الجهاد في سبيل الله
إن الجهاد في سبيل الله عز وجل هو ذروة سنام الإسلام، ولا عزة للإسلام والمسلمين إلا به، ولا قيام للأمة إلا بإقامته، وما ذل المسلمون إلا يوم أن تركوه، وركنوا إلى أعدائهم.
وللجهاد حالات، وله أحكام ينبغي لكل مسلم معرفتها.(1/1)
مكان نزول سورة الأنفال وسبب نزولها
بسم الله الرحمن الرحيم {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ * وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ * إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ * إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ * إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:1 - 19].
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونثني عليه الخير كله، ونشكره ولا نكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله ومن دعا بدعوته وعمل بسنته ونصح لأمته إلى يوم الدين.
أما بعد: أحبتي في الله! هذه هي الحلقة الثانية من: "دروس من القرآن" أسأل الله أن يوفقنا للعلم النافع والعمل الصالح، ولقد كان الحديث في الحلقة السابقة عن أول سورة النور، وكيف حافظ الإسلام على الأخلاق والفضيلة، وحارب الرذيلة، لكن بناءً على رغبة إخوتي الذين يرون الجهاد يقرع أبواب الناس في هذه الأيام، آثرت أن يكون هذا الحديث في هذه الحلقة الثانية عن الجهاد في سبيل الله متمثلاً في جزء من سورة الأنفال التي نزلت يوم بدر، والتي تتكلم عن الجهاد من أولها إلى آخرها، وبناءً على ذلك ستكون هذه الحلقة -إن شاء الله- عن بعض سورة الأنفال، وعن الجهاد في سبيل الله.
ثم أيضاً بناءً على رغبة كثير من الإخوة في ألا نكثر في ذكر معاني الكلمات اللفظية والإعرابية ليكون التفسير موضوعياً وشاملاً نستجيب لذلك إن شاء الله، علماً أن تحليل الكلمات اللغوية هو منطلق من منطلقات فهم كتاب الله عز وجل، لكن ربما أنه قد يحتاج إلى وقت أطول.
سورة الأنفال هذه سورة كلها مدنية، إلا أن هناك خلافاً في سبع آيات، ومنها قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} [الأنفال:30]، قال بعض المفسرين: إنها نزلت في مكة يوم الهجرة، ولا شك أن هذه الآيات نزلت في شأن الهجرة؛ لأنها تصف موقف المشركين بالنسبة للهجرة، لكن لا يمنع أن تكون نزلت في المدينة؛ لأن الهجرة هي الهجرة إلى المدينة نفسها، فلا يمنع أن تكون تأخرت عن الموقف بضعة أيام، إلا أن الذين يقولون إنها مكية يقولون: نزلت في ليلة الهجرة في مكة لتنبيه الرسول صلى الله عليه وسلم عن مؤامرة القوم في دار الندوة، وسوف نتعرض -إن شاء الله- لمؤامرتهم ضد الإسلام في دار الندوة في ليلة الهجرة حينما اتفقوا وجاءهم الشيطان، ودخل عليهم في صورة شيخ نجدي، وكانوا يتداولون الرأي: هل نقتل محمداً؟ هل نخرجه من مكة؟ هل نحبسه ونكبله بالأغلال؟ فقال أبو جهل: أرى أن تقتلوه، وصوب الشيطان الرأي الذي يرى قتله، وأن يُؤتى برجل من كل قبيلة، ويعطى سيفاً حاداً، ويقتلون محمداً جميعاً، ويستريح الناس من شره، ويتفرق دمه في القبائل، فلا يطالب بنو هاشم ولا بنو المطلب بدمه، وتدفع لهم الدية، فكشف الله تعالى هذه المؤامرة، وأنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30].
ولا يمنع أن تكون نزلت في المدينة.
أما الآيات التسعة والستون البقية فبإجماع علماء المسلمين أنها نزلت في المدينة بعد موقعة بدر الكبرى التي أكرم الله عز وجل فيها الإسلام والمسلمين، ورفع فيها راية الإسلام، وبالرغم من أنها أول معركة في تاريخ الإسلام، فما كانت هناك غزوة مثل غزوة بدر، فهي الغزوة الأولى التي وقف فيها الرسول صلى الله عليه وسلم مع مشركي مكة.(1/2)
تركيز سورة الأنفال على الجهاد في سبيل الله عز وجل
نجد أن في هذه السورة تركيزاً على تقوى الله عز وجل، وعلى الجهاد في سبيل الله، وعلى نزع العاطفة من قلوب المسلمين على هؤلاء الكافرين، حتى قال الله تعالى في هذه السورة: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ} [الأنفال:57]، أو (فشرذ بهم) وهي قراءة سبعية، أي: قطعهم تقطيعاً، حتى الذين أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم منهم أسرى منع الله عز وجل أن يكون هناك أسرى لنبي من الأنبياء حتى يثخن في الأرض، أي: يكثر القتل؛ لأن هذه أول معركة في التاريخ الإسلامي.
وسيأتينا -إن شاء الله- في قصة الأسرى في آخر السورة أن الرسول صلى الله عليه وسلم جمع كبار الصحابة وقال: (عندي سبعون أسيراً ماذا أفعل بهم؟) فمنهم من قال: يا رسول الله! هم إخواننا وأبناء عمنا نأخذ منهم فداء، فقام عمر وقال: يا رسول الله! أرى أن تسلم لكل واحد منا قريبه ليقطع عنقه الآن، حتى قال بعض الصحابة: أرى يا رسول الله! أن نجعلهم بين جبلين فنحرقهم بالنار، فالرسول صلى الله عليه وسلم ما نظر إلى هذين الرأيين، وإنما أخذ الفداء، حتى أنزل الله تعالى العتاب لرسوله صلى الله عليه وسلم: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [الأنفال:67]، ثم قال بعد ذلك: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:68]، أي: لولا أن الله تعالى غفر لأهل بدر لأصابكم العذاب؛ إذ كيف تأخذون الفداء من الأسرى مع أنها أول معركة في التاريخ، ويجب على المسلمين إذا كانت معركتهم الأولى مع عدوهم أن يشردوا الكافرين، وأن يقطعوهم تقطيعاً.
ولذلك يقول المفسرون: إن الله تعالى لم ينزل بسم الله الرحمن الرحيم بين الأنفال وبين التوبة، مع أنه لم تنزل سورة من القرآن إلا وفي مقدمتها (بسم الله الرحمن الرحيم) يقولون: حتى لا تكون هناك رحمة في قلوب هؤلاء المؤمنين لهؤلاء الكافرين؛ لأن سورة الأنفال نزلت في القتال، وسورة التوبة نزلت أيضاً في القتال، إلا أن سورة الأنفال نزلت تتحدث عن موقعة بدر، وسورة التوبة تتحدث عن غزوة تبوك مع أحداث أخرى.
وعلى كلٍ نقول: هذه السورة جلها نزل بعد غزوة بدر الكبرى مباشرة، ونزل في بدر بعض الآيات منها.(1/3)
تفسير الآية الأولى من سورة الأنفال(1/4)
اختلاف المسلمين على الغنائم وذكر قسمتها
وأول ما يتبادر للذهن أن الآية الأولى تشير إلى خلاف حصل بين أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس غريباً أن يحصل الخلاف؛ لأنها أول معركة، والمسلمون ما زالوا جدداً على القتال في سبيل الله وعلى الغنائم، والمسلمون الذين هاجروا فقدوا أموالهم كلها في مكة؛ فقد هاجروا بأنفسهم وما أخذوا شيئاً من أموالهم، وإنما عاشوا فقراء في المدينة، وكانوا من أثرى الناس في مكة، فحصل شيء من الخلاف في غنائم بدر، فإنه لما انتهت المعركة اختلف بعض المسلمين في الغنائم؛ لأن قوماً استمروا في المعركة، وصاروا يحرسون موقع الرسول صلى الله عليه وسلم، وفرقة أخرى أخذت الغنائم، فلما انتهت المعركة قال بعضهم لبعض: أنتم أخذتم الغنائم، ونحن نحرس ثغور المسلمين، وقالت الأخرى: نحن الذين حصلنا عليها، فأنزل الله تعالى قرآناً يزيل فيه هذا الخلاف، وأن هذه الغنائم ليست ملكاً لكم، وإنما هي لله ولرسوله، وذلك قد يحتمل أنها قبل أن تباح الغنائم لهذه الأمة، أو بعدما أبيحت الغنائم لهذه الأمة، لكن قسمتها أجلت حتى يحكم الله تعالى في ذلك.(1/5)
كيفية قسمة الأنفال
ولذلك نجد في سورة الأنفال آيتين ظاهرهما التعارض في بادئ الأمر، لكن الحقيقة أنه ليس هناك تعارض بينهما.
فالآية الأولى فيها قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:1]، هذه الآية تعطينا أن الأنفال -أي: الغنائم- ترجع إلى الله وإلى رسوله، لكن في الآية الأخرى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال:41] إلى آخر الآية، ظاهرها خلاف الآية الأولى، ولذا قال المفسرون: هل هذه ناسخة لتلك، أو تلك ناسخة لهذه، أو نوفق بينهما؟ فمنهم من قال: إن هذه هي المنسوخة، وهو الأقرب؛ لأن هذه نزلت قبل تلك، بقطع النظر عن الترتيب في المصحف، ومنهم من قال: ليس بينهما تعارض؛ فلا حاجة إلى النسخ، وإنما هذه توقف قسمة الغنائم، وتجعل الأمر لله ولرسوله، وتلك تبين كيف تقسم الغنائم حسب أمر الله عز وجل وقسمة رسوله، وبهذا لا يبقى إشكال في معنى الآيتين.(1/6)
تعريف الأنفال
وقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ} [الأنفال:1] النفل أصله في اللغة: الزيادة، ويُسمى ولد الولد نافلة، كما قال تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} [الأنبياء:72]، أي: زيادة.
لكن النفل في الحقيقة هو: مال يعطيه قائد المعركة لبعض المقاتلين زيادة وتشجيعاً، إلا أنه صار يُطلق على الغنائم.
قوله: {قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال:1]، أي: قل لهؤلاء: الله تعالى هو الذي يقسم، وسيقسم هذه الأنفال.(1/7)
أهمية إصلاح ذات البين
ثم قال سبحانه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:1]، أي: أصلحوا الخلاف الذي حدث، ولماذا ركز القرآن على الإصلاح؟
الجواب
لأنها أول معركة، والدولة حديثة النشء، ولو بدأ الخلاف في دولة جديدة لكانت ثغرة يدخل منها العدو إلى الإيقاع بالأمة الإسلامية، لكن الله سبحانه وتعالى أمر هنا بالإصلاح حتى لا توجد ثغرة؛ لأن الخلاف دائماً إنما يحدث بسبب المال أو بسبب العدو، فهذان أمران يحدثان الخلاف دائماً؛ فإما أن يندس العدو داخل صفوف المسلمين فيفرق المسلمين، وإما أن يكون هناك مال يختلف عليه الناس فيكون سبباً للفرقة بين الناس.
أما لو كان الخلاف في البحث عن الحق فذلك لا يضر، أما الخلاف بالنسبة للمال أو بالنسبة لتدخل عدو خارجي ليفرق صفوف المسلمين إلى قسمين فهذه هي المشكلة، ولذلك دعا الله تعالى المسلمين إلى إصلاح ذات البين قبل أن يفكروا في قسمة الغنائم، ودائماً الشيطان يدخل من هذه الهوة وهذه الثغرة التي يحدثها المال أو يحدثها العدو في صفوف المسلمين.(1/8)
حكم الصلح مع الكافرين
إذاً: لابد من إصلاح ذات البين، ولابد أن يكون هناك اتفاق بين المسلمين، لكن هل هذا الإصلاح يقوم بين المؤمنين أنفسهم؟ أو يقوم بين المؤمنين والفاسقين والكافرين؟
الجواب
أما مع الكافرين فليس هناك إصلاح، بل لابد أن تكون حرب شعواء بين المسلمين وبين عدوهم لا تهدأ أبداً حتى يكون الدين كله لله، ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى أمر بالإصلاح إذا كان؛ لأن الاختلاف بين المسلمين في أمور جزئية، أما إذا كانت هناك كليات أو كانت هناك أمور هامة يختلف عليها المسلمون الصالحون والفاسقون ثم يأتي واحد ليتدخل ليصلح بين هؤلاء، فنقول: لا يقبل الإصلاح في مثل هذه الحال، وإنما الإصلاح يجب أن يكون بين المؤمنين.
وعندنا آيتان في القرآن: الأولى: قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10].
والثانية: قوله تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:114]، فكيف نفعل بهذا العموم وهذا الخصوص؟ الجواب: نقول: الآية التي فيها الإصلاح بين الناس نحملها على الآية الخاصة: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10].
إذاً: الإصلاح ليس بين الناس عموماً، وإنما بين الناس المؤمنين أنفسهم.
وعلى هذا نقول: إذا كان الخلاف على هذا الدين ومن أجل أن تكون كلمة الله هي العليا فلا نقبل أي وساطة ولا نقبل أنصاف الحلول وأرباع الحلول في هذا الأمر، ولا نقبل إلا أن يكون الدين كله لله، ونرفض أي مبدأ أو أي ثغرة تريد أن تفرق بين المسلمين، أما إذا كان هناك خلاف بين المسلمين على أمر من الأمور الجزئية التي لا تؤثر على الدين فيجب الإصلاح في مثل هذه، وهذا هو الإصلاح الذي أشار الله تعالى إليه بقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:1]، وهو الإصلاح الذي أشار الله تعالى إليه بقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10]، ونحمل عليه الآية العامة في قول الله تعالى: {أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:114]، فإذا كان الإصلاح بين الناس لمصلحة هذا الدين فنقبله، وإذا كانت وساطة بين الكفار والمسلمين حتى يحصل تقارب فهذا لا يجوز؛ لأن هذا يعتبر التقاءً مع الجاهلية في منتصف الطريق، والإسلام لا يقبل أي مفاهمة أو أي مفاوضة أو أي مساومة على دين الله سبحانه وتعالى.
فقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:1]؛ أمرهم بهذا لأنهم مؤمنون، وكلهم يسعون إلى الإصلاح وإلى الخير، لا إلى اختلاف جزئي في أمر من الأمور.(1/9)
وجوب طاعة الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم
ثم قال الله تعالى بعد ذلك: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال:1]، ومن طاعة الله ورسوله إصلاح ذات البين بين المسلمين المؤمنين.
وقوله: {إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال:1]، لا شك أنهم مؤمنون، ولكن قال: (إن كنتم مؤمنين) ليثير غريزة الإيمان في نفوس الناس، كما تقول لواحد من الناس: إن كنت رجلاً فافعل كذا، تريد أن تثير حماس الرجولة فيه، وكذلك أقول له: إن كنت مسلماً فدافع عن دينك ضد هؤلاء الطغاة والفجرة الذين يحاولون هدم هذا الدين، فأنا أعرف أنه مسلم وهو يعرف أنه مسلم، لكن أريد أن أحرك غريزة الإسلام في قلبه.(1/10)
ذكر صفات المؤمنين كاملي الإيمان
ثم بعد ذلك حصر الله تعالى المؤمنين فقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:2]، فهناك إيمان ناقص، وإيمان كامل، فالإيمان الناقص هو إيمان عامة الناس، لكن الإيمان الكامل له ميزات يجدها الإنسان في نفسه في مواقف وفي مواقع، ذكرها الله عز وجل في هذه الآية:(1/11)
وجل القلوب من ذكر الله
وأولها: (إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ): فالمؤمن كامل الإيمان تجده حينما يسمع ذكر الله يهتز قلبه، ويشعر بقشعريرة في جسده؛ حتى كأنه لا يملك نفسه، وهذه تعتبر مقياس الإيمان, ولذلك أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه بمثل هذا الموقف، فإذا شعر الإنسان بهذه القشعريرة فعليه أن يسأل الله؛ لأنها ساعة قوي فيها الإيمان وزاد وارتفع.(1/12)
ازدياد الإيمان عند سماع القرآن
الميزة الثانية: (وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا): إذا سمع القرآن يزيد عنده الإيمان، ويخشع قلبه، وكأنه لم يسمع هذا القرآن قبل أن يسمعه في هذه اللحظة، ولذلك حينما يقرأ القرآن بصوت جميل وبترتيل وبخشوع يزيد الإيمان عند هذا الإنسان، وهذه علامة الإيمان، فالمؤمن هو الذي يشعر بهذا، ومذهب أهل السنة والجماعة أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.(1/13)
التوكل على الله
الميزة الثالثة: (وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ): كامل الإيمان عنده اعتماد على الله سبحانه وتعالى، وليس عنده اعتماد على أحد من البشر، فأياً كان هذا البشر، ومهما أعطي من القوة، ومهما كان له من السطو، ومهما أوتي من الحنكة والذكاء والعلم، فلا تعتمد عليه، وإنما تعمد على الله سبحانه وتعالى، ولذلك قال: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2].
لم يقل: يتوكلون على ربهم، والفرق بين قوله تعالى: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2]، وبين: (ويتوكلون على ربهم) أن فيه تقديم ما حقه التأخير؛ يقول علماء اللغة: هذا يدل على الحصر، مثل: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5]، أصلها: نعبد إياك، أو نعبدك، فتقديم الجار والمجرور على الفعل المتعلق به هو تقديم للحصر، أي: لا يتوكلون إلا على الله سبحانه وتعالى، ولا يعتمدون إلا على الله، مهما كان الجو مظلماً ومكفهراً، ومهما أوتي البشر من قوى مادية ضاربة في الأرض يحسبها الإنسان تدفع شيئاً من قضاء الله وقدره، لكنها في الحقيقة لا تغني من الله عز وجل شيئاً، فإذا اعتمد الإنسان على قوة البشر أو على قوته أو على أي قوة دون الله عز وجل، فهو لا يمكن أن يستفيد من هذه القوة.
إذاً: لابد أن يتوكل العبد على الله، ولا يتوكل على أحد سوى الله عز وجل، وإذا توكل على غير الله فإن الله تعالى يرفع يده عنه، وإذا توكل على الله تعالى فإن الله كافيه، قال عز وجل: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3].
إذاً: الله تعالى لا يكفي إلا من توكل عليه، أما من توكل على غير الله من قوى البشر فإنه مغلوب لا محالة.(1/14)
إقامة الصلاة
فمن هؤلاء الذين يفعلون هذه الأشياء؟ قال الله تعالى: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [الأنفال:3]، أي: يأتون بالصلاة مستقيمة، والصلاة يا إخوان! هي عمود الإسلام، فمهما عمل الإنسان من الطاعات ولكن كانت الصلاة غير مضبوطة وغير صالحة؛ فإنه لا يقبل منه هذا العمل، ولذلك أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة من أعماله الصلاة.
وليست الصلاة هي الحركات الآلية التي يؤديها بعض الناس دون أن تصل إلى القلب، وإنما هي الصلاة المستقيمة، ولذلك ما قال الله تعالى: يصلون، وإنما قال: {يُقِيمُونَ الصَّلاةَ} [الأنفال:3]، فالصلاة كما نعرف هي عمود الإسلام، وتركها ردة عن الإسلام، كما قال عليه الصلاة والسلام: (من تركها فقد كفر)، بل إن الله تعالى أمرنا بأن نقاتل كل من ترك الصلاة حتى يعود إلى الصلاة، ونقاتله قتال الكافرين لا قتال العصاة، فقال عز وجل: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة:5]، وقال: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11].
إذاً: ترك الصلاة مع إنكار وجوبها ردة بإجماع علماء المسلمين، وعلى رأي جمهور علماء المسلمين: إذا كان يعتقد وجوبها ولكنه يتركها تهاوناً فإنه يقتل؛ فاتفقوا على أنه يقتل تارك الصلاة إذا لم يتب، واختلفوا: هل يقتل ردة أو يقتل حداً؟ فالذين قالوا: إنها ردة وكفر قالوا: يقتل ردة، ويترتب على هذا أنه لا يُغسل، ولا يُكفن، ولا يُصلى عليه، ولا يُدفن في مقابر المسلمين، ولا يُورث إلى غير ذلك.(1/15)
الإنفاق في سبيل الله
قال تعالى: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [الأنفال:3]، أي: أنهم من أهل الزكاة والبذل أيضاً.
ولما كانت الآيات سوف تتحدث عن الجهاد جاء الإنفاق؛ لأن الجهاد يكون بالمال كما يكون بالنفس، ولربما الرجل قد يبخل بنفسه ودمه فلا يقدمه في سبيل الله، لكنه يجود بماله، فيقوم هذا المال بسد ثغرة من ثغرات الجهاد في سبيل الله، كما يوجد في أيامنا الحاضرة، ولكن لو بخل الناس بأنفسهم وبأموالهم جميعاً عن الجهاد في سبيل الله، فهذه هي التهلكة التي يقول الله عز وجل عنها: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195]، فلابد من بذل المال.
وقال الله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [الأنفال:3]، وأصحاب الصلاة منهم.
وقال الله تعالى: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال:4]، يعني: ليسوا مؤمنين أدعياء فقط، لكنهم مؤمنون حقاً، و (حقاً) هنا مصدر لفعل محذوف، أي: أحق الله ذلك حقاً، فأصبح أمراً مؤكداً.
إذاً: هذا الذي جمع هذه الصفات هو المؤمن.
فإذا أردت يا أخي! أن تعرف مقياس الإيمان عندك فزن بنفسك بهذه الآية: {إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [الأنفال:2 - 3]، فإذا كانت هذه الصفات موجودة فيك فأنت -إن شاء الله- من المؤمنين حقاً، وذلك لا يمنع أن تكون هناك صفات أخرى مطلوبة أيضاً في المؤمن، من ترك ما حرم الله وفعل ما أوجب الله، لكن هذه الصفات المذكورة مقياس واضح لكل واحد من الناس.(1/16)
الإرهاصات بين يدي معركة بدر
ثم بعد ذلك بدأ الحديث عن موقعة بدر، وكأن الآيات السابقة مقدمة لترقق قلوب المؤمنين، ولترفعهم إلى الجهاد في سبيل الله.
أما موقعة بدر الكبرى -وهي أول موقعة في تاريخ الأمة الإسلامية- فبدأ الحديث عنها في قوله تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} [الأنفال:5]، وعندنا هنا مشبه ومشبه به، فالمشبه: صدق إيمان أصحاب النبي وتفاوتهم في الدرجات، والمشبه به: إخراج الرسول صلى الله عليه وسلم من بيته إلى غزوة بدر الكبرى على غير استعداد، وهذا أمر شاهده المسلمون، وشاهده الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا لا شك فيه، إذاً: المشبه هو: أن هؤلاء المؤمنون لهم درجات عند ربهم، يعني: إذا كان عند أحد شك بأن للمؤمنين درجات عند الله تعالى في الآخرة فليقطع الشك؛ لأن هذا شيء ملموس رآه المسلمون بأعينهم وعايشوه، وهو أن الله تعالى أخرج المؤمنين من بيوتهم وأخرج معهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى غزوة بدر الكبرى على غير استعداد.
وأداة التشبيه هي الكاف في قوله: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ} [الأنفال:5]، أي: بالشيء الثابت الذي لا شك فيه.
{وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} [الأنفال:5]، ولماذا كره المؤمنون القتال في معركة بدر؟ ما كان المؤمنون جبناء، بل أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا شجعان، فقد تركوا الوطن وجاءوا من مكة إلى المدينة، وتركوا الأهل والعشيرة، وأُوذوا في سبيل الله، وكانوا في الحياة المكية يتمنون الجهاد في سبيل الله، كما أخبر الله عز وجل عنهم بقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ} [النساء:77]، وهذا في الحياة المكية، ثم فرض عليهم القتال بعد ذلك.(1/17)
سبب غزوة بدر
إذاً: لماذا فرض القتال في معركة بدر حتى كأنهم يساقون إلى الموت وهم ينظرون؟
الجواب
لأنها معركة خرجوا لها على غير استعداد، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم سمع بأن عيراً قدمت من الشام بقيادة أبي سفيان، وكان المسلمون المهاجرون قد تركوا أموالهم في مكة يتمتع بها المشركون، بل وتركوا بيوتهم وأولادهم وأهليهم هناك، فأراد المسلمون أن يعوضوا عن هذا المال الذي تركوه بمكة من هذه العير القادمة من الشام إلى مكة، وكانت تمر بالمدينة، فأرادوا أن يأخذوا هذه العير، وكان فيها مال كثير، وكان يقودها أبو سفيان، وكان من أدهى العرب.
فخرج الرسول صلى الله عليه وسلم بثلاثمائة وسبعة عشر رجلاً من المسلمين يريد أخذ العير، لا يريد القتال، وليس معهم سلاح إلا سلاح دفاع، لكن الله تعالى يريد أن يكون ذلك قتالاً، وهذا هو السبب الذي جعل المسلمين يكرهون هذه المعركة، يعني: يخافون منها، ليست كراهية نفسية، وإنما هي كراهية خوف؛ لأنهم كانوا على غير استعداد.(1/18)
موقف الصحابة رضي الله عنهم من المشاركة في معركة بدر
ولما سلمت العير جمع الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين في بدر فاستشارهم وقال: (أروني ماذا أفعل؟ فقالوا: يا رسول الله! نحن ما خرجنا للقتال، وليس معنا سلاح، ثلاث مرات، فانتبه سعد بن معاذ رضي الله عنه -وكان زعيم أهل المدينة- فقال: يا رسول الله لعلك تعنينا؟ قال: نعم) لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد بايعه أهل المدينة على الدفاع لا على الهجوم.
قال: (والله يا رسول الله لقد آمنا بك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق)، وهذه المقالة لابد أن يقولها كل واحد حينما يسمع داعي الجهاد في سبيل الله تحت راية المؤمنين، ثم قال: (وإنا والله لصبر في الحرب، صدق عند اللقاء، فوالله! لو وجهتنا إلى برك الغماد أو خضت بنا هذا البحر لخضناه وراءك ما تخلف منا رجل واحد)، هذا هو موقف المسلم حينما ينادي منادي الجهاد في سبيل الله.
ثم قال (والله يا رسول الله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون).
فسر الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الخبر من رجل ما كان بينه وبينه اتفاق، وهو يمثل جميع الأنصار وهم الأكثرية، فعزم رسول صلى الله عليه وسلم على القتال، ثم قضى ليلة بدر وما قبلها من الليالي بين ركوع وسجود لله سبحانه وتعالى.
هكذا القيادة، فيجب أن تتعرف إلى الله تعالى في ساعة الشدة، فلا ترقص وتغني وتأتي بالأشياء التي حرم الله عز وجل وتطرب للمعركة تحت أصوات الراقصات والمغنيات، كما يُفعل في أيامنا الحاضرة! فأمة الإسلام تعرف الله عز وجل دائماً وأبداً، وفي ساعة الشدة يزيد تعرفها على الله عز وجل، بل هذه صفة من صفات المشركين في الجاهلية قبل الإسلام، فإنهم كانوا إذا خافوا وإذا هبت ريح عاصف فزعوا إلى الله عز وجل، ودعوا الله مخلصين له الدين، فقارن يا أخي! بين هذا وبين حال الناس في أيامنا الحاضرة، فالعدو يطوق البلاد الإسلامية من كل جانب، ومع ذلك لا يلتفتون إلى أفكارهم ومذاهبهم ولهوهم ولعبهم حتى في مثل هذه الظروف.(1/19)
وجوب الرجوع إلى الله في الشدائد
والله لو رأينا في هذه الأشهر التي مرت بنا ونحن نرابط أمام أقسى عدو وأشرس عدو من أعداء الله عز وجل، لرأينا أن ما أحدثه الناس من معاصي الله أضعاف ما أحدثوه في السنوات الماضية! فالرسول صلى الله عليه وسلم يأتيه النصر من عند الله سبحانه وتعالى، ويريه في المنام أنه سوف ينتصر، ومع ذلك يقضي ليلته التي تسبق المعركة راكعاً وساجداً لله عز وجل، يتوسل بين يدي الله، ويقول: (اللهم أنجزني ما وعدتني، اللهم! إن تهلك هذه العصبة لا تُعبد في الأرض)، حتى يأتيه أبو بكر رضي الله عنه عند الفجر، فيقول: (يا رسول الله! إن الله ناصرك ومنجزك ما وعد) وكان قد سقط رداؤه من شدة رفع يديه بين يدي الله عز وجل، فكان أبو بكر يضع رداءه على كتفيه ويقول: (يا رسول الله! امض حيث أراك الله).
هذا هو الفرق الذي جعل الهزيمة تحل بالمسلمين اليوم، فإن النصر ينزل من عند الله عز وجل، بل إن الله عز وجل أنزل خمسة آلاف من الملائكة مقابل ألف رجل جاءوا كافرين، مع أن واحداً من الملائكة استطاع أن يحمل ديار قوم لوط ويرفعها فوق السماء إلى أن سمعت الملائكة صياح ديكتهم ونباح كلابهم ثم قلبها، فواحد يستطيع أن يهلك هذه الأمة كلها بأمر الله عز وجل، لكن الله سبحانة وتعالى يريد أن يبين أن الأسباب ولو كانت كثيرة لا تغني من الله عز وجل، فأنزل خمسة آلاف من الملائكة، وأيضاً أنزلهم مسومين، أي: مزودين بالأسلحة.
فما هو الفرق؟ الفرق: هل يرجع الناس في ساعة الصفر وفي ساعة الشدة إلى الله عز وجل أو يتمادون في ضلالهم؟ وهل يتوب الناس من معصية الله عز وجل أو يبقون على ما حرم الله، أو يحدثون أشياء جديدة؟ فالربا ينتشر في بلاد المسلمين حتى في ساعة الشدة، والأغاني لا تتغير، والمسرحيات، وكأننا نعيش حياة سلم في هذا العالم الإسلامي الذي نعيش معه اليوم.
إذاً: لابد من التغيير، والله سبحانه وتعالى ربى المسلمين قبل أن يتحدث عن هذه المعركة؛ ليعلم المسلمون أنه لابد من التربية قبل المعركة، ولابد من العودة إلى الله عز وجل قبل المعركة، ولابد من التضرع بين يدي الله عز وجل قبل المعركة، والله تعالى يقول: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:43]، فإذا كان الأمر كذلك فإن نصر الله أبعد عن هؤلاء الناس مما بين المشرق والمغرب؛ حتى يعود هؤلاء الناس إلى ربهم سبحانه وتعالى ولو -على الأقل- في ساعة الشدة، وكان المطلوب أن يتعرفوا إلى الله في ساعة الرخاء قبل ساعة الشدة؛ لأن الله تعالى يقول: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ} [الزمر:61].
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)، ونحن نطالب المسلمين اليوم في وقت الشدة أن يعودوا إلى الله عز وجل، وأن يهجروا المحرمات، وأن يتضرعوا بين يدي الله عز وجل إذا كانوا يريدون النصر، أما إذا كانوا يفكرون في نصر يأتي من غير الله عز وجل فهذا هو الخطر العظيم، وهذا هو الخلل في التوحيد فضلاً عن الأعمال.(1/20)
المسلمون في بدر بين القتال والغنيمة(1/21)
سبب كراهة بعض المؤمنين للقتال في غزوة بدر
وهنا يقول الله تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} [الأنفال:5].
فدارت المعركة وكان المسلمون كارهين، ولابد أن يأتي نصر الله؛ لأن هؤلاء المسلمين عرفوا من يقاتلون، وعرفوا إلى من يرجعون وإلى من يتضرعون، حتى قال أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في المعركة وهو يصفها: (والله إنا نرى الرأس يقطع ونرى اليد تقطع ولا نرى من هو الذي يقطعهما).
لقد أنزل الله عز وجل ملائكة، وليس نزول الملائكة محصوراً على المرسلين عليهم الصلاة والسلام وعلى محمد صلى الله عليه وسلم، وليس خاصاً في بدر، بل إن الله تعالى يقول: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا} [آل عمران:13]، وهذه الآية دليل على أنها خالدة إلى يوم القيامة.
وهنا يقول الله تعالى: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} [الأنفال:5]، ما كرهوا القتال، وإنما خافوا لأن السلاح غير موجود، ولا تعجب أن يكون هناك خوف في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذه أول معركة في التاريخ الإسلامي؛ ولأنه ليست لهم تجارب مع عدوهم، لكن الله سبحانه وتعالى يريد أن يغير معايير الحياة، ونواميس الحياة التي ألفها الناس، فالعدد لا قيمة له والعدة لا قيمة لها إذا أنزل الله وجل النصر من السماء، ولذلك هم لا يكرهون القتال بل كانوا يتمنون القتال، وكانوا يستعجلون القتال وهم في مكة، والله تعالى يقول: (كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ) أي: حتى يأتي أمر الله سبحانه وتعالى.
ثم قال عز وجل: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ} [الأنفال:6]، أي: تبين أنه لابد من القتال، وبعضهم كان يجادل، لكن ليس الجدال الحاد الذي يفرق الصف، وإنما جدال نقاش حيث كانوا يقولون: يا رسول الله! نحن خرجنا للعير وليس معنا سلاح، فكيف نقاتل العدو؟ والله تعالى يقول: لابد أن تقاتلوا العدو.
وقوله: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ} [الأنفال:6]، أي: بعدما اتضح أنه لابد من القتال، {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ} [الأنفال:6]، أي: كانوا يظنون أنها مهلكة، فكانوا يقولون: هؤلاء ألف من أهل مكة مزودون بالسلاح، ونحن ثلاثمائة ليس معنا سلاح، فإذا واجهناهم فهذا هو الموت، لكن الله تعالى يعلم أن هذا هو الحياة؛ لأن الحياة تكون في الجهاد في سبيل الله، وبمقدار ما يعطل المسلمون الجهاد في سبيل الله يكون لهم نصيب من الموت.(1/22)
وعد الله عز وجل المسلمين إحدى الطائفتين
وقوله تعالى: {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ} [الأنفال:6]، الله تعالى وعدهم إحدى الطائفتين، فهناك عير أقبلت من الشام وفيها مال، وليس فيها قتال، وهناك قتال من عدو أقبل من مكة مزود بالسلاح، والله تعالى أخبر أنه لابد من واحدة، وحينما يُخير الإنسان بين القتال وبين غنيمة بدون قتال فبطبيعة البشر يختار غنيمة بدون قتال، فكان المسلمون يتمنون ويظنون أنهم سوف يجدون العير، ثم بعد ذلك يأخذون أموالها ويرجعون إلى المدينة يتمتعون بهذا المال.
لكن هذا غير مراد؛ لأن الله تعالى يريد أن يقع الحق هنا، ويريد أن تنطمس معالم الباطل التي طالما انتفخت في الأرض، ورفعت رءوسها، وأحاطت حتى بكعبة الله عز وجل، فلابد أن ينحط الباطل ويرتفع الحق في مثل هذا الموقف، ولذلك قال الله تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ} [الأنفال:7]، أي: واذكروا (إِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ)، إما العير أو النفير، والنفير هو: الجيش الذي قدم من مكة، {أَنَّهَا لَكُمْ} [الأنفال:7]، يعني: سيحصل نصر بمعركة أو سيحصل عير بدون معركة، فماذا سيتمنى الناس؟ {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ} [الأنفال:7]، يعني: الذي لا يحتاج إلى قتال ولا يحتاج إلى سلاح هو الذي يتمنونه؛ لأن معنى الشوكة السلاح.
(وَتَوَدُّونَ)، يعني: ترغبون، فالإنسان له رغبة لكن لله سبحانه وتعالى إرادة هي التي تنفذ لا إرادة البشر، والله تعالى يريد أن تكون المعركة حتى تنقمع هذه الشوكة، وحتى تنكسر هذه الشوكة، وحتى يبطل مفعول الكفر الذي رفع رأسه في هذه الأرض، وحتى يرتفع الحق.(1/23)
إحقاق الله عز وجل الحق وإبطاله للباطل
يقول الله تعالى: {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} [الأنفال:7]، أي: يريد الله تعالى أن يقع ما يريد، ولابد أن يقع ما يريد الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله غالب على أمره، ولابد أن يكون القتال حتى تنطمس معالم الكفر.
قال سبحانه: {وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} [الأنفال:7]، الكافرون دائماً يفسدون في الأرض، ودائماً هم الذين يشوشون على المسلمين، ودائماً هم الذين يفتنون المؤمنين في دينهم، ودائماً هم الذين يستعملون أولياء لهم ولو من المسلمين من أجل أن يفتنوا هؤلاء الناس عن دينهم، فالله تعالى يريد أن يقمع هؤلاء وأولئك من المنافقين والكافرين وغيرهم، وترتفع كفة الإسلام، ولذا قال: {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} [الأنفال:7].
والدابر معناه: المؤخر، أي لا يبقى للكفر على هذه الأرض مكان، ولا تبقى له دولة، ولا يبقى له أنصار ولا أعوان ولا دعاة ولا أحد يمده، وهذا هو الذي يريده الله سبحانه وتعالى، وإرادة الله تعالى تنفذ، لكن لابد أن تنفذ على أيدي هؤلاء المؤمنين، فإن سنة الله تعالى في هذه الحياة أن يمتحن المؤمنين بالكافرين والكافرين بالمؤمنين، كما قال سبحانه وتعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان:20]، يعني: هل تتحملون هذه الفتنة؟ ولابد أن تتحملوها.
ثم يقول الله تعالى: {وَيَقْطَعَ دَابِرَ} [الأنفال:7]، يعني: مؤخر ونهاية {الْكَافِرِينَ} [الأنفال:7]، {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ} [الأنفال:8]، أي: حتى يظهر الإسلام، وفعلاً ظهر الإسلام بعد موقعة بدر، وسقط الباطل، قال سبحانه: {وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [الأنفال:8]، فالمجرمون بطبيعتهم لا يريدون أن يسقط الباطل ويرتفع الحق، وهم دائماً أعوان للباطل ضد الحق، وهم دائماً يريدون أن يرتفع الباطل وينخفض الحق، ولذلك تجد أنهم يستعملون كل الوسائل وجميع الطاقات حتى إنهم يقدمون أنفسهم وربما يقدمون أعراضهم أيضاً وأموالهم حتى ترتفع كفة الباطل وتنخفض كفة الحق، أما الله سبحانه وتعالى فهو يريد أن يسلط المؤمنين على الكافرين، حتى تنخفض كفة الباطل وترتفع كفة الحق.(1/24)
استغاثة المؤمنين بالله عز وجل في بدر(1/25)
التوجه إلى الله وحده
صار المسلمون يستغيثون بالله، وهذه النقطة الحساسة هي التي يجب أن ننتبه لها اليوم؛ فليس الرسول صلى الله عليه وسلم وحده هو الذي وقف يسأل الله ويتضرع بين يدي الله ويقول: (اللهم! إن تهلك هذه العصبة لا تُعبد في الأرض)، بل حتى المسلمون كانوا يستغيثون، وما استغاثوا بغير الله عز وجل، ولا فكروا في أن يمدوا أيديهم إلى فارس أو إلى الروم؛ لأن الإسلام لا ينتصر إلا بنصر الله عز وجل وبجهود المسلمين الذين يسلطهم الله تعالى على الكافرين.
فالاستغاثة في مثل هذه الظروف الشديدة يجب أن تكون بالله عز وجل، والله تعالى يملك قلوب العباد، وهو الذي يملك نواصيهم فكلها بيده، كما قال عز وجل: {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [المنافقون:7]، وقال: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الفتح:4]، سواء كان المستغيث من البشر أو من الملائكة؛ فالمكروب الذي وصل إلى ساعة الصفر وطوقه عدوه من كل جانب حينما يستغيث بالله عز وجل، فإن الله تعالى قريب مجيب.
ولذلك لم يخيب الله عز وجل استغاثة هؤلاء القوم, إنما أسعفهم بملائكة، وأخبرهم أن هؤلاء الملائكة لا ينفعون ولا يضرون من دون الله.
وهؤلاء الملائكة نزلوا من السماء، وكانوا خمسة آلاف ملك مدججين بالأسلحة، وواحد منهم يستطيع أن يقلب الأرض كلها رأساً على عقب بأمر الله عز وجل، ومع ذلك لا يُعتمد عليهم، ولذلك سيأتينا من أين يأتي النصر، فليس من الملائكة، وإنما هو من عند الله عز وجل.
فالله تعالى يقول للمسلمين هنا (إِذْ)، أي: اذكروا أيها المسلمون! {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ} [الأنفال:9]، أي: تطلبون الغوث من الله عز وجل وتقولون: يا رب! يا رب! يكررون هذه الدعوة، ويتهجدون في جنح الليل المظلم، ويتضرعون بين يدي الله عز وجل، ويزيلون المنكرات حتى لا يبقى في الأرض منكر؛ لأن النصر لا ينزل مع وجود المنكرات في الأرض، لاسيما إذا كانت هناك منكرات كبيرة، ولاسيما إذا كان هناك دعاة للباطل والضلال قد رفعوا رءوسهم، ولاسيما إذا كانت هناك أماكن يحارب فيها الله عز وجل، وينتشر فيها الربا، ويُؤذى فيها الدعاة إلى الله تعالى، ويُؤذى فيها أولياء الله؛ وهم الذين تعتبر أذيتهم حرباً لله، فالله تعالى يقول في الحديث القدسي: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)، وهل يستطيع إنسان أن يحارب الله ويحارب الناس في آنٍ واحد؟! يستطيع، وإذا حارب الله وحارب الناس فسوف يسلط الله عز وجل عليه هؤلاء الناس؛ لأن نواصي المؤمنين والكافرين كلها بيد الله عز وجل وفي قبضته.
فهنا كانوا يستغيثون بالله، لأنه لا يغيث ولا يكشف الضر ولا يأتي بالخير ولا يزيل الكربة إلا الله عز وجل، {فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} [الأنفال:9]، هذه الفاء يقول علماء اللغة: إنها للترتيب السريع؛ ولذلك إذا جاء الجواب بالفاء فهو سريع، وإذا جاء بـ (ثم) فهو بعيد.
إذاً: لماذا لا يجرب الناس الآن الاستغاثة بالله عز وجل وحده! فإن كل التجارب قد جربوها إلا العودة إلى الله عز وجل عودة صحيحة.
فلماذا لا تُعمل هذه التجربة ولو مرة واحدة في حياة الناس اليوم وفي عالمهم؟(1/26)
إمداد الله عز وجل المسلمين بالملائكة في يوم بدر
فالمسلمون لما استغاثوا بالله تعالى في بدر قال لهم: {فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} [الأنفال:9]، وجيء بالفاء التي تدل على السرعة، ولذلك ما كاد الرسول صلى الله عليه وسلم ينهي تضرعه بين يدي الله عز وجل في ليلة بدر حتى نزلت الملائكة مع الفجر، فقبل أن تبدأ المعركة أمر الله عز وجل فرقة من الملائكة تتكون من ألف مردفين، يعني: كل واحد معه مجموعة، فبلغ المجموع خمسة آلاف جندي نزلوا من السماء، وواحد منهم يستطيع أن يحمل الأرض كلها بجناحه ويقلبها على الأرض، ولكن الله عز وجل يريد أن يطمئن المؤمنين بهذا العدد.
قال سبحانه: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} [الأنفال:9]، فلماذا استجاب؟
الجواب
استجاب لأن الاستغاثة كانت بالله عز وجل وحده، لو كانت استغاثة بالمخلوق لما حصل لهم النصر؛ لأن الله تعالى يقول: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)، كما في الحديث القدسي.
وقوله عز وجل: {فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} [الأنفال:9]، السين أيضاً تدل على السرعة، كما أن الفاء تدل على السرعة، أي: فاستجاب لكم في الحال، وماذا استجاب لهم الله عز وجل؟ قال عز وجل: {أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال:9]، وفي قراءة سبعية: (بألف من الملائكة مردَفين)، وسواء كانوا هم أردفوا غيرهم أو أردفهم غيرهم فالمهم أن العدد بلغ خمسة آلاف، كما أشار الله تعالى إلى ذلك في سورة آل عمران بقوله: {بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ} [آل عمران:124]، ثم بين بعد ذلك فقال: {بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران:125]، يعني: معهم السلاح.
إذاً: واحد يردف مجموعة معها اثنين يصبح العدد ثلاثة، وواحد يردف معه أربعة يصبح العدد خمسة، والعدد (خمسة) مضروب في (ألف) يصبح العدد خمسة آلاف، فليس هناك تعارض بين آية آل عمران وآية الأنفال.(1/27)
لا يتحقق النصر إلا بإرادة الله وحده
لكن هل هذا العدد سوف يحقق النصر بدون إرادة الله؟
الجواب
لا، ولو نزلت كل ملائكة السماء الذين {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:20]، والذين وصفهم الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (ليس هناك موضع شبر في السماء إلا وملك ساجد لربه أو راكع)، فلو نزل هذا العدد الكبير كله إلى الأرض دون أن يحقق الله عز وجل النصر لهؤلاء المسلمين لما كانوا سيستفيدون من هذا العدد.
إذاً: لابد أن يكون الاعتماد على الله، ولذلك يقول الله تعالى: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى} [آل عمران:126]، والضمير في (جعله) يعود إلى نزول الملائكة الألف المردفين.
فإذا كان خمسة آلاف من الملائكة مدججين بالأسلحة لا يغنون من الله عز وجل شيئاً، فهل لو أتانا من بلاد الكفر ملايين البشر ليدفعوا الضر عنا يستطيعون ذلك دون إرادة الله عز وجل؟ لا أحد يستطيع ذلك، فإن الملائكة وهم الملائكة يقول الله تعالى عنهم: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران:126]؛ وذلك حتى لا يعتمد أحد على غير الله عز وجل.
فانظروا يا إخوان! بالرغم من كثرة العدد، وبالرغم من عظمة الملائكة الذين نزلوا من السماء، وبالرغم من أنهم مسومون، فإنه لا يأتي النصر على أيدي هؤلاء، وإنما هم بشرى فقط، ومعنى بشرى: تستبشرون ولا تخافون مرة أخرى، ولذا قال سبحانه: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ} [الأنفال:10]، يعني: أنكم إذا رأيتم الملائكة تقاتل تطمئنون فقط، لكن النصر لا يأتي على أيدي هؤلاء، وإنما يأتي من عند الله عز وجل مباشرة.
إذاً: تعلق مخلوق بمخلوق من دون الله عز وجل نقص في الملة وفي العقيدة، وضعف في الدين، وسبب من أسباب الفشل مهما كان هذا الإنسان قد أُعطي من القوى البشرية، وليس معنى ذلك أن نقول: إن الإنسان لا يستعين بالإنسان، وإنما نقول: الإنسان لا يعتمد إلا على الله عز وجل، فإن الله تعالى هو الذي يملك النصر، ولذلك سنجد في دروس لاحقة أن المسلمين في غزوة حنين بلغوا اثني عشر ألفاً، وهو أكبر عدد وقف مع الرسول صلى الله عليه وسلم في معركة من المعارك، ومع ذلك غُلبوا.
فبعدما تمكن الإسلام من قلوبهم ودخلوا المعركة وهو مزودون بالأسلحة وعازمون على القتال، وفيهم أهل مكة والمدينة قد اشتركوا جميعاً في غزوة حنين، وذلك بعدما دخل أهل مكة في الإسلام، ومعهم كل شيء من وسائل النصر المعروفة مادياً، لكن قال واحد منهم كلمة هي: لن نهزم اليوم من قلة! فالله تعالى قال: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة:25]، ولكن لابد أن يكون نصر المؤمنين: {ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة:26].
إذاً: نحن لا نقول: الرقم لا قيمة له، أو الاستعداد لا أثر له، بل الاستعداد مطلوب، كما قال عز وجل {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60].(1/28)
أهمية ربط الجيوش بالله وإصلاح الأوضاع
وتجهيز المسلمين لقتال العدو أمر مطلوب، لكن ذلك يحتاج إلى أمرين اثنين لابد منهما: ربط هذا الجيش بالله عز وجل، وإصلاح أوضاع المسلمين الذين سيدافع عنهم هذا الجيش؛ فإنه لا يأتي النصر إذا كان هذا الجيش بعيداً عن الله عز وجل؛ ويُفرض عليه أن يحلق لحيته في كل يوم، وأن يأتي في الصباح ويقدم التحية للعلم، بدلاً من أن يقدمها لله عز وجل.
وهذه معاصٍ تتكرر كل يوم، بل تتكرر كل لحظة، بل حتى الصلاة لا تُقام في كثير من ثكنات الجيوش التي تقول: إنها جيوش إسلامية، مع أن الله تعالى أمر المسلمين أن يقيموا صلاة الخوف في ساحة المعركة، بل لو نظرنا إلى وسائل التربية لوجدنا أن كثيراً منها بعيد عن الله عز وجل! إذاً: لا يمكن لمثل هذه الجيوش أن تنتصر مهما بلغت من القوة، وريما يقول قائل: إن هذه الجيوش الكافرة قد اكتسحت العالم؟ فنقول: هؤلاء كافرون، والكافرون الله تعالى يقول عنهم {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ} [هود:15]، لكن المسلمون لا يقبل الله تعالى منهم أنصاف الحلول، وإنما يريد منهم أن يدخلوا المعركة وأن يقبلوا على العدو بإيمان صادق، وأن يعتمدوا على الله عز وجل، أما الاعتماد على قوى بشرية من دون الله عز وجل فإنها لا تغني من الله تعالى شيئاً، ولذلك الملائكة وهم خمسة آلاف مدججون بالسلاح يقول الله تعالى عنهم {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى} [آل عمران:126]، أي: فقط في الظاهر، ويُستفاد منهم وجودهم كمظهر قوة.(1/29)
لا عزة ولا نصر إلا من عند الله عز وجل
وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ} [الأنفال:10]، أي: لترتاح نفوسكم حتى لا تصابون بالقلق؛ لأنه كان المسلمون قلقين.
ثم قال سبحانه: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [الأنفال:10]، (ما) و (إلا) صيغة حصر، أي: النصر لا يأتي إلا من عند الله، لا من الملائكة ولا من جيش آخر يفد لمساعدة أمة من الأمم، ولا من سلاح فتاك نادر في الأرض، الله تعالى إذا أراد أن يبطل هذا يبطل مفعوله في لحظة، فلا يُستفاد منه أبداً، كما حدث لجيوش في بلاد المسلمين سبقتنا بسنوات قليلة، فلما أراد الله ألا يستفاد منها لم يستفد منها، لكن إذا نزل النصر من عند الله عز وجل تحقق ولو العدد قليل، بشرط أن يكون المنصور مؤمناً متمسكاً بدينه.
ثم يقول الله تعالى: {إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:10]، عزيز: قوي، وحكيم: يضع الأمور في مواضعها، فينزل النصر حيث يتطلب الموقف النصر، وينزل الهزيمة حيث يتطلب الموقف الهزيمة تربية للمؤمنين، كما حدث يوم أحد ويوم حنين، والله تعالى قد ينفع بالقوة الضاربة في الأرض فيُستفاد منها، وقد يبطل مفعول هذه القوة الضاربة في الأرض فلا يُستفاد منها، ولذلك يقول الله تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:10].
إذاً: العزة لله ليست لأحد من البشر إلا من أعزه الله سبحانه وتعالى، والله تعالى لا يعز بهذة العزة ولا يعطيها إلا من يستحقها من المؤمنين، فالله تعالى يقول: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8].(1/30)
تأمين المسلمين وتثبيت أقدامهم بالنعاس والمطر(1/31)
إنزال الله عز وجل النعاس على المسلمين يوم بدر
ثم يقول الله تعالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ} [الأنفال:11].
هذا أمر عجيب! في ساعة المعركة من يستطيع أن يأتيه النعاس؛ فالنعاس معروف أنه لا يأتي الإنسان إلا وهو مطمئن، وإذا كنت في حالة خوف فإنه لا يأتيك النعاس، بل النوم لا ياتي أبداً، وربما تسهر الليالي والأيام، ثم تبحث عن النوم وأنت قلق خائف فلا يأتي النوم أبداً.
لكن المسلمين وهم هذا العدد القليل أصابهم النوم في ساعة المعركة، وليس نوماً معناه أنه غفلة عن المعركة، وإنما هو نعاس يهدئ الأعصاب؛ لأنهم سهروا في الليل في التهجد، وما سهروا على رقص وغناء وحفلات، كما نشاهده في عالمنا اليوم في أعياد ميلاد المسيح والكرسمس وما أشبه ذلك.
فهم سهروا في طاعة الله عز وجل، ولما سهروا ما بين راكع وساجد لله عز وجل أراد أن يعطيهم النوم، ولكنه ليس نوماً يضيع عليهم الفرصة، وإنما هو نوم تطمئن فيه النفس، وتهدأ فيه الأعصاب، ويشعر المسلم إذا أصابه النعاس في مثل هذا الموقف أنه مطمئن، ولذلك لا يأتي النعاس -وهو مقدمة النوم- إلا بعد أن يطمئن هذا الإنسان على نفسه، فالله تعالى يقول: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران:126].
ويقول: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ} [الأنفال:11]، وفي قراءة (إذ يغشاكم النعاس)، يعني: سواء أن الله تعالى غشاهم النعاس أو النعاس غشيهم فهو بإرادة الله سبحانه تعالى، والغشيان التغطية، يعني: غطى كل واحد؛ حتى كان أحدهم في المعركة يشعر بالنوم، ثم ينتبه ويقول لجاره: كم عدد هؤلاء القوم؟ فيقول: هم بين السبعين والثمانين، فينظر العدو أيضاً إلى المسلمين فيقول: كم عدد أهل المدينة؟ فيقول صاحبه: هم ما بين المائة إلى السبعين، وكل واحد يقلله الله تعالى في عين الآخر؛ حتى تكون هذه المعركة، وحتى يبدأ هذا الصدام، وحتى لا يرجع أحدهم دون أن تكون معركة.(1/32)
إنزال الله عز وجل المطر على المسلمين يوم بدر
وقوله تعالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ} [الأنفال:11]، أي: من أجل أن يؤمنكم حتى لا تخافوا، {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال:11]، بالرغم من أن الموقع كان لصالح الكافرين فإن الله تعالى جعل الموقع أيضاً لصالح المؤمنين، فكانت العدوة الدنيا في جهة المدينة، وكانت أرضاً رملية صعبة، وكانت الحركة السريعة للقتال كما يتطلب الموقف تصعب على هذه الرمال، فمن رحمة الله عز وجل أن أنزل المطر في تلك الليلة، فلما نزل المطر ابتلت الأرض، وشرب الصحابة، واغتسلوا، وكان بعضهم قد أصيب بالجنابة، وكان بعضهم يشعر بالقلق قبل ذلك، فالله تعالى ربط على القلوب بنزول هذا المطر، فأخبرهم بأن النصر سوف يأتي؛ لأن المطر يعتبر رحمة من رحمات الله عز وجل.
فالله تعالى يقول هنا: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال:11]، أي: يطهرهم في أجسامهم فيغتسلون، ويتوضئون، ويصلون، ويطهرهم في قلوبهم، حتى تزول تلك الوحشة التي يشعرون بها، فإن الذي أنزل المطر هو الذي سوف ينزل النصر.
يقول الله تعالى: {وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ} [الأنفال:11]، ومن رجز الشيطان ما يحدثه في القلب من قلق وخوف، {وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ} [الأنفال:11]؛ لأن نزول المطر علامة على نصر الله عز وجل وعلى كون الله تعالى مع هؤلاء المؤمنين.
{وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} [الأنفال:11]، حتى إذا تحرك المسلمون يتحركون بسرعة على هذه الرمال اللينة، وينطلقون بسرعة؛ فتكون الأقدام ثابتة، كما أن الله تعالى يثبت به أيضاً الأقدام من الناحية المعنوية بحيث يشعرون بأن النصر سوف ينزل عليهم عما قريب.
يقول الله تعالى هنا: {وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} [الأنفال:11]، وسواء كان المعنى: يقوي أقدام السير أو يقوي جانبكم في المعركة؛ فيؤهلكم إلى أن تدخلوا المعركة بقلوب ثابتة.
وبعد ذلك أصدر الله تعالى أمره للملائكة أن تنزل إلى الأرض، وهذا هو الشيء الذي يجب أن يطلبه المسلمون دائماً وأبداً، سواء جاءت الملائكة أو نزل النصر من عند الله تعالى مباشرة دون أن يحتاج إلى واسطة، فنزول الملائكة يُعتبر طمأنينة لقلوب المؤمنين، وإلا فإن النصر يأتي من عند الله تعالى، لا يأتي بقوة من قوى البشر أو غيرهم.(1/33)
نصر الله عز وجل للمسلمين يوم بدر وهزيمة الكافرين(1/34)
المسلمون يحققون شروط النصر
يقول الله تعالى بعد ذلك: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ} [الأنفال:12]: فهذه أمة مؤمنة خرجت لهدف الجهاد في سبيل الله، لا تريد إلا أن تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى، أمة خرجت تائبة إلى الله تعالى منيبة، تريد أن يظهر هذا الدين، وأن ينخفض جانب الكفر، أمة خرجت منيبة إلى الله عز وجل تتضرع في جوف الليل الآخر، لا تلهو، ولا تغني، ولا تلعب، ولا ترقص، ولا تأتي بمسرحيات قبل المعركة ولا بعد المعركة، ولكنها أمة تريد فقط أن ترتفع كفة الإسلام.
ثم بعد ذلك صدقوا مع الله عز وجل وعزموا على القتال ولو بعدد قليل، ووجد يقين في هذه القلوب على أن النصر يأتي من عند الله، ووجد أيضاً يقين على أن المقاييس المادية والعددية والكمية والكيفية لا أثر لها إذا أنزل الله عز وجل النصر، فهنا جاء النصر من عند الله تعالى، كما قال الله تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ} [الأنفال:12]، فالله مع الملائكة أيضاً، والملائكة مع المسلمين، وبهذا لا يمكن أن تكون هزيمة في مثل هذا الموقف أبداً.
إذاً: لابد أن يكون نصر؛ لأن الله تعالى مع هؤلاء المؤمنين، وقد أمر بأن تنزل الكتائب من الملائكة من أجل أن تطمئن المؤمنين، ثم أمر الله تعالى بالنصر فتحقق؛ لأن النصر لا يأتي إلا من عند الله، ولذلك قال الله تعالى: {أَنِّي مَعَكُمْ} [الأنفال:12]، حتى لا يفهم الناس أن الملائكة وحدها هي التي تقاتل، بل الله عز وجل من فوق سبع سموات يراقب هذا الموقف ويدبر هذا الكون، ولذا قال: {أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال:12]، يعني: النصر سيأتي، وإنما المسألة تثبيت فقط، فالتثبيت غير القتال، فالله تعالى ما أمرهم أن يقاتلوا، ولا أمر المسلمين أن يقاتلوا، بل الله تعالى حقق النصر؛ لأن المسلمين قد استعدوا لذلك، فالمسألة مسألة تثبيت، وليست مسألة قتال، مع أن القتال حصل بعد ذلك.
وقوله سبحانه: {فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} [الأنفال:12]، فمهما أظهروا من القوة والإرهاب لنا في أي وقت من الأوقات فإن الله تعالى يضع في قلوبهم الرعب وينزع من قلوبنا المهابة لهؤلاء، وحينئذ يتحقق النصر.
ولذلك فإن الرعب من الميزات التي أعطيت للرسول صلى الله عليه وسلم من بين سائر الأنبياء من قبله، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ونصرت بالرعب مسيرة شهر).(1/35)
قتال الملائكة مع المسلمين يوم بدر
ثم أمر عز وجل الملائكة بأن يقاتلوا فقال: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال:12]، أي: قطعوا الرءوس، وقطعوا الأصابع التي جاءت لتحارب الله عز وجل ولتكتب فى سب الإسلام، ولتتعرض لدين الله عز وجل، لأن هذه أصابع مجرمة، طالما تحركت في معصية الله عز وجل، وطالما سعت في الأرض فساداً فقطعوها تقطيعاً.
فالله تعالى أمر بتقطيع الأيدي التي تحمل السلاح أو تحمل القلم لتتناول من دين الله عز وجل، وأمر بأن تقطع الرءوس، وأرشدهم كيف يضربون, وإذا كان الضرب في الوجه ممنوعاً في الإسلام، فإنه في مثل معركة بدر أمر الله تعالى بضربها فقال: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ} [الأنفال:12]، والذي فوق الأعناق هي الوجوه والرءوس.
{وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال:12]، أي: قطعوا الأصابع، لماذا؟ {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال:13]، أي: حاربوا الله، وبارزوا الله تعالى بالمعصية، وأغضبوا الله سبحانه وتعالى بكيدهم ومكرهم، وتعرضهم لدين الله عز وجل، وتعرضهم للمؤمنين.
إذاً: لابد أن تقطعوا هذه الرءوس التي تتكلم وتبصر وتسمع، وأن تقطعوا هذه الأيدي التي طالما حملت السلاح أو آذت المسلمين بأي نوع من أنواع الأذى.(1/36)
سبب هزيمة الكفار يوم بدر
ثم قال تعالى: (ذَلِكَ) أي: السبب: {بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال:13]، أي: حاربوه، وبارزوه بالمعصية، وهل هذه خاصة بأولئك المبارزين لله بالمعصية، أم هي عامة؟
الجواب
ليست خاصة؛ لأنها لو كانت خاصة لما قال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال:13]، ولكن حتى يعلم الناس أن الذين يشاقون الله ويبارزون الله سبحانه وتعالى ويعاندونه ويؤذون أولياءه الذين ينافحون عن دين الله إلى يوم القيامة، حتى يعلم هؤلاء أن الله تعالى لهم بالمرصاد، فالله تعالى قال: {وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال:13]، يعني: يتحدث عن أمر مستقبل أيضاً.
فقوله: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ)، يتحدث عن هؤلاء القوم، لكن بالنسبة لمن يأتي في أي عصر يريد أن يبارز الله وأن يحارب الله سبحانه وتعالى بالمعصية فإن الله تعالى لا يتركه ولا يهمله، ولذلك الله تعالى يقول: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ)، لا نقف عند هذا الحد، بل {وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:13]، سواء كان في بدر مع محمد صلى الله عليه وسلم أو بعد محمد مع الصالحين الذين يسيرون على منهج محمد صلى الله عليه وسلم، أو في أي عصر من العصور التي تكون فيها المشاقة من هؤلاء المجرمين والكافرين والملاحدة والضالين والظالمين والطغاة إلى يوم القيامة، فمن يبارز الله عز وجل بالمعاصي فإن الله شديد العقاب.
فليست العقوبة خاصة بأمة ولا بعصر ولا خاصة بالأنبياء، وإنما هي باقية وخالدة حتى يرث الله الأرض ومن عليها، والصراع بين الحق والباطل سيبقى ما بقيت الحياة الدنيا، فكل من شاق الله ورسوله فسوف يجد هذا الجزاء، لكن ربما يرد على بعض نفوس ضعاف الإيمان شيء من الشك، فيقول: كثير ممن يبارز الله عز وجل بالمعاصي ويشاقه اليوم أين هذه العقوبة منهم؟ فنقول: إن الله تعالى يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، لكن بشرط أن يكون الصراع بين الإيمان والإلحاد، بين الحق والباطل، لا في سبيل التراب، ولا في سبيل العرق ولا الجنس، ولا ليرى مكانه، ولا ليقال: إن فلاناً شجاع، ولكن من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا، فإذا وقف المسلمون في أي عصر من العصور هذا الموقف وأرادوا أن يوقعوا العقوبة بمن شاق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب، أي: لهؤلاء الذين يشاقون الله ورسوله.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
والحمد لله رب العالمين.(1/37)
الأسئلة(1/38)
المراحل التي مر بها الجهاد في سبيل الله عز وجل
السؤال
ما رأيك في القول بأن الجهاد الإسلامي إنما شرع لإزالة القوى الكافرة، والطغاة الذين يحولون بين البشر وبين تلقي الهدى والإسلام؟ وإذا كانت الدولة الكافرة تسمح للدعاة بممارسة نشاطهم في أرضها بكل حرية فهل يسقط الجهاد ضد هذه الدولة؟
الجواب
الإسلام مر بأربع مراحل: مرحلة الصبر، وتجدونها في الآيات المكية، كقوله تعالى: {فَاصْبِرُوا} [الأعراف:87]، وقوله: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل:127].
ثم جاء الدفاع في المرحلة الثانية، ومن ذلك قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج:39]، وذلك أول ما وصل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
ثم أُمر المسلمون بالقتال ابتداءً، لكن من قدم الجزية تقبل منه الجزية، وهذه هي المرحلة الثالثة.
المرحلة الرابعة التي أعتقدها أنا: أنها مرحلة القتال دون أن تقبل الجزية، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة:123]، وقوله: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} [البقرة:191]، إلى غير ذلك من الآيات التي تجدونها في سورة التوبة؛ لأن سورة التوبة من آخر ما نزل من القرآن في آيات الجهاد؛ حيث إنها نزلت في غزوة تبوك، وهي تعتبر من أواخر الغزوات.
وعلى كلٍ تكون المراحل أربع، ولذلك المسلم لا يضع السلاح حتى يكون الدين كله لله، لقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [الأنفال:39]، والفتنة ليس معناها الفوضى، وإنما معنى الفتنة: الكفر، يعني: قاتلوا الكافرين حتى لا يبقى كفر على وجه الأرض، وحتى يكون الدين كله لله، فلا يبقى دين غير دين الإسلام.
ولذلك أعتقد أن المسلمين مفرطون حينما يضعون السلاح على الأرض وهناك من يعبد في هذه الأرض غير الله سبحانه وتعالى، لكن لو بقيت دولة تهادن المسلمين، والمسلمون يشعرون بالقوة فنقول في مثل هذه النقطة: هذه نقطة ضعف، فيدعون القتال حتى يتقوى هؤلاء المسلمون لينشروا هذا الإسلام في هذه الأرض بطريق القوة.
ولذلك لا يضير الإسلام أنه ينتشر بالقوة؛ لأن الإسلام انتشر بالحكمة فوقف العدو في وجهه فالله سبحانه وتعالى أراد أن يزيح ما يقف في وجه هذه الدعوة، ولذلك الذي أعتقده أنا أن آخر ما استقر عليه الدين: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [الأنفال:39]، أي: كفر، {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39]، لكن لا مانع أن يبقى كافرون يعيشون في ظل دولة إسلامية، والله تعالى يقول: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} [الممتحنة:8].
لكن يا إخوان! لا تظنوا أن معنى (تبروهم) هو هذا اللين وهذه الرقة التي يعيشها المسلمون مع أعداء الله، ولكن إذا كان هناك كافر فقير عاش بدولة إسلامية وهو ذليل فقير، فنحسن إليه، كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وإذا تحاكم رجل كافر ومسلم أمامنا نحكم بالعدل بينهما، هذا معنى (تقسطوا إليهم)، أما هذه الرقة وهذا اللين وهذا الذوبان مع الكافرين، فهو الشيء الذي لا يقبله الإسلام في أي حال من الأحوال.(1/39)
كيفية جهاد المنافقين الموجودين داخل البلاد الإسلامية
السؤال
كيف نجاهد المنافقين في بلادنا وقد استولوا على كثير من الأمور كالإعلام ووسائل النشر؟ وكيف نرد على باطلهم وقد احتكروا جميع المنابر ما عدا منابر الجمعة والتي يُراد حصرها في تعليم الناس الصلاة، وأمور العبادة فقط؟
الجواب
يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} [التوبة:73]، وهذا دليل على أن المنافق غير الكافر؛ لأن الكافر كافر معروف، أما المنافق فهو أخطر على الإسلام من الكافر، ولذلك يقول الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:145]، وهم الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر.
أما كيف نقاتل هؤلاء، فإذا علمنا بأن هؤلاء منافقون فعلينا أن نراسل الدولة ونناصح الدولة ونقول لهم: اتقوا الله، هؤلاء منافقون لا تتركوهم يتسلمون أمور الحياة؛ لأن هؤلاء سوف يدمرون الحرث والنسل، وهؤلاء متربصون، كما تربص المنافقون بالرسول صلى الله عليه وسلم، حتى إذا أحاط الأحزاب بالمدينة خرج المنافقون من أوكارهم وتعاونوا مع الأحزاب، وأعتقد أن هذا هو الذي يحدث في مثل هذه الأيام، لما أحاط بنا عدونا من كل جانب تحرك المنافقون وكأنهم بدءوا يتمالئون مع العدو، ولربما لا يظهرون للدولة أنهم يتمالئون مع العدو، لكن تحركاتهم تريد أن تربك الدولة، وتربك المجتمع، كما نلاحظ في أيامنا الحاضرة.
فهؤلاء لابد أن ننبه الدولة على أخطارهم، ونقول: فلان وفلان وفلان أبعدوهم عن المناصب؛ لأنهم سوف يوقعون بهذه الدولة، ونحن لا نريد إلا أن تكون هذه الدولة؛ لأنها دولة حكمت بحكم الله ولا نريد غيرها يحكم هذه البلاد، فوجود هؤلاء المنافقين سوف يربك الدولة؛ لأن الدولة الآن ما تدري: هل تحارب العدو الخارجي الذي يطوقها من جميع الجهات أو تحارب العدو الداخلي؟ فهؤلاء المنافقون بدوء يحرضون ضد الدعاة والمصلحين والمؤمنين من أجل أن يحولوا بينهم وبين الدولة، ولربما يقولون: إن هؤلاء أعداء لكم، فتوقع هذه الدولة بهؤلاء الدعاة، فتسقط من عين الله عز وجل؛ لأن هذه الدولة لو آذت هؤلاء الدعاة فسوف تقع في حرب مع الله عز وجل، وإذا حاربت الله عز وجل فسوف تنهزم، بل ستنهزم حتى في حربها مع الناس؛ كما في الحديث القدسي: (من عادى لي ولياً -يعني: رجلاً صالحاً- فقد آذنته بالحرب)، ومن يستطيع أن يحارب الله، ثم يحارب الناس بعد ذلك؟! فنحن ندعو المسئولين الكبار في الدولة أن ينتبهوا للمنافقين الذين يندسون في دوائر الدولة، ولا أقول: في الإعلام أو غيره، بل الحقيقة أننا أصبحنا نشك في كثير من الناس الآن، وأنهم غير مخلصين للدولة، إضافة إلى أنهم غير مخلصين لدين الله عز وجل، وأنهم أعداء لدين الله عز وجل، ولكن البوادر تدل أن في وسائل الإعلام وفي غيرها أناساً مندسين الآن، ولذلك ما قالوا للدولة ولا وجهوا الدولة في مثل هذه الظروف الحرجة أن تغير كثيراً من برامجها وكثيراً من تحركاتها وأعمالها، فأصبح الأمر إن لم يكن أشد من السابق فهو ليس بأقل من السابق خطراً.
وهذه كلها من أعمال المنافقين الذين يضرون بالدولة، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يهدي الدولة حتى تعرف هؤلاء ومواقعهم، فهم مكشوفون الآن، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يثبت أقدامنا نحن أمام هؤلاء المنافقين، كما نسأله أيضاً أن يثبت أقدامنا أمام الكافرين المحيطين بهذه الدولة.(1/40)
حكم جهاد أعداء الله عز وجل
السؤال
لا شك أن عدونا يتربص بنا الدوائر، وأن الجهاد ضد هؤلاء فرض عين علينا خاصة، فما موقفنا الآن وقد استعدت هذه الجيوش لحربنا الآن؟ وما هو واجبنا نحن المسلمين نحو هذه الحرب؟ هل نجاهدهم أو نبقى نعتمد على غيرنا؟ وهل نأثم على جلوسنا، وفقكم الله؟
الجواب
الاعتماد على غير الله عز وجل كفر ومذلة وسبب سقوط هذا الإنسان من عين الله عز وجل، والله تعالى لما أنزل الملائكة ما قال للمسلمين: هذا النصر جاء، بل قال: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [الأنفال:10]، مع أنهم ملائكة يضربون بقوة الله تعالى.
إذاً: من باب أولى أن يكونوا أناساً من البشر فضلاً عن ناس غير مسلمين يكرهون الإسلام ويكرهون بلاد الإسلام والدولة الإسلامية، فلا يعتمد على هؤلاء، وإنما هؤلاء نعتبرهم قوة، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يقينا شرهم وشر من جاءوا ليحاربوه.
أما موقفك أيها المسلم! فأنت مطالب بالجهاد في سبيل الله، والدفاع عن بلاد المسلمين، فعليك أن تستعد لهم بقدر ما أوتيت من قوة، ولا مانع أن تنضم إلى المجموعة غير المسلمة في مثل هذه الظروف؛ لأن الظروف يوجد فيها عدو يطوق بلاد المسلمين، ويطوق دولة إسلامية، ويريد أن يقضي على هذا الإسلام في مهده.
ولذلك فنحن مطالبون أن ندافع عن بلاد المسلمين، لا عنها كتراب، وإنما عنها كأرض للإسلام، وكمقدسات يتجه إليها المسلمون في كل يوم خمس مرات في صلاتهم، ويحجون ويعتمرون إليها، فلابد أن نستميت في الدفاع عن هذه البلاد.
وأقول أيضاً: نحن لا نفرط بهذه الدولة، ولا نريد غيرها، وإن كان الواشون والمنافقون لربما يوقعون بيننا وبينها، فنحن لا نريد غيرها، فهي التي تحكم بشرع الله، ولكن نرجو أن تضرب بيد من حديد على هؤلاء المفسدين؛ حتى لا تفسد العلاقات بيننا وبينها؛ لأن هؤلاء المنافقين والعلمانيين إنما يريدون أن تفسد العلاقات بين المؤمنين والدولة، ثم يحدث ما يحدث من جفاء، وهذا هو أكثر ما يحدث الخلل في صفوف المسلمين.
إذاً: لابد من الدفاع، فقد يصبح الدفاع فرض عين في مثل هذه الظروف وليس فرض كفاية، وقد أجمع علماء المسلمين على أنه إذا هجم عدو من الخارج على دولة إسلامية، فإن كل واحد من هؤلاء المسلمين أصبح عليه فرض عين أن يكافح هؤلاء بقدر ما أوتي من قوة، ومن يتأخر عن ذلك فهو من الذين قال الله تعالى عنهم: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [الأنفال:16].(1/41)
كيفية الاستعداد لجهاد أعداء الله عز وجل
السؤال
هل في هذا الوقت المليء بالفتن يكون الاستعداد للجهاد بالسلاح أم الاستعداد النفسي والإيماني؟ وكيف يكون ذلك لنا، وفقكم الله؟
الجواب
يقول الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60]، فقوة الإيمان وقوة السلاح والتدريب والرمي، والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى، كل هذا يدخل في الاستعداد.
إذاً: المسلمون مطالبون بكل نوع من أنواع القوى التي يستطيعون أن يقدموها في مثل هذه الظروف، ولذلك فهم مطالبون بأن يقووا إيمانهم، وحينما يقوون إيمانهم هم مطالبون بأن يقووا جيشهم وعددهم وعدتهم.
وأيضاً هم مطالبون بألا يرحموا هؤلاء الكافرين، لقوله تعالى: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ} [الأنفال:57]، أي: قطعهم تقطيعاً.
إذاً: المسلمون مطالبون بإعداد جميع أنواع القوى، لكن حينما يعدون إعداداً مادياً ويغفلون أو يتغافلون عن القوى المعنوية فإن هذه هي البلية، وهذا هو الذي يحدث في كثير من الأحيان، أو حينما يتعلقون بغير الله سبحانه وتعالى، ويظنون أن غير الله سبحانه وتعالى هو الذي سوف ينصرهم، فهذه هي البلية، والله تعالى يقول: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران:126]، فعلينا أن نبحث عن النصر في موقعه وحيث يكون.(1/42)
معنى الحكمة يختلف باختلاف الظروف
السؤال
أريد أن أعرف الحكمة ما هي؟ وما شروطها؟ وكيف لنا أن نتحلى بالحكمة في مثل هذه الظروف؟ مع أن هناك من طلبة العلم من رمي بالتحمس وترك الحكمة في القول، أرشدونا وفقكم الله؟
الجواب
الحكمة معناها في اللغة: وضع الأمور في مواضعها، فالكلمة الطيبة الرقيقة اللينة حكمة حينما يكون الموقف يتطلب مثل هذه الكلمة، والقتل حكمة، وإبادة أمة من الأمم منحرفة عن منهج الله تعتبر حكمة، فمعنى الحكمة تختلف حسب الظروف وحسب مقتضيات الأمر، فاللين حكمة إذا كان الموقف يتطلب اللين، والقسوة والشدة حكمة إذا كان لابد من هذا الأمر، ولذلك قال الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125]، ولربما يطلق على الحكمة -وهذا في أول الإسلام- معنى اللين.
لكن الحكمة في معناها اللغوي والاصطلاحي الذي اتفق عليه علماء المسلمين بعد ذلك هي: وضع الأمور في مواضعها، ولذلك فإننا مطالبون بالحكمة بمعنى اللين حينما يكون للين موقعاً، ولكن إذا كان لابد من القوة فلابد أن تكون للأمة الإسلامية قوة.
ولذلك لا تعجبوا حينما ذكر الله عز وجل إنزال الحديد مع إنزال الكتب السماوية، وقال: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} [الحديد:25]، فمعنى ذلك: أنه لابد من القوة، وتعتبر حكمة حينما يتطلب الموقف القوة، لكن هذه القوة يجب أن تكون منضبطة بضوابط كثيرة أهمها: ألا تجر وراءها مشاكل، ولذلك نحن ندعو الشباب الذي أصبح الآن يتحمس لدينه إلى الحكمة، ولربما نكرر هذه الكلمة دائماً وأبداً لكثرة ما يردنا من الأسئلة، سواء كان من خلال الهاتف أو من خلال الأوراق أو من خلال المواجهة والمشافهة كلهم يقول: ماذا نعمل في مثل هذه الظروف؟ وكأن الشباب يريد أن يدمر ويفسد الحرث والنسل، ويريد أن يستعمل قوته ويعتبرها حكمة، فنقول: هذه ليست من الحكمة، بل عليك يا أخي! أن تضبط نفسك وتوازنك، فأنت تعيش في دولة إسلامية، وأنا واثق أنها لن تترك هؤلاء المجرمين الذين أثاروك في يوم من الأيام، أو في أيام كثيرة، لن تتركهم يتمادون في مثل هذا الباطل؛ لأن إثارتك سوف تسبب غضب الله أولاً، ثم لربما تسبب غضب مسلم من المسلمين، فيدمر أشياء كثيرة بدافع غيرته على دين الله عز وجل.
فأنا أنصح المسئولين في الدولة بالانتباه لذلك، فوالله الذي لا إله غيره إننا دائماً وأبداً يأتينا شباب يريدون أن يقدموا على أمور نخشى أن تكون لها خطورة، فنحن نكون كوابح أمام هؤلاء، ونقول لهم اتقوا الله، لكن ربما يأتي يوم من الأيام لا يأخذون رأينا في مثل هذه الأمور، فأقول للمسئولين: امنعوا هؤلاء الذين يثيرون هؤلاء الشباب، ويحركون فيهم الشجاعة والحمية والغيرة، والغيرة أحياناً تكون غير منضبطة، لاسيما في عصر الصحوة الإسلامية التي وجه الله تعالى فيها كثيراً من الشباب إلى دين الله، ولربما أن بعضهم كان في يوم من الأيام حرباً على الإسلام، فإذا به الآن قوة ضاربة في الأرض لهذا الدين، فأنا أقول: امنعوا هؤلاء الذين يثيرون هؤلاء؛ حتى لا تكون فتنة، والله المستعان.(1/43)
أهمية الجهاد في سبيل الله عز وجل بالمال
السؤال
جميع آيات الجهاد في القرآن قدم فيها المال على النفس، ما عدا موضعين تقريباً، فهل معنى ذلك أن الجهاد بالمال يفضل على الجهاد بالنفس في الظروف العادية؟
الجواب
قد يكون المال أنفع للمسلمين من النفس، لاسيما في ظروف بلاد فقيرة، كما يوجد في أفغانستان وفي أرتيريا وفي الفلبين وفي فلسطين وفي غيرها، ولربما تكون النفس أنفع من المال حينما يتوفر المال ولا نجد الرجال، كما يوجد في بعض المواقع الأخرى، ولذلك نقول: المال غالباً أنفع من الرجال في الظروف العادية؛ لأن مال رجل واحد من الأثرياء ربما يمون آلاف الرجال للجهاد في سبيل الله، لاسيما حينما يكون هناك فقر ومسغبة، كما يوجد في بعض المناطق الإسلامية.
ولكن حينما يكون المال ولا يكون رجال فلابد أيضاً من الرجال، فالله تعالى يقدم المال في أكثر الآيات ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم المال في أكثر الأحاديث، ولربما يتقدم الرجال على المال، المهم أن التقديم يكون حسب الحاجة، فإذا كانت الحاجة إلى المال فالمال يكون أفضل، وذلك حينما يتوفر عدد الرجال، وحينما يكون المال متوفراً والرجال قلة لابد أن نقدم أنفسنا وأرواحنا في سبيل الله.
وخير هذه الأمور من يقدم نفسه وماله في سبيل الله، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء)، أي: لم يرجع لا بنفسه ولا بماله، وهذه أعلى المراتب وأفضل الدرجات.(1/44)
الفرق بين تمني لقاء العدو وتمني الشهادة
السؤال
كيف نوفق بين حب القتال والشهادة في سبيل الله وبين حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه: (لا تتمنوا لقاء العدو)؟
الجواب
الفرق بين تمني لقاء العدو وتمني الشهادة واضح، فتمني لقاء العدو إذا لم يقم قتال، والأمور مستقرة على طاعة الله، فلا نتمنى لقاء العدو في مثل هذه الحال، لكن إذا وجد القتال وقام العدو ووقف صفاً في وجوه المسلمين، أو في وجه الزحف الإسلامي ففي مثل هذه الحالة نتمنى الشهادة، ولكني أرى الآن -خصوصاً من خلال أخبار أسمعها من شباب يسافرون إلى بعض مواقع قتالية في أرض الله- أن أحدهم دائماً يسعى إلى الشهادة فقط، أنا لا أريد هذا، فالله تعالى يقول: {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} [آل عمران:140]، والله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} [التوبة:111].
إذاً: لابد أن يقدموا جهداً قبل أن يسعوا إلى الشهادة، فالشهادة مطلب يستفيد منه هذا المستشهد، لكن قتل الكافرين ومصارعة الكافرين تستفيد منه الدولة الإسلامية كلها، ولذلك الأصل: ألا نتمنى قتال العدو، لكن إذا قام القتال ووجد وأصبح حقيقة ففي مثل هذه الحال نتمنى الشهادة، ولا نتمنى القتال؛ لأن القتال موجود، وإنما نتمنى الشهادة، لكن تمنينا الشهادة لا يعني أن الإنسان يزج بنفسه في أمور مخاطرة لا يستفيد منها الإسلام، أو لربما تجر على الإسلام أضراراً أو تقلل عدد المسلمين أو عدد هذا الجيش، أو تفت في عضد المجاهدين حينما يرون كثرة الاستشهاد، وإنما المسلم يقاتل لا ليستشهد، وإنما يقاتل حتى يستشهد بعد ذلك، ولذلك نجد في قتال المسلمين يوم مؤتة أنه لما رأى خالد بن الوليد رضي الله عنه أن المعركة ليست لمصلحة المسلمين انسحب بالجيش، ولو كانت المسألة مسألة استشهاد فقط لزج بثلاثة آلاف معه من المسلمين في وسط الروم وأبيدوا، وحصلوا على الشهادة وانتهى الأمر، لكن لما رأى خالد رضي الله عنه أن الموقف والتكتيك الحربي يتطلب الانسحاب انسحب، فالمسألة مسألة هزيمة أعداء لا مسألة شهادة فقط.(1/45)
شروط المرابطة في سبيل الله عز وجل
السؤال
هل المرابط على حدود المملكة في هذه الأيام يعتبر مرابطاً في سبيل الله؟ وهل هناك شروط للمرابط، أم أن كل من جلس على الحدود يعتبر مرابطاً؟
الجواب
يعتبر المرابط مرابطاً في سبيل الله بشروط: الشرط الأول: أن يكون مخلصاً في القصد لله سبحانه وتعالى، فيقصد من وراء مرابطته الدفاع عن دين الله وعن أرض الإسلام، لا عن وطنه الذي هو تراب وأرض.
الشرط الثاني: أن يكون مستعداً مجرباً قبل أن يكون مرابطاً، فعليه أن يكون مخلصاً لله عز وجل باحثاً عن الحق، يريد أن يحق الحق ويبطل الباطل، وأن يكون أيضاً تحت قيادة إسلامية خالصة إن أمكن، ولكنه قد يعذر حينما يكون تحت قيادة غير إسلامية إذا أصلح هدفه، فلربما يكون اثنان أحدهما في سبيل الله والآخر في سبيل آخر، والله تعالى يبعث كل واحد يوم القيامة على نيته، ويعطي الله سبحانه وتعالى كل واحد على حسب ما يعتقد وما ينوي وما يقصد.
فالمرابطة تعتبر نوعاً من الجهاد في سبيل الله؛ لأنه صراع بين المسلمين وبين الكافرين، ولا يمنع أن تكون هناك أمور لا يرضى بها كثير من المسلمين، لكن المهم أن الدفاع عن بلاد المسلمين كأرض إسلام أمر مطالب به كل واحد من المسلمين، لكن بشروطه.(1/46)
ضعف دور المؤسسات الإسلامية تجاه القضايا الإسلامية
السؤال
ما موقف المؤسسات الإسلامية على مستوى الدول أو على مستوى الأفراد تجاه انتهاك حرمة المسلمين في كثير من بلاد العالم في الدم والمال والعرض، أفتونا جزاكم الله خيراً؟
الجواب
ليست هناك مؤسسات إسلامية لها وزن كبير وإن كانت موجودة والحمد لله، كرابطة العالم الإسلامي وغيرها، لكن الحقيقة أن فيها الضعف الشديد، وهذا هو الشيء الذي يحز في النفس، وهو أن تكون هذه المنظمات الإسلامية على هذا المستوى الصغير لا تدافع عن حقوق المسلمين إلا بشجب أو بكلمة فقط لا أكثر ولا أقل، والذي نتمناه من الله سبحانه وتعالى ونرجوه منه سبحانه وتعالى أن يهيئ لهذا العالم دولة إسلامية تتبنى الإسلام بمعناه الحقيقي، وتملك جيشاً إسلامياً ضارباً في الأرض يدافع عن المسلمين لا يفرق بين المسلمين في فلسطين ولا في جنوب الفلبين، ولا في أي مكان من الأرض.
أما واقعهم في الحقيقة فهو موقف ضعيف وهو الشجب والاستنكار في بعض الأحيان، لا في كل الأحيان، أما الدم الإسلامي فهو أرخص الدماء اليوم على وجه الأرض! ولو تتبعت أخبار العالم عبر الأثير لوجدت أن هناك تركيزاً كاملاً على المسلمين، ويكفي ما يدور في الهند في أيامنا الحاضرة، من أجل مسجد سيهدم يدافع عنه المسلمون نجد أن قوىً ضاربة داخل الهند قامت ضدهم، بالرغم من أن عدد المسلمين في الهند يزيد على مائة وثمانين مليون مسلم، ومع ذلك لا يجدون إمداداً، أكثر ظني أن كثيراً من المسلمين لا يدري ماذا يحدث في الهند، بل أخوف ما أخاف أن المسلمين في الهند يُذبحون بأموال المسلمين! فهذا يأتي بهندوسي وهذا يأتي بسيخي، ثم يأخذون هذه الأموال ويذهبون هناك يذبحون بها المسلمين، فنقول لهؤلاء أصحاب المؤسسات أو الدوائر الرسمية الحكومية الذين يستقدمون غير المسلمين: اتقوا الله! فالمسلمون يُذبحون في الهند، وقد يكون ذلك بأموال مسلمين، والمسلمون يُذبحون في جنوب الفلبين، وقد يكون ذلك بأموال المسلمين! إذاً: لا يجوز أن تذهب أموال المسلمين إلا إلى المسلمين، والله المستعان.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.(1/47)
الشباب والزمن
إن الزمن هو الكنز الذي لا يقدّر بثمن، فضياعه أعظم من الموت؛ لأن الموت يقطعك عن الدنيا، وضياع الوقت يقطعك عن الدنيا والآخرة، فما أحرى أن يغتنم الشباب هذا الوقت، الذي إذا ذهب بعض الإنسان.
إن الشباب مرحلة زمنية مباركة، فيها الحيوية والقوة والعطاء، وفيها تبنى المعالي، وفيها تكون التضحية التي لا تعادلها تضحية في مرحلة أخرى، فما أحسن أن يُستغل في طاعة الله تعالى!(2/1)
محاسبة النفس على ما قدمت
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونثني عليه الخير كله، ونشكره ولا نكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله، ومن دعا بدعوته، وعمل بسنته، ونصح لأمته إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الإخوة في الله! حديثي معكم هذه الليلة عن الزمن والشباب، والحديث عن الزمن مهم جداً، وعن الشباب أهم، لا سيما وأننا في هذه الأيام المباركة قد ودعنا عاماً شاهداً لنا أو علينا، وبدأنا عاماً جديداً، فنسأل الله أن يجعله عام خير وبركة وعزة وكرامة للأمة الإسلامية.(2/2)
المسلم كالتاجر لابد أن يدقق في المحاسبة
إنّ مرور هذه الأيام والسنين آية من آيات الله عز وجل قال تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا * وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء:12 - 13].
وإن الصراع بين الحق والباطل صراع قديم طويل باق ما بقيت الحياة الدنيا، وهو موجود منذ أن أهبط الله عز وجل أبانا آدم من الجنة، وأهبط عدوه إبليس، وقال لهما: {اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [طه:123].
ومنذ ذلك الوقت والشيطان يتربص الدوائر بابن آدم، وقد توعد ابن آدم فقال: {لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:17]، فهذا أحد الأعداء.
والنفس عدوة للإنسان أيضاً، فهي أمارة بالسوء إلا ما رحم ربي، والشهوات التي جعلها الله عز وجل بيننا وبين الجنة خطيرة في سبيل هذا الإنسان أيضاً؛ ولذلك فإن هذا الإنسان على خطر، وعليه أن يستعد لكل أعدائه، وأن يأخذ من السنين والأيام العظة والعبرة، فإن هذه الأرض قد عاش عليها من عاش من هذه البرية، وكل جيل ينتهي، ويأتي جيل آخر، وهكذا كتب الله عز وجل الفناء على كل كائن حي، وما مرور الأيام والسنين إلا درس وعبرة لهذا الإنسان.
إن التاجر الذي يعمل طول عمره في التجارة، ويبيع ويشتري، ويأخذ ويعطي، ويتعامل مع الناس، لا بد أن تكون له ساعة يفتش فيها دفاتر تجارته؛ لينظر ربحه أو خسارته، وهذا أمر فطري طبعي فطر الله عليه هذا الإنسان.
وإن المسافر سفراً طويلاً وهو يمر بلوحات الطريق ومنعطفاته لا بد أن يقف أمام كل منعطف، وحول كل لوحة من لوحات الطريق؛ لينظر مقدار الطريق الذي قطعه، وماذا بقي عليه؟ وكم معه من الزاد؟ وهل معه ماء يبلغه؟ وهذه سنة الله أيضاً في الحياة.
ونحن تجار مع الله، ومسافرون إلى الدار الآخرة، وبداية عام ونهاية عام تعتبر من أهم معالم الحياة ومنعطفاتها التي تستوقف المسلم؛ لينظر في ربحه أو خسارته، ولينظر مقدار الطريق، ومقدار ما بقي، وما قطع.
نقف في هذه الفترة من الزمن التي ابتدأ فيها العام الجديد، وانتهى فيها العام الأول، وعلينا أن نتيقن من أن ما قدمناه في العام السابق محفوظ كما قال تعالى: {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة:6]، وأن الله عز وجل قد وكل بكل واحد منا ملائكة تعلم ما يفعل كما قال تعالى: {يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:12]، {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18].
وقد يتجاوز الله عز وجل عما يتجاوز عنه من تلك السيئات، ويضاعف ما يضاعفه من هذه الحسنات، وقد أعد الله عز وجل لكل إنسان كتاباً، تطوى في كل يوم صفحة من صفحات ذلك الكتاب، لتفتح في اليوم الآخر صفحة جديدة بيضاء نقية، وهذا الإنسان يكتب له فيها ما يكسبه من صالحات أو سيئات، ثم إذا كان يوم القيامة فتحت هذه الصحائف، ونشر ذلك الكتاب: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف:49] {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ} [الإسراء:13] أي: نصيبه وحظه {فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا} [الإسراء:13] فيقال له: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:14].
هذه هي حصائد الأعمال، وثمرات الأيام والليالي التي قضيتها -أيها الإنسان- في حياتك، ويؤتى بهذه الصحائف، وينصب ميزان العدل يوم القيامة، وتوضع الحسنات في كفة والسيئات في كفة، ويوقف الإنسان بين كفتي الميزان، ويوكل به ملك من ملائكة الله، وتوزن الحسنات والسيئات، فإن ثقلت الحسنات نادى الملك: سعد فلان سعادة لا يشقى بعدها أبداً، وإن خفت الحسنات وثقلت السيئات نادى هذا الملك: شقي فلان شقاوة لن يسعد بعدها أبداً.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنه ليؤتى بالرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة)، فالمسألة ليست مسألة أجسام، أو أحساب، أو آباء وأجداد وأنساب، أو كراسي، أو رتب عسكرية، أو أي ميزة من الميزات التي يتمايز بها الناس في هذه الحياة الدنيا؛ وإنما هي الحسنات والسيئات، وإنما هي الثمرة التي تغرس غراسها بنفسك في كل يوم وليلة، وفي كل ساعة ودقيقة وثانية من عمرك في هذه الحياة.
ولذلك صح في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله عز وجل ينشر على عبد من عباده يوم القيامة تسعة وتسعين سجلاً، كل سجل مد البصر، فيقول الله عز وجل لعبده: أظلمك كتبتي الحافظون؟ ألك عذر؟ ألك حسنة؟ -فيبهت الرجل، ويعلم أنه قد هلك، ولكن لطف الله عز وجل لا يفوت إلا من مات على الكفر أو على الشرك- فيقول: لا، فيقول الله عز وجل: بلى إنك لا تظلم، إن لك عندنا حسنة، فيؤتى ببطاقة فيها: أشهد أن لا إله الله وأشهد أن محمداً رسول الله.
فتوضع السجلات في كفة وهذه البطاقة في كفة، فيقول هذا الإنسان: يا ربي! ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟! فيقال: إنك لا تظلم، ثم تطيش السجلات، وتثقل البطاقة)؛ لأن فيها لا إله إلا الله.
إن هذه الكلمة يقولها المؤمن والمنافق، والعاصي والمستقيم، لكن لا يستفيد منها إلا من عرف أهميتها، وعمل بمقتضاها؛ فلم يحن رأسه لغير الله عز وجل كائناً من كان، ولم يطأطئ ظهره لغير الله عز وجل، ولم يتمسح بأعتاب ميت كما يعمل المخرفون وأصحاب البدع والوثنيون، ولم يحن رأسه أمام أعتاب حي من الأحياء كما يعمل هؤلاء المتملقون لغير الله عز وجل.
فهذه بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وهذه السجلات عددها تسعة وتسعون سجلاً، وكل واحد منها مد البصر، ومع ذلك تثقل (لا إله إلا الله) بتلك السجلات، فحققوا يا إخوتي! (لا إله إلا الله)، وستجدون في طريقكم كل خير وسعادة، وتخلصوا من الشرك، ومن حقوق البشر، واعلموا أنكم تقدمون على رب كريم.(2/3)
ماذا عملنا في العام الماضي
في هذه الأيام نودع عاماً وهو يساوي نسبة كبيرة من العمر، لا بد أن نقف أمام سجلات الأعمال وكأنها قد نشرت أمام كل واحد منا يوم القيامة، فنحاسب أنفسنا، كما يقف التاجر أمام دفاتر التجارة، ويحسب القرش والريال؛ حتى يتلافى الأخطاء التي وقع فيها في العام الماضي، ثم يصحح ذلك في العام المستقبل، وكما يقف المسافر الذي يسير في طريق طويلة، ومعه قليل من الزاد، والسفر طويل، والسفر شاق، والجو قائظ حار، فلا بد أن يتفقد متاعه وما يحمله؛ حتى لا يعرض نفسه للهلكة.
أيها الإخوة المؤمنون! إنّ الساعة التي نعيشها في هذه الأيام ساعة حاسمة، فإذا كنت قد أودعت سيئات فيما مضى فاستغفر الله وتب إليه، واشكر الله عز وجل الذي أمد في عمرك حتى تنتبه إن كنت في غفلة، واشكر الله عز وجل الذي يفتح باب التوبة دائماً وأبداً، فيبسط يده بالليل؛ ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار؛ ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها.
إنّ هذه النعمة لا تتوافر لغير المؤمن، فمهما عمل من السيئات، ومهما أسرف على نفسه، ومهما جنى من الخطايا فإن باب التوبة مفتوح، ولا يغلق حتى يغرغر هذا الإنسان، أي: حتى تبلغ الروح الحلقوم، أو حتى تطلع الشمس من مغربها كما قال تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ} [الأنعام:158].(2/4)
الشباب والغرور
احذر -يا أخي- إن كنت شاباً أن يغرك الشباب، فتقول لك هذه النفس البشرية: أمامك فرصة، وأمامك زمن، وأمامك مهلة، انهل من متاع هذه الحياة وتمتع، ويمكنك أن تتوب مستقبلاً! فإنّ هذه الأماني هي التي تغر كثيراً من الناس: {وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [الحديد:14]، وهي أخطر شيء على حياة الإنسان، فإنّ الشيطان يأتي هذا الشاب فيقول له: انتظر، وتمتع، وافعل، واترك، ويمكنك أن تتوب مستقبلاً فتصلي، ويمكنك أن تتوب مستقبلاً فتترك هذه المحرمات، ثم يوقعه الشيطان في حبائله إلى أن تغرغر هذه النفس، وتبلغ الروح الحلقوم، ثم يقول: {رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:100] فيقال له: {كَلَّا} [المؤمنون:100]، وهذا الأمر يقع فيه كثير من الناس، ولذلك كم من الشباب من كانت تراوده التوبة وتدغدغه، وهو يؤخرها يوماً بعد يوم، ثم إذا به يفاجئه الأجل، فيحال بينه وبين ما يشتهي.
كان الموت بالأمس القريب غالباً ما يكون على الفراش فلا يموت إلا مريض، ولا يموت إلا كبير السن، أما الآن فقد صرنا نعيش في فترة متأخرة من زمن الحياة الدنيا، فأصبح موت الفجأة أكثر بكثير من الموت الذي سبقته إنذارات وإرهاصات، وانظروا إلى حوادث السيارات، وانظروا إلى السكتات القلبية والجلطات، وانظروا إلى الأمراض المتعددة التي حدثت بسبب ما أحدثه الناس من معصية، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لم تظهر الفاحشة في قوم قط إلا فشت فيهم الأوجاع التي لم تكن في أسلافهم)، فما كان الناس يعرفون مرض السكري، ولا مرض ارتفاع ضغط الدم، ولا الجلطة، وإنما حدثت هذه الأمراض بسبب ما أحدثه الناس من معاصٍ لله عز وجل.
ولذلك لو عملنا إحصائية: هل الذين يموتون من الشباب أكثر أم الذين يموتون من كبار السن؟ لوجدنا أن الذين يموتون من الشباب أكثر، ولو بحثنا لوجدنا أن الذين يموتون وهم أصحاء أكثر من الذين يموتون على فراش المرض، وإذا كان الأمر كذلك فعلى المسلم أن يبادر بالتوبة، فإن كان شاباً فعليه أن يستغل الفرصة قبل أن تنتهي مدة الشباب، وإن كان صحيحاً معافىً لا يشتكي مرضاً من الأمراض فعليه أن ينظر في هذه الأمراض التي تفتك بهؤلاء الناس.(2/5)
وجوب الاستقامة كما أمر الله تعالى
لا بد من المبادرة بالتوبة، ولا بد أن يطرح الإنسان كل هذه الأماني التي غرت كثيراً من الناس؛ لأن الشيطان توعد بني آدم من أربع جهات: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} [الأعراف:17] أي: الأمام {وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} [الأعراف:17].
وهذا أمر عجيب أيها الإخوة! فإن هذه الآية وأمثالها فسرها لنا الواقع، فنحن نعرف إلى عهد قريب أن أكثر ما يدخل الناس النار هي المعاصي، أو الكفر بالله سبحانه وتعالى، لكن هل تظنون أن هناك طاعات مزعومة أصبحت تدخل الناس النار أكثر من المعاصي؟! فإنك لو ذهبت إلى بعض البلاد لوجدت أُناساً يعبدون الله عبادة لا نستطيع أن نعبد الله معشارها، ونحن متأكدون أنهم ماتوا على هذه العبادة، ومع ذلك فهم حطب لجهنم، وليس هذا الأمر غريباً، فإن أهل النار إذا دخلوا النار يقولون لمن كان سبباً في إضلالهم: {إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} [الصافات:28]، أي: لم تأتونا عن طريق المعصية، وإنما أتيتمونا عن طريق الطاعة.
ولذلك لو أقسمت بأنّ أكثر من ثلاثة أرباع هذا العالم الآن يعرضون أنفسهم لعذاب الله عن طريق الطاعة، وأنّ الربع هو الذي يعرض نفسه للعذاب عن طريق المعصية ما كنت حانثاً، فهناك بدع وخرافات ووثنيات تفعل بقصد الطاعة والتقرب إلى الله تعالى! ووالله لقد رأينا بعضهم يقضي الليل كله في عبادة، ولكنها لا تزيده من الله إلا بعداً، وتذكرنا قول الله عز وجل: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية:1 - 4].
إذاً: لا بد أولاً أن نصحح المسار، قال الله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود:112]، ولم يقل الله تعالى: (فَاسْتَقِمْ) فقط، والاستقامة هي لزوم الطريق المستقيم، لكنه قال: (كَمَا أُمِرْتَ) فيفهم من ذلك أنّ هناك استقامة ليست كما أمر الله تعالى، أي: ليست استقامة حقة، ولكنها تشبه الاستقامة في ظاهرها، وأما الاستقامة التي تدخل الجنة فهي: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ) وليست: فاستقم كما تهواه نفسك، وكما يمليه عليك ضميرك.
أيها الإخوة! نحن مطالبون بأن نقف في أول خطوة من خطوات هذا العام الجديد تائبين متفقدين لأعمالنا، فإن كان هناك شرك أو أخطاء في المسار فعلينا أن نعود وأنْ نصحح؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً وصواباً على المنهج الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فقد قال الصحابة ذات يوم: يا رسول الله! الرجل منا يعمل العمل من أجل الله، ولكن يحب أن يراه الناس -أي: فماذا عليه في ذلك؟ - فأنزل الله عز وجل جواباً على هذا
السؤال
{ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110]، فاشترط الله تعالى في العمل شرطين: أن يكون صالحاً، وألاّ يكون فيه شرك.
والمراد بالعمل الصالح أن يكون موافقاً للمنهج الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله، فالعمل الذي تحقق فيه هذين الشرطين هو العمل المقبول.
ولذلك لما ذكر الله تعالى الوصايا العشر في سورة الأنعام قال في آخرها: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153]، (وقد خط الرسول صلى الله عليه وسلم خطاً مستقيماً ثم قال: هذا صراط الله، وخط عن يمينه وشماله خطوطاً كثيرة وقال: وهذه هي السبل، وعلى كل واحد منها شيطان، وعليها ستر مرخاة) أي: مغطاة، ولكن يأتي الشيطان ويكشف هذا الطريق، ويدخل الناس منها يميناً أو شمالاً، ويتركون الطريق المستقيم.
لقد أدركنا الآن أن هناك طرقاً منحرفة يميناً وشمالاً، وعرفنا الشياطين الذين يدعون إلى السبل، وللأسف أن أسماءهم لم تكن أبا جهل وأبا لهب كما كان ذلك في الجاهلية السابقة، بل تجد أن أسماءهم: عبد الله، وعبد الرحمن، وعبد العزيز، وسيف الدين، وصلاح الدين، وعماد الدين، وسعد الدين، ومع ذلك فهم الذين يزيحون هذه الأستار، ويقولون للناس: اسلكوا هذه السبل إلى النار، وهذا أمر خطير، فلم يمر في تاريخ البشرية مثل هذا الحدث التاريخي الأسود: أن يكون دعاة على أبواب جهنم من أبناء جلدتنا، وممن يتكلمون بألسنتنا، فلو كان العدو من الخارج فمن السهل أن تحصن الحدود، وتحمى الطرقات، وتطوق بلاد المسلمين، ولكن المشكلة كما قال الشاعر: وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على الحر من وقع الحسام المهند وقديماً قال أحد أعداء الإسلام كلمة ما كان الناس يعرفون معناها، بل لم يكن معناها يخطر بالذهن، قال: إن شجرة الإسلام عظيمة، ولها جذور، وإنكم لا تستطيعون أن تقطعوها إلا من غصن من أغصانها.
فما كان هذا الكلام معروفاً أولاً، أما الآن فقد رأينا هذه الأغصان التي يحاول أعداء الإسلام أن يقطعوا بها شجرة الإسلام السامقة.(2/6)
استعراض صحائف الأعمال في كل عام والدعوة إلى التوبة
إنّ الأمر الذي يهمنا: أننا الآن نعيش فترة عام جديد، ونبتدئ فترة من فترات العمر الثمين، فلا بد أن نقف فيها لحظات من الزمن للتفكير، وكل واحد منا يستعرض صحائف الأعمال وكأنها منشورة أمامه، ويقول لنفسه: أنا عملت في العام الماضي كذا وكذا وكذا، فالتوبة التوبة، وقصرت في جنب الله في العام الماضي في كذا وكذا، وأولادي لم أُربّهم في العام الماضي على طاعة الله، وكانت في بيتي أفلام وصور وكتب ضلال ومحرمات وغير ذلك، فهل هذه تقربني إلى الله أو تبعدني من الله عز وجل؟ وقد فرطت في الأمانة، فأنا مدرس مؤتمن على أبناء المسلمين ومع ذلك ما كنت أقوم بالنصيحة لهم، وما كنت أقوم بتربيتهم، وأنا إمام مسجد ولم أتفقد جيراني والمصلين معي، وهذه كلها أخطاء لا بد أن أصلحها في هذا العام الجديد، ولم أكن أقوم في العام الماضي بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وفي مثل هذه الأيام بصفة خاصة، لأن هذه الأيام تعتبر مفرقاً بين طريقين: أجل قد مضى لا ندري ما الله صانع فيه، وأجل قد بقي لا ندري ما الله قاض فيه.
ولذلك: فعلى كل واحد منا أن يقف ساعة مفكراً بينه وبين نفسه: ماذا عمل؟ وماذا ترك؟ وهل أعماله ترضي الله عز وجل، أو أنها مما يغضبه سبحانه؟ فلا بد أن يبادر بالتوبة، وما يدريك يا أخي! ربما يكون هذا العام هو آخر أيامك في هذه الحياة، بل ربما تكون هذه الليلة هي آخر ليلة لك في الحياة، وكم من الناس من ينام على فراشه الوثير آمناً مطمئناً، فلا ينتبه إلا في يوم الحشر! وكم من الناس من يعيش مع زوجته وأهله في رغد من العيش، وفي نعمة، وفي فرح وسرور، ثم إذا به لا ينتبه إلا في ظلمة القبر! وهذا أمر مؤكد لا ينكره أحد من الناس، بل يؤمن به المؤمن والكافر، أعني: الموت.(2/7)
خطورة التهاون بالصلاة ووجوب التوبة من ذلك
لا بد أن يتفقد كل واحد منا نفسه، فإن كان عنده شيء من البدع التي تخالف المنهج الصحيح فعليه أن يبادر بالتوبة، وإن كان لا يحافظ على الصلوات الخمس فليبادر بالتوبة؛ لأن الله عز وجل يقول عن الذين لا يحافظون على الصلوات الخمس: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا} [القلم:42 - 43] يعني: في الدنيا {يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم:43] فتراه يسمع: الله أكبر حي على الصلاة حي على الفلاح، وهو سليم وصحيح ومعافىً وفي نعمة وفي رخاء، وليس بينه وبين المسجد إلا أمتار، وهناك أنوار كاشفة، وكل شيء متوافر، ومع ذلك لا يستجيب لنداء الله عز وجل.
وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن الرجل الذي يقدم على الله عز وجل بدون صلاة (يؤمر بأن يسجد يوم القيامة على طبق من نار، فإذا أراد أن يسجد لا ينثني ظهره، فينكب على وجهه في نار جهنم)، وهذا هو معنى قوله تعالى: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ) أي: يكشف الله عز وجل عن ساق نفسه، ويدعى هذا الإنسان ليسجد فلا يستطيع؛ لأنه كان في الدنيا يسمع المنادي يقول: حي على الصلاة، حي على الفلاح، وهو سالم، ثم لا يستجيب.(2/8)
خطورة تعاطي الربا ووجوب التوبة منه
من كان يتعاطى الربا فليبادر إلى التوبة، وليس هناك ذنب من ذنوب بني آدم بعد الشرك بالله أعظم من هذا الربا الذي تساهل فيه الناس، وأصبحوا يتعاملون به مع البنوك وكأنه أمر سهل! وأصبحوا يتعاملون بحيل مكشوفة فيما بينهم، فإنّ هذا من أخطر الذنوب، بل هو أخطر الذنوب بعد الشرك بالله عز وجل والكفر، بدليل أن الله تعالى توعد الذي يأكل الربا ولا يتوب بالخلود في نار جهنم، مع أنه لا يخلد في نار جهنم إلا الكافر، قال الله تعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى} [البقرة:275] أي: تاب {فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:275]، ويقبل الله تعالى توبته بشرط أن يرد هذه الزيادات المحرمة التي وصلت إلى جيبه، فليست ملكاً له: {وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:275]، ويقول الله عز وجل بعد ذلك: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279]، ويقول عبد الله بن عباس رضي الله عنه: (إذا كان يوم القيامة، قيل لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب!) يعني: حارب الله، فكما كنت تحاربه في الدنيا، حاربه الآن!(2/9)
خطورة عدم أداء الزكاة ووجوب التوبة من ذلك
ومن كان لا يؤدي زكاة المال فليتق الله، وليؤد زكاة المال، فإن في العالم الإسلامي مجاعة، وإن في العالم الإسلامي جهاداً يكاد أن يتعطل، بالرغم من وفرة الأموال بأيدي الناس، فليبادر المؤمن بأداء هذه الزكاة قبل أن ينتقل هذا المال من يده إلى يد الوارث، فيكون الحساب عليه، والمتمتع به غيره، وليبادر بأداء الزكاة قبل أن يصفح له هذه المال صفائح من نار، فيحمى عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره عياذاً بالله! وكلما بردت أعيدت في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد -وهذا قبل دخول النار والجنة-، فيُرى مصيره إما إلى الجنة وإما إلى النار.
