنا والحمد لله، ويرون معالم التوحيد، نجد أنهم يتأثرون ويستفيدون، ويرجعون موحدين في كثير من الأحيان.(37/24)
نصيحة في كيفية دعوة الناس إلى الله عز وجل
السؤال
لقد تحدثت عن الاستقامة والبدعة في هذا العصر، فما هو العمل لمحاربة هذه البدع، والعمل من أجل إقامة الخلافة الإسلامية، ونشر دعوة الإسلام كما أراد رب العالمين؟ وما هي نصيحتكم لهذا الشباب المسلم الذي يتعرض للكبت من جميع الجوانب في أنحاء العالم؟
الجواب
نستطيع أن نحارب البدعة عن طريق إحياء سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأني قلت لكم: إن الإسلام دائرة مقفلة لا يمكن لأي واحد أن يزيد فيها، ولا يمكن أن تتسع لغير ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من عند ربه؛ ولذلك نلاحظ أن الذين أحدثوا في دين الله لا بد أنهم أماتوا السنن، وأنهم لو لم يخرجوا سنة ليتركوا فراغاً لهذه البدعة ما استطاعت هذه البدعة أن تنفذ في دين الله عز وجل، والطريق هو أن نحيي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن ندعو الناس إلى العودة إلى الأصل، وإلى المنبع الأصيل الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند ربه، ومن هنا تتساقط البدع؛ لأن الفراغ الذي تركته تلك السنن هي مواقع هذه البدع.
وعلى هذا فإننا نقول: لا بد من إحياء سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإصلاح ما أفسده الناس، وهذا هو منهج الغرباء الذين لهم الجنة كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (طوبى للغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس).
أما إحياء الخلافة الإسلامية، فالخلافة الإسلامية قد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنها هي آخر المطاف في حياة البشر، كما في الحديث: (ثم تكون خلافة على منهج النبوة)، فذكر أن الأمر سوف ينتهي في يوم من الأيام بخلافة على منهج النبوة.
والطريق هو دعوة الناس إلى العودة إلى دين الله، وإلى تحكيم شرع الله، وتحكيمهم شرع الله هو الخلافة على منهاج النبوة.
ونصيحتي للشباب المسلم الذي يتعرض للكبت في أنحاء العالم بعده أمور: أولاً: أن يضبط نفسه، وأن يحفظ توازنه، وأن يتقي الله عز وجل في هذا الدين وفي هذه الأمة، فنحن لا نريد شباباً متهوراً يفسد أكثر مما يصلح، نطالب هذا الشباب أولاً بالعلم، والعلم هو أفضل طريق للحياة السعيدة.
ثانياً: نطالب هؤلاء الشباب أيضاً بالتوازن في الدعوة إلى الله عز وجل، فالشباب المخرب الذي يكسر ويفسد في الأرض، هذا لا يمكن أن يصلح، وإنما يفسد أكثر مما يصلح، بل ندعو هؤلاء الشباب إلى أن يقوموا بالدعوة إلى الله عز وجل على بصيرة، وهذا هو منهج المرسلين عليهم الصلاة والسلام، فإن الله تعالى يقول: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108] وهذا هو المنهج الصحيح.
ندعو هؤلاء الشباب إلى أن يلزموا الجماعة، وإلى أن ينضم بعضهم إلى بعض، ليسلموا من هذه الفتن التي يعيشون معها وتعيش معهم، فقد جاء عن حذيفة بن اليمان حينما سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عما يحدث في آخر الزمان، وأخبر بأنه سوف يأتي دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها، فقال حذيفة: (فماذا تأمرني يا رسول الله إن أدركني ذلك؟ فقال عليه الصلاة والسلام: الزم جماعة المسلمين وإمامهم) فلزوم الجماعة أمر مطلوب، والدعوة إلى الله عز وجل على بصيرة هي طريق السعادة فقال: (قلت: يا رسول الله! وإن لم يكن للمسلمين يومئذ جماعة ولا إمام؟ قال: فاهرب بدينك).
ونحن نقول: هذا غير موجود، فالجماعة للأمة الإسلامية موجودة، وسوف تبقى هذه الجماعة ما بقيت السماوات والأرض، وما بقيت الحياة الدنيا، وعلى هذا فإننا ندعو هؤلاء الشباب إلى الحكمة والعلم، وإلى التوازن وضبط النفس، والنشاط في الدعوة إلى الله عز وجل؛ لأنه الآن قد تبين الرشد من الغي، وما دام أنه قد تبين الرشد من الغي أصبح المجال مجالاً مهماً للدعوة؛ حتى تتسع هذه الدائرة، وحينئذ لا يكون في هذه الأرض حكم إلا لله سبحانه وتعالى.(37/25)
أخبار المجاهدين في إرتيريا
السؤال
ما هي آخر أخبار إخواننا المجاهدين في إرتيريا؟ وأين يقيمون معسكراتهم الآن بعد طردهم من السودان؟
الجواب
أخبارهم سوف تستمر بإذن الله تعالى، والمسلم أرضه واسعة لو ضاقت به أرض معينة، فإن أرض الله عز وجل واسعة، وإذا كانت السودان رفضت إخواننا المجاهدين الإرتيريين في أيامنا الحاضرة، فلعل ذلك يكون سبباً من أسباب النصر في العاجل إن شاء الله، فإن إخواننا أصبحوا يجاهدون الآن داخل إرتيريا، ولربما يكون هذا أفضل، وهذا هو التحيز إلى فئة معينة.
وعلى هذا فإن إخواننا المجاهدين في إرتيريا أصبحوا الآن داخل البلاد يكافحون الظلم والعدوان والفسق هناك والحمد لله، وسوف تسمعون إن شاء الله نبأهم بعد حين، وفي وقت قريب إن شاء الله أنهم ظهروا؛ لأن الله تعالى أخبر أنه سوف يظهر كل من سار على المنهج الصحيح.(37/26)
أخبار الإصلاحات الحكومية في السودان
السؤال
يرفع الحكام في السودان هذه الأيام شعار الإسلام وتطبيق الشريعة، فما مدى صدقهم في ذلك؟
الجواب
صدقهم عند الله، نحن لا نعرف ما في قلوبهم، لكن نتأكد أن الأوضاع فيها شيء من التحسن والحمد لله، فقد سمعنا أن البنوك الربوية وأن كثيراً من مظاهر الفساد الاقتصادي تعالج الآن، وعلى كل قلوبهم بيد الله، ونحن لا نطلع على ما في قلوبهم، لكنه يظهر إن شاء الله أنه في العالم كله -لا في السودان وحدها- هناك بوادر للإصلاح؛ لأن الشعوب عرفت مطالبها، وأصبحت تفرض مطالبها على القادة، والقادة العقلاء دائماً لا يصطدمون بالشعوب؛ لأنهم لا يمكن أن يضبطوا أو يحكموا هذا العالم بقوة الحديد والنار؛ ولأن هذه الشعوب لا تضبط إلا بشرع الله عز وجل، ولا تقاد إلا بشرع الله عز وجل، فلا يمكن أن تقاد أو تضبط بقوة الحديد والنار، كما أنها لا يمكن أن تضبط بالترف والمتاع والمحرمات، بل بشرع الله عز وجل؛ لأن الله سبحانه وتعالى ركب هذه الأمم على أن يكون لها دين وعقيدة، فأي إنسان يريد أن يضبط الأمور في بلد ما فلا بد أن يحكم هذا العالم بشرع الله عز وجل.(37/27)
نوع الاستقامة التي أمر الله بها نبيه
السؤال
نريد أن توضح لنا ما نوع الاستقامة التي أمر الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
نوعها يتلخص في أن تسير على الطريق المستقيم، وهو طريق الهداية التي تطلبها في كل صلاة، فتقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] أي: تثبت على هذا الطريق وتتأكد من صحة المسار إلى الله عز وجل بسلوكك هذا الطريق الذي ينتهي بالجنة، فأوله في الدنيا وآخره في الجنة، وعلى هذا فإن معنى الاستقامة واضح، ونستطيع معرفته من خلال اللفظ اللغوي، استقام من الاستقامة وهي: سلوك طريق معتدل.(37/28)
حكم زيارة النساء للقبور
السؤال
ما حكم زيارة النساء للقبور؟ وهل صحيح أن المرأة التي تزور القبور كأنها والعياذ بالله قد زنت؟ فإن كان الأمر كذلك فهل ينطبق هذا على قبر الرسول صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لعن الله زائرات القبور) وفي رواية: (زوّارات القبور) واختلاف هذا اللفظ أخذ منه بعض العلماء أن المراد (بزوّارات) اللواتي يكثرن زيارة القبور، أما اللعن فإنه مؤكد في حديث صحيح.
وعلى هذا فإنه لا يجوز للمرأة أن تزور القبور لاسيما إذا كانت زيارة مكررة أخذاً من لفظ: (زوّارات) أما الحديث الأول فهو مطلق زيارة، ولا أعرف أن هناك فرقاً بين قبر الرسول صلى الله عليه وسلم وأي قبر من القبور بالنسبة للمرأة، فإذا نهيت عن زيارة القبور كافة، فأولى أن تكون نهيت عن زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم قد تتعدى فيها الحدود، كما نلاحظ الآن عند زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن كثير من الناس، ويكفي أن المرأة عندما تزور مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسلم على الرسول صلى الله عليه وسلم وهي في مكانها الذي تصلي فيه، أما أن تأتي إلى القبة الشريفة لتقف عند قبر الرسول صلى الله عليه وسلم وتقول: السلام كما يفعل الرجال فظاهر الأحاديث أنه لا يجوز.
كما ننصح الإخوة الذين يريدون أن يزوروا المدينة ألا يقولوا: نريد أن نزور قبر الرسول صلى الله عليه وسلم وإنما يقولون: مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى).(37/29)
أحوال المسلمين في الفلبين
السؤال
ما هي أحوال المسلمين في الفلبين؟
الجواب
أحوال المسلمين في الفلبين والحمد لله طيبة لا بأس بها، ولابد أن نعرف أن في الفلبين أكثر من اثني عشر مليوناً من المسلمين يسكنون في مناطق الجنوب، بل ونعرف أن الفلبين كلها كانت في يوم من الأيام دولة إسلامية كأندونيسيا، لكن حينما نام المسلمون، واشتغل التنصير استطاع أن يحول أكبر هذه الكتلة إلى نصارى، وكانت لهم السلطة أيضاً، وأصبحوا يستذلون المسلمين في الجنوب، ويأخذون أراضيهم، ويتركون لهم الجبال الوعرة كما هي عادة أعداء الإسلام دائماً.
الذي حدث أن إخواننا في الفلبين ربما تحملوا أن تذهب أموالهم وأراضيهم، لكنهم لم يتحملوا أن يفتنوا في دينهم؛ لأن الحكم الوثني النصراني في الفلبين تسلط على مناطق المسلمين، وبدأ يرسل الفساد ويصدره إلى مناطق المسلمين، مما كان سبباً في انحراف كثير من المسلمين في سلوكهم، فأدى ذلك إلى أن تكون هناك حركات جهاد، أهمها الحركة التي يقودها أخونا حفظه الله سلمات هاشم وأحسبه من المجاهدين السلفيين كما يظهر لنا، وهذا الرجل قد اعتصم بالجبال، وانضمت إليهم مجموعات كبيرة من المسلمين، وأعلنوا الجهاد في سبيل الله، حتى تحرر مناطق المسلمين من هؤلاء النصارى المغتصبين، وهم والحمد لله بخير، لكنهم يحتاجون إلى دعم من إخواننا المسلمين، وهناك في هذا البلد الطاهر من يوصل أي مساعدة إليهم بإذن الله تعالى.(37/30)
تعدد وسائل الدعوة إلى الله عز وجل
السؤال
ما هي القنوات التي من خلالها نستطيع أن ندعو إلى الله في الخارج؟
الجواب
القنوات كثيرة، والدعوة لا تقف في الداخل، والله تعالى جعل هذه الأمة مطالبة بنشر الإسلام في الأرض كلها قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم:4]، ونشر الدعوة في الأرض أمر مطلوب على الجميع، والله تعالى يسألنا قبل أن يسأل المرسلين عن هذا الدين، قال تعالى {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف:6]، عالم يموتون على غير الملة ويموتون على جهل نحن مسئولون عنهم بين يدي الله عز وجل يوم القيامة! ومن أكبر العار والمصيبة والبلاء والفتنة أن ينام المسلمون عن هذا الدين في وقت انبرى فيه كل أعداء الإسلام بأنفسهم وأموالهم لتنصير وحرف الأمة الإسلامية عن دينها، ولكن الله تعالى يبشرنا ويقول: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} [الأنفال:36]، وايم الله لقد رأيت بعيني هاتين في غابة من غابات أفريقيا الموحشة فتيات وفتيان جاءوا من إيطاليا، ومن بلاد أوربا التي هي أجمل بلاد العالم، جاءوا مهاجرين للدعوة إلى النصرانية، يعيشون في بلد عند الحر الشديد والمياه الكدرة، ويركبون البقر ويتجولون في مناطق المسلمين يحرفونهم عن الطريق المستقيمة، وحينما نظرت إلى هؤلاء الفتيان والفتيات الذين هم في مستهل العمر، قلت: سبحان الله! ماذا يريد هؤلاء وهم لا يطمعون في الجنة غالباً؟ ثم أين أبناء المسلمين الذين أخذ الله عز وجل عليهم العهد والميثاق أن يبينوا للناس هذا الحق وأن ينشروا هذا الإسلام؟ البلية كبيرة أيها الإخوة! إذاً: لا بد من أن يتحرك المسلمون للدعوة إلى الله عز وجل، فعالم كثير يموت على الوثنية، وعالم آخر كبير لم تبلغه دعوة الإسلام، والله تعالى يقول: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، وليست هناك رسالة تنتظر بعد رسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
والحمد لله رب العالمين.(37/31)
فاستقم كما أمرت [2]
إن الاستقامة المطلوبة والتي أمر الله بها لا تتم إلا ببذل أسباب الثبات عليها، وبالقيام بمقوماتها التي تعين العبد على دوام الاستقامة، وقد ذكر الله هذه المقومات والأسباب وبينها أحسن بيان، فما على المرء إلا أن يأخذ بها حتى يصل إلى بر الأمان.(38/1)
حقيقة الاستقامة التي أمرنا الله بها
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً كما يقول، وكما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، السراج المنير، والبشير النذير صلى الله عليه وسلم وبارك، وعلى آله ومن دعا بدعوته ونصح لأمته إلى يوم الدين.
أما بعد: الحديث في هذه الليلة عن الاستقامة وعواملها وآثارها وجزائها، فالله تعالى يقول عن هذه الاستقامة ومظاهرها: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ * وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:112 - 117].
أيها الإخوة! هذه الاستقامة وهذه مظاهرها الخمسة: (وَلا تَطْغَوْا)، (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا)، (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ)، (وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)، (فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ).
أما الاستقامة فمعناها في اللغة: الاعتدال وعدم الانحراف يميناً أو شمالاً، والمستقيم معناه: الذي هو غير منحرف، وغير ملتو وهو الذي يمثل الخط المستقيم، أي: الطريق المعتدلة، وهذه الطريق ينصح الله تعالى كل واحد من المسلمين أن يلتزم بها في الوصايا العشر التي تجدونها في آخر سورة الأنعام، فآخر هذه الوصايا العشر وهي العاشرة قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153].
فالاستقامة: هي اتباع صراط الله المستقيم، وعدم الانحراف يميناً أو شمالاً.
وعندما تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا) خط خطاً طويلاً معتدلاً، وخط عن يمينه وشماله خطوطاً، فقال عن المعتدل: (هذا صراط الله، وعليه داع يدعو إليه، والداعي هو القرآن، وعن يمينه وشماله سبل، وهي التي يقول الله عز وجل عنها: (وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) وعلى كل سبيل منها ستر مرخاة، وعليها شيطان يدعو إليها) وأظن أنه لا يخفى عليكم هؤلاء الشياطين، لقد بدءوا يبرزون اليوم حتى في ثياب المسلمين من المنافقين والمتمسلمين.
ولكن على الصراط داع كلما هم أحد أن يزيح ستاراً نادى هذا المنادي: ويحك يا عبد الله! لا تزح، فإنك إن تلجه لا تخرج منه إلى يوم القيامة، أو كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم في رسم هذه الطريقة بصورة ترى بالعين المجردة.
هذا هو صراط الله، وهذه هي السبل، وذاك هو الاستقامة، وما يقع عن يمينه وشماله من الطرق المنحرفة هي الانحراف، ولذلك تجدون هذه الانحرافات كثيرة جداً، وتتعدد، ولربما يخطئ الإنسان واحداً منها فيصيبه سبيل آخر.
وتأكدوا أن طريق الجنة واحد، وأن طرق النار كثيرة، ولذلك قال: (صِرَاطِي)، وقال: (وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ).
ويوضح هذه الآية قوله صلى الله عليه وسلم: (وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة).
إذا: ً الصراط واحد، وطريق الجنة واحد واضح، والطرق المنحرفة كثيرة جداً، وربما تتعدد في مفاهيمها وأساليبها، وفي دعاياتها ودعاتها، وفي أشكال دعاتها وألسنتهم، لكنها تتحد في الحقيقة في نهايتها، فهي تصب كلها في نار جهنم، قال صلى الله عليه وسلم: (كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله؟! قال: من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي).
إذاً: يا أخي! فتش هل أنت على الصراط المستقيم؟! هل أنت مستقيم على دين الله؟! كيف تستقيم؟ الزم جماعة وطريق المسلمين، ابحث عن السبيل التي يتسم بها المجتمع الإسلامي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين يقول عنهم عليه الصلاة والسلام: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور! فإن كل محدثة بدعة)، هذا هو الصراط.
ولذلك فإن المسلم يسأل الله تعالى أن يهديه إلى الصراط، وإذا هداه للصراط المستقيم سأله أن يثبته؛ لأن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، فيدعو دائماً في الصلاة وفي غير الصلاة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]، وهذا الصراط المستقيم هو طريق الاستقامة: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] فهو طريق واضح.
ولا تظنوا -أيها الإخوة- أن هذه الطريق غامضة، فهي ميسرة واضحة إلا على من ختم الله على بصيرته، نسأل الله العافية والسلامة، فهم الذين يتخبطون في دياجير الظلام قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5].
أما المؤمنون فهم يرون هذا الصراط بأعينهم المجردة، ويدركونه بقلوبهم؛ ولذلك نقول دائماً: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]، هذه هي الاستقامة التي نسأل الله تعالى أن يثبتنا عليه دائماً وأبداً.
وهذه الاستقامة هي الثبات على المنهج الصحيح، وعدم التأرجح والشكوك، فالمحجة بيضاء واضحة، تركنا عليها محمد صلى الله عليه وسلم، وحذرنا أن نميل عنها يميناً وشمالاً، ومن مال فلا يلومنّ إلا نفسه.
والاستقامة تتعرض في كثير من الأحيان للفتن، لا سيما في عصرنا هذا حينما ينشط دعاة الباطل، ويضعف دعاة الحق، فيلتبس الأمر، فيرتبك بعض المسلمين ويصير في أمرهم اختلاط مع وضوح السبيل، لكن لوجود مغريات، ووجود أمور ربما تكون سبباً في انحراف طائفة من المسلمين، ولذلك أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه تأتي في آخر الزمان فتن كقطع الليل المظلم، دعاة باطل مغريات أهواء شهوات إلى غير ذلك قال صلى الله عليه وسلم: (يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا).
وهذا التقلب يوجد في كثير من الأحيان مع وضوح السبيل، ولا سيما في آخر أيام الدنيا عندما ينشط دعاة الباطل وينام دعاة الحق؛ ولذلك ربما تشاهدون اتجاهات تتعدد في بعض الأحيان، ولربما نفاجأ أن طائفة من الشباب ربما ينحرفون ويتأثرون بالدعاية المضللة، وربما يرتد كثير من المسلمين عن الإسلام؛ لأن الاستقامة غير موجودة عند هؤلاء، بل في دولة إسلامية واحدة يتنصر اثنا عشر مليوناً من المسلمين، لضعف دعاة الحق، ونشاط دعاة الباطل، وبخل المسلمون بأموالهم، ونشاط دعاة الباطل في بذل أموالهم، فكل ذلك من عوامل الانحراف.
أما الأصل فإن هذا الدين فطرة قال تعالى: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:30]، فطرة طبع عليها الإنسان يوم كان في ظهر أبيه الأول آدم، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:172]، وبالرغم من هذا العهد والميثاق الذي يقول الله عز وجل عنه: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يس:60]، يقول الله تعالى: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ} [الأعراف:102] نسوا هذا العهد، فكان ذلك سبباً في انحراف طائفة من المسلمين الذين غفلوا عن العهد، وربما ولدوا على الفطرة، لكن اجتالتهم شياطين الإنس والجن.(38/2)
أسباب الثبات على الاستقامة
أيها الإخوة! إن شياطين الإنس في بعض الأحيان ينشطون أكثر من شياطين الجن؛ لأن الله تعالى يقول عن شيطان الجن: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء:76]، لكن شياطين الإنس ربما يتربصون بهذا المسلم، حتى يخرجوه عن دائرة الدين.(38/3)
اختيار الزوجة الصالحة
إذاً: الاستقامة أيها الإخوة لها أسباب، وعوامل، والانحراف أيضاً له أسباب، ولعل من أهم عوامل وأسباب الاستقامة: اختيار الزوجة الصالحة، والبيئة الصالحة، والبيت الصالح: حينما تتوفر هذه العوامل الثلاثة تكون عاملاً مهماً من عوامل الاستقامة، زوجة صالحة (فاظفر بذات الدين) بيت نظيف طاهر بعيد عن المحرمات والمغريات، وعن الشهوات والشبهات، ليس فيه تشكيك ولا محرمات منتشرة تختلط بدماء الأطفال، فينشأ أحدهم على هذه النشأة مع بيئة صالحة طاهرة، يؤمر فيها بالمعروف، وينهى فيها عن المنكر، وهذه تعتبر عاملاً من عوامل الاستقامة، لكن لما تنحرف البيئة أو ينحرف البيت فإنه يؤثر ذلك على الفطرة، فالفطرة بذرة صالحة تحتاج إلى تربة صالحة، وهي الزوجة، وتحتاج إلى ماء نقي، وهي البيئة التي تسقي هذه البذرة، لتكون شجرة صالحة، ولكن إذا فسدت إحدى هذه العناصر الثلاثة: إما البذرة أو التربة أو البيئة التي تسقي هذه البذرة يوماً بعد يوم، ربما تتأثر هذه الفطرة فيحصل الانحراف.
من أسباب الانحراف عن الاستقامة أيضاً: نشاط دعاة الباطل، ونوم دعاة الحق: لأن الشجرة التي لا تسقى إلا بعد فترة طويلة من الزمن، أو تسقى ماء مالحاً أجاجاً تموت، بالرغم من أصالتها وصحة بذرتها وتربتها، لا بد أن يكون هناك ماء، ولا بد أن يكون هذا الماء صالحاً لسقي هذه الشجرة؛ ولذلك فإن الدعوة إلى الله تعتبر من أهم العوامل التي تستقيم بها الأمم قال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55].
إذا وجد إيمان ووجد ذكرى تستقيم الأمور؛ ولذلك فإننا نطالب دعاة الحق أن ينشطوا لا سيما في هذه الظروف التي ارتبكت فيها كثير من الأمور في العالم الإسلامي، واختلط فيها الحابل بالنابل، وأصبح الأمر خطيراً من هذا الجانب.(38/4)
التربية الصالحة
كذلك من هذه العوامل: التربية الصالحة: فلا بد أن تكون التربية صالحة سواء كانت من البيت، أو من المدرسة، أو من المكتبة التي تخاف الله سبحانه وتعالى، فلا تنشر إلا ما يقوي عقول الشباب، وينمي أفئدتهم، ويحفظ توازنهم، فإذا فسدت المكتبة، وصارت تنشر ما هب ودب من الكتب والمجلات والصحف التي تغري وتفسد، فإن ذلك يكون عاملاً من عوامل الانحراف.
وكذلك المدرسة والمنهج، وكذلك الإعلام الذي يعيش معه الناس بحيث لا ينشر إلا الأمور التي تربي العقل على طاعة الله سبحانه وتعالى، وتحول بين هؤلاء الناس وبين الفتن والصور الفاتنة، والقصص الغرامية الماجنة، كل ذلك يعتبر عاملاً من العوامل المهمة في هذه الاستقامة.(38/5)
الجليس الصالح
ومن هذه العوامل أيضاً: الجليس الصالح: فالجليس الصالح يؤثر على جليسه كبائع المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه على الأقل رائحة طيبة، بخلاف الجليس الفاسق، فإنه كما قال الله عز وجل: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا} [الزخرف:36] سواء كان من شياطين الجن أو من شياطين الإنس {فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} [الزخرف:36 - 37] في الدنيا فيصرفه عن الاستقامة، ويحرفه عن المنهج الصحيح: {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا} [الزخرف:37 - 38] الذي تأثر بالجليس الفاسد (قَالَ) أي: لجليس السوء {يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} [الزخرف:38]، يقول الله تعالى: {وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:39].
فهل بعد ذلك يفرط الشباب بالجلساء أم يسيئون اختيار الجلساء والأصدقاء والأصفياء، أم هل يفرط الآباء بأبنائهم فلا يحسنون الاختيار لجلساء أبنائهم ولأصدقاء أبنائهم؟ إذا كان الثاني فإنه خطر على هذه البذرة الطيبة، وخطر على الاستقامة، ولذلك فإن على المؤمن أن يهتم بهذا الجانب.(38/6)
النظر في ملكوت الله
من عوامل الاستقامة المهمة: النظر في هذا الملك العظيم لهذا الكون الفسيح: الإيمان إما أن يكون جاء عن طريق الوراثة والبيئة، وإما أن يكون جاء عن طريق التفكير في عظمة الخالق سبحانه وتعالى، وفي آياته الآفاقية والنفسية والكونية، فإذا كان الأول أصبح هذا الإيمان معرضاً للفتنة وربما ينهار في أي لحظة؛ ولذلك أخبر الله تعالى بأن من الناس من يعبد الله على حرف، فهو مستقيم ما دامت الأمور هادئة ومطمئنة، يؤذن يذهب إلى المسجد يأتي رمضان فيصوم يأتي الحج فيحج لكن هناك ضريبة لهذا الدين، وهناك فتنة وابتلاء فلا يتحمل؛ ولذلك يعتبر هذا النوع من البشر إنما أخذ الإيمان عن طريق الوراثة، حيث وجد أباه يصلي فصار يصلي، وجد أمه تصوم فهو يصوم، لكن لا يتصور معنى هذه العبادة، ولا يعرف من يعبد ولا من يستحق هذه العبادة، يقول الله تعالى عن هؤلاء: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} [الحج:11]، يعني: طرف بين الإيمان والكفر، ممكن أن يسقط في أي ساعة {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ} [الحج:11] بقي على الإيمان إذا كان المسلمون بخير لا توجد فتن ولا ابتلاء، ولا يوجد أذىً ولا مصائب ولا في فتن، لكن عندما تأتي الفتن يبتلى في دينه قال تعالى: {وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} [الحج:11] وإذا انقلب على وجهه {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ} [الحج:11] هذا النوع من الإيمان الذي لا يكون عن تمحيص وروية وتفكير.
لكن تعال يا أخي إلى الإيمان الذي يحصل بعد البحث والقراءة، والنظر في ملوك السماوات والأرض، وتدبر آيات الله عز وجل في هذا الكون، فهذا الإيمان لا يتأثر بأي عاصفة من هذه العواصف، إيمان كالجبال كما أخبر الله عز وجل عنه: {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم:46] فلو زالت هذه الجبال من مواقعها لا يزول هذا الإيمان من قلب هذا الإنسان؛ لأنه جاء عن طريق الروية والتفكير، وهذا الإيمان ليس كإيمان القوم الذين يقول الله عز وجل عنهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت:10] لكنه إيمان كإيمان القوم الذين يقول الله عز وجل عنهم: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [الأحزاب:22] في أيام الشدة تذكروا وعد الله عز وجل، ربما في أيام الرخاء غفلوا عن هذا الأمر، لكن لما جاءت الشدة ورأوا الأحزاب وتشكلت كل قوى البشر ضدهم، ووقفت جميع قوى الكفر أمام وجوههم زادهم هذا الفعل إيماناً، قالوا: نحن ننتظر هذا اليوم، الآن زاد يقيننا بهذا الدين، والآن زادت ثقتنا بهذا الإيمان، الآن يقوى إيماننا: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22].
الفتن زادت هؤلاء إيماناً، وزادت أولئك تراجعاً ونكوصاً إلى الوراء قال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ) من أجل الله (جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ) أي: أذى الناس (كَعَذَابِ اللَّهِ) يعني: يوم القيامة.
فهذا هو الفرق بين الإيمان الذي يحصل بعد بحث وتفكير وبين الإيمان الذي يحصل بتقليد ووراثة؛ ولذلك نجد في قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام العبرة العظيمة: كان إبراهيم لا يشك في الله سبحانه وتعالى، حتى في أيام طفولته وشبابه قبل أن يكون نبياً، حتى وهو يعيش في بيئة فاسدة تعبد الأصنام، وأول من يحاربه أبوه، ينظر في هذا الكون فينظر إلى الكوكب ويقول: هذا ربي، فلما أفل الكوكب قال لا أحب الآفلين، ونظر إلى القمر فقال هذا ربي، فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين! نظر إلى الشمس فقال: هذا ربي هذا أكبر، فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون، هنا جاءت قوة الإيمان، والبراءة من الكافرين والمشركين حتى الأب ويقول: إني بريء من المشركين، يقول: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ} [الأنعام:79 - 80] لكن هذه المحاجة جاءت بعد إدراك عميق لعظمة الخالق سبحانه وتعالى: {قَالَ أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ} [الأنعام:80].
ثم يبتلى هذا الإيمان وهذه الاستقامة فلا تتأثر، يلقى في النار فلا يبالي، ويؤمر بذبح ولده فلا يبالي، ويؤمر بأن يبقى ولده وزوجه في مكة بواد غير ذي زرع فلا يبالي، كل ذلك استجابة لأمر الله عز وجل؛ لأن الإيمان قد قوي في هذه النفس، واستقر في هذا القلب، فهذه هي الاستقامة.(38/7)
العلم
كذلك من عوامل الاستقامة العلم: فالله تعالى يقول: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] فبمقدار ما يكون الإنسان أعلم بالله يكون أتقى لله غالباً، وإلا فقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، والله تعالى يقول: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28].
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من كان بالله أعرف كان منه أخوف) ولذلك فإن الخشية وهي أعظم أنواع الخوف تكون بالعلم غالباً، سواء كان علماً شرعياً وهذا أولى، أو كان في علم الفلك، فينظر في هذه المخلوقات العظيمة فيخرج بنتيجة، أو في علم الطب فينظر إلى خلايا هذا الجسم، وإلى قدرة الخالق سبحانه وتعالى حيث يقول: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21]، فيرى الخالق سبحانه وتعالى من خلال هذه الصنعة، أو في أي علم من هذه العلوم تسبب خشية الله.(38/8)
سؤال الله عز وجل الثبات
وأهم عامل من عوامل الاستقامة سؤال الله عز وجل الثبات: فكم من إنسان اغتر بعمله، واغتر بنفسه فكانت نهايته البوار والدمار، حيث انقلب على وجهه.
ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يسأل الله الثبات، ويقول: (اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) ويقول لمن أوصاه: (قل آمنت بالله ثم استقم)، والله تعالى يقول قبل ذلك: {وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] ما قال: أسلموا، ولكن قال: {وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
فهناك فرق بين الحياة على الإسلام وبين الموت على الإسلام، فلربما يعيش الإنسان في هذه الحياة طول حياته على الإسلام والملة لكن الله عز وجل أراد له سوء الخاتمة فيرتد نسأل الله العافية والسلامة، فتكون عاقبته الردة، فتكون نهايته النار، كما جاء في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها).
وكذلك أوصى إبراهيم ويعقوب: {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132]، ويقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (من كان منكم مستناً فليستن بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة) لأن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الله عز وجل.
على كل أيها الإخوة! لا بد من سؤال الله عز وجل الثبات والاستقامة على دين الله سبحانه وتعالى، والله سبحانه وتعالى يقلب أفئدة الكافرين ويقلب أبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة، ولربما يأخذ الغرور أحداً من المسلمين بعمله فيعاقبه الله عز وجل بالردة والانحراف نعوذ بالله! ولذلك المسلم دائماً وأبداً يسأل الله الثبات، ودائماً وأبداً يشعر بالتقصير في جنب الله سبحانه وتعالى، وهذا يعتبر من أكبر عوامل الاستقامة على دين الله سبحانه وتعالى.(38/9)
جزاء الاستقامة في الدنيا والآخرة(38/10)
جزاء الاستقامة في الدنيا
أما الاستقامة فجزاؤها عند الله عز وجل عظيم في الدنيا، وهو حياة سعيدة يشعر فيها المؤمن بالراحة والطمأنينة، ومتعة البقاء والخلود في الحياة الآخرة، فهذه الحياة وهذه اللذة لا يدركها إلا المؤمنون كما قال ابن القيم رحمة الله عليه: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة.
ويقصد بجنة الدنيا لذة الإيمان التي يقول الله عز وجل عنها: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97].
ولا تظنوا أيها الإخوة أن الحياة الطيبة هي حياة القصور، وحياة الترف، وحياة النعيم، قد يشترك فيها المسلم والكافر بل ربما يشترك في هذا المتاع الظاهر الإنسان والبهيمة، إنما هي لذة الإيمان التي يقول عنها إبراهيم بن أدهم رحمة الله عليه: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من لذة الإيمان لجالدونا عليها بالسيوف.
ويقول عنها الفضيل بن عياض رحمة الله عليه: ومما زادني شرفاً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبياً هذه العزة وهذه اللذة وهذه المتعة لا يشعر بها إلا أولياء الله، ويفقدها أعداء الله، ويضيقون ذرعاً بكل حدث من أحداث الحياة الدنيا، ويتخلصون من هذه الدنيا بالانتحار، ولذلك يوجد مواقع في بلاد الغرب مخصصة للانتحار، وفي اليوم الواحد ينتحر عدد من الناس، لماذا؟ لأن لذة الإيمان غير موجودة، وجد متاع ولم يوجد إيمان، والمتاع بطبيعته إذا ألفه الإنسان يصبح شيئاً طبيعياً، وما السعادة في الدنيا سوى شبح يرجى، فإن صار جسماً مله البشر.
القاعدة أن لذة الإيمان تتجدد في كل يوم؛ ولذلك الذين فقدوا لذة الإيمان -لأنهم فقدوا الاستقامة على دين الله- يعيشون بلا تفكير بلا هدف بلا قصد، يقول أحدهم: لا أدري من أين جئت! ولا أدري أين أذهب! شك في المجيء وفي الذهاب، فلأي سبب من الأسباب، ولأي حدث من الأحداث ولو كان صغيراً يتخلص من هذه الحياة بالانتحار؛ لأنه غير مؤمن قال تعالى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود:3] هذا المتاع الحسن لا يكون إلا للمؤمنين، ويفقده غير المؤمنين، وهنا يقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأحقاف:13].
إذاً: هذه الاستقامة جزاؤها في الدنيا حياة سعيدة طيبة لذيذة، يتمتع فيها الإنسان بمتاع الحياة الدنيا، وتكون له خالصة يوم القيامة، فإذا أصابته مصيبة في الدنيا احتسبها عند الله، فخفت عليه المصيبة، إذا شعر بقصر الأجل شعر بالخلود الباقي في الآخرة بالجنة، فنفس هذا عنه، ووسع له ضيق الحياة الدنيا.(38/11)
جزاء الاستقامة عند الموت
أما في ساعة الموت، وما أدراك ما ساعة الموت! وهي أشد ساعة تمر بالإنسان طول حياته، فهي ساعة مخيفة جداً رهيبة، إنها ساعة ينظر الإنسان فيها إلى أهله وأمواله وأطفاله وزوجته النظرة الأخيرة، ويريد أن يودع الحياة الدنيا، ساعة التفت فيها الساق بالساق! وبلغت الروح التراقي، يريد الآن أن يفارق الحياة الدنيا.
ماذا يكون موقف هذا الإنسان وهو يودع المتاع والنعيم والقصور والأولاد، ويقبل على حفرة مظلمة لا يدري ماذا يجد فيها؟! هذه ساعة مخيفة، وهي أشد ساعة تمر بالإنسان طول حياته.
تصوروا أنه في هذا الموقف الرهيب يأتي دور الاستقامة وجزاء الاستقامة أيضاً، ينزل الله عز وجل على هذا الإنسان في هذه الساعة الرهيبة الشديدة المخيفة المزعجة ملائكة تطمئنه: اطمئن أمامك الجنة ما وراءك من الأهل والذرية والمال نحن نخلفك فيه لا تخاف على أولادك سنعوضك في الدار الآخرة ما هو أفضل من ذلك، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:30] أي: ثبتوا على دين الله {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ} [فصلت:30] أي: في ساعة الموت، تقول لهم: {أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30]، لا تخافوا مما أمامكم، ولا تحزنوا على ما تخلفونه وراءكم من الحياة الدنيا، فالأولاد نحن نخلفكم عليهم نحن نرعاهم نحن نعوضكم عن الممتلكات العظيمة التي خلفتموها وراءكم بما هو أفضل منها، سنكون معكم حتى تدخلوا الجنة، لا نفارقكم حتى في القبر وعند الحساب والميزان، حتى على الصراط لا تخافوا ولا تحزنوا، لو لم يكن للاستقامة جزاء إلا هذا لكان هذا ألذ جزاء.
أما الساعة الرهيبة المخيفة المزعجة الموحشة! فتتنزل الملائكة وتقول لهؤلاء المستقيمين على دين الله: {((أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [فصلت:30 - 31] كنا معكم في الحياة الدنيا نحرسكم قال تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد:11] أي: بأمر من الله، {وَفِي الآخِرَةِ} [فصلت:31] أيضاً سنكون معكم لا تنزعجوا، {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:31 - 32].
إذاً: هذه الاستقامة تؤنس الإنسان في ساعة الموت، لكن الصنف الآخر -نعوذ بالله- هم الذين يقول الله فيهم {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} [النساء:97]، و {الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [الأنفال:50] من الأمام ومن الخلف.(38/12)
جزاء الاستقامة في الآخرة
الاستقامة في الآخرة لها جزاء أيضاً عند الله، وأفضل جزاء الجنة قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأحقاف:13 - 14] لأنهم استقاموا على دين الله؛ ولذلك نفهم معنى قوله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود:112].
إذاً: هذه الاستقامة يحتاج المسلم دائماً وأبداً إليها، فهو دائماً يسأل الله الثبات عليها، ويحاول دائماً أن يبتعد عن مواطن الفتن التي ربما تغريه أو تصرفه عن منهج الاستقامة، فتكون الخسارة العظيمة في الدنيا والآخرة.(38/13)
من معاني الاستقامة ترك الابتداع
وهذه الاستقامة أيضاً ليست راجعة إلى اختيار الإنسان وذوقه، فبعض الناس يظن أن معنى الاستقامة أن تتجه إلى دين الله ولو على غير بصيرة، فعندما تجد قوماً يعبدون الله على غير بصيرة تعجب وتقول: كيف أن هذه العبادة تصرف في غير مصارفها، والله إن هناك أناساً يعيشون كل ليلة في عبادة لكنها غير مقبولة عند الله سبحانه وتعالى لأنها انحراف، كما يفعل غلاة الصوفية وأصحاب الأضرحة والقبور!(38/14)
انتشار البدع والشركيات في بلاد المسلمين
سافر يا أخي إلى كثير من بلاد المسلمين تر الأضرحة والعبادات التي تشبه العبادة لكنها بعيدة عن المنهج الصحيح، ولا تزيد الإنسان من ربه إلا بعداً نسأل الله العافية والسلامة، بكاء حول الأضرحة طواف تضرع خشوع سجود ركوع لغير الله عز وجل قرابين تذبح لغير الله عبادات لكنها على غير بصيرة، هل مطلق العبادة يعتبر استقامة، أم أن هناك نوعاً خاصاً من العبادة هو استقامة؟ هناك نوع خاص من العبادة هو الاستقامة، ولذلك يقول الله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود:112] أي: لا تستقم كما يحلو لك، كثير من الذين يبتدعون في دين الله إذا أعجبتهم عبادة أدخلوها في الدين، وقالوا: هذه بدعة حسنة، هل يكون هناك في دين الله بدعة حسنة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار)؟ أين البدعة الحسنة من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (كل بدعة ضلالة)؟ (كل) من ألفاظ العموم، فليس في الإسلام بدعة حسنة أبداً.
ويستدل بعضهم بقول عمر رضي الله عنه لما أعاد صلاة التراويح (نعمت البدعة) فظنوا أن هذه بدعة حسنة، وعمر ما أتى ببدعة جديدة، وإنما أحيا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة التراويح التي تركها الرسول صلى الله عليه وسلم فقط خشية أن تكتب على الأمة؛ لأن فعل الرسول صلى الله عليه وسلم يعتبر تشريعاً لهذه الأمة.
أما ما يفعله الناس اليوم من العبادات التي لا أصل لها في دين الله، فهي تتعدى الكفر بالله سبحانه وتعالى.
أنا متأكد أنه لو بعث الرسول صلى الله عليه وسلم اليوم في العالم لقطع رءوس هؤلاء القوم الذين يبتدعون في دين الله، ويحدثون عبادات ما شرعها الله، ويطوفون بالأضرحة والقبور ويسألونها الحاجات، ولقاتلهم قبل أن يقاتل الشيوعيين الذين يقولون: لا إله والحياة مادة؛ لأن هؤلاء الذين يعبدون الله على غير بصيرة ينافسون الله عز وجل في سلطانه، ويريدون أن يكونوا مشرعين هم أنفسهم، ويضلون الناس من حيث لا يشعر الناس، ولذلك إذا ألقي أهل النار في النار يقولون لدعاة الضلال: {إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} [الصافات:28] أي: ما جئتمونا عن طريق الزنا والسرقة وشرب الخمر، وإنما جئتمونا عن طريق الطاعة، قلتم لنا: هذه بدعة حسنة هذا دين الله هذا شرع الله فاتبعناكم.
ولذلك كان هذا أخطر ما يدخل الناس النار، وهو أعظم عند الله من المعاصي الكبائر، وإن كان أصحابها يعتبرون من العباد النساك، ولربما وجد من العلماء من يشجعون على بناء الأضرحة والقبور، والذهاب إليها وسؤالها، وهؤلاء الصالحون ترجى شفاعتهم كما كان المشركون الأولون يقولون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3].
أيها الإخوة! إنه في هذا العصر الذي استيقظت فيه العقلية البشرية، وتطورت فيه عقلية الإنسان، وظن بعض الناس أن الخرافات سوف تنتهي؛ تقول الإحصائيات: إنه يوجد في العالم الإسلامي عشرون ألف ضريح يعبد من دون الله، ويحج لها الناس من بلاد بعيدة، ولو جئت إلى بعض المواقع يقول لك: لا تطف إلا شوطاً واحداً، الكعبة سبعة أشواط، لكن هنا شوط واحد لأن الزحام شديد، لا يسمح لأي واحد، إلا بشوط واحد إلا إذا استعمل الحيلة مثل أن يخرج ويرجع ليأتي بشوط آخر.(38/15)
الابتداع في الدين اتهام له بالنقصان
أين دين الله عز وجل الذي يقول الله سبحانه وتعالى عن نفسه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة:3]؟ أين هذا الإكمال عند هؤلاء مع هذا الواقع؟ نقول: نعم، الله تعالى أكمل هذا الدين، لكن هؤلاء ما فهموا معنى إكمال هذا الدين، فوضعوا أنفسهم مشرعين كما يشرع الله سبحانه وتعالى، فيأتون بعبادات، ويصرفون الناس عن المنهج الصحيح، ولعل هؤلاء هم السبب في وجود هذه الأشياء من شياطين الإنس الذين جاءوا فاجتالوا بني آدم عن الفطرة.
أكثر ما وصلت إليه الوثنية في آخر يوم من أيامها يوم فتحت مكة، أن كان لها ستون وثلاثمائة وثن تعبد من دون الله، والآن يقولون: بلغت عشرين ألف ضريح وهذه الإحصائية قبل عشر سنوات.
إذاً: يقول الله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود:112]، ليس معناه: استقم كما يحلو لك أو كما يبدو لك، ليس هناك بدعة حسنة وبدعة سيئة، فإن كل بدعة ضلالة، ولذلك يجب أن يحقق الإنسان معنى شهادة أن لا إله إلا الله، فلا يعبد إلا الله، ويحقق شهادة أن محمداً رسول الله، فلا يعبد الله إلا بما شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن انحرف يميناً أو شمالاً عن هاتين الشهادتين فهو الكفر والشرك بالله عز وجل.(38/16)
لا يقبل العمل إلا إذا كان خالصاً صواباً
يشترط الله تعالى في صحة العمل شرطين اثنين لا بد منهما: أن يكون العمل خالصاً لله، وأن يكون صواباً على المنهج الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الكهف:110] هذا الشرط الأول، وهو معنى لا إله إلا الله.
{فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} [الكهف:110] يعني: صواباً كما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110] أي: يحقق معنى شهادة أن لا إله إلا الله.
إذاً: أيها الإخوة! يقول الله تعالى: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ) أي: أنت مضبوط بمنهج مرسوم لك، لا تعبد الله كما يحلو لك، ولا تستقم كما يحلو لك من الاستقامة، فأنت مضبوط ومربوط بمنهج، ولا تسمى الاستقامة استقامة إلا إذا كانت على هذا المنهج الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله.
أحذر إخواننا الذين يأتوننا من خارج هذه البلاد أن يميلوا إلى هذا النوع من البشر الذين أحدثوا في دين الله، أو يذهبوا إلى الأضرحة والقبور ويسألونها الحاجات من دون الله، فإنه لا يقضي الحاجة إلا الله سبحانه وتعالى.
وأدعوهم إلى أن يأخذوا على أيدي هؤلاء الناس إلى المنهج الصحيح الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فإن الله تعالى يقول: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود:112]، ولو جعلنا هذا الدين مطاطاً كلما أعجبتنا عبادة أدخلناها في دين الله لما وقف هذا الدين عند حد، ولما تحقق قول الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3].
وبمقدار ما يدخل من البدع في دين الله تخرج السنن حتى لا تبقى سنة، ويكون الأمر كله بدعة.(38/17)
من معاني الاستقامة التوسط في الأمور
ثم إن الاستقامة لها معنىً آخر: وهو التوسط في الأمور: لأن الاستقامة معناها أن يكون الأمر مستقيماً بين طرفي نقيض، ومن فضول القول أن نتحدث عما يسمى بالتطرف في أيامنا الحاضرة، أنا والله حينما أتحدث عن تطرف لا أجد مجالاً للحديث، لكن ربما نومئ إليه إيماءً.
فمعنى التطرف المبالغة في الدين، هذه قد توجد نادراً لكن لا كما يصورها الناس في أيامنا الحاضرة، ففي أيامنا الحاضرة كلما رأى الناس شخصاً يتمسك بهذا الدين، ويخرج عن الأوضاع المألوفة التي ألفها الناس مدة طويلة في أيام الركود التي مضت بنا، يسمون ما يحدث بالتطرف، والحقيقة أن هذا ليس تطرفاً، هذا هو الدين، لكن لما نسي الناس وغفلوا عن هذا الأمر مدة من الزمن ظنوا أن من اتجه هذا الاتجاه يعتبر متطرفاً، وإلا في الحقيقة هذا هو الدين.
ولربما يطعنون في المتدينين فيسمونهم المتطرفين أو الأصوليين أو ما أشبه ذلك، وهؤلاء هم المتدينون الذين ساروا على المنهج الصحيح، لكن ربما أن الناس جهلوا جانباً من جوانب هذا الدين أو تناسوه أو نسوه مدة طويلة من الزمن، وهي مدة الركود التي مرت بنا، فظنوا أن ما حدث تطرفاً، لكن لا يمنع أن يكون هناك تشدد في الدين، وهذا التشدد يقابل من الجانب الآخر التساهل؛ ولذلك يقول الله تعالى: (فَاسْتَقِمْ) أي: فإن دين الإسلام وسط بين طرفي نقيض، فلا هو بالطرف الشديد من جهة اليمين، ولا بالطرف الشديد من جهة اليسار ولكنه وسط؛ ولذلك يحذر الله سبحانه وتعالى المسلمين أن يزيدوا في هذا الدين، كما يحذرهم أن ينقصوا من هذا الدين، ولكن النقص في هذا الدين أسهل من الزيادة؛ لأن النقص في هذا الدين يعتبر معصية، والزيادة في هذا الدين تعتبر تشريعاً، فهذا الزائد في الدين يعتبر نفسه مشرعاً يضع نفسه في درجة الخالق سبحانه وتعالى؛ ولذلك يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} [المائدة:87] فقدم تحريم الطيبات على الاعتداء الذي هو الجرأة على المحرمات، فالأول أشد، والثاني أيضاً شديد.
ولذلك نجد أن دين الإسلام دين وسط بين طرفين، فمثلاً: حينما تقدس الصوفية الروح وتهمل الجسد، نجد بجانبها من الطرف الآخر الشيوعية الملحدة التي تهمل الروح وتقدس الجسد.
والإسلام يعطي لكل من الجسد والروح حقه، فلا يسمح للإنسان أن يرهق هذا الجسد حتى ولو في طاعة الله تعالى، ولا يسمح له أن يتساهل في أوامر الله، فلا هو بالصوفية الموغلة التي تهتم بالروح دون الجسد، ولا هو بالشيوعية الملحدة المادية التي تهمل الروح وتقدس الجسد.
والإسلام لا يذيب الفرد في سبيل الجماعة، ولا الجماعة في سبيل الفرد، فيعتبر للجماعة حقاً، وللفرد حقاً، فالإسلام في الأنظمة الاقتصادية لا هو بالرأسمالية في معناها العصري والاصطلاحي التي تأخذ المال من أي طريق وبأي حال ولا تعتبر في المال حقاً، ولا هو بالاشتراكية الخبيثة الملحدة التي تأخذ أموال الناس وتبتزها، ولكنه وسط، فهو يثبت الملكية الفردية للإنسان، ويضع لها قيوداً سواء كان في مصادرها أو مواردها.
وهكذا تجد أن الإسلام وسط بين طرفي نقيض، فهو مستقيم بين طريقين منحرفين؛ ولذلك يقول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143] وبالرغم من أن (وسط) معناه: عدول وثقات، وهي كذلك تعطينا المعنى الآخر، فهو وسط بين طرفي نقيض.
إذاً: هذا هو معنى قوله تعالى: (كَمَا أُمِرْتَ) فلا يظنن أحد أن باب الاستقامة مفتوح للزيادة، ولذلك نجد أن الله تعالى يحرم عبادات حتى لا يزيد الإنسان في العبادات، فمثلا: ً نأتي في أمر الصلاة، فلو أن واحداً زاد صلاة سادسة، قلنا: أنت كفرت بالله عز وجل، ولو جعل الصلوات أربعاً قلنا أيضاً: كفرت بالله تعالى.
ومثله في الصيام: حرم الرسول صلى الله عليه وسلم صيام يوم الشك، وجاء في الحديث: (من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم) ويوم الشك هو آخر يوم من شعبان.
لماذا حرم الرسول صلى الله عليه وسلم صوم يوم الشك؟ حتى لا يدخل الناس في العبادات زيادة ليست منها، وحرم صوم يوم عيد الفطر حتى لا يزاد في هذه العبادة من آخرها.
وأمر صلى الله عليه وسلم بتأخير السحور حتى لا نأخذ من الليل زيادة للنهار، وأمر بتعجيل الفطر حتى لا نأخذ من الجانب الآخر من الليل زيادة.(38/18)
مقومات الاستقامة
وهكذا نجد أن الإسلام يقيد الناس بأوامر حتى لا يزيدوا؛ لأن الزيادة أخطر في هذا الدين من النقص، وهكذا كل العبادات تجدونها بهذا الشكل، إلا ما يفعله الإنسان تطوعاً بشرط ألا يضعه كعبادة واجبة.(38/19)
ترك الطغيان
قال تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا} [هود:112]: الطغيان وهو أول عامل من عوامل عدم الاستقامة، لأن الطغيان مجاوزة الحد، وقلت لكم إن الزيادة في العبادة تعتبر طغياناً؛ ولذلك جاء ثلاثة نفر ذات يوم إلى بيت من بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألوا عن عمله في السر، فأخبرتهم إحدى زوجاته صلى الله عليه وسلم بعمله في السر، فتقالوا هذا العمل، وقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل ولا أرقد وقال الثاني: أما أنا فأصوم النهار ولا أفطر، وقال الثالث: لا أتزوج النساء.
فعلم الرسول صلى الله عليه وسلم بما فعله هؤلاء؛ فخاف أن يكون ذلك حدثاً في دين الله، وخاف أن يحدث الناس تشريعاً لم يشرعه الله عز وجل، ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، فغضب غضباً لم يغضب مثله أبداً، وصعد المنبر وقال: (أما بعد: فإني أتقاكم لله، وإني لأصلي وأرقد، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) فالطغيان حتى في العبادة لا يجوز؛ ولذلك فإن الطغيان بكل أنواعه خطير جداً، طغيان المادة يفسد الأمم، والتكبر في الأرض يفسد أصحابه؛ ولذلك أخبر الله تعالى بأنه أخذ الأمم حينما طغوا في البلاد قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:6 - 14].
يقول الله تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) أي: فلينتبه كل من طغى، وهذه الآية تعطينا معنىً جديداً خالداً إلى يوم القيامة أن كل من طغى، وتجاوز الحد، وركب محارم الله، وتعدى على خلق الله، واستذل من أعزه الله، وحاول أن يذل المؤمنين، وحاول أن يظهر مظهر الكبرياء والخيلاء والعظمة التي لا تكون إلا لله، فإن الله عز وجل له بالمرصاد.
ولذلك نقرأ في أخبار الأمم السابقة في القرآن: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} [العنكبوت:40].
ثم نقرأ بعد ذلك قصة الطاغية الجبار العنيد الذي كان يستذل الأمم ويقول لهم: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] ويزيد في طغيانه وتكبره على الله عز وجل فيقول: {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} [القصص:38]؛ لأنه يؤمن في قرارة نفسه بأن الله تعالى موجود، وأن الله هو الرب الحقيقي قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14] هذا الطغيان! (طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ) فأخذه الله تعالى أخذ عزيز مقتدر.
وإذا لم يأخذ الإنسان عظة وعبرة من الأمم السابقة فعليه أن ينظر في أمم طغت في أيامنا الحاضرة، أو في عصرنا الحديث أو قبل سنين، فماذا فعل الله تعالى بالمسلمين في الأندلس؟ أصبحوا خبراً بعد عين.
ماذا فعل الله تعالى بلبنان؟ ماذا حدث في أمم عشناها نحن؟ بمقدار ما ركبوا من محارم الله، وبمقدار ما اشتدوا على خلق الله، عاقبهم الله سبحانه وتعالى في الدنيا قبل الآخرة، وليس هناك ذنب أعظم وأحرى أن يعجل الله عقوبته في الدنيا قبل الآخرة من الظلم في الأرض، فإن الظلم يعجل الله عز وجل عقوبته في الدنيا قبل الآخرة.
فالذين يظلمون الشعوب ويتعدون على محارمهم، والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا، هؤلاء قد يعاجلهم الله عز وجل بعقوبة في الدنيا قبل الآخرة، وكم سقطت من أمة، وكم درج في هذا التاريخ الطويل عبر هذه الحياة الطويلة من الأمم فصار خبراً بعد عين! أيها الإخوة! قال تعالى: {وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود:112] يعني: يدرك أموراً لا يدركها الناس.(38/20)
ترك الركون إلى الكفار
ثم العنصر الثاني من مقومات الاستقامة: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود:113]: والركون إلى الكافرين هو الميل بحيث تتخذ الكافر ركناً تعتمد عليه بدل أن تعتمد على المسلمين بعد الله سبحانه وتعالى.
والمسلم لا يركن إلى أعدائه ولا يميل، حتى إن الرسول صلى الله عليه وسلم لامه الله عز وجل لما فكر أن يميل شيئاً قليلاً، وأن يركن شيئاً قليلاً إلى الكافرين، يقول الله عز وجل: {لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} [الإسراء:74 - 75].
والرسول صلى الله عليه وسلم وهو يفكر أن يركن قليلاً لمصلحة الإسلام وللدعوة؛ لعله أن يكسب القوم ليستقيموا على دين الله، ومع ذلك يقول الله تعالى: لو فعلت ذلك يا محمد وأنت خير البرية (إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ) فركون المسلمين إلى الكافرين واتخاذهم بطانة من دون المؤمنين أمر عظيم، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة:1].
مودة الكافرين أمر عظيم عند الله ولو كانوا أقرب الناس منا، قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [المجادلة:22].
أيها الإخوة! إن الميل إلى الكافرين سواء كان بمحبة أو اعتماد عليهم من دون الله عز وجل، أو موادة، أو ابتسامة في وجوه الكافرين حرام، حتى السلام يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تبدءوا اليهود ولا النصارى بالسلام) ولا نفسح لهم المجال في بلاد المسلمين بحيث يرفعون رءوسهم والمسلمون يخفضون رءوسهم، قال صلى الله عليه وسلم (وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه).
وليس معنى ذلك أن نؤذي الكافرين المعاهدين، بل علينا ألا نتركهم يرفعون رءوسهم في بلاد المسلمين بحيث يخفض المسلمون رءوسهم أمام هؤلاء الكافرين.
قال تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} أي: تصيبكم، {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ} [هود:113].(38/21)
إقامة الصلاة
العنصر الثالث من مقومات الاستقامة قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود:114]: الصلاة أفضل العبادات، ليس هناك عبادة شرعت فوق السماء إلا الصلاة، وسائر تشريعات الإسلام كلها نزل بها الروح الأمين على محمد صلى الله عليه وسلم إلى الأرض، إلا الصلاة لما أراد الله تعالى أن يفرضها صعد بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم فوق السماء؛ ولذلك فإن تركها ردة، ولا يحافظ عليها إلا مؤمن، ولا يتخلف عنها في المسجد غالباً إلا منافق معلوم النفاق، يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (ولقد كان يؤتى بالرجل يهادى بين الرجلين -لأنه لا يستطيع المشي- حتى يقام في الصف).
ولذلك فإن الصلاة أعظم شريعة، ولا يرتد المسلم بترك عبادة من العبادات إلا الصلاة.
قوله تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ) صلاة الفجر وصلاة الظهر والعصر، (وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ) المغرب والعشاء (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) يعني: هذه الصلوات تكفر الذنوب التي تفعل فيما بينها إذا كانت من الصغائر، أما إذا كانت من الكبائر فإنها تحتاج إلى توبة خاصة.
ولذلك فإن سبب نزول هذه الآية: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ}، أنه جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! إني قبلت امرأة، فقال له: اجلس، فجلس الرجل، وأنزل الله تعالى هذه الآية: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] قال: يا رسول الله! ألي خاصة أم لجميع الأمة، قال: بل لجميع أمتي) فالصغائر تكفرها الصلوات الخمس.
لذلك فالصلاة أمرها عظيم، وقد شبهها الرسول صلى الله عليه وسلم بنهر غمر جار في باب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟ لا يبقى من درنه شيء الصلاة تطهر المجتمع من الفساد، قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45].(38/22)
لزوم الصبر
يقول الله تعالى عن الأمر الرابع: كم من الناس من هو في خير لكن طال عليه الأمد فقسا قلبه نسأل الله العافية والسلامة، ولذلك فإن المسلم مطالب بالصبر بكل أنواعه: صبر على طاعة الله، وصبر عن معاصي الله، وصبر على أقدار الله.
وهذه الثلاثة الأنواع من الصبر كلها يحتاج إليها المؤمن في حياته، فيصبر نفسه على طاعة الله، لما يوجد في طاعة الله من المشقة.
ويصبر عن معصية الله؛ لما في معصية الله من الشهوة.
ويصبر على أقدار الله المؤلمة؛ لما في أقدار الله عز وجل من الأذى والتعب، الذي قد لا يستطيع الإنسان أن يتحمله.
وطريق الجنة -كما نعرف- محفوف بالمكاره، كما أن طريق النار محفوف بالشهوات، قال صلى الله عليه وسلم: (حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات) وفي الحديث: (إن الله عز وجل حينما خلق الجنة قال لجبريل: اذهب فانظر إليها، وإلى ما أعددت لأهلها فيها، فذهب جبريل إلى الجنة، فوجدها جنات تجري من تحتها الأنهار، رجع فقال: وعزتك وجلالك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، فأمر الله عز وجل بها فحفت بالمكاره) فصلاة الفجر تأمر المسلم بأن يقوم في ساعة لذة النوم التي ينام عنها كثير من المسلمين اليوم، والتهجد والصيام فيه مشقة، وكذلك غيره من العبادات، الجهاد في سبيل الله، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كل ذلك فيه شيء من المشقة.
(ثم خلق الله عز وجل النار فقال لجبريل: اذهب فانظر إليها، وإلى ما أعددت لأهلها فيها، فلما جاءها يأكل بعضها البعض -نسأل الله العافية والسلامة- رجع وقال: وعزتك وجلالك لا يدخلها أحد سمع بها، فأمر الله عز وجل بها فحفت بالشهوات) المحرمات اللذيذة، النوم عن الصلوات المكتوبة البخل بالزكاة التمتع بالمال فيما حرم الله الزنا وما فيه من لذة ومتعة السرقة إلى غير ذلك من الشهوات التي تميل إليها فطرة كثير من الناس.
(فلما رآها قد حفت بالشهوات رجع وقال: وعزتك وجلالك خشيت ألا ينجو منها أحد)، نسأل الله العافية والسلامة.
فالله تعالى هنا يقول: {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [هود:115] والإحسان معناه: إتقان العمل، ومراقبة الله سبحانه وتعالى، وهذا الأمر لربما تعجز عنه النفوس الصغار التي لا تشتاق إلى الجنة وإلى لقاء الله عز وجل، لكن النفوس الكبار التي تعشق هذا النعيم لا تبالي في طريق الجنة بأي مكروه من هذه المكاره.
ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، إلا إن سلعة الله الجنة).(38/23)
النهي عن الفساد في الأرض
يقول الله تعالى عن آخر مقومات الاستقامة: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ} [هود:116]: أهم عوامل الاستقامة النهي عن الفساد في الأرض، وأهم عناصر بقاء الاستقامة في الأرض أن ينهى عن الفساد في الأرض، ومن الذي ينهى عن الفساد في الأرض؟ الأمة الإسلامية كلها، قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:104]، {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] الفساد إذا حل في الأرض تفسد حياة الدنيا كلها، وربما ينزل الله عز وجل عقوبة تكتسح هذا العالم، كما أهلك عاداً وثمود وأصحاب الأيكة إلى غير ذلك من الأمم.
ووجود الفساد في الأرض سراً ربما يكون أمره سهلاً، لكن انتشار الفساد في الأرض، وانكشاف الفساد في الأرض علناً في وضح النهار ينظر إليه المسلمون بأعينهم، ويسمعونه بآذانهم، ويعيشونه حياة طويلة من الزمن، ولا يرفعون بذلك رأساً أمر خطير جداً، فالله سبحانه وتعالى يغار على محارمه كما يغار أي شخص منا على محارم نفسه، بل إن الله تعالى لا يشبهه في غيرته أحد من خلقه، والله تعالى له محارم، ومحارم الله: ما حذر الله وما نهى عنه سبحانه وتعالى، فإذا فعل أصحاب المنكر المنكر في وضح النهار، وسكت العلماء وسكت العامة، وكل تخلى عن هذه المسئولية، حلت المصيبة بالأمة الإسلامية ولذلك مثل الرسول صلى الله عليه وسلم الحياة كلها بسفينة واحدة يسكن فيها الصالحون والفسقة والطغاة والكفار والمؤمنون، وكل أنواع البشر.
لكن هذه السفينة إما أن تبقى يحافظ عليها الجميع فتسلم هذه السفينة، وإما أن يعبث بها الجرذان وضعاف الإيمان، وشذاذ البشر، فلا بد حينئذ أن يكون في السفينة من يحافظون عليها من الغرق، فإن تركوا أوباش البشر يلعبون بالسفينة ويخرقونها ولو كان للمصلحة حسب ما يعتقدون، ليستقوا الماء من عندهم حتى لا يضطروا إلى أن يؤذوا من فوقهم بحسن نية، أو بسوء نية؛ غرقت السفينة وفيها الصالحون والفاسدون.
ولذلك نصيحتي أيها الإخوة أن نحافظ على هذه السفينة، وأن نناصح المسئولين ونقول لهم: اتقوا الله، وعلى المسئولين أن يقبلوا كلمة (اتقوا الله)؛ لأن الوعيد جاء من عند الله لمن لم يقبل كلمة: اتق الله.
وعلينا ألا نغفل عن قولنا لهم: اتقوا الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وعلينا أن نحافظ على أنفسنا حتى لا تخرق السفينة داخل بيوتنا، وعلينا أن نحافظ على السفينة حتى لا تخرق في أسواقنا، فتغرق هذه الحياة كلها فيحدث أمر لا يطاق؛ ولذلك فإن الله عز وجل يقول: (فَلَوْلا) أي: فهلا (كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي: علمتم أن من قبلكم من القرون كان فيهم من لا ينهى عن الفساد في الأرض، فهل ستكونون مثلهم يا أمة الإسلام لا تنهون عن الفساد في الأرض؟! وهذ استفهام إنكاري مشدد من عند الله عز وجل.
{فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} [هود:116] أي نجاة لا تكون إلا للذين ينهون عن الفساد في الأرض، فانهوا يا إخوتي في الله عن الفساد في الأرض.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يثبت أقدام الجميع على الاستقامة على دين الله، وأن يحفظنا وإياكم بالإسلام قائمين وقاعدين ونائمين، كما أسأله سبحانه وتعالى أن يهدي ولاة أمر هذا البلد، وأن يجعلهم من الذين قال الله عز وجل فيهم: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:41].
كما أسأله أن يهدي ولاة أمر المسلمين والمسلمين كافة، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(38/24)
معاصٍ وعقوبات
ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة، وما حل اليوم بالمسلمين من مصائب وشدائد إنما هو بسبب ذنوبهم ومعاصيهم، والله عز وجل قد ينزل بعض العقوبة في الدنيا؛ لكي يرتدع العاصي، وينزجر المذنب، فيرجع إلى الله عز وجل، فإن لم يرجع فإن عذاب الآخرة أشد وأبقى.
وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً من العلامات التي تنذر بقرب وقوع الهلاك، ونزول العذاب، وما أكثرها في هذه الأيام!(39/1)
استمرار الصراع بين الحق والباطل سنة كونية
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونثني عليه الخير كله، ونشكره ولا نكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، البشير النذير، والسراج المنير، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله ومن دعا بدعوته ونصح لأمته إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الإخوة! قبل أن نتحدث عن المعاصي وآثارها في الأمم وما تسببه من غضب الله عز وجل وأليم عقابه نقول: منذ أن خلق الله البشرية والصراع قائم وموجود بين الخير والشر، كما قال عز وجل: {اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [طه:123]، وهذا الصراع سيبقى ما بقيت الحياة الدنيا، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ولا تزال طائفة على الحق ظاهرين حتى يأتي أمر الله)، وفي هذا الصراع جند لله وجند للشيطان، والله تعالى أمرنا بأن نقاتل أولياء الشيطان فقال لنا: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [النساء:76]، وفي غضون هذا الصراع يظهر الحق أحياناً، ويختفي بعض الأحيان، ولكنها سنة الله القائل: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان:20]، أي: هل تتحملون هذه الفتنة؟ وهذا الصراع يتأثر بنوعية الذين يتحملون المسئولية من قبل الله عز وجل، والذين يقومون بالدور الذي كلفهم الله به في هذه الحياة؛ ليكونوا من أولياء الله وجنده.
ثم جرت حكمة الله سبحانه وتعالى أن يفتن هؤلاء الناس بعضهم ببعض، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتاب، فوقف من وقف في وجه هذه الدعوة، فأخذهم الله عز وجل أخذ عزيز مقتدر، إلا أن سنة الله تعالى في هذه الأمة ألا يعاقبها دفعة واحدة، من أجل أن تنقل الرسالة جيلاً بعد جيل وأمة إثر أمة؛ لأنها آخر أمة؛ ولأن رسالتها آخر الرسالات.
ومن هذا المنطلق فإن سنة الله تعالى في هذه الأمة ألا يهلكها بسنة عامة، ولكن ذلك لا يعني أن هذه الأمة حينما تتمادى في غيها وضلالها أنها لا تؤاخذ، ولكنها لا تهلك جميعاً، وهذا الذي أقوله عليه أدلة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فكم جرى على هذه الأرض من الأمم التي عصت الله سبحانه وتعالى فعاقبها! وكم من حضارة سادت ثم بادت حينما انحرفت عن المنهج الصحيح، وكم من أمة أُخذت أخذ عزيز مقتدر! كل ذلك بسبب سيئاتها، وهذه دروس لنا، والله تعالى قد قال لنا نحن أمة الإسلام: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ} [الروم:42]، وقال: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الحج:46]، كل ذلك يجب أن نفهمه، حتى لا نقع في سخط الله عز وجل، وهذه الأمة يحذرها رسول الله صلى الله عليه وسلم مبيناً أنواعاً من المعاصي تسبب عقوبات كاسحة مهلكة تستأصل أمماً كثيرة، ولكن الله عز وجل لا يظلم مثقال ذرة.(39/2)
ذكر بعض الأمور التي إذا ظهرت في الأمة فقد قرب منها العقاب
ونقف مع حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -وإن كان فيه شيء من الضعف، لكن له أحاديث تقويه وله أدلة من الواقع- يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا اتخذ الفيء دولاً، والأمانة مغنماً، والزكاة مغرماً، وتعلم لغير الدين، وظهرت الأصوات في المساجد، وأطاع الرجل زوجته وعق أمه، وأدنى صديقه وجفا أباه، واتخذت القينات والمعازف، وشربت الخمور، وساد القبيلة فاسقهم، وكان زعيم القوم أرذلهم، ولعن آخر هذه الأمة أولها، وأكرم الرجل اتقاء شره، فانتظروا عند ذلك ريحاً حمراء، وزلزلة ومسخاً وآيات تتابع كنظام قطع سلكه فتتابع).
والمراد بالنظام: المسبحة، يعني: كمسبحة قطع سلكها، فأصبحت تذهب حبة بعد حبة، أي: أن العقاب يتبع بعضه بعضاً، كما لو قطعت مسبحة، فهذه معاصٍ وهذه عقوباتها، قال عز وجل: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30]، وقال: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [فاطر:45].
وأمتنا أظنها قد ابتليت بكل هذه الأمور، فأصبحت على خطر، وأصبح ما يصيبها من نكبات وعقوبات وتشريد في الأرض وتسليط السفهاء وما أشبه ذلك، كل ذلك مصداق لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وآيات تتابع كنظام قطع سلكه فتتابع).(39/3)
اتخاذ الفيء دولاً
وقوله: (إذا اتخذ الفيء دولاً): الفيء: ما يأخذه المقاتلون بدون قتال، كما قال عز وجل: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} [الحشر:6]، وهو يشبه الغنيمة، لكنه بدون قتال، وهذا الفيء يعتبر مصدراً من مصادر بيت مال المسلمين، وقد يطلق الفيء على بيت مال المسلمين؛ لأن الفيء كل مال يُحصل عليه، والفيء لا يستحقه الناس كالغنيمة، وإنما يقسم كما قسمه الله عز وجل بقوله: {فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الحشر:7].
وعلى هذا نستطيع أن نقول: إن معنى الحديث: إذا اتخذ بيت المال دولاً، وأصبح بيت مال المسلمين ليس منضبط المصارف، وصار ألعوبة في أيدي الناس، إذا وصل الأمر إلى هذا الحد فالأمر خطير، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: (إن رجالاً يخوضون في مال الله بغير حق لهم النار يوم القيامة)، فالمال مال الله، وهو محترم، وكما أنه تُحترم موارده تحترم أيضاً مصارفه، ولذلك فإن بيت مال المسلمين إذا أصبح ألعوبة بأيدي العابثين لا يرعون فيه إلاً ولا ذمة فهذا يعتبر بداية من بدايات العقاب من الله سبحانه وتعالى.(39/4)
اتخاذ الأمانة مغنماً
وقوله: (والأمانة مغنماً): أي: أن كل أمين على أمر من أمور المسلمين أو على مال من أموال المسلمين يعتبر هذا الأمر غنيمة، ويعتبر ذلك فرصة بيده يستغله حسب مصلحته وحسب رغبته، وهذه هي الأمانة التي أشار الله عز وجل إليها بقوله: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ َالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72].
إذاً: هذه الأمانة سواء كانت أمانة المال تودع عند واحد من الناس فيخون هذه الأمانة، أو كانت أمانة التكليف التي كلف الله عز وجل بها هذا العالم، أو كانت أمانة الذرية التي هي أمانة كبيرة ويخونها كثير من الناس، أو أمانة المسئولية، أو أمانة رعاية أمر المسلمين؛ بحيث لا يؤدي هذا الراعي حق هذه الرعية؛ وإنما اتخذ الأمانة مغنماً واعتبرها غنيمة لنفسه، واستغلها حسب رغبته، وتمتع بها، وبدل أن يعتبرها مسئولية كبيرة يتحملها على مضض اعتبرها فرصة سانحة يستغلها حسب رغبته، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث متفق على صحته: (إذا اوسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة).
وقال علماء الحديث: إن معنى (وسد الأمر) أي: اعتبر ولي الأمر أمر المسلمين كالوسادة يعتمد عليه، ويتمتع به، بدل أن يشعر بأنه مسئولية كبيرة.
ولقد كان سلفنا الصالح رضي الله عنهم إذا ولي أحدهم أمراً من الأمور يعتبرها مسئولية كبيرة، فيخاف من حمل هذه، حتى كان يقول أحدهم: (ولست بخير من أحدكم، ولكني أثقلكم حملاً)، فكانوا يعتبرونها حملاً، وصار الناس في أيامنا الحاضرة يعتبرونها مغنماً، وهذا المغنم مسئولية عظيمة يسأل عنها الإنسان يوم القيامة إذا وقف بين يدي الله عز وجل، فيجب عليه أن يؤدي حق هذه الرعية، ويؤدي حق هذه الأمانة، ويقوم بما أوجب الله عز وجل عليه من مسئولية هذا التكليف.
فهي حمل ثقيل لا يشعر بهذا الحمل ولا يدركه إلا عقلاء الرجال، أما سفهاء الناس فيعتبرون هذه الأمانة مغنماً، فيستغلونها لرغباتهم وشهواتهم ومصالحهم، وربما يستغلونها لظلمهم إن كانوا ممن اشتهر بالظلم والطغيان في الأرض، أما الحقيقة فإن الأمانة ليست مغنماً، ولكنها حمل ثقيل، وهذا الحمل لا يشعر به إلا المؤمنون، قال عز وجل: {فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا}، أي: خفن {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72].(39/5)
اتخاذ الزكاة مغرماً
وقوله: (والزكاة مغرماً): الزكاة أحد أركان الإسلام، بل هي أهم العبادات المالية، وقد قاتل أبو بكر الصديق رضي الله عنه من منع الزكاة، وقال: (والله! لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، ولو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه).