ويقول الله تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت:6 - 7] فالذين لا يؤدون الزكاة يشابهون المشركين في هذا الذنب.
ومن كان يتناول المحرمات كالمخدرات والمسكرات، أو يركب الفواحش، فعليه أن يبادر قبل أن يسقيه الله عز وجل من طينة الخبال يوم القيامة، وهي عصارة أهل النار، فليتب قبل أن تقول نفس: يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله.(2/10)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأهميته
ومن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما أكثر الذين تركوا ذلك اليوم، فعليهم التوبة والقيام بهذه الشعيرة العظيمة، فوالله لو أن كل واحد منا ألقى كلمة في المجتمع، وقال للفاسق: اتق الله، لخجل هذا الفاسق، واتقى الله، سواء كان حياءً أو استقامة، لكن يمر الصالحون بالمجموعات في وقت الصلاة فلا يكاد أحدهم يقول لهؤلاء: اتقوا الله وصلوا، والجار يعرف بأن جاره يفعل بعض المحرمات من الفواحش والمعاصي والذنوب وترْك الواجبات فلا يبالي هذا الجار أن يقول له: اتق الله، بل الأعجب من ذلك أنّ بعض الآباء يعرف ما يفعله أبناؤه من المعاصي في داخل البيت، فلا يقول لهم: اتقوا الله، مع أن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6].
فالأمانة والمسئولية عظيمة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)، ويقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27] وإذا أردتم الدليل على التفريط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فانظروا إلى المسلمين المصلين في صلاة الفجر، وأحصوا الأطفال والشباب، فستجدونهم قلة، بالرغم من هذه الصحوة الإسلامية المباركة، وتجد هذا الأب كالسارية من سواري المسجد من شدة ملازمته للمسجد، ولكن لا يبالي ما يحدث في بيته، وكأنه وحده هو الذي سوف يحاسب بين يدي الله عز وجل؛ فهذه كلها من البلايا والفتن التي أصابت المسلمين.
فعلينا أن نبادر بالتوبة، وأن نأمر بالمعروف، وأن ننهى عن المنكر، وألاّّ نخاف في الله عز وجل لومة لائم، فإن الأرزاق والأعمار والآجال والحياة والموت كلها بيد الله عز وجل وحده، (واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف) هكذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم.
كذلك تجب علينا التوبة من الغيبة والنميمة والحديث في أعراض الناس، فهذه الأمور يجب علينا أن نحذرها.(2/11)
انتشار الدين في هذا العصر واستغلال ذلك
إنّ الأمر الذي يهمنا: أننا الآن نعيش فترة عام جديد، ونبتدئ فترة من فترات العمر الثمين، فلا بد أن نقف فيها لحظات من الزمن للتفكير، وكل واحد منا يستعرض صحائف الأعمال وكأنها منشورة أمامه، ويقول لنفسه: أنا عملت في العام الماضي كذا وكذا وكذا، فالتوبة التوبة، وقصرت في جنب الله في العام الماضي في كذا وكذا، وأولادي لم أُربّهم في العام الماضي على طاعة الله، وكانت في بيتي أفلام وصور وكتب ضلال ومحرمات وغير ذلك، فهل هذه تقربني إلى الله أو تبعدني من الله عز وجل؟ وقد فرطت في الأمانة، فأنا مدرس مؤتمن على أبناء المسلمين ومع ذلك ما كنت أقوم بالنصيحة لهم، وما كنت أقوم بتربيتهم، وأنا إمام مسجد ولم أتفقد جيراني والمصلين معي، وهذه كلها أخطاء لا بد أن أصلحها في هذا العام الجديد، ولم أكن أقوم في العام الماضي بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وفي مثل هذه الأيام بصفة خاصة، لأن هذه الأيام تعتبر مفرقاً بين طريقين: أجل قد مضى لا ندري ما الله صانع فيه، وأجل قد بقي لا ندري ما الله قاض فيه.
ولذلك: فعلى كل واحد منا أن يقف ساعة مفكراً بينه وبين نفسه: ماذا عمل؟ وماذا ترك؟ وهل أعماله ترضي الله عز وجل، أو أنها مما يغضبه سبحانه؟ فلا بد أن يبادر بالتوبة، وما يدريك يا أخي! ربما يكون هذا العام هو آخر أيامك في هذه الحياة، بل ربما تكون هذه الليلة هي آخر ليلة لك في الحياة، وكم من الناس من ينام على فراشه الوثير آمناً مطمئناً، فلا ينتبه إلا في يوم الحشر! وكم من الناس من يعيش مع زوجته وأهله في رغد من العيش، وفي نعمة، وفي فرح وسرور، ثم إذا به لا ينتبه إلا في ظلمة القبر! وهذا أمر مؤكد لا ينكره أحد من الناس، بل يؤمن به المؤمن والكافر، أعني: الموت.(2/12)
التفاؤل بالصحوة الإسلامية
أيها الإخوة! نحن متفائلون في هذا القرن، فأنتم تشاهدون -والحمد لله- أن كل سنة أفضل من السنة التي قبلها، وأن كل جيل يكون أحسن من الجيل الذي مضى قبله في هذه السنوات الأخيرة، فهذه نعمة من الله سبحانه وتعالى، فبالرغم من تقصيرنا في جنب الله عز وجل، وتقصيرنا في الدعوة، وتقصيرنا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن يأبى الله إلا أن يتم نوره، وأن يظهر هذا الدين على الدين كله ولو كره المشركون، وإذا أردتم دليلاً على ذلك: فانظروا إلى الأبناء والآباء، فستجدون غالباً أنّ الأبناء أفضل من الآباء، بل ستجدون الأبناء الصغار أحسن من الأبناء الكبار، وهكذا كلما صغر السن كان صاحبه أقرب إلى الحق وإلى الفضيلة، فهذه فرصة أخشى ألاّ تطول، وإن كنا متفائلين بأنها -إن شاء الله- سوف تستمر، ولكن أخشى أن يُعترض سبيلُها؛ لذا يجب علينا أن نجد ونجتهد في الدعوة، وأن نستغل هذه الفرصة كما قال الشاعر: إذا هبت رياحك فاغتنمها فالرياح إذا هبت وأنت تريد أن تذرأ الزرع فلا تفوت الفرصة؛ لأنّ الرياح إذا توقفت في يوم من الأيام فإنك لا تستطيع أن تصلح حبك، ولذلك أقول: لا بد أن ننشط في الدعوة إلى الله عز وجل في هذه الأيام، فهذه المراكز الصيفية والحمد لله، وهذه مراكز الدعوة التي يقوم فيها الشباب بتربية أبنائنا دون أن نحتاج إلى كلفة أو عناء، فما عليك يا أخي إلا أن تسلم ولدك إلى هذه المراكز التي منّ الله تعالى على هؤلاء الشباب الصالحين بإقامتها، فسعوا إلى تربية أبناء المسلمين، فنشكر هؤلاء الشباب، ونشكر الله سبحانه وتعالى، ثم نشكر للدولة أيضاً فقد كانت سبباً في وجود هذه المراكز، ونرجو من الله سبحانه وتعالى أن يهديهم للاستقامة على دين الله، وأن يثبتهم على ذلك، وأن يهدي جميع ولاة أمور المسلمين.(2/13)
حث الشباب على أن يكونوا على مستوى المسئولية
أيها المؤمنون! لا بد من التوبة والمبادرة بالعمل الصالح قبل أن تفوت الفرصة، وأدعو الشباب ألاّ يفوتوا هذه الفرصة، وأن يبادروا بالتوبة، وأن ينضمّوا إلى أصحاب الصحوة الإسلامية، فقد تبين الرشد من الغي، وظهر الأمر جلياً، وأصبح الأمر واضحاً.
ونريد من شبابنا هؤلاء ألاّ تغرهم هذه الأماني التي غرت كثيراً من الناس، فقدموا على الله عز وجل على غير استعداد، وعلى غير أهبة، بل نريد منهم أن يكونوا في مصاف الرجال الذين أخبرنا الله عز وجل عنهم في مواطن كثيرة من القرآن: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور:37]، {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:23]، {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا} [الأنبياء:7]، وأن يتحملوا المسئولية، وأن يقتدوا بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
فإن كانت أعمارهم في سن الشباب، أو في سن الطفولة، أو في سن ما يسمى بالمراهقة، فينبغي أن يكونوا في عقول الرجال، وفي مصاف الرجال، وهذا هو المنهج الذي سار عليه سلفنا الصالح رضي الله عنهم، فقد كان في سلفنا الصالح من هم على مستوى المسئولية، وفي مصاف الرجال، وهو مازال في سن مبكرة من العمر، ولو أردنا أن نتحدث عن شيء من أخبار هؤلاء لأصبح الحديث قريباً من الخيال.
أسامة بن زيد بن حارثة رضي الله عنهما قاد جيشاً إلى بلاد الشام في آخر حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وعمره لا يتجاوز ثماني عشرة سنة، وكان في هذا الجيش من كبار الصحابة، وسار هذا الجيش في الفترة التي مات فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأثبت للمسلمين قوته وشجاعته أمام الرومان، وكان لهذا الجيش ما له من الأثر، والقائد شاب لا يتجاوز عمره ثماني عشرة سنة! قائد آخر يصغره بالسن سنة كاملة، وهو: محمد بن القاسم الثقفي رحمه الله، فقد قاد جيشاً وعمره سبع عشرة سنة إلى بلاد السند، فضم إلى بلاد المسلمين ما يسمى بشبه القارة الهندية اليوم، وقتل داهراً ملك البلاد، ونشر الإسلام، وحطم الأصنام، وأقام دولة إسلامية هناك، ولعلكم تعرفون أن سكانها من المسلمين في أيامنا الحاضرة يزيدون على ثلاثمائة وخمسين مليوناً في الباكستان والهند وبنغلادش، وهي ما يسمى بشبه القارة الهندية، فهذه البلدان، وهذا العدد الكثير من السكان فتحها رجل واحد بجيش قليل، لكن بعزيمة أعتى وأصلب من الحديد، وما زال العالم الإسلامي يعتز بتلك المنطقة التي تعتبر من أبرز وأهم مناطق العالم الإسلامي، وسكانها يزيدون على ثلث العالم الإسلامي، فهذا شاب لا يتجاوز عمره سبع عشرة سنة، إلاّ أنّه شاب تربى على أيدي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتابعين.
وكان من شباب المسلمين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من يقف في الصف على رءوس أصابعه، فسئل عن السر في ذلك؟ فقال: حتى يراني رسول الله صلى الله عليه وسلم طويلاً، فيكتبني مع المجاهدين، ولذلك فنحن نريد هذا النوع من الشباب، علماً أن الساحة لم تخل -والحمد لله- من هذا النوع من الشباب، لكن نريد أن ندخل في السلم كافة، ونريد أن تنضم المجموعة إلى المجموعة؛ وحينئذ يفرح المؤمنون بنصر الله.(2/14)
سقوط صنم الشيوعية
والله يا إخوان! من يسافر إلى أرض أفغانستان في أيامنا الحاضرة فسيرى شيئاً من هذه العجائب، سيرى شباباً في مستهل العمر، وقد كانوا أبناء ترف، ونشئوا في بيوت نعمة ورخاء، من هذه البلاد المباركة ومن غيرها، ويتسابقون هناك إلى الموت، وكأنهم عاشوا في شظف من العيش، وخشونة من الحياة، وما كأنهم أبناء نعمة ورخاء، وكان لتواجدهم هناك أثر في سقوط صنم الشيوعية، فقد كان أبناء المسلمين يتسابقون إلى الموت من كل بلاد العالم الإسلامي، وحتى من البلاد المدنية، ومن أصحاب الرخاء والنعمة، فوالله لو رأيتم ما رأيت لرأيتم أمراً عجباً، وليس بالعجب على هذا الدين، فإن الإسلام يصنع أمثال هؤلاء الرجال، ولو كانوا في مستهل الحياة.
نحن نريد من شبابنا أن ينتبه، فمنهم من لم ينتبه بعد، وأن يستيقظ، فمنهم من لم يزل نائماً، وأن يبدأ هذه الحياة بتوبة وإنابة وعمل وجد، لا سيما وأن المذاهب المنحرفة، والأفكار الضالة بدأت تتساقط اليوم أمام أقدام المسلمين، فهذا هو صنم الشيوعية المادية الملحدة -وهو أكبر صنم- قد هوى وتساقط، وقد كانت ترهب العالم الإسلامي في يوم من الأيام، وكانت تقض عليهم مضاجعهم، وأنا واثق بإذن الله، بل وأقسم -لأن الله عز وجل قد وعدنا بذلك، وهو لا يخلف الميعاد- أنّ كل هذه الأصنام، وكل هذه الأوثان، وكل هذه الملل، وكل هذه الأفكار المنحرفة سوف تهوى وتتساقط بإذن الله عز وجل أمام أقدام المسلمين؛ وذلك حينما يشعر شباب الأمة الإسلامية بالواجب الذي أناطه الله عز وجل بأعناقهم، وحينما لا يقتل الوقت في لعب الورق والأعمال التي تضيع العمر، بل فيما هو أخطر من ذلك فيما حرم الله عز وجل، ولذلك فأنا أدعو الشباب إلى أن يتربى في المسجد، فإن الله عز وجل قد أخبرنا أن شباب المسجد هم الرجال، وهم الذين تلتهب في عقولهم وفي قلوبهم أضواء الإيمان: {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} [النور:35]، ثم يقول الله تعالى بعد ذلك: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور:36]، فهذا هو متربى الرجال حقيقة، ولا أريد شباباً يتربى أمام الأفلام، ويرقب عقارب الساعة منتظراً لمواعيد الأفلام، ويبحث عن المسلسلات، ويبحث عن أشياء أخرى تعرفونها لا تحتاج إلى تعداد، بل أريد شباباً قلوبهم معلقة بالمسجد كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فتراه يرقب عقارب الساعة منتظراً مواعيد العبادة والوقوف بين يدي الله عز وجل.
ينبغي أن يكون الشباب على هذا المستوى، ويشعر بهذه المسئولية، ويقدر لها قدرها، ويقيم لها وزنها، ويأخذ من مرور السنين والأيام العظة والعبرة، وكلما مر عليه يوم من أيام الله عز وجل ازداد قرباً من الله عز وجل، فكل يوم مضى يقربه من الحياة الآخرة، مهما كان، وفي أي سن كان، قال الشاعر: والمرء يفرح بالأيام يقطعها وكل يوم مضى يدني من الأجل وقال الآخر: دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثوان يعني: اعرف أن عمرك دقات قلب، ولو أردت أن تحسب دقات هذا القلب لوجدتها محدودة، وسوف تتوقف هذه الدقات في أي لحظة، وتنتهي الحياة، فالمسلم مطالب أن يستغل الفرصة، والله تعالى قد أخبرنا بالحكمة من خلق هذا الإنسان، فقال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، فجميع ما يزاوله الناس من أعمال في تعمير الحياة الدنيا أو كسب العيش، أو تحصيل أي أمر من الأمور، إنما هي وسيلة وليست بغاية، أما الغاية فهي العبادة.(2/15)
استغلال الحياة وفترة الشباب في الطاعة
إنّ الأمر الذي يهمنا: أننا الآن نعيش فترة عام جديد، ونبتدئ فترة من فترات العمر الثمين، فلا بد أن نقف فيها لحظات من الزمن للتفكير، وكل واحد منا يستعرض صحائف الأعمال وكأنها منشورة أمامه، ويقول لنفسه: أنا عملت في العام الماضي كذا وكذا وكذا، فالتوبة التوبة، وقصرت في جنب الله في العام الماضي في كذا وكذا، وأولادي لم أُربّهم في العام الماضي على طاعة الله، وكانت في بيتي أفلام وصور وكتب ضلال ومحرمات وغير ذلك، فهل هذه تقربني إلى الله أو تبعدني من الله عز وجل؟ وقد فرطت في الأمانة، فأنا مدرس مؤتمن على أبناء المسلمين ومع ذلك ما كنت أقوم بالنصيحة لهم، وما كنت أقوم بتربيتهم، وأنا إمام مسجد ولم أتفقد جيراني والمصلين معي، وهذه كلها أخطاء لا بد أن أصلحها في هذا العام الجديد، ولم أكن أقوم في العام الماضي بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وفي مثل هذه الأيام بصفة خاصة، لأن هذه الأيام تعتبر مفرقاً بين طريقين: أجل قد مضى لا ندري ما الله صانع فيه، وأجل قد بقي لا ندري ما الله قاض فيه.
ولذلك: فعلى كل واحد منا أن يقف ساعة مفكراً بينه وبين نفسه: ماذا عمل؟ وماذا ترك؟ وهل أعماله ترضي الله عز وجل، أو أنها مما يغضبه سبحانه؟ فلا بد أن يبادر بالتوبة، وما يدريك يا أخي! ربما يكون هذا العام هو آخر أيامك في هذه الحياة، بل ربما تكون هذه الليلة هي آخر ليلة لك في الحياة، وكم من الناس من ينام على فراشه الوثير آمناً مطمئناً، فلا ينتبه إلا في يوم الحشر! وكم من الناس من يعيش مع زوجته وأهله في رغد من العيش، وفي نعمة، وفي فرح وسرور، ثم إذا به لا ينتبه إلا في ظلمة القبر! وهذا أمر مؤكد لا ينكره أحد من الناس، بل يؤمن به المؤمن والكافر، أعني: الموت.(2/16)
حال الإنسان في هذه الدنيا
هذا الإنسان إما أن يكون جاداً في السير إلى ربه، أو غير جاد، وأنا أشبه هؤلاء الناس بقسميهم برجلين، أعلنت الدولة أن هذين الرجلين سوف ينفيان بعد مدة من الزمن إلى صحراء قاحلة، إلاّ أنّ هذه المدة مجهولة وغير محدودة الأمد، فكان أحدهما عاقلاً فقال: ما دامت هناك صحراء قاحلة ليس فيها سكن، وليس فيها ماء، وليس فيها ظل، فسأقوم بعمارة هذه الصحراء، فمتى تم الرحيل كنت مسروراً، فشرع في عمارة هذه الصحراء، فحفر فيها بئراً، وغرس فيها غرساً، وبنى فيها داراً، وجهزها للرحيل، أما الآخر فكان ذا كسل، وكان ذا ملل، وكان ذا تسويف فقال: سأنام، حتى إذا قرب موعد الرحيل إلى هذه الصحراء سعيت إلى عمارتها.
وهكذا الإنسان في هذه الحياة الدنيا، وما أسرع ما تنقضي هذه الحياة الدنيا! ولذلك فإن الله تعالى يمثل لنا هذه الحياة الدنيا بالزرع فقط، وأكثركم يستعمل الزراعة، فإنك ترى الزرع ينبت اليوم، ثم يرتفع، ويخضر، وينمو، ويقوى، ثم يبدأ يصفر، ثم يتساقط: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ} [يونس:24] اخضرت {أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ} [يونس:24] زهور وروائح جميلة {وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا} [يونس:24] يعني: الحصاد في أي لحظة {أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ} [يونس:24]، هذا هو مثل الحياة الدنيا! {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} [الكهف:45].
أيها الإخوة! إن أمر الإنسان قريب الشبه بالنبات؛ ولذلك كثيراً ما يصور الله عز وجل الحياة الدنيا بالنبات، والإنسان في ولادته يشبه النبتة حين تنبت من الحبة في جوف الأرض، ثم في نموه، ثم في اكتمال نموه، ثم في اصفراره، ثم في يبوسته وتساقطه على الأرض، ثم في عودته مرة أخرى حينما يأتي الماء؛ لذا يشبّه الله عز وجل دائماً هذا الإنسان بهذا النبات.(2/17)
الحكمة من الحياة والموت
لقد أخبرنا الله تعالى عن الهدف من الموت والحياة، فنحن لا نقول كما يقول ذلك الملحد: أنا لا أدري من أين جئت؟ وإلى أين سأذهب؟ بل نحن نعرف أننا جئنا من أصلاب آبائنا، ابتداءً من أبينا الأول آدم، ونعرف أننا خلقنا للعبادة، ونعرف أننا ذاهبون إلى الدار الآخرة، ونعرف أن هذه الحياة الدنيا إنما هي جسر وممر، وقد حدد الله تعالى هذا الهدف فقال: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:1 - 2] فهذا هو الهدف، ومن جهل هذا الهدف فعليه أن يعرفه، واعلموا أنّ الليل والنهار خزانتان، فانظروا ماذا تودعون فيهما؟ والليل والنهار خلفة كما أخبر الله عز وجل، أي: يخلف أحدهما الآخر، فإذا فاتتك عبادة في الليل فاستبدلها بعبادة في النهار: {إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا} [المزمل:7] وإذا فاتتك عبادة النهار: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا} [الإنسان:26] ولهذا قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ} [الفرقان:62] والخلفة عند العرب: هي ما بين الحلبتين، فتحلب الناقة، ثم تكون هناك فترة، ثم تحلب مرة ثانية، {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان:62].(2/18)
استغلال فترة الشباب في طاعة الله تعالى
اعلم يا أخي المسلم! بصفة عامة، ويا أخي الشاب! بصفة خاصة: أن لك عمراً محدداً من عند الله عز وجل، وأنك تمر بأطوار: طفولة، ثم فتوة، ثم شيخوخة، ثم فناء، وحينما نقول: فناء -أي: موت- أعني: فناء له عودة، قال الله تعالى: {خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} [الروم:54] ولكن اعلموا أنّ أيام الفتوة وأيام الشباب هي أفضل وقت للعمل؛ ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه؟ وعن شبابه فيما أبلاه؟ وعن ماله من أين اكتسبه، وفيما أنفقه؟ وعن علمه ماذا عمل به؟).
فهذه أربعة أسئلة استعدوا لها: أين أمضينا العمر؟ وكيف أمضيناه؟ وقوة الشباب التي هي أحسن فرصة للعبادة ماذا فعلنا بها؟ هل استعملناها في معصية الله، وغرتنا الأماني وقلنا: يمكننا التوبة فيما بعد، أم استعملناها فيما يرضي الله؟ والله تعالى يقول: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21]، ولذلك فقوة الشباب نسأل عنها، وكذلك نسأل عن الصحة والعافية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اغتنم خمساً قبل خمس: صحتك قبل مرضك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك، وحياتك قبل موتك، وفراغك قبل شغلك) فقد تشغلك الأمراض، فتحاول أن تعبد الله فتعجز، أما الآن فأنت في صحة، فبادر بهذه الصحة، واستغلها فيما يرضي الله عز وجل.
إخوتي! أدعو نفسي وأدعوكم إلى التوبة والإنابة إلى الله عز وجل، واستغلال مستهل العمر، فإن للشباب طفرة لا بد أن يصحبها عقل وتفكير وخوف وخشية من الله عز وجل، وإلا فكما قال الشاعر: إن الشباب والفراغ والجدة مفسدة للمرء أي مفسدة إنّ الشباب والقوة سلاح ذو حدين، فإما أن يستغل الإنسان هذه القوة فيما يغضب الله عز وجل، فحدث ولا حرج عما تحدثه هذه الفتوة وهذا الشباب من شر، وإما أن يستغله في خشية الله عز وجل، وما يرضي الله سبحانه وتعالى، ولا أظن أن أحداً من الناس يستطيع أن يفعل ما يفعله الشباب من الأعمال الصالحة؛ لأن هذه القوة العارمة لا تقف عند حد من الحدود.(2/19)
مسئولية الدعوة إلى الله تعالى وترك المنكرات
أيها الإخوة الشباب! أنا أحمل كل واحد منا مسئولية أمام الله عز وجل، مهما كان موقعك في هذه الحياة، فإن كنت عضواً في المراكز الصيفية فاجذب أبناء المسلمين إلى هذه الخلايا الطيبة، وأنقذهم من جلساء السوء، ومن الفراغ، وإن كنت مدرساً فوجه هؤلاء الأبناء إلى ما يرضي الله عز وجل؛ فإنهم أمانة، وإن كان لك إخوان فاحفظ إخوانك مما يغضب الله عز وجل، وإن كنت أباً فاحذر أن تضيع الأمانة، فإنك ستسأل عنها يوم تقف بين يدي الله عز وجل، فقد جاء في الأثر: (إنّ البنت توقف أباها بين يدي الله عز وجل، وتقول يوم القيامة: يا رب! زده عذاباً ضعفاً في النار؛ لأنّه خانني).
وإن كنت جاراً، فاتق الله في الجوار، وأد حق الجوار، وأعظم حقوق الجوار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن كنت صاحب مكتبة فاحذر أن تجلب إلى بلادك ما يغضب الله عز وجل من الصور والفتن، وما يفسد أخلاق وعقول الشباب، وإن كنت في أي موقع من مواقع هذه الحياة، فاعلم أنك على ثغر من هذه الثغور، وسوف تسأل عن هذه الأمانة يوم تقف بين يدي الله عز وجل.
وفي الأخير أقول: لا أعلم أن أحداً منكم أعظم تقصيراً مني، أو أكثر إثماً مني، ولكني أستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه غفور رحيم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(2/20)
الأسئلة(2/21)
معنى (لا إله إلا الله) ولوازمها
السؤال
إذا كان كل من قال: (لا إله إلا الله، محمد رسول الله) إلى الجنة، ولو عمل ما عمل، وفعل ما فعل من المعاصي، فلماذا نعمل إذاً؟
الجواب
هذا الظن خطأ! ولعل الأخ الذي أورد هذا الإشكال أخذ ذلك من حديث البطاقة، ففيه أن هناك بطاقة فيها: (أشهد أن لا إله إلا الله) توزن مع السجلات، فتطيش السجلات وتثقل البطاقة، وهذا الحديث صحيح، وفي أحاديث أخرى: (إن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله).
اعلم يا أخي! أنّ هذا عنوان وأصل له فروع، فإن (لا إله إلا الله) لو أردت أن تحللها لوجدت أنها تحتوي على كل الأعمال الصالحات، وتجنب جميع المنكرات التي يفعلها الناس، فكلمة: (لا إله إلا الله) لها مسئوليات، ولها إثبات، ولها نفي، ولها إيجابيات، ولها سلبيات، فمعنى رجحان البطاقة: أنّ هذا الإنسان الذي قدم بها على الله عز وجل وفيها: لا إله إلاّ الله، أنه كان يطبق حقيقتها؛ لأن معنى (لا إله): أن تنفي كل ما يعبد من دون الله عز وجل من الشهوات والمحرمات وكل ما يغوي الإنسان ويورده النار، و (إلا الله) معناها: العبودية لله عز وجل وحده، وهذه العبودية تتطلب أداء كل أركان الإسلام، وكل الواجبات.
لكن إذا أدى الإنسان أركان الإسلام، وكان عليه ما عليه من الآثام فقد يتجاوز الله عز وجل عنه؛ لأن الله تعالى يقول: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، أما الكفر والشرك فإن الله عز وجل لا يغفر منهما شيئاً، وكذلك ترك الصلاة فإنه كفر، فهل يفكر في دخول الجنة من لا يصلي؟! نقول: لا، فإنه كافر مرتد؛ لأن الله تعالى يقول: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّين} [التوبة:11]، فمعنى (لا إله إلا الله) أن يعمل بمقتضى هذه الكلمة نفياً وإيجاباً، وأن يؤدي الأركان التي هي أسس دخول الجنة، وهي مفتاح الجنة، لكن لو كانت عليه بعض الذنوب والآثام فإن الله قد يغفرها له بشرط ألاّ تكون حقوقاً للناس؛ لأن حقوق الناس لا بد أن تؤديها إلى أصحابها، أما لو كانت عليه سيئات بينه وبين ربه فإن الله تعالى قد يتجاوز عنها ولا يبالي، كما جاء في الحديث الصحيح: (يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة).
وكون الإنسان يقدم على ربه سبحانه بسيئات لم يتب منها فهذه مخاطرة، لكن لو قدم بسيئات لا تصل إلى درجة الكفر، ولا درجة الشرك، فلعل الله أن يتجاوز عنها؛ لأنه تعالى وعد بذلك، ولكن لم يعط الوعد لكل الناس، بل لمن يشاء، فقال: (وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ) يعني ما دون الكفر والشرك (لِمَنْ يَشَاءُ) أي ليس لكل الناس.
فكلمة (لا إله إلا الله) وحدها لا تدخل الجنة، إلا إذا عمل الإنسان بمقتضاها نفياً وإثباتاً، لأن (لا إله) معناها: أن ينبذ العبد عبادة الهوى والشهوات والمعاصي والمحرمات، و (إلا الله) معناها: أن يقيم تعاليم الإسلام، لأن معنى الإيمان بالله عز وجل أن يقيم تعاليمه سبحانه وتعالى، وأن يطيعه في أوامره، ولذلك جاء في الأثر: (لا إله إلا الله: هي مفتاح الجنة، لكنها تحتاج إلى أسنان) فهي مثل شجرة تحتاج إلى ثمر، وهذه الثمر هي الصالحات.(2/22)
أسباب الثبات على هذا الدين وأسباب الانحراف عنه
السؤال
الصحوة بحمد الله منتشرة، ولكن ما هي الأسس التي تثبت الشباب التائب على التوبة، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
الأسس كثيرة، والعقبات كثيرة، وأكبر عقبة تصرف الشباب عن الصحوة الإسلامية بعد أن يهتدوا هي: جلساء السوء، فكثيراً ما نسر بشاب اتجه إلى ربه، ثم نفاجأ بعد فترة أنه قد انحرف، وإذا تتبعنا أخباره وجدناه يصاحب أناساً لا خلاق لهم، فربما يسخرون من تدينه، ويسخرون من لحيته، ويسخرون من ثوبه القصير، ويسخرون من سلوكه، وقد يسخرون من ذهابه إلى المسجد، فهذا يعتبر من أكبر العقبات التي تحرف الشباب.
ولذلك نقول: إنّ أول ما تفعله حينما تتجه إلى الله أن تتجنب جلساء السوء، إلا إذا كنت على مستوى عالٍ من العقلية والقوة الشخصية، فتريد أن تدعوهم إلى الله فهذا أمر مطلوب، أما إذا كنت أقل منهم شخصية فإن عليك أن تجتنبهم.
ومن الأسباب التي تثبت الإنسان على هذا الطريق العلم، فإني أرى اليوم كثيراً من الشباب الذين اتجهوا إلى الله قد اكتفى بما عنده من العلم، وربما يأتيه شيطان من شياطين الإنس أو شياطين الجن ويوسوس له، ثم يحرفه، ولذلك أقول: عليك أن تبحث عن العلم الشرعي الذي يعرفك بالله عز وجل، وأن تقرأ القرآن وتتفهم معانيه، وأن تقرأ شيئاً من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وتتفهم معانيها، وأن تقرأ شيئاً من الكتب العصرية التي تحذر من الأفكار التي تفد إلى بلاد المسلمين، ثم تجتنب هذه الأشياء، فهذه كلها أمور مطلوبة في سبيل هذه الصحوة الإسلامية المباركة.
كذلك من هذه الأشياء: أن يسأل الإنسان الثبات من الله عز وجل، بل هذا أهم الأمور، والرسول صلى الله عليه وسلم كان دائماً يقول: (يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك)، فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول هذه الكلمة فكيف بنا نحن المقصرين؟! فيجب علينا أن نسأل الله دائماً الثبات، وجاء عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لرسول الله: (يا رسول الله! أتخشى على نفسك وأنت رسول الله؟! فقال: يا عائشة وما يؤمنني وقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء؟).
فيجب علينا أن نسأل الله الثبات، لا سيما في عصر الفتن الذي نعيشه اليوم، هذا العصر الذي يصبح فيه الرجل مؤمناً، ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، عصر التقلب؛ لذلك نسأل الله دائماً الثبات ولا نغتر؛ لأنّ الغرور أخطر شيء في حياة الإنسان، فهو الذي أخرج إبليس من الجنة، وأدخله النار، بل جعله قائد الكفرة إلى النار، فعلينا أن نستشعر التقصير في جنب الله سبحانه وتعالى، والله تعالى يقول: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:27].(2/23)
خطورة الاستهزاء بالدين أو بحامليه
السؤال
ذكرت أن من الأسباب التي تثبت الإنسان على الدين: بعده عن قرناء السوء، وذكرت استهزاء بعض الناس به، فما توجيهك حول الاستهزاء بالشباب الصالحين؟
الجواب
هذا الأمر من أخطر الأمور التي يبتلى بها من يضل عن الطريق، فالاستهزاء بدين الله أعظم ذنب في هذه الحياة، ولذلك سمى الله تعالى الذين يسخرون من المؤمنين أئمة الكفر، وأمر بقتالهم، فقال سبحانه: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ} [التوبة:12]، وفي قراءة سبعية: (إنهم لا إيمان) فالذي يسخر من دين الله يكون من أئمة الكفر، وليس كافراً فقط، ولذلك فالذين يسخرون من الدين ويقولون: انظر إلى لحية فلان، وانظر إلى ثوبه القصير، لا يعلمون أنّ هذه سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فبسبب طول الأيام، والمشاكل التي أصابت المسلمين، والانحراف، والغفلة الطويلة، نسي المسلمون أن هذه سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فصار بعضهم يسخر من ثوب الإنسان القصير، وما علم أن هذه سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وصار يسخر ويقول: انظر إلى فلان إذا أراد أن يصلي يمد ظهره، ويضع يديه، وانظر كيف يقبض نفسه، ولا يصلي إلا إلى سترة، وما علموا أنّ هذه كلها من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فهناك أمور كثيرة نسيها الناس وهي من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما أراد بعض إخواننا أن يحيي هذه السنة، ظن هؤلاء الناس أنهم قد ابتدعوا في دين الله.
المهم يا إخواني! إذا وصل الأمر إلى السخرية من دين الله فهو عظيم وخطير، فإذا كانت السخرية من نفس الإنسان مصيبة، فما بالك بالسخرية من دين الله تعالى، وأنت حينما تسخر من إنسان اتسم بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم فإنما تسخر من السنة نفسها لا من ذات ذلك الإنسان، فيخشى أن يقع عليك هذا الوعيد: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ} [التوبة:12]؛ لذلك أقول: اتق الله يا من وقع في السخرية بهؤلاء المؤمنين! وهذا الأمر يحدث في أيامنا الحاضرة كثيراً، بل أسمع بعض الآباء يسخرون من أبنائهم فيقولون في بعض الأحيان: ولدي موسوس، ولدي دخله الدين، ولدي فيه كذا، وهو في الحقيقة لا يسخر من ولده، وإنما يسخر من دين الله عز وجل، فنحذر هؤلاء الناس من الوقوع في ذلك.
وقد أخبرنا الله عز وجل أن هذا الصراع سنته في الحياة دائماً وأبداً، فالناس على صنفين: مجرم، ومؤمن، والساخر هو المجرم، والمسخور منه هو المؤمن، ولذلك يقول الله تعالى في سورة المطففين: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} [المطففين:29 - 30]: انظر إلى لحيته انظر إلى ثوبه انظر إلى شكله، مسكين هذا، وما عرف هذا الساخر أنه هو المسكين، وليس هذا المسكين {وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ} [المطففين:30 - 31]؛ أي: إذا ذهب إلى بيته يقول لزوجته: ولد فلان ما أدري هل أصيب في عقله؟! أراه الآن قد رفع ثوبه، وأرخى لحيته، وأصبح يتمسكن، فما أدري ما الذي حدث له؟! فيتفكه هو وأهله بولد فلان من الناس، أو حتى بولده، والله تعالى يقول: {وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} [المطففين:32 - 33]، ثم تتغير هذه المعايير يوم القيامة، يقول الله تعالى: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ} [المطففين:34 - 35]، ولذلك أقول: انتبهوا لهذا الأمر.
وقد أخبرنا الله عز وجل في مكان آخر أن أهل النار يعتذرون إلى الله عز وجل فلا يقبل الله عذرهم، ويقول لهم: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون:109 - 111]، فنحتاج إلى صبر يا إخوان، لما تجد أباك أو أخاك يسخر منك، ويضحك منك، أو تجد إنساناً آخر لا يخشى الله يسخر منك، فإن هذه السخرية مؤلمة للنفوس، فتحتاج إلى صبر، وهذا الصبر هو الذي يدخلك الجنة، وامتداد هذه السخرية هي التي تدخله النار، نعوذ بالله: (إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ) (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ).
وكما أخبرنا الله عز وجل في القرآن في سورة الصافات: أن رجلاً كان له قرين كاد أن يفتنه في دينه، ويسخر من تدينه، وكاد أن يميل معه لولا أن الله تعالى ثبت أقدامه عن هذه المزلة، فإذا دخل الجنة بحث أين ذهب فلان؟ ويقول لجلسائه في الجنة: {إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ * قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ} [الصافات:51 - 54] أي: يبحثون عنه {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الصافات:55]، فماذا يقول له؟ {قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [الصافات:56 - 57]، يعني: بسخريتك وبأذيتك وبمخالطتك الخبيثة كدت أن تدخلني معك النار، ولولا أن الله رحمني لكنت معك، أي: أنه يطل عليه من شرفات الجنة، وذاك يتقلب في لهب جهنم.
فالسخرية من المؤمنين أمر خطير، ومن ابتلي بمعصية فلا يسخرن ممن هداه الله عز وجل للفطرة، وأنا أقول لكم بهذه المناسبة: أنا أرى الثياب تجر في هذه البلاد أكثر من أي بلد آخر، فما أدري ما هو السبب؟ فإن كثيراً من الشباب الذين لم يهتدوا بعد، أو عندهم بعض الصبوة يجرون ثيابهم، ويسخرون في بعض الأحيان من الشباب الذين يرفعون ثيابهم، وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يرفع الثوب عن الكعبين، وفي الحديث: (أزرة المسلم إلى نصف ساقه) وما كان أسفل من الكعبين فهو في النار، فأنا أحذر هؤلاء الشباب الذي يجرون ثيابهم، ويجعلونها تخط الأرض، أحذرهم من هذا الوعيد الشديد، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم، فقال أبو ذر: خابوا وخسروا، من هم يا رسول الله؟! قال: المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب) فأولهم المسبل، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من جر إزاره خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة) فإذا رأينا من يجر ثوبه فعلينا أن نقول له: اتق الله، بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى مرة رجلاً يجر ثوبه وهو يصلي فقال: (اذهب فأعد الوضوء) فاستدل بعض العلماء بهذا الحديث -وإن كان فيه شيء من الضعف- على أن الصلاة تبطل إذا كان المصلي مسبلاً إزاره خيلاء، فنعوذ بالله من ذلك.(2/24)
كيف يستغل الوقت في العطلة الصيفية
السؤال
وقت الفراغ في العطلة الصيفية يكون كبيراً، فبماذا تنصحنا في هذه العطلة كي نستغل الفراغ؟
الجواب
استغل الفراغ فيما يرضي الله تعالى، واعلم أن الشيطان يبحث عن الفراغ ليملأه بالشرور، والفرص الآن -والحمد لله- كثيرة، فهذه المراكز الصيفية موجودة، وأنا أكرر رجائي لكل أب أن يضم ولده إلى هذه المراكز الصيفية؛ لأن القائمين عليها -والحمد لله- كلهم أهل خير، نحسبهم كذلك والله حسيبهم، أو إلى المكتبة، فإن المكتبة تشغل فيها الفراغ، وتعرف أمور دينك ودنياك، أو إلى العمل إذا لم تكن أهلاً لهذا ولا لذاك، فتعمل مع أبيك إن كان صاحب دكان، أو صاحب تجارة، أو صاحب مزرعة، المهم ألا تترك لك فراغاً؛ فإن الفراغ خطير في حياة الشباب.(2/25)
خطر إيداع المال في البنوك الربوية
السؤال
إذا كان عند الشخص مال في البنك مثلاً، وكان كلما وجد زيادة أرجعها إلى البنك، فهل يكون عليه إثم في إبقائه هذا المال في البنك مع أنه يرجع المال الزائد؟
الجواب
أخذ المال الزائد هو الربا الذي هو أخطر الذنوب كما قلت لكم، فلو تاب الإنسان فإن العلماء في عصرنا الحاضر مختلفون في جواز أخذ هذه الزيادة للتائب، فيقول بعضهم: خذه ولا تدعه للكفار، لا يا أخي! دعه للكفار، وأنا أقول: أتدخل نفسك النار بحجة أنك لا تدعه للكفار؟! دعه للكفار! فإن الكفار عندهم من الأموال أكثر من هذا المال الذي أعطيتهم بكثير، ولذلك قال الله تعالى في حق التائب: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} [البقرة:279]، فالتائب لا يجوز له أن يأخذ غير رأس ماله، ولا يواصل العمل فيأخذ غير رأس ماله؛ فأخذ الزيادة إثم، وهو الربا الذي حرمه الله عز وجل، وهذه البنوك تحارب الله عز وجل، وتحارب رسوله.
أما أن يودع الإنسان ماله في البنك فهذه بلية أصبح الإنسان لا مناص له منها؛ لأن أكثر الناس عندهم أموال أكثر من حاجتهم، فهم مضطرون إلى إيداعها في البنوك؛ كي تحفظها هذه البنوك، فنقول: ابحث عن أفضل هذه المستودعات والبنوك، فإذا رأيت من لا يتعامل بالربا فيجب عليك أن تدفع مالك له، وإذا وجدت أن بعضها أسهل من بعض فعليك أن تودع عند الأسهل، فالمهم أن تبذل الجهد، أما أن تودع المال مباشرة وبدون بحث وتثبت وهذا فيه خطر، ويخشى أن يكون فيه إثم، فأقل الحالات أن يصيبك الغبار، قال رسول صلى الله عليه وسلم: (من لم يأكل الربا أصابه من غباره، أو من دخانه)؛ لأنك سوف تؤكل الربا، وسوف يستفيدون من مالك هذا في أكل الربا، ولكن إذا لم يكن هناك مناص من حفظ الأموال إلا في هذه البنوك، فعليك أن تبحث عن أسهلها، وأقربها إلى الصحة، وإلى البعد عن الربا، ولعل الله أن يتجاوز عن هذا الأمر.(2/26)
الزواج وسيلة للعفاف
السؤال
أرغب أن أسألك سؤالاً وهو: أني شاب، وأريد أن أستقيم، وكلما أردت أن أستقيم قلت في نفسي: أؤجل ذلك إلى بعد الزواج، والإنسان يخاف من الموت أن يدركه قبل أن يستقيم، فماذا أعمل حتى أستقيم قبل فوات الأوان، أفيدوني والله يحفظكم؟
الجواب
أقول لك يا أخي! {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود:112]، وبادر بالتوبة، وأشم من سؤال الأخ أن مشكلة النساء هي المشكلة التي تعترض سبيله، والحقيقة أنها مشكلة عويصة، وهي أخطر المشاكل على الشباب، وعلاجها الزواج، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج)، فبادر بالتوبة، وحصن نفسك بالزواج، وأنا أدعوكم أيها الإخوة! أن تتعاونوا مع الشباب الذين يرغبون في الزواج لإعفاف أنفسهم، وعليكم أن تتقوا الله في هذه الأمانة، وإذا خطب منكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض، وفساد عريض، واحذروا المساومة على المرأة، والمغالاة في المهور، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (أعظمهن بركة أيسرهن مئونة).
وأخشى أن تكون أكبر عقبة أمام هذا الشاب هي الشهوة، وهي التي تصرفه عن التوبة؛ ولذلك فإني أقول: إنّ الذين لا يكونون مرنين في أمور الزواج بتزويج قريباتهم إذا جاء الأكفاء، أو يبالغون في المهور، أخشى أن يتحملوا آثام هؤلاء الشباب الذين لا يستطيعون التوبة بسبب هذه الشهوة الجامحة، وأقول لك: يا أخي الشاب! إن الله عز وجل يقول لك: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32 - 33]، فبادر بالتوبة، وبادر بالزواج، ولو أن تقترض، أو أن تبحث عن هذا المال من أي طريق من الطرق المباحة، واعلم أن الله عز وجل سوف يعينك في هذا الأمر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (ثلاثة حق على الله عونهم، وذكر منهم الناكح يريد العفاف).(2/27)
أخبار الصحوة في العالم والجهاد الأفغاني
السؤال
هذان سؤالان عن حال العالم، الأول يقول: نرجو منك أن تتحدث لنا عن أحوال المسلمين في العالم؟ والآخر يقول: فضيلتكم زار أفغانستان، فهل الجهاد المتواجد فيها الآن يعتبر جهاداً في سبيل الله؛ لأن الكافر الملحد قد انسحب من أرضها، وبقي القتال بين الأفغانيين أنفسهم؟
الجواب
أما أخبار العالم فلا يحيط بها إلا الله سبحانه وتعالى، لكن الشيء المؤكد أن العالم الآن يبحث عن الحق، حتى النصارى واليهود بدءوا يبحثون عن الحق، وأبناء المسلمين الذين كانوا يحاربون هذا الدين صاروا يبحثون عن الحق، والشيوعية التي كانت لا تسمح للمسلمين في الصين الشيوعية أن يتعلموا شرائع الإسلام، وكان آباؤهم يهربونهم مع الأثاث إلى البلاد الإسلامية، فتح الآن -والحمد لله- المجال للمدارس الإسلامية وللمساجد، وهذه الفترة تفرض على كل واحد من المسلمين أن يساهم في الدعوة إلى الله عز وجل، وعلى كل: أخبار العالم تسير إلى الأسوأ، إلاّ أن هناك انفتاحاً إلى الخير والحمد لله، فما علينا إلا أن نستغل هذه الفرصة.
أما بالنسبة للسؤال الذي يتعلق بشأن أفغانستان: فأنا آسف جداً أن هناك من يظن أن العدو قد رحل، والله تعالى يقول: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217]، والشيوعيون لا يريدون أفغانستان، وإنما يريدون المقدسات المتواجدة هنا حفظها الله، ومن يتتبع الخرائط التي يحملها الطيارون في جيوب طائراتهم يرى الأسهم موجهة إلى أرض المقدسات حفظها الله وحرسها، ووفق وهدى قادتها إلى الاستقامة على دين الله عز وجل.
أما أنهم رحلوا فما رحلوا، فهم يعترفون الآن أن هناك عشرة آلاف خبير روسي يديرون الحرب في أفغانستان، وأن هناك أكثر من ثلاثين ألف طيار هندي من البوذيين الكفرة يحركون القتال أيضاً، إضافة إلى أن الكفر كله ما زال يحرك القتال، وهذه دعايات أشيعت إما بدافع جهل ما يحدث في أفغانستان، أو لأن هناك أعداء للجهاد يريدون أن نضع السلاح، وهذا كله خطأ، فالجهاد في سبيل الله على أشده، بل هو في هذه الفترة أكثر ما يكون ضراوة وشدة، وهذه الأيام تعتبر أياماً حاسمة، فلا نتوقف عن المساعدات، أو عن الانضمام إلى إخواننا المجاهدين في سبيل الله، كما أن هناك جبهات أخرى فتحت في هذه الأيام والحمد لله، والجهاد في سبيل الله مستمر، فهناك جهاد في أريتريا المسلمة، وفي جنوب الفلبين حيث يريدون أن يعود حكم الله عز وجل في الفلبين التي اغتصبها العدو، وسرقها منا، وفي فلسطين، وفي أماكن كثيرة، فالمقصود أنّ الجهاد -والحمد لله- تحرك الآن، وهذا يعتبر من آثار الصحوة الإسلامية.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(2/28)
ذلك أزكى لهم
إن للتزكية عدة عوامل، منها: غض البصَر، وحفظ الفروج، والابتعاد عن الفتن بكل أنواعها من شهوات وشبهات، ولذلك قال الله عز وجل بعد الأمر بغض البصر وحفظ الفروج: (ذلك أزكى لهم)، أي: أطهر وأنقى لمن غض بصره وحفظ فرجه.
فعلى المسلم أن يسعى جاهداً إلى تزكية نفسه، وتطهير قلبه من المعاصي والذنوب حتى يكون نقياً طاهراً زكياً.(3/1)
النظرة المسمومة والآثار المترتبة عليها
الحمد لله رب العالمين، وتبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، صلى الله عليه وسلم وبارك، وعلى آله ومن دعا بدعوته وعمل بسنته ونصح لأمته إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول الله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:30 - 33].
في ظلال كتاب الله من سورة النور نقف مع هذه الآيات التي نحن أحوج ما نكون إليها دائماً وأبداً، واليوم تزيد حاجتنا إلى هذه الآداب والأخلاق، لعل الله سبحانه وتعالى أن يرفع ما بالمسلمين من بلاء ومصيبة، سيما أن كثيراً من المسلمين قد ضيع هذه الأوامر، وانفلت من القيد، فأصبحت أخلاقه على خطر، بل أصبح وجوده في هذا الكوكب على خطر عظيم، نسأل الله العافية والسلامة.
وسورة النور ركزت في نصفها الأول على الأخلاق والفضائل، ومحاربة الزنا والفواحش؛ لأن الزنا ما حل بأمة من الأمم إلا وسقطت من عين الله سبحانه وتعالى، وكذلك السفور والتبرج والخلاعة ما منيت بها أمة من الأمم إلا وقعت في شباك الشياطين شياطين الإنس والجن.
وسورة النور -أيضاً- ذكرت العوامل التي تكفل للإنسان أن يبتعد عن الفاحشة، ولا أقول: عن الجريمة؛ لأن الجريمة أصبحت في مفهوم العصر -مع الأسف- هي الذنب الذي يتأذى به الناس، أما ما يعصى به الله عز وجل من فواحش البشر ومن سيئات البشر فأصبح في مفهوم الناس لا يسمى جريمة، أما هذه الفاحشة فإن الله تعالى قد حاربها وسد كل طرقها ومسالكها بوسائل كثيرة، منها: أولاً: الحد، يقول عز وجل: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2]، ثم صيانة المجتمع من الحديث الذي لا يجد رادعاً، ويسمى في مفهوم الإسلام القذف، وقد أمر الله عز وجل بجلد القاذف ثمانين جلدة، حتى لو كان صادقاً إذا لم يجد شهوداً يكملون العدد؛ لأنه إشاعة للفاحشة، وأي مجتمع لا يوجد فيه رادع لهذه القالة ييسر وجود الفاحشة في هذا المجتمع.
إذاً لو شهد ثلاثة شهود على إنسان بالزنا ولم يأتوا برابع فإن كل واحد منهم يجلد ثمانين جلدة، بدليل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور:4] كل هذا حتى لا يتحدث الناس بمثل هذه الفاحشة.
والقذف من أكبر المعاصي عند الله عز وجل، ولذلك رتب عليه عقوبة وحداً.
وسنتكلم عن الطريق التي توصل إلى الفاحشة، وهي تعتبر في حقيقة الأمر وفي واقع الناس أخطر طريق للفاحشة، ألا وهي النظرة المسمومة التي يقول الله عز وجل عنها في الحديث القدسي: (النظرة سهم مسموم من سهام إبليس، من تركها من أجل مخافتي أبدلته إيماناً يجد حلاوته في قلبه) هذه النظرة الخطيرة التي لربما لا يقيم لها الإنسان وزناً، ولربما يظن أن الله قد غفل عنه عند هذه النظرة، وينسى أن الله تعالى يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، نظرة صغيرة تتبعها نظرة أخرى تتلوها نظرات، يتبع ذلك عشق وغرام، وانشغال قلب، يتبع ذلك تخطيط وبحث عن الفاحشة، وينتهي الأمر -نعوذ بالله- بأكبر الكبائر وبأكبر الآثام ألا وهو الزنا، ولذلك يقول الله: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30] وفي الآية الثانية: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:31].
فما صلة البصر بالفرج؟ الصلة واضحة ومؤكدة، فإن النظرة توصل إلى فعل الفاحشة، ولذلك يقول الشاعر: كل الحوادث مبدؤها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر أي: كما أن شرارة صغيرة قد تهلك أمة بالحريق فإن النظرة مهما كانت -صغرت أم كبرت- فهي سامة تحدث فساداً عريضاً في أمة.
فالنظر يقترن بفعل الفرج، والدليل على ذلك قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30].
والنظرة معناها رؤية العين لعورة أو لجمال أو لأمر من الأمور يحدث فتنة، فهذه النظرة خطيرة، بدليل أن الله تعالى أعقبها بصيانة الفرج وبحفظ الفرج، فمن لم يحفظ بصره فإنه يصعب عليه أن يحصن فرجه، ولربما يتساهل في النظرة، لكنه لن يتساهل بها حينما يرى آثارها في نفسه وفي أمته، ولذلك يقول الله تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ) هذا أمر من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن يقول للمؤمنين، وهذا أبلغ في أمر الله عز وجل أن يكلف رسوله بتبليغ المؤمنين هذا الأمر، والرسول صلى الله عليه وسلم مبلغ عن الله.
قوله: (يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ) الغض معناه في اللغة: إطباق الجفن على الجفن ومعناه في الحقيقة: عدم النظر إلى عورة من العورات وإن لم يؤد ذلك إلى إطباق جفن على جفن.
فليست كل نظرة محرمة، وإنما النظرة المحرمة هي التي إلى غير المحارم، ولذلك يقول الله تعالى: (مِنْ أَبْصَارِهِمْ) ولم يقل: يغضوا أبصارهم.
لأن غض البصر عما أباح الله ليس أمراً واجباً ولا مطلوباً، وإنما المطلوب والواجب أن يغض البصر عما حرم الله عز وجل من النظر الحرام.
والنظرة المحرمة إذا كانت الأولى فإنه يسامح فيها الإنسان، والمقصود بالنظرة الأولى غير المقصودة، كأن يفتح بصره فيقع البصر على امرأة من غير محارمه، فعليه أن يتقي الله عز وجل وأن لا يعيد النظرة مرة أخرى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن لك الأولى وعليك الثانية) وليس معنى ذلك أن الأولى يسامح فيها مهما امتدت، وإنما نظرة الفجأة التي ينظر بها الإنسان إلى ما حرم الله دون إرادة، فعليه أن يغض بصره ولا يعيده مرة أخرى، وحينئذٍ يسامح على النظرة الأولى، ولكنه لا يسامح على النظرة الثانية، فالنظرة الثانية من الصغائر، ولربما تتلوها صغيرة وصغيرة حتى تصل إلى كبيرة، ثم تصل إلى أكبر الكبائر، وعلى هذا فإن غض البصر أمر واجب؛ لأنه لا يتم الواجب -وهو صيانة الفروج- إلا به (وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) وهذه قاعدة شرعية معروفة.(3/2)
توجيه المؤمنين بغض البصر وحفظ الفروج لحصول التزكية
قوله: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ) قال: للمؤمنين.
ولم يقل: للناس.
لأنه لا يتقيد بهذا القيد ولا يلتزم بهذا الأمر من أوامر الله عز وجل إلا المؤمنون، أما غير المؤمنين فإنهم لا يبالون، نظرة تتلوها نظرة تتلوها نظرات، يتلوها فعل كبائر يتراكم بعضها على بعض، ولربما تنتهي هذه الكبائر بكبيرة عظيمة قد تخرج هذا الإنسان من قاعدة الدين ومن دائرة الإسلام بسبب نظرات؛ لأن الله تعالى يقول: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14] وكم من الناس من خرج عن دائرة الدين وانحل وانحرف وألحد بسبب نظرة، وكانت النظرة في بادئ أمرها صغيرة، لكنها ما زالت تتضخم وتكبر حتى وصلت إلى فاحشة عظيمة.
قوله: (وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) أي: أن يحفظوها من الوقوع في الفاحشة.
أي: قل للمؤمنين أن لا يزنوا.
وهذا هو الرأي الراجح في قوله تعالى: (وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ)، وإن كان طائفة من العلماء قالوا في قوله تعالى: (وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ): أي: أن يصونوا الفروج حتى لا ترى، فكما أنهم مطالبون بعدم النظر إلى عورات الناس فهم -أيضاً- مطالبون بصيانة فروجهم وأهليهم حتى لا ينظر إليها إنسان، فتعقب تلك النظرة الفساد، لكن كما تقدم أن الأقوى والأرجح -والله أعلم- في معنى (وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) أي: أن يحفظوها من الفساد ومن الزنا، ومن هنا يكون التجانس بين النظرة وبين الفعلة، فالفعلة تكون نتيجة من نتائج النظرة، كما قال القائل: نظرة فابتسامة فموعد فلقاء وهذا شيء معروف عند الناس، فإن النظرة تعقبها محرمات كثيرة، يقول الله تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36]، ولربما تكون النظرة سهلة في بادئ أمرها، ولكنها صعبة عندما تجر وراءها آثاماً عظيمة.
قوله: (ذلك) الإشارة تعود إلى غض البصر وحفظ الفرج، أي: حفظ الأبصار وحفظ الفروج أزكى لهم.
قوله: (أزكى لهم) معناه: أطهر.
أي أن الذي لا ينظر أزكى من الذي ينظر، وكذلك الذي يحفظه الله عز وجل من الفاحشة أزكى من الذي يقع في الفاحشة، وليس المراد أن صاحب الفاحشة زكي، فقد تكون (أفعل) هذه لا تفيد التفضيل، وإنما تفيد أن الزكاء لا يكون إلا لمن يحفظ فرجه، فإذا لم يحفظ فرجه فإنه قد فقد مقوم الزكاة إذ لم يزك نفسه، يقول الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس:9] أي: من طهر نفسه وحفظها من المعصية والكفر والفسق.
ثم قال: (إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) (خبير) على وزن (فعيل) صيغة مبالغة من الخبرة الشديدة، والخبير -كما هو معروف في علم اللغة- هو الذي يدرك الأمور الدقيقة.
فتقول: فلان خبير في علم الزراعة، فلان خبير في علم الاجتماع، خبير في كذا.
أي: عنده خبرة جيدة.
وهذا بالنسبة للناس، لكن خبرة الله عز وجل لا تساويها خبرة، فهو سبحانه يعلم كل ما يصنعه الإنسان ويفعله؛ لأنه الخبير الذي يدرك الأشياء الخفية التي ربما تكون في ظلام الليل وخلف الأستار المرخاة وفي غيبة أعين الناس.
فالنظرة الصغيرة التي لا يراها أحد من الناس هي في علم الله عز وجل مسجلة حتى يتجاوز الله عز وجل عنها، فالله تعالى -كما قال عن نفسه-: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ} [غافر:19] أي: إشارة العين وهي النظرة.
{وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19] أي: يعلم سبحانه الذي لم يفعله الإنسان، أي: ما ينويه وما يفكر فيه.
إذاً هذه هي الخبرة بالنسبة لله عز وجل، وهي: إدراك الأمور الخفية.
وختام الآية: {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:30] لبيان دقة الإدراك في مثل هذه الأمور، أي: لا تظنن -أيها الإنسان- أنك حينما تنظر إلى جمال امرأة أو إلى عورة وقد خَفِيتْ نظرتُك هذه على الناس أنها قد خفيت على الله عز وجل، فالله تعالى خبير، أما الناس فإنه يغفل بعضهم عن بعض، لكن الله تعالى لا يغفل مثقال ذرة، ولا يغيب عنه شيء في الأرض ولا في السماء.
إذاً -يا أخي- وأنت تنظر إلى ما حرم الله تصور أن الله تعالى يراقبك وإن غفل عنك الناس.(3/3)
حكم نظر المرأة إلى الرجل
النساء مطالبات بغض البصر، يقول سبحانه: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31] أي: وقل -يا محمد- للنساء المؤمنات يغضضن من أبصارهن.
والغض معناه: إطباق الجفن على الجفن.
أي: عدم النظر إلى ما حرم الله، و (من) للتبعيض؛ لأن هناك نظرات مباحة.
وهنا يرد
السؤال
هل المرأة ممنوعة من أن تنظر إلى الرجل؟! جمهور العلماء على أنه لا بأس بنظر المرأة إلى الرجل بدون شهوة، وما ورد من حديث نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن النظر فالحديث فيه ضعف، لكن بشرط أن لا تكون هناك شهوة إذا نظرت المرأة إلى الرجل، فإذا كانت النظرة بشهوة كان الإثم، وكان ذلك وسيلة إلى الوقوع فيما حرم الله، ولذلك يقول الله تعالى: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) لأن نظرة واحدة إلى رجل وضيء، أو إلى رجل قوي، أو إلى رجل وسيم قد تلفت نظر المرأة وتحرك شهوتها وتثيرها، كما أن نظرة الرجل إلى المرأة تثيره.
يقول عز وجل: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ) وجه الخطاب للمؤمنات؛ لأن النساء الفاسقات لا يستحققن أن يوجه إليهن الخطاب، وإن كان الخطاب موجهاً للجميع، حتى الفاسق والفاسقة كلاهما مطالبان بعدم النظر إلى الحرام، لكن المؤمنون هم أولى من يأخذ بهذه الأوامر.
قوله: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) أي: فلا يقعن فيما حرم الله.
على المعنيين السابقين في الآية السابقة التي قبل هذه.
ويمكن أن يكون معنى قوله: (وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) أي: لا يكشفن الفروج حتى لا ينظر إليها أحد من الناس فيقع في الفاحشة.
وهذا المعنى ضعيف، أما المعنى القوي فهو كما يوافق الآية السابقة: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ) أي: لا ينظرن إلى ما حرم الله؛ فإن هذه النظرة قد توقعهن في الزنا؛ لأن المرأة قد تعشق الرجل كما يعشق الرجل المرأة.
ثم لما كان شأن المرأة أخطر وأعظم من شأن الرجل جاء التفصيل في النظر، ما هو النظر المباح، وما هو النظر المحرم، وإلى من يجوز أن تنظر المرأة، وإلى من لا يجوز أن تنظر، ومن يجوز أن تبدي له شيئاً من الزينة، ومن الذي لا يجوز لها ذلك عنده، هذه كلها قيود يلزم المرأة المسلمة أن تأخذ بها كاملة، سيما ونحن في عصر منيت الحياة فيه بفساد عريض، وانتشرت وسائل الحرام، فأصبح الأمر خطيراً، فأصبحت المرأة تكاد تكون عند طائفة من الناس مخيفة أن يبتلى أحد بشيء من البنات، وهو يرى الفساد يسري في المجتمع بهذا الشكل.
يقول الله تعالى: (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) الإبداء معناه: الإظهار، والزينة معناها: ما تتزين به المرأة، سواء أكان من جمال الجسد، أم من جمال الملابس، أم من الحلي، أم من الرائحة الطيبة، أم من تقاسيم الجسد إذا كانت تلبس الملابس الضيقة كما تلبس بعض النساء البنطال، أو كما يستعمل بعض النساء الملابس الشفافة، أم -على الأقل- الابتسامات والكلام الرقيق من النساء، سواء أكان بالهاتف أم من وراء الباب، أم أمام صاحب الدكان، كل هذا من الجمال الذي منعت المرأة أن تظهره.(3/4)
حكم تغطية المرأة للوجه والكفين والراجح من أقوال أهل العلم
يقول الله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31] هناك من يفسر (ما ظهر منها) بالوجه والكفين، ونريد أن نناقش هذا الموضوع؛ لأن الموضوع كثر الخوض فيه في أيامنا الحاضرة، علماً أن الذين يخوضون في هذا الموضوع لا يبحثون عن كشف الوجه والكفين فقط، لكنهم يريدون العراء الكامل والفساد العريض، يريدون أن تخرج المرأة متفسخة لا تتقيد بقيد من قيود الشرع، فهم يبدءون بالوجه والكفين لأن هذا هو معيار الحياء، فإذا كشفت المرأة وجهها وكفيها، أو كشفت وجهها بصفة خاصة هان عليها كل شيء، كما قال الشاعر: من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلام فالوجه هو موضع الحياء، كما أن الوجه هو موضع الجمال، ففيه العيون، وفيه الخدان، وفيه الفم، وفيه الحاجب، وفيه الشعر، وفيه كل شيء، فإذا كشفت المرأة هذا النوع أو هذا الجزء من هذا الجسد سهل عليها هي أن تكشف بقية الجسد؛ لأن الحياء قد تمزق، ولأن الجمال أصبح مكشوفاً أمام الناس، فمن السهل أن يكشف موقع آخر من مواقع الجمال، ولذلك تجد الآن في بعض بلدان العالم مسابح عارية، نسأل الله العافية والسلامة، وتجد -أيضاً- زواج الذكر بالذكر بصفة رسمية، وتجد نوادي للعراة رجالاً ونساءً، يخرج الرجل والمرأة كما خلقهما الله عز وجل.
فما هي الشرارة الأولى؟ الشرارة الأولى هي كشف الوجه والكفين.
ولقد نادى بذلك أقوام باسم الإسلام وهم يجهلون الإسلام -ولو لم يجهلوا الإسلام فأكثرهم أعداء للإسلام- وقالوا: إن الوجه ليس بعورة، فكشف الوجه، فما زال هذا الحجاب يتقلص وما زال هذا اللباس يتقلص من جسد المرأة حتى أصبحت المرأة شبه عارية في كثير من بلاد المسلمين، فضلاً عن بلاد الكافرين.
وصحيح أن هناك رأياً قديماً لبعض فقهاء المسلمين أن الوجه والكفين ليسا بعورة، ويستدلون بهذه الآية (إلا ما ظهر منها) وكذلك يستدلون بحديث ضعيف في سنن أبي داود: أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثوب رقيق، فأعرض عنها وقال: (إن المرأة إذا بلغت المحيض لا يصح أن يرى منها إلا هذا وهذا.
وأشار إلى الوجه والكفين).
وهذا الحديث -أولاً- ضعيف.
ثانياً: الآية ليس فيها دليل على جواز كشف الوجه والكفين؛ لأن لفظ الآية يدل على أنه ليس هذا المراد، يقول الله تعالى: (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) وهناك فرق بين (ظهر) و (أظهر)، فـ (ظهر) فعل ماض لازم و (أظهر) فعل ماض متعدٍ، و (ظهر) معناه: ظهر بدون إرادة.
و (أظهر) أي: بإرادة.
وأسلوب الآية هنا جاء بلفظ الفعل الماضي اللازم (ظهر) أي: ظهر بدون إرادة.
إذاً فمعنى قوله: (مَا ظَهَرَ مِنْهَا) أي: الملابس التي تنكشف، أو الملابس التي لربما يظهر ما فوقها فيبدو ما تحتها بدون إرادة.
أما الذين فسروا قوله: (ما ظهر منها) بالوجه والكفين فلا توافقهم هذه الآية؛ لأنها جاءت بلفظ (ظهر) أي: انكشف بدون إرادة.
ولم تأت بلفظ (أظهر).
وعلى هذا نقول: إن الرأي الراجح هو أن الوجه والكفين من العورة، بل هما مصدر الفتنة بالنسبة للمرأة، وأجمل ما في المرأة وأكثر ما يعشق في المرأة الوجه والكفان.
حتى الذين قالوا من علماء المسلمين السابقين -رحمة الله عليهم- بأنه يجوز كشف الوجه والكفين أجمعوا جميعاً على أنه إذا خيفت الفتنة ففي حال الفتنة لا يجوز للمرأة أن تكشف شيئاً من وجهها أو شيئاً من كفيها، فتكون النتيجة وجوب تغطية الوجه والكفين؛ لأن الفتنة ملازمة للوجه والكفين دائماً وأبداً، وبالتالي يكون هذا الخلاف لفظياً.
إذاً هذا الذي يريد أن يدخل على الإسلام من هذا المدخل ليس له طريق يدخل منه، فعلماء المسلمين جميعهم حتى الذين قالوا بهذا الرأي أجمعوا على أنه في حال الفتنة لا يجوز كشف الوجه، والفتنة ملازمة للوجه دائماًً وأبداً.
ثم -أيضاً- المرأة المسلمة تدرك في عصر الفتن ما أحدثه كشف الوجه والكفين في بعض بلاد المسلمين، فكان عليها أن تأخذ بذلك العظة والعبرة.
كذلك أمر الإسلام النساء في الحج بكشف الوجه حال الإحرام؛ لأن إحرام المرأة مع كشف الوجه في الحج والعمرة كإحرام الرجل مع كشف الرأس في الحج والعمرة، ومع ذلك كان نساء الصحابة يسدلن الغطاء على الوجه إذا مررن برجال، بالرغم من أنه لا يجوز تغطية الوجه بالنسبة للمرأة المحرمة، فيكون هذا أكبر دليل على أن آخر ما استقر عليه أمر الإسلام هو تغطية الوجه والكفين، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} [الأحزاب:59].
إذاً آخر ما استقر عليه الإسلام وجوب تغطية الوجه والكفين.
والنساء اللاتي لا يتقيدن ولا يعرفن أنظمة الإسلام وقواعد الإسلام منهن من تكشف الوجه والكفين -كما يوجد في بعض البوادي في أيامنا الحاضرة- حتى إذا عرفت الإسلام حقيقة غطت الوجه والكفين.(3/5)
معنى وحقيقة ضرب المرأة بالخمار على الجيب
قوله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31] الخمار هو ما يغطى به الرأس.
مأخوذ من (خمر الشيء) أي: غطاه.
والجيب هو فتحة العنق.
ويتضح من هذا أن المرأة لا تستطيع أن تأتي بالخمار من رأسها إلى صدرها إلا وقد مر بالوجه، هذه هي القاعدة المعروفة، ولذلك فإن كلمة: (يضربن) معناها: الإلقاء الكثير.
والضرب غير الإسدال، أي: إلقاء الخمار بقوة، والخمار إذا انتقل من الرأس إلى النحر لا ينتقل غالباً إلا عن طريق الأمام، ولا يمكن أن تغطي نحرها إلا بعد أن تغطي وجهها.
قول الله عز وجل: (عَلَى جُيُوبِهِنَّ) أي: على فتحة العنق، وذلك عن طريق الإسدال على الوجه نفسه، وهذا لا يضير المرأة، وإنما يزيدها إيماناً وهدى وتقوى وجمالاً، ويزيد رغبة الرجال فيها.(3/6)
أسباب انتشار فتنة النساء في بلاد المسلمين
يقول الله عز وجل بعد ذلك: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [النور:31] أعادها مرة أخرى؛ لأن إظهار الزينة أمر خطير، ولذلك لا تعجب من أن يتكرر اللفظ مرتين في آية واحدة، فقد جاء في أول الآية: (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ) وجاء مرة أخرى: (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ)؛ لأن هذه الزينة فتنة، ولأنها بلاء وشر مستطير حينما تظهر المرأة زينتها أمام غير محارمها، ولذلك اشتعلت نار الفتنة في بلاد المسلمين لأسباب، منها: أن المرأة خرجت متبرجة متزينة، وأظهرت شيئاً من جمالها فأشعلت هذه الفتنة، سيما في نفوس الشباب العزاب، خاصة الذين لم يتمكنوا من الزواج لأسباب منها: الاختلال الموجود في أنظمة المجتمع، أو في الأنظمة الاقتصادية وما أشبه ذلك، فمن أكبر الفتن أن يكون هناك تبرج مع وجود عزوف من الشباب عن الزواج، أو عجز من الشباب عن الزواج، ولقد أصيب العالم في هذا العصر بفتنة أخرى وهي وسائل التقنية الحديثة التي انتقلت إلى بلاد المسلمين، فنقلت الصورة الثابتة والصورة المتحركة، ونقلت الأفلام والعراء، وواكب ذلك وجود دعاة للباطل، يريدون أن تشتعل الفتنة وتنتشر في هذا المجتمع، فصاروا يبثون هذه الأفلام وينشرونها في بلاد المسلمين.
وهذا شيء لا يطاق، ولذلك أقول: علينا أن نتقي الله عز وجل، وأن نحفظ بيوتنا، فإن أعداء الإسلام ما أرسلوا لنا هذه الأشياء محبة لنا، أو رغبة في ترفيهنا، أو إرادة في أنسنا وسعادتنا، وإنما أرادوا أن نفسد ونسقط من عين الله عز وجل، والله تعالى يقول لنا في القرآن: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} [النساء:27] ليس ميلاً فقط، وإنما ميل عظيم، ولذلك فإن وجود هذه المغريات وهذه الدعوات سواء أكانت عن طريق رؤية المرأة مباشرة، أم عن طريق دعوة إلى سفور المرأة أو إلى انفلاتها من القيد، أو إلى عدم انضباطها بأوامر الله عز وجل التي فيها الخير والسعادة للمرأة، أم وجود رجال يندسون في المجتمع يقولون: إن المرأة عندكم متخلفة ومحتقرة.
أو يقولون: إن مجتمعكم مجتمع معطل لا يتنفس إلا برئة واحدة.
وفي الحقيقة هم يعلمون في قرارة أنفسهم أنه ما جاء نظام ولا دين ولا منهج قط أعظم من الإسلام يحترم المرأة ويكرم المرأة ويرفع من منزلتها، وهم يعرفون كيف كانت المرأة قبل الإسلام، وكيف كانت المرأة بعد الإسلام، لكنهم يريدون -وهم يتبعون الشهوات- أن تميلوا ميلاً عظيماً، سواء أعداء الإسلام من الخارج، أو كانوا من أبناء جلدتنا الذين يتقمصون أخلاق الكافرين، ويخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي الكافرين، كلهم متفقون على إفساد المرأة، وأشد ما يكرهون المرأة المحافظة، وهم يحرصون على البلاد التي ما زالت فيها بقايا خير، بل -الحمد لله- فيها خير كثير، يركزون عليها أكثر من أي بلدة أخرى؛ لأنهم يرون أن وجود هذه الأخلاق والفضائل والمحافظة عليها في هذا البلد إنما يهدد مخططاتهم ويفسد مفعولهم ويبطل إرادتهم.
فالمهم أن هذا غزو فكري عجيب متتابع منصب على بلاد المسلمين، وحرص شديد على البلاد المحافظة، وعلى المنطقة التي حماها الله عز وجل برجال عندهم غيرة وأخلاق وخشية من الله عز وجل، وبنساء صالحات رفضن كل هذه الدعوات.
إذاً لا تعجب، فإن ما حصل ليس بالصدفة؛ لأنه ليس في هذا العالم شيء صدفة، وإنما هو بإرادة الله عز وجل، والله تعالى يقول: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان:20].
إذاً حرص أعداء الإسلام على المرأة من عدة جوانب منها: أرادوا أن تفسد المرأة في المجتمع، وأن تتفسخ وأن تخرج متبرجة، وأن تخرج شبه عارية من أجل أن يفسد هذا المجتمع، وإذا عجزوا عن امرأة المجتمع أن تصل إلى هذا المستوى الهابط فإنهم سوف يأتون لها بالصور وبالمناظر المزعجة المؤثرة التي لربما تتأثر بها بعض النساء؛ لأن النساء بطبيعتهن يعشقن كل جديد، ولديهن العواطف أكثر من العقول، ولربما تتغلب العواطف عند النساء أكثر من العقول فتغلب العقولَ، ومن هنا تتأثر بهذه الموضات.
وهذه الأفلام التي غزت بيوت المسلمين من عراء وعشق وغرام ومسلسلات وأفلام كل هذه تشكل خطورة، وكلها تضاد وتحارب قول الله عز وجل: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ} [النور:31] إلى غير ذلك.
ثم يقول تعالى: (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ) أياً كانت هذه الزينة، سواء أكانت زينة الجسد، أم زينة اللباس، أم زينة التقاسيم للجسد، أم الطيب؛ لأن الطيب يفتن كما يفتن أي نوع من أنواع الجمال، أم المزاحمة والاختلاط بالرجال الذي يسعى إليه أعداء الإسلام، ويقولون: إنهم يريدون أن يشغلوا المرأة حتى لا يبقى هذا المجتمع يتنفس برئة واحدة كما يقولون!(3/7)
من تبدي المرأة زينتها بحضرته
قوله: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31] البعل: هو الزوج وهذا البعل الذي هو أعلى درجة من المحارم تبدي له المرأة كل شيء من جسدها، فليس هناك شيء ممنوع من النظر إليه من جسد المرأة.
فالزوج يأتي في الدرجة الأولى، ولا يطالب بأن يغض بصره عن أي شيء من جمال هذه المرأة؛ لأنها خلقت له وخلق لها من أجل أن يكون التمتع، ومن أجل أن يكون الإنجاب، ومن أجل أن تكون الحياة السعيدة.
قوله: (أَوْ آبَائِهِنَّ) الأب يأتي في الدرجة الثانية، لكنه ليس في درجة الزوج، فلا تبدي له المرأة إلا ما يظهر غالباً من الشعر، والنحر والذراعين، أي: الأشياء التي جرت العادة بإخراجها للمحارم، حتى إن المحارم أنفسهم يختلفون فيما بينهم، فما تكشفه للأب غير ما تكشفه للأخ، وما تكشفه للأخ من النسب غير ما تكشفه للأخ من الرضاعة، وهكذا.
قوله: (أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ) آباء الأزواج من المحارم، لأن زوجة الابن محرمة على أبي الزوج تحريماً أبدياً، كما قال الله عز وجل: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء:23].
قوله: (أَوْ أَبْنَائِهِنَّ) ولد المرأة تكشف له ما جرت العادة بكشفه.
قوله: (أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ) أي: أولاد الأزواج؛ لأن زوجة الأب تحرم عليه تحريماً مؤبداً، فلا مانع أن تكشف شيئاً مما جرت العادة بكشفه لولد الزوج؛ لأن الله تعالى حرم عليه زوجة أبيه إلى الأبد، قال عز وجل: {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء:22] فالقاعدة عندنا: (من حرم الزواج به فإنه يجوز أن يبدى له شيء من الزينة)، هذه هي القاعدة المطردة.
قوله: (أَوْ إِخْوَانِهِنَّ) الأخ الشقيق والأخ لأب والأخ لأم، حتى الأخ من الرضاعة، هؤلاء كلهم يدخلون على المرأة، لكن يتفاوت الأمر بالنسبة لكل واحد منهم.
قوله: (أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ) أي: أولاد الإخوة، فهي عمتهم، فالعمة من محارم ابن أخيها، وكذلك أبناء الأخوات، لقوله تعالى: (أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ) فهي خالتهم، فيجوز لها أن تبرز لهم شيئاً من الجمال الذي جرت به العادة لأبناء الإخوة وأبناء الأخوات.(3/8)
وجه عدم ذكر العم والخال في الآية من المحارم
لم يذكر الله عز وجل الأخوال ولا الأعمام، مع أن الخال والعم من المحارم، فلماذا لم يذكر هنا الخال أو العم، فلم يقل الله سبحانه وتعالى: أو أخوالهن أو أعمامهن؟ يقول بعض المفسرين: العلة في ذلك أن ولد الخال أو ولد العم يباح له أن يتزوج بهذه المرأة، أي: ببنت عمته أو بنت عمِّه، ولذلك لم يذكرا هنا؛ لأن الخال والعم ربما يصفها لابنه وهي ليست من محارم ولده.
ولكن هذا الكلام أنه لا يجوز للمرأة أن تكشف شيئاً من جمالها لخالها أو عمها غير صحيح.
والأقرب -والله أعلم- هنا أنه لم يذكر الخال ولا العم لأنه تعالى ذكر أبناء الأخوات وأبناء الإخوة، وأبناء الأخوات يقابلهم الأخوال، وأبناء الإخوة يقابلهم الأعمام؛ فتكون هي خالته أو هو خالها، أو هي عمته أو هو عمها، ولذلك هنا لم يذكر الله عز وجل العم ولا الخال، ولكنه دخل بطريق المقابلة في أبناء الإخوة وأبناء الأخوات، والله أعلم.(3/9)
المقصود بقوله تعالى: أو نسائهن
قوله: (أَوْ نِسَائِهِنَّ) جمهور المفسرين على أن قوله تعالى: (أَوْ نِسَائِهِنَّ) أي: المسلمات.
وعلى هذا هناك فرق في العورة التي تكشف للمرأة المسلمة وللمرأة الكافرة، فيجوز للمرأة أن تبدي للمرأة المسلمة شيئاً من زينتها أكثر مما تبديه لامرأة كافرة، فلينتبه الذين يأتون لنا بطبيبات غير مسلمات، فهذا حكم الله، ولهذا يقول الله تعالى: (أَوْ نِسَائِهِنَّ) ولم يقل: (أو النساء).
وعلى هذا نقول: إن المرأة يجوز لها أن تكشف شيئاً من جمالها للمرأة المسلمة؛ لأن المرأة المسلمة كسائر المحارم، لكن المرأة الكافرة تكشف لها الأشياء الضرورية كالوجه وما أشبه ذلك.(3/10)
حد عورة المرأة أمام مملوكها والمملوكة أمام سيدها
قوله: (أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ) العبد الرقيق يجوز لسيدته أن تكشف له شيئاً من جسدها مما جرت العادة بكشفه، بشرط أن تؤمن الفتنة أيضاً، ولكن ذلك لا يصل إلى درجة ما تكشفه للزوج، وهذا يكون خلاف ما تكشفه المرأة المملوكة لسيدها، فإنه يجوز للمرأة المملوكة أن تكشف لسيدها كل شيء من عورتها؛ لأن حكمها حكم الزوجة.
أما بالنسبة للمرأة فلا يجوز لها أن تكشف شيئاً من عورتها لمملوكها إلا ما جرت العادة بكشفه، ولذلك الله تعالى وضعه في المؤخرة ولم يضعه في المقدمة مع الأزواج.
فهذا حكم المملوك مع سيدته فيما تكشفه من عورتها بمقدار ما تكشفه لمحارمها غير زيادة، وهذا معنى قوله تعالى: (أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ) أي: الأرقاء، فإذا ملكت المرأة الرقيق جاز لها أن تكشف بمقدار معين.(3/11)
المقصود بالتابع في قوله تعالى: أو التابعين
قوله: (أَوْ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ) التابع غير أولي الإربة هو الرجل الخصي، أو الرجل الذي ليس له شهوة في النساء.
وقوله: (أو التابعين) لأنه أقرب ما يكون من المرأة هذا الرجل، وهو الذي ليست فيه شهوة يميل بها إلى النساء، فإذا تأكدنا بأن هذا الرجل فقدت عنده الشهوة تماماً مع النساء، وأنه أصبح إنسانا ًبين الرجل والمرأة، فليس له حظ وليس له مطمع في النساء، بحيث لو نظر إلى النساء أو خالطهن فإنه لا يستطيع أن يفعل ما يفعله الرجال؛ لأنه لا شهوة عنده كشهوة الرجال ففي مثل هذه الحال نلحقه بالمحارم، فيجوز للمرأة أن تكشف ما جرت العادة بكشفه أمام هذا الرجل الذي هو بين الرجل والمرأة.(3/12)
الطفل الذي يجوز له الدخل على النساء
قوله: (أَوْ الطِّفْلِ) أي: جنس الأطفال.
فمن هو الطفل الذي يجوز للمرأة أن تكشف له شيئاً من جمالها؟ قال تعالى: (الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ) أي: الذين لم يصلوا إلى درجة معرفة الجمال عند النساء ولم يكن عندهم شهوة، ولم يبلغوا سن الحلم، حتى لو كان أحدهم مميزاً، أما إذا كان قريباً من سن الحلم ولديه شهوة رغبة في النساء وإن لم يبلغ الحلم ففي مثل هذه الحال تبتعد عنه النساء، لكن الأطفال الذين لم يظهروا على عورات النساء، ولا يميزون بين العورات، ولا يتمتعون بالنظر إلى النساء، ولا تتحرك الشهوة بالنسبة لهم إذا رأوا المرأة هؤلاء يعاملون معاملة الرجل الخصي أو الرجل الذي ليس لديه الشهوة.
والأطفال يختلفون في هذا السن، فقد يكون أحدهم صغيراً في سن التمييز، أو قريباً من سن التمييز لكن عنده دوافع وعنده قوة ورغبة في النظر إلى النساء، فهذا يبتعد عن النظر إلى النساء.
وقد يبلغ سن التمييز لكنه لا يصل إلى درجة البلوغ، وليست لديه هذه الدوافع، فلا مانع من أن لا يحذر منه النساء.
إذاً هؤلاء هم الذين يجوز أن تكشف لهم المرأة شيئاً من جمالها، ولم يسقط من هؤلاء المحارم إلا العم والخال، وعرفنا كيف نوجه سقوط ذكر العم والخال.(3/13)
الآثار المترتبة على وجود الخادمات الأجنبيات في البيوت
لا يجوز لأحد أن ينظر إلى شيء من المرأة التي ليست بمحرم أياً كانت هذه المرأة، حتى لو كانت خادمة، وهو الذي وقع فيه كثير من الناس اليوم، فلربما يؤتى بفتاة جميلة في سن صغير، ثم تعيش داخل بيت فيه رجال ويخلو بها الرجال، وينظرون إليها، وهذا من أكبر المحرمات، نسأل الله السلامة والعافية.
إن مثل هذا يحدث فتنة، سيما إذا كانت هناك خلوة، وإذا غابت الأعين الأمينة، وإذا غابت النساء عن هذا البيت وخلا ذلك الرجل بهذه الخادمة، ولربما تكون امرأته عجوزاً وهذه الخادمة شابة، ولربما تكون أجمل من زوجته، بل هب أنها ليست بشابة ولا بجميلة، فإن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم.
إذاً لماذا يتجرأ الناس على هذا الأمر من أوامر الله عز وجل، نظرات متكررة، وكأنه يعيش مع زوجته أو ابنته أو أخته، لا يبالي بأن ينظر إليها صباحاً ومساءً، وتمر مئات بل آلاف النظرات المحرمة يومياً بين هذا الرجل وهذه المرأة التي جاءت بصفة خادمة، ويسجل في الكتاب على هذا الرجل النظرات وهو في غفلة، ويوم القيامة ينشر هذا الكتاب ويقال له: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء:14].
كيف يتحمل الناس هذه المسئولية الكبيرة وهذه النظرات الكثيرة المتكررة المحرمة، والله تعالى يقول: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30]؟ ولا يمكن أن يغض بصره وأمامه هذه الفتاة أو هذه المرأة التي أصبحت كأنها قاعدة البيت، بل لربما تقابل الرجال وتخدمهم أكثر من أن تخدمهم الزوجة والبنت والأخت، فهذه فتنة عظيمة علينا أن نحذرها، ولذلك الله تعالى حذرنا وقال: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30].(3/14)
معنى ضرب النساء بالأرجل ليعلم ما يخفين من الزينة وحكمه
يقول الله تعالى: (وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) الخطاب للنساء، والضرب بالرجل معناه: لا تحرك المرأة رجلها بقوة على الأرض ليظهر صوت الخلخال، حتى لا يسمع الرجال الأجانب صوت الخلخال.
فما الفرق بين هذا وما يوجد في الأمة الإسلامية من نساء راقصات مغنيات مائلات مميلات؟! الناس ابتعدوا كثيراً عن أوامر الله عز وجل، فالله تعالى نهى عن ضرب الرجل في الأرض حتى لا يسمع صوت الخلخال، والآن تضرب المرأة بنفسها على الأرض ليرى الرجل كثيراً من جمالها، فهي تتكسر وتتمايل أمام الرجال الأجانب، فهذا هو ما وقع المسلمون فيه اليوم، مصيبة وفتنة وبلية، تغني بصوتها الجميل الرقيق الذي يفتن الناس.
أيهما أشد: صوت الغناء أم صوت الخلخال الذي حرم الله عز وجل أن تظهره المرأة أمام الرجال الأجانب؟! إذاً هذا يدل على ابتعاد كثير من الناس عن أوامر الله سبحانه وتعالى، إن الناس في جانب وأوامر الله سبحانه وتعالى في جانب، إلا من رحم الله سبحانه وتعالى.
فما على المسلمين إلا أن يعودوا إلى ربهم سبحانه وتعالى تائبين.(3/15)
دعوة عامة إلى التوبة المؤدية إلى الفلاح
بعد ذلك الله تعالى يخاطب الأمة؛ لأنها معرضة للفتن ومعرضة للخطأ، ولأن من طبيعة بني آدم أنهم خطاءون كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وخير الخطائين التوابون.
فباب التوبة ما زال مفتوحاً، وهذه نعمة من الله سبحانه وتعالى، حتى الذين وقعوا في الكبائر والذين ينشرون الفساد في الأرض باب التوبة مفتوح أمامهم، حتى الذين حرقوا المؤمنين -كأصحاب الأخدود- فإن الله تعالى يقول فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} [البروج:10] أي: الذين أحرقوا المؤمنين بدون ذنب إلا لأنهم آمنوا بالله.
ومع ذلك فالله تعالى يقول لهم: (ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا).
أي أنه تعالى دعاهم إلى التوبة بعد تحريقهم المؤمنين.
فمن نعمة الله عز وجل علينا أن باب التوبة ما زال مفتوحاً، فنقول للرجل الذي أفسد بيته بالمحرمات وبالأفلام: إن باب التوبة ما زال مفتوحاً أمامك، فعليك أن تبادر قبل أن يغلق هذا الباب، وإغلاق هذا الباب يكون بأحد أمرين: إما بطلوع الشمس من مغربها وهو نهاية الحياة الدنيا، أو بالغرغرة وبلوغ الروح الحلقوم، وهذا قريب من الإنسان أيضاً، فليس بين الإنسان وبين هذا إلا أن تحضره ملائكة الموت، ولذلك الله تعالى يقول: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31].
أي: توبوا جميعاً كلكم، فلا يكون هناك أناس يتوبون وأناس ما زالوا في غي اللهو واللعب، ولا يكون هناك أناس مع الله وأناس بعيدون عن الله عز وجل، ولا تكون هناك توبة في بعض الأمور وإهمال في أمور أخرى، لابد من أن تكون التوبة من جميع الناس وفي جميع الأوامر والنواهي التي شرعها الله عز وجل وسنها.
أما الذين لا يتوبون ويغترون بالصحة أو بالعافية أو بالتمكين في الأرض، أو بأمر من الأمور التي أصبحت مغرية من مغريات هذه الحياة لهم فعليهم أن ينتظروا ساعة الحساب وساعة القدوم على الله عز وجل، فالله تعالى يقول: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31].
قوله: (أيها المؤمنون) كما قال في أول الآية التي قبل هذه: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30] فالتقى الطرفان في هذه الآية والتي قبلها، ويسمى في علم البلاغة: تلاقي الأطراف فالخطاب للمؤمنين في أول الآيات، وينتهي بالمؤمنين؛ لأن غير المؤمنين لا ينتبهون لهذه الأوامر ولا لهذه النواهي، ولأن من طبع الله على قلبه وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة لا يسمع هذه الأوامر ولا ينتبه لها، والمؤمن المصدق بأوامر الله عز وجل هو الذي يقبل هذه الأوامر، فالله تعالى يقول: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31].
قوله: (تفلحون) أي: تفوزون بسعادة الدنيا والآخرة، و (لعل) هنا أصلها في اللغة العربية للترجي، لكنها إذا جاءت من عند الله فليست للترجي؛ لأن الله تعالى لا يترجى؛ لأن الترجي يكون من الأدنى إلى الأعلى، فمعناها للتوقع، أي: يتوقع فلاحكم إذا تبتم إلى الله عز وجل.
وإني أنصح كل من أهمل أمره أو بيته، أو أطلق بصره فيما حرم الله أن يأخذ بأمر الله عز وجل: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ} [النور:31]، وأنصح كل من سعى في أمر يريد أن يخدع به المسلمين، أو يريد أن ينشر الفساد في بلاد المسلمين وفي الأمة الإسلامية عن طريق الكتابة، أو عن طريق الفلم، أو عن طريق المكتبة، أو عن طريق التسجيلات، أو عن أي طريق من الطرق التي تعددت في أيامنا الحاضرة أن يبادر إلى التوبة، وأن يطيع ربه الذي يقول له: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ} [النور:31]؛ لأني أخشى أن لا يفكر في التوبة إلا بعد أن تفوت هذه الفرصة، ويبحث عن هذه الفرصة ولكن لات ساعة مندم.
فأرجو من إخواني الذين ابتلوا بشيء من ذلك -سواء من كان منهم يشيع الفاحشة في المجتمع، أو من يدعو النساء بصفة خاصة إلى التفسخ والفساد، أو من ينشر الفساد بواسطة الأفلام أو بواسطة التسجيلات أو الأشرطة أو التجارة أو ما أشبه ذلك- أرجو أن يتقوا الله عز وجل؛ فإنها أمانة.
كذلك أنصح أصحاب المكتبات الذين ينشرون الصور الفاتنة، والقصص الماجنة، والمسلسلات أنصحهم أن يتوبوا إلى الله عز وجل، كذلك أنصح الذين يقومون على إعلام المسلمين الذين بدءوا بنشر هذه الأشياء أنصحهم أن يتقوا الله عز وجل؛ فإن الله سائلهم عن هذه الأمانة، وعن كل ما أحدثوا في هذا المجتمع من أسباب الفتنة والفساد ومن نشر الفاحشة بين المسلمين؛ لأن الله سبحانه قال: (جميعاً) أي: سواء منكم من يتقبل هذا الفساد أو من ينشر هذا الفساد، أو من يساهم في إيجاد شيء من هذا الفساد.
جميعاً توبوا -أيها المؤمنون- لعلكم تفلحون.(3/16)
الزواج المبكر والآثار الإيجابية المترتبة عليه
العنصر الأخير من عناصر المحافظة على المجتمع قوله تعالى: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور:32] فالإسلام لا يؤمن بمبدأ: ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء فهذا مبدأ غير واقعي وغير حقيقي، ولذلك فإن الذي سد طرق الحرام فتح طرق الحلال؛ لأن الله عز وجل حينما ركب هذا الإنسان ركبه على هذه الشهوة بين الذكر والأنثى، وهذه الشهوة هي سبب تكاثر هذا العالم في هذا الوجود، ولولا هذه الشهوة ما كان لهذا العالم وجود على ظهر الأرض، ولذلك فإن الله عز وجل الذي سد طرق الفاحشة من تحريم الحديث عن الفاحشة، والنهي عن دخول البيوت دون استئذان، ومنع الاختلاط، وتحريم النظر الحرام هو الذي جعل الطريق مفتوحاً بالحلال، حتى لا يقال: ماذا يفعل الإنسان بالشهوة التي ركبها الله تعالى فيه؟ وهو هو طريق واسع يصل إلى أربع زوجات بحيث تسد حاجة أي واحد من الناس، وتستهلك كل الطاقة النسوية الموجودة في المجتمع، حتى لا تقول امرأة: إنها لم تجد زوجاً.
وحتى لا يقول الرجل: إنه لم يجد طريقاً لإشباع هذه الرغبة وهذه الشهوة.
ولذلك جاء الأمر من الله لمحاربة الفاحشة فقال: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور:32].
فمن طرق دفع الفاحشة وسد بابها الزواج، فهو المنفذ الوحيد الذي أباحه الله عز وجل من أجل أن تستهلك فيه هذه الطاقة الجنسية التي فطر الله الناس عليها، وهذا هو طريق الحلال الذي تبنى عليه الحياة الإنسانية على عش طاهر نظيف، ليس بالزنا ولكن بالزواج الذي شرعه الله عز وجل فقال عنه: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور:32].
فقوله تعالى: (وأنكحوا) أي: زوجوا.
(الأيامى) جمع أيِّم، أي: غير المتزوج ومعنى ذلك أن الرجل غير المتزوج يزوج، والمرأة غير المتزوجة تزوج، حتى لا تبقى النساء عوانس في البيوت، ولا يبقى الرجال عزاباً داخل البيوت؛ لأن هذا النوع من البشر هو الذي يبحث عن الفاحشة، ولأن الزواج يغني عن الحرام، ولذلك الله تعالى هنا أمر بالزواج فقال: (وَأَنكِحُوا الأَيَامَى) أي: غير المتزوجين.
(منكم) أي: من المسلمين، (وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ) الصالح ضد الفاسق.
(من عبادكم) أي: الذكور، جمع عبد.
(وإمائكم) أي: الإماء، جمع أمة وهي الأنثى، أي: ابذلوا المال لتزويج هؤلاء.
وكذلك على الأولياء أن يبادروا بتزويج مولياتهم من النساء إذا جاء الأكفياء؛ وكذلك الرجال إذا بلغوا سن الحلم وشعروا بالحاجة الملحة وبالشهوة، فإن عليهم أن يبادروا بالزواج قبل أن يقعوا فيما حرم الله، والنساء كذلك إذا بلغن هذه السن وخفن من الوقوع فيما حرم الله عليهن أن يبادرن بهذا الزواج، ولا يكون شيء من الأمور يحول بينهم وبين أمر من أمور الله، لا التعليم ولا العمل ولا الوظيفة ولا شيء من ذلك.
وهذا هو البلاء الذي حل بالأمة الآن، فالفتاة تقول: لا أتزوج حتى أكمل الدراسة الجامعية.
فإذا أكملت الدراسة الجامعية قالت: لا أتزوج حتى أخدم وطني مدة من الزمن.
ويمكن يا أختي أن تتزوجي وتكملي الدراسة، ويمكن أن تتزوجي وتشتغلي في المجال الذي يخص المرأة، دون أن يكون هناك شطط أو ميل أو اختلاط أو نظر، فهذا مفتوح أمام النساء والحمد لله.
إذاً هذه من الفتن، ولربما تكون وراءها دعايات مضللة تريد أن تحول بين الفتاة وبين الزواج، أو بين الشباب وبين الزواج، فيتأخر الزواج فتمتلئ البيوت بالنساء العوانس، فيصبح الرجال عزاباً، فيبحثون عن الفاحشة في عصر فسد فيه الإعلام، وانتشرت فيه الصور والمحرمات، وتضخمت فيه وسائل النقل السريع، فتنقل الإنسان من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب في سويعات، فهذه كلها عوامل ساعدت على هذا الأمر الخطير، لذلك أقول: الله عز وجل يأمرنا بالزواج المبكر، فيقول: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور:32]، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة -أي: تكاليف الزواج- فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء).(3/17)
الآثار المترتبة على عدم اختيار الصالح عند الزواج
الله عز وجل هنا في قوله: {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور:32] نبه على الصلاح، ولذلك فإن على الرجل إذا أراد أن يبحث عن امرأة أن يبحث عن المرأة الصالحة، يقول عليه الصلاة والسلام: (الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة)، وقال: (اظفر بذات الدين تربت يداك).
وكذلك المرأة إذا أرادت أن تبحث عن زوج، أو أراد وليها أن يزوجها فعليه أن يبحث عن الرجل الصالح؛ لأن الله تعالى يقول: (وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ) ويقول عليه الصلاة والسلام: (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كثير) ولذلك كانت الفتنة وكان الفساد العريض عندما أعرض كثير من الناس عن هذا الأمر من أوامر الله، فساروا يشترون الرجل صاحب المركز أو صاحب الشهادة العملاقة، أو الرجل المثقف، أو صاحب المال الكثير، فأغفلت كل الجوانب الأخرى إلا ما شاء الله، ولم يلتفت إليها إلا أناس قلة، فكان ذلك سبباً في وجود فتنة في الأرض وفساد كبير.
وانظر كم يسافر اليوم من أبناء المسلمين للفساد؟! وكم تنقل الطائرات؟! وكم تفتح من بيوت للفساد في العالم تستقبل أبناء المسلمين الذين ولدوا على الفطرة وعاشوا على الفطرة؟! الفتنة بدأت منا نحن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) فمن يتحمل هذه المسئولية أمام الله؟ هل يتحملها ذلك الشاب الذي يقول: لا أتزوج حتى أملك بيتاً يتكون من طابقين، وأثاثاً راقياً، وأملك سيارة جميلة، وحتى وحتى، فإذا به يسوف في الزواج، ولربما يقع بعضهم في غضب الله عز وجل، أم تلك الفتاة التي أراد وليها أن يساوم عليها مساومة بالمزاد العلني، ويبحث عن أثرى الناس وأكثرهم مالاً، ويغفل كل الصفات التي يستفيد منها هو في الدنيا والآخرة وتستفيد منها تلك البنت التي تنظر إلى الصالح الذي يحترمها ويخاف الله عز وجل فيها، وينجب لها -بإذن الله- أولاداً صالحين يكونون لها سعادة في الدنيا والآخرة، هذه هي المشكلة وهذا هو الفساد العريض، والذي تسبب في وجود الفساد العريض هم الذين لا يحسنون اختيار الزوج، أو لا يحسنون اختيار الزوجة، فهنا يقول الله تعالى: {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور:32]!!! وكم من الناس من يأتي إلينا ويشتكي إلينا أمر موليته، فيقول: والله -يا أخي- لقد زوجت ابنتي رجلاً يشرب الخمر، فحل مشكلتي.
نقول: لا نملك لك من الله شيئاً، هل حينما خطب ذلك الرجل البعيد ابنتك سألت عن أخلاقه وسلوكه ومن يخالط؟ لا نستطيع أن نخلصك من هذه المشكلة، ولربما ينجب من ابنتك أولاداً فسدت نطفتهم؛ لأن هذه تقارير علماء الاجتماع، أن إدمان المسكرات ربما ينتقل عن طريق النطفة لينجب أولاداً إما مجرمين وإما مدمني خمر، هكذا يقول علماء الاجتماع والمسئولية عليهم.
ويقول آخر: زوجت ابنتي رجلاً لا يصلي فماذا أفعل؟ نقول: هو كافر وهي مسلمة، فكيف تضع امرأة مسلمة في عصمة رجل كافر والله تعالى يقول: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة:10]؟! حتى العودة لا تعود فكيف بالابتداء؟! {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة:10] لا نملك لك من الله شيئاً، فالزواج غير صحيح، ويقول بعض علماء المسلمين: الأولاد الذين يولدون في هذه الفترة غير شرعيين؛ لأن الزواج فاسد بطبيعته ما دام أنه رجل كافر مرتد وهي امرأة مسلمة.
فهذا أمر خطير لا يدركه كثير من الناس إلا بعد أن يقع، فلماذا لا نبحث فيه قبل أن نقع وقبل أن ندخل في هذه المشكلة؟! لماذا إذا خطب هذا الرجل لا أبحث عمن يخالط؟ وأسأل الناس عنه هل هو رجل صالح أو غير صالح؟ هب أنه رجل فقير، أليس يقول الله تعالى: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32] فهي لن تموت جوعاً عند ذلك الرجل؛ لأن الله تعالى يقول: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6] بل هي تموت عند الرجل المجرم الذي يهينها ولا يأتيها إلا في الهزيع الأخير من الليل، هذا الرجل الذي يفسد شهوته فيما حرم الله، هذا الرجل الذي يتناول المسكرات والمخدرات، ذلك الرجل الملحد الذي لا يصلي ولا يعرف الله طرفة عين، ذلك الرجل الذي يسب دين الله ويتجرأ على ما حرم الله، هذا هو الذي يجب أن يحذره، أما الفقير فإن الله تعالى سوف يغنيه، ومن أكبر عوامل الغنى الزواج، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة حق على الله عونهم)، وذكر منهم الرجل يتزوج يريد إعفاف نفسه، ويقول الله تعالى: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32] وعد من الله تعالى، ألا يصدق أولياء النساء؟! ألا تصدق النساء بوعد الله؟! فكم من أناس كانوا في فقر مدقع لا يملك أحدهم قوت ليلة، فبعد أن يتزوج إذا بالدنيا تنفتح عليه من كل جانب؛ لأن رزق المرأة اجتمع مع رزق الرجل مع رزق الأولاد الذين سيأتون بإذن الله تعالى، فتجتمع هذه الأرزاق فتكون رزقاً واسعاً، إذاً لماذا لا يثق الناس بوعد الله وبرزق الله؟! ثم يقول الله تعالى: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32] أي: العبيد الذين ستزوجونهم إذا كانوا فقراء فإن الله يعطيهم بكرمه.
ثم يقول الله تعالى: {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور:32] أي أن الله تعالى له خزائن السماوات والأرض، فعنده من السعة في الرزق ما يغني جميع المخلوقات فضلاً عن ذلك الرجل الذي تزوج لإعفاف نفسه، ويدر عليه الرزق لنفقة هذه الزوجة التي رضيت بهذا الرجل الصالح الفقير من أجل تعفه وتعف نفسها.(3/18)
لزوم الاستعفاف لمن لا يجد القدرة على النكاح
قال الله تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفْ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً} [النور:33] أي: الذي لا يجد وسائل النكاح عليه أن يستعف، ويطلب العفاف ويبتعد عن مواطن الفتن حتى ييسر الله له طريق المهر فيتزوج بهذا المال الذي أعطاه الله تعالى.
ولكن هناك طريق أخرى لا نغفل عنها، فلماذا لا تقدم الصدقات والزكوات وفضل المال العريض الذي من الله علينا به لتزويج هؤلاء العزاب؟! كذلك يجب أن يتعاون أولياء النساء مع الشباب في تخفيف هذه المهور؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (أكثرهن بركة أيسرهن مئونة) ولذلك بمقدار ما تقل المئونة وتقل تكاليف الزواج تكثر البركة، ولكن حينما تكثر تكاليف الزواج تقل البركة، وهذا شيء نشاهده من خلال دراسة أحوال المجتمع، إذا خسر رجل على زوجته مئات الآلاف من الريالات فإنه لا تمضي مدة من الزمن إلا وهو يكرهها؛ لأنها أثقلته بالديون، وهب أنها ليست ديوناً، فإنه يشعر دائماً أنه اشتراها بثمن غال نفيس من ماله، وتجد أنه يستثقلها دائماً وأبداً، ولربما لا يتم لها مدة حتى يطلقها أو يؤذيها ليسترجع هذا المهر مرة أخرى وليتزوج امرأة أخرى، وهذا -والله- واقع كثيرٍ من الذين يبذلون المال الكثير في الزواج، لكن الذين يبذلون المال القليل يجعل الله عز جل فيه البركة، فعندما لا تبنى العلاقة الزوجية على مطامع مادية بل تبنى على محبة وعلى إحسان تكون النتيجة طيبة، ولذلك يقول الله تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفْ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:33].
فندعوا أصحاب الأموال إلى تقديم زكاة أموالهم للشباب العاجز عن الزواج، فإن هذا -في اعتقادي- هو أفضل ما يقدم فيه المال في أيامنا الحاضرة، وأظنه من المال الذي نقدمه للجهاد في سبيل الله؛ لأن هذا نوع من الجهاد، ومحاربة للرذيلة، وإنشاء لبيوت مسلمة، سيما إذا كان الرجل صالحاً والمرأة صالحة، لكن حينما نبخل بهذا المال يكون الفساد العريض.
فلابد من أن نقدم كثيراً من المال لتزويج العزاب، وأنا أدعو الجمعيات الخيرية وأدعو أصحاب الخير والمال لتزويج العزاب، لعل الله سبحانه وتعالى أن يحفظهم من هذه الفتن التي غصت بها الحياة الدنيا.
قوله: (وَلْيَسْتَعْفِفْ) أي: يطلب العفة.
قوله: (الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً) أي: أسباب النكاح.
(حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) فيصوم إن كان الصوم يكسر الشهوة، ويغض البصر، ويبتعد عن مواطن الفتن إلى غير ذلك من الأمور التي يستغني بها العزب عن الحرام.(3/19)
حقيقة المكاتبة وشروطها
قوله: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النور:33] هذه الآية نزلت فيمن يريد أن يشتري نفسه من سيده كالعبيد الأرقاء، فيساعد هؤلاء الأرقاء حتى يعتقوا أنفسهم من سادتهم.
فقوله: (يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ) أي: المكاتبة (مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) أي: الأرقاء.
(فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) أي: إذا طلب أن تبيع نفسه عليه نجوماً وتقسيطاً فبع نفسه عليه نجوماً وتقسيطاً، لكن إذا علمت فيه ديناً وخلقاً.
(وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) أي: أحسنوا إلى هؤلاء الأرقاء وأعطوهم من مال الله.(3/20)
حرمة إكراه الإماء على الزنا عند إرادة التحصن وعدمه
يقول الله تعالى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} [النور:33] هذه نزلت في قوم من المشركين كان أحدهم يشتري جواري ويؤجرهن للزنا، نعوذ بالله، فالله تعالى قال: لا تفعلوا هذا العمل.
مع أنهم غير مؤمنين وغير مسلمين، لكن لأن فعلهم هذا هو من باب نشر الفاحشة في المجتمع.
قوله: (وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ) أي: الرقيقات.
(عَلَى الْبِغَاءِ) أي: على الزنا.
(إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) جملة (إن أردن تحصناً) قيد لا مفهوم له، حتى لو لم ترد التحصن لا يجوز له أن يفعل هذا العمل.
يقول الله تعالى: {لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [النور:33] أي أنكم تؤجرون الجواري للزنا من أجل المال، فهذا أمر محرم وعظيم عند الله عز وجل، وجملة (لتبتغوا عرض الحياة الدنيا) -أيضاً- قيد آخر لا مفهوم له، حتى لو لم يبتغوا عرض الحياة الدنيا فلا يجوز فعل ذلك.
يقول الله تعالى: {وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:33] أي: لو ألزمتها بهذه الفاحشة وهي تكره ذلك فإن الله يتجاوز عنها وأنت تتحمل الإثم يوم القيامة بين يدي الله عز وجل.(3/21)
الأسئلة(3/22)
حكم لبس النقاب ذي الفتحات الواسعة
السؤال
ظهرت في الآونة الأخيرة ظاهرة النقاب بكثرة، وصارت فتحة النقاب تكبر تدريجياً، ويحتج بذلك أنه من الشريعة، فما رأي الشرع في ذلك؟
الجواب
أجمع علماء المسلمين على أنه لا يجوز كشف الوجه إذا كانت الفتنة، والفتنة موجودة، لكن كشف المرأة عن عينيها وما حول العينين وتغطية بقية الوجه فأنا أعتقد أن النساء -خاصة غير الجميلات- لو كشفن الوجه لكان أسهل من أن كشف العينين؛ لأنه ربما يكون الوجه ليس فيه مظهر من مظاهر الجمال، وجميع عيون النساء فيهن هذا الجمال، ولذلك أنا أعتقد أن هذا النقاب لربما يكون أخطر من السفور في بعض الأحيان، وذلك حينما تكون المرأة غير جميلة، وعلى كل فإن العينين هما أجمل ما في الوجه، وإخراج أجمل ما في الوجه يعني إخراج الوجه كاملاً أو أشد من إخراج الوجه.(3/23)
حكم تعدد الزوجات
السؤال
معلوم أن الزواج من أعظم ما يعين على حفظ الفروج، سيما وأن النساء في مجتمعنا بكثرة، فأرجو توجيه كلمة إلى كل زوجة تعارض زوجها أن يعدد؟
الجواب
أنا أعتقد أن التعدد هو الأصل، وأن الإفراد هو الفرع بالنسبة للتعدد، ولربما يكون هذا الاعتقاد راجحاً في مثل هذه الأيام؛ لأننا نجد في هذه الأيام فيضاً في عدد النساء يزيد على عدد الرجال، بل إن الله سبحانه وتعالى الحكيم الخبير هو الذي أباح للرجل أن يتزوج أربع نساء؛ لأنه يعلم أن كل رجل يريد أن يتزوج أكثر من واحدة، ولأن الله تعالى يعلم أن النسبة سوف تصل إلى هذا الحد، بل ستصل إلى أكبر من ذلك، فقد جاء في الحديث: (أنه في آخر الزمان يكون لخمسين امرأة القيم الواحد يلذن به من قلة الرجال)، وليس معنى ذلك أن تكون له خمسون زوجة، لا، وإنما يعطف على خمسين امرأة ينفق عليهن، منهن الزوجة ومنهن غير الزوجة.
وعلى كل لا حاجة إلى الإحصائيات، فهذا أمر من أوامر الله عز وجل، والله تعالى لما ذكر الزواج قال: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء:3] فمعنى ذلك -حسب هذه الآية- أن التعدد أفضل، وهذا أولاً.
ثانياً: أن الإفراد يكون في حال الخوف، والقاعدة الشرعية أن كل شيء ينهى عنه في حال الخوف يكون فعله أفضل في حال عدم الخوف، ويكفي أن ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم هو التعدد، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يفعل إلا الأفضل، ويكفي أن الله تعالى جعل للرجل أن يميل بعض الميل إلى بعض الزوجات، وإن كان منع كل الميل؛ لقوله تعالى: {فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} [النساء:129] فكلمة (كُلَّ) تفيد أن بعض ذلك مباح، وهو ميل القلب، إذاً لماذا أبيح الميل والنساء بحاجة إلى العدل؟! لأن مصلحة التعدد ترجح مصلحة مضرة شيء من الميل.
وعلى كلٍ فإني أقول: هذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو عارض أحدنا وقال: أنا لا أؤمن بها نقول: أنت كافر مرتد.
ولو قال أحد: أنا لا أستسيغها نقول: إن كنت تعني لا تستسيغها ولا ترغب فيها فأنت حر، لكن لو قال: أنا أعارضها وأرفضها نقول: أنت مرتد عن دين الله عز وجل وكافر بالقرآن.
وإني أدعو المرأة الصالحة إلى أن لا تعرقل زوجها في هذا الأمر؛ لأنها حينما تعرقله لربما يلجأ إلى ما حرم الله، فتكون هي السبب في نظرات محرمة وفعلات محرمة، أسأل الله تعالى أن يوفق النساء حتى لا يثقلن على الرجال في هذا الجانب.(3/24)
قياس الخادمة والسائق بالرقيق وحكم خروج المرأة مع السائق مع أطفال صغار
السؤال
ألا يكون للسائق والخادمة والعاملين في البيوت نفس حكم الرقيق؟ وما حكم الركوب مع السائق الأجنبي داخل المدينة مع أطفال لم يبلغوا سن الرشد؟
الجواب
أولاً: القياس الأول فاسد؛ لأن الله تعالى ذكر في الرق حكماً شرعياً، أما غير الرق فإنه حرم ذلك، فلا يمكن أن نقيس محرماً على مباح أو على أمر مشروع، وهذا لم يقل به أحد من العلماء، ولا يصح أن يقال هذا؛ لأن هذه المرأة الخادمة التي تعمل في البيوت ليست رقيقة، وليس ذلك الرجل السائق الذي يعمل داخل البيت رقيقاً ولا محرماً، فلا يجوز أن يباع السائق والخادمة ولا أن يشتريا، ولا يجري عليهم غير ذلك من أحكام الرقيق.
فالأمر خطير، وفي الحديث: (لا يخلون رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما) وإني متأكد من أن أي بيت لابد من أن تكون فيه خلوة؛ لأن ربة البيت لا تبقى في البيت، ولأن أهل البيت ربما يخرجون ويبقى الولد، أو يبقى رب البيت، والشيطان يكون الثالث، والأمر يكون خطيراً، وكذلك العكس، فلو جاء بسائق وجعله داخل بيته وخرج هو وزوجته وبقي السائق وإحدى البنات أو إحدى الأخوات يصبح الأمر خطيراً.
أما أن تسير المرأة مع السائق ومعها محارم فهذا لا بأس به ما دام أنه ليس هناك سفر، فالمنهي عنه هو السفر أو الخلوة، فإذا كانت خلوة يكون الأمر محرماً، وإذا كان سفراً كان الأمر محرماً، ولكن لو كان الذي معهما أطفالاً صغاراً فأنا أعتقد أن الأطفال الصغار الذين لا يتصورون الموقف لا يصلحون للمحرمية، فلابد من أن يكون رجلاً بالغاً أو امرأة بالغة ثانية، فإذا كنّ أكثر من واحدة تزول الخلوة، أما إذا كان طفلاً صغيراً لا يعقل فلربما لا يستطيع أن يدافع عن هذه المرأة التي تكون مع هذا السائق.(3/25)
حكم من يقول بأن ترك القرآن واستبدال الغناء به يعتبر رقياً
السؤال
لقد قام التلفاز بمقابلة مع أحد المغنين المشهورين، ومن ضمن الأسئلة الموجهة لهذا المغني أن المذيع قال له بالحرف الواحد: كيف ارتقيت من مجرد قارئ للقرآن إلى فنان كبير صاحب شهرة عظيمة؟ فما حكم هذا القول؟
الجواب
الله المستعان! إذا كان ترك القرآن إلى الغناء يعتبر رقياً فماذا يكون الهبوط؟! هذا أمر خطير أن يقال مثل هذا الكلام، نسأل الله العافية والسلامة.
أقول: إن كان هذا السائل يعتقد ما يقول ويتصور معنى ما يقول فقد وقع في خطر، ويكون بذلك قد خرج من دائرة الإسلام، ولكن لعله لا يتصور معنى ما يقول، وإنما هي أساليب يمارسها دون أن يتصور معناها.
وعلى كل فإني أرجو أن لا نسأل عن التلفاز ولا عن غيره من هذه الوسائل؛ لأن هذه الوسائل أصبحت الآن موضع إشكال لدى الناس، وموضع التباس في الأمر.
والأمر خطير ولا أطالب بأكثر من أن يقف كل واحد على باب داره حتى لا تتسرب هذه الأفلام أياً كان مصدرها، سواء أكان التلفاز أم (الفيديو) أم أي وسيلة من الوسائل الأخرى، فأنت أمير ومسئول عن البيت، والله تعالى سوف يسألك عن الذرية وعن الأمانة، والله تعالى يقول: {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6].(3/26)
تحذير الآباء مما يعرض في التلفاز للأطفال
السؤال
كذلك نود من فضيلتكم تحذير الآباء وأولياء الأمور مما يعرض في التلفاز من أفلام الكرتون التي من ضمنها أن يقال في بداية ما يعرض للأطفال: (نسير نسير لا ندري إلى أين المصير)، وأرجو من فضيلتكم إيضاح هذا الموضوع الذي انتشر في كثير من البيوت، وادعى الأولياء أنهم لا يستطيعون تخليص بيوتهم من ذلك، والله عز وجل يقول: {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:6]؟!
الجواب
أما أفلام الكرتون فأنا لا أدري ما يعرض فيها، فإن كان فيها: (نسير نسير لا ندري إلى أين المصير)، فمعنى ذلك أنهم يشككون أبناء المسلمين في الحكمة من خلق هذا الكون، وخلق هذه الأمة، وخلق هذا العالم، ونحن نؤمن بأنا خلقنا للعبادة، وأنا نسير إلى الدار الآخرة، وأن أمامنا حياة غير هذه الحياة التي نعيشها الآن.
وإذا وجد مثل هذا في بيوت المسلمين وأمام أطفال المسلمين فالأمر خطير، نسأل الله العافية والسلامة، أما بالنسبة لهذه الأشياء عموماً فأنا أقول: كل امرئ راع ومسئول عن رعيته، فالله الله أن يخون هذه الأمانة وهذه الرعاية، فإن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27].(3/27)
حكم النظر إلى الشاب الأمرد
السؤال
ربما ينزعج ويستثقل ويستعظم كثير من الناس النظر إلى النساء، ولكنهم يبيحون لأنفسهم ويستهينون بالنظر إلى المردان من الرجال، فيدخل عليهم الشيطان من كونه نظر رجل لرجل خالياً من الشهوة، وهل آية الأمر بغض البصر عن النساء دليل على النهي عن هذا الأمر، سيما ونحن نرى تلك الفاحشة التي بدايتها النظر قد انتشرت؟
الجواب
يقول الفقهاء: كما أنه لا يجوز النظر إلى المرأة فإنه لا يجوز النظر إلى الشاب الأمرد الذي فيه وضاءة وفيه جمال في وجهه وهذا قد يحدث فتنة، لكن لا يدخل هذا في البحث الذي نبحثه بالنسبة للآية، والأصل هو غض البصر عن كل ما يثير الشهوة، سواء أكان نظراً إلى امرأة أم إلى رجل، والمسلم بطبيعته يدرك الخطر في هذا وهذا، فالمهم أن نغض البصر عن كل ما حرم الله، وعن كل ما قد يحدث فتنة في نفوس الناس.(3/28)
توجيه حديث: (عفوا تعف نساؤكم)
السؤال
إذا كان لأحد من الناس علاقة محرمة مع إحدى النساء، فهل يقتضي ذلك أن تقع إحدى محارمه في مثل هذه العلاقة حتى لو تاب من هذه الأفعال أو كان البيت بيتاً صالحاً؟
الجواب
ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثان في هذا الباب، وليس معنى ذلك أنه يلزم إذا كان له علاقة محرمة بامرأة أن يكون لإحدى محارمه علاقة محرمة، معاذ الله أن نقول هذا، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا بأن مثل هذه الأفعال قد تعرض أهله لهذه المشكلة، أما القاعدة الأصلية فإن الله تعالى يقول: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]، لكن لربما يكون هذا الرجل الذي وقع فيما حرم الله لديه غيرة شديدة على محارمه لا يريد أن يقعوا فيما حرم الله، فيعاقب من هذا الجانب، وقد يحدث هذا بأن يحصل فساد في بيته بمقدار ما يحدثه من الفساد في بيوت الناس، والمهم أن الذي يفعل هذه الأمور يخاطر بأهل بيته، فنقول له: اتق الله حتى لا تعرض بيتك لمثل هذه الفتنة، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: (عفوا تعف نساؤكم) فالمرأة التي لا يعف زوجها أو لا يعف أخوها أو لا يعف أبوها هي معرضة في يوم من الأيام بأن تصاب بشيء من ذلك عقوبة لهم.(3/29)
حكم الخروج من البيت الذي فيه خادمة غير متحجبة
السؤال
هناك من يوجد في بيته خادمة، وأينما ذهب -تقريباً- يجدها أمامه، وأهله يمنعونه من أن يأمرها بالحجاب أو المكث في المطبخ وما شابه ذلك، وإذا كان مرغماً على مثل هذا الأمر هل يغادر البيت ويتركه على أنقاضه؟ أم ماذا يفعل؟
الجواب
كثيراً ما ترد الأسئلة في هذا الموضوع من شباب متدينين -والحمد لله- يكونون عند آبائهم أو إخوانهم الكبار فيفرضون عليهم هذه الأمور، ويعرضونهم لهذه الفتنة، فالشاب تجده خائفاً على نفسه، فنقول: عليك أن تبذل جهدك في أن تنظف هذا البيت مما حرم الله، وأن تنصح أباك أو أخاك الأكبر أن يتقي الله عز وجل، وأن يحفظ هذه الأمانة، فإذا عجزت فعليك أن تغض بصرك وأن تبتعد عن مواطن الفتن، ولو قدر لك أن تنعزل في بيت آخر بعيداً عن هذه الفتنة فذلك أولى.(3/30)
الحكمة من إباحة تزوج الرجل بأربع والمرأة بواحد
السؤال
كيف نرد على من قال: إن الرجل أبيح له أربع زوجات ليقضي طاقته الجنسية، والمرأة لم يسمح لها إلا بزوج واحد، فكيف تقضي المرأة التي عندها طاقة جنسية حاجتها؟
الجواب
ليس الهدف هو إشباع الغريزة وإن كان ذلك مقصوداً؛ لأن أكبر الأهداف من ذلك هو الإنجاب، والقاعدة معروفة أن الرجل تكون له أربع زوجات يستطيع أن ينجب أربعة أولاد في السنة أو في السنتين بإذن الله، لكن امرأة لو قدر أنها تأخذ أكثر من زوج فهل يمكن أن تنجب أكثر من واحد؟! ولمن يكون هذا الولد؟! فالمسألة بعيدة عن المعقول، والله سبحانه وتعالى حكيم حيث أباح للرجل أكثر من زوجة ولم يبح للمرأة أكثر من زوج، فهذه حكمة الله سبحانه وتعالى ولا يجوز الاعتراض عليها؛ لأن الله تعالى لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.(3/31)
حكم لبس المرأة للبنطال أو الملابس الضيقة والمفتوحة أمام النساء
السؤال
لبس البنطال للمرأة أمام النساء، وكذلك لبس الملابس الضيقة المفتوحة إلى الركبة، وظهور الذراعين وكذلك جزء من الصدر والظهر هل هذا يجوز إذا كان أمام النساء؟
الجواب
إن المرأة المسلمة يجوز لها أن تبرز شيئاً مما جرت العادة بإبرازه، فإذا كانت جرت العادة بإبراز هذه الأشياء ولا تثير النساء ولا تحرك فيهن الغرائز فذلك ربما يجوز ويغتفر أمام النساء المسلمات، والبعد عن ذلك أفضل.
أما لبس البنطال الضيق أو المشقوق وما أشبه ذلك أمام المحارم -خاصة الأخ أو الأخ من الرضاعة- فهذا غير مستساغ وغير صحيح؛ لأنه لم تجر العادة بلبسه أمام الإخوة.
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(3/32)
استجيبوا لله وللرسول
لقد أمرنا الله سبحانه وتعالى بالاستجابة لله والرسول في جميع الأوامر والنواهي، فإن في ذلك حياة القلوب، وراحة النفوس، وسعادة الفرد والمجتمع، فإن أعرضنا عن ذلك فإن الله قد تهددنا بفتنة القلوب، وتغير الأحوال، والحيلولة بيننا وبين الهدى والسعادة، فعلى المسلم أن يستجيب في السراء والضراء، وأن يستلهم من الله التوفيق والسداد.(4/1)
حقيقة الاستجابة في آية: (استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم إلخ)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: يقول الله تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ * وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [الأنفال:23 - 31].
هذه هي الحلقة الثالثة من سورة الأنفال، سورة القتال التي تبين للمسلمين كيف يتعاملون مع الله في ساعة القتال، وما هو الطريق الأمثل والأنجح لكسب المعركة، وبدون هذا الطريق لا يفلح القوم أبداً، وأي مسلك يسلكونه لا يخضع لهذا النظام العظيم في هذا الكتاب الذي أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير فإنه نظام فاسد فاشل، نهايته البوار والدمار.
يقول الله عز وجل في هذه الآيات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:24 - 25] إلى آخر الآيات، كان الحديث عن شر الدواب، فالآية التي قبل هذه الآيات تقول: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:22 - 23]، وقلنا: إن الدابة هي كل ما يدب على وجه الأرض، ابتداءً من الإنسان الذي هو أكرم مخلوقات الله، إلى أخس وأخبث حشرة موجودة في هذا الكون، فشر هذه المخلوقات كلها الإنسان الكافر نعوذ بالله، فإذا كان الإنسان المؤمن هو أفضل خلق الله فإن الكافر هو شر خلق الله، وما الفرق بين شر خلق الله وأفضل خلق الله! ليس هناك فرق بينهما إلا الإيمان بالله عز وجل ومعرفته، والكفر به سبحانه وتعالى.(4/2)
الإسلام يحقق الحياة السعيدة
ثم يبين الله بعد ذلك أن هناك وسيلة للحياة يجب على الناس أن يبحثوا عنها في هذا الدين، فهذا الدين ليس كما يظنه بعض الملاحدة والعلمانيين؛ الذين يعتبرون أن الدين قد استنفذ أغراضه، وأنه أصبح لا يصلح للحياة.
فلا تصلح الحياة إلا في ظل هذا الدين، وبالأخذ بهذا الدين، والتخلف عن هذا الدين هو الرجعية والتخلف في الحقيقة، كما قال الله عز وجل في مكان آخر: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} [المدثر:37]، وإذا كانوا يعتقدون أن التقدم في منهجهم فنحن لا نشك بأن التقدم بالأخذ بالمنهج الذي جاء من عند الله سبحانه وتعالى، ولذلك أخبر الله تعالى بأن هذا الدين هو حياة الشعوب والدول، حياة الأفراد حياة الجماعة حياة المرأة حياة الرجل حياة الجميع بالأخذ بهذا الدين.(4/3)
الجهاد حياة الأمة المحمدية
ومن أعظم أسس هذا الدين الجهاد في سبيل الله، ففيه الحياة، عجيب أن يكون الجهاد الذي تقتل فيه النفوس وتراق فيه الدماء هو الحياة! نعم هو الحياة، كما قال الله تعالى عن القصاص: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة:179]، وهنا يقول عن الجهاد في سبيل الله: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24]، فبالرغم من أنه قتل لكنه حياة، وبالرغم من أنه إراقة للدماء فإنه حقن للدماء، وبالرغم من أنه إزهاق للنفوس؛ لكنه إحياء للنفوس.
ولذلك يا أخي! إذا أردت أن تبحث عن هذا الخبر من الواقع فانظر إلى الأمم الحية التي بدأت بالجهاد، وإن لم يكن لها مبدأ نظيف طاهر طيب وهدف؛ لكن بمقدار ما قدمت من النفوس تقدمت هذه الأمة، خصوصاً العالم الذي خاض الحربين العالميتين، فخسر عشرات الملايين من البشر كما في الحرب العالمية الثانية، فهو يبحث عن الأمن لكنه لم يحصل على الأمن الذي يقدمه الإسلام لهؤلاء الناس.
فإذا كانت هذه الأمم التي ليس لها هدف الحياة الآخرة، فالأمم التي تسعى للحياة الآخرة هي أول من يجب أن يعلن الجهاد في سبيل الله، ولذلك قلت لكم يا إخوان: إن آخر مرحلة استقر عليها الإسلام: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39]، وجميع الأحداث التي تعصف بالعالم الإسلامي اليوم إنما سببها إهمال الجهاد في سبيل الله، ولذلك قبل أن يفرض الجهاد كان سلفنا الصالح رضي الله عنهم يتمنون الجهاد، وكان الله تعالى يقول: {كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [النساء:77]، إلى أن أذن لهم فقال: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39].
إذاً: الحياة هنا المراد بها السعادة، المراد بها البقاء، المراد بها العزة والكرامة، ولا تكون إلا بالجهاد في سبيل الله، فحينما وصف الله عز وجل لنا معركة بدر الكبرى بين أن الجهاد وإن كان صعباً على النفوس، لكنه في الحقيقة هو حياة الأمم، قال تعالى: (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)، دعاكم للجهاد، فالأمم لا تحيا إلا بالجهاد، ولذلك تعتبر موقعة بدر الكبرى هي القاعدة المتينة لإقامة الدولة الإسلامية في المدينة، بل في العالم، بل في الدنيا كلها إلى يوم القيامة، لماذا؟ لأن الله تعالى شرع الجهاد من أجل أن تحيا الأمم، واليوم يتسلط الكافرون والطغاة والمتجبرون على المسلمين، لأن المسلمين أهملوا الجهاد في سبيل الله الذي هو ذروة الإسلام كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وهنا يقول الله سبحانه وتعالى: (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)، فالجهاد قتل وفيه حياة؛ لأن هذا القتل يثبت مكانة هذه الأمة في هذه الأرض؛ لأن الجهاد هو الذي يقرر مصير أمة من الأمم، إذاً هو يحيي في الحقيقة وليس يميت.(4/4)
اتباع أوامر الله ورسوله سعادة البشرية
(اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)، وفي هذه الآية يستدل على أن أي أمر من أوامر الله وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم هو سعادة البشرية، وإذا تخلفت الأمة وتركت أمراً من أوامر الله فإن هذه الأمة قد سقطت من عين الله.(4/5)
وجوب تقديم طاعة الله ورسوله على طاعة المخلوقين
وتدل الآية: على وجوب تقديم طاعة الله وطاعة رسوله على طاعة أي مخلوق من المخلوقين، وعلى الهوى والشهوة والرغبات الخاصة والعامة؛ لأن الله تعالى قال: (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ).
وقد فسر هذه الآية رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حينما دعا رجلاً من المسلمين، وكان الرجل يصلي فانشغل بصلاته، فلما انتهى جاء واعتذر بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لرسول الله: كنت أصلي، قال: أما سمعت قول الله تعالى: (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)) فهذا دليل على أنه لا يجوز أن تقدم طاعة مخلوق كائناً من كان على طاعة الله عز وجل وطاعة رسوله.(4/6)
قلب الإنسان بيد الله يقلبه كيف يشاء
ويبين الله تعالى بعد ذلك أن القلوب بيد الله، وأن الإنسان لا يدري مصيره وخاتمته، ولا يدري هل يستطيع أن يحقق آماله وأهدافه في هذه الحياة أم لا يستطيع؟! هل يطول به العمر أو لا يطول؟! الله تعالى يبين أن هذا الإنسان عليه أن يبادر، لأن الله تعالى يقول: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال:24].
ما معنى (يحول بين المرء وقلبه)؟ أي: قد تكون هناك آمال طوال عراض لهذا الإنسان، لكن الله سبحانه وتعالى يقطع هذه الآمال على هذا الإنسان، فلا يحقق شيئاً منها، لأن الأجل قد قرب.
أمر آخر تشير إليه هذه الآية في قوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ)، وهو أن القلوب بيد الله عز وجل، وهذا الإنسان عليه أن يبحث ويسعى إلى حسن الخاتمة، فقد يعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، نعوذ بالله من سوء الخاتمة، وقد يعمل بعمل أهل النار حسب ما يظهر للناس، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة؛ فيدخلها، والله تعالى يقول: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ)، فالإنسان يخضع لإرادة الله عز وجل ولما قدر له.(4/7)
قوله تعالى: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) وما تحمله من معاني
ثم يقول الله عز وجل مبيناً أن ترك الجهاد في سبيل الله، وأن الانحراف عن منهج الله في مجموعة من الناس لا يعني أنه يعرض هذه المجموعة وحدها للفتنة والبلاء، ولكنه يعرض العالم كله للدمار، قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25].
الفتنة تفسر دائماً وأبداً بالكفر والانحراف عن الدين، وإن كانت تأتي في بعض الأحيان للفوضى والاضطرابات، لكن إذا أطلقت الفتنة فالأصل فيها الكفر أو الردة عن الإسلام، كما قال الله تعالى هنا: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً)، وتشير هذه الآية إلى معنيين عظيمين يغفل عنهما الناس:(4/8)
العقوبة تعم ولا تخص
المعنى الأول: أن العقوبة على المعصية إذا حلت بالأمة فإنها تصيب الناس أجمعين: (واتقوا فتنة) يفعلها بعض الناس، (لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) أي: تصيب جميع الناس، هذه لها أدلة وشواهد كثيرة من القرآن والسنة، من هذه الشواهد قصة بني إسرائيل في قصة السبت في آخر سورة الأعراف قال تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ} [الأعراف:163]، فالقصة أن بني إسرائيل منهم من فعل أمراً عظيماً، فحرم الله عليه الصيد في يوم السبت، واستعمل الحيلة كما يستعمل كثير من الناس الحيل في أيامنا الحاضرة على أخذ الأموال، فصاروا يضعون الشباك في يوم الجمعة، ويخرجونها في يوم الأحد، يقولون: نحن لا نصطاد في يوم السبت، ويتحيلون على أمر الله، فانقسم بنو إسرائيل إلى ثلاثة أقسام: قسم فعل هذه المعصية الكبيرة، وقسم نهى عن هذه المعصية، وقسم لام من نهى وقال: لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً؟! النتيجة يقول الله تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ} [الأعراف:165]، إذاً: إنما ينجو من العذاب الذين ينهون عن السوء.
والرسول صلى الله عليه وسلم صور الحياة بسفينة، فبعض الناس في أعلاها وبعضهم في أسفلها، وهم المطيعون والعصاة، ففكر العصاة في خرق السفينة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا وهلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً).
إذاً معنى ذلك: العقوبة إذا نزلت من عند الله فإنها تأخذ بالصالح والطالح، ولا يتخلص منها إلا الذين ينهون عن السوء، كما قال الله عز وجل: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} [هود:116].
ويقول الله عز وجل مبيناً أن العقوبة تنزل بسبب مجموعة صغيرة فتعم الجميع: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً} [الإسراء:16]، أي: أمة في قرية، {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} [الإسراء:16]، وفي قراءة سبعية: {أمَّرنا مُتْرَفِيهَا} [الإسراء:16]، أي: جعلنا السلطة بيد المترفين الفسقة، {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} [الإسراء:16]، ما هي النتيجة؟ {فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء:16]، القرية كلها دمرها الله تعالى تدميراً، مع أن الذين فسقوا هم المترفون، وقد يكونون هم أمراء هذه القرية.
إذاً: معنى ذلك أن العقوبة تعم الجميع، وهذا هو المقصود بقوله تعالى: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً).
إذاً: العقوبة لا تخص العصاة وحدهم، وإنما تعم العصاة ومن يسكت على معصية الله، أما الذين ينهون عن السوء فإن الله تعالى يخلصهم بأي حال من الأحوال، ولو أن يقبض أرواحهم قبل أن تأتي هذه العقوبة.
هذه مسألة يجب أن نفهمها في وقتٍ ضعف فيه جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فنجد أن كثيراً من الناس قد أغمض عينيه عن المنكرات، وخاف من البشر، وجامل في دين الله، ودس رأسه بالرمل كما تدس النعامة رأسها في الرمل، ورأى المناكر قد أعلنت أنفسها في وضح النهار، وسكت جبناً، أو طمعاً، أو لأي سبب من الأسباب، فهذه أمور خطيرة يجب أن نفهمها.
إذا كان الناس يريدون أن يسلموا من عذاب الله، فلا بد من إنكار المنكر بأي حال من الأحوال، وأقصد المنكر الذي يعلن، وهو الذي يرى بالعين، ويسمع بالأذن، ويدرك بالحواس، أما إذا كان المنكر قد خفي فالله سبحانه وتعالى يعفينا من أمره حتى ينتشر، وإن كنا مطالبين بأن نتتبع خلايا المنكر بالطريقة المشروعة.(4/9)
العقوبة أنواع وأعظمها الانحراف عن الدين
يعرف الناس أشد الغفلة، وهي: يظن الناس أن العقوبة تكون عقوبة حسية: زلازل براكين تتفتح في الأرض صواعق تنزل من السماء رياحاً وعواصف جدباً، فتناً وحروباً داخلية بين الناس، اضطرابات، وهذه كلها أنواع من العقوبة، لكن هناك نوع من العقوبة لا يعرفه كثير من الناس وهو ما أشار الله عز وجل إليه بقوله: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً)، قد يكون الناس في نعيم ورغد من العيش، ورخاء وطمأنينة، وتفجر لهم الخيرات من وراء آلاف الأقدام في جوف الأرض، ويعيشون في قصور مترفة، لكن الفتنة موجودة، وهي الانحراف عن الدين.
فالانحراف عن الدين عقوبة، يقول الله تعالى: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً)، إذاً: احذروا أن تصيبكم هذه العقوبة التي تختلف عن العقوبات التي أصابت الأمم السابقة، فالذي أهلك أمماً بالغرق، وأهلك أمماً بالصاعقة، وأهلك أمماً بالريح وأهلك وأهلك، قد يهلككم بالفتنة، وهي الانحراف عن الدين، وهذا هو الشيء الذي لا يدركه كثير من الناس؛ لأن العقوبة لو نزلت على أساس أمر مادي يهلك الأجسام كما نزل على الأمم السابقة لكانت الأمم تدرك مقدار هذه العقوبة، لكن تجد أمة يعطيها الله من الخيرات والنعيم، وهي تبتعد عن الله بمقدار ما يأتيها من النعيم، فهذه قد أصيبت بعقوبة ليس لها نظير من العقوبات في الأمم السابقة، وهي التي أشار الله عز وجل إليها بقوله: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً).
وهي التي أشار الله عز وجل إليها بقوله: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5]، وهي التي أشار الله تعالى إليها بقوله: {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79]، أي: العقوبة، فالمعصية تجر معصية وراءها، وتكون الثانية عقوبة على الأولى، وكل معصية تجر وراءها معصية أكبر منها إلى أن يمرق هذا الإنسان من دين الله تعالى، فلا يبقى عنده أي شيء من دين الله.
فهذا هو معنى قوله تعالى: (واتقوا فتنة)، وهو الذي أشار الله تعالى إليه بقوله في آخر سورة النور: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63]، لماذا أتى بـ (أو)؟ لأن العذاب الأليم غير الفتنة، فإن العذاب الأليم يصيب الجسد، والفتنة تصيب القلب والروح والمعنى، والأولى المذكورة في الآية أخطر من الثانية، لأن عقوبة الجسد تنتهي في هذا الإنسان بأجله الذي كتبه الله تعالى عليه، ولربما يتجاوز الله عنه، لكن حينما يصاب بالكفر والانحراف عن الدين، فهذه فتنة لا تساويها فتنة أخرى.
ولذلك أقول: إنني ألاحظ في عالمنا اليوم، وفي دنيا الناس اليوم: أن كثيراً منهم أصيب بهذا النوع من هذا العذاب، وبهذه الفتنة العمياء، فأصبحنا نشاهد كثيراً من الذين انحرفوا عن دين الله يصابون في عقيدتهم وفي دينهم حتى خرجوا عن الإسلام دون أن يجدوا رادعاً، بل منهم من أعلن عن كفره وردته، ومنهم من غطى كفره وردته بغطاء شفاف يشف عما تحته، وبعضهم يتكتم كما يتكتم المنافقون قال تعالى: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة:52].
إذاً: معنى قوله تعالى: (واتقوا)، أي: احذروا، (فتنة)، أي: عقوبة ليست كالعقوبات السابقة التي أصابت قوم نوح وعاد وثمود وأصحاب الأيكة، لكنها فتنة من نوع آخر تصيب القلب والروح، ويصعب على هذا الإنسان أن يحدد مقدار هذه الفتنة، وموقعها من القلب.(4/10)
فتنة الانحراف ليست خاصة بالعصاة
هذه الفتنة ليست خاصة بالعصاة، فقد يعاقب الله المطيع بالفتنة، وهذا نشاهده في عالمنا اليوم، فلربما نجد ذلك الرجل الصالح الذي كان باستطاعته أن ينكر المنكر، وأن يقول للناس: اتقوا الله، ثم إذا به هو يصاب بنفسه، ولم تصب الفتنة الذي ظلم خاصة، بل أصابت مع الظالم غيره أيضاً، وهذه الفتنة هي أقسى أنواع العقوبات.
ثم قال الله تعالى بعد ذلك: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:25]، فمعنى ذلك: أن عقوبة الأجساد تعتبر عقوبة، لكن أشد من عقوبة الأجساد أن يفتن هذا الإنسان في دينه، فيلتبس عليه الأمر، فلا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، ويختلط المنكر بمخه ولحمه وعظمه ودمه، فلا يستطيع أن يميز، وحينئذ هو يقترف ما يقترف من معصية الله، وهو ما أشار الله عز وجل إليه في قوله في مراحل اقتراف المعصية: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} [الأنعام:113]، وهذه المرحلة الأولى، (وَلِيَرْضَوْهُ} [الأنعام:113]، حينما تطمئن إليه القلوب، {وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام:113].
وإذا رضي الناس المنكر فإنهم يقترفون بعد ذلك ما هم مقترفون، لكن ما دام الناس يشعرون بأن هذا منكر، وأن اقترافه إثم؛ فهم في خير، ولكنهم يفقدون هذا الخير حينما تطول مدة هذا المنكر، فلا يستطيعون إنكاره في يوم من الأيام، لأنه أصبح أمراً مألوفاً، ويصلون إلى المرحلة الخطيرة من آخر مراحل الحياة الدنيا: وهي أن يصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً، كما أشار إلى ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم، ولذلك لا تعجبوا حينما قال الله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:25]، يعني: هذه أعظم أنواع العقوبات التي تصيب الناس في دينهم.(4/11)
تذكير الله لهذه الأمة بالنعمة ووجوب شكرها
ثم يذكر الله عز وجل المسلمين الأولين ويذكرنا نحن ويذكر كل أمة مرت بها فترتان: فترة خوف وذعر، ثم أبدل الله خوفها أمناً وطمأنينة.
وإذا كانت هذه الآية تتكلم عن أمة فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالله تعالى يقول لأمة المسلمين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويذكرهم بحالهم يوم كانوا في مكة، وكانوا مستضعفين في الأرض، فكانت لهم دولة بعد معركة بدر: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ} [الأنفال:26]، والمراد بالأرض أرض مكة، ومعنى: (تخافون أن يتخطفكم الناس) يعني: أن يصيبوكم ويأخذوكم بسرعة، فالخطف معناه: الأخذ بسرعة، ما الذي حصل؟ {فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [الأنفال:26].
هذه الآية تتحدث عن أمة، لكنها والله تتحدث عنا نحن أيضاً، فقد كنا مستضعفين في الأرض، كنا أمة فقيرة، كنا أمة لا وزن لها في تاريخ العالم، كنا أمة خائفة، كنا أمة لا نملك شيئاً من متاع الحياة الدنيا، فأمننا الله عز وجل، وأبدل خوفنا أمناً، وفجر لنا خيرات الأرض من وراء آلاف الأقدام، فأصبح فقيرنا ملكاً من ملوك الدنيا في ثروته، وأقول هذا لأني رأيت بعيني هاتين رئيس دولة هي أكبر دولة إسلامية، رأيت بيته أقل من بيت أي واحد من عامة الناس في بلادنا هذه، فقلت: سبحان الله: (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ).
لكن يا أخي! لا ننسى أن الله تعالى ذكر ثلاث فترات أخاف أنها كلها مرت بنا في حياتنا القصيرة، ثلاث فترات: فترة فقر ومسغبة عشناها منذ سنوات ليست بالبعيدة، وخوف وذعر، فأبدل الله خوفنا أمناً، وفقرنا غنى.
فأصبحنا -كما تشاهدون في أيامنا الحاضرة- كأننا نعيش في قصور ملوك، وفي حياة ملوك! ثم بعد ذلك أرى أن هناك شيئاً بدأ يحدث في أيامنا الحاضرة، ما هو السر في ذلك؟ السر في ذلك أن الله تعالى يمتحن الناس بالفقر والمصائب، والخوف والذعر في المرحلة الأولى.
ثم إذا لم تؤدب الأولى الناس يبدل الله تعالى السيئة حسنة، فيبدل الخوف أمناً، والفقر رزقاً.
فإذا لم تنفع الثانية فإن الله تعالى يسلب هذه النعمة دفعة واحدة من هؤلاء الناس، ويكون العذاب، نعوذ بالله من عذاب الله وأليم عقابه! اسمعوا إلى هذا المعنى في قول الله تعالى في سورة الأعراف: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} [الأعراف:94]، البأساء هي الحروب، والضراء: الأمراض والفقر {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ} [الأعراف:95]، ما معنى بدلنا مكان السيئة الحسنة؟ أبدلنا الضراء صحة وعافية، وثراءً ونعمة ورخاءً، والبأساء بدلها الله تعالى أمناً وطمأنينة؛ لأن البأساء معناها الحروب والفتن، فهذه مرت بنا يا إخوة! بدل الله السيئة حسنة.
قال: {حَتَّى عَفَوا} [الأعراف:95]، زاد العدد، وزادت الأموال، وزادت الخيرات، إذا قيل لأحد الناس: اتق الله يا أخي! فهذه النعمة بيدك لها ضد! ماذا يقول كثير من الناس؟ يقول: ضدها عاشها أبي وجدي، اسمعوا ماذا يقول الله تعالى: {وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ} [الأعراف:95]، ما هي النتيجة؟ {فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [الأعراف:95]، يا إخواني! يجب أن نخاف من عذاب الله سبحانه وتعالى، وأن نعرف أن لكل شيء ضداً، وأن هذه النعمة التي بأيدينا لا بد أن نرعاها ونشكر الله سبحانه وتعالى، ونقول للناس: اتقوا الله، ونقول لأصحاب السلطة: اتقوا الله، ونقول لهم: {لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} [غافر:29].
وهنا يقول الله تعالى عن هذا الأمر: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال:26]، يعني: مجيء هذه النعم من أجل أن تشكروا الله سبحانه وتعالى، لا من أجل أن يبطر هذا الإنسان ويكفر هذه النعمة، ويستعملها في معصية الله وفيما حرم الله، هذا ليس منهج المسلم، فمنهج المسلم أنه كلما زادت النعمة بيده قال: الحمد لله رب العالمين.(4/12)
مصلحة عامة المسلمين مقدمة على المصلحة الخاصة
ثم يقول الله تعالى بعد ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27].
الخيانة قد تكون قليلة حسب رأي العين، لكنها في ميزان الله عز وجل وفي حكم الله عظيمة، لأن أي خيانة في الإسلام غير مقبولة، فإشارة بالعين وحركة بسيطة قد تضر بالأمة الإسلامية، وتعتبر خيانة.
إذاً: فما رأيك يا أخي! في الذين يخططون للإطاحة بالأمة الإسلامية؟! ما رأيك بالذين يربكون الدولة حتى في هذه الفترة العصيبة، يريدون أن ترتبك الدولة وهي تحارب عدواً من الخارج، كما عمل المنافقون واليهود يوم الأحزاب بالرسول صلى الله عليه وسلم من الداخل؟ خيانة بسيطة حسب رأي العين اعتبرها الله تعالى خيانة.(4/13)
سبب نزول آية: (لا تخونوا الله والرسول)
والآية لها سبب: لما أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم أبا لبابة رضي الله عنه إلى بني قريظة يخبرهم بأنه سوف يقدم إلى ديارهم ويقاتلهم، كان عند الرسول صلى الله عليه وسلم سر لا يريد أن ينكشف هذا السر، وهو أنه يريد أن يقطع رءوس القوم لأنهم خانوا الرسول صلى الله عليه وسلم في وقت يجب أن يعان فيه، فأشار أبو لبابة بيده إلى رقبته فقط وهو يكلم بني قريظة، كأنه يقول لبني قريظة: إنه سوف يقطع رقابكم، لكن الله تعالى يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فأنزل هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27].
ولما سأل الرسول صلى الله عليه وسلم أبا لبابة قال: يا رسول الله! أنا رجل ضعيف في هؤلاء القوم، وأخاف على أولادي، فالله تعالى يذكر أن الأولاد لا وزن لهم في ميزان الإسلام، فالإنسان يضحي بنفسه وولده وبأي شيء في سبيل دينه، ولذلك الله تعالى قال: {لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:27 - 28]، وقد كان أبو لبابة من خيار الصحابة، لكنه فعل ذلك خطأ من أجل أن يثبت له قيمة عند بني قريظة، فالله تعالى اعتبرها خيانة، وإذا كان الأولاد يدفعون الإنسان إلى خيانة في دينه وأمته؛ فإن هذه هي المصيبة وهذا هو البلاء، ولذلك قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ).(4/14)
لا تجوز خيانة الدين لأجل المال والولد
فالإنسان إذا اؤتمن على شيء فعليه أن يؤدي هذه الأمانة حتى يسلمها لصاحبها، فإذا ائتمنته الدولة على أمر من أمور المسلمين فعليه أن يؤدي هذه الأمانة ما لم تكن هذه الأمانة تضر بمسلم من المسلمين، وتخالف أمراً من أوامر الله عز وجل، فإن الأصل هو أداء هذه الأمانة، وخيانة هذه الأمانة عظيمة عند الله عز وجل، ولو كانت حسب رأي العين أمراً صغيراً، وإذا كان الإنسان يخاف على نفسه أو ماله أو ولده فيخون هذه الخيانة فإنها خيانة لا تغتفر إلا أن يتوب هذا الإنسان إلى ربه سبحانه وتعالى، ولذلك الله تعالى يقول: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ)، كما أشار أبو لبابة إلى أن له أولاداً في بني قريظة يريد أن يحافظ عليهم حينما أشار إلى رقبته، الله تعالى: هذه هي الفتنة وهذا هو البلاء، أن يكون للإنسان ولد، فيضيع دينه من أجل هذا الولد، كما يضيع كثير من الناس اليوم دين ولده بسوء التربية، وعدم إلزام هذا الولد وهذه الذرية بأوامر الله سبحانه وتعالى.
(وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ): ابتلاء واختبار من الله سبحانه وتعالى.
(وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ): خير من المال والولد، أنت قد تدافع عن ولدك فتضر بالمسلمين، والله تعالى عنده لك خير من هذا الولد، أنت قد تضر بالمسلمين من أجل أن تحتفظ بمالك، أو أن تدافع عن مالك، أو أن تكسب مالاً في سبيل الإضرار بالأمة الإسلامية، فالله تعالى عنده خير من هذا المال الذي تدافع عنه، والذي من أجله تضحي بدينك، وهذا هو معنى قوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ).(4/15)
الكلام على آية: (إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً)(4/16)
التقوى شرط في تمييز الحق من الباطل
قد يلتبس الأمر على بعض الناس فلا يستطيع أن يميز بين الحق والباطل، فيظن أن الأمر حق وهو باطل، أو أنه باطل وهو حق.
على من يلتبس الأمر على المنحرف عن دين الله تعالى، أما التقي المؤمن فإنه يستطيع أن يفرق بين الحق والباطل بسبب التقوى، وبسبب امتثال أمر الله سبحانه وتعالى، ولذلك يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ} [الأنفال:29]، أي: تلتزموا أمر الله، وتجتنبوا نهي الله، {يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال:29]، أي: يجعل لكم علماً تفرقون به بين الحق والباطل، إذاً: إنما يلتبس على غير المتقين، أما المتقون فإن الله تعالى قد أعطاهم نوراً يستطيعون أن يفرقوا به بين الحق والباطل.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال:29]، أي: أمراً تميزون به بين الحق والباطل، ولذلك لا يضل الطريق إلا من خالف أمر الله سبحانه وتعالى، ولا يلتبس الحق بالباطل إلا على غير المتقين، أما المتقون فإن الله تعالى يجعل لهم فرقاناً، والفرقان على هذا المعنى: هو ما يفرقون به بين الحق والباطل.(4/17)
التقوى شرط لنزول النصر من الله
معنى آخر لهذه الآية: قال بعض المفسرين: المراد بالفرقان النصر، فالنصر لا يكون إلا للمؤمنين، فمعنى (فرقاناً) أي: كيوم الفرقان الذي أشار الله عز وجل إليه بقوله: {يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} [الأنفال:41]، أي أن الله سبحانه وتعالى يجعل لكم يوماً كيوم بدر، لكن بشرط أن تتقوا الله سبحانه وتعالى، فيمكن أن تنزل الملائكة لو أن المسلمين صدقوا مع الله كما نزلت يوم بدر، وقد يأتي الرعب الذي يقذفه الله تعالى في قلوب العدو، وقد يأتي النصر دون أن تنزل الملائكة، المهم أن تلتزم هذه الأمة بالمنهج الصحيح، والله سبحانه وتعالى يجعل لها فرقاناً، كما أعطى محمداً صلى الله عليه وسلم يوم بدر فرقاناً، ففرق بين الحق والباطل، وأطاح بالباطل ورفع راية الحق، فهو الذي يعطي فرقاناً في أي وقت من الأوقات لهذه الأمة الإسلامية.
ولذلك نحن نقول: ليس بين الأمة الإسلامية وبين النصر إلا أن تتفقد عيوبها، وأن ترجع إلى ربها، وأن تعاهده سبحانه وتعالى على التوبة والإنابة، والله تعالى يقبل التوبة من عباده ويعفو عن السيئات.(4/18)
انعدام التقوى سبب لانعدام الفرقان
قوله: (إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا) مفهومه: وإن لم تتقوا الله لا يجعل لكم فرقاناً، هذه هي القاعدة اللغوية في فعل الشرط وجواب الشرط؛ ولذلك فإن الأمة الإسلامية مطالبة -ولاسيما في ساعة الصفر- أن تتعرف إلى الله سبحانه وتعالى وأن تتوب إليه، والأولى أن تتعرف إلى الله قبل هذه الفترة، يقول صلى الله عليه وسلم: (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)، {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ} [الزمر:61]، يعني: في وقت الشدة.
لكن أقل ما يجب أن تفعله الأمة الإسلامية: أن تعود إلى الله عز وجل في ساعة الشدة، وذلك أضعف الإيمان، فإذا وقفت مع عدوها فعار عليها وعيب ومصيبة وبلاء أن تبقى على ما كان عندها من السيئات؛ لأن الله تعالى يقول: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [الأنعام:43]، ولو في ساعة البأس، {وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:43].(4/19)
وجوب العودة إلى الله في الشدائد
أيها الإخوة! لا بد من العودة إلى الله تعالى، أنا أدعو المسلمين كافة وأبدأ بنفسي إلى أن نتفقد أحوال أنفسنا، ونحن الآن نقف أمام حرب مع عدو حاقد، حاسد للإسلام، متربص منذ مدة طويلة ينتظر مثل هذه الفرصة، ووالله الذي لا إله غيره لن يخلصنا منه قوة من قوى الأرض إلا أن نعود إلى الله عز وجل تائبين، والله تعالى يقول: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال:29]، ويقول في مكان آخر: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا} [آل عمران:13]، ما معنى (آية)؟ أي: استفيدوا من ذلك الدرس، أما أن يمر بكم ذلكم الدرس دون أن تستفيدوا فإن هذه هي المصيبة، لكن النظر إلى الكثرة دون الكيفية؛ ودون أن ننظر إلى تعلق الناس بالله عز وجل واستجابتهم لأمر الله هو بداية الدمار والمصيبة للأمة الإسلامية.
ودائماً أكرر وأقول لكم: خمسة آلاف من الملائكة مسومين في معركة بدر، جبريل واحد منهم، وهو الذي حمل في أحد أجنحته ديار قوم لوط وقلبها، ومع ذلك يذكر الله تعالى أنهم لا ينتصرون إلا بإرادته: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران:126]، فإذا كانت الملائكة مع خير البرية محمد صلى الله عليه وسلم بقيادة خير الملائكة جبريل مع خيار الصحابة؛ لا ينتصرون إلا بإرادة الله، إذاً: لن تنتصر أمة إلا بإرادة الله عز وجل في أي عصر من العصور، مهما كانت قد أوتيت من وسائل التقنية الحديثة ومن العدد والعدد وغير ذلك، فإن الله تعالى يقول: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران:126].
وإذا جاء النصر من عند الله: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:249]، وهنا يقول الله تعالى: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [الأنفال:29]، أيضاً هناك زيادة: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال:29]، ثلاثة أشياء: فرقان؛ وهو النصر الذي يريده كل الناس قال تعالى: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} [الصف:13].
ومغفرة الذنوب.
وتكفير السيئات.
يقول الله تعالى: (وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ): يتكرم عليكم بهذا الأمر.(4/20)
الكلام على آية: (وإذ يمكر بك الذين كفروا)(4/21)
اجتماع دار الندوة للمكر برسول الله صلى الله عليه وسلم
قصة دار الندوة هي سبب الهجرة، وهي أيضاً سبب المؤامرة ضد الإسلام، وهي أيضاً سبب قيام معركة بدر: حينما فكر النبي صلى الله عليه وسلم والتقى بالأنصار الذين جاءوا مسلمين، وبايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم عند العقبة واتفق معهم على أن يذهب معهم إلى المدينة، ويقيم دولة الإسلام هناك في المدينة، وأعطوا العهود والمواثيق، وصلت بعض الأخبار إلى قريش في مكة، وقالوا: لو ذهب محمد إلى المدينة سيقطع علينا طريق القوافل؛ لأن القوافل تمر من الشام إلى مكة عن طريق المدينة، فقالوا: إذاً نجتمع في هذه الليلة في دار الندوة من أجل أن ندرس الوضع الذي نستطيع أن نقضي فيه على دعوة محمد صلى الله عليه وسلم.
فاجتمعوا ودخل الشيطان عليهم بصورة رجل متنكر، واستأذنهم وقال: أتأذنون لي بالدخول؟ قالوا: نعم، فبدءوا يتداولون الرأي، فقال بعضهم: أرى أن نكبل محمداً بالأغلال ونودعه السجن، فقال: إذاً يأتي بنو هاشم وبنو المطلب ويطلقون سراحه.
ثم قالوا: ننفيه من الأرض ولا نتركه يقر له مكان، فقال: إذاً تلتف إليه القبائل.
ثم قال أبو جهل: أنا عندي الرأي: نأتي بمجموعة من شباب قريش، ونعطي كل واحد منهم سيفاً، ويقتلونه قتلة رجل واحد، ويتفرق دمه في القبائل، وندفع لبني هاشم وبني المطلب الدية، فقال الشيطان: هذا هو الرأي.(4/22)
مكر الله بالكافرين وحفظ رسوله منهم
اتفق الكفار على ذلك وقرروا أن يقضوا على الرسول صلى الله عليه وسلم، وأرسلوا من يراقب داره عليه الصلاة والسلام إلى الصباح، لكن الله تعالى أخبره فخرج من الدار، وبقي علي بن أبي طالب نائماً في فراشه إلى الصباح.
أشار الله عز وجل إلى هذه المؤامرة يذكر محمداً صلى الله عليه وسلم، ويذكر المسلمين، الذين ما زالوا يتفيئون ظلال هذا الدين، وتلك الهجرة إلى يوم القيامة يقول تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} [الأنفال:30]، بعضهم يرى القتل، وبعضهم يرى الإثبات الذي هو القيد، وبعضهم يرى الإخراج، لكن هذا المكر لا يضر إنساناً حفظه الله سبحانه وتعالى، ولذلك يا إخوان! يجب على المسلم أن يتعلق بالله عز وجل وحده، وإذا تعلق بالله عز وجل وحده فإن الله تعالى يكفيه شرور الناس أجمعين، لأن نواصي الخلق بيده، وقلوبهم في قبضته، ولأنه لا يصيب هذا الإنسان إلا ما كتب الله له، رفعت الأقلام وجفت الصحف.
الخوف من البشر غير وارد، يجب أن يكون الخوف من رب البشر، الذي يملك الموت والحياة والرزق وغير ذلك، وهنا يقول الله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ} [الأنفال:30]، والمكر معناه: الخداع، {وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30]، إذاً: مكر هؤلاء لا يمكن أن يضرك ما دام الله تعالى قد مكر لك، وما دام الله تبارك وتعالى قد حفظك من مكر هؤلاء، ولذلك هم مكروا وأرادوا قتله، ومكر الله تعالى بهم فأخرجه من بينهم، وذر على رءوسهم التراب عليه الصلاة والسلام، وهو يتلو قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [يس:9].
ويخرج أمام أعينهم ويحفظه الله عز وجل، ويذهب مع أبي بكر إلى غار ثور، ويبقى ثلاثة أيام هناك، والقوم يصلون إلى باب الغار ثم يرجعون، دون أن ينظروا إلى محمد صلى الله عليه وسلم، هكذا يحفظ الله عز وجل رسله وأولياءه! وهذا الحفظ باق وخالد إلى يوم القيامة، بشرط أن نأخذ بأسباب هذا الحفظ، وأن يكون اعتمادنا وتوكلنا على الله عز وجل، لا نتعلق بالبشر والمخلوقين مهما كانت قوتهم ضاربة في الأرض، فإن هذه القوى لا تغني من الله عز وجل شيئاً إذا أراد الله تعالى لها ألا تكون.
أيها الإخوة! قال تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30]، فإذا خاف الإنسان من غير الله عز وجل فعليه أن يراجع إيمانه، وعليه أن يجدد هذا الإيمان، وأن يعلق الخوف والرجاء بالله عز وجل.
وقد أنزل الله تعالى هذه الآية حاكياً ما فعله القوم وما دبروه ضد محمد صلى الله عليه وسلم، وكان ذلكم السبب والشرارة الأولى لقيام الدولة الإسلامية، بحيث ينطلق هذا الموكب العظيم إلى المدينة ليقيم هناك دولة الإسلام، وليعلن الجهاد في سبيل الله، ثم يكون هناك الفرقان بين الحق والباطل.
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله.(4/23)
الأسئلة(4/24)
خطأ العلمانية في اعتقاد أن الدين لا يصلح لهذا العصر
السؤال
ما حكم الشرع فيمن يقول: إن الدين لا يصلح لهذا العصر وأنه لا علاقة للدين بالسياسة؟
الجواب
هذه نظرة علمانية إلحادية كافرة تقول إن الدين لا يصلح إلا في المسجد، فهم والعجيب أنهم ما تركوا الدين حتى في المسجد، يطاردون الدين حتى داخل المسجد، لم يسمحوا له أن يزاول مهمته؛ لأنهم عرفوا أن المسجد يؤدي دوراً كبيراً، والحقيقة أن هذه أولاً نظرية كافرة، لأن الله تعالى يقول: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89]، {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38].
ومتى بدأت السياسة؟ بدأت يوم جاء الدين، العالم كان يعيش في فوضى واضطراب، وكان الناس في هذا العالم بدواً لا يعرفون السياسة، ولا يعرفون نظام الحياة، حتى قامت دولة الإسلام فعرفتهم السياسة، إذاً: السياسة جزء من الدين، وفصل السياسة عن الدين أمر خطير، وهذا حصل في أوروبا حينما كانت الكنيسة تعذب المبتكرين والمفكرين، لكن لماذا انتقلت إلى بلاد الإسلام؟ انتقلت عن طريق العدوى، إما على أيدي أناس جهال، أو على أيدي أناس حاقدين على الإسلام يريدون أن يطيحوا بالدين {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ} [الصف:8]، يريدون أن يطيحوا بالدين كما أطاح المثقفون النصارى بالديانة النصرانية التي كتب الله تعالى لها النهاية، أما دين الإسلام فإنه دين خالد، ولذلك نقول: إن هؤلاء مارقون عن الدين؛ لأنهم يعتقدون أن الدين لا يصلح للحياة، ويقولون: الدين يصلح في عصر الخيمة والبعير، لكن لا يصلح في عصر الصاروخ والمركبة الفضائية، والوسائل العصرية الحديثة، ونحن نقول: الدين خالد إلى يوم القيامة، والسياسة وجميع أنظمة الحياة كلها خاضعة لهذا الدين, وأي دين يتجرد من هذه الأنظمة ومن هذه القواعد فإنه دين لا قيمة له ولا وجود له.
ومنهج العلمانيين والملاحدة أنهم يرون الدين يجب أن يتجرد من هذه الحياة، ونحن نقول لهم: دين الإسلام لا تقوم الحياة إلا به، والدليل على ذلك أن دولة الإسلام التي رفرف علمها على أكثر المعمورة ما قامت إلا على الإسلام، ويوم تقلص الإسلام من نفوس كثير من الناس بدأت تلك الدولة تتقلص، حتى عادت تلك الدولة الواحدة إلى ما يقرب من مائة دولة في عالمنا الحاضر، وبمقدار ما يتخلف المسلمون عن دينهم يضعفون في ميدان السياسة، ثم تضيع بلادهم حتى أصبح المسلمون اليوم يكادون أن يفقدوا كل ما بناه آباؤهم وأجدادهم من سلفنا الصالح رضي الله عنهم.(4/25)
نصيحة في حث الناس على الجهاد في سبيل الله
السؤال
نرجو منكم توجيه كلمة إلى الآباء والأمهات، ليعدوا أبناءهم للجهاد في سبيل الله، وتربيتهم التربية الجهادية، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
يقول الله تعالى: {انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:41]، ليس هناك ما يحث على الجهاد في سبيل الله أعظم من مثل هذه الآيات.
جاء رجل أعرج إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! أريد الجهاد، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: إنك أعرج ومعذور، قال: إن الله يقول: ((انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا)) [التوبة:41]، وإني أرجو أن أستشهد فأطأ بعرجتي هذه الجنة).
الأمة الإسلامية لا تحيا إلا بالجهاد في سبيل الله قال تعالى: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24]، والأمة لا يكون لها مكان في هذا التاريخ وفي هذا العالم إلا بالجهاد في سبيل الله، فلا بد من الجهاد في سبيل الله، والأمة إنما حلت بها النكبات في أيامنا الحاضرة بسبب تركهم الجهاد في سبيل الله، وهو أمر خطير، فمن الردة عن الإسلام ترك الجهاد في سبيل الله، كما جاء في الحديث الصحيح: (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر -يعني: شغلتم بالحرث عن الجهاد- ورضيتم بالزرع؛ أصابكم الله بذل لا يرفعه عنكم حتى تراجعوا دينكم)، وتأملوا -يا إخوان- معنى (تراجعوا دينكم) يعني: أن دينكم أصبح فيه خلل.
ومعنى ذلك أن الأمة الإسلامية تطالب بالجهاد دائماً وأبداً، لاسيما في مثل هذه الظروف التي تسلط فيها طغاة الأرض والكافرون والمتجبرون على هذا الدين وعلى هذه الأمة الإسلامية، فلا بد من الجهاد في سبيل الله، وقد تبين الرشد من الغي في أيامنا الحاضرة، وأصبح الأمر واضحاً، فما على الآباء والأمهات والجميع إلا أن يحثوا هذا النشء على الجهاد في سبيل الله، وعلى التدرب والإعداد، فإن الله تعالى قد أمرنا بالإعداد وقال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ} [الأنفال:60]، والضمير في (لهم) يعود إلى الكافرين المكشوفين {مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ} [الأنفال:60]، أصبحنا نعلم بعضهم الآن فقد بدءوا يتكشفون، إذاً: لا بد من الإعداد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة:73].
إذاً: لا بد أن يستعد المسلمون للجهاد في سبيل الله، وأن يتدربوا، والدولة الآن تبذل جهوداً من أجل أن يتدرب شباب هذه الأمة على الجهاد في سبيل الله، لعل الله أن يدفع بهم كيد الكافرين, والله تعالى يبين أن كيد الكافرين لا يندفع إلا بهذا الدين وبالجهاد في سبيل الله قال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ} [البقرة:251]، {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} [الحج:40]، لا بد من الجهاد في سبيل الله، ولا بد من الإعداد له، والآباء والأمهات وكل الناس مطالبون أن يحثوا الناس على الجهاد في سبيل الله كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:65]، وفي قراءة: (حرص المؤمنين)، وحرض أقوى؛ لأن حرض معناها: حثهم حثاً يصل إلى الهلاك، كأنك تهلك نفسك وأنت تحثهم على الجهاد في سبيل الله؛ لأن الحرض معناه الهلاك.(4/26)
دور الشباب المسلم تجاه انتشار المعاصي في البلاد الإسلامية
السؤال
كما تعلم أن مدينتا هذه جدة، تعج بالفتن والمعاصي الظاهرة عياناً أمام المسلمين، فنخاف أن يعمنا الله بالعذاب، نسأل الله العافية، فهل من كلمة تحثنا فيها على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وماذا يفعل الشباب وغيرهم في مجال الدعوة إلى الله؟
الجواب
الله المستعان! أولاً بلاد المسلمين كلها تعج بالمعاصي العظيمة، لكن غريب أن تكون هذه المعاصي في بلاد الله المقدسة التي انطلق منها نور الإسلام إلى الأرض كلها! على كلٍ: أيها الإخوان! أنا مع الأخ السائل، لكن الجهاد في سبيل الله منه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الجهاد معناه بذل الجهد في إيصال الخير إلى الناس ودفع الشر عنهم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمر ليس بالشيء السهل، وليس نفلاًً ولا تطوعاً، ولكنه فرض كفاية، وأراه الآن أصبح فرض عين؛ لأن الذين يكتفى بهم قلوا، وأحسب الدولة إن شاء الله تشجع على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
على كلٍ: أيها الإخوة! لا بد أن تتضافر الجهود في هذا الأمر، ولا بد أن نتعاون مع الدولة على هذا الجانب، فليس الأمر مسئولية الدولة وحدها، ولكنه مسئولية الجميع، ولا بد من مناصحة المسئولين، ونقول لهم: اتقوا الله، ونبين لهم أشياء كثيرة من المنكرات؛ لأنهم ربما شغلوا بأشياء عن أشياء، فلا بد أن ننبهم، هذا بالنسبة لمناصحة أولي الأمر، الذين يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم: (ولأئمة الٍمسلمين)، فهذا من النصيحة.
ثم أيضاً لا بد من مناصحة الناس، ولا بد من استعمال القوة، لكن هذه القوة يجب أن تكون منضبطة، ويجب أن تكون منظمة، وتحميها وتحرسها وتنظمها الدولة، والأمر لا يقوم بالكلمة فقط، فلا بد من قوة، كما أشار الله عز وجل إلى ذلك في قوله في سورة الحديد: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} [الحديد:25]، لماذا ذكر الحديد هنا مع البينات والكتب السماوية والميزان والعدل؟ لأن الميزان والعدل والكتب السماوية والبينات قد يقف الشر في طريقها فيشوه سمعتها، ويلوث بيئتها؛ إذاً: لا بد من أن تكون هناك قوة تحمي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله.
إذاً لا بد من قوة للمسلمين لتنظم بلاد المسلمين، لكن يجب أن تكون هذه القوة منضبطة، ويجب أن تتبناها الدولة، ويجب على الشباب والمسئولين وكل من عنده غيرة على دين الله والعلماء في الدرجة الأولى أن يناصحوا المسئولين وأن يقولوا: نظمونا لننكر هذه المنكرات، ولنعلم الناس الخير من الشر، لا بد من هذا الأمر، وإلا فإن العقوبة تصيب الأمة، وأخشى أن ما يحدث الآن في الساحة عقوبة، لأن الله تعالى يقول: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الأنفال:53]، {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]، {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر:45]، {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30]، آيات كثيرة في هذا المعنى.
يا إخوان! نبقى ونحن نشاهد المعاصي حتى يأتي طغاة الأرض يكتسحون بلاد المسلمين ويرمونها بالصواريخ ويعملون ما يعملون، لا بد أن ينكر المنكر، لأن ما حل إنما هو عقوبة من الله عز وجل نسأل الله أن يحفظنا بحفظه، ويكلأنا بعنايته، ونقول دائماً وأبداً: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} [الدخان:12]، نستغفر الله ونتوب إليه، لا بد من العودة، لا بد من التوبة، لا بد من محاربة المعاصي، لأن انتشار المعاصي هو الذي يسبب هذه العقوبات نسأل الله العافية والسلامة، كما نسأله أن يشد عضد الدولة ويقويها حتى تنكر هذه المنكرات، حتى لا يبقى مدخل لعدو من أعدائنا علينا.(4/27)
الحث على التوكل على الله
السؤال
نطلب منك كلمة حول التوكل على الله، وذلك لأن الناس أصبحوا عندما يسمعون الصفارة أو الإنذار يخافون خوفاً شديداً.
الجواب
أما بالنسبة لهذا الخوف فهو خوف فطري، والله تعالى يقول: {إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ} [الجمعة:8]، الفرار من الموت أمر فطري، والخوف أمر فطري، والمسلم مطالب أن يبتعد عن مواقع الخطر حتى لا يصيبه، لكن بشرط أن يعرف بأنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له، وليس من التوكل أن يقف أمام الخطر وهو يرى الصفارة، لكن الخطر الذي نشاهده الآن هو ضعف اليقين بالله عز وجل في هذه الساعات الشديدة التي تعيشها الأمة الإسلامية اليوم، فإننا نرى كثيراً من الناس الآن قد ارتبك إيمانه، وتعلق بغير الله عز وجل، واعتمد على قوى البشر، ونسي أن القوة لله عز وجل جميعاً، واطمأن حينما رأى أن أمماً كثيرة جاءت لتحرسه، ونسي أنه لا يكون شيء إلا بإرادة الله عز وجل.
نقول: الأخذ بالأسباب عقل، لكن الاعتماد على الأسباب كفر، القاعدة هي الأخذ بالأسباب والاعتماد على المسبب سبحانه وتعالى، والكثرة قد لا تغني من الله عز وجل شيئاً، والقلة قد تنتصر كما قال الله تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:249]، والكثرة قد تفشل كما قال الله عز وجل عن خير جند في الأرض بقيادة خير البرية محمد صلى الله عليه وسلم: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة:25].
إذاً: الفرار أو اللجوء إلى مأمن حينما يسمع الصفارة هذا أمر مطلوب، حتى لا يخاطر الإنسان بنفسه، لكن تعال يا أخي! إلى واقع الناس اليوم وهم يتعلقون بغير الله عز وجل، وهم يعيشون حياة مرتبكة، نراهم في هذه الفترة جهزوا كل وسائل المتاع والطعام، ووسائل الراحة داخل البيت، لكن يندر منهم من فكركيف يصلح هذا البيت حتى لا تأتي عقوبة الله عز وجل، هذا الشيء والأمر الذي يجب أن نراقبه وننتبه له في مثل هذه الأيام.
أمر آخر: أن ينام هذا الإنسان مطمئناً حينما يرى جنود البشر تحرسه، وهو يعتمد عليها، فعليه أن يعتمد على الله عز وجل أولاً وآخراً، فالله تعالى هو الذي بيده مقاليد السماوات والأرض، وهو المستعان وعليه التكلان.(4/28)
نور على نور
نور الإيمان هو النور الحقيقي، فإذا رزق الإنسان هذا النور فإنه يعيش في حياة سعيدة هنيئة، وإذا حرمه فإنه يعيش عيشة ضنكاً، ولن يعطى العبد هذا النور إلا إذا التزم بأوامر الله عز وجل، واجتنب نواهيه، ومن كان كذلك فإن الله عز وجل يجازيه الجزاء الحسن في الدنيا والآخرة، فيجعل له نوراً يستضيء به في الدنيا، ويستضيء به في الآخرة وهو يمر على ظلمات الصراط.
وأما الكافر فإنه إذا عمل حسنه يجازى بها في الدنيا في مطعمه ومشربه، ولكنه يعيش في ظلام دامس في قلبه وعقيدته وفي آخرته.
فعلى الإنسان أن يبحث عن نور الإيمان، وأن يسأل ربه أن يرزقه إياه، فإن الله عز وجل هو الذي يهدي لنوره من يشاء.(5/1)
تلخيص ما تصمنه النصف الأول من سورة النور
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونثني عليه الخير كله، ونشكره ولا نكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته وعمل بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الإخوة! ما زال الحديث في سورة النور، ووقفنا في المقطع الأول من هذه السورة والذي ينتهي بقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [النور:34]، وقد ذكرنا أن النصف الأول من هذه السورة ابتداءً من قوله تعالى: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} [النور:1] إلى هذه الآية كله يتكلم عن أمر واحد وهو: كيف نحفظ أخلاقنا وأخلاق المسلمين من الفساد؟ وكيف نحارب الزنا والفواحش؟ وما هي السبل التي تضمن لنا محاربة الفاحشة التي تفسد الأمة، وتفسد المجتمع، وتسقطه من عين الله عز وجل، فكان في مقدمة هذه الآيات قوله تعالى: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [النور:1]، فكانت تلفت النظر، وختمت هذه الآيات بقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [النور:34].
إذاً: ما في أول هذه الآيات وما في آخرها يدل على أهمية عظيمة لما تحتويه هذه الآيات العظيمة، لا سيما في مثل هذا العصر الذي فاض فيه المال، وكثر فيه الفساد، وانتشرت وسائل التقنية الحديثة التي استعمل كثير منها في معصية الله، وساعدت على وجود الفاحشة، وبالرغم من هذا كله فإن الله عز وجل يؤدب ويربي الأمة ألا يقربوا الفواحش، وألا يدنوا من مواطن الفساد والزنا الذي هو أعظم فاحشة بعد الشرك بالله سبحانه وتعالى.
لذلك يأمر الله تعالى في هذه الآيات بجلد الزاني.
ولا يرتدع الناس في فاحشة الزنا إلا إذا كانت لها عقوبة، ومن هنا شرع حد القذف، وشرع الاستئذان، كما قال تعالى: {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27]، وفي هذا حماية البيوت من الدخول بدون استئذان.
وهكذا لا يجوز للرجل أن ينظر إلى المرأة، ولا يجوز للمرأة أن تنظر إلى الرجل بشهوة، وعلى كل واحد منهما أن يغض بصره، وأن يحصن فرجه؛ حتى لا تكون هذه الفاحشة.
وكذلك قال عز وجل: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور:32]، أي: زوجوا كل من لم يتزوج؛ لأن الزواج فيه حصانة، وفيه حماية للأمة الإسلامية من مثل هذه الفواحش؛ ولذلك المجتمع الذي يعرض عن الزواج وتعنس فيه البنات وتكبر أسنانهن دون أن يتزوجن، ويصبح فيه الشباب عزاباً يكون مجتمعاً ينتشر فيه الفساد، وتنتشر فيه الفاحشة.
والمجتمع الذي يحارب الزواج أو الذي يحارب تعدد الزوجات بدافع المحافظة على المرأة وحماية حقوقها مجتمع يتعرض للفتن، ويتعرض للفواحش كلها، ولذلك ركز الله تعالى على هذه الأمور الخمسة في سورة النور في نصفها الأول؛ من أجل أن يؤدب الناس، وأن يعلمهم كيف يتخلصون من فاحشة الزنا التي تختلط فيها الأنساب، وتفسد فيها البيوت، وتسقط الأمة من عين الله سبحانه وتعالى.
إذاً: لما ذكر تلك الأمور الخمسة التي تضمن عدم وقوع الفاحشة ختم الآيات التي تختص بهذا الموضع بقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} [النور:34] يشير بذلك إلى الآيات السابقة، والواو هنا واو القسم، واللام لام القسم، أي: أقسم الله عز وجل بأنه أنزل آيات بينات، أي: واضحات الدلالة على مراد الله عز وجل حينما أراد أن يعلم الناس كيف يكافحون الجريمة، وكيف يكافحون الفاحشة.
واسمحوا لي أن أبين لكم أن الجريمة في مفهوم العصر لا تعني إلا ما يضر بالناس، أما ما يضر بالدين فإنها لا تسمى في مفهوم العصر جريمة، وإنما تسمى ذنباً، ولذلك تجدون مكافحة الجريمة تنفصل عن مكافحة المعصية لله عز وجل، أما الجريمة في مفهوم الشرع الإسلامي فمعناها: اقتراف كل ما حرم الله عز وجل، ولذلك سمى الله تعالى الكافرين مجرمين، كما في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ} [المطففين:29]، مع أنهم لا يضرون إلا بأنفسهم.
ثم ختم الله عز وجل هذه الآيات بقوله: (وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ) أيها الناس! أيها المسلمون! (آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ) أي: آيات شرعية نزلت من عند الله واضحة الدلالة على مراد الله عز وجل من هذه الأمة، (وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) المثل هو القول السائر، أي: وأنزل الله عز وجل أموراً كافية لردع البشرية وإيقافها عند حدودها، (وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ)، أي: هذه الآيات السابقة هي موعظة، لكن الموعظة لا يستفيد منها إلا المتقون، والمتقون هم الذين يمتثلون أوامر الله سبحانه وتعالى ويجتنبون نواهيه، أما غير المتقين فهم الذين لا يبالون بالحلال والحرام والفواحش، وإنما يريدون أن يشبعوا رغباتهم مما حرم الله، إضافة إلى ما أباح الله، ولا يتوقفون عند حد من الحدود، فهؤلاء ليسوا بمتقين؛ لأنهم لا يخشون الله، ولا يراقبونه، ولا يمتثلون أوامر الله، ولا يجتنبون نواهيه، وهؤلاء لا يستفيدون من هذه الموعظة، ولا يستفيد منها إلا المتقون، نسأل الله أن يجعلنا جميعاً من المتقين الذين يتعظون بأوامر الله عز وجل ويمتثلونها، ويجتنبون نواهيه.(5/2)
تفسير آية: (الله نور السماوات والأرض)(5/3)
صلة قوله عز وجل: (الله نور السماوات والأرض) بالآيات التي قبلها والمقصود بالنور فيها
ثم قال الله بعد ذلك: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور:35]، ما صلة هذه الآية بالآيات السابقة؟ هذه الآية ستجدونها تتحدث عن نور الإيمان؛ لأن أكثر علماء المسلمين يقولون إن معنى قوله: (مَثَلُ نُورِهِ): نور الإيمان، وليس المراد به نور الله عز وجل الذي هو اسم من أسمائه وصفة من صفاته؛ لأن النور اسم من أسماء الله عز وجل وهو يتضمن صفة من صفاته.
إذاً: نحن نتأكد هنا أن المراد بالنور ليس نور الله عز وجل الذي هو اسم من أسمائه، فإن من أسماء الله عز وجل النور، ومن صفاته النور، كما جاء ذلك في أحاديث كثيرة، منها قوله صلى الله عليه وسلم: (أنت نور السماوات والأرض)، وقوله: (أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات)، وقوله: (حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره).
وهناك نور آخر مخلوق، وهو نور الإيمان الذي يضعه الله عز وجل في قلب المؤمن؛ ولذلك شبهة هنا، ولو كان المراد بالنور اسماً من أسماء الله ما كان يجوز تشبيهه؛ لأن أسماء الله عز وجل وصفاته لا يجوز أن تشبه بمخلوق من المخلوقين أبداً.
إذاً: صلة هذه الآية: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور:35] بالآيات السابقة أن تلك الأوامر السابقة والنواهي التي مرت في في نصف السورة الأول هي نور الله عز وجل في قلب المؤمن، أي: إذا أراد الله عز وجل لإنسان السعادة وضع في قلبه هذا النور، فأصبحت تلك المحرمات التي سبق ذكرها من دخول البيوت، ومن النظر إلى الحرام، ومن الشهوة الحرام إلى غير ذلك بعيدة عنه؛ لأن هذه كلها إنما تكون في قلوب ضعف أو فقد فيها النور.
لكن هذه القلوب التي نورها الله بنور الإيمان ترفض تلك الأمور كلها ولو كانت تناسب وتوافق شهوة الإنسان بطبيعته البشرية؛ فالإنسان بطبيعته البشرية يميل إلى الشهوة، لكن النور إذا دخل في القلب كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (انفسح وانشرح، قالوا: وما علامة هذا النور يا رسول الله؟! قال: التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل نزوله)، فهذه هي علامة النور.
إذاً: هذه الآية ترتبط بما سبق من تلك الأوامر السابقة في النصف الأول من سورة النور التي لا يوفق لها إلا من ملأ الله عز وجل قلبه بنور الإيمان.
فقوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور:35]، أي: منورها، وفي قراءة سبعية: (الله نوَّر السماوات والأرض)، وهذا يؤيد أن المقصود به: النور الحسي لا النور المعنوي، أو النور الحسي والمعنوي، لكن المراد به: النور الذي ليس صفة من صفات الله، وليس اسماً من أسماء الله عز وجل.
وقوله: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أي: هو الذي نورها، ووضع فيها الشمس والقمر والكواكب، ووضع فيها النور المعنوي أيضاً، والنور المعنوي هو نور الإيمان الذي أشعله الله تعالى في قلوب المؤمنين، كما قال صلى الله عليه وسلم لما ذكر القلوب: (قلب فيه مثل السراج يزهر)، أي: فيه نور كالسراج دائماً وأبداً.
وفائدة هذا النور: أن الإنسان إذا أراد أن يفعل شيئاً يكتشف بهذا النور أهذه طاعة أم معصية، وإذا أراد أن يفعل الطاعة بهذا النور يكتشف أهذه طاعة ترضي الله أم أنها مبتدعة في دين الله تعالى.
إذاً: هذا هو فائدة النور، ولذلك هناك قلوب مظلمة، نسأل الله العافية والسلامة، والدليل على ظلام هذه القلوب: أنها تفعل ما تريد من معاصي الله، وتأكل ما تريد من أموال الناس، ولا تميز بين الحلال والحرام، حتى الربا لا تعرف أنه ربا، ولربما تعرف أنه ربا، لكن الله تعالى طمس على هذا القلب فأصبح القلب مظلماً.
إذاً: النور هنا المراد به نور الإيمان، وبهذا عرفنا صلة هذه الآية بما سبق من الآيات، وأنه لا يوفق إلا من نور الله قلبه، أما من أظلم قلبه فإنه لا يبالي بأوامر الله سبحانه وتعالى، ويؤدي به ذلك إلى أن يقترف ما يشاء مما حرم الله، ويترك ما يشاء مما أوجب الله، كما قال الله عز وجل في سورة الأنعام: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ} [الأنعام:113] تستقر القلوب عليه {وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام:113]؛ لأن القلب قد أظلم، وكما سيأتينا -إن شاء الله- في صفات الكافرين أنه لما أظلمت قلوبهم نسو الله وغفلوا عن الدار الآخرة، ونسوا الموت، ولم يؤمنوا بالجنة ولا بالنار، ولم يؤمنوا بكل ما أخبر الله عز وجل عنه، وهذه هي صفات من أظلمت قلوبهم.
أما من نور الله قلبه فإنه وإن فعل معصية من معاصي الله تعالى، إلا أنك تجد أن هذا النور يكشف له الأمور الخفية، أو الأمور التي لربما يقع فيها الإنسان في حين غفلة.(5/4)
معنى قوله تعالى: (الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة)
قال عز وجل: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ} [النور:35]، أي: صفة نوره الذي وضعه في قلب عبده المؤمن {كَمِشْكَاةٍ} [النور:35]، وكما قلت: التشبيه لا يكون في أسماء الله تعالى ولا صفاته، وإنما يدل ذلك على أن النور هنا نور الإيمان، ونور الإيمان مخلوق لله عز وجل يجوز تشبيهه.
وقوله: {مَثَلُ نُورِهِ} [النور:35]، أي: مثل نور الله عز وجل، وقيل: إن الضمير يعود إلى القلب، أي: مثل نور القلب، وإن كان لم يرد ذكر للقلب، لكن يدرك ذلك بالاستقراء من هذه الآية.
وقوله: (كَمِشْكَاةٍ)، المشكاة أصلها الكوة الغير نافذة في الجدار، أي: فتحة في الجدار لكنها غير مفتوحة من الوراء؛ لأن الكوة إذا وضع فيها السراج تعكس الضوء إلى الأمام، بخلاف الكوة المفتوحة من الخلف فإنها تسمى نافذة، أما هذه الكوة فهي غير نافذة، فالنافذة تضيع نور السراج، لكن الكوة المقفلة من الخلف ليست نافذة ترد نور السراج إلى الأمام، ولذلك شبه الله نور الإيمان بنور سراج وضع في كوة.
وقوله: (فِيهَا)، أي: في الكوة، (مِصْبَاحٌ)، أي: سراج، (الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ)، أي: زيادة على أن الكوة تدفعه إلى الأمام وضع على هذا السراج زجاجة؛ لأن الزجاجة بطبيعتها تصفي الضوء وتقوي النور، والزجاجة هي: جسم شفاف معروف.
وقوله: {الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} [النور:35]، يعني: زجاجة لماعة، والكوكب هو: النجم اللامع في السماء، ودري من الدرء، وهو: الدفع، أي: كأنه كوكب يدفع الأضواء إلى الأمام، أي: أن هذا السراج في الكوة وضعت عليه زجاجة، والزجاجة صافية، حتى أصبحت هذه الزجاجة كأنها كوكب دري، أي: لماع في الأفق.(5/5)
المقصود بالشجرة المباركة
وقوله: {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ} [النور:35]، أي: ضوء السراج فيه زيت الزيتون، وزيت الزيتون معروف أنه إذا وضع في السراج تكون الإضاءة أقوى، وأيضاً: هذه الزيتونة ليست كسائر الزيتون، بل هي زيتونة كما أخبر الله عز وجل: {زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ} [النور:35]، والشجر إما أن يكون غربياً وإما أن يكون شرقياً، ويندر أن يكون هناك شجرة ليست غربية ولا شرقية، والشجرة الشرقية هي: التي تصيبها الشمس عند الشروق، لكن عند الغروب يحجب عنها ضوء الشمس؛ لأن الشمس بطبيعتها إذا أصابت شجرة الزيتون تعطيها قوة أقوى من الشجرة العادية، فإذا كانت تصيبها الشمس في وقت الشروق، أو في وقت الغروب فقط يكون زيتها أقل لمعاناً، لكن عندما تكون لا شرقية ولا غربية فهي شرقية غربية، أي: إذا طلعت الشمس في وقت الشروق تصيب هذه الشجرة، وإذا غربت تصيب هذه الشجرة، وتصبح هذه الشجرة جيدة جداً، وهكذا سائر الأشجار عندما تتعرض للشمس في وقت الشروق والغروب.
إذاً هي شرقية غربية، وعلى هذا يكون الزيت صافياً، ولذلك وصف الله سبحانه وتعالى هذا الزيت أنه لماع، فإذا وضع في السراج أصبح أشد لمعاناً، وقبل أن يوضع في السراج هو يلمع كأنه قد أوقدت فيه النار.
وقوله: (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ)، الشجرة المباركة هي شجرة الزيتون؛ ووصفها أنها مباركة؛ لأن كل ما فيها يستفاد منه، ولا يرمى شيء من شجرة الزيتونة أبداً، حتى الرماد يجلى به الذهب، وتجلى به الجواهر.
وقوله: (زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا) أي: زيت الزيتونة التي ليست غربية ولا شرقية، (يُضِيءُ) من شدة لمعانه، (وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ) أي: فكيف إذا مسته النار؟! قال عز وجل: (نُورٌ عَلَى نُورٍ)، أي: نور السراج مع نور الكوة الغير نافذ في الجدار، مع نور الزجاجة، مع نور الزيتونة التي ليست شرقية ولا غربية، فهذه أنوار اجتمعت فأصبح كل واحد منها يقوي الآخر، ولذلك يقول الله تعالى: (يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ)، ومعنى ذلك أن هذا أقوى أنواع الأضواء التي عرفها الإنسان وقت نزول هذه الآية، وهكذا نور القلب إذا وضعه الله عز وجل فإنه يصبح كالسراج، ولذلك يميز المؤمن بين الحلال والحرام، وبين الضار والنافع، كما قال الله تعالى: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال:29].(5/6)
قوله: (يهدي الله لنوره من يشاء)
وقوله سبحانه: {نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:35]، هذا هو الدليل الثاني على أن المراد هنا بالنور هو نور الإيمان، وليس المقصود اسماً من أسماء الله عز وجل، يقول الله تعالى: (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ) أي: نور الإيمان، (مَنْ يَشَاءُ)، فليست الهداية تدرك بالآباء والأجداد والأمجاد، وليست بالذكاء، فكم من الأذكياء من مات على ملة غير ملة الإسلام! وكم من أبناء الصالحين من مات على غير دين وعلى غير ملة! فهذا نوح يقول لابنه: {ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} [هود:42]، فيقول: {سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} [هود:43]، فما هداه الله وهو ابن نوح أول المرسلين عليهم الصلاة والسلام.
وإبراهيم يموت أبوه على ملة الكفر، فمعنى ذلك أن الهداية من الله عز وجل، وليست أمراً يكتسب بالذكاء، ولا يورث من الآباء والأجداد والأمجاد.
وقوله: (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ)، في هذه الآية أن الهداية بيد الله عز وجل، ولا وجه لأن يستدل بهذه الآية الجبرية، فالجبرية نعرف أنهم أصحاب مذهب فاسد؛ فهم يقولون: كيف أن الله عز وجل يقدر المعصية على الإنسان ويعذبه عليها؟ ونقول: إن الله تعالى لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، لكن هنا يقول الله تعالى: (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ)، فالمشيئة لله عز وجل، لكن للإنسان مشيئة، ومشيئة الإنسان مرتبطة بمشيئة الله عز وجل، فمشيئة الإنسان ليست مستقلة، إنما هي مربوطة بمشيئة الله عز وجل، ولذلك أثبت الله للإنسان مشيئة، وأثبت المشيئة الأصل لله عز وجل.
وهنا قال عز وجل: (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ)، وقال في آية أخرى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير:28]، فنجمع بين هذه الآيات التي فيها إثبات المشيئة لله عز وجل وإثبات المشيئة للمخلوق أن للمخلوق مشيئة لكن المشيئة الغالبة والنافذة هي مشيئة الله عز وجل، وأن مشيئة الإنسان خاضعة لمشيئة ولإرادة الله سبحانه وتعالى.
إذاً: لا حجة للجبرية الذين يقولون: كيف يجبر الإنسان على أعماله ويعاقب عليها؟ فنقول: الله تعالى له الحكمة في ذلك؛ لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون.
يقول الله تعالى: {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور:35]، أي: أن هذه الآية مثل ضربه الله عز وجل للناس، فمن أراد أن يعرف الحق، وأن يبحث عن الإيمان وعن نور الإيمان، فهذا هو مثل ضربه الله تعالى، ونور الإيمان هو الذي يكشف للإنسان ما ينفعه وما يضره.(5/7)
كيفية الحصول على نور الإيمان
وبعد ذلك قد يتساءل بعض الناس ويقول: إن هذا نور جيد، فكيف نحصل على هذا النور؟ وما دام نور الإيمان لا يؤخذ بالنسب، ولا يؤخذ بالوراثة، ولا يؤخذ بالقوة والشجاعة، ولا يدرك بالذكاء فأين نجد هذا الإيمان؟ ومن يستطيع أن يحصل على هذا الإيمان؟ وكل واحد منا حتى الضالون يتمنون لو هداهم الله عز وجل، وكل واحد منا يتمنى أن تكون له ذرية تهتدي بهذا الهدى، فما هو الطريق؟ وما دام يهدي الله لنوره من يشاء فكيف نحصل على هذا النور في هذا القلب؟ ذكر الله تعالى كيف نحصل عليه، ومن يريد هذا النور فهو موجود، ومكانه واضح، وهو المساجد، فإنها هي التي يولد فيها هذا النور، ويترعرع وينمو فيها هذا النور، ولذلك أجاب الله تعالى على هذا السؤال، وهذا يسميه علماء البلاغة: استفهاماً بيانياً، إذ ليس هنا استفهام، لكن الاستفهام يفرض نفسه، فقد يقول السائل: أين يوجد هذا الإيمان الذي هو كمشكاة فيها مصباح والمصباح في زجاجة والزجاجة كأنها كوكب دري إلى غير ذلك؟ هذا الإيمان القوي العظيم الذي يضيء للقلب طريق الحلال من الحرام، والنافع من الضار، وطريق الجنة من طريق النار، أين يوجد؟ أجاب الله تعالى بأنه في المساجد، فابحثوا عنه في المساجد، ولا تبحثوا عنه في المسارح ولا أمام الأفلام، ولا في المواخير، ولا في دور القمار، ولا في دور السينما، ولا أمام المسلسلات والمحرمات، بل من أراد هذا الإيمان فليبحث عنه في المسجد؛ لأن المسجد هو التربة الصالحة النقية التي توضع فيها البذرة الصالحة، فتنبت الرجال الصالحين الذين تستفيد منهم الحياة.
قال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36].
فليس موطن الإيمان غامضاً ولا خفياً، بل هو واضح، فالمساجد هي موقع هذا الإيمان، فرب نفسك في المسجد تجد أن الإيمان يملأ قلبك، ورب أولادك في المساجد في حلق العلم وحلق القرآن ومجالس الذكر، في الصلوات الخمس، ابتداءً من سن السابعة، وزد في سن العاشرة، واحذر أن يأتي سن البلوغ وأولادك بعيدون عن المساجد، وسوف تجد هذا النور ينمو في قلوب هؤلاء الأطفال، وفي قلوب هؤلاء الشباب.(5/8)
تفسير قوله تعالى: (في بيوت أذن الله أن ترفع)
وقوله تعالى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ) متعلقة بالآية السابقة، فإن الإيمان ينشأ في بيوت أذن الله أن ترفع، فقوله تعالى: (فِي بُيُوتٍ) متعلق بقوله تعالى: (يُوقَد)، أي: يوقد من شجرة مباركة في بيوت أذن الله أن ترفع.(5/9)
سبب النشأة الصالحة في بيوت المؤمنين
والبيوت هنا هي المساجد، وقال من قال من علماء المسلمين: المراد بها بيوت المؤمنين.
ففي بيوت المؤمنين أيضاً يتربى الرجال الصالحون، والطفل ينشأ فيها بذرة صالحة لسببين: السبب الأول: التربة الصالحة، وهي الزوجة.
السبب الثاني: المكان الصالح، وهو بيت المؤمن، أو بيوت الله عز وجل، وهي المساجد.
والأقرب أن يكون المراد بها المساجد؛ لأن المساجد هي التي تربي لنا الرجال، فكم ربى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمة الإسلامية.
إنه مسجد صغير مبني من جذوع النخل، مسقف بالجريد، لكنه أخرج لنا أكبر دولة عرفها التاريخ، امتدت حدودها من الصين شرقاً، إلى المحيط الأطلسي غرباً، وتربى هؤلاء الذين بنوا هذه الدولة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والجيوش كانت تتدرب في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعلم كان المسلمون ينهلون منه في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأطفال كانوا يتربون في ذلك المسجد، والرجال كانوا يترعرعون في هذا المسجد.
إذاً: هذه المساجد التي كان لها ما كان في صدر الإسلام هي التي سوف توجد الرجال الذين سوف يخدمون الحياة، ويعيدون للأمة الإسلامية مجدها وعزتها وكرامتها في نفس هذه المساجد، ولذلك يقول الله تعالى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ)، وقوله (أذن) معناها: أمر وأوجب ووصى، ولذلك استدل العلماء من قوله تعالى: (أذن) على وجوب بناء المساجد على المسلمين، فلو تركت المساجد ولم يساهم فيها المسلمون وتعطلت فإن جميع المسلمين يأثمون، وإذا قام بذلك من يكفي من المسلمين سقط الإثم عن البقية، ويكون الأجر لمن ساهم في بناء بيوت الله، ولذلك جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة، بنى الله له بيتاً في الجنة) يعني: أن بيتاً صغيراً في الدنيا يساوي بيتاً في الجنة التي يقول عنها النبي صلى الله عليه وسلم: (لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما عليها).
إذاً بناء المساجد أمر مطلوب يلزم المسلمين أن يقوموا به، وخيرهم من يبني مسجداً أو من يساهم في بناء مسجد، سواء كان بمال أو بجهد أو بكلمة على الأقل، أو بأي مساهمة من المساهمات؛ فإن هذه هي بيوت الله عز وجل في الأرض، فمن ساهم فيها فله الأجر عند الله عز وجل، ولذلك أنا أنصح كل من منَّ الله عليه بشيء من المال ألا يؤخر هذا المال ليكون وصية بعد الموت، وأن يبادر في حياته ليرى عمله وهو صحيح شحيح، يأمل الغنى ويخشى الفقر، ولا يمهل حتى إذا بلغت الروح الحلقوم قال: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان! وأنا أرى كثيراً من الناس عندهم أموال كثيرة والحمد لله، ويفكرون بالوصية بعد الموت، ولربما تكون هذه الوصية غير الوصية التي يستفيد منها المسلمون، كأضاحي وما أشبه ذلك، فأنا أنصح هؤلاء أن يقدموا لأنفسهم في هذه الحياة، فيبني أحدهم لنفسه مسجداً ليكون بيتاً له في الجنة، أو يساهم في بناء مسجد ولو بمبلغ قليل، والله عز وجل يضاعف لمن يشاء.(5/10)
أنواع رفعة بيوت الله عز وجل
والله تعالى هنا أذن أن ترفع، والرفعة تشمل أمرين: الأمر الأول: الرفعة الحسية، وهي بناء المساجد، وليس المقصود بالرفعة رفع سقوف المساجد، بل معنى رفعها بناؤها، بأن توجد رفيعة عالية، وليست عالية السقف، وإنما عالية البناء، أي: أنها وجدت وأنشئت، وأقيمت واحترمت وأكرمت.
الأمر الثاني: الرفعة المعنوية، والمراد بها الطهارة والنظافة، فبيوت الله عز وجل أولى بالطهارة والنظافة.
وأيضاً الرفعة المعنوية بتعظيمها والمحافظة على الصلوات الخمس فيها، والمبادرة بعد الأذان إليها، وعمارتها بتلاوة القرآن وبالذكر والتسبيح والتهليل وحلق العلم إلى غير ذلك، ولذلك كان أحب عباد الله عز وجل أسبقهم إلى المساجد؛ لأن المساجد بيوت الله.
ولذلك فإننا نعجب حينما يكون هناك أمر يستدعي أن يفهم المسلمون دينهم في مسجد من مساجد الله، وفي بيت من بيوت الله ثم يتخلف كثير من المسلمين عن هذا الأمر! ويتخلفون عن حلق الذكر التي يقول فيها الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا، قالوا: وما رياض الجنة يا رسول الله؟! قال: حلق الذكر)، أي: مجالس العلم، فعلى المسلمين أن يتسابقوا إليها.
وهنا يقول الله تعالى: (أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) والمراد بذكر اسمه سبحانه وتعالى: الصلوات الخمس، وتلاوة القرآن، والتسبيح والتهليل (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)، والذي لا يستطيع تلاوة القرآن عليه أن يشغل لسانه بذكر الله، ويكثر من سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، وإذا كان يجيد شيئاً من القرآن فلا يغفل عنه، ولا ننسى أن سورة (قل هو الله أحد) تعدل ثلث القرآن، وهذه نعمة عظيمة من نعم الله سبحانه وتعالى.
المهم أن يشغل هذا الإنسان لسانه بذكر الله عز وجل؛ حتى لا ينشغل بمعصية الله.
ومن رفعة بيوت الله عز وجل ألا تتخذ وسيلة للبيع والشراء، فقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أننا إذا سمعنا من يبيع ويشتري في المساجد أن نقول: لا أربح الله تجارتك، وإذا رأينا من ينشد فيها ضالة نقول: لا ردها الله عليك، ولا تنشد فيها أشعار، ولا يقال فيها إلا ما يرضي الله سبحانه وتعالى، ولا يخاض فيها بشيء من أمور الحياة الدنيا، فكل ذلك يدخل في رفعة هذه المساجد، حتى قال بعض العلماء: النوم في المسجد يتنافى مع قول الله عز وجل: (أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ)، ولكن نستطيع أن نقول: لا بأس بالنوم في المسجد عند الحاجة كأن يكون معتكفاً، أو لابن السبيل، أو لمن لا أهل له ولا دار أو ما أشبه ذلك، فهذه المساجد لا مانع من النوم فيها، وذلك لا يتنافى مع رفعتها.(5/11)
المقصود بالتسبيح في قوله تعالى: (يسبح له فيها بالغدو والآصال)
ثم قال تعالى: {يُسَبَّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ} [النور:36]، وفي قراءة سبعية: (يُسَبَحُ له فيها بالغدو والآصال)، والمراد بالتسبيح: الصلوات الخمس؛ فأكثر ما يستعمل التسبيح في الصلوات الخمس، ولا يمنع أن يدخل في ذلك بقية الأذكار: سبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، لكن كلمة (تسبيح) الأصل فيها هي الصلوات الخمس، ولذلك الله تعالى قال: (بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ)، والغدو هي: صلاة الفجر، والآصال أربع صلوات، فوضعت صلاة الفجر في كفة، والصلوات الأربع الأخرى في كفة أخرى! فليس هناك صلاة في الغدو إلا صلاة الفجر؛ لأن الغدو ما بين نصف الليل إلى الزوال، وليس فيه إلا صلاة واحدة وهي صلاة الفجر، فالغدو معناه: أول النهار، ويدخل فيه آخر الليل.
أما الآصال فتدخل فيه الصلوات الأربع: الظهر؛ لأنها في الأصيل بعد زوال الشمس، والعصر كذلك، والمغرب والعشاء، فكل هذه في الآصال.
إذاً: جعل الله عز وجل صلاة الفجر في كفة، والصلوات الأربع الأخرى في كفة أخرى؛ لأهمية صلاة الفجر.
صلاة الفجر التي إن قصر الليل قال الناس: لا نستطيع أن نصلي الفجر؛ لأن الليل قصير، وإذا زاد الليل قالوا: الليل بارد يصعب علينا أن نصلي الفجر، وهكذا تضيع الحياة، والإنسان يتقلب في فراش النعمة وفي الرخاء، ويغفل عن القبر وما فيه من أهوال ومخاوف ومخاطر، ولربما لا يستيقظ لصلاة الفجر إلا بعد طلوع الشمس، نسأل الله السلامة والعافية! فيوشك أن يكون من الذين قال الله فيهم: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم:59]، وقال: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:4 - 5]، وهذا يوجد عند كثير من المسلمين الذين لا يقومون لصلاة الفجر إلا بعد طلوع الشمس، نسأل الله العافية والسلامة.(5/12)
عظم قدر صلاة الفجر
إذاً صلاة الفجر أمرها عظيم؛ فقد جعلها الله عز وجل منفردة، وجعل الصلوات الأربع مجتمعة، ولذلك جاء في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر، فيصعد الذين كانوا فيكم، فيسألهم الله عز وجل: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون، وفارقناهم وهم يصلون).
وفي الحديث الآخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله)، فإذا صليت الفجر في جماعة فكأنك صليت الليل كله تهجداً، ولذلك يعتبر من صلى الفجر في جماعة في ذمة الله، ولا أحد يستطيع أن يعتدي عليه؛ لأنه في حماية الله وفي حفظه، ولذلك يروى أن بعض الجبابرة كان يقتل في المسلمين، وإذا مثل أمامه مسلم قال: هل صليت الفجر في جماعة؟ قال: نعم، قال: أخلي سبيلك؛ لأنك في ذمة الله! ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم عن صلاة الفجر وصلاة العشاء: (هما أثقل الصلاة على المنافقين، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً)، أي: ولو زحفاً على الركب، فإذا كان الإنسان لا يستطيع أن يمشي يأتي حبواً، فصلاة الفجر لابد أن نربي عليها أطفالنا منذ سن الطفولة؛ لأنها أعظم الصلوات الخمس؛ ولذلك قال الله تعالى: (بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ)، فجعل صلاة الفجر في كفة، والصلوات الأربع في كفة أخرى.(5/13)
دلالة قوله تعالى: (يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال)
وقوله تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ * رِجَالٌ} [النور:36 - 37] كلمة (رجال) تعطينا معنيين: المعنى الأول: أن صلاة الجماعة ليست واجبة على النساء، وقد يعطي الله عز وجل للمرأة إذا حافظت على الصلاة في جماعة أجر ما يأخذه الرجل الذي يصلي في المسجد، فتحصل على سبع وعشرين درجة؛ لأنها غير مطالبة بصلاة الجماعة، وصلاتها في بيتها خير لها، لكن خير لها أن تحضر مجالس الذكر إذا كان هناك مجالس ذكر في المسجد.
المعنى الثاني: أنهم في مستوى الرجولة؛ لأن كلمة (رجل) ليس معناها الذكورة فقط، معناها: ذكر مستكمل كل أمور معاني الرجولة، ولذلك إذا أردت أن تثني على ولدك تقول له: أنت رجل، تريد: أنت اكتملت في معنى الرجولة، ولذلك لا تأتي كلمة رجل في القرآن إلا وتحمل معنى العظمة، فالرجال العظماء، كما قال الله تعالى: (يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ رِجَاَلٌ) أي: رجال عظماء، تغلبوا بعقولهم على شهواتهم.
وقوله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:23] أي: رجال عظماء، وكما قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا} [الأنبياء:7]، وهكذا دائماً كلمة (رجل) لها معنىً عظيم، وهو معنى اكتمال الرجولة، أي: أنهم رجال حقيقة ليسوا ذكوراً فقط، كما يوجد أنصاف ذكور وأرباع ذكور، لأن معنى الذكورية موجودة، لكن معاني الرجولة الأخرى فقدت عند كثير منهم، وإذا أردت أن تنظر إلى نموذجاً من هؤلاء الرجال فانظر إلى أشباه النساء من هؤلاء الذكور الذين هم بصورة رجال من الشباب الذين ينافسون المرأة على موضاتها وعلى شكلها، وحتى في صوتها، وربما في لباسها، وربما في شعرها إلى غير ذلك! فكلمة (رجال) أي: استكملوا معاني الرجولة؛ فأصبحوا رجالاً حقيقة يستحقون كلمة رجل أكثر من غيرهم.
إذاً: هنا نعرف كيف يتربى الرجال حتى لا نغلط ولا نخطئ، فربما ينشغل الإنسان بماله، أو بوظيفته، أو بشهوته، أو بأي أمر من الأمور عن أطفاله وأولاده، فيتربى هؤلاء الأطفال في المقاهي، وأمام الأفلام، وأمام المحرمات، ولربما مع قرناء السوء والفاسدين والفسقة، فيبحث ذلك الأب حينما يفكر وحينما يعود إليه صوابه عن ذلك الطفل فإذا هو قد أصبح في سن الرجال وهو منفلت عن تعاليم الإسلام، فيبدأ يقسره قسراً على تعاليم الإسلام، فيعجز؛ لأنه عصى قول الرسول صلى الله عليه وسلم حينما قال: (مروا أبناءكم بالصلاة وهم أبناء سبع)، يعني: ربوهم في المساجد وهم في سن التمييز، منذ السن الأولى المبكرة التي يتربى فيها الرجال، فيبدأ يندب حظه، ويندب نفسه، ويستشير فلاناً الفلاني: ما رأيك في ولدي؟! فنقول: ولدك أنت الذي ضيعته حينما كان في السن المناسبة للتربية، ولربما إذا قيل له: يا أخي! اتق الله في أولادك، يقول: لا أستطيع أن أحكم القبضة عليهم، والسبب أن هناك أسساً مبكرة تطالب فيها أيها الإنسان! فلم تقم بها كما أمرك الله عز وجل وكما أمرك الرسول صلى الله عليه وسلم، فالله يقول: (يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ رِجَاَلٌ) والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (مروا أبناءكم بالصلاة وهم أبناء سبع)، فأنت فوت الفرصة، ولذا لا تلم إلا نفسك إذا خرج لك أولاد منفلتون عن طاعة الله عز وجل.(5/14)
حال السلف رحمهم الله في إقام الصلاة وإيتاء الزكاة
قال تعالى: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} [النور:37]، رأى بعضُ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سلفَنا الصالح والمنادي يقول: حي على الصلاة! حي على الفلاح! وكان الباعة في الأسواق قد رفع أحدهم الميزان بيده يزن البضاعة، فلما سمع: الله أكبر، رمى بالميزان على الأرض، وأغلق دكانه وهرع إلى المسجد، فقال: (في هؤلاء نزل قوله تعالى: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور:37])، هؤلاء هم الرجال الذين يستحقون كلمة رجال، فلهم تجارة، ولهم بيع وشراء، ولهم متاجر، ولهم معارض، وعندهم أموال، ويستطيعون أن يشغلوها أربعاً وعشرين ساعة، لكن وقت العبادة لا يمكن أن يستعمل للبحث عن المال في الحياة الدنيا، وهكذا يكون الرجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع.
ولا تظنوا أيها الإخوة! أنهم رجال عاطلون؛ فإن الإسلام لا يعترف بالعاطل، وإنما يريد من هذا الإنسان أن تكون له مهنة، وأن تكون له وظيفة، وأن تكون له تجارة، وأن يعمر هذه الحياة، وأن يبحث عن المال الحلال من أجل أن يستفيد من هذا المال الحلال فيما يرضي الله عز وجل، ويستغني به عما حرم الله.
إذاً: هذه التجارة موجودة، لكن التجارة في اليد ليست في القلب، أما القلب فإنه مليء بالتجارة التي لا تبور: البحث عن الجنة، وعن السعادة الخالدة، وعما يرضي الله سبحانه وتعالى، ولذلك يقول الله تعالى: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور:37]، أي: لهم تجارة، ولهم بيع، ولكن هذا البيع وهذه التجارة لا تلهيهم عن ذكر الله.
وأما ما الفرق بين البيع وبين التجارة؟ فيقولون: البيع هو الأخذ والعطاء مع سائر الناس، وأما التجارة فمعناها: استيراد.
إذاً: هؤلاء مهما كانت مشاغلهم لا يمكن أن تصرفهم عن الله عز وجل وعن دينه، فلهم تجارة، ولهم دكاكين، ولهم محلات، وعندهم أسواق، وعندهم أموال مغرية وأرباح، لكن يعتبرون وقت الصلاة للصلاة، فأحدهم يجلس في دكانه يبيع ويشتري، فإذا سمع المنادي: حي على الصلاة حي على الفلاح يقفل دكانه، ولا داعي أن تقول له الحسبة أو الهيئة: أقفل دكانك؛ لأنه يسير بأمر الله سبحانه وتعالى.(5/15)
الدافع للرجال الصالحين إلى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة
وقوله تعالى: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} [النور:37]؛ لأنهم يعتبرون إقام الصلاة والإتيان بها مستقيمة، وإيتاء الزكاة هي ربح هذه التجارة، وهي أفضل ما يزاوله الإنسان، وهي تجارة هذا المال، فلهم تجارة، لكن هذه التجارة لا تشغلهم عن ذكر الله، ولا تشغلهم عن الزكاة التي هي حق معلوم فرضها الله عز وجل على هؤلاء الناس بقدر أموالهم.
وأما ما هو الدافع لذلك؟ فقال تعالى: {يَخَافُونَ يَوْمًا يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور:37]، فيا إخوان! ذلك اليوم عظيم جداً؛ لأن الله تعالى سماه: {يَوْمًا ثَقِيلًا} [الإنسان:27]، وسماه: {يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} [الإنسان:10]، وقال عنه: {يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان:7]، وقال: {يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} [الإنسان:17]، فلا تجد صفات أعظم من هذه الصفات في ذلك اليوم؛ حيث يتحول الطفل إلى شيخ كبير السن شعره أبيض من شدة المخاوف.
هذا اليوم يقول الله عز وجل عنه: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47]، إنه يوم واحد يساوي ألف سنة، لكن هذا اليوم العظيم يهونه الله عز وجل على المؤمن حتى يصبح كالصلاة المكتوبة، وتصوروا يا إخوان! المسلم يصل إلى مقره في الجنة في أقل من نصف نهار من أيام الدنيا، مع أن اليوم يساوي ألف سنة، لكنه في أقل من نصف نهار يصل إلى منزله في الجنة، والله عز وجل يقول: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان:24]، ليس في الآخرة قيلولة، وليس فيها حر ولا برد، وليس فيها ليل ولا نهار، لكن المراد: أنه بالنسبة لأيام الدنيا يكون ذلك في أقل من نصف نهار، يعني: قبل أن يأتي وقت القيلولة يكون ذلك الإنسان قد وصل إلى منزله في الجنة، ولذلك يقول الله تعالى: {يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور:37]، كيف تتقلب القلوب؟ من شدة الخوف يقفز القلب من مكانه حتى يسد الحنجرة، ويقفز البصر من مكانه حتى يكون في أعلى الرأس؛ لأن الإنسان حينما يخاف يحصل له هذا الأمر، فإذا خاف الإنسان رفع بصره إلى السماء، فكأن البصر قفز إلى أعلى الوجه، وإذا خاف يرجف هذا القلب رجفاً شديداً، ومن شدة الارتجاف يصعد هذا القلب حتى يسد الحنجرة، ولذلك يقول الله تعالى: {إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ} [غافر:18]، فحتى القلب يقفز عن مكانه، فيكظم الحنجرة، فلا يستطيع الإنسان أن يتنفس، وهذا اليوم العظيم يهونه الله تعالى على أولياء الله وعلى الصالحين من عباد الله، ولذلك يقول الله تعالى: {يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور:37].
إذاً: هؤلاء اللاهون اللاعبون العابثون الذين ليس لهم هم إلا الدنيا والشهوات والمتاع، وربما الطعن في دين الله، هؤلاء في غفلة عن ذلك اليوم، وأما الذي يتذكر ذلك اليوم فهم الرجال الذين تربوا في المساجد، فلم تشغلهم الدنيا عن ذكر الله عز وجل والدار الآخرة، في وقت يلهو فيه ويلعب كثير من الناس، ويغفلون عن الموت فلا ينتبهون إلا حين يجلس ملك الموت عند رأس أحدهم.
وهل المسلم يعبد الله طمعاً في الجنة وخوفاً من النار أم محبة في الله، كما يقول الصوفية؟ فغلاة الصوفية يقولون: نحن لا نخاف من النار ولا نريد الجنة! فماذا تريدون؟ قالوا: نعبد الله محبة لله، كما قالت رابعة العدوية: (عبدتك لا خوفاً من نارك ولا حباً في جنتك، وإنما محبة فيك)، وهذا كلام فاسد ليس بصحيح؛ فنحن نعبد الله محبة فيه وخوفاً من عذابه وطمعاً في جنته، ولذلك أفضل الرجال هنا يعبدون الله لماذا؟ يقول الله: {يَخَافُونَ يَوْمًا يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور:37].
فليست عبادة الله كما يقول الصوفية: محبة لله فقط، وإنما تكون عبادة الله طمعاً في جنته وخوفاً من ناره، ولذلك لما مدح الله تعالى المرسلين وهم خيرة البشرية وصفوة الخلق قال الله تعالى عنهم: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء:90]، فإذا كان الأنبياء يدعون الله رغباً ورهباً فهل الصوفية فوق مستوى الأنبياء يدعون الله حباً له، وليس رغباً ولا رهباً؟! إذاً: هذه الآية ترد على من يقولون: عبدتك لا خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك.