والزكاة فرصة للمسلم، فقد كان سلفنا الصالح رضي الله عنهم إذا رأوا من يسأل الناس عن الزكاة بصدق يقولون: (مرحباً بمن يحمل زادنا إلى الآخرة)، ثم اعتبرها كثير من الناس مغرماً، فهي غرامة ثقيلة يشعرون بالقلق منها، ويشعرون بالصعوبة عند أدائها.
وربما يكثر المال ويتضخم وتعجز الأرقام عن تعداد أموال كثير من الناس، ثم إذا أحصيت الزكاة وجد هؤلاء الأقوام أن الزكاة أصبحت كبيرة وكثيرة بسبب ضخامة هذا المال، فأصبحت ثقيلة، وربما لا يؤدونها، كما فعل ذلكم المنافق الذي أخبر الله عز وجل عنه في قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنْ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} [التوبة:75 - 76].
ثم أيضاً هذه الزكاة هي حفظ للمال، وهي صيانة له، وما هلك مال في بر أو بحر إلا بسبب منع الصدقة، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (داووا مرضاكم بالصدقة، وحصنوا أموالكم بالزكاة، وادفعوا أمواج البلاء بالدعاء والتضرع)، فإذا أصبحت هذه الزكاة عبئاً ثقيلاً على هذا الإنسان، ويشعر بأنه لا يستطيع أداءها إلا بثقل، فحينئذٍ يكون ذلك علامة من علامات بداية النهاية، ومن علامات قرب العذاب على هؤلاء الناس.(39/6)
تعلم العلم لغير الله
قوله: (وتعلم لغير الدين): أي: العلم الشرعي، وكل العلوم يجب أن تكون خالصة لله عز وجل ومن أجل رضا الله، ولمصلحة الأمة الإسلامية، لكن إذا كانت لغير الله، لا سيما إذا اتخذت العلوم الشرعية وسيلة للشهادة، أو للوظيفة، أو للسمعة، أو ليجاروا السفهاء، أو ليماروا العلماء؛ حينئذ تفسد النية، ويكون ذلك علامة من علامات انحراف الأمة عن المنهج الصحيح.
وعلى هذا فإن العلم يجب أن يكون لأجل الدين، ومن أجل الله عز وجل، خصوصاً العلوم الشرعية، بل كل أعمال الإنسان يجب أن تكون خالصة لله سبحانه وتعالى، فلا يقصد من ورائها رياءً ولا سمعة، ولا ذكراً ولا ثناءً، ولا الحصول على شيء من أموال الناس أو على شيء من هذه الدنيا.(39/7)
ظهور الأصوات في المساجد
ومن علامات بداية العقوبة: (إذا ظهرت الأصوات في المساجد): وظهور الأصوات في المساجد معناه أن المساجد قد استعملت لغير العبادة، والمساجد ما بنيت إلا لذكر الله، كما قال عز وجل: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ} [النور:36 - 37]، فإذا أصبحت المساجد مجالس للناس يتحدثون فيها في أمور دنياهم، وربما تكون مرتعاً للسفهاء وألعوبة للاعبين، فإن ذلك أيضاً علامة من علامات العقوبة.(39/8)
عقوق الوالدين
وقوله: (وأطاع الرجل زوجته، وعق أمه): الأم هي التي حملت هذا الإنسان ووضعته وهناً على وهن، وأرضعته من دمها، وبذلت كل ما تستطيع وفوق ما تستطيع من أجل سلامة هذا الطفل، حتى إذا كان رجلاً أدنى زوجته وعقها، أي: عصاها وخالفها في غير طاعة الله سبحانه وتعالى، وهذا أيضاً علامة من علامات العقوبة.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: (وأدنى صديقه وجفا أباه): وهل يكون الصديق أقرب من الأب؟ وهل يتغلب حق الصديق على حق الأب وحق الزوجة على حق الأم؟
الجواب
لا يوجد ذلك إلا في أمة انحرفت عن المنهج المستقيم، فإذا أدنى الرجل صديقه وجفا أباه وأطاع زوجته وعق أمه فهذا انحراف، وقد أمر الله عز وجل ببر الوالدين، وجعل حق الوالدين بعد حق الله عز وجل مباشرة، كما قال عز وجل: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء:23]، وقال: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} [العنكبوت:8].
إذاً: تقديم حق أي واحد من الناس على حق الوالدين يعتبر إثماً ومعصية، فحتى في حال كفر الوالدين، وفي حال محاولة إكراه الولد على أن يكفر بالله من قبل الوالدين، لا طاعة للوالدين في مثل هذا الأمر، ولكن يبقى لهما حق الإحسان، كما قال عز وجل: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} [العنكبوت:8]، وقال: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان:15].(39/9)
شرب الخمر
ومن علامات العذاب: شرب الخمور: الخمر هي أم الخبائث، وقد كانت الخمور تشرب في الجاهلية، وشربت في الإسلام، وشربت في عهد السلف الصالح، لكنها لم تنتشر كانتشارها في أيامنا الحاضرة، فقد انتشرت الخمور والمخدرات وغيرها من الأمور العظام التي أفسدت عقول كثير من الناس، فأصبحوا لا يحسنون التصرف في هذه الحياة.
والخمرة هي التي لعن الرسول صلى الله عليه وسلم شاربها وساقيها وحاملها والمحمولة إليه وعاصرها ومعتصرها وبائعها ومبتاعها وآكل ثمنها إلى غير ذلك.
والخمرة هي التي يقول عنها الرسول صلى الله عليه وسلم: (من شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين صباحاً، فإن تاب تاب الله عليه، وإن مات دخل النار، فإن تاب تاب الله عليه، ثم إن عاد فشرب لم تقبل له صلاة أربعين صباحاً، فإن تاب تاب الله عليه، فإن مات دخل النار، وإن تاب تاب الله عليه، ثم قال في الرابعة: فإن شربها كان حقاً على الله أن يسقيه من طينة الخبال يوم القيامة، قالوا: وما طينة الخبال يا رسول الله؟! قال: عصارة أهل النار).
إذاً: الخمرة خطيرة، وقد انتشرت في مجتمعاتنا الخمور، بل أصبحت تسمى مشروبات روحية، وكأن هذا الاسم يريد أن يوجد رغبة وشوقاً إليها، فهي ليست بروحية قاتلها الله وقاتل أصحابها ومن يروجها، بل هي ضد الروح، هي لفساد الروح جاءت، وربما يدسها أعداء الإسلام حتى تنتشر في المجتمعات الإسلامية لتفسد العقول.
والخمور والمخدرات كلها على حد سواء، وإن كانت المخدرات في عهدنا الحاضر تلاقي مكافحة أكثر، لكن الخمور لا تنقص ضرراً عنها، وإن كانت لا تجد كل هذه المكافحة ولا جزءاً منها، أي: المكافحة التي تتولاها هيئات رسمية وعالمية، فالخمور قد انتشرت في بيوت كثير من المسلمين، وأصبحوا يتعاطونها مع الأسف، وربما تشترك الأسرة -كما نسمع في بعض الأحيان- على هذا المحرم! نسأل الله العافية والسلامة، فيتربى عليها الصغير، ويهرم عليها الكبير! وعلى كل انتشار الخمور في المجتمع علامة من علامات أسباب العذاب، لاسيما حينما تكون هذه الجريمة لا تجد مكافحة تتناسب مع حجمها، فأنا متأكد أن السلطات الإسلامية لا تعطي هذه الجريمة ما تستحق من اهتمام وإكبار، ولذلك تنتشر في المجتمعات الإسلامية انتشاراً هائلاً.
أيها الإخوة! الخمر هي كما سماها الرسول صلى الله عليه وسلم أم الخبائث، وهي لا تجتمع هي والإيمان إلا أوشك أحدهما أن يخرج الآخر، ولذلك رأى الصحابة رضي الله عنهم أن يقيسوا حدها بحد القذف، وعقوبتها بعقوبة القذف؛ لأنه إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، كما أخبر الصحابة، ولذلك فإن الأمة الإسلامية مطالبة أن تحارب هذه الفاحشة وهذه الجريمة العظيمة التي تجر وراءها جرائم كثيرة؛ فإن الإنسان إذا تناولها يفسد عقله، فيهبط إلى مستوى الحيوان، بل ربما ينزل عن مستوى الحيوان، وينسى العقل الذي يوجه الله تعالى إليه دائماً خطاب: (أفلا تعقلون) (أولوا الألباب) (لقوم يتفكرون).
ومن هنا يفقد الإنسان العقل والتفكير واللب حينما يتناول هذه الجريمة، وربما يقع على محارمه، وربما يقع على أمه، نسأل الله العافية والسلامة! ومن هنا فإني أدعو الأمة الإسلامية إلى أن تهتم اهتماماً كبيراً بخطر هذه الفاحشة وهذه الجريمة العظيمة، وإذا انتشرت دون أن يكون لها رادع منضبط انضباط حقيقياً فإن ذلك يؤذن بعذاب، ويؤدي إلى انتشارها في المجتمعات الإسلامية.
نسأل الله العافية والسلامة.(39/10)
انتشار القيان والمعازف
ومن علامات العذاب: انتشار القينات والمعازف، والقينات هن المغنيات الراقصات، والمعازف معناها الموسيقى ووسائل اللهو الأخرى، واسمحوا لي أن أقول لكم: إنه يندر أن يخلو منها اليوم بيت من بيوت المسلمين، سواء كانت بواسطة الإذاعة أو التلفاز أو الأفلام التي انتشرت في بيوت كثير من المسلمين أو غير ذلك.
وهذه المعازف هي التي قرنها الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح مع أكبر المحرمات؛ مع الزنا ومع لبس الحرير ومع الخمر فقال: (ليأتين أقوام يستحلون الحر)، أي: الزنا، (والحرير والخمر والمعازف).
وكثير من الناس يتساهل في هذا الأمر حتى أصبحنا نسمع عند بعض الناس أن هناك موسيقى إسلامية! بل يندر أن يأتي حديث إلا وتتقدمه هذه الموسيقى، بل يؤسفني أنها ربما تأتي بعد تلاوة القرآن مباشرة! وعلى كل هناك ازدواجية يعيشها كثير من الناس، حتى أصبح كثير من الأطفال لا يفرق بين القرآن والموسيقى، وإنما يعجبه نغم فقط دون أن يميز بين هذا وهذا، وهذا التباس عظيم، فيوشك أن ينشأ في المجتمعات الإسلامية أطفال لا يفرقون بين الحق والباطل! فإذا انتشرت القينات، وانتشرت الأفلام التي ترقص فيها النساء، وانتشرت الأغاني التي تغني فيها النساء وتلهو وتلعب، وانتشرت المسرحيات التي تشوه الإسلام؛ بحيث تبرز رجال الإسلام ومعهم زوجاتهم سافرات، فإذا انتشرت هذه الأشياء فإنها بداية لعقوبة الله عز وجل.
أيها الإخوة! لا نكتمكم سراً إذا قلنا: إن كثيراً من وسائل الإعلام التي تطورت في عصرنا الحاضر وانتشرت تحمل هذه الفكرة، سواء كانت في الصورة الثابتة كما يوجد في كثير من الصحف والمجلات، حيث يختارون فتاة فاتنة في جمالها يضعونها في مقدمة هذه المجلة، أو الصور المتحركة التي انتقلت إلى بيوت المسلمين بواسطة الأفلام أو بواسطة الأجهزة الحديثة التي ملئ بها عصرنا الحاضر، فكانت تشكل خطورة على هذه المجتمعات.(39/11)
واجب المسلم تجاه الأغاني والمعازف ووسائل الإعلام التي تبث ذلك
أيها الأخ المسلم! ربما لا تملك أن تنكر المنكر كله، ولا أن تقضي على هذا الإثم من أصوله ومن منابعه، لكنك تملك بيتك، وإذا لم تستطع أن تسيطر على بيتك فعليك وعلى بيتك السلام، فقف يا أخي عند باب بيتك واحفظه من هذه الأفلام ومن هذه القينات ومن تلك المعازف؛ حتى تسلم من عقوبة الله عز وجل لو حلت بهذه الأمة التي انتشرت بها القينات والمعازف.
فكثير من بيوت المسلمين تغص بهذه الأمور؛ ولذلك فإن المسلم في مثل هذه الأيام لا نقول: يقف متحيراً؛ فالأمر واضح، والسبيل مستبينة، ولكنه قد يقف عاجزاً أمام أهله الذين أظهر معهم الضعف من أول وهلة، فأصبح لا يستطيع أن يحكم قبضة هذا البيت، ولا يستطيع أن يسيطر على بيته وعلى أسرته.
فأقول يا أخي المسلم! اتق الله عز وجل؛ فأنت تتحمل أمانة عظيمة، ومسئولية كبيرة، إنها أمانة الأهل والذرية، قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:27 - 28].
إنها اختبار من الله سبحانه وتعالى، ولما أهمل كثير من الناس القيام بالتربية في هذه البيوت نشأ في هذه البيوت مجرمون، ونشأ في هذه البيوت لصوص، ونشأ في هذه البيوت أناس اشتعلت في قلوبهم الشهوة الحرام، فأصبحوا لا يملكون أنفسهم، وأصبحوا يبحثون عن الجريمة وعن الفاحشة في مواطنها، ولذلك فإنه قد مهد لهذه الفواحش داخل بيوت المسلمين أمام هذه الأفلام المحرمة، وأمام هذه القينات والمعازف، فأصبح هؤلاء الشباب كطيور في أقفاص مقفلة ينتظرون اللحظة الأخيرة التي يفتح فيها هذا القفص من أجل أن يفر من هذا المجتمع المحافظ ليبحث عن الفاحشة، وهذا هو ما يحدث، فقد ضاع كثير من شباب الإسلام في بلاد الفاحشة والحرية المطلقة التي لا تقف عند حد، وهي حرية تعتبر في الحقيقية عبودية لغير الله عز وجل.
ولذلك فإننا ندعو قادة الأمة الإسلامية إن كانت فيهم روح إسلامية إلى أن يتقوا الله في هذه المسئولية وهذه الأمانة، وندعو أيضاً قادة وأرباب البيوت والذين حملهم الله عز وجل المسئولية مباشرة إلى أن يتقوا الله تعالى في حماية هذه البيوت.(39/12)
سيادة فاسق القبيلة
ومن هذه الجرائم: (وساد القبيلة فاسقهم): وهل يسود القبيلة فاسقهم؟
الجواب
نعم، فإنه إذا انحرفت القبيلة سادها فاسقهم، حتى يقال للرجل: ما أطرفه وما أحلمه وما أعقله! وما في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، فربما تختل المعايير وتفسد الموازين في عقول الناس، ولا يستطيعون أن يميزوا بين الحق والباطل وبين النافع والضار، فحينئذٍ يسود القبيلة فاسقهم، والفاسق هو: الذي يفعل الذنوب العظام أو يدمن على الصغائر.
ولو أرادت القبيلة الخير لنفسها والعزة والكرامة لها لكان الأمر في خيارها، أما وقد أصبح الأمر بيد فاسق من فساق هذه القبيلة، لأنه صاحب مال أو لأنه صاحب جاه أو لأنه صاحب مركز أو لأي سبب من الأسباب؛ فهنا يسود القبيلة فاسقهم، وكان الأولى بهذه القبيلة التي تريد أن يكون لها الخير والسعادة أن يكون الأمر في صالحيها، فإذا كان الأمر في فسقتها فذلك بداية العذاب.(39/13)
زعامة أرذل القوم
ومن هذه الأمور التي تسبب سخط الله عز وجل: (أن يكون زعيم القوم أرذلهم): وهل يكون زعيم القوم أرذلهم؟
الجواب
نعم، إذا فسدت الأذواق، وكان الأمر بغير أيدي العقلاء، وتولى أمور المسلمين غير الصالحين منهم، وقادوا سفينة تسير في أعماق بحر متلاطم الأمواج، ولا يستطيع أن يخلص هذه السفينة من هذه الأمواج ومن هذا البحر المتلاطم إلا العقلاء.
فإذا كان أمر المسلمين في العقلاء فإن ذلك هو الخير للقائد وللمقود، وإذا فسدت الأمة، أو فقدت الصالحين، أو أصبحت مغلوبة على أمرها، وكان من يتولى أمر المسلمين هم الفسقة، أو الذين لا يخلصون في قيادة هذه السفينة، أو الذين يريدون أن يهتموا بمصالحهم، أو يشبعوا رغباتهم، أو ينتقموا من الصالحين فحينئذٍ تخرب القيادة، ويفسد الأمر، وربما تغرق السفينة، وربما تغطيها الأمواج، وربما تصطدم بجبل فتتحطم، ولذلك فإننا نقول: إن أمر المسلمين يجب أن يكون في أصلحهم وأتقاهم وأعبدهم لله عز وجل وأكثرهم إخلاصاً لهذه الأمة؛ حتى تسير سفينة الحياة إلى شاطئ النجاة دون أن يصيبها خلل ودون أن تصاب بأمر من الأمور.
أيها الإخوة! إن الصالحين من هذه الأمة هم الذين يستطيعون أن يقودوا هذه السفينة إلى ساحل النجاة، سواء كانوا السلطة الحاكمة أو الأمراء أو الوزراء أو العلماء، وإذا كان هذا الأمر في الصالحين فإن الأمة الإسلامية بخير، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (وإذا وسد إلى غير أهله فانتظر الساعة).
ونحن نطالب كل من يتولى أمراً من أمور المسلمين أن يتقي الله عز وجل، وأن يؤدي هذه الأمانة التي استرعاه الله عز وجل إياها، وأن يبحث عن أصلح الناس وأكفئهم ليتولى هذه الأمور، وندعو القادة والعلماء إلى أن يقودوا هذه الأمة إلى عزها وصلاحها وكرامتها، وإلا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (وإذا كان زعيم القوم أرذلهم فانتظروا عند ذلك ريحاً حمراء).
وهذه المسئولية وهذه القيادة ليست خاصة بولاة الأمر الكبار في الأمة الإسلامية، ولكنها أيضاً تعم كل من تولى أمراً من أمور المسلمين، وكل من استرعاه الله عز وجل على مسئولية، فحتى الموظفون وحتى رؤساء الأقسام وحتى المسئولون عن دوائر الحكومة يدخلون في ذلك، فهو يعم المسئولية الكبرى والمسئولية الصغرى، فيجب أن تكون دائماً في الصالحين وفي أكفاء الناس وفي أصحاب الخبرة والعقل والدين والحزم والأمانة، وإلا فإن الأمر خطير وخطير جداً، ولذلك فإن من يتتبع تاريخ أي أمة من الأمم يرى أن أسباب سقوطها وبداية نهايتها حينما يكون الأمر في غير أهله.(39/14)
لعن آخر هذه الأمة لأولها
ثم يقول الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: (ولعن آخر هذه الأمة أولها): وهل يلعن آخر هذه الأمة أولها؟! وأول هذه الأمة هم الذين أقاموا دولة الإسلام التي مازالت الأمة الإسلامية تتفيأ ظلها الوارف، وتعيش في ظل فتوحات الفاتحين من سلفنا الصالح رضي الله عنهم، فأولئك هم الذين قدموا أنفسهم فداءً لهذا الدين، وهم الذين وضعوا قواعد الدولة الإسلامية على أساس متين، والذين نقلوا لنا هذا الدين جيلاً بعد جيل وأمة بعد أمة.
وأما هل يوجد في آخر هذه الأمة من يلعن أولها؟ ف
الجواب
نعم، لقد كان هذا أمراً غريباً، لكننا وجدناه واضحاً في كثير من الأحيان، فقد وجدنا من يسب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن يلعنهم، ومن يكفرهم ويخرجهم من الملة! كما يوجد فيمن يسمون أنفسهم بالشيعة من الرافضة.
بل لقد وجد في عصرنا الحاضر أمة تزعم أنها تتحمل مسئولية التجديد، ومسئولية محاربة القديم، وهؤلاء في أنفسهم عقدة التخلف وكراهية كل قديم، ولذلك فإنهم يحاربون كل قديم، ويزعمون أنهم يجددون في هذا العصر، ويريدون أن يقضوا على ذلك القديم الذي يعتبر تخلفاً وتأخراً ورجعية في نظرهم، مع أن الله سبحانه وتعالى سماه هو التقدم وسماهم هم المتأخرين، فقال عز وجل: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} [المدثر:37]، والمراد بالتقدم: الأخذ بهذا الدين، والمراد بالتأخر: رفض هذا الدين.
وعلى كلٍ وجد في عصرنا الحاضر من يسمون أنفسهم بالحداثيين أو بالمجددين، والذين لا يروق لهم الأمر ولا تلذ لهم الحياة إلا حينما يحاربون كل قديم، ويطعنون في سلفنا الصالح رضي الله عنهم، وفي مؤلفاتهم من الكتب الصفراء كما يقولون، ويعتبرون أنفسهم هم المجددين، بل ربما يطعنون في دين الإسلام، ويعتبرون دين الإسلام تخلفاً، وأن ما أصاب الأمة من تخلف إنما سببه الأخذ بهذا الدين! هكذا يقولون، وربما يتمادون في طعنهم في هذا الدين، فيسبون خير البرية محمداً صلى الله عليه وسلم، ويعتبرونه هو الذي أخر هذه الأمة! وربما ينالون الله عز وجل بالطعن والأذى! وهم بهذا يؤذون الله ورسوله، وهؤلاء كلهم يدخلون في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ولعن آخر هذه الأمة أولها).
لكن ما موقفنا نحن من مثل هؤلاء المرتدين؟ موقفنا من هؤلاء المرتدين هو كما أمرنا الله عز وجل: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ} [التوبة:12]، وفي قراءة سبعية: (إنهم لا إيمان لهم لعلهم ينتهون).
فنقول: لا يجوز للأمة الإسلامية أن تقف مكتوفة الأيدي أمام هؤلاء الطاعنين في الإسلام والذين يتناولون دين الله بالسب والهمز واللمز، فيجب أن تكون للأمة الإسلامية ويجب أن تكون للحكومة الإسلامية قوة تحمي جانب هذا الدين، فإن الله سبحانه وتعالى قد أمر الأمة الإسلامية بأن تدافع عن هذا الدين بكل قوة، بل أخبر سبحانه وتعالى أنه أنزل الكتب السماوية من أجل هداية البشر، ومن أجل إقرار قواعد الأمن والطمأنينة والعدل في هذه الأرض، وأنزل مع الكتب السماوية الحديد فيه بأس شديد، كما قال عز وجل: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد:25].
فالمسئولية أولاً مسئولية ولاة الأمر الذين استرعاهم الله عز وجل على هذا الدين، وتأتي المسئولية في الجانب الثاني على كل واحد من المسلمين يغار لله عز وجل ولدينه، فإذا رأى دين الله عز وجل يُنال منه ما ينال فعليه أن يغضب لله عز وجل، وعليه ألا يغضب لنفسه أو لماله أو لحقوقه أكثر من غضبه لله عز وجل، وإذا غضب لنفسه دون أن يغضب لله فويل يومئذٍ للفضيلة من الرذيلة.(39/15)
إكرام الرجل مخافة شره
وقوله: (وأكرم الرجل مخافة شره): وهذا قد وقع، فإن كثيراً من الناس يُكرم مخافة شره، ويقوم له الرجال، ويعظمونه، ويمجدونه، ولربما يعطونه من الألقاب ما لا يكون إلا لله سبحانه وتعالى، وكثير منهم -إن لم نقل: جلهم- يكره هذا الإنسان، لكن أكرموه مخافة من شره.
وهذا هو الذي ألجم كثيراً من الألسن أن تقول كلمة الحق، والحقيقة أن مخافة الشر أو الطمع في الخير أو الرجاء لمصلحة من المصالح هو أكثر أسباب الإكرام التي تحدث في عالمنا اليوم، ولذلك يكرم كثير من هؤلاء الذين يخشى شرهم وبطشهم وسطوتهم، أكثر من أن يكرم العلماء الأفاضل الذين يدلون الناس على طريق الجنة.(39/16)
واجب الأمة تجاه الذنوب والمعاصي(39/17)
الغضب لله عز وجل ومكافحة الجرائم
أيها الإخوة! هذه بعض أسباب العذاب التي انعقدت في المجتمعات الإنسانية بصفة عامة، وفي المجتمعات الإسلامية بصفة خاصة، فلم يخل منها مكان من الأمكنة؛ ولذلك فإن ما يحدث في هذه الحياة من خلل ومن عقوبات ومن جرائم ومن فساد في البر والبحر إنما هو بما كسبت أيدي الناس، كما قال الله عز وجل: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم:41].
إن الأمة الإسلامية لا تستطيع أن تدفع عن نفسها عذاب الله عز وجل إلا حينما تكافح هذه المنكرات، وتغضب لله عز وجل، ولا تترك الفساد يسير في الأرض، فهي مسئولية كما يتحملها ولاة الأمر يتحملها المسلمون أيضاً، ويسألون عنها بين يدي الله عز وجل، وسوف يسأل الله عز وجل الجميع عن هذا الدين يوم القيامة.
فعلى المسلمين أن تتمعر وجوههم غضباً لله عز وجل، أما إذا لم تتمعر الوجوه غضباً لله عز وجل فإن الله تعالى يقول: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ} [هود:102 - 103].(39/18)
عدم الخوف من غير الله عند رؤية المنكرات
أيها الإخوة! إن الله تعالى يبتلي المؤمنين بالفسقة، ويسلط بعضهم على بعض؛ لينظر كيف يعملون؛ ولينظر هل يقوم جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في بلاد المسلمين أم أن الناس يخافون على أنفسهم وعلى حياتهم وعلى أرزاقهم، وهذا وبعينه هو ضعف الإيمان، بل أخشى أن يصل بالناس إلى درجة الشرك بالله عز وجل، فحينما يُصرف جانب الخوف لغير الله عز وجل ويكون من غير الله فإن هذا من الشرك، والله تعالى يقول: {فَلا تَخْشَوْا النَّاسَ} [المائدة:44]، والناس لا يملكون للناس نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، كما قال صلى الله عليه وسلم: (واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك؛ رفعت الأقلام، وجفت الصحف).
فصرف الخوف لغير الله عز وجل نقص في جانب من جوانب التوحيد، وليس من جوانب المعصية والطاعة، بل هو من جانب الشرك والتوحيد، فإذا صرف هذا الأمر لغير الله عز وجل، وأصبح الإنسان يخاف على حياته أو يخاف على رزقه أو يخاف على نفسه أو يخاف على أهله، ويترك لذلك أموراً هو يُطالَب بها من قبل الله عز وجل، بحيث يقدم خوف البشر على خوف الله عز وجل، فهذا أمره عظيم، وهذا ليس معصية، ولكنه شرك بالله عز وجل.
فتجب الثقة بالله سبحانه وتعالى؛ فإن الله تعالى قدر الآجال، كما قال سبحانه: {كِتَاباً مُؤَجَّلاً} [آل عمران:145]، وقال: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34]، وقدر الأرزاق، كما قال سبحانه: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6]، وقدر كل أمر من الأمور، فممَ يكون الخوف؟ يجب أن يكون الخوف لله عز وجل وحده.(39/19)
الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر هم عقلاء الأمة
فنقول أيها الإخوة! إن الذين يأمرون بالمعروف وينهون المنكر، ويحاربون الفساد في الأرض، ويدعون إلى الله عز وجل ويتحملون المسئولية أمام البشر ليتخلصوا من المسئولية أمام الله عز وجل يوم القيامة؛ هم عقلاء الأمة، بل هم الذين يريدون السعادة للأمة، بل هم الذين يريدون السعادة أيضاً للدولة؛ لأن الدولة لها أجل، فكما أن الإنسان له أجل فالدولة لها أجل، والله تعالى يقول: {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} [الأعراف:34]، وهذا الأجل يبقى ما بقيت الدولة تحافظ على دينها وتحافظ على أوامر الله عز وجل، وينتهي ذلك الأجل بمقدار ما تنحرف الدولة أو تنحرف الشعوب عن منهج الله سبحانه وتعالى.(39/20)
الذنوب والمعاصي سبب الزلازل والخسف والمسخ وغيرها
فإذا فعلت الخصال المذكورة في الحديث، وجاء في حديث آخر: (إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة)، إذا فعلت هذه الخصال حل بها البلاء.
وهنا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (فانتظروا عند ذلك ريحاً حمراء)، وهذه الريح قد تهب ويظنها الناس سحاباً ممطراً، كما حدث لقوم عاد، فقوم عاد لما رأوا العذاب: {قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف:24]، فقال الله عز وجل: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف:24 - 25].
قال عليه الصلاة والسلام: (فانتظروا عند ذلك ريحاً حمراء وزلزلة)، وكم يحدث من الزلازل في هذا العالم يوماً بعد يوم؟! وكم يحدث فيه من النكبات، وقد تحل قريباً من دارنا أيها الإخوة؟! ولا تظنوا أننا حين نعيش في أرض الحرمين أن لنا حصانة، أو أن بيننا وبين الله عهد أو ميثاق، فلا عهد بيننا وبين الله عز وجل إلا بتطبيق شرع الله، وبخشية الله عز وجل، وبفعل أوامره واجتناب نواهيه؛ لأنه ليس بين أحد وبين الله عز وجل نسب ولا عهد ولا ميثاق، إلا أن يحافظ الناس على هذا الميثاق الذي يقول الله عز وجل عنه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:172]، هذا هو العهد الذي يجب أن نحافظ عليه.
وعلى هذا نقول أيها الإخوة! إن ما حدث في العالم من زلازل أو من أحداث أو نكبات أو تسلط السفهاء أو نقص في الأمطار وجدب في الأرض وجور في سلاطين الأرض وغير ذلك؛ إنما هو بسبب ما كسبت أيدينا، فلنخش الله عز وجل، ولنعد إلى الله عز وجل.
قال عليه الصلاة والسلام: (فانتظروا عند ذلك ريحاً حمراء وزلزلة ومسخاً)، وهذا المسخ ربما يكون في العقول لا في الأجسام، فربما يفقد الإنسان تفكيره فيكون قد مسخ إلى صورة حيوان في عقله وتفكيره وعدم غضبه لله عز وجل، وربما يفعل الله عز وجل بأمة كما فعل بقوم من بني إسرائيل حين قال لهم: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة:65].
وقوله: (وآيات تتابع)، أي: عقوبات لا يعلمها إلا الله عز وجل، فقد تأتي من السماء صواعق وآفات ورياح وعواصف، أو تصعد من الأرض براكين وزلازل، أو تكون فتن بين الناس، بأن يسلط الله عز وجل بعضهم على بعض، وهذا هو أكثر ما يحدث في هذه الأمة، كما قال الله عز وجل: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام:65].(39/21)
نداء إلى جميع المسلمين للنهي عن المنكر
أيها الإخوة! إن أفضل طريق، بل إن الطريق الوحيدة التي نسلم بها من عقوبة الله عز وجل هي: أن نتناصح فيما بيننا، وأن تنشط الدعوة إلى الله عز وجل، وأن يتحمل العلماء وطلبة العلم مسئوليتهم كل في موقعه، وعلى مقدار مسئوليته، وعلى مقدار علمه بشرع الله عز وجل، وأن يقوموا لله مثنى وفرادى، وأن يقولوا للناس: اتقوا الله، فمن قبل هذه الوصية فليبشر بسعادة الدنيا والآخرة، ومن أعرض عنها أو أخذته العزة بالإثم، فحسبه جهنم، كما أخبر الله عز وجل.
إن جانب الأمر المعروف والنهي عن المنكر قد تعطل أيها الإخوة في كثير من الأحيان، وبمقدار تعطله تجرأ السفهاء على دين الله عز وجل، فلابد أن ينشط هذا الجانب، ولا يكفي أن تكون هناك هيئة تعمل بطريقة رسمية؛ لأن المسئولية ليست مسئولية رسمية، ولكنها مسئولية الجميع، وعقوبة الله عز وجل إذا نزلت في الأرض لا يتخلص منها إلا الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، كما قال عز وجل: {فَلَوْلا كَانَ مِنْ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنْ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} [هود:116]، وقال: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف:165].
أيها الإخوة! إني أدعو نفسي وأدعوكم إلى أن ننشط في هذا الجانب، وأن نمنع وقوع البلاء بما نقدمه لهؤلاء الناس من نصيحة على كل المستويات، سواء كان على المستوى الرسمي أو غيره: فنقول لولاة الأمر: اتقوا الله، قال عز وجل: {لَكُمْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} [غافر:29].
ونقول للناس كافة: اتقوا الله، ونسعى قدر جهدنا واستطاعتنا لدفع هذا العذاب، وهذه الدروس قد تحل قريباً من دارنا، ولننظر ماذا فعل الله عز وجل بلبنان، وماذا فعل الله عز وجل بالعراق، وماذا حدث في الكويت، وماذا فعل قبل ذلك في بلاد الأندلس، وماذا حدث في فلسطين، وماذا حدث في كثير من بقاع العالم! والله يا إخوان إن كثيراً من الذين وقعوا في عقوبة الله من العقلاء الذين يصدقون الحديث، يقولون: كنا نتوقع ما حل بنا منذ زمن بعيد؛ لأننا كنا نمر بطريقنا إلى المسجد بخمارة أو ببيت دعارة فلا نغضب لله عز وجل، وكنا نحذر ما وقع، ولكننا لم نأخذ بأسباب دفع البلاء، فما حل بنا ليس شيئاً غريباً، ولكنها عقوبة الله عز وجل! أقول قولي هذا، ولا أعلم أن أحداً منكم أعظم مني تقصيراً أو أكثر مني ذنباً، ولكني أستغفر الله لي ولكم.(39/22)
الأسئلة(39/23)
ذكر بعض أحوال المسلمين في كشمير وأفغانستان وإريتريا والفلبين
السؤال
نرجو منكم أن تحدثونا عن أحوال إخواننا المسلمين في باكستان وكشمير، سواء منها ما يختص بأحوال المسلمين عامة أو الجهاد خاصة؟
الجواب
ذكر أحوال المسلمين يحتاج إلى حديث طويل؛ لأن سائر المسلمين في كشمير وفي أفغانستان وفي باكستان، لهم مشاكل كثيرة، وهكذا حال المسلمين في كل بلاد العالم، لكن -والحمد لله- نبشركم بشيئين: الشيء الأول: أن الصحوة الإسلامية المباركة عمت جميع بلاد العالم حتى بلاد الكفر، فالذين يتمتعون بها في أمريكا لا يقلون أهمية عن الذين يتمتعون بها هنا في الجزيرة العربية.
والشيء الثاني: أن الجهاد في سبيل الله بدأ الآن في مواطن كثيرة من الأرض، وربما أن الإخوة الأفغان جزاهم الله خيراً هم الذين وضعوا البذرة في هذا القرن، فالجهاد في سبيل الله يوجد في أفغانستان وفي كشمير وفي إريتريا وفي الفلبين وفي مواطن كثيرة، والحمد لله.
على كلٍ أصبحنا نتوقع أن يكون الدين كله لله، وهذا ما وعدنا الله عز وجل به، وهو الحد النهائي لوضع السلاح، فلا يوضع السلاح على الأرض إلا إذا كان الدين كله لله، لقوله عز وجل: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [الأنفال:39]، والمراد بالفتنة هنا الشرك، لا بمفهوم الفتنة في أيامنا الحاضرة، بل الفتنة هنا بإجماع علماء المسلمين هي الشرك والكفر، فقوله تعالى: {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39]، أي: لا يبقى على وجه الأرض إلا مسلم.
وعلى كلٍ وجود هذه الجبهات في أفغانستان وفي كشمير وفي إريتريا وفي الفلبين وفي مواقع كثيرة من الأرض يعتبر -إن شاء الله- إيذاناً بأن يكون الدين كله لله، وألا تكون هناك فتنة في الأرض.
ولكن أحوال المسلمين عموماً تحتاج إلى دعم من المسلمين، ولا أقصد بذلك الدعم المادي فقط، بل حتى الدعم المعنوي، فكثير من قضايا المسلمين تخفى على المسلمين في كل الأرض، فنحن هنا تصل إلينا أخبار السلفادور وأخبار أمريكا الجنوبية والعالم كله، وكثير من أخبار المسلمين لا تصل إلينا، ولو سألت أي واحد من الناس: ماذا تعلم عما يحدث في كشمير؟ لقال: لا أدري، ولو سألته وقلت: ماذا تعرف عن المسلمين في جنوب الفلبين؟ لقال: لا أدري.
فيا إخوان: في جنوب الفلبين اثنا عشر مليون مسلم يحملون السلاح في وجه الكفر، ويصنعون الأسلحة بأيديهم على عقيدة أهل السنة والجماعة، وأكثر المسلمين لا يعلمون عنهم شيئاً! فالخير في الأرض سيبقى ما بقيت الحياة الدنيا، لكن علينا أيها الإخوة أن نتابع أخبار المسلمين، وأن نسير في الأرض للنظر ماذا يحدث في هذا العالم، أو على الأقل نقدم الدعم المادي على قدر استطاعتنا للجهاد في سبيل الله، فالله تعالى قد اشترى منا أموالنا وأنفسنا، فإذا ما استطعنا أن نقدم الأنفس فلنقدم الأموال.(39/24)
الطريقة المثلى لإنكار المنكرات
السؤال
ما هي الطريقة المثلى لإنكار المنكرات؟
الجواب
الطريقة المثلى هي ما أخبر عنه صلى الله عليه وسلم بقوله: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)، ولا نظن أن المسألة مسألة تخيير، بل المسألة مسألة تدرج، فالرسول صلى الله عليه وسلم ما قال: بيده أو بلسانه أو بقلبه، وإنما قال: (فإن لم يستطع)، فالمسألة مسألة تدرج، وحسب استطاعة الإنسان وإمكاناته، فإذا استطاع الإنسان أن ينكر المنكر باليد وكانت القوة بأيدي المسلمين فيجب أن يكون الإنكار باليد، وهذا هو ما أشار إليه الله عز وجل في الآية التي في سورة الحديد: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} [الحديد:25].
إذاً: لابد أن تكون للمسلمين قوة تحمي الكتب السماوية، وتحمي جانب العدل، فإذا لم يستطع المسلم أن يقوم بذلك أو يترتب عليه مشاكل، فنقول: أقل شيء باللسان، ولا يمكن أن يعذر الإنسان على ترك الإنكار بلسانه مكتفياً بقلبه؛ لأنه يستطيع أي واحد أن ينكر المنكر بلسانه ولو تحمل بعض المسئوليات، فلا تظنوا أن طريق الجنة مفروش بالورود والرياحين، بل طريق الجنة محفوف بالمكاره، كما قال عز وجل: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} [البقرة:214].
إذاً: هذا هو طريق الجنة يا أخي! فإذا كنت تظن أنك تحصل على طريق الجنة بركعات أو شيء من ذلك، فنقول: هذا جزء من طريق الجنة، لكن أفضل طريق يؤدي إلى الجنة هو طريق الجهاد في سبيل الله، وهو أضمن طريق، ومن الجهاد في سبيل الله الدعوة إلى الله، وقول كلمة الحق ولو أسخطت الناس مادامت ترضي الله سبحانه وتعالى.
فعليك يا أخي! أن تتحمل في طريق الجنة ما يلاقيك، فليس طريق الجنة سهلاً، كما قال عز وجل: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:142].
إذاً: لابد في طريق الجنة من عقبات، فالكلمة باللسان لابد أن يتحمل الإنسان مسئوليتها أمام الناس، ليتخلص بمسئوليتها أمام الله عز وجل يوم القيامة.(39/25)
إخراج الشيخ الجلالي من منطقة القصيم
السؤال
سمعنا خبراً بإجلائكم عن منطقة القصيم، فما صحة هذا الخبر؟
الجواب
هذا الخبر صحيح، لكن أنا قلت لكم: إن طريق الجنة محفوف بالمكاره، ولابد أن نصبر ونتحمل، ولا نريد أن نقول كما قال الكفار لرسلهم: {لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [إبراهيم:13].
وعلى كلٍ هذه أمور أظنها ما وصلت إلى الجهات العليا، وإن وصلت فإننا نظن في الجهات العليا خيراً، وربما تكون تصرفات أشخاص دون هؤلاء، وعلى كلٍ ليست الأرض ملكاً لأحد، قال عز وجل: {إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [الأعراف:128]، وحينما يخرج الإنسان من منطقة ليعيش في منطقة أخرى ليس معنى ذلك أنه أُبعد؛ فإن أرض الله واسعة.
وعلى هذا نقول أيها الإخوة: إن طريق الجنة محفوف بالمكاره ومن هذه المكاره: أن يحال بين الإنسان في دعوته وبين وطنه، مع أن المسلم لا يتقيد بوطن، وافهموا هذا يا إخوان، وطن المسلم هو أي مكان في الأرض يستطيع أن يقيم فيه شرع الله عز وجل، وعلى هذا نقول: ليست المشكلة كبيرة، فالمشكلة يسيرة جداً؛ لأن أرض الله واسعة؛ ولأن المسلم يستطيع أن يعيش في أي أرض يستطيع أن يؤدي فيها شعائر دينه، والله المستعان!(39/26)
موقف المسلم من وجود التلفاز في بيته
السؤال
إنسان لا يريد التلفاز، وله أولاد، فجاءوا به، فحلف أن يخرجوه، ولم يخرجوه، فسلك جميع السبل مع زوجته وأولاده، فما هو الطريق الصحيح لإخراج هذا التلفاز من البيت؟ وهل من الحكمة إذا كان الشخص حديث عهد بهداية أن يخرجه من بيته؟
الجواب
أولاً: بالنسبة للأبناء الذين يعقون أباهم إلى هذا الحد وإلى هذا المستوى؛ هؤلاء عليهم خطر في دينهم، وأنا أرجوهم رجاءً أن يتقوا الله أولاً في هذه المعصية، فوجود هذه الوسائل بهذا الشكل معصية.
الشيء الثاني: عقوق الأب من أجل معصية من معاصي الله عز وجل هذه أيضاً معصية أكبر، فنقول لهؤلاء: اتقوا الله، ونقول لهذا الأب: صمم يا أخي على ما تريد، فأنت المسئول عنهم أمام الله عز وجل، وخصوصاً إذا كان هناك أطفال أو نساء يتأثرون أكثر من غيرهم بهذه الوسائل الحديثة.
أما بالنسبة للأخ الذي هو حديث عهد بالاهتداء فربما أنه لا يستطيع أن يؤثر على هذا البيت؛ لأن هذا البيت كما يظهر لي من هذا السؤال فيه شيء من الانحراف أو فيه شيء من الأخطاء على الأقل، ونقول لهذا الأخ: مادام الله تعالى قد هداك للفطرة فادعهم بلين وتؤدة؛ حتى تستطيع أن تصلح وضع هذا البيت.
فأنا لا أؤيد استعمال القوة في مثل هذه الأمور، وفي محاربة هذه المنكرات، ولكني أقول: لابد أن يكون ذلك بحكمة، والشاب الذي هداه الله تعالى للطريق المستقيمة عليه أيضاً أن يسلك طريق الحكمة، ولا يندفع كل الاندفاع من أجل إنكار هذا المنكر، ولكن عليه أن يسلك طريق الحكمة واللين، ويستغل الفرص التي من خلالها يستطيع أن يوصل الموعظة إلى أهله وبيته وأسرته من أجل أن يقتنعوا بترك ما حرم الله سبحانه وتعالى.(39/27)
حكم التلفاز
السؤال
هل التلفاز حرام؟
الجواب
نقول: التلفاز في موقع الحرام حرام، ولا نشك في ذلك، مادام أنه يعرض الموسيقى ويعرض صوراً مختلطة ويعرض أغاني، وهو ليس حراماً لذاته، ولكنه حرام لما يعرض فيه، فهناك شيء محرم لذاته، وهناك شيء محرم لغيره، ومحرم لما عرض فيه، ولو استعمل التلفاز في غير ما استعمل فيه اليوم فلا نستطيع أن نقول: إنه حرام، وإن كانت الصور بهذا الشكل فيها شيء من الشبهة على الأقل.
وعلى كلٍ نقول: في وضعنا الحاضر هو إثم، أنصح كل واحد من المسلمين أن يبعده عن بيته، ويستعين بالله عز وجل، ولا يؤخر هذه الفرصة.(39/28)
موقف المسلم من مناهج التعليم التي تخالف الشرع
السؤال
المناهج الدراسية تحتوي بين طياتها في مختلف مراحلها على مواضيع تخالف الشرع، وبرامج لامنهجية تقام في المدارس، فكيف بالمدرس إذا أمر أن يقوم بتدريس ما خالف الشارع؟ وماذا يفعله حيال ذلك، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
أنا لا أعرف أن فيها شيئاً يخالف الشرع، بل إني أظن أن التعليم عندنا -والحمد لله- أكثر المناهج في العالم الإسلامي استقامة؛ لكن ربما تكون هناك نظريات فاسدة أُبعِد كثير منها، وربما بقي بعضها، خصوصاً في علم الأحياء وما أشبه ذلك.
والمدرس هو الذي يستطيع أن يوجه الطلاب إلى ما فيها من خلل، بل هذه فرصة أن توجد هذه النظريات الفاسدة في هذا الكتاب، وإن كنا لا نود وجود ذلك، لكن مادامت قد وجدت فهي فرصة يستطيع المدرس من خلالها أن ينقض هذه النظريات، وأن يعلم الناس بأن هذا شر استهدفت به هذه الأمة، كما أنه مطالب أن يقدم إلى الجهات المسئولة والمعنية هذه الأمور الخطيرة التي عثر عليها في هذا الكتاب؛ من أجل إبعادها عن المناهج الدراسية.
وعلى كل واحد أن يتصرف، سواء كان في توجيهها أمام الطلاب وبيان ما فيها من انحراف، أو توجيه الجهات المسئولة التي تستطيع أن تزيل هذه النظريات أو هذه الأفكار أو هذا الخلل في هذه المناهج.(39/29)
حكم العقوبات المالية القائمة في نظام المرور وغيره
السؤال
ما هو رأي الشيخ في المخالفة المرورية التي تسجل بالكمبيوتر ويمكن لصاحب المخالفة تسديدها بعد عشرة أيام وإلا تضاعف هذه المخالفة وتزيد بمرور الأيام؟ ألا تدخل هذه الزيادة في الربا؟
الجواب
لا تدخل في الربا، ولكن تدخل في أكل أموال الناس بالباطل، والحقيقة أن كل العقوبات المالية أنا أشك في حلها، بل الإسلام وضع عقوبات ما علمت منها عقوبة واحدة مالية أبداً.
وعلى كلٍ هي تعتبر رادعاً لبعض المخالفات، والمخالفات المرورية بعضها خطيرة، ولو أن واحداً من الناس قطع الإشارة وقتل إنساناً فإنه يعتبر كالمتعمد في قتل هذا الإنسان، صحيح أنه يجب أن توضع هناك عقوبات، لكن لماذا لا تكون غير مالية، وإذا كانت مالية لماذا تضاعف؟ فأنا أرى أن العقوبات المالية كلها موضع نظر، فلا يعاقب الناس بأموالهم، وإنما يعاقبون بأنفسهم، ولابد أن تكون العقوبة كما جاء الشرع، بأنها تكون فور المخالفة، فالرسول صلى الله عليه وسلم أمر كل من فعل ذنباً أو إثماً أن يعاقب فوراً؛ حتى يكون رادعاً لغيره، أما وضعها مدة من الزمن وإدخالها في الأجهزة الحديثة، ثم مضاعفتها بعد مدة من الزمن، فأنا أظن أن فيه تعدياً على أموال الناس.(39/30)
قوة وشموخ الصحوة الإسلامية
السؤال
في هذا الزمن الذي تلاطمت فيه المحن، وانتهكت فيه حرمة العلماء والدعاة، وضيق على الصحوة، ما هو توجيهكم الكريم لهذه الصحوة العارمة التي لم تؤد جزءاً من دورها قياساً بعددها؟ ونرجو توضيح ما يخطط لهذه الصحوة، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
أولاً: هذه الصحوة لا أحد يستطيع أن يقضي عليها، وقد سمعت واحداً من العلماء يقول: نحن نرشها بالماء، وفي أفغانستان رشوها بالمبيدات وما استطاعوا أن يقضوا عليها.
وعلى كلٍ يا إخوان! الصحوة الإسلامية معناها إظهار لدين الله، والله تعالى حكم في القرآن العظيم بأنه سيظهر هذا الدين.
إذاً: معنى ذلك أنه لا أحد يستطيع أن يقف في وجه هذا الدين، قال عز وجل: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء:18]، وكم من خلق الله من حاول أن يقف في وجه هذا الدين، وأن يذل من أعزه الله، فعجز وتحطم، وقد جاءت الحروب الصليبية وبقيت مائة وسبعين عاماً تجوب خلال الديار، وخرجت والإسلام أعز مما كان، وجاء التتار وساموا المسلمين سوء العذاب، وخرجوا من بلاد المسلمين ولم يضعفوا مسلماً واحداً أو جعلوه يرتد عن دينه، بل خرجوا والمسلمون أعز مما كانوا، وهذه في اعتقادي أكبر أحداث في التاريخ جاءت لصرف المسلمين عن دينهم.
فهذه الصحوة ليست معرضة لأن يضعفها أحد من الناس، إلا أننا ننصح كل واحد من الناس تسول له نفسه أن يقف في وجه هذا الدين أن يسير مع هذا الدين إن كان ممن ولاه الله تعالى أمراً من أمور المسلمين، وحينئذٍ نبشر بالعزة والتمكين في هذه الأرض، أما من يفكر في غير ذلك فإن عليه أن يراجع حسابه؛ لأن الله غالب على أمره ومتم نوره، وننصح إخواننا شباب الصحوة الإسلامية أن يضبطوا أنفسهم وتوازنهم، وألا يندفعوا كل هذا الاندفاع الذي نشاهده على بعضهم في بعض الأحيان، وربما يكون سبباً في جر مشاكل عليهم، وننصحهم أن يتعلموا الشرع؛ لأن كثيراً منهم اتجه إلى الله عز وجل متأخراً، وربما أنه لا يعرف شيئاً من علوم الشرع، وربما أنه اختص بالعلوم العصرية، فنقول: لابد من أن يكون هناك علم تنضبط به هذه الصحوة، وتسير معه في خط مستقيم.(39/31)
دعوة للتبرع للجمعيات الخيرية من أجل تزويج الشباب
السؤال
الحمد لله الذي أعانني على إكمال ديني بأن تزوجت، وذلك من فضل الله، ثم من تبرعات المسلمين الذين يدعمون الجمعيات الخيرية، فنرجو منكم يا فضيلة الشيخ! أن تدعوا للتبرع لهذه الجمعيات؛ ليعم الخير جميع الشباب؟
الجواب
الحقيقة أن أفضل ما نقدمه من المال بعد الجهاد في سبيل الله هو تزويج هؤلاء العزاب، والله تعالى وعد من يتزوج لحفظ دينه بأن يعطيه من هذه الدنيا، فقال عز وجل: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32].
وتزويج هؤلاء العزاب فيه فوائد كثيرة، منها إعفاف الفروج، سواء في ذلك الرجال والنساء، وبناء بيوت وأسر على طريق شرعية، وحماية وحفظ هؤلاء الشباب الذين يتفلتون هنا وهناك، ولربما يحدثون فساداً في الأرض بسبب هذه الشهوة الحرام، وكل هذه الأشياء نستطيع أن نقضي عليها بما نقدمه من هذا المال، سواء كان للجمعيات الخيرية التي تتبنى موضوع تزويج العزاب، أو ما نقدمه لهؤلاء الشباب الذين يفكرون في الزواج مباشرة.
وأدعو الجمعيات الخيرية أن تزيد البذل في هذا السبيل؛ فإنها في اعتقادي من أفضل السبل التي يقدم فيها المال.(39/32)
زيادة الصدقة في عمر المتصدق
السؤال
الصدقة تزيد في العمر، كيف ذلك والآجال مكتوبة، والله عز وجل يقول: {لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [يونس:49]؟
الجواب
يقول صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أجله فليصل رحمه)، يقول العلماء: المراد بالوسع هنا أحد أمرين: زيادة البركة في العمر، فالسنون لا تزيد لكن يبارك فيها فيستفيد الإنسان من هذا العمر أكثر مما يستفيده إنسان في عمره الذي لم ينزل الله عز وجل فيه بركة، فيمضي عمر الثاني دون فائدة يستفيد منها، وأما صاحب العمر المبارك الذي أنزل الله تعالى فيه البركة فاستفاد منه صاحبه.
الأمر الثاني: أن الله سبحانه وتعالى قال: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد:39]، فقد قدر الله تعالى الآجال، لكن يثبت الله تعالى ويزيد وينقص ويمحو، فيمكن أن يزاد في العمر حتى في الزمن، وليس معنى ذلك أنه تخطى الأجل، يعني: أن الله تعالى وضع له أجلاً، ثم زاد في هذا الأجل فأعطاه أجلاً آخر، فهذا الأجل الآخر هو الذي حصل عليه الإنسان بسبب صلته لرحمه أو بذله أو ما أشبه ذلك.(39/33)
دعوة إلى التبرع لنشر الدعوة عبر الكتاب والشريط
السؤال
هناك بعض المناطق في المملكة وخارجها تنقصها الدعوة إلى الله، ومن وسائل الدعوة توزيع ونشر الكتاب والشريط، فهل ترون عرض هذا الأمر على أهل الخير لدعم هذا المشروع؟
الجواب
هذا مشروع طيب، والبذل في أمر ينشر الدعوة إلى الله عز وجل مطلوب، لكن بشرط أن يفهم الناس أن هذا ليس من الزكاة؛ لأن في اعتقادي أن هذا لا يصلح مصرفاً من مصارف الزكاة، فإذا أشعر الناس بأن هذا ليس من الزكاة وإنما هو من الصدقة الزائدة عن الزكاة فهذا عمل طيب.
والشريط -والحمد لله- الآن يخدم الدعوة الإسلامية أكثر من أن تخدمها أي وسيلة من الوسائل الأخرى، وأرجو من إخوتي أن ينشطوا أمر الشريط والكتاب؛ فإن واحداً من الناس يهتدي بسبب شريط أو بسبب كتاب يكون خيراً لك من الدنيا وما عليها، وإذا ساهمت في هذا الشريط بريال واحد فلربما يكتب الله عز وجل لك هذا الأجر كله، وكم من الناس من اهتدى بسبب الشريط أو بسبب الكتاب! فأنا أشجع هؤلاء الإخوة القائمين على ذلك، وعلينا أن نساهم، لكن لا نحتسب ذلك من الزكاة، وهذا مشروع أسأل الله تعالى أن يبارك فيه، وأن يوفق القائمين عليه للصواب.(39/34)
أسباب ضعف جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
السؤال
ما رأيك في ضعف جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المجتمع عموماً وعند الشباب خصوصاً؟ وهل هو ناتج عن ضعف المناهج التربوية المطروحة، أم عن الغزو الذي يمارسه الإعلام الداخلي والخارجي، أم أنه نتيجة للتربية المنزلية المستمدة من أعراف المجتمع، أم غير ذلك؟
الجواب
ذكر الأخ السائل أسباباً كثيرة لهذا الضعف، ولكن أنا أضيف إلى هذه الأسباب أسباباً أخرى: ولعل من الأسباب أن تكون هناك هيئات رسمية تولت هذا الأمر، فظن الناس أنها مسئولية الدولة وليست مسئولية الناس، ولكن نحن مطالبون بأن نتعاون من الدولة ومع الحسبة الرسمية لإنكار المنكر، ولإقرار قواعد المعروف في الأرض، ووجود حسبة رسمية لا يعني أننا نصبح غير مسئولين أمام الله عز وجل، وقد عشنا شيئاً من الفترة التي سبقت وجود حسبة نظامية فرأينا الناس كلهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ولما قامت هذه الجهات الرسمية بهذا الأمر ظن كثير من الناس أنها مسئولية الدولة وليست مسئولية الناس، والحقيقة أنها مسئولية الجميع.
وأمر آخر: لعل في كثرة المنكرات التي انتشرت في بلاد المسلمين ما أدهش كثيراً من المسلمين، فلم يستطع أن يقدم أو يؤخر شيئاً منها؛ لأنه اندهش، فكان ذلك سبباً في حيرته، فتأخر عن هذا الأمر كله.
وعلى كلٍ فإن من أعظم أسبابها ضعف الإيمان في نفوس بعض الناس، وربما أن الخوف قد دب في نفوس بعض هؤلاء المسلمين، فلم يستطيعوا الإقدام على هذا الأمر، والله المستعان.(39/35)
حكم الامتناع عن الدعوة لمن مُنع عنها
السؤال
إذا مُنعت من الدعوة فهل يجوز لي أن أمتنع، ولا ينالني الخسران المذكور في قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:1 - 2]؟
الجواب
ليس لك عذر أن تتوقف حينما تُمنع، فطاعة أولي الأمر واجبة، لكن بشرط ألا تتعارض مع طاعة الله عز وجل، فإذا تعارضت فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، والدولة مسئولة أن تنظم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن ليس لها الحق أن تمنع داعية يدعو إلى الله عز وجل على بصيرة.
وعلى هذا نقول: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله فرض كفاية، فإذا كان يقوم به من يكفي فيعتبر عذراً لك حينما تتوقف، مع أنك بهذا تفوت كثيراً من الفضيلة؛ لأن الدعوة إلى الله أفضل طريق إلى الجنة، كما قال عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً} [فصلت:33]، أي: لا أحد أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً، ولكن حينما تكون الساحة قد خلت أو ضعف هذا الجانب وأنت تُمنع من أن تقوم بالدعوة إلى الله فحينئذٍ لا تتوقف؛ لأنك تسير بأمر من الله عز وجل القائل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125].
فإذا خلت الساحة ولم يقم بهذا الأمر من يكفي فلا يجوز لأحد أن يتوقف لأي أمر من الأمور، وإذا كانت الساحة قد شُغلت وأصبح الأمر مكتفياً فيكون بالنسبة لك فرض كفاية، وحينئذ لك أن تتوقف، لكن اعلم أن من يدعو إلى الله هو خير منك؛ لأنه يقوم بهذا الأمر العظيم، ويهتدي على يده أناس كثيرون.(39/36)
حكم الأكل مع المشرك
السؤال
هل يجوز الأكل مع شخص مشرك ولو كان عاملاً أو خادماً أو سائقاً في البيت، أفيدونا جزاكم الله خيراً؟
الجواب
موالاة الكافرين والمشركين لا تجوز، لقول الله عز وجل: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ} [المجادلة:22]، إلى آخر الآية، وهناك فرق بين الموادة وبين المعايشة، وكثير من إخواننا خارج السعودية يبتلون بهؤلاء المشركين؛ لأنه حصل في بعض البلاد اندماج واختلاط بين الفئتين.
وعلى كلٍ يا أخي! احرص على أن تبتعد عن هؤلاء القوم، لكن لو أكلت معه دون أن تكون هناك صداقة وإنما جمعك معه مجلس أو ما أشبه ذلك، فلا أعتقد أن في ذلك حرجاً، لكن البعد عن هؤلاء في مجالستهم ومؤاكلتهم ومشاربتهم هو الأولى والأفضل، لكن لو اضطررت أن تأكل مع مشرك أو مع كافر بشرط ألا يكون هناك حرام في الأكل أو في طريقة الأكل أو ما أشبه ذلك؛ فحينئذ لا أعتقد أنه قد نهي عن ذلك، وإن كان الأصل هو أن يتميز المسلم بشخصيته وبحياته عن كل كافر ومشرك.(39/37)
أفضل طريقة لحفظ القرآن الكريم
السؤال
ما هي أفضل طريقة لحفظ القرآن؟
الجواب
عندك -والحمد لله- حلق في المساجد لتحفيظ القرآن وفيها خير، لكن أفضل طريقة لحفظ القرآن هي أن تحدد لك مقادير معينة من القرآن تحفظها، وتتوقف عند نهايتها، وتكررها يوماً بعد يوم، وتضع لك كل يوم صفحة من الصفحات تحفظها، وتكررها في الصلوات الخمس، وتكررها وأنت تمشي، وفي كل حالة من حالاتك، وفي اليوم الثاني تزيد صفحة وصفحتين وهكذا، حتى إذا صرت إلى مقدار معين تتوقف، وتكرر ما حفظته حتى لا تنساه، ثم بعد ذلك تبدأ مرة ثانية، وهكذا.
المهم أن يكون هناك مذاكرة مستمرة لما حفظت من القرآن، وهذه أفضل طريقة.
وأفضل زمن لحفظ القرآن هو أيام الصغر وأيام الشباب، ولذلك فإني أنصح الشاب أن يبادر إلى حفظ القرآن قبل أن يتحمل مسئوليات وتكاليف الحياة التي تشغله، وأنصح الآباء أن يلزموا أبناءهم أو على الأقل يشجعونهم على حفظ القرآن ماداموا في سن مبكرة؛ حتى لا تفوتهم هذه الفرصة، وهذه فضيلة للأب وللابن الحافظ للقرآن، والله المستعان.
والحمد لله رب العالمين.(39/38)
دروس وعبر من قصة موسى وفرعون [1]
لقد ذكر الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم قصص أنبيائه السابقين؛ تسلية وتثبيتاً للنبي صلى الله عليه وسلم، ومن تلك القصص قصة موسى عليه السلام مع فرعون وقومه، وقد أطال الله تعالى في قصته ما لم يطل في قصص غيره من الأنيباء؛ لما في قصته من دروس وعبر عظيمة، يستفيد منها العلماء الربانيون، والدعاة المربون، والأئمة المصلحون، والناس أجمعون.(40/1)
قصة موسى عليه السلام مع فرعون
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونثني عليه الخير كله، ونشكره ولا نكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، قاصم الطغاة والمتجبرين، وناصر أوليائه، لا حول ولا قوة إلا به، ولا غالب إلا الله، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله ومن دعا بدعوته وعمل بسنته ونصح لأمته إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الإخوة! ما زلنا في سلسلة من نبأ المرسلين عليهم الصلاة والسلام، وكان حديثنا في حلقة سابقة عن قصة يوسف عليه الصلاة والسلام، والتي ابتدأت بطفل صغير يلقى في البئر، ويئس منه إخوانه، حتى يمكن الله عز وجل له في الأرض، وتنتهي تلك القصة بمغزاها الكبير: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:90].
أما حديثنا الآن ضمن سلسلة من نبأ المرسلين عليهم الصلاة والسلام، فهو قصة موسى عليه الصلاة والسلام مع أكبر جبار عنيد وأكبر طاغية -إن صح التعبير- باستثناء طغاة يعيشون في عصرنا الحاضر، فهذا الطاغية أنكر الخالق سبحانه وتعالى، وادعى الألوهية والربوبية لنفسه، وذبح الأبناء، واستبقى النساء خشية على نفسه، ولكننا سوف نجد أنه ينتهي أجله وحكمه وسلطانه وطاغوته وكبرياؤه على يد طفل من الأطفال الذين ولدوا في هذه الفترة التي كان يقتل فيها الأبناء ويستبقي النساء، وذلك كله تحدٍ من الله عز وجل لهذا الطاغوت، ولكل طاغوت إلى يوم القيامة، حينما يريد أن يستذل خلق الله، أو يستبد في هذه الأرض، أو يعيث في الأرض فساداً.
إذاً: القصة التي معنا اليوم هي قصة بني إسرائيل بقيادة موسى عليه الصلاة والسلام، أمام الطاغوت المتجبر فرعون عليه لعنة الله، ومن سار على منهجه إلى يوم القيامة.
القصة تبدأ كما بدأت قصة يوسف عليه الصلاة والسلام طفل يولد ويرمى في النهر، ذاك يرمى في البئر وهذا يرمى في النهر، ثم يكون الأمر نهاية فرعون على يد موسى عليه الصلاة والسلام.
ومن هنا نعلم أن قصص الأنبياء تبدأ في بادئ الأمر بسيطة، لكن الله عز وجل لا بد أن يظهر أولياءه، ويزيل الطواغيت على يد أناس كانوا مغمورين في المجتمع، فيوسف عليه الصلاة والسلام ينهي الحكم في مصر، ويتولى هو حكم مصر، وقد خرج من البئر، أما موسى عليه الصلاة والسلام فيلقى رضيعاً في تابوت في نهر النيل، ثم بعد ذلك يسقط أكبر طغيان على وجه الأرض مرت عليه مدة طويلة من الزمن.
إذاً: هذه حكمة الله عز وجل، لا نستبعد النصر من الله عز وجل، ولو ضعفت البوادر والإرهاصات، فإن الله عز وجل غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
إن قصة موسى تبدأ من قول الله تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} [القصص:5]، وتنتهي بقوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [الأعراف:137]، هذه النهاية.(40/2)
أخذ العظة والعبرة من قصة موسى مع فرعون
أما مغزى هذه القصة فهو واضح؛ لأن الحديث عن الأمم السابقة إنما هو من أجل أن تأخذ هذه الأمة درساً مدى الحياة؛ حتى لا تيأس من روح الله من ناحية، ومن ناحية أخرى حتى تأخذ بأسباب القوة والتقدم، والله عز وجل يقول: (من تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، ومن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة)، هذا هو حكم الله عز وجل في هذه البرية، ولذلك فإن القصة عجيبة، تبدأ من طفل يلقى في النهر وتحدٍ، يقول الله عز وجل: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} [القصص:7]، مع أن القاعدة: أنه إذا خفت عليه أدخليه داخل الغرفة وأغلقي عليه الباب، وأسدلي الأستار حتى لا يعرف لكن هنا تحدٍ (أَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ)، مع أن هذا اليم -الذي هو نهر النيل- ينتهي بقصر فرعون، يعني: لو انقطع هذا الحبل كما حدث لانتهى في قصر فرعون، ولكن هذا كله من باب التحدي، قال تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص:8].
إذاً: هذا هو ملخص القصة، وقد يستغرب أحد الناس حينما يقرأ القرآن، فيندر أن توجد سورة طويلة إلا وفيها قصة موسى مع فرعون وقصة بني إسرائيل، ما هو السر في ذلك؟ لعل السر في ذلك هو أن بني إسرائيل هم آخر الأمم قبل أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولعل قائلاً يقول: عيسى عليه الصلاة والسلام جاء بعد موسى، وجاء أنبياء بعد موسى! فنقول: نعم، حتى عيسى عليه الصلاة والسلام بعث إلى بني إسرائيل، ولما بعث إلى بني إسرائيل آمن به من آمن من بني إسرائيل، وسموا أنفسهم نصارى، ثم انعزل النصارى عن بني إسرائيل، وهم في الحقيقة فرع من فروع بني إسرائيل، وغصن من أغصان شجرة بني إسرائيل.
إذاً: الحديث الطويل في القرآن عن بني إسرائيل لأنهم آخر الأمم من ناحية، ومن ناحية أخرى: أن في بني إسرائيل من العبر والآيات ما على مثله يؤمن البشر، أعطى الله عز وجل موسى آيات كونية إضافة إلى التوراة والصحف، تسع آيات كل واحدة تكفي لإيمان البشر عامة إلى يوم القيامة، ومع ذلك هذه الآيات التسع ما نفعت بني إسرائيل، حتى أراد الله عز وجل لهم الطرد والإبعاد في هذه الحياة؛ ليعيشوا مشردين في الأرض إلى يومنا هذا وإلى يوم القيامة، ما نفعتهم هذه الآيات التسع، وكذلك آل فرعون الذين جاءهم موسى عليه الصلاة والسلام بتسع آيات ما نفعتهم هذه الآيات، فكانت نهايتهم الغرق والدمار.
ولذلك بنو إسرائيل بناءً على هذه الآيات التسع التي جاءت من أجل أن تكون دافعاً لهم إلى الإيمان ما زادتهم إلا عتواً ونفوراً، والسر في ذلك هو الاستكبار الذي يصيب الأمم، فهنا فرعون قال الله عنه: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} [القصص:4]، فكان طغيانه سبب نهايته، وبنو إسرائيل أيضاً استكبروا في الأرض فكان ذلك سبب نهايتهم، ولذلك بنو إسرائيل يسمون أنفسهم: شعب الله المختار؛ انطلاقاً من قول الله تعالى: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الدخان:32]، وحقيقة هذا الاختيار كان في زمن من الأزمان، لكن بعد أن انحرفوا عن دين موسى عليه الصلاة والسلام أصبحوا أذل الأمم وأبعدها، أما هم فيظنون أن بينهم وبين الله عز وجل نسباً فيقولون: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:18]، وليس بين أحد وبين الله عز وجل نسب، فالله تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:3 - 4]، لكنه التمسك بهذا الدين، فمن تمسك بهذا الدين فإن الله عز وجل يعطيه من الكرامات التي لم يعطها أحداً من العالمين، لكن حينما ينحرف فإنه ليس هناك بينه وبين الله عز وجل عهد ولا نسب، فليعلم الناس أجمعون في أي مكان من الأرض وفي أي عصر أنها سنة الله عز وجل في هذه الحياة، فإذا انحرف الناس عن سنة الله عز وجل في هذه الحياة فإن الله تعالى يقول عن النار: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:24]، أما الطرد والإبعاد من رحمة الله عز وجل في هذه الدنيا؛ فإنه مصير كل من ينحرف عن هذا الدين.(40/3)
الدروس المستفادة من قصة موسى عليه السلام مع فرعون
لابد أن نستنتج من هذه القصة دروساً، وهذه الدروس لا نوجهها إلى بني إسرائيل؛ لأن بني إسرائيل رفضوها، وإنما نوجهها إلى المؤمنين من هذه الأمة؛ حتى يأخذوا منها العظة والعبرة والدرس، حتى لا ينحرفوا كما انحرف بنو إسرائيل، وحينئذ هذه الأمة ليست أقرب إلى النبوة من بني إسرائيل، فبنو إسرائيل فيهم النبوة منذ عهد يعقوب عليه الصلاة والسلام إلى يوم القيامة، باستثناء نبي واحد هو محمد صلى الله عليه وسلم، فجميع الأنبياء في بني إسرائيل باستثناء محمد صلى الله عليه وسلم، فليس هو من بني إسرائيل، أما النبوة فإنها كلها في ذرية يعقوب عليه الصلاة والسلام.
إذاً: معنى ذلك أن بني إسرائيل أقرب إلى النسب الشريف إذا كانت المسألة مسألة أنساب، لكن هذه الأمة تمتاز بأنها خير أمة أخرجت للناس، وإن لم يكن منها إلا نبي واحد وهو خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم، فالقصة ليست مسألة نسب، وليست مسألة وراثة، ولكنها مسألة تمسك بهذا الدين، فمن أخذ بهذا الدين فهو النسيب الشريف العظيم القريب من الله عز وجل، ومن انحرف عن هذا الدين أياً كان هذا الإنسان فإنه عدو لله ولرسوله وللمؤمنين.
نعود إلى بعض الدروس التي سمعناها في هذه السورة في هذه الآيات من دروس بني إسرائيل، أولاً: هذه الآيات لا يستفيد منها إلا المؤمنون، كما قال الله عز وجل في مكان آخر: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43]، أي: الذين عندهم علم وعقل، وهنا يقول الله تعالى: {نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [القصص:3]، أما القوم الذين لا يؤمنون فيظنون أنها قصة كسائر القصص التي يسمعونها! ولربما يسمونها أسطورة -نعوذ بالله- حينما ينحرفون عن المنهج الصحيح، ثم تمر هذه الآيات وهذه القصة التي تقطر بالآيات والعظات والعبر، ثم لا يستفيد منها هؤلاء القوم، لكن المؤمنين هم الذين يستفيدون من مثل هذه القصة.
يقول الله تعالى عن هذه الآيات: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ} [القصص:4]، هذا هو السر الذي جعل فرعون ينتهي سلطانه، العلو في الأرض، من أعظم الذنوب عند الله عز وجل التعالي، سواء على الله سبحانه وتعالى أو على خلق الله، هو أسوأ طريق يورد الأمم إلى الهاوية، ولذلك نجد في قصة إبليس أنه كان في الجنة، وكان من الملائكة، ولكن ما الذي حدث؟ الذي حدث أنه علا في الأرض، فأصبح إبليس ملعوناً يلعنه الناس إلى يوم القيامة، وهو الذي يقود الأمم إلى جهنم يوم القيامة؛ بسبب أنه علا في الأرض وتكبر، وفرعون هنا كان صاحب سلطان عظيم، وكان كما يقول عن نفسه: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ} [الزخرف:51 - 52]، يقصد به موسى عليه الصلاة والسلام, {وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:52].
إذاً: القصة بدأت من العلو في الأرض، فأي أمة يمكن الله عز وجل لها في الأرض ويؤتيها من ملكه وسلطانه فيجب أن تستغل هذا الملك وهذا السلطان فيما يرضي الله عز وجل، فإن استعملت هذا الملك وهذا السلطان في الكبرياء على خلق الله، واستذلال الأمم، وأذية الدعاة ومطاردتهم، ومتابعة أنفاسهم، إلى غير ذلك مما يؤدي إلى العلو والاستكبار في الأرض، فإن هذه الأمة قد أوشكت على النهاية؛ لأن هذا الرجل بدأت نهايته: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:4].
ولعل السر في تذبيح الأبناء الذكور بصفة خاصة والاستبقاء على النساء يرجع إلى رؤيا قيل: رآها فرعون، أو تخمين جاء في نفسه بأنه سوف يولد طفل من بني إسرائيل يكون هو سبب نهاية فرعون، وهذا غيب من غيب الله عز وجل، لا يطلع عليه إلا الله عز وجل ومن أراد من المرسلين، لكن جاء في ذهنه هذا الأمر، فأوحى إلى زبانيته أن كل ولد ذكر يولد لا بد أن يقتل، ولا يبقى إلا النساء، ثم جاءت فترة خشي أن ينقرض شعبه؛ فصار يقتل سنة ويستبقي سنة أخرى، ومن عجائب قدرة الله عز وجل أن موسى ولد في السنة التي يقتل فيها فرعون الأبناء، حتى يكون أبلغ في التحدي، كما كان من التحدي أن يدخل موسى وهو طفل رضيع إلى بيت فرعون، ولذلك فإن الله عز وجل أراد أن يفرضه فرضاً عليه حتى يرى أن احتياطه لا ينفع ولا يرد من قضاء الله عز وجل وقدره شيئاً، فولد موسى عليه الصلاة والسلام، وشب في بيت فرعون، وألقى الله عز وجل عليه المحبة؛ فاحتضنته زوجة فرعون المؤمنة، وبقي هذا الطفل حتى أصبح رجلاً، فكان سبباً في نهاية فرعون.
إذاً: هذه الآية لا يستفيد منها إلا المؤمنون.(40/4)
العلو في الأرض له نهاية مؤلمة
الآية الثانية: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} [القصص:4]، إذاً: التسلط على الشعوب، وأذية الأمم، والجلوس لهم بالمرصاد، هذا أخطر شيء في حياة الأمم؛ لأن الإنسان حينما يعصي بينه وبين ربه سبحانه وتعالى فهذه معصية تحت مشيئة الله عز وجل وإرادته، ما لم تصل إلى درجة الكفر أو الشرك، لكن إذا وصل إلى استذلال الأمم، وأذية المؤمنين، فهذا أخطر شيء في دمار الدول ونهايتها وسقوطها في أقرب وقت ممكن، ولذلك هذا هو الذي عجل نهايته، قال تعالى: {يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} [القصص:4].