ونحن نقول: عبدناك يا رب محبة لك وطمعاً في جنتك وخوفاً من عذابك، وهذا هو المنهج الصحيح الذي يجب أن يسلكه المسلم في هذه الحياة؛ ولذلك مدح الله تعالى هؤلاء الرجال فقال: {يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور:37].(5/16)
جزاء الخائفين من الله عز وجل
ثم وعدهم الله عز وجل بالجزاء الحسن فقال سبحانه وتعالى: {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} [النور:38]، فهم خافوا في هذه الدنيا فاطمأنوا في الحياة الآخرة، كما قال عمر بن عبد العزيز: إنه لا يأمن غداً إلا من خاف وحذر في هذا اليوم.
فالذين يضحكون في هذه الدنيا ملء أفواههم، ولا يبالون بما يقترفون من سيئات وعظائم وذنوب، يفعل أحدهم الذنب وهو يضحك، نقول لهم: إن الذين خلع قلوبهم الخوف من الآخرة والرغبة الشديدة في الجنة، والخوف العظيم من النار، والخوف العظيم من الحساب، والخوف العظيم من مزلة الصراط، هذا الخوف في الدنيا الذي جعلهم يتجهون إلى الله عز وجل هو الذي يؤمنهم يوم القيامة، والله تعالى يقول: {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:38]، أي: يجزيهم بالحسنات، ويزيدهم سبحانه وتعالى بأن يعطيهم درجاتٍ ما عملوها في الحياة الدنيا، وهذا من كرم الله سبحانه وتعالى، ولذلك هناك زيادة على العمل، فإذا نشر الكتاب يوم القيامة للمؤمن وجد فيه أعمالاً لم يعملها، فيقول: يا رب! ما عملت هذه الحسنات، ولا عملت هذه الحسنات، فيقول له: كنت تفعل كذا، وكنت تفعل كذا، أي: أن هذه كانت هي السبب في الحصول على هذه الدرجات العلا التي يعطيها الله عز وجل للمؤمن والمؤمنة في الحياة الآخرة.
وقوله تعالى: {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} [النور:38] أي: يعاملهم بالحسنات، ويتجاوز عن السيئات ما داموا قد تابوا هنا، {وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:38] أي: يعطيهم زيادة؛ ولذلك صح في الحديث: أن أهل الجنة إذا دخلوا الجنة قال الله عز وجل: (يا أهل الجنة! هل تريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون: يا ربنا! ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة؟ ألم تخلصنا من النار؟! فيقول: بلى، أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً)، وهذا أعظم ما يأخذه الإنسان في الحياة الآخرة من الجزاء، ويعطيهم الله عز وجل زيادة، فيكشف سبحانه وتعالى الحجاب فينظرون إلى الله عز وجل كما ينظر الناس إلى القمر ليلة البدر، لا يضامون في رؤيته، وهذا أفضل نعيم يحصل عليه المؤمن والمؤمنة في الدار الآخرة، وهو النظر إلى وجه الله عز وجل، وهو معنى قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]، والزيادة على الجنة هي النظر إلى وجه الله عز وجل في الجنة، وهذا هو أعظم وأفضل وألذ أنواع النعيم التي يراها والتي يأخذها الإنسان في الحياة الآخرة.
إذاً: هنا يقول الله تعالى: {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:38]، أي: زيادة من عنده ليس من أعمالهم، وإنما هي حسنات ما عملوها؛ لأن الله تعالى كريم شكور حليم.
وقوله عز وجل: {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور:38]، أي: يعطيه أكثر من حقه دون أن يحاسبه، وإذا حاسبه وفاه حسابه، وأعطاه الله عز وجل بمنه وكرمه أموراً لم يفعلها.(5/17)
مثل أعمال الكافرين
يقول الله تعالى بعد ذلك: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} [النور:39] نعوذ بالله!(5/18)
جزاء الكفار على أعمالهم في الدنيا
انظر إلى الفرق بين المؤمن الكافر: المؤمن عمله وقلبه كسراج مضيء دائماً؛ يرى الخير والشر، فيترك الشر ويفعل الخير، لكن إذا نظرت إلى قلب الكافر وإلى عمل الكافر وجدت أعماله على نوعين: أعمال ظاهرها الخير وباطنها الفساد، وأعمال أخرى ظاهرها وباطنها الفساد، فمن الأعمال التي ظاهرها الخير ما يفعله الكفار بما يسمونه بالإنسانية: من بذل المعروف، ومساعدة المحتاج، وقضاء حوائج الناس، وبناء جسور، ومدارس، ومستشفيات، وربما يبنون مساجد، وربما يتصدقون على فقير بدافع يسمونه بالإنسانية، وهذه حسنات، لكن ليس لها قيمة عند الله تعالى في الحياة الآخرة، لكن لها قيمة عند الله عز وجل في الحياة الدنيا؛ لأن الله تعالى لا يظلم مثقال ذرة.
ولهذا يعطي الله هذا الكافر صحة في جسده، ومالاً كثيراً، وأولاداً، وأموراً كثيرة يعجلها له في الحياة الدنيا؛ لأنه ليس عنده نية طيبة، وليس عنده إيمان وإخلاص لله عز وجل، فينال هذا الجزاء في الحياة الآخرة، ولذلك يقول الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} [هود:15]، أي: بعمله، {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ} [هود:15]، وهذا هو الذي جعل كثيراً من الناس يتعجبون: لماذا فلان الكافر في صحة في جسده؟ ولماذا عنده مال؟ ولماذا عنده أولاد وسيارات ومساكن جميلة؟ ولماذا المؤمنون يعيشون فقراء؟ ولماذا بلاد الكفر تنتشر فيها المصانع ووسائل التقنية الحديثة وبلاد المسلمين متأخرة؟! وكل هذه الأشياء يتساءل عنها الإنسان في كثير من الأحيان، وربما ينحرف -والعياذ بالله- إذا رأى الكفار أقبلت عليهم الحياة الدنيا، وقد زويت عن كثير من المؤمنين.
والسبب في ذلك هو ما ذكره الله عز وجل في قوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ} [هود:15]، وهذا الواقع هو الذي جعل كثيراً من الكفار والمعاندين لدين الله ينحرفون، ويتمادون في ضلالهم؛ لأنهم يظنون أن الله تعالى ما أعطاهم هذه الدنيا إلا لأنه يحبهم، كما قال تعالى: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ} [الفجر:15]، ولو كان فاجراً كافراً فإنه يقول: (رَبِّي أَكْرَمَنِ)، أنا عزيز على الله، {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} [الفجر:16] {كَلَّا} [الفجر:17]، أي: لا أكرم الأول ولا أهان الثاني؛ فهذه الدنيا ما لها قيمة عند الله عز وجل، ولو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء، وإنما الذي حدث هو أن الله عز وجل يبتلي هؤلاء الناس، فيعجل جزاء الكافرين والعصاة والفسقة الذين لا يريدون الحياة الآخرة، يعجل لهم جزاءهم في الحياة الدنيا؛ ليدخرها للمؤمنين في الحياة الآخرة، وهذا هو معنى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} [النور:39].
والسراب: أنك عندما تسير في وقت القيلولة في الصحراء تجد من بعد كأن أمامك ماءً، خصوصاً إذا عطش الإنسان، فإذا عطش الإنسان يرى كأن هناك ماءً على وجه الأرض، فيركض وراءه، وكلما دنا من هذا السراب ابتعد السراب؛ لأنه ليس ماءً، بل هو أمر خيالي ليس له حقيقة، وكلما دنا منه ابتعد عنه؛ حتى يهلك هذا الإنسان وهو يلحق هذا السراب.(5/19)
الكفر والبدعة تمحق الحسنات والأعمال الصالحة
إذاً: هذا هو الكافر أو الفاسق الذي يقدم الحسنات، لكن بدون نية وبدون إرادة الحياة الآخرة، وبدون هدف رضا الله عز وجل، وربما يقدم حسنات في الظاهر، لكنها في الحقيقة ليست بحسنات، كما يفعل الصوفية والمبتدعة، نعوذ بالله من حالهم، فقد رأينا في بعض بلاد المسلمين من يسهر من العشاء إلى الفجر في عبادة، لكنها تذهب به إلى نار جهنم، فأحدهم يطوف حول قبر، ويتمسح به، ويتغنى في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم ويقول: هذا هو الدين، ويرقص ويغني، وهذا الدين يعيشه مع الأسف الشديد كثير من المسلمين اليوم، وهذا هو ما أشار الله عز وجل إليه بقوله: {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} [النور:39]، وقال في آية أخرى: {كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ} [إبراهيم:18]، وقال الله عز وجل: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ} [هود:15]، وقال الله عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية:2 - 4].
والعجيب أنها عاملة وناصبة تتعب في طاعة الله، لكن تصلى ناراً حامية يوم القيامة؛ لأن أصحاب هذه الطريق لا يسيرون على المنهج الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله، ولو كانوا على بصيرة لنفعهم هذا العمل، أما هذا العمل إذا كان على غير المنهج الصحيح فإنه لا يقبل عند الله عز وجل، فلا يقبل عند الله من العمل إلا ما كان خالصاً لله وصواباً على ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وأي عمل ليس خالصاً لله، ولا يقوم على قاعدة الإيمان، وليس موافقاً للمنهج الصحيح الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فهو كسراب بقيعة، فليعمل من شاء ما يشاء أن يعمل فلن يزيده من الله عز وجل إلا بعداً.
فكم من دموع تراق عند القبور والأضرحة! نسأل الله العافية، ونشكر الله على نعمة الهداية، ونسأل الله أن يتغمد الشيخ محمد بن عبد الوهاب بواسع رحمته، فقد سلمت هذه البلاد بسبب دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه، فوالله يا إخوان إن بلاد الحضارة لو جئت إليها لوجدت الدموع تسيل كأنها أنهار من عيون هؤلاء القوم من خشية الله، لكن على طريق غير صحيح، إما عند قبر ميت أو غيره، وتجد أحدهم قد ولى الكعبة ظهره، واتجه إلى صاحب القبر يسأله من دون الله عز وجل! وقوله تعالى: {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً} [النور:39]، القيعة هي: الأرض الواسعة، والسراب هو شيء يشبه الماء، ولكن لا يمكن أن يشرب أحد من هذا السراب ماءً؛ لأن السراب لا حقيقة له، فيهلك ويركض وراء هذا السراب ويموت وينتهي، فأعمالهم كمن يركض وراء السراب، أي: أنهم يركضون وراء أعمال لا حقيقة لها، ثم يهلكون دونها يوم القيامة، ثم يوقفون على شفير جهنم، فلا تنفعهم تلك الأعمال وإن كان ظاهرها الصلاح ما دامت غير صحيحة، أي: ما دامت غير خالصة لله عز وجل فلا تنفع، وهذه أعمال المنافقين، وأظن العلمانيين من هذا النوع؛ فالعلمانيون يصلون ويصومون ويحجون ويعتمرون، وربما يسابقون الناس إلى المساجد، لكن يقولون: دين الإسلام لا يصلح للحياة كنظام، فنقول: أعمالكم كسراب بقيعة؛ لأنكم كفرتم بالله عز وجل، قال عز وجل: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة:5]، وما دام أنكم تتهمون دين الله أنه لا يصلح للحياة، والله تعالى يقول: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89]، ويقول: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38].(5/20)
أعمال الكفار كالشراب أو كالظلمة في اللجة
إذاً: أعمالكم أيها العلمانيون! كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء.
قال عز وجل: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النور:39]، أي: إذا جاء الظمآن إلى السراب لا يجده شيئاً، ويجد العمل الذي عمله على غير صواب وعلى غير منهج صحيح لا شيء، {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ} [النور:39]، أي: وجد الله عز وجل عند عمله، {فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} [النور:39]، أي: ما نقصه الله عز وجل، لكن حسابه سيء، وأعماله سيئة، {وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور:39]، أي: لا يعجزه أمر من الأمور، فيحاسب الخلائق في لحظه واحدة، وهذا هو النوع الأول من الأعمال السيئة.
النوع الثاني: قال عز وجل: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} [النور:40]، والأعمال على نوعين: أعمال ظاهرها الصلاح تشبه السراب؛ لأن ظاهرها يختلف عن باطنها، والسراب له ظاهر وله باطن، فظاهره يشبه الماء، وباطنه لا حقيقة له، أما الأعمال الأخرى فهي فساد، ومعاص فوق معاص، وسيئات وراء سيئات، وكفر يجر وراءه آثاماً، ولذلك شبه الله تعالى أعمال الكافرين وهم يعملون السيئات تلو السيئات، والكفر بعد الكفر شبههم بإنسان غاص في قعر البحر، وكان البحر عميقاً، وكان هذا البحر العميق لجة، واللجة الماء الكثير، فكان فوقه موج، وفوق الموج موج آخر، والأمواج بطبيعتها تغطي ضوء الشمس، وتغطي النور؛ لأنها تضطرب بالماء، فتحصل حركة تخفي الضوء، وفوق الموج الثالث سحاب، فلو أن شخصاً غاص في البحر في مثل هذه الحال، وأراد أن ينظر إلى يديه فإنه لا يراها ولو رفع يده لينظر إليها من قعر البحر فإنه لا يراها من شدة الظلام.
إذاً: أعمالهم كهذا الشكل، (كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ)، أي: عميق كثير الماء، (يَغْشَاهُ)، أي: يغطي هذا الإنسان موج، (مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ)، يعني: فوق الموج الأول موج آخر، (مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ)، أي: من فوق الموج الثالث سحاب، والسحاب بطبيعتها تحجب ضوء الشمس، {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور:40]، ولو أراد أن ينظر إلى يده فإنه لن يراها.(5/21)
الهداية بيد الله عز وجل
قال عز وجل: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40]، هذا هو السر في ذلك، فالذي لا يعطيه الله عز وجل نوراً كالنور الذي مر معنا في الآية السابقة: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور:35] وما دام الله تعالى حال بينه وبين هذا النور، فليس له نور.
إذاً نقول: إن النور لا يكتسب بالآباء ولا بالأجداد ولا بالأمجاد، ولا بالنسب، ولا بالذكاء، ولا بالقوة والشجاعة، ولا بأي شيء آخر، ولكنه يأتي من عند الله عز وجل، فإذا منَّ الله على إنسان من الناس بأن منحه هذا النور اهتدى به وسار به في ظلمات هذه الحياة، {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(5/22)
الأسئلة(5/23)
لا تنافي بين الدراسة في المسجد والمدرسة
السؤال
ذكرتم أن المساجد هي أماكن التربية الإسلامية الحقة: من حفظ للقرآن الكريم، وتدارس لآياته، وتدارس لأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولكن يزعم بعض الناس أن إلحاق أبنائهم في حلق المساجد يزيد من أعبائهم التعليمية، ولا يستطيعون التوفيق بين العلم الذي يؤخذ من المساجد والعلم الذي يدرس في المدارس، فيتركون المساجد لهذا السبب، نأمل من فضيلتكم إيضاح هذا الأمر، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
أولاً: المساجد هي قطب الحياة، ولا تقوم أمور الناس إلا بالمساجد، وهذا أمر مشاهد، ولذلك أبناء المساجد هم الذين تقر بهم العيون.
أما كون المساجد تشغل الناس بحلق القرآن عن العلوم الأخرى فهذا غير صحيح، فالله تعالى يقول عن القرآن: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89]، فكل علوم الدنيا محشوة في القرآن، وعلى فرض غير ذلك فإن أعظم مادة يطالب بها الطالب في المدارس هي القرآن، لا سيما حينما يتدرب على القراءة الصحيحة من خلال قراءة القرآن وتلاوة القرآن.
وحينما نقول ذلك لا نريد أن نضيع المدارس لتكون هناك حلق للقرآن، ولكن نريد أن نوفق بين هذا وهذا، فلا نؤيد أن يتفرغ الإنسان لحلق المساجد ليترك العلوم العصرية، والحصول على بعض المؤهلات، لكن نقول: حبذا لو كان التوفيق بين هذا وذاك، أو على الأقل شغل وقت الفراغ الذي يزيد عند هؤلاء الشباب، إضافة إلى أنه يكون هناك حلق بغير وقت الفراغ أيضاً، لكنها لا تقضي على العلوم العصرية.
وعلى هذا نقول: إن الشباب عندهم فراغ، وعندهم وقت زائد عن الحاجة، وأرى أكثر الشباب لا يستغل الفرصة كلها والوقت كله في طلب العلم، ولا في الحصول على العلوم العصرية الأخرى التي يقول عنها الأخ السائل، فنقول: نطالبه في وقت الفراغ، فإن وقت الفراغ كثير عندنا، وأفضل ما يشغل فيه هذا الفراغ هو تعليم كتاب الله، وأكثر الطلبة البارزين كما علمنا من الواقع أنهم هم الذين يقضون زائد الوقت في حلق المساجد، وحلق القرآن.(5/24)
إصلاح المجتمع لا يقتصر فيه على المحاضرات فقط
السؤال
إذا كان إصلاح المجتمع يقتصر على مثل هذه المحاضرات التي نفرح بها كثيراً، أو الدروس، أو ربما بعض المنابر وليست كلها، فهل هذا يكفي؟ لا سيما وأنتم تعلمون أنه لا يحضر مثل هذه المجالس إلا عدد محدود من الطيبين، وليسوا كلهم يقومون بالواجب الذي أنزله الله عليهم من الدعوة إلى الله، بينما المؤثرات السلبية أكثر وأكثر، فكيف ببانٍ خلفه ألف هادم؟!
الجواب
هذا كلام صحيح، فإن من أهم مقومات تربية أبناء المسلمين هي البيئة الصالحة، فلو ذهبنا بهذا الشاب ووضعنا جل وقته في المسجد مع وجود بيئة منحرفة فيها لهو ولعب كما يوجد في أيامنا الحاضرة، أو بيوت لاهية لاعبة عابثة كما يوجد في كثير من الأحيان في واقع الأمة الإسلامية، لكان كما يقول: متى يبلغ البنيان يوماً تمامه إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم ولكن ثقوا أيها الإخوة! أن البناء ينتج أكثر من الهدم، ولو كان البناء أقل؛ لأن الفطرة الموجودة في هؤلاء الناس هي فطرة الله عز وجل، فطرة الإيمان، وربما يكفي وقت قليل للمحافظة على هذه الفطرة، لكن بشرط أن يحال بين هذه الفطرة وبين المؤثرات الخارجية، المهم يا إخوتي! ما لا يدرك كله لا يترك كله، فنحن لا نستطيع أن نسيطر على البيئة كلها وعلى المجتمع كله، وإن كنا قد نستطيع أن نسيطر على بيوتنا؛ لأن الله تعالى استرعانا على البيوت وعلى الذرية، لكن إذا عجزنا عن هذا وهذا فالمساجد تقوم بالدور الذي يكافح الأخطاء التي توجد في المجتمع، أو توجد في البيت في كثير من الأحيان، لكن يفضل أن يكون البيت نظيفاً.(5/25)
سبب رخاء بلاد الكفار وحلول المصائب في بلاد المسلمين
السؤال
هناك من إذا ذكِّر بأن المصائب التي تحل بالأمة الإسلامية أنها عقوبة من الله عز وجل، وابتلاء وامتحان، يقول: بأن الكفار في أوروبا وغيرها من بلاد الشرق تنتشر فيها الفواحش بأنواعها، ومع ذلك نجد بأنها تعيش في أمان، ولم تحل بها عقوبة من الله، فكيف نرد على أولئك القوم، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
أولاً: هناك فرق بين المجتمعات الإسلامية والمجتمعات الكافرة، فالمجتمعات الإسلامية التي رسم لها طريق من عند الله عز وجل والتزمت به، إذا انحرفت عنه تصاب بعقوبة الله عز وجل، ولذلك يقول الله عز وجل: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30]، ويقول: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم:41]، ويقول: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر:45]، ويقول: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الأنفال:53]، وغير ذلك من الآيات، وكلها تدل على أن ما يحدث من الفساد في هذه الأرض ومن البلاء ومن المشاكل والمصائب، إنما هو بسبب ما كسبت أيدي الناس.
أما ما أورده الأخ السائل في قوله: كيف يكون ذلك وبلاد الكفر تمطر ليلاً ونهاراً، وفيها غاية النعيم والمتاع والأجواء الطيبة، والمياة الجارية وهي على معصية الله؟ فالفرق واضح، فتلك أمة منهجها منحرف أصلاً، ولم تكن مستقيمة فانحرفت، والعقوبة تصيب من استقام فانحرف.
والأمر الآخر: هو ما أشرت إليه في تفسير الآيات في قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ} [هود:15]، فما في بلاد الكفر من رخاء العيش، ومن المتاع، ومن الأنهار، ومن الأمطار المتواصلة، ومن الخضرة وخصوبة الأرض، ومن الصحة والعافية والترف والنعيم، كل ذلك لأن لهم حسنات عند الله عز وجل، وهذه الحسنات لا تكتب لهم في الآخرة؛ لأن الله تعالى لا يرحم في الآخرة كافراً، وإنما يكون الجزاء الحسن للمؤمنين.
إذاً: الله عز وجل لا يظلم مثقال ذرة، ولهم حسنات في الدنيا، والله تعالى غفر لمن سقى كلباً، فإذا فعلوا حسنات في هذه الحياة الدنيا كأن يجروا الترع والأنهار مثلاً، أو يبنوا الجسور والقناطر، أو يفتحوا المستشفيات والمدارس، أو يقدموا أي خدمة لخلق الله، فهذا عمل صالح، لكنه غير مقبول عند الله تعالى، فالله تعالى يعجل جزاءهم في الحياة الدنيا، ولذلك تأتيهم الحياة الدنيا أكثر مما تأتي المؤمنين، ولعل السر الواضح في ذلك هو ما قلت لكم.
إذاً واقعهم هو معنى قوله تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا)، أي: بعمله، (وَزِينَتَهَا) أي: لا يريد الآخرة، (نُوَفِّ) أي: نعطيهم الجزاء وافياً (نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ)، يعني: يأخذون الحق كاملاً، {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا النَّارُ} [هود:16]؛ لأنهم في الدنيا أخذوا نصيبهم، فليس لهم نصيب في الآخرة.
إذاً: لا تعجب يا أخي! أن ترى بلاد الكفر بهذا الشكل كما أشار الأخ السائل؛ لأن سنة الله تعالى أن يعجل الجزاء للكافرين ويدخر الجزاء للمؤمنين، وربما يعجل الله عز وجل بعض الجزاء للمؤمنين، ويدخر لهم الجزاء في الآخرة، كما قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الأعراف:32]، أي: ويشاركهم فيها الكافرون، {خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:32].(5/26)
النظر في الطاعة إلى من هو أعلى للحاق به لا إلى المجتمعات الفاسدة
السؤال
إذا تكلم بعض الغيورين على بعض الأمور التي يخشونها على هذه البلاد انبرى من انبرى لهم وقال: إن مجتمعنا بإعلامه ومستشفياته وبنوكه أفضل من غيره بكثير، أرجو من فضيلتكم توضيح ذلك، وهل يضرب المثل للشر بالشر؟
الجواب
الحقيقة أن هذه مشكلة تتكرر كثيراً؛ فقوله: إن بلادنا بلاد الخير فيها كذا وكذا، وقوله: هل سافرت ورأيت كيف الفساد في الأرض؟ وكيف أن خانات الخمر مفتوحة علناً في رمضان؟ أما رأيت دور الفساد؟! فنقول: صحيح رأينا هذا، لكن هل ننظر إلى من هلك، أم ننظر إلى من نجا؟ نحن عندنا مقياس ثابت، فلا نريد إذا هبط العالم درجتين أن نهبط نحن درجة واحدة، بل نريد إذا هبط العالم درجتين أن نرتفع درجتين في هذه الدنيا، أما لو بدأنا نهبط وراء العالم، ويهبط العالم درجتين ونهبط درجة واحدة، وكلما هبط هبطنا أقل منه، فالهبوط ليس له نهاية.
إذاً: صحيح أن بلاد الكفر أو حتى بعض بلاد المسلمين انتشر فيها الفساد أكثر مما يوجد في بعض البلاد الأخرى، لكن نحن عندنا مقياس ثابت، ومعيار صحيح لا يمكن أن ننطلق إلا منه، فنزن ما يحدث في أمور الناس، وفي واقع الناس بالمعيار الصحيح، ونرجع إلى النقطة الثابتة التي أمر الله عز وجل أن نثبت عليها، فما خالف هذا المعيار نعتبره منحرفاً ولو كان أقل انحرافاً من البلاد الأخرى.
إذاً: هذه مقاييس مادية لا تصلح، وربما نركض وراء العالم ونكون خيراً منه قليلاً، أو خيراً منه كثيراً، ففي بلاد العالم نواد للعراة، فنقول: نحن أحسن منهم قليلاً، والآن زواج الذكر بالذكر أصبح رسمياً في بعض بلاد الكفر والعياذ بالله! ويعقد له رسمياً، ويعترف به القانون، والقوانين كلما هبط الإنسان هبطت القوانين معه، ولربما تهبط القوانين أكثر من هبوط الإنسان، فهل نسير وراء هذا الإنسان الهابط بهذا الشكل ونقول: نحن خير منه؟! فنقول: ننظر إلى سلفنا الصالح، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما صلح به أولها، ومن ذلك المعيار نستطيع أن نعرف موقعنا في هذه الحياة.(5/27)
خطر النظر المحرم
السؤال
ما هو الجمع بين قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [النور:21] الآية، وبين قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30]، فهل النظر خطوة من خطوات الشيطان أم ماذا، وفقكم الله؟
الجواب
خطوات الشيطان خطوات خطيرة جداً تدخل الناس النار، ومنها وسائل، وربما يأتي الشيطان إلى الإنسان فيقول: هذه أمور يسيرة، فهي نظرة استغفر الله منها، وهي سيئة صغيرة، وأنت ما فعلت كبيرة، ثم نجد أن هذه الخطوة تتلوها خطوة وخطوة إلى آخره، كما يقول الشاعر: نظرة فابتسامة فسلام فكلام فموعد فلقاء إلى أن تكون الفاحشة، ولذلك يا إخوان! النظر من أخطر الأمور التي توقع في فاحشة الزنا والعياذ بالله! والدليل على ذلك أن الله تعالى وضع النظر بجوار الأمر بحفظ الفرج فقال: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30]، وقال: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:31]، وصلة النظر بالفرج أن النظرة كما قال الله عز وجل في الحديث القدسي: (سهم مسموم من سهام إبليس، من تركها من أجل مخافتي أبدلته إيماناً يجد حلاوته في قلبه).
إذاًَ: أيها الأخ! لا تستغرب أن تكون النظرات من خطوات الشيطان، ودخول البيوت من خطوات الشيطان، والحديث عن الفاحشة من خطوات الشيطان، وكل هذه خطوات بعضها أعلى من بعض، وكلها خطوات للشيطان، والخطوة قد تكون صغيرة، وقد تكون كبيرة، فمعنى خطوة أي: تقرب إلى الأمر المطلوب، فالنظرة تقرب إلى الأمر المطلوب مما حرم الله، فهي خطوة من خطوات الشيطان، ولذلك فإن هناك علاقة وثيقة بين النظر وبين قوله تعالى: {لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [النور:21].(5/28)
حكم الملابس القصيرة للفتيات الصغيرات
السؤال
انتشر في الآونة الأخيرة لبس الملابس القصيرة للفتيات الصغيرات، لا سيما أننا نجد هذا في بيوت الناس الذين يقتدى بهم، فما توجيهكم لذلك؛ لأن كثيراً منهم يقول: هذه لا زالت صغيرة، وهو يربيها على ذلك، وفقكم الله؟
الجواب
الصحيح أن الإسلام جاء لسد الذرائع، وجاء بالتربية منذ البداية، وسد أبواب الشر قبل أن يأتي الموعد المحدد لتوقع وقوع الشر، والطفلة الصغيرة قد تكون في سن لا يفكر فيها أحد من الناس، وربما يفكر فيها بعض الناس وإن كانت في سن صغيرة، لكن هب أنه لا يفكر فيها أحد فإن الشاعر يقول: وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوده أبوه فإذا عودها أبوها وعودتها أمها على الملابس القصيرة فلربما لا نعرف النقطة التي نستطيع أن نميز بها بين الصغر والكبر، فيوم أو يومان أو سنة أو سنتان لا تكون فاصلاً بين الصغر والكبر، فما هو الفاصل؟ الفاصل: أن يتربى الطفل على الحشمة وعلى الحياء منذ أيام طفولته، حتى إذا كبر يكون الحياء خلقاً من أخلاقه.
والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.(5/29)
المستقبل لهذا الدين
نحن مطالبون بالأخذ بالأسباب المشروعة المؤدية إلى نصرة هذا الدين العظيم، وليعلم كل مسلم أن المستقبل لهذا الدين وإن خذله الناس، فقد تكفل الله بحفظ دينه، وإظهاره على سائر الأديان، وإدخاله كل بيت مدر ووبر.(6/1)
أهمية اعتقاد أن المستقبل والظهور لهذا الدين
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونثني عليه الخير كله، ونشكره ولا نكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، الذي بعثه الله رحمة للعالمين وحجة على الناس أجمعين، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فصلى الله عليه وسلم وبارك، وعلى آله ومن دعا بدعوته وعمل بسنته ونصح لأمته إلى يوم الدين.
أما بعد: فلماذا نتحدث عن المستقبل لهذا الدين ونحن نرى الواقع لهذا الدين؟ بل نحن نعيش فترة هذا الدين، فبالله هل في مثل هذه الفترة العصيبة من فترات التاريخ يرى أحد مثل تلك الجموع من الشباب -والحمد لله- قد امتلأت بهم المساجد ودروس العلم؟! إذاً هذا الواقع يغنينا عن الحديث أو عن أن نقول: إن المستقبل لهذا الدين بل نقول: الواقع أن الأمة تعيش فترة من أحسن فترات حياتها والحمد لله رب العالمين.
والعجيب أن هذه الفترة جاءت في وقت كانت التخمينات وكانت التقارير وكانت التحريات تزعم أن هذا الدين سوف يودع الحياة بعد فترة قليلة من الزمان، ولم يبق إلا رجال معدودون بالأصابع ثم ينتهي هذا الدين من هذه الحياة، هكذا يقول أعداء الإسلام، ولربما يصدقهم ضعاف الإيمان الذين لا يقرءون القرآن، أو يقرءونه بحيث لا يتجاوز حناجرهم، لكن الحقيقة أن المستقبل لهذا الدين، والواقع أن هذا الدين هو دين الحياة، وأن الله سبحانه وتعالى أظهره على الدين كله ولو كره المشركون.
من هذا المنطلق نريد أن نقارن بين نصوص وأدلة تثبت أن الخيرية في هذه الأمة إلى يوم القيامة ومع واقع لربما يجعل بعض الناس يخاف على مستقبل هذا الدين، فنقول: إن الله تعالى قد تكفل بحفظ هذا الدين إلى يوم القيامة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك).
لكن هذه الخيرية وعلو هذا الدين كله مربوط بجهود لابد من أن يقدمها المسلمون، وذلك لا يعني أنهم إن لم يقدموا هذه الجهود أن الدين سوف يخلو من هذه الحياة وسوف يودع هذه الحياة، لا.
يقول الله عز وجل عن دوام الدين وحفظه: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38].(6/2)
شروط الاستخلاف والتمكين للمسلمين في الأرض
إن الخطر يكون على المسلمين إذا تخلو عن هذا الدين، فإن لله جنود السماوات والأرض، ولذلك نستطيع أن نقول: هناك استخلاف وهناك تمكين وهناك أمن وطمأنينة في هذه الحياة على هذا الدين، لكن بشرط أن يطبق المسلمون الشروط المذكورة في قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55].
فهذه الآية اشتملت على ثلاثة أمور: الأمر الأول: أن للاستخلاف في هذه الأرض ولتمكين هذا الدين أربعة شروط.
الأمر الثاني: إذا توافرت هذه الشروط الأربعة تحقق هذا الوعد من عند الله عز وجل.
الأمر الثالث: أن المسلمين لو غيروا ما اشترط عليهم بخصوص التمكين في هذه الأرض سوف يغير الله تعالى حالهم، بدليل قوله: {وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55].
ونبدأ بهذه الشروط الأربعة التي ذكرها الله عز وجل شروطاً لوجود هذا التمكين وتحقق مستقبل هذا الدين لهذه الأمة، علماً أن هذا الدين ممكن له في الأرض، وذلك لقوله تعالى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [الصف:9]، ولقول النبي عليه الصلاة والسلام (لا يبقى بيت شعر ولا مدر إلا دخله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام وأهله، وذلاً يذل الله به الكفر وأهله) لكن الأمة الإسلامية مطالبة بأن تأخذ بأسباب التمكين والأمن والطمأنينة في هذه الأرض حتى يتحقق لها هذا الوعد.
الشرط الأول: قوله تعالى: (آمَنُوا).
الثاني: قوله تعالى: (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ).
الثالث: قوله تعالى: (يَعْبُدُونَنِي).
الرابع: قوله تعالى: (لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا).
وتجد هذه الشروط الأربعة متماسكة ومترابطة مع بعضها، بحيث لو تخلف أحدها عن الآخر لما تحقق الموعود.(6/3)
الشرط الأول: الإيمان
الإيمان معناه: التصديق الجازم بوجود الله.
وما كانت هذه الكلمة لترد لولا أن هناك من يشكك في وجود الخالق سبحانه وتعالى، علماً أن هذا التشكيك يتنافى مع الفطرة، ولذلك يقول المؤرخون: لم يعرف العالم خلال التاريخ الطويل فترات أنكر فيها الخالق سبحانه وتعالى إلا في فترات مظلمة محدودة تلخص في مواقع ضيقة، كما في عهد الفرس، فهم شككوا في وجود الخالق، وكذلك الفلاسفة شككوا في وجود الخالق سبحانه وتعالى.
ويروي لنا التاريخ في عهد أبي حنيفة رحمه الله: أنَّ ناساً طلبوا من شيخ أبي حنيفة أن يثبت لهم وجود الخالق سبحانه وتعالى.
فتقدم لهم الإمام أبو حنيفة نيابة عن شيخه، وكان يومها لم يزل شاباً لا يتجاوز الرابعة عشرة من عمره، فقال: أنا الذي أخبرهم بوجود الخالق بدليل عقلي.
وحدد يوم للمناظرة وكان المكان خلف نهر دجلة في العراق، واجتمع كثير من الناس لحضور المناظرة والنقاش بين أبي حنيفة وبين هؤلاء، فتأخر أبو حنيفة قليلاً عن الموعد المحدد واجتمع الناس.
فلما جاء أبو حنيفة متأخراً قليلاً قيل له: إنك تأخرت! قال أبو حنيفة: ما تأخرت، لكني وقفت على حافة النهر أبحث عن قارب يحملني إليكم فما وجدت إلا قارباً صغيراً يعوم في الماء بدون قائد، فأشرت إليه فجاء فحملني إليكم ثم رجع، فقالوا: انظروا إلى أبي حنيفة المجنون يقول: إن قارباً جاء إليه وحمله ورجع وليس له قائد.
ثم قالوا له: يا أبا حنيفة! أأنت مجنون؟ قال: لا.
فإذا كنتم تتصورون أن هذه الحياة بكل أفلاكها وعظمتها وسمائها وأرضها تدور وتتحرك بدون قيادة، ولا تتصورون أن قارباً صغيراً يستطيع أن يعبر نهر دجلة بدون قيادة فأنتم المجانين.
فغلبهم بحجته رحمه الله تعالى.
وقبل ذلك كانت مرحلة الفراعنة بما فيها من إنكار الخالق سبحانه وتعالى، كما حدث لفرعون موسى حينما قال للناس: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] ويقول سبحانه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل:14] فهي في الحقيقة مؤامرة كاذبة من أجل العلو في الأرض، وهذا هو المنهج الذي سلكته الشيوعية مدة تزيد على سبعين عاماً وهي تقول للناس: لا إله والحياة مادة.
إلى أن سقطت بحمد الله وفضله، فعرف الناس أن كل هذه المبادئ تتساقط بين حين وآخر.
إذاً الإيمان بالخالق سبحانه وتعالى فطرة فطر الله الناس عليها، كما قال الله عز وجل: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:30]، فهذه الفطرة نطق بها كل مخلوق من بني آدم قبل أن يخرجوا إلى هذه الحياة بشكلهم الطبيعي، يقول عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:172] ولذلك هذا العهد ينساه طائفة من الناس أو يتناسونه، وهو ما عناه الله تعالى بقوله: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} [الأعراف:102]، فالإيمان بالخالق سبحانه وتعالى فطرة، لكن هذه الفطرة ربما تتأثر بكثير من المؤثرات، وأظن أن الفطرة في وقتنا الحاضر -والحمد لله- قد بدأت تعود إلى طبيعتها وإلى مجاريها الطبيعية، وقد تأثرت هذه الفطرة منذ زمن ليس بالبعيد، ولكن كفى الله المؤمنين القتال، فالإيمان بالله عز وجل والإيمان بملائكته ورسله واليوم الآخر وغير ذلك من الأمور التي أخبر الله عز وجل عنها كلها تعتبر نوعاً من الإيمان الذي هو شرط من شروط كون المستقبل لهذا الدين، والإيمان بوحدانية الله عز وجل والإيمان بأسمائه وصفاته كل ذلك من شروط التمكين.(6/4)
الشرط الثاني: العمل الصالح
قال عز وجل: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [النور:55].
قوله: (مِنْكُمْ) يُشير إلى المسلمين؛ لأن الأديان الأخرى قبل الإسلام -وإن مكن لها مدة من الزمن- كانت تنتهي بانتهاء تلك الفترة، أما هذه الأمة فقال الله تعالى عنها: (مِنْكُمْ)؛ لأنها الأمة الخالدة التي يبقى دينها ما بقيت السماوات والأرض.
والعمل الصالح هو الذي يتوافر فيه شرطان، فلا يقبل الله عز وجل عملاً ولا يكون صالحاً إلا إذا توافر فيه هذان الشرطان، ألا وهما: الإخلاص لله عز وجل، والمتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم.
والإخلاص معناه: أن لا يصرف نوعاً من هذه العبادة لغير الله.
وأما المتابعة فهي السير على المنهج الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله دون زيادة ولا نقص، ودون شطط ولا ميل، هذا هو العمل الصالح، وهذان الشرطان أشار الله عز وجل إليهما بقوله في آخر سورة الكهف حينما قال الصحابة: يا رسول الله! الرجل منا يعمل العمل يبتغي به وجه الله ويحب أن يراه الناس! فأنزل الله عز وجل شروط هذا العمل الصالح: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} [الكهف:110] أي: صواباً موافقاً للمنهج الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله -وهذا هو الشرط الأول- {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110] وهذا هو الشرط الثاني.
ولذلك هذان الشرطان هما معنى (لا إله إلا الله محمد رسول الله).
فالشهادتان اللتان نكررهما دائماً في الأذان وفي الإقامة وفي الصلاة وفي كل حال من أحوالنا معناهما الإخلاص والمتابعة؛ لأن معنى (لا إله إلا الله): نفي كل ما يعبد من دون الله عز وجل، وأن تكون العبادة والدين لله عز وجل وحده، ومعنى (محمد رسول الله): أي: طاعته واتباعه وتصديقه وأن لا يعبد الله إلا بما شرع.
إذاً لو فهم المسلمون معنى (لا إله إلا الله) في أيامنا الحاضرة كما فهمها المشركون في العصر الأول في مكة لما قالها إلا من يعتقد بها اعتقاداً كاملاً، وكم من الناس اليوم من يقول: (لا إله إلا الله) وهو مع ذلك ينحني لغير الله ويخاف غير الله، ويسجد لضريح ويطوف على أعتاب ميت، ويخشع لغير الله ويذل نفسه لغير الله عز وجل، وهذا كثير جداً في أيامنا الحاضرة.
وإذا تناسينا الآلهة الحية التي تعبد من دون الله في أيامنا الحاضرة -وهذه أظنها كثيرة- فلن نتناسى عشرين ألف ضريح تعبد من دون الله في العالم اليوم كلها يحج لها الناس ويتقربون إليها بالقرابين ويطوفون حولها سبعة أشواط، ولربما لا تسمح الفرصة إلا بشوط واحد بسبب كثرة الزحام، وهذه الإحصائية قبل سنوات.
هؤلاء هم المسلمون الذين يقال عنهم في الإحصائية: إنهم مليار عندهم عشرون ألف ضريح يطاف حولها ويتمسح بأعتابها، ويتمرغ في أتربتها، ويخشع ويراق لها من الدموع أكثر مما يريقه المؤمنون حول الكعبة المشرفة.
وأكثر ما وصلت إليه الوثنية في يوم فتح الرسول صلى الله عليه وسلم مكة كانت لا تزيد على ثلاثمائة وستين وثناً وصنماً، أما الآن فعشرون ألف ضريح يُعبد من دون الله عز وجل!.
إذاً أين (لا إله إلا الله محمد رسول الله)؟ ثم أضف إلى ذلك البشر الذين يشرعون القوانين ويأمرون وينهون، وتستجيب لهم الأمم من دون الله عز وجل، وينحني لهم البشر، ويتمسحون بأعتابهم لطلب المال أو الجاه أو المركز أو أي أمر من الأمور، أضف هذا العدد الهائل من هؤلاء البشر إلى عشرين ألف ضريح.
إذاً نستطيع أن نقول: هناك عشرات الآلاف من الآلهة التي تعبد من دون الله في أيامنا الحاضرة والله المستعان! فلا تعجب حينما يتأخر الوعد، ولكن اعجب حينما يحقق الله عز وجل الموعود وكثير من المسلمين قد أخلف الوعد.
وخلاصة القول أن العمل الصالح هو إقامة أركان الإسلام: الشهادتين، والصلوات، والزكاة، والحج، والصيام، مع القيام ببر الوالدين، وصلة الرحم، والإحسان إلى المساكين، وحقوق الجوار، وحقوق المسلمين، كل هذه واجبات لابد من أن يرعاها المسلم من أجل أن يستجلب وعد الله عز وجل، ولو نظرنا نظرة أخرى إلى العالم الإسلامي لوجدناه قد ضيع كثيراً من هذه الواجبات العظيمة التي شرعها الله عز وجل، ولذلك كثير من المسلمين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، وكثير من المسلمين عطلوا الزكاة، وكثير من المسلمين ركبوا المحرمات، وركوب المحرمات يستلزم ترك الصالحات؛ لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده، ولذلك كم في بلاد المسلمين من بنوك الربا؟! وكم في بلاد المسلمين من وسائل الترفيه التي يقولون عنها: بريئة؟! وكم في بيوت المسلمين من الأجهزة الراقصة اللاهية اللاعبة؟! إلى غير ذلك من الأمور التي نسأل الله أن يعافينا ويعافي المسلمين من شرها ويحفظنا جميعاً بحفظه.
إذاً قوله: (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) أي: تركوا المنكرات وفعلوا الواجبات التي شرعها الله عز وجل.
وهذا الشرط إذا تحقق وقوعه تحقق الوعد الذي وعد الله عز وجل به.(6/5)
الشرط الثالث: العبودية الكاملة لله عز وجل
من شروط هذا الوعد تحقيق العبودية، فما معنى العبودية؟ العبودية معناها في قوله تعالى: (يَعْبُدُونَنِي) أي: يوحدونني.
وحقيقة العبودية أن يشعر الإنسان بالرق لله عز وجل، وشعوره بالرق معناه التحرر من عبادة المخلوق؛ لأن الإنسان لابد من أن يخضع لدين، ولابد من أن تسيطر عليه عقيدة، ولابد له من رق وعبودية، فإما أن يكون ذلك لله، وإما أن يكون لشيء آخر، كما قال ربعي بن عامر رضي الله عنه حينما قدم على رستم فقال له رستم: ما الذي جاء بكم؟ قال: (إن الله عز وجل ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله عز وجل وحده).
إذاً ليست هناك حرية أبداً، إما أن تكون العبودية لله وإما أن تكون لغير الله، ولذلك فقد أدرك المؤمنون أن هذه العبودية يجب أن تكون لله، وأن لا يكون منها شيء للمخلوق، فالإنسان حر طليق إلا أنه عبد لله عز وجل؛ لأنه يعلم أن الحياة والموت بيد الله وأن الرزق بيد الله {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6]، وأن الأرض ملك لله يورثها من يشاء من عباده، وأن ما في هذه الأرض من الطيبات إنما هي للمؤمنين، يشاركهم فيها الكافرون في الحياة الدنيا ويختص بها المؤمنون في الحياة الآخرة، يقول عز وجل: {قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:32].
إذاً هذه العبودية لله، وهذا التحرر لا يكون إلا من عبادة المخلوق، وإذا هرب الإنسان من عبادة الله عز وجل وحده فإنه لابد من أن يقع في عبادة المخلوق أياً كان هذا المخلوق.
فليعلم أن عبادة البشر فيها الذلة والمهانة، وكذلك عبادة المال أذل وأشد مهانة، يقول عليه الصلاة والسلام: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة) كذلك إذا هرب الإنسان من عبادة الله صار عبداً للشيطان، ويعصي الله عز وجل في قوله: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس:60 - 61]، وكذلك إذا هرب من عبادة الله عز وجل فسيكون عبداً للشهوة أو عبداً لأي كائن من كان غير الله عز وجل، وبمقدار ما يهرب من العبودية لله يقع في الرق والعبودية للمخلوقين، وإذا هرب من العبودية لغير الله يقع في العبودية لله عز وجل وحده.
لقد كان سلفنا الصالح يعتزون بالعبودية لله، فهذا الفضيل بن عياض رحمة الله عليه عندما كان يعيش حياة منحرفة مدة من الزمن فأنقذه الله عز وجل ليكون عبداً له بدلاً من أن يكون عبداً للشهوات تحول الفضيل بن عياض ذلك اللص الذي كان يرهب الناس في الليل إلى العابد الذي يقول: ومما زادني شرفاً وتيهاً فكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك: يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا يعتبر عبوديته لله شرفاً فيقول: كدت أطأ على الثريا وهي في كبد السماء ببطني قدمي؛ حينما قلت لي: يا عبدي.
لأني لو لم أكن عبداً لك لكنت عبداً للشهوة.
ولقد عاش الفضيل بن عياض الحياة الآسنة الفاسدة في عبادة الشهوات حتى أنقذه الله عز وجل، وذلك عندما كان يتسلق داراً ليسرقها فسمع قارئاً يقرأ في الدار: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16]، فقال: والله لقد آن، والله لقد آن.
فصار مع كل جزء من هذه الآية ينزل درجة من السلم ويقول: والله لقد آن، والله لقد آن.
ونحن نقول للمفسدين في الأرض ونقول للعصاة الذين لم يهتدوا بعد: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16].
ولعلك تعرف من هو بشر الحافي في التاريخ بعد أن هداه الله، كان بشر رجلاً فاسقاً من أبناء الأشراف، وورث مالاً كثيراً، وكان شاباً مترفاً يعيش ليله مع نهاره في معصية الله عز وجل، تدار كئوس الخمور في داره حتى الهجيع الأخير من الليل، كما يحدث لكثير من الناس، نسأل الله العافية والسلامة، فالراقصات والمغنيات واللهو واللعب في داره إلى الصباح، وكان في حياة أشبه ما تكون بالغيبوبة لم يفهم معنى العبودية، فأراد الله له الهداية، فمر ذات يوم بداره إبراهيم بن أدهم رحمة الله عليه الرجل الصالح، فتمزق قلب إبراهيم بن أدهم حينما سمع اللهو واللعب وكئوس الخمر تدار في بيت رجل يقول: إنه من المسلمين.
فقرع إبراهيم بن أدهم باب بشر، ففتحت له إحدى الراقصات فقال: هذا بيت من؟ قالت: بيت بشر.
قال: بالله أخبريني أبشر حر أم عبد؟ فتأمل كيف تصل الموعظة إلى قلوب الناس الأشقياء إذا أراد الله عز وجل لهم السعادة والهداية، قالت: لا، بل هو حر.
قال: قولي له: إن كان حراً فليفعل ما يشاء.
وانصرف الرجل.
فلما رجعت الراقصة سألها بشر: من كان عند الباب؟ قالت: رجل صفته كذا.
قال: ماذا قال؟ قالت: سأل عنك أحر أنت أم عبد؟ قال: وماذا قلت له؟ قالت: قلت له: إنك حر.
قال: وماذا قال؟ قالت: قال: إن كان حراً فليفعل ما يشاء.
بدأ بشر يفكر في معنى العبودية والحرية، فالناس لا يتصورون الرق إلا للعبد المملوك الذي يباع ويشترى، ثم قال: أين ذهب الرجل؟ قالت: من هنا.
فمشى حافياً لأول مرة في حياته يركض وراء إبراهيم بن أدهم فلحقه، فقال: قف يا رجل، ماذا تقول؟ قال: أبداً يا بشر، وإنما سألت عنك أحر أنت أم عبد؟ فقالوا: إنك حر.
فقلت: إن كنت حراً فافعل ما تشاء.
قال: ويحك يا رجل! ماذا تقول؟ قال: لا أقول أكثر من ذلك، يا بشر! إن كنت حراً فافعل ما تشاء، وإن كنت عبداً فليست هذه صفة العبيد لله.
فصار يضرب برجله الأرض ويقول: والله إني لعبد، والله إني لعبد.
تصور أن هذه العبودية أنقذته من ذلك الرق، فرجع إلى بيته يكسر زجاجات الخمر ويسرح المغنيات ليكون بشراً الحافي الذي لا ترد كلمة بشر إلا ويتصور الناس منتهى الورع والتقى والاستقامة على دين الله.
يروى أن الإمام أحمد بن حنبل رحمة الله عليه كان جالساً في مجلس العلم فجاءته امرأة وقالت: أيها الإمام! نحن قوم نغزل ثم يمر السلطان بأضواء لامعة في الطريق فنغزل على هذا الضوء فيزيد غزلنا، فهل يجوز لنا هذا الضوء الذي يضيء في الفضاء؟ قال: نعم يجوز.
فلما انصرفت سأل الإمام أحمد: من هذه المرأة؟ فقيل له: هي أخت بشر الحافي.
فقال: ردوها عليّ.
فلما ردوهما قال: لا يجوز لك ذلك الضوء.
فسألوه: لماذا؟ قال: إن هناك من يسأل عن فضول المباحات، وإن هذه المرأة من بيت ورع ودين وتقى فهي أخت بشر الحافي.
بشر ذلك الذي كان في يوم من الأيام لاهياً لاعباً عابثاً فأصبح الرجل الذي يضرب به المثل في الورع والتقوى.
وهذا عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه ورحمه الذي يثني عليه التاريخ ثناءً عاطراً؛ لأنه فهم معنى العبودية، وحين وقع في أسر الرومان في موقعة في زمن عمر كان الرجل الصائم العابد الراكع الساجد في جنح الليل المظلم وهو في معتقله في بلاد الروم، فذكرت بعض صفاته من عبادته وتقواه وصلاحه وعقله ورزانته لملك الروم، فقال قيصر الروم: مثل هذا لو دخل في ديني لكان مكسباً عظيماً.
فدعا عبد الله بن حذافة، فجيء به وأوقف بين يديه وقال له قيصر: يا عبد الله! لو تنصرت لشاطرتك ملكي.
يريد أن يصرفه من عبودية الله إلى عبودية الملك والمركز الذي يسيل له لعاب كثير من الناس، ولربما يرتدون عن الإسلام لما هو أصغر من ذلك بكثير، فقال: والله لو كانت لي الدنيا بأسرها ما تركت شيئاً من ديني.
إذاً العبودية للمركز والملك فشلت، فلم يتنازل عن شيء من دينه ليكون مشاطراً لقيصر الروم في ملكه؛ لأنه ملأ قلبه بالعبودية لله عز وجل، فما استطاع هذا القلب أن يستوعب مكاناً آخر غير الله عز وجل، فقال قيصر الروم: ردوه إلى معتقله ودلوني على طريق أكسب به هذا الفتى.
فقالوا: إنه بعيد عن أهله منذ أشهر وإنه شاب قوي، ولو فتنته بالشهوة لأصبح عبداً لها.
فقال: ائتوني بأجمل فتاة في بلادي.
فجيء بأجمل فتاة في بلاد الروم وأغريت كل الإغراء إن هي فتنت عبد الله بن حذافة، فدخلت الفتاة وتجردت من كل ملابسها، وصارت تتابعه بجسدها المترف، وكلما دنت منه ابتعد عنها وأغمض عينيه، وأقبل على القرآن يتلوه ويستعيذ بالله من شرها، وصارت هذه الفتاة تتابعه جهة جهة حتى يئست منه، وعرفت أنه قد امتلأ قلبه بالعبودية لله عز وجل، فقالت: أخرجوني.
فقابلها شياطين الإنس عند الباب وقالوا لها: ماذا حدث؟ قالت: والله لا أدري أعلى بشر أدخلتموني أم على حجر؟.
عبودية لله لم تترك مجالاً في هذا القلب ليتسع لشيء آخر.
إنها الشهوة التي تفتن كثيراً من الناس ولا تعطي فرصة للتفكير ولا لاستعمال العقل، تخلص منها هذا الصحابي الجليل بسبب عبوديته ورقه لله عز وجل.
تحير قيصر الروم في أمر هذا الشاب فقال: لابد من أن تدلوني على سبيل أفتن به هذا الرجل.
فقيل له: كل الناس يخافون من الموت.
لكن عبد الله بن حذافة لا يخاف من الموت ومن هم على شاكلته لا يخافون من الموت؛ لأنهم يعرفون أن الموت لا يأتي إلا بأجل معلوم، كما قال الله تعالى: {فَإِذ(6/6)
الشرط الرابع: عدم الإشراك بالله
العنصر الرابع من عناصر التمكين قوله: (لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا) فكما أن هناك عبودية فهناك توحيد بغير شرك أياً كان هذا الشرك.
إذاً لا شرك لمخلوق حي ولا ميت، لا لضريح ولا لملك ولا لزعيم ولا لرئيس ولا لمشرع كما يقولون، ولا لصاحب قانون ولا لصاحب نظام مع الله عز وجل، ولو كانت كل وسائل الهلاك والعذاب بيد هذا المخلوق؛ لأنها لا تفعل شيئاً إلا بإرادة الله عز وجل {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام:112]، فهي مربوطة بإرادة الله عز وجل وبمشيئة الله عز وجل.
إذاً الشرك بالله عز وجل أياً كان هذا الشرك لا يجوز، سواء أكان شرك الأحياء كالذين يشرعون القوانين والأنظمة ويتقبلها البشر، وينسون أن الله تعالى يقول: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:60].
أم كان شرك الطاعة في معصية الخالق سبحانه وتعالى، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم حينما أنزل الله عز وجل: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31]، فقال عدي بن حاتم: (يا رسول الله! والله ما كنا نعبدهم.
قال: أليسوا يحرمون ما أحل الله ويحلون ما حرم الله فتطيعونهم؟ قال: بلى قال: فتلك إذاً عبادتهم).
إذاً كلمة توحيد الله عز وجل تستلزم أن يقدم المسلم أوامر الله على أوامر المخلوقين، فإذا توافقت أوامر المخلوقين مع أوامر الله عز وجل فحينئذ نقبل أوامر المخلوقين ما دامت لا تتنافى مع أوامر الله عز وجل، وإذا تنافت أوامر المخلوقين مع أوامر الله عز وجل فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وهب أنه جبار عنيد يبطش ويسجن ويقتل ويريق الدماء، كل ذلك لا يكون إلا بإرادة الله عز وجل، وهنا يظهر التوحيد الصحيح، ولذلك يقول الله تعالى: (لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا) ولا تظن أنّ كلمة (شيئاً) حشو في القرآن، ليس في القرآن حشو، فكلمة (شيئاً) تعطينا معنىً جديداً في الشرك الذي فهمه الناس فهماً خاطئاً؛ لأن الناس يفهمون أن الشرك هو عبادة اللات والعزى ومناة وهبل وأساف ونائلة من الأوثان التي عرفها الناس في التاريخ القديم، لكن كلمة (شيئاً) تفيد عموم الشرك من حب وبغض ودعاء واستعانة وغير ذلك من أمر الشرك؛ لأن جانب التوحيد وجانب الشرك دقيق وحساس يتأثر بأمور يسيرة.
يقول علماء اللغة: النكرة إذا جاءت بعد النفي تفيد العموم أي: أيُّ شيء من هذه الأشياء.
ولهذا دخل النار رجل في ذباب قربه لغير الله.
إذاً جانب التوحيد حساس ودقيق.
ولذلك أرى في أيامنا الحاضرة أن التوحيد في بعض الأحيان يضطرب، لاسيما حينما تكون هناك أوامر تصدر من المخلوقين ويتقبلها المخلوقون دون أن يعرضوها على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وهناك خوف وخشية من غير الله عز وجل، وتعظيم للمخلوق لا يرتبط بتعظيم الله عز وجل، إلى غير ذلك من الأمور.
فكلمة (شيئاً) تعطينا هذا المعنى الذي لا يفهمه إلا قليل من الناس.
إذاً المراد: أي نوع من أنواع الشرك ممنوع.(6/7)
الجزاء الدنيوي لمن نفذ الشروط الأربعة للتمكين
أما الجزاء فالله تعالى حصره في ثلاثة أمور كلها يحبها الناس، قال عز وجل: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور:55] هذه ثلاثة أمور كلها يحبها الناس، دع عنك جزاء الآخرة، فهذا الجزاء في الدنيا، وهذه الأمور يفرح بها كل الناس حتى الكفرة والعصاة والملاحدة، فجميعهم يريدون هذه الأمور الثلاثة، وهي الاستخلاف في الأرض، والتمكين، والطمأنينة في هذه الحياة، لكنها لا تكون إلا للمؤمنين الذين ينفذون الشروط الأربعة المذكورة في الآية.(6/8)
الجزاء الأول: الاستخلاف في الأرض
أما الاستخلاف في الأرض فهو أن تكون السلطة بأيدي هذه الأمة بدلاً من أن تكون السلطة بأيدي الكافرين الذين يسومون المسلمين سوء العذاب، كما يوجد في كثير من البلاد الإسلامية اليوم، يتسلط الكفار على المؤمنين وطغاة البشر على الأتقياء فيسومونهم سوء العذاب، وليس هذا استخلافاً في الأرض، الاستخلاف في الأرض أن تكون الخلافة وأن يكون الأمر والسلطة بيد أهله الشرعيين، لا بيد الأدعياء الذين يأخذون السلطة بطريق القوة، ثم يسومون الناس سوء العذاب، ثم يحولون السجون إلى معتقلات، ويبتزون الأموال ويريقون الدماء ويتلاعبون بمصالح الأمم، هذه نقطة الضعف بالنسبة لهذه الأمة.
وهذا الاستخلاف لم يكن للأمة الإسلامية في صدرها الأول كما كان الحال في الحياة المكية التي عاشها المسلمون، لقد كان الأذى يصب على رءوس المؤمنين صباً؛ لأن المسلمين في تلك الفترة في مكة كانوا مستضعفين في الأرض.
فكان بلال رضي الله عنه يؤتى به في شدة الظهيرة وحرارة الشمس فيبطح على الأرض، وتوضع على جسده الحجارة الحارة من أجل أن يكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم فيقول: (أحد أحد).
وكان عمار بن ياسر رضي الله عنه وأمه وأبوه وأهله كلهم يعذبون بصنوف العذاب، حتى مات ياسر تحت العذاب ثم تبعته زوجته سمية، وذلك عندما قتلها أبو جهل لعنه الله، ويمر بهم محمد صلى الله عليه وسلم ولا يملك لهم من الأمر شيئاً إلا أن يقول: (صبراً آل ياسر؛ فإن موعدكم الجنة).
وكان صهيب الرومي رضي الله عنه ذا مالٍ في مكة، فلما كان في طريق هجرته تبعه المشركون وقالوا: والله -يا صهيب - لا ندعك تهاجر وقد جئتنا فقيراً لا مال لك ثم ها أنت الآن تهاجر.
فقال لهم: أرأيتم إن دللتكم على مالي أتتركوني؟ قالوا: نعم.
فدلهم عليها ثم لحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يصل إلى المدينة حتى يجد قرآناً يتلى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} [البقرة:207].
إن الحياة في مكة اشتدت على المسلمين، حتى أنزل الله عز وجل وصفاً دقيقاً لتلك الحياة: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:142].
وقوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} [البقرة:214] ثم يأتي النصر: {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214]، تلك الحياة التي صورها لنا خباب بن الأرت رضي الله عنه حين يقول: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا: يا رسول الله! ألا تدعو لنا؟! ألا تستنصر لنا؟! فقعد الرسول صلى الله عليه وسلم جالساً وقال: لقد كان يؤتى بالرجل ممن كان قبلكم، فيحفر له في الأرض، ويوضع المنشار في مفرق رأسه، ويقسم قسمين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب ما يصده ذلك عن دين الله، ووالله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)، ولقد سار المسلمون على المنهج الصحيح، ولم تمض إلا مدة وجيزة من الزمن حتى تم الاستخلاف في الأرض للمؤمنين، فكانت دولة الإسلام التي أرسى قواعدها رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، ثم لم تمض مدة من الزمن إلا وقد رفرف علم الإسلام على أكثر المعمورة، من الصين شرقاً إلى المحيط الأطلسي غرباً.
كان المسلم لا يجد وهو يسير في أكثر من نصف الكرة الأرضية دائرة جوازات ولا جمارك ولا أحوالاً مدنية ولا من يقول له: من أنت.
ولو قيل له: من أنت لقال: أنا المؤمن الذي أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
هذه الدولة التي انقسمت الآن إلى عشرات الدول أو الدويلات التي تعيش مستضعفة تحت مطارق الكافرين، تلك الدولة التي يقول عنها المؤرخون: كان هارون الرشيد ذات يوم جالساً في بغداد، فمرت سحابة من فوق رأسه فصار يخاطب السحابة ويقول لها: يا سحابة! أمطري أنى شئت فسيأتيني خراجك ولو بعد حين.
لقد كانت الدولة الإسلامية تسابق الشمس على مطالعها.
إن العز والاستخلاف تجده في قصة قتيبة بن مسلم حينما كان في بلاد ما وراء النهر يفتح وينشر الإسلام، فيسأل قادته ذات يوم قائلاً: يا قومي! أي بلاد تقع أمامنا؟ قالوا: بلاد الصين.
قال: والله لا أرجع إلى وطني حتى أطأ بأقدامي هذه تراب الصين -ويشير إلى أقدامه- وأضع وسم المسلمين على الصينيين، وأفرض الجزية عليهم.
ووصلت الأخبار والتجسسات إلى ملك الصين تخبره بقسم قتيبة، فهل تظن أن ملك الصين سوف يرسل له إخطاراً تهديداً؟ لا، هو قتيبة بن مسلم الذي جاء ينشر الإسلام، فيرسل إليه ملك الصين صحافاً من ذهب مملؤة بالتربة من أرض الصين، ويقول: هذه التربة ليطأها قتيبة وهو في مكانه ويبر بقسمه، وهؤلاء أولادي الأربعة يضع عليهم الوسم، وهذه الجزية سوف تصله كل عام.
أما عقبة بن نافع رحمة الله عليه فكان يسير في بلاد شمال أفريقيا، يقول المؤرخون: مر في طريقه في تونس وكلفه الخليفة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه أن يبني مدينة تكون مركزاً للمسلمين وهي ما تسمى في الوقت الحاضر في تونس (مدينة القيروان) فقرر أن يبني المدينة لتكون مركزاً للمسلمين في تلك البلاد، فجاءه أهل البلاد وقالوا: أيها القائد! هذه أرض موحشة مسبعة يرجع كل الفاتحين دونها، ابحث عن مكان مناسب.
قال: والله لا أبنيها إلا في هذا المكان.
يقولون: فوقف عقبة بن نافع رحمة الله عليه على حافة الغابة وقال: أيتها الوحوش! نحن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم جئنا هنا لننشر الإسلام.
يقول شاهد عيان: والله لقد رأينا الوحوش تحمل أولادها من الغابة لتخليها لـ عقبة بن نافع ليقيم عليها مدينة القيروان.
ثم يسير عقبة بن نافع ليصل إلى المحيط الأطلسي فيغرز قوائم فرسه في ماء المحيط ويقول: والله لو أعلم أن وراء هذا الماء أحداً لخضته على فرسي هذه إليه.
هذه عزة المؤمنين التي يقول الله عز وجل عنها: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8].
ويفقدها كثير من الناس اليوم؛ لأنهم لم يأخذوا بكثير من أسبابها، فتتمزق الدولة الإسلامية إلى دويلات صغيرة لا تخفى علينا أخبارها، ويسام المسلمون سوء العذاب، وتضيع الأندلس، وتضيع فلسطين، وتضيع لبنان، وتضيع مواطن كثيرة.
إذاً الاستخلاف في الأرض مرهون باتباع أمر الله عز وجل، لكني واثق -بإذن الله عز وجل- أن هذه الصحوة الإسلامية المباركة هي التي سوف تعيد هذا الاستخلاف في الأرض مرة أخرى، قال عز وجل: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21].(6/9)
الجزاء الثاني: التمكين للدين الذي ارتضاه الله لهم
يقول الله تعالى: {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} [النور:55]، فالله تعالى قد ارتضى لهذا العالم ديناً واحداً هو دين الإسلام، ونسخ به كل الأديان، ولن يقبل الله عز وجل ديناً سواه، ومن قدم على الله يوم القيامة بدين غير دين الإسلام فإن الله لا يقبله منه، أما التمكين لهذا الدين فإنه سنة من سنن الله عز وجل وعد الله عز وجل بذلك المؤمنين، يقول سبحانه {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [الصف:9]، لكنه سبحانه كلفنا بالجهاد في سبيله ليكون الدين كله لله، كما قال الله عز وجل: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39].
وما دام هناك دين لغير الله فإن الأمة الإسلامية ليست بخير حتى يكون الدين كله لله، ولا يجوز أن يوضع السلاح على الأرض وهناك من يعبد في هذا الكون من دون الله عز وجل، ولا يجوز أن يوضع السلاح -أيضاً- حتى يكون الدين كله لله، وحتى لا تكون فتنة، والفتنة هنا معناها الكفر والردة والخروج عن الإسلام والشرك، أما المنحرفون في أيامنا هذه فيسمون الفتنة ويطلقونها على الاضطرابات، ونحن نرفض هذه الاضطرابات ولو كانت لهدف.(6/10)
الجزاء الثالث: الطمأنينة والأمن للمؤمنين
يقول الله تعالى: {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور:55] كان الرجل لا يطمئن أن يصلي حول الكعبة في العهد المكي كله، ثم حقق الله هذا الوعد للمسلمين، فيدخل الرسول صلى الله عليه وسلم مكة فاتحاً فتصبح مكة دار إسلام، وحينئذ أمن القوم، وما زال الإسلام يسعى لتحقيق هذا الأمن حتى حقق الله هذا الأمن للأمة الإسلامية بكل معانيه، سواء في ذلك الأمن الخارجي حينما أعلن المسلمون الجهاد في سبيل الله، فصارت تنهد الحصون للأمة الإسلامية ولجنود الله قبل أن يصلوا، أو الأمن الداخلي الذي حققه الله عز وجل للأمة الإسلامية بما شرعه سبحانه وتعالى من حدود ومن أوامر ومن نواه، فكانت الحدود أمناً للناس يأمنون بها على أنفسهم ودمائهم، كما قال الله عز وجل في القصاص: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة:179] أي: حياة سعيدة آمنة.
وقال عز وجل: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24]، وكان قطع يد السارق أمناً للأموال، وكان رجم الزاني أمناً على الأعراض، وكان قتل المرتد أمناً على المعتقدات والدين، وكان جلد القاذف أمناً على الأعراض والسمعة، وكان جلد شارب الخمر أمناً على العقول وسائر التصرفات، وكان قتال المحاربين كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا} [المائدة:33] أمناً على الأمن كله، ولذلك فإن المسلم بعد أن أمنه الله عز وجل بهذه الحدود صار آمناً مطمئناً في هذه الأرض.(6/11)
عوامل الخوف على هذا الدين
بقي الآن صفوة الموضوع، وهو: هل المستقبل لهذا الدين أو لغير هذا الدين؟ نقول: المستقبل لهذا الدين، لكن هناك أشياء تخيف بعض المسلمين على هذا الدين، وهم الذين ينسون وعد الله عز وجل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، ويغفلون عن قوله تعالى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [الفتح:28].
نقول لهؤلاء الناس الذين يخافون على هذا الدين: اطمئنوا على الدين وخافوا على أنفسكم؛ لأن هناك عوامل تدلنا على أن المستقبل حقيقة لهذا الدين، وإننا ننتظر من خلال هذا الواقع الذي نعيشه اليوم حياة أفضل يتجه بها العالم كله إلى دين الله.(6/12)
العامل الأول: الإعراض عن شرع الله
إن الإعراض عن شرع الله عز وجل موجود، فالآن لا تجد دولة تحكم بشرع الله إلا دولتنا التي نسأل الله أن يهديها ويوفقها ويحفظها بالإسلام وإقامة حدوده، وأن يجنبها دعاة الباطل، وأن يوفقها لمحاربة المحرمات التي بدأت تشوش على المسلمين اليوم.
فهل يمكن أن يظهر هذا الدين في وقت لا نجد فيه إلا دولة واحدة في العالم تحكم بشرع الله؟ نقول: الخير في هذه الأمة إلى يوم القيامة، وأبناء هذه الصحوة -وهم اليوم حتى في أمريكا وفي روسيا والحمد لله- الآن يؤذنون بخير وبصبح قد أقبل، وبأنهم سوف يعيدون للأمة الإسلامية شرع الله وحكم الله في الأرض.(6/13)
العامل الثاني: التسلط والطغيان في الأرض
هناك تسلط في أيامنا الحاضرة وطغيان في الأرض شديد يسوم المسلمين سوء العذاب، ولربما يزيد هذا التسلط فيخيف ضعاف الإيمان فيرجعون من منتصف الطريق، ويكونون من الذين قال الله عز وجل فيهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} [الحج:11]، أو من الذين قال الله تعالى فيهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت:10]، هذا التسلط خطير جداً، لكن ثق بأن هذا التسلط جاء في فترة والإيمان عميق في نفوس الناس والحمد لله، وأظن أن هؤلاء المؤمنين الذين يتعرضون لهذا التسلط لا يقلون إيماناً عن إيمان سحرة فرعون الذين قال لهم فرعون: {فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} [طه:71]، فقال السحرة: {لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72].
إذاً هذا التسلط وإن كان خطيراً وإن كان مخيفاً لكن لنا أمل قوي في الله عز وجل ثم في شباب الصحوة الإسلامية الذين عرفوا الله عز وجل حق المعرفة في كل العالم الإسلامي، بل حتى في بلاد الكفر.(6/14)
العامل الثالث: ضعف دعاة الحق
إن ضعف دعاة الحق تعتبر من أكبر العوامل الخطيرة، لاسيما إذا كان هناك نشاط لدعاة الباطل، ولاسيما إذا كان دعاة الباطل من أبناء جلدتنا -نعوذ بالله- ومن يتكلمون بألسنتنا، فمن كان اسمه أحمد، أو محمد، أو عبد الله، أو عبد الرحمن فإن هؤلاء يطعنون في الإسلام أكثر مما طعن فيه أبو جهل وأبو لهب، هذه حقيقة خطيرة في وقت ضعف فيه دعاة الحق، أو أُضعفوا وأوقفوا أو كادوا يوقفوا، لكن لنا أمل في الله عز وجل أن تعود المياه إلى مجاريها.(6/15)
العامل الرابع: وجود المغريات وكثرتها
من العوامل وجود مغريات في هذا العصر، منها السفر إلى الخارج فهو ميسر، ومنها الأفلام، فهي أفلام تصل إلى قعر بيوت المسلمين، ولربما يعدوننا بالبث المباشر، ويخوفوننا بالذين من دون الله، إلى غير ذلك من هذه الأمور.
وهذه حقيقة مخيفة، لكن المؤمن إذا عرف الله عز وجل لا يتأثر بكل هذه الأمور؛ لأن المؤمن ينطلق من منطلق قوي وهو إيمانه بالله عز وجل.(6/16)
بوادر وعوامل الخير المؤكدة على أن المستقبل لهذا الدين
هناك بوادر وعوامل الخير التي نشاهدها تؤكد لنا أن المستقبل لهذا الدين وأن هذا العالم سوف يعود كله بإذن الله إلى هذا الدين، ولن يبقى في هذه الأرض دين غير دين الإسلام، ولن يبقى في هذه الأرض من يدين بغير دين الإسلام.(6/17)
وجود الصحوة
هناك بوادر وأدلة واضحة أهمها هذه الصحوة الإسلامية المباركة، الشباب الذين لا تجد فيهم إلا عدداً قليلاً من كبار السن.
وقبل فترة من الزمن ما كنا نجد في المساجد إلا كبار السن والعجزة، فما الذي حدث؟ الذي حدث أن نور الله عز وجل ودينه بدأ يظهر على الدين كله.
فمن أهم العوامل والبوادر الدالة على الخير وجود هذه الصحوة الإسلامية المباركة، ووجود هذا النوع من الشباب، حتى وجدنا الشباب أحسن من الآباء في أيامنا الحاضرة، حتى أبناء الفسقة تدينوا -والحمد لله- وأقبلوا على دين الله، حتى الأبناء الصغار أقرب إلى الدين من الكبار، مما يدل على أن هذه الصحوة الإسلامية مباركة، ولها جذور عميقة في هذه الحياة.
إذاً هذه تعتبر من أهم البوادر والمظاهر والعوامل الحقيقية التي تثبت لنا أن المستقبل لهذا الدين.(6/18)
سقوط الأفكار المنحرفة
إن الأفكار المنحرفة كل يوم يسقط منها مذهب والحمد لله، فقبل سنوات سقطت القومية العربية التي أرهبت الناس، وخاف بعض الناس من شدة المغالاة فيها أن تكون ديناً وعقيدة، فسقطت حينما عرف أن الذين قاموا بها هم أعداء الأمة العربية، وبعد فترة من الزمن جاءت الشيوعية فأرهبت الناس وخاف الناس أن تكتسح العالم فسقطت والحمد لله، فكان آخر مسمار من مسامير نعشها الحركة الأفغانية والجهاد في سبيل الله، وفي هذه الأيام سقط حزب البعث الذي كان يرهب كثيراً من الناس.
فالمهم أن الأفكار التي تتساقط إنما تتساقط تحت أقدام الإسلام والمسلمين، فتعتبر هذه من أعظم البوادر وأهمها في كون المستقبل لهذا الدين.(6/19)
سقوط الديانات المنحرفة
إن الأفكار والمذاهب والديانات المزعومة كلها بدأت تتساقط، فالكنائس الآن تباع في أوروبا وأمريكا ويشتريها شباب المسلمين ويحولونها إلى مساجد، وسألت بنفسي في إحدى ولايات أمريكا صاحب كنيسة فقلت له: لماذا تبيع هذه الكنيسة؟ هذه دينك وعبادتك! قال: ليست ديناً، هذا دين فاسد، فأنا لا يمكن أن أحجز خمسة ملايين دولار ليأتي فرادى من الشيوخ وكبار السن في يوم الأحد فقط.
إذاً سيكون المستقبل لهذا الدين.(6/20)
دخول الناس في هذا الدين بسبب القدوة
وهناك دليل آخر على ذلك، وهو أن أولئك النصارى بدءوا الآن يبحثون عن عقيدة، لكن هل ترى أن المسلمين سوف يستغلون هذه الفرصة، ففي كل يوم يعلن فلان أنه اعتنق الإسلام وفلان وفلان وفلان؟ وأنا متأكد من أننا لو دعونا إلى الإسلام دعوة صحيحة لدخل الناس كلهم في دين الله أفواجاً، بل متأكد من أننا لو أعطينا صورة حسنة عن الإسلام لدخل الناس في دين الله أفواجاً، لكن تصور رجلاً كافراً يرى أبناء المسلمين هناك في حانات الخمور في بلاده ومواقع الدعارة، وهو يعلم أن الإسلام يحرم الخمر والزنا، ثم يرى هذا التناقض وهذه الازدواجية في حياة المسلمين! إنه سيرفض هذا الدين.
فمعنى ذلك أن أبناء المسلمين الذين يعيشون عيشة منحرفة في بلاد الكفر هم أكبر عقبة في طريق الإسلام.
ولذلك أقول: القدوة هي أفضل طريق للإسلام، ولو لم يذهب إلى تلك البلاد دعاة.
فأكبر تجمع إسلامي في جنوب شرق آسيا يقدر في أيامنا الحاضرة بأكثر من مائتي مليون مسلم في تايلند والفلبين وأندونيسيا وماليزيا وسنغافورة إلى غير ذلك، لم يذهب جيش إسلامي للجهاد هناك في تلك البلاد، ولا ذهب داعية في صدر الإسلام أبداً، وإنما دخل أولئك في الإسلام بواسطة القدوة، وذلك عندما ذهب جماعة من تجار حضرموت إلى تلك البلدان فصاروا يبيعون ويشترون ويتعاملون مع الناس معاملة إسلامية صحيحة، فأعجبت أهل تلك البلاد فدخلوا في دين الله أفواجاً، حتى إن الفلبين التي يقدر سكانها في أيامنا الحاضرة بستين مليوناً كانت كلها في يوم من الأيام دولة إسلامية بأكملها، وارتد كثير من المسلمين عن الإسلام بسبب ضعف المسلمين في الدعوة إلى الله عز وجل، إذاً القدوة تعتبر من أكبر العوامل.
وعلى كل فالمستقبل -بإذن الله تعالى- لهذا الدين، وعلينا أن نتفائل، وعلينا أن نحسن الظن بالله عز وجل، لكن علينا أن نتحرك لهذا الدين؛ لأن هذا الدين ما قام في عصره الأول إلا على جماجم الرجال وأشلائهم، ففي فتح بلاد الشام فقط قدم المسلمون خمسة وعشرين ألفاً من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن التابعين، ثم تصير بلاد الشام بأيدي الكفرة الفجرة، فهذا تفريط من المسلمين.(6/21)
الأسئلة(6/22)
العوائق التي تواجه الداخلين في دين الإسلام
السؤال
الفريق الأمريكي لكرة السلة الذي جاء للعب في هذه البلاد قد من الله جل وعلا على خمسة منهم بالإسلام فأسلموا، وكان إسلامهم خلال ثلاثة أيام، وقد دخل في الإسلام مدرب إحدى فرق المملكة أمام فضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز فنرجوا الدعاء لهؤلاء جميعاً بالثبات؟
الجواب
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يثبت هؤلاء على الدين، فأمامهم فتن، وأهم هذه الفتن رؤية هؤلاء الصور في بلاد الإسلام ليست هي الصور الحقيقية للإسلام، ولكننا نقول: هذه هي القدوة، فهؤلاء لما رأوا وتأثروا بجماعة من إخواننا المسلمين كان ذلك سبباً في دخولهم في دين الله عز وجل، لكننا نخاف عليهم من الفتنة، ونرجو الله لهم الثبات، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفق قادة الأمة الإسلامية إلى أن يجعلوا البلاد الإسلامية قدوة حسنة لمن أراد أن يدخل في دين الله، فاللهم! ثبت أقدامهم، اللهم! إنا نسألك -يا حي يا قيوم- أن تربط على قلوبهم، اللهم! إنا نسألك أن تتوفاهم على ملة الإسلام، وأن تهدي ضال المسلمين، وأن تدخل الناس كلهم في دينك أفواجاً.(6/23)
الطريقة المثلى لإيقاف أصحاب الأفكار المنحرفة
السؤال
هناك مقالة للحداثية المشهورة الدكتورة ثريا العريض في جريدة الرياض، وفي ثنايا مقالها التافه تقول: هل يأتي اليوم الذي نستطيع أن ننزل المطر كيفما نشاء؟ فإلى متى وهذه الضالة تكتب وتنشر أفكارها المنحرفة من خلال هذه الجريدة التي هي وكر للحداثيين؟
الجواب
والله لقد حار أمرنا في هؤلاء الحداثيين، وهذا الموضوع أقل من مواضيع مرت بنا كانت أخطر من هذه المقالة، ولقد سمعنا كلمات قبل هذه أزعجتنا كثيراً، ولذلك نقول: هذه وأمثالها لا يمكن أن يقفوا عند الحدود إلا إذا كانت هناك سلطة تحاسبهم عما يقولون، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفق السلطة لمعاقبة مثل هؤلاء، أما الكلام فإنه لا يرد بالكلام، وهذه ربما تدخل في أمور الردة، وإذا دخلت في أمور الردة فالله تعالى قد وضع حداً للردة كما وضع حداً لجرائم أخرى.(6/24)
الطرق المثلى في استغلال الوقت للمرأة بما ينفعها في دينها
السؤال
نحن -معشر النساء- نعيش أوقاتاً كثيرة في المنزل، ولسنا مثل الرجال، فهم يذهبون إلى دروس العلم ومجالس العلماء والذكر وزيارة المقابر، فهل من برنامج مقترح لنا -معشر النساء- لكي نستغل أوقاتنا بما يعود علينا بالخير في الدنيا والآخرة، ويزيد إيماننا وحبنا لله ولرسوله وللطاعات عموماً؟
الجواب
أظن أن الأخت السائلة قد تحققت أمنيتها ورغبتها في هذا الواقع والحمد لله، فالآن وسائل التقنية الحديثة تستطيع أن تنقل أي كلمة خير من مكان إلى مكان آخر بسهولة، فهذه أشرطة الكاسيت والتسجيلات قد خدمت هذه الفكرة، فعليك -يا أختي- أن تستغلي كثيراً من الوقت في هذا الأمر، والأشرطة متوافرة والحمد لله، كما أني أطالبك بأن تحضري حلق العلم والمحاضرات والندوات، وما كنا ننادي بذلك قبل فترة حينما كانت المرأة في خدرها وداخل بيتها، أما وقد خرجت المرأة إلى المدرسة وإلى السوق فنحن ندعوها إلى أن تأتي إلى المسجد لتحضر دروس العلم ومجالس العلم بأدب وحشمة، وأيضاً أقول: احرصي -يا أختي- على اقتناء الأشرطة واشغلي الوقت بهذه الأشرطة؛ فإنها خير لك ولأسرتك.(6/25)
سبب خوف حكام المسلمين من التمسك بالإسلام
السؤال
لماذا يخاف الحكام في وقتنا من التمسك بالإسلام، ألا يثقون بوعد الله بالنصر والتمكين، وقد أثبت التاريخ أن الحق منصور؟!
الجواب
إنهم يخافون من الإسلام؛ لأن المستشارين والخبراء يقولون لهم: إن الإسلام خطير، إنه لو تحرك لأطاح بأمم ولذلك فإن كثيراً منهم يخاف من هذا الأمر، ونحن نقول لهؤلاء الذين يقولون هذه المقالة ويتوقعون هذا التوقع: إن الإسلام قوة عارمة، وإنه لا يستطيع أحد أن يقف في وجهه وفي زحفه؛ لأن الله تعالى يقول: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء:18] فالطريق الوحيدة التي تكفل لهؤلاء أن يعيشوا بأمن وسلام هي أن يضعوا أيديهم بأيدي الدعاة وبأيدي المصلحين، وهنا يطمئنون على ملكهم ويطمئنون على حياتهم.(6/26)
سبب خوف الحكام والسلاطين من الدعاة والعلماء وبيان بطلان هذا السبب
السؤال
نلحظ في وسائل الإعلام هجوماً مركزاً على الدعاة والحركات الإسلامية في البلاد العربية وغيرها، واتهامها بالعمل للاستيلاء على السلطة، فهل هذا ينم عن نية الأنظمة إلى انتهاج الأسلوب الماضي في قمع هذه الحركات؟ وما حقيقة الأمر؟
الجواب
هذه الفكرة ليست جديدة بل هي قديمة جداً، فهذا فرعون حينما دعاه موسى إلى الله عز وجل قال لقومه: {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ} [الشعراء:35] فهو خاف على الأرض، مع أنه يعلم أن موسى ليس له مطمع في الأرض، وإنما يريد قلوب القوم ليهديها إلى الله عز وجل، وهكذا كل دعاة الحق إذا تقدموا إلى أهل الباطل يخاف أهل الباطل من دعاة الحق؛ لأنهم يخافون على ملكهم، ونحن نقول: إن دعاة الحق لا يفكرون في شيء من ذلك، وهذا الملك الذي تتقاتل عليه الأمم لا يساوي عندهم شيئاً؛ لأنه من عرض هذه الحياة الدنيا، إنما يريدون السعادة لهؤلاء البشر، يريدون أن يموت الناس كلهم على ملة الإسلام، ويريدون أن يدخل حتى الكفار الجنة حينما يدخلون في هذا الدين، وإذا كان من هؤلاء الحكام من يفكر أو يخاف على ملكه أو على سلطانه من الدعاة فعليه أن يصحح مفهومه، فدعاة الإسلام هم أبعد الناس عن الطمع في هذه الحياة الدنيا؛ لأنهم أتباع الأنبياء الذين يقول كل واحد منهم لقومه: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الشورى:23].(6/27)
حقيقة اتجاه الناس إلى ربهم عند سقوط الأفكار والمذاهب المنحرفة
السؤال
كثيراً ما نقرأ في وسائل الإعلام أنه في ظل فشل الأحزاب القومية والعلمانية في تحقيق الرفاهية للشعوب العربية وغيرها بدأت هذه الشعوب باللجوء إلى الجانب الروحي والغيبيات هروباً من الواقع، فهل من توضيح لهذا الكلام والغرض منه؟
الجواب
الإغراق في الجانب الروحي والغيبيات هذا يشبه كلام الصوفية، وعلى كل فالعالم يتصارعه ويتجاذبه موجتان: موجة يمين وموجة شمال، موجة تصوف وانحراف، وموجة مادية خالصة بحتة، والله تعالى يقول عنا: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143]، فالأمة الإسلامية هي الأمة الوسط، ليست بالتي تقدس الروح وتهمل الجسد كما يفعل الصوفية، وليست بالتي تقدس الجسد وتهمل الروح كما تنويه وتريده الشيوعية، ولذلك فإن فشل هذه المذاهب المادية تلجئ الناس لا إلى الروحانية بمعناها الذي أشرت إليه، ولكن إلى الروحانية بمعناها الحقيقي، ففشل هذه المذاهب وفشل هذه الأفكار وسقوطها في أيامنا الحاضرة -والحمد لله- كل ذلك كان أكبر عامل من عوامل هذه الصحوة الإسلامية المباركة، ولربما كانت صحوة إسلامية مباركة عن فهم وتدبر، ولذلك فإني أقول: بمقدار ما تسقط هذه المذاهب وتلك الأفكار يتجه الناس إلى دين الله عز وجل الصحيح، وهذا هو ما حدث في هذه الأيام عندما سقطت الأفكار المنحرفة فاتجه الناس إلى ربهم سبحانه وتعالى.(6/28)
حكم وجود من لا ينتسب إلى الإسلام في جزيرة العرب
السؤال
في هذا العصر كثر المشركون في جزيرة العرب، والرسول صلى الله عليه وسلم أمر بإخراج المشركين من جزيرة العرب، فما هي الوسائل المعينة على إخراج المشركين من هذه الجزيرة، لاسيما أن وجودهم يشكل خطراً على المسلمين، ومن هذا الخطرِ المنشور والذي وزع في مدينة الخبر، وهو يدعو إلى تنصير المسلمين، ومن ذلك أيضاً الجامعة الأمريكية التي فتحت لها فرعاً في الرياض لتقوم بالتدريس فيه، ولا شك أن وجود مثل هذه الجامعة في عاصمة الإسلام يشكل خطراً على عقائد المسلمين وعلى أخلاقهم، ونحن نعلم ما سيدور في مثل هذه الجامعة، فهل من كلمة حول هذا الموضوع؟
الجواب
الحقيقة أن هذا كلام شائك، لكن لابد من الدخول فيه، فلرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يجتمع في الجزيرة العربية دينان) ويقول عليه الصلاة والسلام: (أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب) إلى غير ذلك من الأدلة، والله تعالى أمر بالبراءة من الكافرين حيث قال عز وجل: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22]، لذلك فإنا نتوجه إلى الله عز وجل بالدعاء والتضرع، وكلنا أمل في الله تعالى ثم في هذه الحكومة المسلمة أن تطهر هذه الجزيرة، بحيث لا نرى فيها وثنياً ولا يهودياً ولا نصرانياً ولا مشركاً ولا ملة غير ملة الإسلام، سواء أان ذلك على المستوى الرسمي أم على المستوى الشعبي، فإننا نرى الآن -مع الأسف- أن كثيراً من أصحاب المؤسسات يستوردون النصارى والوثنيين والبوذيين إلى بلاد المسلمين ليكثروا سوادهم، وإذا قيل لأحدهم: اتق الله لربما يطعن في الإسلام ويخرج عن دين الإسلام؛ فقد يقول: إن هؤلاء أوفى وأحسن عملاً من المسلمين.
بل زاد الطين بلة وزاد المشكلة أن كثيراً من بيوت المسلمين فيها نساء وثنيات خادمات، وهذه مصيبة وبلية، كنا نهرب من أن تكون مسلمة؛ لأنه اختلاط لا يجوز شرعاً، فكيف إذا كانت وثنية أو يهودية أو نصرانية، أو كان سائقاً وهذا أخطر وأشد وأعنف.
ولنا أمل في الله عز وجل أن لا تكون هناك جامعة أمريكية في الرياض، ولنا أمل في الله ثم في المسئولين -أيضاً- أن لا يبقى في جزيرة العرب ولا في أرض الحرمين ولا في بلاد المقدسة إلا مؤمن موحد، وهذا هو ما نرجوه من الله عز وجل، ولنا أمل في هذه الحكومة التي قامت على دعوة سلفية صالحة، ولا يمكن أن تبقى إلا على هذا المنهج الذي قامت عليه، نسأل الله لها الثبات والهداية والاستقامة، والله المستعان.(6/29)
وجه كون المستقبل لهذا الدين مع وجود الفساد في الأرض
السؤال
إذا قيل: إنه لا حاجة لنا إلى أن نقول: إن المستقبل لهذا الدين، ولا نحتاج إلى أدلة على ذلك ونحن نرى الوجوه الطيبة من الشباب في المجالس الطيبة، فكيف ذلك ونحن عندما نخرج إلى الأسواق والمحلات والشوارع نرى شيئاً معاكساً لما نراه في المساجد؟
الجواب
الصراع بين الحق والباطل قديم قدم الحياة، يقول سبحانه وتعالى: {اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [طه:123]، فمنذ الساعة الأولى التي هبط فيها آدم وحواء من الجنة هبط الشيطان معهما فكان الصراع.
إذاً لا تعجب -يا أخي- وأنت ترى الخير والشر يتصارعان في هذه الحياة، بل إن الله عز وجل قال: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ} [هود:116].
فالفساد موجود في الأرض في كل عصر، لكن الشيء الذي يفقده الناس في كثير من الأحيان هو: هل هناك من ينهى عن الفساد في الأرض؟ فإذا وجد من ينهى عن الفساد في الأرض فوجود الفساد في الأرض أمر سهل، فمن أخطر الأشياء في حياة البشر أن لا يكون هناك من ينهى عن الفساد في الأرض، وكذلك من أخطر الأشياء على حياة البشر أن تكمم أفواه العلماء والدعاة إلى الله عز وجل، وأن يوقف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأخطر من ذلك كله أن تطمئن قلوب المسلمين إلى معصية الله سبحانه وتعالى، والله تعالى يقول: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام:113]، فوجود الفساد في الأسواق مع وجود خير في المسلمين يدل دلالة واضحة -إن شاء الله- على أن هذا الفساد سوف يودع الحياة عما قريب.(6/30)
قدرات رابطة العالم الإسلامي في تغيير المنكرات بأنواعها
السؤال
ذكر أن هناك عشرين ألف ضريح يُعبد من دون الله، فأين دور رابطة العالم الإسلامي من هذا الأمر العقدي الخطير؟ أليس من الممكن أن يُعقد مؤتمر إسلامي ويُتخذ قرار له صفة الحكم الإلزامي لحكومات العالم الإسلامي بإزالة كل ما يعبد من دون الله؟
الجواب
نعم.
لكن من يستطيع أن ينفذ ذلك؟ فرابطة العالم الإسلامي لا تستطيع أن تقوم بهذا الدور، ولم تقم بدور أقل من ذلك حتى تقوم بهذا الدور الكبير؛ لأنها لا تسيطر على بلاد المسلمين، وإمكاناتها محدودة، وهناك معاص دون هذه الأشياء وأصغر من هذه الأشياء ومع ذلك لم تستطع رابطة العالم الإسلامي أن تقضي عليها، فكيف تستطيع أن تقضي على أضرحة يحج إليها آلاف بل ملايين البشر من خلق الله عز وجل، الأمر ليس من السهولة بمكان، الأمر لا يحتاج إلى رابطة العالم الإسلامي، وإنما يحتاج إلى أن يعرف الناس دينهم، ثم يسيرون في هذه الأرض ينشرون دين التوحيد، لاسيما من بلادنا التي قامت على دعوة سلفية نسأل الله أن يجزي مؤسسها خير الجزاء.(6/31)
كيفية الحد من فتنة المرأة في وسائل الإعلام وغيرها
السؤال
لقد بدأ التلفاز السعودي بإخراج النساء السعوديات أثناء المقابلات والتمثيل، فهل لدى العلماء علم بهذا؟ وما موقفهم منه؟
الجواب
لا أدري عن كونهم هل لديهم علم، أما الموضوع فهو كما يقول الشاعر: تكاثرت الظباء على خراش فما يدري خراش ما يصيد وسواء في ذلك النساء السعوديات أو غير السعوديات، كل ذلك فتنة، لكن النساء السعوديات يشكلن فتنة على المرأة كما يشكلن فتنة على الرجل، وعلى كل فأنا وأنت لربما لا نستطيع أن نسيطر على الموقف، لكن مَنْ مِنَ الرجال الذين استرعاهم الله عز وجل على هذه البيوت يفكر في أن تخرج زوجته أو أخته أو ابنته لتقوم بهذا الدور؟ ودع عنك هذا كله فلماذا تضع هذه الأجهزة في بيتك مع أنك لم تجبر عليها؟ فأنت تضعها بنفسك ثم تقول: لماذا كذا وكذا؟! صحيح أن الإصلاح أمر مطلوب، لكن -على الأقل- قف على باب بيتك واحفظه من هذه الفتن، نسأل الله لنا ولك العافية.(6/32)
حكم تدريس المقررات المخالفة لتعاليم وأحكام الإسلام
السؤال
إنني مدرس مطالب بتدريس بعض المناهج التي يوجد فيها ما هو مخالف لفطرة الإسلام، مثل ما يوجد في بعض المقررات من أن المادة لا تفنى ولا تبيد ونحو هذا، فهل يجوز لي تدريس مثل هذه المقررات؟ وإذا كان لا يجوز فما هو الموقف الذين يمكن أن أتخذه لكوني مدرساً؟
الجواب
أولاً: لا يجوز لك أن تدرس هذه المقررات، ولو كانت منهجاً مقرراً على الطلبة؛ لأن طاعة المخلوق في معصية الخالق أمر لا يجوز.
ثانياً: هل فكرت في يوم من الأيام أن تبلغ المسئولين عن التعليم عن هذه الأخطاء الجوهرية المتعلقة بالعقيدة؛ فكيف تدرس نظرية تقرر أن المادة لا تفنى والله تعالى يقول: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]؟! إذاً معنى ذلك أنك مطالب بأن تنكر هذا المنكر فتبلغ المسئولين لتخرج من العهدة، وإذا لم يرعوِ المسئولون ويتراجعوا عن هذا الأمر فأنت مطالب بأن تبين خطأ هذه الفكرة، ولو خالفت المنهج الذي كلفت بتدريسه؛ لأن طاعة الله عز وجل قبل طاعة المخلوق، وأنت مطالب -أيضاً- بأن تبصر أولئك الشباب وتدلهم على الفطرة بدل أن تفسد فطرتهم.(6/33)
أخبار حركة الجهاد في أرتيريا
السؤال
بما أنكم من المهتمين بأحوال إخواننا في خارج البلاد، خاصة في أرتيريا، فما هي آخر أخبار إخواننا في أرتيريا، خاصة بعد سقوط حكومة أديس أبابا وقيام الجبهة الشعبية ببعض التصريحات التي لا ترضي أهل الحق؟
الجواب
الحقيقة أن حركة الجهاد تكافح الجبهة الشعبية؛ لأن الجبهة الشعبية أخطر على الإسلام من حكومة أديس أبابا، وعلى هذا فإن الخطر يبدأ الآن ولا ينتهي، ونبشر ونطمئن بأن حركة الجهاد في أرتيريا تقوم على أيدي علماء من أهل السنة والجماعة ينطلقون من منطلق السلف الصالح رضي الله عنهم، نسأل الله لهم الثبات والسداد والتوفيق على ذلك، ثم -أيضاً- نقول: آخر مراحل حركة الجهاد هناك -وإن كانت أموراً سرية، وبعد تلك الحادثة لم تصبح سرية- آخر مراحلها أن الجهاد -والحمد لله- قائم هناك على أشده، ويحتاج إلى دعمنا، فهناك من أرتيريا في السودان مليون مهاجر يموتون جوعاً، فضلاً عن أن يحملوا السلاح للجهاد في سبيل الله، وينسب هذا الكلام إلي، ففي كل ساعة يموت في كل معسكر عدد معين، فنحن مطالبون بأن ننفق على هؤلاء، وأن نمد لهم يد العون، كما أننا -أيضاً- مطالبون بأن نساعد إخواننا المجاهدين في حركة الجهاد في سبيل الله لتحرير أرتيريا من الكفر بكل أنواعه، والله تعالى قدم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس حيث قال: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} [الصف:11].(6/34)
علاقة وجود مجلس شورى في السعودية بالمستقبل للإسلام
السؤال
هل ترى أنه من المؤشرات المفرحة للمستقبل الإسلامي انتقال فكرة مجلس الشورى في المملكة العربية السعودية إلى واقع عملي؟
الجواب
مجلس الشورى أمره أمر آخر، وهذا يرجع للدولة، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقها لما فيه الخير والسداد، وإن كان الأصل في الإسلام أن الحكم يقوم على الشورى، قال عز وجل: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159] وقال سبحانه: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُم} [الشورى:38] بشرط أن تكون هذه الشورى لأهل الحل والعقد، ولأهل الفكر وللذين يريدون الخير لهذه الأمة، أما وجود مجلس الشورى في مثل هذه البلاد فأعتقد أن أعضاء هذا المجلس سيكونون من خيار هذه الأمة، وسوف يساهم -إن شاء الله- مساهمة فعالة في توجيه الناس إلى ربهم.(6/35)
دور العلماء والدعاة في لم شمل الأمة الإسلامية
السؤال
في هذا الزمان تفكك العلماء وتباعدت الصلة بينهم، حتى إن أهل الباطل يحصل بينهم اجتماعات وتعاون على الفساد، بينما العلماء وطلاب العلم كل في واد، فأرجو توجيه نصيحة للشباب والعلماء من أجل التعاون لنصرة هذا الدين؟
الجواب
أما العلماء فلا حاجة إلى أن نوجه لهم النصيحة؛ لأنهم يوجهون الناس، ويعلمون يقيناً أن الأمة إذا تفرقت فسوف يؤدي ذلك إلى فساد عريض، يقول عز وجل: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46].
وأما الشباب فنقول: التفوا حول العلماء؛ فإن العلماء لا يريدون للدولة ولا لكم إلا خيراً، فكونوا عضدهم وساعدهم، واستقيموا على دين الله، وانهلوا من هذا العلم، واستغلوا الفرصة، فأي صحوة إسلامية لا تقوم على العلم الصحيح فإنها لا يستفاد منها، فاحرصوا على حلق العلم ومجالس الذكر؛ فإن بها تتجه هذه الصحوة الإسلامية إلى الله عز وجل اتجاهاً طيباً مباركاً، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يثبت الأقدام، وأن يوفق القادة والمسئولين إلى ما يحبه ويرضاه، وأن يجعل ولاة هذا البلد بصفة خاصة وولاة أمر المسلمين بصفة عامة من الذين قال الله عز وجل فيهم: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:41].
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(6/36)
الآيات الكونية وتحكيم شرع الله
تدل آيات الله عز وجل الكونية من أرض وسماء، وجبال ووديان، وبحار وأنهار، ونجوم وكواكب على عظمة الله سبحانه، وأنه الخالق والفاطر لها، والمسير والمدبر لأمورها، أفلا يدل ذلك على استحقاقه سبحانه للعبادة والتذلل والخضوع من خلقه؟! ألا يدعو ذلك إلى التحاكم إلى دينه وشرعه؟! ألا ينادي ذلك بحكمته وإتقانه؟(7/1)
الآيات الكونية وما فيها من تعظيم الله سبحانه
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، وتبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وبارك وعلى آله ومن دعا بدعوته ونصح لأمته إلى يوم الدين، أما بعد: فيقول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ * وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ * يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ * وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النور:41 - 54].
أيها الأخ الكريم! هذه حلقة جديدة من سورة النور، والنصف الأول منها يتحدث عن موضوع واحد، وهو: كيف نحارب الرذيلة والفساد في الأرض؟ وكيف نكافح الزنا حتى لا يكون؟ وما هي الطرق الكفيلة بذلك؟ تنتهي تلك الاحتياطات ببيان منشأ الرجال وأين ينشأ الرجال، فالرجال لا ينشئون إلا في المسجد، ولا يتربون إلا في المسجد {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36] وهؤلاء الذين يتربون في المسجد كما عرفنا.
في قلوبهم نور، وهذا النور هو أعظم نور عرفه الإنسان {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ} [النور:35].
ثم انتهى الأمر بعد ذلك إلى بيان الخطر الذي يصيب الإنسان حينما يبتعد عن المسجد وعن الله وعن دين الله، فيعيش إما في أحلام، فتكون: {أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النور:39] أو يعيش في ظلمة نعوذ بالله، فليست له أعمال ترجى، بل هي سيئات إثر سيئات، وكفر ومعاصٍ وإلحاد وعناد {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40].
انتهى المقطع الأول من هذه السورة إلى هذا الحد، وجاء الحديث عن الآيات الكونية التي وضعها الله عز وجل في هذا الأفق، وفي الأنفس، وفي هذا العالم، في السماوات وفي الأرض من أجل أن يهتدي هذا الإنسان، وكأن هذه الآيات الكونية وضعت بجوار الآيات الشرعية التي سبقت لتكون سبباً لهداية هذا الإنسان، فالإنسان الذي في قلبه نور ينشأ هذا النور في المسجد، والذي يفقد هذا النور يعيش في سراب، وفي أحلام يقظة، أو يعيش في بحر لجي فيه ظلمات إذا أخرج يده لم يكد يراها.
لكن الله عز وجل قد وضع في هذا الأفق أدلة ترشد إليه في السماوات والأرض وفي الأنفس، ولذلك الله تعالى بين أن هذه الآيات الموجودة في السماوات يتذكر من خلالها أولوا الألباب، قال تعالى: {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:20 - 21] فإذا لم يجد الإنسان آيات في الأرض تكفيه لتعرفه بربه سبحانه وتعالى فسوف يجد هذه الآيات في السماء، قال تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق:6] وإذا لم ينظر في هذا ولا ذاك فلينظر في نفسه، قال تعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21].
فلو نظر هذا المخلوق المعاند لله عز وجل فيما وضع الله تعالى في هذا الكون من آيات ومخلوقات من جبال معلقة بين السماء والأرض وهو السحاب وينزل منها الماء ومن مخلوقات متحركة على وجه الأرض، دواب، إنسان، حيوان، زواحف، حشرات، كل هذه أدلة ترشد الإنسان إلى ربه سبحانه وتعالى، وقد يغفل هذا الإنسان عن هذه الآيات، فتكون النتيجة: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} [النور:39 - 40].
لكن لو نظر هذا الكافر قبل أن يكون كافراً في هذه الآيات الكونية والأفقية والنفسية ليرى منها قدرة الخالق سبحانه وتعالى؛ ما كان هذا الإنسان ليكفر بالله عز وجل، وما كان لينكر الخالق سبحانه وتعالى وهو يرى آياته في هذا الوجود، وما كان ليزعم له شريكاً وهو يرى دقة الصنعة في هذا الوجود، وتلك الدقة التي خلقها الله عز وجل في كل مخلوق تدل على أنه الواحد، ولذلك الله تعالى يقول: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا} [الأنبياء:22] أي: في السماوات والأرض، {آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22] لأن اختلاف الصانع يؤدي إلى اختلاف الصناعة، بل في دون هذا الكون من الأمور التي يشترك فيها أكثر من واحد في صنعها تظهر فيها علامات الخطأ والخلل، وضعف الصنعة، أما هذه المخلوقات التي خلقها الله عز وجل فهي دليل على الوحدانية.(7/2)
قوله تعالى: (ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض)
يبين الآيات الكونية بعد بيان الآيات الشرعية من أجل أن يعرف الإنسان فيها قدرة الخالق، فيعيش في رحاب الإيمان، فيقول الله تعالى عن الآيات الأولى من هذه الآيات الكونية: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور:41] هذه آية من آيات الله عز وجل، آية كونية، ألم تعلم -أيها الإنسان المكذب بربه سبحانه وتعالى- أن الله تسبح له كل المخلوقات، فإن لم تسبح له أنت فاعلم أن كل المخلوقات تسبح لله، حتى الحجارة والجمادات، وحتى الطير في الهواء، وحتى السمك في الماء، كلها تسبح لعظمة الله عز وجل، إذاً لو كفرت -أيها الإنسان- بربك فأنت جزء بسيط من مخلوقات الله، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44].
إذاً معنى ذلك -أيها الإنسان- أنك إن كفرت بالله فإنه غني عنك، له خزائن السماوات والأرض، له جنود السماوات والأرض، ولذلك الله تعالى يقول في سورة الحج: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ} [الحج:18] إذاً بقي جزء آخر من الناس لا يسبحون لله، فما يضر هذا الكون أن يكون هناك من لا يسبح لله من بني آدم، أو من الجن والإنس ما دامت هذه المخلوقات كلها تسبح لله عز وجل.
فالمصيبة في كثير من الناس، أما سائر المخلوقات فإنها تسبح لله عز وجل كلها، وهذا هو معنى قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ} [النور:41] أي: ألم تعلم أيها الإنسان المكذب {أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور:41] والذين في السماوات هم الملائكة، تصور يا أخي كثرة الملائكة لا يحصي عددهم إلا الله عز وجل، قال صلى الله عليه وسلم: (أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع شبر إلا وملك ساجد واضع جبهته لله عز وجل)، السماء العظيمة التي تعتبر الأرض ذرة صغيرة من ذرات هذا الكون والذي تحيط به سبع سماوات، ما فيها موضع شبر إلا وفيه ملك ساجد لله عز وجل.
إذاً معنى ذلك أن الإنسان أصغر المخلوقات، وهذا الكوكب الصغير الذي يعيش الإنسان فيه جزء بسيط من الكون، إذاً لله عز وجل جنود السماوات والأرض.
ثمانية ملائكة في كل يوم وليلة موكلون بالإنسان، أربعة كتبة، وأربعة حفظة، والأربعة الكتبة: اثنان في الليل، واثنان في النهار، والحفظة: اثنان في الليل واثنان في النهار، المجموع ثمانية لكل واحد من الناس، إذاً: كم عدد الملائكة؟ لا يحصي عددهم إلا الله عز وجل، فالله تعالى يقول عن الكتبة: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18]، ويقول عن الكتبة أيضاً: {كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:11 - 12]، ويقول عن الحفظة الذين يحفظونه من أمر الله: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد:11] ويقول صلى الله عليه وسلم: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر) صلاة الصبح التي ينام عنها كثير من الناس.
إذاً الأمر عظيم، وجند الله لا يحصي عددهم إلا الله عز وجل، فالله تعالى هنا يقول: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [النور:41]، والطير ليست في السماء ولا في الأرض، ولكنها في السماء اللغوية، والسماء اللغوية: هي كل ما علا مما هو بين السماء والأرض.
فقوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ) أي: وهي باسطة أجنحتها تسبح لله عز وجل، لكن بطريقة نحن لا نعرفها، تسمع الصوت ولا تدري ماذا يقول هذا الطير، ولكن الله عز وجل يعلم تسبيحها، ويرى حركاتها وسكناتها، فهذه من قدرة الله عز وجل، والطير تسبح وهي باسطة أجنحتها في الفضاء، وقد تقبض أجنحتها في الفضاء ولا تسقط على الأرض {مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَنُ} [الملك:19].
(كلٌ) أي: كل واحد من هذه المخلوقات (قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) فالصلاة للعقلاء، والتسبيح لغير العقلاء، الصلاة للملائكة والجن والإنس، أما ما سوى ذلك من المخلوقات فلها تسبيح لكن بطريقه نحن لا ندركها، لا يدركها إلا الله عز وجل.
(كل قد علم) فاعل علم يحتمل أن المراد به هو الله عز وجل، أي أن الله عز وجل علم صلاة وتسبيح هذه المخلوقات، ولو كان في جنح الليل المظلم، ولو كان في جوف البحر فإن الله تعالى يعلم صلاته وتسبيحه، ويحتمل أن الضمير في (علم) يعود إلى (كل)، أي: لهذه المخلوقات.
كل واحد منها علم صلاة نفسه وتسبيحها.
(والله عليم بما يفعلون)، وهذا يؤيد المعنى الأول، أي: ما تفعله هذه المخلوقات من خير أو شر لا يخفى على الله سبحانه وتعالى.(7/3)
قوله تعالى: (ولله ملك السماوات والأرض وإلى الله المصير)
بعد ذلك الله تعالى يقول: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [النور:42]، وهذه آية من آيات الله، وقدرة من قدراته سبحانه وتعالى، أن الله له ملك السماوات والأرض، ليس معنى ذلك أن هناك شيئاً مملوكاً لمخلوق لا يرجع ملكه إلى الله عز وجل.
العلمانيون يقولون: (ما لله لله وما لقيصر لقيصر) الله له المسجد، أما سائر الحياة فهي للإنسان يتصرف فيها كيف يشاء، أنظمة الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والحكم غير ذلك هذه ليست لله، فالله يعبد في المسجد، فمن أراد أن يعبد الله فليذهب إلى المسجد، وهذه خلاصة مذهب هؤلاء الفجرة الكفرة، والحقيقة أن الله تعالى يقول: {لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور:41]، فليس هناك شيء لغير الله، وليس هناك شيء لقيصر، فكل شيء لله؛ لأن الله تعالى له ما في السماوات وما في الأرض، وعلى هذا نعرف أن حكم الله عز وجل نافذ على كل المخلوقات في السماوات والأرض، ونافذ أمره في كل أمر من أمور هؤلاء الخلق، سواء أكان في أمور العبادات أم في أمور الحياة الدنيا.
(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) أي: المرجع.
وهذا أيضاً دليل على قدرة الله، فمن يستطيع أن يجمع هذه الخلائق يوم القيامة؟ من يستطيع أن يجمع هذه الأجزاء التي امتصها التراب فأصبحت تراباً وعادت تراباً؟ الله سبحانه وتعالى هو الذي يستطيع أن يجمع ذلك، ولذلك الله تعالى رد في آخر سورة (يس) على الملحد الذي جاء ذات يوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفت عظماً بالياً في وجه محمد صلى الله عليه وسلم وقال: يا محمد! أتزعم أن الله يبعث هذا يوم القيامة قال: (نعم يميتك ثم يبعثك ويحشرك إلى النار) فأنزل الله أدلة على أن الله تعالى يجمع هذه الأجزاء وإن كانت عظاماً بالية، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنْ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} [يس:77 - 80] شجر أخضر تضعه في النار فيلتهب ناراً، من حول الرطوبة إلى حرارة والبرودة إلى حرارة؟ الذي يبعث الأجسام يوم القيامة هو الذي يعيد إليها الرطوبة والحرارة مرة أخرى.(7/4)
قوله تعالى: (ألم تر أن الله يزجي سحاباً ثم يؤلف بينه)
ثم بعد ذلك الله تعالى يقول: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا) وهذه آية كونية من آيات الله، فمن يستطيع أن يعلق هذا السحاب بين السماء والأرض؟ فهي آيات عظيمة.
وقوله: (يزجي) أي: يرسل ويبعث سحاباً ينطلق من البحار والهواء، ومما لا يعلمه إلا الله عز وجل، ويتجمع في السماء كالجبال، يزجيه ويجمعه، ثم يسوقه سبحانه وتعالى إلى مواقعه التي يريد أن ينزل فيها المطر، وهذا السحاب العظيم محمل بالمياه الثقيلة، ويسير بين السماء والأرض بقدرة الله عز وجل، كما أمسك الطير في السماء أمسك السحاب أيضاً بين السماء والأرض، ولذلك هذه آية كونية أخرى تشبه الآية الكونية السابقة.
ألم تعلم أيها الإنسان؟ (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا)؟ و (سحاباً) جمع سحابة، وهي القطعة من الغيم، (ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ) يجمع بعضه على بعض (ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا) فيرتص ويتراكم بعضه فوق بعض، حتى تكون السحابة العظيمة السوداء في السماء آلاف الأمتار بقدرة الله سبحانه وتعالى وهي محملة بالمياه ومعلقة بين السماء والأرض، إذاً من يستطيع ذلك؟ لا يستطيعه إلا الله عز وجل.
(فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) المطر يضعه الله تعالى في فتوق هذا السحاب، فيبدأ الماء ينزل، فإذا أراد الله تعالى أن ينزل الماء لا ينزله إلا الله عز وجل.
وقد كتبت كاتبة تقول: متى ننزل المطر بإرادتنا؟ وهل يستطيع الإنسان أن ينزل المطر بإرادته؟! الله سبحانه وتعالى هو المسيطر على هذا الكون والسحاب، لا ينزل ذلك إلا بإرادة الله عز وجل، إذاً الله تعالى يقول: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا) ينزل بإرادته لا بإرادة مخلوق من المخلوقين (ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ) أي: المطر يتفتق هذا السحاب فينزل (يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ)، أي: من فتحات هذا السحاب بقدرة الله سبحانه وتعالى إذا أراد أن ينزل، لا بقدرة المخلوق، فقد تمر السحابة العظيمة المحملة بالمياه الثقيلة ولا ينزل في هذا المكان، وينزل في مكان آخر حسب إرادة الله، وبمقدار ما يوجهه الله سبحانه وتعالى.
(وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ) قد ينزل برداً بدلاً عن الماء، وقد يهلك بدلاً من أن يكون سبيل رحمة، وهذه الجبال الموجودة بين السماء والأرض كناية عن السحاب العظيم المثقل بالماء، فكأنها أصبحت كالجبال، خلافاً لما يقوله بعض المفسرين بأن هناك جبالاً من برد في السماء متجمدة تنزل إذا أراد الله.
والذي يظهر -والله أعلم- أن هذا من باب التشبيه، فهناك سحاب ثقيل عظيم كأنه الجبال، وأنت تشاهد هذا السحاب إذا ركبت الطائرة وقد علت من فوق السحاب، فترى سحاباً كالجبال.
إذاً قوله تعالى: (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ) أي: من سحاب كالجبال -والله أعلم- من شدة ارتفاعه في السماء، ولما يحمله من مياه ثقيلة، ولتجمعه وتراكمه، فقد ينزل منه برد يتجمد بين السماء والأرض، فيكون هذا الماء برداً، وربما يكون ضاراً، والإنسان لا يعرف مصلحته أفي هذا السحاب أم في غيره.
(وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا) أي: في السماء (مِنْ بَرَدٍ) مياه متجمدة، (فَيُصِيبُ بِهِ) أي: بالمطر أو بالبرد (مَنْ يَشَاءُ) أي: من أراد الله تعالى إنزاله عليه (وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ) فهي قدرة إلهية وليست قدرة بشرية، فلو كان هذا الإنسان بيده قدرة ما كانت تمر فوقه سحابة إلا ويمتص ما فيها من ماء؛ لأن هذا الماء هو سبب حياة البشر، وسبب حياة الأرض، وسبب زينة الأرض، لكن الله عز وجل هو الذي يوجه هذا الأمر بقدرته وإرادته، لا بإرادة هذا الإنسان، ولذلك الله تعالى يقول: (فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ) بقدرة إلهية، وهذا المطر عظيم، وهذا السحاب عظيم له برق لامع، يكاد من شدة برقه أن (يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ) لشدة لمعانه، (يَكَادُ سَنَا) أي: ضوء برقه (يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ) من شدة لمعانه.(7/5)
قوله تعالى: (يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار)
هناك آية أخرى يراها الإنسان في كل يوم وليلة، ويراها الإنسان في كل سنة عدة مرات، ولربما يراها في الصباح والمساء، يزيد الليل ويزيد النهار، ويكون الليل أطول من النهار أو النهار أطول من الليل حسب فصول السنة، في كل يوم يحصل هذا التغير، وليلة باردة وليلة حارة، ويوم بارد ويوم حار، تقلب بإرادة الله عز وجل، فمن يستطيع أن يفعل هذا الفعل؟ لا يستطيع ذلك إلا الله، ولذلك من آيات الله عز وجل الكونية أنه يقلب الليل والنهار، فيزيد الليل لينقص النهار، ويزيد النهار لينقص الليل، ويجعل الوقت بارداً أو حاراً أو متوسط البرودة والحرارة، إذاً هذه من آيات الله عز وجل.
ولو نظرت إلى الساعة في هذا اليوم وقارنتها بالساعة في مثل هذا اليوم لسنوات مضت منذ آلاف السنين فلن تجد أن هذا الكون يختلف، أو أن هذا الزمن يختلف لحظة واحدة، فمن نظم هذا الكون بهذا المقدار وبهذه الدقة التي لا يستطيعها إلا الله عز وجل؟ إنه الله سبحانه وتعالى، ولذلك تقليب الليل والنهار بزيادة ونقص، وطول وقصر، وبرودة وحرارة لا يستطيعه إلا الله عز وجل، فهذه الدقة في الصنعة آية من آيات الله، فالله تعالى يقول: (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ) بالزيادة والنقص وغير ذلك (إِنَّ فِي ذَلِكَ) أي: في تقليب الليل والنهار (لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ) أي: آية ودليل قاطع يعتبر منه الإنسان، لكن لا يتعظ بذلك إلا أولوا الأبصار، أما الماديون فيقولون: المادة هي التي تصنع هذا الشيء.
والدهريون والملاحدة يقولون: هذا الفضاء يسبح بطبيعته، ونظم نفسه.
فهل يستطيع أن ينظم نفسه بنفسه؟ ومن يستطيع أن ينظم هذا الكون بدقة؟ فهذا النظام الذي وضعه هو الله عز وجل وصفه في هذه الحياة، خلاف ما يعتقده الملاحدة الذين يظنون، بل لا أظنهم يظنون، بل أنا متأكد أنهم يؤمنون بقرارة أنفسهم؛ لأن الإيمان فطرة، ولكنهم يريدون أن يخالفوا هذا الإيمان لمصالحهم، كما قال فرعون: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] والله تعالى يقول عنه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل:14].
إذاً معنى ذلك أن هذا النظام الرتيب الذي وضعه الله عز وجل في هذا الكون أعظم دليل على وجود الخالق سبحانه وتعالى، وعلى قدرته ووحدانيته، ولذلك الله تعالى يقول: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ} [النور:44] لكن لا يستفيد من هذه الأدلة ومن هذه الدروس إلا أولوا الأبصار وأصحاب العقول.(7/6)
قوله تعالى: (والله خلق كل دابة من ماء)
هناك دليل آخر نشاهده نحن في أنفسنا، وفيما يعيش معنا من مخلوقات الله من الزواحف والحيوانات والطيور والحشرات وغير ذلك، في هذه المخلوقات وهي تتفاوت في شكلها وفي طريق سيرها ومشيها، فما هي الآية؟ يقول الله سبحانه وتعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ) الدابة: هي ما يدب على وجه الأرض.
وهل المقصود بذلك ما يدب على وجه الأرض أم المراد به كل ما يدب من الملائكة التي تدب على سطح السماء، والجن الذين يدبون على وجه الأرض ونحن لا نراهم، والطيور التي تعيش بين السماء والأرض، إذ كلها تسمى دابة؟ إن الدابة مأخوذ من الدبيب، والدبيب معناه: السير البسيط الخفيف، لكنه يطلق على مجرد سير، إذاً الله عز وجل خلق كل دابة من ماء، ما هو هذا الماء؟ يحتمل أن المراد بالماء ماء الذكر الذي يختلط بماء الأنثى، ويرد على هذا بعض الأمور، فهناك من لم يخلق من هذا الأمر، فآدم خلق من تراب ولم يخلق من هذا الجنس، والجن خلقوا من النار، والملائكة خلقوا من النور، وهناك ما يتولد من التعفن كالبكتيريا وغيرها، إذاً يحتمل أن المراد بالماء هنا أصل الماء؛ لأن أول ما خلق الله عز وجل في هذا الكون الماء، فكان أول المخلوقات، حتى لو قلنا بالرأي الأول نقول: المراد (بالماء) الماء المعروف، وليس المراد ماء الذكر والأنثى، وهل كل شيء خلق من ماء؟ نعم حتى النار خلقت من الماء، لأنها لا تشتعل إلا بالشجر الذي خلق من الماء، وحتى الحشرات المتعفنة تتعفن من مادة لا بد أن فيها أصل الرطوبة، إذاً الله أعلم بالمراد، هل الماء أصل المخلوقات، الذي خلقه الله عز وجل قبل أن يخلق شيئاً في هذا الكون، وأوجد من هذا الماء كل هذه المخلوقات حتى الأرض وجدت من هذا الماء؟ الله أعلم بذلك.
(وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ) كالزواحف والحيات التي ليس لها أرجل ولا أيد، تزحف زحفاً على الأرض (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ) و (من) هنا لا تأتي إلا للعاقل، لكن جيء بها هنا لأن العاقل هو أفضل هذه المخلوقات.
(وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ) كالإنسان والطيور وما أشبه ذلك (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ) كالحيوانات وغيرها.
إذاً فأكثر المخلوقات على ثلاثة أنواع: منها من يمشي على بطنه كالزواحف، ومنها من يمشي على رجلين كالطيور والإنسان، ومنها من يمشي على أربع كسائر البهائم، لكن وجد على وجه الأرض من يسير على أكثر من أربع بأقدام كثيرة، فهذه نقول: تأتي بطريق التبع؛ لأنها قلة، أما أكثر المخلوقات التي تحدث الله عز وجل عنها -وهي ترى دائماً- فهي من يمشي على بطنه أو من يمشي على رجلين أو من يمشي على أربع، وما سوى ذلك فهو داخل في القلة والندرة.
(يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) يعني: هذه قدرة الله سبحانه وتعالى وليست قدرة المخلوق، فليس للمخلوق يد في صنعها.
(إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ومن قدرته أن جعل هذه المخلوقات متفاوتة، فصار منها ما يزحف زحفاً على الأرض بدون أرجل، ومنها ما يمشي على رجلين، ومنها ما يمشي على أربع، ومنها ما يمشي على أكثر من ذلك، إذاً هي قدرة الله عز وجل.(7/7)
قوله تعالى: (لقد أنزلنا آيات مبينات)
يختم الله عز وجل بهذه الآية تلك الآيات الكونية، وهذه الآية دائماً تتكرر؛ لأنها بدئت بها السورة: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [النور:1].
ثم ختم بها الجزء والمقطع الأول من السورة: {وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِنْ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} [النور:34].
ثم جاءت الآيات الكونية فختمت بمثل ما ختمت به الآيات السابقة: {لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} [النور:46] أي: واضحات الدلالة على مراد الله عز وجل، ولكن ما على هذا الإنسان إلا أن يتعظ بها ويستفيد منها.
(وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) الهداية بيد الله، فهذه أدلة كونية واضحة، لكن ما يهتدي بها إلا من شاء الله تعالى أن يهتدي، فدائماً الهداية مربوطة بمشيئة الله، ولا دليل للجبرية الذين يقولون: كيف يقدر الله المعصية على الإنسان ويعاقبه عليها؛ لأن الله تعالى قد أعطى هذا الإنسان مشيئة، فالمذاهب المعروفة ثلاثة: فمذهب الجبرية يقول: إن الله تعالى قد أجبر الإنسان على أعماله، فكيف يعاقبه على ذلك؟! وتهرب قوم بسبب هذا المذهب الخبيث وهم القدرية فقالوا: الله تعالى لم يقدر مقادير الخلائق ولا أعمال العباد، فالعبد هو الذي يخلق أفعاله.
ومذهب أهل السنة والجماعة وسط بين هذين المذهبين، فليس بمذهب الجبرية الذي يقول: إن الإنسان مجبر وليست له إرادة، وليس بمذهب القدرية الذين يقولون: كيف يقدر الله المعصية على الإنسان ويعاقبه عليها؟ فيقولون: الله تعالى ما قدر أفعال العباد.
أما مذهب أهل السنة والجماعة فهو الوسط، فإن الله تعالى قدر أفعال العباد، لكن لهذا الإنسان إرادة، وإرادته مربوطة بإرادة الله تعالى وبمشيئة الله سبحانه وتعالى.
إذاً ليس في هذه الآية دليل للجبرية؛ لأن الإنسان له إرادة، فالله تعالى يقول: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير:28] فله مشيئة، إلا أنها مربوطة بمشيئة الله سبحانه وتعالى.(7/8)
الآيات الدالة على وجوب تحكيم شرع الله
هنا يجيء مقطع جديد يوجب تحكيم شرع الله، وهل يصلح البشرية غير شرع الله؟ وهل تستقيم أمور الناس بشريعة غير شريعة الله؟ لا.
أبداً، فالإنسان لا يمكن أن تستقيم أموره، ولا يمكن أن تستقر أحواله، والعالم لا يمكن أن يخضع لنظام غير شرع الله عز وجل، ولذلك نسمع الآن أخبار هذا العالم الذي قد أمسك بالزناد في كل بلاد العالم، لا يهدأ له بال، فوضى، واضطرابات، ومشاكل، ومصائب، وسلب ونهب، وقتل وجرائم، ولصوصية واغتصاب، وفساد وزنا، وسرقة، ما الذي حدث؟! الذي حدث أن هذا العالم أعرض عن شرع الله، والله تعالى يقول: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} [البقرة:137] وهذا الشقاق سيبقى ما بقي الإعراض عن شرع الله عز وجل، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (وما حكمت أئمتهم بغير ما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم).
إذاً لا بد أن تحكم الأئمة بشرع الله، وإذا حكمت الأئمة بشرع الله هدأت الأمور، واستقرت الأحوال، ولذلك بمقدار ما يطبق الناس من شرع الله يكون لهم نصيب من الأمن والاستقرار والهدوء، وبمقدار ما يعرضون عن شرع الله يكون الأمر من الفوضى والاضطرابات والمشاكل.
نصيحة نوجهها لكل حاكم يحكم هذا العالم الإسلامي -بل العالم كله- أن يحكم بشرع الله عز وجل، وحينئذٍ يكون الأمن والاستقرار، والرخاء والطمأنينة، والهدوء والطاعة من الشعوب للقادة، بل لا يجوز لهذه الشعوب أن تخضع للقادة وهي تحكم بغير شرع الله، فالله تعالى أخبر بأن هؤلاء الذين يحكمون بغير شرع الله طواغيت، وأن الشعوب التي تستجيب لمن يحكم بغير شرع الله أيضاً هي طاغوت، فأي واحد من أفراد الشعب يعتبر طاغوتاً إذا تحاكم إلى غير شرع الله، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} [النساء:60]، الذي يحكم بغير شرع الله {وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} [النساء:60].
تضل الشعوب ضلالاً بعيداً إذا تحاكمت إلى غير شرع الله عز وجل، أما الطاغوت الذي يحكم بغير شرع الله تعالى فإنه هو الكافر المرتد، قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45] {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47] وهنا ستجد قصة تحدث عنها القرآن تبين لماذا يعرض الإنسان عن شرع الله؟ إما أن يكون في قلبه مرض نفاق، أو يكون مرتاباً شاكاً بهذا الدين، أو يكون شاكاً بعدالة الله سبحانه وتعالى: {أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} [النور:50] فلا يمكن أن يكون من يحكم بغير شرع الله إلا واحداً من هؤلاء الثلاثة، فمن يحكم بغير الشرع نقول له: أنت إما أن تكون مريض القلب منافقاً ما دام أنك تعرض عن شرع الله، وإما أن تكون مرتاباً شاكاً في هذا الدين أنه جاء من عند الله، وأن القرآن نزل من عند الله، وهذا هو الكفر الصريح، وإما أن تتهم الله تعالى بالحيف؛ لأن هذا حكم الله، فالله الذي حكم بين هؤلاء الناس، إذاً يحيف، أي: يميل مع بعضهم دون بعض فأنت إذاً ملحد مجرم في حق الله سبحانه وتعالى.
والقصة لها سبب نزول، وهو أنه ذات يوم اختصم رجل يهودي مع رجل منافق، والمنافقون أخطر على الإسلام من اليهود والنصارى، المنافقون الذين يندسون في المجتمعات الإسلامية ويترهبنون مع المسلمين، ويتظاهرون بالدين، ويطعنون في الدين من الخلف أو من الأمام سراً أو علناً هم أخطر على الإسلام من اليهود والنصارى، ما في الدنيا أخطر على الإسلام وعلى الدين من المنافقين، ولذلك ليس عجيباً أن يضعهم الله تعالى في الدرك الأسفل من النار، فاليهود والنصارى في النار، لكن هؤلاء في الدرك الأسفل من النار: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ} [النساء:145] أي: النفاق الاعتقادي، نعوذ بالله.
فهذا الرجل الذي يتظاهر بأنه رجل مسلم وأنه يحكم شرع الله ويتباكى على الإسلام، وإذا تحدث فكما قال الله عز وجل: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} [البقرة:204] فإنه يؤكد ويقول: أنا صادق فيما أقول، ويشهد الله أني صادق فيما أقول.
لكن قلبه فاسد وضد الإسلام {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:204 - 205].
فوجود هذا على وجه الأرض يسبب غضب الله، والذي يحدث من خلال غضبه أنه يهلك الحرث والنسل، إذاً المنافقون أخطر على الإسلام من غيرهم، ولو وجدناهم يتباكون على الإسلام ويتحدثون عنه ويقولون الخطب الرنانة التي يظهرون فيها أنهم مع الإسلام، وأنهم جنوده، لكن إذا كانوا يخفون في الباطن غير ذلك فإنها سريرة سوف يكشفها الله تعالى عما قريب؛ لأن الله تعالى يعلم السر وأخفى.
إذاً هؤلاء هم أخطر من يجب أن يخاف منه.
فالمنافق اختصم مع يهودي، واختلفا في بئر أو أرض، فقال اليهودي: نحتكم إلى محمد.
وهو لا يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، لكن يعرف أن محمداً صلى الله عليه وسلم سوف يحكم له في هذه، فقال المنافق: نحتكم إلى كعب بن الأشرف.
يهودي مجرم.
اليهودي يحتكم إلى الإسلام والمنافق يريد أن يحتكم إلى كعب بن الأشرف الرجل اليهودي المشهور! فأنزل الله عز وجل هذه الآيات تبين كيف يعرض الناس عن شرع الله، لماذا؟ لأنهم يرون أن الحق عليهم، وأن الإسلام سوف يرد الحق إلى صاحبه وأهله، فالإسلام عادل، ولا يمكن أن يميل مع رجل ولو كان يتظاهر بالإسلام وليس مسلماً صحيحاً، أو هب أنه مسلم صحيح ضد رجل يهودي، فقد قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً * وَاسْتَغْفِرْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً * وَلا تُجَادِلْ عَنْ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ} [النساء:105 - 107].
وهذه الآيات نزلت في شأن أناس كانوا يزعمون أنهم مسلمون، فسرقوا سرقة وألصقوا التهمة بغيرهم، لكن الإسلام لا يحيف مع أتباعه ضد أعدائه، الإسلام نظام حكم شامل لا يصلح الحياة إلا هو، فقام الذين يزعمون أنهم مسلمون بإلصاق التهمة بغيرهم، وجاء جماعة من قومهم يشهدون معهم، وكاد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يحكم ضد المتهم، فهل تظن أن الله تعالى سوف يتركهم؟ لا، بل قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا * وَاسْتَغْفِرْ اللَّهَ} [النساء:105 - 106] فقد أخطأت.
ثم يقول الله تعالى بعد ذلك: {هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} [النساء:109].
الإسلام لا يفرق بين هذا وهذا، الإسلام لا يفرق بين ملك وسوقة، الإسلام لا يعطي حاكماً أكثر مما يعطي محكوماً من شرع الله عز وجل، الناس في حكم الله سواسية.
ويختصم علي بن أبي طالب ورجل يهودي ذات يوم، علي بن أبي طالب أمير المؤمنين.
ورجل يهودي من فقراء اليهود، يفقد علي بن أبي طالب رضي الله عنه درعه في صفين، فيبحث عنه فيذكر له أنه عند يهودي، فيقول لليهودي: هذا درعي.
فيقول اليهودي: بل هو درعي.
فيحتكم الرجلان: علي بن أبي طالب أمير المؤمنين الذي يحكم العالم الإسلامي كله مع رجل من فقراء اليهود دينه فاسد، ويجلسان أمام القاضي شريح، ويجلس القاضي شريح الاثنين جميعاً على كراسي الحكم؛ لأن الإسلام ليس فيه ملك ولا سوقة، فيقول شريح: ماذا عندك يا أبا الحسن؟ فيغضب علي حين قال له: أبا الحسن! لا يريد أن يعطيه لقباً أكثر من اليهودي، غضب حين أعطاه هذا اللقب دون أن يعطي اليهودي لقباً مثله.
فيقول: ماذا عندك؟ فيقول: عندي هذا الدرع أخذه اليهودي.
فيلتفت إلى اليهودي فيقول: الدرع لك يا يهودي أم لـ علي؟ فيقول: بل هو لي.
فيلتفت إلى علي فيقول: أعندك بينة؟ فيقول: والله ما عندي بينة.
فيقول: الدرع لليهودي.
تصوروا العدل الذي قامت عليه دولة إسلامية امتدت من الصين شرقاً إلى المحيط الأطلسي غرباً مدة طويلة من الزمن، إلى أن فسد هذا العدل وحصل فيه ما حصل، فيحكم بالدرع لليهودي ضد أمير المؤمنين وخليفة المسلمين، ويقوم اليهودي والدرع معه، فيرجع اليهودي ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، وأشهد أن هذه أحكام أنبياء، الدرع لك يا أمير المؤمنين، تبعتك يوم صفين فوجدته قد سقط منك.
لماذا شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟ لأنه رأى العدل في حكم الإسلام فلو حكم المسلمون اليوم بالعدل حقيقة لدخل الناس كلهم في دين الله أفواجاً، فأندونيسيا سكانها مائة وخسمة وسبعون مليوناً، فيها الآن مائة وستون مليون مسلم، ما وصلهم داعية واحد في أول الإسلام، ولا وصلتهم جيوش إسلامية، وإنما وجدوا كيف يتعامل الإسلام مع الناس فدخلوا في الإسلام.
إذاً قصة ا(7/9)
قوله تعالى: (وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم)
هذا حكم الله هو الذي لا يصلح البشرية إلا هو، ولذلك أولئك يعرضون عن حكم الله {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} [النور:48] لا يريدون شرع الله؛ لأنهم أصحاب شهوات، وأصحاب فساد، لأنهم لصوص الأرض لا يريدون أن تقطع يد السارق فيصل القطع إليهم في يوم من الأيام، لأنهم يهوون الزنا والفواحش، ولا يريدون أن يرجم الزاني أو يجلد؛ لأن الزنا ديدنهم وصفتهم، فلما فسدوا ظنوا سوءاً بحكم الله عز وجل.
(وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ) ومتى يرجعون إلى شرع الله؟ إذا كان الحق لهم، ولذلك اليهودي رضي بشرع الله؛ لأنه يعرف أن الحق له في شرع الله، والمنافق رفض حكم الرسول صلى الله عليه وسلم وأراد حكم كعب بن الأشرف؛ لأنه يعرف أن عند كعب بن الأشرف حكماً غير حكم الله، أي: لن يعطي صاحب الحق حقه، هذا هو السر في إعراضهم عن شرع الله.
لكن تصور -يا أخي- لو كانوا يعرفون أن الحق لهم! فلو عرفوا أن الحق لهم لرجعوا إليه مذعنين، والآن يسود العالم دندنة تقول: لابد من التزام حقوق الإنسان، ولا تقتلوا الإنسان، لا تقتلوا القاتل، ولا تقطعوا يد السارق، إنها جريمة فاحشة وحكم شنيع.
ولو واحداً منهم أراد أن يحكم -ولا يستطيع أن يحكم إلا على الجماجم والأشلاء والدماء- لأباد هذا العالم كله ليحكم، وهو الذي يقول بالأمس: القتل وحشية وإراقة الدماء وحشية فلو أراد أن يحكم ورأى أنه لا يحكم إلا بأن يقتل ولو ثلاثين ألفاً من مدينة واحدة من أجل أن يثبت ملكه ليحولها -كما يقال- إلى مزارع للبقدونس لنفذ ذلك الحكم، لكن قتل مجرم واحد يرى أنه وحشية وجريمة.(7/10)
قوله تعالى: (وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين)
ما سبق ذكره هو الواقع، فأكبر دولة تتبنى الآن حقوق الإنسان وترى أن قتل الإنسان وحشية هي أمريكا كما نعرف، وأمريكا قتلت في ساعة واحدة ثمانين ألفاً في قنبلة ذرية ألقتها في اليابان، قال تعالى: {وَإِنْ يَكُنْ لَهُمْ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} [النور:49] إنسان يريد أن يحكم وأن يثبت عرشه الذي يهتز من تحته يمكن أن يجعل أودية من الدماء تسيل، كما كان هتلر يقول: سأسلم الأرض لله فارغة كما خلقها فارغة.
هذه كانت من مقالاته، يقول: لا أسلم الأرض لله إلا وهي فارغة من بني آدم.
لأنه يريد أن يحكم، وهذه طبيعة البشر، لكن قتل واحد مجرم يرون أنه جريمة وفاحشة وشنيعة.
ومع الأسف فهناك دولة إسلامية عربية كان من قوانينها: (تجنب الحدود البشعة) بهذا اللفظ، وهذا هو القانون السائد الآن، فقتل الإنسان عندهم جريمة، وإذا كان قد أجرم في نظرهم فقتله في نظرهم جريمة، لكن إذا أرادوا أن يحكموا أرضاً من أرض الله بقوة الحديد والنار والطغيان فيمكن أن تسيل الأرض دماءً ولا يبالون، ويمكن أن يقتلوا آلاف البشر ولا يبالون، في سبيل أن تثبت هذه العروش التي تهتز من تحتهم.
فذلك هو معنى قوله تعالى: {وَإِنْ يَكُنْ لَهُمْ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} [النور:49] يعني: الذين يرفضون حكم الله إذا كان لمصلحتهم ورأوا أن الحق لهم وأنه يخدم مصالحهم يأتون إلى حكم الله مذعنين.
فالذين يرون أن قطع يد السارق وحشية، وقتل القاتل وحشية يأتون إلى القتل مذعنين حينما يريدون أن يثبتوا ملكهم في هذه الأرض، وهذه قاعدة مطردة لا تتخلف دائماً وأبداً، ولذلك الله تعالى يقول: {وَإِنْ يَكُنْ لَهُمْ الْحَقُّ} [النور:49] أي: في قتل هذا الإنسان أو في حكم الله {يَأْتُوا إِلَيْهِ} [النور:49] يعني: إلى حكم الله (مذعنين) أي: منقادين لمصالحهم الخاصة، ما هو السر في ذلك؟ السر أحد ثلاثة أشياء: قال تعالى: {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمْ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} [النور:50] (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) نفاق (أَمْ ارْتَابُوا) عندهم شك في الله وفي حكم الله، كل هذا لا شك أنه موجود فيهم (أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) وهو موجود، فهم -أيضاً- يخافون أن يحيف الله عليهم؛ لأنهم ما يؤمنون بالله سبحانه وتعالى، وإن آمنوا بالله فإيمانهم ضعيف، فهم يظنون في أنفسهم أن الله يحيف عليهم حينما يأخذ الحق من هذا لهذا، وحينما يُقتل هذا، وحينما يأمر بقطع يد هذا، أو حينما يأمر بسجن هذا، يعتبرونه حيفاً من الله عز وجل، فهذه أحد أمور ثلاثة، وكلها موجودة فيهم.
و
الجواب
( بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) فالذي حدث أنهم ظالمون لأنفسهم وللشعوب وللأمم، ولذلك أعرضوا عن شرع الله عز وجل بسبب ظلمهم.
إذاً ما هو موقف المؤمن أمام شرع الله وإذا دعي إلى شرع الله؟ يقول: سمعت وأطعت، يجب على كل أحد من المسلمين إذا قيل له: تذهب إلى شرع الله، إلى المحكمة، إلى القاضي الشرعي أن يقول: سمعنا وأطعنا.
فهذا هو موقف المؤمن في مثل هذه الحالة.(7/11)
قوله تعالى: (إنما كان قول المؤمنين)
(إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ) (قول) هنا خبر كان، واسمها مصدر مؤول متأخر.
فالمسلم إذا دعي إلى شرع الله يجب أن يستجيب، ولا يجوز له أن يتأخر أو أن يبحث عن شرع غير شرع الله، وإذا دعي إلى قوانين البشر وآراء الرجال أو أن يحكم فيه بغير شرع الله فعليه أن يرفض، وتعتبر استجابته لغير شرع الله خطراً عظيماً عليه، وتعتبر استجابته لله أمراً مطلوباً.
(أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) يقولونه بألسنتهم وأفعالهم، يعني: يستجيبون لشرع الله.
(وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الذين يقولون: سمعنا وأطعنا مستجيبين لشرع الله.(7/12)
قوله تعالى: (ومن يطع الله ورسوله)
(وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) هذا هو جزاء الذين يتحاكمون إلى شرع الله ويحكمون بشرع الله، ويرفضون كل شرع ونظام غير شرع الله ويخالف شرع الله.
(وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ) الخشية: هي شدة الخوف وأعظمه.
هذه الخشية هي التي يجب أن يمتلئ بها قلب المؤمن (ويتقه) أي: يتق الله عز وجل (فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) أي: هؤلاء هم الذين يفوزون بسعادة الدنيا والآخرة.
بل -والله- يفوزون بسعادة الدنيا قبل سعادة الآخرة، فالعالم الذي يستجيب لشرع الله ويتحاكم إلى شرع الله هو الذي يسوده الأمن والهدوء والطمأنينة، وانظر إلى بلادنا -والحمد لله- فبمقدار ما تطبق من شرع الله يكون لها الأمن والطمأنينة، ويتخطف العالم من حولنا، ونسأل الله الثبات على شرع الله، وأن نموت على شرع الله وعلى ملة الإسلام.
وهذا بالنسبة لفوز الدنيا، أما فوز الآخرة فإنه الجنة التي أعدها الله عز وجل لمن تحاكم وحكم بشرع الله.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(7/13)
قوله تعالى: (ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا)
يقول الله تعالى عن المنافقين: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا} [النور:47] دائماً المنافقون عندهم كلام ولا يوجد فعل حقيقة، ما عندهم اعتقاد صادق وإنما قول فقط؛ لأن إيمانهم قول لا يعدو اللسان، {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ} [النور:47] كل من لم يحكّم شرع الله ويخضع لدين الله ولو كان يهز المنبر بمواعظه نقول له: أنت قائل ولست بفاعل (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا) والأحداث هي التي تكشف هؤلاء المنافقين.
(وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ) أي: من بعد هذا القول (وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) ما هم صادقون في الإيمان، لو كان الإيمان موجوداً حقيقة لظهر على الجوارح، ولظهر على التصرفات، ولظهر على الحياة، لو كان هؤلاء مؤمنون حقاً ما كانت الحياة بهذا الشكل.
إذاً إيمانهم مزعوم، وقلوبهم فاسدة، هذا الإيمان قول وليس بحقيقة، يقول الله تعالى: {وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [النور:47] ليسوا مؤمنين حقاً، ما هو الدليل؟ الدليل: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} [النور:48] فكما أعرض ذلك المنافق يعرض المنافقون دائماً عن شرع الله، والآن تسود العالم ضجة كبرى تقول: شرع الله لا يصلح للحياة، يصلح في عصر الخيمة والبعير والأمور البسيطة، لا يصلح في عصر الصاروخ والمركبات الفضائية إلى غير ذلك! يقولون: تطورت العقلية الإنسانية.
فهذا هو رأي العلمانيين الفجرة، أنه لا يصلح هذا الدين للحياة، يصلح للمسجد صيام رمضان وحج ونحو ذلك، ولذلك الله تعالى يبين أن هؤلاء المنافقين لا ينكشفون إلا عند الأمور الحساسة: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} [النور:48]، ولذلك يقولون: قطع يد السارق وحشية، أنقطع يد سارق لنترك رجلاً عالة في المجتمع بدون يد؟! أنرجم الزاني من أجل شهوة بسيطة في دقائق نقضي على حياته؟! أنقتل القاتل ونضيف إلى مقتول مقتولاً آخر ليصبحا اثنين؟! نكتفي بالمقتول الأول ويكفي هكذا عقولهم تقول لهم، ونسوا أن الزاني يفسد المجتمع، وأن السارق يهدد الأمن، وأن القاتل يهدد الناس في دمائهم، وأننا لو تركنا القاتل يقتل دون أن نأخذ منه القصاص لتركنا فتنة في الأرض، ولربما تكون حرباً مدمرة بين قبيلتين بسبب دمٍ واحد، أو نترك ذلك القاتل يقتل من شاء متى شاء؟!(7/14)
الوعد الحق
لقد وعد الله تعالى ووعده حق، وقوله صدق، فلا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه، وعد عباده المؤمنين بالاستخلاف في الأرض، والتمكين لهذا الدين، وإبدال الخوف أمناً، وذلك إذا أقاموا دينه، وامتثلوا أوامره، واجتنبوا نواهيه، فإن تخلفوا عن ذلك فليس لهم عند الله من ميثاق ولا عهد ولا وعد.(8/1)
شروط التمكين في الأرض
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، وتبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبارك، وعلى آله ومن دعا بدعوته وعمل بسنته ونصح لأمته إلى يوم الدين.
أما بعد: فما زلنا في سلسلة آيات سورة النور نتحدث عن بعض أسرار هذه السورة العظيمة التي أعطاها الله عز وجل عناية وميزة فقال في مطلعها عز من قائل: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور:1].
وحديثنا عن قول الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [النور:55 - 57].
أيها الأخ الكريم! نحن نعرف يقيناً بأن الله عز وجل خالق هذه البرية وهذا العالم، وهو الذي يعلم أسراره ويعلم ما يصلح شئونه وما يفسده، ولذلك فإن خبره عز وجل صدق كما أن حكمه عدل، قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} [الأنعام:115] ثم جرت سنة الله عز وجل في هذه الحياة أن يضع لها نواميس وأنظمة، ويدور بقاء هذه البشرية ونهايتها حول أسباب البقاء وأسباب النهاية.
يقول الله عز وجل: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} [الأعراف:34] وكما أن للأفراد آجالاً فإن للأمم آجالاً أيضاً، فالله عز وجل قد يبسط الدنيا لأمة وييسر لها وسائل البقاء والتطور والتقدم، ولكن الله عز وجل يطالبها بمقدار ما يعطيها من وسائل البسط والبقاء أن تستقيم على شرع الله، وأن تلتزم منهجه، ويضع للاستخلاف والبقاء أسباباً ونواميس، فإذا أخذت الأمة بهذه الأسباب فإن الله عز وجل لا يخلف وعده، ولكنها حينما تأخذ بهذه الأسباب ثم تتخلف عنها في يوم من الأيام فإن الله عز وجل لا يغيروا ما بقوم حتى يغير ما بأنفسهم، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الأنفال:53]، ولذلك سوف تجد في آية الاستخلاف والتمكين والأمن والطمأنينة {وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55] وهذا وعيد، والوصف بالفسق لا يعني ذلك أن الأمر يقف عند فسق ثم ينتهي الأمر، فإن لله محارم ولله عز وجل غيرة، فإذا تجرأت هذه الأمة على محارم الله فإن الله عز وجل لها بالمرصاد.
أيها الأخ الكريم! يقول تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ} [النور:55]، فنجد أن هذه الآية اشترطت أربعة شروط، ثم وعد الله عز وجل هذه الأمة إذا وفت بهذه الشروط أن تتحقق لها ثلاثة أمور مهمة تسعى إليها كل الأمم، فجميع الأمم التي تخوض الحروب العالمية الدامية بما في ذلك الحربان العالميتان اللتان أفنتا عشرات الملايين من البشر، واللتان دمرتا جزءاً كبيراً من الكرة الأرضية الهدف من وراءها البحث عن الاستخلاف في الأرض، والبحث عن تمكين دين أياً كان هذا الدين، أو معتقد أياً كان هذا المعتقد، والبحث عن الأمن والطمأنينة، ولكن الذي خاض كيد الحربين العالميتين لم يستطع أن يحقق الأمن والطمأنينة لنفسه فضلاً أن يحققهما للعالم، وإن كان قد حصل على شيء من المكاسب لكنه لم يستطع بعد ذلك أن تبقى حضارته آمنة مطمئنة؛ لأن الشروط غير متوافرة، فالشروط أربعة، وهي قوله تعالى: (آمنوا منكم) وكأن الخطاب موجه بصفة خاصة للأمة الإسلامية؛ لأن الضمير يعود إلى الأمة الإسلامية، وقوله: (وعملوا الصالحات) وقوله: (يعبدونني) وقوله: (لا يشركون بي شيئاً) فهذه أربعة شروط لا بد أن يعيها هؤلاء الناس حتى يلتزموا بها التزاماً كاملاً، وحتى يقيموها في حياتهم اليومية دائماً وأبداً، لا يغفلوا عنها ساعة من الزمن، وحينئذ سوف يتحقق ذلك الوعد، وقد تحقق ذلك الوعد يوم طبقت الأمة الإسلامية هذه الشروط الأربعة في عصرها الذهبي في عهد سلفنا السلف ورعيلنا الأول.(8/2)
الإيمان
الإيمان معناه: التصديق الجازم، التصديق بوجود الله عز وجل أولاً، فلا يصل إلى قلب أحد شك في وجود الله عز وجل، وكيف يصل إلى قلب أحد من الناس الشك وهو الذي يرى آيات الله عز وجل في الآفاق وفي الأنفس؟! قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53] هذه الآيات التي وضعها الله عز وجل في هذا الكون ينظر إليها الإنسان ليلاً ونهاراً، ينظر إليها في كل لحظة، يرفع بصره إلى السماء فيرى هذه الكواكب العظيمة وهي تجري إلى أجل مسمى، وينظر إلى الشمس والقمر وهما يجريان إلى أجل مسمى، ثم ينظر إلى الأرض فيرى قدرة الخالق سبحانه وتعالى، ثم ينظر إلى نفسه {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] فيخرج من ذلك بنتيجة وهي وجود الله عز وجل وقدرته ووحدانيته في هذا الكون؛ لأن هذه الوحدانية تبرز في قدرة الصانع سبحانه وتعالى وفي انتظام هذا الكون الرتيب، قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22] ولذلك فإن الإيمان فطرة، وكل ما في هذا الكون يحرس هذه الفطرة، والانحراف خروج عن الفطرة، قال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [البقرة:213] أي: ثم انحرفوا {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} [البقرة:213] وهذه الفطرة هي صبغة الله عز وجل التي يقول عنها: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} [البقرة:138] هذه الفطرة -فطرة الإيمان بوجود الخالق سبحانه وتعالى وقدرته ووحدانيته- فطرة خلقت مع الإنسان، فقد قال الله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:172] بماذا؟! قال الله تعالى: {أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف:172 - 173]، وفي معنى هذا الآية الكريمة يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل قد استخرج ذرية آدم من ظهره يوم خلقه كالذر، فأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى.
فأخذ سبحانه وتعالى قبضة فقال: هذه إلى النار ولا أبالي.
وأخذ قبضة أخرى فقال: هذه إلى الجنة).
إذاً هي فطرة فطر عليها هذا الإنسان، ولكن هذه الفطرة -أي: فطرة الإيمان- تتعرض في كثير من الأحيان لأمور خارجية تؤثر فيها، ولعل من أبرز هذه الأمور الخارجية دعاة الضلال الذين نذروا أنفسهم لحرف أبناء الفطرة عن الفطرة، ولكن هذه الفطرة ما زالت موجودة، وأي فطرة يوجد فيها إنكار هذه الفطرة فإنما هو لأسباب ودوافع، فإذا كان فرعون يقول للملأ: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] ويقول لهم: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24] ويخرج على هذه الفطرة فإن نواياه السيئة تنكشف في قول الله عز وجل: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14]، ويزيد هذا الانكشاف وضوحاً حينما أدركه الغرق فقال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ} [يونس:90] وعلى هذه تأكدنا من أن الفطرة ما زالت موجودة، وأن هدف فرعون إنما يريد من خلال ذلك أن يستعبد هذا العالم، وهكذا كل من يريد أن يستعبد هذا العالم لا بد أن يخرج على هذه الفطرة؛ لأن هذه الفطرة لا تمكن لطاغية من الطغاة أو لجبار من الجبارين أن يسود هذا العالم إلا بمقدار ما يحول بين هؤلاء الناس وهذه الفطرة، ولذلك تجد أن الشيوعية التي كادت أن تكتسح جزءاً كبيراً من العالم مدة من الزمن كان هدفها الاستيلاء على العالم، واستعباد بني البشر، ولا يمكن لأمة أن تستعبد البشر إلا حينما تحول بينه وبين هذه الفطرة، حتى إذا يئسوا من هذا الهدف أظهرت الشيوعية إفلاسها.
فالمهم هو الشرط الأول، وهو الإيمان، وهذا الإيمان له مفهومان: المفهوم الأول: مجرد التصديق، وهذا لا يكفي لحياة الرجل المؤمن، فإن مجرد التصديق تعتريه كثير من الأحداث والأخطار التي تهزه هزاً، ولربما يتجرد هذا الإنسان من إيمانه بسبب هزة بسيطة أو هزة عنيفة، ولذلك الله تعالى ذكر من هذا الإيمان أنواعاً: فقال عن نوع منه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:8 - 9].
وذكر نوعاً آخر من هذا الإيمان الصادق في بادئ الأمر، لكنه غير ثابت ولا مستقر؛ لأنه لم يصل إلى سويداء القلوب؛ ولأن الأحداث لم تفتنه بعد، ولأنه لم يصب بهزة من الهزات، ولكنه سرعان ما يصاب بهزة يتأثر بها هذا الإيمان؛ لأنه لم يكن عن تفكير وبحث وروية، وإنما كان عن تقليد أو إرث من الآباء والأجداد أو إرث من البيئة، ولذلك الله تعالى يقول عن هذا النوع من الإيمان: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت:10] هذا الإيمان الذي يريد صاحبه أن يأخذ ما سهل ولان ويترك ما شق وصعب، ففي أيام الرخاء يقول: إنه مؤمن.
لكن حينما تغرقه الشدائد ينهار كما ينهار بيت العنكبوت، قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:41].
وهناك إيمان كالجبال، وهناك إيمان أقوى من الجبال لا يتزحزح عن موقعه ولا يتأثر بما يحيط به.
فالإيمان الحقيقي الصادق شرط للاستخلاف، لا نريد أن يكون كإيمان أبي العلاء المعري الذي يقول: (إن كان الحق معي فأنا أكسب الموقف، وإن كان الحق مع غيري فأنا لم أخسر شيئاً) ولكننا نريد إيماناً كإيمان إبراهيم عليه الصلاة والسلام الذي ألقي في النار فيقول له جبريل: ألك حاجة؟! فيقول في ساعة الصفر: (أما إليك فلا، وأما إلى الله فنعم)، كإيمان إبراهيم الذي يقول لابنه: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات:102] فيقول الابن الصالح المؤمن: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات:102 - 103] وانتهى الأمر وجاء الفرج من عند الله عز وجل.
نريد إيماناً كإيمان موسى عليه الصلاة والسلام الذي يقول له بنو إسرائيل وقد استقبل البحر: يا موسى! العدو من ورائنا والبحر من أمامنا، أين المفر؟! فيقول بكل رباطة جأش: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62] هذا الإيمان الذي لا يرهبه تهديد طاغية ولا ظلم طاغوت، إيمان كإيمان السحرة الذين كانوا يقولون: {بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} [الشعراء:44] فإذا بهم يرون أن عزة فرعون لا تحميهم من عذاب الله عز وجل، ويرون أن ما جاء به موسى عليه الصلاة والسلام ليس سحراً، ولكنها آية كبرى جاء بها من عند الله، وحينئذ يخرون لله عز وجل ساجدين، ولم يفعلوا من دينهم إلا سجدة واحدة، ثم يأتي دور تهديد الطغيان في الأرض الذي يشعر بالنشوة، فيقول لهؤلاء المؤمنين الذي رأوا الآيات بأمهات أعينهم: {فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} [طه:71] فماذا قال السحرة؟ قالوا: {لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه:72] فأنت لك الجسد لكنك لا تستطيع أن تصل إلى الروح! ويمكن أن تعذب في الحياة الدنيا لكنك لا تستطيع أن تعذب في الحياة الآخرة، قالوا: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه:72] و (ما) هنا من ألفاظ العموم، أي: كل ما تريد أن تفعله افعله في هذه الأجسام.
{إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى} [طه:73 - 75] هذا الكلام يقوله سحرة جاء بهم فرعون من أقصى المدائن، وجمعهم من شتى أقطار مصر من أجل أن يقفوا أمام آية من آيات الله، وكانوا يظنون في بادئ الأمر أن فرعون صادق، وأن موسى كاذب، لكنهم حينما رأوا الآيات بأمهات أعينهم قالوا: {لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه:72] لكن هذا الإيمان أين يولد؟ وأين يوجد؟ في التفكير في عظمة الله عز وجل، ولذلك تجد إبراهيم عليه الصلاة والسلام الذي يستسلم للإلقاء في نار الدنيا هروباً من نار الآخرة وهو على ثقة بأن الله عز وجل سوف يدافع عنه هو ذلك الذي يبحث عن الله، وما كان يشك في الله، وإنما كان يريد أن يعلم الناس من الذي يستحق أن يعبد، أهو الكوكب؟ لا يصلح الكوكب؛ لأنه لا يحب الآفلين، ولأن الكوكب أفل، أهو القمر؟ إن القمر لا يصلح.
أ(8/3)
العمل الصالح
الشرط الثاني: العمل الصالح، ولا يمكن لإيمان أن يقوم بدوره وأن يؤدي مهمته إلا إذا اقترن بعمل صالح، وإذا كان الإيمان هو الشجرة فإن العمل الصالح هو ثمرة تلك الشجرة، ولذلك فإن العمل الصالح لا بد منه مع الإيمان في حياة هذا الإنسان، ولذلك فإن المسلم مطالب بأن يحقق هذا الإيمان القلبي بعمل صالح يظهر على الجوارح، ويكذب من يزعم أن التقوى في صدره ويشير إلى قلبه العفن وليس فيه من الإيمان حبة خردل، وجوارحه قد تجردت من الأعمال الصالحة، ولذلك فإن الأعمال الصالحة هي مصداق ذلك العمل، فالإيمان اعتقاد القلب وقول اللسان وعمل بالجوارح، ولذلك فإن عمل الصالحات شرط من شروط الاستخلاف في الأرض أياً كانت هذه الصالحات، سواءٌ أكانت أداء الواجبات من الصلاة والصيام والزكاة والحج وبر الوالدين والإحسان إلى الفقراء إلى غير ذلك، أم كانت في ترك المنكرات وما حرم الله عز وجل من الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وكل ذلك داخل في عمل الصالحات، فإذاً لابد من عمل الصالحات، وهو شرط آخر.(8/4)
العبودية الخالصة لله عز وجل
الشرط الثالث: (يعبدونني)، والعبودية لله معناها الخضوع التام لله سبحانه وتعالى، ومعناها الإعراض عن غير الله عز وجل والإقبال عليه سبحانه وتعالى وحده، ومعناها الإعراض عن أي شرع وأي نظام يتنافى مع شرع الله، والإقبال على شرع الله عز وجل وحده وتحكيمه في كل صغيرة وكبيرة من أمور الناس، هي العبودية التي عبر عنها ربعي بن عامر رضي الله عنه حينما أرسل إلى بلاد الفرس فقال له رستم: ما جاء بكم أيها العرب؟ فقال له: (إن الله عز وجل قد ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله عز وجل وحده).
إذاً العبودية شرط من شروط التمكين، ولكن هذه العبودية إما أن تكون لله عز وجل وإما أن تكون لغير الله، فتكون لله سبحانه وتعالى إذا عرف الإنسان ربه حق المعرفة، وإذا أعرض عن عبوديته لله عز وجل فلا بد من أن يكون عبداً لشيء آخر.
فإما أن يكون عبداً للشيطان يتبعه ويتبع خطواته، وقد حذره الله عز وجل حيث قال: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس:60 - 61].
أو يكون عبداً للدرهم والدينار، ومعنى كونه عبداً للدرهم والدينار أن يقدم جمع المال على حب الله عز وجل والدار الآخرة، فيكسب المال من الحلال والحرام، يشترى ضميره ودينه بثمن بخس، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران:77] إذا عرضت عليه زينة الحياة الدنيا وسعادة الحياة الآخرة اختار زينة الحياة الدنيا على سعادة الحياة الآخرة، إذا عرضت عليه الرشوة، وإذا عرض عليه المنصب تجده عبداً لهذا الأمر وينسى عبوديته لله عز وجل، وقد يكون عبداً للمركز والوظيفة، وقد يكون عبداً للهوى، قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23]، وقد يكون عبداً لغير ذلك، لكنه يتحرر من كل هذه العبوديات حينما يتعلق بالعبودية لله عز وجل، وبمقدار ما يتجرد من عبودية الله يسقط في عبودية البشر، وبمقدار ما يتعلق بعبوديته لله عز وجل يبتعد عن عبودية البشر أياً كان هذا البشر، هذه العبودية التي تزيد الإنسان شرفاً وعزة وكرامة يعبر عنها الفضيل بن عياض رحمة الله عليه فيقول عن العبودية لله: ومما زادني شرفاً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا إذاً هذه العبودية يعبر عنها الفضيل بن عياض رحمة الله عليه بأنها علو، وبأنها مكانة عالية، حتى يقول: لقد كدت أن أطأ الثريا بأقدامي حينما أكون عبداً لك يا رب، وحينما أدخل في نبوة وبعثة محمد صلى الله عليه وسلم فأكون من أمة الإجابة.
هذه العبودية قد يفقدها بعض الناس فيشعر بالذلة والمهانة، ويشعر بالضعف والهوان حتى يدخل في هذه العبودية، يروي لنا التاريخ قصة ذلك الرجل الصالح الذي كان فاسقاً لا يعرف معنى العبودية من الحرية، ومكث على هذا مدة طويلة من الزمن، حتى هداه الله فعرف معنى العبودية، فيروي المؤرخون أن بشراً المسمى بـ بشر الحافي كان شاباً فاسقاً طائشاً ذا فساد عريض في الأرض، وكان من أبناء الذين امتحنهم الله عز وجل بالمال الوفير والنسب العريق، فقضى مدة طويلة من شبابه في فسق ولهو، لم يترك جانباً -كما يروي عن نفسه- من جوانب الفسق إلا وقد أخذ منه بنصيب، فأراد الله عز وجل له الهداية، فمر ذات ليلة بداره الرجل الصالح المشهور إبراهيم بن أدهم رحمة الله عليه، فتمزق قلب هذا الرجل الصالح حينما رأى الرقص والغناء واللهو والموسيقى وكئوس الخمور تدار في بيت بشر، فوقف عند الباب وطرقه، ففتحت له إحدى الراقصات القينات فقال: بالله أخبريني هذا بيت من؟ قالت: هذا بيت بشر.
قال: أخبريني بالله أحر هو أم عبد؟ قالت: هو حر.
قال: قولي له إن كان حراً فليفعل ما يشاء.
ثم انصرف، فانتبه بشر فسأل المرأة: من عند الباب؟ قالت: رجل.
وذكرت صفته، قال: ماذا قال؟ قالت: سألني حر أنت أم عبد؟ فقال: ماذا قلت له؟ فقالت: قلت له: أنك حر.
قال: وماذا قال؟ قالت: قال: إن كان حراً فليفعل ما يشاء.
وانصرف، فمشى حافياً لأول مرة وهو من أبناء الأشراف، ولحق بـ إبراهيم بن أدهم رحمة الله عليهما، فقال: قف يا رجل.
ماذا تقول؟! قال: يا بشر! سألت: أحر أنت أم عبد؟ فأخبروني أنك حر، فإن كنت -يا بشر - حراً فافعل ما تشاء.
قال: يا رجل! ويحك ماذا تقول -بدأ الرجل ينتبه ويعرف معنى الحرية والعبودية-؟ قال: لم أزد على ذلك أبداً، قال: ويحك ماذا تقول؟ قال: يا بشر! إن كنت حراً فافعل ما تشاء، وإن كنت عبداً فهذه ليست صفة العبيد.
قال: والله إني لعبد، والله إني لعبد، والله إني لعبد.
ويضرب برجله الأرض، ويعود بشر ليكسر زجاجات الخمر، ويخرج الراقصات والغانيات، ويعاهد الله عز وجل على التوبة وتحقيق معنى العبودية، ليصبح في يوم من الأيام مضرب المثل في الورع والزهد والتقوى، حتى إن ذكر بشر الحافي تغلب بعد ذلك على ذكر إبراهيم بن أدهم رحمة الله عليهما أجمعين، هذه هي العبودية والرق لله عز وجل، وتلك الحرية التي ينادى بها اليوم هي التفلت من القيود التي وضعها الله عز وجل لهؤلاء البشر حتى يكونوا عباداً لله سبحانه وتعالى.
فالعبودية هي التي تكسب الإنسان شرفاً، وتزيده الدرجات العلى في الدنيا والآخرة، ورفض الشهوات والإقبال على الله عز وجل، وعدم الميل إلى زينة الحياة الدنيا ميلاً يضيع على الإنسان سعادة الحياة الآخرة الخالدة.(8/5)
ترك الشرك بالله
الشرط الرابع: قال تعالى: {يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55].
والشرك بالله عز وجل معناه صرف نوع من العبادة لغير الله.
أي: أن تصرف نوعاً من أنواع العبادة أياً كان هذا النوع رجاءً أو خوفاً، أو طاعةً أو استعانة، أو استغاثة أو دعاء أو ما أشبه ذلك فتعطيه مخلوقاً من المخلوقين لا يقدر على فعل شيء من ذلك، أو تصرف نوعاً من الخوف بحيث يصبح خوف البشر أكثر في قلبك من خوف الله عز وجل، قال تعالى: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة:44] وهذا النوع من الشرك ما زال موجوداً وكثيراً في قلوب كثير من الناس، ولربما يصل إلى الشرك الأكبر الذي يخلد صاحبه في نار جهنم، ولذلك الله تعالى لم يقل: لا يشركون بي.
وإنما قال: {لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55] وكلمة (شيء) -كما يقول علماء اللغة- نكرة في سياق النفي، فتعم أي شيء من هذه الأشياء أياً كان هذا الشرك، وقد دخل النار رجل في ذباب، قيل له: قرِّب.
قال: وما أقرب؟ قيل: قرِّب ولو ذباباً.
فقرب ذباباً فدخل النار، فلا تعجب حينئذ من كلمة (شيئاً).
ولذلك فإن الشرك قد يخدع هذا الإنسان فلا يحيط به إلا من نور الله عز وجل بصيرته، والشرك أكبر طريق يخلد الناس في نار جهنم -نعوذ بالله-، فإنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة، سواء أكان شرك الأحياء أم شرك الأموات.
ولربما يقول قائل: إن الشرك انتهى يوم فتح الرسول صلى الله عليه وسلم مكة فتساقطت الأصنام تحت أقدامه صلى الله عليه وسلم.
ولكننا نقول: رغم أن الأوثان قد كسرها الرسول صلى الله عليه وسلم بيده الكريمة يوم الفتح فإن الإحصائيات تقول: إن في العالم الإسلامي عشرين ألف ضريح تعبد من دون الله.
وأكبر نسبة وصلت إليها الأوثان في آخر أيام الشرك في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وستون وثلاثمائة صنم تعبد من دون الله، وفي أيامنا -كما تقول الإحصائيات- عشرون ألف ضريح تعبد من دون الله، وهذه الإحصائية مضى عليها سنوات، فتأكد بأنها زادت زيادة واضحة، وإن من يخرج من حدود بلاد الحرمين التي حماها الله عز وجل وحرسها بدعوة سلفية مباركة يرى الشرك الأكبر على أشده في جل العالم الإسلامي، ينحني البشر لغير الله، ويركعون ويسجدون لقبور وأضرحة، ويطوفون حولها، يذرفون من الدموع أكثر مما يذرفه المؤمنون حول الكعبة المشرفة، وطواف ليلاً ونهاراً، وذبح ونذر لغير الله عز وجل، ولكن ربما يقول قائل: إن هذه المعتقدات ربما تفنى في عصر العلم.
لكنها ما زالت باقية، ولربما كان هناك مصالح تفرض على كثير من طغاة البشر أن يحتفظوا بهذه الأوثان التي تعبد من دون الله؛ لأنها تخدر الشعوب، ولأنها تجمد العقول، ولأنها لا توجد عباداً يطالبون بالإسلام الحق، ولذلك فإنها تجد رواجاً وتشجيعاً في كثير من العالم الإسلامي.
ولكن تعال -يا أخي- إلى شرك الأحياء، كم يعبد من الأحياء من دون الله عز وجل؟! كم من المقننين والمشرعين وأصحاب الأهواء وصانعي الأنظمة من يعبد من دون الله عز وجل في أيامنا الحاضرة! ولذلك يندر أن تجد في العالم الإسلامي بقعة تطبق شرع الله، وإنما تطبق قوانين البشر وآراء الرجال، ولذلك فإن هذا نوع من الشرك، ولما قال عدي بن حاتم لرسول الله صلى الله عليه وسلم حينما نزل قول الله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة:31] قال عدي: يا رسول الله! والله ما كنا نعبدهم.
قال: ()، ولذلك فإن أي أمة تحكم قوانين البشر وآراء الرجال، وتحني رأسها وتخضع لهذه الأنظمة من دون شرع الله عز وجل فهي أمة لها نصيب من الشرك، ولذلك الله تعالى اعتبر هذه الأمة تزعم الإيمان زعماً، وليس عندها إيمان حقيقي ما دامت تخضع لغير شرع الله عز وجل، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء:60 - 61] يريدون هذه القوانين.
أما صانعوا هذه القوانين والذين يفرضونها على المجتمعات الإسلامية ويقسرون المجتمعات الإسلامية عليها قسراً فهم أصحاب الردة الواضحة، قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] ولذلك لا تعجب حينما ترى الذين يتهمون شرع الله بالتخلف والوحشية والرجعية والشدة والقسوة، لا تعجب حينما تراهم يعرضون عن شرع الله، وحينما يرون عروشهم تهتز من تحتهم فيقتلون الآلاف بل عشرات الآلاف من البشر، ولربما يقتلون الملايين كما فعلت الشيوعية في أفغانستان، لا تعجب حينما ينتقدون القصاص أو قتل النفس التي يزعمون أن قتلها قوداً وحشية ويغتاظون من إقامة حدود الله سبحانه وتعالى بشرعية القصاص الذي فيه حياة الأمم، لا تعجب حينما تراهم يقتلون آلاف البشر من أجل مصالحهم، فإن الله عز وجل يقول: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [النور:48 - 50] وهذا هو الواقع الذي يعيشه العالم الإسلامي إلا ما شاء الله.
إذاً الشرك ليس معناه فقط الركوع والسجود لصنم من الأصنام، وإن كان هذا قد ملأ سمع الدنيا وبصرها، لكن شرك الأحياء، والخوف من غير الله عز وجل، والخضوع لغير الله سبحان وتعالى، والرجوع من منتصف الطريق خوفاً من البشر يعتبر نوعاً من الشرك الذي هو من أخطر أنواع الشرك بالله سبحانه وتعالى، ولذلك الله تعالى يقول عن الشرط الرابع: {يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55].(8/6)
جزاء من توافرت فيهم شروط التمكين
الجزاء لأولئك العاملين ثلاثة أمور، كل واحد منها يرتبط بما قبله: استخلاف في الأرض، ويترتب على الاستخلاف في الأرض تمكين هذا الدين، ويترتب على تمكين الدين من نفوس البشر الطمأنينة والأمن في هذه الحياة.
ثلاثة أمور كل واحد منها يترتب على الآخر.(8/7)
الاستخلاف في الأرض
إذا صدقت الأمة جاء الاستخلاف في الأرض، وما معنى الاستخلاف؟ معناه: أن تكون الخلافة بيد الصالحين، وأن تكون قيادة الأمة الإسلامية بأيدي خيارها الذين يحكمون بين الناس بالعدل، والذين لا يحكمون إلا شرع الله سبحانه وتعالى في كل أمورهم صغيرها وكبيرها، والذين إذا دعوا إلى الله ورسوله ينقادون لشرع الله سبحانه وتعالى في أي حال من الأحوال، وعلى أي أحد من الناس، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)، فالذين يصدقون مع الله يعطيهم الله عز وجل الاستخلاف في الأرض والسلطة، وحينما يأخذون هذا الاستخلاف لا يعتبرونه منطلق ظلم وطغيان أو تكبر، وإنما يعتبرونه منة من الله عز وجل وعبئاً ثقيلاً تحملوه، ويسألون الله عز وجل العون على تحمل هذه المسئولية، فهي أمانة، قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72] يعتبرونها أمانة وعبئاً ثقيلاً.
وأبو بكر رضي الله عنه يعلم هؤلاء القادة وحكام العالم الإسلامي ما مدى مسئولية السلطة فيقول: (ألا إني وليت عليكم ولست خيراً من أحدكم، ولكني أثقلكم حملاً) هذا هو الاستخلاف في الأرض، ليس الخليفة خيراً من واحد من رعيته عند الله عز وجل، وإنما الفضل والميزان بالتقوى، لكنه حمل ثقيل، فـ أبو بكر يقول: (ولكني أثقلكم حملاً) ويقول بعد ذلك: (أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم).
ويوضح ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو على المنبر يخضع لأمر الله ويقول للمسلمين أمامه: (إذا رأيتم مني اعوجاجاً فقوموني) ولا يغضب حينما قال له رجل: يا أمير المؤمنين -ويشهر سيفه في المسجد-! والله لو رأينا منك اعوجاجاً لقومناك بسيوفنا هذه.
فيقول: (الحمد لله الذي جعل في رعية عمر من يقومه بسيفه لو انحرف) هذا هو الرجوع إلى الحق، وهذا هو الاستخلاف في الأرض، يحكم بين الناس بالعدل، ولذلك فمن أول السبعة الذين يظلهم الله عز وجل في ظل عرشه يوم القيامة إمام عادل في نفسه وحكمه، وبين الرعية، وبينه وبين الرعية سواء، ولذلك فالاستخلاف في الأرض هو للصالحين من خلق الله، يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105].
وإذا رأيت الاستخلاف في الأرض بيد غير أصحابه الشرعيين فاعلم أن هناك عدم وفاء بشرط من الشروط السابقة، وهذا هو ما يقع في أكثر العالم الإسلامي، أنه وسد الأمر إلى غير أهله كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، ومعنى (وسد) أي: أصبح أمر المسلمين كالوسادة يعتمد عليه الإنسان ويتمتع به كما يعتمد المتوسد على وسادته، حينما يعتمد عليها ويتمتع بها، وبدلاً من أن يكون مسئولية وعبئاً ثقيلاً كما يقول أبو بكر الصديق رضي الله عنه: (لست بخير من أحدكم، ولكني أثقلكم حملاً) يصبح وسادة لينة رقيقة يعتمد عليها صاحب الأمر، وهذا هو ما يحدث في أكثر بلدان العالم الإسلامي، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وإذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة).
إن الأمر إذا كان بأيدي غير صالحي البشر من خلق الله عز وجل، وكان بأيدي أناس لا يحكمون بشرع الله، ولا يعدلون في الرعية، ولا يخافون في هذه الأمة الله عز وجل يصبح الأمر خطيرا، وحينئذ فقد الاستخلاف في الأرض إذا كان بهذا الشكل في تلك المنطقة التي أصبح الأمر فيها بأيدي غير أصحابه الشرعيين.
فالاستخلاف في الأرض معناه الحكم بحكم الله عز وجل، قال تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص:26]، فإذا تم الاستخلاف في الأرض، وسارت الأمور على طبيعتها، وأصبح أمر المسلمين بأيدي أهله الشرعيين الحاكمين بشرع الله فحينئذ يتمكن الدين، بل ويطالب الذين استخلفهم الله عز وجل في الأرض أن يتخذوا من هذا الاستخلاف منطلقاً للحفاظ على هذا الدين، ولذلك قال تعالى: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور:55] من الأمم الذين ساروا على شرع الله.(8/8)
التمكين للدين في الأرض
قال تعالى: {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} [النور:55] تمكين الدين، بحيث يشعر المسلم بالعزة التي شعر بها سلفنا الصالح، حينما كان عقبة بن نافع رضي الله عنه يقف على القيروان -وهي غابة موحشة في تونس الحالية- ليبني مدينة القيروان في تلك الغابة التي كلفه الخليفة أن يبني فيها قاعدة للمسلمين في شمال أفريقيا، فيقول له أهل البلد: يرحمك الله أيها القائد، هذه غابة موحشة كل الفاتحين يرجعون دونها.
فيقف عقبة رضي الله عنه عند جانب من الغابة ويقول: أيتها الوحوش! نحن أصحاب محمد جئنا هنا لننشر الإسلام.
يقول شاهد عيان: لقد كنا نرى الوحوش تحمل أولادها من الغابة لتخليها لـ عقبة بن نافع.
إنه يتمكن الدين في الأرض حينما يستخلف المؤمنون ويكون الأمر بأيدي أصحابه الشرعيين، فيبني مدينة القيروان، ويواصل البطل سيره إلى جهة الغرب ليقف على شاطئ المحيط الأطلسي، ويغرز عقبة قوائم فرسه في ماء المحيط ويقول: (والله الذي لا إله إلا هو لو أعلم أن وراء هذا الماء بشراً لخضته إليه على فرسي هذا) فهل يستطيع فرس عقبة بن نافع أن يخوض المحيط الأطلسي إلى بلاد أمريكا وهي لم تكتشف بعد؟! لا يستطيع، ولكنها عزة المسلم التي تشبهها عزة قتيبة بن مسلم رضي الله عنه الذي فتح بلاد ما وراء النهر، فيجلس ذات يوم مع القادة وكبار الجند في بلاد ما وراء النهر ويقول: يا قوم! أي بلد أمامي الآن؟! يقولون: هي بلاد الصين.
يقول: والله الذي لا إله غيره لن أرجع إلى بلادي حتى أطأ بأقدامي أرض الصين وأضع الوسم على الصينيين وأفرض الجزية.
ويجلس قتيبة، وتنفذ هذه الكلمات التي صدرت من قلب صادق عبر التجسس الذي يخبر ملك الصين بأن قتيبة حلف أن يطأ بأقدامه أرض الصين، فيخاف ملك الصين من قتيبة وجنده وبينه وبينهم آلاف الأميال، وليس لدى قتيبة من وسائل التدخل إلا الخيل والبغال والإبل، فيقول ملك الصين: هذه صحاف من ذهب مملوءة من تربة بلادي يطأها قتيبة وهو في مكانه ويبر بقسمه، وهؤلاء أولادي الأربعة يضع عليهم قتيبة بن مسلم وسم العرب كما يقول، ولا يصل إلى بلادي، وهذه الجزية سوف تصله في كل عام.
فهذه العزة هي عزة المؤمن، فحينما استخلفهم الله عز وجل في الأرض ومكنهم في الأرض تمكن الدين، وكانوا هم أنصار الدين، ولذلك فإن الاستخلاف إذا صاحبه انحرف عن الدين فإن الله عز وجل يقول بعد ذلك: {وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55] وقد تعمر دولة، وقد تتسع رقعتها وتتباعد حدودها لكن نهايتها مربوطة بعدم الوفاء بهذا الشرط الذي اشترطه الله عز وجل، وجعله شرطاً لهذا الوعد الحق.
إذاً ما هي ضريبة الاستخلاف في الأرض؟! تجد هذه الضريبة في قول الله عز وجل: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:41].
أما الذين لا يقيمون الصلاة، ولا يؤتون الزكاة، ولا يأمرون بالمعروف، ولا ينهون عن المنكر، وهم ممكنون في الأرض فليس لهم نصيب من التمكين، وإن وجد التمكين مدة من الزمن فسوف تكون هذه بداية النهاية، ولذلك نشاهد في تاريخ الأمم عبر التاريخ الطويل أن أي أمة يمكن الله عز وجل لها في الأرض ويستخلفها وتصبح لها هيبة أنها تمتحن من عند الله عز وجل، فإن وفت بهذه الشروط وأدت ضريبة التمكين في الأرض فأقامت الصلاة، وآتت الزكاة، وأمرت بالمعروف، ونهت عن المنكر، وشجعت الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وشجعت الذين يدعون إلى الله عز وجل على بصيرة، ووضعت يدها على أيديهم، وأصبحت تفرح لفرحهم وتحزن لحزنهم وتسير في فلكهم فهي أمة سوف تطول مدتها بمقدار ما تحافظ على هذا العهد وتفي به تجاه الله عز وجل، ولكنها حينما تكون الثانية -نسأل الله العافية والسلامة- فستجدها حضارة تنهار يوماً بعد يوم، أو لربما تؤخذ فجأة وبغتة كما شاهدنا في تاريخنا القريب وفي عصرنا الحديث أمماً وجدت ثم انتهت، فأصبحت خبراً بعد عين، فماذا فعل الله عز وجل بالأندلس؟ وماذا فعل الله عز وجل بفلسطين؟ وماذا كان للبنان؟ هذه كلها دروس تصيبهم قارعة أو تحل قريباً من دارهم، والحمد لله أنها ما أصابتنا وإن حلت قريباً من دارنا، فنسأل الله عز وجل أن يجعل لنا فيها عظة وعبرة.
إذاً الاستخلاف في الأرض يطلب معه تمكين الدين، وتمكين الدين يكون من قبل الله عز وجل، لكن لا بد من أن تكون هناك جهود تبذل، ولا بد من أن تكون هناك تضحيات، ولا بد من أن تشجع الدعوة إلى الله عز وجل، ولا بد من أن يقمع الفساد في الأرض، لا بد من أن تطهر البيئة لتكون بيئة طاهرة طيبة لتربية أبناء المسلمين، لا بد من أن يشجع جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذه الأمة، وحينئذ يتحقق قوله: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:41] يعني: الأمر اتركوه لله، فالله تعالى هو الذي يحفظ الأمة، وهو الذي يقضي عليها حينما ينتهي أجلها بإرادة الله سبحانه وتعالى، وهنا يقول الله تعالى: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور:55] فكيف استخلف الذين من قبلنا؟! يقول الله تعالى عن قصة استخلاف الذين من قبلنا: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] فالإمامة لم يصل إليها من قبلنا إلا بالصبر واليقين، ولا تصل إليها هذه الأمة إلا بالصبر واليقين، ولا يستقر الاستخلاف في الأرض ولا يتمكن الدين في هذه الأرض إلا إذا صبر الناس وأيقنوا بوعد الله عز وجل وساروا على المنهج الصحيح.(8/9)
استبدال الأمن بالخوف
إن بعد استقرار الدين يكون الأمن، ولذلك الله تعالى لما قال: {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} [النور:55] قال: {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور:55]، فقد تكون الأمة خائفة، وقد تكون الأمة تسير على منهج صحيح وعلى دين قويم ولكنها ما زالت خائفة امتحاناً وابتلاءً من الله عز وجل، ولذلك يقول المفسرون في سبب نزول هذه الآية: جاء الصحابة رضي الله عنهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله! إلى متى ونحن نحمل الحديد -أي: السلاح- لا يستطيع أحد أن يقضي حاجته إلا وهو يحمل السلاح! وكما روى خباب بن الأرت رضي الله عنه يقول: (جئنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا: يا رسول الله! ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ فجلس الرسول صلى الله عليه وسلم قاعداً وقال: لقد كان يؤتى بالرجل فيمن كان قبلكم فيحفر له في الأرض، ثم يوضع المنشار على مفرق رأسه، فيقسم إلى قسمين، ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه ما يصرفه ذلك عن دين الله، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم قوم تستعجلون) هذا الوعد تحقق، فسار الراكب لا من صنعاء إلى حضرموت فحسب، وإنما سار الراكب من بلاد الصين شرقاً إلى المحيط الأطلسي غرباً إلى جبال البرانس شمالاً لا تستوقفه دائرة جوازات تقول له: من أنت؟ وإذا قيل له: من أنت؟ يقول: أنا مسلم.
ولا تستوقفه مراكز تبحث عن شخصيته؛ لأن شخصيته أنه المسلم الذي لا يستطيع أحد أن يقف في طريقه، ليست هناك حواجز ولا حدود صنعها البشر كما يوجد في أيامنا الحاضرة، ولكن كما قال الله عز وجل: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الأنبياء:92] سار الراكب عبر هذا الخط الطويل لا يخشى إلا الله، والذئب على غنمه؛ لأنه تحققت الشروط التي التزم بها المسلمين أمام الله عز وجل، إيمان، وعمل صالح، وعبودية لله عز وجل، وتوحيد لله سبحانه وتعالى، فلم يصرف نوع من هذه العبادة لغير الله سبحانه وتعالى، فتحقق الوعد، واستقرت الأمور، وقامت الخلافة في الأرض، وتمكن الدين في نفوس الناس، فأصبح أحدهم يسابق الشمس على مطالعها ينشر الإسلام، ولذلك ثبت في حجة الوداع أن من حج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عددهم مائة ألف وأربعة وعشرين ألفاً من المسلمين، فأين قبور هؤلاء الذين يزيدون على مائة ألف من المسلمين؟ لم نجد في الجزيرة العربية إلا قبوراً معدودة بالأصابع، تلك قبورهم في أنحاء العالم ينشرون الإسلام، أخرجهم الله عز وجل لإنقاذ هذا العالم من عبادة العباد إلى عبادة الله عز وجل، وانتشروا في الأرض يبشرون بدين الله، وينشرون دين الله عز وجل في الأرض، كان أحدهم يتمنى الشهادة أكثر مما يتمنى متاع الحياة الدنيا الناس في أيامنا الحاضرة، وكان أحدهم يرمي تمرات كانت في قرن معه وهو يأكل منها في غزوة بدر ويقول: (والله إنها لحياة طويلة لو عشت حتى آكل هذه التمرات).
من هنا استقرت الأمور، ومكن الله عز وجل هذا الدين في قلوب أولئك القوم، ثم مكن الله عز وجل لهذا الدين في هذه الأرض فشمل أكثر المعمورة، وبالرغم مما يلاقيه العالم الإسلامي اليوم من طغيان وإبادة نجد أن العالم الإسلامي -والحمد لله- ما زال بخير، وفي مقدار ما يوجد من تبشير وتنصير وتهويد هذه الأرض نجد -والحمد لله- أن الإسلام يسابق الشمس على مطالعها، في منطقة واحدة لم يصل إليها داعية من الرعيل الأول ولا جيش من جيوش المسلمين يعيش الآن أكثر من مائتي مليون مسلم في جزر الملايو، وفي البلاد التي استهدفت الآن ما زال الإسلام فيها عزيزاً والحمد لله.
أقول: إن الإسلام ما زال -والحمد لله- في خير، وبمقدار ما يتعرض الكفر لهذا الدين فإن هذا الدين لا يزيد إلا نمواً في الأرض وظهوراً؛ لأن الله تعالى يقول: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة:33].
دولة استعمرها الكافرون أكثر من مائة وثلاثين سنة تطالب بالإسلام بطريقة جماعية وبالإجماع، وترفض أي نظام يخالف الإسلام، والحروب الصليبية انتهت بعد سنين طويلة فخرجت والأمة الإسلامية أقوى منها من ذي قبل، حتى لقد قال المؤرخون: إن قرية في الشام اسمها (معرة النعمان) أباد منها الصليبيون مائة ألف مسلم، وبالرغم من ذلك ما ارتد واحد من المسلمين عن دينه.
وهكذا فإننا نجد أن الأمة الإسلامية بمقدار ما تصيبها الأحداث لا تتأثر.
والتتار أفسدوا خلال الديار مدة من الزمن، ثم نجد أن الأمة الإسلامية لم تتأثر بالغزو التتري.
وأفغانستان أكبر درس وأقرب دليل إلى حياة كل واحد منا، تلك القلة من البشر من خلق الله المؤمنين قاوموا تلك الدولة المتغطرسة، ويعتبر وجودهم في معارك بسيطة سبباً من أسباب سقوط الشيوعية.
إذاً هذا الدين إذا مكن الله عز وجل له في الأرض لا أحد يستطيع أن يحاربه؛ لأن الله تعالى يقول: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ} [الأنبياء:18] ويقول عن الباطل: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد:17] فهذه شروط الاستخلاف في الأرض والتمكين وشروط الأمن والطمأنينة، ومن بحث عن الأمن في غير هذه المواقف عليه أن يصحح رؤيته، وأن يراجع حسابه، فالأمن لا يكون إلا للمؤمنين، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82].(8/10)
عاقبة من كفر بنعمة الله سبحانه
في الآية الكريمة تأتي النهاية، حتى لا يطمع أحد من الناس في عمل آبائه وأجداده وأمجاده ويقول: أبي بنى الدولة وأنا أتصرف فيها كيف أشاء.
فالله تعالى يقول: {وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55] أي: من كفر هذه النعمة وأخل بهذه الشروط فالويل له، والوعيد عليه.
ولذلك فكم من أمة من الأمم قامت على منهج صحيح فمكن الله عز وجل لها في الأرض، وأعطى قادتها الخلافة والسلطة، ومكن لها في الأمن فأصبحت مضرب المثل في الأمن والاستقرار والطمأنينة، فإذا بها تؤخذ على غرة أو تؤخذ بالتدريج، فلذلك الله سبحانه وتعالى يقول: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} [النحل:47] والمراد بالتخوف التنقص، أي: ينقصهم شيئاً فشيئاً حتى يسلب منهم هذه النعمة.
وكم من الأمة من أخذ بغتة! {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} [الأنعام:44] والله تعالى يقول بعد ذلك: {وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ} [النور:55] أي: بعد توافر هذه الشروط، وبعد وفائه بهذه الأمور فغير ما بنفسه فإن الله تعالى له بالمرصاد.
والله تعالى يقول: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102].
إننا ننصح أي أمة مكن الله لها في الأرض واستخلف قادتها في هذه الأرض وأعطاهم الأمن والطمأنينة والاستقرار في هذه الأرض ننصحهم أن يحافظوا على هذه المبادئ، وعلى هذه الأسس، فهناك فرق بعيد بين دولة تقوم على انقلابات عسكرية، وعلى فسق وضياع وإراقة دماء، وبين دولة تقوم على دعوة صالحة صحيحة قيمة، هناك فرق بعيد بين الدولتين، فإن الثانية لا تبقى ولا يكون لها الدوام والاستمرار والاستقرار إلا بمقدار ما تحافظ عليه من أمر الله عز وجل، ولا يجوز للثانية أن تنخدع بالأولى التي لا تقوم إلا على الدماء والفوضى والحروب والثورات الداخلية، أما التي تقوم على منهج صحيح، وعلى دولة صحيحة فإنها تطالب أن تحافظ على هذا المنهج، فإنه هو أصلها وقاعدتها ولا تقوم إلا به.
أسأل الله سبحانه وتعالى في ختام هذا الحديث أن يوفق قادة هذا البلد الذين استخلفهم الله عز وجل في هذه الأرض الطيبة، والذين مكن لهم في الأرض، والذين أعطاهم الله عز وجل من الأمن ما لم يعطه الأمم التي تصنع وسائل الدمار ووسائل الاكتشاف، حتى أصبح الرجل في بلادنا يسير بكل أمواله عبر الصحاري الواسعة -صحراء الجزيرة العربية شرقاً وغرباً- لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه.
أسأل الله تعالى الذي منّ عليهم بهذا الأمن والاستقرار أن يوفقهم للاستقامة على دين الله، وأن يجعلهم من الذين قال فيهم: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:41].
وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا الاستقامة، فإن الأثر يقول: (كيفما تكونوا يول عليكم) بل إن الله عز وجل يقول: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام:129]، أقول قولي هذا وأستغفر الله لنا جميعاً، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(8/11)
الأسئلة(8/12)
لا يتحقق الاستخلاف إلا ببذل جميع الأسباب
السؤال
ما توجيهكم لمن يقول: إن التمكين في الأرض لا بد أن يكون نتيجة لأمور يأتي بها المؤمنون، وهي: الإيمان، والعمل به، والدعوة إليه، والأذى في سبيل الله، والصبر على الأذى، لاسيما أن الأذى يحصل للدعاة كما حصل للأنبياء؟
الجواب
هذا هو الشيء الذي تحدثنا عنه، فالتمكين في الأرض لا يكون إلا بشروطه، ولعل من أبرز هذه الشروط الصبر والتحمل، فإن الله تعالى يقول: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [السجدة:24] أئمة قيادة الحياة {يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] فإن الصبر في هذا السبيل أمر مطلوب لا تقوم الأمور إلا به، ولا تستقر الأحوال إلا بالصبر والتحمل، ولذلك فإن المرسلين عليهم الصلاة والسلام الذين أظهر الله تعالى دعوتهم وأظهر دينهم، وأظهر دولهم أيضاً قام جهدهم على الصبر والتحمل، وقد وضع الله تعالى في طريق ذلك كثيراً من العقبات من أجل أن يعرف الناس أن طريق الجنة ليس بالشيء السهل، وإنما هو محفوف بالمكاره والمخاطر، ولذلك تجد في طريق الجنة قول الله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214] فمن أراد هذه السعادة في الدنيا والسعادة الخالدة في الآخرة فعليه أن يأخذ بهذه الأسباب، والشاعر يقول: ومن يخطب الحسناء لم يغلها المهر إذاً لابد في طريق التمكين في الأرض من أمور، لا بد في طريق الأمن والاستقرار من أمور خطيرة، ولا بد أن يكون أيضاً في طريق الاستخلاف والحصول على السلطة ووصول السلطة بأيدي المؤمنين من أمور، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلها دائماً وأبداً في أيدي المؤمنين الصالحين.(8/13)
بيان معنى خوف الشرك ومحبة الشرك
السؤال
أحب أن توضح الكيفية التي يقع فيها الإنسان في شرك الخوف والحب؟
الجواب
إذا كانت هذه المحبة لهذا المخلوق تساوي محبة الله أو تزيد فهذا هو الشرك الأكبر، قال تعالى: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة:165] فهؤلاء هم المشركون، ثم يقول: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165] يحبون الله أكثر من حب هؤلاء لمعبودهم.
وشرك الخوف من اعتقد أن فلاناً من الناس يستطيع أن ينفع أو يضر من دون الله، فهذا هو الشرك الأكبر، أما أن أخاف من فلان كما أخاف من الأسد، أو أخاف من هذا الطاغية أو من هذا الجبار، أو أخاف من هذا الظالم فهذا خوف فطري لا يؤاخذ عليه الإنسان، لكن هذا الخوف لا يجوز أن يغير شيئاً من أمور دين هذا الإنسان بحيث يتنازل عن دينه مقابل هذا الخوف، وإنما يجب عليه أن يكون خوف الله وخشية الله عز وجل هي المسيطرة على قلبه، وأن يكون خوف هذا الإنسان الفطري لا يصل إلى درجة الخوف من الله عز وجل، ولو وجد عنده شيء من الخوف فإنه يعتبر أنه لا يصيبه هذا الإنسان الذي يخيفه إلا بإرادة الله عز وجل وقضائه وقدره، أما لو قال: إني أخاف من فلان كخوفي من الله أو أشد.
أو يرى أن فلاناً المخيف المرهب الطاغوت الجبار العنيد يستطيع أن يفعل به شيئاً من دون الله فهذا هو الخوف الذي يخرج من الملة.(8/14)
كيفية نصر الله لمن نصره
السؤال
يقول الله تعالى: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ} [الحج:40] كيف يكون نصر الله سبحانه وتعالى؟
الجواب
نصر الله عز وجل بإظهار الذين ينصرونه بالتمكين لهم في الأرض، وبالدفاع عنهم، وبظهور دينهم حتى ولو لقوا في سبيل دعوتهم ونصرتهم لدين الله عز وجل الأذى الشديد، لكن العاقبة لهم، كما قال الله عز وجل: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83] فقد يظهر في بادئ الأمر أن الكفة راجحة في أيدي أعدائهم كما يوجد في كثير من الأحيان، وقد يبتلي الله عز وجل هؤلاء الذين ينصرون دينه، فيظهر أن الأمر لحساب غيرهم، وقد تطول مدة الفتنة، وهذه حكمة الله عز وجل، حتى يمتحن هؤلاء الناس ويمحصهم، ولربما يتخذ منهم شهداء، أي: أناس يستشهدون في هذا السبيل، كل ذلك يحصل في طريق نصرة دين الله، فإن وعد الله لا يتخلف، فسينصرهم الله، ولربما ينصرهم الله في ظهور مذهبهم ومنهجهم ومبدئهم الذي دافعوا عنه، ويعتبر نصراً ولو قتل الإنسان الذي دافع عن دين الله؛ لأنه ليس معنى النصر السلامة، وإنما النصر الحصول على الهدف الذي يسعى إليه هذا الإنسان، ولربما يكون من أهدافه الشهادة مع النصر لدين الله عز وجل، وهؤلاء هم الذين يقدمون أنفسهم قرباناً لدين الله سبحانه وتعالى.
إذاً لا يتصور أحد من الناس أن النصر معناه فقط السلامة من العدو، أو السلامة من المعتدي، وإنما يحصل القتل والسجن والأذى في ذات الله عز وجل، لكن يظهر هذا المبدأ الذي دافع عنه هذا الإنسان، ويكون ذلك من أرقى أنواع الصبر، ولذلك الله تعالى يقول عن المرسلين: {كُذِّبُوا وَأُوذُوا} [الأنعام:34] ومع ذلك نصرهم الله عز وجل، ولربما تأخر النصر كثيراً، قال تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ} [يوسف:110] والله تعالى ذكر الابتلاء في طريق النصر وفي طريق الجنة، قال تعالى: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:1 - 2]، وهذا استفهام إنكاري من الله عز وجل.(8/15)
معوقات الوعد الحق
السؤال
ما هي معوقات الوعد الحق، وما هي طلائع ذلك الوعد؟
الجواب
معوقات الوعد الحق أن يتأخر النصر، ويتأخر هذا الوعد امتحاناً وابتلاء من الله عز وجل، ولربما لا يتأخر، لكن النفوس لا تفي بشروط هذا الوعد، أو لربما يطول عليها المدى ويطول عليها الأمد فتقسو القلوب وترجع من منتصف الطريق، وهذا أخطر ما يصيب الإنسان، كما ذكره الله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} [العنكبوت:10] ويسير في هذا الطريق يريد أن يحقق هذه الشروط ليحصل على هذا الوعد {فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ} [العنكبوت:10] أي: في دين الله {جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت:10] يقول: أنا هربت من عذاب الآخرة، فكيف أقع الآن في عذاب الدنيا؟! إذاً أتحمل عذاب الآخرة لأنه ليس أمامي الآن، وأهرب من عذاب الدنيا.
تقول النفس الضعيفة للإنسان في بعض الأحيان هذا الأمر، فيرجع من منتصف الطريق، وهذا هو قوله تعالى: {فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ} [العنكبوت:10] أي: أذى الناس في الدنيا {كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت:10] أي: في الآخرة.
وهذا من أكبر المعوقات التي تحول بين الأمة وبين تحقيقها بالوعد من عند الله سبحانه وتعالى.(8/16)
كيفية الأخذ بسفينة الأمة خشية الغرق
السؤال
إن السفينة توشك على الغرق بسبب السفهاء الذين هم في أسفلها، فهل يبقى العقلاء الذين في أعلاها ينظرون إلى هذه السفينة وهي تغرق، أم ما هو الواجب على كل إنسان يعرف ولو آية من كتاب الله سبحانه وتعالى؟
الجواب
توشك السفينة أن تغرق، ولكن -والحمد لله- ما زال في هذا العالم خير وفي هذه الأمة وفي بلدنا بصفة خاصة خير كثير، وما دام هذا الخير موجوداً فلعل الله سبحانه وتعالى أن يحفظ هذه السفينة، وكم يدفع الله عز وجل من الأذى والبلاء والمصائب والبلايا بسبب الصالحين، شيوخ ركع، وأطفال رضع، وعباد وأتقياء وشباب -والحمد لله- سلكوا الطريق عن بصيرة واقتناع، لذلك نقول: اطمئن يا أخي؛ فإن السفينة لن تغرق -بإذن الله- ما دام هؤلاء الصالحون موجودين، وأرى كثيراً من السفهاء وهم يخرقون السفينة، لكني أرى أكثر منهم -والحمد لله- الآن قد انتبهوا، فهم الذين سوف يحافظون على هذه السفينة بإذن الله سبحانه وتعالى.
وعلى كلٍ فالسفينة على خطر لولا أن الله سبحانه وتعالى أعطى هذه الأمة وعداً على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بأن لا يهلك هذه الأمة بسنة بعامة، ولكنه لم يعط سبحانه وتعالى رسوله وعداً بالنسبة لأمته أن لا يجعل بأسهم بينهم كما جاء ذلك في الحديث الصحيح، وهذا هو أخوف ما نخافه الآن، أن يتساهل المسئولون عن هذا الأمر، وأن تحترق قلوب هؤلاء الشباب الذين يرون المنكرات، ولربما يحصل أن أكثرهم يندفع، ونرجو أن لا يكون هناك اندفاع فيؤدي ذلك إلى وجود أفكار وحزبيات وجماعات تكفير وهجرة كما يوجد في البلاد المجاورة، ونسأل الله أن يحفظ بلادنا هذه من كل مكروه، وأرجو من الإخوة الشباب أن يضبطوا أنفسهم، وأن يتقوا الله عز وجل في أمن هذا البلد وطمأنينته، وأن يناصحوا المسئولين، وأن يراسلوهم بين فترة وأخرى، وأن يقولوا لهم: {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} [غافر:29] هذا كلام لا بد من أن يقال، ويجب على القادة أن يقبلوا هذه النصيحة، ولا يكونوا من الذين قال الله عز وجل فيهم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ} [البقرة:206] وإنما عليهم أن يرعووا ويرجعوا إلى الحق، ولكن علينا أن نقدم هذه النصيحة بحكمة وبسر، وبأمانة وإخلاص، وبمحبة للقادة ومحبة الخير لهذه الأمة، أما أولئك فعليهم أن يتقبلوا وأن يحبوا الناصحين، وأن يعتبروا من يقول لهم: اتقوا الله أنه هو المحب لهم والمخلص، بخلاف من يقول لهم: أنتم أكمل الناس.(8/17)
الصراع دائم بين الحق والباطل
السؤال
إن الإسلام في بلد الحرمين الشريفين الذي يعتبر أقوى معقل من معاقل الإسلام يواجه هذه الأيام حرباً شرسة، ولكنها خفية في معظم أحوالها، ولعل من أهم هذه الأمور ما يدور بين الفينة والأخرى من تحرير المرأة من الفضيلة والإيمان، وهو أهم الأشياء التي يركز عليها أعداء الله من بني جلدتنا وغيرهم، فماذا قدمنا لهذا الأمر في مواجهة المجرمين؟
الجواب
أولاً: تأكد -يا أخي- أن الصراع بين الحق والباطل قديم قدم الحياة الدنيا، قال تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [البقرة:36]، وسيبقى أهل الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله.
فالصراع بين الحق والباطل قديم قدم الحياة، وباقٍ حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ولربما يزيد في فترات ضعف المسلمين أو سكوت الدعاة أو إسكاتهم -نسأل الله العافية والسلامة-، ولربما يزيد في منطقة دون منطقة، وهذا ما يحدث في بلادنا التي هي من المعاقل التي تطبق شرع الله، فليس فيها كنيسة ولا معبد لليهود ولا للنصارى، نسأل الله أن تبقى على ذلك، وهي البلاد التي لم تدنسها أقدام الاستعمار في يوم من الأيام، وهي البلاد التي يستقبلها المسلمون كل يوم خمس مرات في صلاتهم، وهي البلاد التي يحجون إليها ويعتمرون، فهي قمة هذا العالم، فلا تستغرب حينما توجه إليها الضربات واللكمات العنيفة أكثر من غيرها، لأنهم أولاً انتهوا من البلاد الأخرى.
ثانياً: هذه البلاد إيقاعها في حبائل الشيطان يعتبر إيقاعاً للعالم كله؛ لأنها هي قبلة المسلمين، يأتي الحجاج والمعتمرون والزوار لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأخذون دينهم من بيئة هذه البلاد، ويأتي المتعاقدون والطلبة والدارسون والمدرسون ليأخذوا معتقداتهم من هذا البلد، يأتون هادمين فيرجعون موحدين، هذا هو الذي يحدث.
إذاً ما هو الطريق؟ الطريق هو أن يقضى على هذا المعقل في نظر أعداء الإسلام، ولكن ما هو السبيل؟ السبيل أنهم يأتون عبر مخططات مرة، وعن طريق المرأة مرة أخرى، فهم لا يقولون: نريد أن نهدم الإسلام في هذه البلاد.
لا يستطيعون ذلك، لكن يأتون مرة عن طريق المرأة، ومرة عن طريق التخلف والرجعية، ومرة عن طريق التقدم والرقي إلى غير ذلك، ولربما يجدون آذاناً صاغية في كثير من الأحيان بالنسبة للنساء حينما يقال: التخلف والرجعية.
أو في نظر بعض أصحاب المسئوليات الذين يخافون من عقدة التخلف فيقولون: لماذا نعيش في التخلف؟ نحن نريد نفعل كذا وكذا حتى لا يقال: إننا متخلفون.
إن هذا هو ما يحدث في أكثر أوضاعنا، نركب الطائرة في خطوطنا فكنا نظن أننا سوف نجد حياة كحياة الصحابة في الطائرة، فإذا المضيفات في طائراتنا يلبسن لباساً لا يوجد في كل البلاد الإسلامية، حتى البلاد العلمانية التي يحكمها العلمانيون خطوطها الجوية خير من الخطوط الجوية السعودية في اللباس، وعندما نركب الطائرة إن كنا نريد ثياب إحرام إذا نسينا لا نجد، وإذا بهم يبيعون دخاناً وأطياباً! بينما الذي يأتي إلى هذه البلاد لا يريد الدخان فهو آت من بلاد فساد وإنما يريد أن يلبس ملابس الإحرام، يريد أن يذكر الله، يريد أن يرى الخير من أول ما يضع أقدامه على هذه الطائرة التي تحمل علم لا إله إلا الله محمد رسول الله، وتقدم على بلد يحكم شرع الله، وبلد المقدسات.
والمصيبة أن بعض المسئولين يخافون من عقدة التخلف، فيقولون: نتسامح في مثل هذه المسائل.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يهدي المسئولين، ومهما يكن ففي بلادنا خير لا يوجد في بلد آخر -والحمد لله- سواء أكان على مستوى المسئولين أو على مستوى الشعوب، لكن نريد أن تكون الأمور أفضل من ذلك بكثير، والله المستعان.(8/18)
الرد على الذين يرون أن الإسلام لا يصلح للحياة
السؤال
كثيراً ما نسمع من التيار العلماني من يقول: أنتم تطالبون بالتطبيق الشامل للإسلام ونحن قد نتفق معكم في صلاحية كثير من ذلك للتطبيق، لكن العائق العظيم هو عدم وجود من لديه القدرة على التطبيق الصحيح، فكيف يرد على هؤلاء المنافقين الذين يبرزون بين الفينة والأخرى؟
الجواب
نقول لهؤلاء العلمانيين الذين يريدون أن يطبقوا شرع الله في بعض الأمور ويتركوا بعضها الآخر: يقول تعالى: {وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} [النساء:150 - 151]، والله تعالى يقول: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89] ويقول: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38] فإذا كانوا يعتقدون أن دين الإسلام منهج عبادة، وأنه ليس منهج حياة متكاملة فنقول: الإسلام الذي عاش فيه العالم أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمان، وأصلح تلك الأمة هو الذي يصلح هذه الأمة، فنحن نعتبر أن هذا الكتاب ما فرط في شيء، قال تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1].
وهؤلاء العلمانيون الذين يعيشون معنا ويقولون: إن الإسلام لا يصلح كنظام للحياة، وإنما يصلح منهج عبادة.
ولربما نجدهم في بعض الأحيان يظهرون مظهر العُبَّاد في أمور العبادة نقول لهم: كذبتم، فإن الإسلام منهج حياة متكاملة، بل أنتم لا تريدون أن يكون للإسلام منهج عبادة، فأنتم تحاربون الإسلام حتى لا يكون أيضاً منهج عبادة، ولذلك هم يريدون أن لا يكون الدين كله لله، ونحن نطلب أن يكون الدين كله لله، بدون أن يكون هناك استثناء (ما لله لله وما لقيصر لقيصر) كما يقولون هم.(8/19)
أهمية معرفة الله عند اشتداد الفتن
السؤال
كيف تتحقق العبودية لله، خاصة في هذا الزمان الذي كثرت فيه الفتن والمعاصي، فأصبح الإنسان لا يخلص منها في بيته، ولا في سوقه، ولا في معمله، ولا في أي شيء من شئون حياته؟
الجواب
هنا يُعرف الله عز وجل، يعرف المؤمنون ربهم عندما يتحزب أعداء الإسلام ضد الإسلام، وعندما ينتشر الفساد في الأرض تكون العودة إلى دين الله عز وجل الحق، ولذلك الله تعالى يقول عن هذا الموقف: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22] فبمقدار ما ترى هؤلاء الناس يتخلفون عن دين الله يزيد يقينك بالله عز وجل، وتزيد ثقتك بهذا الدين، ويزيد تمسكك، ولذلك فإن المسلم مطالب بأن يثبت على هذا الطريق مهما تغير الناس.(8/20)
المسلم والقيام بدور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
السؤال
هل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعتبر انتحال شخصية أخرى، وإذا كان غير ذلك فهل من كلمة توجيهية للشباب حتى يدعوا بالأسلوب الحسن؟
الجواب
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شخصية كل واحد من المسلمين حسب موقعه في هذه الحياة، وعلى قدر استطاعته، فإن (مَن) من ألفاظ العموم في قوله صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) ولربما تكون هناك هيئة رسمية وحسبة مسئولة عن جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن هذه الجماعة تتحمل مسئولية بطريقة رسمية وبطريقة شخصية، أما أنت أيها الأخ المسلم فإنك تتحملها وتتحمل هذه المسئولية بطريقة أمر من أوامر الله عز وجل، قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]، {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:104] والله تعالى يقول: {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104] فإذا كنت تريد أن تكون من المفلحين فما عليك إلا أن تكون من هذه الأمة، سواء أكنت تعمل على المستوى الرسمي أو على المستوى الخاص، من منطلق واجبك الذي فرضه الله عز وجل عليك.(8/21)
أهمية الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى
السؤال
يوجد في بعض البلاد قرى وهجر ليس لها حظ كبير من الدعوة ولا الدعاة، حيث إنها تعيش في جهل وعدم معرفة بأحكام الدين، وليس للدعوة فيها وجود أبداً، فنرجوا توجيه طلاب العلم بالدعوة والتوجيه إلى هذه القرى والهجر، وهي في المنطقة الشرقية، والشمالية، والغربية، والجنوبية من المملكة العربية السعودية، ومحتاجة للدعوة أشد من احتياجها إلى الشراب والغذاء، لاسيما في الإجازة، فنرجو حث الأحبة على هذا الأمر؟
الجواب
أفضل طريق إلى الجنة هو طريق الدعوة إلى الله عز وجل، ولذلك الله تعالى يقول: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33] ولذلك فإني أدعو إخوتي طلبة العلم وأقول: اتقوا الله، فإن الله سبحانه وتعالى قد وضع الأمانة في عنق كل واحد من المسلمين، قال تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ} [الحج:78] وختمت الرسالات برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ليتحملها كل واحد من أمته، ولقد علمت أن في المناطق الجنوبية أموراً تشبه أمور الجاهلية بسبب عدم وجود طلبة علم، ولربما كان هناك طلبة علم هربوا من هذه القرى، فأنا أدعو الإخوة إلى أن ينفروا إلى الدعوة إلى الله عز وجل خفافاً وثقالاً، وأن لا يتركوا جانباً من جوانب الدعوة إلا ويسلكوه، وقد يسرت الطرق والحمد لله، والأمر ميسر، ودولتنا -إن شاء الله- تشجع جانب الدعوة، والأمر أصبح أمراً إلزامياً؛ لأن هؤلاء الذين ربما يموتون على غير الفطرة وعلى غير الدين الصحيح، أو عندهم شيء من التغيير والتبديل أو من الإثم سوف يوقفوننا بين يدي الله عز وجل يوم القيامة، ويقولون: ما جاءنا من بشير ولا نذير.
قد وضع الله عز وجل الأمانة والمسئولية في عنق كل واحد من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، فعلينا أن ننظم أنفسنا للدعوة في تلك المناطق، وأن نرتب جماعات يذهبون إلى دعوة تلك الأمم في القرى الشرقية، والغربية، والجنوبية، والشمالية، وفي القرى الوسطى أيضاً.
أسأل الله أن يتقبل منا صالح الأعمال وأن يجعلنا من عباده وأولياءه المقربين.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(8/22)
كيف نربي المرأة المسلمة
لقد كرم الإسلام المرأة أيما تكريم، وأعطاها منزلتها اللائقة بها، وحقوقها الواجبة لها، في وقت ظلمتها فيه الجاهليات القديمة، والديانات الوثنية، فسلبوها حقوقها؛ بل ولم يعتبروها إنسانة مكرمة مشرفة، ثم جاء أدعياء الحرية والانفتاح في هذا العصر ليخرجوا المرأة من دينها وحيائها وعفتها وطهارتها إلى التبرج والسفور، والاختلاط والفجور وما إلى ذلك من أنواع الفساد، فجلبوا كل ما من شأنه أن يفسدها: من مجلات خليعة، وصور وأفلام عارية ونحوها؛ لتصبح المرأة كالدمية في أيديهم يفعلون بها ما يريدون وفي ظل هذه الأحوال الكالحة لابد أن تربى المرأة المسلمة تربية إسلامية صحيحة؛ حتى تجنب نفسها وأسرتها ومجتمعها من كل خطر وبلاء يريده أعداء الإسلام بنا.(9/1)
الصراع بين الحق والباطل
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونثني عليه الخير كله، ونشكره ولا نكفره، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وبارك وعلى آله ومن دعا بدعوته وعمل بسنته، ونصح لأمته إلى يوم الدين، أما بعد: فقد جرت سنة الله في هذه الحياة أن يكون الصراع محتدماً بين الحق والباطل، وهذا الصراع هو الحكمة من خلق هذه البرية: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود:118 - 119]، ومنذ تلك الساعة التي أهبط فيها أبونا آدم عليه الصلاة والسلام إلى الأرض، وإلى يومنا هذا، وحتى يرث الله الأرض ومن عليها، والصراع محتدم أبداً بين الحق والباطل، وبين دعاة الحق ودعاة الضلال، ولذلك فإني أقول: إن ما يحدث في الساحة الإنسانية اليوم، إنما هو إجراء لحكمة الله عز وجل في خلق الجنة والنار: (ولكل واحدة منهما ملؤها)، كما جاء في الحديث.
وهذا الصراع يأخذ عدة مسالك، وعدة مجريات، والأمم التي قسمها الله عز وجل إلى فريقين: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7]، هي التي تتصارع أمام الحق وأمام الباطل، وأعداء الإسلام الذين يكرهون الإسلام ملء قلوبهم، وذلك الحقد الدفين الذي امتلأت به قلوب أعداء الإسلام ضد هذا الدين الحنيف، تظهر هذه العداوة من خلال هذا الصراع، ولذلك نقول: إن الله عز وجل أخبر بأن العداء قديم فقال: {اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [البقرة:36]، وباقٍ، قال عليه الصلاة والسلام: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله، أو حتى تقوم الساعة).(9/2)
تنوع مخططات الأعداء في محاربة الإسلام
أيها الأخ المسلم! أعداء الإسلام منذ فجر الإسلام وهم يخططون لهذا الدين، وللإطاحة بهذا الدين، ويسلكون شتى الوسائل وكل السبل التي يعتقدون أنها كفيلة في الحط من هذا الدين، أو النيل من الأمة الإسلامية، وقد كان الصراع مدة طويلة من الزمن وجهاً لوجه في معارك كثيرة دامية، في عصر النبوة، وعصر الخلفاء الراشدين وما بعد ذلك، وإلى عهد قريب، ولما رأى العدو أنه لا يستطيع أن يتغلب على دين حكم الله عز وجل بإظهاره على الدين كله؛ لجئوا إلى ما يسمونه: بالحرب الباردة، أو بحرب الأفكار، وجعلوا لها عدة وسائل، ورسموا من أجلها عدة مخططات، وهدفهم في ذلك إبعاد الأمة الإسلامية عن دينها ومنهجها الأصيل بالتشكيك في المعتقدات، وببذل الوسائل في عرقلة الأخلاق والفضائل؛ لأنهم يدركون أن هذا الإسلام إنما يسير حينما تكون هناك بيئة صالحة نظيفة طاهرة، وحينما تكون هناك امرأة صالحة وبذور طيبة وتربة حميدة، من أجل ذلك بذلوا كل الجهود في سبيل الحط والنيل من هذا الإسلام، ولكن الله غالب على أمره، ومظهر دينه، ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33].(9/3)
استخدام الأعداء للمرأة كوسيلة لدمار المجتمع
هذه المخططات متنوعة، ولربما تتنوع وتتلون أساليبها حسب العصور ومن خلال الميول، وعلى هذا فقد لجأ أعداء الإسلام في آخر المطاف إلى استعمال المرأة كوسيلة من وسائل دمار المجتمع، والإطاحة بالأمة الإسلامية، من خلال تجارب كثيرة ووصايا متوارثة، يرثها الآخرون من الأولين، ولذلك فإن من أعظم المخططات التي رتبت في هذا العصر للحط من الأمة الإسلامية والنيل منها: استخدام المرأة كوسيلة لدمار المجتمع، حتى قال قائلهم: إنه لا أحد أقدر على جر المجتمعات إلى الدمار من المرأة، فعليكم بالمرأة! فاتجهت التقنية الحديثة، والأفكار المسمومة، والأيدي العابثة، والعقول المنحرفة، من الداخل ومن الخارج، من أعدائنا البارزين والمقنعين؛ بل ومن أبناء جلدتنا، انبرت أيديهم القذرة من أجل أن تتخذ من المرأة وسيلة للإطاحة بالأمة الإسلامية، وبشباب الأمة الإسلامية؛ لأن الأمة حينما تقع فيما حرم الله من الزنا والشهوة الحرام؛ حينها تسهل قيادتها إلى حيث تكون نهايتها ودمارها وانحطاطها، ولذلك فإنكم تجدون أعظم ما يخططه أعداء الإسلام في أيامنا الحاضرة أنهم اتخذوا من المرأة وسيلة عفنة، في حين يزعمون أنهم أنصارها، وأنهم المدافعون عنها، وهم الذين يسعون لإثبات حريتها وحقوقها، لكنهم اتخذوا منها لعبة يتسلى بها العابثون، ويفسدون بها الأخلاق والفضائل، ويهدمون بها المجتمعات الإنسانية بصفة عامة، والمجتمع الإسلامي بصفة خاصة، ولكن {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21].