ولذلك فإننا نقول لكل زعيم يريد أن يحكم بحكم الله في هذه الأرض: أنه ليست مهنته استذلال البشر؛ لأن استذلال البشر معناه أن يضعف القاعدة التي يقوم عليها؛ لأنه لا يقوم سلطان لأحد في هذه الأرض إلا على قاعدة، وهذه القاعدة هم هؤلاء المؤمنون الأتقياء الصالحون، فحينما يستضعفون ويستذلون، وتسلط عليهم الأضواء، وتتابع أنفاسهم إلى غير ذلك، وتفسر وتؤول كلماتهم خلاف ما يريدون، ويؤدي ذلك إلى أن تنشأ أمة ضعيفة هزيلة لا تستطيع أن تدافع عن نفسها وعن كيان أمتها، يؤدي ذلك إلى ضعفهم وعدم قدرتهم على البقاء.
وهذا هو الذي أحدثه فرعون أضعف القاعدة، واستذل الأمة، وصار يذبح الأبناء، ويستحيي النساء؛ لأنه كان من المفسدين، هو لا يريد الإصلاح، لو أراد الإصلاح لكان الأمر غير ذلك، إذاً: الذي حدث هو استذلال هذه الأمة فأدى ذلك إلى سقوط ملكه ونهايته.
قال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:4]، وكلمة: (من المفسدين) دليل على أنه ليس هو وحده المفسد، فالمفسدون في القديم وفي الحديث موجودون، والعجيب أن هؤلاء المفسدين من طبيعتهم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة:11]، قال الله تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} [البقرة:12].(40/5)
الإمامة لا تنال إلا بالصبر واليقين
ثم بعد ذلك يقول تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} [القصص:5]، أمة مستضعفة تتحول إلى أئمة، لكن متى تكون هذه الإمامة؟ بشرطين: الصبر واليقين، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24]، الأمم غير الموقنة غير المتأكدة من صحة المسار غير المقتنعة بالمنهج الذي تسير عليه لا تستطيع أن تصل إلى القيادة والريادة في هذه الحياة، الأمم التي لا تصبر نفسها، ولا تريد أن تتحمل المشاق في طريق هذه الحياة؛ لا تستطيع أيضاً ولا يمكن أن تحصل على قيادة هذه الحياة، أما هنا فالله تعالى يقول: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} [القصص:5]، يتحول من مستضعف في الأرض إلى إمام، وحينما يكون إماماً عليه أن يعي الدرس الذي يكلف به، لا يعتبر الإمامة والسلطة منطلقاً لاستذلال الأمم، وإنما يعتبرها كما أخبر الله عز وجل عنها: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ} [الحج:41]، في أنفسهم وفي غيرهم، {وَآتَوُا الزَّكَاةَ} [الحج:41]، في أنفسهم وفي غيرهم.
{وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:41]، هذه هي مقومات الإمامة، وهذه هي نتائج الإمامة في هذه الأرض، وهنا يقول: {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص:5]، الوارثون لمن؟ الوارثون للسلطان الذي سوف ينتهي عما قريب على يد هذا الطفل، الذي ولد وتربى في بيت فرعون، ثم هو أيضاً يريد أن يقضي على هذا الملك في لحظة واحدة كما هو في آخر القصة؛ لأن آخر القصة ونهاية القصة، كما أخبر تعالى: {وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ * وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ} [الأعراف:137 - 138]، فجعل الله لهم خلاصاً ومنهجاً بعد أن أوقع الطاغية وجنوده شر موقع.(40/6)
حفظ الله ورعايته لأوليائه تتدخل مهما كان الأمر
درس آخر: قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي} [القصص:7]، هذا هو الأمر العجيب! عندما يخاف إنسان على إنسان لا يلقيه في اليم، وإنما يدخله في الغرفة ويخفيه، ويغلق عليه الباب، هذه هي القاعدة المعروفة عند الناس بالنسبة لمن يخاف على نفسه أو من يخاف على غيره، لكن هنا يقول تعالى: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} [القصص:7]، وهذا في غاية التحدي من الله عز وجل لهذا الطاغية ولكل طاغية، أي: أن قضاء الله عز وجل وقدره ينفذ مهما اتخذت الاحتياطات ضد هذا القضاء والقدر، وكم من إنسان كان محصناً في ملكه، محيطاً به حرسه وقوته، وهو بكامل قواه، ثم ينزل عليه قضاء الله عز وجل وقدره في أقوى ساعة يكون فيها متحصناً عن عدوه؛ لأن هذه أقدار وآجال مقدرة مؤقتة من عند الله عز وجل: {فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [يونس:49].
إذاً: الاحتياطات لا تنفع، الذي ينفع هو الاعتماد على الله من ناحية، مع اتخاذ شيء من الاحتياطات، لكن لا يعتمد على الأسباب، وإنما يعتمد على خشية الله عز وجل، وعلى حفظ الله عز وجل وحمايته، مع اتخاذ شيء من الاحتياطات، بشرط أن يسير هذا الإنسان سيراً مستقيماً.
وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي كان يحكم عالماً كبيراً، كان ينام في المسجد، ما كان يحتاج إلى حرس، ويشهد له الزبرقان عدوه، لما وجده متوسداً بردة له في المسجد، وهو نائم في وسط الناس، وهو الخليفة، شهد له بالحق، وقال: يا عمر! عدلت فأمنت فنمت، ولكن الذين لا يعدلون كيف يحيط بهم الحرس والجنود من كل جانب، ومع ذلك لا يمكن أن يحفظهم هؤلاء من قضاء الله عز وجل وقدره.
فهنا يقول الله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي} [القصص:7]، وإن كان في اليم؛ لأن الله تعالى هو الذي يحفظ الإنسان، فليس الذي يحفظه الأبواب المغلقة، والستور المرخاة، والحصون المحصنة إلى غير ذلك، وإنما الذي يحفظه هو الله عز وجل: {فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7]، تصور يا أخي! وهو طفل يرضع تأتي البشارة من عند الله عز وجل لأمه، وهذا الإيحاء ليس كإيحاء الأنبياء، وإنما هو نفث في الروع بأنه سوف يرجع إليها مرة أخرى ولو ذهب بعيداً عنها، وسيكون أيضاً من المرسلين، بل هو من خيار المرسلين عليه الصلاة والسلام؛ لأنه من أولي العزم الخمسة عليهم الصلاة والسلام.(40/7)
الإثم على قدر المشاركة في الصد عن سبيل الله
قال تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص:8]، هل يمكن لأحد أن يلتقط طفلاً ليكون له عدواً وحزناً؟ لا يمكن ذلك، إذاً: آل فرعون حينما التقطوه ما كانوا يظنون أنه سوف يكون لهم عدواً وحزناً؛ بل كانت تقول امرأة فرعون لفرعون تجاه هذا الطفل: {قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [القصص:9]، لكن الله تعالى حكم بأنه سوف يكون لهم عدواً وحزناً، وحكم بأن هذا الطفل سوف يسقط هذه الإمبراطورية العظيمة التي مضت عليها آلاف السنين، سوف يسقطها هذا الطفل بإذن الله عز وجل، وبقدرة الله عز وجل الغالبة، فاللام هنا ليست للتعليل كما يقول المفسرون، وإنما هي للصيرورة، أي: سوف يصير الأمر إلى أن يصبح هذا الطفل الذي يتربى في حجر فرعون عدواً لهم وحزناً، ثم ينهي هذا الظلم والطغيان الذي مضت عليه مدة طويلة من الزمن على يد هذا الطفل، حينما يبلغ سن الرجال ويوحي الله عز وجل إليه.
يقول تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} [القصص:8]، وهذا درس آخر، فرعون هو الطاغية الأول، وهامان الذي كان وزيره، لكن ما مصير الجنود؟ قد يقال: الجنود إنما هم منفذون للأوامر، كما يفعله جنود كثر في أيامنا الحاضرة، يفتكون بالمؤمنين والعياذ بالله، وينفذون أوامر الطواغيت في الأرض، وإذا قيل لأحدهم: اتق الله، قال: أنا تصدر لي أوامر فأنفذها، أنا بريء كيف يكون بريئاً والله تعالى يقول: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} [القصص:8]؟! إذاً: أنت حينما تنفذ أمر طاغوت في هذه الأرض إنما أنت كجندي من جنود آل فرعون الذين حكم الله عز وجل بأنهم ظالمون، كما أن فرعون وهامان كانوا ظالمين، من أكبر جندي إلى أصغر جندي من أكبر مسئول إلى أصغر مسئول، كلهم يشاركون الطواغيت في تنفيذ أوامر تنافي أوامر الله عز وجل، أو تؤذي المؤمنين؛ فإنهم يشتركون في الجريمة سواءً بسواء: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} [القصص:8]، إذاً: المسألة مسألة اشتراك ولو بكلمة، ولو بكتبة قلم، ولو بأقل من ذلك، ولو بإشارة، ما دام أنه قد ساهم في مساعدة طاغية من طغاة البشر؛ فلابد أن يساهم في الخطأ الذي اقترفه هؤلاء، ولا بد أن يساهم في الإثم، وأن يكون له نصيب كنصيب ذلك الذي يصدر الأوامر التي تنافي أوامر الله عز وجل، فالمسألة ليست مسألة تنفيذ أوامر ما دامت تتنافى مع أوامر الله عز وجل، وإنما المسألة مسألة خطأ مشترك يشترك فيه أكبر طاغوت في الأرض يصدر الأمر، إلى أصغر صعلوك يستطيع أن يساهم في تنفيذ هذا الأمر الذي يتنافى مع أمر الله عز وجل، قال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا} [القصص:8] جميعاً، {كَانُوا خَاطِئِينَ} [القصص:8].(40/8)
غلبة أمر الله وقدرته على كل القدرات
ثم يقول الله عز وجل بعد ذلك حينما يرعى الله عز وجل هذا الطفل الصغير بعنايته ليكون هو رجل المستقبل، يقول الله عز وجل: {وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [القصص:9]، وهذه أول رحمة تنزل على هذا الطفل الصغير؛ لأنه وصل إلى داخل بيت فرعون، أصبح الآن لا مناص له من القتل، فرعون يقتل الأبناء الذكور، وهذا ذكر، وقد تكون هناك علامات موجودة في موسى، وإرهاصات تدل على أنه هو الذي سيقضي على هذا الملك الجبار العنيد، إذاً: ما هو العلاج؟ ألقى الله تعالى من أول وهلة المحبة في قلب امرأة فرعون، فطلبت من زوجها الطاغوت أن يستبقي هذا الولد من بين كل الأطفال الذين يقتلهم في كل لحظة، ممن يولدون من بني إسرائيل في تلك الفترة إلا هذا الطفل؛ لأن الله تعالى يريد له أن يبقى، وهذه من قدرة الله عز وجل الغالبة التي يقول الله عز وجل: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21]، فهذا من غلبة أمر الله عز وجل، ومن نفاذ حكمه الذي لا بد أن ينفذ في هذا الكون؛ حتى يكون ما أراده الله عز وجل.
أما أم موسى فقد أصبح قلبها فارغاً، وهذه عاطفة لا تلام عليها أم موسى؛ لأنها عاطفة الأمومة التي تشعر بها كل أم تجاه طفلها، بالرغم من أن الله عز وجل قد أمنها وأخبرها أنه سوف يرجع إليها، لكن ضعف الشخصية لدى المرأة مع شدة العاطفة التي تشعر بها المرأة أكثر من الأب أو أكثر من إنسان آخر هي التي جعلتها يفرغ قلبها؛ لأنها تريد هذا الطفل، فخافت عليه، خصوصاً أنها علمت أن النهر سوف ينتهي به إلى دار فرعون، ولولا أن الله تعالى لطف بها لأبدت الأمر، لكنها أخفته، ثم رجع إليها.(40/9)
تحقق وعد الله الذي وعده أم موسى
ثم يذكر الله عز وجل أن أخته قصته، فصارت تبحث عنه، فوجدته قد دخل في بيت فرعون، فكتمت أخته الخبر حتى لا يعلم من أين جاء هذا الطفل، ورحمة الله عز وجل تدركه مرة أخرى من أجل أن ينفذ هذا الأمر، قال تعالى: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ} [القصص:12]، من أجل أن يرجع إلى أمه كان كلما قدم له ثدي ليرضع منه رفض، إلى أن جاءت أخته فوقعت عينها على هذا الطفل فقالت: ألا أدلكم على من يستطيع أن يرضعه؟ فأخذته إلى أمه، وأصبحت أمه ترضعه وتأخذ مالاً على ذلك، إضافة إلى أن عاطفتها أشبعتها بحضور هذا الطفل، فكسبت زيادة على طفلها مالاً شهرياً يصل إليها بسبب إرضاعها لهذا الطفل الذي جيء به من قصر فرعون.
ثم بعد ذلك يقول الله تعالى: {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [القصص:13]، ما هو وعد الله؟ {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7]، فتحقق الوعد الأول وهو الرد إلى أمه، أما قوله: (وجاعلوه من المرسلين) فسوف يتحقق عما قريب.(40/10)
مشاهد من قصة موسى عليه السلام وأخذ العبرة منها
ثم بعد ذلك يأتي دور موسى عليه الصلاة والسلام لما بلغ سن الرجال، ولكن لا بد للرسالة ولا بد للداعية ولمن يريد أن يقنع الناس بهذا الدين وبأهمية هذا الدين حتى يستجيب الناس له، لابد أن يكون له وزن في المجتمع، وأن يقدم الخدمات لهذا المجتمع، حتى يستطيع أن يملك قلوب الناس، فالداعية الذي لا يقدم خيراً للناس قد لا يستجيب الناس له كل الاستجابة، لكنه حينما يكون مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر، يبحث عن الحق ليحقه في هذه الأرض، وعن الباطل ليبطله، مثل هذا هو الذي يستحق أن يكون مصلحاً في هذه الحياة.(40/11)
موسى عليه السلام ونصرته للإسرائيلي
ولذلك موسى عليه الصلاة والسلام أعطاه الله قوة في جسده، ومع هذه القوة أعطاه قوة أيضاً في شخصيته، فكان يبحث دائماً عن إحقاق الحق وإبطال الباطل، فحينما يرى مظلوماً يسعى قدر استطاعته إلى أن يرفع الظلم عن المظلوم؛ من أجل أن يكسب سمعة في هذا المجتمع، حتى يكون ذلك مقدمة لرسالته، وهذا في كل المرسلين عليهم الصلاة والسلام، ومعلوم من سيرة محمد صلى الله عليه وسلم في مكة قبل الرسالة كيف كان يقدم من الخدمات للناس، حتى قالت خديجة: (إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتعين على نوائب الدهر) عندما شهدت له رضي الله عنها، وهذه هي صفته كما قال الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، حتى كان أهل مكة بالرغم من كراهيتهم له يسمونه الصادق الأمين، لكن ذلك كان قبل الرسالة، أما بعد الرسالة فقد أصبح كاذباً خائناً في نظرهم، وهذه قاعدة مطردة، أي إنسان لا يريد أن يغير أوضاع الناس فتجده في كثير من الأحيان محبوباً عند الناس، لكن إذا أراد أن يغير أوضاعاً مألوفة فإنه يصبح خائناً وساحراً وكاهناً وكاذباً إلى غير ذلك.
فموسى عليه الصلاة والسلام كان لا يتحمل الضيم، وكان يريد أن ينقذ المستضعفين في هذه الأرض، فذات يوم وجد قبطياً من جنود فرعون يتنازع مع إسرائيلي من قومه، وكان ذلك القبطي ظالماً، فضربه موسى ضربة صغيرة، فسقط ومات بقوة موسى عليه الصلاة والسلام, لكن موسى ندم ورأى أنه قد أخطأ واستغفر الله تعالى.
وفي اليوم التالي وجد صاحبه الإسرائيلي يتنازع مع قبطي آخر، فأراد أن ينتقم له مرة أخرى؛ لأنه يرى أنهم مظلومون فقال: يا موسى! {أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ} [القصص:19]، فكشف سراً ما كان له أن يكشفه، وقد كانوا يبحثون عن الذي قتل القطبي، فانكشف السر؛ مما اضطر موسى عليه الصلاة والسلام إلى أن يغادر أرض مصر هارباً إلى بلاد الشام, من أجل أن يفر بنفسه عليه الصلاة والسلام حتى يبتعد عن أعين القوم، أما القوم فقد علموا أن موسى هو الذي قتل القبطي بالأمس؛ فصاروا يبحثون عنه، فجاءه رجل وحذره وقال: {إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص:20 - 21] , وهذا الخوف فطري ليس خوفاً من غير الله عز وجل، وإنما هو خوف فطري لا يؤاخذ عليه الإنسان؛ لأن الإنسان لا يؤاخذ على الخوف الفطري، فحتى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وإن كانوا أشجع الناس وأقرب الناس إلى الله عز وجل، لكن الخوف الفطري جبل عليه كل الناس، لكن هذا الخوف ميزته في الأنبياء والمصلحين أنهم لا ينثنون عن مرادهم خوفاً من البشر، وإنما قد يختفون عن أعين الناس، كما اختفى الرسول صلى الله عليه وسلم في غار ثور خوفاً من أعين قريش, وكما هرب موسى عليه الصلاة والسلام من أرض مصر خوفاً من آل فرعون.
هنا يقول الله عز وجل عن موسى عليه الصلاة والسلام لما ذهب: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:21]، وهذه ميزة يجب أن يتميز بها المصلحون، كما هي ميزة المرسلين عليهم الصلاة والسلام، بل هي ميزة يجب أن تكون لكل الناس ولجميع المؤمنين, في حال الشدة يجب الفزع إلى الله عز وجل, والدعاء والتضرع بين يدي الله عز وجل، والله سبحانه وتعالى كريم، فهو الذي يقول: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الزمر:61]، وبمقدار ما يُظلم الجو أمام الإنسان ما دام أنه قد أحسن العلاقة مع الله عز وجل فإن الله تعالى يخلصه، ولذلك فالله تعالى خلص موسى من آل فرعون، فالله سبحانه وتعالى كريم، إذا تعرف إليه الإنسان في حال الرخاء فإن الله تعالى يتعرف إليه ويعرفه في حال الشدة، (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة): {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ} [الزمر:61]، ودروس كثيرة في القرآن والسنة، أمم يقعون في أعوص المشاكل وفي أحلك الظروف؛ لكن لهم حسنات سابقة لاسيما إذا كانت هذه الحسنات بينهم وبين الخلق؛ لأن الحسنات على نوعين: حسنات بينهم وبين الله عز وجل يكسبون فيها أجراً، لكن هناك حسنات أخرى يقدمونها كخدمة لهؤلاء الناس، ولإصلاح أوضاع الناس، فإن الله عز وجل قد يعجل لها شيئاً من الأجر في الحياة الدنيا، فيخلصهم من أمور خطيرة تحيط بهم.(40/12)
خروج موسى عليه السلام إلى أرض مدين
إن المسلم قد يقع في مأزق من المآزق أمام عدو من أعدائه في هذه الحياة، لكن له سيرة حسنة مع إخوانه المسلمين, فالله عز وجل قد يعجل له شيئاً من الجزاء، فيخلصه من هذه المشكلة في هذه الحياة، ولذلك فموسى توسل إلى الله عز وجل وقال: {رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:21]، فنجاه الله تعالى من القوم الظالمين، ثم اتجه في طريقه إلى أرض مدين, ولما اتجه في طريقه إلى أرض مدين -وهي في حدود بلاد الشام- رأى ظلماً آخر، وهذا الظلم الآخر للمرأة المسكينة؛ لأن المرأة لا تظلم إلا في ظل جاهلية، لا تظلم في ظل دين, فامرأتان تذودان معهما غنم، وهذه الغنم لا تشرب من البئر حتى يصدر الرعاء، ما هو السبب؟ السبب أن اللاتي ترعى هذه الغنم هن امرأتان ضعيفتان، أما البقية فكانت مع رجال أقوياء, فكانت المرأة مغلوبة، ولذلك فإن موسى عليه الصلاة والسلام رأى أن هذا حق قد هضم، وأن هاتين المرأتين قد ظلمتا في ظل هذه الجاهلية، {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ} [القصص:24].(40/13)
أخذ العبرة من قصة المرأتين اللتين سقى لهما موسى.
ولعلنا نستطيع أن نأخذ من قصة هاتين المرأتين: أن المرأة لا يجوز لها أن تزاحم الرجال؛ لأن القاعدة الاصطلاحية الشرعية أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه، ولذلك يقول الله تعالى: {وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِم} [القصص:23]، أي: في مكان بعيد، {امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ} [القصص:23] تذودان الغنم، إذاً: هي لا تزاحم الرجال، لكن كيف خرجت هاتان المرأتان هذا المشوار الطويل من بيت شعيب -على رواية طائفة من المفسرين- أو من بيت آخر الذي هو صاحب مدين، على خلاف بين المفسرين؟ السر في ذلك أنها ضرورة، فأبوهما كما قالتا: {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص:23]، ولهذه الضرورة خرجت المرأة.
إذاً: نستطيع أن نقول من خلال هذه الآية: إن المرأة لا تخرج إلا للضرورة، سواء كان لرعي الغنم أو لقضاء حاجة؛ لأن المرأة يجب أن يقوم الرجال بكفاية شئونها وقضاء حاجاتها، لكن حينما تضطر إلى الخروج لتقضي حاجة من الحاجات، فإن عليها أن تكون في منأى بعيداً عن الرجال حتى لا تختلط بهم، هذه هي سنة الله تعالى في هذه الحياة، وهذه هي الطريقة المثلى التي يجب أن تسلكها المرأة؛ حتى لا تحدث فتنة في المجتمع، ولهذا قال: (من دونهم امرأتين تذودان) أي: تذودان الغنم بعيداً عن الرجال.
وعلى هذا نقول: إن المرأة إذا اضطرت إلى الخروج من بيتها لحاجة اضطرارية لا مناص منها، فإن عليها أن تكون في منأى عن الرجال، هذا هو حكم الله عز وجل، وهذا هو شرع الله تعالى للمرأة دائماً وأبداً في كل شرائع المرسلين عليهم الصلاة والسلام، أما في شريعة الغاب وفي شريعة المفسدين في الأرض فيقولون: لا، المرأة يجب أن تكون بجوار الرجل سواء بسواء، مجتمع معطل لا يتنفس إلا برئة واحدة! حتى في وقت فاض فيه عدد الرجال، وأصبح الرجال يعجز أحدهم عن الحصول على وظيفة، لا بد أن تكون المرأة تعمل، ولا بد أن تكون بجواره، ولا بد أن يكون هناك اختلاط، حتى لقد رأينا في دنيا الناس اليوم النساء تنافس الرجال على الوظيفة، لو دخلت مستشفى من المستشفيات مثلاً، وعملت إحصائية، أيهما أكثر الرجال أم النساء في مجال التمريض؟ لوجدت أن النساء أكثر بكثير من الرجال، حتى كأن الرجال فقدوا، فأصبحت المرأة هي التي تتولى خدمة الرجل، إضافة إلى خدمة المرأة، فهي التي تعطيه الحقن، وهي التي تناوله العلاج إلى غير ذلك، بالرغم من وجود رجال عاطلين في مجتمعات الأمة الإسلامية، وأعجب من هذا أن نجد النساء يعالجهن رجال، إذاً: المسألة ليست مسألة حاجة وضرورة، ومسألة إجبارية, المسألة مسألة انحراف أصاب هذه الأمة, وهذا الانحراف هو الذي سبب هذا الخلل الاجتماعي الذي أصاب أمتنا اليوم.
وعلى ذلك نقول: القاعدة أنه يجب أن يكون للرجال رجال، وللنساء نساء، سواء كان في باب العلاج، أو في التعليم، أو في أي أمر من الأمور، أما هذا الاختلاط المشين الذي يدعو إليه أعداء الإسلام فلا يجوز، وفي شرع من قبلنا بالرغم من أنها بنت نبي صالح تستطيع أن تحفظ نفسها، وتكون تربيتها أقوى وأجود، بالرغم من ذلك: {وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ} [القصص:23]، فبقيتا بعيداً عن الرجال, إذاً: هذه هي القاعدة الشرعية التي تتكرر في كل شرائع الأمم إلى يوم القيامة، أن تكون المرأة بعيدة عن الرجال، لكن في شريعة المفسدين في الأرض من العلمانيين والمتمردين والكفرة والفجرة يقولون: لا، الرجل والمرأة شيء واحد، ما هذا التخوف؟ لماذا نخاف على المرأة من الرجل؟! أليس: النساء شقائق الرجال؟! لماذا لا تزاحم الرجال؟! تختلط معهم في مدرج الجامعة، وفي الفصول الدراسية، وفي مكاتب الأعمال وغيره، حتى في المهن والحرف التي لا تصلح للنساء، ونتأكد أنها لا تصلح إلا للرجال!! إذاً: ذاك هو شرع الله، وهذا هو شرع البشر الذين تنكبوا عن شرع الله عز وجل، فالمسألة -أيها الإخوة- خطيرة جداً؛ لأن هؤلاء تمردوا -أي: الذين يريدون أن يخلطوا بين الرجل والمرأة في كل أمر من الأمور أو في جل الأمور- تمردوا على شرع الله عز وجل في كل الشرائع السماوية، فضلاً عن شريعة الإسلام التي أولت هذا الجانب أمراً عظيماً من الاهتمام: {وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} [القصص:23]، فكأن هذا شيء مسلم، أن المرأة لا تزاحم الرجال، ولذلك موسى عليه الصلاة والسلام ما سأل: لماذا لا تسقيان حتى يصدر الرعاء؟ لأن القاعدة متفق عليها، فهو يعلم عليه الصلاة والسلام -وهو قبل النبوة، قبل أن يكون نبياً- أن المرأة لا تخالط الرجال؛ لأن هذه فطرة بشرية، ولأن اختلاط المرأة بالرجال انحراف عن هذه الفطرة البشرية التي فطر الله عز وجل الناس عليها.
{وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص:23]، هذا هو العذر الذي أبدته هاتان البنتان، حتى لا يستغرب موسى لماذا الناس كلهم رجال مع أغنامهم إلا هاتان البنتان امرأتان، فالعلة: ضرورة، {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص:23]، ثم ينتصر عليه الصلاة والسلام للحق {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلّ} [القصص:24]، فأخذ نصيبهما بالقوة من الماء، حتى سقتا الغنم، فرجعت البنتان إلى أبيهما شعيب عليه الصلاة والسلام -على رواية- فاستغرب كيف رجعت البنتان مبكرتين في هذا اليوم؟! وكيف استطاعتا أن تسقيا مع زحام الرجال وبنتاه لم تجر العادة بأن يخالطن الرجال ويزاحمن الرجال؟! فأخبرتاه بالقصة، وأنه جاء رجل تظهر عليه سيماء الخير والصلاح والاستقامة والقوة أيضاً، فسقى لهما، أما موسى عليه الصلاة والسلام فـ {تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ} [القصص:24]، إلى ظل شجرة، وبدأ يتضرع بين يدي الله عز وجل لا يدري أين يذهب؟ ولا يدري من أين يأكل؟ ليس بيده طعام، وليس بيده مال يشتري طعاماً؛ لأنه هارب فار بدينه من أرض الظلم والطغيان.
{فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص:24]، تضرع بين يدي الله عز وجل، والله عز وجل لا يضيع أجر المحسنين.
أما أبو البنتين فأرسل إحدى البنتين -وهذه ضرورة أخرى- لتأتي بهذا الرجل الذي سقى لهما: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} [القصص:25]، لتنتبه المرأة، (عَلَى اسْتِحْيَاءٍ)، فالحياء أعظم صفة للمرأة، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لكل أمة خلق، وخلق أمتي الحياء، وإن الله عز وجل إذا أراد أن يهلك عبداً نزع منه الحياء، فإذا نزع منه الحياء لم تلقه إلا مقيتاً).
إذاً: ما الفرق بين وضع هذه البنت التي جاءت على استحياء وبين كثير من النساء اللواتي يملأن أسواق العالم الإسلامي دع عنك العالم الكافر؟! والله إنه في كثير من البلاد الإسلامية لا أحد يستطيع أن يفرق بين المرأة المسلمة والكافرة! الحياء فقد منذ زمن بعيد! لكن الذي حدث بعد فقد هذا الحياء فساد عريض؛ لأن الحياء الذي هو لباس هذه الأمة وكساء نساء هذه الأمة حينما فقد أصبح هناك عراء عجيب, فقد الحياء، وانتشر الزحام، ووصل الأمر إلى أن ترى نساء تنتسب إلى الإسلام على شواطئ البحار عارية أو شبه عارية تماماً! فأين الحياء الذي تتميز به الأمم؟! لا في هذه الأمة فحسب بل حتى في الأمم السابقة، والذي إذا فقد في أمة من الأمم تصبح هذه الأمة بعيدة عن رعاية الله عز وجل.(40/14)
موسى عليه السلام يذهب إلى والد المرأتين فيؤمنه
{فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص:25] , ثم يذهب موسى عليه الصلاة والسلام إلى صاحب مدين ويخبره بالقصة, فيطمئنه صاحب مدين بأنه لا خوف عليه بعد اليوم، انتهى عصر الخوف بالنسبة لموسى عليه الصلاة والسلام، وأنه دخل في أرض أمان بأنه من الآمنين كما شهد الله عز وجل؛ لأن الأمن لا يأتي إلا مع الإيمان، ومع طاعة الله عز وجل: {إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ} [القصص:31]، {إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} [النمل:10]، وهنا يقول له صاحب مدين: {لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:25] الذين هم آل فرعون.
إذاً: ما هو السر في هذا الأمن؟ وأين يكون الأمن؟ وكيف تبحث الأمم عن هذا الأمن؟ وفي أي مكان؟ إن الأمن مع الإيمان، كما قال الله عز وجل: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82].
وعلى هذا فإن أي حاكم يريد أن يحكم هذا العالم ويريد أن يأخذهم بطريق القوة ليقرر قواعد الأمن بالقوة فإنه لن يستطيع، وأي حاكم يحكم هذا العالم يريد أن يقرر قواعد الأمن والاستقرار من خلال اللهو واللعب والمسرحيات والترف والنعيم والفساد وإغداق الأموال فلن يستطيع؛ لأن هذه الشعوب مهما بلغت من الترف والنعيم والفساد لا بد أن تستيقظ في يوم من الأيام كما استيقظت في أيامنا الحاضرة، ثم ترفض هذا النعيم وهذا الترف والمتاع، ثم لا ينتبه الذين أذابوها في مجتمع مترف إلا على الجماجم والأشلاء، وهذا هو الذي يحدث في عالمنا اليوم.
كذلك من يريد أن يحكم هذا العالم ويقرر قواعد الأمن بقوة الحديد والنار فإنه لن يستطيع ذلك، فإن الشيوعية قدمت ستين مليوناً من البشر في فترة وجيزة في عهد إستالين، تريد أن تقرر قواعد الأمن في بلادها، فما استطاعت أن تقرر قواعد الأمن أبداً، ثم سقطت الشيوعية وعاد الناس إلى دينهم وفطرتهم الصحيحة.
وفي أفغانستان اثنا عشر عاماً والحرب تدمر المسلمين، وقتل ما يزيد على مليون مسلم، ودمرت منازلهم وشردوا، وما استطاعت الشيوعية في أفغانستان أن تثبت أقدامها فضلاً عن أن تقرر قواعد الأمن.
إذاً: ما هو الطريق للأمن؟ الطريق لا تخف؛ لأنك رجل سيرتك معروفة: {نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:25]، ولذلك خاض العالم حربين عالميتين الحرب العالمية الأولى والثانية، وقتل فيها أكثر من ثمانين مليوناً من البشر، وشوه فيها أكثر من ذلك، ودمر فيها من الأموال والثروات ما لا يحصيه إلا الله عز وجل؛ بحثاً عن الأمن، وما استطاعوا أن يقيموا قواعد الأمن في بلادهم، ولكن إذا أرادت أمة أن تثبت الأمن في بلادها فإن عليها أن تسعى إلى أن تثبته من خلال تربية الشعوب على طاعة الله عز وجل، تفتح المجال للدعوة إلى الله عز وجل، تشجع الدعاة وتعطيهم الحرية الكاملة، ادعوا إلى الله ربوا الشعوب فإذا تربت الشعوب على طاعة الله وعلى أيدي الدعاة والمصلحين؛ حينئذ يتحقق الأمن لهذه الأمة أياً كانت الظروف المحيطة بها، ولو كان كل الناس يحيطون بها من كل جانب، ولو كان الأعداء يتكالبون عليها من كل فج عميق، ما دامت قد أقامت شرع الله عز وجل في الأرض، وما دامت قد أقرت قواعد الدعوة إلى الله عز وجل، وأعطت الدعاة الحرية لأن يدعوا الناس إلى دين الله عز وجل دعوة صحيحة، وأن يقودوهم إلى طريق السعادة، هنا يتحقق الأمن؛ لأن الله تعالى يقول: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82]، ولذلك يقول الله تعالى هنا عن رجل مدين أنه قال لموسى: (لا تَخَفْ)، حينما علم سيرته، {نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:25].(40/15)
اتصاف موسى بصفة القوة والأمانة
وكان موسى عليه الصلاة والسلام يتصف بصفتين هما صفتا العامل الناجح, فعلم رجل مدين -وأنا أقول: رجل مدين؛ لأن المفسرين اختلفوا هل هو شعيب أو غيره؟ فنريد أن نخرج من الخلاف بهذا الاسم- علم من خلال ابنته التي جاءت به أنه رجل شريف في خلقه وشرفه، وأنه رجل قوي في جسمه ودينه أيضاً.
إذاً: هو يستحق أن يكون عاملاً عند رجل مدين، أما بالنسبة لشرفه وأمانته وعفته فيقول المفسرون: كانت الفتاة تسير أمامه تدله على الطريق، فصار الهواء يرفع ثوبها؛ فخشي أن يرى شيئاً من جسدها، فقال: تسيرين ورائي وأنا أكون في الأمام، فأصبح رجلاً شريفاً يصلح لهذا الأمر.
أما بالنسبة للقوة فهو الذي استطاع أن يدفع الناس كلهم رعاة الغنم من أجل أن يسقي غنم رجل مدين، ولذلك مدحه الله تعالى بالصفتين: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26]، إذاً: القوة والأمانة هما الصفتان اللائقتان لكل أجير، أياً كان هذا الأجير، سواء كان عاملاً أو غيره، فيجب أن نختار القوي الأمين، إذاً: ليعلم الذين يأتون بالكفار إلى بلاد المسلمين، ويعتبرون أن عندهم من الأمانة ما ليس عند المسلمين أنهم خاطئون، وأنهم قد تعرضوا لغضب الله عز وجل؛ لأن هذا يتنافى مع الشرط الذي اشترطه الله عز وجل لمن يتولى أمراً من الأمور أياً كان هذا الأمر، ولو كان حرفة، ولو كان حراسة، ولو كان خدمة أياً كان، فكيف إذا كان أمراً مهماً؟ وكذلك بالنسبة لمن يتولى أمراً من أمور المسلمين أياً كان هذا الأمر، سواء كان رئيساً للدولة، أو أصغر جندي من جنود الدولة، أو أي مسئول، وزيراً كان أو أميراً، يجب أن يتصف بهاتين الصفتين: القوة والأمانة، ويجب أن تكون هذه القوة ليست خاصة بالقوة الجسمية، وإنما أيضاً في القوة المعنوية والعقلية وقوة الإرادة، وكذلك الأمانة والهدى والتقى والاستقامة.
وهنا نقول: إن أبرز صفتين من صفات من يتولى أمراً من الأمور أياً كان هذا الأمر: أن يكون قوياً، وأن يكون أميناً, أما إذا كان ضعيف الشخصية, فماذا تستفيد الأمة من الرجل الصالح إذا كان ضعيف الشخصية؟ يغلب على أمره، لا يستطيع أن يحل مشكلة من مشاكل الناس، وماذا يستفيد الناس من الرجل الخائن الذي فقد الأمانة حينما يتولى أمراً من أمور المسلمين؟! ولذلك نشكو إلى الله عز وجل عدم توفر هذين الشرطين في كثير ممن يتولى أمور المسلمين في أيامنا الحاضرة، إما أن يكون قوياً، لكن قوته إنما تكون تسلطاً وجبروتاً ليذل من أعز الله أو ليعز من أذل الله، وإما أن يكون ضعيفاً لكنه ذو أمانة، ونحن لا نستفيد من أمانته ما دامت هذه الأمانة تتسم بالضعف, فالصفتان لا بد من أن تشترك كل واحدة منهما مع الأخرى؛ حتى يكون من يتولى أمر المسلمين قوياً أميناً.
ولذلك: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ} [القصص:26]، أي: لرعاية الغنم؛ لأننا نحن نساء، لا نريد أن نخرج كل يوم من الصباح إلى المساء نرعى الغنم، نحن نساء يجب أن نؤدي الدور المنوط في أعناقنا داخل البيت؛ لنقوم بإعداد البيت وتربية الأطفال والنشء، أما هذه الغنم فيجب أن يتولاها رجل، وهذا الرجل هو الذي يجب أن يتولى دائماً الأمور التي تكون خارج البيت، كما هي الفطرة البشرية التي فطر الله عز وجل الناس عليها, وهذا الرجل يتصف بصفتين مهمتين هما: القوة والأمانة: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26].
إذاً: لا بد أن يفهم الناس ما هي مواصفات وما هي شروط الأجير؟ ونقول: الأجير؛ فإن رئيس الدولة يعتبر أجيراً؛ وإن الجندي الصغير والخادم الصغير يعتبر أجيراً، وما بين ذلك يعتبر أجيراً للمسلمين يتولى أمر المسلمين، فلا بد أن تتوفر الأمانة والقوة، فإذا فقدت إحداهما لا تنفع الأخرى، وإذا فقدت الاثنتان فإن المصيبة تكون أشد وأعنف، ولذلك لا بد من القوة والأمانة، أما قوة بدون أمانة فإنها تحدث لنا السفاحين في الأرض والسفاكين للدماء، وأما أمانة بضعف فإنها تجرئ على الأمة الإسلامية أعداءها الذين يتربصون بها الدوائر، إذاً: لا بد من هاتين الصفتين: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26].(40/16)
موسى عليه السلام يتسلم رعاية الغنم مقابل الزواج
ثم بعد ذلك تبدأ الأجرة، ويعمل العقد بين موسى عليه الصلاة والسلام ورجل مدين على ثمان سنين أو عشر سنين، ويكون الخيار فيه لموسى عليه الصلاة والسلام، ويكون المهر هو هذه الأجرة، وهذا دليل على أن المهر واجب من واجبات النكاح، وأن المرأة في الأديان عزيزة كريمة، وأن المرأة لا تسقط في مهرها إلا حينما تسقط أخلاقها، وهذان مثلان: المثل الأول: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص:27]، ثمان سنين، انظر إلى كثرة المهر؛ لأنها امرأة كريمة تستحق هذا المبلغ، ثم تعال إلى بلادنا هنا، كثير من الناس يتكلم عن غلاء المهور، صحيح هناك غلاء في المهور، لكن ما هو السر في غلاء المهور؟ لأن هذه المرأة في بلادنا مصونة، لكن اذهب إلى بريطانيا تجد المرأة بنصف جنيه إسترليني، يتزوج الإنسان امرأة، ولربما هي تبذل هذا المهر إذا عجز الزوج عنه؛ لأنها امرأة ساقطة, ونحن حينما نقول هذا الكلام لا نريد أن نشجع غلاء المهور، فإن غلاء المهور يعتبر خللاً في نظام المجتمع، ويؤدي إلى عزوبة وعنوسة في المجتمع، لكن نقول: وجود المهور مرتفعة في بلد ما يدل على كرامة المرأة وعزتها, ولذلك بمقدار ما تنحدر المرأة إلى الحضيض ينحدر معها المهر؛ لأنها تصبح امرأة لا قيمة لها ولا وزن, وبمقدار ما تتمسك هذه المرأة بدينها وبشرفها يكون نصيبها من المهر أكثر، وقد ضربت مثلين: المثل الأول: في البلاد التي سقطت فيها المرأة حتى أصبح فيها نوادي للعراة -نعوذ بالله- وأصبح زواج الذكر بالذكر في مثل بريطانيا يبيحه القانون والنظام بعقد شرعي نظامي كما يقولون، وفي البلاد التي تحافظ محافظة بمقدار ما تحافظ يكون نصيبها من غلاء هذه المهور, ولذلك قال تعالى: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ} [القصص:27].
وهنا لابد أن ينتبه إخواننا أصحاب المؤسسات المعمارية والتجارية, فإننا في كل لحظة توجه إلينا أسئلة من عمال مساكين جاءوا من بلاد بعيدة هم مسلمون وأتقياء، جاءوا ليعفوا أنفسهم، وليرتزقوا الله عز وجل في هذه البلد بلد الخيرات والنعيم، وبلد الاستقامة, ومن أجل أن يحصلوا على لقمة العيش، من أجل أن يقيتوا شيوخاً وعجائز وأطفالاً وأرامل، ثم إذا بهم يفاجئون ببعض أصحاب المؤسسات في بلادنا يستغلون هذا العامل كل استغلال، ولربما يفرض عليه خمسين بالمائة من دخله مقابل أن يكفله, وربما يكون بالراتب ولا يعطيه الراتب، كثير من الشكاوى تصل إلينا من العمال ضد أصحاب المؤسسات، خصوصاً الذين يأخذون العمال ويتركونهم, يجلس في بيته نائماً ويستغل هذه الفرصة، وهي أن الدولة أعطته فرصة لأن يكون كفيلاً لهؤلاء الفقراء، ثم يأخذ أكثر ما يكسبون، ثم يرجعون إلى بلادهم فقراء، حتى إن طائفة منهم يأتون يطلبون أجرة العودة إلى بلادهم! هذا ليس من صفات المؤمنين، ومنهج المرسلين خلاف ذلك, والله عز وجل يقول في الحديث القدسي: (ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة)، من هم الذين يخاصمهم الله عز وجل؟ ومن يستطيع أن يخاصم الله؟! ومنهم: (رجل استأجر أجيراً فاستوفى منه العمل ولم يوفه أجره)، وقال عليه الصلاة والسلام: (أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه)، بأي شيء يا أخي! تستحل مال مسكين كان يكدح ليله ونهاره من أجل أن يحصل على لقمة العيش ليقيت نفسه وأطفاله وذريته وأهله، وأنت الرجل الذي أنعم الله عليك في بلاد الخيرات، وتنام في بيتك لتأخذ النصف وربما الثلثين من دخل هذا المسكين، وربما يكون مبلغاً مقطوعاً قد لا يحصل العامل على هذا المبلغ، وقد يحصل عليه فقط دون أن يكون له وافر كسب؟! فهنا قال لموسى: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ} [القصص:27]، هذا هو النظام الذي يجب أن يسلكه الناس في معاملة العمال والمساكين.
هذه من صفات المستأجر مع الأجير: (وما أريد أن أشق عليك)، ثم يقول المستأجر: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [القصص:27] , فالمسألة ليست أمراً فقط يقوم به المستأجر، وإنما حتى الأجير يجب أن يكون من الصالحين, ويجب أن يؤدي الدور الذي من أجله استؤجر ويؤدي العمل؛ لأنه حينما يؤدي العمل يكون قد أبرأ ذمته أمام الله عز وجل، وأخذ رزقاً حلالاً، وهي هذه الأجرة التي يأخذها مقابل هذا العمل، فالأول لا يشق على الأجير، والأجير يجب أن يكون من الصالحين أي: يؤدي العمل كما يرضي الله عز وجل.(40/17)
إتمام موسى عليه السلام للأجل
ثم بعد ذلك قضى موسى الأجل، كما أخبر الله عز وجل: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ} [القصص:29] , فيجب الوفاء بالعقود، كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] , فالوفاء بالعقود أمر طبيعي، وواجب يجب على المسلم أن يحافظ عليه، ويجب الوفاء بالشروط أياً كانت هذه الشروط، ما دامت لا تحل حراماً ولا تحرم حلالاً، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (المسلمون على شروطهم، إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً)، أما الشروط التي لا تحل حراماً ولا تحرم حلالاً؛ فإنه يجب الوفاء بها أياً كانت هذه الشروط، سواء كانت بين الزوجين، أو بين الأجيرين، أو بين أي واحد من الناس؛ لأن الله تعالى قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] , وعلى هذا نقول: إن الأمة الإسلامية مطالبة بأن تطبق هذا القرآن منهج حياة، فليست قصصاً تتلى، وليست أشياء مسلية، وإنما هي أحكام يجب أن تنفذ، وحينما يقص الله عز وجل علينا قصة أمة من الأمم يقول: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ} [يوسف:111]، فهذه العبرة يجب أن تؤخذ كمنهج حياة لأمة من الأمم, والقاعدة الشرعية أن منهج المرسلين عليهم الصلاة والسلام مع الأمم هو منهجنا، لا يختلف إلا إذا جاء شرعنا بخلاف ذلك, فإذا جاء شرعنا بخلاف ذلك فإن شرعنا يتقدم, وإذا وافق شرعنا ولم يأت شرعنا بخلاف ما جاءت به الشرائع السابقة فإن ذلك يجب أن يكون منفذاً، ولذلك هذا القرآن خلق عظيم، كما قال الله عز وجل: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، وفسرته عائشة رضي الله عنها في قولها حينما سئلت عن خلق الرسول صلى الله عليه وسلم قالت: (كان خلقه القرآن)، والمسلم حينما يقرأ القرآن عليه أن يأخذ منهج حياته من كتاب الله عز وجل، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين.(40/18)
دروس وعبر من قصة موسى وفرعون [2]
كانت المرحلة الثانية من حياة موسى عليه السلام مرحلة عصيبة، حيث أصبح فيها داعية إلى عبادة الله عز وجل، وقائداً للناس إلى طاعة ربهم، وبالمقابل مواجهاً لأطغى رجل في ذلك العصر وهو فرعون، فتارة يدعوه باللين والجدال الحسن، وتارة يريه المعجزات والآيات لعله يؤمن بالله تعالى، ولكن لم يجد ذلك شيئاً، فكانت نهايته الغرق هو وجنوده، بعد أن أتى موسى بكل الوسائل في الحوار معه، وهكذا تكون نهاية الظالمين.(41/1)
مراحل مصارعة موسى عليه السلام لفرعون
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونثني عليه الخير كله، ونشكره ولا نكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ومن دعا بدعوته وعمل بسنته ونصح لأمته إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الإخوة! هذه حلقة من حلقات (من نبأ المرسلين)، وهي الحلقة الثانية بالنسبة لسيرة نبينا موسى عليه الصلاة والسلام مع أكبر جبار عنيد في الأرض، أنكر الألوهية، وادعى لنفسه الربوبية، وبطش في الأرض، وعاث في الأرض فساداً، ولكن نهايته كما قال الله تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [الأعراف:137].
وهذه النهاية هي نهاية كل جبار عنيد، وكل طاغوت يريد أن يبطش بعباد الله، ويريد أن يستذل من أعزه الله وأن يعز من أذله الله، ولربما تطول الجولة لطغاة ووحوش البشر، ولكن الله عز وجل كما قال عن نفسه: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:14].
وقصة موسى مع فرعون قصة طويلة، كما عرفنا الجزء الأول منها، والجزء الأول يعود كله إلى إعداد موسى عليه الصلاة والسلام إعداداً عجيباً، يبدأ من ولادته في فترة كان فرعون يقتل الرجال ويستحيي النساء، ويتحدى الله تعالى -كما مر معنا في الحلقة السابقة- أيما تحدٍ، قال تعالى: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} [القصص:7]، ثم يتحداه: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص:8].
ثم يكون الصراع المؤقت بين موسى عليه الصلاة والسلام وبين فرعون إلى أن فر إلى ديار مدين وبقي هناك بضع سنين، ثم رجع إلى ذلك الطاغوت وهو يحمل الرسالة من عند الله سبحانه وتعالى، وهو النصف الثاني من الحديث عن موسى وفرعون، يبدأ بقول الله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا} [القصص:29]، ولعلكم خلال الآيات التي سمعتموها أدركتم كيف أن الإيمان يفعل أفاعيله بالرجال، وأن الإنسان ليعجب كل العجب وهو يسمع أن السحرة الذين استقطبهم فرعون من كل أقطار مصر، حتى قال بعض المفسرين: إن عددهم بلغ مائة ألف، كل جاء بما عنده من السحر، أنهم في اللحظة الأولى يقولون: {بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} [الشعراء:44]، وبعدها بلحظات يقولون: {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه:72]، وحينئذ نعلم أن الإيمان فطرة في هذه القلوب، وأن الله سبحانه وتعالى قد استودع في النفوس البشرية، بل في نفوس مخلوقاته سبحانه وتعالى هذا الإيمان، كما قال عن نفسه سبحانه وتعالى: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50].
ثم إنك لتعجب كل العجب وأنت ترى هؤلاء السحرة الذين ما عرفوا الله عز وجل إلا في لحظات، وما عبدوه إلا في سجدة واحدة فقط، ثم يوجه إليهم هذا الإخبار الشديد، وهذا التخويف والإرهاب من طاغية هو ينفذ في الحقيقة كل ما يقوله، فيقول لهم: {فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} [طه:71]، وفعلاً هذه أخطر وسائل القتل والتصليب والتقطيع، ولكن الإيمان أمره عجيب! لا أحد يستطيع أن يقف في وجه الإيمان حتى ولو كان إيماناً حديث العهد وجوده في نفوس هؤلاء الناس؛ لأن أصله -وهي الفطرة- موجود ومفطور عليه كل الناس، ولذلك فإنهم: {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا} [طه:72] تغير الأسلوب، فقد كان الحلف: (بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ)، فأصبح بعزة الله سبحانه؛ فهو (فطرهم) أي: خلقهم {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه:72].
فانظر يا أخي! السحرة لم تمر على إيمانهم إلا لحظات، إذاً: كيف بالذين ولدوا على الفطرة؟! وكيف بالذين عاشوا في بيوت الفطرة وفي أرض الفطرة لو تعرضوا لمثل هذه الفتن أو لأقل من هذه الفتنة، ماذا سيفعلون؟ وماذا سيقولون؟ نستطيع أن نأخذ هذه المرحلة من مرحلة حياة موسى عليه الصلاة والسلام وهو يصارع هذا الطاغوت الجبار العنيد على عدة مراحل من هذه الآيات التي ذكرها الله تعالى.(41/2)
تحرير موسى عليه السلام بني إسرائيل من العبودية
أولا: ً موسى عليه الصلاة والسلام وسائر المرسلين ما جاءوا لهذه الحياة من أجل أن يعلموا الناس العبادة لله عز وجل فقط، وإنما جاءوا أيضاً من أجل أن يحرروا النفوس البشرية من الخضوع لغير الله عز وجل، ولذلك فإن منهج المرسلين -وهو أيضاً منهج المصلحين إلى يوم القيامة دائماً وأبداً- هو إخراج الناس من الظلمات إلى النور، ثم هو أيضاً تحرير النفوس البشرية وإنقاذها من الخضوع لغير الله عز وجل، ومن أجل ألا تستغل هذه النفوس المؤمنة لغير الله عز وجل، ولا تنحني لغير الله عز وجل؛ ولذلك نجد أن منهج موسى عليه الصلاة والسلام في أول مقابلة يقابل فيها هذا الطاغوت أن قال: {فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} [طه:47]، هذا هو منهج المرسلين، خلاف ما يتهم العلمانيون -قاتلهم الله أنى يؤفكون- هذا الدين بأنه إنما هو منهج عبادة، أما قيادة الحياة فهم يعتبرونها لغير المسلمين، ولغير المؤمنين والمتدينين والمصلحين.
إذاً: أول مهمة وأطروحة طرحها موسى عليه الصلاة والسلام، وأول هدف جاء به من عند الله عز وجل مع أخيه هارون أمام هذا الطاغوت هو تحرير النفوس البشرية من الخضوع لغير الله عز وجل: {فأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ} [طه:47]؛ لأن تعذيب النفوس بغير حق إنما هو ظلم، والمرسلون جاءوا لرفع الظلم عن البشرية، والعلماء المصلحون يأتون من بعدهم لرفع هذا الظلم، ولذلك أول مطلب لهذين الرسولين عليهم الصلاة والسلام: {فأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ} [طه:47]، ولم يقولوا له: والسلام عليك؛ لأنه غير مؤمن، وإنما قالوا: {وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} [طه:47]، وهذا هو الأسلوب الذي يجب أن يوجه لكل كافر لا يؤمن بالله عز وجل، ولا يؤمن باليوم الآخر، فلا يجوز أن نبدأ اليهودي ولا النصراني ولا الكافر أياً كان، ولا الملحد بتحية غير هذه التحية: (السَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى) أي: فإن اتبعت الهدى فعليك السلام، وإن لم تتبع الهدى فإن السلام ليس حق لك منا، وعلى هذا يقول عليه الصلاة والسلام: (لا تبدءوا اليهود ولا النصارى بالسلام، وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه).(41/3)
الجبابرة والطواغيت منهجهم دائماً إنكار الخالق
ثم نجد أن الجبابرة والطواغيت منهجهم دائماً وأبداً إنكار الخالق سبحانه وتعالى، فينكرون الخالق وهم يؤمنون بالخالق؛ لأن الإيمان بالخالق يربط البشر بالله عز وجل، ويحررهم من الخضوع لغير الله عز وجل، ولذلك نجد ونلاحظ عبر فترات التاريخ الطويل أن كل من أراد أن يستعبد أمة لا بد أن يبدأ أولاً بإنكار الخالق سبحانه وتعالى، وإن لم ينكره من أول وهلة لكنه يأتي بمقدمات تشير إلى أنه لا يؤمن بخالق لهذه السماوات والأرض، على الرغم من أن الإيمان بالخالق سبحانه وتعالى فطرة فطر الله عز وجل الناس عليها.
ولذلك حتى الملاحدة الذين لا يؤمنون بالخالق يقول أحدهم: والله الذي لا وجود له، كان يحلف بمثل هذا الحلف، فالفطرة تفرض عليه أن يقول: والله، لكن المصلحة تفرض عليه أن ينكر وجود الخالق سبحانه وتعالى، ولذلك نجد هذا الطاغوت لا يمكن أن يستعبد الأمة إلا أن يقول: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] {وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنْ الْكَاذِبِينَ} [القصص:38] أي: فيما يدعيه من أن له إلهاً، ولذلك نجده هنا يقول: {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} [طه:49]، وهو يعرف أن ربهم هو الله عز وجل، وأنه لا يصلح أن يكون إلهاً، وأنه لم يخلق شيئاً في هذا الكون، ولا يستطيع أن يخلق شيئاً في هذا الكون، وأن الفطرة البشرية التي فطر الله عز وجل عليها البرية هي الإيمان بهذا الخالق سبحانه وتعالى، لكن لا يمكن أن يستعبد الأمة وهي تعرف أن لها خالقاً، ولذلك فإنه يضطر إلى أن ينكر وجود الخالق سبحانه وتعالى، حتى يستطيع من خلال هذا الإنكار أن يستذل هذه الأمة.
أما فرعون في قرارة نفسه فإنه يؤمن بالخالق سبحانه وتعالى بنص القرآن: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14] و (ظلماً) هنا حال من الواو في (جحدوا)، لا من الهاء في (استيقنتها)، أي: أن تركيب الكلام: (وجحدوا بها ظلماً وعلواً واستيقنتها أنفسهم)، وهذا شيء مشاهد، ولذلك نجد هذا اليقين الذي أخبر الله عز وجل عنه بقوله: (وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ) نجده يبرز في ساعة الصفر حينما تنتهي المهمة، وتنتهي مسرحية فرعون الذي أنكر الخالق سبحانه وتعالى، واستذل أمة مدة طويلة من الزمن، حتى إذا انتهت الفترة التي من خلالها يستطيع أن ينكر الخالق إذا هو يعلن إيمانه بالخالق سبحانه وتعالى، وهي ساعة الغرق؛ ولذلك يقول الله عز وجل عنه في ساعة الغرق: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90]، ثم قال الله تعالى له: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} [يونس:91 - 92] فقط لا نعيدك للدنيا مرة أخرى {لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس:92]، كل طاغوت يريد أن يستذل أمة أو أن يستعبد شعباً أو أن ينكر الخالق سبحانه وتعالى أو يستضعف الأمة المؤمنة تكون أنت آية له وكل من رآك، وإن من يراه في متاحف مصر ليتذكر هذه الآية التي يقول الله عز وجل فيها: (لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً).
إذاً: هو يؤمن في قرارة نفسه بالله عز وجل، ويعلن هذا الإيمان في الفترة التي لا يستفيد فيها من إنكار الخالق سبحانه وتعالى، وإن من يزور مقابر الفراعنة في مصر يتأكد أنهم يؤمنون بالخالق سبحانه وتعالى، فهم يؤمنون بالبعث بعد الموت، ولذلك يجعلون فتحات في مقابرهم لعودة الروح يوم القيامة، والإيمان بالبعث بعد الموت فرع عن الإيمان بالخالق سبحانه وتعالى؛ لأنه لا يمكن لأحد أن يؤمن بالبعث بعد الموت إلا بعد أن يؤمن بالخالق سبحانه وتعالى.
وهنا يوجد من ينكر البعث بعد الموت وإن كان يؤمن بالخالق سبحانه وتعالى، كما كان المشركون في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم يعتقدون شيئاً من ذلك.
إذاً: الطغاة والمتجبرون والمعاندون، والذين لهم تفكير في إذلال البشرية، لا بد من خلال هذا التفكير أن ينكروا الخالق سبحانه وتعالى، ولذلك نجد الشيوعية التي جاءت وحكمت مدة خمسة وسبعين عاماً في بلادها ثم سقطت في آخر المطاف؛ لأنها تنافي الفطرة، نجد أنها طيلة هذه الفترة تجبر الناس على إنكار الخالق سبحانه وتعالى، وأهم مبادئها هو إنكار الخالق سبحانه وتعالى؛ لأن الشعوب لا يمكن أن تخضع لغير الله إذا آمنت بالله عز وجل، وبالرغم من ذلك فإنها لم تستطع أن تنجح في مهمتها.
إذاً: الإيمان بالله عز وجل فطرة فطر الله عز وجل كل المخلوقات عليها الإنسان وغير الإنسان، فالإنسان مفطور على الإيمان: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:172] وغير الإنسان من المخلوقات الحية مفطورة على الإيمان أيضاً، كما قال الله عز وجل: {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50].(41/4)
استعباد الأمم لا يكون بإذلال المصلحين
الأمر الثالث: كل من أراد أن يستعبد أمة لا بد أن يستذل المصلحين، ولا بد أن يحول بين المصلحين وبين الأمة؛ لأن هؤلاء المصلحين منهجهم هو إرشاد الناس إلى الخضوع لله عز وجل، وتحذيرهم من الخضوع لغير الله عز وجل؛ ولذلك فإن كل المفسدين في الأرض -وإن تظاهروا بالإصلاح كما قال الله عز وجل: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة:11]- هم في الحقيقة يخافون على الأرض لا يخافون على الدين، وربما يتظاهرون بالخوف على الدين، كما قال فرعون لعنه الله: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26]، مع أنه هو الذي كان ينشر الفساد في الأرض، ولذلك هم يخافون على الأرض، ويخافون على الملك، ويخافون على السلطة، فيقفون في وجوه المصلحين خوفاً على هذه السلطة أن تنتزع من أيديهم إلى أيد أخرى هي أهل لهذه السلطة، ولذلك يقولون: {أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى} [طه:57].
ولذلك هذا هو الخوف الحقيقي، هو خوف على الأرض لا خوف على الدين، وإن تظاهر المفسدون في الأرض بأنهم يخافون على الدين، وأنهم يخافون على عقيدة الناس، وعلى منهج الناس، فهم في الحقيقة لا يخافون إلا على الأرض، أما المصلحون فليس لهم مطمع في الأرض؛ لأن هدفهم فوق الأرض والتراب، هدفهم هو إصلاح هذه الأمم وربطها بالله عز وجل.
أما الكراسي والمراكز فإنها ليست أهم أهدافهم، اللهم إلا إن كان هدفاً كهدف يوسف عليه الصلاة والسلام حينما قال للعزيز: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55] يريد أن يتخذ من هذه السلطة منطلقاً للإصلاح في الأرض.(41/5)
إيمان السحرة بالله تعالى
الأمر الرابع: وهو ما أشرت إليه سابقاً: أن الإيمان ولو طال الأمد عليه وفقد مدة طويلة من الزمن لا بد أن يعود إذا جاء موعده! وكيف أن المؤمن ولو ألحد وغفل عن الله عز وجل كثيراً إذا رأى الآية التي تعرفه بالله عز وجل يرجع إلى الله عز وجل؛ لأن الفطرة الأصل أنها موجودة، وهي ما أشار إليها الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (كل مولود يولد على الفطرة)، وما أشار الله عز وجل إليها في الحديث القدسي: (خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم).
ولذلك يقول الله تعالى هنا: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا} [طه:70]، فقد ولدوا بعيدين عن الفطرة معزولين عزلاً كاملاً عن الفطرة، يعيشون على حياة السحر والشعوذة بعيدين عن الله عز وجل، لكن حينما رأوا آية واضحة من آيات الله عز وجل اعتبروا السجود هو العاصم الذي يعتصمون به من هذا الذنب العظيم الذي اقترفوه مدة طويلة من الزمن، فخروا ساجدين لله عز وجل، وما أدوا عبادة إلا هذه السجدة وهي سجدة فقط، ثم كانت نهايتهم الجنة، وكان مصيرهم إلى جنة عرضها السماوات والأرض.
وعلى هذا نقول: إن باب التوبة مفتوح، ومهما ابتعد الإنسان عن ربه سبحانه وتعالى فإن عليه أن يفكر دائماً وأبداً في طريق العودة إلى الله عز وجل، ولا يستعظم ذنباً فعله، فإن الله عز وجل يقول: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الزمر:53 - 55].
ومن هنا نقول: إن هؤلاء السحرة بالرغم مما فعلوه من الذنوب العظيمة، وآخرها الوقوف أمام آية من آيات الله عز وجل، والحلف بعزة فرعون وهو لا يستحق شيئاً من ذلك، ثم لما رأوا الآية من آيات الله عز وجل رجعوا إلى أنفسهم؛ لأنهم تجردوا عن الهوى، وعرفوا أن ما جاء به موسى عليه الصلاة والسلام إنما هو آية من عند الله، وليس بسحر، فخروا ساجدين لله عز وجل.
ثم كانت هذه هي الخاتمة، فالعبرة إذن بحسن الخاتمة، يقول عليه الصلاة والسلام: (وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)، ولذلك فعلى المسلم دائماً وأبداً أن يسأل الله تعالى حسن الخاتمة، حتى لو كان في خير وفي عمل صالح يرضى به لنفسه ويطمئن إليه فلابد أن يسأل الله عز وجل حسن الخاتمة والثبات، ولذلك فإن الرسول -وهو الرسول عليه الصلاة والسلام- كان كثيراً ما يقول: (اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك.
فتقول له عائشة في ذلك: أتخاف على نفسك يا رسول الله؟! فيقول: يا عائشة! وما يؤمنني وقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء).
فهؤلاء كفرة يحلفون بعزة فرعون، جاءوا معاندين لآية من آيات الله، يريدون أن يأتوا بالسحر ليطمسوا فيه معالم آية من آيات الله، وما كانوا يظنون أنها آية، واستغفلوا مدة من الزمن، واستذلوا واستعبدوا، لكن لما رأوا الحقيقة رجعوا إلى الطريق المستقيم، فخروا ساجدين لله عز وجل، ووقف فرعون مبهوراً! مائة ألف ساحر جميعاً ولدوا على السحر وعلى البعد عن الله وعلى عبادة فرعون، ثم يسجدون جميعاً سجدة واحدة لله عز وجل! هذا أمر عجيب! لكنه ليس عجيباً بالنسبة لأمر الله عز وجل.
إذاً: ما هو الموقف الذي سوف يسلكه مثل هذا الطاغوت؟! منطق الطواغيت والظلمة معروف حينما تعييهم الحجة ليس أمامهم إلا القوة؛ لأنهم يملكون القوة البشرية، ويملكون القوة المادية في هذه الحياة، ولربما يفقدها المؤمنون، فيلجئون إلى التهديد بهذه القوة، ولذلك أحضر الجلادين، وأحضر جذوع النخل، وأحضر الذين سوف يقطعون اليد اليمنى والرجل اليسرى من خلاف، وأحضر كل وسائل التعذيب أمام مائة ألف من البشر خروا ساجدين لله عز وجل.
وكان المنطق البدهي المجرد من الإيمان يقول: إن ساحراً أمضى حياته في السحر وفي عبادة غير الله عز وجل، وما دخل الإيمان إلا بسيطاً في لحظة واحدة قد يتأثر بسرعة، ويتراجع عن مبدئه حينما يرى وسائل التعذيب، كما نشاهد في دنيانا اليوم أن كثيراً من ضعاف الإيمان حينما يخوفون بغير الله عز وجل يخافون، ولكن الله عز وجل ربط على قلوب هؤلاء السحرة، وتحدوا فرعون وكل قوى التعذيب والبطش التي أحضرها لهم، وقالوا: نحن رأينا بأعيننا الحقيقة، آمنا عن اقتناع، افعل ما تشاء! ولو فعلت فماذا ستفعل؟! ستهلك هذا الجسد، لكنك لن تستطيع أن تتسلط على الروح، سوف تهلك هذه الدنيا، لكن لن تستطيع أن تصل بنا إلى الحياة الآخرة، افعل ما تشاء، لما قال: {فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} [طه:71]، أنا أم الله؟ أو أنا أم موسى؟! فكان الجواب شافياً: {لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} [طه:72] آيات رأيناها بأعيننا، آية جاءت من عند الله عصا تتحول إلى ثعبان عظيم يلتهم سحر مائة ألف من السحرة كنا نعده منذ سنوات طويلة، فتلتهم هذه الآية هذا السحر في لحظة واحدة، وتريد أن نرجع إليك بعد هذه الآية التي رأيناها! لن نؤثرك عليها، لن نقدم رأيك ولا تعذيبك على تعذيب الله عز وجل في الحياة الآخرة؛ لأننا لو أطعناك الآن وسلمنا في هذه اللحظة تعرضنا لعذاب عظيم: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ} [هود:107]، لكننا حينما نعصيك اليوم وتريد أن تذيقنا ما تذيقنا من عذاب الدنيا فإن ذلك لن يضيرنا؛ لأنه لحظة واحدة تفارق فيها الروح الجسد، وننتقل إلى جنة عرضها السماوات والأرض.
هذا هو المنطق الصحيح الذي يجب أن يكون منطق كل مؤمن، ومنطق كل إنسان رأى الحقيقة بعينيه، وآمن بالله عز وجل حق الإيمان، فلا يكون من الذين قال الله عز وجل فيهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ} [العنكبوت:10] أي: في الدنيا {جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت:10] نعوذ بالله! هؤلاء ضعاف الإيمان.
أما هؤلاء فقالوا: {لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا} [طه:72] حلفوا بالله أنهم لن يغيروا رأيهم أبداً، ولن يرجعوا عن دينهم الذي اهتدوا إليه بعدما رأوا الآيات بعينهم، فحلفوا بعظمة الله عز وجل الذي فطرهم.
أي: خلقهم، ثم قالوا: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه:72]، الذي تريد أن تفعله فافعله، لك الأجسام لكنك لن تستطيع أن تتسلط على الأرواح؛ لأن الأرواح في قبضة الله عز وجل وليست في قبضتك: (فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ) أي: افعل ما تريد أن تفعله في هذه الحياة الدنيا.(41/6)
السحرة يستهينون بالدنيا مقابل الآخرة
ثم استهانوا بالدنيا فقالوا: {إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72] و (إنما) للحصر، أمر بسيط وهزيل أنت تريده منا، أنت الآن تطلب هذا الجسد، هذا الجسد ليس له أهمية، سوف يفنيه التراب حينما يوضع في التراب، فافعل فيه ما تشاء، فأنت لا تقضي إلا الحياة الدنيا، والحياة الدنيا أمرها سهل، ومن الذي علمهم هذا الأمر وقد عاشوا الحياة الطويلة بعيدين عن الله عز وجل؟ هي الفطرة التي فطر الله عز وجل الإنسان عليها، فأصبحت الدنيا في نظرهم لا تساوي إلا شيئاً تافهاً.
{إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا} [الشعراء:51]، فهم ما زالوا خائفين رغم أنهم سجدوا لله عز وجل، بالرغم من أنهم سلموا أجسادهم للطاغوت يفعل فيها ما يشاء، وبالرغم أنهم استهانوا بالدنيا، فهم يطمعون طمعاً ولا يجزمون جزماً بأن الله سوف يغفر لهم خطاياهم، مع أن الله عز وجل قد أوجب على نفسه أنه يقبل التوبة عن عباده، فقال: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ} [النساء:17] و (على) للوجوب أوجبها على نفسه {لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} [النساء:17]، والقريب هو ما قبل الموت، فأبشروا أيها الإخوة، فليس القريب معناه في اللحظة الأولى، القريب ما قبل الموت، ولذلك هؤلاء ما تابوا إلا في آخر حياتهم قبل الموت، لم تمض بعد توبتهم إلا دقائق، ثم لقوا الله عز وجل على جذوع النخل على أيدي هذا الطاغوت المتجبر.
(إنما التوبة عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ) يعني: في أيام غفلة (ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ)، أي: قبل الموت، بدليل قوله تعالى بعد ذلك: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ} [النساء:18]، فإذا بدأت تغرغر الروح في الجسد تريد الخروج فهنا لا تقبل التوبة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يغرر أو ما لم تبلغ الروح الحلقوم)، وإذا طلعت الشمس من مغربها فلا تقبل التوبة أيضاً، قال تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:158].
{فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:72 - 73] أنت ليس بيدك شيء، حتى الموت فإنه ليس بإرادتك، بل هو بإرادة الله عز وجل، قال تعالى: {لَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام:112]، لو شاء الله لما استطاع أن يصل إلى أجسامهم أيضاً، مع أنه ما قتلهم إلا بقضاء الله عز وجل وقدره، وهو لم يستطع أن يصل إلا إلى الجسد ولم يصل إلى الروح، وهو أيضاً بقضاء الله وقدره، {وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:73].(41/7)
السحرة يدعون الناس إلى الله تعالى
ثم بعد ذلك لم يكتفوا أن يكونوا مؤمنين، بل أصبحوا دعاة، واستغلوا اللحظات الأخيرة قبل أن يبدأ تقطيع الأيدي والأرجل من الخلاف، يد يمنى ورجل يسرى، ثم الصلب، ثم الموت، استغلوا هذه الفرصة فعلموا الناس الذين بقوا وراءهم أن مثل هذا التصرف لا يضيرهم أبداً، وأن المصيبة الكبرى هي أن يقدم الإنسان على ربه يوم القيامة وهو كافر، وهو بعيد عن الله عز وجل، فقالوا للناس: انتبهوا أن تغتروا بهذا الطاغوت الذي اغتررنا به مدة طويلة من الزمن، فعليكم أن تلزموا دينكم، فأصبحوا دعاة بعد أن كانوا قبل لحظات سحرة، فماذا قالوا؟ قالوا: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا})) [طه:74] يحذرون الناس ألا يقدم أحدهم على ربه مجرماً {فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى} [طه:74 - 75] ما هي الدرجات العلى؟ {جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} [طه:76]، وهذا ليس عجيباً من أمر الله، وإن كان عجيباً في واقع البشر، وفي حياة البشر، وفي مألوفات الناس أن يتحول الساحر إلى داعية، بل ليس عجيباً في عالمنا اليوم ولله الحمد، فقد رأينا كثيراً من المفسدين تحولوا إلى مصلحين، وكثيراً من تجار المخدرات والمحرمات وأصحاب الجرائم والملاحدة في مثل هذه الأيام والحمد لله أصبحوا دعاة مصلحين، وعسى الله أن يتجاوز عنهم، وليبشروا، فإن الله تعالى يقول: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114].
المهم أن يوفق الإنسان إلى العودة إلى الله عز وجل قبل أن يحضر الأجل، أما إذا جاء الأجل فإن أحدهم يقول بكل لوعة وندامة: {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:99 - 100] فيقال له: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100].
هذا درس يجب أن نفهمه أيها الإخوة! لا سيما في مثل هذه الأيام المباركة التي سقطت فيها المبادئ، وسقطت فيها الأفكار، وأهبت ريح الخير والإيمان والحمد لله، علينا أن نراجع أنفسنا قبل أن يحضر الأجل، ثم علينا أن نصلح العمل قبل القدوم على الله عز وجل: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى} [طه:74 - 75]، هذا الكلام صدر من السحرة، ولكنه كلام بعد الاقتناع بالإيمان، وهم يرون الموت ليس بينهم وبينه إلا لحظات، لكنهم يعرفون أنها ميتة لا بد أن تكون، سواء كانت هنا أو هناك، في هذه الساعة أو بعد ساعات أو بعد سنوات، كل حي ميت، إذاً: لا بد أن يموت الإنسان على الفطرة، ولا بد أن يموت في سبيل الإصلاح قال تعالى: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلًا} [النساء:84].(41/8)
السحرة يدعون الله أن يثبتهم عند اشتداد العذاب
درس آخر: لما كانوا يخافون على أنفسهم من الفتنة كانوا يتضرعون إلى الله عز وجل -لأنهم يرون القسوة في المعاملة- أن يثبتهم الله على هذا الإيمان؛ لأن الإنسان مهما كان على جانب من الإيمان واليقين والتقوى لله عز وجل فهو على خطر من الزيغ أيضاً، ولذلك بالرغم من أن عندهم هذا الإيمان الصلب فهم يقولون: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [الأعراف:126]، يطلبون الوفاة على الإسلام، ولا يطلبون الحياة؛ لأن الوفاة على الإسلام أفضل لهذا الإنسان من الحياة على غير الملة، ولذلك هم خائفون، وهم هذا العدد الكبير الذي سوف يتعرض لهذه الفتنة العمياء الصماء البكماء، وهم ما زالوا حديثي عهد بإيمان، وبمعرفة الله عز وجل، وبمعرفة آياته، فهم يخافون أن يفتنهم هذا الرجل، أو أن يتراجع من تراجع منهم عن منهجه الذي عاهد الله عز وجل عليه، فعندما قالوا: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه:72] خافوا أن يصاب أحد منهم بشيء من الخوف والذعر فيرجع من منتصف الطريق، فدعوا الله عز وجل وسألوه الثبات فقالوا: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [الأعراف:126] أي: توفنا على ملة الإسلام.(41/9)
تثبيت الدعاة والمصلحين للأتباع وتحذيرهم من الزيغ والنكوص
ثم أيضاً نجد في المقابل أن المصلحين دائماً يحذرون الأتباع من أن يزيغوا في مثل هذه الفترة العصيبة التي ربما يتعرض فيها الإنسان لهزة من الهزات التي ترغبه في الدنيا وتزهده في الحياة الآخرة، أو تخيفه من الموت حينما يغفل أن الموت قدر وأجل من عند الله عز وجل.