أيها الإخوة! لقد خطط الأعداء لهذه الأمة تخطيطاً رهيباً في الظلام، وطبخ الأمر من أجل أن تنحرف هذه الأمة الإسلامية عن أزكى وأفضل أخلاقها وسلوكها، ولكن ثقتنا بالله عز وجل، وثقتنا بالأمة الإسلامية، وهي تنظر بنور الله عز وجل، وثقتنا في الصحوة الإسلامية، التي أحيطت بهذا الغزو الفكري والشهواني، ثقتنا بذلك كله فوق ما يحدث، وفوق ما يتصوره أعداء الإسلام.(9/4)
تكريم الإسلام للمرأة وإهانة غيره لها
أيها الإخوة! في عصر من يزعمون أنهم أنصار المرأة، والمطالبون بحقوقها وحريتها، نرى أن المرأة قد سقطت في المجتمع، ويصح أن نقول: إنها سقطت سقوطاً أعظم من سقوطها في الجاهلية الأولى وفي الجاهلية الثانية؛ بل وفيما قبل ذلك في العصور السابقة، التي ما كان للمرأة فيها قيمة ولا أثر؛ بل كانت تعد من سقط المتاع، فقد كانت تورث، فإذا مات زوجها فإن أقرب أولاده من غيرها يبادر ليضع عليها رداءه ليكون أحق بها، إن شاء باعها، وإن شاء وطأها، وإن شاء تزوجها، وإن شاء فعل بها ما أراد، إلى أن أنزل الله عز وجل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} [النساء:19]، بل وأثبت لها الميراث، وما كانت ترث قبل ذلك: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء:7].
وإذا كانت المرأة يشك الرومان واليونانيون وأصحاب الملل قبل الإسلام في إنسانيتها، وفي بشريتها، وهل هي مخلوق محترم، أو من سقط المتاع؟ وهل لها روح أو لا روح لها؟ فإن في جاهلية اليوم بالرغم من تلك الهالة، وذلك الإطراء الشديد الذي يتحدثون فيه عن حقوق المرأة وحريتها؛ نجد أنهم حطوا من شأنها أكثر من ذلك لقد أصبحت دمية يتسلى بها العابثون تزين بها المعارض، وتعرض عليها الأزياء، وتجمع بها الأموال؛ بل وتكون دعاية حتى لشركات الطيران بين السماء والأرض، حينما يختارون أجمل فتاة من أجل اصطياد الناس، أو من أجل الدعايات الكاذبة لأهدافهم ولمطالبهم.
إن المرأة قد وصلت في عصرنا الحاضر إلى أن صار مهرها في بعض الدول المتطورة المتقدمة -كما يزعمون- لا يساوي جنيهاً واحداً إسترلينياً، بالرغم من أننا نجد المرأة المسلمة المحجبة المحترمة، تبذل في سبيلها أغلى الأثمان وأكثر القيم، ولذلك فإننا نقول: أي حضارة تزعم أنها تحترم المرأة في أيامنا الحاضرة، وفي قانونها وفي نظامها أن المتفق عليه في كل بلاد العالم التي لا تحكم بشرع الله أن المرأة بعد الثامنة عشرة من عمرها تخرج من البيت، ولا يلتزم أبوها بالنفقة عليها، وعليها أن تبحث عن الرزق ولو عن طريق الحرام، ولو أن تتنازل عن شرفها وكرامتها من أجل أن تحصل على لقمة العيش؟! أما المرأة في ظل الإسلام فإن الله عز وجل يقول: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228]، ويقول: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19]، ويلزم الأب أن يقوم بكل حاجات ابنته كسائر أبنائه، حتى يسلمها لزوجها، الذي يلتزم بكل نفقاتها الصغيرة والكبيرة، دون نقص ولا شطط.
ومن هنا نقول: إن المرأة التي تعيش معنا اليوم في هذا العالم لا يمكن أن تتنفس الصعداء ولا أن تجد الحرية ولا أن تجد حقها إلا في ظل هذا الدين، ولذلك فقد انخدعت كثير من النساء اللواتي صدقن ما يقال عن الإسلام وضد الإسلام، فزهدت كثيرات منهن في الإسلام، وتمسكت الأكثر منهن بهذا الدين، واعتبرته هو مصدر سعادتها وعزتها وكرامتها.
أيها الإخوة! وبالرغم من هذا الغزو الفكري والشهواني، وبالرغم من هذه المخططات الرهيبة التي صدقها بعض الببغاوات في بلاد الإسلام، وصاروا يرددونها، ويقولون: المرأة مظلومة المرأة في مجتمعنا مهضومة حق مجتمعنا معطل نصفه مجتمعنا لا يتنفس إلا برئة واحدة مجتمعنا تعيش فيه المرأة في الحضيض كما يقولون مجتمعنا يشكل حياة تشبه الحياة في القرون الوسطى!! هؤلاء في الحقيقة هم على نوعين: نوع مخدوع بما يقوله أعداء الإسلام؛ لكنه لم يقرأ عن الإسلام قليلاً ولا كثيراً، ولا عن الحضارات التي سبقت الإسلام وكيف كانت تتعامل مع المرأة، ونوع آخر حاقد على الإسلام، وإن كان من أبناء جلدتنا، وإن كان ممن يتكلمون بألسنتنا، وهذا النوع الحاقد على الإسلام هو الذي يريد أن يكون طبلاً يدق به أعداء الإسلام، وأن يكون بوقاً ينفخون فيه، يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي الكافرين، قاتلهم الله أنى يؤفكون! ولذلك نقول: المرأة في بلاد الإسلام امرأة لها كل حقوقها وحريتها التي أعطاها الله عز وجل إياها، ومنحها إياها، وخلصها بها وبهذا الدين من براثن الجاهلية، ومن مخططات الأعداء، وما عليها إلا أن تسلك طريق الإسلام، وستجد في آخر المشوار؛ بل في أوله وأوسطه سعادتها وعزتها وكرامتها.(9/5)
توجيه الرجل والمرأة إلى التمسك بكتاب الله تعالى
أيها الأخ المسلم! باعتبارك ولياً ومسئولاً عن بيتك، وباعتبارك راعياً ومسئولاً بين يدي الله عز وجل عن هذه الرعاية، وأنت أيتها الأخت المسلمة! باعتبارك مسئولة بين يدي الله عز وجل يوم القيامة عن نفسك وعن مجتمعك، وعما تحت يدك من الأهل والذرية، نقترح عليكما جميعاً؛ بل نلزمكما جميعاً أن تقرءوا كتاب الله عز وجل، وكيف استطاع أن يضع الأسس الكريمة، وأن يرتب التراتيب المتينة التي تكفل سعادة المرأة من أجل أن تصون عرضها وكرامتها، وتحتفظ بعزتها وبدينها وبشرفها.
وأنت يا أختي المسلمة! بين عاملين يتجاذبان فيك: عامل الخير الذي تجدينه في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعامل الشر السالب الذي يريد لك الشقاوة، ويريد لك التعاسة، ويريد لك أن تضلي السبيل، قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء:26]، ثم يقول: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء:27].
إذاً: هنا عاملان: عامل الشهوات ومخططات الأعداء الذين يريدون أن نضل السبيل، ويريدون أن ننحرف عن الجادة، ويريدون أن يصطادوا المرأة في الماء العكر، ويريدون أن يوفروا لأنفسهم المشوار الطويل وهم يبحثون عن الفاحشة والجريمة أرجاء العالم، في بلاد الكفر والفسق والانحلال، يريدون أن يوفروا لأنفسهم هذا المشوار الطويل من أجل أن يجدوا المرأة ميسرة في أقرب فرصة وفي أقرب مكان، أما الله عز وجل فهو يريد أن يتوب عليكم، ويهديكم سنن الذين من قبلكم، وسنن الذين من قبلنا هي المحافظة على هذه المرأة، وتربيتها وإعدادها وإكرامها من خلال هذا الدين.(9/6)
سبع صفات لابد أن تلتزمها المرأة المسلمة
أما كيف نربي المرأة المسلمة لنحميها من الفتن؟ فإننا نجد في كتاب الله عز وجل صفات راقية، جاءت من أجل أن تكون قواعد متينة وأسساً ثابتة تسير عليها المرأة المسلمة؛ ليسلم عرضها وشرفها، وتسلم كرامتها، وليسلم أيضاً مجتمعها، ولتكون تربة صالحة طيبة طاهرة تبذر فيها بذور الذرية الصالحة، وهذه الصفات هي موجهة في الأصل إلى أفضل نساء العالمين، إلى زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنها في الحقيقة تطالب بها كل امرأة مسلمة تريد أن تجعل قدوتها زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إنها صفات لو التزمت بها المرأة لكانت امرأة مثالية من نساء أهل الجنة، ولكانت امرأة يقال لها غداً: اختاري أفضل أبواب الجنة وادخلي من أيها شئت، سبع صفات اختارها الله عز وجل لخير نساء العالمين، ولنساء الناس كافة: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} [الأحزاب:21]، هذه الصفات السبع تجدونها في سورة الأحزاب، وهي التي من خلالها تستطيع المرأة أن تعد نفسها إعداداً للجنة، وقبل ذلك لسعادة الدنيا، وفوق ذلك لتسلم من مخططات رهيبة تدبر في الظلام، وتحاك على أيدي العابثين من الداخل والخارج، هذه الصفات يقول الله عز وجل عنها: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب:32 - 33]، ثم يقول بعد ذلك: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} [الأحزاب:34]، سبع صفات لابد لكل امرأة مسلمة أن تقرأها بكرة وعشياً، وأن تتفهم معناها، وأن تطبقها على نفسها، وأن تتفقد سيرتها وسلوكها دائماً وأبداً، حتى لا تفقد واحدة من هذه الصفات السبع؛ حتى تكون من نساء الجنة.(9/7)
صفات صنف من نساء النار
بجوار هذه الصفات السبع صفات أخرى هي لأهل النار، ولنساء النار، نعوذ بالله من النار! يقول عليه الصلاة والسلام: (صنفان من أمتي لم أرهما بعد: رجال معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات، مميلات مائلات، رءوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا سنة)، أي إنسان يضحي بزوجته وبأخته وبابنته وبأمه وبقريبته وموليته أياً كانت، ليجعلها حطباً لجهنم، حتى لا تشم رائحة الجنة، بالرغم من أن رائحة الجنة تدرك من مسافة بعيدة؟ أما صفات المرأة التي تسلك هذا المسلك فهي: كساء مع عراء، وكيف يكون الكساء مع العراء؟ تكون هناك كسوة لكنها لا تستر كل البدن تكون هناك كسوة مادية مع عراء معنوي تكون هناك كسوة لكن الحياء مفقود، وإذا فقد الحياء لم تلق هذه المرأة إلا مقيتة بعيدة عن الله عز وجل، مائلة منحرفة عن الصراط المستقيم، مميلة تحرف المجتمع، وتحرف من في قلبه مرض، ولربما تحرف حتى من ليس في قلبه مرض؛ لأن الفتنة التي توزعها المرأة على المجتمع حينما تتبرج، أو حينما تخرج شيئاً من مفاتنها في مجتمع رتبت له كل التراتيب ليكون مجتمعاً منحرفاً، وغذي بالأفلام والمسلسلات، والصور العارية وأشباه العارية، وأفلام الفيديو والسينما، وغير ذلك من المخططات الرهيبة، إنه مجتمع تساهم فيه المرأة مساهمة فعالة حينما لا تلتزم بأوامر الله عز وجل، وحينئذ يكون فساد عريض؛ لاسيما في مجتمع اختلت فيه الأنظمة الاقتصادية، والأنظمة الاجتماعية، وارتفعت فيه المهور، ولم يوجد هناك نظام يضبط سن التعليم من سن العمل، من سن الزواج، وغير ذلك من الأمور الأخرى.
نساء مائلات مميلات، يميل المجتمع ويميل الناس مع هذه المرأة المائلة، وحينئذ تكون هذه المرأة التي زرعت هذا الفساد في المجتمع لا تستحق دخول الجنة؛ بل لا تفكر في دخول الجنة؛ بل لا تشم رائحة الجنة أبداً، فضلاً عن أن تدخل الجنة، بالرغم من أن رائحة الجنة تدرك من مسافة بعيدة، أي: مشوار يحتاج إلى سنوات.(9/8)
صفات النساء الصالحات
نعود إلى النساء الفضليات، إلى الصفات الحسنة، بعد عرض صفات أهل النار من النساء اللواتي هن كاسيات عاريات، مائلات مميلات، رءوسهن كأسنمة البخت المائلة؛ نعود لك يا أختي! لتعرفي كيف يجب أن تكون المرأة المسلمة.
ولكن يا أخي! كيف تربي زوجتك وأهلك ومن استرعاك الله عز وجل عليه؟ بعد أن تفهم قول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] هل تطيق هذه النار التي تذيب الحجارة؟ إنك لا تطيق ذلك؛ لكنك تستطيع بإذن الله وبفضل الله وبتوفيق الله أن تخلص نفسك حينما تبحث عن أفضل الصفات، عن الصفات المثلى؛ لتربي أهلك وذويك، لاسيما النساء اللواتي يخطط لهن بالعشي والإبكار من أجل الانحراف، ومن أجل الضياع.(9/9)
تقوى الله تعالى
قال تعالى: {إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} [الأحزاب:32]، وهذه أولى صفات المرأة، وإن كانت هذه الصفة مطلوبة في الرجل والمرأة على حد سواء، لكنها في المرأة أولى؛ لأن تقوى المرأة يعني عفتها وطهارتها، وعفتها وطهارتها وخشيتها لله عز وجل تعني تطهير المجتمع من الفساد، وتطهير المجتمع من الفساد يعني أن تبقى للأمة أخلاقها، وأن يبقى لها دينها، وأن تبقى لها محافظتها، وحينئذ يكون هذا المجتمع طيباً طاهراً نظيفاً، وتكون هذه البيئة صالحة للتربية.
إن تقوى المرأة أهم في المجتمع من تقوى الرجل، بالرغم من وجوب التقوى على الذكر والأنثى؛ لكن فساداً واحداً في مجتمع لامرأة واحدة يحدث خللاً في مجتمع كامل هل تقرءون أيها الإخوة سورة النور؟ لا نجد في القرآن ولا في السنة آية ولا حديثاً تقدم فيه المرأة على الرجل إلا في موضع واحد، في كل آيات الكتاب وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الأمر الذي قدمت فيه المرأة هو الزنا فقط، قال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2]، لماذا قدمت المرأة هنا على الرجل؟ يقول المفسرون: لأسباب كثيرة: أولاً: أن عرض المرأة حساس أشد من عرض الرجل، فالحديث عن المرأة بفاحشة أو بتهمة يعني أنها لا تتزوج أبداً، ويعني أن ذلك يحط من شأن الأسرة كلها، ويقلل من أهميتها، ويسقطها من عين المجتمع، إضافة إلى أن المرأة -نسأل الله العافية- لو فسدت في مجتمع كبير لاستطاعت أن تفسد أمماً، لو أن واحدة من النساء تبرجت وخرجت في أكبر مدينة، وجابت خلال شوارعها وأسواقها، لاستطاعت أن تفتن نصف هذا المجتمع على الأقل، إن لم يتداركه الله عز وجل بلطفه، بخلاف انحراف رجل واحد أو فساد رجل واحد؛ فإنه لا يستطيع أن يفسد كما تفسده المرأة، ولذلك فإن الله عز وجل هنا قدم المرأة على الرجل في قوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2]، ولم يقدم الرجل هنا، وقدم الرجل في الزواج في قوله: {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} [النور:3]، وقدم الرجل في السرقة: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38]، إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الكثيرة التي يتقدم فيها الرجل دائماً على المرأة إلا في مثل هذه الحال.(9/10)
معنى تقوى المرأة لربها سبحانه وتعالى
إذاً: تقوى المرأة لله عز وجل أمر مهم جداً، والتقوى حقيقتها: امتثال أوامر الله سبحانه وتعالى واجتناب نواهيه، التقوى: هي العمل بطاعة الله على نور من الله رجاء ثوابه، وترك معصية الله على نور من الله عز وجل خشية عقابه، تقوى الله للرجل والمرأة جميعاً أن يحاسب كل واحد منهما نفسه فيما يفعل ويذر، وفي كل تصرفاته، لاسيما في تعامل الزوجين بعضهما مع بعض، فإن هذا أمر حساس، فقد جعل الله عز وجل على المرأة واجباً عظيماً، حتى قال عليه الصلاة والسلام للمرأة تجاه الرجل: (لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها)، ويكفي أن هذا الزوج يتولى أمرها وتربيتها وإعدادها، ويعفها ويطهرها، وينجب لها بإذن الله عز وجل أبناء صالحين، يكونون قرة عين لها في الدنيا والآخرة.
وعلى هذا فإن المرأة مطالبة بالتقوى أكثر من الرجل، وتقواها يعني أن تحفظ فرجها، وأن تصون عرضها، وأن تحفظ زينتها؛ فلا تبرزها إلا لمن أذن الله عز وجل لها في قوله: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} [النور:31] إلى آخر الآية.
تقوى المرأة لله عز وجل معناه: أن تكون دائماً خشية الله عز وجل أمام عينيها، وهي تفعل وتذر، وتترك وتعمل، في كل أمر من أمورها تكون دائماً متقية لله عز وجل، تتصور ساعة القدوم على الله والوقوف بين يديه سبحانه وتعالى، تتصور الفتن التي تحدث من جراء تبرجها، تتصور ساعة الموت والاحتضار والقدوم على الله عز وجل، تتصور القبر وظلمته، تتصور الحساب وشدته، تتصور صحائف الأعمال التي لا تغادر صغيرة ولا كبيرة إلا وتحصيها، ولذلك فإن نظرة واحدة ينظر إليها بغير طريق شرعي مباح تسجل عليها سيئة، لا سيما وأن هذه النظرة ربما تكون لها آثار على المجتمع سيئة.(9/11)
عدم الخضوع بالقول
ثم يذكر الله عز وجل الصفة الثانية فيقول: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} [الأحزاب:32]، والخضوع معناه: اللين والرقة، والقول معناه: الحديث، أي: لا يجوز للمرأة إذا اضطرت إلى أن تكلم رجلاً ليس من محارمها أن تكلم هذا الرجل برقة ولين؛ سواء كان من خلال الباب، أو الهاتف، أو كلام المواجهة مع البائعين، وأمام الدكاكين عند الضرورة، إذا اضطرت إلى أن تخرج لتقضي حاجة من حاجاتها، بأي حال من الأحوال، يجب أن يكون كلامها طبيعياً غير متكلف، ليست فيه رقة ولا لين؛ حتى لا يطمع من في قلبه مرض، أي: نفاق، أو شك، أو شهوة حرام، أو ربما يكون إنساناً بريئاً طاهراً فتؤثر فيه كلمة رقيقة يسمعها من امرأة ربما تكون نزيهة، ثم إذا بها تقع موقعها من قلبه، فإذا بها تؤثر عليه، وتفسد عليه دينه وأخلاقه وتقاه لله عز وجل.
إذاً: على المرأة إذا تكلمت أن تقول قولاً معروفاً، كما أخبر الله عز وجل؛ فليس بالكلام الخشن، وليس بالكلام الرقيق الذي يؤدي إلى الطمع فيها، فكم من كلمة رقيقة مقصودة أو غير مقصودة أثرت في أخلاق أمة، وأفسدت فرداً أو مجتمعاً! ولذلك فإن المرأة عليها أن تتقي الله حينما تضطر إلى الحديث مع أحد ليس من محارمها، أن يكون كلامها طبيعياً، وألا يكون رقيقاً، وألا يكون مطمعاً فيها، مرغباً من في قلبه مرض، ومحدثاً شهوة في قلبه تتعلق بهذه المرأة.(9/12)
القرار في البيت
الصفة الثالثة: قال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33]، يقول المفسرون: إن (قرن) مأخوذ إما من الوقار أو من القرار، وسواء كان من الوقار أو من القرار فكلاهما أمر مطلوب، فالوقار معناه: الاحترام، أي: كن موقرات محترمات، ولذلك فإن بقاء المرأة في البيت هو الوقار وهو الاحترام لها، وهو السلامة لها والسلامة للمجتمع.
عز الفتاة بقاؤها في البيت لا في المعمل والمرء يعمل في الحقو ل وحرصه في المنزل أي: زوجته، وعلى هذا فإنا نقول: إن المرأة تكون موقرة محترمة بعيدة عن الشهوات المحرمة، بعيدة عن النظرات الفاتنة، بعيدة عما حرم الله عز وجل حينما تبقى في بيتها، هذا هو وقارها، وهذه عزتها وكرامتها.
وربما يكون من القرار، وهذا أقرب إلى المقام، والمراد بالقرار: البقاء، ومعنى (قر) أي: ثبت، أي: اثبتن في بيوتكن، والمرأة التي لا تبقى في بيتها وتخرج متى شاءت لسبب ولغير سبب، لحاجة ولغير حاجة، لضرورة ولغير ضرورة، امرأة معرضة للفتنة, وهي أيضاً معرضة الناس للفتنة، فإن تجمل المرأة وذهابها متى شاءت وحيث شاءت، دون أن تتقيد بأمر اضطراري يضطرها إلى الخروج، أو على الأقل حاجة تحوجها إلى الخروج، إنها امرأة عليها خطر هي بنفسها، والمجتمع الذي تتزاحم فيه النساء في الأسواق، والذي تتسابق فيه النساء إلى الأسواق دون ضرورة مجتمع على خطر.
إن ذلك يعتبر من أخطر الفتن التي حلت في العالم، حينما كرهت المرأة البقاء في البيت، واعتبرته تخلفاً ورجعية كما يقول أعداء الإسلام في أيامنا الحاضرة، فيجعلونها تخرج متى شاءت، وترجع متى شاءت، وتذهب إلى دور السينما، وإلى شواطئ البحار، كما يحدث حتى في أكثر البلاد الإسلامية، دون قيد ولا شرط؛ هذا هو الذي أحدث فتنة في الأرض وفساداً عريضاً.(9/13)
جواز خروج المرأة للضرورة وبشروط معلومة
أما المرأة المسلمة فإن الله تعالى يقول لها: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33]، والقرار في البيت: هو سبب عزتها وكرامتها وسلامتها، وسلامة المجتمع، وهذا الأمر لا يعني ألا تخرج المرأة؛ بل إذا خرجت فعليها أن تخرج بأدب، وبقدر الحاجة، فإن الإسلام يعامل المرأة كما يعامل الرجل -إلا في أحوال مخصوصة-، فيبيح لها أن تخرج لحاجاتها، لكن بشروط وآداب، وأهم هذه الشروط: أن تكون هناك حاجة ملحة، وأن تكون متسترة غير متبرجة، وغير متطيبة، ويا حبذا لو ذهب بها وليها إلى المدرسة وإلى مكان العمل عند الحاجة والضرورة.
وعلى كل فإن هذه الآية لا تعني أن تحرم المرأة من الأخذ والإعطاء، والبيع والشراء قدر الحاجة، والتعليم والعمل، ولكن ذلك كله يجب أن يخضع لشروط وقواعد وأمور لابد منها؛ لحفظها وحفظ المجتمع من فتنتها، ومن شر مخططات الأعداء، فلها أن تتعلم، لكن يجب أن يكون بحدود، يجب أن تكون هناك مناهج مرسومة وفق متطلبات بلد ما، بمقدار محافظة هذا البلد على دينه وأخلاقه، وبمقدار حاجة هذا المجتمع إلى تخصصات هذه المرأة، بحيث تكون لها برامج محددة ومعينة ومقدرة وفق حاجتها وحاجة المجتمع.
والإسلام لا يمنع من عمل المرأة، لكن بشروط، وأهم هذه الشروط: أن تكون بعيدة عن الرجال، وألا يخلو بها رجل ليس من محارمها، وألا تكون هناك فتنة في خروجها، وأن يكون هذا العمل لا تقوم به إلا المرأة، أما أن يختلط الأمر على الناس، ليعمل الرجل بجوار المرأة، والمرأة بجوار الرجل، وأن تعمل المرأة في وقت نجد فيه الشباب معطلاً، وهي التي تقوم بدور الشباب، وبعمل الشباب؛ فإن ذلك كله يعتبر خللاً في نظام المجتمع، وخطأ تقترفه الأمة في حق المرأة وحق الرجل.
كثير من المجتمعات البشرية يتعطل فيها الرجال وتشتغل فيها النساء، وتشتغل النساء بأعمال الرجال، ولربما يشتغل الرجال بأعمال النساء، ولربما يشاهد ذلك في بعض أعمال المستشفيات التي لم تنظم وفق منهج تشريعي صحيح، فنجد مثلاً أن المرأة يولدها رجال، لينظر إلى أقصى عورتها! في وقت نرى أن التمريض تقوم به النساء حتى في جانب الرجال، بالرغم من وجود معاهد للتمريض للرجال وللنساء! فما هو السر في ذلك؟ لا ندري! بالرغم أن كليات الطب تخرج من النساء أكثر مما تخرجه كليات الطب للشباب، لكني أرى ذلك خللاً أو سوء تفكير، ونعوذ بالله أن نضطر إلى أن نقول: إن ذلك يدل على سوء الطوية.(9/14)
بقاء المرأة في بيتها لتربية أولادها وحمايتهم
أيها الإخوة! إن بقاء المرأة في بيتها هو عزتها وكرامتها، وليس معنى ذلك أنه إهانة لها، بل ذلك يعني أن الرجل مكلف ومطالب بأن يحضر كل حاجات المرأة إلى بيتها، وأن يقوم بكل متطلبات حياتها، فهو الذي يلزمه أن يذهب إلى البقال لكي يحضر الأطعمة، وهو ملزم بأن يبحث عن الرزق الحلال؛ لتبقى هي في مهمة أكبر، في إعداد البيت، وتربية الأطفال، وحمايتهم من الفتن، وتعريفهم بالله عز وجل، وتربيتهم تربية سليمة، وهذا هو ما تفقده كثير من المجتمعات التي شغلت المرأة بدون قيد ولا شرط، فذُهب بالأطفال إلى المحاضن، وربوا تربية بعيدة عن الإسلام؛ بل بعيدة عن العاطفة، حتى لا يشعر هذا الطفل بعاطفته تجاه أبيه وأمه، فهو لا يرى أباه وأمه إلا في وقت نادر جداً، مما أدى إلى عقوق من جانب، وأدى إلى انفصام في الشخصية الإنسانية من جانب آخر، كما أدى إلى أن يكون هناك مجرمون في المجتمعات الإنسانية؛ لأنهم يفقدون العاطفة والحنان.
وعلى هذا نقول أيها الإخوة! إن الإسلام الذي يطالب المرأة بالبقاء في البيت لا يعني أن يعطل هذه الطاقة، وإنما يعني أن تقوم بدور أكبر من البحث عن الرزق، أما الرجل فهو الذي يطالب بالبحث عن الرزق، فالرجال كما قال الله عز وجل: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34]، حتى قال علماء الإسلام: إن الزوج يطالب بالنفقة على زوجته، ولو كانت هي غنية وهو فقيراً، حتى لو عجز عن النفقة عليها، وفي مثل هذا الحال لها أن تطلب الطلاق، بناء على عجزه عن النفقة عليها أي حق تطلبه المرأة بعد ذلك؟ وأي هدف تسعى إليه؟ لم يبق بعد ذلك إلا أن تخرج إلى ما فيه هدم أخلاقها، وضرر المجتمع، ودمار الأمم.
إن المجتمعات التي خرجت فيها المرأة فلا تعود إلى بيتها إلا في الهجيع الأخير من الليل، هي المجتمعات التي خطط لها منذ أمد بعيد، ودمرت تدميراً حتى لم يبق لديها رصيد من الفضيلة، أما الإسلام فإنه يعطي كل ذي حق حقه، ويلزم الرجل بالبحث عن الرزق، وبالسعي والضرب في أرجاء هذه الأرض؛ حتى يؤمن لهذه المرأة كل وسائل الراحة والمتاع، وعليها أن تبقى في البيت امتثالاً لأمر الله عز وجل: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33]، وإذا احتاجت للخروج للعلم أو للتعليم، أو لعمل آخر منضبط وفق قواعد الشرع التي جاءت من عند الله عز وجل؛ فإن الإسلام لا يعارض في هذا الأمر، لكن خير لها أن تبقى في بيتها حتى لا تضيع هذه الذرية.
أما المجتمعات التي خالفت هذا الأمر فجاءت المربيات، ونقلت الأطفال إلى المحاضن، ثم إلى رياض الأطفال، ثم إلى غير ذلك، حتى لربما أن هذه الأم لا ترى طفلها بعد ساعة الولادة إلا بعد مدة طويلة من الزمن، ومن هنا تفقد العاطفة بين الأبوة والأمومة والطفولة، وحينئذ لا تسأل عما يصل إليه ذلك المجتمع، ويكفينا دليلاً على ذلك ذلك الانفصال النكد بين أفراد المجتمعات الإنسانية التي فقدت هذه العاطفة وهذا الحنان، حتى لا نرى أن هناك علاقة وثيقة بين الأب وأبنائه، وبين الأبناء وأبيهم وأمهم.
إن من أهم مصالح هذا القرار للمرأة في البيت أن يسلم المجتمع من النظرات الحرام التي توزعها المرأة في المجتمع حينما لا تتقيد بأوامر الله عز وجل.(9/15)
عدم التبرج والسفور
قال الله تعالى: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33]، التبرج: مأخوذ من البرج، والبرج معناه: الشيء المرتفع الذي يرى من بعيد، ويقال للسفينة الكبيرة: بارجة؛ لأنها ترى من بعيد، كما يقال للبرج برجاً؛ لأنه يرى لارتفاعه من بعيد، والمرأة المتبرجة: هي التي تكشف شيئاً من جمالها ليراها الناس كما يرى البرج من بعيد، وكما ترى البارجة من بعيد.
وهذا الجمال الذي جعله الله عز وجل زينة لها ليكون سبيلاً لربط العلاقة بينها وبين زوجها، لا يجوز أن يكشف إلا حيث أباح الله عز وجل بقوله: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31]، {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} [النور:31] إلى آخر الآية.
والتبرج يشمل عدة أمور نشاهدها في عالمنا اليوم منها: إظهار جمال الجسد، كما تفعل كثير من النساء الساقطات، حينما تخرج شعرها ونحرها وساقيها، ولربما شيئاً من فخذيها وذراعيها، حتى لقد تطور الأمر إلى أن وجدت هناك نساء شبه عاريات ترى في بعض بلاد المسلمين! فكان سبباً للفتنة.
وإذا قيل لتلك المجتمعات: إن هذا سبب دمار الأمة، قالوا: إن الوحشة بين الذكر والأنثى تزول حينما تتبرج المرأة وتكشف زينتها؛ لأنها تصبح أمراً مألوفاً! قاتلهم الله أنى يؤفكون! ونرد عليهم من خلال واقعهم ونقول: إن مجتمعاتكم التي كشفت عن جمال المرأة وعن جسدها، حتى وصلت إلى الحضيض، وسقطت أنظمتكم بمقدار سقوط أخلاقكم، وكلما هبط الإنسان درجة هبط القانون درجتين ليسدل ستاراً على ذلك الواقع المرير هل استطعتم من خلال هذا الهبوط، ومن خلال هذا التبرج، ومن خلال هذا الاختلاط، ومن خلال تلك العفونة وذلك الانحطاط هل استطعتم أن تقضوا على الفاحشة كما تزعمون؟! إنكم تقولون: إن الشهوة بين الرجل والمرأة نستطيع أن نقضي عليها من خلال هذا التبرج ومن خلال الاختلاط إلى غير ذلك، ونقول: إن الفواحش والجرائم والسطو والزنا والإجرام ينتشر في بلادكم بمقدار ما تنحرفون عن منهج الله عز وجل وعن دين الله، وبمقدار ما تسقط فيه المرأة وتتبرج.
وعلى هذا فإن الله عز وجل يريد المرأة المسلمة ألا تتبرج: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33]، سواء في ذلك التبرج الذي هو إخراج الزينة، أو التبرج الذي هو إخراج تقاسيم الجسد في الملابس الضيقة من البنطال وغيره، أو التبرج الذي هو لبس الملابس الشفافة، أو الرقيقة، أو الجميلة الفاتنة، أو التعطر والتطيب، كل ذلك داخل في التبرج الذي حرمه الله عز وجل.
يقول الله عز وجل: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33]، وهذا يدل على أن هناك جاهليتين، وفعلاً هناك جاهليتان: جاءت الجاهلية الأولى فتفسخت فيها المرأة، حتى كان من بقاياها أن طافت حول البيت عارية، تضع يديها على سوءتها وتقول: اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله تفسخت المرأة، وانتشر الفساد؛ فكان سبباً في سقوط الأمة في الجاهلية الأولى.
ثم جاءت الجاهلية الثانية تحمل رد فعل لما فعلته الجاهلية الأولى، فبالغوا في حماية المرأة مبالغة شديدة، حتى أدى إلى أن أحدهم -والعياذ بالله- {َإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ} [النحل:58 - 59]، يقول الله عز وجل: {أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} [النحل:59]، فربما يصبر على هذه المرأة، ويشعر بالخيبة والضياع حينما تولد له امرأة، فإما أن يمسكها على هوان، وإما أن يدفنها وهي حية، وهو الوأد الذي يقول الله عز وجل عنه: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:8 - 9]، ثم جاء الإسلام فلا هو بالجاهلية الأولى التي تتبرج فيها المرأة، ولا هو بالجاهلية الثانية التي يبالغ فيها بحماية المرأة حتى يؤدي إلى وأدها، وإلى الشعور بالذلة والمهانة والسوء حينما يبشر أحدهم بالأنثى، أي: بالبنت تولد له، فالله عز وجل يقول: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33]، أي: لا تتبرجن كتبرج الجاهلية الأولى.(9/16)
إقامة الصلاة
يقول الله تعالى: {وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ} [الأحزاب:33]، وإقامة الصلاة تعني: تطهير المجتمع من الفساد، والرجل والمرأة جميعاً مطالبان بإقامة الصلاة، والصلاة طهارة للمجتمع، كما قال الله عز وجل: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45]، وكما شبهها الرسول صلى الله عليه وسلم بنهر غمر جاري بباب أحدنا يغتسل منه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء؟ لا يبقى من درنه شيء.
إن المجتمعات المصلية التي تؤدي الصلاة كما أمر الله عز وجل هي المجتمعات المحافظة على عزتها وكرامتها، وعلى طهارتها ونقائها، والمجتمعات الفاسدة التي ليست فيها الصلاة، وليس من تكاليفها الصلاة أو لا تقيم الصلاة، مجتمعات منحطة، مجتمعات فاسدة، تنتشر فيها الفواحش الظاهرة والباطنة.
إن الصلاة طهارة للمجتمع، وكذلك الزكاة؛ سواء في ذلك زكاة المال، أو الزكاة بمعنى الطهارة.(9/17)
طاعة الله ورسوله
قال تعالى: {وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب:33]، وهذا هو العامل السادس من العوامل التي تطهر المجتمع: طاعة الله وطاعة رسوله، ومعنى طاعة الله وطاعة رسوله: امتثال أمر الله، ولو أدى ذلك إلى معصية الهوى والشهوة، ولو أدى ذلك إلى مخالفة ما يدسه أعداء الإسلام في المجتمعات الإنسانية، الله تعالى يريد لهذا المجتمع أن يكون طاهراً نقياً، وأعداء الإسلام يريدون أن يكون مجتمعاً ساقطاً منحرفاً قد ظل الطريق، ولذلك فإن المرأة مطالبة بأن تطيع الله ورسوله في كل أمر من أوامر الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، لا تقدم على ذلك شهوة، ولا موضة، ولا رغبة من رغباتها، ولا مخططاً من مخططات أعدائها، ولا انحرافاً من الانحرافات التي يبثها أعداء الإسلام في المجتمع، وحينما تقدم طاعة الله عز وجل وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم على طاعة أعدائها؛ تكون لها السعادة في الدنيا والآخرة.(9/18)
الدعوة إلى الله تعالى
ثم يقول الله عز وجل بعد ذلك: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34]، معنى (اذكرن) أي: تذكرن، فتذكري أيتها الأخت المسلمة وأنت تعيشين في بيت مسلم، في عصبة زوج مسلم، أو في كفالة أب مسلم، أو في حفظ وصيانة أخ مسلم، وفي مجتمع مسلم - تذكري هذه النعمة، واعتبريها من أكبر نعم الله عز وجل عليك، وانظري يميناً وشمالاً إلى النساء الساقطات الكافرات نساء جهنم؛ فاشكري نعمة الله عز وجل.
كما أن هذه الآية أيضاً تطالب المرأة بتبليغ دعوة الإسلام؛ لأن معنى (اذكرن) أي: بلغن أيضاً، فإن المرأة المسلمة كالرجل المسلم؛ بل ربما تكون أحوج إلى أن تتحمل هذه المسئولية في أيامنا الحاضرة من الرجل، في وقت وجهت مخططات رهيبة إلى النساء وإلى الفتيات المسلمات، هذا الموقف يتطلب من الأخت المسلمة، ومن الشابة المؤمنة، ومن الزوجة الصالحة، ومن الأم التقية أن تؤدي هذه الأمانة، أي: أمانة التبليغ، وأمانة الدعوة إلى الله عز وجل؛ حتى تنتشل هذه النساء المسكينات، اللواتي ربما نجحت فيهن مخططات أعداء الإسلام.
إن تبليغ دعوة الإسلام، وإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن محاربة المخططات الرهيبة التي يقوم بها أعداء الإسلام في أيامنا الحاضرة مسئولية الجميع، الذكر والأنثى على حد سواء، وهي مسئولية المرأة أيضاً في الدرجة الأولى؛ فإن النساء تتأثر بالنساء، وإن المرأة تسمع من المرأة، وتختلط بها، وتدرك أخطاءها وعثراتها، ولذلك فإنا ندعو الأخت المسلمة لاسيما في عصر الصحوة الإسلامية المباركة والحمد لله، لاسيما في عصر صار نصيب المرأة من الصحوة الإسلامية، ومن الاتجاه إلى دين الله عز وجل أكثر بكثير والحمد لله من نصيب الشباب، وصدقوني أيها الإخوة! من خلال أسئلة تأتي عن طريق الهاتف تتكرر في الساعة عشرات المرات من أخوات يسألن عن أمور الورع، وعن قيام الليل، وعن صوم النوافل، وعن الأمور التي ربما ما كان الناس يفكرون بها في يوم من الأيام، مما يدل دلالة واضحة على أن هذه الصحوة -ولله الحمد- لدى فتياتنا وأخواتنا أكثر بكثير مما هو لدى شبابنا الذي اتجه إلى ربه والحمد لله في هذه الأيام.
وهذه الفرصة تتطلب عملاً جاداً من الرجل والمرأة، ومن المرأة بصفة خاصة إلى النشاط في الدعوة إلى الله عز وجل، إلى توزيع الشريط الإسلامي، والكتاب الإسلامي، والكلمة الطيبة، والموعظة الحسنة، والتخويف بالله عز وجل، والتذكير به، وبيان مخططات الأعداء، وبيان ما يحيكه أعداء الإسلام ضد هذا الدين بصفة عامة، وضد المرأة بصفة خاصة.
إن قوله تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:34]، أمر للمرأة بصفة خاصة أن تبلغ دعوة الإسلام، وأن تغتنم الفرصة، وألا تفوتها داخل المدرسة وداخل السوق حينما ترى امرأة متبرجة، وداخل المنزل، وفي كل حال من حالاتها، لا تغفل عن هذا الأمر؛ فإنها مسئولية عظيمة، عجزت عنها السموات والأرض والجبال وأشفقن منها، وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً، نقول للأخت المسلمة: افهمي معنى قول الله عز وجل: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34].(9/19)
الأخطار العظيمة المحدقة بالمجتمعات الإسلامية
إن هناك أخطاراً عظيمة حلت في المجتمعات الإنسانية؛ بل وفي المجتمعات الإسلامية، إن عصر التقنيات الحديثة الذي نعتبره من جانب نعمة من نعم الله عز وجل، هو في الحقيقة قد فتح أبواباً كثيرة من أبواب الشرور والمصائب، فكان من هذه الوسائل الحديثة ما حمل هذا السم، ونقله إلى قعر بيوت المسلمين؛ فجاءت الصحف المصنعة والوافدة بأفكار مسمومة، وقصص غرامية، وصور فاتنة، ابتداء من صورة الغلاف إلى آخر صفحة من صفحاتها، وغزت الأمة الإسلامية، ودخلت إلى قعر بيوت المسلمين، وإني لأعجب كل العجب حينما أرى أن طائفة من الآباء وأولياء الأمور لهذه النساء هم الذين يشترون هذه الصحف المتفسخة الفاتنة؛ ليهدوها هدية إلى نسائهم داخل وقعر بيوتهم!! وهذه من المصائب والبلايا التي حلت بالأمة الإسلامية؛ لأن المرأة أصبحت تقرأ وتتطلع إلى أن تقرأ إلى كل شيء في هذا المجتمع، أضف إلى ذلك ما مني بها عالمنا الحاضر في دنيا الناس اليوم من الأفلام التي وصلت إلى قعر بيوت المسلمين بوسائل متعددة؛ سواء في ذلك التي تأتي بطريق رسمي، أو بطريق غير رسمي، من الفيديو وغيره.
وعلى هذا نقول: الأمر خطير، فإننا نرى أن جزءاً من وقت فتياتنا العفيفات الطاهرات يصرف في مشاهدة هذه الأفلام بواسطة التلفاز أو الفيديو أو أفلام السينما أو ما أشبه ذلك صور شبه عارية، وقصص غرامية، وخيانات زوجية، وأمور عظام لا يستطيع أن يتحملها عقلاء الرجال فضلاً عن عامتهم، فضلاً عن المرأة التي تتعامل في المجتمع مع عواطفها أكثر من عقلها.
أمور أخرى وأهمها: الانفتاح الشديد المفاجئ لبيئة مثل بيئتنا هنا بيئة محافظة والحمد لله، انفتاح شديد وسريع مفاجئ، فما هي إلا سويعات وإذا بهذه المرأة تصل إلى أقصى بلاد العالم، لاسيما فيما يسمونه: (شهر العسل)، الذي تفاجأ فيه المرأة المحصنة العفيفة الطاهرة التي تعيش داخل أسوار أمينة، ثم إذا بها تنتقل إلى بيئة بعيدة كل البعد عن أخلاقها وما اعتادته، ثم إذا بها تتأثر بسرعة، لتعود إلى بلادها وهي تشعر بأن ذلك العالم هو العالم المنفتح.
وعلى هذا نقول: إن هناك أخطاراً عظيمة غزت العالم الإسلامي، وهناك وسائل تقنية حديثه نقلت الغث والسمين، والضار والنافع -إن كان هناك شيء نافع- إلى قعر بيوت المسلمين، وأصبح الرجل داخل بيته يشعر باللوعة والأسى، ويعض أصابع الندم، ويضرب يداً بيد، لا يدري ماذا يفعل أمام هذه الفتنة التي لم تدع بيت شعر ولا مدر إلا دخلته! ثم بعد ذلك ربما يكون هو متسبباً، وهو الذي جاء بهذه الفتن حتى أدخلها داخل البيت.
كل ذلك وغيره من الكتب المسمومة، والأفكار المنحرفة، والدعايات المضللة، ودعاة الباطل على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها، وأصبحوا يشتغلون من خلال هذه الوسائل الحديثة، فأصبح الأمر خطيراً، وربما يعجز المصلح في هذه الظروف أن يصلح ما دامت هذه البيئة فيها شيء من هذا اللوث وهذا الانحراف، فما هو العلاج؟(9/20)
العلاج من الوقوع في تلك الأخطار
العلاج أن تتضافر كل الجهود، وأن يتقي الله عز وجل كل المسئولين، سواء كان على المسئوليات الكبرى، أو على المسئوليات الصغرى، أم على مسئولية صاحب البيت، وصاحب الأمانة الذي استرعاه الله عز وجل على أغلى شيء في هذه الحياة وهي الأهل والذرية، ليتقوا الله عز وجل جميعاً، يقول الله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16] نعم آن، ثم يقول تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الحديد:17]، فهناك أمل؛ فكما تحيا الأرض بعد موتها قد تحيا القلوب الميتة، التي طال عليها الأمد فقست.
ألم يأن للمسئولين عن الإعلام في بلاد المسلمين أن يتقوا الله عز وجل، وألا ينشروا إلا ما فيه خير، أو ما لا ضرر فيه؟! ألم يأن لأولياء البيوت وللآباء، ولمن استرعاهم الله عز وجل على هذه الأمانة، وسوف يسألهم الله عن عز وجل عن هذه الأمانة، أن يتقوا الله عز وجل في هذه البيوت البريئة، وأن يتقوا الله في هذه الفطرة النظيفة الطاهرة النقية، حتى لا يكدروها بما حرم الله عز وجل، فلا يجلب لهذه البيوت الوسائل الفاتنة المرئية أو المسموعة أو المقروءة؟! يتقون الله عز وجل في هذه الأمانة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته).
فما هو موقفك بين يدي الله عز وجل يا أخي المسلم! إذا أوقفك الولد يحاسبك ويقول: يا رب! إن أبي هذا خانني، أو أوقفتك البنت التي لم تؤد حق الله عز وجل في تربيتها وتطهيرها وإنقاء أخلاقها وتقول: يا رب! زد أبي هذا عذاباً ضعفاً في النار، إنه خانني؛ لأنك لم تربها التربية الصحيحة، ولم تطلعها على المنهج الصحيح الذي يجب أن تكون عليه النساء الفضليات، بل ربما تكون أنت السبب في إحضار بعض الوسائل التي كان لها أثر فعال، ومصيبة وفتنة في أخلاقها ودينها وسلوكها؟! من خلال ذلك نستطيع أن نربي المرأة المسلمة التي هي أمانة في أعناقنا منذ طفولتها، وبعد أن تشب عن الطفولة، وحينما تكون شابة؛ حتى نسلم هذه الأمانة لزوجها ليتحمل بقية المسئولية وبقية المشوار.
أما ما عليه هؤلاء الناس في كثير من الأحيان فإنه أمر خطير جداً، فقد أصحبت هذه الأوبئة، وهذه الأفلام والمسلسلات، وهذه الصور الفاتنة تفتك بالشباب والشابات، تشحذ الهمم، وتثير الغرائز، فإذا بها تكون في المجتمع فتنة عمياء صماء، يضاف إلى ذلك ما مني به المجتمع الإسلامي بصفة خاصة من غلاء في المهور، ومن عزوف عن الزواج، ومن خلل في الأنظمة الاجتماعية، كل هذه لها الأثر مع ما سبق مما خططه أعداء الإسلام لينشروا الفساد والرذيلة.
ونختم حديثنا بقول الله عز وجل موجهاً للمرأة المسلمة بل ولوليها: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب:59]، ثم يوجه الله عز وجل بعد ذلك الخطاب للذين يريدون أن ينشروا الفساد في المجتمعات الإسلامية فيقول: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا * سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الأحزاب:60 - 62].
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وأسال الله عز وجل أن يثبت الأقدام على ما يحبه ويرضاه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(9/21)
وقرن في بيوتكن
لقد خاطب الله عز وجل في القرآن الرجال والنساء بخطاب عام على السواء، ثم إنه سبحانه خص النساء بالخطاب في بعض الآيات لأهمية الموضوع الذي يتناولهن، ومن هذه المواضيع المهمة ما تناولته آيات الأحزاب من الأمر بطاعة الزوج، والصبر على قلة ذات يده، وترك التبرج والسفور، وعدم مخالطة الرجال أو مصانعتهم بالكلام المثير لغرائز النفوس وشهواتها، والالتزام باللباس الشرعي الساتر كما أمر الله تعالى.(10/1)
تفسير آيتي التخيير من سورة الأحزاب
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وبارك، وعلى آله ومن دعا بدعوته وعمل بسنته إلى يوم الدين.
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا * يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا * وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا * يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا * وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} [الأحزاب:28 - 34].
أما بعد: أيها الإخوة! درسنا هذه الليلة إن شاء الله في صفات المرأة في سورة الأحزاب، وهذه السورة ركزت على تربية المرأة، وكانت الآيات التي سنشرحها تربيةً لأفضل نموذج لنساء العالمين، زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذه التربية ليست خاصة بزوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه الأوامر التي سمعتموها ليست خاصة بهن، لكنها لزوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم من باب أولى، فهي للمرأة الفاضلة، وبمقدار ما تزيد المرأة فضلاً يكون نصيبها من هذه الأخلاق أكثر وأفضل، ولذلك تجدون في آخر الآيات كما سيأتينا إن شاء الله في آخر السورة: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً * لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً * سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الأحزاب:59 - 62].(10/2)
سبب نزول قوله تعالى: (يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها)
تبدأ الآيات بصفات زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: الصفات التي يجب أن تتحلى بها المرأة المسلمة عموماً، لكنها يجب أن تبدأ من أفضل النساء وتنتهي بأي امرأة مسلمة، وسبب نزول قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:28 - 29] أن زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم، اتفقن ذات يوم على أن يطلبن النفقة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم- وهو الذي لو شاء لسارت معه جبال الدنيا ذهباً وفضة- قد قدر الله عز وجل عليه عيشه فلم يوسع له؛ لأن له الحياة الآخرة، فكن في ضيق من العيش، وضنك من النفقة، فاتفقن ذات يوم على أن يقدمن احتجاجاً، يطلبن فيه زيادة في النفقة.
فدخل أبو بكر وقد ظهرت علامات الغضب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأراد أبو بكر رضي الله عنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبتسم، فقال: (يا رسول الله! لو رأيت زوجتي طلبت مني نفقة فقمت فوجأت عنقها؛ فابتسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: هن هؤلاء حولي يطلبن النفقة، فقال: يا رسول الله! إن شئت أقوم فأجأ عنق عائشة -أي: بنته- قال: لا)، ثم بعد ذلك أنزل الله عز وجل هذه الآيات، يخيرهن بين زينة الحياة الدنيا وبين المتاع الخالد في الحياة الآخرة، فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة.
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} [الأحزاب:28]، المتاع اللذيذ، القصور الفارهة، هذا ليس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما هو عند غير الرسول الله صلى الله عليه وسلم الذين وسع الله عليهم في الرزق، أما إذا كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فعليكن أن تصبرن على شظف العيش في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلن كلهن: بل نختار الله ورسوله، فبعد ذلك نهى الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتزوج عليهن كما سيأتينا في آيات لاحقة إن شاء الله.
إذاً: هذا هو سبب نزول هذه الآيات: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب:28 - 29].
وعلى هذا فإن المرأة المسلمة إذا اختارت الرجل الصالح فلم يوسع الله عز وجل له متاع الحياة الدنيا أو لم يعطه من الشرف ما أعطى سائر الناس، أو غيره من أمور أخرى تهواها المرأة، فعليها أن تصبر وتتحمل؛ لأن هذه هي سنة الله عز وجل في هذه الحياة، ولربما يفتح الله عز وجل لهذا الإنسان الحياة الدنيا، ويعطيه أيضاً الحياة الآخرة، لكن المرأة الصالحة عليها دائماً وأبداً أن تختار السعادة الخالدة، وأن تختار الرجل الصالح، فنساء الرسول صلى الله عليه وسلم اخترن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان هناك شظف شديد من العيش.(10/3)
مراحل علاج الرجل للمرأة قبل الطلاق
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) المال، (وَزِينَتَهَا) القصور والمتاع والطعام اللذيذ، (فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلًا) والتمتيع هو مالٌ يدفع عوضاً عن الفراق، وهذا كان واجباً، ثم صار سنة عند فراق المرأة أن يدفع لها الزوج شيئاً من المال تطييباً لخاطرها عند الفراق، وإذا كان هناك مهر مؤخر فعليه أن يدفعه في مثل هذه الحال، وإذا لم يكن هناك مهر مؤخر فمن السنة والأفضل أن يمسح دموع هذه الزوجة المطلقة التي فاتها هذا الزوج الذي عاشت معه مدة من الزمن، ويسمى التمتيع، ثم يكون بعد ذلك الطلاق.
والطلاق: هو المراد بالسراح الجميل، ولا يجوز أن يكون ألعوبة بأيدي العابثين، ولذلك سماه الله تعالى سراحاً جميلاً، وهناك سراح غير جميل، وهو أن يتخذ ذلك الإنسان هذه المرأة ألعوبة يطلقها اليوم، فإذا أوشكت عدتها على النهاية راجعها، ثم طلقها، ثم راجعها إذا أوشكت على النهاية، ثم طلقها، فبدلاً من أن تصبح العدة ثلاثة أشهر فتصبح تسعة أشهر، وهذا إيذاء للمرأة وليس بالسراح الجميل.
ولذلك فإن الطلاق الصحيح هو طلاق السنة: أن يعزم على الطلاق بعد أن يكون لا مناص هناك من الطلاق؛ لأن الطلاق هدم للأسر، فلا يقدم عليه الإنسان إلا في حالات ضرورية ملحة تلزم هذا الإنسان بالطلاق، أما أن يتسرع هذا الإنسان ويتخذ المرأة ألعوبة، فيتزوج اليوم ويطلق غداً لتصبح هذه المرأة غير مستقرة الحياة لا تبني لها عشاً ولا بيتاً فإن هذا لا يقره الإسلام، فلا يتزوج إلا وعنده رغبة في الحياة الطويلة معها، ثم عند الضرورة هناك علاج في القرآن في سورة النساء يذكر كيف يعالج الإسلام قضية الطلاق، وهو أنه إن كرهها فعليه أن ينظر إلى كثير من صفاتها الأخرى: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء:19]، ويقول عليه الصلاة والسلام: (لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقاً رضي منها خلقاً آخر)، قد تكون غير جميلة لكنها امرأة صالحة، قد تكون غير جميلة لكنها تنجب له أولاداً صالحين، وهكذا.
فالمسلم ينظر إلى المرأة من عدة جهات لا من جهة واحدة، ولذلك الذين يتسرعون في أمر الطلاق يخطئون في حق المرأة وفي حقوق أنفسهم، وفي حق الأولاد إن كان هناك أولاد، وفي حق المجتمع؛ لأن المجتمعات التي تكثر فيها المطلقات يكثر فيها الفساد، وهذا شيء مشاهد، لاسيما في عصر يكثر فيه النساء ويقل فيه الرجال، فلا تكاد المرأة المطلقة تتزوج.
ثم بعد ذلك إذا توترت العلاقات بين الزوج والزوجة فقد قال تعالى: {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء:34]، ثلاثة أنواع من أنواع التربية: وعظ وتخويف بالله، ثم هجر في المضجع، فإذا نام يجعلها على جهة القفا، فإذا لم ينفع فيها ضربها ضرباً غير مبرح، وهو نوع من التربية، وهذا الضرب وإن كان ضرباً تكرهه المرأة إلا أنه غير مبرح، وهو أيضاً لمصلحة المرأة؛ لأن هذا خير لها من الطلاق.
ثم بعد ذلك إذا أعيت هذه العلاجات كلها قال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء:35]، فيتدخل العقلاء بعدئذ ويأتي حكمٌ من قبل الزوج وحكمٌ من قبل الزوجة، ويدرسان الوضع، فإذا وجدا أي طريق للإصلاح فعليهما أن يسعيا به، أما إذا لم يكن هناك طريق للإصلاح فلهما الحق في الفراق؛ لأن الله تعالى يقول بعد ذلك: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ} [النساء:130]، هذا هو الطلاق في الإسلام، وليس هو الطلاق في نظر الجاهلية.(10/4)
الرد على من ينتقد جعل الطلاق بيد الرجل
ينتقد أعداء الإسلام الطلاق في الإسلام، ويقولون: الإسلام يتلاعب بالمرأة، وللرجل أن يطلق متى شاء، بل هناك دول إسلامية مع الأسف تطالب الآن أن يكون الطلاق بيد المرأة لا بيد الرجل؛ وهذا أخطر شيء في حياة الأمة، لأنه لو كان الطلاق بيد المرأة لوقع في ليلة الزفاف؛ لأن المرأة بطبيعتها وعواطفها وسرعة تصرفها لا تستطيع أن تمسك غضبها، وأن تمتلك عصمة الزواج في أي غضبة، فربما تندفع في أي لحظة فتطلق هذا الزوج، لكن حكمة الله عز وجل غالبة حيث جعل الطلاق بيد الرجل لا بيد المرأة؛ لأسباب كثيرة، وأهمها: العقل الذي يمتاز به الرجل وضبط النفس، وعدم الاندفاع مع العواطف.
ثانياً: الرجل هو الذي يدفع المال، فلو كانت المرأة تطلق متى شاءت لأصبح الرجل هو الذي يكون ألعوبة، اليوم يتزوج فلانة ويدفع لها كل ماله، ثم تطلقه غداً، وهكذا.
إذاً: سنة الله عز وجل هي الحكمة والمصلحة، ولذلك يقول الله تعالى: {وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} [الأحزاب:49].
إذاً: الذين يتلاعبون في حقوق المرأة ليس الإسلام مسئولاً عن تصرفاتهم، وذلك حينما تصبح العدة تسعة أشهر بدل ثلاثة أشهر، لأنه يطلق فيراجع في آخر المدة، ثم يطلقها بعد أيام، ثم يراجعها وهكذا، وربما تبقى معلقة مدى الحياة، وهذا خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.(10/5)
بيان طلاق السنة وتحريم طلاق البدعة
سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطلاق، أنه إذا عزم ولم يكن هناك مناص ولا طريق للإصلاح فإن عليه أن ينظر في أيام طهرها، فإذا كانت طاهراً غير حائض، ثم كان هذا الطهر لم يجامعها فيه فإنه يطلق طلاق السنة وهي طلقة واحدة، ثم يتركها حتى تنتهي هذه العدة فإذا انتهت هذه العدة، فهذا هو الطلاق الذي أشار الله عز وجل إليه بقوله: {وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} [الأحزاب:49]، وهو الذي أشار الله عز وجل إليه بقوله: {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1]، وهذا هو طلاق السنة، أما الطلاق في أيام الحيض فهو بدعة ومحرم، ولذلك بعض العلماء لا يوقعه، يقول: ليس هذا بطلاق، ولا يقع.
كذلك الطلاق ثلاثاً نعوذ بالله، شخص يعطيه الله عز وجل ثلاث فرص في الطلاق، لعله أن يستعيد المرأة، ولعله يفكر فيها مرة أخرى، لكنه يغضب ولو عند طعامه إذا تأخر أو عند أي مشكلة بسيطة فيقول لزوجه: أنت طالق ثلاثاً، وقد ذهب بعض العلماء إلى أن هذا الطلاق أيضاً لا يقع؛ لأنه محرم وكل محرم لا يقع؛ ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد).
وعلى كل فإن المرأة ليست ألعوبة، ولعل هذا اللعب الذي يفعله كثير من الجهال أو طائفة الجهال، هو الذي جرأ أعداء الإسلام اليوم على أن يقولوا عن الإسلام ما يقولون، أما الإسلام فإنه براء مما يقوله هؤلاء الكاذبون المفترون.(10/6)
أجر المرأة إذا صبرت على شظف العيش وحقها في طلب الفراق
قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب:29]، أي: البقاء في عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو في عصمة رجل صالح، مع شظف العيش وقلة المال: {فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:29]، وجواب الشرط محذوف: أي: وإن كنتن تردن الله ورسوله فإن ذلك خير لكن (فإن الله أعد للمحسنات منكن أجراً عظيماً) وهذا دليل على أن الأجر عظيم إذا تحملت المرأة شظف العيش مع زوجها، لاسيما إذا كان الزوج معسراً، مع أن الإسلام أعطى المرأة حق طلب الفراق إذا أعسر الزوج، وهذا من تكريم الله عز وجل للمرأة، فإذا أعسر الزوج -ولو كانت المرأة غنية، لكنها لا تريد أن تنفق على نفسها من مالها- فلها أن تطلب الطلاق، والعلماء يقولون: يفرق بينهما، فأي تكريم للمرأة أعظم من هذا التكريم؟! قاتل الله أعداء الإسلام الذين يتهمون المرأة بالإهانة.
لو كانت هي موسرة والزوج معسراً وعندها مال كثير جداً فإنها لا تلزم بالنفقة على نفسها، فلها أن تطلب الفراق إذا عجز الزوج عن النفقة، لكن خير لها أن تبقى في عصمة رجل صالح ولو كان معسراً ما دامت تجد أن هذا الرجل فيه صلاح وتقى، وذلك خير لها من أن تتحمل رجلاً فاسقاً ولو كان صاحب مركز، ولو كان أثرى الناس، ولو كان يملك كل أموال الحياة الدنيا، ولذلك يقول الله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ} [الأحزاب:29]، فالصبر على شظف العيش مع الزوج الصالح هو ابتغاء مرضاة الله ورسوله، وابتغاء الدار الآخرة، والمراد بالدار الآخرة هنا الجنة.
{وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب:29]، وهذا أعظم درجة الإحسان، أن تتحمل المرأة شظف العيش عند الرجل الصالح، ما دام هذا الصالح يوجهها إلى ما يرضي الله عز وجل.(10/7)
إخبار الله بمضاعفة الثواب أو العقاب لزوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم
ثم يقول الله عز وجل بعد ذلك: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب:30].
لو أن واحدة -وحاشا لفراش رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون فيه فاحشة- فعلت الفاحشة وهي في فراش رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم -يعني: زوجة له- فإنها تأخذ العذاب ضعفين، حتى قال بعض المفسرين: (ضعفين) أي يضاعف لها عدة مرات؛ لأن الضعف يساوي مرتين.
فالعقوبة في خيانة بيت النبوة عظيمة جداً، وكذلك بيوت الرجال الصالحين الأتقياء، وليس معنى ذلك أن خيانة البيوت الساقطة أمر مباح، لكن خيانة البيوت النظيفة الطاهرة الطيبة أمر أخطر وأشد عند الله عز وجل، وهذا دليل على تكريم المرأة أيضاً؛ لأن المرأة حينما تفسد بيتاً صالحاً يزيد إثمها، وتزيد عقوبتها، وحينما تصلح في بيت صالح تؤتى أجرها مرتين، كما قال الله عز وجل: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب:31].
إذاً: احترام فراش الزوج أمر مطلوب من كل امرأة، وإذا كان الفراش أطهر وأنقى فإن المرأة تطالب باحترام هذا الفراش أكثر من أي فراش آخر، فإذا خانت الأمانة في بيت رجل صالح كان جرمها أكبر وأشد، وإذا أدت الأمانة وحفظت نفسها في بيت رجل صالح أو في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنها تؤتى أجرها مرتين.
يقول الله تعالى: {وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً} [الأحزاب:31]، والرزق الكريم هنا هو الجنة، وهذا دليل أيضاً على أن المرأة يجب أن تخشى الله عز وجل، وألا توطئ فراش زوجها من يكرهه بأي حال من الأحوال، أي: تدخله بيته.(10/8)
صفات زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم في آيات الأحزاب
ثم يذكر الله عز وجل عن الصفات التي يجب أن تتصف بها زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي في الحقيقة صفات لكل زوجات المسلمين.
وأريد أن نصيخ بآذاننا إلى هذه الصفات لنلقي من خلال هذه الصفات نظرة أخرى على المجتمع، وهل المجتمع الذي نعيشه الآن يطبق هذه الصفات، أو لا يطبق هذه الصفات؟ وبعد أن نقارن بين ما أراده الله عز وجل للمرأة المسلمة أياً كانت هذه المرأة المسلمة وبين الواقع علينا أن نعود إلى الله عز وجل تائبين، وإن كان هناك شيء في أهلينا يختلف عن المنهج الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من عند الله سبحانه وتعالى فإننا نصححه.
يقول الله تعالى عن صفات المؤمنات وهي تبدأ بصفات زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم أولاً، وتنتهي في أي امرأة مسلمة: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} [الأحزاب:32].
يعني: أنتن تختلفن عن نساء العالمين جميعاً؛ لأنكن تعشن في بيت النبوة، ولأنكن زوجات خير البرية صلى الله عليه وسلم، فلستن كأحد من النساء.
ثم ذكر الله عز وجل الصفات التي يجب أن تتحلى بها زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدرجة الأولى، وتتحلى بها كل امرأة مسلمة في الدرجة الثانية، وهي: أولاً: (إِنْ اتَّقَيْتُنَّ) وهذه الصفة الأولى.
ثانياً: (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ).
ثالثاً: (وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا).
رابعاً: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ).
خامساً: (وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى).
سادساً: (وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ).
سابعاً: (وَآتِينَ الزَّكَاةَ).
ثامناً: (وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ).
تاسعاً: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34].
فهذه تسع صفات لا بد لكل امرأة تريد سعادة الدنيا والآخرة أن تتسم بهذه الصفات التسع، وأي امرأة تخرج من هذا الإطار ومن هذا المنهج ومن هذه الصفات فهي معرضة للنار؛ لأن هذه صفات زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم، اللائي يقول الله عز وجل عنهن: {الطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ} [النور:26]، ونحن مطالبون بأن نتبع الرسول صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} [الأحزاب:21].
إذاً: ما يطالب به زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدرجة الأولى تطالب به كل امرأة مسلمة، وما يطالب به الرسول صلى الله عليه وسلم بتربية أهله يطالب به كل واحد من المسلمين؛ لأن هذا المنهج تشريع لكل الأمة، وليس هناك صفة خاصة.(10/9)
من صفات زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم التقوى
فالصفة الأولى: هي التقوى: قال: (إِنْ اتَّقَيْتُنَّ) والتقوى صفة جميلة محبوبة في كل خلق الله، لكنها في المرأة أجمل وأحسن؛ لأسباب وأهم هذه الأسباب: أن بعد المرأة عن التقوى خطر عظيم، وليس خطراً على المرأة وحدها فحسب، بل هو خطر على المجتمع؛ لأن أعداء الإسلام في كل عصر وخاصة في هذه الفترة المعاصرة يحرصون كل الحرص على أن تخرج المرأة عن جانب التقوى ليفسد المجتمع؛ لأنهم جربوا كل الأمور ففشلت، ورأوا أن أقرب طريق لحرف الأمة الإسلامية إنما هو المرأة، وهذا عن تجارب مروا بها مع المسلمين: أولاً: جربوا المسلمين بالمواجهة المسلحة، فأصبحوا يواجهون جبالاً، قال تعالى: {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم:46]، وأصبحت الأمة الإسلامية لا تغلب، ولو غلبت في معركة من المعارك فإنها تلم شملها في أسرع وقت ممكن، ثم بعد ذلك تعود لها قوتها في الحال، كانت غزوة الأحزاب، ثم كانت حروب أخرى، ثم كانت الحروب الصليبية، ثم كان الغزو التتري، ثم كان ثم كان حروب كثيرة، بعضها تنتصر فيها الأمة الإسلامية، وبعضها ربما تنهزم فيها في الظاهر، لكنها تستعيد مكانتها في أقرب وقت ممكن.
إذاً: فشلت هذه المؤامرة، حتى جاءت الشيوعية تحمى بقوة الحديد والنار، وانتهت الشيوعية وما ارتد مسلم واحد من سبعين مليون مسلم في بلاد الشيوعية عن الإسلام ودخل في منهج الشيوعية أبداً.
ثم سقطت الشيوعية وأنهت دورها في هذه الحياة، وجاءت أفكار أخرى قومية وناصرية وعلمانية وهي الآن قد بدأت تهتز، وكلها تساقطت.
إذاً: ما هو الطريق لحرف الأمة الإسلامية؟ الطريق هو المرأة، وهذه الفكرة الجديدة التي هي فكرة المرأة ليست جديدة، لكنها تتكرر في كل عصر وفي كل فترة، وفي أيامنا الحاضرة بعدما فشل غزو الأفكار جاء غزو الشهوات، وغزو الشهوات خطير، والدليل على خطورة غزو الشهوات ما يجده الإنسان بطبيعته الفطرية البشرية من ميل إلى المرأة قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ} [آل عمران:14]، لكن هذه الفطرة تتأثر بالعقيدة، ولذلك فإن أعداء الإسلام لا يريدون أن تنحرف الأخلاق فقط، وإنما يريدون أن تنحرف العقيدة، لكنهم يريدون من خلال انحراف الأخلاق أن تنحرف العقيدة تبعاً، فهم يريدون أن تسقط هذه الأمة من عين الله حينما تقع فيما حرم الله، ثم بعد ذلك تسقط في مهاوي الضلال والردى بالنسبة للمعتقدات الفاسدة، ولذلك ركزوا على المرأة في أيامنا الحاضرة، وهذا ما سنتحدث عنه إن شاء الله في آخر الآيات.
أما التقوى هنا فهي أمر مهم دائماً وأبداً لا سيما بالنسبة للمرأة، ولذلك تجدون المرأة في مجالها الخاص تتقدم على الرجل، وما تقدمت على الرجل في القرآن ولا في السنة إلا في موضع واحد؛ لأن هذا هو الذي يهم أعداء الإسلام، وهو أن تقع في الفاحشة نعوذ بالله، ولذلك لو تتبعت آيات القرآن وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وأحاديث من جاء بعده من سلفنا الصالح ما وجدت المرأة تتقدم إلا في آية واحدة وهي قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2]، ولعل المسلمين ينتبهون للسر في ذلك، وهو ما تملكه المرأة من وسائل الإغراء.
إذاً: هذا هو أهم سر في هذا الأمر، لذلك التقوى -التي هي امتثال أوامر الله عز وجل، واجتناب نواهي الله عز وجل، ولو كان في ذلك معصية النفس والهوى والشهوات- هي أفضل طريق لحماية المرأة في الدرجة الأولى، ولحماية المجتمع في الدرجة الثانية.
ولذلك يجب أن تتسم المرة بالتقوى التي هي خشية الله؛ لأن عندها دوافع وعواطف ومغريات، وأمامها إعلاماً فاسداً منحرفاً جاء مرتباً له في كل بلاد الإسلام من أجل أن تنحرف عن الجادة المستقيمة، ولذلك فإننا نقول: يجب على المرأة ألا تنظر إلى هذه المخططات؛ لأن لديها منهجاً عظيماً هو هذا القرآن العظيم: (إِنِ اتَقَيْتُنَّ) فإذا لم تتق الله عز وجل فلا خير فيها.(10/10)
من صفات زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم عدم الخضوع بالقول
ومن مظاهر التقوى: (فلا تخضعن بالقول): ترقيق الصوت أمام رجل ليس من محارمها أمر محرم، لاسيما إذا كان الترقيق يغري، وهو فعلاً يغري؛ لأن المرأة حينما تبتسم في وجه غير محارمها، أو ترقق الصوت، أو تأتي بكلمات لا تتناسب مع الفضيلة ومع مكانة المرأة يطمع فيها من كان في قلبه مرض، بل ربما تكون امرأة عفيفة طاهرة نقية، لكن هذه الكلمة الرقيقة التي ألقتها دون حساب، ربما تطمع فيها من في قلبه مرض، ولذلك فإنه يلزم المرأة ألا تخضع بالقول حتى في قراءة القرآن.
تسألنا بعض الأخوات دائماً تقول: لدينا مدرس للقرآن، هل يجوز أن نجمل أصواتنا أمام مدرس القرآن في المدارس؟ والله أنا أعتقد أن ذلك لا يجوز؛ لأن الله تعالى ذم الخضوع بالقول الذي هو ترقيق الصوت أياً كان ولو في تلاوة القرآن.
إذاً: نقول: ترقيق الصوت أمام غير المحارم بأي حال من الأحوال لا يجوز، حتى قراءة القرآن يجب أن يكون بالصوت الطبيعي الذي ليست فيه كلفة، بل لربما نقول لها: تتصنع خشونة الصوت إذا كان صوتها بطبيعته رقيقاً، ولا شك أن الصوت مرض خطير، بل إن الإنسان بطبيعته لربما ينسجم مع صوت المرأة ولو كان عنده ما عنده من الإيمان.
إذاً نقول للمرأة: خير لك ألا تثيري الغريزة عند الرجال، ولا يجوز لك أن تفعلي شيئاً من ذلك.(10/11)
من صفات زوجات رسول الله قول المعروف
قال تعالى: {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} [الأحزاب:32] ما هو القول المعروف؟ هو الذي جرت به العادة، وأخذ بعض العلماء من هذه الآية: أن المرأة مطالبة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما يطالب الرجل سواءً بسواء، قال تعالى: {أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران:195].
وعلى هذا نقول: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على الجميع، الرجل والمرأة على حد سواء، فكلهم يطالبون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإذا كانت المرأة تطالب به وهي حبيسة البيت فالرجل من باب أولى، لكن المرأة أيضاً فيما يخصها هي مطالبة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهي في مدرستها إن كانت مدرسة أو كانت طالبة أو كانت موظفة، وفي مجتمعها إن كانت تجتمع بأخواتها المسلمات تنكر هذا المنكر كما ينكره الرجل.(10/12)
من صفات زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم القرار في البيت
قال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33].
هناك قراءتان سبعيتان: وقَرْنَ، وقِرْنَ، أما قِرْنَ بالكسر، فهي تؤخذ إما من القرار أو من الوقار؟ أي: أن المرأة تطالب بالوقار، فالتحشم للمرأة والبقاء في البيت أمر يثبت لها الوقار، والمرأة إذا خرجت من البيت ضاع وقارها، وضاعت قيمتها، وضاع وزنها في المجتمع، خصوصاً إذا كان هذا الخروج من غير حاجة.
وإذا كان من القرار فمعناه: اقررن أي: ابقين، والقرار معناه البقاء، وهذا هو معنى قراءة الفتح (وقَرن في بيوتكن) من القرار.(10/13)
ضوابط خروج المرأة من البيت
وعلى هذا لا نقول: إنها يحرم عليها الخروج خارج البيت، ولكن أوامر الله عز وجل تأمرها بالبقاء في البيت ولا تخرج إلا لحاجة ملحة، ولا يعني ذلك أن المرأة لا تتعلم، ولا تذهب إلى المدرسة، ولا تذهب لحاجتها الضرورية، ولا تذهب إلى المستشفى والمصحات، ولا تذهب لزيارة أقاربها، ولكن هذا الخروج له شروط مهمة جداً يجب أن ترعاها المرأة، وإذا لم ترعها المرأة فإن خروجها يعتبر محرماً: يجب أن تخرج محتشمة، وخير لها أن تخرج مع محرمها في سيارته أو في رفقته، وتخرج غير متطيبة ولا متجملة ولا متزينة، ولا تخرج إلا عند الحاجة، أما ما يفعله كثير من نساء المسلمين اليوم نسأل الله لنا ولهن الاستقامة، فإن هذا خطر عظيم حيث أصبح البقاء في البيت عيباً لدى كثير من النساء، حيث إنهن لا يردن أن يكن حبيسات البيوت، مع أنه يعتبر في نظر الإسلام تشريفاً، ولذلك نجد أن الإسلام الذي يأمر المرأة بالقرار والبقاء في البيت هو الإسلام الذي يوجب على الزوج أن يوفر لها كل حاجاتها، حتى لو عجز عن النفقة عليها والبحث عن المال والرزق فالأمر إليها، لها أن تطلب الطلاق لتبحث لها عن زوج آخر، ويجبر هذا الزوج على الطلاق ما دام قد عجز عن النفقة.
إذاً: هل هناك ضرورة ملحة تلزم هذه المرأة بالخروج كهذا الخروج الذي نشاهده اليوم في دنيانا؟ الأمر خطير أيها الإخوة! فقد خرجت المرأة وانفلتت في المجتمعات الكافرة أيما انفلات، فأصبح الرجل لا يفكر أن يحصل على زوجته داخل البيت إلا من شاء الله، وأصبح العقلاء من أولئك القوم يضربون يداً بيد، ويقولون: لقد فرطنا في هذه المرأة فقد اختلطت بالرجال، واختلطت بالشباب على مدرج الجامعات وفي المدارس إلى غير ذلك، حتى أدى هذا الأمر إلى ضياع وفساد في المجتمعات الإنسانية، حتى لقد بلغت الإحصائيات في بلاد الغرب للأولاد غير الشرعيين (75%) من المواليد كل سنة، يعني: ثلاثة الأرباع من الأولاد الذين يولدون بطريقة غير شرعية.
فمعنى ذلك أن خروج المرأة أوجد هذا الفساد العريض.(10/14)
انتشار فساد النساء في بلاد الإسلام
اترك بلاد الكفر وتعال إلى بلاد الإسلام، لقد بلغ الأمر ذروته، وكاد أن يصل إلى ذلك الحد الذي وصلت إليه بلاد الكفر، وذلك في البلاد الإسلامية التي سبقتنا إلى إخراج المرأة عن بيتها بدون حاجة ولا ضرورة، فقد أصبح الفساد في قمته.
أما بلادنا هذه فقد حماها الله عز وجل بنظام شرعي، وبتحكيم شرع الله، لكني أرى كثيراًً من القوم الذين يسوءهم أن تكون هذه المرأة المسلمة وفق المنهج الذي جاء من عند الله عز وجل، يشعرون بالقلق والضيق، ولذلك فإنهم دائماً وأبداً يبحثون عن الطريق التي يخرجون فيها المرأة، لاسيما وأن المرأة أصبحت حياتها غير منضبطة في بلادنا، فالتعليم أصبح ليس له حدود ولا ضوابط في بلاد الإسلام، ممكن أن تبحث عن هذا التعليم في أي حالة من حالاتها ولو كبر سنها ولا تنتهي بمرحلة معينة، بل ولا تنتهي بسن معين، بل وتفكر بالعمل المستمر الدائم، ولو أدى ذلك إلى أن تهمل الحياة الزوجية التي حدد الله عز وجل لها وقتاً، وقال: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور:32]، إلى غير ذلك.
وما تسمعونه من أخبار تفلت النساء في كل بلاد المسلمين إنما سببه ووراءه قوم يحملون خطراً عظيماً على هذه المرأة، حتى سمعنا أن الجامعات التي تختص بالبنين فيها الآلاف من البنات، وحتى سمعنا أن هناك دوائر رسمية مهمة أصبحت المرأة تنافس فيها الرجل.
بيدي خطاب من شركة (سمارك) يقول: الآن تكاد النساء أن تغلب الرجال في هذه الشركة، حتى التدريب يختلط فيه البنين والبنات، وحتى إن هناك وظائف لا تصلح إلا للرجال أصبحت تمارسها النساء، وبيدي قصاصة جريدة من رجل مجرم في صحيفة تسمى (الفجر الجديد)، وإن لم تكن من المصنعة في بلادنا لكنها من الوافدة التي فقدت الرقابة، هذا الكاتب يشكر لحكومة الكويت وأنا لا أشبهها إلا ببني إسرائيل، فإنهم حينما خلصهم الله عز وجل من البحر وجدوا قوماً يعبدون الأوثان: {قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138].
يقول هذا الكاتب: إن حكومة الكويت أحسنت حينما منعت النساء المبرقعات من قيادة السيارة، ولا يقصد أنها أمرتهن بالحجاب، وإنما يقول: لا بد من إزالة هذا الغطاء نهائياً؛ لأنه من يدري من تحت هذا البرقع لعله يكون جاسوساً.
قاتلهم الله أنى يؤفكون! الجواسيس يرفعون رءوسهم مكشوفة الوجه لا يحتاجون إلى أن يتستروا، المسلمون والنساء الصالحات هم الذين يحتاجون إلى التستر في مثل هذه الأيام، وعلى هذا نقول: إنها مصيبة وفتنة.
وهذه الصحيفة كأنها تتهمنا بأن تخلفنا لأننا لم نسمح لنسائنا على شواطئ البحار بـ (المايوه): فيقول هذا الكاتب: إسرائيل نساؤهم تخرج بالمايوه ولكنها تدافع عن وطنها، أما نحن فقد انشغلنا بلباس المرأة وحلق اللحية والشارب إلخ كلامه.
وأصبح يسخر من الدين، والله يا إخوان هذا الإعلام لو وجد في أي بلد من بلاد العالم في أيام عز الإسلام لما كان يسمح له أن يتسرب إلى بلاد المسلمين، ففيه سخرية من اللحية! وسخرية من الدين! فهؤلاء هم الذين ورطوا المرأة فأخرجوها من إطارها، ولعلكم لم تنسوا الفتن التي مرت في بلادنا هنا في أيام المحنة؛ لأن أعداء الإسلام المتربصين يكرهون الدولة، ومن كراهيتهم للدولة كما عرفتم لما انشغلت الدولة بحرب العراق ماذا فعل أولئك؟ جاءوا بكل المشاكل وحشوها في بلادنا هنا؛ من أجل أن يربكوا الدولة ويشغلوها، ولذلك هم يكرهون بقاء المرأة لا من أجل سعادة المرأة، وإنما يكرهون بقاءها في البيت من أجل أن تفسد المرأة، ومن أجل يفسد المجتمع، فماذا أعددنا لذلك أيها الإخوة؟ هؤلاء القوم الذين يكرهون الإسلام ويحقدون على هذه الدولة التي تحكم شرع الله عز وجل كما أحسبها، ومن أجل ذلك فإنهم يشكلون هذه البلابل في بلاد المسلمين وهذا أمر يتطلب منا الجد، وإذا قام خطيب يقول للناس: اتقوا الله، أصبح موضع شك لدى كثير من المسئولين كما تشاهدونه في كثير من الأحيان.
على كلٍ: فإن سعادة المرأة أن تبقى في البيت، وليس معنى ذلك أنها تبقى في الحريم كما يقول أعداء الإسلام، نقول: في البيت؛ لأن لديها دوراً مهماً، هذا الدور لا يقوم به الرجل، ولا يقوم به كل أحد، حتى المربية التي جئنا بها من بلاد الكفر، أو من بلاد الإسلام، وحتى الخادمة وحتى لا يمكن أن تقوم بهذا الدور، ولا يقوم به إلا الأم التي عندها من العاطفة والحنان ما ليس عند أحد آخر.
ولذلك الشيوعية لما انتشرت كانت تخرج المرأة عن البيت، وتأخذ الطفل منذ ولادته إلى المحضن، ثم تأخذه إلى روضة الأطفال، ثم بعد ذلك لا يلتقي هذا الطفل بأمه إلا بعد أن يكبر كثيراً، وبعد أن يقسو قلبه فلا يشعر نحوها بالعاطفة، ومن هنا كانت الهوة البعيدة بين الابن وأمه وأهله وعشيرته، من أجل أن يكون الأطفال للدولة، كما قدمتهم في حرب أفغانستان بما يسمى بالكومندوز الذين وجهتهم كأبناء للدولة يقاتلون بهم الأفغان ويعدونهم للحروب.
على كلٍ: كفى الله المؤمنين القتال، وسقطت الشيوعية وما عندها من مخططات، وتبين أن بقاء المرأة في البيت هو طريق السعادة.(10/15)
التزام نساء النبي بالقرار في البيوت
يقول الله تعالى لزوجات الرسول صلى الله عليه وسلم: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33]، حتى إن بعض زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم، قيل لها ذات يوم: لماذا لا تحجين؟ قالت: لقد حججت ما أوجب الله علي، والله تعالى يقول: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ).
أي أنه لا حاجة لتكرار الحج مادامت قد أدت فرضها؛ لأن الله تعالى يقول: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ).
إذاً: ما رأيك في رجال يذهبون في أيام الصيف، بل في كل الإجازات بنسائهم وأطفالهم وبنيهم وبناتهم إلى بلاد الكفر وبلاد الغرب والبلاد المسلمة المنحلة إذا كانت زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفضن تكرار الحج استجابة لقول الله تعالى: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ)؟ وما مصير هؤلاء الذين يذهبون بالنساء المسلمات المحجبات الطاهرات، بل لربما يتزوج ذلك البعيد شابة صالحة تقية قد بذلت جهود كبيرة في سبيل تربيتها، فما خرجت من إطار بيتها إلا في حدود محدودة، ثم يتزوجها ذلك الشقي الذي أساء أبوها اختياره زوجاً لها، فلا تصبح ليلة الزفاف إلا في دولة أوروبية باسم شهر العسل أو ما أشبه ذلك.
هذه من المصائب والبلايا أيها الإخوة، فالله تعالى يقول: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ)، من القرار أو من الوقار.
إذاً: بقاء المرأة كما قال الشاعر: عز الفتاة بقاؤها في البيت لا في المعمل والزوج يعمل في الحقو ل وعرسه في المنزل هذا هو النظام المتبع حتى عند العرب قبل الإسلام وبعده، وإذا وجد شيء يخالف ذلك فإن على الأمة الإسلامية أن تعالج هذه المشكلة؛ لأن خروج هذه المرأة من البيت بدون حاجة ولا ضرورة أمر خطير جداً كما جاء في الحديث: (المرأة فتنة فإذا خرجت استشرفها الشيطان)، أي: ركب عليها حتى يفتن بها الناس.(10/16)
من آثار عدم التقيد بالشرع في خروج النساء
أيها الإخوة! لعلكم تشاهدون من آثار عدم التقيد بأوامر الله عز وجل ما يحدث في الساحة، سمعنا عن جامعة الرياض وسمعنا وسمعنا عن أشياء كثيرة، ما هو السر في ذلك؟ السر في ذلك هو معصية أوامر الله عز وجل، والله يا إخوان لقد وصل إلي كتاب من بنت تدرس في جامعة الرياض، تقول لي: يا إخوتي! اتقوا الله، والله إن هناك فتيات ما دخلت الجامعة مدة سنة كاملة وفصل كامل، مع أنها تأتي إلى الجامعة كل يوم يدخلها وليها من بوابة لتخرج من بوابة أخرى ولا يدري ذلك المسكين، لأنه اندفع وراء مطالب هذه البنت، فصار يذهب بها في الصباح وصارت تنفلت يميناً وشمالاً ويظن أنها في الجامعة، فإذا كان في آخر النهار ذهب يبحث عنها ليأتي بها، وكأنها قد أكلمت دراستها.
هذا أمر خطير يا إخوتي! لا بد من مراقبة هذا الأمر، ليست الخسارة مادية، إنها خسارة معنوية عظيمة جداً.
إذاً: يجب أن تبقى هذه المرأة داخل البيت بأي حال من الأحوال إلا في حال الضرورة، يذهب بها وليها ويتأكد من بقائها في الجامعة أو في المدرسة، ويجب أن يكون لهذا التعليم حدود، لئلا تطغى مدة هذا التعليم على مدة الزواج.
ونتمنى لو فرضت الدولة نظاماً ألا تقبل امرأة في الجامعة إلا بعد أن تثبت زواجها، إلا في حالات خاصة إذا لم يتقدم لها أحد، ولعل ذلك يكون سبباً في إقدامهن على الزواج، أما الآن فكثير من الشباب يتقدم لفتاة، ولكنها تريد أن تكمل الجامعة، ثم إذا أكملت الجامعة تريد أن تعمل، ثم ثم ثم بعد ذلك حتى تنتهي مدتها المحدودة التي تنتهي بعد مدة وجيزة.(10/17)
من صفات زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم عدم التبرج
قال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33]: تصوروا -يا إخوان- تبرج الجاهلية الأولى، حتى الجاهلية الثانية هي خير من الجاهلية الثالثة، وإن من يسير في بلاد الإسلام يرى أن في الجاهلية الثانية ما هو خير بالنسبة لحماية المرأة من الجاهلية الثالثة التي نعيشها اليوم، نعم في الجاهلية الأولى تفسخت المرأة حتى قال بعض المفسرين: إن المرأة وصلت في الجاهلية الأولى إلى أن تكشف عن كل جسدها فيتمتع زوجها بما تحت السرة ويتمتع أصدقاؤه بما فوق السرة، وهذا يوجد الآن في الجاهلية الثالثة في بلاد الكفر وفي البلاد التي انحلت عن القيم نهائياً.
وقد طافت المرأة في الجاهلية الأولى عارية حول البيت، وكانت تضع يدها على فرجها وتقول: اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله فلما جاءت الجاهلية الثانية التي هي قبيل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم خاف الرجال من هذه النساء، فكان كل من ولدت له امرأته بنتاً يخاف أن تفسد كما فسدت المرأة في الجاهلية فكانوا كما قال الله: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ} [النحل:58]، يسود وجهه إذا قيل له: ولدت لك بنت، فإن كان عاقلاً تحملها على مضض، وإن كان جاهلاً أخذها في غيبة الناس وحفر لها حفرة ودفنها وهي حية، كما قال الله عز وجل: {أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} [النحل:59]، هذا حدث بهم لأن الجاهلية الأولى فسدت فيها المرأة فساداً ذريعاً، لكن رغم هذا الجرم العظيم الذي أنكره الله عز وجل فقال: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:8 - 9]، بالرغم من هذا الجرم العظيم الذي وصل إلى قول أحدهم: إياك واسم العامرية إنني أخشى عليها من فم المتكلم هذا البيت ما قيل في الجاهلية الثالثة، وإنما قيل في الجاهلية الثانية، قبيل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: لا تذكر اسم المرأة في مجلس، فإني أخاف عليها أن ينطق بها رجل ليس من محارمها.
لكن تعال إلى الجاهلية الثالثة التي انسلخت من الإسلام والعياذ بالله، ماذا حدث؟ حدث كل شيء، وجاءت قوانين وأنظمة تحمي الفاحشة، كلٌ أخذ بنصيب من هذا الفساد، وكانت هناك تمهيدات كالتمهيدات التي توجد في بلادنا اليوم، إعلام يأتي بصحف ومجلات وأفلام ومحرمات، ليعلم المرأة كيف تنحل، فلا تمضي عليها مدة من الزمن إلا وتنحل، حتى وصل الآن إلى وجود نواد للعراة في بلاد الكفر، وحتى وصل الاعتراف بزواج الذكر بالذكر في بعض البلاد.
ولما كان هذا الميول المنحرف تتطلبه أفئدة منحرفة جاءت القوانين تنحرف مع هذا الميول، ولذلك كلما هبط الإنسان درجة هبطت القوانين درجتين اثنتين؛ حتى إذا هبط الدرجة الثالثة تكون القوانين تخدم هذه الفكرة الهابطة، فالعراة اليوم على شواطئ البحار، وأظنه موجوداً حتى في بعض شواطئنا نعوذ بالله! لباس لا يكون إلا في فراش النوم، بل لربما يكون أخلع من فراش النوم.
إذاً: هذا الأمر خطير لا بد أن تكون له حلول وإلا فإن نقمة الله عز وجل أقرب إلى أحدنا من شراك نعله؛ لأن الله تعالى يغار على محارمه، ومنها هذا التبرج الشديد الذي ليس كتبرج الجاهلية الثانية وإنما كتبرج الجاهلية الأولى، ولذلك الله تعالى يقول: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33]، من أجل أن يعلمنا أن هناك جاهليتين: جاهلية تبرجت فيها المرأة، وجاهلية أصبحت كرد فعل للجاهلية الأولى.
إن جاهلية اليوم أعظم من جاهلية الأمس؛ فما هو موقف الأمة الإسلامية من هذا الأمر؟ أتريد أن تقلد فيها المرأة المسلمة المرأة الكافرة في كل حال من الأحوال؟! والتبرج مأخوذ من البرج، والبرج معناه: الشيء المرتفع، أو من البارجة، والبارجة هي السفينة الكبيرة ترى من بعيد، والتبرج معناه: إظهار الزينة لغير المحارم، والله تعالى قد بين من هم المحارم قال تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوْ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنْ الرِّجَالِ أَوْ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور:31].
الشيء الذي نريد أن نقوله: هل هذا التبرج الذي أصاب الأمة الإسلامية فضلاً عن الأمة الكافرة، وصل إلى درجة الجاهلية الأولى؟! فقد وصل إلى كثير من ذلك في كثير من الأحيان! والله إنك لتسير في كثير من بلاد الإسلام حتى لا تكاد تفرق بين امرأة مسلمة وامرأة كافرة إلا إذا سألتها عن اسمها، وحتى إن هذا الفساد الذي مهد له في بلاد الإسلام مدة طويلة من الزمن قد وصل إلى هذا المستوى، ثياب ضيقة ثياب رقيقة ثياب شفافة إخراج الشعر إخراج الرأس إخراج النحر إخراج الرقبة إخراج الساقين إلخ، ما بقي شيء من هذه المرأة إلا السوءتان في كثير من بلاد الإسلام.
إذاً: هذا التبرج أمر محرم وخطير، ويؤدي بالأمة الإسلامية إلى الهاوية، فعلى الأمة الإسلامية أن ترعى هذا الأمر.(10/18)
من صفات زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وتبليغ الدين
قال تعالى: {وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ} [الأحزاب:33]: وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة أمر يحفظ الإنسان مما حرم الله عز وجل، فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، والزكاة طاعة لله عز وجل تكون لها آثار طيبة، والمجتمعات التي تعطل الصلاة لا تستغرب أن تقع في أي منكر من المنكرات التي حرمها الله عز وجل؛ لأن الصلاة كما أخبر الله عز وجل تنهى عن الفحشاء والمنكر.
ثم قال الله تعالى بعد ذلك: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34]: قال بعض المفسرين (اذكرن) أي: بلغن، فكرر الله عز وجل التبليغ مرتين من أجل أن تتحمل هذه المرأة المسئولية كما يتحملها الرجل لاسيما مع النساء، خاصة أن كثيراً من النساء لربما تفسق أو تسقط أخلاقها أو تفكر فيما حرم الله، فيجب أن تكون المرأة المسلمة عامل إصلاح في مجتمعها، فإذا رأت امرأة غير متحجبة تقول لها: اتقي الله يا أختي! حرام عليك لا تفتني الرجال، وإذا رأت امرأة متطيبة تقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر أن هذا الطيب نوع من الزنا، الذي هو شم الرائحة وهكذا.(10/19)
الأمر لزوجات النبي ونساء المسلمين بالتستر
ثم بعد ذلك تنطلق بنا هذه الآيات إلى آخر السورة بعد أن تحدثت عن كثير من صفات النساء فيقول الله بعد ذلك مكملاً هذا الموضوع: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الأحزاب:59]: لما ذكر الله عز وجل الصفات التي يجب أن تتحلى بها زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم، والصفات التي يجب أن تتحلى بها كل امرأة تقتدي بنساء الرسول صلى الله عليه وسلم، وذكر الرسول صلى الله عليه وسلم الوعيد الشديد على المرأة التي لا تتقيد بذلك، فقال في الحديث الصحيح: (صنفان من أهل النار لم أرهما: رجال معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، رءوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها).
يقول الله عز وجل بعد ذلك: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59]: والجلباب هو الثوب الغليظ، يعني: لا يكفي أن تستر بدنها بثوب كأي ثوب، فلا بد أن يكون فوق هذا الثوب ثوب آخر، وهو جلباب غليظ كالعباءة وما أشبه ذلك من الأمور التي تغطي تقاسيم الجسد، حتى لا يكون الثوب الأسفل ضيقاً ليصف تقاسيم الجسد، إذاً: لا بد أن يكون هناك جلباب، وهو الثوب الغليظ، وهو أكبر من الخمار، تغطي به المرأة كل جسدها ولا بد أن تدنيه على وجهها حتى لا يعرفها أحد.
ولعل في هذه الآية إشارة إلى واقع كان يعيشه المسلمون في العصر الأول، فكانت الجواري فيهن شيء من الانحلال في ذلك الوقت، فالمرأة المسلمة الصالحة التقية الحرة يجب أن تتميز عن الجارية الرقيقة حتى لا يعرفها أحد فيؤذيها، وليس معنى ذلك أن الجارية تجوز أذيتها، ولكن معنى ذلك أن أذية المرأة الصالحة أشد عند الله عز وجل من أذية الجارية، فأمر الله عز وجل النساء المسلمات عموماً، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يأمر نساءه ويأمر نساء المسلمين كافة بأن: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الأحزاب:59].
ومن هنا نقول: إن قوله تعالى: (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فلا يُؤْذَيْنَ) يدل على أن الحجاب والتستر حينما شرعه الله عز وجل ما جاء إلا لمصلحة المرأة؛ لأنها بدون الحجاب سوف تؤذى، وهذا شيء مشاهد، فلو أن امرأة متبرجة انطلقت في أسواق المسلمين لآذاها كل أحد في قلبه مرض، ولتبعها خلق كثير يبحثون عن الفاحشة في هذه المرأة، لكن الله عز وجل أمرها بأن ترتدي الجلباب فوق ملابسها حتى لا يطمع فيها، وهذا الجلباب زيادة على التستر حتى لا يطمع فيها إنسان في قلبه مرض.
(ذَلِكَ أَدْنَى) أي: أقرب، (أَنْ يُعْرَفْنَ): أن يعرفن أنهن نساء عفيفات طاهرات حرائر، (فَلاَ يُؤْذَيْنَ) كما تؤذى النساء الفاجرات المنحرفات.
إذاً: قوله تعالى: (فَلاَ يُؤْذَيْنَ) دليل على تكريم الله عز وجل للمرأة، وأن هذا الحجاب ما جاء لإهانة المرأة كما يردده أعداء الإسلام، وكما يردده الببغاوات من المنسوبين للإسلام من أبناء جلدتنا، فهو ما جاء إلا لتكريم المرأة واحترامها، قال تعالى: (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيَّنَ).
إذاً: هي إذا لم ترتد هذا الجلباب فإنها سوف تؤذى، وإذا أوذيت فسوف تكون عرضة للسقوط في المجتمع، ثم السقوط من عين الله عز وجل.
إذاً: الجلباب لمصلحتها ولمصلحة المجتمع.(10/20)
تهديد الله للمنافقين المتطاولين في أعراض المسلمين(10/21)
أنواع أعداء الفضيلة
ثم يقول الله تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ} [الأحزاب:60]: ثلاثة أنواع: منافقون، وفي قلوبهم مرض، ومرجفون في المدينة، كلهم موجودون عندنا الآن أيها الإخوة: منافقون يظهرون التباكي على الإسلام وعلى المرأة، يبطنون غير ما يظهرون، يقولون: لا بد أن نحفظ المرأة، لا بد أن نحافظ على حقوق المرأة، حرية المرأة، وهم في الحقيقة منافقون؛ لأنهم يبطنون الفسق، بل لربما يبطنون الكفر داخل قلوبهم، فهم يكرهون المرأة، ويكرهون الدين الإسلامي، ويكرهون الحجاب، ويكرهون أن تصلح هذه الأمة، فهم منافقون سواء كان نفاقاً اعتقادياً أو نفاقاً عملياً، يعني: سواء كان هذا نفاقاً يخرجهم من الملة حينما يبطنون الكفر، أو نفاقاً عملياً حينما يكذبون في تعاملهم مع المرأة، وتباكيهم على المرأة حينما يطالبون بحقوقها وحريتها.
(والذين في قلوبهم مرض) يأتون في الدرجة الثانية، ربما لا يوجد عندهم نفاق اعتقادي، لكنه يوجد عندهم نفاق عملي.
(في قلوبهم مرض): شك، أي أنها لم تنضج الأمور في قلوبهم، ولم يكتمل الإسلام في رؤيتهم، ولربما يصل هذا المرض إلى النفاق أيضاً فيكونون من الدرجة السابقة، وحينئذٍ يكون قوله تعالى: (في قلوبهم مرض) توضيحاً لقوله تعالى: (المنافقون).
أما المرجفون في المدينة: فأظن أن أخبارهم لا تخفى عليكم في أيامنا الحاضرة، هؤلاء الذين ينتظرون الفرصة التي تضعف فيها الأمة الإسلامية حسب ظواهر الأمور، فيستغلون هذه الفرصة من أجل أن يتخذوا منها سبيلاً إلى إذلال الأمة الإسلامية.
إن هذه الأحداث الأخيرة قد كشفت لنا المرجفين في المدينة، وعلمنا كيف يتعاملون معنا ومع الجهات المسئولة ومع الناس، فإذا وجدوا أي مدخل لهم إلى هذا الدين، وإلى هذه الحياة التي من الله عز وجل بها على هذه المرأة، نجد أنهم يستغلون هذه الفرصة من أجل أن يفسدوا أخلاق هذه المرأة، ولذلك فإن المرجفين في المدينة كثير، وكانوا بالأمس يأتون من الخارج، لكنهم أصبحوا في أيامنا الحاضرة يغزون الأمة الإسلامية من الداخل، ويطعنونها من الباطن، حيث إنهم من أبناء الجلدة، وممن يتكلمون بالألسنة أي: باللغة العربية، وهم أيضاً لا يقولون إنهم أعداء للمرأة أو يقولون إنهم أعداء للإسلام، بل ربما ينادون بما ينادون فيه باسم الإسلام، ولكنهم ينكشفون؛ لأن الإسلام واضح والحمد لله، وليس خفياً، هو كالمحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.(10/22)
حكم الله على المنافقين أعداء الفضيلة
أيها الإخوة! هؤلاء المنافقون إن لم ينتهوا ما هو مصيرهم؟ قال تعالى: {لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً} [الأحزاب:60]، هؤلاء المنافقون، والذين في قلوبهم مرض، والمرجفون في المدينة إن لم ينتهوا عما يفعلون من الدس في الإسلام، ومن الطعن في المرأة من جانب خفي، ومن أذية الأمة الإسلامية، ومن السعي لإفساد المجتمع بعد إفساد المرأة، إن لم ينتهوا ليكونن الإغراء عليهم من الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم موجوداً فلمن من يكون الإغراء؟ للأمة الإسلامية من روضة الأنبياء الذين ورثوا هؤلاء فيغريهم الله عز وجل حتى يدافعوا عن دين الله، وحتى يدافعوا عن حياض الشرف والفضيلة.
ندعو علماء المسلمين إلى أن ينتبهوا لهذا الخطر، فإن في ساحتنا اليوم وفي عالمنا وفي دنيا الناس مرجفين كثيرين، وفيها قوماً في قلوبهم مرض، وفيها منافقين، وهؤلاء لا يدفعون إلا لعلماء المسلمين الربانيين الذين يشعرون بهذه المسئولية، نرجو من هؤلاء أن ينتبهوا لخطر هؤلاء حتى لا يستفحل، فإنهم إن تركوا يعبثون، فإنهم سوف يغرقون هذه السفينة التي لا بد أن يدافع عنها العقلاء، والله تعالى يقول: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:251]، ويقول تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً} [الحج:40]، فهل دفع هؤلاء العلماء الذين أخذ الله عز وجل عليهم العهد والميثاق، وأتباع العلماء من طلبة العلم والصالحين والأتقياء؛ هل دفعوا هؤلاء الذين يريدون أن يخرقوا هذه السفينة، والذين يريدون أن يفسدوا في الأرض؟ أنا أدعو كل ذي عقل وإيمان، وكل ذي علم -أياً كان هذا العلم- أن يدخل الساحة اليوم، لا ليدافع عن دين الله عز وجل، ولا عن كرامة هذا الدين، فإن الدين محفوظ بحفظ الله عز وجل، فالله تعالى يقول: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، ولكن يدخل ليدافع عن محارمه؛ لأن ما أصاب محارم غيرك لا بد أن يصل إلى محارمك؛ لأن هذا المجتمع كله سفينة واحدة تطفو على محيط متلاطم الأمواج، فإن تركنا هذه السفينة يعبث بها هؤلاء العابثون ويخرقوها ولو بحسن نية، فويل يومئذ للفضيلة من الرذيلة، ولذلك حكم الله تعالى على هؤلاء قال: {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا} [الأحزاب:61]، في أي مكان وجدوا في أي زمن وجدوا هم ملعونون.
ونحن هنا نطمئن على دين الله؛ لأن الله تعالى حكم عليهم باللعنة أي: الطرد والإبعاد عن رحمة الله، وأيضاً بالفشل في مخططاتهم، فإنهم لا يستطيعون أن ينالوا من دين الله تعالى عز وجل شيئاً، وإنما هو أذى، لكنهم ربما يتسلطون على هذه المرأة المسكينة في أيام غفلتها وهي تصدق هؤلاء العابثين فتخرج عن إطارها الذي رسمه الله عز وجل، أما هم فكما قال الله تعالى: {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً} [الأحزاب:61]، طردوا من رحمة الله، وهم سيقتلون، ولا يمكن أن يعدوا قدرهم؛ لأن الله تعالى رب هذا الدين، وللدين رب يحميه.(10/23)
سنة دائمة في إزالة أهل النفاق والإرجاف
ثم يذكر الله تعالى أن هذا الذي يحدث ليس خاصاً بفترة معينة وهي فترة نزول القرآن، لكنها فترة دائمة، وكلما وجد المفسدون في الأرض لا بد أن يوجد المصلحون في الأرض، وإذا لم يوجد المصلحون في الأرض فإن الله عز وجل سوف يدافع عن هذا الدين، ولذلك يقول: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} [الأحزاب:38]، أي: ملعون كل من أراد أن يتعرض لهذا الدين من هذا الجانب أو من أي جانب آخر، وتلك سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً.
إذاً: سنة الله غالبة وسائرة وماضية في هذه الحياة، وبمقدار ما يقدم هؤلاء الأوباش -المرجفون في المدينة والذين في قلوبهم مرض- من أذىً لهذه الأمة الإسلامية في محارمها التي هي أغلى ما تملك، فهم ملعونون، وهم مقتولون تقتيلاً: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الأحزاب:62]، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(10/24)
الأسئلة(10/25)
خطر خروج الخادمات إلى السوق متبرجات
السؤال
إن من المسلمين من لا يكفيه أن يجلب الخادمة النصرانية ويجعلها بين أبنائه وبناته، وإنما لا يتقي الله حتى في أولاد المسلمين، فيسمح لها بالذهاب إلى السوق لوحدها يوم الجمعة أو يوم الخميس، كاشفة بكل عهر، فما نصيحتكم لمثل هؤلاء، فو الله إن المسلم لا يخرج إلى السوق في كثير من الأحيان خشية من الوقوع في الحرام الذي قد عم وطم في هذه الأسواق؟
الجواب
الحقيقة أن الحرام يجر بعضه بعضاً قال تعالى: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14]، ولذلك الرجل الذي لا يبالي في أن يدخل في بيته امرأة نصرانية تربي أولاده سواء كانت مربية أو خادمة فإنهم يتأثرون بمخالطتها، وربما يفسدون معها وتفسدهم؛ لأن الله تعالى يقول: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} [النساء:27].
وهب أنها مسلمة فإنها مادامت ليست ذات محرم، وما دامت امرأة، ربما أنها بعيدة عن الإسلام، ولا تحمل الإسلام إلا هوية، فالأمر قصير جداً، لما وقع المسلمون داخل بيوتهم في هذا البلاء لم يعد غريباً أن يوزعوا الفساد على الناس؛ لأن الإنسان إذا فسد ذوقه، وفسدت فطرته، وانحرفت أخلاقه أو كاد لا بد أن يوزع هذا الفساد على الناس.
فالذي يحدث هو أن هؤلاء لما أصيبوا بهذه المصيبة الكبيرة، وجاءوا بنساء ليس لهن محارم داخل البيوت، وخلا بها الرجل أو خلا بها ولده أو ما أشبه ذلك، تعدى هذا الفساد فخرج خارج البيت، ولذلك فإننا نقول: فتنة ومصيبة وبلية لا تقل عن الفتنة داخل البيت، لكن أظنها أيضاً حتى داخل البيت خطيرة؛ لأن هناك داخل البيت خلوة، وهناك نوماً، وهناك ليلاً طويلاً، وهناك ظلاماً، وهناك خروجاً، وهناك بقاء رجال بدون محارم مع هذه المرأة، فالأمر خطير سواء كان من هذا الجانب أو من جانب آخر، أي: حتى ولو كانت امرأة مسلمة ما دامت ليس معها زوج أو محرم يحميها ويحافظ عليها.(10/26)
حكم خلوة السائق بامرأة أو مجموعة من النساء
السؤال
ما رأيك فيمن تركب في سيارات الأجرة، بل وتستأجرها طيلة الدراسة، يذهب بها ذلك السائق إلى المدرسة ويعود بها، ومحرمها يذهب إلى وظيفته؟
الجواب
هذه المسألة لا تخلو من ثلاث حالات: إما أن تذهب معه سفراً فهذا محرم في كل حال من الأحوال؛ لأنه (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا ومعها ذو محرم) ولا تظنوا أن السفر هو المشاوير الطويلة، السفر عند بعض العلماء ولو خرجت خارج المدينة يعتبر سفراً في نظر هؤلاء، فهذا لا شك أنه سفر بدون محرم.
أما إذا كان داخل البلد وهي منفردة، فلا خلاف بين العلماء في التحريم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما)، وقال: (إياكم والدخول على النساء)، وهذا شيء يتصور بالعقل، امرأة شابة عندها دوافع وشهوة كغيرها من النساء، ومع هذا ربما يكون السائق شاباً، أو هب أنه متزوج وهي معها رجل ربما يكون أجمل من زوجها، وتهواه أكثر من زوجها، والمسألة خطيرة مهما يكن، ولذلك الرسول قال: (رجل وامرأة) أياً كان هذا السائق، وأياً كانت هذه المرأة، أي: وحتى لو كانت امرأة عجوزاً، فمادامت المسألة خلوة فالتحريم موجود.
بقينا في موضوع المجموعة داخل البلد: فهذا هو موضوع الخلاف، هذا الموضوع هو الذي لا نستطيع أن نقول: إنه محرم، حينما يكون داخل البلد وهي مجموعة نساء لا ينفرد بواحدة منهن، لكن الأمر أيضاً فيه شيء من الخطورة؛ لأنه ربما تنزل هذه البنات وتبقى واحدة مع هذا السائق فتأتي الخلوة فيكون خطراً.