فنجد أيضاً أن المصلحين يدعون فيقولون: اثبتوا على هذا الطريق، فنجد موسى عليه الصلاة والسلام يحرضهم على الثبات: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا} [الأعراف:128] موسى أصبح يخاطب الذين ينظرون إلى هؤلاء القوم وهي تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، حتى لا يتراجعوا عن منهجهم الصحيح الذي اقتنعوا به، فيوجه إليهم وسيلة تثبتهم بإذن الله عز وجل ويقول: {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [الأعراف:128]، والعجيب أن موسى يقول هذا في فترة ما كان يملك شيئاً من الأرض، ولا كان يملك شيئاً من السلطة، وإنما يملك فقط آية من آيات الله عز وجل، لكنه واثق بأن الأرض ليست ملكاً لأحد، وليست ملكاً لطاغوت أو لحاكم يظن أن هذه الأرض هي له وسوف تبقى له، ولا أحد يستطيع أن ينازعه إياها، فإذا قام المصلحون يريدون تطبيق شرع الله عز وجل في الأرض في أمة من الأمم خاف أولئك على هذه الأرض، فأصبحوا يبطشون بالمسلمين كل البطش خوفاً على هذه الأرض، ويظنون أن هذه الأرض ملك لهم، والعجيب أن يكون من ورائهم من يعتقد هذه العقيدة، ويظن أن هذه الأرض لفلان وليست لفلان، وأن فلاناً صاحب السلطة لو خرج من ينازعه في هذه الأرض لا يريد الأرض ذاتها، وإنما يريد أن يقيم شرع الله وحكم الله في هذه الأرض، يتصور طائفة من الناس أن هؤلاء ليسوا كفئاً لأن يكونوا في هذا المستوى، فيبنون الأرض لفلان أو لفلان أو لصاحب السلطة، ثم بعد ذلك لا يفكر أحدهم أن هذه الأرض سوف ترجع إلى أصحابها الشرعيين، فالأرض لست ملكاً لهؤلاء الطواغيت الذين يحكمون الناس بغير شرع الله عز وجل، الأرض كما قال الله تعالى هنا: {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [الأعراف:128] فقد يملكها اليوم رجل، وفي الصباح الباكر في ملك رجل آخر، قال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:26].
فهذه هي الأرض، وهي لمن أراد أن يحكمها بشرع الله، والقوم الذين يعيشون على هذه الأرض لا يتبعون إلا من يحكمهم بشرع الله عز وجل؛ ولذلك فقد أخبر الله عز وجل في آية أخرى أن الأرض للمؤمنين وليست للكفرة الذين يحكمون بغير شرع الله، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105] فهي للصالحين، وليست للفسقة الذين يأخذونها بطريق الانقلابات العسكرية، والثورات الدامية، واستغلال البشر، وملء السجون، ووضع المخيمات التي يسومون فيها المسلمين سوء العذاب، ويظنون أن هذا العرش ملك لهم، وأن هذه الأرض ورثوها كابراً عن كابر، الأرض ليست لهم وإنما هي لعباد الله الصالحين، كما أن الرزق في هذه الأرض وما في هذه الأرض من طيبات ليست ملكاً لأحد وإنما هي للمؤمنين، لكن في الدنيا يشاركهم فيها الكفرة والفسقة كما تشاركهم البهائم.
أما في الآخرة فإنها خالصة لهم من دون الناس، قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:32] هذه هي الأرض! وهذا هو الرزق! فالأرض ملك لله عز وجل يورثها من يشاء من عباده، والرزق هو رزق الله إنما هو للمؤمنين، ويأكل هؤلاء الكفرة والفسقة من فضلات المؤمنين، لكن المؤمنين يختصون بطيباتها وبرزقها في الحياة الآخرة.
ولذلك فإن من ظن أن الإسلام لا يستحق أن يحكم هذه الحياة، وأن هؤلاء الذين يطالبون بأن يحكموا بشرع الله أنهم متمردون، أو أنهم بغاة أو أنهم خارجون، من يعتقد مثل هذا الاعتقاد فقد ذهب بعيداً عن المنهج الصحيح، فالأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والأرض لا يرثها إلا عباد الله الصالحون، ولربما تطول فترة من الزمن تصبح هذه الأرض في أيدي غير أصحابها الشرعيين ابتلاءً من الله عز وجل؛ ليعيش أصحابها الشرعيون الذين يجب أن يملكوا هذه الأرض في غياهب السجون أو في المعتقلات أو في المخيمات التي يحكمون فيها بقوة الحديد والنار، لكن هذه إنما هي فترة مؤقتة ومحددة، وسوف يأتي ذلك اليوم القريب الذي تعود فيها الأرض لأهلها الشرعيين، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105]، الذين يطالبون بشرع الله، ويقدم لهم الطواغيت الطعام والمغريات فيقول أحدهم: نحن نطالب بتطبيق شرع الله، نحن لا نريد حتى وسائل المتاع البسيطة، وإنما نريد أن نحكم بشرع الله عز وجل، هؤلاء هم أهلها الشرعيون طال الزمن أو قصر، فلا بد بإذن الله عز وجل أن يتحقق هذا الوعد؛ لأن الله تعالى أقسم على ذلك فقال: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا) (ولقد) الواو هنا للقسم، واللام للقسم، وأكد الفعل بـ (قد) من المؤكدات للفعل الماضي (فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) أي: من بعد التوراة (أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ)، وهو يرد أيضاً في القرآن الكريم: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105].
فلا يستطيل المؤمن الطريق مهما كانت وعرة، ومهما كانت صعبة، ومهما رأينا إخواننا يعيشون في عذاب ليروا أعداء الله عز وجل يحكمونهم بقوة الحديد والنار، فالذي أسقط الشيوعية بعد أن حكمت ثلاثة أرباع قرن من الزمان وهي تحكم أناساً بقوة الحديد والنار، سوف يسقط كل حكم طاغوت يريد أن يحكم هؤلاء الناس بعيدين عن شرع الله عز وجل بقوة الحديد والنار.(41/10)
نهاية الطغاة فرعون وجنوده
ثم بعد ذلك نهاية الطغاة وشيكة الانهيار، فهذا فرعون قد أخبر الله عز وجل أنه قد أسقط ملكه العظيم على يدي المصلحين من المرسلين عليهم الصلاة والسلام موسى وهارون، ومن تبعهم على هذا الإيمان، فيقول الله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ} [الأعراف:130] بدأت الآن النهاية: {وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف:130] لكن هذه الموعظة وهذا الأخذ المحدود لم يجد في هؤلاء القوم، فكان الأخذ النهائي الذي يقول الله عز وجل عنه، وهو الفرج القريب للمؤمنين والمصلحين، يقول الله عز وجل عن هذا الفرج: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأعراف:137] بماذا؟ بالصبر، لما صبر القوم على مصارعة أعداء الله جاء الوعد الذي قال الله عز وجل عنه: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105]، وهذا القسم لا يمكن أن يتخلف، ولربما يتأخر زيادة في الابتلاء والتربية والإعداد، وابتلاء المؤمنين، لكن النتيجة أنه لا بد أن يقع هذا الوعد؛ لأنه جاء بقسم من الله عز وجل، فيقول الله عز وجل عن تحقيق هذا الوعد: بأن أورث المستضعفين الأرض كلها، وآخذ المتجبرين والطغاة، يقول الله عز وجل: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الأعراف:137] بأي سبب؟ ((بِمَا صَبَرُوا)) [الأعراف:137] فالصبر: هو طريق الوصول إلى الخير، {وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [الأعراف:137].
إذاً: انتهت دولة الكفر التي تقول للناس: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [القصص:38] انتهت هذه المرحلة، وجاء تحقيق وعد الله عز وجل: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ} [الأعراف:137]، الذين كانوا يعيشون في مصر بالأمس أذلة، لما صبروا وصابروا ورابطوا، وكانوا عضداً مع أنبياء الله موسى وهارون عليهم الصلاة والسلام {بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ * وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ} [الأعراف:137 - 138].(41/11)
موسى وقومه يرحلون من مصر
ثم جاء درس من الدروس العجيبة، درس لا يتأمله إلا المؤمنون، يأذن الله عز وجل لموسى بالرحيل من مصر هو وبنو إسرائيل، ويتجه موسى بستمائة ألف من بني إسرائيل -كما يقول المفسرون والمؤرخون- مشرقين في آخر الليل، وعند وقت الشروق ينتبه فرعون وقومه بأن بني إسرائيل سوف يهربون، ثم يلحقهم وقد استكمل كل طغاته وعتاته وجنوده من أجل أن يبطش بهؤلاء المستضعفين، ثم يلحق بهم فيكون موسى وبنو إسرائيل بين العدو وبين البحر، وهو موقف محرج لولا أن الإيمان أقوى من ذلك كله، فيلتفت بنو إسرائيل ويقولون لموسى: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61] العدو وراءنا، والبحر من أمامنا، ماذا نفعل؟! لكنّ موسى عليه الصلاة والسلام الذي رباه ربه سبحانه وتعالى على الإيمان واليقين يعلم أن هذا الدين هو لله عز وجل وليس له، وليس لأحد من الناس، وأن الذي فرض هذا الدين هو الذي سوف يدافع عنه، وأنه الآن لا بد أن تكون هناك حماية، وأن هذا البحر وإن كان مائجاً يغرق، والعدو من ورائهم فتاك عنيد، لكن لا بد أن يأتي الفرج، فيقول موسى عليه الصلاة والسلام: (كَلَّا) يعني: الآن لسنا بمدركين، هم في الحقيقة مدركون حسب الظواهر المرئية؛ لأن البحر من الأمام، والعدو يحيط من الخلف، وسوف يلجئهم إلى البحر ويغرقهم، لكن الإيمان فوق ذلك، فهو يقول: (كَلَّا) ولذلك ما قال: لا، بل قال: (كَلَّا)، وهي أبلغ في النفي وتأكيد النفي: {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62] أنا أسير على منهج من عند الله، أنا لم أسر على غير منهج؛ فربي سوف يوفقني، وفعلاً يهديه الله عز وجل، وتتعطل نواميس الحياة وأنظمة هذا الكون ليتحول ذلك البحر المائج إلى طريق يابسة، إنها قدرة الله عز وجل! ثم يعبر موسى وقومه في اثني عشر طريقاً على عدد أسباط بني إسرائيل وقبائلهم، حتى تجمد البحر، وأصبح طبقاً كالجبال واقفة، وأصبح جدداً -جمع جادة- يسيرون عليها، وكل ينظر إلى الآخر من وراء الماء يطمئن على صاحبه، ويعبرون البحر بقدرة الله عز وجل: (لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون) يتجمد البحر ويتجمد كل شيء، وتتجمد الدماء في عروق الطغاة حينما يزيد بطشهم بالمؤمنين، والله عز وجل من ورائهم محيط.
إذاً: المسألة هي قدرة الله عز وجل التي لا تغلب، ويعبر موسى ومن معه إلى الضفة الشرقية، ويعبر فرعون وجنوده داخل البحر، حتى إذا اكتمل موسى ومن معه خارجين إلى الجهة الشرقية، واكتمل فرعون وكل جنوده داخل البحر؛ أمر الله عز وجل البحر أن ينطبق عليهم ليستأصلهم عن آخرهم: {فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ * فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلآخِرِينَ} [الزخرف:55 - 56].
هذا درس يجب أن يفهمه المؤمنون دائماً، ويجب أن يفهموه في ساعة الشدة بصفة خاصة؛ لأن الله تعالى يقول: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} [يوسف:110]، فالنصر لا يأتي غالباً إلا بآخر لحظة من لحظات الابتلاء، ولذلك أغرق الله عز وجل فرعون وجنوده، ونجا موسى ومن معه، فأصبح الأمر آية عظيمة من آيات الله سبحانه وتعالى.(41/12)
من الدروس المستفادة من إغراق فرعون وإنجاء موسى وقومه
هناك درسان نستطيع أن ننهي بهما البحث في قصة موسى مع بني إسرائيل عليه الصلاة والسلام: الدرس الأول: لا بد من التغيير، قد يظن بعض الناس أن الدعاء والتضرع -ولو كان بصدق- يمكن أن يخلص المضطهدين والمؤمنين، ولو كانوا على ما كانوا عليه من معصية الله عز وجل، وهذا خطأ واضح جداً، ولذلك أخبر الله تعالى أخبر في القرآن: أنه يأخذ الأمة وهم يتضرعون إذا لم يغيروا، فيقول الله عز وجل: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ * لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ} [الأنبياء:11 - 15]، وهم يقولون: يا ويلنا، فالمسألة ليست مسألة يا ولينا إنا كنا ظالمين فقط.
إذاً: ما هو طريق العمل والإصلاح؟ فالأمة ليست مطالبة بالتندم والتحسر على هذا الدين، وإنما هي مطالبة بالإصلاح، ولذلك أخبر الله تعالى في قصة موسى مع بني إسرائيل أنهم بقوا مدة من الزمن يتضرعون بين يدي الله عز وجل، ويقولون دائماً وأبداً: {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [يونس:85 - 86]، لكن هذا دعاء ناشف ليس فيه تغيير أبداً، وليس فيه بذل في سبيل الله، ولا تضحية، فقط: {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [يونس:85 - 86]، فما نفعهم ذلك أبداً وهم يعيشون تحت الذلة والاستعباد؛ لأنهم لم يغيروا، ولم يفكروا بالجهاد في سبيل الله الذي يتخلصون به من الذلة، ولم يقدموا أغلى ما يملكون وهو المال.
فبقي بنو إسرائيل مدة طويلة من الزمن قبل أن يأذن الله عز وجل لموسى صلى الله عليه وسلم بالرحيل من مصر ببني إسرائيل وهم يدعون ويتضرعون: {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [يونس:85 - 86] لكنهم لم يغيروا شيئاً من وضعهم كما يفعله كثير من الناس، يكتفون بالدعاء لكنه دعاء ناشف كما يقولون.
فالذي حدث أن الله أرشدهم بأن هذا الدعاء لن يقبل إلا بتغيير وتضحية: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [يونس:87]، وفعلاً بنو إسرائيل نفذوا هذا الأمر من أوامر الله عز وجل فغيروا، فجعلوا بيوتهم مكاناً للعبادة، وأقاموا الصلاة، واستقاموا على دين الله عز وجل، ثم دعوا بعد ذلك مرة أخرى، وانظر إلى الفرق بين الدعاء الأول والدعاء الثاني بعد التغيير: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس:88] ما هي النتيجة؟ {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} [يونس:89]، لماذا ما أجيبت في الأول وقد مضت عليها سنوات {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [يونس:85 - 86]؟ لأنه ليس هناك تغيير في الواقع، فلا بد أن يكون هناك تغيير، وإذا حدث التغيير فالدعوة تستجاب من الله عز وجل.
درس آخر نختم به قصة موسى عليه الصلاة والسلام مع فرعون: لما عبر موسى ببني إسرائيل البحر وأقبلوا على الأرض المقدسة أرض الشام، كان بنو إسرائيل -بالرغم من ذلك التكريم من الله عز وجل- كان الخوف يسري في عروقهم، ويختلط بدمائهم؛ فيقبلون على بلاد الشام ويقول لهم موسى: {ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ} [المائدة:21] لكن صاحبهم الخوف؛ لأنهم ولدوا في أرض خوف، وعاشوا في جبن وضعف قد ملأ قلوبهم، فقالوا: {إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} [المائدة:22]، وبالرغم من أن النصائح توجه لهم {قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ} [المائدة:23]، وبالرغم ذلك كله قالوا: {إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24]، فيقولون لموسى: اذهب أنت وربك قاتل العمالقة في بلاد الشام، ونحن سنجلس هنا، حتى إذا حررتم البلاد دخلناها! هذه هي الأمة التي تقوم على هذا الضعف والإذلال! ولذلك فإننا ننصح من يتولى سلطة من سلطات المسلمين ألا يذل شعبه، وألا يذل أمته؛ لأن هذه الأمة هم سلاحه وعتاده، فحينما يذلهم بالتجسس والأذى والبطش والطغيان سوف لا يكون عنده سلاح ولا عتاد ولا قوة حينما يريد أن يدافع بهم عن حدود بلاده؛ ولذلك حكم الله عز وجل على بني إسرائيل أربعين سنة يتيهون في الأرض في صحراء سيناء، يقول المؤرخون: حتى فني الجيل الأول الذي ولد في أرض الإذلال والاستعباد، وفي الأربعين السنة هذه ولد ونشأ جيل جديد ما عاشوا على الإذلال، فدخلوا بعد ذلك الأرض المقدسة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب، وأسأل الله أن يجعلنا وإياكم من الدعاة المصلحين الذين لا يخافون في الله لومة لائم، والحمد لله رب العالمين.(41/13)
أسباب النصر والهزيمة
جعل الله للنصر أسباباً لا يمكن للإنسان الانتصار إلا بها، وقد بين الله تعالى هذه الأسباب في كتابه، ورسوله في سنته، ويوم أن عمل بها رسول الله عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام كان النصر حليفهم، فملكوا مشارق الأرض ومغاربها، فإذا أردنا أن ينصرنا الله فلنحقق هذه الأسباب في واقعنا، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله.(42/1)
أزلية الصراع بين الحق والباطل
بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونثني عليه الخير كله، نشكره ولا نكفره؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، الذي بعثه الله رحمة للعالمين، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله ومن دعا بدعوته وعمل بسنته ونصح لأمته إلى يوم الدين.
أما بعد: فما أجمل استغلال الساعات العصيبة التي نرجو الله سبحانه وتعالى فيها أن يهلك الظالمين بالظالمين، ويخرج المسلمين من كيدهم سالمين! إن الموضوع الذي نتناوله هنا يتعلق بشكل كبير بأحداث الساعة، وهو: أسباب النصر وأسباب الهزيمة، ونرجو الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لنقول ما ينفعنا والمسلمين! قبل الحديث في هذا الموضوع نحتاج إلى أمرين: الأمر الأول: أن نرجع إلى المنهج الصحيح المثبت في كتاب الله عز وجل وسنة وسيرة رسوله خير البرية عليه الصلاة والسلام، وسيرة أصحابه ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين.
الأمر الثاني: أن نعي خطورة الموقف.
ومن خلال ذلك نستطيع -بتوفيق الله تعالى- أن نستشف أسباب النصر وأسباب الهزيمة.
إن الصراع بيننا وبين عدونا قديم قدم الحياة الدنيا، قال تعالى: {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [البقرة:36] فكانت هذه هي البداية، وسيبقى الصراع حتى يرث الله الأرض ومن عليها، قال تعالى: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217] ولا يمكن أن ينتهي هذا الصراع أبداً؛ ولذلك شرع الجهاد، ولم يزل قائماً منذ صدر الإسلام، اللهم إلا في فترات يضعف المسلمون فيها عن الجهاد في سبيل الله، ولذلك فإن الأمة الإسلامية مسئولة عن رفع راية الجهاد في كل فترة؛ لأن الله عز وجل يقول: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39] فهذه غاية، بل ونهاية آخر مرحلة من مراحل التكليف بالجهاد، الذي بدأ بالأمر بالصبر في مرحلته الأولى -المرحلة المكية- ثم تلا ذلك الأمر بدفع العدو في أول المرحلة التالية -المرحلة المدنية- ثم قتال العدو أو أخذ الجزية منه في المرحلة الوسطى، ثم المرحلة الرابعة والأخيرة -وهي التي يجب أن يعيها المسلمون دائماً وأبداً- ألا يوضع السلاح ولا يترك الجهاد طاعة لله عز وجل القائل: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39].
وإن كان الواقع خلاف ذلك فالمسلمون مسئولون عن التقصير، إذ ركنوا إلى الدنيا ولم يقوموا بهذا الدور، وهذا عين التفريط في أمر من أعظم الأمور التي حملهم الله عز وجل مسئوليتها، وتجاهل أكثرهم أنهم إذا تركوا الجهاد ذلوا، وتسلط عليهم أعداؤهم، وغزوهم في عقر دارهم.
فيجب أن يكون الجهاد في سبيل الله مرفوع الرايات كما قال الله عز وجل: {حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39]، ونريد هنا أن نفهم معنى الفتنة، فالناس في أيامنا الحاضرة لا يفهمون عن الفتنة إلا أنها الاضطرابات وعدم الانضباط وعدم استقرار الأمور، لكن الفتنة في مفهوم القرآن الكريم هي: الكفر والردة عن الإسلام، ولو كانت الأمور المعيشية مستقرة استقراراً كاملاً، وهادئة هدوءاً منتظماً، فما دام أن في الأرض من يدين لغير الله، ومن يعبد غير الله، وما دام أن فيها نظاماً أو أمة تحكم بغير شرع الله، فهذه هي الفتنة التي أُمرنا بالجهاد حتى لا تكون هذه الفتنة قائمة، ولو كانت الأمور المادية مستقرة.
هذا هو مفهوم الفتنة -الذي يجب أن يفهمه المسلم- بدليل قوله تعالى: {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39] وهذا -أيضاً- يبين أن الغاية من منع قيام الفتنة هي حفظ دين الله تعالى، ولذلك يقول الله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة:217]، ويقول: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة:191] وهذا دليل على أن الفتنة شيء والقتل شيء آخر، والفتنة أشد وأكبر من القتل؛ فتأمل!! وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور:63] أي: عن أمر رسوله عليه السلام {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} [النور:63] أي: كفر أو ردة عن الإسلام {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63] فالفتنة هنا تفيد شيئاً آخر غير العذاب.
فعلى المسلمين أن يصححوا هذا المفهوم، فإذا استقرت الأمور مادياً مع وجود بلاء ومصائب، وإجرام وفساد في الأرض، وردة عن الإسلام؛ فهذه هي الفتنة؛ وإذا وجد الخلاف والنزاع في الأرض على الحق، وفي سبيل البحث عن الحق، فليست هذه هي الفتنة؛ وهذا هو مفهوم القرآن الكريم.
فعلى المسلم أن يعرف أن الصراع بينه وبين عدوه قديم قدم الحياة الدنيا، وباق حتى يرث الله الأرض ومن عليها، فلا مجال لترك الجهاد في سبيل الله تعالى.
وبمقدار ما يتخلف المسلمون عن هذا الواجب يتحرك العدو مستهدفاً دينهم وأنفسهم وأرضهم وأموالهم، ولا يوقفه عن عدوانه ويكف كيده ويطفئ ناره إلا الجهاد في سبيل إعلاء كلمة الله جل وعلا؛ لأننا عرفنا هذا العدو جيداً، وأنه كالفئران لا تتحرك إلا حينما تهدأ الأمور.(42/2)
الأسباب المؤدية إلى تنزل النصر عند لقاء العدو
الجهاد في سبيل الله هو الوسيلة التي بواسطتها نستطيع أن نزيح الفتنة عن الأرض؛ وبالجهاد في سبيل الله يكون الدين كله لله، فلا يبقى نظام لله ونظام لقيصر، وما لقيصر لقيصر وما لله لله، ولكن يكون الدين كله لله، ولتحكم هذه الأرض كلها بشريعة الله، ولا تُحكم بقوانين البشر وآراء الرجال؛ وعندها سيتحقق هذا الهدف: {حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39].
فالأمة الإسلامية مطالبة بالجهاد في سبيل الله، لا سيما حينما يهجم العدو على بلاد المسلمين، فإن النفير يصبح إجبارياً واجباً، ويصبح فرض عين على كل واحد من المسلمين أن يجاهد في سبيل الله، كيف لا والمسلم قد أبرم بيعة بينه وبين ربه سبحانه وتعالى؟! وهذه البيعة استوفيت فيها كل شروط وأركان البيع المعهودة المعروفة عند الفقهاء، وهذه البيعة موثقة في كل الكتب السماوية، وقد جاءت في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ} [التوبة:111] وأركان البيع الأربعة موجودة في هذا السياق، وهي البائع وهو: المسلم، والمشتري: وهو الله عز وجل، والسلعة وهي: النفس والمال، والثمن: وهو الجنة، وهذا البيع نافذ وليس فيه خيار، ثم وثق الله تعالى هذا البيع في الكتب السماوية حيث قال: (وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآن) ولما سمع عبد الله بن رواحة رضي الله عنه هذه الآية قال: (يا رسول الله! ما لنا إن قتلنا في سبيل الله؟ قال: الجنة، قال: يا رسول الله! والله ربح البيع، لا نُقيل ولا نستقيل).
وقد التزم سلف هذه الأمة بهذه الوثيقة الربانية، فبعد نزول هذه الآية وأمثالها جعل المسلمون يخرجون كافة من المدينة للجهاد، ولم يستثن أحد منهم نفسه، حتى أمرهم الله عز وجل أن تتفرغ منهم طائفة لطلب العلم بقوله: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122] وهكذا كانت تؤثر الآية القرآنية في المسلمين.
وقد جاء الوعد الحق من الله عز وجل ومن رسوله عليه الصلاة والسلام للمجاهدين في سبيله بالدرجات العلى في الجنة، كما جاء في الحديث: (إن في الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض أعدها الله للمجاهدين في سبيله) فإذا كان ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض؛ فأعلى درجة كما بين السماء والأرض، مائة درجة بهذا القدر للمجاهدين في سبيله تعالى.
وأما عن المسئولية عن تعطيل الجهاد فالمسلمون هم الذين يتحملون مسئولية تعطيل الجهاد في أي فترة من الزمن، ويكون تسلط العدو على المؤمنين بمقدار ما يعطلون من هذا الأمر العظيم (وما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا).
بل إنه يوشك أن يكون ترك الجهاد ردة عن الإسلام، وقد روي عن النبي عليه السلام قوله: (إذا تبايعتم بالعينة، ورضيتم بالزرع، وأخذتم بأذناب البقر -يعني: انشغلتم بالحرث عن الجهاد- سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى تراجعوا دينكم)، ولا يقال: (حتى تراجعوا دينكم) إلا لمن تركه أو قارب!! والجهاد في سبيل الله كما علمنا واجب حتمي، وأما ما يترتب عليه من نصر فلا يحصل عليه كل الناس، فالنصر لا يكون إلا بشروط بينها الله تعالى في القرآن، والذي يقرأ التاريخ يرى كيف استطاعت الأمة الإسلامية أن تحقق النصر والقيادة والريادة في العالم عبر التاريخ الطويل، عندما تمسكت بشروط وأسباب النصر، وكيف تأخرت وتخلفت وانهزمت حينما تركت هذه الأسباب.
وهذه الأسباب بيَّن الله تعالى أكثرها في سورة الأنفال، وهي السورة العظيمة التي نزلت لتتحدث عن موقعة بدر، وتتكون من ست وسبعين آية كلها تتكلم عن التربية المعنوية، ما عدا آية واحدة تناولت التربية المادية والإعداد، وهي قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] فإذا استثنينا هذه الآية، فيصح أن نقول: إن السورة كلها تتكلم عن تربية هذه الأمة وإعدادها إعداداً معنوياً للجهاد في سبيل الله.
وبإمكاننا أن نجملها في ستة أسباب ثم نبيّن مدلولاتها، وهذه الأسباب الستة يقول الله تعالى عنها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [الأنفال:45 - 47].(42/3)
السبب الأول: الثبات وعدم الفرار
أول هذه الأسباب: الثبات، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} [الأنفال:45] أي: إذا قاتلتم جماعة من الكافرين {فَاثْبُتُوا} [الأنفال:45].
والثبات: حسي ومعنوي، والأمر بالثبات في الآية يشمل الأمرين جميعاً: الثبات الحسي؛ والثبات المعنوي.
أما الثبات الحسي فهو: ما نعرفه في أحكام الشرع من عدم الفرار عند الزحف، والفرار عند الزحف من الكبائر العظام عند الله عز وجل؛ لأنه يؤدي إلى أن يختل نظام الجيش المسلم، فيشجع -بفراره- جزءاً منهم على الفرار، ويبقى جزء منهم يتعرض للفناء، كما أن العدو أيضاً يطمع في هزيمة المسلمين حينما يفر منهم من يفر من الزحف، فالله سبحانه وتعالى الذي شرع حد المرتد عن الإسلام -لأنه يطعن في الإسلام بدخوله فيه ثم خروجه منه- هو الذي حرم الفرار من الزحف؛ لأن ذلك يعني أن الجيوش الإسلامية أصبحت ضعيفة هزيلة لا تستطيع أن تقف أمام عدوها، ولذلك كان الفرار من الزحف من الكبائر.
وهناك آية أخرى قد يفهم بعض الناس أن بينها وبين هذه الآية تعارضاً، وهي قوله تعالى في أول السورة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [الأنفال:15 - 16] فالأمر في تلك الآية مطلق (فاثتبوا)، بينما هذه الآية جوزت التولي من موقع المعركة في حالتين: 1 - أن يكون متحرفاً لقتال: فالمقاتل له أن يبحث عن مكان وموقع أحسن لمواجهة العدو، وهذا ما يسمى بـ (تكتيك القتال).
2 - أن يكون متحيزاً إلى فئة: أي: يرى جماعة من المسلمين قد أحاط بها العدو، فيريد أن ينصر هذه الجماعة من المسلمين.
وعلى هذا نقول: تحمل تلك الآية المطلقة على الآية المقيدة: أي: (فاثبتوا) إلا في تلك الحالتين اللتين ذكرهما الله تعالى بقوله: {إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} [الأنفال:16].
أما أن يكون المسلم جباناً في نفسه، فما أن يدخل المعركة، ويرى العدو أمامه حتى يفر منه كاشفاً بذلك عورة المسلمين، فذلك أمر محرم شرعاً، وهو أمر خطير يعطي صورةً سيئة عن الإسلام، ويعرض الأمة المسلمة إلى الفناء والدمار، فيتسلط العدو على البقية الباقية التي لم تفر فلا تستطيع المقاومة؛ لأن نظام المعركة قد اختل.
لكن هذا الأمر بحرمة الفرار مقيد بمقاييس معينة، وهذه المقاييس نجدها في قوله تعالى في آخر السورة: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [الأنفال:65].
ومعنى ذلك: أنه لا يجوز الفرار من الزحف ما دامت نسبة المسلمين إلى الكفار قد بلغت واحداً إلى عشرة، ثم نُسخ هذا، وخفف عن الأمة الإسلامية هذا العدد وهذا المقياس، فألزم الله عز وجل أن يقف المسلم أمام اثنين والمائة أمام مائتين، وذلك في قوله تعالى: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [الأنفال:66].
ومعنى ذلك: أن الأمر الذي استقر عليه الإسلام أن عدد الكافرين إذا كان ضعف عدد المسلمين فلا يجوز الفرار من الزحف، وإذا زاد العدد أكثر من ذلك، فللمسلمين أن ينسحبوا بطريقة منظمة تحددها قيادة الجيش، كما فعل خالد بن الوليد رضي الله عنه في يوم مؤتة حينما تسلم قيادة الجيش بعد مقتل القادة الثلاثة، عندها وجد خالد أن جيش المسلمين بأعداده القليلة لا يقوم لجيش الروم بأعداده الهائلة، فسارع بإعادة تنظيم جيشه، وانسحب بالمسلمين بطريقة منظمة؛ ليحافظ على بقية الجيش الإسلامي، وهذا لا يعد فراراً من الزحف.
وعلى كل فهذا الأمر مقرر في كتب الفقه، بل إن له أدلته من نصوص القرآن، لكن هناك ثبات يغفل عنه الناس، وأرى الحاجة إليه ملحة جداً في أيامنا الحاضرة: وهو ثبات القلوب والأفئدة ثبات العقيدة، فلربما يعتمد الناس على غير الله، ولربما تعلقت قلوبهم بغير الله، وتزعزعت عقائدهم وانهارت معنوياتهم إذا واجههم عدو متسلط وطاغية من طغاة الأرض، وعاث جنوده في الأرض فساداً، وداسوا التوراة والإنجيل والقرآن بأقدامهم، وهذا منهج من مناهج مبدئهم، ولا عجب! وهو من المبادئ المتبعة لدى هذه الأحزاب التي تحاربنا اليوم.
وتعلق الناس بغير الله في مثل هذه الأيام هو الشيء الذي أصبحنا نخاف منه اليوم؛ لذلك نرى أن كثيراً من الناس تعلق بغير الله عز وجل، واعتمد على القوة الكافرة، واعتبر أن القوة البشرية هي النصر، لم يقل: إنها سبب النصر، وإنما قال: هي النصر! وحقيقة الأمر أن هذه القوى هي أسباب، وإذا أراد الله تعالى أن تكون سبباً للنصر كانت كذلك، وإذا أراد الله تعالى أن يبطل مفعولها فلن يكون لها أثر في ترجيح كفة المعتمدين عليها؛ لأن كل شيء بيد الله عز وجل، ولا يمكن أن يكون النصر بيد الخلق، والله تعالى يقول: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران:126].
ويظهر ذلكم النصر الإلهي جلياً في معركة بدر إذ كان عدد المسلمين ثلاثمائة وبضعة عشر مقاتلاً، يلاقون ألفاً من الكافرين، فلم يكن هناك تكافؤ في العدد ولا في العدة، فالمسلمون لا يملكون من السلاح ما يكفيهم، فما لبثت أن جاءت أوامر الله سبحانه وتعالى التي أصدرها للملائكة: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال:12] فجاء الخبر أولاً: {أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال:9]، فما معنى مردفين؟ معناه: أن كل واحد من الملائكة أردف معه مجموعة، حتى بلغت هذه المجموعة خمسة آلاف من الملائكة كما أخبر الله عز وجل في سورة آل عمران: {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران:125] فكانت الملائكة في بدر خمسة آلاف؛ وكل واحد من هؤلاء الملائكة مسوم، وموجه من عند الله، ومزود بالسلاح، وكان جبريل أحد هؤلاء الملائكة، وهو -كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم- له ستمائة جناح، ويستطيع أن يحمل الأرض كلها بجناح من أجنحته ويقلبها، كما فعل بديار قوم لوط، لكن الله جلت عظمته أراد أن يكون ذلك زيادة في التنكيل بالمشركين، وشرحاً لصدور المؤمنين.
وما جاء هؤلاء الملائكة المسومون بالنصر، إنما قال الله تعالى عنهم: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ} [آل عمران:126] فكان نزولهم مجرد بشرى، ولكي تطمئن القلوب، ولكي يستبشر الناس بأن النصر قد أقبل، وحتى ينام المسلمون في تلك الليالي آمنين مطمئنين وهم ينتظرون موقعة بدر، ومن أجل ألا تؤرقهم هذه الأحداث وتزعجهم، فالنصر ليس من هؤلاء الملائكة الخمسة الآلاف، إنما النصر يأتي من عند الله، ولذلك قال الله تعالى عن هؤلاء الملائكة الألف المردفين الذين تعدادهم خمسة آلاف وجبريل معهم: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [الأنفال:10].
ومعنى ذلك: لو جاءت جنود الأرض كلها لتحمي بقعة من الأرض -ونحن لا نناقش مسألة جواز الاستعانة بالكفار ودخولهم جزيرة العرب؛ لأن هذا الأمر أصبح واقعاً- فلن تستطيع أن تأتي بالنصر، فالذي يأتي بالنصر هو الله عز وجل، ولذلك قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [الأنفال:10]، (وما النصر إلا) تفيد في لغة العرب الحصر، بمعنى أنه يستحيل أن يأتي النصر حتى من هؤلاء الملائكة، وليس هؤلاء الذين جيء بهم ليدافعوا عن بلاد المسلمين أقوى من الملائكة.
وقبل نهاية الكلام عن السبب الأول من أسباب النصر أؤكد على أنه لابد من فهم معنى قوله تعالى: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} [الأنفال:45] لابد أن تثبت العقيدة، وأن تستقر النفوس إلى أن النصر لا يأتي إلا من عند الله عز وجل، وأن هذه الأسباب لا تغني من الله عز وجل شيئاً، ولذلك يقول العلماء: الأخذ بالأسباب مع الاعتماد على المسبب سبحانه وتعالى عقل، والاعتماد على الأسباب وحدها كفر بالله تعالى، وإلغاء الأسباب نقص في العقل، معنى ذلك: أنه لابد من الأخذ بالأسباب بشرط أن يقترن بها الاعتماد على الله سبحانه وتعالى.
فواجبنا الذي يحتمه علينا ديننا هو: الثبات في مثل هذه المواقف الرهيبة التي تعيشها أمتنا اليوم: ثباتاً في الميدان عند ملاقاة العدو، وعدم الفرار من الزحف، وثباتاً في العقيدة والنفس بحيث يشعر هذا المسلم أن النصر لا يأتي إلا من عند الله سبحانه وتعالى.
وحين ينزل الله نصره فإن أكثر ما يخشى على الناس هو اهتزاز عقيدتهم، فيؤدي ذلك إلى أن تتعلق النفوس بهؤلاء الكفرة الذين استعان بهم المسلمون، ثم تزيد الأمور خطورة، ويُنسى مالك النصر وواهبه وهو الله سبحانه وتعالى الذي يُنزل النصر.
فمن لوازم اليقين بالله أن يتعلق القلب بالله، وتترسخ الثقة به عز وجل قبل المعركة وبعد المعركة، وحتى نلقى الله سبحانه وتعالى، ولابد أن يكون ثبات العقيدة في القلب والجنان ثباتاً يوافقه القول والعمل؛ حتى لا نطلب النصر -دائماً وأبداً- إلا من عند الله سبحانه وتعالى.(42/4)
السبب الثاني: الإكثار من ذكر الله وخاصة في ساحة المعركة
السبب الثاني لتنزل النصر: ذكر الله، قال تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:45] فذكر الله سبحانه وتعالى من أكبر أسباب النصر، ولذلك كانت الحصون تهتز وتتساقط ويستسلم أهلها حينما يسمعون تكبير المسلمين قائلين: الله أكبر، وكان كلما استعصى فتح حصن من الحصون في عهد الرسول عليه السلام وفي عهد سلفنا الصالح -في عهد الفتوحات- كان ترديدهم (الله أكبر) أشد من القنابل الموجودة في عصرنا الحاضر، إذ كانت تهتز لها الحصون، وتتساقط بإذن الله عز وجل، ويدخلها المسلمون فاتحين.
وهذه القوة البشرية الموجودة في الأرض هي تحت تصرف الله عز وجل، وفي قبضته، والله تعالى أكبر منها وأكبر من قوى الدمار والشر التي يملكها البشر؛ ولذلك لابد من ذكر الله عز وجل سواء كان الذكر باللسان أو بالجوارح أو بالقلب.
فذكر القلب: أن يتعلق بالله سبحانه وتعالى ويتوكل عليه.
وذكر الجوراح: بالعبادة والطاعة لله سبحانه وتعالى.
وذكر اللسان: اللهج بالثناء عليه وتسبيحه وتحميده.
أما إذا كان المسلمون قبل المعركة في لهو ولعب حتى يفاجئوا بساعة الصفر، فلن يتحقق النصر لأمة هذه حالها -في مثل هذه الظروف- ولن يتم النصر إلا إذا تعلقت هذه الأمة بالله عز وجل.
ولذلك يقول الله تعالى: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [الأنعام:43] فالتضرع هو المطلوب في مثل هذه الظروف، فعلينا دائماً أن نرفع أكف الضراعة إلى الله عز وجل: يارب! يا رب! هذا هو التضرع.
يقول الله تعالى عن الأمم التي أنزل بها بأسه وعذابه: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون:76].
فنعلم يقيناً أن الكفار والطغاة والظلمة والمتجبرين لا يتسلطون على بلاد المسلمين إلا بتسليط من الله عز وجل، وهذا عذاب من عند الله؛ لأن الأمة الإسلامية قد ارتكبت كثيراً مما حرم الله عز وجل، وإن إرهاصات هذا العذاب قد بدأت، ولعلها تكون تربية من الله عز وجل وإنذاراً لهم لعلهم يرجعون، فإن الله تعالى يقول: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41] فالفساد موجود في البر والبحر، وحتى في الجو.
وهذه الأحداث ربما ترد الناس إلى دين الله عز وجل، وتعيدهم إلى الحق، وتعلمهم أن النصر لا يأتي إلا من عند الله عز وجل؛ لأن الله تعالى يقول: {بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41] و (لعل) إذا جاءت من الله فليس معناها الترجي ولا التوقع كما نعرفها في لغة العرب، وإنما معناها: تحقق الوقوع وتأكيده، فمدلول الآية تأكد رجوع الخلق إلى الله إذا أذاقهم بعض العذاب على ما اجترحوه من الشر، وهذه بشرى من الله سبحانه وتعالى، حيث بين الله أن الناس عند الشدة يلجئون إلى التوسل والخضوع بين يدي الله عز وجل.
بل إن المشركين كانوا إذا ركبوا في البحر وهبت ريح عاصف، واضطربت السفينة يفزعون إلى الله عز وجل، ولا يفزعون إلى أحد سواه، حتى الأصنام التي نصبوها حول الكعبة -وعددها ستون وثلاثمائة- لم يكونوا يفزعون إليها في حال الشدة، وإنما يرجعون إليها في حال الرخاء، أما في الشدة فكانوا يفزعون إلى الله عز وجل وحده، كما قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:67]، وقال جل في علاه: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت:65] فهذا حال أولئك المشركين الذين يعبدون الأوثان، وأولى بها أن تكون صفة من صفات المؤمنين الموحدين.
ولكن لما فوجئت هذه المنطقة -أسأل الله أن يحفظها بحفظه- بهذه الأحداث على أيدي هؤلاء الطغاة الذين يريدون بها سوءاً، ويأبى الله إلا أن يتم نوره؛ رأينا أناساً فزعوا إلى كل شيء إلا إلى التوبة، فادخروا الأرزاق والأطعمة والسرج والأشياء التي تتخذ احتياطاً للحرب دائماً وأبداً كما هي العادة، ولكن لم يفكر أحد أن يغير وضع بيته أو سوقه أو مجتمعه أو أهله أو زوجته أو ولده إلا من رحم الله، والخير كثير في هذه الأمة إلى يوم القيامة، لكن الأكثرية الساحقة ما رأينا أحداً منهم فكر في تغيير شيء من واقعه؛ على كل المستويات: الرسمية والشعبية، وربما يكون هناك تغيير بعد هذه الأحداث؛ لأن سنة الله تعالى في هذه الحياة أن يؤدب ويربي هؤلاء الناس ويردهم إليه، كما قال: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41].
فإذا كان المشركون يرجعون إلى الله عز وجل في حال الشدة، فنحن أولى أن نرجع إلى الله عز وجل في مواجهة مثل هذه الأحداث، ولعلها من أحلك الفترات -في اعتقادي- التي مرت على هذا البلد منذ سنين طويلة.
فمن يراقب الموقف والأحداث فسيقول: إن هؤلاء الناس إما أن يكونوا شجعاناً شجاعة منقطعة النظير، وإما أن تكون القلوب قد ماتت، فإذا كانوا يسمعون بأن عدواً متربصاً مجرماً يملك قوة مبيدة من قوى الأرض المادية، ويهدد بلاد الإسلام، ورغم ذلك لا يزال المسلمون لا يغيرون من حال واقعهم؛ فهذه إما شجاعة منقطعة النظير! وإما غفلة شديدة رانت على القلوب! وكان ما كان؛ ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، فالأولى لنا أن نرجع إلى الله، فإن الرسول عليه السلام -وهو الذي غفر الله تعالى له ما تقدم من ذنبه وما تأخر- قام في ليلة بدر يجأر إلى الله عز وجل، مع أنه قائد الأمة، وليس هناك من يعبد الله في الأرض غيره وغير هذه المجموعة التي كانت معه عليه السلام، وسوى عدد قليل ممن بقي في المدينة، فقام عليه السلام يتضرع بين يدي الله، ويناشد ربه أن ينجز له ما وعده، ويقول: (اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تُعبد في الأرض) إلى غير ذلك من الأدعية والتضرع بين يدي الله عز وجل، فكان يرفع يديه إلى السماء حتى كان يسقط رداؤه من على كتفيه، فيضع أبو بكر الصديق رضي الله عنه رداءه على كتفيه، ويقول: (يا رسول الله! ارفق بنفسك، فإن الله منجز لك ما وعدك).
لكن
السؤال
هل المسلمون اليوم يتضرعون بين يدي الله؟ وهل هناك تهجد في آخر الليل وبكاء بين يدي الله عز وجل وتضرع أم أن الغفلة ما زالت تضرب أطنابها في قلوب الناس؟ بل نطلب أقل من ذلك ونقول: هل منا من فكر أن يطهر بيته مما حرم الله من الأفلام والأغاني والموسيقى؟ فالله تعالى يقول: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} [النحل:45 - 47] فيستمر النقص شيئاً فشيئاً حتى تنتهي النعمة.
ثم يبين الله تعالى في القرآن أن سنة الله في هذه الحياة أن يمتحن الناس بالمصائب والبلايا، فإذا لم يجد هذا الامتحان، ولم يرعوِ هؤلاء الناس، فإن الله تعالى يمتحنهم بالنعم والخيرات والأمن والاستقرار، فإذا لم تنفع الثانية جاء العذاب بعدها مباشرة.
وهاتان المرحلتان قد أدركتهما في عمري، وأكثر من في مثل عمري قد أدرك هاتين المرحلتين، فلقد كنا في شظف من العيش، وكنا في جوع ومسغبة حتى فجر الله لنا هذه الخيرات من تحت أقدامنا، وكنا في خوف وذعر حتى هيأ الله لنا الملك عبد العزيز رحمه الله، فوحد الجزيرة العربية في ظل الإسلام، وانتهت المرحلة الأولى، ثم جاءت المرحلة الثانية، وأصبحنا في رخاء ونعيم وأمن واستقرار، وإذا قيل لأحد منا: اتق الله يا أخي! أنت في نعمة، وكنت في جوع ومسغبة، يقول: أبي وجدي عاشا تلك الفترة، وقد انتهت! وقد جاء ذكر هذا الموقف كله في كتاب الله عز وجل، حيث قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} [الأعراف:94] والبأساء هي: الحروب والفتن وعدم الأمن، والضراء: الجوع والمسغبة، ثم قال تعالى: {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ} [الأعراف:95]، والمقصود بالسيئة هنا: الجوع، فأبدل الله مكان الجوع الشبع، حتى إن بعض الناس صار لا يعرف كم مقدار رأس ماله الذي لا يحصر، فصار يتقلب في الخيرات، والنعيم، والقصور، والترف، والرخاء، والطمأنينة.
قال: (ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ) المصائب، (الْحَسَنَةَ) النعيم، {حَتَّى عَفَوا} [الأعراف:95] أي: زادت الأموال وزاد الأهل وزادت القصور، فإذا قيل لهم: اتقوا الله {قَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ} [الأعراف:95] فيحتج بأن الدنيا تتقلب، وليست هذه ابتلاءات من الله، زاعماً أن آباءه وأجداده ما عاشوا هذه النعمة التي يعيشها اليوم، فما كانت النتيجة؟ {فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [الأعراف:95].
فهذه نتيجة امتحانين وليس امتحاناً واحداً، وقد مرّ هذان الامتحانان بنا جميعاً، وأكثرنا قد أدرك هاتين الفترتين: الجوع والخوف، والشبع والأمن والطمأنينة.
ونحن نرى أنه منذ سنوات والعالم يُتخطف من حولنا، ونحن نعيش في ظل حرم آمن، فبمقدار ما طبقنا من شريعة الله عز وجل أعطانا الله من الأمن والرخاء والطمأنينة، وليس معنى ذلك أننا أمة بيننا وبين الله نسب! إنما هي سنة الله تعالى في الحياة: خط مستقيم مرسوم، من سار عليه أمن، ومن انحرف عنه يميناً أو شمالاً عُوقب، ولذلك يقول الله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:45].(42/5)
السبب الثالث: التزام أوامر الله تعالى ورسوله في كل الأحوال
ثم يقول تعالى مبيناً السبب الثالث للنصر: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال:46].
فعند مقابلة الفئة الكافرة في المعركة وقبل مقابلتها وبعد مقابلتها، لابد من طاعة الله ورسوله طاعة مطلقة، لا خلاف فيها ولا اعوجاج ولا انحراف، ليست هناك خيرة، وإنما الخيرة لله عز وجل ولرسوله.
فلقد عُوقب الصحابة -وهم خير البرية- يوم أحد بسبب معصية صغيرة، وذلك حينما قال النبي عليه السلام للرماة في ذلك اليوم: (اثبتوا على الجبل، ولا تنزلوا ولو رأيتم الطيور تتخطفنا) فلما تقهقر المشركون، وبدأ المسلمون يجمعون الغنائم، ظن الرماة الذين كانوا على رأس الجبل أن المعركة قد انتهت، وأن الوقت قد حان للنزول، فنزلوا متأولين، ومع ذلك فإن الله تعالى يقول: {وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} [آل عمران:152] وهذه المعصية أحاقت بالمسلمين هزيمة قاسية؛ حتى إن الرسول عليه السلام شج رأسه، وكسرت رباعيته، ووقع في حفرة، حتى أحاط به المسلمون يحمونه ويذودون عنه أذى الكفار، وكل ذلك كان بسبب معصية خمسين رجلاً من المسلمين، لا ملايين البشر، وكانت معصية صغيرة حسب رأيهم، وكانت بتأول، ومع ذلك فإن الله تعالى يقول: {وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} [آل عمران:152].
وإذا بدأنا نستعرض معاصي الناس اليوم في ساعة المعركة، فسيطول بنا المقام، وهي معلومة لدى الجميع، ولكن نقول: إن الله تعالى شكور حليم لطيف، ولولا لطف الله سبحانه وتعالى لما تحقق لنا النصر، لكن الله تعالى قد يعطينا النصر إما امتحاناً، وإما لحملنا على الرجوع إليه عز وجل، ولذلك أقول: لابد من التوبة في مثل هذه الأيام، ولابد من مراجعة الحساب، ولابد من الإنابة إلى الله عز وجل {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الزمر:54 - 59] فهذه المعاصي لربما تحبط كل سبب، وتبطل مفعول كل سلاح؛ فلا بد من العودة إلى الله عز وجل.
وفي ساحة المعركة يغربل الله عز وجل المؤمنين ويمتحنهم، ولقد ذكر الله تعالى في القرآن قصةً تصوِّر هذا الأمر، ألا وهي قصة جالوت وطالوت، فإن الله سبحانه وتعالى أخرج مع طالوت أمة كبيرة للجهاد في سبيل الله، فانقسموا إلى قسمين: قسم عصوا الله، فتخلفوا عن المعركة، وكانوا يمثلون الأكثرية الساحقة.
وقسم التزم بأمر الله عز وجل فتحقق لهم النصر، وإن كان عددهم قليلاً.
وتفاصيل هذه القصة أن الله عز وجل بعث لبني اسرائيل ملكاً يُدعى طالوت وأمرهم بالقتال معه، فكان منهم أصحاب مقاييس مادية، نظروا بمنظار مادي إلى طالوت، وقالوا: لم يؤت سعة من المال؛ فكان هذا سبباً من أسباب تخلفهم عن المعركة؛ لأن النظرة المادية دائماً تؤدي إلى الغفلة عن القدرة الإلهية، ومن ثم تؤدي إلى الهزيمة النفسية.
ثم أراد الله سبحانه وتعالى أن يمتحنهم، فأجرى لهم نهراً بارداً وهم عطاش، فقال لهم: لا تشربوا من هذا النهر إلا بمقدار شربة واحدة واتركوا البقية {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} [البقرة:249] وهذه هي المعصية الثانية؛ حيث شرب أكثرهم من ماء النهر ولم يتقيدوا بما أمروا به.
ثم بعد ذلك حينما حانت لحظة المواجهة، وقف الناس في جيش طالوت وقد أرهبتهم قوة البشر: {قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} [البقرة:249] فكان ذلك سبباً ثالثاً من أسباب الزعزعة التي حلت بجنود طالوت؛ حيث استعملوا المقاييس المادية وغفلوا عن المقاييس الروحانية.
إلا أن الفئة القليلة التي ثبتت انتصرت في المعركة لأسباب: أولاً: هذه الفئة لم تشرب من النهر طاعة لله عز وجل.
ثانياً: لما رأوا العدو أيقنوا بنصر الله سبحانه وتعالى، وقالوا: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:249] فكان تعلقهم بالله لا بالبشر، وكان نظرهم إلى الكيف لا إلى الكم.
ثم جاءت القضية الأخيرة وهي التضرع بين يدي الله عز وجل، فلما برز هؤلاء القلة الذين لم يشربوا من النهر، ولم يدخل في قلوبهم خوف غير الله عز وجل، ورأوا العدو؛ تضرعوا إلى الله عز وجل: {قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة:250] ثم تحقق النصر للعدد القليل، وقد خاف من الهزيمة العدد الكثير، قال تعالى: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:251]، بالرغم من قلة الأسباب لكن النصر كان بإذن الله.
إذاً: فالمقاييس المادية لا تصلح أن تكون ضابطاً لتنزل نصر الله عز وجل أو حلول الهزيمة في حق أي فئة من الفئات.(42/6)
السبب الرابع: اجتماع كلمة المسلمين وعدم التنازع والاختلاف
السبب الرابع من أسباب النصر هو ما يدل عليه قوله تعالى: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46].
وهذا عامل مهم من عوامل النصر، فإن وحدة الصف تؤدي إلى ظهور مواطن القوة في أي تجمع مهما كان قليل العدد، وبالعكس من ذلك فإن الخلاف شر، والتنازع لا يؤدي إلا إلى الفشل والضعف، وقد بين الله عز وجل عواقب الفشل في هذه الآية بقوله: {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46].
كما بين النبي عليه السلام الحكم على من سعى في تثبيط المسلمين، وذلك في حديث عرفجة بن شريح قال: سمعت رسول الله عليه السلام يقول: (ثم ستكون بعدي هنات وهنات، فمن أراد أن يفرق أمر أمة محمد عليه السلام وهم جميع فاضربوه بالسيف)، وفي رواية أسامة بن شريك قال: قال عليه السلام: (فمن رأيتموه يريد تفريق أمر أمة محمد عليه السلام وهم جميع فاقتلوه كائناً من كان من الناس).
وهذا الحكم من الرسول عليه السلام إنما يدل على مدى خطورة الفرقة والنزاع على الصف الإسلامي، وقد تجلى هذا الأمر واضحاً في أحداث غزوة أحد؛ حين أقدم المنافق ابن سلول على ترويج بياناته المثبطة، والتي أدت في نهاية الأمر إلى رجوع ثلث جيش المسلمين معه إلى المدينة.
ومن هنا فإن التنازع والاختلاف في المجتمع المسلم له آثاره الخطيرة على الأمة، سواء كان هذا التنازع على مستوى الأفراد أو المجتمعات، إلا أن التنازع الأكثر خطراً هو الذي يتولاه ويحمل رايته أهل الريادة والزعامة في الأمة، والذين يمثلهم أهل العلم وذوو السلطان، فالدولة الإسلامية على مر العصور ما فتئت قوية يمتد سلطانها من مشرق الأرض إلى مغربها، إلى أن دب الخلاف بين الأمراء والسلاطين، فأضحى كل واحد منهم يكيد للآخر، إلى أن بلغ الأمر ببعضهم إلى أن يستعين بالنصارى الصليبيين على جيرانه من الإمارات المسلمة، حتى باتت إمارات المسلمين هدفاً لكل رام، وغرضاً لكل طامع، ومن أمثلة هذه الصراعات والتي سطرها التأريخ بالمداد الأحمر، ما حصل من صراعات وحروب بين أمراء الطوائف في الأندلس، والذي أدى في نهاية الأمر إلى سقوط الأندلس حاضرة الإسلام في أوروبا، والتي ما برح العالم يبكيها عقوداً من الدهر.(42/7)
السبب الخامس: توطين النفس على الصبر خاصة عند لقاء العدو
لا ننسى أن نشير إلى ما قاله الله تعالى واصفاً حال الفئة القليلة من قوم طالوت حين تراءى لهم جالوت ومن معه، فقالوا: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} [البقرة:250].
وهذا هو السبب الخامس من أسباب النصر، ألا وهو الصبر.
والمسلم لا يتوقف صبره على مواجهة العدو في ساحة المعركة، بل إنه يشمل جميع نواحي حياته في طريق دعوته ودفاعه عن هذا الدين.
ومن أمثلة الصبر في مجال الضغط النفسي الذي يتعرض له المسلم: ما حصل لـ سعد بن أبي وقاص حين أسلم، بينما بقيت أمه على الشرك، فاستعملت هذه الأم كل طريقة لثني ابنها عن اعتناق هذا الدين، فلما عجزت عن ذلك لجأت إلى سلاحها الأخير وهي تعلم مقدار تأثيره على ولدها، فاستغلت حبه لها وبره بها للضغط عليه للرجوع عن دينه، لدرجة أنها امتنعت عن الطعام والشراب، وربطت بين رجوعه عن هذا الدين وبين خروجها من حالة الاضطراب تلك، وخلال ذلك بقي سعد في صراع داخلي بين حبه لأمه وخوفه من أن تهلك نفسها، وبين حبه لدينه ونبيه، والذي لن يتردد في سبيلهما في التضحية بنفسه التي بين جنبيه، فضلاً عن أمه، لكن الصراع بين العاطفة والعقل يغلب فيه العقل حينما يكون الإيمان قد ملأ القلب واستقر في النفس، فقال: (اسمعي يا أماه، والله لو كان لك مائة نفس فخرجت نفساً نفساً ما تركت ديني؛ فإن شئت كلي وإن شئت فلا تأكلي) فأكلت في آخر الأمر؛ لما رأت عدم جدوى هذه الطريقة مع ابنها المؤمن، فأنزل الله تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2]؛ لأن العاطفة في هذا الموقف تعد فتنة {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:3]، ثم جاء الأمر من الله تعالى بعد ذلك فقال: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [العنكبوت:8] لكن هذا الإحسان لابد أن يكون له ضوابط، فلا يصل إلى درجة أن يتنازل المرء عن دينه، {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [العنكبوت:8].
فهذه الفتن قد تعرض على نفوس كثير من الناس: فتنة المال فتنة الشهوة فتنة حب الحياة وكراهية الموت فتنة العاطفة فتنة الأهل والقرابة إلى غير ذلك من الفتن التي تُعرض على كثير من الناس وتتكرر، ولا سيما في هذه الظروف التي بات فيها أبناء المسلمين عرضة لهذه الفتن، وربما تعرض الإنسان لموجة عارمة من الفتن: فتنة مع أبيه مع أمه مع أقاربه مع مجتمعه، ولمواجهة ذلك لابد أن يكون هناك إيمان أصلب من العاطفة، حتى لا ينجرف هذا الإنسان أمام العاطفة، والأمة لا تدرك النصر في هذه الحياة -سواء كان نصراً على النفس أو نصراً على العدو- إلا بالصبر، ولذلك قال الله تعالى: {وَاصْبِرُوا} [الأنفال:46] ثم قال: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:46] وفيه تعليل للصبر يبين عاقبته حتى يسهل أمره.
ومعية الله سبحانه وتعالى هي التي تمهد لكل شيء في هذه الحياة، فإذا كان الله معك وكنت مع الله فإن الله تعالى لا يضيع أجر المحسنين.(42/8)
السبب السادس: أن يكون الخروج إلى الجهاد طلباً لمرضاة الله ورفعة دينه
السبب السادس والأخير من أسباب النصر هو المفهوم من قوله تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ} [الأنفال:47] وهذه الآية تحكي قصة خروج كفار قريش في بدر، وذلك حين خرج المسلمون مع رسول الله لاعتراض عير لقريش، فقام أبو سفيان باتخاذ طريق الساحل حتى لا يواجه المسلمين، فلما تم له ذلك أرسل إلى أهل مكة ألا يخرجوا؛ لأن العير قد سلمت من محمد، إلا أن أبا جهل أبى ذلك، وقال: والله لا نرجع حتى نرد بدراً وننحر الجزور ونشرب الخمر وتعزف علينا القيان؛ حتى تعلم العرب بمسيرنا فلا يزالون يهابوننا أبد الدهر، فهو مصمم على أن يحارب الإسلام بالرغم من أن عير قريش قد سلمت! فهو إنما خرج لإحقاق الباطل ولإظهار الفساد والاستكبار في الأرض.
وقد نهى الله عز وجل المسلمين أن يخرجوا مثل هذا الخروج، فقال: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ} [الأنفال:47] أي: بطرين، ومن أجل أن يرى الناس مكانهم في هذه الأرض ويهابوهم، وهؤلاء هم الذين أحلوا قومهم دار البوار، فعلى المسلمين إذا خرجوا للجهاد في سبيل الله أن يكون خروجهم لهدف سامٍ وواضح، فإن أول سبب من أسباب النصر هو حسن القصد، فيجب أن يكون الخروج من أجل أن يكون الدين كله لله، ومن أجل الدفاع عن بلاد المسلمين ومقدساتهم، ومن أجل ألا يتسلط الكافرون على المؤمنين، وألا تكون للكافر شوكة في هذه الأرض، وألا تطأ الأقدام القذرة أرض الإسلام ومقدسات المسلمين، ومن أجل أن ترتفع راية الإسلام وراية التوحيد، وهذا هو الهدف الذي من أجله يجب أن يجاهد المسلم ويقاتل؛ أما من كان خروجه في سبيل الوطن دون أن يكون قصده الدفاع عن بلاد المسلمين، أو كان خروجه من أجل الشهرة أو يقال: إنه شجاع، فهذا يكون حطباً لجهنم، وقد ورد في الحديث أن أول من تسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة، وجاء فيه: (ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله، فيقول الله له: ماذا فعلت؟ فيقول: أي رب! أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت، فيقول الله: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، ويقول الله: بل أردت أن يقال: فلان جريء فقد قيل) فمع أنه استشهد في سبيل الله حسب ظواهر الأمور، إلا أنه يكون من أول من يدخل النار والعياذ بالله.
فلابد من إصلاح القلب؛ ولابد من إصلاح القصد، بحيث لا يخرج الإنسان بطراً ولا رياءً، وإنما يكون خروجه من أجل أن ترتفع راية الإسلام، وأن تنخفض راية الشرك والكفر والطغيان في الأرض.
أما لو خرج الجيش مغروراً بعدده الكبير؛ أو بعتاده وتقنيته العصرية المتطورة التي بلغت الذروة، ففي مثل هذه الحال يأتي الخطر، خصوصاً إذا صدر هذا الفعل عن أمة مسلمة تخرج مغرورة بقوتها أو بعددها أو بعتادها أو بأسلحتها؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ} [الأنفال:47].
(والبطر) الكبر وهو: غمط الحق واحتقار الناس، (ورئاء الناس) من أجل أن يرى الناس مكانهم في هذه الأرض كما قال أبو جهل عليه لعنة الله! فينبغي لمن أراد الخروج للقتال أن يخرج خاضعاً لله عز وجل، يمد أكف الضراعة لله سبحانه وتعالى، ويستكين لله سبحانه وتعالى، ويطلب النصر من عند الله دون أن يغتر بالقوة.
ولقد كان عدد المسلمين يوم حنين اثني عشر ألفاً بقيادة الرسول عليه السلام، وكانت هذه الغزوة بعد فتح مكة، ولم يسبق أن اجتمع مثل هذا الجيش في أي غزوة من غزوات الرسول عليه السلام، وبالرغم من كثرة هذا العدد وقلة العدو كانت المعركة في بدايتها لغير صالح المسلمين، وفر الناس لا يلوون على شيء، وبقي الرسول وحده مع طائفة قليلة.
وسبب ذلك: أن أحد المسلمين أخطأ، إذ نظر إلى الجيش الكبير المكون من اثني عشر ألف مقاتل فقال: لن نُغلب اليوم من قلة، وما زاد على هذه الكلمة، فلم يقل: نتحدى القدر، كما يقول ذلك بعض الناس الذين يريدون أن يحاربوا وهم بعيدون عن الله عز وجل، وقد كان قوله: لن نُغلب اليوم من قلة.
بحسن قصد؛ فحاقت الهزيمة بالمسلمين، وفر أكثر المسلمين من المعركة وعددهم حينذاك اثنا عشر ألفاً، وما بقي مع الرسول عليه السلام إلا عدد قليل، ثم أمر الرسول عليه السلام عمه العباس أن ينادي: يا أهل الشجرة! يا أهل بيعة الرضوان! فاجتمع المسلمون حول النبي عليه السلام، ودارت المعركة مرة ثانية، ولنا أن نتصور الهزيمة التي كادت أن تنزل بجيش الرسول عليه السلام بسبب كلمة، فلما فاء المسلمون إلى ربهم وعرفوا أنهم بحاجة إلى نصر الله تعالى، دارت المعركة مرة ثانية، وانتصر المسلمون، وقد صور الله تعالى هذا الموقف فقال: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} [التوبة:25] بالرغم من سعة الأرض فقد أصبحت في نظركم ضيقة، {ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة:25] أي: هربتم من حول الرسول عليه السلام، {ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة:26].
فالغرور هو الذي يبطل مفعول القوة، والقوة مهما كانت ضارية فيها العتاد والسلاح والتقنية الحديثة، إلا أنه لا يمكن أن تنتصر إلا بالخضوع لله عز وجل والاستكانة إليه.
فلابد من الاستكانة لله عز وجل، والشعور بالضعف أمام قوته، والتضرع بين يديه جلت قدرته؛ فلا ينظر المسلم إلى الكثرة، وإلى عدد الطائرات والأسلحة والأموال والجيش والجنسيات المتعددة، وإنما ينظر إلى شيء واحد وهو أن هذه أسباب إذا أراد الله لها أن تنتصر فستنتصر، ولو كانت أقل بكثير من هذا العدد، وإذا أراد الله تعالى أن تنهزم فستنهزم، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال:47].
فيجب علينا تصحيح الهدف، بحيث يكون الهدف هو: الدعوة إلى دين الله، وتطهير الأرض من الفساد، وإحقاق الحق وإبطال الباطل، وإذا كان الهدف غير ذلك فالأمر خطير.
وقوله تعالى: {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال:47] يدل بمفهومه أنه لابد أن تكون هذه القوة من أجل أن تفتح الطريق لدين الله تعالى حتى ينتشر في هذه الأرض، {وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ * وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ} [الأنفال:47 - 48].
وقصة الشيطان معروفة مع ابن آدم، إذ لم يزل يفتنه حتى ورطه وأدخله في متاهات الكفر ثم تخلى عنه، وقد جاء الشيطان إلى أهل مكة في يوم بدر، وكانوا خائفين من كنانة، فقال لهم: (إني جار لكم)، أي: أنا أحميكم من كنانة، وما زال بهم ليخرجوا لقتال محمد صلى الله عليه وسلم حتى خرجوا، فلما تراءى الجمعان ورأى الشيطان الملائكة تنزل من السماء هرب ورمى نفسه في البحر: {وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:48].(42/9)
تجديد العهد مع الله تعالى
إن الأمة الإسلامية بحاجة إلى أن تجدد العهد مع الله عز وجل دائماً وأبداً، وفي ساعة الصفر التي تعيشها أمتنا ومنطقتنا هذه لابد من التوبة الصادقة، والاعتماد على الله عز وجل وحده، ولابد من تفقد أمور المسلمين، ونوجه هذا النداء أولاً إلى المسئولين عن هذه الدولة، ونظن فيهم خيراً كثيراً إن شاء الله.
ونقول: إن قوى البشر التي ملأت هذه الأرض لا تستطيع أن تدفع عنا أمراً من أمور الله عز وجل، والله هو الذي يدافع عن الذين آمنوا، وهذه القوى إنما هي أسباب قد تنفع وقد لا تنفع، فلابد من العودة إلى الله عز وجل، والله تعالى يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، وقد فتح تبارك وتعالى أبواب التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها، فلابد من إزالة كل محرم من المحرمات التي لا ترضي الله عز وجل حتى يتم النصر، ولابد من محاربة الربا، وإصلاح الإعلام، وإصلاح جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولابد من إصلاح أمور كثيرة يعرفها الناس، وهي من بدهيات هذا الدين، وهي تمثل المنهج السليم الذي يجب أن يكون عليه المسلم.
ولا نقول هذا الكلام لغاية ما؛ كما يفعل العلمانيون في أيامنا الحاضرة، والذين يريدون أن يربكوا الدولة في ساعة الصفر، ولكن نقوله ونحن على ثقة بأن الله سبحانه وتعالى سوف ينصرنا بمقدار ما نعزم في قلوبنا على أننا سوف نصلح حينما تستقر الأمور وتعود إلى طبيعتها، فنحن لن نكون كالعلمانيين الذين ما إن طوق العدو بلادنا حتى بدءوا يربكون الدولة من الداخل، ويثيرون القضايا، لكننا سنقدم أنفسنا ودماءنا وكل ما نملك في سبيل الله وفي سبيل الدفاع عن أرض الإسلام؛ لا لأنها أرض وتراب، ولكن لأنها أرض الإسلام وأرض المقدسات، وهي معقل الإسلام الأول والأخير، وفيها قبلة المسلمين.
وإننا في نفس الوقت نطالب من المسئولين أن يستعرضوا الساحة التي يعيشون عليها، وما فيها مما يتنافى مع دين الله عز وجل، وتعاليمه وسلوكه وآدابه، بحيث يتم الإصلاح، وسوف يتم الإصلاح إن شاء الله بجرة قلم منهم إذا أرادوا؛ لأنهم يملكون هذا الأمر، ونحن نملك أن ندعو الله عز وجل أن يثبت أقدامهم ويوفقهم.
ولكن أيضاً لا ننسى أن الشعوب هي مسئولة عن كثير من هذه الأخطاء الموجودة في الساحة، فلابد لكل واحد منا أن يستعرض أمامه ما في بيته، أو ما يستطيع إنكاره مما حرم الله عز وجل، فيعاهد الله عز وجل على التوبة، والله سبحانه وتعالى كريم، {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [الشورى:25]، ونصر الله عز وجل قريب: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:56] فما علينا إلا أن نتعامل مع الله عز وجل بالإحسان، ثم بعد ذلك نأخذ بأسباب النصر ونعتمد على الله عز وجل.
أسأل الله سبحانه وتعالى في مثل هذه الظروف الشديدة أن يوفق ولاة المسلمين للعمل بكتاب الله وسنة رسوله عليه السلام، وأن يعينهم على إحقاق الحق وإبطال الباطل، والضرب بيد من حديد على كل من تسول له نفسه أن يفسد في هذه الأرض، أو يجر على هذه الأمة الويلات والفتن.
اللهم إنا نتوجه إليك -يا أرحم الراحمين- أن تردنا وأن ترد المسلمين إليك رداً جميلاً، ربنا لا تجعلنا فتنةً للقوم الظالمين، ونجنا برحمتك من القوم الكافرين، اللهم إنا نشهدك ونشهد ملائكتك وعبادك الصالحين أننا ننكر كل معصية نراها أو نسمعها، ولا حول لنا ولا قوة إلا بك، اللهم فلا تؤاخذنا بما كسبت أيدينا، ولا بما فعل السفهاء منا، واغفر لنا وارحمنا، أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم وأبرم لهذه الأمة أمراً رشيداً، يعز فيه أهل طاعتك، ويُذل فيه أهل معصيتك، ويُؤمر فيه بالمعروف، ويُنهى فيه عن المنكر، يا رب العالمين! اللهم إنّا نسألك نصراً مؤزراً مبيناً.
اللهم عليك بأعدائك الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، اللهم عليك بطغاة الأرض وجبابرتها، رب لا تذر على الأرض منهم دياراً، إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً، اللهم خذهم أخذ عزيز مقتدر، وأرح المسلمين من شرهم، يا رب العالمين! اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم.
اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً، لا حول لنا ولا قوة إلا بك، اللهم إنا نسألك يا حي يا قيوم أن تزلزل الأرض من تحت أقدام أعدائنا، اللهم أنزل عليهم بأسك الذي لا يُرد عن القوم المجرمين، اللهم انصرنا عليهم، ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به، واعف عنا، واغفر لنا، وارحمنا، أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين.(42/10)
ويمكرون ويمكر الله
لا يزال الكفار والمنافقون يؤذون الله ورسوله والمؤمنين، ويمكرون المكر الشديد في محاربة الإسلام والمسلمين، ولذلك يسلط الله عليهم في آخر الزمان عباده المؤمنين، ويمكنهم من رقابهم.
ومن رحمته سبحانه أنه فتح باب التوبة لكل من أراد العودة إلى الدين، والكف عن إيذاء عباده المؤمنين، ومن لم يتب فإن الله له بالمرصاد.(43/1)
أسباب تسليط الله للمؤمنين على الكافرين
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومن دعا بدعوته وعمل بسنته ونصح لأمته إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذه حلقة جديدة في موضوع آيات القتال والجهاد في سبيل الله من سورة الأنفال التي تتحدث بمجموعها عن الجهاد في سبيل الله، وتتحدث بصفة خاصة عن موقعة بدر وأسبابها، والسر في انتصار المسلمين وانهزام الكافرين.
يقول الله عز وجل: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ * وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:30 - 32] إلى آخر الآيات.(43/2)
مكرهم برسول الله عليه السلام
إن هذه الآيات والتي قبلها تتحدث عن الجرائم العظيمة التي من أجلها سلَّط الله تعالى المؤمنين على الكافرين، وتقدم لنا الجريمة الأولى من جرائمهم، وهي قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30] وتلك الجريمة كانت هي الشرارة التي من أجلها كانت موقعة بدر، ومن أجلها سلط الله المؤمنين على الكافرين ونصرهم عليهم؛ لأنهم أخرجوا رسوله عليه السلام من مكة بغير حق، وطاردوه عند خروجه إلى المدينة.
فالله عز وجل يسلط على من يتجرأ على حدوده جنداً من جنوده وأولياء من أوليائه، ولربما يسلط على المسلمين فجرة كفرة بسبب بعدهم عن الله سبحانه وتعالى، لا عجب من ذلك؛ فإن الله سبحانه وتعالى يقول في الحديث القدسي: (من عصاني وهو يعرفني سلطت عليه من لا يعرفني)، وإذا كان الله تعالى قد سلط المسلمين على المشركين الوثنيين في يوم بدر، فقد سلط على المسلمين في فترات كثيرة متقطعة من التاريخ أعداء أبعد منهم عن الله عز وجل، وقد يسلط الله تعالى على المسلمين المنحرفين كفرة بسبب ما كسبت أيديهم، فلله عز وجل جنود السماوات والأرض يسلط من يشاء على من يشاء.(43/3)
ادعاؤهم المقدرة على الإتيان بمثل القرآن
والجريمة الثانية التي استحقوا بها الهزيمة هي ادعاؤهم المقدرة على الإتيان بمثل هذا القرآن، قال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [الأنفال:31].
لقد كان النضر بن الحارث ومن على شاكلته من الوثنيين المعاندين إذا سمعوا القرآن سخروا منه، وقالوا: هذه أساطير الأولين؛ كما هو منطق كثير من المعاندين للإسلام اليوم، ولربما يكون بعضهم من المحسوبين على الإسلام، كما قال طاغية من طغاة الأرض ذات يوم: إن العقل لم يعد يصدق بما يقوله محمد في القرآن من عصا موسى، وقصة أصحاب الكهف، وإن محمداً يأتي بخرافات ويضعها في القرآن فأخذ الله عز وجل هذا القائل أخذ عزيز مقتدر، ولربما أخذ الله أمة بسبب مقالة رجل يتعدى حدود الله عز وجل ويتجرأ على دينه إذا سكتت عن مثل هذا القول الذي قاله رجل في عهد الرسول عليه السلام.
يقول الله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا} [الأنفال:31] أي: سمعنا ما تقوله يا محمد، {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} [الأنفال:31] أي: إن القرآن كلام نستطيع أن نقول مثله، ولذلك وجد منهم من عارض القرآن وسخر منه وجاء بشيء مضحك زعم أنه يشبه القرآن! وهؤلاء هم المستهزئون الذين يقول الله تعالى عنهم في سورة الحجر: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر:95].
ثم قالوا: {إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [الأنفال:31] أي: ما هذا إلا قصص وخرافات من الأولين يأتي بها محمد ويضعها في القرآن، ويقصدون بأساطير الأولين ما قصَّه الله تعالى من أخبار الأمم السابقة الذين في قصصهم عبرة لأولي الألباب.
فهذه هي الجريمة الثانية من جرائم القوم، والتي كانت سبباً في تسليط المسلمين على المشركين، فليحذر المنسوبون للإسلام الذين يتجرءون في مثل هذه الأيام على مثل هذه المقالات، ويطعنون في كتاب الله وسنة رسوله عليه السلام، ويسخرون من المسلمين ومن دينهم فليحذروا أن يجروا قومهم إلى دار البوار والهلاك والدمار؛ بسبب ما تتفوه به ألسنتهم.(43/4)
طلبهم إنزال العذاب بهم
قال سبحانه: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32] وهذه المقولة قالها أيضاً النضر بن الحارث ومن معه من كبار المعاندين للإسلام، وكان المفروض أن يقولوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه؛ فإن هذا هو أقل ما يقال في حال الشك أو البعد عن الله عز وجل.
وقراءة: (الحقَّ) بالنصب على أن (هو) ضمير فصل ليس له محل من الإعراب، واسم كان: (هذا) وخبرها: (الحقَّ)، أما قراءة: (الحقُّ) بالرفع فعلى أنها خبر المبتدأ (هو) باعتباره مبتدأ، والجملة الإسمية هي خبر كان.
وإنما قال النضر بن الحارث ذلك تأكيداً منه على أن هذا القرآن ما جاء من عند الله، لا أنه يريد حجارة تنزل عليه من السماء، إنما يريد تأكيد الخبر، ويريد أن يثبت للقوم بأن هذا القرآن لم ينزل من عند الله -كما يزعم- ويقول: يا رب! إن كان القرآن نزل من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء.
{أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32] يطلب العذاب أياً كان، وهذا العذاب من السهل أن ينزل؛ لأن القوم تجرءوا على حدود الله، وكفروا به، وسخروا من كتابه، وآذوا رسوله عليه السلام، وأخرجوه من بلده، وحاربوا الإسلام، ووقفوا له عند كل مرصد، لكن حلم الله عز وجل أكبر من ذلك، فالله تعالى لا يعاجل هذه الأمة بالعقوبة، والسر في ذلك: أنها آخر أمة، وكونها آخر أمة فستظل باقية، تتناقل الإسلام جيلاً بعد جيل.(43/5)
أسباب رفع العذاب والشدائد(43/6)
ما جعله الله لهذه الأمة أماناً من الاستئصال
لقد أعطى الله تعالى لأمة محمد عليه السلام أمانين من الاستئصال، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: الأمان الأول: ألا يعذبهم ما دام محمد فيهم حياً، وذلك لا يمنع أن تُعذب طائفة منهم كما حصل يوم بدر، فقد أهلك الله يوم بدر سبعين من رءوسهم، لكن الاستئصال الكامل لهذه الأمة لا يحدث أبداً، بخلاف الأمم السابقة التي قد استؤصل بعضها؛ لأن الله سبحانه وتعالى كلما أهلك أمة جاء بأمة جديدة وأرسل إليها رسولاً جديداً، لكن هذه الأمة هي آخر الأمم، ورسالتها آخر الرسالات، ونبيها آخر المرسلين عليهم الصلاة والسلام، وكتابها آخر الكتب السماوية، ولذلك أعطى الله تعالى لرسوله عليه السلام هذين الأمانين، الأول: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال:33].
والأمان الثاني: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33] ومعنى (يستغفرون): يقولون نستغفر الله، وقيل: إنهم كانوا يستغفرون خصوصاً إذا ركبوا في الفلك ويدعون الله مخلصين له الدين، وقيل: كان أحدهم إذا طاف بالبيت قال: لبيك لا شريك لك.
لكنهم يلوثون هذا التوحيد بقولهم: إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك! وهم مع هذا خيرٌ من مشركي هذا العصر؛ لأن مشركي هذا العصر لادينيون كفرة ملاحدة، لا يعرفون الله في حال الرخاء ولا في حال الشدة، أما أولئك فكانوا يفزعون إليه حال الشدة وينسونه حال الرخاء، ومعنى ينسون الله، أي: يشركون به.
فقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33] دليل على أهمية الاستغفار في ساعة الشدة وأيام الحروب؛ كهذه الأيام التي نعيشها، فهل يستغفر الناس فيها؟! أولئك الذين ادخروا الأرزاق في بيوتهم لسنين خوفاً من الحرب المدمرة هل استغفروا الله تعالى من سيئاتهم؟! إن الله تعالى لا يرفع العذاب عن هذه الأمة إلا إذا استغفرت وتضرعت إلى الله في كشف ما بها كما قال: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:43].(43/7)
لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم
ولا يظن أن الاستغفار كلمة تقال باللسان، بل هو قول وعمل، ولذا نجد أن قوم موسى عليه السلام استغفروا وتابوا وأنابوا ورفعوا أكفَّ الضراعة إلى الله عز وجل أن يكشف ما بهم من أذى فرعون وتسلطه وطغيانه في الأرض، فقضى بنو إسرائيل عمراً طويلاً وهم يقولون: {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [يونس:85 - 86] فمتى استجيب دعاؤهم؟ لقد استجيب دعاؤهم حين غيروا ما بأنفسهم.
أي: حصل شيء من التغيير في الواقع.
فالأمة الإسلامية تمر بأيام شديدة لابد معها من تغيير شيء من الواقع على مستوى الدول والشعوب، فالدعاء والتضرع وحده لا يكفي، فبنو إسرائيل كانوا يقولون طيلة مدة استعباد فرعون لهم: {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [يونس:85 - 86].
فعلمهم الله تعالى كيف يتوبون، وكيف يقدمون المال، ويضحون بأعز وأغلى ما يملكون، وحينئذٍ يتقبل الله تعالى دعاءهم، فقال لهم: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [يونس:87].
هذه هي التغييرات الجذرية التي كانت السبب في رفع العذاب عن بني إسرائيل، وهي التي سوف ترفع عنا ظلم الظالمين وطغيان الطغاة في أيامنا الحاضرة، فإذا كان أمننا الذي بذلنا في سبيله الغالي والنفيس، والذي نعمنا به مدة طويلة، قد حصل له ما حصل في أيامنا الحاضرة؛ فذلك يتطلب منا توبة وإنابة إلى الله عز وجل، بإصلاح أوضاع البيوت والأسر والمجتمع، وإصلاح أوضاع الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية والتنظيمية وغير ذلك، بحيث تكون وفق منهج صحيح.
إن بني إسرائيل لما أمرهم الله بجعل بيوتهم قبلة امتثلوا أمره، وجعلوا بيوتهم قبلة -أي مكان عبادة كالمساجد- من أجل رضا الله عز وجل، ولما نفذوا هذا الأمر من أوامر الله دعوا مرة أخرى، قال تعالى: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس:88] ومعنى ذلك أن التغيير قد وقع.
ولقد استجيب لهم هذا الدعاء؛ لأنه قد حصل منهم بذل في سبيل الله، وتغيير وضع مألوف منذ زمن طويل؛ لذا قال الله: {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ} [يونس:89 - 90] فاستجيبت الدعوة بعد التغيير، وبعد الدعاء والتضرع، أما الدعاء والتضرع وحده فلا يكفي، ولذلك يقول الله تعالى: {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأعراف:5] أقروا أنهم كانوا ظالمين، ولكن بعد أن جاءهم بأس الله.
إذاً: لا بد لتحقيق رفع العذاب من أمرين: الأمر الأول: تغيير أوضاع الناس من سيئ إلى أحسن.
الأمر الثاني: الدعاء والتضرع بين يدي الله عز وجل.
ونحن نطالب الناس اليوم على كل المستويات أن يفهموا أمثال هذه الآيات: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33].
إن الله سبحانه وتعالى لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فإذا كان الناس يحاربون ويقاتلون أعنف عدو على وجه الأرض، وأعتى جبابرة الأرض، فلابد من تجديد توبة، ولابد من تغيير الأوضاع، فإن الخطر يحيط بالأمة الإسلامية.(43/8)
الصد عن سبيل الله والاستهزاء بالمسلمين من أسباب تسليط المسلمين على الكافرين
أيها الإخوة! إن الخطاب في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال:33] ليس خطاباً للأمة في عهد الرسول عليه السلام، ولكنه خطاب خالد إلى يوم القيامة، ولذلك بين الله تعالى في الآية التي بعدها أنهم مستحقون للعذاب، لكن رحمة الله أدركتهم.
قال الله: {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الأنفال:34].
هذه أيضاً جريمة من الجرائم التي بسببها سلط الله تعالى عليهم المؤمنين، فقد كانوا يصرفون الناس عن دين الله، ولربما صرفوا الحجاج والمعتمرين، وكانوا يقولون: نحن أهل البيت وأولياء الله، وهم أبعد الناس عن الله لشركهم ولصدهم للمؤمنين عن المسجد الحرام.
ولا تكون حماية البيت إلا لأولياء الله وللصالحين من عباده، ولا تصلح أن تكون سلطته إلا بأيدي أولئك الذين يحكِّمون شرع الله عز وجل.
ولذلك يبين الله تعالى جريمة من جرائمهم كانت سبباً في عقوبتهم يوم بدر فقال: {وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الأنفال:34] كانوا يمنعون الطائفين والمعتمرين من المسجد الحرام، وكم منعوا الناس من الدخول في الإسلام أيضاً، وهذا شأن دعاة الضلال، فهم لا يكتفون بضلالهم وحدهم، بل يسعون إلى أن يضلوا الناس عن الطريق المستقيم.
ثم قال الله: {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ} [الأنفال:34] يعني: ليسوا هم بأوليائه، وإن كانوا يدعون ذلك بقولهم: نحن أولياء البيت وسدنته.
{إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} [الأنفال:34] و (إن) هنا: حرف نفي بمعنى (ما)، أي: ما أولياء هذا البيت إلا الذين يتقون الله ويمتثلون أمره، فالمسألة ليست مسألة وطن أو مولد، أو آباء وأجداد وأمجاد، لكن المسألة مسألة دين، فمن أخذ به فهو ولي هذا البيت، ومن رفضه فليس من أوليائه.
بعد ذلك يبين الله تعالى أن من جرائمهم أنهم كانوا يضحكون ويسخرون ويصفقون ويصفرون عند البيت، لا سيما إذا رأوا الرسول عليه السلام والمسلمين يصلون، فيتخذون عبادتهم سخرياً ويهزءون بدين الله عز وجل كما يهزأ به كثيرٌ من الناس اليوم، {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال:35].
المكاء: التصفير، والمكَّاء طير يصفر، والماكي الذي يضم يديه ويضعهما عند فمه ويصفر.
والتصدية: التصفيق، فهم يلعبون ويسخرون في وقت الصلاة التي هي أعظم عبادة وأعظم شعيرة فرضها الله عز وجل على هذه الأمة، فإذا رأوا الرسول عليه السلام يصلي صفروا وصفقوا، واكتفوا من الصلاة بذلك التشويش على المسلمين، وهذه أيضاً جريمة من جرائمهم التي كانت سبباً في تسليط المسلمين عليهم، فليحذر الذين يسخرون من دين الله أو الصلاة أو شخصية المسلم أو صفته! وقد أخذ العلماء من هذه الآية النهي عن التصفيق، وقد قال رسول الله عليه السلام: (إنما التصفيق للنساء)، وإذا أخطأ الإمام في صلاته وخلفه الرجال والنساء، فالرجل يسبح والمرأة تصفق.
أما تصفيق الرجال فإنه خلاف الفطرة وخلاف سنة محمد عليه السلام؛ وفيه تشبه بالكافرين الذين كانوا يسخرون من الصلاة بالتصفيق، ولذلك قال الله: {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} [الأنفال:35]، أي: ذوقوا عذاب القتل يوم بدر، وهو بداية العذاب لا نهايته كما أخبر الله، ولذلك لا ينتهي بهم العذاب في الدنيا، بل يتبع هذا القتل عذاب البرزخ، ثم ينتهي بهم الحال إلى عذاب الآخرة الذي لا ينتهي: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ} [هود:107].(43/9)
فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً
لما انتهت موقعة بدر، ورجع المشركون إلى مكة سعى رجالٌ منهم وصاروا يطوفون خلال مكة ويقولون: يا قوم! إن محمداً قد وتركم، وقتل خياركم، ورمل نساءكم، ويتم أطفالكم، المالَ المالَ! أي: ابذلوا المال لحرب محمد مرة أخرى.(43/10)
جهود النصارى لتكفير المسلمين خائبة
إن هذه القضية تشبه إلى حدٍ بعيد ما يُفعل في أيامنا الحاضرة، فقد بخل كثير من المسلمين بالمال الذي لا تقوم دولة الإسلام ودعوته إلا به، وقدَّم الكافرون هذا المال سهلاً من أجل تكفير وتنصير أبناء المسلمين، وحين دعت الكنيسة إلى جمع المال لتنصير أبناء المسلمين، جمعوا في فترة وجيزة مليار دولار.
إن مليار دولار ليس رقماً ارتجالياً، إنه رقم يقصدون به عدد المسلمين؛ فكأنهم قالوا: إن عدد المسلمين مليار، فادفع دولاراً واحداً تُنَصِّرُ به واحداً من المسلمين، ولكن الله تعالى غالب على أمره، ومتم لنوره.
أما المسلمون فإنهم إذا دعوا إلى البذل في سبيل الله أو الدعوة فإن كثيراً منهم يبخلون.
إن هذه هي سنة الله تعالى في الحياة، وقد ذكرها الله تعالى بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال:36].
ورغم هذا المبلغ الضخم الذي جمعه دعاة التنصير فإن الكنيسة ما استطاعت أن تنصر واحداً من المسلمين، اللهم إلا طفلاً ولد على الفطرة وربي على غير الفطرة.
إن الله تعالى حافظ دينه الذي هو فطرته في نفوس الناس: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:30]، {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:172].
وهذه الفطرة لا يستطيع أحد أن ينتزعها من هذا الإنسان إلا لظروف خاصة، ولذلك بشر الله تعالى المسلمين وقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36]، لقد رأينا معنى هذه الآية متجسداً في قصة العالم الإسلامي في وضعه الحاضر، إذ تبذل الأموال لإقامة مراكز للتنصير، ثم يأتي داعية أعزل لا يملك من المال إلا النزر اليسير، فإذا بهؤلاء الذين نصرتهم الكنيسة يعودون إلى الفطرة ولقد شاهدنا هذا في بعض مناطق في أفريقيا وقلنا: صدق الله العظيم: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال:36] فأموالهم الطائلة التي تبذل لا تستطيع أن تحرف أبناء المسلمين عن الفطرة؛ ونحن مستبشرون بموعود الله عز وجل، وهذه قضية يعيشها العالم في كل فترة من فترات التاريخ؛ حيث تبذل الأموال من أجل صدّ أبناء المسلمين عن دينهم، لكن الحقيقة: {فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} [الأنفال:36].(43/11)
دعوة المسلمين للإنفاق في سبيل الدعوة إلى الله
إننا ندعو المسلمين إلى البذل حتى يكون بذلهم أكثر من بذلك أولئك الكافرين، لأمور: الأمر الأول: لأن الله سيخلف عليهم في الحياة الدنيا، وهم يؤمنون بهذا الإخلاف؛ لأن الله عز وجل يقول: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ:39].
الأمر الثاني: لأن الله تعالى ينمي هذا المال القليل الذي يبذله هذا الإنسان ولو كان قرشاً أو ريالاً إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، كما أخبر الله عز وجل: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة:261].
الأمر الثالث: أن المسلم إذا بذل المال للجهاد في سبيل الله، وللدعوة إلى الله، وللمحافظة على الكيان الإسلامي والأمة الإسلامية إنما يرجو بذلك الجنة، وأعداؤنا لا يرجون الجنة ولا يؤمنون بها، والله تعالى يقول لنا: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:104] فإن كان يؤلمك بذل المال فعدوك يؤلمه بذل المال أيضاً، لكنك ترجو من الله الجنة وترجو عز الإسلام ونصره في القريب العاجل، وهو لا يرجو إلا الفخر في الدنيا، فالمسلمون أولى ببذل هذا المال في سبيل الله عز وجل.
وقد أخبر الله عنهم بالفعل المضارع (ينفقون) (ليصدوا) وفي هذا إشارة إلى أن هذا الأمر (الإنفاق) و (الصد عن سبيل الله) يتجدد منهم باستمرار، والإخبار بالفعل الماضي يفيد ذلك، والله سبحانه وتعالى يريد أن يبين أن هذه قضية سننية تتكرر عبر التاريخ؛ أن الكفار يبذلون أموالهم دائماً وأبداً للصد عن دين الله عز وجل.
وأعجب ما رأيناه في ذلك: ما رأينا في مجاهل أفريقيا وغاباتها الموحشة رأينا شباباً في مستهل العمر من البنين والبنات، يأتون من أوروبا إلى أفريقيا يركبون البقر ليدعوا إلى النصرانية، وكنا ذات يوم في غابة من الغابات البعيدة عن الحضارة، والتي لا يستطيع أن يعيش فيها أبسط الناس؛ لما فيها من الأمراض، والحر الشديد، وقلة الماء والطعام، وكثرة البعوض والأوبئة، ورأينا هؤلاء يأتون من إيطاليا وغيرها من البلاد الأوروبية المترفة، ثم يعيشون في هذه البيئة السيئة الملوثة من أجل أن يربوا أبناء المسلمين على غير الفطرة، وعلى غير الملة، قلت: صدق الله العظيم: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال:36].
ثم قلت: أين المسلمون؟! أليسوا هم أولى بتربية أبنائهم من هؤلاء؟! وفي تلك المناطق يعيش كثير من المسلمين المهاجرين من دول أفريقية مجاورة.
أيها الإخوة! أعداؤنا أنشط منا في الدعوة إلى مبدئهم الباطل ومنهجهم الفاسد، ونحن مطالبون بأن ننفر خفافاً وثقالاً لنجاهد في سبيل الله.
إن أولئك المنصرين يأخذون الطفل في أول أيام طفولته، وربما كان يحمل كل الأمراض، حتى المعدية منها تأخذه الفتاة المترفة المنعمة الرقيقة لتضعه في حجرها وتصنع له الطعام والعلاج وكأنه طفل من أطفالها، لولا أنه يختلف عنها في اللون.
إن أعداء الإسلام يضربون آباط الإبل من أقصى الدنيا من أجل أن يكفِّروا أبناء المسلمين، فإلى متى والمسلمون نيام وهؤلاء يفتنون أطفال المسلمين، ويربونهم على غير الملة ليكونوا في يوم من الأيام قُسُساً يدعون إلى منهج ودين محرَّف! إن الذين يحاربون المسلمين سوف ينهزمون حينما يعود المسلمون إلى دينهم {فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} [الأنفال:36]؛ سوف يتحسرون على أنهم أنفقوها ثم لم تتحقق بها أهدافهم {ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال:36] في المعركة، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36]، فهذه هي نتائج نفقاتهم: غلبة في الدنيا، وحشر إلى جهنم في الآخرة، ما نفعتهم أموالهم، ولا جمعهم، ولا قوتهم؛ لأنهم ما أرادوا بذلك الحق، ولا أرادوا رضا الله عز وجل ولا الجنة.(43/12)
الحكمة من ابتلاء الله للناس بالكفر والإيمان(43/13)
تمييز الخبيث من الطيب
سلط الله تعالى الكافرين على المسلمين؛ يقدمون أموالهم وأنفسهم ليحاربوا بهما الإسلام، وجعل له سبحانه وتعالى جنداً يقاتلون في سبيله، وجنداً للطاغوت يقاتلون في سبيل الطاغوت السر في ذلك: أن يكون للجنة أهل وللنار أهل، {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [الأنفال:37]، كما قال تعالى: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال:42]، ولولا هذه الفتن، ولولا الجهاد في سبيل الله، ولولا تسلط الطغيان في الأرض على المؤمنين ما كان ليتميز الخبيث من الطيب، ولو أن هذا الدين لم يطالب أهله بجهود ولا تضحيات ولا إراقة دماء ولا بذل للأموال ولا دعوة إلى الله لولا هذه المطالب لما تميز الخبيث من الطيب.
ولو كان الدين مجرد شعائر تعبدية دون أن تكون هناك تكاليف وعقبات ونكبات وأمور موحشة ومخيفة في طريقه، لما عرف الصالح من الطالح، ولما تمايز الناس إلى درجات، والله تعالى يقول: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:2]، وقد أخبر الله تعالى بأن من ظن أن طريق الجنة سهل فعليه أن يراجع أمره فقال سبحانه: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} [البقرة:214] {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:142]، {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} [التوبة:16]، {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2].(43/14)
تبين من يصبر على الإسلام فيستحق الجنة
معنى ذلك: أن طريق الجنة طريق وعر، فيه عقبات ومخاوف، وأشلاء ممزقة، وجماجم مطوَّح بها، ومخاوف وسجون، وتسلط، وأمور عظام، ولابد أن يسلك المسلم طريق هذه الجنة، ويتخطى كل هذه العقبات الذي تعترض سبيله، لابد من أن تكون هناك أحداث وأمور مخيفة حتى يتميز الخبيث من الطيب في هذه الحياة، يقول الشاعر: لولا اشتعال النار فيما جاورت ما كان يدرى طيب عرف العود فلو أخذت عوداً ثميناً وشممت رائحته، فقد لا تستطيع أن تميز جودته، لكن إذا مسته النار خرجت رائحته، وهكذا الفتن تميز الرجال، وتظهر الطيب من الخبيث كما تظهر النار الملتهبة رائحة العود الطيب من رائحة الحطب، والله تعالى يبين أن تميز الخبيث من الطيب إنما يحتاج إلى فتن ومحن وأمور عظيمة، وكأن الله تعالى يقول: جاهدوا في سبيل الله وكونوا من جنده، وحاربوا أولياء الشيطان إن كيده كان ضعيفاً لماذا؟ {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [الأنفال:37]، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11].
أيها الأخ المسلم! إن طريق الجنة طريق وعرة ينكص عنها أقوام ويسلكها رجال، وهؤلاء الرجال هم الذين لا يرجعون من منتصف الطريق مهما عز الطلب وغلا الثمن، ولو أدى ذلك إلى التضحية بالنفس والمال والولد من أجل رضا الله عز وجل، ولذلك أخبرنا الله عز وجل بأن قوماً يسلكون طريق الجنة ولكن الإيمان لم يتمكن من نفوسهم بعد، حتى إذا اعترضت سبيلهم عقبة من العقبات عادوا من منتصف الطريق ناكصين على أعقابهم، ويقول قائلهم إذا أصابته فتنة أو عذاب من عذاب الناس: خير لي أن أمتع نفسي اليوم ولا أتحمل هذا العذاب الحاضر المؤكد فراراً من عذاب متوعَّد به! ثم يرجع من منتصف الطريق.
وهؤلاء هم الذين قال الله عز وجل عنهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} [العنكبوت:10] (فتنة الناس) أذى الناس في الحياة الدنيا، (كعذاب الله) في الآخرة.(43/15)
تميز عبد الله بن حذافة رضي الله عنه بالثبات على الدين
يروى أن عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه، وكان من قواد الجيش الإسلامي في موقعة اليرموك، وقع في أسر الروم، وكان رجلاً ذكياً وضيئاً شجاعاً فذاً، بقي في السجن أشهراً، فأعجب السجانون بقوة شكيمته، ووصلت أخباره إلى قيصر الروم، وقيل له: إن في سجنك رجلاً لو ضممته إليك لكان في ذلك مكسباً كبيراً للنصرانية.
قال: ائتوني به.
فجيء بـ عبد الله بن حذافة رضي الله عنه، فقال له قيصر: يا عبد الله! لو تنصرت لشاطرتك ملكي.
وهكذا تعرض الفتن على القلوب، فالقلوب الضعيفة هي التي تتقبلها، أما القلوب العظيمة فإنها ترفضها رفضاً باتاً.
فقال عبد الله بن حذافة: اخسأ يا عدو الله! -يقول هذا لـ قيصر الروم وهو رجل أسير- والله لو كانت لي الدنيا بأسرها ما تركت شيئاً من ديني! فتعجب من قوة شكيمته، وقال: ردوه إلى السجن وشدوا عليه وثاقه.
فأعيد عبد الله بن حذافة إلى السجن وزادوا في أغلاله.
ثم جمع الملك مستشاريه وقال: دلوني على أمر أفتن به هذا الرجل؟ فقالوا: إنه شاب قوي، بعيد عن زوجته وأهله منذ أشهر، وتستطيع أن تفتنه عن طريق الشهوة.
والشهوة سلاح من أسلحة أهل الباطل قديماً وحديثاً، وها نحن نرى الشهوة تعرض في بلاد المسلمين على أهل الإسلام، فتفتن كثيراً منهم عن دينهم.
قال: ائتوني بأجمل فتاة في بلادي.
فجيء بها، وأغريت بالمال إن هي فتنت هذا الشاب.
فتجردت عن ملابسها، ودخلت عليه ورمت بنفسها في أحضان هذا المؤمن، فلما رآها صرف نفسه عنها، وأكبَّ بوجهه على الأرض وهو يتلو القرآن، وصار كلما اتجه إلى جهة تابعته بجسدها الرقيق الجميل، وهو ينحرف ويبتعد عنها، وهي تلاحقه، وهو يقول: معاذ الله! فيئست هذه المرأة من أن تنال من هذا الرجل نظرة؛ فضلاً عن أن ينالها بفاحشة.
وقالت: أخرجوني.
فلما أخرجوها قالت: والله لا يدري أأنثى أنا أم ذكر! ووالله لا أدري أعلى بشر أدخلتموني أم على حجر! تعني: أن هذا ليس من البشر الذين عهدتهم يفتنون بجمال النساء؛ وقد كان عبد الله بن حذافة رضي الله عنه من أولئك الرجال الذين يريدون الجنة، ولا تصرفهم عن غايتهم هذه الشهوات.
فتحير قيصر الروم في أمره، واستشار الناس، فقالوا: خوفه بالموت، فكل الناس يخافون منه.
فيقال: إنه طلب قِدراً عظيمةً، ملئت زيتاً، فأوقد تحتها حتى غلى زيتها، ثم قال: ائتوني بـ عبد الله وبأصحابه الذين كان يأنس بهم ويطمئن إليهم، فجيء بهم، ثم أمر أن يؤخذ صديق لـ عبد الله ويبدءون به فيرمى في القدر، فرمي في القدر فطفت عظامه بعد أن ذاب عنها اللحم، عليه رحمة الله -وكان قيصر يراقب عين عبد الله - فسالت دمعة صغيرة من عين عبد الله وهو على حافة القدر، فظن عدو الله أنه نجح في زعزعة إيمان هذا الشاب، فقال: يا عبد الله! جزعت من الموت؟ فقال: اخسأ يا عدو الله! والله ما بكيت حينما رأيتني بكيت خوفاً من الموت، وما جئت إلى بلدك هذه إلا لأبحث عن الموت والشهادة، لكني بكيت على أن سبقني هذا إلى الله والدار الآخرة، وكنت أظن أني سوف أسبقه إلى الله، وكان ينافسني وأنافسه، فكنت إذا صلى ركعتين في جوف الليل المظلم صليت أربعاً، وإذا صلى أربعاً صليت ثمانياً، وإذا صام يوماً في شدة الهاجرة صمت يومين، وإذا صام يومين صمت أربعة، وكنت أظن أني سوف أسبقه إلى الله والدار الآخرة، وبكيت الآن لأنه سبقني إلى الجنة.
إن مثل هذا لا يستطيع أحد أن يؤذيه أو أن يناله بسوء مؤمن يتحدى الخوف من الموت الذي يخاف منه الناس، ويتحدى نار الدنيا، والمنصب، والشهوة التي فتنت كثيراً من الناس، حتى ارتد بعضهم عن الإسلام بسببها.
أيها الإخوة! إن الله سبحانه وتعالى أخبر بأنه بهذه الفتن يميز الخبيث من الطيب، فيخرج الخبيث الذي سوف يذهب إلى النار من الطيب الذي أعده الله عز وجل للجنة، يقول الله تعالى: {وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ} [الأنفال:37].
وجميع أنواع الملل قد تختلف في أسمائها، لكنها تتحد في مفهومها: علمانية، وثنية، نصرانية، يهودية، شيوعية؛ فأياً كانت تسميتها فهي تلتقي جميعاً في نار جهنم، وكل أنواع الخبث يركمه الله تعالى في جهنم.
{أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأنفال:37] خسروا لذة الحياة الدنيا والتي لا تنال إلا بطاعة الله عز وجل فيها، ثم خسروا بعد ذلك جنة عرضها السماوات والأرض بسبب عنادهم لهذا الدين، ووقوفهم ضده؛ ولذلك يقول الله تعالى: {فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأنفال:37].(43/16)
فتح باب التوبة للكفار والمنافقين
إن باب التوبة مفتوح، وهؤلاء الذين يسبون الله ورسوله في أيامنا الحاضرة لو تابوا لقبل الله توبتهم؛ لأنه تعالى أوجب على نفسه قبول التوبة؛ بشرط ألا تفارق الروح الجسد وهم على باطلهم، وبشرط ألا تطلع الشمس من مغربها وهم على منكرهم، فنقول لكل الذين يحاربون الإسلام بالسلاح أو بالقلم، بالكلمة أو بالسخرية: ما زال باب التوبة مفتوحاً، اتقوا الله، وعودوا إليه، وأصلحوا العمل، فإن توبتكم لا تقبل إلا إذا تأكد صلاح العمل كما قال الله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} [البقرة:160]، فلربما يتوبون ظاهراً خوفاً من الأمة الإسلامية، فلابد أن يصلحوا العمل، وأن يبينوا؛ بحيث ينقضون ما كانوا يقولونه بالأمس من حربهم للإسلام وسخريتهم وعدائهم لهذا الدين، فالله تعالى قد فتح باب التوبة، وقال: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:38].
ليس هناك دين أعظم من هذا الدين في فتحه باب التوبة مع وضع الآصار والأغلال التي كانت على بني إسرائيل، فإن بني إسرائيل لما أرادوا أن يتوبوا قال الله لهم: {فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [البقرة:54] والنصارى لا تتم توبتهم إلا بالاعتراف بالذنوب أمام القساوسة ليعطوهم صكوك الغفران كما يقولون؛ لكن الإسلام يقول: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:38] والإسلام يجب ما قبله، والتوبة تجب ما قبلها؛ اللهم إلا إذا كانت هناك حقوق للخلق فلابد من ردها، وإذا عجز الإنسان عن ردها فقد يتجاوز الله عز وجل عنه، ويرضي صاحب الحق بما يعطيه في الآخرة؛ بحيث يعفو عن هذا الحق الذي له.
وهذا الرد للحقوق شرط من شروط التوبة للمسلم، أما الكافر فإنه بإسلامه يغفر له ما قد سلف، ولا يلزمه شيء مما فعله في كفره ولو قتل من المسلمين آلافاً مؤلفة.
فهذا خالد بن الوليد رضي الله عنه كان أكبر من نال من المسلمين في يوم أحد، ومع ذلك صار من خيار الصحابة حين أسلم، وقال له الرسول عليه السلام حين أخذ الراية في مؤته: (فأخذها سيف من سيوف الله، حتى فتح الله على يديه).
وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان أشد المشركين عداءً للإسلام، فلما هداه الله تعالى للإسلام أصبح أحد المبشرين بالجنة، بل هو ثاني العشرة المبشرين بالجنة.
باب التوبة مفتوح، بشرط ألا يتمادى الإنسان في غيِّه، وألا يركب رأسه، وألا تغره الحياة الدنيا، وألا يغره بالله الغرور بشرط ألا يغتر بالصحة والعافية والشباب بشرط ألا يغتر بالمنصب والتخويل الذي خوله الله عز وجل إياه، والله تعالى يقول: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} [الأنعام:94].
إن باب التوبة مفتوح، ولذلك يقول الله تعالى لرسوله عليه السلام: يا محمد! {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:38] عن كفرهم وحربهم للإسلام، ومطاردتهم لرسوله عليه السلام، وأذيتهم للمؤمنين، وحمل السلاح في وجوه المسلمين، (يغفر لهم ما قد سلف).
و (يغفر) جواب الشرط، و (ينتهوا) فعل الشرط، وجواب الشرط لا يأتي إلا إذا جاء فعل الشرط؛ فلا (يغفر) ما قد سلف إلا إذا (انتهوا) عن حربهم وعنادهم للإسلام.(43/17)
وعيد الله للكفار إن لم يتوبوا
ونحن نقول لكل الذين يحاربون الإسلام أياً كان نوع الحرب؛ سواء كانت حرباً حارة أو باردة، حرب سلاح أو أفكار، من الخارج بالعداء السافر، أو من الداخل بالنفاق: {إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:38] فإن الله عز وجل كما أخبر عن نفسه: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [الشورى:25]، ونحن ندعوهم إلى التوبة، ونقول لهم: ويلكم! آمنوا وادخلوا في طاعة الله، ولا تحاربوا الله ورسوله؛ فإن من حارب الله ورسوله فإن الله {غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21].
وماذا يكون لو لم ينتهوا، وعادوا لحرب الإسلام والمسلمين مرة أخرى، وعادوا للعناد والمكابرة والطغيان في الأرض وأذية المسلمين وإرهابهم وإزعاجهم، وعادوا إلى الطعن في الإسلام والنيل من دين الله والسب له ولرسوله لو عادوا {فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} [الأنفال:38].
وجواب الشرط محذوف، وجملة (فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ) ليست هي جواب الشرط، ولكنها تعليل لجواب الشرط المحذوف، أي: وإن يعودوا نعد لإهلاكهم وقتلهم بسيوف المسلمين والملائكة، فقد مضت سنة الله عز وجل في الأولين أنه يأخذ الطغاة والمتكبرين والكفرة والمعاندين لدين الله تعالى أخذ عزيز مقتدر.
وهذه الآية فيها بشرى لنا إذا استقمنا على دين الله، وإن أوذينا فيه، وإن حاربنا طغاة الأرض، وسلطوا علينا صواريخهم وأسلحتهم الفتاكة، ووجهوا إلينا كل ما يوجهونه من أذى وبلاء وفتن، فإننا على ثقة بنصر الله سبحانه وتعالى، لكن بالشرط السابق؛ وهو أن نتوجه إلى الله سبحانه وتعالى بالدعاء والتضرع، وبشرط أن نصلح الأوضاع الداخلية والخارجية، وأن نتفقد الأمور كما أمر الله عز وجل بني إسرائيل بألا يدعوه إلا بعد أن يغيروا شيئاً مما في واقعهم، وإذا غيروا شيئاً مما في واقعهم فإنهم يدعونه، وإذا دعوه فإن رحمة الله قريب من المحسنين بعد التغيير والدعاء والتضرع.
أيها الإخوة! إن سنة الله في الأولين إهلاك الطغاة، وقد ينتفخ الباطل ويظهر مخيفاً كما يحدث في أيامنا الحاضرة، ويعجز المؤمنون عن دفعه، لكن نهايته قريبة، واضمحلاله وشيك، ولربما لم تستكمل شروط النهاية بعد، وإذا استكملت هذه الشروط فإن الله سبحانه وتعالى سوف يقذف بالحق على الباطل بعد أن يتفقد المسلمون أنفسهم وأوضاعهم، وقد تطول مدة الابتلاء، لكن من المؤكد أن لكل ليل فجراً، ولكل طغيان نهاية؛ لأن الله تعالى وعدنا وقال: {وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} [الأنفال:38]؛ فهذا وعد منه سبحانه بإهلاك المتجبرين والطغاة، والمعاندين للإسلام، والمحاربين لأولياء الله عز وجل وجنده، وهذه سنة الله في الأولين التي تتكرر عبر التاريخ، لكنها قد تتأخر لاسيما حينما لا تتوفر أسباب تواجدها، فعلينا أن نبحث عن الأسباب التي بها نستجلب نصر الله عز وجل، ثم علينا بعد ذلك أن نحسن الظن بالله، وأن نوقن بأن نصر الله قريب، وأن رحمة الله قريب من المحسنين.(43/18)
وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة
قد يركن المسلمون إلى الراحة والدعة، والرخاء والاسترخاء، والمساكن المترفة، والمراكب الفارهة، والزوجات والأبناء، والأهل والعشيرة، ويتركون الجهاد في سبيل الله مدةً من الزمن، ثم يتسلط الكافرون والظالمون عليهم، والسر في ذلك هو: ترك الجهاد في سبيل الله.(43/19)
لا وضع للسلاح حتى يكون الدين كله لله
نحن أمة مطالبة بألا تضع السلاح حتى يكون الدين كله لله، وإذا وضعنا السلاح قبل أن يكون الدين كله لله، فلنتحمل ضريبة هذا الترك والإخلاد إلى الدنيا، فإن دين الإسلام كان آخر ما استقر عليه ألا يوضع السلاح وفي الأرض ملة غير ملة الإسلام، ودين غير دين الله، وإذا وضع السلاح فإن رد الفعل سوف يأتي من الخارج بتسليط الكافرين على المسلمين، نجد ذلك في قول الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39].
ليس في الإسلام (ما لله لله وما لقيصر لقيصر)، ليس فيه علمانية: الصلاة والصيام والحج والعمرة لله، أما الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية فللبشر، فالإسلام لا يعرف هذا.
العلمانية إنما وجدت في الأمم النصرانية التي كانت تحارب التطور والتقدم، لكن ذلك لا يكون في أمة الإسلام التي يقول الله عز وجل لها في آية من آيات كتابه: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] فهو يأمرها بالصناعة والإتقان وضبط الأمور.
نحن أمة شرعت الخلافة في الأرض، ووضعت نظاماً للسياسة والاقتصاد والاجتماع، ولذلك ليس فيها نظام علماني يقول: ما لله لله وما لقيصر لقيصر، الدين في المسجد والنظام لأناس غير أهل الدين.
ليس في الإسلام رجال دين، فكل واحد من المسلمين يجب أن يكون رجل دين، أما إذا كان الدين بعضه لله وبعضه للبشر فهذا من قول أهل الشرك كما قال تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ} [الأنعام:136] إن العلمانية نظام لا يصلح للبقاء، فهو نظام يريد أن يحصر الدين في المسجد، وفي المحكمة يحكم بغير ما أنزل الله، وفي الأنظمة الاقتصادية يشرع أنظمة على غير ما أنزل الله، وإن أمة هذا نظامها لابد أن يتسلط عليها أعداؤها.
إذاً: ما الحل؟ الحل أن يكون الدين كله لله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39] ليس هناك دين لله ودين للبشر؛ فالدين كله لله.
أيها الإخوة! إن الحد الذي يمكننا عنده أن نضع السلاح هو أن يكون الدين كله لله، وألا يكون هناك عبث في دين الله، أما إذا كان الدين لغير الله، ويعبد في الأرض غير الله فلا يجوز أن يوضع السلاح، فآخر ما استقرت عليه الوثنية والجاهلية التي بعث فيها الرسول عليه السلام أن عبد في مكة ستون وثلاثمائة صنم، فجاء رسول الله عليه السلام ودخل مكة فاتحاً، وليس هناك صنم معلق في الكعبة إلا وكسره بينما تقول الإحصائيات الآن: إن في الأرض عشرين ألف وثن تعبد من دون الله.(43/20)
معنى أنه لا إكراه في الدين
يقول بعض المعاصرين الذين يضعون الإسلام في قفص الاتهام: إن أعداء الإسلام يقولون إن الإسلام انتشر بالسيف، فحتى لا نشوه الإسلام فإننا نقول: إن أمر الإسلام في الجهاد استقر على الدفاع لا على الهجوم، ويستدلون بأدلة ليس فيها دلالة على ما يقولون، كقوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256].
ونحن نقول لهم: (لا) هنا نافية وليست ناهية، بدليل أن الله تعالى قال: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} [البقرة:256] ما دام قد تبين الرشد من الغي واتضح الأمر، فلا يسمى إكراهاً وإن كان إلزاماً؛ لأن الإلزام بالأمور المجهولة الفائدة يسمى إكراهاً، والإلزام بالأمور المعروفة الفائدة لا يسمى إكراهاً.
ومن ظن أن الإسلام يقاتل الناس دفاعاً فعليه أن يفهم قوله تعالى: {حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [الأنفال:39]؛ لأن (حتى) للغاية، أي بحيث ينتهي الأمر إلى أن لا يبقى في الأرض دين غير دين الإسلام، ولا يعبد في الأرض غير الله.
وتقول الإحصائيات: إن في العالم عشرين ألف ضريح تعبد من دون الله، وقد مررت على بعض الأضرحة في بعض بلاد العالم قبل الفجر بساعات فوجدت ازدحام حجاجها عليها؛ يأتونها من جميع بلاد العالم، وزحامهم أشد من زحام الحجاج الوافدين إلى مكة، حتى رأيت قبوراً يطوف عليها الناس شوطاً واحداً فقط؛ لأن الزحام لا يسمح بسبعة أشواط! فهذا يؤكد أن الدين ليس كله لله، ولابد أن يقام الجهاد حتى يكون الدين كله لله، وما دام هناك من يعبد في هذا الوجود غير الله عز وجل، فالأمة الإسلامية مسئولة عن هذا الجهاد، وما أصاب الأمة الإسلامية اليوم من غزوها في عقر دارها وفي مهبط الوحي ومنازل الأنبياء وفي مواقع كثيرة إلا بسبب أن المسلمين تركوا الجهاد في سبيل الله، والرسول عليه السلام يقول: (وما ترك قوم الجهاد في سبيل الله إلا ذلوا) هذه الذلة هي التي سلطت الكافرين على المؤمنين، ولو أن المؤمنين نشروا هذا الدين نشراً حقيقياً في العالم لما بقي على وجه الأرض إلا مسلم، ولو أنهم على الأقل أعطوا صورة حقيقية عن الإسلام لكان الدين كله لله.
و (فتنة) في قول الله تعالى: (حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) معناها: كفر، أي: حتى لا يبقى في الأرض كفر، ومن أراد أن يفسر الفتنة بغير هذا المعنى في مثل هذه الآية فعليه أن يأتي بالدليل؛ لأن الفتنة إذا أطلقت فإنما يراد بها الكفر، وقد يراد بها في مواضع أخرى الاضطرابات، لكنها ترد غالباً في القرآن بمعنى الكفر، كقوله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة:217]، {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة:191] {حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة:193]، {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63].(43/21)
موقف الإسلام ممن انتهى عن عداوته وممن لم ينته
قال الله عز وجل: {فَإِنِ انتَهَوْا} [الأنفال:39] أي: انتهوا من حرب الإسلام ومعاندة المسلمين ودخلوا في طاعة الله {فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الأنفال:39] جواب الشرط محذوف، وهذا تعليل لجواب الشرط المحذوف؛ فقد يقول إنسان: انتهوا في الظاهر لكننا لا نعرف بواطنهم.
نقول: اتركوا الباقي لله سبحانه وتعالى، ما داموا قد انتهوا عن حرب الإسلام وأعلنوا الدخول في طاعة الله فاتركوا البقية لله تعالى.
{وَإِنْ تَوَلَّوْا} [الأنفال:40] أي: إن صمموا على حرب الإسلام، وعلى أذية المسلمين، و (إن) شرطية، و (تولوا) فعل الشرط، وجواب الشرط محذوف، وجاء بالعلة لجواب الشرط، وهي جملة تعليلية تنوب مناب جواب الشرط.
قال الله عز وجل: {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ} [الأنفال:40] هذا تعليل لجواب الشرط المحذوف {نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الأنفال:40] مولاكم: ناصركم، فأنتم بحاجة إلى الله عز وجل، فاطلبوا النصر منه إذا قاتلكم الكافرون، وآذاكم الطغاة والمتجبرون في الأرض، ففي يوم بدر أنزل الله على المسلمين خمسة آلاف من الملائكة مسومين، فله جنود السماوات والأرض، {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ} [الأنفال:40] أي: هو الذي ينصر حقيقة، ثم أثنى على نفسه سبحانه وتعالى فقال: {نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الأنفال:40] أي: ليس كالخلق الذين يُتولون وينُتصر بهم، فإن الخلق ضعاف لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً فضلاً عن أن يملكوه لغيرهم، لكن الله عز وجل يمدح نفسه ويقول: (نعم المولى) أي: الوالي والناصر (ونعم النصير) الذي ينصر أولياءه إذا رجعوا إليه، وخضعوا بين يديه، واستكانوا له، وأعلنوا الذلة والإنابة والانكسار بين يديه سبحانه وتعالى، فإنه نعم المولى ونعم النصير.
وأخيراً ننصح الأمة الإسلامية دائماً وأبداً، وننصح ولاة الأمر بأن يخضعوا لله عز وجل، وأن يرجعوا إليه، وأن يطلبوا منه وحده سبحانه وتعالى النصر والتأييد؛ وحينئذٍ لا يحتاجون إلى أحد، وإن احتاجوا إلى أحدٍ من البشر فإنما هي أسباب لا تغني من الله عز وجل شيئاً، فلا يجوز لهم أن يعتمدوا على هذه الأسباب، وإنما عليهم أن يعتمدوا على المسبب سبحانه وتعالى.
والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(43/22)
الاستقامة وأسباب الانحراف
إن الاستقامة نعمة عظيمة وفلاح في الدنيا والآخرة، وإن الانحراف وبال على صاحبه في الدنيا والآخرة، ومن أراد الاستقامة وتجنب الانحراف فلا بد من أن يعمل بأسباب الاستقامة ويتجنب أسباب الانحراف، ويجاهد نفسه على الكف عن الشهوات.(44/1)
تعريف الاستقامة والانحراف
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أمر بالاستقامة حتى الموت، ونهى عن التغيير والتبديل، ونصلي ونسلم على عبد الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، البشير النذير والسراج المنير الذي أرسله ربه رحمة للعالمين، وقال له: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود:112]، أما بعد: فإن حديثنا يتعلق بالاستقامة وأسباب الانحراف، وقبل أن ندخل في هذا الموضوع نريد أن نعرف أموراً: أولاً: معنى الاستقامة، ومعنى الانحراف.
ثانياً: هل الأصل في هذه الحياة الاستقامة، أم الانحراف.
ثالثاً: جزاء الاستقامة وعقوبة الانحراف.
رابعاً: عوامل الانحراف.
أما عندما نتحدث عن الاستقامة في معناها اللغوي فمعناها: أن تلتزم الطريق المستقيم، والطريق المستقيم هو الذي أخبر الله عز وجل عنه في قوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153]، وهو الذي رسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده يوم كان يحدث أصحابه، فرسم خطاً طويلاً مستقيماً وقال: (هذا صراط الله) ورسم عن يمينه وعن شماله طرقاً وعليها سبل وقال: (هذه هي السبل، وعليها ستر مرخاة، وعلى كل واحد منها شيطان يدعو إليه، وعلى الصراط المستقيم داع يقول: يا عبد الله! لا تلجه؛ فإنك إن تلجه لا تخرج منه إلى يوم القيامة)، ولقد تبين لنا في دنيا الناس اليوم هذه السبل وانكشفت أمام العيان، ورأينا دعاة الباطل الذين يقفون على أبواب هذه الطرق يريدون أن يزيحوا هذه الأستار عن هذه الطرق حتى يلجها الناس فيتورطوا بها إلى يوم القيامة.
هذا هو معنى الاستقامة.
أما معنى الانحراف فهو الاتجاه إلى إحدى هذه الطرق التي رسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي التي قال عنها الله عز وجل: {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153].(44/2)
الاستقامة هي الأصل والانحراف أمر طارئ
وبعد أن عرفنا معنى الاستقامة ومعنى الانحراف نتجه إلى بيان أيهما الأصل: الاستقامة أم الانحراف.
الأصل هو الاستقامة، ولذلك يقول الله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [البقرة:213]، أي: على التوحيد وعلى الإيمان {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} [البقرة:213]، والمفسرون يقولون: قبل (بعث) كلمة محذوفة تقديرها: فانحرف الناس فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين.
ولعل هذا هو أرجح الآراء التي ذكرها المفسرون في معنى قوله تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً)، أي: على دين الإسلام وعلى الفطرة وعلى التوحيد، فانحرفوا (فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ).
ويؤيد أن الأصل هو الاستقامة لا الانحراف قول الله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف:172 - 173]، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في معنى هذه الآية: (إن الله استخرج ذرية آدم كالذر، فأخذ قبضة بيمينه وقال: هؤلاء إلى الجنة ولا أبال.
وأخذ قبضة أخرى فقال: هؤلاء إلى النار ولا أبالي.
فقالوا: يا رسول الله! ففيم العمل؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له).
ويبين هذا أيضاً ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي عن الله عز وجل: (إني خلقت عبادي حنفاء - أي: على الفطرة وعلى التوحيد- فاجتالتهم الشياطين عن دينهم)، وفي حديث آخر يقول عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه).
وبمجموع هذه الأدلة كلها ندرك أن الإنسان خلق على الفطرة، وأن الأصل هو الاستقامة، وأن الانحراف يعتبر هو الطارئ وهو الذي حدث على حياة الناس، ولذلك فإن الله عز وجل قد حذر الناس من الانحراف وأمرهم بالاستقامة.(44/3)
فوائد الاستقامة وحقيقتها
ندخل إلى العنصر الثالث من عناصر الموضوع وهو فوائد الاستقامة وحقيقتها.
أما حقيقة الاستقامة فهو أن يثبت الإنسان على دينه، فلا يغير ولا يبدل ولا يتأثر بالحياة من حوله، ولا بالعوامل التي تسعى جادة في سبيل انحراف هذا الإنسان عن مبادئه وعن أخلاقه وعن دينه وعن عقيدته، ولذلك فإن الله عز وجل وعد المستقيمين بسعادة في الدنيا، وسعادة عند الموت، وسعادة في الحياة الآخرة.(44/4)
السعادة في الدنيا
أما سعادة الدنيا فإن الله تعالى يقول: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الجن:16]، والمراد: أعطيناهم متع الحياة كلها ويسرنا لهم سبيل العيش.
وليس بين هذه الآية تعارض وبين الأدلة الأخرى التي تبين أن الناس إذا انحرفوا -أيضاً- فتح الله عليهم أبواب الدنيا، وهناك فرق بعيد بين هذا النعيم وبين المتاع الثاني الذي يعطيه الله عز وجل للمنحرفين من الناس.
أما هذا المتاع فإنه متاع إلى سعادة أفضل، وأما المتاع الثاني فإنه استدارج من الله عز وجل واختبار حتى يدنيهم من العذاب درجة بعد درجة، ولذلك يقول الله تعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} [القلم:44] أي: نعطيهم من أنواع النعيم ونحن ندنيهم من العذاب درجة بعد درجة، ولذلك يقول الله بعد ذلك: {وَأُمْلِي لَهُمْ} [الأعراف:183] أي: أمهلهم {إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:183] فيبين الله تعالى أنه من كيده وأنه من مكره بهؤلاء الكافرين، ولذلك يبين في مكان آخر أن الناس إذا أعرضوا عن دين الله فإنه يفتح لهم أبواب النعيم ويعطيهم من الدنيا فوق ما يفكرون به، وذلك استدراج من الله عز وجل حتى تقوم عليهم الحجة: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:44 - 45].
بل يبين الله تعالى في مكان آخر أن الناس يمتحنهم الله تعالى بالعذاب وبشظف العيش وبالخوف وبالقلق إذا عصوا الله تعالى، فإذا لم تجد فيهم المواعظ فإن الله يختبرهم بالنعيم بعد ذلك، فيقول: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ * ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ} [الأعراف:94 - 95] أعطيناهم بدل الخوف أمناً، وبدل الجوع مالاً، وفجرنا لهم من وراء آلاف الأقدام ينابيع الأرض حتى يتمتعوا في هذه الحياة ليختبرهم الله عز وجل بالنعيم، {حَتَّى عَفَوا} [الأعراف:95] نسوا ما مضى {وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ} [الأعراف:95] أي: كان آباؤنا بالأمس يعيشون في شظف من العيش، وهذه النعمة التي بأيدينا هي بدل شظف العيش الذي كان يعيش فيه آباؤنا بالأمس.
هذا هو حديث الناس اليوم في البلاد التي فتح الله تعالى عليها الخيرات وأنعم عليها وفجر لها ينابيع الخيرات من وراء آلاف الأقدام، ما هي النتيجة: {فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [الأعراف:95].
ومن هنا نعرف أن النعيم قد يأتي استدراجاً وامتحاناً من الله تعالى، بل قد يأتي عقوبة: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الزخرف:33] أي: على الكفر {لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:33 - 35].
إذاً ليس انفتاح الدنيا على الناس دليل الرضا، ولذلك يخطئ الإنسان إذا استعمل المقاييس المادية التي استعملها الجبابرة والطغاة بالأمس، ومنهم فرعون الذي يقول: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ * فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} [الزخرف:51 - 53]، فكانوا يظنون أن المقياس هو الثروة وهو المادة، ولكن الله سبحانه وتعالى يبين أن المقياس غير ذلك: {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * (وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا} [الفجر:15 - 17] أي: ليس ذاك إكراماً وليس هذا إهانة، بل كلاهما اختبار من الله سبحانه وتعالى.
هذه هي نتائج الاستقامة في الحياة الدنيا، تأتي الدنيا وهي راغمة وتكون متاعاً إلى حين، ولذلك أخبر الله تعالى في كتابه أن هذه الأرض خلقت من أجل المؤمن، وأن هذا الرزق الذي أرسله الله تعالى في هذه الحياة إنما جاء من أجل المؤمن، وإذا كانت الأرض خلقت من أجل المؤمن فإن الله تعالى يقول: {إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [الأعراف:128]، وإذا كان الرزق للمؤمن وحده ويشاركه الكفرة كما تشارك البهائم الإنسان في متاع الحياة الدنيا فإن هذا المتاع يكون خالصاً للمؤمن يوم القيامة: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:32]، ومن لطف الله عز وجل بعباده أن جعل الدنيا يأكل منها المؤمن والكافر، والبر والفاجر، ولكن الحياة الآخرة لا تكون إلا للمؤمنين، ولذلك يقول الله تعالى: {وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:35].(44/5)
السعادة عند الموت
أما جزاء الاستقامة في آخر لحظة من لحظات الحياة الدنيا فهي طمأنينة النفس وسعة الصدر، يضع الإنسان قدماً في الدنيا وقدماً في الآخرة أو في حياة البرزخ وهو مطمئن القلب، وهو مرتاح النفس، تنزل عليه ملائكته تبشره وتطمئنه، تبشره بما أمامه وتطمئنه على ما خلفه؛ لأنه استقام على دين الله، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ} [فصلت:30] أي: في ساعة الموت {أَلاَّ تَخَافُوا} [فصلت:30] مما أمامكم من أهوال يوم القيامة {وَلا تَحْزَنُوا} [فصلت:30] على ما خلفتموه من ورائكم من الأولاد والأهل والذرية والمال، فما عند الله تعالى خير وأبقى مما خلفتموه وراءكم.
ولذلك فإن الإنسان في ساعة الموت بين هذين الجانبين يتنازعه الخوف والحزن، خوف مما أمامه من القبر والحياة الآخرة والحساب والميزان والصراط، ووراءه أيضاً متاع سيخلفه وراءه، فهو سينتقل من سعة الدنيا ومن قصورها ورياشها وأثاثها وخيراتها إلى قبر ضيق مظلم، فإنها تبشره وتقول: (وَلا تَحْزَنُوا) فإن الله تعالى سيعوضكم عما في الحياة الدنيا ما هو خير، ولذلك فإن الإنسان إذا كان يعيش في غرفة في هذه الحياة الدنيا فإن المؤمن سيفسح له في قبره مد بصره، وسيأتيه من روح الجنة وطيبها إلى أن تقوم الساعة، وسيتحول هذا القبر إلى روضة من رياض الجنة، وهذه نتيجة من نتائج الاستقامة.(44/6)
السعادة في الآخرة
أما النتيجة الكبرى فإنها تكون يوم القيامة، فسيجد الإنسان جزاء هذه الاستقامة، فجزاؤه كما قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأحقاف:13 - 14]، هذا هو جزاء من يستقيم على دين الله، يتغير الناس حسب الأهواء والشهوات والمؤمن ثابت لا يتغير، مهما غلا الثمن ومهما عز المطلب ومهما نكص الناس على أعقابهم، فإن المؤمن يعلن إيمانه في وقت قوة إيمان الناس وفي وقت ضعف إيمانهم، لا يبالي بما حوله، ودائماً هو يتمثل بقول الشاعر مع ربه عز وجل: فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب يقول هذا فيما بينه وبين ربه عز وجل، لا يغير ولا يبدل، لا يمشي مع الأهواء، ولا يخاف من المخلوقين حينما يخاف الناس، ولكنه رسم لنفسه طريقاً يعرف بأن هذه الطريق تنتهي بجنة عرضها السماوات والأرض، لذلك فقد باع نفسه وسلم الثمن وأخذ المثمن فهو ينتظر المثمن يوم القيامة؛ لأن الله عز وجل اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة.(44/7)
مصيبة التقلب والانحراف عن الاستقامة
لقد منينا بفترة كثر فيها التقلب وقلت فيها الاستقامة وكثرت فيها عوامل الانحراف، فأصبحنا نلاحظ ما أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من فتن كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً يبيع دينه بعرض من الدنيا، فلا نكاد نسر برجل من المؤمنين تعجبنا أخلاقه وفضائله وسلوكه ودينه حتى نفاجأ بانحراف أصاب هذا الإنسان، ولا أكتمك سراً إذا قلت لك: إن كثيراً من الرجال الذين كانوا بالأمس تعلق عليهم آمال بعد الله عز وجل، وكانوا مضرب المثل في الخلق والاستقامة رأينا كثيراً منهم قد غير وبدل وأصيب في نفسه، أو أصيب في بيته بشيء من الانحراف أو بكثير من الانحرافات التي أصابت كثيراً من الناس.
وأضرب مثلاً: كان هناك بالأمس أناس ينهون عن المنكر ويأمرون بالمعروف، ولا نكاد نصدق حينما نجد في بيوت هؤلاء الذين كانوا بالأمس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر كثيراً من المنكرات، بل أكبر من المنكرات التي كانوا ينهون عنها بالأمس، وهذه هي المصيبة العظمى التي لا تساويها مصيبة، وذلك حينما رأينا الانحراف بدأ في بيوت هؤلاء الصلحاء ووصل إليها في وقت كنا نتطلع إلى أن يشمروا عن سواعد الجد حينما يكثر الانحراف في المسلمين في مثل هذه الفترة العصيبة من فترات التاريخ.
فلو رأيت ما في بيته فلا يكاد يسرك في كثير من أحواله، وعلى سبيل المثال وسائل الانحراف التي جاءت عن طريق الإعلام في كثير من العالم الإسلامي تسربت إلى بيوت الصلحاء والمؤمنين، فلا نكاد في هذه الأيام نفرق بين بيوت الصلحاء والمنحرفين في كثير من البلاد، حتى أمر النساء الأجنبيات والخادمات والسائقون الذين يقودون السيارات، والذين تسلم لهم بنات المسلمين يكاد أن يعم ويطم في هذه الأيام، فما الذي حدث؟ لم يحدث شيء بعد إلا أن الله تعالى امتحننا بالنعيم بعد أن كنا نعيش في شظف من العيش، وهذه هي مصيبة الترف، وهذه هي مصيبة النعمة تأتي بعد الفقر، فلا يكاد يتحملها كثير من الناس.(44/8)
أسباب الانحراف عن الاستقامة
لما سبق فإني سأحدد -فيما أعتقد- عوامل الانحراف أو أسباب الانحراف التي أصابت المسلمين اليوم، وسألخصها في أربعة أشياء:(44/9)
الفتن
الأمر الأول: الفتن.
وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بأنها ستغزو المسلمين وستخترق عليهم أسوار بيوتهم بحيث تصل إلى قعر البيوت، ثم يصاب كثير من المسلمين في دينه وفي قعر بيته، ولو فعل كثيراً من الاحتياطات، وهذه الفتن هي التي يقول عنها الرسول صلى الله عليه وسلم: (فتناً كقطع الليل المظلم)، ولعل من أهم هذه الفتن التي أحدثت هذا الانحراف فتنة الدنيا، ونلخصها فيما هو أهمها الذي هو فتنة المال وفتنة النساء.
أما فتنة المال فإن الله تعالى قد وسع على كثير من الناس ولم يستطيعوا أن يتحملوا هذا النعيم بعد الفقر، فصاروا ينهلون منه حتى الثمالة، وزادت الثروة في أيدي كثير من الناس فتعاطوا الربا وجاءوا بكثير من المحرمات فأدخلوها في قعر بيوتهم، فكان هذا المال سبباً من أسباب الانحراف، وكان ذلك مصداقاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: لما جاء مرة مال من البحرين مع أبي عبيدة فعلم الأنصار بهذا المال فوافوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر، فلما رآهم علم ما في نفوسهم وأنهم جاءوا يريدون شيئاً من هذا المال، فابتسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (لعلكم سمعتم بمجيء أبي عبيدة بشيء من المال من البحرين.
قالوا: أجل يا رسول الله.
فقال: أبشروا، فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على الذين من قبلكم فتتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم)، ومن هنا صار لبسط الدنيا أثر كبير.
أضف إلى ذلك شهوة النساء التي أصبحت من أكبر عوامل الفتنة في أيامنا الحاضرة، والتي عرف عدونا كيف يغزو أخلاق المسلمين وأبناء المسلمين بها حتى يوصلها إلى قعر بيوت المسلمين، فدخلت صورة الفتاة في المجلة، وفي الصحيفة، وفي الوسائل المرئية من تلفاز وفيديو وما أشبه ذلك، وجاءت هذه الصورة على أبشع ما تكون، فكان لها أثر في نفوس الشباب، فحركت كثيراً من الشباب، ولربما دخلت في شكلها العام في صورة مربية أو خادمة أو ما أشبه ذلك، وحينئذ أثرت على كثير من نفوس الشباب، فصار هذا الشباب يتطلع إلى هذه الجريمة التي وصلت إليه بطريق هذه الصورة المرئية أو غير المرئية، أو بواسطة هذا الصوت الجميل الذي عشقه بالأمس، أو بواسطة هذه الأفلام التي وصلت إليه فحركت شهوته فصار يبحث عنها، ومن هنا مهدت كل السبل للمسلمين بحيث يسافرون إلى بلاد لا ترعى في دين الله إلاً ولا ذمة، ولا تعرف شيئاً من الاستقامة، ولا تعرف شيئاً من الأخلاق والفضائل، بل تبذل الجريمة للناس علناً.
ولقد توافرت كثير من وسائل الحياة في سبيل تحقيق هذا المطلب، حتى الطيران صار يُخفض للشاب بنصف قيمة التذكرة، حيث يسافر إلى هناك من أجل أن يحقق رغبته وشهوته ليأتي هنا بهذا السم الزعاف لينثره في مجتمعه، ولربما تذهب الأسرة بمجموعها فتأتي بكثير من هذه الرذائل وكثير من هذه الأفلام، وهذا سببه كله ما متعنا الله به من زينة الحياة الدنيا ومن المال، وهو الذي أشار الله عز وجل إليه بقوله: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام:44]، ولعله المقصود في قوله تعالى: {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} [الأعراف:95] لأن هذا المال أصبح جناحاً يطير به هذا الإنسان حيث يشاء وحيث يريد، ويوم كنا فقراء كنا أتقى لله عز وجل، ولذلك كانت وصية أحد الأنبياء لقومه: {وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء:132 - 135].
فهذا المال إذا لم يصادف عقلية كبيرة تزن الأمور بميزان الشرع صار خطراً على هذه الأمة أو على أي أمة من الأمم، وهذا هو ما عناه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (ولكن أخشى عليكم الدنيا)، وجعل فتنة النساء تساوي فتنة الدنيا كلها فقال: (فاتقوا الدنيا واتقوا النساء).
وأعتقد أن هذا من أكبر العوامل التي سببت انحراف كثير من المسلمين.(44/10)
الخوف من المخلوق
هناك عامل آخر لا يقل أهمية عن هذا، وهو عامل الخوف من المخلوق، بحيث يتراجع الإنسان من منتصف الطريق حينما يخاف من مخلوق من المخلوقين؛ لأن خشية الله صارت أقل من خشية مخلوق من المخلوقين في قلب هذا المسلم؛ لأن الإيمان ضعف في قلبه، وهذا أيضاً عامل من عوامل الانحراف، ولكم كنا نعلق آمالاً بعد الله عز وجل على كثير من المصلحين حتى رجعوا من منتصف الطريق لما رأوا الأمر بواقع يخافون منه، ولذلك أخبر الله تعالى بأن هؤلاء ليسوا بمؤمنين حقاً، فإن الذي يرجع إذا خاف من المخلوق بحيث يقدم خشية المخلوق على خشية الخالق ضعيف الإيمان أو فاقد الإيمان، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} [العنكبوت:10] يترقبون المؤمنين، فإذا وجدوا المؤمنين يعيشون في عزة وفي قوة كانوا معهم، وإذا وجدوا الإسلام يضرب في مكان من الأرض انحرفوا حيث يخافون من هذه الضربة أو من هذا العدو أو من هذا المخلوق، ويفرون من عذاب الدنيا إلى عذاب الآخرة، وهذه هي المصيبة، ولذلك يقول الله تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2] ثم أقسم الله تعالى فقال: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:3].
فهذا عامل من عوامل الانحراف التي أصيب بها كثير من الناس، ولربما أصيب طائفة من الدعاة والمصلحين بسبب خوف المخلوق وتقديمه على خوف الخالق سبحانه وتعالى.(44/11)
قوة دعاة الباطل ونشاطهم
ومن عوامل الانحراف قوة ونشاط دعاة الباطل.
فقد كرسوا جهودهم وبذلوا قصاراها في سبيل حرف أبناء المسلمين عن دينهم، وهؤلاء هم شياطين الإنس الذين يقول الله عز وجل عنهم: {شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام:112] وقدم شياطين الإنس أولاً {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام:112]، هؤلاء الشياطين الذين لم يدخروا وسعاً في سبيل انحراف أبناء المسلمين عن دينهم وعن الفطرة السليمة المستقيمة التي فطر الله عز وجل الناس عليها.
هؤلاء ينقسمون إلى قسمين: قسم من أعدائنا المكشوفين، والذين كانوا بالأمس يستعمرون كثيراً من بلاد الإسلام، ولكنهم لم يرحلوا منها حتى تأكدوا بأنهم حرفوا كثيراً من المسلمين عن دينهم، وأنهم أوقعوهم على حافة الهاوية، ولربما لم يرحلوا حتى تركوا أفراخاً لهم وأوصوهم أن يقوموا بهذه المهمة، وهؤلاء هم الذين يشكلون القسم الثاني من عوامل دعاة الباطل وهم أبناء جلدتنا، وهم الذين ورد ذكرهم في حديث طويل رواه حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: (كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني.
قلت: يا رسول الله! كنا في جاهلية وشر فجاء الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم.
فقلت: يا سول الله! وهل بعد هذا الشر من خير؟ قال: نعم.
وفيه دخن.
قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يستنون بغير سنتي ويهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر.
فقلت: يا رسول الله! وهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم.
دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها.
قال حذيفة رضي الله عنه قلت: يا رسول الله! صفهم لنا: قال: قوم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا).
وإذا كان الإسلام بالأمس يحارب بـ أبي جهل وأبي لهب فإنه اليوم يحارب بأحمد ومحمد وعبد الله، وإذا كان بالأمس يحاول أعداء الإسلام قطع شجرة الإسلام بفأس الكفر فإنهم يقولون: اليوم لا تستطيعون أن تقطعوا شجرة الإسلام إلا بغصن من أغصانها.
ولذلك فإننا لا نستغرب هذه الدعايات المضللة التي يتبناها كثير من المتمسلمين، والذين ينتسبون إلى الإسلام والإسلام منهم براء، والذين يحاولون أن يشككوا المسلمين في دينهم وأخلاقهم وفضائلهم، فمرة يتكلمون عن الحجاب ويصفون الحجاب بأنه تخلف وقوقعة، ومرة يصفون الحدود ويقولون إنها تخلف ووحشية، ومرة يصفون القصاص ويقولون: هذا لا يناسب هذا العصر.
ويكتبون في صحف المسلمين بين فترة وفترة يشككون المسلمين في دينهم.
ولم يعمل أعداء الإسلام أكثر من ذلك، بل لقد كان عمل هؤلاء أكثر وأخطر على الإسلام من عمل أعداء الإسلام المكشوفين، لماذا؟ لأن هؤلاء يندسون في صفوف المسلمين، ويحسبون على الإسلام، ويتسمون بأسماء المسلمين ويحملون في جيوبهم هويات مسلمة، والمسلمون قد لا يتقون شرهم؛ لأنهم يطمئنون إليهم في كثير من الأحيان، ومن هنا أصبح الخطر أكبر، وأصبحت المصيبة أبدع، ولذلك فإن دعاة الباطل من أبناء جلدتنا أخطر بكثير على الإسلام من دعاة الباطل الذين نعرف بأنهم أعداء للإسلام.
فهذا جانب مهم من جوانب الانحراف، ولذلك فقد أثرت دعوة هؤلاء في كثير من ضعاف العقول، وفي هذا نحن لا نتناسى هذه الصحوة الإسلامية -والحمد لله- التي ملأت الدنيا، والتي قطعت نياط قلوب الكافرين في كل مكان من الأرض، سواء أكان هؤلاء الكافرون من أبناء جلدتنا أم من أعدائنا الذين يحيطون بنا من الخارج، والذين صاروا يصفون هؤلاء بالرجعية، ويصفون هؤلاء بالتطرف، ويصفون هؤلاء بالتخلف.
وما هو -والله- بتطرف ولا هو بتخلف، ولكنه الدين الحق، بل هؤلاء الشباب هم الذين قال الله فيهم: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا * مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:22 - 23]، ومن هنا نعرف قدر هذه الصحوة، وعلينا أن نقدر لها قدرها، ونمد أكف الضراعة لله عز وجل في أن يثبت أقدام هؤلاء الشباب المؤمنين، وأن يرزقهم الاتزان، وأن يرزقهم الصراحة في الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى يكون الدين كله لله، وحتى يعود الخير إلى مجاريه.(44/12)
ضعف دعاة الحق
أما العامل الأخير من عوامل هذا الانحراف فيتمثل في ضعف دعاة الحق.
ففي أيامنا الحاضرة ضعف كثير من دعاة الحق، ولربما ترك كثيرٌ منهم الأمر كله، ولربما كان هناك منهم من يئس ومنهم من خاف ومنهم من ضعف، وكل هؤلاء وهؤلاء وأولئك لن يضروا دين الله عز وجل، فإن الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون، والله متم نوره ولو كره الكافرون، {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33].
ومن هنا فنحن لا نخاف على الإسلام حينما نرى أن كثيراً من دعاة الحق قد تركوا الواجب المناط بهم، ولكننا نخاف على هؤلاء؛ لأن الله عز وجل يقول: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ} [محمد:4]، أي من أعدائه {وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} [محمد:4 - 5].(44/13)
ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
اعلم أن هذا العامل هو من أكبر العوامل وأهمها، واعلم أن الباطل منذ أن خلق الله الأرض وإلى يوم القيامة باق في هذه الأرض، ولكن لابد من أن تكون هناك دعوة حق تكافح هذا السوء وتقف في وجه هذا المنكر؛ لأن الله عز وجل يقول: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ} [هود:116] مما يدل على أن الفساد في الأرض كان قديماً {إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} [هود:116]، ولذلك فإن الله عز وجل قسم الناس إلى ثلاثة أقسام: فقسمان هالكان وقسم ناج، أما القسم الأول الهالك فهو فاعل الجريمة، والقسم الثاني هو الساكت عن الجريمة ويسميه العلماء شيطاناً أخرس، ولا ينجو إلا الذي ينهى عن السوء، وهو القسم الناجي.
فمن أغمض عينيه عن منكر فإنه سيسأل عن هذا المنكر يوم القيامة، وليس معنى ذلك التهور في إنكار المنكر، ولكن يجب إنكاره بحكمة، وليس معنى الحكمة اللين أيضاً، ولكن الحكمة هي وضع الأمور في مواضعها.
يقول الله عز وجل: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ} [الأعراف:165] ذكر الله ثلاث طوائف في بني إسرائيل: طائفة فعلت المنكر وصارت تصيد السمك يوم السبت، وقد نهاهم الله عز وجل عن صيد السمك يوم السبت، ولم يصيدوه مباشرة وإنما استعملوا الحيلة، يضعون الشباك يوم الجمعة وينزعونها يوم الأحد، وبالرغم من أنهم يعملون الجريمة بطريقة غير مباشرة، فإن الله عز وجل أخذهم، وأخذ معهم قوماً يقولون: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} [الأعراف:164]، ونجى أمة واحدة هي التي قالت: اتركوا هذا المنكر واتقوا الله واحذروا سخطه.
{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف:165].
وأنت -يا أخي المسلم- إذا كنت تكره الانحراف الذي أصيب به العالم اليوم فإنه لا سبيل إلى الإصلاح إلا أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتعتبر نفسك جندياً من جنود الله شاء الناس أم أبوا، وتعاهد الله عز وجل على أن تنكر هذا المنكر مهما عز المطلب ومهما غلا الثمن، وإلا فإنه يخشى عليك أن تكون من الذين يقول الله عز وجل فيهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت:10].
وأنت -يا أخي- حينما تهرب من عقوبة الناس عليك أن تقارن بين عقوبة الناس وبين عذاب النار، إن أكثر ما يستطيع أن يفعله الناس بالناس حينما ينكرون المنكر ويقفون في وجوه الطغاة الذين كثير منهم اليوم يتسنم مراكز العالم الإسلامي إن أكثر ما يفعلونه هو القتل واغتيال هذه الروح، وهي لن تموت إلا بأجل بإذن الله عز وجل، والرزق أيضاً مقدر من عند الله سبحانه وتعالى، فأيهما أهون: هذا العذاب أم عذاب الآخرة الذي لا ينتهي أبداً؟ وهذا هو معنى قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ} [العنكبوت:10] أي: عقوبتهم {كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت:10] أي: عذاب يوم القيامة.