على كلٍ: التعليم والتعلم والعمل ليس فرض عين على البنات والنساء، حتى نقول: هذا أصبح أمراً ضرورياً، إن استطعت أن تذهب بابنتك أو بزوجتك إلى المدرسة، وإلا فالأمر ليس أمراً إجبارياً حتى تضطر إلى أن تذهب بها مع السائق، فالأمر خطير، وكذلك الذهاب للسوق، وكذلك العمل، فالأمر إذا استطعت يا أخي أن تذهب بها بنفسك فافعل، وإذا عجزت فلا يجوز لك، وكيف تقر عينك وكيف يلذ لك النوم في فراشك وابنتك مع سائق؟ كيف تذهب إلى وظيفتك وابنتك مع سائق يذهب بها ويأتي بها؟ هذه محارمك يا أخي، وهذا شرفك وعزتك وكرامتك، أظنك لو وقعت بنتك في محرم من المحرمات التي تخشاها لأصبحت تضرب يداً بيد وأنت لا تملك الخلاص، أنت الآن تملك الخلاص وعليك أن تتقي الله عز وجل.(10/27)
كيفية حماية المرأة من الهجمة الشرسة ضدها
السؤال
إن المرأة المسلمة تتعرض في هذه الأيام، بل وقبل هذه الأيام لحملة شرسة من أعداء الإسلام، لم تتعرض لمثل هذه من قبل، سواء من حيث البث المباشر أو من طريق الصحافة المستأجرة أو المجلات التي تنوعت أشكالها وتعددت أسماؤها كمجلات وغيرها حتى يحار المتتبع لها من كثرتها، وبروز أسماء جديدة بين فترة وأخرى توحي بأن وراء الأكمة ما وراءها، أفلا من وسيلة وعملية يمكن بها محاربة هذا السيل العارم من الفساد؟
الجواب
أولاً: لا تتعرض لها المرأة المسلمة، وإنما تتعرض لها المرأة المسلمة الضعيفة الإيمان، أما المرأة المسلمة القوية فعندها حصانة، لن تتعرض لهذه الفتن أبداً، فعندها حصانة وهي ألا ترفع رأساً بهذه الأمور كلها؛ لأن الله عز وجل قد حفظها بحفظه، وكلأها بعين رعايته، لكن المجتمع في الحقيقة كله يتعرض لهذه الفتنة.
وطريقة الخلاص هو أن نحصن بيوتنا نحن الرجال، ونحفظ أهلينا ومحارمنا من هذه الأشياء التي ذكرها الأخ السائل كلها، فلا نحتاج إلى بث مباشر، ولا نسمح لأهلينا باقتناء الآلات التي تجلب لنا البث المباشر؛ لأن الدولة لم تجبرنا على ذلك، وإن كان الأمر أصبح قريباً من الإجبار حينما أصبح موضة عصرية.
وكذلك بالنسبة للمجلات والصور، وما أشار إليه الأخ السائل، فنحن في الحقيقة لسنا مجبرين على هذا الأمر؛ لكن الأمر يتطلب حزماً من الرجل المؤمن، الذي يخشى الله عز وجل في هذه الأمانة، ثم يتطلب بعد ذلك حزماً آخر، وإيماناً بالله عز وجل من تلك المرأة المسلمة، التي تخشى الله عز وجل حتى لا تقع في هذه الأمور المحرمة.
المهم أيها الإخوة! البث المباشر وما قبله وما بعده وغيره، كل ذلك لا يفتن به إلا من في قلبه مرض، أما الرجل المؤمن الصحيح فإنه يقف على باب بيته، يحول بين داره وبين هذه المحرمات كلها، وحينئذ لا يمسه سوء من هذه الأشياء كلها.(10/28)
بيان معنى الإرجاف
السؤال
بعض الشباب العابثين الذين يستدرجون النساء عن طريق الهاتف، هل هم من المرجفين في المدينة؛ لأنهم يستغلون ضعف المرأة ويستجرونها خطوة خطوة حتى يوقعوها في الفاحشة؟
الجواب
الحقيقة أن الإرجاف معناه إشاعة الفاحشة أياً كان نوع هذه الفاحشة، فإذا سمعوا خبراً أشاعوه، وإذا رأوا أي وسيلة من وسائل الفتنة أشاعوها حتى تنتشر في المجتمع، وكذلك الأخبار يروجونها من أجل أن يفسدوا المجتمع، وعلى هذا نقول: إن الذين يتعاطون التلاعب في أجهزة الهاتف، والذين يتصلون بالبيوت التي لا صلة لهم بها ولا حق لهم في هذه البيوت، هم أيضاً نوع من هؤلاء المرجفين في المدينة.
وعلى هذا نقول: إن الرجل المؤمن يستطيع أن يحصن بيته فيعلمهم كيف يتعاملون مع الهاتف، وكيف يتعاملون مع أجهزة التسجيل، وكيف يتعاملون مع كل شيء، وإذا استطاع أن يرسم الخطة السليمة لهذا البيت فإنه لا يبالي بعد ذلك بما يحدث في هذا البيت.
المهم أن تربى هذه المرأة تربية صالحة ابتداء من اختيار المرأة الصالحة.(10/29)
من إحصان المرأة الزواج المبكر
السؤال
أليس من إحصان هذه المرأة أن يختار لها زوج صالح، وتزوج ولو كانت في السادسة عشرة من عمرها؟
الجواب
الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج)، والشباب يدخل فيه الذكور والإناث، والبلوغ هو سن الزواج، وعائشة رضي الله عنها تزوجها وبنى بها وهي بنت تسع سنين.
إذاً: معنى ذلك أن الذين يغالون في أمر سن المرأة اليوم، ولا يريدون أن يزوجوها إلا في سن معينة هم يخطئون في هذا المجتمع، كما يخطئ الذين لا يزوجونها إلا بعد أن تكمل سن التعليم، لاسيما وأن سن المرأة محدود أكثر من الرجل.
كذلك أيضاً ندعو الشباب الذين يبلغون سن البلوغ إلى أن يتزوجوا، فإن هذا كله داخل في قوله صلى الله عليه وسلم: (من استطاع منكم الباءة فليتزوج)، وإني أنصح كل امرأة أن تعتبرها فرصة من الفرص، حين أن يتقدم لها رجل صالح يتحمل مسئولية هذه الفتاة، وحتى يخرج الأب من المسئولية.(10/30)
حكم عرض الملابس الداخلية للنساء
السؤال
مما لا شك فيه أن ما يحدث من بعض أصحاب المحلات من عرض الملابس الداخلية للنساء أمام الرجال أن في ذلك فتنة عظيمة، فما هي نصيحتكم لأصحاب هذه المحلات الذين يحتج أكثرهم بأن البضاعة لا تمشي إلا إذا وضعت بهذا الشكل؟
الجواب
الصحيح أن عرضه أمام الرجال وعرضه أيضاً أمام النساء فتنة، الملابس التي تكون داخل جسد المرأة، والتي تلبسها المرأة على جسدها داخل ثيابها، نشرها أمام الرجال والنساء فتنة، ولذلك نقول: عند الحاجة يخرجها الرجل، وأيضاً: عند بيعها لا يدخل ذلك في زيادة كلام أو مفاهمة في مقاس أو ما أشبه ذلك؛ لأن ذلك كله يعتبر نوعاً من الإثارة سواء كان للرجل أو المرأة.
إذاً: بيعها يعتبر من باب الضرورة والحاجة الملحة، وعلى الرجل ألا يبرزها أمام الرجال، ولا أمام النساء، ولكن عند الطلب يبرزها ويكون البيع بأدب في مثل هذه الأمور، لأنني أسمع أناساً يستغلون فرصة بيع الملابس الداخلية، بحيث يستطيع أن يعرف حجم جسدها الداخلي من خلال هذه الملابس الداخلية.(10/31)
حكم ارتداء المرأة للنقاب
السؤال
لقد كثرت ظاهرة النقاب، وإنني أجد بعض الحضور يترك أهله يرتدون هذا النقاب، فلا تكاد تقف عند إشارة في سيارتك إلا وتشاهد المتنقبات سواء مع السائقين أو محارمهن، وحجتهم في ذلك بعض الفتاوى التي سمعوها، وقد يكونون لم يفقهوها واحتجوا بها، فما رأيكم يا فضيلة الشيخ، علماً أنها تظهر أكثر من نصف الوجه؟
الجواب
النقاب يخرج أجمل ما في المرأة وهي العيون، وأنتم تعرفون أن الشعراء القدامى كانوا يتغنون بعيني المرأة، فالعينان هما أجمل ما في المرأة، ولربما تكون المرأة دميمة، لكنها جميلة العينين، ولذلك فإن إخراج العينين مع تغطية بقية الوجه لا يقل خطراً عن السفور إن لم يكن أكثر خطراً من السفور في بعض الأحيان، وعلى هذا فإن الله عز وجل أمر بإخفاء الزينة عموماً، فقال: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ} [النور:31]، إذاً: العينان أعظم أنواع الزينة، فلا يجوز إبداؤهما لغير من أباح الله الإبداء لهم.(10/32)
نصيحة للائي يكرهن التعدد من أزواجهن
السؤال
هل من كلمة للنساء اللاتي يكرهن أن يتزوج الزوج بزوجة ثانية، علماً أن المجتمع فيه كثير من العوانس والمطلقات، بل إن بعض النساء تقول: إذا أردت الزواج فطلقني، وبعضهن من الملتزمات، بل وبعضهن قد تتلفظ بألفاظ قد تخرجها من الإسلام، حينما تقول: أن تزني أحب ألي من أن تتزوج مرة أخرى؟
الجواب
إن هذا الموضوع طويل، ويحتاج إلى درس طويل، ويكفي أن الله عز وجل هو الذي أباح التعدد قال تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3]، ومن كره أمراً من أوامر الله فعليه خطر من الردة عن الإسلام، ولذلك بعض الناس الآن ينكرون التعدد نعوذ بالله، فهؤلاء مرتدون بلا خلاف بين علماء المسلمين.
أما المرأة فبطبيعتها الفطرية لا تلام، لأنها ترغب بأن تستقل برجل منفرد دون أن تشاركها امرأة أخرى، هذه فطرة لا تلام المرأة عليها في الأصل، لكنها عليها أن تنظر إلى وضع المجتمع، وأن الله سبحانه وتعالى أباح التعدد لمصلحة وحكمة.
ثم لا تكون هي أنانية بحيث تشعر بحاجتها ورغبتها ومصلحتها، ولا تفكر في حاجة النساء الأخريات، الله تعالى الذي أباح التعدد إلى أربع نساء هو الذي خلق البشر ويعلم عددهم، ويعلم ما سيحدث في المستقبل، لو نظرنا عدد النساء بالنسبة لعدد الرجال، لوجدنا أن عدد النساء في كثير من بلاد العالم يساوي أضعاف عدد الرجال، والرجال يتعرضون لفتن وحروب ومصائب، كما أن النساء تتعرض لأمراض تعطلهن عن الاستفادة منهن، وعن التمتع، والتمتع مقصود بين الرجل والمرأة.
وعلى هذا فإننا نقول: على المرأة المسلمة إذا فكر زوجها بالزواج أن تحتسب الأجر من الله تعالى، وألا تمانع في هذا الأمر لأسباب أهمها أن هذا الزوج ما أقدم على هذا الأمر إلا من حاجة، ولربما تمنعه فينظر نظرات محرمة، وربما يفعل فعلات محرمة، ولربما يؤدي إلى طلاقها هي حينما لا ترتاح لتزوجه عليها؛ فيؤدي إلى هدم الأسرة وضياع الأولاد، وخير لها أن تعيش مع ربع زوج، أو ثلث زوج أو نصف زوج، من أن تعيش بدون زوج.
ولذلك فإن من حكمة الله عز وجل أنه ذكر التعدد قبل أن يذكر الإفراد، حتى إن بعض العلماء يرى أن التعدد سنة وليس برخصة؛ لأن الله تعالى ذكره قبل الإفراد، فقال: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3]، ثم لم يذكر الله عز وجل الإفراد إلا في حال الخوف، والقاعدة الشرعية تقول: (كل شيء ينهى عنه في حال الخوف فضده أولى في حال الأمن) أي: عدم الخوف، ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم اختار التعدد، بل كل المرسلين عليهم الصلاة والسلام اختار الله عز وجل لهم التعدد، بل إن الله سبحانه وتعالى أباح شيئاً من الميل من الزوج لإحدى زوجاته مقابل التعدد، فقال: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} [النساء:129].
إذاً: بعض الميل مباح، مع أن الميل بطبيعته محرم مع الزوجات، لكن لما كانت المصلحة تفرض التعدد، والميل يفرض نفسه في بعض الأحيان؛ أباح الله تعالى شيئاً من الميل.
على كلٍ: من أنكر التعدد فهو كافر مرتد، ومن كره التعدد فهو على خطر، والمرأة معذورة أن تكره التعدد بفطرتها، لكن عليها أن تتقي الله عز وجل ولتحبه باعتباره تشريعاً من تشريعات الله سبحانه وتعالى.(10/33)
حكم لبس المرأة الملابس الضيقة عند النساء
السؤال
هل يجوز للمرأة أن تلبس الملابس الضيقة أمام أخواتها من النساء، وإن كانت هذه الملابس الضيقة تبين معالم جسمها؟
الجواب
الله تعالى أباح أن تنظر المرأة إلى المرأة بشرط أن تكون الناظرة مسلمة، فقال تعالى: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} [النور:31]، ويقول المفسرون: المراد بها المرأة المسلمة، فالشيء الذي يجوز للمحارم أن ينظروا إليه يجوز للمرأة الأخرى أن تنظر إليه من المرأة إذا كانت مسلمة، أما المرأة الكافرة فإنها لا يجوز أن تنظر إلى شيء من جمال المرأة المسلمة؛ لأن الله تعالى قال: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} [النور:31].
وبهذه المناسبة ننصح المسئولين من وزارة الصحة في الدرجة الأولى، الذين جاءوا لنا بسيل كاسح من الممرضات الكافرات، والطبيبات الكافرات أن يتقوا الله تعالى، فإن هؤلاء الطبيبات ينظرن إلى أقصى عورات المسلمات وهن كافرات، نقول لمن في وزارة الصحة الذين لا يبالون بأن يأتوا بالكافرة أو المسلمة: اتقوا الله! بل لا أظن أن أحداً منهم يفكر أن يأتي بامرأة مسلمة، اللهم إلا إن جاءت بطريق التبع، وأخطر من ذلك ننصح الذين يأتون بالأطباء يعالجون النساء خصوصاً إذا كانوا كفاراً، وقد رأينا رجالاً كفاراً أطباء ينظرون إلى أقصى عورات المسلمات.
إذاً: الأمر خطير جداً يا إخوتي، إذا كانت المرأة الكافرة لا يجوز لها أن تنظر إلى زينة المرأة المسلمة فكيف أن تنظر إلى عورتها؟! فكيف ينظر إليها رجل وقد يكون هذا الرجل كافراً؟! إذاً نقول: نظر المرأة إلى ما يخرج غالباً من المرأة أمر مباح إذا كانت مسلمة، وأما إذا كانت كافرة فإن حكمها أنها لا تنظر من المرأة المسلمة إلا ما يخرج غالباً كالوجه وما أشبه ذلك، أما زينتها الداخلية فلا يجوز أن تنظر إليها امرأة كافرة.
والحمد لله رب العالمين!(10/34)
صفات المؤمنين
لعباد الرحمن صفات ذكرها الله عز وجل في كتابه، وبينها رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، وما ذلك إلا لنعمل بها، فهم الذين أصلحوا ما بينهم وبين الله عز وجل، وأصلحوا ما بينهم وبين الخلق، فامتثلوا أوامر الله، واجتنبوا محارمه، وتحلوا بمكارم الأخلاق، وجميل الخصال ومحاسن الفعال، واجتنبوا ضد ذلك من مساوئ الأخلاق وسفاسف الأمور، ولهذا مدحهم الله عز وجل، ورفع منزلتهم في الدنيا والآخرة.(11/1)
بين يدي آيات من سورة الفرقان
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب عليه، ونثني عليه الخير كله، ونشكره ولا نكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله ومن دعا بدعوته وعمل بسنته ونصح لأمته إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن الآيات التي في آخر سورة الفرقان تتحدث عن صفات عباد الرحمن، وسورة الفرقان من أولها إلى هذا المقطع تتحدث عن الكافرين ومواقفهم ضد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا} [الفرقان:35]، ثم قال الله عز وجل بعد ذلك: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا * وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا * وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا} [الفرقان:37 - 39].
ثم ذكر الله عز وجل كثيراً من جرائمهم ثم قال: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:44].
ثم ذكر الله عز وجل أدلة قدرته وأدلة وحدانيته التي أصبح واقع هذه البشرية يخالفها، وكان المتوقع أن هذه البشرية تعرف ربها سبحانه وتعالى، لكن أغلبها بخلاف ذلك، فذكر كثيراً من أدلة وحدانيته سبحانه وتعالى فقال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا * ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} [الفرقان:46 - 47]، إلى أن قال سبحانه وتعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان:61 - 62].
إذاً: الآيات التي سبقت هذه الآيات تتحدث عن الكافرين وعن مواقفهم من المرسلين عليهم الصلاة والسلام، وعن نهايتهم التي جعلها الله عز وجل نهاية كل مجرم وطاغوت، ثم إن الله عز وجل بين الأدلة الواضحة التي وضعها في الآفاق وفي الأنفس وفي السماء وفي الأرض لتكون أدلة واضحة تهدي هؤلاء البشر إلى الله عز وجل، فذكر الآيات التي آخرها: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان:62].
وبالرغم من الكفر والعناد العظيمين اللذين خيما على الأرض طيلة هذه الحياة الطويلة فإن لله عز وجل عباداً عرفوه حق المعرفة، أي: أن هذه الآيات التي في آخر السورة يختلف أصحابها اختلافاً كثيراً عن القوم الذين ذكر الله عز وجل أخبارهم في أول سورة الفرقان، فهناك أقوام عرفوا الله عز وجل من خلال الآيات في الآفاق والأنفس، فعرفوا الله، فأصبحوا عباداً لله لا عبيداً فقط؛ لأن هناك فرقاً بين (عبيد) و (عباد)، فلفظ العباد غالباً يطلق على المطيعين لله عز وجل، أما لفظ (عبيد) فهو من العبودية، فتطلق على كل مخلوق من مخلوقات الله عز وجل استعبده الله سبحانه وتعالى، فالناس كلهم عبيد لله رضي منهم من رضي بهذه العبودية وكره منهم من كره.
ومن هنا ندرك الفرق بين (عبيد) و (عباد): فلفظ (عباد) يُطلق غالباً على الملتزمين بأمر الله عز وجل، أما كلمة (عبيد) فإنها تطلق على عامة الخلق، ولذلك الله تعالى يقول عن هؤلاء الخلق يوم القيامة: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم:93]، وهذا في الآخرة، أما في الدنيا فالكل عبيد الله ساجدون لله رضوا أم أبوا، كما قال سبحانه: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الرعد:15]، وقال: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [الجمعة:1]، وقال: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44]، حتى الكافر المعاند العاصي لله عز وجل ولرسله عليهم الصلاة والسلام هو ما زال عبداً لله سبحانه وتعالى مستعبداً لله، فالخلق كلهم عبيد، ولكن هناك خلاصة العبيد وهم العباد، أي: الذين عرفوا الله عز وجل من خلال الآيات في الآفاق والأنفس، وأدركوا قدرته، وأدركوا وجوده، وأدركوا وحدانيته، فما عبدوا غير الله عز وجل، فأصبحوا عباداً لا عبيداً، وهذا هو الفرق بين (عبيد) و (عباد).(11/2)
عباد الرحمن وأوصافهم
أما عباد الرحمن قد ذكر الله تعالى صفاتهم العظيمة وأثنى الله عز وجل عليهم، فهم الذين نظروا إلى هذه الحياة الدنيا نظرة ازدراء واحتقار، وجعلوا ملء قلوبهم الحياة الآخرة وخشية الله سبحانه وتعالى، ورفضوا زينة الحياة الدنيا الحرام مكتفين بالزينة الحلال وبما أباح الله عز وجل لهم، فيقول الله تعالى عن عباده: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان:63 - 64] إلى قوله تعالى في جزائهم: {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} [الفرقان:75]، فـ (عباد): مبتدأ، وخبر المبتدأ (أولئك يجزون الغرفة بما صبروا).
إذاً هذه هي صفات العباد، وعلى كل واحد من المسلمين أن يصيخ بأذنه، وأن يصغي بقلبه ليعرف صفات عباد الرحمن، لعلَّ الله عز وجل أن يوفقه إليها أو إلى الكثير منها، فيكون عبداً لله عز وجل يستحق العبودية بمعناها الصحيح التي تُعتبر شرفاً وكرامة؛ لأن العبودية لابد منها، ولكن إما أن تكون لله وإما أن تكون للمخلوق، فإذا كانت العبادة لله عز وجل حررت الإنسان من العبودية لغير الله سبحانه وتعالى، وإذا تحرر هذا الإنسان وحاول التجرد والتملص من العبودية لله سبحانه وتعالى يقع في عبادة المخلوقين، كما قال ربعي بن عامر رضي الله عنه مندوب سعد بن أبي وقاص إلى الفرس حينما قال له رستم: ما جاء بكم؟ فقال: إن الله عز وجل قد ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله عز وجل وحده.
ولذلك تجد في القرآن عبيداً لغير الله كثيرين، عبيداً للمال، وعبيداً للهوى، وعبيداً للشهوة، كما قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23]، وعبيداً للشيطان، كما قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يس:60] فهناك عبيد للمال، كما قال عليه الصلاة والسلام: (تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة)، وهناك عبيد للشهوات، وعبيد للمراكز، وعبيد للخلق أيضاً، فالإنسان إذا تجرد من عبادة الله عز وجل والعبودية لله يقع في العبودية لغير الله سبحانه وتعالى، وإذا تعمق في العبودية لله عز وجل تخلص من العبودية للمخلوقين، ولذلك تعتبر العبودية لله عز وجل هي الشرف، كما قال الفضيل بن عياض: ومما زادني شرفاً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا يقول: لما قلت لي: (يا عبد) جعلني هذا اللقب اعتز حتى تطاولت كثيراً، وارتفعت حتى كدت أطأ الثريا بأقدامي؛ لأني دخلت تحت العبودية لله عز وجل.
وعلى هذا نقول: من شاء أن يكون عبداً لله فليتحرر من العبودية للمخلوق كائناً من كان، ومن شاء أن يقع تحت وطأة العبودية لخلق الله فإنه هو الذي يتحرر عن العبودية لله عز وجل وحده.(11/3)
التواضع والخضوع لله عز وجل
عباد الرحمن أولى صفاتهم: {الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان:63].
والآية (يمشون على الأرض هوناً) لها عدة معانٍ، وكل هذه المعاني تجتمع في معنىً واحد وهو الخضوع لله عز وجل، فالمتكبرون هم الذين يزعمون أنهم يطاولون الجبال أو يخرقون الأرض بأقدامهم، وإذا ساروا ساروا وهم يضربون الأرض ضرباً من شدة الخيلاء الذي أصابهم، وما مشوا على الأرض هوناً وإنما مشوا متكبرين متغطرسين مترفعين على الله عز وجل وعلى خلق الله، وهم الذين يسعون بالفساد في الأرض، ويريدون أن يبذروا بذور الفساد في الناس، ويريدون أن ينشروا في المجتمع الجريمة، وضياع الأخلاق الكريمة، والمذاهب والأفكار المنحرفة التي تتنافى مع دين الله عز وجل ومع المبادئ القويمة التي جاء بها دين الإسلام، وهم الذين يسيرون إلى معصية الله من معصية إلى معصية ومن فاحشة إلى فاحشة، ولا يسيرون على الأرض هوناً، ولا يمشون على الأرض هوناً، وإنما يسيرون مفسدين في الأرض معاجزين لله عز وجل، ولذلك فإن من صفات عباد الرحمن أنهم يمشون على الأرض هوناً.
وهناك فرق بين المشي والسعي، ولذلك نلاحظ أن كلمة (المشي) تأتي للسير لطلب الرزق الحلال، أما السعي فإنه يأتي لطلب الحسنات، ولذلك لا تجد في القرآن ولا في السنة الأمر بالسرعة للحياة الدنيا، وإنما تجد هذا المعنى بألفاظ متكررة متعددة لطلب الحياة الآخرة، فمثلاً: لما ذكر الله عز وجل البحث عن الرزق قال: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك:15]، لكن حينما ذكر الله عز وجل السعي للحياة الآخرة لا تجده بلفظ المشي وإنما بلفظ السرعة أو السعي أو الاستباق أو المسابقة، كما قال سبحانه: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148]، وقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [الأنبياء:90]، وقال: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9]، وقال: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران:133]، وقال: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الحديد:21]، إلى غير ذلك من الأدلة.
إذاً نقول: القاعدة أن الإنسان في طلب الحياة الدنيا عليه أن يمشي مشياً في هذه الأرض بتؤدة وتأنٍ ويقين بالله عز وجل وثقة برزقه، ويعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له من رزق الحياة الدنيا، وليس معنى ذلك أن الإنسان عليه أن ينام ليأتيه الرزق في قعر بيته، ولكن عليه أن يمشي مشياً في هذه الأرض يبتغي رزق الله عز وجل الحلال؛ لأنه حينما يسعى سعياً وحينما يركض ركضاً للحياة الدنيا لن يصيب منها إلا ما كتب الله عز وجل له، إضافة إلى أنه ربما يقع فيما حرم الله من المعاملات المحرمة من الربا ومن الأمور العظيمة التي يقع فيها كثير من الناس، ولذلك الله عز وجل تكفل برزق كل كائن حي في هذه الحياة، حتى الحشرة وهي في جوف صخرة لابد من أن يصلها نصيبها من رزق الله عز وجل، كما قال سبحانه وتعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود:6]، فكم من حشرة صغيرة في صخرة في جوف البحر أو في قعر جبل لا ينقطع رزقها عنها أبداً! لأن الله تعالى تكفل بذلك! إذاً الإنسان ذو العقل الذي كرمه الله عز وجل به هو أولى أن يدرك رزقه، فالله تعالى قد كرمه على كثير ممن خلق تفضيلاً، ولذلك الله تعالى يقول: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء:70].
فالمشي المراد به السير بتواضع لا بخيلاء، المشي بتؤدة، المشي لطلب الرزق الحلال، وعدم مسابقة الزمن للبحث عن المال الحرام، وإنما البحث عن الرزق الحلال في مظانه، وترك الكسب الحرام، فلا تكبر ولا خيلاء، ولا سعي في معصية الله عز وجل، وهنا يكون الإنسان قد تقيد بأمر الله عز وجل.
وقوله سبحانه: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان:63] ليس معناه الذلة كما يتصوره بعض الناس؛ فالمسلم مطالب بأن لا يكون ذليلاً، وأن لا يحني رأسه لغير الله عز وجل، أن لا يطأطأ ظهره لغير الله سبحانه وتعالى، فلا يركع ولا يسجد لغير الله عز وجل، فالهون معناه ليس من الهوان، وإنما هو من التأني، وليس معناه -أيضاً- التماوت في المشية كما نشاهده على طائفة من المتدينين اليوم، فإننا قد ابتلينا في زمننا الحاضر بقوم تدينوا على غير بصيرة، فتجدهم يعيشون حياة الذلة، وإذا مشى أحدهم تجده يمشي بذلة وباستكانة، وكأن هذا من التواضع، وهذا ليس من الدين في شيء؛ فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مشى كأنما ينصب من مكان مرتفع، وليس معنى ذلك أنه يذهب هيبة نفسه حينما يمشي ركضاً، وإنما عليه أن يكون وسطاً بين الذلة التي فهمها بعض الناس أنها تواضع ومسكنة لله عز وجل وهي ليست من الدين في شيء وسط بين ذلك ورفع الرأس لغير الله عز وجل والتطاول على خلق الله سبحانه وتعالى.
إذاً قوله تعالى: (عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا) أي: بتؤدة وتأنٍ لا يصل إلى درجة الذلة والهوان.
فهذا هو معنى قوله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان:63].(11/4)
الإعراض عن السفهاء والجهلة
من صفات عباد الرحمن: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63].
والجاهل هو الذي لا يتصور عواقب الأمور ولا يفكر.
وقوله: (قالوا سلاماً) يحتمل أمرين: يحتمل أنهم يسلمون على هذا الجاهل، ولنا ملحوظة على هذا المعنى؛ فإن السلام على غير المسلم لا يجوز، كما قال عليه الصلاة والسلام: (لا تبدءوا اليهود ولا النصارى بالسلام، وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه)، وذلك أيضاً لا يعني أن نؤذي غير المسلمين في بلاد الإسلام، ولكن ذلك يعني أن لا نرفع رءوسهم -أيضاً- في بلاد الإسلام، حتى لا يترفعوا على إخواننا المسلمين، فبدء اليهودي والنصراني والكافر أياً كان بالسلام لا يجوز، ولكن حينما يسلم ونتأكد من أنه يسلم السلام الحقيقي نرد عليه، وإذا كان عندنا شك في ذلك فنقول: (وعليكم) كما كان اليهود يقولون للرسول صلى الله عليه وسلم وللصحابة: السام عليكم، والسام معناه الموت والهلاك.
وعلى هذا نقول: إن قوله تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63] يعني: يسلمون إذا كان الجاهل مسلماً.
أما إذا كان غير مسلم فلا يجوز، هذا المعنى.
ويمكن أن نحمل هذه الآية على معنىً آخر، وهو أنهم يقولون: (سلاماً)، أي: يقولون قولاً سلاماً.
أي: لا يردون على الجاهل بجهله، فإذا شتمه إنسان يدعو له، وإذا أساء إليه إنسان يحسن إليه، وإذا رأى منه جفاءً يريه من نفسه ألفةً ومحبة إذا كان مسلماً؛ لأن الله تعالى ذكر صفات المسلم فقال: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54]، وعلى هذا نقول: معنى (سلاماً) أي: قالوا قولاً سلاماً.
والقاعدة التي جاء بها الإسلام للقضاء على الأحقاد والأضغان في المجتمع هي رد السيئة بالحسنة، فإذا أساء إنسان إلى إنسان فعلى من أسيء إليه أن يقدم حسنة بدل هذه الإساءة، وهذه الحسنة التي يقدمها ذلك الإنسان الذي أسيئ إليه تعتبر علاجاً للأدواء الاجتماعية التي عجز علماء الاجتماع عن علاجها، فإنه حينما يشتمك وتدعو له وحينما يؤذيك جارك بأذى فتقدم له الإحسان سوف يخجل، وحينما تسمع كلمة نابية سيئة من إنسان مسلم وتقدم له كلمة حسنة تقابل فيها هذه الكلمة السيئة سوف تجد ذلك الإنسان الذي أساء إليك يندم على ما قدم من إساءة، ويحاول أن يتقرب إليك، وهذا العلاج هو ما أشار الله عز وجل إليه بقوله: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34]، فالعدو لك إذا أحسنت إليه وقابلت العداوة بالصداقة وقابلت الأذى بالإحسان تتغير صفاته، وحينئذٍ يقدم لك الإحسان، فيصبح كما قال الله عز وجل: {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34]، لكن تحمل هذا الأمر والإحسان إلى من أساء لا يطيقه إلا إنسان قوي الشكيمة صبور يريد أن يحبس نفسه على طاعة الله من أجل أن يكسب رضا الله تعالى، ثم بعد ذلك يكسب رضا الناس، ولذلك الله تعالى يقول: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35]، وأنا متأكد من أن الجيران الذين تفسد علاقات بعضهم مع بعض والأصدقاء الذين تفسد علاقاتهم فيما بينهم -بل والأقارب والعشيرة الذين تفسد ذات بينهم- أكثرها بسبب أن أحدهم إذا أساء إلى إنسان منهم قدم إساءة أكبر أو مماثلة من أجل أن ينتقم، وحينئذٍ تستمر هذه العداوة.
فحينما يشتمك فتشتمه، ويسيء إليك فتقدم إليه إساءة أكبر، ويمكر بك فتمكر به حينئذ تستمر هذه النار تلتهم فتهلك الحرث والنسل، وتفسد العلاقات بين الناس لاسيما بين الأقارب، وهذا هو ما يحدث كثيراً في أيامنا الحاضرة.
وهناك سؤال يطرح نفسه في هذا الأمر، وهو أننا نجد أن الله عز وجل في سورة الشورى مدح الذين ينتقمون إذا أسيء إليهم فقال سبحانه وتعالى في صفات المؤمنين: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى:39]، وبعدها قال: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:40]، فكيف نستطيع أن نجمع بين هاتين الآيتين؟ هل إذا أساء إليك إنسان تحسن إليه فتأخذ بقول الله تعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى:43]، وقوله: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63]، أو تأخذ بالجزء الآخر من الآيات وهو قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى:39]؟ يشكل هذا الأمر على كثير من الناس، ولكن نستطيع أن نقول: إن الأمر لا يخلو من إحدى حالتين: فإذا كانت الإساءة غير مقصودة من مسلم، وكانت هناك هفوة وكانت هناك زلة فكانت هناك كلمة إساءة إليك فعليك أن تتقبلها بصدر رحب، وأن تعفو عمن أساء إليك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً)، وهذا هو الذي أثنى الله عز وجل عليه بقوله: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63]، وقوله: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:40].
أما إذا جاءت الإساءة للحط من شأن مسلم من المسلمين، أو كانت إساءة إلى الأمة الإسلامية، فكانت مقصودة متعمدة من أجل الحط من إنسان مسلم وتحقيره وأذيته، لاسيما إذا جاءت من أعداء الإسلام، أو كان الهدف من ورائها الحط من الأمة الإسلامية ففي مثل هذه الحال لا يجوز العفو؛ لأن العفو يعني الذلة والمهانة من الأمة الإسلامية أو من المسلم حينما يستسلم لعدوه، ولذلك الله تعالى مدح الذين ينتقمون إذا أصابهم البغي، وكلمة (البغي) تعطينا المعنى الفارق بين العمد وغير العمد، بين من أراد أن يذل مسلماً أو يذل الأمة الإسلامية ومن هفا وأخطأ، فعلينا أن نتحمل هفوته وخطأه، فالله تعالى قال في باب المدح: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى:39]، فالانتصار للأمة الإسلامية ولدين الله عز وجل أمر مطلوب، أما الانتصار للنفس فإن العفو أفضل منه.(11/5)
قيام الليل
ويقول الله عز وجل في صفات عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان:64]، ومعنى (يبيتون): يقضون الليل.
والسجود معناه وضع الوجه -وهو أعظم الأجزاء في الإنسان- على الأرض ذلة وخضوعاً لله عز وجل، ولذلك السجود يعتبر أفضل العبادات، كما دل على ذلك الحديث الذي رواه ربيعة بن كعب رضي الله عنه، قال: (كنت كل ليلة آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوئه)، والوضوء -بفتح الواو- الماء الذي يتوضأ به، (فجئته بوضوئه ذات ليلة، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: سل يا ربيعة! فقال ربيعة: قلت: يا رسول الله.
أسألك مرافقتك في الجنة، قال: أوغير ذلك يا ربيعة؟! قال: قلت: هو ذاك يا رسول الله! قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود)، فالسجود هو أعظم العبادات التي يتقرب بها الإنسان لله عز وجل، ولذلك أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالإكثار من الدعاء في السجود فقال: (وأما السجود فأكثروا فيه من الدعاء؛ فقمن -أي: حري- أن يستجاب لكم).
إذاً هؤلاء المؤمنون عباد الرحمن يقضون الليل ساجدين وقائمين لله عز وجل إذا أوى الناس إلى فرشهم وتمتعوا بالفرش الرقيقة وتمتعوا بالحسناوات من النساء ولذ النوم، وقد كان أحدهم يمسح بيده الفراش ويقول: والله إنك فراش لين رقيق، ولكن فراش الجنة ألين منك.
فيقوم راكعاً وساجداً بين يدي الله عز وجل، ودموعه تسيل على لحيته إلى الأرض من خشية الله عز وجل.
والعجيب أنه في هذه اللحظات التي تجد فيها ذلك الإنسان -لاسيما في جوف الليل الآخر حينما ينزل ربنا عز وجل إلى السماء الدنيا في ثلث الليل الآخر ويقول: (من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟) - تجد ذلك الإنسان فيها راكعاً وساجداً بين يدي الله عز وجل تجد أقواماً ما زالوا مكبين على المعصية وعلى البعد عن الله عز وجل، حتى في جوف الليل الآخر الذي ينزل فيه ربنا إلى سماء الدنيا!! إذاً هناك فرق بعيد بين عباد الله عز وجل وعباد الشهوات وعباد المعاصي والهوى والشيطان.
وهؤلاء الذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً ليس معناه أنهم يصلون الليل كله، فقد أرشد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قيام جزء من الليل وقال: (أفضل الصلاة صلاة داود)؛ لأنه كان ينام ثم يصلي ثم ينام؛ ينام نصف الليل، ثم يصلي ثلثه، ثم يرقد سدسه، فيخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن أفضل الصلاة هي صلاة داود عليه الصلاة والسلام.
ومعنى (يبيتون) أي: يقضون أكثر الليل.
وهؤلاء هم الذين يقول الله عز وجل عنهم: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [السجدة:16]، ومعنى (تتجافى) أي: تتنحى.
فكان أحدهم إذا وضع جنبه على الفراش كأن الفراش يرفض هذا الجنب؛ لئلا ينام، ليقوم يقضي شيئاً من الليل ركوعاً وسجوداً وقياماً لله عز وجل.
فما هو الفرق بين هؤلاء وبين أقوام يقضون الليل كله أو حتى الهجيع الأخير من الليل أمام الأفلام والمسلسلات والأغاني والمحرمات، وربما ما هو أكبر من ذلك، ثم إذا بأحدهم ينام ملء عينيه ولا يستيقظ إلا ضحىً، قد نام حتى عن صلاة الفجر، وهذا هو ما نخشاه على هذه الأمة في هذا الزمن الذي أرغد الله عز وجل عليها العيش فيه، وأتم عليها النعمة، ولذلك نجد فرقاً بعيداً في حالنا اليوم وحالنا منذ سنوات، فقد كنا منذ زمن لا يجد أحدنا لقمة العيش إلا وهو يكد النهار كله، لكن ما كان أحدنا يتخلف عن صلاة الفجر أبداً، بل كان منا الراكع والساجد في الثلث الأخير من الليل، فلما أتم الله علينا نعمته، وأرغد لنا في العيش، وفجر لنا الخيرات من وراء آلاف الأقدام، وأصبحنا ملوك الدنيا في بلادنا وداخل بيوتنا، وأصبح العيش رغداً، إذا بنا لا نجد في صلاة الفجر إلا النزر القليل من عباد الله عز وجل، فهذه مصيبة، وهذه بلية، وكم هم الذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً من بين الذين يصلون الفجر مع المسلمين؟ وما علم هؤلاء عظمة صلاة الفجر وأهميتها، نسو أن الله تعالى أثنى على صلاة الفجر في قوله: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء:78]، وما قال: (وقرآنِ الفجر) بكسر (قرآن)، والقاعدة النحوية أن يقال: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وقرآنِ الفجر.
لأن الواو عاطفة، لكن يقول العلماء: إن الله عز وجل قال: (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) أي أنه مقطوع عما قبله، أي: وأمدح قرآن الفجر.
أي: صلاة الفجر، لماذا؟ قال: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78]، ومعنى (مشهوداً) ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم: (تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار)، فقد جعل الله عز وجل لكل واحد ملكين في الليل وملكين في النهار يكتبون الحسنات والسيئات، ويجتمع الأربعة الملائكة في صلاة العصر وفي صلاة الفجر هبوطاً وصعوداً، فيصعد الذين كانوا فينا فيسألهم الله عز وجل: (كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون وفارقناهم وهم يصلون)، ولذلك نقول: إن صلاة الفجر هي أعظم الصلوات الخمس، فالله تعالى مدحها وسماها قرآناً فقال: (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ)؛ لأنها تطول فيها القراءة، فالقراءة في صلاة الفجر أطول من أي قراءة في صلاة أخرى، فمدح الله عز وجل صلاة الفجر، وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الملائكة تجتمع في صلاة الصبح وصلاة العصر.
إذاً: عار على مسلم أن يسهر أول الليل على معصية الله لينام في آخر الليل عن فريضة الله عز وجل، لينام في وقت ينزل الله عز وجل فيه نزولاً يليق بجلاله وكبريائه وعظمته إلى السماء الدنيا ويقول: من يدعوني؟ من يسألني؟ من يستغفرني؟ والناس نيام، ثم إذا بهذا النوم يمتد إلى أن تطلع الشمس، أو بعد طلوع الشمس، فتضيع صلاة الفجر التي يقول الله عز وجل عنها: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78].(11/6)
الدعاء بالسلامة والنجاة من عذاب جهنم
فقارن -يا أخي- بين هؤلاء وعباد الرحمن الذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً في الليل، فأحدهم يقوم فيقرأ السورة الطويلة، ويتململ بين يدي الله عز وجل ويحني ظهره لله عز وجل، والدموع تتساقط على الأرض من خشية الله، ويسجد ويضع أشرف أعضائه على الأرض خشية وذلة لله عز وجل، والعجيب أن هؤلاء بالرغم من خوفهم من الله عز وجل وعبادتهم الطويلة لله عز وجل يهجرون المنام؛ لأنهم يخافون من الآخرة، فاسمع إلى قول الله عز وجل عنهم: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ} [الفرقان:64 - 65] أي أنهم يخافون من النار.
فما هو موقف الذين يبيتون أمام الأفلام والمحرمات وأمام الفواحش والزنا والخمور والمصائب العظيمة والمخدرات؟! فهؤلاء يبيتون لربهم سجداً وقياماً ويقولون: (رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ) وأولئك البعيدون يبيتون على ما حرم الله، ولا يقولون: (رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ)، وكان المنطق أن يقول هذه المقالة الذين يبيتون عصاة لله عز وجل، لكن الحقيقة أن الذي يقولها هم الذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً؛ لأن الذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً هم الذين عرفوا الله سبحانه وتعالى من خلال قيام الليل، ومن خلال الخلوات في ظلمة الليل، فإذا أسدل الليل جنحه وأرخى أستاره قاموا خاشعين لله عز وجل، فعرفوا الله سبحانه وتعالى، وخافوا من عذابه، فإذا أنهوا عبادتهم قالوا: (رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ) أما أولئك فكما قال الله عز وجل عنهم: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة:67]، وقال: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر:19]، فهم في غفلة وأحدهم نائم يغط في نوم عميق لا يستيقظ إلا حينما يأتي ملك الموت ليجلس عند رأسه ليقبض هذه الروح، وحينما يأتي ملك الموت ليقبض هذه الروح من ذلك الجسد يقول: {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:99 - 100]، فيقال له: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100].
إذاً الذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً هم الذين يقولون: (رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ)، وهم الذين يخافون من جهنم، ويعتبرون جهنم أقسى عقوبة؛ لأنها غرامة لا تفارق الإنسان، كما لا يفارق الغريم غريمه، وإنما يطالبه حتى يأخذ حقه منه، فالنار تتابع هؤلاء حتى تأخذ حق الله عز وجل منهم.
وفي سورة المؤمنون ذكر الله عز وجل صفات عظيمة راقية للمؤمنين، ولما ذكرها قال عنهم عز وجل بعد ذلك: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون:60]، تقول عائشة رضي الله عنها: (قلت: يا رسول الله! {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون:60] أهم الذين يزنون ويسرقون ويفعلون الفواحش ويخافون؟ قال: لا يا ابنة الصديق، هم قوم يصومون ويصلون ويتصدقون ويخافون أن لا يتقبل ذلك منهم).
إذاً هناك فرق بعيد بين عباد الرحمن وعباد الشهوات، فعباد الرحمن بالرغم من طاعتهم لله عز وجل وبالرغم من هجرهم ألذ متع الحياة الذي هو النوم والمتاع الذي يكون على الفراش هم خائفون.
فيا أخي! أولى لي أنا وأنت حين فرطنا في كثير من أوامر الله عز وجل أن نخاف، وأن نكثر من قولنا: (ربنا اصرف عنا عذاب جهنم)، وأولى بذلك البعيد الذي أمضى حياته كلها في معصية الله عز وجل بعيداً عن طاعته يركب كل ما عن له وطاب ولذ من معاصي الله عز وجل ولا يقف عند حد من حدود الله، أولى به أن يقول: (ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراماً)، وذلك بعد أن يقدم الطاعة المطلقة لله عز وجل، والتوبة والإنابة قبل أن يحضر الأجل.
قال عز وجل: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان:65 - 66] أي: ساء من استقر بها، وساء من أقام بها، فهي مصيبة عظيمة لا تصيب إلا أعداء الله عز وجل، وهي أسوأ ما يعذب الله عز وجل به عباده، فقد ساءت مستقراً وساءت مقاماً.(11/7)
التوسط في الإنفاق
ثم يقول الله عز وجل عن عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان:67].
الإسراف: هو تعدي الحدود في النفقة.
لاسيما إذا كان ذلك في معصية الله عز وجل، والقوام: الإنفاق في طاعة الله عز وجل.
ولو أنفق الإنسان كل ماله فالإسراف أن ينفق ولو درهماً أو نصف درهم في معصية الله عز وجل، والقوام: أن ينفق ما ينفقه في طاعة الله سبحانه وتعالى.
إذاً عندنا نفقة في معصية الله عز وجل -سواءٌ أكانت قليلة أم كثيرة- فهي تدخل في باب الإسراف، وفاعلها من الذين لا يحبهم الله عز وجل، وعندنا أمر آخر وهو النفقة فيما يرضي الله سبحانه وتعالى، فهي طاعة لله عز وجل، ولا تدخل في باب الإسراف أبداً ولو أنفق الإنسان كل ماله، ولذلك جاء أبو بكر الصديق رضي الله عنه بماله كله ذات يوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعه في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بكر! ما تركت لأهلك؟ قال: تركت لهم الله ورسوله)، فدعا له الرسول صلى الله عليه وسلم بخير، وكعب بن مالك رضي الله عنه حينما أنزل الله توبته في قوله سبحانه: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة:118] جاء فقال: يا رسول الله! إن من توبتي أن أنخلع من مالي شكراً لله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك)، يقول العلماء في هذين الخبرين الصحيحين: أما الأول فإن أبا بكر رضي الله عنه يعرف عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم الجلد والصبر، فهو يتحمل شظف العيش، ويستطيع أن يتحمل كل شيء في ذات الله عز وجل، فقبل منه الرسول صلى الله عليه وسلم كل ماله، أما بالنسبة لـ كعب بن مالك فقد عرف منه الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لا يتحمل شظف العيش، فأمره أن يحتفظ بشيء من ماله، ويكفي أن يقدم جزءاً من ماله لله عز وجل شكراً لله سبحانه وتعالى.
أما الدرهم -ولو كان حقيراً تنفقه في معصية الله فإنه محرم، أما الإنفاق في المباحات فإذا وصل إلى درجة المبالغة فيدخل في قول الله تعالى: (يُسْرِفُوا)، أي أن الإسراف هو المبالغة ولو كان في بعض الأمور المباحة؛ لأن الله تعالى قد ذم قوماً فقال: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف:20]، فهذه صفة الكافرين يجب على المسلم أن يبتعد عنها حتى لا تكون صفة من صفاته.
إذاً: القوام -وهو قوام الحياة- يكون وسطاً بين الإسراف وبين التقتير، فالإسراف هو المبالغة في البذل، والتقتير هو البخل في البذل، فكما حرم الله عز وجل وذم الإسراف والزيادة في البذل ولو كان ذلك في المباحات فقد ذم الله عز وجل التقتير، والتقتير يشمل أموراً، منها: منع ما أوجب الله عز وجل من النفقات والزكاة والصدقات الواجبة إلى غير ذلك، ومن التقتير: البخل على النفس وعلى الأهل، بحيث يصبح ذلك الإنسان لا يؤدي ما أوجب الله عز وجل عليه تجاه نفسه وتجاه أهله وذويه الذين أمرهم الله عز وجل بالإنفاق عليهم، قال عز وجل: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7]، إذاً التقتير محرم وممنوع، كما أن الإسراف أيضاً محرم وممنوع، فلا يجوز للإنسان أن يبخل بما أوجب الله عليه، أما إذا وصل الأمر إلى البخل بالأمور الواجبة العظيمة كالبخل بالزكاة -نعوذ بالله- أو البخل في النفقات الواجبة؛ فإن هذا من أعظم المحرمات عند الله عز وجل، لاسيما إذا كان في الزكاة التي هي ركن من أركان الإسلام، قال عز وجل: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت:6 - 7]، وقاتل أبو بكر الصديق رضي الله عنه من منع الزكاة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (والله! لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، والله لو منعوني عقالاً -أو عناقاً- كانوا يؤدونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه).
إذاً معنى ذلك أن التقتير إذا وصل إلى البخل بما أوجب الله عز وجل فهنا يكون الوعيد الشديد، نسأل الله العافية والسلامة.
فالله تعالى قد توعد الذين يبخلون بالزكاة بأنه يُحمى على هذا المال في نار جهنم، ثم يكوى به الجنب والجبين والظهر، وكلما برد أعيد فأحمى في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة -وهو يوم القيامة- حتى يقضى بين العباد، ثم يرى مصيره إما إلى الجنة وإما إلى النار، والله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة:34 - 35].
فعلى المسلم أن يحسب كل ماله على رأس كل سنة مالية بالنسبة له؛ ليدفع ربع عشر هذا المال بعد أن يحصيه إحصاءً كاملاً، وبعد أن يخصم منه ما عليه من ديون، ثم بعد ذلك عليه أن يؤدي ربع عشر هذا المال، وهذا الذي يقدمه هو الذي يقربه إلى الله عز وجل يوم القيامة، ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (داووا مرضاكم بالصدقة، وحصنوا أموالكم بالزكاة، وادفعوا أمواج البلاء بالدعاء والتضرع).(11/8)
اجتناب الشرك بالله جل جلاله
ثم قال تعالى في صفات عباد الرحمن {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الفرقان:68].
أي نوع من أنواع الآلهة يُدعى من دون الله فهذا هو الشرك الأكبر، وهذه الآلهة كما نعرفها أنواع، ويظن بعض الناس أن الآلهة التي تُعبد من دون الله هي الأصنام، كالأصنام التي وضعها المشركون في الجاهلية، ونسوا أن عبادة الأصنام تتنوع في كل عصر وفترة، ففي أيامنا الحاضرة جاءت عبادة الأضرحة، وما يُسمى بالأولياء والصالحين، حتى بلغت عدد الأضرحة التي تُعبد في أيامنا الحاضرة ما يزيد على عشرين ألف ضريح! وكلها تعبد من دون الله تعالى، ويحج لها الناس من جميع بلاد العالم، ويتقربون إليها بالقرابين، ويذبحون حولها الذبائح، ويطوفون حولها، ويركعون ويسجدون ويخشعون ويتضرعون لها من دون الله عز وجل، وهذا نوع مما يعبد من دون الله.
وهناك آلهة أحياء تعبد من دون الله، وهذه لا تقل مصيبتها عن الآلهة السابقة، فكم من البشر من وضع نفسه إلهاً يشرع للناس، ويأتي بقوانين وأنظمة ليست من شرع الله عز وجل بشيء، ثم يقسر هؤلاء الناس أو يدعوهم إلى إتباعها من دون شرع الله عز وجل، وهذا أيضاً أمر خطير، فالله سبحانه وتعالى يقول: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31]، ولما نزلت هذه الآية قال عدي بن حاتم رضي الله عنه: (والله -يا رسول الله- ما كنا نعبدهم، قال: أليسوا يحرمون ما أحل الله ويحلون ما حرم الله فتطيعونهم؟ قال: نعم، قال: فتلك إذاً عبادتهم)، فطاعة أولي الأمر في معصية الله عز وجل وطاعة أصحاب القوانين والأنظمة التي تتنافى مع شرع الله عز وجل تعتبر نوعاً من العبادة، وأصحاب هذه الأنظمة وتلك القوانين التي يشرعونها في المجتمعات ويطلبون من أصحاب المجتمعات أن يتبعوها من دون شرع الله أو يقسروا الناس عليها قسراً هم طواغيت، بل هم رءوس الطواغيت؛ لأن الله تعالى سماهم كذلك، بل إن الذين يتبعون هذه الأنظمة ويسلكون مسلكها من دون شرع الله وينقادون لها أيضاً هم عصاة مرتدون عن الإسلام، كما قال سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:60]، فالمسألة خطيرة.
إذاً عبادة الله هي توحيده بالطاعة، فلا يحني هذا الإنسان رأسه لغير الله عز وجل، ولا يخضع لأي أمر لا يتفق مع أوامر الله سبحانه وتعالى، ولا يطوف بقبر ميت أو يتمسح بأعتاب حي من دون الله عز وجل، وعليه أن يثق بالله عز وجل، فبيده الخير، وهو الذي يرزق ويحيي ويميت، وبيده الآجال، قال عز وجل: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6]، فلن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، وحينما يصل الإنسان إلى هذه الدرجة يعرف الله عز وجل حق المعرفة، وحينئذ يكون قد تخلص من عبادة غير الله سبحانه وتعالى.(11/9)
اجتناب قتل النفس بغير حق
ثم قال تعالى في صفات عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الفرقان:68]، والنفس التي حرم الله هي النفس المؤمنة المطيعة لله عز وجل التي لم تستوجب حداً يوجب القتل، كالردة عن الإسلام، أو كزنا المحصن، أو مفارقة الجماعة، وما أشبه ذلك، فإذا كانت هذه النفس بريئة طاهرة تقية فلا يجوز لأحد أن يتعدى عليها بقتل، ومن تعدى عليها بقتل فإن الله تعالى يقول: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93].
فقتل النفس أمر عظيم عند الله عز وجل.(11/10)
الابتعاد عن الزنا ووسائله
ثم قال تعالى: {وَلا يَزْنُونَ} [الفرقان:68]: والزنا هو الوطء في فرج مشتهى طبعاً محرم شرعاً، ولذلك الله سبحانه وتعالى لما فتح طريق الحلال أمام هذا الإنسان فأعطاه أربع نسوة يتمتع بهن ويتمتعن به ووسع الله عز وجل له في هذا الأمر جعل عقوبة الزنا شديدة في الدنيا والآخرة، فالله تعالى يقول عن عقوبة الدنيا: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَة} [النور:2]، وفي الآية المنسوخة تلاوة ذكر في عقوبة المحصن الرجم، أما بالنسبة لعقوبة الآخرة فقال سبحانه: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ} [الفرقان:68 - 70]، فباب التوبة مفتوح، ولكن هذه الذنوب العظيمة التي أعظمها الشرك بالله وقتل النفس والزنا على المسلم أن يبتعد عنها، وأن يبادر بالتوبة إذا اُبتلي بشيء من ذلك.
وقد نزلت هذه الآية في قوم من المشركين عبدوا غير الله عز وجل، وأكثروا من القتل والزنا، فجاءوا تائبين بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل هذه الآية: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ} [الفرقان:68 - 70]، ففتح الله عز وجل باب التوبة أمام هذا الإنسان حتى لا يقنط من روح الله سبحانه وتعالى، وهذه الجرائم العظيمة نستطيع أن نقول: إنها بدأت تنتشر في أيامنا الحاضرة في المجتمعات البشرية، وهذا الزنا -نسأل الله العافية والسلامة- من أخطر الأمور التي تفسد المجتمعات؛ حيث تختلط به الأنساب، ولا يعرف الرجل أبناءه، والأبناء لا يعرفون أباهم، فتفسد البيوت، كما أنه يؤدي إلى الطلاق ويؤدي إلى الريب، ويؤدي إلى المصائب، وبه تنتشر الأمراض في المجتمع، فكم نسمع عن الأمراض الحديثة التي جاءت مع هذه الفواحش -نسأل الله العافية والسلامة- ومع الزنا من الإيدز والهربس والسيلان والزهري وغير ذلك من الأمراض التي ما كان الإنسان يعرفها إلا بعد أن انتشرت هذه الجريمة، نسأل الله العافية والسلامة.
ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لم تظهر الفاحشة -أي: فاحشة الزنا- في قوم قط إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم)، وبالرغم مما يقدمه الطب الحديث من وقاية وعلاج وعقاقير وغير ذلك فما زالت هذه الأمراض تنتشر في المجتمعات، سواء ما كان نتيجة حتمية لهذه الفاحشة العظيمة أو ما كان عقوبة من الله عز وجل من الأمراض الأخرى التي ما كان الإنسان يعرفها، وتُسمى بأمراض الحضارة، وهي في الحقيقة ليست أمراض الحضارة، وإنما هي أمراض الفواحش والمحرمات.
فالزنا أمر خطير، ولا شك أن كلمة (زنا) منذ أن يسمعها الإنسان تصك أذنه فلا يفكر الإنسان فيها إلا من بعيد إذا لم يكن قد اُبتلي بهذه الفاحشة، نسأل الله العافية والسلامة، لكني أرى أن كثيراً من الذين تشمئز قلوبهم من هذه الكلمة فضلاً عن وجودها فيما بينهم -نسأل الله لنا ولهم الثبات- لا يبالون بوسائلها، وصحيح أن الزنا قد بذلت له في أيامنا الحاضرة كل الوسائل، ولم تبق وسيلة مقفلة أمام المجتمعات الإنسانية تدعو إلى الزنا إلا وقد انفتحت على مصراعين اثنين على مستوىً واحد، ولذلك لا يمكن أن تسأل عن وسيلة من هذه الوسائل إلا وتجدها قد انتشرت في المجتمع، إلا من حفظ الله عز وجل، فمثلاً: النظر الحرام فُتح له باب التبرج، وهذا التبرج الفظيع انتشر في أسواق المسلمين وفي كل حالاتهم، بل انتشر العراء والاختلاط الشديد، فنساء يأتين من وراء آلاف الأميال خادمات ومربيات وهن في سن الفتيات وذوات جمال، ويعشن داخل البيوت سنين طويلة بين العزاب وبين الرجل وزوجته، وربما تخرج زوجته ساعات أو تسافر أياماً ليبقى مع هذه الخادمة أو هذه المربية! وهكذا سائقون جيء بهم إلى قعر بيوت المسلمين، فأحدهم يحمل مفتاح البيت بجيبه، ويدخل متى شاء، ويخرج متى شاء، ويحمل الزوجة، ويحمل البنات إلى المدرسة وإلى الأسواق، وكأنه هو رب البيت! وهكذا تُوجد أفلام ومحرمات تتكرر في كل ليلة وفي كل ساعة على مشهد من الأطفال والنساء والآباء والأبناء.
إنها أمور خطيرة والله لا تتحملها حتى النفوس التقية فكيف بالنفوس المريضة؟! وكيف بالذين في قلوبهم مرض؟! لقد كنا نظن أن في جاهلية اليوم خيراً فإذا بنا نرى في جاهلية الأمس التي بعث فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم من إذا ركب على ظهر الفلك دعا الله مخلصاً له الدين، وإذا كان على ظهر الماء يخاف حينما تهب ريح شديدة أن تنقلب السفينة فيغرق، فيدعو الله ويوحد الله، أما اليوم فتشاهد أن من وراء عشرات آلاف الأقدام بين السماء والأرض في الطيران من يستمر ساعات طوال وهو مع النساء والتبرج والعراء والأفلام والمصائب ولا يخاف ولا يتأثر، وهذا مما يندى له جبين المسلم.
فالقلوب تشمئز حين تسمع كلمة (زنا)، لكن مَنْ مِنَ الناس قد استطاع أن يحصن نفسه أو مجتمعه؟ لا يوجد إلا من شاء الله، فالمجتمعات الإنسانية بصفة عامة والمجتمعات الإسلامية بصفة خاصة -حتى المجتمعات المحافظة- انتشر فيها هذا التبرج وهذه المحرمات والصور والأفلام! ولو عملنا إحصائية عن عدد ما في بيوت المسلمين اليوم من أفلام لما استطعنا إلا أن نخرج نسبة ضئيلة جداً تخلو من هذه الأشياء، أما البقية فقد غصت بهذه الأفلام، سواء ما يأتي عن طريق التلفاز أو الفيديو أو السينما أو الصور الثابتة والمجلات الفاتنة.
إذاً المصيبة كبيرة، وبالرغم من أن الناس يشمئزون من كلمة (الزنا) إلا أن القليل منهم هو الذي يتخذ الحيطة لنفسه ولأهله من هذا الأمر، ولذلك لا تستغرب حينما أقرن بين الزنا وبين هذه الأمور؛ فإن الله تعالى قرن بينها في سورة النور، فلما ذكر الله عز وجل الزنا ذكر الأمور التي تؤدي إلى الزنا فقال: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30]، وقال: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:31]، وقال: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} [النور:27]، إلى غير ذلك من الاحتياطات.
إذاًَ: هذه الاحتياطات يُطالب بها الناس اليوم ودائماً وأبداً حتى يقضوا على فاحشة الزنا، فما هي النتيجة حينما انفتح الباب على مصراعيه في بلاد المسلمين؟ هل تتصور أن نسبة كبيرة من شباب المسلمين يقضون أي إجازة ولو كانت قليلة في بلاد الغرب؟! بل سمعت أن بعضهم يقضي إجازة الأسبوع في بلاد الغرب أو في بلاد الفسق والمعاصي! هذا هو الذي يحدث، فما الذي دفع بهؤلاء إلى ذلك؟ حتى لقد رأينا كثيراً من شباب الأمة الإسلامية المحافظة ومن أبناء الصالحين من يستغلون الفرص، وكأن أحدهم يعيش كطير في قفص يريد أن يبحث عن فرصة ليفر من هذا المجتمع المحافظ؛ لأنه رأى ما يثير الشهوة ويحرك الغرائز في مجتمعه وداخل بيته، فهو لذلك يبحث عن الجريمة.
إذاً من هو الذي يُسأل عن هذا الإنسان يوم القيامة؟ يُسأل عن هذا الإنسان يوم القيامة كل من ساهم في تحريك هذه الغريزة فحركها تحريكاً منحرفاً، كالإعلام الذي يوصل هذه الأشياء إلى بيوت المسلمين، فيوصل الصحف والمجلات والأفلام والمسلسلات والأغاني وصور النساء، والآباء الذين يأتون بهذه الأشياء، وكل من ساهم في هذا الأمر لابد أن يتحمل نصيباً من المسئولية بين يدي الله عز وجل.
ووالله! إن من يسافر إلى بلاد منفلتة لا تنضبط بأخلاق ولا بدين ولا بقيم ويرى أبناء المسلمين وأبناء المحافظين يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون! هذه هي النكبة، وهذه هي المصيبة.
فعلينا أن نحافظ على هذه الناشئة، وأن نطهر بيوتنا مما حرم الله عز وجل، فما يوجد في بيوت المسلمين وفي بلاد المسلمين من هذه الأشياء هو أكبر دافع لوجود هذه الفاحشة في بلاد المسلمين وخارج بلاد المسلمين.
فالله تعالى يقول: {وَلا يَزْنُونَ}، ثم لما ذكر الله عز وجل هذه الصفات الثلاث وهي أخطر الصفات -الشرك بالله وقتل النفس والزنا- قال: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الفرقان:68 - 69]، فـ (أثاماً) أي: عقاباً، وكيف يضاعف له العذاب يوم القيامة؟
الجواب
يزاد ويكرر فيعطى من العقوبة أكثر مما يعطاه إنسان آخر، {وَيَخْلُدْ فِيهِ} [الفرقان:69] أي: في العذاب {مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ} [الفرقان:69 - 70]، ومن نعمة الله عز وجل أن باب التوبة ما زال مفتوحاً، وسيبقى باب التوبة مفتوحاً حتى تطلع الشمس من مغربها، وحتى تبلغ الروح الحلقوم، ولكن -يا أخي- هل تدري متى تبلغ الروح الحلقوم؟! أو متى تطلع الشمس من مغربها؟! أنا وأنت لا ندري، والعلم بيد الله عز وجل، فما على أي واحد منا إلا أن يبادر بالتوبة.
ثم قال عز وجل: {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} [الفرقان:71]، وهذا دليل على أن التوبة إنما كررت هنا لأنها يجب أن تكون توبة صادقة، أما التوبة التي يتوب فيها الإنسان اليوم ليلعب بها غداً ولينقضها ويتوب بعد غد فهذه ليست توبة صادقة، فالتوبة الصادقة هي التي تستوفي الشروط المعروفة: الإقلاع عن الذنب، والندم، والعزم على أن لا يعود، ورد المظالم إذا كانت هناك مظالم بينه وبين خلق الله عز وجل.(11/11)
الابتعاد عن شهادة الزور وأماكن المعاصي
ثم قال تعالى في ذكر صفات عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان:72].
والزور هو: كل محرم، مأخوذ من التزوير أو من الازورار، والازورار معناه الانحراف، والتزوير معناه: التزيين.
لأن أصحاب القول الحرام يزينون كلامهم ليكون مقبولاً في المجتمع، كما تشاهد في واقعنا اليوم، فعباد الرحمن لا يشهدون الزور، وهذه الآية تحتمل معنيين، ولربما كان المعنيان مرادين، فتشمل شهادة الزور، وتشمل حضور المجالس التي فيها ما حرم الله عز وجل.
أما شهادة الزور فإنها من أعظم الذنوب عند الله عز وجل، ويدل على ذلك حديث أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم: (ألا أنبئكم بأكبر ما أكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله.
قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين.
وكان متكئاً فجلس فقال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور، ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور.
فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت)، أي: لما ظهر من علامات الغضب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فشهادة الزور معناها الذي تعرفه، وهو أن يأتي إنسان ليشهد على إنسان بأن هذا المال لفلان.
وليس لفلان أو بأن هذا المال ليس لفلان وهو لفلان.
فهذه هي شهادة الزور عياذاً بالله، وهي ظلم عظيم تؤدي إلى أن تنتقل الأموال إلى غير أهلها بسبب هذه الشهادة الحرام الكاذبة، فشهود الزور هم الذين يذهبون إلى المحاكم وأمام القضاء وفي غير هذه الأمور ولا يدلون بالشهادة على حقيقتها، بل يقلبونها ضد صاحبها، نسأل الله العافية والسلامة، وهؤلاء يقترفون أكبر الكبائر، فعليهم أن يبادروا بالتوبة، فالله تعالى يقول: {لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان:72].
وكذلك لا يشهدون المجالس التي فيها الكلام المحرم، فكم من مجالس المسلمين اليوم يوجد فيها من الغيبة والنميمة والكذب والبهتان، بل والطعن في الدين -نعوذ بالله-، والضحك والسخرية بأبناء المسلمين وبالصالحين يوجد فيها من ذلك الشيء الكثير! وهذا يكثر، وتجد كثيراً من هذه المجالس تُعمر بهذه الأمور، ويسخرون من المؤمنين ويضحكون، وهذا من أعظم الزور، وكم يوجد من المجالس التي تُعمر بالموسيقى واللهو والغناء! ولذلك جاء أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مر ذات يوم بقوم يغنون، فلما استمع الغناء أسرع وهرب، فذُكر خبره لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إن ابن أم عبد كريم)، وفي هذا إشارة إلى قول الله تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان:72]، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان:72]، فالزور هو كل كلام محرم، فإذا رأيت -يا أخي- من يتكلم كلاماً محرماً ومن يخوض في آيات الله فعليك أن تعظه وتذكره وتخوفه بالله عز وجل، فإن التزم وإلا فعليك أن تبتعد عنه كثيراً؛ لأن الله تعالى يقول: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام:68]، وعلى هذا نقول: إن قوله تعالى: {لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان:72] يشمل الأمرين جميعاً، فاحذر أي كلام محرم وأي شهادة محرمة ليست على حقيقتها، ولا تشهد إلا على مثل الشمس، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (على مثلها فاشهد أو دع)، أما الذين يشهدون الزور وينقلون الأموال من إنسان إلى إنسان بشهاداتهم فهؤلاء قد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً.
وأعظم من هؤلاء -والعياذ بالله- الذين يأخذون أموال الناس بالأيمان الكاذبة، فيحلف أحدهم على الحرام بأن هذا له وليس له، أو أن هذا لفلان وليس لفلان، وهذه هي اليمين الغموس التي يقول عنها الرسول صلى الله عليه وسلم: (من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان) ونعوذ بالله من ذلك، فالذي يحلف على ما ليس له ويقول: والله إن هذا لي.
أو: والله إن عندك لي كذا.
أو: والله إنه ليس عندي لك شيء، وهو عنده ويعلم ذلك فهذه هي اليمين الغموس، وسُميت غموساً لأنها تغمس صاحبها في النار، وسُميت اليمين الصبر لأن صاحبها إذا أراد أن يحلف تجده يتردد ولو كان ضعيف الإيمان، بل لو فقد الإيمان وكان يريد أن يحلف فإنك تجده يتنازع الإيمان والمطامع أمام نفسه، فيقدم على هذه اليمين الكاذبة من أجل أن يأكل فيها أموال الناس، والعياذ بالله.
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان:72] أي: إذا رأوا كلاماً حراماً غيبة أو نميمة أو كذباً أو مجالس سفهاء يضحكون ويسخرون من دين الله ومن المؤمنين فإنهم يهربون من هذه المجالس، ولا يجلسون فيها، لكن بعد أن يدافعوا عن أعراض إخوانهم المسلمين، فإن استطاعوا وإلا فعليهم أن يهربوا من هذه المجالس؛ حتى لا تنزل عليهم عقوبة الله عز وجل مع هؤلاء.(11/12)
الدعاء بصلاح الأزواج والذرية
ثم يقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان:74].
قرة العين معناها: سكونها.
والعين بطبيعتها دائماً تتحرك وتلتفت يميناً وشمالاً تبحث عن الأفضل، لكن حينما تحصل العين على مطلوبها من زوجة صالحة أو من ولد صالح تقر هذه العين، أي: لا تلتفت إلى نساء الناس، ولا إلى أولاد الناس، فلا تكثر هذه العين الحركة، فهم يريدون أن يكون لهم أهل صالحون وأولاد صالحون وتقر عيونهم بهؤلاء الصالحين، ولهذا يقولون: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان:74].
لكن -يا أخي- هل تتصور أنهم يقولون هذه الكلمة دون أن يقدموا لها أسباباً؟ وهل أحدهم تجده يترك ولده يفسق ويفسد وتذهب أخلاقه ويخالط قرناء السوء، ويترك زوجته تذهب متى شاءت وترجع متى شاءت في محافل الزواج وفي الأسواق وغيرها ويقول: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان:74]؟! لا.
بل لابد أن يقدم الأسباب، وإذا قدم الأسباب فعليه أن يعتمد على الله عز وجل؛ لأن الله تعالى هو مسبب الأسباب، فبعد أن يقدم الأسباب يقول: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان:74].(11/13)
الدعاء بالإمامة في التقوى
ثم أيضاً بعد ذلك يقولون: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74]، فانظر -يا أخي- إلى الطموح، إنه طموح عظيم، فهم لا يريدون فقط أن يكونوا متقين، بل ولا يريدون أن يكونوا تبعاً للمتقين، وإنما يريدون أن يكون الناس يتبعونهم في تقوى الله عز وجل، وهذا هو الطموح الذي يجب أن يتنافس فيه الناس، فالناس عليهم أن يتنافسوا في مثل هذه الأمور، كما قال تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]، فهم يريدون أن يكونوا هم قادة الفكر ودعاة الحق في هذا العالم، ويُقتدى بهم في تقواهم وطاعتهم لله عز وجل، أما أن يكونوا تبعاً فهذا طيب، لكن خير لهم أن يكونوا يُقتدى بهم، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة)، وهذا هو المعنى الصحيح، والله أعلم.
والمعنى الآخر في قوله سبحانه: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74] أي: واجعلنا نقتدي بالمتقين، لكن المعنى الأول أقوى وأقرب إلى الصواب وإلى لفظ الآية، وليس معنى ذلك أنهم يريدون السلطة والكبرياء في الأرض، فهناك فرق بين من يريد أن يكون إماماً في تقوى الله عز وجل وبين من يريد أن يكون صاحب سلطة، فقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبحث الإنسان عن السلطة، اللهم إلا إذا كانت لمصلحة هذا الدين، وقد قال عليه الصلاة والسلام لـ عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه: (يا عبد الرحمن بن سمرة! لا تسأل الإمارة؛ فإنك إن أعطيتها عن مسألة وُكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أُعنت عليها).
ولذلك المسلم يجب عليه أن يكون طموحاً لأن يكون قدوة في الخير، أما أن ينافس الناس على المناصب الدنيوية العالية فهذه ليست صفة المؤمن، اللهم إلا إذا كان الأمر كما قال يوسف عليه الصلاة والسلام: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55]، وذلك إذا رأى فساداً في المجتمع، ورأى أنه باستطاعته أن يصلح في أوضاع هذا المجتمع، فيمكن أن يكون طموحاً إلى مثل هذا المركز، لا من أجل أن يتخذه وسيلة لأن يتخذ أمر المسلمين كالوسادة ليحقق مآربه، إلى غير أهله، ولا ليريد أن يطغى من خلال هذا المنصب أو يفرض قوة فوق قوة الله عز وجل كما يعتقد، وإنما يريد فقط أن يصلح في هذا المجتمع، ففي مثل هذه الحال يطلب المنصب، كما قال يوسف عليه الصلاة والسلام: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55].(11/14)
جزاء عباد الرحمن
جزاء أهل الصفات السابقة كلها يقول الله تعالى عنه: {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} [الفرقان:75]، أتدري ما هي الغرفة؟ الغرفة هي أعلى درجات الجنة، والجنة درجات، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض) يعني: يرتفع بعضها على بعض في الجنة.
فهؤلاء يخبر الله عز وجل أنهم ما داموا في هذا المستوى من العبودية للرحمن سبحانه وتعالى فإن جزاءهم في الآخرة الغرفة، وهي أعلى درجات الجنة.
وقوله: {بِمَا صَبَرُوا} [الفرقان:75] أي أن هذه الأعمال كلها تحتاج إلى صبر، فمن يستطيع أن يقوم الليل في شدة البرد؟ ومن يستطيع أن يصوم النهار في الصيف إذا اشتد الحر؟ ومن يستطيع أن يحبس نفسه أمام هذه الشهوات؟ لكن الذين صبروا هم الذين يستطيعون ذلك.
ولذلك الله تعالى يعطيهم الغرفة في الآخرة بسبب صبرهم وتحملهم طاعة الله عز وجل، وصبرهم عن معصية الله سبحانه وتعالى، وصبرهم على أقدار الله المؤلمة.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.(11/15)
عقبات في طريق المسلم
المسلم في هذه الدنيا مبتلىً، وأمامه في سيره إلى الله تعالى عقبة كئود، وابتلاءات كبيرة، وهذه سنة الله في هذه الحياة الدنيا؛ ليميز الخبيث من الطيب، والصادق من الكاذب، ويمحص ما في القلوب.
فعلى المسلم أن يعتصم بربه، وأن يتمسك بدينه، وأن يستلهم من الله العون والتوفيق، ثم ينطلق غير مكترث بهذه العقبات، ويتحلى بالصبر فإن الصبر مفتاح الفرج.(12/1)
الصراع بين الحق والباطل سنة كونية
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، والحمد لله الذي بيده مقاليد السماوات والأرض، لا راد لحكمه، ولا معقب لأمره، بيده القلوب {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال:63]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، الرحمة المهداة والنعمة المسداة، الذي أرسله الله تعالى بين يدي الساعة بشيراً ونذيرا وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله ومن دعا بدعوته وعمل بسنته ونصح لأمته.
أما بعد: فإن من يتتبع تاريخ البشرية يجد أن الصراع بين الحق والباطل قديم قدم وجود البشر على وجه الأرض، فهو صراع لا ينتهي أبداً حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ولد مع الإنسان في أول خلقه، كما قال عز وجل: {اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [طه:123]، وهذا هو الصراع بين الإيمان والإلحاد، وبين الإسلام والكفر، وتبقى معه فرقة ناجية حتى تأتي آخر لحظة من لحظات الحياة الدنيا وهي تكافح المنكرات، وتقدم النفس والمال في سبيل الله عز وجل، لا تتوانى أبداً ولو أظلم الجو أو اكفهر، فلابد من أن تبقى هذه الفرقة تصارع الباطل، ولربما تكون في بعض الأحيان الغلبة للباطل، لكنها ليست غلبة، وإنما هي زبد، وإنما هي الفتنة التي يقول الله عز وجل عنها: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان:20] يعني: أتتحملون هذه الفتنة؟ وهي الفتنة التي تُعِّرف بالرجال، وتميز المؤمن الصابر من غير الصابر، وطريق الجنة تعترض على كثير من العقبات، كما قال الله عز وجل: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:214] أي: الأمم السابقة، فلستم أنتم أول من ابتلي في طريق الجنة، {مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} [البقرة:214].
فقوله: (زلزلوا) يعني: كأن الأرض تهتز، وكأن كل الأرض أصيبت بالزلزال من تحت أقدامهم، مع أن الأرض ما تزلزلت، وإنما هو الخوف الشديد الذي أصاب المؤمنين على أيدي أعدائهم الكافرين والمنافقين والمفسدين في الأرض، فأصبح أمراً شديداً حتى كأن الأرض أصحبت تهتز من تحت أقدامهم، وزلزلت إلى أي حد؟ {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} [البقرة:214].
تصور الرسول الذي يوحي الله عز وجل إليه مباشرة، والذي يأخذ من عند الله الوحي غضا طرياً، والذي تنزل عليه الكتب السماوية يقول: (متى نصر الله)؟ وتصورا كلمة (متى)، فإن أصلها في اللغة اسم استفهام، لكن هنا تحمل معنىً آخر غير الاستفهام، وهو الاستبطاء، أي: أبطأ نصر الله إلى أن يصل الشك إلى بعض ضعاف الإيمان الذين يعيشون مع المرسلين.
وفي مثل هذه الظروف يأتي نصر الله، وتأتي قبله البشرى: {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214].(12/2)
وجود الأذى والمشقة والابتلاء في طريق الجنة
في طريق الجنة زلزلة، وبأساء، وضراء، وأمور مخيفة، وإزعاج، وأذىً للمؤمنين، وتقييد لحرية الدعاة وغير ذلك، إلى أن يصل الأمر إلى شيء من اليأس في نفوس بعض المؤمنين، وشيء من الاستبطاء في نفوس الصادقين من المؤمنين والأنبياء فيقولوا: (متى نصر الله)؟ وفي مثل هذه اللحظات يأتي نصر الله، ولكن بشرط أن لا يرجع المسلمون من منتصف الطريق، وهذا هو أخوف ما نخاف على المسلمين، لا سيما الذين ولدوا في حياة آمنة مطمئنة، ولا يعرفون في طريق الجنة هذه العقبات، ثم يفاجئون بهذه العقبات، ثم يصابون بشيء من الفتن، ثم يرجع بعضهم من منتصف الطريق، ويقول: أنا هربت من العذاب، فكيف أقع في العذاب؟ وهذه فكرة ناس من ضعاف الإيمان، ولذلك يقولون هذا.
ولذلك الله تعالى ذكر عن هؤلاء القوم أن منهم من يقول: (آمنا بالله) بلسانه، ثم يبتليه الله عز وجل بشيء من هذه العقبات التي تعترض سبيل المؤمن في طريقه إلى الله عز وجل والجنة والدار الآخرة، ثم لا يتحمل؛ لأن إيمانه ضعيف، ثم بعد ذلك يرجع من منتصف الطريق، وهؤلاء هم الذين يقول الله تعالى عنهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ} [العنكبوت:10] يعني: أصابته فتنة من فتن الحياة الدنيا {جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ} [العنكبوت:10] أي: أذى الناس (كَعَذَابِ اللَّهِ) أي: كأن يقول: أنا هربت من عذاب ووقعت في عذاب محقق أمامي أرآه بعيني وأعيشه ويؤذيني، فهل أتحمله من أجل خوف وهروب من عذاب منتظر ما رأيته حتى الآن؟ يقول بنفسه كذا؛ لأن الإيمان ضعيف، فيرجع وينكص على عقبيه، وهذا معنى قوله تعالى: (فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ) أي: في دين الله (جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ) أي: أذى الناس (كَعَذَابِ اللَّهِ).
لكن إذا جاء النصر وجاء المال وجاءت النعمة والخيرات مع هذا الدين يأخذ هذا الدين؛ لأنه ليس فيه مشقة، فإذا ما أصابه الفضل من الله عز وجل أخذ بهذا الدين، ولذا قال: {وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ} [العنكبوت:10] يعني: أصبح المسلمون في عزة {لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} [العنكبوت:10] أي: في هذه الغنيمة {أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت:10]، فالذي يكابد هذه الشدائد والذي يريد أن يأخذ من هذا الإسلام ما لان عليه أن يعلم أن الله تعالى أعلم بما في صدور العالمين.
هذه هي الفتنة التي نسمع أخبارها في القرآن، وهذا هو الابتلاء الذي يقص الله تعالى علينا أخباره، وأن هناك من الناس من لا يتحمل هذه الشدائد لأنه يعبد الله على حرف، أي: على طرف بين الإيمان والكفر، بمعنى أنه لم يتمكن الإيمان من قلبه {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ} [الحج:11]، والعياذ بالله! ولذلك لا تعجب في أيام الفتن من أن ترى من الناس من يضطرب إيمانه، ومن يهتز يقينه بالله عز وجل وخشيته من الله عز وجل، فيرجع دون أن يكمل المشوار إلى الله عز وجل وإلى الدار الآخرة؛ لأنه كان يعبد الله على حرف، وعلى طرف بين الجاهلية والإسلام، فهذا لا يمكن أن يثبت على دينه إلا حينما يكون هناك خير وتكون سعادة ويكون رخاء وتكون غنائم ويكون المسلمون في راحة، وهذا هو الذي يتطلبه كثير من المسلمين في أيامنا الحاضرة، يريدون إسلاماً ليست فيه فتنة، وليس فيه ابتلاء، وليست فيه محن، فأحدهم يصوم ويصلي ويؤدي الزكاة إن كان عنده مال إلى آخر ذلك، لكن الجهاد ثقيل على النفوس، سواء أكان جهاداً بالحجة التي ربما تضع بعض العراقيل في طريق المسلم في سيره إلى الله سبحانه وتعالى، أم بالمال الذي هو غالٍ عليه ونفيس، أم بالنفس التي يراق فيه الدم وتسلب فيه الروح.(12/3)
طريق الجنة محفوف بالمكاره
ومن هنا نعرف أن الدين الإسلامي ليس ديناً ليس فيه عقبات، ونعرف أن الجنة التي هي سلعة الله عز وجل غالية، وأنها لا تدرك إلا بمشقة طويلة وتعب وعناء، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، إلا إن سلعة الله غالية، إلا إن سلعة الله الجنة).
ولذلك الله تعالى أثبت لنا في القرآن بيعة، هذه البيعة توافرت فيها كل أركان البيع الأربعة المعروفة عند الفقهاء، وهي: بائع، ومشتر، وثمن، وسلعة، ولكن الثمن لما كان كبيراً كانت السلعة غالية على هذا الإنسان، فالثمن هو الجنة، والسلعة هي النفس والمال، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [التوبة:111] يقدمون النفس والمال من أجل الله عز وجل وأجل دينه {بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111] هذا هو الثمن {يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ} [التوبة:111].
إذاً البائع هو المسلم المؤمن، والمشتري هو الله عز وجل، ومن العجيب أن الله يشتري هذه السلعة وهي ملك له سبحانه وتعالى، فالنفس والمال ملك لله عز وجل، لكن من أجل أن يرفع من قيمة هذا الإنسان.
ولما نزلت هذه الآية قال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه ومن معه من المسلمين: (يا رسول الله! ما لنا إن قتلنا في سبيل الله؟ قال: الجنة.
فقال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه: يا رسول الله! ربح البيع، والله لا نقيل ولا نستقيل).
فخرج المسلمون عن بكرة أبيهم للجهاد في سبيل الله، حتى لامهم الله عز وجل وقال: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122].
إذاً طريق الجنة طريق مفروش بالتعب والمشقة لا بالورود والرياحين، وطريق النار هو الذي حف بالشهوات، ولذلك جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى لما خلق الجنة قال لجبرائيل عليه الصلاة والسلام: (اذهب إليها فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها) فذهب جبريل فرأى هذا النعيم المقيم الخالد، والأنهار الجارية، والأشجار الباسقة، والذي لا يخطر على قلب بشر من الناس، فرجع إلى الله عز وجل، وقال: (وعزتك وجلالك لا يسمع بها أحد إلا دخلها)، فأمر الله عز وجل بالجنة فحفت بالمكاره: جهاد في سبيل الله، وصلاة الفجر في وقت النوم والراحة واللذة، وترك ما حرم الله من الشهوات، والنفوس تميل بطبيعتها إلى ما حرم الله وإلى هذه الشهوات وغير ذلك من الأمور، فلما رآها جبريل جاء إلى الله عز وجل وقال: (وعزتك وجلالك خشيت أن لا يدخلها أحد)، فخلق الله تعالى النار، ولما خلق النار قال لجبريل عليه الصلاة والسلام: (اذهب وانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها)، فلما جاءها جبرائيل عليه الصلاة والسلام وجدها يأكل بعضها بعضاً، فرجع وقال: (وعزتك وجلالك لا يدخلها أحد سمع بها)، فأمر الله عز وجل بها فحفت بالشهوات، أي: الشهوات المحرمة التي تجذب هذا الإنسان جذاباً مغناطيسياً إليها، والتي تميل إليها نفوس ضعيفة بفطرتها وبشهوتها، فلما رآها جبريل قال: (وعزتك وجلالك! خشيت أن لا ينجو منها أحد) أي: لما في طريقها من الشهوات.
ومن هنا نقول: لا تعجب حينما ترى هذه العقبات في طريق الجنة، فإن الجنة لا يدخلها إلا من يستحق الجنة، والذي يقتحم هذه العقبات -وهي صعبة شديدة على النفوس- هو الذي يستحق هذه الجنة.(12/4)
أجر من يثبت أيام الفتن في آخر الزمن
في أي عصر وفي أي فترة لابد من أن تكون هناك عقبات في طريق الجنة، لكننا في أيامنا الحاضرة -وربما نكون في العصر الأخير وفي الفترة الأخيرة من فترات الحياة الدنيا- نرى عقبات عظمت في طريق الجنة، وليس ذلك غريباً؛ لأن المسلم في هذا العصر الذي يتمسك بدينه ويقتحم هذه العقبات له أجر خمسين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فتصور -يا أخي- واحداً له أجر خمسين من مثل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وسائر الصحابة الذين قدموا أنفسهم وأموالهم وكل ما يملكون في سبيل الله، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: (للعامل منهم أجر خمسين)، وهم الذين يأتون في آخر الزمان لا يجدون على الحق أعواناً، وربما تقف الدنيا كلها في وجوه هؤلاء، وربما يكذبهم أقرب الناس منهم، وربما تتحرك العواطف والمشاعر في نفوس أهلهم ثم يتغلبون على هذه العواطف، فلهم أجر خمسين، قالوا: (يا رسول الله! أجر خمسين منا أو منهم؟ قال: أجر خمسين منكم).
فلابد من أن يكون في طريق هذا الأجر -كأجر خمسين من أصحاب رسول الله- عقبات وأمور خطيرة، ولا يستطيع أن يقتحم هذه العقبات إلا المؤمن الصادق، قال عز وجل: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} [البلد:11 - 14] وهذا من العقبة أيضاً.(12/5)
عقبات في طريق المسلم(12/6)
وجود المنافقين
نعود إلى حديثنا ونقول: في طريق الجنة عقبات، وفي طريق الجنة وحوش، وفي طريق الجنة سجون، وفي طريق الجنة إراقة دماء، وفي طريق الجنة أذىً، وفي طريق الجنة مصائب ومشاكل، وليس معنى ذلك أن الله تعالى يريد أن يحرم هؤلاء الجنة، ولكن كما قال الله تعالى: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [الأنفال:37].
ولكن هذه العقبات بمقدار ما تزيد في فترة من فترات التاريخ يقتحمها المسلمون ويزيد إيمانهم ويقينهم بالله عز وجل، ولذلك الله تعالى يقول لنا في القرآن: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ} [الأحزاب:22] أي: الأحزاب التي تجمعت من جميع بلاد الكفر لتحيط بالمدينة.
وهي كالأحزاب الموجودة عندنا الآن، فكان هناك أحزاب من الداخل في المدينة، وكان المشركون والوثنيون ونصارى العرب يطوقون المدينة من الخارج، وكان المنافقون واليهود يهزون الأمور من الداخل، كما يوجد في أيامنا الحاضرة سواء بسواء، قال عز وجل: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [الأحزاب:22]، وما قالوا: سوف ننسحب من المعركة، فأعداء بالداخل وأعداء بالخارج كيف نستطيع لهم جميعاً؟ وهل سنتغلب على عدو يأتينا من الخارج وعدو من الداخل لا ندري أيهما نقدم وأيهما نحارب؟ بل الذي حصل أن المؤمنين لما رأوا هذه الواقعة قالوا: هذا ما كنا ننتظره، كنا ننتظر هذا اليوم، وجاء هذا اليوم، ولذلك فلا خيار لنا في هذا اليوم، قال عز وجل عنهم: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [الأحزاب:22]، ما الذي حدث؟ {وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22] أي: إيماناً بوعد الله عز وجل، وتسليماً لقضاء الله عز وجل وقدره.
ثم بعد ذلك انقسموا إلى قسمين: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} [الأحزاب:23] يعني: منهم من قتل في هذه المعركة ومنهم من ينتظر دوره في الشهادة في سبيل الله؛ لأن تواجد الأحزاب في الداخل والخارج -كما يوجد في أيامنا الحاضرة- هو الذي حرك همة المؤمنين إلى أن يقولوا: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [الأحزاب:22] ثم أيضاً هو الذي حرك المؤمنين لأن يستميتوا في الجهاد في سبيل الله.
واليوم يعيد التاريخ نفسه، ويأتي يوم يشبه يوم الأحزاب إن لم يكن أشد، فهناك عدو من الخارج يطوق الجزيرة العربية، وهناك أعداء من الداخل يريدون أن يهزوا المسلمين داخل الجزيرة العربية ويستغلوا الفرص، وهذا هو منهجهم وديدنهم، فإذا رأوا العدو الخارجي تحرك فإنهم يتحركون، كما كان يتحرك المنافقون واليهود داخل المدينة يوم غزوة الأحزاب من أجل أن يهزوا المسلمين، حتى يتغلب العدو الخارجي، وهذا هو منهجهم.
ولذلك لا تعجب حينما ترى البلاد التي يطوقها العدو من الخارج يتحرك فيها الجرذان والمفسدون في الأرض من الداخل؛ لأن الله تعالى يقول: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الجاثية:19]، فالذين في الداخل أولياء الذين في الخارج، والكفر ملة واحدة، والردة عن الإسلام منهج واحد، وليس هناك طريق للجنة إلا طريق واحدة، ومن بحث عن طريق أخرى فإنه لن يجد ذلك، كما قال عز وجل: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153].
إذاً هناك عقبات، وهذه العقبات تزيد في مثل أيامنا الحاضرة وربما نتعرض لذكر شيء منها حسب ما يتسع له المقام، ونسأل الله التوفيق.(12/7)
غفلة دعاة الإصلاح
من العقبات التي تعترض سبيل المؤمنين غفلة دعاة الإصلاح، وحينما نقول: (غفلة)، لا نجرد جميع المسلمين؛ فهناك خير والحمد لله، لكن هناك من تأخر، إما أنه انشغل بمتاع الحياة الدنيا، أو لأنه خاف، أو لسبب من الأسباب، ودائماً لا تتحرك الجرذان إلا حينما يهدأ الجو، فالفئران التي تقرض في المتاع وتفسد في البيوت إذا كان هذا البيت خالياً تتحرك هذه الفئران وتقرض وتفسد في أسلاك الكهرباء وفي الأمتعة حتى تحطم هذا البيت إن استطاعت، ولكن حينما تكون هناك حركة من الداخل وأصوات تزعج هذه الفئران تعود هذه الفئران إلى أوكارها، والخفاش الذي يخرج إلا في الظلام إذا طلع عليه الفجر يختفي في وكره، ولذلك نقول: إن دعاة الحق صار يختفي كثير منهم في أيامنا الحاضرة، حتى أصبح الحمل ثقيلاً على طائفة من الناس، فنطالب هؤلاء بأن يشتغلوا بالدعوة إلى الله عز وجل وأن يبينوا لهؤلاء الناس الطريق المثلى التي تهديهم إلى الله عز وجل وأن يكشفوا المؤامرات التي تحاك ضد الإسلام.(12/8)
تحرك دعاة الباطل
وهناك أمر آخر، وهو بطبيعته ردة فعل للسابق، فإذا سكت دعاة الحق تحرك دعاة الباطل، وربما يستحوذون على كل وسائل الأعلام في بلد ما ينام فيها العقلاء والمصلحون، فيتحدثون ملء أفواههم، ويملئون الدنيا صراخاً وعويلاً، ويملئون الساحة ويشغلون ما يسمى بالفراغ بدعوة باطلة يقصدون من ورائها إضعاف الحق وإرهاق المؤمنين، أو الفصل بين دولة إسلامية وبين المؤمنين فيها، أو بين دولة إسلامية وبين العلماء والمصلحين فيها، وهذا معروف في تاريخ البشرية من أوله إلى آخره، فحينا يتخلى العلماء والمصلحون عن الدولة لابد من أن تنهار، وهذه سنة الله تعالى في هذه الحياة؛ لأن العلماء هم مصابيح الظلام، وإذا كانوا كذلك لا تفسد الشعوب، وربما يخيم الظلام على بلد ما لا يتحرك فيها العلماء، ثم ينشط بعد ذلك دعاة الباطل، ثم يكون الأمر خطيراً.
فدعاة الضلال ينشطون على المنابر -وأقصد بالمنابر الوسائل الإعلامية في العالم الإسلامي- حينما نام العلماء ولم يستيقظ منهم إلا العدد القليل، حتى أصبح الحمل ثقيلاً والعبء شاقاً على هذا العدد القليل، فصار أولئك يستضعفونهم ويسبونهم من منطلق القوة أو من منطلق القيادة أو من منطلق المسئولية.
وهذا الذي يحدث خطير جداً، لكن أخطر من هذا أن يكون هؤلاء الدعاة يشغلون من الداخل بفعل كفعل المنافقين يوم طوق الأحزاب المدينة، وأخطر من ذلك كله أن يكونوا من أبناء جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، وأخطر من ذلك كله أن يدبجوا ويزخرفوا أقوالهم بآيات من كتاب الله وأحاديث من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الخطر الذي يخفي الرؤية الصحيحة حتى لا يكاد كثير من المسلمين أن يتبين الحق من الباطل ولذلك نقول: إن تواجد هؤلاء -وهم من أبناء جلدتنا لا شك- بطريقة كأنهم فيها مخلصون للدولة وللأمة وللدين، ولربما يستشهدون بآيات من كتاب الله ذلك هو الخطر، ويصبح الأمر ملتبساً والواقع مختلطاً حابله بنابله، ولا يتميز ذلك إلا حينما يتميز الحق من الباطل.
ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم حذر من مثل هذه الفترة، وأخبر أنها آخر فترة من فترات تاريخ البشرية، وأنه إذا وجد هذا النوع من البشر الذين هم من أبناء المسلمين ويحسبون على الإسلام ويحملون في جيوبهم الهوية الإسلامية والاسم الإسلامي فذلك يعتبر بداية النهاية، وهذا أشد أنواع الخطر في حياة أي أمة من الأمم، كما في حديث حذيفة المعروف، ففي آخره قال حذيفة: (فقلت: يا رسول الله! وهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم.
دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها فقلت: يا رسول الله! صفهم لنا.
قال: قوم من أبناء جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا).
فهذه مصيبة أنهم من أبناء جلدتنا، ففي الجاهلية كان أبو لهب وأبو جهل والأسماء المكشوفة هم الذين يحاربون الإسلام، وكان الخطر أقل منه اليوم، لكن اليوم أصبح أحمد ومحمد وعبد الله وعبد الرحمن وعز الدين وما أشبه ذلك هم الذين يحاربون الإسلام في أيامنا الحاضرة، وفي بلاد الإسلام، ويدبجون أقوالهم بكلمات رنانة إسلامية، كما قال الله تعالى: {زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام:112] من أجل أن يغروا الناس.
ومن هنا يبرز الخطر، وهذه نعتبرها من أكبر العقبات، أن يكون دعاة الباطل من أبناء جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، ولهم منابر مهمة جداً، وربما يكون لهم قيم وأوزان عند الناس، وربما تكون لهم سوابق خدمة قد أدهشت كثيراً من الناس وشعاعها ما زال يبهر عيون كثير من الناس، فلا يظنون بهم إلا خيراً.
إذاً المصيبة تأتي من هذه الناحية، ولذلك نقول: إن دعاة الباطل ونشاط دعاة الباطل وتواجدهم في بلاد المسلمين وكونهم من أبناء المسلمين يعتبر من أعظم أنواع الأخطار، فلننتبه لهذا الخطر، ولنعلم أن هؤلاء الدعاة لا يتحركون إلا حينما يسكت دعاة الحق، وأن دعاة الحق بمقدار ما يسكتون عن هذا الحق يتحرك دعاة الباطل، وبهذا يتحملون هذه المسئولية أمام الله عز وجل حينما يقف الجميع بين يدي الله سبحانه وتعالى.(12/9)
ضعف جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
ومن هذه العقبات ضعف جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا ضعف جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في بلد من بلاد المسلمين فسدت فيها البيئة وتلوثت، وأصبح يشق على واحد من الناس أن يربي ولده في بيئة تعطل أو ضعف أو أُلغي فيها -كما يوجد في بعض بلاد المسلمين- جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فتتلوث هذه البيئة، وأي إنسان يحاول أن يربي أولاده في مثل هذه البيئة أو يربي من يربيهم من أبناء المسلمين في مثل هذه البيئة يصعب عليه؛ لأن البيئة أصبحت ملوثة، وفيها كثير من المعاصي والآثام، ولذلك نقول: إن هذا يعتبر من العقبات التي تعترض سبيل المسلم بصفة عامة وسبيل الداعية والمصلح بصفة خاصة؛ لأنه تفسد هذه البيئة التي تعطل فيها جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أكثر مما يصلح هذا المصلح.
ولذلك الله عز وجل بين في القرآن أن خيرية هذه الأمة تبقى بمقدار ما يبقى لها من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]، ليس لأنهم أبناء سام بن نوح، كما يعتز الجاهليون بأنهم من أبناء سام بن نوح، ولا لأنهم يعيشون في بلاد العرب أو بلاد القبلة أو بلاد الحرمين، ولا لأنهم من أمجاد وآباء لهم أنساب ضاربة في أعماق التاريخ، فهذه كلها لا وزن لها عند الله عز وجل، كما قال عز وجل: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] ولكن: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110].
ومن هنا نقول تكون الخيرية إذا قام جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في بلد ما، ولذلك الله تعالى قال: (أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ).
حتى لا يظن المسلم أنه أخرج لنفسه ليخلص نفسه من النار، وإنما أخرج لغيره -أيضاً- حتى يخلص الناس من نار الله عز وجل، وهذه الخيرية تكون في جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولذلك الذين يريدون أن يعود الظلام إلى الأرض تجدهم يضعون العراقيل الكثيرة في طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذا عضو يُضرب، وهذا محل من محلات هيئة الأمر بالمعروف يُكسر، وهذا رجل يُتهم إلى آخره، حتى يلصقوا هذه التهم بهؤلاء فيزهد الناس بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى تتلوث هذه البيئة، وإذا تلوثت البيئة بعد ذلك يبيضون ويفرخون في المجتمع الإسلامي، فلا بارك الله فيهم.
فلابد من أن نقيم جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فنحن خير أمة أخرجت للناس إذا أمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر، وإلا فسوف نكون شر أمة أخرجت للناس؛ لأن الرسالة التي نزلت على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هي خاتمة الرسالات، ومعنى ذلك أن الخير يتعطل في الأجيال اللاحقة إلى يوم القيامة حينما يتوانى أهل هذا الجيل وأهل هذا العصر عن حمل هذه الرسالة إلى من بعدهم، قال عز وجل: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ} [الحج:78].
ثم إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا تظن أن معناه الدعوة فقط، فهناك فرق بين الدعوة وبين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالدعوة كلمة لينة، كأن نقول للإنسان: اتق الله.
لكن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قوة تملكها الدولة، وتُملِّكها لمن يكون كفئاً لذلك.
فالمهم أنه لابد من أن يقوم جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، سواءٌ أكان من قبل الدولة أم من قبل المسلمين، ولذلك الله تعالى لما ذكر الموعظة والكتب السماوية والعدل في الأرض ذكر الحديد بعد ذلك مباشرة فقال: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} [الحديد:25]، فذكر الحديد بجوار الكتب السماوية؛ لأن الحق بطبيعته قد يضيع بين الناس، ولأنه ليس كل الناس يتعظون بالموعظة.
إذاً لابد من أن تكون للمسلمين قوة، وهذه القوة تحمي جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمن العقبات التي تعترض سبيل الداعية اليوم وسبيل المسلم تلوث البيئة، وفساد المجتمع، وانتشار المعاصي بسبب تعطيل جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.(12/10)
فساد الإعلام العربي
ومن هذه العقبات فساد الإعلام في بلاد المسلمين، والله المستعان! فماذا نقول عن الإعلام الذي بخدمته التقنية الحديثة ما ترك بيت شعر ولا مدر إلا ووصل إليه بصحفه ومجلاته وتلفازه وإذاعته وأشرطته إلى غير ذلك؟ فإذا كان يوجه ضد هذا الدين فإن الداعية والمصلح يقف في حيرة، وإن كان مطالباً أن لا يقف، وقد يقف مندهشاً ماذا يفعل، ويقول كلمة وتأتي هذه الوسائل بكلمات كثيرة، ويقول حقاً فيقع كلامه موقعه في نفوس كثير من الناس، فإذا بهذا الإعلام كالمساحات يتابعه، فلا يستقر خير في قلوب الناس وفي عقول الناس إلا وتأتي هذه المساحات تمسحه بسرعة؛ لأن الهبوط أسرع من الصعود بطبيعته، ولأن الإفساد أسرع من الإصلاح.
فالإعلام لا نستطيع أن نقول عنه أكثر مما قاله كثير من إخواننا، فمن كان يتصور أن بيوت المسلمين بهذه السرعة الهائلة التي لا تتجاوز عشرين سنة تتحول من أعلى القمة إلى ما وصلت إليه اليوم؟ لقد كنا إذا وقفنا عند بيوت الصالحين والعلماء وأهل الخير لا نسمع إلا دوياً كدوي النحل في كتاب الله عز وجل، ولا تسمع في جوف الليل إلا نحيباً في صدور الصالحين الخاشعين بين يدي الله، لكن قف الآن عند أبواب كثير من الناس حتى العلماء وحتى الصالحين -إلا من شاء الله- فلن تسمع إلا اللهو والموسيقى والمسرحيات والمصائب والبلاء الذي ما ترك أمراً، بل إنه يقع بين السماء والأرض، ونعجب كثيراً حينما نركب طائرة ما ثم نرى الأفلام التي تزعج المسلم، ونقول: سبحان الله! المشركون الأولون الذين كانوا يعبدون الأصنام يخافون الله أكثر من هؤلاء الناس، فأولئك كانوا إذا ركبوا في الفلك وهم على سطح الماء دعوا الله مخلصين له الدين، وهؤلاء في الهواء على متن الطائرة وعلى بعد عشرات آلاف الأمتار من الأرض وتنشر فيهم الأفلام والمحرمات.
إنه أمر عجيب يحار فيه المسلم، ولكن نقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم! لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، اللهم! إنا نشهدك أن هذا منكر فلا تؤاخذنا بهؤلاء، ونخاف -والله! - أن تتحطم الطائرات بين السماء والأرض لولا أن الله عز وجل يمسكها برحمته وكرمه، قال عز وجل: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [فاطر:45].
فالإعلام لابد من أن يصلح من قبل الدولة، وإذا لم يصلح من قبل دولة إسلامية فلابد من أن تصلحه الشعوب، وأقصد بإصلاح الشعوب أن تبذل الجهد في سبيل مناصحة هؤلاء المسئولين، وإذا عجزوا فعليهم أن يحيطوا بيوتهم بسياج منيعة حتى لا تصل إليها هذه الأفلام، فإنهم يشوهون تاريخ الإسلام في كثير من الأحيان.
فمثلاً: يأتون برجل صالح من سلفنا الصالح وبجواره زوجته سافرة، وكأنه يقول لك: هذا هو الإسلام.
فهذه المرأة سافرة أمام هذا الرجل الصالح من سلفنا، وهذا هو الاختلاط.
إنها مصيبة وبلاء، فلابد من أن نصحح هذا المفهوم، وأنا أخشى أن تنشأ ناشئة في البيوت تظن أن هذا هو الإسلام وأن هذه هي حياة سلفنا الصالح رضي الله عنهم الذين سبقونا بالإيمان.(12/11)
عدم الإنفاق في سبيل الله
وهناك أمر آخر أيضاً يعتبر من أكبر العقبات، وهو بخل كثير من الناس بأموالهم وجهدهم، فتعطل الجهاد في سبيل الله والدعوة، وخزنت أموال كثير من الناس كأرقام لا يستفيد منها إلا الكافرون في البنوك الدولية التي وضعت في كل بلد من بلاد المسلمين لها فرعاً لتمتص هذه الأرباح، وأصبح العدو هو الذي يستفيد، ولربما يقتلون المسلمين بأموال المسلمين، كما يفعل الهندوس الآن في الهند، وكما يفعل في الفلبين في مناطق كثيرة، لربما يكون هذا بأموال المسلمين.
لكن المصيبة الكبرى أن الإسلام أصبح لا يستفيد إلا نادراً من هذه الأموال، بينما نجد أنه في يوم واحد دعت الكنسية إلى البذل، فجمع في يوم واحد مليار دولار، وقد يتساءل شخص: لماذا خصصوا ملياراً؟ ولماذا ما قالوا: نريد أكثر من مليار أو نريد أقل منه؟
الجواب
لأن عدد المسلمين مليار، فقالوا: نريد كل دولار ينصر ويكفر واحداً من المسلمين.
فهذا هدفهم، وجُمع مليار دولار في يوم واحد.
ولنعلم أن كثيراً من المسلمين يرتدون عن الإسلام بسبب الفقر والمجاعة، فإذا كان الواحد منهم سيموت جوعاً ويأتيه رجل كافر يريد أن يقدم له الغذاء ويقدم له اللباس فإنه سيستجيب له، وقد يأخذه طفلاً فيربيه، وإن كانت الفطرة التي فطر الله الناس عليها موجودة في الأصل، لكن لربما يؤثرون أو يشوشون على هذه الفطرة.
وهناك مراكز إسلامية تفتقر إلى أموال المسلمين، وهناك من يصلي في العراء لا يجد مسجداً، وهناك من المسلمين من لا يجد لقمة العيش، فبخل المسلمين بالمال ثم بخلهم بعد ذلك بالجهد كان عقبة في طريق هذا الدين، وفي طريق المسلم وسيره إلى ربه سبحانه وتعالى.
ولذلك حينما نذهب إلى مناطق يضعف فيها المسلمون ويحتاجون إلى توجيه وتربية لا نجد إلا أبناء النصارى هم الذين يتكاثرون في تلك البلاد وفي تلك المواقع، ووالله لقد رأيت شابات وشباناً في سن العشرين أو ما يقرب من ذلك في مجاهل أفريقيا في مناطق يصعب على واحد من المسلمين أن يصل إليها، رأيتهم يربون أبناء المسلمين الفقراء، فقلت: كيف جاء هؤلاء من تلك البلاد المترفة المنعمة الباردة الجميلة الخضراء إلى هذه الصحاري وإلى هذه الغابات الموحشة؟! ثم قلت أيضاً: أين المسلمون؟! لماذا لا يربون هؤلاء الأبناء حتى لا ينشأ هؤلاء نشأة كافرة؟! فالمهم أنها بلية، وهذه تعتبر أيضاً عقبة من العقبات التي تعترض سبيل المؤمن في سيره إلى ربه سبحانه وتعالى، ولو أن علماء المسلمين وطلبة العلم ساحوا في أرض الله عز وجل ينشرون هذا الدين الذي سوف يسألهم الله عز وجل قبل أن يسأل المرسلين عنه كما قال سبحانه: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف:6]، لو أنهم ساحوا في هذه الأرض ينشرون دين الله عز وجل لما كان هذا التكفير والتنصير الذي أصبح يقض على العقلاء مضاجعهم، ثم يخاف على هذه الأمة أن تترك دينها لولا أن الله عز وجل تكفل بحفظ هذا الدين.
ثم هذه الأموال لماذا لا تصل إلى أولئك المسلمين إلا نادراً؟! أليس المال مال الله؟ والله تعالى يقول: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:7]، فهذا أمر لابد أن ينتبه له المسلمون، ولابد أن تصل كثير من أموال المسلمين إلى هناك لترد الحق إلى نصابه.(12/12)
الإزدواجية التي يعيشها الناس اليوم
وهناك أيضاً أمر من الأمور التي أصبحت تشوش على المسلم وتعيقه في طريقه إلى الله عز وجل، وهو الازدواجية التي يعيشها الناس اليوم، فهناك ازدواجية لا ندري أهي كفر أم إسلام أم ضعف في الدين، إنها ازدواجية أصبحنا نسميها علمانية في حياة طائفة من البشر، ولكن في الحقيقة أسميها جاهلية.
وفي حياة بعض المسلمين الصالحين الذين لم يفهموا هذا الإسلام فهماً كاملاً أصبحنا أيضاً نشاهد في حياتهم هذه الازدواجية، بل أصبحنا نشاهد هذه الازدواجية في وسائل الأعلام التي تنشر داخل البيوت، حيث يأتي القرآن، ثم تأتي بعده أغنية، ويأتي بعده موسيقى، ويأتي بعده حديث من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ويحصل اختلاط بين الخير والشر، وهذه الازدواجية تقع كثيراً، سواءٌ أكانت في الإعلام أم في حياة الناس الذين ربما نراهم مصلين ثم نراهم بعد ذلك يطعنون في الإسلام من حيث يشعرون أو لا يشعرون.
وهذه الازدواجية أيضاً لها آثار سيئة في نفوس الناشئة، فلربما تنشأ ناشئة من هذا الجيل لا تعرف الفرق بين الحلال والحرام، وبين النافع والضار، وبين الإسلام والجاهلية.(12/13)
الخوف من الموت
ومن هذه الأمور التي هي عقبة في طريق المسلم إلى ربه سبحانه وتعالى الخوف من الموت، وهذا الخوف هو فطرة بشرية، لكن هذه الفطرة البشرية عدلت في الكتب السماوية، فالله تعالى يقول: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ} [الجمعة:8]، فكلمة (تفرون) دليل على أن هناك فراراً من الموت، وهو فطرة بشرية، لكن لا ننسى أن هذه الفطرة البشرية عدلت في الكتب السماوية، كما قال عز وجل: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34]، فلن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، وإن الله عز وجل إذا خلق الإنسان في بطن أمه يرسل إليه الملك بعد مائة وعشرين يوماً، فينفخ فيه الروح، ويؤمر بكتب أربع كلمات: رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد.