إذاً عليك -أخي المسلم- أن تكون جندياً من جنود الله، وأن تكون داعياً إلى الاستقامة على دين الله، محارباً للانحراف بجميع صنوفه وملله وأنواعه.
وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يثبتني وإياك على هذا الأمر، وأن يتوفانا ونحن على ثغور الإسلام، وأن يهدي ضال المسلمين إلى الحق، وأن يوفق قادة بلدنا وقادة العالم الإسلامي أجمع لأن يكونوا من الذين قال الله عز وجل فيهم: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:41]، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(44/14)
الأسئلة(44/15)
الزواج هو العلاج الوحيد للشهوة
السؤال
أنا من أول عمري أحب الخير وأسعى إليه، وأستمع إلى المحاضرات والأشرطة الدينية، وأدافع عن الدين أمام الشباب، ولكن عندي مشكلة أقلقت راحتي، وهي دافع الشهوة القوي حيث ألجأ إلى المعصية، وأنا الآن أفكر في الزواج، ولن يتم الزواج لوجود بعض الظروف، ولا أستطيع الصيام، وأنا أرتدع أمام المواعظ، ولكن عندما أقدم على هذه المعصية لا أبالي، فما رأي فضيلتكم؟
الجواب
لقد أرشدت نفسك إلى طريق العلاج وهو الزواج، والزواج هو العلاج الوحيد لسد شهوة الإنسان؛ لأنك وأنت تقرأ سورة النور تجد ثاني آية تتحدث عن جريمة الزنا وعقوبته، ثم بعد ذلك تبين عوامل الجريمة، ثم تبين في آخر آية العلاج الصحيح وهو الزواج: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُم وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور:32].
وعلى هذا فإن الزواج سنة من سنن المرسلين، وهو العلاج الوحيد لهذه الشهوة التي تشتكي منها، ولربما أصيب بها كثير من الناس وأصبحت تقلق راحته، والزواج -والحمد لله- الآن شبه ميسر، فهناك أهل الخير، وهناك الجمعيات الخيرية، وهناك المحسنون كلهم يتعاونون مع الشاب إذا عزم على الزواج، ولذلك فإني أدعوك للزواج بحيث تصرف هذه الشهوة التي أقلقت راحتك مصارفها المباحة لتسلم من آثامها ومصائبها.(44/16)
علاج التفكر في ذات الله
السؤال
إني كثير التفكير في ذات الله، أرجو أن أرشد إلى داوء أو قول يبعدني عن هذا التفكير؟
الجواب
التفكير في ذات الله من الشيطان، ولكنه حقيقة الإيمان، ولكن الاستجابة مع هذا التفكير والانصياع له بطريقة شديدة قد يؤثر على عقيدة المسلم، ولذلك الصحابة لما سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن أحدنا يجد في نفسه ما يتعاظم أن يتكلم به قال: (ذاك صريح الإيمان) ثم أمر المسلم بأنه إذا فكر في هذا يقول: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4].
وأرشدك -يا أخي- إلى التفكر في مخلوقات الله لتعرف فيها عظمة الله بدل أن تفكر في ذات الله تعالى؛ لأن مخلوقات الله هي التي تعرض أمامك في الليل وفي النهار، وفي كل لحظة من لحظات حياتك، بل وفي نفسك، وإذا فكرت في نفسك وفي خلقك وفي دقة صنعك عرفت قدرة الله سبحانه وتعالى، ولو رفعت نظرك إلى السماء في الليل فرأيت النجوم والقمر، أو في النهار ورأيت الشمس وهذا النظام البديع لأدركت عظمة الخالق سبحانه وتعالى، والتفكير في عظمة الله وفي مخلوقاته يغنيك عن التفكير في ذات الله الذي يجب عليك أن تنتهي عنه بقولك: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4].(44/17)
حرمة شرب الدخان وحرمة انتهار الأم
السؤال
هل شرب الدخان من سبل الانحراف؟ وإذا دخلت إلى البيت وأنت غضبان فكلمتك والدتك لترسلك إلى السوق -مثلاً- فنهرتها فهل هو حرام؟
الجواب
أما بالنسبة للدخان فقد ثبت ضرره طبياً واجتماعياً وأخلاقياً، ولذلك فإنه يعتبر من الفسق، وأنا لا أستطيع أن أقول: إنه محرم وأجزم بأنه محرم، ولكن من خلال أضراره التي نسمع عنها نستطيع أن نقول: بمقدار أضراره يكون محرماً.
فإذا كان فيه ضرر على الصحة فإن الله تعالى يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء:29]، ولذلك فإن الرجل الذي حز يده قال الله عز وجل: (عبدي بادرني بنفسه! حرمت عليه الجنة) وذلك عندما قتل نفسه، فإذا كان الدخان يؤدي إلى قتل النفس فإنه من أكبر المحرمات، وفيه خطر أيضاً أنه قد يكون سبباً للخلود في النار؛ لأن الله تعالى يقول: (حرمت عليه الجنة)، وهذا من باب الوعيد.
وعلى كل فهو من الفسق، وهو من أسباب الانحراف، ولربما يجر شرب الدخان إلى الشاب الحدث مصائب أكبر من شرب الدخان، بحيث يحتاج إلى شيء من المال فلربما يتنازل عن شرفه وعرضه، ولربما يخالط أراذل الناس بسبب شربه للدخان، ولذلك فإني أدعو الشباب إلى أن يبتعدوا عنه، وأن يتقوا الله.
أما بالنسبة للأم فإن الله تعالى حرم التأفف في وجهي الوالدين، فقال: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء:23] و (أف) معناها تضجر، يعني: لا يجوز أن تتضجر في وجهيهما، فإذا طلبت منك حاجة كأن تذهب إلى السوق لمصلحة أو ما أشبه ذلك وليس هناك ضرر فإنك ملزم بطاعتها بقدر الاستطاعة، وهذا من البر؛ لأن البر معناه الطاعة للوالدين بالمعروف.(44/18)
خطورة مخالطة المنحرفين
السؤال
هناك بعض الشباب مستقيمون ولكنهم يخالطون أناساً منحرفين، ويحتجون بأنهم مستقيمون وأن هذا لا يضرهم، فهل هذا صحيح أم لا؟
الجواب
الاختلاط بالناس على نوعين: فمن كان يعرف من نفسه الاستقامة ولا يخشى عليها الانحراف من مخالطة هؤلاء، بحيث تكون شخصيته أكبر من شخصية من يخالطه وأقوى، ويعرف بأنه بمخالطة هذا المنحرف يستطيع أن يقوم أخلاقه فإن هذا سنة، وقد نقول: إنه واجب؛ لأن هذا من الدعوة إلى الله ومن الإصلاح.
أما إذا كان يخشى على نفسه من ضرر هذا المختلط به لأنه أقوى شخصية منه فإنه يحرم عليه أن يختلط به؛ لأن هذا سبب من أسباب الانحراف.
أما إذا كان يجهل الأمر فلا يدري أيستطيع أن يؤثر على صاحبه أم صاحبه يستطيع أن يؤثر عليه فإن الاحتياط أن لا يقرب؛ لأنه سيؤثر عليه؛ ولأنه ربما يكون خطراً عليه، وهذه مخاطرة في دينه، وعلى هذا فإن عليه أن يبتعد ويعَتَبِر هذا من أكبر المنكرات.(44/19)
توجيه للشاب إذا كان في بيته منكرات
السؤال
توجد استقامة عند بعض الشباب مع فساد البيت الذي يعيش فيه، ولا يستطيع إزالة ما في البيت من منكر، فما هو الحل لهذا الشاب حتى لا يتأثر بهذا المنكر؟
الجواب
ما ورد في السؤال صحيح، خاصة في هذه الأيام، فقد وجد في كثير من البيوت الإسلامية شباب مستقيمون خالفوا في استقامتهم منهج كثير من أفراد الأسرة، ولربما يكون من أفضل فضائل هذا العصر أن كثيراً من الأبناء صاروا أفضل من آبائهم استقامة.
وبقيت مشكلة ما يعانونه في هذا البيت من انحراف، فأقول للشباب: إن كان هذا الانحراف لن يؤثر عليك في نفسك فإن عليك أن تبقى في هذا البيت من أجل إصلاح هذا البيت، ومن أجل أن تبذل كل ما في وسعك في سبيل تقويم هذا البيت وإصلاح أهلك وإخوانك وأبيك وأمك، ومن كان في البيت.
أما إذا كنت لا تطيق ذلك حيث إن هذا خطر ربما يصل إليك في يوم من الأيام، وبذلت كل الجهود في سبيل الاستقامة فإن عليك أن تهرب بدينك وأن تلزم جماعة المسلمين، لكن بعد أن تتأكد من أنك مهدد بالخطر في دينك، أما إذا كنت تشك في ذلك فإن بقاءك بين أهلك وذويك خير لك، خصوصاً وأنك مطالب بإصلاحهم؛ لأن الله تعالى يقول: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214].(44/20)
موقف الإنسان من الانحرافات والفتن والمضايقات
السؤال
ما هو موقف الإنسان تجاه الانحراف والفتن والضغوط التي تحصل له بسبب الاستقامة؟
الجواب
موقف المسلم هو الثبات وعدم التأثر؛ لأن الله تعالى يقول: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود:112]، {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [الأحقاف:13]، وسأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قولٍ لا يسأل عنه أحداً غيره فقال: (قل آمنت بالله ثم استقم)، وهذا يدل على أهمية الاستقامة.
وعلى هذا فإن المسلم مطالب بأن لا يتأثر بالأجواء التي تحيط به، سواء أكانت في بيته أم في مجتمعه أم في العالم أجمع؛ لأن المسلم إذا اقتنع بطريقه ومبدئه وعرف أنه على حق وعلى طريق مستقيم فإنه لا يضره ما حوله، وحينئذ فإني أوصي الشاب الذي يقع في مثل هذا بأن يثبت على دين الله، وأن لا يتأثر بما يحيط به من دعوات مضللة وأفكار منحرفة، وحينئذ فإنه سيجد الخير في نهاية هذا الطريق.(44/21)
الصبر على الاستقامة والثبات عليها
السؤال
بعض الشباب المتدينين يلاقون بعض المضايقات من بعض الناس بإطلاق الكلمات القبيحة التي قد تؤثر على الشاب الذي هو في بداية الاستقامة، فما هي الآيات القرآنية التي نقرؤها من أجل أن يتقوى إيمان هؤلاء الشباب؟
الجواب
هذا المبدأ قديم وليس بجديد، فالمسلمون الأوائل كانوا يلاقون مثل هذه الضغوط وأشد من ذلك، كان الواحد منهم كـ بلال رضي الله عنه توضع حجارة حارة على بطنه، ولا يصده ذلك عن دينه، وكان عمار وأبوه ياسر وأمه سمية وأناس غيرهم يلاقون صنوف الأذى في سبيل دينهم ولا يصدهم ذلك عن دين الله.
وممن لاقى الصد عن الدين سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وذلك أنه اعتنق الإسلام فقالت أمه: يا سعد! والله لا آكل طعاماً ولا شراباً حتى تكفر بدين محمد.
فجلس هذا الرجل بين عاملين -عامل الإيمان والعقل وعامل العاطفة- ينظر إلى أمه ونفسها تتقعقع من شدة الجوع، ولكن العقل غلب العاطفة فقال: اسمعي يا أماه: والله لو كانت لك مائة نفس فخرجت واحدة بعد الأخرى ما تركت ديني، فإن شئت فكلي وإن شئت فلا تأكلي.
فأكلت، وأنزل الله تعالى فيه قوله: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ} [لقمان:14] إلى قوله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان:15].
أما ما يلاقيه المسلمون من التعب في أيامنا الحاضرة فإنا نعزيهم فيه بقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [البقرة:212]، ونعزيهم بقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ} [المطففين:29 - 32] يقولون: هذا لحيته طويلة.
هذا ثوبه قصير.
هذا رجعي.
هذا فيه كذا.
أما النتيجة: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المطففين:34 - 36].
وحينئذ فيكفيك فخراً -أيها الأخ المسلم- أن يقول الله لك بأنك مؤمن {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} [المطففين:29]، ويقول الله تعالى عن يوم القيامة حينما يجمع الله الناس ثم يكون فريق في الجنة وفريق في السعير، ويبدأ الخصام بين هؤلاء الذين يسخرون من المتدينين ويضحكون منهم ويتخذونهم سخرياً، يقول الله تعالى لما يلقي أولئك في النار: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون:109 - 111].
ومن هنا لا يجوز لمسلم أن يتأثر بمثل هذه الدعايات التي تكال اليوم لكثير من المسلمين، والذين أصبحوا غرباء، ويكفيهم أنهم غرباء، وطوبى للغرباء الذين يصلحون إذا فسد الناس.(44/22)
الدخان حرام بحسب ما فيه من الضرر
السؤال
ما معنى قولك: لا أجزم بتحريم الدخان؟
الجواب
أنا لست أقول: إن الدخان ليس بمحرم.
وهناك فرق بين من يقول: احتاج إلى أن أتأكد من تحريمه ومن يقول: إنه محرم.
لأن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} [المائدة:87]، فالإنسان الذي يحرم الشيء ولم يتأكد منه أعظم جرماً ممن يفعل حراماً، فالذي يفعل حراماً فعل معصية والذي يحرم شيئاً لا يجزم بتحريمه تعدى على شرع الله تعالى وتعدى على التشريع الذي هو لله تعالى، ولكني أقول: إن الدخان قد ثبتت مضاره، فظهرت دلائل الحرمة من خلال هذه المضار، سواء في ذلك المضار الاجتماعية -فإنه لا يتعاطاه في الغالب إلا الساقط من الناس- أو الأضرار الأخلاقية -قد خربت أخلاق كثير من الشباب بشرب الدخان- أو الأضرار الصحية أيضاً، فقد ثبت طبياً بأنه ضار، ومن هنا نستطيع أن نقول: إنه محرم بمقدار ما فيه من المضار.
أما أن نقول: هو محرم لذاته فلا أحد يستطيع أن يقول: إنه محرم لذاته؛ لأن الدخان لم يرد فيه شيء من شرع الله، ولأنه من الأمور المحدثة، ولكن تحريمه معلق بالأضرار التي تترتب عليه، ولذلك فإني أصحح مفهومك -يا أخي- بأني لم أقل بأن الدخان حلال، أو أن الدخان غير محرم، ولكني أقول: أنا لا أجزم بتحريمه إلا بمقدار ما فيه من الأضرار.
فإذا ثبتت هذه الأضرار التي نسمع بها أو جزء منها فحينئذ يكون محرماً لا لذاته، وإنما لما يترتب عليه.(44/23)
حكم الخجل من إنكار المنكر
السؤال
أنا شاب أبلغ من العمر خمسة عشر عاماً، أرى بعض الناس المسبلين وغيرهم من العصاة، ولكن لا أنصحهم؛ لأنني شديد الخجل، فهل علي إثم؟ وما علاج ذلك؟
الجواب
الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من رأى) و (من) هنا اسم موصول من ألفاظ العموم، أي: جميع الناس (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه)، والمسألة ليست مسألة تخيير وإنما هي مسألة ترتيب، فإذا كان الإنسان يستطيع أن ينكر المنكر بيده فإنه مطالب بذلك، والله تعالى أعطى المسلمين قوة، كما قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} [الحديد:25]، ثم قال بعد ذلك: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} [الحديد:25]، فالقوة يجب أن تصحب الكتب السماوية.
ثانياً: إذا عجزت عن الإنكار بيدك فإنك مطالب بأن تنكر بلسانك، وإذا كان يمنعك الخجل فهذا خطأ كبير؛ لأن الحياء يجب أن يكون من المعصية لا من الطاعة، ومن هو الذي يخجل من أن يطيع الله عز وجل؟! بل المسلم مطالب بأن يستحيي من أن يفعل معصية، أما الطاعة فإنه لا يجوز أن يمنعك الخجل منها، والإنكار بالقلب لا يجوز أن نلجأ إليه في مثل هذه الفترة، ونحن -والحمد لله- نعيش في حكم إسلامي وفي دولة إسلامية لا تعارض الذين ينكرون المنكر، فإذاً أصبح الإنكار بالقلب لا مجال له في بلادنا.(44/24)
لبس الحجاب شرع لا عادة
السؤال
كثير من الناس يعتبر أن الحجاب عادة وليس واجباً، وأن العلماء يأمرون به لئلا ينتشر الفساد، فهل هذا صحيح؟ وهل ولي الأمر آثم إذا لم تتحجب نساؤه؟
الجواب
الحجاب ليس بعادة، وهذه من السموم التي دسها أبناء جلدتنا، فقد كتبت صحف كثيرة في بلادنا بأن الحجاب موروث عن العصور المتخلفة، وأن الحجاب تقوقع وتخلف، وقرأنا كثيراً في كثير من صحفنا حينما مرت بها فترة سيطر عليها فيها طائفة ممن نخشى أن يكونوا من تلك الفئة التي أخبر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم.
فالحجاب واجب بكتاب الله وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبإجماع المسلمين، ويمكن أن نقسم الحجاب إلى قسمين حتى لا نتعدى على شرع الله: فهناك حجاب لتغطية الوجه واليدين مع بقية الجسد، وهناك حجاب بمعنى ستر العورة التي ذكرها الله عز وجل في قوله: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنّ} [النور:31] إلى آخر الآية.
أما الأول فهو وإن كان قد اختلف طائفة من العلماء في حكم ستر الوجه والكفين إلا أن العلماء أجمعوا إجماعاً على أن الفتنة إذا خيفت فإنه يجب تغطية الوجه والكفين، وحينئذ يصبح ذلك الرأي لا أثر له؛ لأن الفتنة متوقعة ومتأكدة في كشف الوجه والكفين، خصوصاً الوجه الذي هو موضع جمال المرأة، وعلى هذا فإنه يصبح الخلاف لغوياً ولا أثر له في الشرع، فإذا كان هناك من الأئمة الأربعة من قال: يجوز كشف الوجه والكفين فقد أجمع الأربعة وأجمع المسلمون على أنه إذا خشيت الفتنة فلا يجوز كشف الوجه، وحينئذ أصبح كشف الوجه -خاصة في أيامنا الحاضرة- موضع فتنة، ومن المؤكد أنه يثير الفتنة، إذاً نستطيع أن نقول: أجمع المسلمون على تغطية الوجه في زمننا؛ لأنه موضع للفتنة بالإجماع.
أما بالنسبة لما زاد على الوجه والكفين فلا أحد يستطيع أن يقول بأنه ليس في شرع الله، بل جاءت به الأدلة القرآنية، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59]، ثم قال بعد ذلك: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب:60] وأحاديث كثيرة عن رسول صلى الله عليه وسلم كلها تدل على ذلك.
إذاً هذه التي تخرج شعرها أو ساقيها أو عضدها أو نحرها أو ما أشبه ذلك كيف تستطيع أن تقول بأنها أخذت دليلاً من شرع الله تعالى على ذلك؟! وقد أجمع المسلمون على تحريم هذا الأمر بنص القرآن الكريم وفي نص السنة المطهرة، والخلاف إنما هو في الوجه والكفين، وإجمع المسلمين على أنها إذا خشيت الفتنة فلا يجوز كشف الوجه.
إذاً يكاد أن يكون الحجاب واجباً إجماعاً.(44/25)
حكم تأخير الصلاة عن وقتها لمشاهدة المباريات
السؤال
أحضر بعض المباريات وتكون في أوقات الصلاة، فيخرج الوقت، فهل أنا آثم بذلك؟
الجواب
نعم أنت آثم، وما هذه المباريات وما وزنها في دنيا الناس اليوم إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يوقف المعركة من أجل أن يقيم الصلاة؟! فكان يغير شيئاً من نظم الصلاة من أجل أن تقام الصلاة جماعة لا فرادى، كما في قوله تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} [النساء:102]، ثم يقول بعد ذلك: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا} [البقرة:239] أي: صلوا وأنتم تركضون على أقدامكم {أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة:239] وأنتم على الإبل والخيل.
إذاً ما هو عذرك -يا أخي- وأنت في سفاسف الأمور كلعب الكرة؟ تريد أن تؤخر الصلاة عن وقتها والرسول صلى الله عليه وسلم في ساحة الجهاد في سبيل الله يأمره الله تعالى بأن يقيم الصلاة جماعة، وأن يغير شيئاً من نظم الصلاة من أجل أن تقام الصلاة جماعة فمثلاً: كان يصف المسلمين صفين، فيسجد الصف الأول ويقف الصف الثاني ولا يسجد مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم يسجد الصف الثاني في الركعة الثانية ويبقى الأول، ثم بعد ذلك كل يكمل ركعة أخرى ويسلمون مع الرسول صلى الله عليه وسلم، أين هذا من ذاك؟! وأين هذا الواقع الذي تصطف فيه آلاف البشر من المسلمين وتمر بهم الصلاة تلو الصلاة لا يرفعون بها رأساً، من واقع الرسول صلى الله عليه وسلم حين يأمره الله تعالى أن يقيمها في ساعة المعركة؟ إذاً عليك -يا أخي- أن تعلن الأذان، وأن تقطع كل شيء حتى تقام الصلاة جماعة، ولا عذر للمسلمين في أن يمضي الوقت وهم في أي عمل من الأعمال دون أن يقيموا الصلاة.(44/26)
كثرة النعم ليست دليلاً على رضا الله
السؤال
هل يصح لنا أن نقول: إن كثرة النعم دليل رضا الله علينا؟
الجواب
لا، والنعم تأتي لثلاثة أمور: إما أن تكون علامة على الرضا؛ لأن الله تعالى يقول: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الجن:16]، {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:96].
وإما أن تكون علامة غضب، كما في قول الله تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام:44]، وقبلها {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [القلم:44 - 45].
وإما أن تكون امتحاناً وابتلاء، أي أن الله تعالى يختبرك بالنعمة، ويعطيك المال ويعطيك الولد، ويعطيك الخيرات ورغد العيش ليختبر إيمانك هل تصبر أو لا تصبر، وهذه أكثر ما تكون في عالم الناس.(44/27)
تمييز نعمة الاستدراج عن نعمة الرضا أو الابتلاء
السؤال
كيف نعرف إذا نزلت بنا نعمة أنها اختبار وعذاب أو رحمة ورضا من المولى عز وجل؟
الجواب
العلامة هي الطاعة، فإذا جاءت النعمة مع الطاعة والاستقامة على دين الله فهذه علامة الرضا؛ لأن الله تعالى يقول: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ} [الجن:16] أي: على المنهج السليم {لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الجن:16]، ثم قال: {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [الجن:17] أيضاً، فهم يعطون النعمة جزاءً ويختبرون بها أيضاً، ولكن إذا جاءت النعمة مع المعصية فإنها علامة الاستدراج؛ لأن الله تعالى يقول: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ} [الأنعام:44] يعني: أعرضوا عن دين الله {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام:44].
فالعلامة هي واقع الناس، فإذا كان الناس تأتيهم النعم مع استقامة فهذه قد تكون علامة رضا، وإذا جاءتهم مع معصية وكفره وكلما زاد الكفر والبعد عن الله تعالى زادت النعم فهذه علامة الغضب ودنو العذاب.(44/28)
ترك فعل الخير والصوم بدعوى الصغر
السؤال
بعض الناس يقول: أنا إنسان مستقيم.
ولكنه لا يفعل الخير ولا يصوم؛ لأنه يدعي بأنه صغير، فماذا نقول له؟
الجواب
إذا كان صغيراً فإنه لا يلزمه الصيام؛ لأن كل تكاليف الإسلام وشرائع الإسلام لا تلزم إلا بعد البلوغ، ولكن المسلم يتمرن عليها قبل البلوغ، حتى إذا بلغ يكون قد استعد، فيؤمر الصبي بالصلاة لسبع سنين، ويشدد عليه إذا بلغ عشر، لكن في السابعة إلى العاشرة إلى أن يبلغوا لا يكلفون بالصلاة ولا يعاقبون على تركها، وإنما هي من باب التمرين والتربية، وكذلك الصيام، وقد كان الصحابة يدربون أبناءهم على الصيام وهم أبناء عشر سنين وهم صغار.
وعلى كل فإذا كان هذا الذي يدعي بأنه مستقيم ويترك العبادات وهو دون البلوغ فإنا نقول: من الاستقامة أن تؤدي هذه التكاليف لتتمرن عليها، ولكننا لا نقول بأنك عاص أو مرتد إذا تركت الصلاة وأنت لم تبلغ، ولكن المستقيم بطبيعته يتمرن على العبادات ويؤدي العبادات ولو كان صغيراً.(44/29)
حكم قراءة المجلات الماجنة
السؤال
عندي كثير من المجلات الفاسدة فهل يحرم علي قراءتها، علماً أنني لا أريد أن أرد على ما ورد فيها، وهل إذا علم ولي الأمر أن أولاده يقرءون ذلك يكون آثماً؟
الجواب
أما بالنسبة للشر الذي فيها أو النظر إلى الصور المثيرة فإن هذا تحرم قراءته، اللهم إلا للإنسان يريد أن يعلم هذا الشر من أجل أن يرد عليه من حيث جاء، فإن هذا يستحب إن لم يكن واجباً؛ لأن هذا من إنكار المنكر.
أما بالنسبة للإنسان الذي يريد أن يتمتع بالشر الذي فيها أو يتمتع بالصور المنحرفة الموجودة فيها كصور الغلاف أو داخلها أو ما أشبه ذلك فهذا حرام، ولكني أنصح الشباب الذين لم ينضجوا بعد أن يبتعدوا عنها قدر المستطاع، حتى ولو كان اقتناؤها بدافع الرد عليها أو معرفة الشر كما يقولون؛ لأن هؤلاء لا يؤمن عليهم الانحراف، ولأن أعداء الإسلام قد يدسون السم في الدسم، فيأتون بأفكار سيئة مشبوهة بكلمات حسنة، ولذلك فإن هذا خطر.(44/30)
الكتاب والسنة ميزان استقامة العمل
السؤال
إن بعض الناس يعمل ويعتقد أن عمله على استقامة، فكيف نعرف أن هذا الإنسان على استقامة في عمله؟
الجواب
نعرض عمل هذا الإنسان على المنهج الصحيح من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا كان عمله موافقاً لكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم فهذا عمل صحيح ومقبول، وإذا كان مخالفاً للمنهج الذي جاء من عند الله وجاء به رسوله صلى الله عليه وسلم فهو غير صحيح؛ لأن الله تعالى يقول: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى:10]، {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النساء:59].(44/31)
طريقة نصح الشباب وكيفية إقناعهم
السؤال
بعض الشباب في وقتنا الحاضر انحرفوا عن الطريق السليم، وإذا خاطبت واحداً من هؤلاء ناصحاً له فإنه لا يبالي بهذه النصيحة؛ لأنه قد يكون من ينصحه لم يقنعه إقناعاً تاماً، فما هي الطريقة التي يستطيع الداعي بها إدخال نصيحته إلى قلب هذا الشاب؟
الجواب
أعتقد أن التربية في أيامنا الحاضرة أفضل من النصيحة، وأفضل من الموعظة، لأن التربية كمن يغرس شجرة ثم يتعاهدها فترة بعد أخرى، والموعظة كمن يغرس شجرة ثم ينساها مدة طويلة من الزمن حتى تذبل أو تيبس.
وعلى هذا فإن من أفضل الطرق التي نستطيع أن نربي فيها أبناء المسلمين اليوم لمن أراد ذلك أن يحتضن مجموعة من شباب المسلمين مجموعة أخرى يعيشون معهم ويقضون مدة من الزمن مع بعضهم، ويتبع بعضهم بعضاً بالخير، ويحذر بعضهم بعضاً من الشر، ويقلد بعضهم بعضاً في الأفعال الخيرية، وأقول: يقلد، أي: يأخذ الخير منه، أما التقليد الأعمى الذي لا ينبني على قاعدة فإنه لا يصح.
فهذه تعتبر من أفضل الطرق، والموعظة -أيضاً- لها أثر بين فترة وأخرى، ولكن التربية أفضل من الموعظة، ولذلك جاء في آخر حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: (قلت: يا رسول الله! فماذا تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: الزم جماعة المسلمين وإمامهم).
فالإنسان عليه أن يلزم الجماعة المسلمة، وعليه أن يبحث عن مجموعة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية)، فالذي يبتعد عن إخوانه وعن أهل الخير يقتنصه أعداء الإسلام، والذي يعيش مع هؤلاء يسلم في الغالب من أعداء الإسلام الذين يتربصون الدوائر بالمسلمين، قال حذيفة: (فإن لم يكن للمسلمين جماعة ولا إمام؟ قال: فاهرب بدينك ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك).(44/32)
قبسات من حياة موسى عليه السلام
لقد كانت قصة موسى عليه السلام أكثر القصص تكرراً في القرآن الكريم؛ وذلك لما فيها من العظات والعبر، فقد عانى موسى عليه السلام من بني إسرائيل أشد المعاناة، وذلك بسبب عنادهم وعصيانهم، واستمر مدة طويلة من الزمن إلى أن قضى الله أمراً كان مفعولاً، إضافة إلى أن موسى عليه السلام عالج فرعون وجنوده أشد المعالجة؛ إذ كانوا قد بلغوا غاية الطغيان، ففي صفحات هذه المادة قصة موسى عليه السلام، والمواقف والأحداث التي تعرض لها.(45/1)
أهمية قصص الأنبياء
الحمد لله نحمده ونستعينه ونشكره، ونثني عليه الخير كله ولا نكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه، ومن دعا بدعوته وعمل بسنته ونصح لأمته إلى يوم الدين.
أما بعد: فقد قص الله علينا في كتابه قصصاً طيبة من أخبار أنبيائه، ووصفها بأنها أحسن القصص، وهذا الوصف من الله تبارك وتعالى يدل على أنها أصدقها وأبلغها وأنفعها للعباد، فمن أهم منافع هذه القصص أن بها يتم ويكتمل الإيمان بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
وحينما نتحدث عن قصص المرسلين نحقق قول الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف:111]، ففي هذا القرآن من العظة والعبرة الشيء الكثير، سيما في أخباره الصادقة التي لا تتناقض ولا تختلف، والعظة للمؤمنين الذين يفهمون كتاب الله عز وجل غضاً طرياً كما أنزل، ففي قصص المرسلين العظة والعبرة، ولذلك تجد أن جزءاً عظيماً من القرآن الكريم يهتم بجانب القصة، وليست قصة تسلية ولكنها قصة عظة وعبرة، سيما حينما تتكلم عن منهج المرسلين عليهم الصلاة والسلام.
وسوف يكون كلامنا عن سيرة نبينا موسى عليه الصلاة والسلام.(45/2)
أسباب اختيار قصة موسى عليه السلام
أولاً: تعتبر قصة موسى أكثر قصة تكررت في القرآن العظيم؛ لما فيها من العظة والعبرة، لاسيما في بني إسرائيل الذين طال عنادهم لموسى عليه الصلاة والسلام، واستمر مدة طويلة من الزمن إلى أن قضى الله عز وجل أمراً كان مفعولاً.
ثانياً: أن موسى عليه الصلاة والسلام عالج فرعون وجنوده أشد المعالجة، فلم يعرف التاريخ رجلاً أشد طغياناً منه؛ لأنه زعم الإلهية لنفسه، وأنكر إلهية الخالق سبحانه وتعالى.
وبالرغم من أن فرعون أنكر إلهية الخالق إلا أنه كان يؤمن بقرارة نفسه بإلهية الله عز وجل، وأنه هو ليس إلهاً، لكنه يريد أن يستعبد أمة، وهذا المنهج هو الذي يتكرر عبر التاريخ الطويل، فكل من أراد أن يستعبد أمة ويستذلها لابد من أن يبعدها عن الإيمان بالله عز وجل، كما فعلت الشيوعية التي سقطت في عصرنا الحاضر.
إذاً منهج الذين يريدون أن يذلوا الأمم هو أن يحولوا بينها وبين الله عز وجل، ولذلك فرعون -لعنه الله- كان يؤمن في قرارة نفسه بالله عز وجل، بدليل قوله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14]، فالله عز وجل فطر كل الناس على الإيمان به سبحانه وتعالى، ومعنى ذلك أن قول فرعون: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] إنما هو تغطية للحقيقة، والدليل على ذلك أن فرعون صرح في آخر لحظة من لحظات حياته لما أيس من مهمته وفكرته الخاطئة، فقال حينما أدركه الغرق: {آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ} [يونس:90] ومع أن فرعون كان جباراً ومفسداً في الأرض إلا أن رحمة الله عز وجل قد تدرك من كان على مثل هذه الشاكلة، فقد أرسل الله عز وجل له رسولين اثنين موسى وهارون عليهما السلام، وأمرهما باللين بالرغم من قسوة هذا الجبار العنيد فقال: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44].
ثالثاً: أن موسى عليه الصلاة والسلام أعظم أنبياء بني إسرائيل، ومن أولي العزم الذين هم أفضل الأنبياء، وهم خمسة عليهم الصلاة والسلام، وشريعته وكتابه التوراة مرجع أنبياء بني إسرائيل بعده وعلمائهم، وله من القوة العظيمة في إقامة دين الله والدعوة إليه والغيرة العظيمة ما ليس لغيره.
رابعاً: أن بني إسرائيل أقرب الأمم إلى الإسلام، فلم يأت بعدهم إلا هذه الأمة، فأمرت هذه الأمة أن تأخذ منهم العظة والعبرة، سيما أن قصة بني إسرائيل تحتوي على الكثير من الدروس العظيمة، ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم كان كثيراً ما يقول لقومه ولنا: (لقد كان فيمن كان قبلكم)، والمراد بذلك بنو إسرائيل.
أما بالنسبة لقصة عيسى عليه السلام ولحياته ولمنهجه فقد كان تكملة لحياة بني إسرائيل؛ لأن عيسى عليه الصلاة والسلام هو -أيضاً- بعث إلى بني إسرائيل، فآمن به من آمن، وسموا أنفسهم النصارى؛ لأنهم ناصروا عيسى عليه السلام، فتعتبر حياة عيسى تكملة لحياة موسى عليه الصلاة والسلام.(45/3)
وقوع ما كان يحذره فرعون
حياة موسى كحياة سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بدأت بشدة، ومن منطلق قسوة، ولكنها بدأت -أيضاً- بتحدٍ عنيف من الله عز وجل لهذا الطاغية، فقد تحدى الله عز وجل فرعون بتحديات كثيرة، ففرعون رأى في منامه رؤيا، فسأل عن ذلك المنجمين والكهنة، فقالوا له: إن مولوداً في بني إسرائيل سوف يولد يكون سقوط عرشك على يده.
فقرر قتل الأبناء الذكور كافة واستبقاء النساء، ثم بعد ذلك لما رأى أنه سوف يقضي على النسل صار يقتل الذرية من الذكور عاماً ويبقيهم عاماً آخر، لكنه بالرغم من هذه الفكرة يولد موسى عليه الصلاة والسلام في العام الذي يقرر فيه القتل، لا في العام الذي يستبقي فيه الذكور، وهو الرجل الذي سيسقط حضارة الفراعنة، ويقيم العدل في المعمورة، ويقضي على الطغيان الذي مضت عليه السنون الطويلة، وهذا زيادة ونكاية في التحدي لفرعون.
والعجيب أن الله عز وجل يأمر أم موسى عليه الصلاة والسلام أنها إذا خافت عليه أن تلقيه في اليم، وهذا خلاف القاعدة المتبعة التي يستخدمها الناس للمحافظة على أطفالهم، فلا يوضع الطفل في البحر إذا خيف عليه، وإنما يوضع في غرفة وتقفل عليه الأبواب، هذه هي القاعدة المتبعة في حماية الأطفال من البلاء والفتن، فمتى كان الإلقاء في اليم يعتبر أمناً لطفل من الأطفال ما زال رضيعاً؟! لكن في هذا مزيدٌ من التحدي لفرعون: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} [القصص:7] وأراد الله عز وجل أن يري فرعون وأن يعلم الناس أن كل الاحتياطات التي تتخذ لابد من أن يبطل مفعولها حينما يريد الله عز وجل أمراً من الأمور.
ويزيد هذا التحدي فيذهب من اليم إلى قصر فرعون، وفرعون -كما هو معلوم- متعطش لدماء بني إسرائيل، ثم يدخل قصر فرعون هذا الطفل الذي يتأكد فرعون أنه إسرائيلي لا محالة؛ لأن علامات التكتم موجودة وظاهرة، وذلك حينما وضع في تابوت، فيلقي الله عز وجل عليه المحبة، وهم لا يشعرون أن هلاك فرعون وزبانيته سيكون على يدي هذا الطفل حينما يكبر، ولا يشعرون مكر الله عز وجل بهؤلاء الماكرين الطغاة الظلمة، قال تعالى: {وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [القصص:9]، ولذلك يتربى هذا الطفل في قصر فرعون وفي رعايته وفي كنفه وفي حجره كما يتربى ولد أي إنسان، لكنهم لا يعرفون عاقبة أمرهم.
ثم نجد أن رعاية الله عز وجل تتابع موسى عليه الصلاة السلام متابعة دقيقة، فيحرم الله عز وجل عليه المراضع، فكلما عرض على مرضعة لترضعه يأبى أن يقبل ثديها حتى يصل إلى أمه لترضعه وتأخذ عليه الأجرة، وهكذا تدركه عناية الله عز وجل منذ أيام الطفولة، وهكذا يربي الله عز وجل أولياءه المتقين، يقول الله عز وجل: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ * فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [القصص:12 - 13] وبناءً على ذلك نقول: إن الله عز وجل إذا أراد أن ينفذ أمراً من أوامره لا يمكن لأي إنسان أن يقف في وجه هذا الأمر أو يحول دون تنفيذه؛ لأن الله عز وجل له الأمر من قبل ومن بعد.(45/4)
تأييد الله للمستضعفين
تعتبر حياة موسى عليه الصلاة والسلام في بدايتها حياة تتسم بالشدة، لكنها تمتاز بالتحدي من الله عز وجل لفرعون ولآل فرعون الذين قال الله عز وجل فيهم: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:4].
إن على المستضعفين في الأرض أن يستشعروا بأن القوة ليست للبشر وإنما هي لله عز وجل، فمهما أظلمت الحياة، ومهما انتفخ الطغيان في الأرض، ومهما تجبر وتكبر، ومهما علا وارتفع فإن له نهاية؛ لأن الطغيان كالزبد يذهب جفاءً، كما أخبر الله عز وجل: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد:17].
ولربما يرهب الناس -كما هو في عصرنا الحاضر- من الطغيان الذي سيطر على جل المعمورة، وأصبح المؤمن يعيش فيها مخفوض الرأس، وأصبح طغاة البشر ووحوش البشرية يرفعون رءوسهم ويلغون في دماء المسلمين، ولربما دب اليأس إلى واحد من الناس، سيما ضعفاء الإيمان، والذين لم يقرءوا تاريخ البشرية، أو الذين ضعف يقينهم بموعود الله عز وجل وأنه سيعيد للأمة الإسلامية في يوم من الأيام تاريخها المجيد ومجدها التليد، سيما بعد هذه الإرهاصات الشديدة التي لا يكاد المسلم يرى فيها الإسلام قد ارتفع في أرض من أرض الله إلا ويفاجأ بالقمع والذلة والإرهاب لهذه الأمة الإسلامية، فقد يدب اليأس إلى واحد من المسلمين، ثم بعد ذلك تكون الحيرة وعدم الثقة بنصر الله عز وجل.
يقول الله عز وجل: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص:5] وهذا أمر صعب، أمم لا يستطيع أحد فيها أن يقول كلمة الحق التي يعتقدها في قرارة نفسه، بل إنه يخشى من ظله، أمة تعيش على الاستعباد والذلة لمدة من الزمن، ولكن الله عز وجل جعلهم أئمة، فما مضت سنون قليلة حتى كبر هذا الطفل الذي ولد ليكون منقذاً للبشرية وقتئذ، ليقضي على ذلك الحكم الجائر، ويخلص الأمة المستضعفة في الأرض، ولما انحرفت تلك الأمة عن الجادة وحادت عن طريق الحق والاستقامة واستمرت في طغيانها أزالها الله عز وجل وخلفتها أمم خير منها لتكون لها الإمامة في الأرض، يقول الله تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص:5 - 6].(45/5)
منهج موسى عليه السلام في التغيير
عاش موسى عليه السلام في تلك البيئة الظالمة الغاشمة التي هي بيئة مصر والتي كان يتسلط فيها فرعون والأقباط معه على المستضعفين من بني إسرائيل، ولكنه لم يقر هذا الظلم، بل سعى سعياً حثيثاً إلى التغيير وإصلاح مجتمعه، ومنهج المرسلين والمصلحين لا يبدأ بالإصلاح الديني فحسب، لكنه يبدأ في الحقيقة بالإصلاح المادي، فحينما يقوم المصلحون بإنقاذ مجتمعاتهم من أخطاء يقع فيها أقوامهم يقومون بإنقاذهم مما هم فيه من الذلة والمهانة، حينئذٍ يستطيعون أن يكسبوا الناس إلى صفهم قبل أن يتسلموا القيادة والريادة، وهذا هو المنهج الذي ربى الله عز وجل عليه موسى عليه الصلاة والسلام، فقد كان بنو إسرائيل يعيشون في مصر مستذلين مستضعفين، ولذلك انتصر موسى عليه السلام للإسرائيلي ليدفع عنه شر القبطي، يقول تعالى: {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} [القصص:16] ولاشك أن قتل النفس إثم، لكن حينما تكون هذه النفس آثمة فإنها تستحق القتل؛ لأن قتل المفسدين في الأرض يعتبر نوعاً من الإصلاح، والله تعالى يقول: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة:251] ويقول تعالى أيضاً: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:40 - 41].
فقام موسى عليه السلام بإقرار العدل حتى تكون له يد عند القوم قبل أن يصل إلى المهمة الكبرى التي أعدها الله عز وجل له، فانتصر للحق من الباطل، وقضى على رجل الباطل المستذل لخلق الله المستعبد لهم في الأرض.(45/6)
هجرة موسى عليه السلام إلى مدين وقصته مع المرأتين
هذه المرحلة تبدأ من الهجرة الطويلة من مصر إلى فلسطين، وبالرغم من أن موسى عليه الصلاة والسلام لم يكن له علم بالطريق لكنه لجأ إلى الله تبارك وتعالى وقال: {عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} [القصص:22]، ويسير في طريق طويلة مهاجراً إلى الله عز وجل، ليس هروباً -وإن كان عنده شيء من الخوف من آل فرعون- لكنه بأمر من الله عز وجل يهاجر من مكان إلى مكان، ثم يسير في صحراء سيناء مدة من الزمن حتى يصل إلى بلاد مدين.
وهناك في بلاد مدين وجد قوماً كثيرين من الناس يسقون مواشيهم، ووجد سوى الجماعة الرعاة امرأتين تكفان غنمهما عن الماء، فقال موسى عليه السلام لهما: ما شأنكما تمنعان الغنم من ورود الماء؟ ولم لا تستقيان مع السقاة؟ قالتا: من عادتنا التأني حتى ينصرف الرعاة مع أغنامهم عن الماء، ولا طاقة لنا على مزاحمة الأقوياء، ولا نريد مخالطة الرجال، وأبونا رجل مسن لا يستطيع بضعفه أن يباشر سقاية الغنم، ولذلك اضطررنا إلى أن نستقي بأنفسنا.
قال تعالى: {قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص:23] هاتان المرأتان قيل: إنهما ابنتا شعيب عليه الصلاة والسلام.
وقيل غير ذلك، فقد أخبرتا كيف تخرج المرأة، وكيف تمارس عمل الرجال، إنها لا تفعل ذلك إلا عند الضرورة والحاجة، ومبرر خروج هاتين البنتين أن أباهما شيخ كبير، فلا يستطيع أن يرعى الغنم، ولم تخرج هاتان البنتان إلا في حشمة، فلم تفكرا في مزاحمة الرجال حينما خرجتا للضرورة الملحة، فقد كانتا بعيدتين عن مزاحمة الرجال، حتى إذا انتهى الرعاء وسقى كل الرجال غنمهم قامت بعد ذلك هاتان المرأتان بسقي الغنم، فلا تخرج المرأة إلا عند الحاجة والضرورة الملحة، وإذا خرجت فيجب أن تتقيد بقيود المرأة المؤمنة المسلمة، بحيث لا تزاحم الرجال ولا تقضي حاجتها إلا حينما ينتهي الرجال، لكن على هؤلاء الرجال أن يكون عندهم أنفة وأن تكون عندهم رجولة، بحيث يعطون هذه المرأة حقها حتى لا تتأخر كثيراً حينما تضطر أن لا تزاحم الرجال.
وقد خدع أعداء الإسلام المرأة اليوم، فزعموا أن الإسلام ظلم المرأة، وأن الإسلام يهضمها حقها، وأن المجتمع المحافظ -كمجتمعنا- مجتمع معطل النصف لا يتنفس إلا برئة واحدة، فهم ينطلقون في الظاهر مطالبين بحقوق المرأة وحريتها المهضومة كما يزعمون، ولكن هؤلاء القوم يريدون في الحقيقة أن يصطادوا المرأة في الماء العكر، ويريدون منها أن تفسد أخلاقها، وأن تسقط في الحضيض، ويريدون أن يدمروا هذه الأمم تدميراً، فكم اتهمت صحفنا اليوم الإسلام بالتأخر والتقوقع والتخلف، واتهمت الحجاب بأنه من مخلفات القرون البائدة، واعتبرت المجتمع الذي يصون كرامة المرأة ويحافظ على كيانها مجتمعاً متخلفاً يجب القضاء عليه في أقرب وقت ممكن.
فيجب على المسلمين أن يحذروا من هذه الشعارات الزائفة التي تهدف إلى اغتيال عفة المرأة وشرفها، حتى وإن كان الذين يروجونها من أبناء جلدتنا ويتكلمون بلغتنا، ويحملون في جيوبهم الهوية الإسلامية.
لقد ظلمت المرأة في عصرنا الحاضر ظلماً لم يشهد له التاريخ مثيلاً، فحملوها الأعباء والتكاليف الشاقة التي لا يمكن أن يقوم بها إلا الرجال، وخلطوها مع الرجال على مدرجات الجامعة، وفي فصول الدراسة، وفي الأسواق، وداخل مكاتب الوظيفة، وفي كل أمر من الأمور.
فالمسألة هي مسألة مؤامرة على الإسلام، وفي ملة رجال مدين الذين لم يدركوا الإسلام لم تكن المرأة تختلط مع الرجال {لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص:23]، إذاً ليس هذا هو منهج الإسلام فقط عند خروج المرأة للحاجة والضرورة الملحة، لكنه منهج الملل والأديان كلها منذ أن خلق الله البرية وحتى يرث الله الأرض ومن عليها، أما الذين يطالبون بحقوق المرأة في عصرنا الحاضر ويزعمون أن لها حقوقاً مهضومة، وأنها معطلة، وأن حريتها قد تعدى عليها الرجال في ظل الإسلام فهم مجرمون يقول الله عز وجل عنهم: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء:27] فعلينا أن نحذر سموم هؤلاء، وأن لا نغتر بدعاياتهم الكاذبة وشعاراتهم الزائفة، فإن الأمر واضح، فالملل كلها تعتبر بقاء المرأة في بيتها -إلا عند الحاجة- صيانة لها، وإن الجاهليات منذ خلق الله البشرية إلى يوم القيامة هي التي تريد أن تتخذ من المرأة وسيلة للدمار والإفساد وإشاعة الفاحشة في أوساط المجتمعات المحافظة.(45/7)
القوة والأمانة في شخصية موسى عليه السلام
أما موسى عليه الصلاة والسلام فقد كان رجلاً يعدّه الله عز وجل للرسالة، فكان لابد من أن ينكر هذا المنكر الذي شاهده في بلاد مدين كما أنكر المنكر في مصر، ولابد من أن تأخذ المرأة بنصيبها في منأى عن الرجال، فاستعمل قوته التي منحه الله عز وجل إياها فسقى لهما، ثم رجعت الفتاتان إلى أبيهما مسرعتين، فيستغرب الأب كيف وصلتا في وقت مبكر، وكيف استطاعتا سقي الغنم في هذه المدة الوجيزة، مع أنهما لا يخالطن الرجال، ومن عادتهما الإبطاء! فسألهما عن السر فأخبرتاه عن قصة الرجل الصالح الذي استعمل قوته فسقى لهما، فما كان من رجل مدين إلا أن أرسل إحدى البنتين -وهي- أيضاً -ضرورة ثانية- لتأتي بهذا الرجل الذي سقى لهما؛ لأنه لم يكن له أبناء ذكور.
وكان موسى عليه الصلاة والسلام قد جلس في ظل شجرة عند ذلك الماء يتوسل إلى الله عز وجل، ويسأله من فضله أن يمن عليه بمن يؤويه من هذا الظلم الذي هرب منه في أرض مصر، فيقول مناجياً ربه سبحانه وتعالى: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص:24]، ثم يسعفه الله عز وجل بعودة إحدى هاتين البنتين اللتين سقى لهما تمشي على استحياء، فعلى المرأة المسلمة أن تمشي بحياء وخجل محتشمة غير متبرجة، فإن الحياء يعتبر هو الصفة البارزة في المرأة، ويعتبر الحياء -كذلك- من أخص خصائص أمة الإسلام، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (إن لكل أمة خلقاً، وإن خلق أمتي الحياء، وإن الله عز وجل إذا أراد أن يهلك عبداً نزع منه الحياء، فإذا نزع منه الحياء لم تلقه إلا مقيتاً).
ولما سأل عليه الصلاة والسلام ابنته فاطمة رضي الله عنها عن أحسن ما تكون المرأة.
قالت: (أن لا ترى الرجال ولا يرونها).
فالحياء صفة لازمة للمرأة دائماً وأبداً حتى قبل الإسلام {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} [القصص:25]، فليست تمشي في وسط الطريق، وليست تمشي متبرجة، وليست تمشي وقد فقدت أهم مقومات المرأة وهو الحياء، وليست تمشي متبخترة متبرجة متطيبة تفتن الرجال، لكنها تمشي على استحياء، ثم تقول لموسى عليه السلام بأدب وحياء: {إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص:25].
ثم يسير معها موسى عليه الصلاة والسلام، ويظهر بعد ذلك أدب الرجال وحياؤهم كما ظهر في النساء، فكانت هذه الفتاة تسير أمامه تدله على الطريق، فرأى أن الريح سوف ترفع ثوبها لتكشف شيئاً من ساقيها، فقال: أنا أسير أمامك وأنتِ تسيرين خلفي وتدليني الطريق يميناً أو شمالاً.
ففهمت هذه المرأة أن هذا الرجل أمين إضافة إلى أنه رجل قوي، فالقوة شاهدتها في موسى عليه الصلاة والسلام حينما زاحم الرجال وغلب أشداء الرجال بقوته الجسمية، ورفع الغطاء الذي يوضع على البئر ليسقي لهاتين البنتين، أما الأمانة فقد رأتها منه حينما جعلها تسير وراءه بدل أن تسير أمامه حتى لا تكشف الريح ثوبها فيرى شيئاً من بدنها، فلما جاءت إلى أبيها قالت: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26]، وهكذا ربى الله عز وجل موسى عليه السلام ليكون رسولاً إلى أعظم طاغية وطئ الأرض وأشد جبار عرفه التاريخ.
وبناءً على ذلك لابد لكل من تولى أمراً من أمور المسلمين -سواءٌ الولاية الكبرى أو ما دونها، حتى رعاية الغنم- لابد له من أن يتسم بهاتين الصفتين: القوة والأمانة، أما القوة فتتمثل في قول الحق وقوة الجسد وقوة العقل، أما الأمانة فتتمثل في التقى والصلاح والاستقامة، وإذا فقدت القوة والأمانة ضاعت الدولة، وتجرأ عليها أعداؤها، وأصبحت عرضة للدمار والسلب والنهب؛ لأن قيادتها غير حكيمة وغير أمينة، فالولايات الكبرى والسلطة العامة لا تنقاد إلا للرجل الصالح القوي الأمين، فالقوة قوة العقل والتفكير وقوة الجسد والقوة في قول الحق ودحر الباطل، والأمانة معناها أن يخلص في قيادة هذه الأمة، وإذا لم تتوافر هذه الصفات في الولاة وانتشرت الفوضى في أوساط الرعية وعمت البلبلة وسيطر الظلم كانت العاقبة الحرمان من الجنة، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة).
ولذلك لا عجب من أن يكون أول السبعة الذين يظلهم الله عز وجل في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله الإمام العادل، الذي يحكم في الناس بشرع الله عز وجل، ويرفض كل ما يتنافى مع شرع الله عز وجل، ويعتبر الولاية مسئولية عظيمة ينبغي أن يقوم بها على أكمل وجه، وأنها تكليف لا تشريف، ويعتبرها عبئاً ثقيلاً كما اعتبرها أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فلما بويع له بالخلافة صعد المنبر وقال خطبة علم من خلالها القادة إلى يوم القيامة مدى عِظم مسئولية الخلافة التي تحملوها، فقال في مستهل خلافته: (أيها الناس! إني قد وليت عليكم وليست بخيركم، إن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني) ثم يبين ميزان العدل في الأرض، وهي الميزة التي لابد من أن يتصف بها كل من ولي أمراً من أمور المسلمين فقال: (القوي منكم عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه، والضعيف عندي قوي حتى آخذ الحق له، أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم).
هنا تبرز القيادة الصحيحة التي تنطلق من الوحي ومن مشكاة النبوة، والتي تعتبر مضرب المثل في التواضع، والحرص على العدالة، والتزام التقوى، وإدارة شئون الحكم طبقاً لتعاليم الإسلام ومبادئه، فيرون أن الخلافة عبئاً وأمانة يقومون على أداء مهامها بما يرضي الله سبحانه وتعالى.
أما الذي يعتبر أمر المسلمين غنيمة وفرصة للتمتع والتكبر والغطرسة فقد خان الأمانة، وعرض نفسه يوم القيامة للخزي والندامة، ويعتبر ذلك علامة من علامات الساعة، وحينما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الساعة قال: (إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة).
فإذا كان أمر المسلمين بأيدي الفسقة والمارقين من الدين فمعنى هذا حلول النكبات المتتابعة على الأمة، ولذلك جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هناك خصالاً إذا فعلتها هذه الأمة حل بها البلاء، وذكر من هذه الخصال: (إذا ساد القبيلة فاسقهم، وكان زعيم القوم أرذلهم) فإذا كان ذلك حينئذٍ يقول عليه الصلاة والسلام: (فانتظروا ريحاً حمراء وزلزلة وخسفاً ومسخاً، وآيات تتابع كنظام قطع سلكه فتتابع) أي: كالمسبحة حينما ينقطع خيطها فتخرج خرزة بعد الأخرى حتى تنتهي.
ومعنى ذلك أن النكبات سوف تتابع على هذه الأمة إذا كان زعيم القوم أرذلهم وساد القبيلة فاسقهم.
إذاً لابد في كل من يتولى أمراً من أمور المسلمين من أن يكون قوياً أميناً، ابتداءً من رعاية الغنم التي هي مهنة موسى عليه الصلاة والسلام بادئ ذي بدء إلى رعاية العالم، وما أكثر ما ينطلق رعاة الغنم ليكونوا هم قادة العالم، فكثيراً ما يربي الله عز وجل أنبياءه على رعي الغنم، كما جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما بعث الله من نبي إلا رعى الغنم.
قالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال: نعم.
كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة).
فمعنى ذلك أن رعاية الغنم هي البداية لقيادة الأمم، فإذا كانت رعاية الغنم تحتاج إلى القوة والأمانة فمن باب أولى رعاية البشر، حتى يطبق شرع الله في الأرض، ولذلك جعل الله تعالى صفات من ولاه أمراً من أمور المسلمين ومكن له في الأرض إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولذلك نجد أن يوسف عليه الصلاة والسلام لما طلب شيئاً من حكم مصر قال: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55]، فالحفظ والعلم والقوة والأمانة هي الصفات التي يجب أن يتصف بها كل من يتولى أمراً من أمور المسلمين.(45/8)
قبسات من حياة موسى عليه السلام أجيراً
ولما علم رجل مدين أن موسى عليه الصلاة والسلام يتصف بالقوة والأمانة اتفق معه على أن يكون راعياً للغنم مدة ثماني سنين، وإن أتم عشراً فذلك فضل من موسى عليه الصلاة والسلام وليس بواجب، أما الأجرة فإنه يزوجه إحدى ابنتيه.
وليس عجيباً أن يكون مهر هذه البنت خدمة تساوي عشر سنوات أو ثماني سنوات؛ لأنها امرأة صالحة، وحينما تضطر إلى الخروج تخرج على استحياء، وحينما تريد أن تكلم الرجال للحاجة والضرورة إنما تكلمهم على استحياء، ولا تسقي حتى يصدر الرعاء، ومن هنا ندرك الفرق الشاسع بين المرأة الساقطة والمرأة الكريمة، فالمرأة الساقطة لا تساوي شيئاً في مهرها، ولذلك لا عجب حينما نسمع أن المرأة في بريطانيا التي سقطت في أوحال الرذيلة أصبحت لا تساوي جنيهاً إسترلينياً في مهرها، وأن المرأة في البلاد المحافظة يبذل في سبيل الحصول عليها الشيء الكثير، فحينما تكون هذه المرأة كريمة محافظة على دينها وأخلاقها فإنها تستحق أعظم مهر، ولا يعني ذلك أن الأمة يجب أن تغالي في المهور بمقدار تمسك المرأة بدينها، بل إن الأمة في عصرنا الحاضر بصفة خاصة مطالبة بتيسير تكاليف الزواج وتقليل المهور، وذلك لتعدد وتنوع الوسائل التي تهدف إلى إبعاد الشباب عن دينهم، وإفساد أخلاقهم، ونشر الفاحشة في أوساطهم، فهناك الإعلام المدمر، وهناك المجلات والصحف السقاطة، وهناك الرفقة المنحرفة، ومن أنجع الحلول لتخليص الشباب من ذلك هو تحصينهم بالزواج.
وكثيراً ما يشتكي العمال من أصحاب العمل الذين يهضمون حقوقهم، ولربما لا يؤدون رواتبهم وأجورهم، ولربما ينهبون عرقهم، ولربما يستغلون ضعفهم كونهم في بلاد غير بلادهم وفي غربة، ثم يؤدي ذلك إلى ظلم عريض وشر مستطير، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه) وليس معنى ذلك أعطاء الأجير أجره وهو في حال العرق، ولكن المقصود هو المبادرة في إعطاء الأجير أجره، وعدم ظلمه بتأخير الأجر الذي يستحقه، وقد جاء الوعيد العظيم من الله تبارك وتعالى فيمن ظلم أجيره بأخذ شيء من حقوقه، جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيما يرويه عن الله عز وجل: (إن الله عز وجل يقول: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة) وذكر منهم (رجل استأجر أجيراً فاستوفى منه العمل ولم يوفه أجره).
إن الشريعة الإسلامية كفلت حقوق العمال كاملة غير منقوصة، بخلاف الشيوعية التي تدعي المحافظة على حقوق العمال، فالإسلام يأمر بأن يعطى الأجير أجره قبل أن يجف عرقه، ويأمر صاحب العمل أن لا يهضم هذا الأجير شيئاً من حقه، كما أن صاحب العمل يطالب الأجير نفسه أن يؤدي الحق الذي التزم به، ولذلك الله تعالى يقول: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ} [القصص:29] أي أن موسى عليه الصلاة والسلام التزم لرجل مدين بالوفاء بحقه كما التزم رجل مدين بأداء أجره، فسلم له زوجته التي اتفق معه على أن يكون مهرها خدمة عشر سنين.
فيجب على الأمة الإسلامية أن تحافظ على هذه العقود التي تبرمها، سيما حينما يشهدون الله عز وجل عليها، ولذلك لما أبرم العقد بين رجل مدين وبين موسى عليه السلام أشهد الله عز وجل على هذا العقد فقال: {وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [القصص:28]، فأصبح الوفاء بهذا العقد أمراً لازماً لكلا الطرفين، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1].
إذاً معنى ذلك أن نظام العمل وحقوق العمال وأحكام الإجارة والاستئجار وأداء الأجور كل ذلك موجود في الشريعة الإسلامية، وليس الدين الإسلامي محصوراً في العبادات فحسب كما يظنه طائفة من الناس الذين لم يعرفوا الإسلام حق المعرفة، فقد ابتلي عصرنا الحاضر بمن يسمون بالعلمانيين قاتلهم الله أنى يؤفكون، وهم في الحقيقة لا يستحقون هذه التسمية، حيث إنهم ينسبون أنفسهم إلى العلم، وهم أجهل الناس بتعاليم الإسلام وتشريعاته، ويريد العلمانيون إقصاء الشريعة الإسلامية عن جميع مجالات الحياة المختلفة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، وحصر الدين في العبادة، وشعارهم في ذلك: (ما لله لله وما لقيصر لقيصر) وهذا المعنى الذي يصرح به العلمانيون ليس قائماً في الحقيقة، فهم لم يتركوا الإسلام ليكون منهج عبادة، بل هو مطارد داخل دور العبادة، وكذلك داخل مساجد المسلمين، لا يتنفس أحدهم إلا وتحصى عليه أنفاسه في كثير من الأحيان.
والإسلام جاء ليكون منهج حياة اجتماعياً وثقافياً وسياسياً واقتصادياً وتعبدياً، ولا يمكن أن يصلح حال المجتمع وتستقيم أوضاعه إلا بتحكيم الشريعة الإسلامية في كل صغيرة وكبيرة، وفي كافة مجالات الحياة المختلفة، فدين الإسلام منهج حياة متكامل، ولذلك تجد أن آيات القرآن الكريم حينما تتحدث عن النواحي الاجتماعية والعلاقات الزوجية فإنه يتخلل ذلك الحديث عن العبادة، فمثلاً: في سورة البقرة تحدثت بعض آياتها عن أحكام تتعلق بالزوجة مع زوجها، ثم تخلل ذلك الحث على عبادة من العبادات، قال الله تعالى: ((وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)) [البقرة:237] ثم قال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ * فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة:238 - 239]، ثم تعود الآيات مرة أخرى للحديث عن الحياة الاجتماعية والأحكام المتعلقة بين الزوجين {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة:240].
ونجد أن القرآن الكريم يتحدث أيضاً عن السياسة، قال تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الشورى:38]، وقال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران:159]، ويتحدث ويحذر من الحكم بغير ما أنزل الله فيقول: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]، ويقول تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45]، ويقول تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47].
ويتحدث كذلك عن الأنظمة الاقتصادية فيقول تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان:67].
فهذا يدل دلالة واضحة على أن الإسلام كل لا يتجزأ، وأنه يجب على المسلمين أن يأخذوا بجميع عرى الإسلام وشرائعه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208].
وبعد الانتهاء من استعراض حياة موسى عليه الصلاة والسلام قبل النبوة نقول: إن على الأمة الإسلامية أن تأخذ من هذه القصص العظة والعبرة، وأن تتخذ منها منهج حياة؛ لأن الله سبحانه وتعالى إنما أوردها من أجل ذلك، وحتى لا تقع هذه الأمة فيما وقعت فيه الأمم السابقة التي تنكبت عن المنهج الصحيح الذي رسمه الله عز وجل لها، ثم كانت العاقبة العذاب والنكال والخسارة والبوار، فإن في أخبار الأمم ما يكفي للعظة والعبرة {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت:40].
والقوى المادية التي تعلقت بها تلك الأمم من دون الله عز وجل ما استطاعت أن تحميها قيد أنملة من عذاب الله عز وجل حينما نزل، ولذلك الله تعالى يقول: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:41]، فعلينا وعلى ولاة الأمر الذين استرعاهم الله عز وجل أمور المسلمين العامة والخاصة، وعلى كل فرد من أفراد هذه الأمة أن نتقي الله، فإن العاقل من اتعظ بغيره، وإن لله عز وجل سنناً لا تتخلف {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الأحزاب:62].
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على رسولنا وسيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(45/9)
أصناف البشر
تعج الحياة بأصناف شتى من البشر، فمنهم من ملؤه الشر والكفر والنفاق، ومنهم من ملؤه الخير والصلاح والإيمان، وبينهما أصناف أخرى، وقد ذكر الله في كتابه أحد عشر صنفاً من هؤلاء، وهم في الأصل ينقسمون إلى قسمين: فريق إلى الجنة وفريق إلى السعير، لكن لما كان هناك تفاوت في درجات الجنة، وتباين في دركات النار وجدت هذه الأصناف الكثيرة، وكل صنف له ما يميزه عن غيره، والواجب على المسلم أن يكون من أهل الخير والصلاح والإيمان.(46/1)
حكمة تصنيف البشر
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، الحمد لله الذي فاوت بين عقول البشر، فترتب على هذا التفاوت في العقول تفاوت في السعي والمقاصد، وجعل فريقاً في الجنة وفريقاً في السعير.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، وحجة على الناس أجمعين، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الإخوة في الله! اقتضت حكمة الله عز وجل أن يخلق الجنة والنار، وأن يخلق لكل واحدة منهما أهلاً، يخلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، كما اقتضت حكمته سبحانه وتعالى أن يعمر هذه الحياة بالمخلوقات، ويعطيهم من العقول والأدلة ما على مثله يؤمن البشر، كما اقتضت حكمته سبحانه وتعالى أن يقوم صراع عنيف منذ بدء الخليقة وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها بين الحق والباطل، وبين الإيمان والكفر، ابتداءً من الساعة التي أهبط الله عز وجل فيها آدم من الجنة، وقال: {اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [البقرة:36]، وما زالت هذه العداوة بين إبليس وذريته وبين آدم وذريته باقية وستبقى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وبناءً على هذه العداوة، وبناءً على تلك الحكمة الربانية كان الناس أصنافاً من البشر، وكان الناس معادن، وكانوا كالأرض التي يعيشون عليها: تربة تمسك الماء وتنبت الكلأ، وينفع الله بها الناس، وتربة تمسك الماء فتنفع الناس في شربهم، وتربة هي قيعان لا تنبت كلأ ولا تمسك ماء.
ثم أقام الله عز وجل الحجة على كل البشر؛ بحيث لا تبقى حجة لأحد على الله عز وجل، ومن هنا قسم القرآن الناس إلى أحد عشر قسماً، وإن كانوا في الأصل قسمين: فريق في الجنة وفريق في السعير، لكن لما كان هناك تفاوت في درجات الخير وفي درجات الجنة، وهناك تفاوت أيضاً في مراتب الشر ودركات العذاب؛ قسم الله عز وجل هؤلاء البشر -كما تدل آيات القرآن- إلى أحد عشر قسماً، وكل واحد من هذه الأقسام الأحد عشر يقول الله عز وجل فيها: (وَمِنَ النَّاسِ)، (وَمِنْهُمْ)، (فَمِنْهُمْ)، وإذا جاءت: (وَمِنَ النَّاسِ)، (فَمِنَ النَّاسِ)، (وَمِنْهُمْ)، (فَمِنْهُمْ)؛ فإنما تعني أنواع البشر، بخلاف ما ورد في سورة التوبة؛ فإن كل آية وردت في سورة التوبة فيها {وَمِنْهُمْ} [التوبة:49]-وهي في أربعة مواضع- فالمقصود بها المنافقون فقط، أما ما سواها في القرآن فإنها تعني أقسام الناس جميعاً.
وحينما نمر مروراً عابراً على هذه الأقسام الأحد عشر -ولعل بعضها يدخل في بعض- نجد العجائب في خلق الله، ونجد التفاوت في هؤلاء البشر، فمنهم من يعيش في القمة، ومنهم من يعيش في أسفل دركة من دركات هذه الحياة، ولذلك فإن المؤمن وهو يسمع أخبار القوم عليه أن يختار أفضل المراتب وأعلى المنازل، من أجل أن يكون في أعلاها يوم القيامة، يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.(46/2)
الصنف الأول: المنافقون من البشر وصفاتهم
لقد تحدثت أوائل سورة البقرة عن نوع واحد فقط من هذه الأنواع الأحد عشر، وهم المنافقون؛ لأن المنافقين ذكروا في ثلاث عشرة آية في سورة البقرة، وذلك بعد أن ذكر الله عز وجل صفات المؤمنين في أول السورة، ثم ذكر صفات الكافرين في آيتين، ثم ذكر بعد ذلك في ثلاث عشرة آية صفات المنافقين فقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة:8 - 10]، ومن ثَم نريد أن نعرف معنى النفاق الذي احتوى هذا النوع الأول من هذه الأنواع.
النفاق لغة: هو إخفاء الأمر، وفي الاصطلاح الشرعي: إظهار الإيمان وإبطان الكفر.
والنفاق ينقسم إلى قسمين: نفاق عملي، ونفاق اعتقادي، والنفاق الاعتقادي هو الأعظم والأفظع -نعوذ بالله من شره- وهو الذي يقول الله عز وجل عن أهله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النساء:145 - 146]، وهؤلاء يبطنون في قلوبهم الكفر، ويظهرون الإيمان أمام الناس.
أما النفاق العملي: فهو الذي يتصف بالصفات الأربع أو بواحدة منها: (إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان، وإذا عاهد غدر)، إلى غير ذلك.
ومن المعلوم أن النفاق لا يوجد إلا في فترات متقطعة من فترات التاريخ، وهي فترات عِزَّ الإسلام، فإذا كان الإسلام عزيزاً في زمن ما أو في بلد من البلاد وجد النفاق؛ لأن أصحابه يهدفون من ورائه إلى حماية أنفسهم وأموالهم وأعراضهم من المسلمين، ولذلك فما وجد النفاق في مكة وإنما وجد في المدينة يوم أعز الله الإسلام وكانت له دولة.
ولقائل أن يقول: إذا كان هذا حقاً؛ فهل يوجد النفاق في أيامنا الحاضرة ونحن نرى أن الخير أصبح مغموراً في عالمنا اليوم، وفي حياة الناس ودنياهم؟ وهل للنفاق مكان في أيامنا الحاضرة؟ نقول: نعم، يوجد النفاق في أماكن يظهر فيها الخير، وكلما برزت بلد من بلاد الله بنوع من أنواع الخير وجد النفاق، إلا أن النفاق يأخذ مع مرور الأيام طابعاً جديداً، ويختلف ويتأقلم بحسب البيئات من حوله، وبحسب العصور والأيام.(46/3)
خداعهم لله وللمؤمنين
إذا أردنا أن نعرف صفات هؤلاء المنافقين؛ فعلينا أن نقرأ هذه الآيات: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:8 - 9]، وهذه أولى صفاتهم، فهم يخادعون الله، أي: يظنون أنهم يخدعون الله لكنهم لا يستطيعون ذلك، ويخادعون المؤمنين بحيث يظهرون لهم مظهر الخير والصدق، وأنهم من أنصار هذا الدين، وأنهم يريدون الخير بالمرأة -مثلاً- كما هي شعارات أنصار المرأة من أصحاب حقوق المرأة الذين يحافظون على حرية المرأة -كما يقولون- لكن في الحقيقة كل واحد من هؤلاء يريد أن تتفسخ المرأة وتنحل؛ ليصطادوها في الماء العكر، ولتصبح في متناول أيديهم، ولذلك لا تعجب أن تكون هناك جمعيات ومؤسسات ومنظمات تزعم أنها تدافع عن حقوق المرأة، فإن هذا الأمر مبطن، فإنهم يريدون فساداً في الأرض بحيث لا يقف أي حاجز من الحواجز أمام شهواتهم ورغباتهم، ولذلك فإنهم كما قال الله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:9]، فلو قرأت كتاباً واحداً من كتبهم، أو مما كتبته صحيفة لهم أو مجلة لقلت: هذا يحكي لنا عصر عمر بن الخطاب أو عمر بن عبد العزيز رضي الله عنهما، أو أحد من الصالحين، لكن قلبه يغلي حقداً على الإسلام، ولكنه لا يملك شيئاً ليخرج الناس من إطار الإيمان والفضيلة والخير إلا أن يسلك هذا المسلك.
قال تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة:10]، وهذه أيضاً صفة من صفاتهم، أي: أن عندهم شكاً، وزادهم الله شكاً بسبب الشك الأول؛ لأن كل معصية يفعلها الإنسان إنما هي جزاء معصية سابقة.(46/4)
إفسادهم في الأرض بدعوى الإصلاح
أيضاً من صفاتهم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة:11]، هم يقولون: إنهم مصلحون، وهم في الحقيقة مفسدون، وحتى إذا دعوا إلى الإصلاح ونهوا عن الإفساد، قالوا: هذا هو الإصلاح، ولذلك لا تعجبوا إذا قرأتم صحف ومجلات كثير من العالم الإسلامي ثم وجدتم هؤلاء المفسدين يخرجون بثياب المصلحين، ولا تعجبوا إذا رأيتموهم يزعمون الإصلاح؛ فإن هذا هو منهجهم منذ خلق الله البشرية وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، والله تعالى يحكم عليهم بأنهم مفسدون: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} [البقرة:12].(46/5)
استهزاؤهم وسخريتهم بالمؤمنين
ومن صفاتهم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ} [البقرة:13]، يقولون: {أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} [البقرة:13]، يحتقرون عباد الله، ويرون أن الإيمان سفه، والدين تخلف، والأخذ بأهداف الدين رجعية، ولذلك يقولون: هؤلاء سفهاء، وهذا قد وجد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد استكبر قوم كثر عن الدخول في الإسلام، وقالوا للفقراء: لو كان خيراً ما سبقونا إليه، هل يمكن لـ بلال الحبشي وصهيب الرومي وسلمان الفارسي وفقراء المسلمين أن يسبقوهم؟ نقول: نعم؛ لأن الله عز وجل إذا أراد الهداية لأحد من الناس جعله موضعاً للهداية، ولذلك فإنهم دائماً يسمون المسلمين سفهاء، ويضحكون ويسخرون منهم، ويسخرون من شكلهم وملابسهم ولحاهم إلخ.
وعلى هذا فإنهم دائماً يسخرون من المؤمنين ويسمونهم سفهاء، ولكن الله تعالى يقول: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ} [البقرة:13].(46/6)
أنهم أصحاب وجهين
من صفاتهم: أنهم إذا كانوا مع المؤمنين كان لهم وجه، وإذا كانوا مع إخوانهم المنحرفين كان لهم وجه آخر؛ لأنهم يقابلون الناس بوجهين، وهم شر الناس يوم القيامة: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} [البقرة:14]، أي: من شياطين الإنس، {قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:14]، نسخر من هؤلاء، {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة:15].(46/7)
تحين الفرص للإيقاع بالمسلمين
هذا النوع من أصناف البشر يتحين الفرص، فلا تكاد تحين فرصة أو تسنح مناسبة إلا ويظهر ما فيهم من بلاء، ولذلك كان المنافقون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون مع الرسول عليه الصلاة والسلام، ويصومون، وربما يجاهدون، لكنهم إذا رأوا أن الفرصة لغير المسلمين قامت تتكشف أخبارهم وتظهر مشكلتهم، ولذلك لا نستغرب ما حدث منهم يوم الأحزاب يوم ظنوا أن المسلمين قد انكشفوا، وجاء الأحزاب من كل جانب؛ فإذا بالمنافقين ينضمون إلى أعداء الإسلام من الخارج، ويضمون صوتهم إلى أصواتهم.(46/8)
الصنف الثاني: اللاهثون وراء الدنيا
النوع الثاني من أنوع هؤلاء البشر كما قص القرآن علينا أخبارهم: هم الذين يقول الله عز وجل عنهم لما ذكر أحكام الحج، وذكر الناس وتفاوتهم: قال: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة:200]، هؤلاء القوم ليسوا بمنافقين، ولكنهم كفار غير مقنعين؛ بل هم مكشوفون، فليس لهم هدف إلا الدنيا، ولا يريدون إلا الدنيا، ويسعون كل سعيهم في سبيل الدنيا الدنيا هي همهم الوحيد؛ فمن أجلها يحبون، ومن أجلها يبغضون، ومن أجلها يوالون، ومن أجلها يعادون، وإيمانهم بالآخرة -إن كان هناك إيمان- ضعيف لا يمكن أن يقف على رجليه مع حبهم للدنيا، وحتى إذا سألوا الله تعالى لا يسألونه إلا الدنيا، فأحدهم: {يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة:200]، أي: آتنا في الدنيا حظاً ونصيباً، وليس له حظ في الآخرة؛ لا في دعائه ولا في عمله ولا في رجائه، ولا فيما عند الله عز وجل.
هؤلاء نجدهم اليوم أيضاً يكثرون بين الناس، ونجد أن أحدهم وإن كان له شيء من الهدف في الآخرة؛ لكنه يضرب بهذا الهدف عرض الحائط إذا تعارضت مصالحه المادية مع الدينية، فنجد أن هناك أقواماً ليسوا أعداءً للإسلام، ولا يحملون الحقد للإسلام كما يحمله غيرهم، ولكنهم يعتبرون هذا الدين شيئاً كمالياً، فإذا تعارضت مصالحهم المادية مع دينهم ضربوا بمصالحهم الدينية عرض الحائط، واتجهوا إلى الدنيا يصلحونها ويعمرونها، ولو أدى ذلك إلى خراب حياتهم الآخرة! هؤلاء الناس لا يريدون إلا الدنيا، والله تعالى أخبرنا بأن هؤلاء ليس لهم نصيب ولا خلاق في الآخرة، ولذلك فإن الله تعالى قد أخبرنا أنهم يأخذون نصيبهم كاملاً في الدنيا، فيعطون الصحة والعافية والمال والولد والجاه والمركز، جزاء ما يقدمونه في دنياهم من الأعمال التي لم تكن على قاعدة الإيمان والنية الخالصة الصادقة، فالله تعالى يقول عنهم: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ} [هود:15 - 16]، وإذا كان منهم من يبني المساجد أو المدارس أو المستشفيات أو المراكز أو القناطر أو الترع وينفع عباد الله، لكنه على غير هدف، وعلى غير الإيمان؛ فإن الله عز وجل يعجل لهم حسناتهم في الدنيا ويعطيهم الصحة والعافية والمال والولد؛ لأن الله تعالى كما يقول عن نفسه: {لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء:40].(46/9)
الصنف الثالث: عُمار الدنيا والآخرة
النوع الثالث من أنواع البشر: نوع جاء بعد هؤلاء مباشرة في سورة البقرة: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [البقرة:201 - 202]، هذا النوع من البشر يعمرون الدنيا، لكن يضعونها في أكفهم، ويعمرون الآخرة ويضعونها في قلوبهم، ويعلمون علم اليقين أن الدنيا جسر ومعبر للحياة الآخرة، ويعلمون أن الإنسان لا يمكن أن تستقيم أموره، وأن الكون لا يمكن أن يستمر وجوده إلا بعمارة هذه الحياة الدنيا، ولذلك فإنهم يعمرون الدنيا والآخرة، لكنهم يعمرون الدنيا لهدف محدود للدنيا نفسها، ويعمرون الآخرة من أجل رضا الله عز وجل، ولذلك فإنهم إذا دعوا الله عز وجل يسألونه الدنيا والآخرة: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201]، فهم يسألون الله تعالى الدنيا والآخرة، ولكنهم يعضون بأنيابهم على الحياة الآخرة فلا يقدمون عليها أي شيء, وإذا تعارضت مصالحهم المادية مع دينهم فإنهم يضربون بمصالحهم المادية عرض الحائط ليحتفظوا بدينهم؛ لأن هذا الدين هو الذي من أجله خلقوا، ومن أجله استعبدهم الله عز وجل به.
هذا النوع الثالث هو الذي يجب أن يكون عليه الناس أجمعون؛ لأن الإسلام كما يكره الروحانية المنحرفة الموغلة؛ يكره أيضاً المادية المفرطة التي لا تؤمن بالأديان، ولذلك نحن نعيش الآن بين طرفي نقيض في أيامنا الحاضرة: الشيوعية الإلحادية المادية التي تنكر كل القيم والروحانيات، ولا تعترف بواحدة منها، فهذه نحن نرفضها؛ لأننا أمة خلقنا لهدف؛ ولأن الخالق هو الله سبحانه وتعالى، ونؤمن بالحياة الآخرة، وبالأديان، وبالرسول، وباليوم الآخر، أما الشيوعية فلا تؤمن بشيء من ذلك، فنحن نرفض الشيوعية ونعتبرها كفراً وإلحاداً، ونشكر الله سبحانه وتعالى أن هدانا بفضله.
وعلى الطرف الثاني من النقيض: الصوفية الموغلة في الروحانية، والتي لا تعطي الجسم شيئاً من حقه، وإنما تعطى الروح وحدها، وهذه أيضاً نحن نرفضها، يقول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143]، أي: بين طرفي نقيض، وهذه الوسطية سواء كانت في جغرافية الأمة الإسلامية، أو أخلاقها، أو عاداتها، أو عباداتها، أو سلوكها، تبرز دائماً.
وإذا نظرنا إلى الإسلام في أي مجال من المجالات وجدناه دائماً يتوسط بين طرفي نقيض، فمثلاً: يعيش الآن نظامان اقتصاديان في العالم: نظام يسمى: الرأسمالي، ومعنى الرأسمالي بمعناه الاصطلاحي لا اللغوي: أن نكسب المال من الحلال أو الحرام، وأن ننمي الربا، وألا يكون في أموالنا حق للسائل والمحروم، وليس هناك أي واجب في هذا المال، بل على الإنسان أن يسعى لكسب هذا المال من طرق الحرام أو الحلال، وعليه أيضاً أن يبخل بهذا المال بحيث لا ينفقه في أي وجه من وجوه الخير، هذه الرأسمالية بمفهومها الاصطلاحي، يقابلها في الطرف الآخر نظام كافر آخر يسمى: الاشتراكية، النظام الذي يريد أن يبتز أموال الأغنياء لا من أجل أن يرفع من مستوى الفقراء، ولكن من أجل مصالح وفوائد أخرى من أجل تثبيت عروش تهتز بأهلها من تحتهم، ولذلك فإن الله عز وجل جعلنا أمة وسطاً؛ فلا نحن ندين بالاشتراكية التي تظلم الناس وتأخذ أموالهم، ولا بالرأسمالية التي تكسب الأموال من الحلال أو الحرام، ولا تعترف بحقوق الغير أو الفقراء هذا هو المنهج القويم.
وقوله: (وسطاً) يحتمل معنيين أيضاً: بمعنى: العدول، وبمعنى: تتوسطون بين الأمم في كل حالة من الحالات، فنحن نشكر الله على ذلك.
أما الذين يريدون أن يحولوا الإسلام إلى روحانية ورهبانية ما أنزل الله عز وجل بها من سلطان؛ فإن هؤلاء رأيهم مرفوض؛ لأن هذا الدين لا يكون إلا بالروح وبالجسد، ونحن أيضاً نتوسط بين أعدائنا، فالشيوعية تذيب الفرد في سبيل الدولة، والرأسمالية تذيب الدولة في سبيل الفرد، أما نحن فالإسلام دين يعترف بالدولة ويعترف بالفرد، ويعطي كل واحد منهما حقه، ولذلك فإنه يحارب الرهبانية، ويقول الله عز وجل عن النصارى الذين انتحلوا الرهبانية وما فرضها الله تعالى عليهم: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد:27]، ثم يقول بعد ذلك الله تعالى: {إلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} [الحديد:27]، يعني: هم فعلوها ابتغاء رضوان الله، {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد:27]، ولذلك حرم الإسلام الرهبانية، فالإسلام ليس دين الكهنوت ولا الرهبانية، ولكنه دين يتوسط بين الروح والجسد؛ فيعطي الإنسان حريته؛ بل يفرض عليه أن يسعى للبحث عن الرزق الحلال، ثم أيضاً يأمره بأن يستقيم على دين الله عز وجل في آنٍ واحد، ولذلك يقول الله عز وجل على لسان أهل الخير من قوم قارون الذين وعظوه فقالوا له: {لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:76 - 77]، فهم ما قالوا له: اتجه للآخرة فقط، ولكن قالوا: {وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77].
ولما جاء ثلاثة نفر إلى بيت من بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوا عن عمله في السر فأخبروا بعمله، فقال واحد منهم: أما أنا فأصلي الليل ولا أرقد، يعني: كل الليل أجعله في عبادة، وقال الثاني: وأنا أصوم النهار ولا أفطر، وقال الثالث: وأنا لا أتزوج النساء، يريدون الرهبانية والانقطاع للعبادة، فماذا فعل الرسول صلى الله عليه وسلم لما علم بخبرهم؟ لم يغضب غضباً كغضبه في ذلك اليوم، فقام وخطب وقال: (أيها الناس! أما بعد: فوالله إني لأتقاكم لله وأخشاكم له، وإني أصلي وأرقد، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)، هذه هي الحياة التي يجب أن نسعى لها، وليس معنى ذلك أن نقسم الحياة إلى قسمين: للدنيا وللآخرة، لا؛ بل نعمر الدنيا بقدر حياتنا فيها، ونعمر الآخرة بقدر مقامنا الطويل فيها، ومن هنا فلا نقدم مصلحة من مصالح الدنيا على هدف من أهداف الآخرة، وإذا كان أمام الإنسان أمراً من الأمور المحرمة التي يكسب فيها المال؛ فإنه يتصور أنه ما خلق لهذه الدنيا، وحينئذٍ يترك هذا الحرام ويكتفي بالحلال، وهذا كله تخلقه الحياة التي يتوسط فيها بين عمارة الدنيا وعمارة الآخرة، ولذلك يقول الله تعالى عن هذا الصنف: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا} [البقرة:201 - 202]، هؤلاء هم الذين يدركون نصيباً؛ بخلاف من ذكر قبلهم فإن نصيبهم يضيع؛ لأنه أراد الدنيا وأخذ نصيبه من الدنيا، فانتهى أمره وأعطاه الله كل حقوقه في الدنيا، أعطاه صحة وعافية ومالاً وولداً ومركزاً وملكاً وسلطة، أما الثاني فإنه أراد الآخرة؛ فادخر له جزاؤه إلى الحياة الآخرة.(46/10)
الصنف الرابع: من يتخذ الدين مطية للإفساد في الأرض
عن النوع الرابع من أنواع البشر جاءت هذه الآيات لتصفهم مباشرة، يقول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة:204]، {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ} [البقرة:206].
هذا النوع من البشر له كلام معسول يعجب الناس، وإذا تحدث يأخذ بألباب الناس، وإذا تكلم عن الإسلام بدأ يمدحه، ويصفه بأنه دين الحياة والرقي والتقدم، وإذا كان له مطلب من مطالب الدنيا اتخذ الدين مطية، وبدأ يظهر أمام الناس بمظهر الرجل الصالح المصلح، فإذا ظفر ببغيته، وحصل على مراده، وأدرك أمنيته؛ ضرب بدين الله تعالى عرض الحائط، لماذا؟ لأن الهدف قد انتهى، والمهمة قد تحققت، ولذلك فإنه: {يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [البقرة:204]، على اختلاف بين المفسرين في معنى: (فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) فقيل: أي: حديثه عن الدين، وقيل: حديثه عن الدنيا فقط، وعلى كل فإن الرأي الأول أولى؛ لأنه قال بعد ذلك: (تَوَلَّى) أي: أعرض وانتهت مهمتة، كما اختلف علماء التفسير في معنى: (تَوَلَّى)، فقال بعضهم: إذا ولي منصباً من مناصب المسلمين، فما دام يهدف إلى هذا المنصب؛ فإنه يعد الناس ويمنيهم وسيفعل وسيفعل، وسيعيد عصر الخلفاء الراشدين، لكنه إذا ظفر بمراده ضرب بدين الله عز وجل عرض الحائط، وأصبح أكبر عدو للإسلام، أو انتهى من مهمته، وحصل على بغيته، بعدها سعى في الأرض فساداً: {لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْل} [البقرة:205].
هذا أخطر أنواع البشر، وهو في أخبث المنازل؛ لأنه يخدع الناس حتى يوصلوه إلى مركزه ومطلبه، ويبذلون له كل غال ونفيس في سبيل إيصاله إلى أن يتولى أمراً من أمورهم، فإذا به يضرب بهم عرض الحائط، وإذا به يتحداهم ويتحدى دينهم وأخلاقهم وفضائلهم.
وهذا النوع كثير في حياة الناس، ولو نظرنا إلى كثير من زعماء العالم الإسلامي الذين كانوا يعدون ويمنون، ويقولون: سنفعل وسنصلح، حتى إذا صعد أحدهم واعتلى على الكرسي إذا به العدو اللدود لدين الله عز وجل ولأوليائه، ومن هنا امتلأت السجون بالأبرياء، وتحولت السجون إلى معتقلات في أكثر العالم الإسلامي، فالأبرياء الذين يعيشون في معتقلات الطغاة والظلمة في أيامنا الحاضرة يساوون آلاف الأضعاف بالنسبة للمجرمين الذين يعيشون في السجون العادية، لماذا؟ لأن هؤلاء إذا تولى أحدهم قلب ظهر المجن على أولياء الله، وأصبح عدواً لدين الله عز وجل، ولذلك أخبر الله عز وجل أن هؤلاء يهلكون الحرث والنسل -نعوذ بالله- وذلك بأن يفرضوا من الفساد والطغيان والانحراف في الأرض ما يكون سبباً في دمار هذا العالم، ولذلك تنقطع الأمطار، وتتوقف الخيرات بأسباب هؤلاء، فيهلك الحرث -أي: الزرع- ويهلك النسل والمواشي وحتى البشر بأسباب هؤلاء.
ولو نظرنا إلى واقع العالم الإسلامي اليوم لوجدناه يعيش هذه الحياة الدامية التي لا يستطيع قلم أن يصفها أو لسان أن يتحدث عنها، فلا نسمع عبر الأثير من الأخبار إلا المجازر والقتل والدماء بمئات الآلاف، لم هذا؟ لأن كثيراً من هؤلاء السفهاء الذين تولوا مناصب العالم الإسلامي كانوا سبباً في دمار هذا العالم، ولذلك بمقدار ما يتولى السفهاء الأمور بمقدار ما تنحط الدنيا، وتنحرف وتسوء أحوال العالم الإسلامي.
أيها الإخوة! إننا حينما نسمع مثلاً عن أخبار لبنان أو العراق أو إيران أو العالم، لا نسمع إلا ما يدمي القلب، وعلى هذا نقول: إن هذه عقوبة الله عز وجل أنزلها بهؤلاء القوم: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102]، والله تعالى يقول عن هؤلاء: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205]، كيف نعرف هذا النوع من البشر؟ نعرفهم بصفة ذكرها الله عز وجل بعد ذلك، قف أمام واحد منهم وقل له: اتق الله، فسيقول لك: أنا أتقي الله؟! هذا ينتظره السجن والقتل والعقوبات والويلات والمصائب أولى به، لا يريد أن يقال له: اتق الله، {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ} [البقرة:206]، إذاً: لا يلين قلب هذا وجسمه القاسي ورأسه الصلب إلا نار جهنم، فهي التي ستذيبه وتقضي عليه؛ {فحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة:206].
اذهب إلى هؤلاء الطغاة في أكثر العالم الإسلامي وقل لأحدهم: اتق الله، وانظر ما سيفعله بك، وحينئذ تعرف الحكمة والمعجزة لهذا القرآن العظيم لما ذكر أن من صفات هؤلاء إذا قيل لأحدهم: اتق الله، غضب، وما امتلأت السجون والمعتقلات في أيامنا الحاضرة في هذا العالم الإسلامي إلا لأن المسلمين الأتقياء يأتون إلى هؤلاء ويقولون لهم: اتقوا الله، ولأن المسلمين يريدون الإصلاح في الأرض، وأولئك يريدون الإفساد فيها، فيأخذونهم أخذاً شديداً، ولكن هؤلاء ينتظرهم موعد بينهم وبين هؤلاء المؤمنين المظلومين يوم يقف الجميع بين يدي أحكم الحاكمين، في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
اسمعوا أخبار شمال أفريقيا والشام، وابحثوا عن السجون، لقد أصبح المسلم في تلك البلاد لا يستطيع أن يؤدي أبسط شعائر الدين، فضلاً عن أن يقول لذلك الطاغية: اتق الله، فكيف به لو قال له: اتق الله، وهو يظن أنه أتقى الناس، وهو في قلبه وقرارة نفسه يؤمن بأنه هو الخليفة المصلح، فيسمى بأمير المؤمنين، ويسمون أنفسهم بالمصلحين، وهم شر أعداء الله تعالى.
إذاً: نعرف كيف أن الله عز وجل أعلمنا عن هذا النوع من البشر، ونشكر الله سبحانه وتعالى على ذلك، فنحن هنا نعيش في خير، ويتخطف الناس من حولنا، ونسأل الله أن يثبتنا على القول الثابت، ونسأله سبحانه وتعالى أن يحفظ لنا قادتنا بالإسلام، وأن يهديهم للاستقامة، وأن يجعلهم يأخذون بأسبابها.(46/11)
الصنف الخامس: البائعون أنفسهم لله وابتغاء مرضاته
هذا النوع هو الذي بلغ الذروة في الاستقامة والصلاح، في مقابل الذين يفسدون في الأرض ويهلكون الحرث والنسل، وإذا قيل لأحدهم: اتق الله، وأمر بطاعة الله، تكبر وتغطرس، وشمخ أنفه، وعلا برأسه، بالرغم من هذا هناك قوم في ذروة الاستقامة، من هؤلاء القوم؟ هؤلاء القوم هم الذين يشرون أنفسهم -أي: يبيعونها لله عز وجل- بينما أولئك يبيعون أنفسهم على الشيطان، ولا يرحمون أنفسهم، ولا يرحمون الأمة التي يعيشون معها، هؤلاء يقابلهم قوم يشرون أنفسهم لله عز وجل، ولذلك يقول الله تعالى عنهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ} [البقرة:207]، أي: يبيع نفسه، كلما جاءت (يشري) بدون التاء فمعناها البيع، وليس الشراء، {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} [البقرة:207].
نزلت هذه الآية في رجل من المؤمنين قصته عجيبة، هذا الرجل هو صهيب الرومي رضي الله عنه، فقد كان من المؤمنين الأتقياء الفقراء المظلومين في مكة، ولما أذن الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة كان صهيب الرومي رضي الله عنه من أثرى أهل مكة، ما الذي فعله صهيب؟ أخذ أمواله ولحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، فوقف له المشركون في الطريق، وقالوا: يا صهيب! أنت الرجل الدخيل فينا، أتيت من بلاد الروم رجلاً فقيراً، وإذا بك اليوم تحمل هذه الأموال الطائلة، والله لا نتركك أبداً، فقال: وماذا تريدون مني؟ قالوا: نريد كل أموالك، فقال: هذه كل أموالي خذوها، ودعوني ألحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: الآن فاذهب، فلما وصل إلى المدينة وجدهم يتلون هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة:207]، فإذا بالمسلمين يقابلونه في الطريق ويهنئونه بهذه البيعة على الله عز وجل، والرسول صلى الله عليه وسلم من ضمن هؤلاء، ويقول له: (ربح البيع أبا يحيى).
إن الذين يشرون أنفسهم ابتغاء مرضاة الله موجودون في كل عصر، وهم يبيعون أنفسهم وأموالهم وحتى راحتهم، ويعيشون ولو في قلق في هذه الحياة من أجل أن يظهر دين الله عز وجل، وهؤلاء هم الذين يدخلون ضمن هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} [البقرة:207]، ولذلك أخبر الله تعالى أن هؤلاء باعوا أنفسهم وأموالهم على الله بالجنة، كما قال سبحانه وتعالى في سورة التوبة: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ} [التوبة:111]، ولما نزلت هذه الآية قام عبد الله بن رواحة وقال: (يا رسول الله! ما لنا؟ قال: الجنة، فقال: يا رسول الله! ربح البيع، لا نقيل ولا نستقيل)، يعني: لا نريد ثمناً غير هذا.
ولذلك فإن من المؤمنين اليوم عدداً كثيراً -والحمد لله- باعوا أنفسهم على الله عز وجل، وقدموا أنفسهم ولو غضب أعداء الله ولو غضب الطغاة، وقدموا دماءهم في سبيل الله عز وجل من أجل أن يظهر دين الله ولو حصل ما حصل.
ولذلك فما وقف الطغاة في الأرض مشدوهين أمام قوم أكثر من هؤلاء؛ لأن هؤلاء هم الذين لا يبالون بالموت، ولا بكل ما يخسرون من متاع الحياة الدنيا في ذات الله عز وجل، وفي سبيل مرضاة الله سبحانه وتعالى.(46/12)
الصنف السادس: المجادلون في الله وشرعه
هذا النوع مذكور في سورة الحج، يقول الله عز وجل عنه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [الحج:3 - 4].
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ)، أي: يخاصم في وجود الله، ونجد اليوم أقواماً يناقشون الناس: هل الله تعالى موجود أو غير موجود؟! وما كان ذلك موجوداً في تاريخ العالم إلا في فترات متقطعة؛ كعصر فرعون الذي أنكر الخالق سبحانه وتعالى لهدف استعباد الأمة؛ لأن الله تعالى يقول عنه وهو يكشف مؤامرته: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14]، أي: جحدوا بها ظلماً وعلواً.
أو في فترات كفترة الشيوعية المعاصرة -عليها لعنة الله وعلى مؤسسيها إلى يوم القيامة- الذين ينكرون الخالق سبحانه وتعالى، والأديان والكتب السماوية والبعث؛ من أجل أن يستولوا على هذا العالم، ولذلك فإنا نجد أقواماً ممن يحسبون على الإسلام في أيامنا الحاضرة يجادلون في وجود الله عز وجل، ولربما يجادلون في وحدانيته، كأصحاب القبور والوثنيات الذين سلمت بلادنا -والحمد لله- منهم؛ لأن بلادنا ما زالت تعيش وتتمتع بدعوة سلفية، وستبقى بإذن الله إلى يوم القيامة، وكذلك يجادلون في أسماء الله وصفاته، ولم يكفهم أن يجادلوا في دين الله، بل تطاولوا ليجادلوا في الله عز وجل بغير علم، وإن كانوا يحملون شهادات الدكتوراه وما فوق ذلك وما دون ذلك، لكنهم أجهل الناس بدين الله عز وجل.
وهل من المعقول أن نجد من يحمل هذه الشهادات العملاقة وهو لا يجيد قراءة سورة الفاتحة، أو لا يعرف أقصر السور، أو لا يعرف من دين الله عز وجل شيئاً؟! ولربما يحفظ من الأغاني أكثر مما يحفظه من دين الله عز وجل، ويعرف عنها أكثر مما يعرفه من دين الله، ومع ذلك نجد أن هذا يجادل في دين الله، فإذا كتب في الصحف فكأنه أكبر العلماء، فيتكلم مرة على الحجاب، ويبدي رأيه فيه، وكأن له رأياً، أو كأن الحجاب ما زال موضع الدراسة بين الناس، ثم يتكلم مرة أخرى على الحدود، ويقول: وحشية وقسوة، حتى كتب أحدهم وقال: أيتها الفتاة! طالبي رب العالمين، وخاصمي رب العالمين! كيف يضفي الليل على وجه القمر؟! والله لقد قرأناه في صحيفة في بلد إسلامي، وعوقبت هذه الصحيفة وأوقفت، ولكن صاحب هذا المقال ما رأينا له أي عقوبة، يجادلون في الله ويعتبرون الحجاب والسمت الإسلامي الذي مَنَّ الله به علينا وعلى نسائنا تخلفاً وتقوقعاً ورجعية.
يجادلون في الله بغير علم، ولو كان عندهم علم لاستطعنا أن نناقشهم، ولكن علمهم أكبر ظني أن كثيراً منهم أخذوه من بلاد الغرب مشوهاً، مخلوطاً بين الإسلام والوثنية والجاهلية، ولذلك فليس عندهم علم في دين الله، وإذا بدأ يناقش ويجادل فإنه يجادل في الله بغير علم، ومثل هذا يحار العاقل في أمره.
(وَيَتَّبِعُ كُلَّ شيطان مريد)، العجيب أنه لا يتبع شيطاناً واحداً؛ بل إذا جاء شيطان وتكلم عن الحجاب تبعه في أمر الحجاب، وإذا جاء آخر بنقد أحكام دين الله نجده يتبعه في هذا الأمر، وإذا جاء ثالث ليحبذ قوانين البشر وآراء الرجال اتبعه، فمن العجيب أنه لا يتبع شيطاناً واحداً وإنما يتبع كل شيطان مريد، نعوذ بالله منه! إذاً: فهو يميل لكل شيطان، ويعيش في قافلة الشياطين، سواء كان في ذلك شياطين الإنس وشياطين الجن؛ لأننا نعلم يقيناً أن الشياطين ينقسمون إلى قسمين: شياطين الإنس، وشياطين الجن، وكلاهما قال الله عز وجل عنهم: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام:112]، وشياطين الإنس أخطر على الناس من شياطين الجن؛ لأن شيطان الجن تتخلص منه بالاستعاذة بالله منه، أما هذا الشيطان فإنك لا تتخلص منه بالاستعاذة، وإنما تتخلص منه بأن تقضي على مبدأ هؤلاء، وأن تحاربهم بكل ما أوتيت من قوة.
ومع الأسف فإن هؤلاء الشياطين بدءوا الآن ينشئون من أبناء جلدتنا، كان الشياطين وأعداء الإسلام في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم أسماؤهم: أبو لهب وأبو جهل وأبي بن خلف، فإذا بالشياطين في أيامنا الحاضرة أسماؤهم: عبد الله وعبد الرحمن ومحمد وأحمد، فكانت المصيبة أكبر، وكان البلاء أخطر وأشد، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث حذيفة بن اليمان: (يكون دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها.
فقال حذيفة: صفهم لنا يا رسول الله؟ فقال: هم قوم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا)، (من جلدتنا)، أي: يحملون هويات إسلامية، وولدوا في بلاد الإسلام، ولا يمنع من ذلك أن يكونوا تربوا هنا أو هناك في بلاد غسلت أدمغتهم، (ويتكلمون بألسنتنا) باللغة العربية الفصحى.
فهؤلاء أخطر على الإسلام من أعداء الإسلام الذين يأتون من الخارج، ولذلك يقول أعداء الإسلام: إنكم لن تستطيعوا أن تقطعوا شجرة الإسلام إلا في غصن من أغصانها، ولعل هذا هو مقصود رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (هم قوم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا)، وهؤلاء الشياطين من البشر الذين يتبعون الشياطين من أوليائهم يوحون إليهم، فهم أعداء للإسلام، وكلما سمعوا مقالة أو حديثاً عن الإسلام اكفهرت وجوههم: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر:45]، ولذلك نجدهم يحملون الحقد على الإسلام، ويأخذون من شياطين الإنس ما يغوونهم به ويقذفونه في المجتمعات الإسلامية، فانتشر السفور في بلاد المسلمين، وانتشرت الخلاعة، وانتشر الربا والزنا والفواحش والخمور على أيدي هؤلاء الشياطين الذين يتبعون كل شيطان مريد {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [الحج:4].(46/13)
الصنف السابع: المتكبرون المتغطرسون
هذا النوع السابع من أنواع البشر مذكور أيضاً في سورة الحج بعد من سبقهم، قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ * ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الحج:8 - 9]، هذا النوع من البشر يجادلون في الله أيضاً، وأيضاً ليس لديهم علم ولا إدراك، وأحدهم لا يستطيع أن يعرف كيف يضبط الصلاة، أو كيف يؤدي العبادة، ومع ذلك يجادل في الله بغير علم ولا هدى، ليس عنده علم ويقين يستطيع أن يجادل به، وليس عنده هدى من الله؛ لأنه ضال، (وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ)، ليس عنده حجة ولا كتاب يستدل به، ما هي صفة هؤلاء؟ (ثَانِيَ عِطْفِهِ)، متكبر متغطرس، هذه صفة هؤلاء: أنهم متكبرون متغطرسون متكبرون على الله، حتى إن أحداً منهم لا يريد أن يركع لله عز وجل ركعة، أو يحني ظهره، أو يضع وجهه على الأرض، وهو أيضاً متكبر على خلق الله عز وجل؛ يحتقر المؤمنين، ويضحك منهم ويسخر بهم انظر إلى لحية فلان، وانظر إلى ثوب فلان القصير، وانظر حتى رأينا السخرية في دين الله عز وجل قد بلغت ذروتها في أيامنا الحاضرة، ورأينا الآباء يسخرون بأبنائهم -نعوذ بالله- في بعض الأحيان، ويقول: إن ابنه هذا موسوس، وهذا فيه بلاء! يا أخي! أما تريد أن يكون لك هذا الولد لتقر عينك به في الدنيا والآخرة؟! وإذا وضعت في قبرك وانقطعت أعمالك تكون لك أعمال صالحة ترجو ثوابها عند الله عز وجل يوم القيامة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)، ثمرة تدر عليك مدى الحياة، ولذلك وجدنا الكثير من الآباء يضغطون على أبنائهم في أيامنا الحاضرة بدعوى الخشية أن يكونوا مثل فلان أو فلان من الموسوسين، وأخشى على هؤلاء من الردة، والله تعالى قد أخبرنا بأن هؤلاء الذين يطعنون في دين الله ليسوا كفرة فحسب بل هم أئمة الكفر، فالله تعالى يقول: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ} [التوبة:12]، وفي قراءة: (إنهم لا إيمان لهم لعلهم ينتهون)، ولذلك رأينا هذه السخرية تحكي لنا قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} [المطففين:29 - 33].
هذا الجدال الذي أدى إلى الكبرياء والغطرسة؛ فأصبح يرى نفسه كالجبل، ويرى الناس تحت قدمه كالذر، وهذا من أخطر الأمور التي ابتلي بها البشر.(46/14)
الصنف الثامن: من يعبد الله على حرف
هذا النوع من أنواع البشر -نعوذ بالله- وإن كان الإيمان وصل إلى قلوبهم لكنه ما استقر فيها، أقوام ورثوا هذا الدين من آبائهم وأجدادهم، ولم يصل هذا الدين إلى سويداء قلوبهم، بل أخذوا هذا الدين بالتقليد أو بالوراثة أو بالبيئة، لكن هذا الدين ما تمكن من القلب، وهذا الإيمان مثله سرعان ما يتلاشى ويزول إذا أصابته أية حادثة أو مصيبة، أو ابتلي بأية فتنة.
يقول الله عز وجل عن هؤلاء: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} [الحج:11]، أصل الحرف في اللغة: الطرف، عندما تصعد إلى طرف الجبل فهذا يسمى حرف الجبل، ولما تصعد إلى الرمال العالية ما بين المرتفع والمنحدر يسمى هذا حرفاً، أي: كأنه على طرف، يوشك أن يسقط في أي لحظة -نعوذ بالله- فهو يعيش على طرف سكين، على أمر حاد، وسرعان ما يسقط هذا الذي يعبد الله على حرف، لماذا؟ لأنه ما فهم هذا الدين فهماً حقيقياً، إبراهيم عليه السلام وهو أقوى الناس إيماناً قال الله عنه: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام:76]، هو يبحث عن الله، وليس في الله تعالى شك، وليس إبراهيم ممن يخفى عليه ربه سبحانه وتعالى، ولكنه يريد أن يعلم الناس كيف يعرفون الله عز وجل حق المعرفة؛ فلما جن عليه الليل رأى كوكباً فقال: هذا ربي، فلما أفل وغاب الكوكب، قال: لا أحب الآفلين، {فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:77 - 79]، هذا الإيمان الذي وجد نتيجة التفكير في قدرة الله عز وجل، وفي عظمة الله عز وجل، وفي ملكوت الله عز وجل هو الإيمان الثابت، هو الذي لما حاجه قومه قال: {أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ} [الأنعام:80]، حتى إنه لما قذف في النار التي ما كان لها نظير في الدنيا، وقال الله لها: {يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69]، ويأتيه جبريل في هذه اللحظة، ويقول: ألك حاجة؟ فيقول: أما إليك فلا.
هذا هو الإيمان الحق الذي نريد أن نبحث عنه، لا نريد أن نأخذ الإيمان بالتقليد ولا بالوراثة فقط، وإن كنا مطالبين بأن نتبع آباءنا على خير، لكن نحن مطالبون بأن ننظر في قدرة وعظمة ومخلوقات الله عز وجل، وحينئذٍ يثبت الإيمان، ويقر في مكان رصين فلا يتعثر ولا يزول، لاسيما ونحن نعيش اليوم فترة ما مر تاريخ الإنسانية بأعظم منها، وإن كنا لا نتناسى فيه الصحوة الإسلامية ونشكر الله عز وجل عليها، لكننا نعيش فترة فيها من البلاء والفتنة والاضطراب والتقلب ما لم يوجد في تاريخ البشرية جمعاء.
فترة أخبرنا عنها الرسول صلى الله عليه وسلم بأنها: (فتن كقطع الليل المظلم؛ يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمنا ًويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا)، ثم يقول عنها: (ألا إنها ستكون فتن، ثم ألا إنها ستكون فتن، ثم ألا إنها ستكون فتن، قالوا: فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله وسنتي).
إذاً: هذه الفترة تمتاز بالتقلب في حياة الناس، والطريق الثابت الذي نضمن فيه -بإذن الله عز وجل- الثبات بحيث نموت على الإسلام وندرك حسن الخاتمة، ونستجيب لقول الله عز وجل: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، الطريق الثابت هو أن نأخذ هذا الدين عن اقتناع، ومحبة ورغبة، وأن نتمسك بهذا الكتاب؛ لأن الله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} [الأعراف:170]، ويقول: {خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:12]، أي: لا بضعف، حينئذٍ نسلم بإذن الله عز وجل من التقلب والأهواء والفتن.
ولذلك أخبرنا الله تعالى عن هذا النوع من البشر بقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} [الحج:11]، وكان لهذا نظائر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان كثير من الأعراب يدخلون في الإسلام، فإذا أصابتهم سنة كسب وخير وأمطار، وولدت أغنامهم، وكثرت ألبانهم؛ ثبتوا على دين الله عز وجل، وإن أصابتهم ضراء بحيث أصابهم الجدب، وقَلت الأمطار، وقل النبات؛ قالوا: هذا دين لا يصلح، اخترنا هذا الدين فأصبنا بهذه النكبات؛ فتركوه، لكن نحن الآن نلاقي من الفتن ما هو أعظم من ذلك، فالسجون الآن مليئة بكثير من المؤمنين في كثير من أنحاء العالم الإسلامي، إذ قالوا: ربنا الله، لكن أترى أن هؤلاء المؤمنين سيصمدون وسيقفون معتزين بدينهم أمام هذه الفتن أم سيرجعون من منتصف الطريق؟ أنا أرى أن الكثير من الناس يضعف أمام هذه الفتن، نرى كثيراً من إخواننا الوافدين من البلاد المجاورة اليوم ملتحياً، وغداً نراه غير ملتحٍ، لماذا؟ أين ذهبت؟ قال: بلدي فيها فتنة، وإذا ما ذهبت إليها فقد أعاقب على هذه اللحية، فأصبحنا لا نملك من دين الله عز وجل ولا حتى مظاهر شعائر هذا الدين، وأصبحنا نخاف من أعداء الله عز وجل أكثر من خوفنا من الله عز وجل! هل يستطيع أولئك الأعداء أن يقدموا الأجل أو يؤخروه؟ لا والذي نفسي بيده لا يستطيعون ذلك، هل يستطيعون أن يزيدوا في الرزق أو ينقصوه؟ لا والله، ولكنه الخوف من خلق الله عز وجل، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب).
وعلى هذا فإني أقول: إذا كنا نعيش عصر الفتنة، ونحن لا ننكر مواقف الطغاة من المؤمنين في أيامنا الحاضرة، لكننا نقول: إذا أخذنا هذا الإيمان عن اقتناع، وأخذنا هذا الكتاب الذي بأيدينا بقوة، وعاهدنا الله عز وجل على العمل به؛ فلن يضيرنا ما فعلوا، ويقول قائلنا بلسان حاله أو بلسان مقاله لله عز وجل: فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب يجب أن نقول هذا الكلام ونخاطب به الله عز وجل، لا أن نخاطب به مخلوقاً من المخلوقين، فيكون إيماننا صلباً، ونستطيع أن نقف به أمام هذه الفتن، وأمام هذه الشدائد، أما ذلك الإيمان الذي يعبد الإنسان فيه ربه على حرف فنعوذ بالله منه، هذا الإيمان لا يمكن أن يقف على قدميه فضلاً عن أن يعيش في أيامنا الحاضرة بالذات؛ لأن أيامنا أيام فتن وتقلب وأهواء ومصالح، وأصبح كثير من الناس لا يستطيع أن يجهر حتى بأمور دينه، حتى لقد سمعنا أن أقواماً لا يستطيعون الذهاب إلى المسجد في صلاة الفجر أو في أكثر الصلوات في بعض البلاد المجاورة؛ لأن أعداء الله سيأخذونهم إذا وجدوهم يذهبون إلى المسجد، ولا أظن أن هناك فتنة مرت بالمسلمين أعظم من هذه، ولا حتى في عهد التتار والصليبيين والمغول وغيرهم من العالم المتوحش، يأخذون الناس لأنهم يؤمنون بالله عز وجل! وليس هناك حل لنا أمام هذه الفتن إلا أن نعبد الله على قاعدة صلبة، لا على حرف، وإذا عبدنا الله عز وجل على قاعدة صلبة فإن الله تعالى يثبت أقدام المؤمنين على القول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، أما إذا عبد الناس ربهم على حرف فأصبحوا يأخذون من هذا الدين ما سهل، وإذا صعب عليهم الأمر تركوه؛ فلن ينالوا ذلك الثبات من الله عز وجل.(46/15)
الصنف التاسع والعاشر: من يصبر على الفتنة في الدين ومن لا يصبر
النوع التاسع والعاشر من أنواع هؤلاء البشر مذكور في سورة العنكبوت، يقول الله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت:10].
هذه الآيات من أول سورة العنكبوت لها قصة عجيبة جداً: هي أن رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتنق الإسلام، ولكن أمه كانت تقول له: يا بني! أتترك دين آبائك وأجدادك؟! والله لا آكل طعاماً ولا أشرب شراباً حتى تكفر بدين محمد! -نعوذ بالله- وهذه أكبر فتنة تأتيه من أقرب الناس إليه، فينظر إلى أمه ونفسها تتقعقع من الجوع والعطش، ويرى الموت ينتزعها، أيأخذ بعاطفته أم بعقله؟ إن أخذ بالعاطفة ترك دينه، وإن أخذ بالعقل نازعته عاطفته، فماذا يعمل؟ بقي فترة من الزمن يراودها علها أن تأكل وتشرب، ولكن تغلب العقل على العاطفة؛ لأن هؤلاء رباهم محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: اسمعي يا أماه! والله لو كانت لك مائة نفس خرجت كل واحدة بعد الأخرى ما تركت ديني، فإن شئت كلي وإن شئت فلا تأكلي! فماذا فعلت؟ أكلت وبقيت، وأنزل الله عز وجل فيه صدر سورة العنكبوت: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [العنكبوت:1 - 3]، يعني أن الفتنة ليست خاصة بهذه الأمة فقط، {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ * أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * مَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت:3 - 6]، ثم قال الله تعالى بعد ذلك: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} [العنكبوت:8]، ثم قال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ} [العنكبوت:10]، كما أوذي هذا الرجل الصحابي الجليل في أمه {جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت:10].
وهذه الفتنة في أيامنا الحاضرة أصلب وأقسى وأعنت، فيفتن الرجل اليوم في دينه، ويؤذى في نفسه وأهله.(46/16)
الصنف الحادي عشر: من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله
هذا النوع مذكور في سورة لقمان: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [لقمان:6].
الحقيقة أن هذا النوع من البشر أيضاً عجيب أمره، فهو يشتري لهو الحديث بماله، ويبذل فيه ثمناً غالياً نفسياً، واختلف أهل التفسير في المراد بلهو الحديث، إلا أن أكثر ما أميل إليه هو قول عبد الله بن مسعود: (والله إنه الغناء، والله إنه الغناء، والله إنه الغناء: هو لهو الحديث)، ولعل هذا الرأي يكون وجيهاً حينما نرى كيف يشترى في أيامنا الحاضرة لهو الحديث، فنرى أن لهو الحديث يباع بأثمان باهضة، لو نظرنا مثلاً كم تبذل دول العالم الإسلامي على التلفزيون وأفلامه، وقلنا: هل ما يبذل على الأفلام وعلى الأجهزة التي تشترى في البيوت، والأشرطة التي تباع بأثمان باهضة، وأفلام الفيديو التي تفسد الأخلاق والمروءة والرجولة، وتقضي على البيوت، وما أشبه ذلك من الأغاني، هل ما ينفق على هذه أكثر، أم ما ينفق على الجهاد في سبيل الله؟! والله إن الجهاد في سبيل الله في أفغانستان لا يأخذ معشار ما ينفق في دولة واحدة على لهو الحديث، ولو نظرنا بكم تشترى الأفلام في دولة من دول العالم الإسلامي لوجدنا ما ينفق على الجهاد في أفغانستان التي تختطف فيها يومياً أرواح آلاف الشهداء، والتي هي فاصل بين دخول الشيوعية في بلاد المسلمين أو عدم دخولها، والتي يقف فيها الأفغان أمام أعتى قوة؛ لوجدنا أن ما يصرف لا يساوي معشار ما تنفقه دولة واحدة على لهو الحديث، ولذلك نفهم معنى قول الله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان:6].
هل تصدقون أن هناك حفلات ساهرة فاسدة منحرفة لا يدخلها الناس إلا ببطاقة بعشرات الدولارات؟! ولقد حز في نفسي حينما رأيت سهرة ما في بلاد إسلامية على رأس عيد السنة، ولا أكتمكم أن هذا كان هنا في القصيم، وكانت قيمة التذكرة بخمسين ريالاً! وأن هناك عرضاً بموسيقى، وهذه الموسيقى من سيعرضها؟ سيعرضها نصارى يظنون أنهم يحيون عيد الميلاد، ولا أدري ماذا يوجد مع هذه الأشياء! ولولا أن الله تعالى قيض لإنكارها بعض الصالحين والمصلحين والمسئولين فوقفوا أمامها لحدثت، وأظنها نشرت سراً، وكان سيدخلها آلاف من الرجال والنساء ليستمعوا إلى هذه الحفلات الماجنة المنحرفة الضالة، ويشترون لهو الحديث بهذا المال، قلت حينها: سبحان الله! صدق الله العظيم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان:6].
قصة أخرى: زرت إحدى القرى في منطقة جازان التي يقولون: إنها أفقر المناطق، فزرت أمير القرية، فقلت: أهذه أكبر قرية؟ قال: نعم، قلت: أريد أن تدلني على أفقر بيت في هذه القرية، فدلني على بيت فيه عجوز، وقال: هذه أفقر امرأة في جازان، وجازان معروفة بأن الحياة فيها من أبسط المناطق في المملكة التي امتن الله عليها بهذه الخيرات، فأول ما قابلني في هذا المدخل تلفزيون ملون عند الباب، فقلت: سبحان الله! صدق الله العظيم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان:6]، قلت: ماذا تملك هذه؟ قال: لا شيء، وكل الناس يتصدقون عليها بأكلها، ولا تملك شيئاً أبداً.
أصبح الناس الآن يشترون لهو الحديث، ولهو الحديث هذا لا نخسر عليه المال فقط، بل نخسر عليه ما هو أكبر من ذلك: (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)، فقد ضل كثير من الناس على أيدي هذه الوسائل الحديثة المنحرفة التي جاءت بالرقص والغناء واللهو والموسيقى والمسرحيات الماجنة والمصائب، سواء كان ذلك عن طريق التلفاز أو الفيديو أو الإذاعة أو الصحف والمجلات والصور الفاتنة، ولذلك ندرك معنى قول الله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان:6].
أيها الإخوان! هذه منازل ومراتب، وهؤلاء هم أنواع البشركما وزعهم الله عز وجل، فأي مرتبة تريد أن تختارها أيها الأخ المسلم وأنت تنتظر الوقوف بين يدي الله عز وجل، وأمامك القبر والحساب والجنة والنار والصراط والميزان أمامك مواقف تدع الحليم حيران، ويشيب منها الولدان، فما عليك يا أخي إلا أن تتقي الله عز وجل في نفسك وبيتك وأمانتك وأهلك وذريتك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].
أقول قولي هذا وأستغفر الله ولي ولكم، ولا أظن أن واحداً منكم أكثر مني ذنباً وأعظم تقصيراً، ولكني أستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(46/17)
الأسئلة(46/18)
الفرق بين الشيوعية والاشتراكية وبطلان القول بالاشتراكية الإسلامية
السؤال
ما الفرق بين الشيوعية والاشتراكية؟ وما رأيكم فيمن يقول: نريد تحقيق الاشتراكية الإسلامية؟
الجواب
الشيوعية والاشتراكية منبعهما واحد، ولكن الأولى أوسع من الثانية كما يقولون، فالأولى تنكر الخالق، والأديان، وتلغي الملكية الفردية، والاشتراكية جزء منها كما تزعم، والشيوعية تلغي نظام الأسرة، وتريد أن تحول الإنسان إلى حظيرة من الحيوانات، لا يعرف فيها الرجل أولاده ولا الولد أباه إلى غير ذلك، ولا تؤمن باليوم الآخر، ولا بالرسل ولا بالكتب السماوية إلى غير ذلك، ومبدؤها الأول: لا إله، والحياة مادة.
سبحان الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً! أما الاشتراكية فإنها تعتبر فرعاً من هذه ووسيلة لها، فإذا أرادوا أن يلطفوا الموضوع قالوا: اشتراكية، وإلا فإن هذه من جنس تلك، والاشتراكية لا تكون إلا في الأموال، ولكنها في البلاد الشيوعية تكون في الأموال والأسر وكل شيء كما يخططون لها، إلا أن كل هذا يتنافى مع الفطرة.
وعلى كل فإن الله تعالى جمع لنا بين الشيوعية والاشتراكية التي يزعمونها فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:34]، فإن أكل أموال الناس بالباطل داخل في الصد عن سبيل الله تعالى، وهذا داخل في ذاك.
أما بالنسبة للاشتراكية الإسلامية؛ فالإسلام ليس فيه اشتراكية، إنما الإسلام: حكم قائم عظيم سبق كل هذه المذاهب وهذه الأفكار، وهو بريء من الاشتراكية؛ لأن الاشتراكية تأخذ أموال الناس بدون إرادتهم، أما الإسلام فإنه يدعوهم إلى الإنفاق في سبيل الله تعالى، والبذل، ويأخذ جزءاً بسيطاً من أموال الناس ليردها إلى الفقراء، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم)، وعلى هذا فإنه لا اشتراكية في الإسلام، ولكن في الإسلام نظام وحكم قائم يضمن لنا سعادة الفرد والجماعة، ويغنينا عن الاشتراكية وعن كل هذه المذاهب، وهو ضمان الفقراء عن طريق الزكاة والنفقة الواجبة أو المستحبة، أو عن طريق الكفارات، وما أشبه ذلك مما وضعه الله تعالى للإحسان للفقراء.(46/19)
حكم قول: نعتذر إلى الله ثم منكم
السؤال
ما رأي الشيخ في قول مقدم المحاضرة: نعتذر إلى الله ثم منكم، هل ذلك مشروع أو صحيح؟ وهل ذلك من الاحتياط الواجب للخوف من الشرك الأصغر؟
الجواب
هذا كلام طيب، يعني: الاعتذار من الله سبحانه وتعالى، ومعناه: نخشى أن نكون عصيناه، أما الاعتذار منكم، فأظن أن هذا ليس فيه شيء أبداً إن شاء الله.(46/20)
حكم جر الثوب وإسباله
السؤال
نرى كثيراً من الناس يجر ثوبه تحت كعبيه، وإذا ناقشته في ذلك احتج عليك بقول الرسول صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر الصديق: (إنك لست ممن يجره خيلاء)، فما رأي فضيلتكم في ذلك؟
الجواب
هذا الوضع له ثلاث حالات: الأول: جره خيلاء، وهذا -نعوذ بالله- فيه وعيد شديد، قال عليه الصلاة والسلام: (من جر إزاره خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة)، وقال: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولا ينظر إليهم، ولهم عذاب أليم: المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب)، وهذه أخبث المراحل أن يجره خيلاء، وأن يصل إلى الأرض ويخط في الأرض ويقصد به الخيلاء، هذا لا ينظر الله إليه، وأخاف أن عباداته مردودة عليه، حتى إذا صلى وهو يجره فأخشى على صلاته هذه ما دام أن الله تعالى لا ينظر إليه.
الثاني: لا يجره ولكنه لا يصل إلى الأرض ولا يقصد به الخيلاء، وإنما ينزل عن الكعبين، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (ما كان أسفل من الكعبين فهو في النار).
الثالث: لا يريد جره، ولا جره، وإنما نزل منه بدون إرادة، مثلاً: لبس ثوباً مفاجأة فوجده طويلاً، ولا يتمكن في هذه اللحظة أن يرفعه، أو لبس مشلحاً أو ما أشبه ذلك فوجده طويلاً، أو لبس إزاراً مسترخياً، فهذا هو الذي يقصده الرسول صلى الله عليه وسلم مع حال أبي بكر حينما قال: (إن إزاري يسترخي يا رسول الله! قال: إنك لست ممن يفعله خيلاء)، وهذا لا شيء فيه؛ لأنه ما قصد الخيلاء ولا الإسبال.(46/21)
التحذير من مجالسة رفقاء السوء
السؤال
لي أخ له رفقاء فاسدون وصالحون، ويجلس مع هؤلاء ويرتكب المعاصي والآثام، ويجلس مع هؤلاء ويفعل الخير ويحضر المحاضرات معهم، وهم لا يعرفون عن أصدقائه الأشرار أي شيء، فماذا يجب علي أن أفعله؟ أفيدوني جزاكم الله خيراً.
الجواب
هذا الوضع خطير، وأخشى أن يدخل تحت قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة:204] الآية، وكونه يختار قرناء سوء وقرناء صالحين هذا تناقض وازدواجية في حياة هذا الإنسان، فنقول له: اتق الله، واحذر قرناء السوء، وعليك بالرجال الصالحين الذين تستفيد من حياتهم، وأخشى أن يفسد أولئك المنحرفون عليك أكثر مما يصلحه هؤلاء المصلحون، وعليك أن تحذرهم كما حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من مقارنة أصحاب السوء؛ فإنهم كنافخ الكير؛ إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه رائحة خبيثة.(46/22)
حكم سماع الغناء في الخفية
السؤال
ما رأي فضيلتكم فيمن يسمع الغناء بالخفاء، ويظهر أنه لا يسمعه؟ وهل يعتبر هذا من النفاق العملي أو الاعتقادي؟
الجواب
هذا في الحقيقة ليس نفاقاً عملياً ولا اعتقادياً؛ لأن النفاق الاعتقادي: هو إبطان الكفر وإظهار الإيمان، والنفاق العملي: هو الذي ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (آية المنافق ثلاث)، ولكن نقول: يخشى أن يدخل في المخادعة؛ لأن استماع الأغاني محرم، خصوصاً أصوات النساء، أو التغزل بالنساء والتشبيب بهن، فنقول: أنت عاصٍ، فعليك أن تتقي الله، وأن يكون مظهرك كمخبرك كلاهما صالحاً.(46/23)
الاعتكاف ليس من الرهبانية في شيء
السؤال
ذكرت في محاضرتك أن الإسلام لا يقبل الرهبنة، فما الرد على من يقول طعناً في الإسلام: إن الاعتكاف من الرهبنة؟
الجواب
الاعتكاف ليس من الرهبنة، لكن لو أن واحداً من الناس اعتكف مدى الحياة؛ خشينا أن يكون ذلك من باب الرهبنة، أما أن يعتكف مدة من الزمن منقطعاً للعبادة فهذه سنة، والرهبنة تكون في أمور ما فعلها الرسول صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه، أما الاعتكاف فإنه سنة، أشار الله عز وجل إليها بقوله تعالى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187]، والاعتكاف فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله أصحابه، فهو من العبادة، لكن لو أن واحداً من الناس أراد أن ينقطع للعبادة مدى الحياة في المسجد ولا يخرج منه، ويقول: إن هذا هو الزهد، عندها نقول: هذا هو الإحداث في الدين.(46/24)
خطر الرأسمالية على اقتصاد المسلمين
السؤال
نرجو من فضيلتكم توضيح خطر دعوة الرأسمالية على الإسلام والمسلمين؟
الجواب
الرأسمالية لها معنيان: معنى اصطلاحي ومعنى لغوي، المعنى اللغوي معنى محمود: وهو أن يكون للإنسان رأس مال، والله تعالى أباح لنا أن نتخذ من الأموال ما يكون حلالاً، ونؤدي حقوق هذا المال، لكن الرأسمالية لها معنى اصطلاحي مخيف، وهو: أن تأخذ المال من الحلال والحرام، وليس هناك شيء اسمه ربا محرم، ولا أضعاف مضاعفة محرمة، أو حقوق واجبة، أو زكاة.
هذه هي الرأسمالية في معناها الحاضر، ومعروف أنها عدوة للإسلام، وهي التي نشرت الربا في بلاد المسلمين، وفتحت له البنوك في بلادهم، ولا تؤدي حقوق هذا المال.
هذه هي الناحية الخطيرة في الرأسمالية في معناها الاصطلاحي لا في معناها اللغوي، أما معناها اللغوي: فإن الله تعالى أباح للإنسان أن يتخذ من المال كل ما يكسبه من الحلال، لكن عليه أن يؤدي حقوقه، ولذلك قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة:34] الآية، ويقول العلماء: كل مال أديت زكاته فليس بكنز، ولو كان أكثر ما يكون، وكل مال منعت زكاته فهو كنز، ولو كان مالاً قليلاً.(46/25)
حكم العمل في مواطن الفتن والتبرج
السؤال
هل يجوز للرجل أن يعمل في مكان يوجد به كثير من النساء الأجنبيات المتبرجات كالمستشفى مثلاً؟
الجواب
العمل أصله مباح، لكن البعد عن مواطن الريبة والفتنة أمر مطلوب وواجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ولذلك نقول: اعمل في أي مجال، لكن عليك وأنت تعمل في أي مجال من المجالات أن تنكر المنكر بقدر ما تستطيع؛ لأنك مسئول عن إنكار هذا المنكر، وكون الصالحين يخالطون الناس الذين فيهم شيء من البلاء أحسن إذا أمنوا على أنفسهم من الفتنة، وعليهم أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، ويدلوا الناس إلى طريق الخير.(46/26)
حكم الأخذ بالأعراف القبلية في التزويج
السؤال
هل العصبية القبلية جائزة؟ وما حكم من يعمل بها، كمن يقول: لا أزوجك ابنتي لأنك غير قبيلي، مع أنه مشهود للرجل بالديانة والفضل والخير؟
الجواب
العصبية القبلية بهذا الشكل نظام اجتماعي، وليست من الدين في شيء، والدين لا يفرق بين القبيلي وغيره، والله تعالى يقول: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، وفي الحديث: (كلكم لآدم وآدم من تراب)، وغير القبيلي ليس له ذنب، فهو يجتمع مع القبيلي في آدم عليه السلام وفي حواء، وهما من ذرية من حمل الله تعالى مع نوح، ولكن لما صار هذا نظاماً اجتماعياً بين الناس فنقول للناس: من الأفضل أن تأخذوا بذلك؛ لأن رفض هذا النظام يؤدي إلى بلاء وفتنة ومشاكل، فلو أن واحداً من هؤلاء تزوج من غيره فأخشى أن تقوم هناك فتنة بينه وبين أهله وذويه، ولذلك نقول: تلافياً للمشاكل وحتى تنحل هذه المشكلة بإذن الله على ضوء الإسلام فالأولى ألا نخرج عليها خروجاً كاملاً، لكن الأصل ليس هناك هذه التسميات؛ لأن هؤلاء بشر وكلهم يرجعون إلى أب واحد وأم واحدة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء:1].(46/27)
نصيحة لمن أسلم على يديه أناس كانوا كفاراً
السؤال
نريد توجيه نصيحة لمن أسلم على يديه أحد الأجانب الذين يدينون بغير دين الإسلام؟
الجواب
هذه فضيلة كبيرة؛ لأن: (من دعا إلى هدى فله مثل أجر من تبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء)، فمن أسلم على يديه أحد من غير المسلمين فليشكر الله على هذه النعمة؛ لأنه قد غرس غرساً يبقى له بإذن الله تعالى إلى يوم القيامة، ولذلك فإنه يلزمه في مثل هذه الحالة أن يتعاهد هذا الغرس، ويتفقده، ويقدم له النصح، ويقدم له الأمور التي تمكنه من دينه؛ لأننا نرى اليوم كثيراً ممن يدخلون في الإسلام يخرجون بطريقة غير مباشرة، وعلى هذا فإننا نقول: نحاول أن نثبت الإيمان في قلوب هؤلاء، وألا نقبل منهم أن يدخلوا في الإسلام إلا عن اقتناع؛ لأنهم لو دخلوه عن غير اقتناع ثم خرجوا منه أصبحوا مرتدين، والمرتد له حكم خاص.(46/28)
الحكمة في إنكار المنكر والصبر عليه
السؤال
من المعروف أن النهي عن المنكر واجب على كل مسلم ومسلمة، ولكن ما الحكم إذا كان النهي عن منكر يترتب عليه ضرر على الشخص سواء في ماله أو بدنه أو معاملته، خاصة إذا كان هؤلاء الذين ينهون عن المنكر من الأقارب، وقد يوجد هذا حواجز فيما بينهم وبين هذا الشخص، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده) إلى آخر الحديث؟
الجواب
يقول الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، ولكننا نستطيع أن ننكر المنكر ونتحمل في سبيل إنكار المنكر أشياء كثيرة، والناس يختلفون، هناك من يستطيع أن يتحمل، وهناك من لا يستطيع أن يتحمل، فنقول: الناس مطالبون بأن ينكروا المنكر، ويبذلوا الثمن في سبيل إنكار هذا المنكر، ويتحملوا المسئولية تجاه إنكار المنكر؛ لأن هذا هو منهج الرسل عليهم الصلاة والسلام، لكن لو كان هذا المنكر يترتب على إنكاره على الإنسان في نفسه أشياء خطيرة لا يستطيع أن يتحملها، فنقول: لا يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن عليه أن يتقي الله تعالى ما استطاع، فإذا كان عنده الإيمان القوي الذي يؤهله لأن يتحمل في سبيل هذا الأمر كل ما يلاقيه، فنحن نطالبه بذلك، أما إذا كان ضعيف الإيمان فنسأل الله تعالى أن يتجاوز عنه في إنكاره بقدر ما يستطيع، أما إذا كان يقيم حواجز بينه وبين أقاربه فنقول: عليه أن يستعمل الحكمة، وإذا استعمل الحكمة فلن تقوم هذه الحواجز بينه وبين أهله وأقاربه وذويه، ولكن إذا كان أولئك يكرهون إنكار المنكر بأي وسيلة، فنقول: يجب أن تقوم الحواجز بينه وبين أهله وأقاربه، خصوصاً إذا كان منكراً كبيراً؛ لأن هؤلاء ليسوا منه وليس منهم.(46/29)
حكم رقص النساء في الأعراس
السؤال
ما حكم الرقص في الأعراس أمام النساء؟
الجواب
إذا كانت الراقصة امرأة، وفي معزل عن الرجال، وليس هناك أشياء مثيرة أو محركة للشهوة، فأرجو أن يكون هذا الأمر أسهل؛ لأن الدف ما دام قد أبيح للنساء في أيام الزواج، فأتوقع أن هذا تابع لذلك، ولكن الاحتياط هو البعد عن هذه الأمور كلها، أما إذا كانت عن مقربه من الرجال، أو يظهر الصوت للرجال، أو كانت هناك صور أو ما أشبه ذلك؛ فإن هذا كله من الأمور المحرمة.(46/30)
حكم من أحرم بالحج ولم يحج
السؤال
امرأة كبيرة في السن نوت الحج، وأحرمت من الميقات، فسمعت بالفتنة؛ فعدلت عن الحج ورجعت إلى مدينتها دون حج، فهل عليها إثم؟
الجواب
نعم عليها إثم؛ لأن الله تعالى يقول: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196]، والحج والعمرة يختلفان عن كل العبادات: أن الإنسان إذا بدأ بالنفل أصبح النفل واجباً، ولذلك نقول: هذه ما زالت محرمة، ما دامت قد عقدت النية، وتعدت الميقات وهي محرمة، وعليها أن تحج في العام القادم، والأولى قبل أن ترجع أن تذبح ذبيحة؛ لأن الله تعالى يقول: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196]، وما دامت قد منعت، مع أنها في الحقيقة ظنت أنها منعت، ولذلك نقول: هي خافت فهي آثمة، وعليها أن تعتبر نفسها الآن محرمة، وعليها أن تحج في العام القادم.(46/31)
حكم من حاضت قبل طواف الوداع في العمرة
السؤال
ما حكم من أتتها العادة قبل أن تطوف طواف الوداع أثناء العمرة؟ وهل تعتبر عمرتها صحيحة أم لا؟
الجواب
أكثر العلماء يرون أن العمرة ليس لها طواف وداع، وعلى كل لو فرضنا أن طواف الوداع واجب فإنه يسقط بالحيض كما في الحج مثلاً، فإن طواف الوداع فيه واجب، فإذا حاضت المرأة سقط عنها طواف الوداع.(46/32)
التحذير من معاكسة النساء والنظر إليهن
السؤال
كثير من الناس اليوم يشاهد النساء في الأسواق، وخاصة الشباب، ويجلسون في أماكن النساء حتى يضايقوهن، فما حكم من فعل ذلك؟
الجواب
هذا فيه إثم بينه وبينه الله تعالى؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إياكم والجلوس في الطرقات، فقال رجل: يا رسول الله! ما لنا في المجالس من بد، فقال: إذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه، قالوا: وما حقه يا رسول الله! قال: كف الأذى، وغض البصر، ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، وعلى هذا نقول: الجلوس في الطرقات لهدف التفرج على النساء والنظر إليهن هذا من الأمور المنهي عنها التي لا تجوز، وإذا جلس الإنسان في الطرقات لضرورة أو لحاجة فإن عليه أن يغض بصره، كما ندعو أيضاً النساء ألا يتبرجن، وألا يخرجن إلا لحاجة؛ لأن الله تعالى يقول لنساء الرسول صلى الله عليه وسلم: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33]، فإن من الإثم ما نشاهده من خروج كثير من الفتيات في أيامنا الحاضرة، والذهاب للدكاكين والخياطين والبقالين وغير ذلك، بحيث نرى هذه المرأة قد تخلو مع واحد منهم تكلمه، وربما تكلمه بسر، وربما تدخل رأسها داخل الدكان أو جسمها، وهذا كله من الأمور الخطيرة، وندعو الشباب أيضاً إلى أن يبتعدوا عن مواطن الفتنة؛ لأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم.(46/33)
خطر الطعن في فتاوى العلماء وردها
السؤال
انتشر في عصرنا الحاضر إنكار كثير من الناس لكل ما يسمع من فتاوى العلماء إذا كان لم يسمع بها من قبل، ويقول: هذا تشدد، وليست عنده جرأة أن يسأل شيخاً من المشايخ عما يجهل، ولكن يسأل أصدقاءه أو عامة الناس، أرجو من فضيلتكم التحدث عن هذه النقطة؟
الجواب
الحقيقة أن كثيراً من الذين يجهلون تعاليم الإسلام وأخذوا الدين بالوراثة، إذا سمعوا فتوى عالم من علماء المسلمين موثوق يستنكرونها أو ينكرونها، والمسلم يجب عليه أن يبحث عن الحق ولو كان مع من كان، وإذا كان من علمائنا المجتهدين -والحمد لله- في أيامنا الحاضرة من بدءوا يعطون الناس الآراء الصحيحة الممحصة التي تعتمد على الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فإن الذين يطعنون في فتاوى هؤلاء العلماء خاطئون، وواقعون في خطر، ولذلك أقول: إذا كان هذا العالم موثوقاً في دينه وأمانته وعلمه؛ فعليك -إذا لم تكن من أهل الاجتهاد- أن تقبل هذا العلم من هذا الرجل الذي هيأه الله عز وجل من أجل أن يدلك على طريق الحق.(46/34)
من أسباب كثرة الطلاق
السؤال
كثر اليوم الطلاق، فبعض الناس يطلقون زوجاتهم بدون أي سبب، ويقول لها: لا تدخلي بيتي بعد اليوم، وبعضهم يتركونها في بيوتهم أو بيت أهلها ولا يطلقونها ولا يعطونها حقاً من الحقوق، نرجو من فضيلتكم توضيح هذه النقطة؟
الجواب
أما كثرة الطلاق فلا أظنه -والحمد لله- كثر الآن؛ بل أصبح كثير من الناس يدخل مع زوجته على بصيرة، ولكن ربما يكثر الطلاق في بعض المناطق أو عند بعض الفئات الذين لا يطلعون الزوج على شيء من أخبار الزوجة أو من شكل الزوجة، ولذلك من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم أن ينظر الخاطب إلى المخطوبة، هذه سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو أحرى أن يؤدم بينهما، فإذا دخل على غير بصيرة أخشى أن تكون الكراهية، لكن إذا دخل على بصيرة فإنه يتوقع أن يؤدم بينهما.
وعلى كل فإذا نزلنا مع سؤال الأخ بأنه قد كثر الطلاق فلا بد أن له أسبابه، وعلينا أن نتقيها، وأخشى أن تكون من أهم أسبابه: عدم معرفة المرأة للرجل، أو عدم معرفة الرجل للمرأة، أو أن هناك مطامع أخرى قد تغري المرأة بحيث تتمرد على الرجل، وعلى كل فإنه إذا كان أيضاً هناك ظلم من الزوج للزوجة فإن هذا الظلم لا مكان له في دين الله عز وجل؛ لأن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء:19]، وعالجنا المشاكل الزوجية بطريق الحكمين، وإذا لم تفلح كل الحلول فإن الله تعالى يقول: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا} [النساء:130].(46/35)
حكم هجر الزوجة وتفضيل بعض الأبناء وخروج الدم من الحامل
السؤال
ما جزاء من هجر زوجته، أو فضل أحد أبنائه على الآخرين؟ وما الحكم إذا كانت المرأة حاملاً وخرج منها سائل، فهل يجب عليها الغسل للصلاة أم لا؟
الجواب
أما بالنسبة لمن هجر زوجته فلا يجوز الهجر إلا كما أمر الله عز وجل: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء:34] أي: بالنسبة للناشز، أما الهجران بدون سبب فإن هذا ظلم للمرأة، كما أن الميل إلى إحدى الزوجات دون الأخرى يعتبر أيضاً ظلماً آخر، ولذلك فإن الله تعالى يقول: {فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229]، ولا يجوز الهجر إلا على سبيل التأديب، وإذا كانت المرأة ناشزاً؛ فإن الله تعالى قال: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء:34]، ولكن هذا الهجر أيضاً له حدود.
أما بالنسبة للعدل بين الأولاد فإنه أمر واجب، ولا يجوز لأحد أن يفضل بين أولاده؛ لأن ذلك يؤدي إلى الشقاق، وإخوة يوسف عليه السلام وهم أنبياء نعرف ماذا حدث بينهم لما فضل يعقوب عليه السلام يوسف على إخوته، كادوا له كيداً، فكانت الفتنة الكبيرة التي نقرؤها في سورة يوسف.
أما بالنسبة للسائل فإنه إذا كان في أيام الحمل فليس هذا بدم عادة، إذا كانت ممن لا تأتيها العادة في أيام الحمل فإنه لا أثر له، لكن إذا كان من الاستحاضة -ولا أظن الاستحاضة تأتي في أيام الحمل- فإن عليها أن تغتسل لكل صلاة إذا كان هذا السائل دماً، أما إذا كان غير ذلك فإنها تتوضأ.
وبالنسبة للتفرقة بين الأولاد فهو يكثر في أيامنا الحاضرة تفضيل بعض الأولاد على بعض، وهذا يؤدي إلى بلاء وفتنة ومصيبة، ولذلك النعمان بن بشير رضي الله عنه لما جاء أبوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره أنه أعطى النعمان عطية ما أعطاها أحد إخوانه؛ غضب الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: (أشهد على هذا غيري فإني لا أشهد على جور)، فنقول: يجب العدل والتسوية بين الأولاد، اللهم إلا في أمور يتطلبها بعضهم دون البعض، كالزواج مثلاً فمن بلغ الزواج يزوجه، ومن كبر سنه ويحتاج إلى سيارة يعطيه سيارة، أما إذا كانوا متساوين في السن وفي المرحلة وكل شيء فتجب التسوية بينهم.(46/36)
حكم من حج ولم يرم الجمرات
السؤال
حججت ولكني لم أرم الجمرة، وكان لذلك عذري؛ لأن معي طفلة أحملها وليس معي إلا والد الطفلة، وقد سألت عن حكم ذلك فقالوا: هذا جائز، وبعضهم قال: لا يجوز الحج إلا بالرجم، فما حكم ذلك؟
الجواب
إذا كانت ما رمت الجمرة أبداً فإنها تركت واجباً من واجبات الحج؛ لأن الرمي واجب، فنقول: عليها دم مقابل هذا الرمي الذي تركته، يذبح في الحرم ويوزع على فقراء الحرم (فدية)، أما إذا كانت وكلت أحداً ورمى عنها فإن هذا يكفي إن شاء الله.(46/37)
حكم المسافر إذا مات قبل أن يصلي وهو في سفره
السؤال
إذا كان السفر مسافة تسعمائة كيلو، وصلينا المغرب مع العشاء جمع تأخير -وقدر الله وما شاء فعل- وتوفي أحدنا قبل أن نصلي صلاة المغرب والعشاء، فهل يحاسب على تقصيره؟ وما هو الدليل جزاك الله خيراً؟
الجواب
ما دام الوقت فيه سعة فأرجو -إن شاء الله- أن هذا الإنسان ليس عليه لوم، إنما الذي يلام من يخرج عليه الوقت، فإذا خرج الوقت فيلام الإنسان الذي أخر الصلاة عن الوقت، أما ما دام الوقت باقياً فلا شيء على هذا الذي مات -إن شاء الله- ما دام الوقت لم ينته بعد، ولكن الأولى الصلاة في أول وقتها، فإن أحب الأعمال إلى الله تعالى الصلاة في أول وقتها.(46/38)
حكم صلاة المنفرد خلف الصف
السؤال
دخلت المسجد ولم أجد لي مكاناً لأدخل في الصف، فصليت منفرداً، فهل فعلي صحيح؟
الجواب
لا تجوز صلاة المنفرد خلف الصف كما جاء في الحديث، لكن إذا كانت هناك ضرورة وخشي فوات الركعة، ولم يدخل أحد؛ فإنه يصلي منفرداً؛ لقصة أبي بكرة رضي الله عنه، فإنه كبر ومشى وهو راكع، وعلى كلٍ فإنه إذا كانت هناك فرجة في الصف تتسع له وتركها فصلاته غير صحيحة وعليه أن يعيد الصلاة، فإن من صلى فرداً خلف الصف وفي الصف مكان له فصلاته غير صحيحة، وعليه أن يعيدها، أما إذا لم يكن هناك مكان في الصف فصلاته إن شاء الله صحيحة، ولا يحتاج إلى أن يجر أحداً معه.(46/39)
حكم انتقال الرضاع بالمصاهرة
السؤال
صديق لي رضع من زوجة والدي رضاعاً تاماً، هل هذا الولد يكون عماً لبناتي؟ وهل يجوز أن يكون محرماً لهن؟
الجواب
انتقال الرضاع بالمصاهرة موضع اختلاف، أنا لا أستطيع أن أفتي فيه؛ لأن الرضاع يحرم كما يحرم النسب، إلا في موضوع المصاهرة فهذا مختلف فيه، أي: هل ينتقل الرضاع بالمصاهرة كما ينتقل بالنسب؟ اختلف فيه العلماء، وأنا لا أفتي فيه.(46/40)
حكم رفع اليدين في الدعاء وقراءة الفاتحة على الأموات
السؤال
ما حكم رفع اليدين أثناء الدعاء؟ وما حكم قراءة الفاتحة على الأموات؟
الجواب
رفع اليدين في الدعاء مستحب، إلا في حالة واحدة في خطبة الجمعة، إذا بدأ الخطيب يدعو فالمؤمَّن لا يرفع يديه في مثل هذه الحالة، إلا في الاستغاثة والاستسقاء كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، أما في غير هذه الحالة كالوتر مثلاً، أو بعد الصلوات الفرائض بشرط ألا يداوم على ذلك، أو بعد النوافل بلا مداومة؛ فلا بأس، فالرفع في الدعاء سنة.
وأما قراءة الفاتحة للأموات فلم يفعلها السلف الصالح ومن بعدهم، فقراءتها على الأموات بدعة في الدين.(46/41)
خمس خصال نعوذ بالله منها
إن سبب تكالب الأعداء على المسلمين، وحلول النكبات، وانتشار الأزمات، هو مخالفة أوامر الله سبحانه وتعالى، والوقوع في المحرمات التي حذرنا الله سبحانه وتعالى منها، وقد حذرنا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم من خمس خصال مهلكة، متى وجدت في أمة من الأمم كانت نذير شر وهلاك، وقد وقعت هذه الأمة في هذه الخصال، فحل بها ما وعد الله من الهلاك والدمار، ولن يرفع الله تعالى عنها ذلك حتى تراجع دينها.(47/1)
الوقوع في المحرمات سبب حلول النكبات
الحمد لله رب العالمين، نحمده حمداً كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، ونشكره شكراً يليق بنعمته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، وحجة على الناس أجمعين، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه، ومن دعا بدعوته، وعمل بسنته، ونصح لأمته إلى يوم الدين.
أما بعد: جاء في حديث صحيح أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا معشر المهاجرين! خصال خمس إن ابتليتم بهن ونزلن بكم وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط إلا فشا فيهم الأوجاع التي لم تكن في أسلافهم، ولا منعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولا نقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المئونة وجور السلطان، ولا نقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدواً من غيرهم فيأخذ بعض ما في أيديهم، وما حكمت أئمتهم بغير ما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم).
حلت بالأمم الإسلامية اليوم النكبات والأزمات وذلك بسبب مخالفة أمر الله عز وجل رب البريات، ولا تغتروا بالكافرين الذين أملى الله عز وجل لهم في الحياة الدنيا، وعجل لهم خيراتهم في الحياة الدنيا وأما في الآخرة فليس لهم إلا النار.
لكننا نتوجه إلى المسلمين سواء منهم من كان في مأمن من هذه البلايا والمصائب، أو من قد حلت بأرضه، فليس هناك سبيل إلى الخلاص منها إلا بالعودة إلى الله عز وجل.(47/2)
عاقبة انتشار فاحشة الزنا في المجتمع
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لم تظهر الفاحشة في قوم قط إلا فشا فيهم من الأوجاع التي لم تكن في أسلافهم).
فانتشار فاحشة الزنا من أعظم الأسباب التي تؤدي إلى خراب البيوت، وسقوط الأمم، والقضاء على تاريخ الدول.
وإذا أردتم دليلاً على ذلك فاقرءوا كتاب الله، واقرءوا تاريخ الأمم حينما مالت إلى اللهو وإلى اللعب وإلى المجون والإسراف والترف، وانظروا كيف كان مصيرها؟ أخذها الله عز وجل أخذ عزيز مقتدر، يقول سبحانه وتعالى: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} [النحل:45 - 47] أي: ينقصهم شيئاً فشيئاً حتى لا تبقى نعمة واحدة بأيديهم.
وفاحشة الزنا وللأسف الشديد أصبحت منتشرة في جل بلاد الإسلام، لا فرق بينها وبين البلاد الكافرة، يسر لها كل الطرق، وذلل من أجلها كل الوسائل، وفي الأخير فتحت بيوتاً للدعارة جهاراً نهاراً على مرأى ومسمع من الناس، ترعاها عيون الدول التي تنتسب إلى الإسلام وتحسب على الأمة الإسلامية، وهذا شيء يشاهده من يسيح في أرض الله الواسعة؛ وما ذلك إلا لأن الطرق كلها قد مهدت لتلك الفاحشة، ولأن الوسائل كلها قد ذللت، فأصبح ذلك الإنسان الفارغ الذي لم تربِّه أيدٍ مخلصة أمينة يبحث عن الفاحشة وعن الجريمة، فأصبح لهؤلاء المفسدين في الأرض الذين جعلوا همهم الإفساد وإتلاف الأخلاق والانغماس في الرذائل بيوت تستهلك هذه الطاقة البشرية المنحرفة.
إنها فتنة في الأرض وفساد عريض، العشق في نظر أولئك خير من الزواج، والزواج في نظر طائفة منهم تخلف، فكانت النتيجة أن انتشر الفساد في الأرض وأصبح عريضاً.
إضافة إلى أن الذين تولوا أمر المسلمين نسوا خشية الله عز وجل، وغفلوا عن الوقوف بين يديه، ففتحوا باب الرذيلة على مصراعيه لكل داخل.
لقد مهدت السبل لجريمة الزنا في كل بلدان العالم الإسلامي، من رقص وغناء، وأفلام هابطة، ولهو ولعب، ومسابح مختلطة، وتفسخ وتبرج، وصحف منحرفة، ومجلات ساقطة تبدأ من صورة الغلاف وهي تعرض جمال المرأة ومفاتنها إلى آخر صفحة من صفحاتها، كل ذلك يعتبر في الحقيقة تمهيداً للفاحشة.
والله سبحانه وتعالى يريد منا أن نسير على الجادة المستقيمة، وأمرنا أن نجتنب كل الوسائل والطرق التي توقع المرء في الفاحشة والرذيلة، من لهو ولعب محرم، وغناء وموسيقى ورقص، فكل هذه الأشياء يجب على المسلم أن يتجنبها وأن يغض بصره حتى يحصن فرجه، أما إذا أطلق المرء لبصره العنان والنظر إلى المحرمات فإنه لا محالة سيقع في الفاحشة والرذيلة، وينطلق في المحرمات بدلاً من أن يشبع رغبته فيما أباح الله عز وجل.
لقد أصبح الأمر خطيراً، والشر مستطيراً والبلاء كبيراً، ولقد وصلت الأفلام الهابطة الساقطة إلى قعر بيوت المسلمين، فصارت تبث سمومها في أوساط الشباب والفتيات، إن ما يحل في بيوت أعداء الله يحل قريباً في جل بيوت المسلمين، وإن هذه الأفلام التي تتحدث عن العشق والغرام وتحرك الشهوات الكامنة تريد أن تجعل من المجتمع الإسلامي مجتمعاً منحلاً حينما يستجيب لهذه الدواعي المنحرفة، والتي أصبحت اليوم في متناول الناس أجمعين.
فعلى الدولة والآباء والعلماء والعقلاء مسئولية هؤلاء الشباب حتى لا ينفلت الزمام، وحينئذ يعض من أهمل أصابع الندم، وهيهات أن ينفع الندم، فأنتم كلكم مسئولون بين يدي الله عز وجل عن دين الله، فاحفظوا هذه الأمانة، واحذروا أن تنتشر الفواحش، وحينما تنتشر الفواحش فإن الله عز وجل سوف يرفع يده عن هؤلاء الناس، وإن أقل ما يمكن أن يحدث أن تنتشر الأمراض التي لم تكن في أسلافنا كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فمرض الإيدز والسيلان والزهري وحتى كثير من الأمراض التي لا ترتبط بهذا النوع الجنسي كالسكر وارتفاع ضغط الدم وغير ذلك، لم يكن آباؤنا يشكون من هذه الأمراض، وبالرغم مما يقدمه الطب الحديث في هذه الأيام المعاصرة إلا أن الطب قد أظهر عجزه في علاج هذه الأوبئة وهذه الأمراض الفتاكة؛ لأن الله عز وجل قد أنزل عقوبته بهؤلاء الناس إن لم يعودوا إلى الله عز وجل، ويرجعوا إلى رشدهم وإلى صوابهم.
إن خروج المرأة من بيتها متبرجة إلى الأسواق والمحلات التجارية، واختلاطها بالرجال في القاعات الدراسية والوظائف وغيرها، يدل دلالة واضحة على أن الفتن قد عمت وطمت في هذه الأمة، فعلى العقلاء الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر أن يتداركوا ذلك، وكذلك على ولاة أمور المسلمين القيام بهذا الواجب، فإن الله عز وجل امتدحهم إذا قاموا بواجبهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:41].
إن المعصية إذا انتشرت في الأرض، وكشفت النقاب عن نفسها، وأصبحت واضحة في وضح النهار، ثم لا تجد منكراً من هؤلاء الناس، إذا كان ذلك فإن الأمر خطير، إن إنكار المنكر واجب على كل واحد من المسلمين بقدر ما آتاه الله عز وجل من مكانة وسلطة، إما بيده إن كان مسئولاً، وإما بلسانه إن كان محتسباً ومتطوعاً، وإما بقلبه حينما يكون في مجتمع يختلف عن مجتمعنا الذي نعيش فيه، ولم نصل بعد والحمد لله في هذا البلد الطيب إلى إنكار المنكر بالقلب.
أما إذا أبى الناس إلا أن تتبرج النساء، وإلا أن تظهر مفاتنها، وإلا أن تذهب إلى الأسواق لتعرض جسدها أمام الشباب الذي يشتكي ألم العزوبة، فإن الفتنة الكبرى تكون وراء ذلك، ولذلك قدّم الله سبحانه وتعالى المرأة على الرجل في الزنا فقال: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2]، وإن تقديم المرأة على الرجل في مثل هذه المناسبة ليدل دلالة واضحة على أن المرأة هي أكثر من يملك زمام هذه الفتنة.
فعلينا جميعاً أن نحارب كل الوسائل الداعية إلى الرذيلة، وأن نحمي بيوتنا وأسرنا من خطر الأفلام التي تحرك الغرائز، وتثير الشهوة الكامنة، وعلينا أن نيسر الزواج، فإن الزواج هو سبيل العفة والطهارة.
قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2]، فحينما ترون شاباً لا يستطيع أن يقوم بتكاليف الزواج ومؤنه، تعاونوا على البر والتقوى وقدموا من أموالكم ما تسدون به حاجة هؤلاء الشباب؛ لعل الله سبحانه وتعالى أن يعفهم بطريق الحلال حتى لا يقعوا في الحرام.
وعلينا كذلك تربية بناتنا وزوجاتنا وأهلينا على الحياء، فإن لكل أمة خلقاً كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن خلق هذه الأمة الحياء، وإن الله عز وجل إذا أراد أن يهلك أمة أو عبداً من خلقه نزع منه الحياء، فإذا نزع منه الحياء لم تلقه إلا مقيتاً.
وعلينا أيضاً أن نربي أسرنا وبناتنا على طاعة الله، وأن نحذر مكائد الأعداء، فإنهم يريدون أن نضل السبيل {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء:27]، فعلى المسلمين أن لا ينخدعوا بالدعايات المضللة التي تصل إليهم بواسطة الصحف، أو المجلات، أو الإذاعة، أو التلفاز، أو الكتاب، أو بأي وسيلة من الوسائل المقروءة أو المرئية، وكونوا على ثقة من دينكم، فإن الله سبحانه وتعالى هو الذي خلق الخلق وهو أعلم بما يصلحهم {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14].(47/3)
الآثار المترتبة على منع الزكاة
يقول عليه الصلاة والسلام: (ولا منعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا) كم يستسقي الناس، وكم يستغيثون الله عز وجل ويطلبون منه المطر، بل نرى الجدب قد ضرب أطنابه في الأرض، وسبب ذلك أن الأمة الإسلامية فرطت في دينها، وضيعت كثيراً من أوامر ربها سبحانه وتعالى.
لقد أصبحت أرقام الأموال لدى طائفة من الناس خيالية لدرجة أنك قد تعجز عن إحصائها، ولكن مع الأسف نجد أن الكثير منهم امتنعوا من إخراج زكاة أموالهم، بل رأينا كثيراً من تلك الأموال تذهب في معصية الله عز وجل، وفيما لا يرضي الله في وقت يقول الإحصاء: إن مائتين وخمسين مليوناً من أبناء المسلمين في أفريقيا يهددهم الموت والجوع، وكذلك إخواننا في أفغانستان بحاجة ماسة للطعام والشراب والسلاح الذي يقاتلون به، فهم يقاتلون ويصارعون الشيوعية الملحدة التي تنكر الخالق سبحانه وتعالى، وتنكر الأديان، وتنكر كل المبادئ، وتقول بلسان الحال وبلسان المقال: (لا إله والحياة مادة)، إنهم لا يريدون أرضاً صحراء كأفغانستان، بل ولا يريدون حتى أرضاً فيها خيرات، وإنما يريدون أن نضل السبيل {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217].
وبالرغم من هذا كله نجد أن هذه الزكاة قد بخل بها كثير من الناس، بل أخرج طائفة منهم تلك الأموال في غير مخارجها الصحيحة، فلا تصل إلى إخواننا في أفريقيا الذين هم تحت مسئولية الأمة الإسلامية، ولا إلى إخواننا في أفغانستان الذين يصارعون أعتى قوة في أرض الله عز وجل، وحينما يبخل الناس بالزكاة فإن الله تعالى يمنع المطر، ولربما يظن ظان أن المطر إنما هو وسيلة لإنبات العشب، ولكن المطر حقيقة هو وسيلة لحياة هذا الإنسان {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ} [الواقعة:68 - 69].
إن امتناع القطر من السماء سببه الذنوب والسيئات، وأعظم هذه الذنوب وتلك السيئات التي كانت سبباً في حبس المطر حتى أجدبت الأرض هو منع إخراج الزكاة، فعلينا أن نصلح أحوالنا حتى يغير الله ما بنا؛ لأن الله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11].
إذا منع الناس زكاة أموالهم منع الله عز وجل عنهم القطر من السماء، ولولا رحمة الله عز وجل بهؤلاء البهائم ما أُمطرت الأرض أبداً، وعلينا أن لا ننخدع بدول الكفر التي تتمتع بزينة الحياة الدنيا، والتي تمطر ليلاً ونهاراً؛ لأن هذه حسناتهم عجلت لهم، ولأن الله عز وجل يقول عنهم: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران:196 - 197]، ولكن علينا أن نعرف حق الله في هذا المال، فهو حق معلوم للسائل والمحروم، وليخش الذين لا يؤدون هذه الزكاة من يوم يؤتى بهذا المال ثم يصفح صفائح من نار، ثم يحمى عليها في نار جهنم، ثم تكوى بها الجباه والجلود والظهور في يوم كان مقدراه خمسين ألف سنة، كلما بردت أعيدت.
ويقول الله عز وجل: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:180].(47/4)
معنى نقص المكيال والميزان وعاقبته
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ولا نقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المئونة وجور السلطان)، المراد بنقص الميزان والمكيال إما بالازدياد إن اقتضى من الناس، وإما بالنقصان إن قضاهم.
وإن العبد في تصرفاته ومعاملاته المالية محكوم بضوابط الشريعة، فما أبيح له منها فعله وما منعه الشرع تعين عليه تركه، فما على العبد إلا الرضا والقناعة بما أعطاه الله تبارك وتعالى، والاكتفاء بحلاله عن حرامه، وقصر النظر على الموجود من غير تطلع إلى ما عند الناس.
وأما تطفيف المكيال والميزان من أجل الحصول على متاع زائل فإنه من أعظم الأسباب الموجبة لعقوبات الدنيا والآخرة كتفشي المجاعة وظلم الولاة لرعاياهم، وقد حذر شعيب عليه السلام قومه من الشرك بالله وبخس المكاييل والموازين، فقد كان قومه يغشون في المعاملات وينقصون الناس أشياءهم، وذكرهم الخير الذي أدره الله عليهم، والأرزاق المتنوعة، وأنهم ليسوا بحاجة إلى ظلم الناس في أموالهم، ولكنهم أبوا ذلك فأخذتهم الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين.(47/5)
عاقبة نقض عهد الله وعهد رسوله
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ولا نقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدواً من غيرهم فيأخذ بعض ما في أيديهم)، ولقد نقض المسلمون عهودهم مع الله عز وجل ومع رسوله صلى الله عليه وسلم، فتركوا ما أمرهم الله به وارتكبوا ما نهاهم الله عنه، ثم كانت النتيجة الحتمية، والخاتمة السيئة: (سلط الله عليهم عدواً من غيرهم)، أي: من غير الأمة الإسلامية، (فيأخذ بعض ما في أيديهم)، إذا أردت دليلاً على هذا الواقع المرير فتصفح خارطة العالم الإسلامي، أين فلسطين؟ وأين الأندلس؟ وأين كثيراً من البلاد التي أصبحت الآن في قبضة العدو، وما بقي منها فيكاد أن يكون تحت سيطرة العدو إلا ما شاء الله.
وإنا لنخاف أن يأتي ذلك اليوم الذي يأخذ العدو كل ما في أيدينا، ويصبح هؤلاء المسلمون أسرى بسبب سيئاتهم وإعراضهم عن الله عز وجل.(47/6)
النتيجة الحتمية لمن لم يحكم الشريعة الإسلامية
ثم يقول بعد ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم: (وما حكمت أئمتهم بغير ما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم).
أما الحكم بغير ما أنزل الله فقد عم وطم، جل العالم الإسلامي تحكمه قوانين البشر وآراء الرجال، ويعتبرون شرع الله تخلفاً ورجعية ووحشية ولا يصلح لهذه العصور المتطورة، يقولون: إن كتاب الله وسنة رسول الله كانت صالحة في عصر الخيمة والبعير، لكنه لا يصلح في عصر المركبات الفضائية، لقد جدت أشياء لا يحيط بها الإسلام علماً، فلابد من آراء الرجال التي تواكب متطلبات العصر.
أما النتيجة فهي مؤكدة لا شك فيها، فجعل الله بأسهم بينهم، ولذلك فإن من يحاول لمَّ شتات هذا العالم الإسلامي إنما يحاول مستحيلاً، وأيم الله عز وجل لن تجتمع هذه الأمة إلا على دين الحق، ولن تجتمع إلا على كلمة التوحيد، ولن تتوحد إلا على كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله، وبغير ذلك فلا يمكن أبداً؛ لأن الله تعالى يقول: {فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:137]، وهذا الشقاق سيبقى ما بقي الإعراض عن دين الله عز وجل، حتى يرجع هؤلاء الناس إلى دين الله عز وجل.
فما دامت أئمتهم تحكم بغير ما أنزل الله فسيبقى بأسهم بينهم، ولربما تكون بداية النهاية، ويدمر بعضهم بعضاً بسبب هذا الخلاف الذي نشأ عن إعراض هؤلاء جميعاً عن دين الله عز وجل، والله تعالى ذكر أن من أنواع العقوبات التي ينزلها بالأمة أن يجعل بأسهم بينهم شديداً فقال: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام:65]، ولذلك فإن الذين يقتلون اليوم بأسلحة المؤمنين أضعاف أضعاف الذين يقتلون بأسلحة الكافرين، والذين يلقون ربهم على أيدي الطغاة والمتجبرين والمعتدين في الأرض ممن يحسبون على الأمة الإسلامية أضعاف أضعاف الذين يلقون مصيرهم في ساحات المعركة مع الأعداء.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يرد المسلمين إليه رداً جميلاً إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(47/7)
دين العدل
إن دين الإسلام هو دين العدل، فما أنزل الله القرآن إلا للعدل، وما بعث محمداً صلى الله عليه وسلم إلا بالعدل، وسنته صلى الله عليه وسلم مليئة بالأمثلة والمواقف المبينة لعدله بين الناس؛ ولذا كانت هذه الصفة بارزة في صحابته وخصوصاً الخلفاء الراشدين، فهم أخذوا العدل منه وتربوا على يديه ونشروه في ربوع الأرض، ثم تلاهم على ذلك التابعون من السلف الصالحين، فكم من أمة من أمم الكفر أسلمت لما رأت من عدل المسلمين الفاتحين.(48/1)
سبب نزول آيات العدل من سورة النساء
إن الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، والمصطفى من خلقه صلى الله عليه وعلى آله، ومن دعا بدعوته، وعمل بسنته، ونصح لأمته وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد: لربما تكون هذه بداية حلقة لأحاديث متكررة إن شاء الله طيلة إجازة الربيع هنا في جدة، وسيكون الدرس الآخر القادم إن شاء الله مساء السبت ليلة الأحد في مسجد الأمير متعب، ولربما تتواصل الحلقات إن شاء الله، ونرجو الله أن يوفقنا للعلم النافع والعمل الصالح، وحلقاتنا سوف تتعرض لدروس من كتاب الله عز وجل، ذلك أن القرآن هو مصدر حياة البشرية، وأن القرآن كما أخبر الله عز وجل عنه: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89]، وأن الله عز وجل ما فرط فيه من شيء، ولذلك فسوف نختار إن شاء الله دروساً من كتاب الله، كل درس منها يهتم بجانب من جوانب حياة الناس الاجتماعية، وما أكثر الاعوجاج في دنيانا اليوم لدى كثير من الناس، ونرجو الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم وإخواننا المسلمين نتخلق بخلق القرآن الذي هو خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم كما روي عن عائشة رضي الله عنها حينما سئلت عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: (كان خلقه القرآن).
أما الفصل الذي سوف أختاره لكم هذه الليلة فهي آيات في سورة النساء تقرر قواعد العدل في الأمة، وهذه القاعدة -قاعدة العدل- هي من أكبر الأمور وأهمها التي لا تستغني عنها الأمة، أمر مهم لا تستغني عنه أمة الإسلام، لاسيما في عصر الجور والظلم والطغيان التي سيطرت على عقول كثير من الناس، وهذه الآيات التي تتحدث عن العدل حتى مع الكافر ضد المسلم؛ لأن الآيات مضمونها رجل ينتسب إلى الإسلام فعل جريمة، فألصق الجريمة برجل يهودي، واستشهد قومه من المنسوبين إلى الإسلام فشهدوا ضد اليهودي، وكاد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقطع يد اليهودي، لولا أن الله عز وجل أوحى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم بصدق الخبر، وأن الجريمة لم يفعلها اليهودي وإنما فعلها رجل ينتسب للإسلام هو أبو طعيمة بشر بن أبيرق الذي تبين في الأخير أنه من المنافقين حسب سياق القصة، وأن إخوته وأبناء عمه الذين شهدوا معه زوراً وبهتاناً أيضاً هم من المنافقين.
القصة: رجل منافق يدعى بشر بن أبيرق أبو طعيمة سرق ذات يوم درعاً فأخفاه عند يهودي من اليهود في المدينة، ثم جاء الطلب إلى بيت المنافق، فأنكر وجود الدرع عنده، وألصق التهمة باليهودي، فجيء باليهودي وشهد عليه أبناء عم بشر بن أبيرق، فشهدوا أن بشراً لم يسرق، وأن الذي سرق هو اليهودي، بالرغم من أن السارق هو المنافق بشر بن أبيرق، وأن اليهودي كان بريئاً من السرقة، فعزم الرسول صلى الله عليه وسلم على قطع يد اليهودي، فأنزل الله قرآناً يبرئ فيه اليهودي.
ومن هنا نعرف أيها الإخوة! كيف أن الإسلام يقر قواعد العدل حتى لمصلحة يهودي ضد مسلم؛ من أجل أن يفهم الناس حقيقة العدل، وأن العدل يجب أن يدخل في الحكم مهما كان هذا الحكم، حتى لو كان بين مسلم ويهودي كما يأتينا من قصص غير هذه القصة.
المهم أنزل الله عز وجل القرآن فبرأ اليهودي، وألصق التهمة بصاحبها المنافق، أما هذا المنافق نعوذ بالله فما زادته هذه القصة إلا بعداً عن الله، هرب من المدينة مرتداً عن الإسلام، ولجأ إلى مكة بسبب فضيحة القرآن له، وانضم إلى معسكر المشركين في مكة، ثم أراد الله عز وجل له سوء الخاتمة فنقب ذات يوم بيتاً من البيوت في مكة، فسقط عليه الجدار فمات مرتداً عن الإسلام نسأل الله العافية؛ فخسر الدنيا والآخرة.
هذا هو مصير الظالمين الذين يلصقون التهم بالأبرياء، تكون نهايتهم الردة عن الإسلام، والموت شر ميتة وهو يمارس اللصوصية، أقرأ عليكم الآيات، ثم نعود بعد ذلك إليها بشيء من التفصيل، ثم بعد ذلك نستطيع أن نفهم حقيقة العدل في الإسلام.
يقول الله عز وجل في سورة النساء: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {إِنَّا} [النساء:105]، الخطاب موجه للرسول صلى الله عليه وسلم، وهو موجه لنا أيضاً نحن؛ لأن كل شيء يوجه للرسول صلى الله عليه وسلم هو موجه لنا أيضاً، حتى نقر قواعد العدل في هذه الحياة.
{إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا * وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا * يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا * جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا * هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا * وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمِ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء:105 - 112].
ثم يقول الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا * لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا * وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ} [النساء:113 - 115]، هذا الذي ارتد عن الإسلام: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:115 - 116].
هذا درس لا يجوز للمسلم أن يغفل عنه أو ينساه أبداً، والعجيب كما قلت لكم: أن هذه الآيات تدافع عن رجل يهودي، فأي دين يستطيع أن يدافع عن أعدائه أشد من هذا الدفاع؟! حتى لقد كان فيه اللوم العتاب للرسول صلى الله عليه وسلم من أجل رجل يهودي كاد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقطع يده حسب ما قامت عليه البينة الظاهرة، لولا أن الله عز وجل وجه القصة إلى مجراها الحقيقي بدل أن كانت في مجراها غير الحقيقي.
هذه هي القصة وهذا هو سبب نزولها، ونعود إلى الآيات بشيء من التفصيل لنعود بعد ذلك إلى قواعد العدل التي يجب أن تطبق في الأمة بأي حال من الأحوال.(48/2)
تفسير آيات العدل من سورة النساء(48/3)
قوله تعالى: (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق)
قوله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ)، أي: يا محمد (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ)، لا برأيك.
إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يجوز له أن يحكم برأيه فهل يجوز لفاجر جبار عنيد أن يأتي في مثل عصرنا الحاضر لينحي القرآن وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم ليحكم بين الناس برأيه أو بآراء الرجال وبقوانين البشر؟! لا يمكن هذا بأي حال من الأحوال، (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ)، أي: بما وجهك الله إليه، فالرسول صلى الله عليه وسلم حتى في أحاديثه الشريفة التي سماها الله عز وجل الحكمة ليست رأياً له، وإنما هي بوحي من الله عز وجل، ولذلك فإن الكتاب والسنة كلاهما وحي من الله عز وجل، لكن هذا وحي هو كلام الله عز وجل مباشرة، وذاك وحي جعله الله عز وجل في قلب محمد صلى الله عليه وسلم ليبلغه إلى الناس بلسانه، أما الجميع فكلاهما وحي من الله عز وجل، ولذلك لا يجوز للرسول صلى الله عليه وسلم أن يحكم برأيه في أي أمر من الأمور، وإذا حكم برأيه فإنه يقول للناس: أعينوني برأيكم، كما فعل صلى الله عليه وسلم يوم بدر في اختيار المكان وكما هو موقف الحباب بن المنذر، وكما كان قبل ذلك حينما كان يستشير المهاجرين والأنصار، وغيرها قصص كثيرة، حتى لقد عاتبه الله عز وجل في كثير من هذه القصص كقصة ابن أم مكتوم حينما أعرض عن الأعمى وما أشبه ذلك من الأمور، حتى قال الله عز وجل: {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ} [الأنعام:35] حتى يصل العتاب من الله عز وجل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هذا المستوى.
إذا كان هذا بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى أي واحد من البشر يأتي وهو معرض للخطأ والزلل أن يعترف بخطئه، ثم إذا كان هذا بالنسبة لحكم الله عز وجل لا بد أن ينفذه الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر الله لا برأي محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يحق لواحد من البشر أن يحكم هذا العالم، بل لا يمكن لهذا العالم أن يخضع لغير حكم الله عز وجل، ولذلك فإن من أعرض عن حكم الله عز وجل فهو طاغوت، ومن حكم بغير ما أنزل الله فهو كافر ظالم فاسق، وأي شعب وأي أمة تتحاكم إلى قوانين الرجال وآراء البشر فهي أمة زائغة: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:60].
إذاً: لا بد أن يكون الحكم بما أنزل الله عز وجل لا برأي أحد من الرجال أياً كان هذا الرجل، ولو كان محمداً صلى الله عليه وسلم.
(لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا)، المخاصمة على الخائن تسبب لعنة من الله عز وجل، ومن رسوله صلى الله عليه وسلم، ولذلك جاء في الحديث الصحيح: (لعن الله من آوى محدثاً)، ما معنى آوى محدثاً؟ أي: غطى على حدثه ومصيبته، وعلى جرمه وذنبه؛ حتى يضيع هذا الجرم أو لربما يلتصق هذا بإنسان بريء كما هو في هذه القصة، ولذلك قد تأخذ الحمية إنساناً بسبب قرابة أو بسبب عداوة ليدافع عن مجرم أو ليلصق التهمة ببريء، وهنا تأتي المصيبة التي تحدث عنها القرآن في مثل هذه الآيات: (وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا)، فالمخاصمة عن الخونة، والمدافعة عنهم، والثناء عليهم، وتبرئة ساحتهم أمر خطير جداً لا يجوز لواحد من المسلمين أن يقدم عليه.(48/4)
قوله تعالى: (واستغفر الله إن الله كان غفوراً رحيماً)
هنا يقول الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم: (وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ)؛ لأن الذنب صفة من صفات البشر يتعرض له كل الناس، إلا أن ذنب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ذنب لا يقرون عليه، فإن الله عز وجل يوحي إليهم بتصحيح الخطأ الذي ربما يحدث من نبي من الأنبياء.
فالذنب ملازم لهذا الإنسان في كل حالة من حالاته، ولذلك يقول الله تعالى للرسول صلى الله عليه وسلم: (وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ).
تعال معي يا أخي إلى واحد من الناس اليوم، لو قيل له: اتق الله، فإنه ربما يغضب، لو قيل له: لا تفعل كذا أصلح كذا لا تفسد كذا اتق الله في كذا قال: أنا يقال لي: اتق الله! أنا يقال لي: استغفر الله! أنا يقال لي: لا تفعل! فلربما تأخذه العزة بالإثم فيبطش بطشاً عظيماً.
هنا يقول الله عز وجل للرسول صلى الله عليه وسلم: (وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ)، أي قل: أستغفر الله، والاستغفار كما نعرف أنه سبيل ينقل الإنسان من الذنب إلى الطاعة، ومن المعصية إلى الاستقامة، ولذلك فإن الله عز وجل يقبل توبة الإنسان واستغفاره، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إنه ليران على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم أكثر من مائة مرة)، إذاً: كيف لا يستغفر الله إنسان من عامة الناس؟!(48/5)
قوله تعالى: (ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم)
قوله: (وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ)، الرسول صلى الله عليه وسلم ما جادل عنه، وإنما الذي جادل عنه أبناء عمه وإخوته من المنافقين من آل أبيرق الذين برءوا ساحته، فقدموا متهماً غير المتهم الحقيقي أمام الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم ربما تعجل في الحكم أو في قبول الدعوى ضد اليهودي قبل أن يتثبت في هذا الأمر.
فالله تعالى قال: (وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ)، يعني: أنت عملت ذنباً عظيماً، ومن نعمة الله عز وجل عليك أنك ما قطعت يد اليهودي، ولو قطعت يد اليهودي لأقدمت على أمر عظيم؛ لأن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6]، وهنا يقول الله تعالى: {وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ} [النساء:107] أصحاب الخيانة لا تجادل ولا تدافع عنهم، وهذا موجه لأي واحد منا ربما يقع أخوه أو ابنه أو ابن عمه أو أبوه أو قريبه في جريمة أو في ذنب، ثم تأخذه الغيرة على النسب ليقوم مدافعاً عن هذا المجرم ويقول: هذا أخي! وهذا ابني! وهذا أبي! وهذا ابن عمي بريء! ويبذل قصارى جهوده في سبيل تبرئة ساحة هذا المجرم وهو مجرم، فهذا أمر عظيم جداً لاسيما أن هذا الذنب قد يلصق بإنسان بريء وحينئذ يكون الجرم مضاعفاً ومكرراً كما كاد أن يحصل في قصة ابن أبيرق.(48/6)
قوله تعالى: (يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله)
(وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ)، ما هو السبب؟ قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا) (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ) فهذه صفة المنافقين، المنافق أمام الناس كأنه عابد ناسك، لكنه أمام الله فاجر طاغوت نعوذ بالله: (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ)، أي: جلسوا جلسة في الليل كما يجلس المجرمون الآن يخططون، وهؤلاء لا يخططون فقط من أجل تبرئة أبي طعيمة، وإنما يخططون للإطاحة بالإسلام.
هذا منهج المنافقين دائماً وأبداً في ذلك العصر وفي هذا العصر وإلى يوم القيامة؛ لأنهم يريدون أن يوقعوا الرسول صلى الله عليه وسلم في حرج حينما يقطع يد اليهودي، ولو قطع الرسول صلى الله عليه وسلم يد اليهودي لكانت المصيبة أكبر، ولكان اليهود يتهمون هذا الدين بأنه دين جائر حيث يسرق فلان وتقطع يد فلان اليهودي! لكن الله عز وجل يكشف مؤامرات المنافقين.
وفي يومنا هذا تجدون المنافقين حينما يخططون ويرتبون، ويجلسون الليالي الطوال يشتغلون في الظلام بخبث من أجل الإضرار بالأمة الإسلامية والإطاحة بها، نجد أن الله عز وجل بلطفه وكرمه دائماً يكشف لنا هذه المؤامرات؛ لأن سنة الله في هذه الحياة: (ولا يفلح الظالمون).
ولذلك فإن الله عز وجل كشف هذه المؤامرة فقال: {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا * يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ} [النساء:106 - 108]، هل يتصور هذا الإنسان أن الله تعالى معه في كل حالة من حالاته، وأي عمل يقدم عليه خيراً كان أو شراً فإن الله تعالى معه ومطلع عليه؟ لا بد أن يعرف هذا الإنسان يقيناً أن الله تعالى معه، وأنه يراقب تصرفاته: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا} [يونس:61]، فالله تعالى مطلع وضع شهوداً في هذه الأرض، فالأرض تحدث أخبارها، والملائكة الكرام الكاتبون يعلمون ما تفعلون، وجوارح هذا الإنسان أيضاً تشهد على هذا الإنسان؛ لأن الله تعالى يقول: {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا} [فصلت:20] أي: النار، {شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [فصلت:20 - 21].(48/7)
قوله تعالى: (هاأنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا)
قوله: {هَاأَنْتُمْ} [النساء:109]، اتجه الله سبحانه وتعالى إلى شهود الزور نعوذ بالله! وهم أظلم الناس، وشر الناس من ظلم الناس للناس.
وشهود الزور: هم الذين يشهدون زوراً وبهتاناً ليوقعوا هذا الدين في حرج، وليخلصوا المجرم، ولينقلوا الحق إلى غير صاحبه، وهؤلاء يعملون أكبر الكبائر كما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه أبو بكرة رضي الله عنه قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثاً؟ قلنا: بلى يا رسول الله! قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس فقال: ألا وقول الزور! ألا وشهادة الزور! ألا وقول الزور! ألا وشهادة الزور!)، يقول أبو بكرة: (فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يكررها حتى قلنا: ليته سكت)، من شدة علامات الغضب التي برزت على وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [النساء:109]، أنت الآن تدافع عنه أمام السلطة، لكن يوم القيامة من يجادل عن هذا إذا وقف بين يدي الله عز وجل؟! أنت وإن جادلت عنهم في الحياة الدنيا فإنك لا تستطيع أن تجادل عنهم بين يدي الله عز وجل يوم القيامة؛ لأن الأمر مكشوف وواضح ليس عليه غبار، وليس فيه سر: {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22]، كل الأمور مكشوفة، ولذلك يقول الله تعالى: (فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، أي: عن هؤلاء المجرمين: (أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا)، من يتوكل على أمرهم؟! وكل إنسان يوم القيامة كما أنه مكشوف أمره هو أيضاً مشغول بنفسه، لا يستطيع أن يدافع عن نفسه فضلاً عن أن يدافع عن غيره؛ لأن الله تعالى يقول عن ذلك الموقف: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2]، وهنا يقول الله تعالى: {فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [النساء:109]، استفهام إنكاري؛ لأنه لا أحد يستطيع أن يجادل عنهم يوم القيامة، ممكن أن يجادل في الدنيا وممكن أن يذهب المجرم إلى القاضي يدافع عن مجرم آخر، يمكن أن يذهب شاهد الزور ليشهد أن مال فلان لفلان ولربما يحلف؛ لأنه لا يخشى الله عز وجل، ولربما يستطيع أن يخلصه بوساطة، وإن كان مجرماً قد أفسد وعاث في الأرض فساداً يستطيع أن يدافع عنه بواسطة أو بجاه، ولربما يكتفي برفع سماعة الهاتف ليقول: أخرجوا فلاناً من السجن، وهو أكبر المجرمين في الأرض، لكن تعال يوم القيامة حينما يقف الجميع بين يدي الله عز وجل، من يجادل عن هذا المجرم؟ {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات:22]، يعني: وأشكالهم ونظراءهم وجلساءهم {وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات:22 - 23]، هنا يقول الله عز وجل: {فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [النساء:109]، إذاً: يا أخي! لا تجادل عن مجرم، لا تلصق التهمة ببريء، دع المجرم يأخذ نصيبه من العقوبة في هذه الحياة الدنيا، لعل هذه العقوبة تخفف عنه عذاب الله عز وجل يوم القيامة، دع السارق حتى تقطع يده، حتى يكون عظة وعبرة، ولعل الله أن يتجاوز عنه سرقته يوم القيامة، دع الزاني يقام عليه الحد؛ لعل الله أن يتجاوز عنه هذا الذنب يوم القيامة، دع قاطع الطريق يقام عليه الحد، دع شارب الخمر يقام عليه الحد؛ لعل الله أن يخفف عنهم العقوبة يوم القيامة، أما أن يأتي رجل يلبس ثياب الصلاح والتقى؛ ليجادل عن مجرم، أو ليشهد مع مجرم، ولربما تدفعه الغيرة والحمية أو القرابة أو العداوة لمن يشهد عليه، فإن هناك موقفاً بين يدي الله عز وجل لا يستطيع فيه أحد أن يجادل عن أحد؛ لأن الله تعالى يجرد كل واحد من سلطته يوم القيامة ويقول: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:94].
ثم باب التوبة مفتوح، إذاً لا حاجة إلى اللف والدوران ما دام باب التوبة مفتوحاً، وله أجلان: أجل لكل واحد منا ما لم تبلغ الروح الحلقوم ما لم تحضر ساعة الموت، فباب التوبة مفتوح، والله عز وجل يقول عن هذا الأجل: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ} [النساء:17] ولفظة (عَلَى) تدل على الوجوب فأوجب الله تعالى على نفسه: {لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} [النساء:17]، أن يتوب عليهم، والجهالة ليس معناها الجهل؛ لأن الجاهل لا يؤاخذ، وإنما معنى (بِجَهَالَةٍ)، أي: في غفلة، ومعنى (مِنْ قَرِيبٍ) ليس معناه: بسرعة، وإنما معناه: ما قبل الموت، فإن ما قبل الموت قريب، والله تعالى يقول في الآية الثانية: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ} [النساء:18]، ما معنى (من قَرِيبٍ) ما قبل الموت، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يغرغر) أو: (ما لم تبلغ الروح الحلقوم)، أتعرفون معنى الغرغرة؟ الغرغرة: أن تقرب الروح من الخروج لتودع هذا الجسد في هذه الحياة.
إذاً: الأجل طويل لكل واحد، لكن الإنسان لا يسوف؛ لأن الموت قريب جداً من هذا الإنسان قال تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:34].
الأجل الثاني للتوبة بالنسبة لعامة الناس: هو طلوع الشمس من مغربها، فإذا طلعت الشمس من مغربها آمن الناس كلهم أجمعون، وهي آخر آية من آيات الساعة، ولذلك يقول الله تعالى عنها: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام:158]، أي: تطلع الشمس من مغربها {لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:158].(48/8)
قوله تعالى: (ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه)
إذاً: معنى ذلك أن باب التوبة مفتوح في هذه الحياة، ولذلك يقول الله تعالى: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمِ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ)، السوء: معناه السيئات عموماً، (يَظْلِمِ نَفْسَهُ) معناه: الشرك بالله سبحانه وتعالى، يعني: حتى الشرك بالله وهو أعظم الذنوب، وإذا كان الشرك بالله يغفره الله عز وجل فليس عجيباً أن يغفر الله عز وجل ما دون ذلك، والذنب الثاني بعد الشرك بالله هو الربا، الربا الذي أصبح الآن سهلاً تناوله عند كثير من الناس، يعلن بنك الرياض المساهمة فيتسابق الناس إلى المساهمة في بنك الرياض، أتدرون ما هو بنك الرياض وأي بنك من البنوك؟ هو الحرب لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم، لا يغركم يا إخوان أنكم ترونها قد فتحت أبوابها أمام الناس، هي حرب لله هي أعظم ذنب بعد الشرك بالله عز وجل، أعظم من الزنا، وأعظم من المخدرات التي تحارب الآن بكل الوسائل، وأعظم من اللواط، وأعظم من المسكرات، وأعظم من السرقات، لكنها لا تحارب كما تحارب هذه الذنوب، لكن الله عز وجل توعد عليها بعقاب شديد.
الربا أصبح الآن مغرياً يسيل له لعاب الناس وفي يوم من الأيام أعلن أحد البنوك فأصبح الريال يساوي أربعين ريالاً، إذاً ليس غريباً أن يقدم الناس على الربا إلا من عنده وازع إيماني؛ لأن هذه هي الفتنة التي يقول الله عز وجل عنها: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان:20]، أي: هل تتحملون هذه الفتنة؟ بنو إسرائيل أراد الله عز وجل أن يختبرهم كما نختبر الآن بأرباح البنوك والشركات التي تربح بسرعة، فأعطشهم الله عز وجل، وأجرى لهم نهراً بارداً، وقال: لا تشربوا من هذا النهر إلا من اغترف غرفة بيده، فشربوا منه إلا قليل منهم.
إذاً: لا تعجبوا حينما ترون كثيراً من الناس وقعوا في الربا، ومن لم يأكل الربا أصابه من غباره، بنو إسرائيل حرم الله عليهم الصيد يوم السبت، وفتنهم، وجعل السمك في يوم السبت يطفو على سطح البحر، ويختفي بقية أيام الأسبوع، لكن بنو إسرائيل أعقل من كفرة أو من فجرة أو من عصاة هذا العصر، ما صادوا يوم السبت لكن استعملوا الحيلة، فصاروا يضعون الشباك يوم الجمعة ويرفعونها يوم الأحد، فهي تكون مملوءة بالأسماك، كما يفعل الناس في حيل البنوك الآن وحيل الربا ما تشاهدونه.
المهم يا إخوتي! إذا رأيتم هذه الأرباح الهائلة فاعرفوا أن وراءها طالباً، فأحذركم من الربا، وأنا تعرضت لهذا الموضوع؛ لأنه موضوع الساعة، أما حديثنا عن مغفرة الذنوب فإن الله عز وجل يتجاوز عن كل الذنوب حينما يصدق الإنسان بالتوبة: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا) أي: سيئة أياً كانت هذه السيئة (أَوْ يَظْلِمِ نَفْسَهُ)، وهو الشرك بالله عز وجل (ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا)، من نعمة الله أن قال: ثم يستغفر، ولم يقل: فيستغفر، فالفاء للسرعة وثم للتراخي، ولذلك حتى لو مضى على هذا الذنب مدة من الزمن فالمهم أن يتوب بصدق وأن يبادر إلى التوبة والإنابة بعزيمة صادقة، وأن يرد المظالم فيترك الربا إذا كان كسب مالاً من الربا؛ لأن الله تعالى يقول: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} [البقرة:279]، فقط رأس المال، أما الربح فليس لك: {لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279].
{وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمِ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:110]، الله تعالى قريب لكن بشرط أن يصدق هذا الإنسان مع ربه سبحانه وتعالى.(48/9)
قوله تعالى: (ومن يكسب إثماً فإنما يكسبه على نفسه)
قوله: (وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ)، الإنسان لا يكسب الإثم إلا على نفسه، فالسيئة يجني ثمارها يوم يقف بين يدي الله عز وجل، لكن هناك سيئات تجر على المجتمع وبالاً أيضاً، ولا يتعارض ذلك مع هذه الآية: (فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ)؛ لأن الأصل أن السيئة تكون على نفس الإنسان، لكن لا يمنع أن يكون لها آثار تتعدى للمجتمع؛ لأنه صح في الحديث: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها، ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة).(48/10)
قوله تعالى: (ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً)
لكن المشكلة أكبر من ذلك، حين يجني إنسان سيئة ويبرئ نفسه منها، ويلصقها بإنسان آخر: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء:112].
الخطيئة: هي التي يفعلها الإنسان وهو يشك بأنها خطيئة، لكن الإثم هو الذي يفعله الإنسان ويعرف أنه إثم، وسواء كانت خطيئة يشك الإنسان في حرمتها أو إثماً يجزم بحرمته فإن عليه أن يعترف، وليس معنى ذلك أن كل من فعل ذنباً عليه أن يقدم نفسه للمحكمة أو للسلطة، فإن باب التوبة مفتوح، فإذا تاب الإنسان بينه وبين ربه سبحانه وتعالى فإن الله تعالى يقول: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]، بشرط: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الزمر:54 - 55].
فالذنوب على نوعين: هناك ذنوب بين الإنسان وبين ربه سبحانه وتعالى، وهذا يكفي في التوبة أن يتوب الإنسان بينه وبين ربه سبحانه وتعالى، دون أن يكشف نفسه أمام الناس، بل إنه إذا وصل إلى درجة المجاهرة بالذنب فإن الذنب يكون عظيماً، ولذلك جاء في الحديث: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين إلا المجاهرون) على روايتين.
فالذنب إذا كان بينك وبين ربك سبحانه وتعالى فبادر بالتوبة، وثق بأن الله تعالى قد أوجب التوبة على نفسه إذا صدقت في التوبة، فقال: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ} [النساء:17]، و (عَلَى) هنا تدل على الوجوب، فالله تعالى أوجبها على نفسه ولم يوجبها عليه أحد غيره، بشرط أن تستوفي هذه التوبة شروطها من الإقلاع عن الذنب والعزم على أن لا يعود، وأن يندم على ما مضى، لكن هناك ذنب ومثل هذا الذنب قصة ماعز رضي الله عنه، فـ ماعز رضي الله عنه من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ومن خيار الصحابة، زنا ذات يوم فاعترف بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يتمنى أن لا يعترف ماعز، وإنما يتوب بينه وبين ربه، فكان يعرض عنه وماعز يتابعه ويقول: يا رسول الله! زنيت زنيت أربع مرات، ويسأله الرسول صلى الله عليه وسلم لعله أن يتراجع: (لعلك قبلت، لعلك غمزت، ماذا فعلت؟ فيقول: فعلت كذا وكذا، فيقول: أبك جنون؟)، كل ذلك من أجل أن ينصرف ماعز.
إذاً: التوبة بين الإنسان وبين ربه، لا حاجة إلى أن تقام عليه الحدود إذا كان هذا الذنب لا يمس أحداً من الناس، لكن حينما يكون الذنب بين الإنسان والإنسان فهو من ديوان لا يترك الله عز وجل منه شيئاً يوم القيامة، وهنا لا بد في التوبة من رد المظالم إلى أصحابها قبل أن ترد يوم القيامة إن كان هناك مال يرد، وإن كان هناك عرض يستحل إلى غير ذلك.
لكن إذا فعل هذا الذنب وزيادة على إصراره على هذا الذنب ألصقه بغيره، سرق وقال: فلان سرق، زنا نعوذ بالله، وقال: فلان زنا، قتل وقال: فلان قتل، فهذا هو أعظم الذنوب عند الله عز وجل، ولذلك أخرها الله تعالى وقال: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا} [النساء:112]، يتهم به إنساناً ليس هو فاعل الذنب، (فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا)، (بهتاناً) وهو إلصاقه بغيره، (وإثماً) خطأ عظيماً ومبيناً.
إذاً: لا بد لفاعل الذنب في مثل هذه الحال أن يعترف لاسيما إذا كان سيؤخذ البريء بدلاً منه، وأشد من ذلك حينما تقوم بينات وشهادات زور تبرئ المجرم لتلصق الجريمة بإنسان آخر: (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا).(48/11)
قوله تعالى: (ولولا فضل الله عليك ورحمته)
ثم يتوجه الله عز وجل بعد ذلك إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، والرسول عليه أن يتأنى في الأمور، ولولا أن الله تعالى من على الرسول صلى الله عليه وسلم بنزول الوحي لكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد فعل أمراً عظيماً يشوه به الإسلام، ويصبح حجر عثرة في طريق الإسلام أمام اليهود وأيضاً يضر بإنسان بريء.
(وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ) يا محمد (وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ) شهود الزور، (طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ)، أي: عن الحكم الصحيح (وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ) الأصل أنهم سيضرون بأنفسهم، لكن يضلونك أنت لو أقدمت على قطع يد الرجل اليهودي البريء، وإن كان يهودياً من أبناء القردة والخنازير، لكن يكفي أنه إنسان بريء من هذه السرقة، لو أقدمت لكان الأمر عظيماً، مع أن اليهود هم أشد وألد أعداء الله عز وجل والرسول صلى الله عليه وسلم، وألد أعداء الإسلام، ومع ذلك يدافع الله عز وجل عنهم من أجل أن يقر قواعد العدل في هذه الحياة.
(وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ) يعني: يرتكبون الذنب العظيم؛ لأن هذا من أكبر الكبائر وهو شهادة الزور: (وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ)، في الأصل أنت لا تتضرر، هم يتضررون، لكن أنت أيضاً تصبح عرضة لليهود حينما تقطع يد اليهودي بدون ما جرم.
(وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ).
ثم قال الله تعالى: (وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)، (الْكِتَابَ): القرآن، (الْحِكْمَةَ): السنة، وهذا هو معنى قولنا: إن السنة وحي آخر جاء من عند الله نطق به الرسول صلى الله عليه وسلم: (وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ).
انظر يا أخي! إلى التربية من عند الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم، أي المواقف أفضل هذا الكلام أم ما يقوله الصوفية في أيامنا الحاضرة الذين يقولون: إن محمداً هو أول المخلوقات! محمد ليس له ظل! محمد خلق من نور! كل الأنبياء خلقت من نور محمد! الله تعالى يوقع الرسول صلى الله عليه وسلم موقع العدل أي: أنت رسول ونبي لكنك بدون هذا الوحي لا تعرف شيئاً من ذلك، هكذا الله عز وجل يعلم الرسول صلى الله عليه وسلم، ويوقعه أفضل موقع (وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ)، فأنت لا تعلم الكتاب ولا الحكمة كان الرسول صلى الله عليه وسلم أمياً، ولكن الله عز وجل رفعه فوق العلماء، وجعل العلماء يستقون علمهم من علم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا فضل من الله عز وجل، وليس عيباً في رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون أمياً، بل هو فضل وشهادة للرسول صلى الله عليه وسلم أن الله عز وجل أكرمه، ولذلك لا يتسرب الشك إلى هذا القرآن؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان أمياً كما قال عز وجل في سورة العنكبوت: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت:48]، إذاً: لا يمكن أن يرتابوا بعدما عرفوا أنك أمي، وأن الله عز وجل علمك ما لم تكن تعلم، حتى وجد في عصرنا الحاضر من يقول: محمد ليس أمياً، ويظنون أنهم في هذا الأمر يرفعون قيمة الرسول صلى الله عليه وسلم، الحقيقة أن الرسول صلى الله عليه وسلم كما أخبر الله عز وجل أنه أمي: {النَّبِيَّ الأُمِّيَّ} [الأعراف:157]، وهنا يقول: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء:113]، فما كان يقرأ ولا يكتب عليه الصلاة والسلام قبل النبوة، لكن أصبح العلماء يستقون من علمه صلى الله عليه وسلم.
إذاً: الغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم كفر به صلى الله عليه وسلم، وكفر بالقرآن، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم)، وما تشاهدونه من البدع والخرافات التي أحدثها الناس، ويظنون أنهم بها يرفعون من قيمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله الذي لا إله غيره إنهم ألد أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقسم بالله العظيم لو بعث فينا اليوم محمد صلى الله عليه وسلم لقطع رءوس قوم غلوا فيه كما غلت النصارى في المسيح بن مريم عليه الصلاة والسلام، ولو بعث الرسول صلى الله عليه وسلم فينا اليوم لقاتل هؤلاء الذين يطرونه ويرفعونه إلى درجة الألوهية قبل أن يقاتل الشيوعيين والملاحدة الذين ينكرون الخالق وينكرون الرسول صلى الله عليه وسلم.
أيها الإخوة! ليست محبة الرسول صلى الله عليه وسلم محبة عاطفة لكنها محبة متابعة: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31]، ليست كمحبة الزوجة والأولاد محبة عاطفة إنما هي محبة متابعة، ونقول لمن ادعى محبة الرسول صلى الله عليه وسلم: تعال نحن وإياك نحتكم إلى شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهل أنت حينما تريد أن تغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي؟ هل كان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم يشدون الرحال إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في شهر رجب كما يفعل كثير من الناس اليوم، ويحدثون شيئاً يسمونه الرجبية؟! ما هي هذه الرجبية؟! نحن لا نعبد الله عز وجل إلا بما شرع الرسول صلى الله عليه وسلم، فمعنى شهادة أن محمداً رسول الله أن لا نعبد الله إلا بما شرع.
هل شرع الرسول صلى الله عليه وسلم لنا الرجبية؟ هل شرع لنا أعياد ميلاد؟ يا أخي! قف عند سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وتكون أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما محبة الغلو والإطراء فالرسول صلى الله عليه وسلم يرفضها، لما قال له رجل: (يا رسول الله! ما شاء الله وشئت، قال: أجعلتني لله نداً؟).
إذاً: أيها الإخوة! المسألة تحتاج إلى وقوف عند سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى لا تكون المسألة عواطف وشهوات نبتعد فيها كثيراً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ)، هل يعتبر هذا سباً للرسول صلى الله عليه وسلم من الله سبحانه وتعالى؟ لا، هذا تعظيم للرسول صلى الله عليه وسلم أنه علمه ما لم يكن يعلم، ولو كان يعلم قبل النبوة لأصبح موضع شك عند القوم، لكن العجيب عند القوم أنه رجل أمي، وأصبح معلم البشرية كلها إلى يوم القيامة، (وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا).(48/12)
قوله تعالى: (لا خير في كثير من نجواهم)
ثم تحدث الله عز وجل عن كشف مؤامرة، كان المنافقون يجلسون بالليل حتى دبروا مؤامرة قصة أبي طعيمة، فالله تعالى مطلع على جلساتهم في الظلام؛ لأن الله تعالى يرى ما تحت الظلام فقال سبحانه وتعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ} [النساء:114].
المناجاة التي كانوا يتناجونها في السر ليدبروا المؤامرة ضد اليهودي وليلصقوا المشقة والعنت برسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه النجوى أمرها خطير، فالنجوى -وهي الكلام السري الخفي- لا تجوز إلا في ثلاثة أشياء: (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ)، أن يحث الناس على البذل في سبيل الله وعلى الإحسان إلى الفقراء والمساكين وما أكثرهم اليوم! أو يأمر بالمعروف إذا رأى الناس عطلوا واجباً من واجبات هذا الدين، أو يصلح بين اثنين بينهما خلاف وشقاق، وخلافهما وشقاقهما يؤدي إلى ضياع دينهما (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا).
ثم تعود الآيات مرة أخرى إلى ابن أبيرق الذي انتهت حياته بالردة، وسقط عليه جدار في مكة وهو ينقبه ليسرق مرة أخرى، فيموت مرتداً عقوبة على ما فعل في المدينة؛ لأن الله عز وجل يقول: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14]، {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5]، فالمعاصي يجر بعضها بعضاً، فانتهت المعصية وإلصاق التهمة ببريء إلى الردة عن الإسلام، ثم الموت وهو مرتد، وصار حطباً لجهنم.(48/13)
قوله تعالى: (ومن يشاقق الرسول من بعدما تبين له الهدى)
ثم قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} [النساء:115].
ما معنى (يُشَاقِقِ)؟ أي: يجعل الرسول صلى الله عليه وسلم في شق وهو في شق آخر، أي: يسير في طريق غير الطريق التي سار فيها محمد صلى الله عليه وسلم، يقول: نور قلبي يا نور السماوات والأرض! يا أول المخلوقات! يا من خلق من نور! لكنه في شق والرسول صلى الله عليه وسلم في شق آخر، هذا هو الذي شاقق الرسول صلى الله عليه وسلم وإن ادعى المحبة فإنها محبة عاطفية، (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى)، فدين الإسلام وضح لهؤلاء الناس كل طريق.
هل تظنون أن الله عز وجل الذي بعث لنا الرحمة محمداً صلى الله عليه وسلم، فعلمنا كيف ندخل الحمام وكيف نخرج، وكيف نلبس النعل والثوب؛ أتظنون أنه يعجز عن تعليمنا أصول ديننا؟ فيعلمنا أن هناك رجبية في ليلة سبعة وعشرين من رجب، يذهب الناس إلى مكة والمدينة يحيون ليلة المعراج كما يقولون، وليلة المولد يحيونها، وما فعلها أبو بكر ولا عمر ولا عثمان وعلي، وكذا غيرها من الأمور والعبادات التي أصبح الدين بها مطاطاً الآن في نظر الناس، مع أن الدين مقفل قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3].
هل من المعقول أن محمداً صلى الله عليه وسلم الذي علمنا كيف ندخل الحمام لا يعلمنا كيف نعبد الله بأمور تمس العقيدة وأصول الدين؟! إذاً: هذا مستحيل، ولذلك نقول لمن سلك غير طريق الرسول صلى الله عليه وسلم، وأحدث عبادة ولو كانت عبادة ترضي الله في الظاهر أجمع علماء المسلمين على أن الأصل في العبادات التحريم، وأنه لا يجوز لأحد أن يحدث أية عبادة إلا إذا شرعها الرسول صلى الله عليه وسلم، أو فعلها الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم، الذين قال عنهم الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ)، متى كان أبو بكر وعمر يأتون من المدينة إلى مكة في ليلة سبعة وعشرين من رجب؟! ومتى كان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم يحيون ليلة الميلاد إلى غير ذلك من الأمور التي أحدثها الناس اليوم؟ الفرق بعيد يا إخوتي والله بين الناس وبين سنة الرسول صلى الله عليه وسلم التي مات وتركنا عليها، وهي: محجة بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
يقول الله عز وجل عن البدعة: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115]، والله لو كان راكعاً ساجداً لله عز وجل بالليل والنهار صائماً طيلة النهار، ما دام أنه يشاقق الرسول، ويتبع غير سبيل المؤمنين، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، و (ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة)، أمة الإجابة ليس أمة الدعوة، أمة من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، كلها في النار إلا واحدة من ثلاث وسبعين فرقة، قيل: (من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي).
إذاً: يا أخي! أنت لست بحاجة إلى أن تذهب بعيداً، انظر أي عبادة أحدثها الناس اليوم، اعرضها على فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلى الصحابة من بعده، إن كانوا فعلوها فهي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، احملها على رأسك، وإن لم يفعلوها ولو كانت عبادة في ظاهر الأمر فارفضها؛ لأن اثنتين وسبعين فرقة من أمة الدعوة والإجابة كلها في النار، وواحدة في الجنة، وهي من كان على مثل ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
المسألة يا إخوتي ليست مسألة أذواق، كلما أعجبنا شيء قلنا: هذه بدعة حسنة، ما هي البدعة الحسنة؟ أين موقع البدعة الحسنة في دين الله؟ والرسول صلى الله عليه وسلم يقول في كل جمعة على المنبر: (ألا إن كل محدثة في دين الله بدعة! ألا أن كل بدعة ضلالة! ألا أن كل ضلالة في النار)، متى كانت هناك بدعة حسنة والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (كل بدعة ضلالة)؟! ليست هناك بدعة حسنة.
إذاً: العبادات يا إخوتي دائرة مقفلة، أقفلها الحبيب عليه الصلاة والسلام ليلة عرفة في حجة الوداع، في آخر آية نزلت من القرآن: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة:3]، فأي عبادة تحدث بعد الرسول صلى الله عليه وسلم ما لم يجمع عليها الخلفاء الراشدون الأربعة فإننا نعتبرها بدعة، وليست عبادة ولو كانت صلاة وصياماً وطاعة، فمن قال إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصوم رجباً؟ إذاً نقول: حتى العبادات التي ترهق الإنسان وظاهرها الصلاح، ما دام أنه ما فعلها الرسول صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة الخلفاء الراشدون من بعده فنعتبرها ضلالة، وكل ضلالة في النار ولو كانت عبادة، وكم من عابد أحدث في دين الله عز وجل فهو يحاسب عن ذلك يوم القيامة.
يقول الله تعالى: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى)، القرآن واضح والسنة واضحة: (نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى)، نوجهه الطريق التي يريد في الدنيا، وفي الآخرة (نُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا).(48/14)
قوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به)
يقول الله تعالى بعد ذلك: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ)، ما صلة الآية الأولى بالثانية؟ كل من وقع في البدعة وقع في الشرك، فالمسألة تبدأ من بدعة وتنتهي بشرك، والله يا إخوان من خلال جولة في العالم الإسلامي رأينا كيف تتطور البدعة حتى تصل إلى شرك، ففهمنا هاتين الآيتين بجوار بعضهما: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وساء مصيرًا * إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:115 - 116].
فالبدعة يعاقب عليها الإنسان بالشرك، ولذلك جاءت آية الشرك: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:116]، بجوار آية البدع ومشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم، فعرفنا يقيناً كيف تنتقل البدعة بالإنسان إلى الشرك، اليوم بدعة حسنة! غداً هذه والله أحسن عبادة جاءت في مخ هذا الإنسان! فيخرج سنة من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم ويضع مكانها بدعة، حتى رأينا أن بعض المجتمعات لا يعرفون شيئاً من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، والله يا إخوان رأيت ناساً يصومون رجباً ولا يصلون في بعض البلاد الإسلامية المجاورة.
يصوم شهر رجب ويلحقه بشعبان، وصيام شعبان سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورمضان ركن من أركان الإسلام، لكنه يأتي برجب، فنقول: من أين أتاكم شهر رجب؟ لا يوجد في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم صيام رجب، نجد بعضهم لا يصلي ولا يركع لله عز وجل ركعة، وهذا عجيب! إذاً: لما دخلت بدعة لا بد أن تخرج سنة، بل لا بد أن تخرج واجباً، بل لا بد أن يخرج ركن من أركان الإسلام مقابل هذه البدعة نعوذ بالله، ولذلك الذين وقعوا في البدع وقعوا بعد ذلك في الشرك بالله عز وجل، فعبدت القبور، وحج إليها الناس.
صدقوني يا إخوان! حينما أقول لكم: عبدت القبور لا نبالغ، أكبر رقم قياسي للأوثان التي عبدت من دون الله عز وجل في آخر يوم من أيام الوثنية في مكة يوم دخل الرسول صلى الله عليه وسلم فاتحاً لمكة، فكان في الكعبة ستون وثلاثمائة صنم، فكم يوجد من صنم الآن في العالم الإسلامي؟ تقول الإحصائيات: يوجد الآن عشرون ألف ضريح يعبد من دون الله كلما بعد الناس عن عصر النبوة دخلت البدعة، وكلما دخلت البدع في دين الله عز وجل أخرجت السنن، وكلما أخرجت السنن أوجدت فراغاً نعوذ بالله! عشرون ألف ضريح رأيت كثيراً منها بعيني هاتين يحج إليها الناس، الطواف حولها مدة أربع وعشرين ساعة لا يتوقف، حتى أن بعضها عنده سدنة يقول للناس: شوطاً واحداً فقط، لماذا؟! لأن الوقت لا يتسع، ولأن الزحام شديد، وممكن يطوف سبعة أشواط إذا كان له أهمية في المجتمع، لكن لعامة الناس ليس هناك إلا شوط واحد من شدة الزحام، والله يراق حولها من الدموع أكثر مما يراق حول الكعبة المشرفة، والله إن الذين يتمسحون بها ويقدمون لها النذور والقرابين أكثر من الذين يطوفون حول الكعبة في أيام الزحام، اقسمها على عشرين ألف ضريح في العالم، اضربها في عشرين ألف مرة في العالم، إذاً: أين العالم الإسلامي يا إخوة؟ العالم الإسلامي كثير منهم ضل الطريق؛ لأن البدع بدأت تدخل، ويقولون: هذه بدعة حسنة هذه بدعة حسنة حتى أصبح الناس في حيرة من هذا الدين، والله يا إخوان زرت بعض هذه الأضرحة لأرى بعيني، فجئت قبل الفجر بساعتين فما استطعت أن أدخل من شدة زحام السيارات والباصات التي تنقل الحجاج من أقطار باكستان إلى ضريح من الأضرحة، فهذا واحد فقط من عشرين ألف ضريح.
إذاً لا تعجبوا أيها الإخوة! حينما يقول الله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:115 - 116].(48/15)
دين الإسلام يقوم على العدل
هنا نستطيع أن نرجع إلى صلب الموضوع بعدما أنهينا الحديث عن الآيات بشيء من التفصيل لنقول لكم: دين الإسلام يقوم على العدل، والعدل هو الميزان الذي يقول الله عز وجل عنه: {وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} [الرحمن:7]، والعدل: هو حكم الله عز وجل، فقد حرم الظلم على نفسه وحرمه بين الخلائق، وبهذا العدل ينتشر الإسلام في الأمم.(48/16)
رسول الله صلى الله عليه وسلم يعدل مع نفسه
ولذلك نجد في قصص كثيرة كيف يهتم رسوله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه من بعده بهذا العدل، ولو أدى ذلك إلى أمور ليست لمصلحة الإسلام، الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحكم على نفسه بالعدل، ما كان يرى لنفسه أمراً يختص به، حتى قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها).
(أيم الله) يعني: والله، متى كان هذا الكلام؟ حينما سرقت امرأة من بني مخزوم، من أشراف أهل مكة، فعزم الرسول صلى الله عليه وسلم على أن يقطع يدها، فجاء خيار أهل مكة إلى أسامة ين زيد حب الرسول صلى الله عليه وسلم فقالوا: قدموه ليكون شفيعاً، فكلم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أتشفع في حد من حدود الله)، لماذا؟ لأن الحد إذا ما أقيم على الناس كافة لا تستقيم هذه الحياة، بل كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقيمه على نفسه، ذات يوم في غزوة بدر كان الرسول صلى الله عليه وسلم يسوي الصفوف، فـ سواد بن غزية كان متقدماً قليلاً على الصف، فجاء الرسول صلى الله عليه وسلم ومسح بطنه بشيء من القوة ليرجع، قال: أوجعتني يا رسول الله! أتظنون الرسول صلى الله عليه وسلم قال: هذا سبني أدخلوه السجن؟ لا، كشف الرسول صلى الله عليه وسلم عن بطن نفسه وقال: خذ يا أعرابي حقك، وذلك أمام الناس في الحال، ما قال: خذوه هذا يسب الزعيم، فقام سواد بن غزية رضي الله عنه وقبل بطن رسول الله، قالوا له: لماذا فعلت ذلك؟ قال: والله لقد علمت أنها ساعة ربما تكون هي الأخيرة في حياتي، وأريد أن تكون آخر حياتي مباشرة جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
انظروا يا إخوان إلى الإيمان! يعرف أنه قادم إلى الجنة فيقول: أريد أن ألصق شفتي بجسد رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن ألقى الله عز وجل.
أما عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيقول على المنبر: (إن رأيتم مني اعوجاجاً فقوموني) هل تظنون أن الناس سيقولون: لا، أنت أعدل الناس، ما فيك اعوجاج؟! بل قام أعرابي بدوي فشهر سيفه وقال: (يا عمر! والله لو رأينا منك اعوجاجاً لعدلناه بسيوفنا هذه).(48/17)
علي بن أبي طالب يختصم مع يهودي في درع له
أما علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقد فقد درعه ذات يوم، وهو راجع من غزوة صفين، فذكر له أن درعه عند رجل يهودي، فقال لليهودي بلباقة وهو أمير المؤمنين: هذا درعي، قال اليهودي: بل هو درعي أنا، قال علي بن أبي طالب: نذهب أنا وأنت إلى القاضي، فذهب الاثنان إلى القاضي شريح رحمه الله، فجلس علي واليهودي على كرسيين متساويين أمام القاضي شريح، فقال القاضي شريح: هل لك بينة يا أبا الحسن؟ فغضب علي رضي الله عنه وقال: لماذا تكنيني ولا تكني اليهودي؟ لا بد أن تعدل حتى في الكنية، قل: يا علي، قال: هل لك بينة؟ قال: والله ما عندي بينة، فقال: الدرع لليهودي، مع أنه لـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه، لكن البينات حسب الظواهر أنه لليهودي وليس عند علي بينة.
فاليهودي خجل وتعجب من هذا الحكم، كيف يجلس اليهودي مع علي بن أبي طالب أمير المؤمنين على كرسيين متساويين؟! فقام اليهودي وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، وأشهد أنها أحكام أنبياء، الدرع لك يا أمير المؤمنين، تبعتك يوم صفين ووجدته قد سقط منك، فقال علي رضي الله عنه: أما وقد اعترفت وأسلمت فإن الدرع لك.
ما الذي دعا اليهودي إلى أن يعتنق دين الإسلام؟! الذي دعا اليهودي إلى أن يعتنق الإسلام هو العدل الذي طبق.(48/18)
عمر بن الخطاب وعدله مع جبلة بن الأيهم
أما عمر بن الخطاب رضي الله عنه فكان له موقف لا ينسى، كتب إليه رجل من كبار ملوك غسان يدعى جبلة بن الأيهم قال: يا أمير المؤمنين! أنا اعتنقت الإسلام أنا وقومي وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأستأذنك في العمرة، فرحب به عمر بن الخطاب وفرح به فرح شديداً.
فجاء هذا الموكب العظيم من بلاد الشام إلى مكة، وكان يطوف حول الكعبة جبلة بن الأيهم ومعه خمسمائة من الحرس الذين اعتنقوا الإسلام معه، وبدون إرادة كان هناك رجل من فقراء المسلمين يطوف خلف جبلة بن الإيهم وهو من فزارة، وكان جبلة ما زال حديث عهد بجاهلية فكان يجر رداءه وراءه بعظمة الملوك، فوطئ الفزاري رداء جبلة بن الأيهم فسقط الإزار؛ فالتفت جبلة فلطم الفزاري لطمة فانهدم حاجبه، كيف تطأ ردائي وأنا ملك من ملوك العرب؟ فذهب الفزاري إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال: يا أمير المؤمنين! انظر ماذا فعل بي جبلة قال: جيئوني بـ جبلة، ما قال عمر جبلة هذا مسلم جديد اتركه يا أخي! نحن ندفع ديتك من بيت المال، ثم قال لـ جبلة: أأنت ضربت هذا الرجل؟ قال: نعم، قال: القصاص، الآن أهدم حاجبك.
إنه العدل! قال: يا أمير المؤمنين! أنا ملك وهو سوقة؟ قال: ليس عندنا في الإسلام ملك وسوقة، الناس كلهم سواء، قال: يا أمير المؤمنين! والله لو نفذت لأتنصرن، قال: والله لو تنصرت لقطعت عنقك لأنك مرتد عن الإسلام، كل هذا المكسب نسيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه من أجل أن يقر قواعد الأمن في بلاد المسلمين، وفي أرض المسلمين، قال: يا أمير المؤمنين أعطني فرصة ثلاثة أيام أفكر في أمري، قال: لك ثلاثة أيام إما أن ترضي الفزاري، وإما أن أهدم حاجبك، بعد ثلاثة أيام هرب الرجل في الليل هو ومن معه مرتدين عن الإسلام إلى بلاد الشام مرة ثانية، ورجعوا نصارى نعوذ بالله، ما قال عمر: يا ليتني كسبت جبلة بن الأيهم! كيف أهدده بالقصاص وهو رجل من ملوك العرب؟! خسرنا خمسمائة دخلوا في الإسلام ثم خرجوا منه، وإنما شكر الله عمر بن الخطاب أن وفقه إلى أن يقيم العدل في بلاد المسلمين.
نختم الحديث أيها الإخوة؛ لأني أخشى أن تكون هناك بعض الأسئلة، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقني وإياكم لما يحبه ويرضاه، وأن يجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(48/19)
الأسئلة(48/20)
وجوب التوبة من كل الذنوب
السؤال
هل التوبة تكون من المعصية التي يجب فيها حد من حدود الله التي أوجبها في كتابه، أم أن التوبة تكون من الصغائر فقط؟
الجواب
التوبة تكون من كل الذنوب حتى الشرك؛ لأن الشرك بالله عز وجل أعظم من الذنوب التي فيها حدود، فالتوبة لكل الذنوب إلا حقوق الناس فإنه يشترط فيها مع التوبة رد المظالم، أما إذا كانت حقوقاً لله عز وجل فيكفى فيها الندم، ونحن نعرف قصة ماعز رضي الله عنه الذي زنا واعترف بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما رجموه هرب رضي الله عنه لما وجد من ألم الحجارة، فلحقوه ورجموه حتى مات رضي الله عنه، فلما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (هلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه!) إذا كان الإنسان قبل أن يعترف تقبل توبته فأولى أيضاً إذا تراجع عن اعترافه، لكن التوبة على نوعين: توبة في الدنيا وتوبة في الآخرة، أما توبة الدنيا فإنها لا تقبل في الأمور التي فيها حدود إذا كان فيها تهديد لأمن الناس، ولذلك يقول الله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة:34]، فقاطع الطريق الذي يهدد أمن الناس إذا تاب قبل أن نقدر عليه تقبل توبته، لكن إذا تاب بعد أن نقدر عليه فإنها لا تقبل توبته، ومعنى: أنه لا تقبل عند الناس أي: أنه يقام عليه الحد، فقاطع الطريق إذا عثرنا عليه وأمسكناه قبل أن يتوب فإننا لا بد أن نقيم عليه حد قاطع الطريق، وهو قول الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة:33].
وعلى هذا نستطيع أن نقسم التوبة إلى ثلاثة أقسام: توبة لا تقبل إلا بأداء الحقوق وهي حقوق الناس، وتوبة تقبل لكن قبل أن نقدر على صاحبها كقاطع الطريق إذا تاب وأعلن توبته، ورجع إلى الله تعالى قبل أن نمسكه، فنعتبره تاب حقيقة ونقبل توبته، أما إذا تاب بعد أن نمسكه فلا بد أن نقيم عليه الحد، وعلى هذا نقسم التوبة إلى توبة في الدنيا، وتوبة في الآخرة، أما بالنسبة إلى توبة الآخرة فهي لكل الناس، فإذا تاب الإنسان تاب الله عز وجل عليه إذا صدق في التوبة.
أما توبة الدنيا فإن هناك ذنوباً لا تقبل فيها التوبة بالنسبة للدنيا أي: بالنسبة للعقوبات، ولذلك يقول الفقهاء: لا تقبل توبة من سب الله، أو سب رسوله صلى الله عليه وسلم، أو سب الدين الإسلامي، فهؤلاء لا تقبل توبتهم، وليس معناه أنهم يدخلون النار وإن تابوا إلى الله عز وجل، بل المعنى أننا لا نقبل توبتهم نحن في الدنيا، فإذا وجدنا من يسب الله عز وجل، أو يسب الرسول صلى الله عليه وسلم، أو يسب دين الإسلام كالعلمانيين الذين يقولون: دين الإسلام لا يصلح للحياة، هؤلاء لا نقبل توبتهم في الدنيا، وإنما نقيم عليهم العقوبة ونترك آخرتهم لله عز وجل، وإلا فالأصل أن تقبل التوبة من كل الذنوب بشرط رد المظالم التي عند المذنبين إلى أصحابها.(48/21)
حكم من اقترض نقوداً من البنك وبنى بها ثم أراد أن يتوب
السؤال
لقد اشتريت بيتاً، واقترضت بعض النقود من أحد البنوك قبل فترة من الزمن، والآن تبت إلى الله، فما حكم ذلك، علماً بأنني ساكن في ذلك البيت، أفيدونا وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
والله يا أخي! إذا كنت فعلت هذا الأمر بجهل فإنك معذور بالجهل، لكن لا أظن الناس يفعلون هذا الأمر بجهل، وأظنك يا أخي أخطأت في الأول ورجعت إلى الله عز وجل، لكنك لو أردت أن ترد الحق إلى البنك فإنك لا ترد إلا الأصل؛ لأنه ليس له إلا الأصل، أما إذا كنت قد أديت هذا الأمر ودفعت الأصل مع الزيادة فليس أمامك الآن إلا أن تتوب إلى الله عز وجل وتستغفر، ولا تعود إلى الربا مرة أخرى، فإن الربا حرب لله ولرسوله.(48/22)