إذاً معنى ذلك أنه أجل محدد من عند الله عز وجل، فهل يتغلب الخوف من الموت على العمل من أجل دين الله عز وجل، هذا هو الذي يوجد في بعض الأحيان، بل في كثير من الأحيان، ففلان من الناس يخاف أن يتقدم أجله قبل أن يأتي الموعد؛ لأن يقينه بالله عز وجل قد ضعف، ولأن إيمانه بقول الله عز وجل: {كِتَابًا مُؤَجَّلًا} [آل عمران:145] فيه شيء من اللين والضعف، فإذا به يهرب من الموت كما يزعم، ولو أدى ذلك إلى أن يترك الساحة التي يجب أن يعمل فيها العاملون ويتنافس فيها المتنافسون.
وهذا الخوف من الموت هو الذي أدى بكثير من الناس إلى أن يرجع من منتصف الطريق، فلماذا الخوف من الموت؟ لأن اليقين بالله عز وجل ضعيف، ولذلك فإن الخوف من الموت هو الذي علم الناس الجبن، وهو الذي عطل جانب الجهاد في سبيل الله، وهو الذي أخرس ألسنة كثير من الناس أن يقولوا كلمة الحق، فلا يقولوا للظالم: أنت ظالم فاتق الله.
وهو الذي جعل كثيراً من الناس يضعف يقينه بربه سبحانه وتعالى، فيحابي في دين الله، ونسي أن أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر، وأن أفضل الشهداء بعد حمزة رضي الله عنه رجل جاء إلى سلطان جائر فأمره ونهاه فقتله، فهذا أفضل الشهداء بعد حمزة رضي الله عنه.
إذاً لا تترك كلمة الحق خوفاً من الموت، فإن الإنسان الذي يخاف من الموت هل لا يصدق وعد الله عز وجل حينما قال: {كِتَابًا مُؤَجَّلًا} [آل عمران:145]، وقال: {فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [يونس:49]؟ فلابد من أن يعرف الإنسان أن له أجلاً عند الله عز وجل، وأن هؤلاء الناس الذين يخاف من سطوتهم حينما يقول كلمة الحق لا يملكون لأنفسهم -فضلاً أن يملكوا لغيرهم- نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، وأن كل شيء بيد الله عز وجل، وأنه قد رفعت الأقلام وجفت الصحف , وأن الناس لو اجتمعوا جميعاً على أن ينفعوا أحداً بشيء لم يكتبه الله له لم ينفعوه إلا بشيء قد كتبه الله له، ولو اجتمعوا على أن يضروه بشيء لم يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه، رفعت الأقلام وجفت الصحف.
هذه هي عقيدة المسلم التي يجب أن يولد عليها ويعيش عليها ويحيا ويشب ويشيب ويلقى الله عز وجل وهو يعتقد هذه العقيدة، ولكنه لو غير في نفسه هذه العقيدة فإنه سوف يصبح جباناً أمام أعداء الله عز وجل، ولذلك نقول: هذه العقبة تعتبر من أكبر العقبات.(12/14)
حب الرئاسة والمركز
وهناك عقبة أخرى تشاركها، وهي حب الرئاسة والمركز، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه)، فكما أنه يحب المال هو أيضاً يحب الشرف بطبيعته وفطرته البشرية، ولذلك نقول: إذا كان حبه لهذا المركز يجعله يتنازل عن أساس من أسس دينه فويل يومئذ للفضيلة من الرذيلة.
ونقول عن هذا المسلم: له أن يبحث عن المركز في هذه الحياة، لكن ليس له أن يقدم هذا المركز على الجهاد في سبيل الله عز وجل، وقد يفتن هذا الإنسان في يوم من الأيام، فإما هذا المركز وتنازل عن كذا وكذا وإما أن تحفظ دينك، فلربما تضعف نفسه فيختار المادة والمركز وحب الشرف والمنصب.(12/15)
الشهوة والجنس
وهناك أمر آخر أيضاً، وهو الشهوة والجنس، فربما تتعرض لهذا الإنسان لتصرفه عن دينه وتفسد عليه دينه، فإما أن يكون ذلك الرجل قوياً متين الإيمان فيقول: معاذ الله! إنه ربي أحسن مثواي.
وإما أن يضعف أمام هذه الشهوة.
وأمام هذه الشهوات الثلاث تحضرني قصة لرجل عظيم الشخصية، هذا الرجل عرضت عليه هذه الشهوات الثلاث في وقت هو أحوج ما يكون إليها، لكنه رفضها خشية من الله عز وجل وبحثاً عن سعادة أفضل وحياة أطول وأبقى.
يروي لنا المؤرخون عن إحدى الغزوات في بلاد الروم في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن عدداً من المسلمين وقع في أسر الرومان، وكان من بينهم الصحابي الجليل عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه، فوقع في الأسر، ووصلت الأخبار إلى قيصر الروم أن في سجن الرومان رجلاً شهماً عجيباً في خلقه ورجولته وشجاعته وحميته.
ففكر قيصر الروم في أن يسلب منه دينه بثمن بخس، فقال: علي به.
فجيء بـ عبد الله بن حذافة رضي الله عنه، ووقف أمام ملك الروم وهو مكبل بالأغلال، والفرق بعيد بين واقعه وبين ما يعرض عليه، فقال له قيصر الروم: يا عبد الله! لو تنصرت لشاطرتك ملكي.
فانظروا إلى هذه الفتنة.
إنها فتنة المركز، فيصير ثاني اثنين في ملك بلاد الروم، فتنة يسيل لها لعاب أكثر الناس بطبيعتهم وفطرتهم البشرية، ولا يحمي النفس من هذا الموقف إلا الإيمان، فقال: والله لو كانت الدنيا لي بأسرها ما تركت شيئاً من ديني.
فهذه فتنة وعقبة اجتازها عبد الله بن حذافة رضي الله عنه، وما كان أحد يظن -إلا المؤمنون- أن عبد الله بن حذافة سوف يرفض ملك بلاد الروم وهو رجل مكبل بالأغلال مسكين جيء به من بعد سجن طويل ليتحول دفعة واحدة إلى أن يكون مشاطراً لقيصر الروم في ملكه، لكن الإيمان أقوى من ذلك، فانتظار الجنة والسعادة الآخرة فوق هذا المستوى كله.
فقال: ردوه إلى السجن، وزيدوا في عقوبته.
فأعيد رضي الله عنه إلى السجن، وزادوا في عقوبته.
ثم فكر أخرى فوصل إلى محاولة إسقاطه عن طريق الجنس، الذي يعرض على الناس اليوم بشكل مرعب ومخيف، وحينما يعرض الجنس لا يراد به فقط مجرد زنا -نعوذ بالله- أو مجرد انحراف خلقي، بل المقصود انحراف العقيدة؛ لأن الإنسان إذا سقط فيما حرم الله اضطربت عقيدته، وبعد عن الله عز وجل؛ ولذلك فإن من مخططات الكفار أن يَدَّعوا حقوق المرأة وحرية المرأة، وهم يهدفون من وراء ذلك أن يسقط الناس فيما حرم الله من الزنا، ثم يسقطون من عين الله، ثم تنهار دولتهم وينهار ملكهم وينهار سلطانهم في هذه الأرض.
فقال قيصر الروم: ائتوا لي بأجمل فتاة في بلادي.
فاختاروا أجمل فتاة، وقالوا: هذه أجمل فتاة في بلادك.
فقام وأغراها قاتله الله، وقال لها: إذا فتنت هذا الشاب فسوف أعطيك ما تريدين.
وهذه كلها مؤامرات ضد رجل مسلم، لكنه مسلم عظيم الإسلام، فجيء بهذه الفتاة أمام هذا الشاب الذي قضى أشهراً طويلة بعيداً عن أهله، وكانوا يظنون أنه في الحال سوف يقع في الفاحشة، ثم بعد ذلك تسهل قيادته إلى ملك الروم، فتعرت هذه الفتاة ودخلت على عبد الله بن حذافة وهو منكب يقرأ القرآن، فلما رآها عرف أنها فتنة، وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون! هذه هي الفتنة.
ولكن قال: معاذ الله! إنه مؤمن يريد سعادة في غير هذا المتاع، فهو يعرف أن هذا متاع ينتهي به إلى عذاب الله عز وجل، فأكب بوجهه على رجليه، وانصرف عنها إلى جهة أخرى، فصارت تتابعه، وكلما اتجه إلى جهة اتجهت معه إلى نفس الجهة، ثم ينصرف عنها هنا وهناك، حتى أيست منه، ورأت أن هذا الرجل ليس من النوع الذي من السهل فتنته، فقالت: أخرجوني.
فلما أخرجوها قالت: والله لا أدري أعلى بشر أدخلتموني أم على حجر؟ والله لا يدري أأنثى أنا أم ذكر.
وبهذا فشلت المؤامرة الثانية.
إنه مسلم صعب المنال، لا يمكن تطويعه بسهولة أبداً؛ لأنه مسلم جاء من بلده يبحث عن الجنة، ويبحث عن الشهادة في سبيل الله، رجل باع حياة الدنيا بحياة الآخرة، ولا يمكن أن يتغلب عليه شيء ولو كان أقوى من قوة الحديد والنار، ثم فكر قيصر في حيلة أخرى فهدده بالموت، فقال: ائتوني بقدر يقول المؤرخون: فجيء بقدر عظيمة وملئت زيتاً، وأشعلت تحتها النار ساعات من الزمن حتى صار الزيت يغلي، ثم قال: ائتوني بـ عبد الله بن حذافة.
فجيء بـ عبد الله وبرجلين من المسلمين رضي الله عنهم وعن المسلمين السابقين جميعاً، وأمر قيصر الروم بالأسيرين فألقيا في الزيت فخرجا عظاماً، وكان قيصر الروم يراقب عبد الله، فسالت دمعة صغيرة من عين عبد الله رضي الله عنه، فظن المجرم أن عبد الله بن حذافة سوف يرجع عن طريقه، فقال: يا عبد الله! خفت الموت؟ فقال: والله ما بكيت حينما رأيتني بكيت خوفاً من الموت، وإنما بكيت لأن لي نفساً واحدة تموت في سبيل الله، ولوددت لو أن لي بكل شعرة في جسمي نفساً تدخل هذا القدر وتموت في سبيل الله.
فقال: يا عبد الله! أريد منك أن تقبل رأسي وأطلق سراحك.
فقال: بل وأسرى المسلمين جميعاً.
فقال: نعم.
وانطلق عبد الله إلى المدينة بمن معه من المسلمين، فلما قص على عمر رضي الله عنه قال: حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله.
وبدأ عمر فقبل رأسه.
إنه رجل مؤمن تربى على مائدة الإسلام، فأصبح أقوى من قوة الحديد والنار، فماذا يفعل بهذا الرجل وهو الذي يريد الجنة ويريد الشهادة في سبيل الله؟ وماذا يريد هؤلاء؟ إنهم لا يستطيعون التغلب على هؤلاء المؤمنين، فهم أقوى من قوة الحديد والنار، وإذا أردنا دليلاً على ذلك فالسر في أرض أفغانستان، فأفغانستان ابتليت منذ سنين بعدو ملحد مجرم جاء ليفتن الناس عن دينهم، وجاء بكل قوى البشر، وبكل قوى الحديد والنار التي وصلت إليها التقنيات الحديثة، والمبيدات والأشياء التي منعت دولياً استعملت في أفغانستان، ومع ذلك رجع العدو خاسئاً؛ لأن قوة المسلمين أقوى من قوة الحديد والنار مهما كانت قوة الحديد والنار مرعبة ومخيفة.(12/16)
أهمية تحمل المشاق والعقبات في السير إلى الله عز وجل
هذه العقبات ربما تعترض هي أو غيرها طريق واحد منا، فإما أن يكون هذا المؤمن صلب الإيمان يتصور دائما وأبداً ساعة الوقوف بين يدي الله عز وجل والجنة والنار والحساب والآخرة فتهون هذه الفتن كلها في طريقه.
وإما أن يكون ضعيفاً هزيل الإيمان، لا يقف إيمانه على قدميه، فيرجع من منتصف الطريق، فيخسر الدنيا والآخرة، كما أخبر الله سبحانه وتعالى.
فمن ظن أن طريق الجنة طريق سهلة معبدة فعليه أن يراجع إيمانه، وعليه أن يقرأ القرآن بتفكير وتؤدة، قال عز وجل: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:142]، وقال: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} [التوبة:16]، ونحو ذلك من الآيات.
ويقول خباب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا: يا رسول الله! ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ فجلس الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: (لقد كان يؤتى بالرجل ممن كان قبلكم فيوضع المنشار في مفرق رأسه، فيقسم إلى قسمين، ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه، لا يصرفه ذلك عن دين الله، ووالله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)، وكانت هذه جرعة قوية أعطت المسلمين قوة.
ولقد أتي بـ خبيب رضي الله عنه فرفع ليصلب، فقيل له: أتحب أن محمد مكانك وأنت في أهلك؟ فقال: والله ما أحب أن تصيب محمداً شوكة وأنا على هذه الحال.
ويؤتى بـ بلال الحبشي رضي الله عنه ويبطح على حجارة مكة الحارة، وتزال ثيابه، وتوضع عليه الحجارة الحارة، ويعرضون عليه الكفر فيقول: أحد أحد.
ويؤتى بـ عمار بن ياسر وأمه وأبيه تحت العذاب، ويمر بهم الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول: (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة).
ونحن الآن ربما ندرك شيئاً من هذه الفتن، وهؤلاء الذين أصبحوا يحاربون المسلمين في دينهم من العلمانيين والمنحرفين هؤلاء هم نوع من الفتنة، فهل سنتحمل هذه الفتنة أو نضعف أمام هؤلاء؟ نسأل الله العافية والسلامة، فنحن لا نتمنى لقاء العدو، ولكن بعد أن رأينا العدو الآن له صولة وجولة فعلينا أن نستعين بالله، وأن نصبر، قال عز وجل: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل:127].(12/17)
الأسئلة(12/18)
حكم وجود الكفار في جزيرة العرب، وحكم مشاركتهم في أعيادهم ومناسباتهم
السؤال
أقيمت بعض الأعياد التي هي مخالفة لكتاب الله ولسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أعياد النصارى واليهود، وقد أحيت القوات الأمريكية والبريطانية أعياد الميلاد في جو يغضب الله تعالى، حيث المسكرات والزنا والحفلات الغنائية، فنرجوا كشف النقاب عن حكم بقاء هؤلاء في البلاد؟
الجواب
هذا السؤال محرج، لكن لابد منه، وأرجو الله أن يعيننا على تحمل هذه المسئولية.
فأقول: إن جزيرة العرب أرض مقدسة طاهرة، يقول عنها الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يجتمع في جزيرة العرب دينان) ويقول: (أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب)، وهذه أحاديث صحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وما كنا نتصور أن جزيرة العرب يجتمع فيها أكثر من دين، لكن حصلت ظروف قاسية وأمور لا يعلمها إلا الله عز وجل، فكان لها أثر في تواجد ملل، حتى أصبحت جميع ملل العالم تجتمع في جزيرة العرب، حتى البوذيين وحتى اليهود وعباد الصليب، نسأل الله العافية والسلامة.
وعلى كل فهؤلاء الكافرون ليس غريباً أن يقيموا أعيادهم؛ لأن هذه ملتهم، ولكن الغريب أن يقيموها في جزيرة العرب، وأغرب من هذا أن يشاركهم بعض المسلمين، كما سمعنا أن في بعض المستشفيات وبعض المراكز التي يختلط فيها المسلمون بغير المسلمين يجتمع بعض المسلمين مع هؤلاء الكافرين في أعيادهم، وهذا هو أخطر شيء في ذوبان الشخصية الإسلامية مع الشخصية الكافرة.
ولذلك نقول: ليس غريباً أن يسكر هؤلاء أو يزنوا؛ لأن الكفر فوق ذلك، وليس بعد الكفر ذنب، لكن نقول: لماذا يكون ذلك في بلاد المسلمين؟! وأنا سمعت أن الدولة أصدرت أوامر أنه لا يسمح لهؤلاء أن يقيموها في بلادنا أبداً، لكن نطالب المسئولين بحماية هذه القرارات، فهل هناك من يحمي هذه القرارات، أم أنها حبر على ورق؟ لا ندري.
ولكن ربما يوجد في الهيئات من يقوم بمثل هذا الدور، ونسأل الله أن يعينهم، وإن كانت الهيئات قد فقدت كثيراً من تأثيرها في أيامنا الحاضرة.
أما بالنسبة لمشاركة المسلمين لهؤلاء الكافرين في أعيادهم فهذا خطر، وأخاف أن يكون ردة عن الإسلام؛ لأن الله تعالى يقول: {لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51]، وقال: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود:113]، ولما فكر الرسول صلى الله عليه وسلم مرة من المرات أن يلين مع الكافرين ليناً بسيطاً من أجل الدعوة ومصلحة الدعوة قال الله تعالى له: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} [الإسراء:74 - 75]، يعني: ضاعفنا لك العذاب في الحياة الدنيا وفي الحياة الآخرة لو ملت شيئاً قليلاً.
وإذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام يريد أن يميل قليلاً من أجل مصلحة الدعوة، ولو فعل شيئاً من ذلك يذيقه الله تعالى ضعف الحياة وضعف الممات، فكيف بمصير واحد من المسلمين يريد أن يميل مع هؤلاء الكافرين لا لمصلحة الدعوة، وإنما لمصلحة الشهوة والحرام، ومع ذلك يميل ميلاً عظيماً كما يوجد في أيامنا الحاضرة؟! فأنا أحذر المسلمين من أن يشاركوا هؤلاء الكافرين في أعيادهم أو في مناسباتهم، وقد أفتى كثير من العلماء البارزين في أيامنا الحاضرة بأن مشاركتهم خطر على دين هذا الإنسان.
وأنا أحذر كل الناس، وأخص بالذكر الذين يعملون في المستشفيات؛ لأن المستشفيات -مع الأسف- أصبح الآن فيها مئات الكافرات والكافرين من الممرضات والأطباء، فأنا أخاف على هؤلاء أن يذوبوا معهم، وأن يمتزجوا معهم في مثل هذه المناسبات.
فأقول لهم: اتقوا الله؛ لأنه يصاب دينكم بخلل، والله تعالى يقول: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود:113]، ويقول: {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة:1]، ويقول: {لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} [الممتحنة:13]، ويقول: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ} [المجادلة:14].
إن هذه أمور عظيمة تتعلق بالعقيدة، ولا تدخل في باب المعاصي، فالولاء والبراء من أصول العقيدة التي يؤدي تركها والمخالفة فيها إلى النار، وتؤدي إلى الخلود في النار في بعض الأحيان.
إذاً نحن نعتبر موالاة هؤلاء الكافرين ليست من باب المعاصي التي هي تحت مشيئة الله وإرادته، وإنما هي من باب العقيدة التي يقول الله عز وجل عنها: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] وباب الولاء والبراء يدخل في عقيدة التوحيد وعقيدة الشرك، نسأل الله العافية والسلامة.
ونسأل الله أن يعين الدولة ويهديها ويوفقها حتى لا يبقى في جزيرة العرب إلا دين الإسلام مرفوع الرأس، ولو سافرنا إلى بلادهم ما استطعنا أن نؤدي جزءاً بسيطاً مما يؤدونه، حتى الأذان يمنع في بلاد الكافرين، ونحن الآن في بلاد المسلمين نجدهم يعيشون مرفوعي الرءوس.(12/19)
وجوب إقامة حدود الله عز وجل في الأرض
السؤال
تمضي علينا فترات زمنية طويلة لا يعلن فيها عن إقامة أي حد من حدود الله، فما نحن فيه من فتنة وضيق أليس بسبب المحادة لله ورسوله، نرجو توضيح ذلك؟
الجواب
لقد سمعت هذا الكلام أكثر من مرة، ولعله لم تكن هناك مخالفات، لكن لا أظن أن المخالفات تتوقف في أي وقت من الأوقات؛ لأن الله تعالى يقول: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ} [فاطر:6]، فالعدو موجود ومستمر، لكن الشيء الذي نسأل عنه: أين حد الردة؟ ولماذا لم نسمع عنه؟ فمنذ سنين طويلة ما أقيم حد الردة في هذه الأرض، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من بدل دينه فاقتلوه)، فكم من الناس من بدل دينه؟! وكم من الناس من قال كلمات كفرية كبيرة؟! فلماذا لا يقام حكم الردة في الأرض؟ والحدود كلها يجب أن تقام على حد سواء، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ولحد يقام في الأرض خير لهم من أن يمطروا أربعين خريفاً)، فالذين يهاجمون الإسلام ويطعنون في الدين، ويقول بعضهم: أنا لا أقول: إن تعدد الزوجات سنة، بل أقول: إنه فتنة.
ونحو ذلك، فمثل هذا يريد أن يطعن في دين الله عز وجل، وينكر آيات من كتاب الله، فلماذا لا يسمى مرتداً في نظر المسلمين؟ ومن هو المرتد؟ المرتد هو الذي يبدل دينه، ونحن نرى الذين ربما يعترفون على أنفسهم أنهم لا يصلون، وكثيراً ما نفقد كثيراً من المسلمين في المسجد، ولا نراهم يصلون، وربما يعتذر بعضهم، فهؤلاء الذين يطعنون في دين الله مرتدون، وحكم الردة لا بد من أن يقام في الأرض، والمسلمون عليهم أن يطالبوا إقامة حد الردة كما يطالبون بحد شارب الخمر والقاذف والزاني إلى غير ذلك.
فحد الردة لم نسمع عنه في هذه الأرض منذ زمن طويل، وأما تعطيل بقية الحدود فلا علم لي به، لكن أطالب بإقامة حد الردة؛ والمرتدون الآن ربما كشفوا النقاب عن أنفسهم، فنحن نطالب المسئولين أن يقيموا حد الردة على مثل هؤلاء، وأن يسألوهم: هل هم مسلمون أو مرتدون؟ فإذا كانوا مرتدين فإن الله عز وجل قد أمر بقتل الذين يطعنون في هذا الدين، وسماهم الله عز وجل أئمة الكفر، وما قال: هم كافرون فقط.
بل قال: هم أئمة الكفر، وذلك في قوله عز وجل: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ} [التوبة:12]، وفي قراءة سبعية: (إنهم لا إيمان لهم).
فالردة موجودة في كثير من بلاد المسلمين، والذين يطعنون في دين الإسلام كثيرون ومنكشفون في هذه الأيام، فنحن نطالب بكل هذه الحدود بما في ذلك حد الردة، وهذه الدولة هي الوحيدة في الأرض التي تقيم هذه الحدود، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقها أن تكمل هذا المشوار وترينا ما تفعل بهؤلاء المرتدين كما تفعل بشارب الخمر وغيره، والله المستعان.(12/20)
أهل الحل والعقد هم أهل الشورى
السؤال
صدر في الآونة الأخيرة إنشاء مجلس الشورى، فلا ندري ماذا سيحدث في هذا المجلس من هذه الناحية، ومن ناحية أخرى: هل هناك مقاعد للعلماء المسلمين والغيورين على دينهم، أم ستكون كل المقاعد للعلمانيين والمنافقين؟
الجواب
الشورى أصل من أصول هذا الدين، كما قال تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38]، وقال: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159]، ولكن لا نصل إلى ما يسمونه في العصر الحديثة بالديمقراطية؛ فإنها هي الفوضى الضاربة في الأرض الآن، وهي ما يسمونه (حكم الشعب للشعب)، وهذه الشورى يجب أن تكون للعقلاء في كل أمة، والعاقل في نظرنا وفي نظر الإسلام هو الرجل المؤمن العالم الذي ينطلق من منطلق كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وإذا كان هناك مجلس للشورى فلا أظن أنه لا يكون لأهل الحل والعقد من العلماء والصالحين، ولكن لو كان لغير هؤلاء فإن المصيبة والبلية تكمن وراء ذلك، ولكن -إن شاء الله- لنا أمل في هذه الدولة أن لا يكون في مجلس الشورى هذا إلا أصحاب الحل والعقد من العلماء والصالحين والذين لهم سابقة إصلاح في هذه الأمة، والذين شهد لهم القرآن وشهدت لهم السنة وشهد لهم التاريخ أنهم هم الذين يقودون سفينة حياة الناس إلى ساحل النجاة.
أما لو كانت الشورى -نرجوا الله العافية والسلامة- وكان الذين سيتولون قيادة مجلس الشورى من غير هؤلاء الصالحين فالأمر خطير جداً، وأرجو أن لا يكون هؤلاء الذين بدءوا يبرزون الآن في أيامنا الحاضرة يؤهلون أنفسهم ليكونوا أعضاء لمجلس الشورى، فهم يلمعون أنفسهم الآن، ولا تمر صحيفة ولا أي وسيلة من الوسائل إلا ولهم مقال، فأخشى أن يكون مثل هؤلاء يؤهلون أنفسهم، ويريدون أن يلقوا الأضواء على أنفسهم ليكونوا أعضاء.
فنحن نرفض هؤلاء، ونرفض كل مجرم ونرفض كل إنسان ليس من أصحاب العقل والدين أن يكون في مجلس الشورى، ونثق بالله عز وجل، ثم بحكومتنا التي فكرت في تأسيس مجلس الشورى أنها لا تضع فيه -إن شاء الله- إلا هذا النوع من الصالحين، ولن تضع فيه أحداً من هؤلاء الفسقة؛ لأن هؤلاء سوف يجرون سفينة الحياة إلى أن تتحطم، نسأل الله العافية والسلامة.(12/21)
حكم قتال الكافرين
السؤال
هل يعد القتال مع القوات الأمريكية جهاداً في سبيل الله، حيث إن المشكلة تجمع بين الكافر والمسلم في مظلة واحدة، نرجو توضيح ذلك الأمر؟
الجواب
إذا كان الأمر أمر دفاع فالمسلم عليه أن يدافع عن بلد الإسلام، وعن دينه وعقيدته ومقدساته مع من كان، لكن يا حبذا لو كان هذا الجيش صافي العقيدة، مؤمناً بالله عز وجل، ولكن: إذا لم تكن إلا الأسنة مركباً فما حيلة المضطر إلا ركوبها فنقول لأي واحد من المسلمين: عليك أن تدافع عن هذا الدين وعن هذا الوطن الذي هو وطن الإسلام، وتدافع عن هذه المقدسات ضد من كان من هؤلاء الناس، ولا تتوقف، ولا تقل: سأتوقف لأن فلاناً كافر أو لأن هناك قيادة بأيدي غير المسلمين.
فإن توقفك سوف يفتح ثغرة إلى أن تضيع بلاد المسلمين، نسأل الله العافية والسلامة.
وهذا شيء مشاهد في تاريخ الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه لما هاجر إلى المدينة عقد صلحاً وحلفاً مع اليهود، مع أن اليهود أعداء ألداء للإسلام، وأنا لا أقول هذا الكلام مبرراً الموقف الذي حصل، وإنما أريد أن أعلم الناس كيف يدافعون عن هذه البلاد، ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم اتفق مع اليهود أن يدافع اليهود والمسلمون في آنٍ واحد عن أي اعتداء على المدينة، حتى قويت شوكة المسلمين فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على اليهود، وأصبح الأمر كله بيد الله تعالى ثم بأيدي المسلمين.
فأقول: لو هجم عدو على هذه البلاد فيلزم المسلمين جميعاً أن ينفروا خفافاً وثقالاً ليجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ليحموا هذا البلد الطاهر وهذه المقدسات، ولا يهمهم أن يكون هناك من الكافرين أو من شذاذ العالم من يشاركهم في هذه المهمة.(12/22)
واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
السؤال
متى يسمح بالتطوع في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ ونرجو المطالبة بذلك من قبل العلماء والمشايخ؟
الجواب
التطوع مسموح به منذ أربعة عشر قرناً من الزمان، بل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب، فلا تنظر إلى أي عراقيل تقف في طريقه، قال عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]، وقال: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:104]، فهل تريد أوامر أعظم من هذه الأوامر؟! ليس هناك أوامر أعظم من هذه الأوامر، وهل تريد البشر أن يقولوا: مروا أو لا تأمروا؟! هذه أشياء لا تتوقف من أجلها، فمعك أوامر من الله عز وجل، فامض في هذا السبيل بناءً على أوامر الله عز وجل.
لكن لابد من أن يكون لهذا الأمر تنظيم، وأنا أوافق على وضع التنظيم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا أقصد بالتنظيم أن ننتظر حتى يقال لنا: مروا أو توقفوا.
وإنما أقصد بالتنظيم أن لا يدخل في هذا الميدان إلا الذين يضبطون توازنهم والذين عندهم غيرة وعندهم علم يستطيعون من خلاله أن يعرفوا بأن هذا منكر وأن هذا معروف، وأن إنكار هذا المنكر لا يجر إلى منكر أكبر من ذلك، فهناك علم، وهناك حكمة، وأنا -أيضاً- لا أقصد بالحكمة اللين، وإنما أقصد بالحكمة وضع الأمور في مواضعها.
فإذا توافرت هذه الشروط فلا تنتظر -يا أخي- من البشر أن يقولوا لك: مر أو لا تأمر.
أو: انه ولا تنه.
وإنما عليك أن تأخذ أمر الله عز وجل (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ)، فاللام هنا لام الأمر، وهي التي تحول الفعل المضارع إلى الأمر، {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104]، وقال عز وجل: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ} [الحج:78]، كل هذه أوامر لابد من أن تُنفذ وأن تطبق في حياة البشر.(12/23)
أهمية مواجهة المنحرفين في وسائل الإعلام
السؤال
التلفزيون والإذاعة والصحافة جرت علينا ويلات، وظهرت فيها أصابع المكر والرذيلة، فلماذا تترك الحرية فيها للعلمانيين وكتاباتهم فيها، أما المسلمون الصالحون فلم نسمع لهم كلمة؟
الجواب
أما عن كلمة (لماذا) فالجواب بأمور: الأمر الأول: أن كثيراً من المسلمين تأخر عن العمل في هذا الميدان، ومنهم من كره العمل فيه، وحق له أن يكره بعدما تبين الرشد من الغي، ولكن أقول: لو استطعت -يا أخي- أن تقدم فكرة أو كلمة صالحة لعل الله سبحانه وتعالى أن يشل بها حركة المفسدين فإنك مطالب بذلك.
الأمر الثاني: أن هؤلاء العلمانيين سبقونا إلى هذه الأمور، فسيطروا على جزء منها أو على كثير منها، فأصبح الأمر ليس بأيدينا، ولو كان لنا الخيار ما كنا نسمح لهؤلاء أو نقبل بأن يعيثوا في هذه الأرض فساداً، ولكن نقول لهؤلاء الناس: احذروا هذه الوسائل بمقدار ما تشاهدون فيها من فتن وبلاء ومصائب، وردوا عليها، وإذا كان هؤلاء العلمانيون يسيطرون على كثير من وسائل الأعلام فعندنا منبر أعلى من هذه كلها، وهو منبر المسجد الجامع، فالحمد لله إذ المسلمون بخير الآن، ولا يتخلف عن صلاة الجمعة منهم إلا النزر القليل من الذين لا نصيب لهم في هذا الدين.
فعلينا أن نستغل هذه المنابر من أجل أن نبطل مفعول هذه الدعايات المضللة التي ترد في وسائل الأعلام، ومن أجل أن نقول كلمة الحق.
لكن لا تظن أني أدعو إلى تفجير الأمور تفجيراً، وإنما أدعو إلى الحكمة، والحكمة هي وضع الأمور في مواضعها.
وأقول: عندنا كلمة الحق، ولا يمكن أن نسكت أبداً، فإذا حرمنا من الصحافة أو حرمنا من الإذاعة أو من التلفاز فإننا نكون على الأقل قد استفدنا فائدة وهي أننا نزهنا كلام الله أن نضعه بجوار الأغاني والمسرحيات، وعندنا المنبر الذي يجب أن نقول من خلاله كلمة الحق، وأن نقول للناس: هذا حق وهذا باطل.
وعندنا مراسلة المسئولين وكبار المسئولين في الدولة أو زيارتهم إن أمكن، ونقول لهم: اتقوا الله.
ونقول لهم بلسان المقال: {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} [غافر:29]، فإن قبلوا هذه الكلمة فهم في خير، وإن ردوا هذه الكلمة وقالوا: السجون السجون -كما يحدث في بعض الأحيان- فنقول: إن الله عز وجل يقول: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ} [البقرة:206].
ولكن -يا أخي- إذا كنت تخاف من السجون ولا تخاف من الأذى في ذات الله فاعلم أن خير خلق الله عاشوا مدة من الزمن في السجون، فيوسف عليه الصلاة والسلام لبث في السجن بضع سنين، وموسى يقول له عدو الله: {لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء:29]، ونحن لا نتمنى لقاء العدو، ولا نرغب في الإهانة، لكن نرحب بها إذا كانت في ذات الله، وإذا لم يكن لنا سبيل إلا هذه العقبة التي تقف بيننا وبين كلمة الحق فنحن نرحب بها ولا نخاف منها أبداً، ونعتبرها خلوة مع الله عز وجل، حتى يفتح الله بيننا وبين قومنا بالحق وهو خير الفاتحين.(12/24)
حكم إقراض الكفار
السؤال
سمعنا عن قرض قدم إلى أحدى الدول التي تحارب الإسلام وهي روسيا، بل هي في حرب الآن مع المسلمين، وهذا القرض يزيد عما قُدم للجهاد طوال السنوات الماضية، أليس هذا مما يحز في النفس، فما رأيكم في ذلك؟
الجواب
والله إن هذا يحز في النفس، وعجيب أن يُقدم القرض لدولة تحارب الإسلام في أفغانستان والشعب يقدم المساعدات للشعب الأفغاني الذي يجاهد في سبيل الله بأفغانستان! فهذا يُعتبر عدم تنسيق في الأمر، لكن ربما -إن شاء الله- يكون هذا القرض لإسكات فتنة أو لمصلحة أخرى، ولا أستطيع أن أذكر سبب هذا القرض؛ لأني أجهل هذا الأمر.
فالمهم أنه لا يجوز أن يستفيد الكافرون من أموال المسلمين، فالمسلمون يذبحون في بلاد الهند بأموال المسلمين، سواء أكانت قروضاً أم كانت أجور عمال ممن نأتي بهم من البوذيين والسيخ والكفرة ونعطيهم الأموال، ونقول: هؤلاء خير من المسلمين.
ثم يذبحون بها المسلمين في بلاد الهند وغيرها.
فلابد من أن ينفق هذا المال فيما يرضي الله عز وجل، وإذا أنفق في غير ما يرضي الله فالأمر خطير، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إن قوماً يتخوضون في مال الله بغير حق لهم النار يوم القيامة)، فإذا أنفقت مالك -يا أخي- فعليك أن تنظر كيف تنفق هذا المال، سواء أكان على مستوى الدولة أم على مستوى الأفراد، قال صلى الله عليه وسلم: (لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره: فيما أفناه، وعن شبابه: فيما أبلاه، وعن ماله: من أين أكتسبه وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به؟).
فلعل الدولة -إن شاء الله- لها هدف طيب، لكن نقول: إن أعداء الإسلام يحاربوننا بأموالنا، فاتقوا الله ولا توصلوا إليهم هذه الأموال، واحذروا من سخط الله عز وجل؛ فإن الله سبحانه وتعالى يغار على دينه، أسأل الله تعالى أن يوفق القادة إلى أن ينتبهوا لهذا الأمر، لكن هم في الحقيقة ما أخذوا لنا رأياً في هذا، ولربما تكون لهم وجهة نظر، ووجهة النظر هذه لا ندري أهي مصيبة أم مخطئة، وربما تكون وجهة النظر في مثل هذه الأيام أن العالم كله قد تكهرب، فهم يريدون أن يهدءوا فتنة، فنحن لا ندري ما الهدف من وراء ذلك.(12/25)
الموقف من البث التلفزيوني الكافر
السؤال
طالعتنا بعض الصحف بخبر، وهو وصول البث التلفزيوني الأمريكي وغيره إلى دول الخليج، فماذا عمل العلماء تجاه هذا الخطر الداهم على المسلمين؟
الجواب
العلماء ما أظن أنه أخذ لهم رأي، بل أنا متأكد، ولا طلب من هيئة كبار العلماء ولا من هيئة الاستفتاء ولا من عامة العلماء أن يفتوا في جواز هذا أو عدم جوازه، وربما يقول المسئولون: إن هذا الشيء إجباري لا نستطيع أن نسيطر عليه؛ لأنه من خلال الأقمار الصناعية.
ولكن نقول: تستطيعون أن تشوشوا عليه كما يُشوش على أي إذاعة تريد أن تمسنا بسوء، فما يمس أخلاقنا أهم مما يمسنا في أي شيء آخر.
فنقول: لابد أن يوضع سياج وأجهزة تحول بيننا وبين هذه الأشياء المحرمة، لكني لا أدري هل سيحدث أكثر مما يوجد الآن، فما دام أنَّه الآن يوجد رقص وأغانٍ ومسرحيات في التلفاز الموجود في دول الخليج فأنا لا أتوقع أنه سوف يوجد شيء جديد أو أكثر مما يوجد، اللهم إلا شيء نادر، فلعل المسئولين -إن شاء الله- يضعوا بيننا وبينها السياج المنيع، لكن الحل الذي تملكه أنت وأملكه أنا ويملكه كل مسلم أننا لسنا مجبرين على هذه الوسائل الموجودة داخل البيوت، فلماذا -يا أخي- يوجد التلفاز في بيتك؟! أنت لست مجبراً، بل أنت حينما تفعل ذلك تخاطر بأسرتك بمجموعها أمام هذه الفتن.
فهل تدخلها في بيتك وتقول: لماذا يأتي هذا الشيء بهذا الشكل؟ أنت تملك بيتك وتسيطر على بيتك، ولا أحد يجبرك على التصرف داخل بيتك، فإذا لم تستطع أن تطوق المنطقة كلها فطوق بيتك بحماية منيعة، وعسى الله سبحانه وتعالى أن يرد المسلمين إليه رداً جميلاً.(12/26)
ذكر بعض أحوال المسلمين في أفريقيا
يقول السائل: عرف عنكم -وفقكم الله- الدعوة إلى الله في أفريقيا، فنريد أن نقف على شيء من أحوال المسلمين هناك؟
الجواب
لا أريد أن أتشاءم، فالأحوال سيئة هناك، فهناك الفقر والمجاعة والفتن والتنصير، ففي دولة إسلامية يوجد أكثر من ألف مركز للتنصير، وفي دولة إسلامية أخرى ليست في أفريقيا تنصر فيها في السنوات الأخيرة اثنا عشر مليون مسلم بسبب الفقر والمجاعة والدعايات المضللة، وهناك دولة من الدول الإسلامية فيها أكثر من ثمانين مطاراً للتنصير وأكثر من مائة طائرة للتنصير، فماذا قدم المسلمون لهداية المسلمين؟! لم يقدموا إلا الشيء القليل، ونحن لا نجردهم من ذلك.
أما بالنسبة لأفريقيا فهي بلاد فيها أكثر من مائتين وخمسين مليون إنسان تهددهم المجاعة، وأكثرهم من المسلمين، والتنصير استغل هذه الفرصة فجاء بالأطعمة وبالخيام وبالخيرات، والمسلمون نيام، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يحفظ هذا الدين، بل إن الله تعالى قد تكفل بحفظ هذا الدين، لكني أخاف على المسلمين ولا أخاف على الدين؛ فإن هذا الدين محفوظ، فأخاف على هؤلاء المسلمين أن يبخلوا بهذا المال وبالجهد وبالدعوة، ولكن يقول الله تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38].(12/27)
أهمية تولي الصالحين للإعلام
السؤال
إذا كان كثير من القائمين على الأعلام -وأخص الصحافة- لا ينشرون مقالات الدعوة والمقالات الإرشادية، فما رأيكم لو قام العلماء والدعاة بإنشاء صحيفة أو مجلة إسلامية قوية تظهر الحق وتقف بالمرصاد لدعوة الباطل؟
الجواب
هذا شيء طيب، لكن أفضل من ذلك لو أن الصحافة كلها صارت بأيدي أناس صالحين وبأيد أمينة، وتصير -على الأقل- تفتح مجال الصراع بين الحق والباطل، وتنشر كلمة الحق كما تُنشَر كلمة الباطل، وأذكر أنه في مرة من المرات كتب أستاذ في الجامعة في إحدى صحفنا البارزة هنا، وقال: النصارى إخواننا، ومن جهلنا أن نكفر النصارى إلى آخر ذلك الكلام الذي لا يقوله أجهل خلق الله، فحاولت أن أرد على هذا الكاتب، ولا أقول: (الأخ) لأني أشك في إيمانه ما دام أنه يقول هذا الكلام؛ لأن هذه ردة، فهو بهذا أنكر القرآن الذي يقول: {لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} [المائدة:51]، وأنكر القرآن الذي يقول: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:72]، وهو يقول: هم إخواننا؛ لأنهم أصحاب كتاب سماوي.
فقال لي رئيس التحرير: أنا لا أستطيع أن أنال من أستاذ في الجامعة.
فقلت: سبحان الله! تستطيع أن تنال من دين الله عز وجل، وتشكك الناس في دين النصارى الذي هو كفر بالله عز وجل، ولا تستطيع أن تنال من أستاذ في الجامعة! فمثل هذا قد سقطت قيمته؛ لأنه أصبح يجهل، وهذا من الأمثلة ومن الدروس التي تمر بنا.
وعلى كل يجب أن نزاحم هؤلاء إن استطعنا، وإذا لم نستطع فعلينا أن نستغل المنبر؛ لأن المنبر نملكه، وهو وسيلة إعلامية -والحمد لله- من أفضل الوسائل، لكن أقول أيضاً: باتزان وبانضباط، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يعرف كيف يتكلم، فكان يقول: (ما بال أقوام؟) والناس يفهمون حينما يتحدث عن صفات الرجال، ويعرفون أولئك الرجال، لكن حينما لا يكون هناك بد من أن نرد على شخص من الأشخاص الذين اشتهرت أسماؤهم في الأرض فلابد من أن نقول كلمة الحق، وأن نذكر هذا الإنسان باسمه عند الضرورة.(12/28)
أهمية الوقوف أمام المنافقين الموجودين في الصف
السؤال
هناك بعض المسئولين لهم تحركات مشبوهة، فلماذا لا يُشهر بهم حتى يعرفوا لدى الناس والمجتمع؟
الجواب
هذا صحيح، إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول: (ما بال رجال؟)، ويجب أن نقول: ما بال رجال؟ لكن الله سبحانه وتعالى قال: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد:30]، فلما انكشف المنافقون في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم أصبح الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: يقوم فلان، ويقوم فلان- ويسميهم بأسمائهم- من المجلس؛ لأن الله تعالى قد وصفهم، واتضح له الأمر.
فحينما لا يكون بد من التصريح باسم رجل اشتهر بالإفساد في الأرض، الذي يقول: العلماء نرجوا بركتهم ودعاءهم ولا نستفيد منهم! فهؤلاء العلمانيون حقيقة هم لا يرجون حتى بركتهم، وأظنهم لا يرجون بركة أبداً، ولا يفكرون في هذه البركة.
فأقول: إذا انكشف الأمر ووصل إلى هذا الحد فلابد من أن تكون للمسلمين قوة، ولابد من أن يكون للمؤمنين كيان، فنناشد الدولة بالله -وهي دولة إسلامية تنطلق من منطلق إسلامي- ونقول: هناك زحف من الشباب الذي أصبحنا أمامه كوابح، وهم يأتوننا بكرة وعشية، ويقولون: أعطونا فتوى نفعل ونفعل.
ونقول لهم: اتقوا الله وحافظوا على الأمن، فالملك عبد العزيز رحمه الله ظل خمسين سنة يرسي القواعد الأمنية، فلا تفسدوا علينا أمننا في لحظات، واضبطوا توازنكم.
فنقول: إذا لم توقفوا مثل هؤلاء الذين ينالون من دين الله جهاراً نهاراً فلن نستطيع أن نوقف هذه القوة التي أصبحنا الآن كوابح أمامها حتى لا تفسد الحرث والنسل.
فنقول للمسئولين: اتقوا الله، أنتم في عافية، فبأي شيء تعتذرون بين يدي الله عز وجل لو وقفتم بين يديه وسألكم: لماذا أعطيتم فلاناً الأهلية ووليتموه السلطة؟ أتوالون أعداء الله؟ فاتقوا الله سبحانه وتعالى، واعلموا أنكم حينما تولون فلاناً وفلاناً في مناصب الدولة وفي الأمور المهمة وهو يحارب الله عز وجل فإنكم ساعدتموه في حرب الله عز وجل حينما تولونه منصباً، أو حينما تعطونه أهلية، أو حينا تفتحون له صفحات الصحف والمجلات، نقول ذلك لهؤلاء المسئولين، وأظنهم -إن شاء الله- لن يتأخروا؛ لأنهم يبحثون عن الحق، وسوف يغيرون إن شاء الله، أما إذا لم يغيروا فالأمر كما قيل: إذا لم تكن إلا الأسنة مركباً فما حيلة المضطر إلا ركوبها فربما تنطلق المجموعات من الشباب الثائر الغاضب لدين الله عز وجل، فيحدث خلل في هذا الأمن الذي أسأل الله سبحانه وتعالى أن يحفظه لنا، فالعالم كله يعيش في خلل واضطراب إلا بلادنا والحمد لله، فقد حماها الله سبحانه وتعالى بتطبيق شرع الله، فأصبحت تعيش آمنة مطمئنة، وجعل الله لها حرماً آمناً، ويتخطف الناس من حولها.
وأنا أقول للمسئولين: اتقوا الله وأوقفوا هؤلاء المفسدين في الأرض عند حدودهم، وإلا فأخاف أن يحدث أمر لا نملكه نحن ولا أنتم، والشاعر يقول: أرى خلل الرماد وميض نار ويوشك أن يكون لها ضرام وإن لم يحمها عقلاء قومي يكون وقودها جثث وهام فأنا أخشى أن تنطلق هذه المسيرة كما انطلقت في بلاد مجاورة، فلا يستطيع أحد أن يضبطها؛ لأنها تغضب لله عز وجل، والإنسان إذا غضب لله عز وجل لا أحد يستطيع أن يقف في وجهه أبداً في أي من الأحوال.
فنقول: إن لم تسكتوا أولئك فأخاف أن لا نستطيع نحن أن نضبط الأمور، فالشباب من ورائنا يطلبون منا الفتوى ليشيعوا الفوضى في الأرض، وأنتم لا تستطيعون ضبطهم؛ لأنهم أناس تحركوا لدين الله عز وجل، وكل إنسان نستطيع أن نجبره أو نوقفه عند حده إلا إنساناً غضب لدين الله، فأخشى أن لا نستطيع إيقافه عند حده، أقول هذا وأنا واثق كل الثقة بأن الدولة تبحث عن الحق إن شاء الله، ففيها خير كثير.(12/29)
موقف العلماء من تولي المنافقين مناصب في الدولة
السؤال
لماذا يسكت العلماء والدعاة عندما يُولى أصحاب الاتجاهات الخبيثة مناصب في الدولة؟
الجواب
العلماء ما سكتوا، بل هم ينكرون بمقدار ما يستطيعون، والحمد لله، فالمنابر الآن تهز الأرض، والعلماء بمقدار ما يعطون من الضوء الأخضر يقولون، لكن حينما يسرج النور الأحمر فأكثر الناس يخاف منه؛ لأنه علامة الخطر، ونحن نقول للأخ السائل: أعطنا الضوء الأخضر ونستطيع أن نقول كلمة الحق أكثر من ذلك، وحكامنا -والحمد لله- هم أول من يقبل كلمة الحق، فهم فتحوا أبوابهم، ونحن نزورهم بين فترة وأخرى ونذكر لهم الحلول، ونذكر لهم تاريخ البشرية، وماذا حدث في تاريخ البشرية من الخلل بسبب وجود مفسدين في الأرض، وسوف نذكر لهم هذه الأشياء، وهم -إن شاء الله- لا يتركون هذا الأمر يستمر أكثر مما هو عليه الآن.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.(12/30)
طريق الجنة
الجنة هي سلعة الله الغالية، وقد جعلها الله تعالى هدفاً يتسابق إليه المتسابقون، ويسارع إليه المسارعون، وجعل لها طرقاً وسبلاً من سار عليها وصل إليها بإذن الله تعالى، وهناك عقبات كثيرة على تلك السبل قد تحول دون دخول الجنة، فيجب على المؤمن أن يسلك الطرق الموصلة إلى الجنة، وأن يتجنب تلك العقبات، وأن يتسلح بالعلم النافع والعمل الصالح.(13/1)
وجوب المسارعة إلى الجنة
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونثني عليه الخير كله، ونشكره ولا نكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، الذي أرسله الله رحمة للعالمين، وحجة على الناس أجمعين، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، صلى الله عليه وسلم وبارك، وعلى آله وأصحابه ومن دعا بدعوته، وعمل بسنته، ونصح لأمته إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الإخوة! الموضوع: في طريق الجنة نسأل الله سبحانه وتعالى أن يبلغنا وإياكم ووالدينا وإخواننا المسلمين هذه الجنة، التي طالما تاقت لها نفوس المؤمنين، وقدموا في سبيل الحصول عليها والبحث عن طريقها كل ما يملكون، وفوق ما يستطيعون، نسأل الله ذلك.
الموضوع يدور حول قول الله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران:133 - 136].
جاءت هذه الآيات التي ترغب بالجنة وبطريقها بعد آيات تحذر من النار قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران:130 - 133].
هذا هو الطريق الموصل إلى الجنة، والله تعالى هنا يقول: (وَسَارِعُوا)، ولذلك فإنه يلاحظ على كل الأفعال الخيرية التي يؤمر المسلم بأن يجد في السير إليها، أن يكون ذلك إما بطريق المسارعة دائماً أو بطريق المسابقة، قال تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [المائدة:48]، {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الحديد:21]، {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [الأنبياء:90]، {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] دائماً وأبداً بالنسبة لسعي الحياة الآخرة.
وبالنسبة للسير في البحث عن الرزق في الحياة الدنيا: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك:15].
ومن هنا فإن المسلم مطالب بأن يستبق الخيرات، وأن يبذل الجهد في سبيل الحصول على هذه السعادة وعلى هذه الدار.(13/2)
الجنة كانت هي السكن الأول للإنسان
هذه الجنة هي التي كانت مسكن الإنسان في يوم من الأيام، ما كان هناك تكليف، ولا كانت هناك واجبات، قال تعالى: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا} [البقرة:35] ولكن اقتضت حكمة الله عز وجل أن يكون لهذا الإنسان عدو، وأن يكون الصراع بين هذا الإنسان وبين عدوه حتى يكون للجنة ثمن، وحتى لا يدخل الجنة إلا من يستحقها، قال تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا} [البقرة:38].
والفطرة التي فطر الله الإنسان عليها سليمة لا شك فيها، فهي فطرة التوحيد والعقيدة والإيمان، قال تعالى: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:30]، وفي الحديث القدسي يقول الله عز وجل: (خلقت عبادي حنفاء، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم) وهذه الفطرة وذلك العهد هو ما أشار الله عز وجل إليه بقوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:172] هذه هي الفطرة التي عليها خلق الإنسان وفطر.
لكن حينما تسلطت شياطين الإنس والجن على هذا الإنسان كان هناك فريق في الجنة وفريق في السعير، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، قال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} [البقرة:213] أي: على ملة واحدة، أي: فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين.
ومن هنا افترقت الناس إلى قسمين، وبدأ الصراع بين الحق والباطل منذ تلك اللحظة، قال تعالى: {اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [طه:123]، وحتى يرث الله الأرض ومن عليها، قال صلى الله عليه وسلم: (ولا تزال طائفة على الحق ظاهرين حتى يأتي أمر الله أو حتى تقوم الساعة).(13/3)
ثمن الجنة وصفات أهلها
ومن هنا نعرف أن للجنة ثمناً، وهذا الثمن هو ما أشار الله عز وجل إليه بقوله: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133]، فأول شرط من شروط هذه الجنة وأول ثمن من أثمانها هو تقوى الله عز وجل، والمراد بتقوى الله: امتثال أوامره واجتناب نواهيه، العمل بطاعة الله على نور من الله رجاء ثوابه، والحذر من سخط الله على نور من الله خشية عقابه.
وهذه التقوى لا يوفق الله عز وجل إليها إلا من يستحقها ومن هم أهل للجنة، ومن أجلها بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، ولذلك فإن كل الأنبياء يدعون الأمم: {أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131] وعلى هذا فإن هذه هي القيمة الأولى والثمن الأول للجنة.(13/4)
الإنفاق في السراء والضراء
قال تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ} [آل عمران:134]، والمراد بالسراء أي: في حال السعة والطمأنينة، والضراء، أي: في حال الضيق والشدة والعجز، وإنفاقهم في حال السراء شكراً لله عز وجل، وإنفاقهم لأموالهم في حال الضراء صبراً وعلامة قوية من علامات الإيمان، ولذلك فإن المؤمن هو الذي يبذل ماله، ويعرف أن هذا المال ليس له وإنما هو ملك الله، وأنه مستخلف في هذا المال، قال تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:7]، وأن الله تعالى هو الذي يورث هذا المال في آخر الأمر: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا} [مريم:40]؛ ولذلك فإن المسلم يستخلفه الله عز وجل في هذا المال ليمتحن بذله وصبره وسخاءه أو بخله.(13/5)
كظم الغيظ والعفو عن الناس
يقول الله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} [آل عمران:133 - 134] والكظم معناه: الحبس، والغيظ معناه: أشد أنواع الغضب، وحينما يغضب هذا الإنسان لا لله عز وجل فعليه أن يكتم هذا الغيظ وهذا الغضب، ولكن حينما يكون هذا الغضب لله عز وجل ومن أجل دينه فلا يجوز أن يقف هذا الغضب عند حد العاطفة، وإنما ينتهي حتى تقام حدود الله عز وجل؛ ولذلك ما غضب الرسول صلى الله عليه وسلم غضباً إلا أن تنتهك حرمة الله عز وجل، ولا أظهر شدة إلا حينما يتعدى على حدود الله عز وجل، والمسلم مطالب أن يكظم الغيظ؛ بل مطالب أن يكون غيظه وغضبه لله عز وجل ومن أجل دين الله، وإذا كان يغضب لأمر من أمور الدنيا فإن عليه أن يغضب لله عز وجل أكثر من ذلك.
قال تعالى: {وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ} [آل عمران:134]، والعفو صفة من صفات المؤمنين لاسيما في ساعة القدرة، وضعف المعفو عنه، فإن العفو أمر مطلوب؛ ولذلك حث الله تعالى على العفو والإحسان فقال: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34].
ومن هنا تعالج مشاكل الناس بعضهم مع بعض، فالعفو عند المقدرة، والتجاوز والصفح عن الإساءة أكبر سبب وأكبر وسيلة يستطيع من خلالها المسلم أن يملك قلوب الناس، قال تعالى: {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34]، ولكن هذا العفو عند المقدرة لا يستطيعه إلا الصابرون، ولذلك قال الله تعالى: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا} [فصلت:35] أي: العفو عند المقدرة {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35].
وهذا العفو على نوعين: فقد حث الله عز وجل على العفو في القرآن، وحذر من العفو في مكان آخر، بل في موقعين متجاورين قال تعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى:43]، وقال قبلها: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى:39].
فنستطيع من خلال هاتين الآيتين المتجاورتين أن نجمع بينهما إذا كان حق للإنسان فالعفو أفضل، بشرط ألا يراد بهذه الإساءة استذلال أحد من المسلمين، أما إذا أريد بالإساءة إذلال مسلم من المسلمين، أو كان هذا الحق ليس للإنسان وإنما هو لله عز وجل، وكان غضباً لدين الله، فالله تعالى أمر بالانتقام فقال: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى:39].
قال تعالى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134]، وهو إتقان العمل، ومراقبة الله عز وجل في الغيب والشهادة.(13/6)
المبادرة بالتوبة والاستغفار من الذنوب والمعاصي
ثم بين آخر عنصر من عناصر طريق الجنة فقال: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران:135]، والفاحشة: هي ما عظمت من الذنوب، وظلم النفس معناه: مطلق المعاصي.
وعلى هذا: فإن المسلم عليه أن يكون بعيداً عن هذه الأمور التي تحول بينه وبين ربه سبحانه وتعالى، لكن لما فطر الإنسان بطبيعته وجبلته على الميل إلى ملاذ الحياة الدنيا، ولربما تكون مما حرم الله؛ فقد أمر الله عز وجل بسرعة المبادرة بالتوبة والإنابة، وبين الله في مكان آخر أن هذا الإنسان لو ملأ الأرض ذنوباً وبلغت ذنوبه عنان السماء، ثم تاب وأناب إلى ربه؛ فإن الله تعالى يقبل التوبة عنه، ويعفو عن سيئاته، يقول تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]، بشرط: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزمر:54].
والإنسان بطبيعته وفطرته البشرية قد يميل إلى أمور قد تكون محرمة، وقد يغفل الإيمان ساعة من الزمن فيقع في شيء مما حرم الله، فهذه فطرة البشرية لا يسلم منها إلا من عصمه الله عز وجل، وعلاجها سرعة التوبة والإنابة إلى الله عز وجل، وهنا يقول الله تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً) و (إذا) للمفاجأة والسرعة، (أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) أي: ما دون الفاحشة، (ذَكَرُوا اللَّهَ) أي: ذكروا ساعة الوقوف بين يدي الله عز وجل، وساعة الحساب، وذكروا ظلمة القبر، ويوم يقفون أمام الميزان الذي توزن فيه الحسنات والسيئات، إذا هموا بظلم مخلوق من المخلوقين أو بظلم النفس أو التعدي على أمر مما حرمه الله أو ما أشبه ذلك؛ فإنهم يبادرون بالتوبة والإنابة، وقد وعد الله عز وجل مثل هؤلاء أن يبدل لهم السيئات إلى حسنات، فقال: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:70]، ويقول جمهور المفسرين: كل سيئة يقترفها هذا الإنسان تتحول إلى حسنة في سجل أعماله، وليس معنى ذلك التشجيع على فعل السيئات ثم تركها، ولكن معنى ذلك: سرعة المبادرة بالتوبة والإنابة إلى الله عز وجل، وهو ما أشار الله تعالى إليه في آخر سورة الأعراف: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201].
وعلى هذا: فإن المسلم عليه إذا فعل سيئة أن يغلب جانب الخوف، وإذا فعل طاعة أن يغلب جانب الرجاء، وعليه أن يجمع بين الرجاء والخوف في آن واحد، كما ذكر ابن غزوان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال: (ولقد ذكر لنا أن الحجر يرمى من شفير جهنم ما يبلغ لها قعراً، والله لتملأن! والله لتملأن! ولقد ذكر لنا أن ما بين مصراعين من مصارع الجنة كما بين مكة وهجر -أي: عرض الجزيرة العربية- وليأتين عليه يوم وهو كظيظ من الزحام) أي: من كثرة الداخلين.
هنا يجمع الإنسان بين الخوف والرجاء، وفي ساعة الاحتضار يغلب الإنسان جانب الرجاء بالله تعالى فلا يموت إلا وهو يحسن الظن بالله سبحانه وتعالى.
المهم أيها الإخوة! هذه الآية تجعل من صفات المؤمنين أهل الجنة أنهم يبادرون بالتوبة، فلا يفرطون ولا تغرهم الحياة الدنيا، ولا يغرهم الشباب والقوة والفتوة، ولا تغرهم الصحة والعافية، بل هم دائماً على خوف واستعداد للموت قبل نزوله، ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى حدد أجلين للتوبة: الأجل الأول: هو الغرغرة وبلوغ الروح الحلقوم، وهو ما أشار إليه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (إن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يغرغر)، أول ما تبلغ الروح الحلقوم، وهذا أجل بعيد بالأصل ولكنه قريب؛ لأن الإنسان لا يدري متى يقع الأجل.
الأجل الآخر: طلوع الشمس من مغربها بالنسبة لعامة الناس، وهو ما أشار الله عز وجل إليه بقوله: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:158]، ويقول الله عز وجل عن الأول: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} [النساء:17] فأبشروا أيها الإخوة! فإن معنى (جهالة) أي: في غفلة، وليس معناها في جهل؛ لأن الجاهل لا يؤاخذ على أي سيئة من سيئاته، ثم حدد الأجل وقال: (ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ)، وأبشروا أيضاً أيها الإخوة؛ فإن القريب ليس معناه: في الحال، ولكن معناه: ما قبل الموت، بدليل قوله تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} [النساء:18].
المهم أيها الإخوة! أن يكون هذا الإنسان دائماً وهو يقترف الذنب -إذا قدر له أن يقترف ذنباً في غفلة عن دينه- أن يقترف هذا الذنب وهو خائف، أما أن يفعل هذا الذنب وهو يضحك، فإن المثل يقول: (من فعل الذنب وهو يضحك دخل النار وهو يبكي).
ولذلك فإن المؤمن إذا فعل ذنباً ولو كان صغيراً أصبح على رأسه كجبل، والآخر البعيد -نعوذ بالله من حاله- إذا فعل الذنب رآه كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم: (كذباب وقع على وجهه فقال به هكذا) أي: تساهله من بهذا الذنب، والتساهل بالذنب يعتبر ذنباً.
وهذه الذنوب تختلف بحجمها وفي أصلها وفي أهلها، فهناك ذنوب بين العباد مع الله عز وجل لا تصل إلى درجة الشرك، لا يعبأ الله عز وجل بها يوم القيامة، وهناك ذنوب الشرك -نعوذ بالله- لا يغفر الله عز وجل منها شيئاً يوم القيامة، وهناك غير هذين الاثنين، وهي المظالم والتعدي على حرمات الناس وأموالهم وأعراضهم ودمائهم وحريتهم، وهذا هو الديوان الذي لا يترك الله عز وجل منه شيئاً يوم القيامة، وهذا هو الذي يقتص له يوم القيامة بالحسنات والسيئات، وصاحبه هو المفلس الذي يأتي يوم القيامة مفلساً، كما قال عليه الصلاة والسلام: (المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام فيأتي وقد ضرب هذا، وظلم هذا، وأخذ مال هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه ثم طرح في النار).
فهذه هي حياة الإنسان، وهذا هو طريق الجنة، فعلى المسلم أن يبادر في سلوك طريق الجنة.(13/7)
وسائل دخول الجنة
أيها الإخوة! هناك أمور هي التي توصل الإنسان إلى الجنة، وهناك أمور تعتبر سبيلاً من سبل الوصول إلى الجنة ووسيلة من وسائل دخول الجنة، وأهم هذه الوسائل بل الأصل هو رحمة الله عز وجل، وقد حكم الله عز وجل بأن رحمته وسعت كل شيء، كما أن كلمة (رحمة) تطلق على الجنة قال تعالى: {فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران:107]، وتطلق على كرمه سبحانه وتعالى بحيث يشمل أقواماً برحمته، لكن هذه الرحمة التي لا يدخل الجنة أحد إلا بها لها أسباب، وأقول: لا يدخل الجنة أحد إلا بها؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح: (لن يدخل الجنة أحد منكم بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته).(13/8)
من وسائل دخول الجنة العمل الصالح
لذلك فإن الوسيلة التي نلجأ إليها ونتذرع بها لدخول الجنة هي رحمة الله عز وجل، وهي التي وسعت كل شيء، ولكن لها أسباب، ولذلك يقول الله تعالى: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [الأعراف:156] وهم أيضاً: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ} [الأعراف:157]، وهذه الرحمة أسبابها ووسائلها الأعمال الصالحات التي يقدمها هذا الإنسان في هذه الحياة الدنيا، ولذلك فإن المسلم مطالب بأن يتعرض لرحمة الله عز وجل بالأعمال الصالحات، في التوحيد بالعقيدة السليمة بالحب لهذا الدين بالولاء لهذا الدين بالدفاع عن هذا الدين بالاستماتة دفاعاً عن دين الله عز وجل وعن عقيدته، هذه هي رحمة الله، وهذه أهم الأسباب التي يحصل بها الإنسان على رحمة الله سبحانه وتعالى.(13/9)
الموت على ملة الإسلام
أيضاً من أهم هذه الوسائل: الموت على الملة، قد يحيا الإنسان حياة طويلة على طاعة الله، لكن الله تعالى قد كتب له سوء الخاتمة نسأل الله العافية والسلامة، والله تعالى يقول: {وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، ووصية نبي الله يعقوب لبنيه: {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132]، فالعبرة هي بما يموت عليه الإنسان، لا بما يحيا عليه، فقد يعيش حياة طويلة في أعمال صالحة، ظاهرها أنها تورده الجنة، لكن الله تعالى قد ختم له بالشقاوة نسأل الله العافية والسلامة! كما جاء في الحديث الصحيح المتفق عليه: (وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها).
ولذلك يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (من كان منكم مستناً فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة).
ولذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم -وهو رسول الله الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، والذي يدخل أقوام كثر الجنة بسببه- كان كثيراً ما يقول: (اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، فتقول له عائشة: أو تخاف على نفسك يا رسول الله؟! قال: وما يؤمنني يا عائشة وقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن؟!).
إذاً: نكثر من هذه الكلمة لعل الله أن يختم لنا بالصالحات، ولا نغتر بالعمل ولو كان كثيراً، فإن العمل الكثير إذا لم يتقبله الله عز وجل يكون {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النور:39]، ويكون {كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} [إبراهيم:18] نسأل الله العافية والسلامة.
ولذلك فإن المسلم مطالب أن يبحث عن حسن الخاتمة أكثر من بحثه عن العمل الصالح.(13/10)
قوة اليقين بالله والخشية له سبحانه
أيضاً من هذه الوسائل التي يتقرب بها الإنسان إلى الجنة: قوة اليقين بالله عز وجل، والخشية لله، فلا يصرف شيئاً من دينه لغير الله عز وجل: {فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} [البقرة:150] {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ} [آل عمران:175]، والخوف والخشية جانبان عظيمان من جوانب التوحيد لا تكون إلا لله عز وجل، والخشية: هي الخوف مع الإجلال، ولذلك فإن من وقع في نفسه خوف البشر من دون الله عز وجل فقد اختل في قلبه جانب التوحيد، وأصبح على خطر من أن يحبط العمل، وأن يكون من المشركين، قال تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65]، فالخشية والخوف يجب أن يكونا لله عز وجل.(13/11)
من وسائل دخول الجنة الجهاد في سبيل الله(13/12)
الجهاد في سبيل الله يوصل إلى الدرجات العلى في الجنة
هناك طرق للجنة، وهناك طرق توصل الإنسان إلى الدرجات العلى في الجنة، وأفضل سبيل يوصل إلى أعلى درجة في الجنة: هو الجهاد في سبيل الله، الجهاد الذي عقده المسلم يوم أن كان مؤمناً بالله عز وجل كصفقة رابحة بينه وبين الله عز وجل، وحينما نتكلم عن الجهاد لا نكتفي بالجهاد الذي هو حمل السلاح في وجوه الكافرين، ولكنه أياً كان هذا الجهاد؛ ابتداء من جهاد النفس، إلى الجهاد بكلمة الحق إذا كانت عند سلطان جائر، وهذا يعتبر أفضل الشهداء عند الله عز وجل، رجل قام عند سلطان جائر فأمره ونهاه فأراق دمه أو فقتله، وهذا أفضل الشهداء عند الله عز وجل، فهو يوم القيامة مع حمزة الذي هو أفضل الشهداء رضي الله عنه.
كذلك الجهاد أيضاً بالدعوة إلى الله عز وجل، ولذلك أخبر الله تعالى بأن الدعوة هي الجهاد الكبير، فقال عن القرآن: وَجَاهِدْهُمْ بِهِ} [الفرقان:52] أي: القرآن {جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان:52]، فهو أعظم أنواع الجهاد، وهو الدعوة إلى الله عز وجل، وهذه هي التي قال الله عز وجل عنها: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا} [فصلت:33]، فالدعوة إلى الله هي أحسن قول، والجهاد بالدعوة إلى الله وكلمة الحق وإعلانها في الناس والصبر على الأذى فيها تعتبر أفضل وأعظم أنواع الجهاد: {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان:52] فهو جهاد كبير أكبر من الجهاد المعروف إذا دعت الضرورة إلى هذا النوع من الجهاد، فهو أكبر من الجهاد بالسلاح وإراقة الدماء؛ لا سيما حينما يضعف الناس عن هذا الجانب من جوانب الجهاد، فإن الله تعالى قد سماه جهاداً كبيراً.
ثم يأتي الجهاد بالنفس والمال والدم والروح، ومن خلال هذا الجهاد تتحقق البيعة التي أبرمها المؤمن مع ربه سبحانه وتعالى يوم كان مؤمناً بطريقة تلقائية مباشرة دون أن تحتاج إلى كتابة عقد، فإن هذا العقد مبرم منذ أن اعتنق هذا المؤمن هذا الإيمان، وهذا العقد مصدق في كل الكتب السماوية في التوراة والإنجيل والقرآن، وهذا العقد قد استوفى كل أركان المعاملات المعروفة عند الفقهاء: بائع ومشترٍ، وثمن وسلعة، وهو ما أشار الله عز وجل إليه في سورة التوبة فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} [التوبة:111].
ولما نزلت هذه الآية قام عبد الله بن رواحة رضي الله عنه فقال: (يا رسول الله! ما لنا إن قتلنا في سبيل الله؟ قال: الجنة، قال: يا رسول الله! ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل) أي: لا نقبل أحداً ينقض هذه البيعة، ونحن لا نطلب نقض هذه البيعة، ما دام الثمن هو الجنة، وما دام الموت كتاباً مؤجلاً على هذا الإنسان لا يتقدم الإنسان ساعة ولا لحظة ولا يتأخر، فخير له أن تكون هذه الميتة في سبيل الله؛ ولذلك جاء في الحديث الصحيح: (من سأل الله عز وجل الشهادة بحق بلغه الله عز وجل منازل الشهداء وإن مات على فراشه).
هذه البيعة يا إخوان! بيعة عظيمة جداً، نقرؤها في القرآن، ولربما نغفل عن تجديدها مع الله عز وجل، ومن خلال هذه الغفلة يضعف الإنسان أمام الإنسان، ويضعف الإنسان أمام المخاوف والدماء التي تراق، أما حينما نقرؤها بعقل وتفكير فهذه بيعة فيها بائع وهو المؤمن، وفيها المشتري وهو الله عز وجل، مع أنه يملك روح هذا الإنسان وماله، لكن من كرمه أن اشترى هذين الأمرين بثمن وهو الجنة، وسلعة وهي النفس والمال، وثمن وهو الجنة، وهذه أركان البيع الأربعة المعروفة عند الفقهاء، ثم صدقت هذه المعاملة وهذه البيعة في التوراة والإنجيل والقرآن.
لما نزلت هذه الآية خرج المسلمون عن بكرة أبيهم للجهاد في سبيل الله، حتى نزلت آية أخرى تلوم المسلمين كيف يخرجون للجهاد ويتركون المدينة، قال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122]، إذاً: تبقى فرقة في حراسة المدينة، ولطلب العلم عند الرسول صلى الله عليه وسلم، وتخرج طائفة للجهاد، وإذا رجعت هذه الفرقة تبقى هذه وتخرج تلك.
ما الذي دفع المسلمين إلى الخروج جميعاً إلى الجهاد في سبيل الله؟ هو البحث عن هذه الجنة، وتحقيق هذه البيعة إلى أن لامهم الله عز وجل، والدليل على ما سبق أنه أفضل طريق يوصل إلى أعلى درجات الجنة قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، أعدها الله للمجاهدين في سبيله).
درجات الجنة المائة التي كل واحدة كما بين السماء والأرض، هذه المسافة الطويلة، هذه للمجاهدين؛ لتفاوت درجات المجاهدين، ولتفاوت أهدافهم ونياتهم، ونوع البلاء الذي قدموه في سبيل الله عز وجل.(13/13)
الصبر والثبات عند الفتن يوصل المسلم إلى أعلى درجات الجنة
العنصر الثاني الذي يكفل للمسلم أعلى درجات الجنة: فهو الصبر على الأذى، والابتلاء في دين الله عز وجل، وهذه درجة عالية وهي درجة المرسلين عليهم الصلاة والسلام، فقد أوذوا في سبيل الله، ثم بعد ذلك صبروا، ثم كانوا في أعلى درجات الجنة.
ويلحق بهؤلاء الأنبياء في الدرجة الثانية المصلحون، الذين قدموا أنفسهم لهذا الدين، وصبروا على هذا الأذى، وتفانوا في الدفاع عن دين الله عز وجل، وقدموا على الله عز وجل غير مغيرين ولا مبدلين، ولا مستكينين لغير الله عز وجل.
الدرجة الثالثة العليا: الذين يثبت إيمانهم عند الفتن، وهذه المرحلة لا يطيقها إلا القلة من الناس؛ لأن هناك من الناس {مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ} [الحج:11] إذا رأى أن الناس معه، وأن الخير معه، وأنه لا يؤذى في ذات الله؛ فإنه يثبت على هذا الطريق؛ لأنها أصبحت طريقاً سهلة ممهدة، لكن حينما يصيبه الأذى في دينه يرجع على عقبيه، وينكص ويعود من منتصف الطريق، {يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ} [الحج:11].
هذه الفتن جعلها الله عز وجل في طريق الجنة لتمحص المؤمنين، ولتيمز الصادقين من غير الصادقين؛ ولذلك يقول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت:10]، إذا أصابه أذى في دينه قال: لقد هربت من الأذى فكيف أقع في الأذى؟! لقد هربت من عقوبة الآخرة والآن أقع في عقوبة الدنيا! إذاً: أتحمل العقوبة المتوقعة وأسلم من عقوبة حاضرة، هكذا يتفلسف ويظن أن العقوبتين متساويتان! والحقيقة أن هناك الفرق الكبير الشاسع بين عقوبة الدنيا وعقوبة الآخرة.
قال تعالى: {وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} [العنكبوت:10]، هؤلاء الذين يرجعون من منتصف الطريق هم الذين لا يصلحون الحياة، لا سيما الحياة الحاضرة؛ بل إن الحياة كلها جعل الله عز وجل هؤلاء الناس بعضهم لبعض فتنة فقال: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان:20] أي: أتتحملون هذه الفتنة؟ ومن أجل ذلك فإن الذين يثبتون على هذا الطريق، ولا يتراجعون حينما تصيبهم فتنة هم الذين يستحقون الدرجات العلى في الجنة، وهم الذين قال الله عز وجل فيهم: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} [آل عمران:179]، وهذه الآية نزلت في آخر سورة آل عمران من أجل أن تبين أن ما حدث في غزوة أحد -التي تكلمت عليها سورة آل عمران- من أذى أصاب المسلمين، فقتل منهم سبعون، وجرح خير البرية محمد صلى الله عليه وسلم، أن هذا له فائدة، حتى المصائب لها فائدة، ما هي الفائدة؟ قال تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} [آل عمران:179].
إذاً: معنى ذلك: أن الأحداث والمصائب والفتن التي تحل بأمة من الأمم لمصلحة هذه الأمة، من أجل أن يخرج ذلك الداعية ممحصاً، ومن أجل أن يخرج ذلك المؤمن قوي الشكيمة، شديد العزيمة، مؤمناً حقاً، يستطيع أن يتحمل أعباء الحياة وتكاليفها، لكن حينما تكون الحياة كلها رخاء وسهولة، ورقة وليناً ودعة، فباستطاعة كل الناس أن يقولوا: إنهم مؤمنون، ولذلك يقول الله تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2]، و (حسب) هنا استفهام إنكاري، أي: من ظن أنه إذا قال: آمنت ولا يفتن فعليه أن يراجع حسابه، فالاستفهام إنكاري معناه: أنه ليس من المعقول وليس حقيقة أن يترك الناس على كلمة (مؤمن) دون أن يفتنوا، والفتنة معناها في اللغة: وضع الذهب في النار حتى تظهر الجودة من الرداءة, وحينما يوضع الذهب في النار يتميز الذهب من الأخلاط الرديئة ويبقى الذهب، وتزول هذه الأخلاط الرديئة، هذه هي الفتنة في اللغة العربية، والفتنة في مفهوم الشرع الإسلامي: هي ما يصيب الإنسان من آفات وأحداث من أجل أن يتميز المؤمن الصادق من غير الصادق.(13/14)
عقبات في طريق الجنة
أيها الإخوة! إن في طريق الجنة عقبات، وليست الجنة قد فرش طريقها بالورود والرياحين، ليس طريقاً ممهداً مسفلتاً؛ لكنه طريق وعر، وهذه الطريق الوعرة ليس الهدف من ورائها أن يصرف المؤمنون عن الجنة، ولكن من هدفها ألا يدخل الجنة إلا من يستحق الجنة، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة).
وعلى هذا نفهم معنى قول الله تعالى في صفة العقبات الشديدة التي تعترض سبيل المؤمن في طريقه إلى الله وإلى الجنة من قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} [البقرة:214]، ثم يقول الله تعالى: {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214].
إذاً: نصر الله لا يأتي حتى يقول الناس: متى نصر الله؟! أي: إن نصر الله يتأخر حتى يظن طائفة من الناس بالله عز وجل سوءاً، ونصر الله يتأخر حتى ترتج الأرض بالمؤمنين وتتزلزل، (أم أحسبتم أن تدخلوا الجنة)؟! استفهام إنكاري هنا، (وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ)، والمراد بالبأساء: الحروب المهلكة، والضراء: الفقر والمسغبة والأذى، والفتن في طريق الجنة، (وزلزلوا) أصبحت الأرض كأنها تتحرك من تحت أقدامهم؛ من شدة الخوف والذعر الذي أصاب المؤمنين، فهذه الزلزلة وصلت إلى درجة أن يقول الرسول -وهو الرسول الذي أرسل من عند الله-: متى نصر الله؟! تصوروا يا إخوان! شدة الفتنة في طريق الجنة! الرسول يقول: متى نصر الله؟! وكلمة (متى) هنا ليس معناها الاستفهام، وإن كانت (متى) في الأصل هي للاستفهام، ولكن معناها هنا: الاستبطاء، أي: أبطأ نصر الله.
والمؤمنون الذين يعيشون مع المرسلين عليهم الصلاة والسلام من شدة الخوف الذي أصابهم، والشدة التي أصابتهم في طريق الجنة يقولون: متى نصر الله؟ إذا كان هذا بالنسبة للمرسلين وأتباعهم، فما هو موقف عامة الناس في طريقهم إلى الجنة وهم يفتنون في دينهم ويبتلون في طريق الجنة؟! إذاً: الطريق وعرة يا إخوان! قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:142]، {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} [التوبة:16] أي: ما يلجئون إلى غير المؤمنين، وليس معناه أن تلجأ للمؤمنين من دون الله، أي: يعتمدون على الله عز وجل، ويستعينون بالله ثم بالمؤمنين لا بالكافرين، إلى غير ذلك من العقبات التي تعترض طريق المسلم إلى ربه عز وجل وهي الدار الآخرة.
يقول خباب بن الأرت رضي الله عنه: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ما نلقاه من المشركين في مكة، فأتينا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد توسد رداءه في ظل الكعبة، فقلنا: يا رسول الله! ألا تدعو لنا؟! ألا تستنصر لنا؟! فقعد الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: لقد كان يؤتى بالرجل ممن كان قبلكم، فيوضع المنشار على مفرق رأسه إلى قدميه، ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه، ما يصده ذلك عن دين الله، ولكنكم قوم تستعجلون، ووالله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه).
ففي طريق الجنة عقبات في طريق الجنة قتل مرسلون في طريق الجنة أخرج المرسلون من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، أخرجوا وقال لهم الكفرة من أتباعهم: {لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ} [إبراهيم:13 - 14].
إذاً: هذه هي العاقبة للمتقين والمرسلين عليهم الصلاة والسلام.
في طريق الجنة قطعت أيدي أقوام وأرجلهم من خلاف، وصلبوا في جذوع النخل، وكانوا قبل لحظات يحلفون بعزة فرعون ويقولون: {بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} [الشعراء:44]، ما ولدوا في الإسلام وفي الملة كما يولد الناس المؤمنون اليوم، ولكنهم ولدوا على الكفر وعاشوا في الكفر والسحر، لكن عندما دخل الإيمان في قلوبهم في لحظة واحدة من الزمن ويهددون وينفذ فيهم هذا التهديد: {فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه:71] رأوا الجنة بأعينهم، ماذا قال أولئك؟ {(قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا} [طه:72] ما قالوا: بعزة فرعون كما كانوا يقولون قبل لحظات، قالوا: {وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72]، استهانة بالحياة الدنيا، لكن الحياة الآخرة لا أحد يستطيع أن يفعل بها شيئاً، فهي بيد الله عز وجل، وحتى الحياة الدنيا بيد الله؛ لأنه لا يقضي ما هو قاض إلا بالأجل الذي حدده الله عز وجل، ولذلك استطاع الإيمان أن يتغلب على ما في قلوبهم من الكفر والسحر في لحظة واحدة، فكيف بأبناء الملة والفطرة الذين ولدوا على الفطرة، وفي بيوت الفطرة والملة، واختلطت هذه الفطرة وهذا الخير بدمائهم وعظامهم ولحومهم؟! إذاً هم أولى أن يكون ذلك موقفهم.
في طريق الجنة خدت الأخاديد وأشعلت فيها النيران، وقيل: كل من آمن بالله لا بد أن يقتحم هذه النار أو يراجع حسابه في الإيمان بالله عز وجل، فيقتحمون هذه النار في الأخاديد، قال تعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ} [البروج:4 - 5]، وهم جالسون على حافة النار يضحكون على المؤمنين، ولحومهم تحترق بهذه النار وعظامهم، لكنه حلم الله عز وجل، والامتحان والفتنة التي وضعها الله عز وجل في طريق الجنة، قال تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8]، والله تعالى بيده القدرة.
في طريق الجنة يقتحم إبراهيم عليه الصلاة والسلام النار التي يقول المفسرون عنها: إنها نار كانت تحرق الطير في جو السماء، ويستسلم لأمر الله عز وجل، ويقول الله عز وجل بعد ذلك: {كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69].
وفي طريق الجنة يصلب خبيب بن عدي رضي الله عنه في مكة، ويقول له القوم الكافرون: هل تريد أن يكون محمد في مكانك؟ فيقول: والله ما أود أن تصيب محمداً شوكة وأنا على هذه الحال.
في طريق الجنة قتل كثير من المؤمنين وصعدوا أعواد المشانق، وقالوا لأعدائهم: {لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} [طه:72] إذاً: طريق طريق، وعرة ونستطيع أن نقول: إن هناك عقبات نستطيع أن نلخصها في أمور عشرة:(13/15)
فساد العقيدة
الأمر الأول: من العقبات التي تعترض سبيل هذا الإنسان في طريقه إلى الله عز وجل: فساد العقيدة، وعشق المبادئ التي قد زينت لهؤلاء الناس، فوجد من يرتد عن الإسلام، ويكفر بدينه، ويستجيب لدواعي الكافرين ولدعاياتهم وضلالاتهم، فيخسر الدنيا والآخرة.(13/16)
ضعف اليقين بالله عز وجل
ومنها أيضاً: ضعف اليقين بالله عز وجل، وعدم تصور عظمة الموقف، ويكون ذلك حينما يكون هذا الإيمان تقليدياً وراثياً، وهذا هو أخوف ما نخاف على المؤمن الذي يأخذ دينه وعقيدته بالوراثة أو من البيئة يجد أباه يصلي فيصلي دون أن يتصور حقيقة هذا الدين يجد أمه تصوم فيصوم، أخذ الدين عن طريق الوراثة فربما يرجع من منتصف الطريق دون أن يكمل المشوار إلى ربه سبحانه وتعالى.
لكن تصوروا يا إخوان! إبراهيم عليه الصلاة والسلام الذي يلقى في النار فيصبر، ويؤمر بذبح ولده فيحتسب، ويؤمر بترك ولده بوادي غير ذي زرع فيستجيب لأمر الله عز وجل؛ لأن إبراهيم عرف الله عز وجل من خلال آياته في هذا الكون، فهذه الآيات الآفاقية والكونية هي التي تهدي هذا الإنسان إلى إيمان أفضل، ولذلك يقول الله تعالى عن قصة إبراهيم وهو يبحث عن إله يعبده, وما كان يشك في الله، ولكنه كان يريد أن يعلم القوم، فهي حجة الله وحجة إبراهيم، قال تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} [الأنعام:83] إبراهيم ينظر إلى الكوكب فيقول: هذا ربي، ثم يغيب الكوكب فيقول: لا أحب الآفلين، ثم ينظر إلى القمر فيقول: هذا ربي، ثم يقول: {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} [الأنعام:77]، ثم ينظر إلى الشمس فيقول: {هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:78 - 79].
من هنا يبرز الإيمان القوي، أما ضعف اليقين بالله عز وجل والإيمان الذي يقول صاحبه: إن كان ما جاء به المرسلون حقاً فلا ضير أن أكون قد اتبعتهم، وإن كان غير حق فأنا ما أتعبت نفسي! هذا الإيمان لا يدخل الإنسان الجنة، ولكنه اليقين الذي يتخطى به المسلم تلك العقبات، ويقتحم العقبة الكئود بحيث يصل إلى دار السلام آمناً مطمئناً.(13/17)
حب السيطرة والطغيان
الأمر الرابع من هذه العقبات: حب السيطرة والطغيان، قال الله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا} [القصص:83]، لا يريدون علواً فليس عندهم علو بل يرفضون العلو، ولا يريدون أن يكون هناك علو إلا لله عز وجل، ولا يريدون الفساد في الأرض، فهم لا يقترفون الفساد، وهم يحاربون الفساد بقدر ما أوتوا من قوة، فهؤلاء هم الذين لهم الدار الآخرة التي هي الجنة، فإن من أكبر الأمور التي تصرف هؤلاء الناس عن دين الله عز وجل هي حب السيطرة والطغيان في الأرض، وهذه هي التي يقول الله عز وجل عنها: {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} [غافر:56]، فهؤلاء الذين ينافسون الله عز وجل في سلطانه بالكبرياء الذي هو رداؤه، والعظمة التي هي إزاره يقول تعالى في الحديث القدسي: (من نازعني شيئاً من ذلك عذبته).(13/18)
الرضا بالحياة الدنيا والطمأنينة بها
الأمر الرابع: الرضا بالحياة الدنيا والطمأنينة بها، والله تعالى يقول: {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا} [يونس:7]، هم أناس في غفلة عن الحياة الآخرة، أناس أشربت قلوبهم بحب الحياة الدنيا، وزينتها ومتاعها، ومن خلال هذا الإشراب وهذه الغفلة نسوا الله عز وجل؛ فأنساهم أنفسهم، ثم هم لا يفكرون ساعة من الزمن في أن يعودوا إلى الله عز وجل، ولذلك فإن الله تعالى قد يأخذهم على غرة، ثم يخسرون الدنيا والآخرة.(13/19)
سوء الخاتمة
الأمر الخامس: سوء الخاتمة، وهو أن يختم لهذا الإنسان بخاتمة الشقاوة، نسأل الله العافية والسلامة! وسوء الخاتمة سبيل يعاقب الله عز وجل به من يشاء من عباده، ولذلك فإن المسلم مطالب أن يبحث عن حسن الخاتمة، وحسن الخاتمة يكون بالصالحات والمداومة عليها، والمبادرة إلى التوبة والإنابة.(13/20)
صحبة الأشرار
من الأمور التي تعوق الإنسان دون الجنة: صحبة الأشرار، فقد يتخذ المسلم بطانة من دون المؤمنين، يتخذ بطانة كافرة تكون سبباً في شقائه وحرمانه وإبعاده عن الله عز وجل، وصحبة الأشرار ربما يكون سببها الإعراض عن دين الله، وعن شرع الله، وعن كتاب الله، والله تعالى يقول: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ} [الزخرف:36] أي: عن القرآن {نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا} [الزخرف:36]، باسم صديق أو صاحب أو جليس أو مستشار أو سكرتير أو ما أشبه ذلك، هذا الشيطان يتسلط على ذلك الإنسان، فيحوله إلى شيطان آخر، وهذا الشيطان إذا تسلط على هذا الإنسان لا يتركه حتى يوقعه في قعر النار، ولذلك الله تعالى أمرنا بمجالسة الصالحين فقال: {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة:1]، {لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ} [الممتحنة:13]، {لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} [المائدة:51]، {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ} [المجادلة:14]، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.
ويتسلط قرين السوء على هذا الإنسان الذي كتب الله عليه الشقاوة بسبب إعراض الثاني عن كتاب الله: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف:36]، ثم لا يدعه هذا الشيطان -سواء كان من شياطين الإنس وهم أخطر على الإنسان، أو من شياطين الجن وهم يأتون في المرتبة الثانية- حتى يرميه في قعر جهنم: {حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} [الزخرف:38]، والله تعالى يقول: {وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:39].
هذا القرين -نعوذ بالله- الذي ربما يسيء كثير من الناس -وبصفة خاصة بعض ولاة الأمر- في اختيار الجليس أو البطانة أو السكرتير، أو الذي يتولى الأمر أياً كان هذا الأمر، أو المربي؛ فيصرفه عن دين الله عز وجل، ويرميه في قعر جهنم، هذا إنما هو بسبب إعراض المتولي عن شرع الله عز وجل، وعن دين الله، ومن عقوبة الله تعالى أن يقيض له هذا الشيطان فلا يتركه حتى يرميه مع نفسه في نار جهنم، ولذلك أخبر الله تعالى بأن هناك من يعيش من الناس في صحبة الأشرار، ثم يقيض الله عز وجل رحمة من رحماته لهذا الإنسان فينقذه من هذا الفاسد ومن هذا الجليس ومن هذا السكرتير؛ لأن الله تعالى أراد له خيراً، فإذا جاء يوم القيامة ودخل ذلك التقي الجنة الذي أنقذه الله عز وجل من صحبة هذا الشرير فيسأل الملائكة: أين فلان من الناس، والله لقد كاد في يوم من الأيام أن يضلني وأن يدخلني النار؟! فيقال له: هل تريد أن تنظر إليه؟ إنه في النار.
فيقول: نعم.
فتفتح له فرجة إلى النار فيرى صاحبه يتقلب في نار جهنم، فيطل عليه من شرفات الجنة بعد أن أنقذه الله من شره فيقول: {تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [الصافات:56 - 57]، ثم يفرح بهذا النعيم فيقول: {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:58 - 61].
هذه هي الحياة السعيدة التي يجب أن نبحث عنها، وأن ننقذ من وقع في شيء من هذه الورطات على أيدي هؤلاء الشريرين، أو جلساء السوء، ننقذهم من النار بقدر ما نستطيع، ولذلك فإن صحبة الأشرار تعتبر عقبة العقبات الكئود التي تعترض سبيل هذا الإنسان إلى الجنة.
ذات يوم من الأيام صنع أبي بن خلف -لعنه الله- طعاماً دعا فيه كبار أهل مكة، إذاً لا بد أن يدعو محمداً صلى الله عليه وسلم، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا محمد! مائدة سيحضرها صناديد قريش وأنت في مقدمتهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبي! والله لا أحضر طعامك حتى تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله.
فقام الرجل بدافع الكرم وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم مائدته مع كبار القوم، فاستغرب القوم: كيف حضر محمد طعامك يا أبي؟! قال: شهدت أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله.
تصوروا يا إخوان موقف الجلساء الفاسدين! قالوا: والله يا أبي! لا نكلمك حتى تذهب وتبصق في وجه محمد، وتعلن ردتك عن الإسلام؛ فذهب الشقي البعيد فبصق في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرد الله بصاقه إلى وجهه فأصبح علامة في وجهه حتى مات، وأعلن ردته عن الإسلام، وندم الرسول صلى الله عليه وسلم أن خسر رجلاً من كبار أهل مكة، ونزلت الآيات في سورة الفرقان تعزي نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم، وتنهاه أن يغضب مثل هذا الغضب لردة واحد من خلق الله، يقول الله عز وجل عن هذا الموقف: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي} [الفرقان:27 - 29] بعد إذ هداه الله أضله هؤلاء القوم، يقول الله تعالى: {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا} [الفرقان:29]، ويعزي الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم فيقول: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ} [الفرقان:31]، ثم يبين الله عز وجل أن الهداية بيده وليست بيد الخلق: {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان:31].
إذاً: أيها الإخوة! جلساء السوء هم الذين يفسدون على الناس دينهم، وقصة أبي طالب لا تخفى عليكم، حينما كاد أن يدخل الجنة لولا جلساء السوء الذين حالوا بينه وبين الجنة، فقد حضر رسول الله صلى الله عليه عمه أبا طالب في ساعة الاحتضار، وكان أبو طالب ذا يد على رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تنكر، فهو الذي رباه، وهو الذي دافع عنه، بالرغم من أنه يكفر بدينه، فأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يرد له هذه اليد في ساعة الاحتضار، ودخل عليه وقال: (يا عم! قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله.
فالتفت الشقي إلى جلسائه، وكأنه يريد أن يأخذ رأيهم.
قالوا: أترغب عن ملة عبد المطلب؟! قال: هو على ملة عبد المطلب -نعوذ بالله- فخرجت روحه وهو يقول: هو على ملة عبد المطلب، فأنزل الله عز وجل: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56]، وأنزل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة:113 - 114])، هكذا أيها الإخوة يضر الجلساء بالجليس.(13/21)
طول الأمل واستطالة العمر
الأمر السابع: طول الأمد واستطالة العمر، فقد يطول الأمد بواحد من الناس وهو على طريق مستقيمة، ثم يمل -نسأل الله العافية والسلامة- ثم ينحرف؛ لأنه سئم هذه الطريق، ولأن هذه العبادة أصبحت تتكرر عليه خمس صلوات في اليوم والليلة، صيام شهر في كل سنة، عبادات لا يطيقها إلا المؤمنون، ولربما يطالب بالجهاد الذي سيقدم فيه نفسه وماله؛ فيطول عليه الأمد؛ فيكون من الذين قال الله عز وجل فيهم: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ} [الحديد:16]، ولذلك فإن المسلم عليه ألا يستطيل العمر، وألا يستبطئ الموت، وعليه أن يبادر بالصالحات.(13/22)
نشاط دعاة الباطل وضعف دعاة الحق
الأمر الثامن: نشاط دعاة الباطل وضعف دعاة الحق، واسمحوا لي أن أقول: إن هذه من أكبر العقبات التي تعترض سبيل المؤمنين إلى الله عز وجل وإلى الدار الآخرة، ولا ينشط دعاة الباطل إلا حينما ينام دعاة الحق، ولا ينام دعاة الحق إلا حينما يخافون على أرزاقهم أو على حياتهم من غير الله عز وجل، ولذلك فإن دعاة الباطل هم كالخفافيش التي لا تنتشر إلا حينما يخيم الظلام، وهم كالفئران التي لا تنطلق في الأرض إلا حينما يسكن الجو وتفقد الحركة، ولكن حينما تكون هناك حركة -أي: دعوة- فإن هذه الفئران ترجع إلى مواقعها خاسئة ذليلة.
إذا نشط دعاة الباطل، وسكت دعاة الحق أو أسكتوا؛ أصبح الأمر خطيراً تفسد الحياة، ويلتبس الأمر على الناس، ويختلط الحابل بالنابل، ثم تنزل عقوبة الله عز وجل على هؤلاء البشر وهم يخوضون كما تخوض البهائم في هذه الحياة.
ولذلك فإن المرسلين عليهم الصلاة والسلام ختمت رسالاتهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، وانتهت الرسالات بمحمد صلى الله عليه وسلم، وتحمل الأمانة كل عالم من علماء المسلمين ولو علم آية واحدة من كتاب الله عز وجل، وأصبح العبء يتحمله كل واحد من المؤمنين أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، حيث يقول الله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ} [الحج:78] {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]، لستم كالأمم السابقة أخرجت لأنفسها، ولكنكم أخرجتم للناس.
إذاً: الدعوة إلى الله عز وجل أمر مطلوب لا بد أن تنتشر في هذه الأرض، وإذا سكتت أو أسكتت فإن دعاة الباطل سوف يتحركون، وإذا تحرك دعاة الباطل حينئذ يهلك الحرث والنسل، وتفسد الحياة، وتسوء الأمور، وتنزل عقوبة الله عز وجل، ولا يتخلص بعد ذلك من هذه العقوبة إلا الذين ينهون عن السوء.
إن الدعوة إلى الله عز وجل هي السبيل المثلى؛ بل هي السبيل الوحيد للوصول إلى الجنة ولإيصال الناس إلى الجنة، تصوروا يا إخوان! الدعوة إلى الله تدخل حتى الكافرين الجنة، كيف تدخل الكافرين الجنة؟ لأنها تسعى لهداية هؤلاء الناس، فيدخل حتى الكفار إضافة إلى المسلمين الجنة إذا التزموا بالمبدأ الذي دعا إليه المصلحون، والله تعالى يقول: {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [الأعراف:170]، ولم يقل: لا نضيع أجر الصالحين، ففرق بين الصالح وبين المصلح، ولذلك أخبر الله تعالى بأنهم هم الذين يمسكون بالكتاب: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [الأعراف:170].
أيها الإخوة! دعاة الحق لا بد أن ينشطوا في كل عصر، ولا يجوز إسكات دعاة الحق، وإذا أسكت دعاة الحق فإن هذه الحياة لا تخلو من حركة، ولا تخلو من عمل، فسوف يتحرك دعاة الباطل، وهم الذين يكرهون الدولة، ويكرهون الإسلام، ويكرهون حكم الله، ويكرهون شرع الله، وأول أمنية وأكبر أمنية لهم أن ينتشر الفساد في الأرض، وأن يكون الدين لغير الله عز وجل.
إذاًَ: أخطر طريق تعترض طريق المؤمنين أن توقف الدعوات، أو أن تناقش وتحاسب، أو ألا يفسح لها المجال في الأرض، هذا دين الله يا إخوان! والله لا بد أن يسير في الأرض ولو كره الناس كلهم أجمعون، لا بد أن يسير في الأرض، ولكن ننصح كل إنسان يريد الخير والسعادة؛ سواء كان على مستوى المسئولية أو على مستوى الأفراد، أن ينضم إلى هذا الصف، وإلى هذه المجموعة، ولذلك فإن هذا الدين لا يضيره أن يقف العالم كله في وجهه، ولكن يلزم كل من أراد السلامة والسعادة النفسية في الدنيا والآخرة أن يسير في هذا الخط وفي هذا الصف.
أيها الإخوة! إذا نشط دعاة الباطل -وأخطر دعاة الباطل حينما يكونون من أبناء جلدتنا- فعلى الأمن والطمأنينة السلام، ودعاة الباطل إذا كانوا من أبناء جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا فالخطورة أشد وأعنف.(13/23)
فساد البيئة بالمعاصي والآثام
كذلك من العقبات: فساد البيئة، ونقصد بفساد البيئة: تلوثها بالمعاصي سواء كان فساداً في الإعلان، أو فساداً في الاقتصاد، أو فساداً في التربية، أو أي نوع من هذه الأنواع، وهذه تعتبر من أكبر العقبات التي توجه الناس وجهة منحرفة، لا سيما في وقت يغيب فيه دعاة الحق، أو لا يسمح لهم بكلمة الحق، فالبيئة الإسلامية يجب أن تكون طاهرة نقية، ومن هنا يكون جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمراً مطلوباً لا بد منه.(13/24)
حب المركز وسوء الظن بالله
الأمر الأخير من هذه الأمور: حب المركز وسوء الظن بالله عز وجل بأن الأجل بيد غير الله أو أن الرزق بيد غير الله عز وجل، وهذه من أكبر البلايا التي ربما تصرف الإنسان عن ربه إلى المخلوقين، مع أن الله تعالى أخبر بأن هناك كتاباً مؤجلاً فقال: {كِتَابًا مُؤَجَّلًا} [آل عمران:145]، {إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [يونس:49]، ولا يستطيع أحد أن يزيد في عمر الإنسان أو ينقص منه لحظة؛ لأنه مقدر من عند الله عز وجل، وحتى لو أصيب من قبل المخلوقين فهذا أجله الذي كتبه الله عز وجل عليه، ففيم يكون الخوف؟! أما الرزق فإن الله تعالى قد التزم لكل واحد من المخلوقين برزق أياً كان هذا المخلوق، حتى لو كان حشرة في جوف صخرة في قعر البحر، قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} [هود:6]، وحب المركز والمحافظة عليه قد يؤدي بهذا الإنسان إلى أن يتراجع عن دينه، أو أن يغفل عن ربه سبحانه وتعالى؛ حرصاً على هذا الأمر؛ لذلك فإني أختم حديثي هذا بقصة رجل من التابعين رضي الله عنه، عرضت عليه هذه المغريات لتصرفه عن الجنة وعن الله عز وجل فرفضها جميعاً، وقال بلسان الحال والمقال: أنا مسلم أبغي الحياة وسيلة للغاية الكبرى وللميعاد هذا الرجل الذي يحدثنا عنه التاريخ هو عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه، نختصر قصته في كلمات يسيرة: عبد الله بن حذافة كان من القادة الذين اشتركوا في قتال الروم في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان رجلاً شجاعاً ذكياً، توجد فيه كل صفات الرجولة، وقع في أسر الرومان، فجيء إلى قيصر الروم وقيل له: أيها الملك! إن في سجنك رجلاً لو كسبته لكان مكسباً عظيماً.
فقال: جيئوني به، فلما مثل أمام قيصر قال له: يا عبد الله! لو تنصرت لشاطرتك ملكي! الآن يتنصر الكثير من المسلمين بأسباب تافهة، اثنا عشر مليوناً تنصروا في إندونيسيا وحدها في مدة ثلاثين أو خمس وعشرين سنة، والدعايات التنصيرية الآن تسير في الأرض، ولربما يخدمها من أبناء جلدتنا.
لو تنصرت -انظروا يا إخوان كيف الإغراء- شاطرتك ملكي! يعني: تكون شريكاً لي في حكم بلاد الروم.
فقال: اخسأ يا عدو الله! والله لو كانت لي الدنيا كلها بأسرها ما تركت شيئاً من ديني.
إذاً: هذه مؤامرة، مؤامرة المركز عرضت على هذا الرجل المؤمن، فرفض هذا المركز لأنه سيكون على حساب دينه، بخلاف الذين يتنازلون عن كل دينهم مقابل مركز أصغر من ذلك بكثير.
فقال: ردوه إلى السجن، وزيدوا في الثقل عليه، ثم استشار الخبراء والجلساء ماذا يفعل بـ عبد الله بن حذافة؟ فقالوا: الشهوة، فإنه شاب حدث قوي الجسم، له شهور عن أهله، لو عرضت عليه الجنس الذي يعرض الآن على كثير من الناس في وسائل الإعلام وفي الأفلام، حتى في الطيران بين السماء والأرض يعرض الآن.
قالوا: الجنس لو عرضته على هذا الرجل فربما تكسبه.
قال: جيئوني بأجمل فتاة في بلادنا.
فجيء بها فأغريت بكل المغريات لو استطاعت أن تفتن هذا الرجل المؤمن.
يقول المؤرخون: فتجردت عن كل ملابسها، ودخلت على عبد الله وهو يتلو القرآن، وهو مكبل بالأغلال، فوقعت في أحضانه، فقال: معاذ الله! إنه ربي، فهرب منها وصارت تلاحقه، وكلما اتجه إلى جهة ببصره لحقته، فانحرف ببصره عنها، ولم تستطع أن تنال منه نظرة واحدة؛ لأن الرجل قد امتلأ قلبه بخشية الله عز وجل، قالت: أخرجوني، فقابلها الصحفيون عند الباب: ماذا فعلت؟ قالت: والله لا أدري أعلى بشر أدخلتموني أم على حجر! والله لا يدري أأنثى أنا أم ذكر! فتحير قيصر الروم الآن، يريد أن يستعيد ماء وجهه مع هذا الرجل الغلام الذي استطاع أن يسقطه أمام قومه، فقالوا له: الموت، وكل الناس يخافون من الموت، فجيء بقدر عظيم وأشعلت تحته النار حتى تحول هذا القدر إلى قطعة من نار فقال: جيئوني بـ عبد الله بن حذافة ورجل من الذين كان يأنس بهم كثيراً، فجيء بـ عبد الله بن حذافة ورجل من الصالحين معه، فأوقف الاثنان على حافة القدر، فأمر قيصر أن يؤخذ الرجل -أي: صديق عبد الله بن حذافة - ويرمى في القدر، فرمي في القدر فطار دخانه، وكان يراقب عيني عبد الله؛ فسالت دمعة صغيرة من عين عبد الله رضي الله عنه وهو ينظر إلى صديقه المؤمن وقد احترق لحمه وعظامه، فظن أنه كسبه، فقال: يا عبد الله! خفت من الموت؟! أنت ستكون بعده، قال: اخسأ يا عدو الله! والله ما بكيت خوفاً من الموت، وما جئت إلى بلادك إلا أبحث عن الشهادة فكانت أمنيتي، ولكن دمعتي التي رأيتها حينما سبقني صاحبي هذا إلى الجنة وإلى الدار الآخرة، والله لقد كنت أسابقه إلى الجنة وكنت أتمنى أن أسبقه إلى الله عز وجل، فكان إذا صلى ركعتين في الليل صليت أربع ركعات في جوف الليل المظلم، وكان إذا صام يوماً في الهاجرة صمت يومين، وكنت أتمنى أن أسبقه، فالآن بكيت حينما رأيتني بكيت لأن صاحبي سبقني إلى الجنة.
فتحير الرجل وعرف أنه لا يستطيع أن ينال من هذا الرجل منالاً إلى آخر القصة.
أيها الإخوة! حينما نتحدث عن الوعورة في طريق الجنة لا نقنط الناس من رحمة الله عز وجل، ولكن نريد أن يفهم الناس أن في طريق الجنة عقبات، وأنه لا يقتحم هذه العقبة إلا ذو عقل عظيم، وذو رأي سديد، إلا من وفقه الله عز وجل لسعادة الدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن ييسر لي ولكم طريق الجنة والسعادة، وأن يهدي قادة هذه الأمة وفي مقدمتهم ولاة أمر هذه البلاد، أن يكونوا عوناً للناس إلى طريق الجنة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(13/25)
سبعة يظلهم الله في ظله
لقد وعد الله تعالى أن يظل في ظله أناساً قاموا بأعمال جليلة، وهذه الأعمال لا يتحمل مشقتها، ويجاهد نفسه عليها إلا من كان عالي الهمة، عميق الإيمان، وإنه لينبغي للمرء المسلم أن يعلمها، وأن يسعى في تحقيقها؛ لعله يكون من أهل ظل الله يوم لا ظل إلا ظله.(14/1)
الإمام العادل من الذين يظلهم الله في ظله يوم القيامة
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1] والشكر لله الذي يجمع القلوب على طاعته: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال:63].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، الذي أرسله الله رحمة للعالمين، وحجة على الناس أجمعين، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، ولم يخش في الله لومة لائم، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله ومن دعا بدعوته وعمل بسنته ونصح لأمته إلى يوم الدين.
أما بعد: فقد جاء في الأخبار أن الله عز وجل يجمع الأولين والآخرين يوم القيامة في صعيد واحد، يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، وفي ذلك الموقف تدنو الشمس من الناس قدر ميل، فيشتد الحر في أرض المحشر، ويأخذهم العرق حتى يلجم بعض الناس إلجاماً على قدر أعمالهم، وفي ذلك الحر الشديد والموقف الرهيب يستظل أقوامٌ في ظل عرش الرحمن، وما هي إلا سويعات ثم يصيرون إلى منازلهم في الجنة قبل منتصف النهار من أيام الدنيا، كما قال الله عز وجل عن هؤلاء: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} [الفرقان:24].
في ذلك الموقف يظلهم الله عز وجل في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، وقد صح في الحديث عن رسول الله عليه السلام أن من بين هؤلاء الذين يظلهم الله في ظل عرشه يوم القيامة سبعة قال عليه السلام: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمامٌ عادل، وشاب نشأ في عبادة الله عز وجل، ورجل قلبه معلقٌ بالمساجد، ورجل دعته امرأةٌ ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقةٍ فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه).
نسأل الله أن يجعلنا ووالدينا وذرياتنا وجميع المسلمين من هؤلاء الذين يظلهم الله عز وجل في ظل عرشه يوم القيامة.
وسنتكلم في هذه الرسالة الموجزة عن كل واحد من هؤلاء السبعة.
نسأل الله تعالى الإعانة والتوفيق.(14/2)
من هو الإمام العادل
العدل في مفهوم اللغة العربية هو: الإنصاف وعدم الميل والشطط، والتعامل مع الناس على حد سواء، دون أن تكون هناك فوارق أو محسوبيات، ودون أن تكون هناك أمورٌ لا يقرها الشرع ولا العقل.
فالإمام العادل هو الذي يحكم بين الناس بحكم الله عز وجل، ولذلك يقول الله تعالى لداود عليه الصلاة والسلام: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص:26]، هذا هو العدل! ولذلك أرسل الله المرسلين بالكتب السماوية من أجل أن يعدلوا بين البشر، بحيث لا يكون للمحسوبيات ولا للآباء ولا للأمجاد ولا للمراكز أي أثر في إقامة العدل بين عامة الناس، فالناس سواسية كأسنان المشط.
إذاً: الإمام العادل هو الذي يحكم بشرع الله عز وجل، فإن حكم بأحكام الطواغيت، وآراء الرجال، وأعرض عن شرع الله؛ فهو الكافر المرتد الذي يقول الله عز وجل عنه: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]، وهو الظالم لنفسه وللأمة الذي يقول الله عز وجل عنه: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45]، وهو الفاسق الخارج عن طاعة الله، وليست له طاعةٌ على الناس؛ لأن الله تعالى يقول: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47].
والأمة التي تتحاكم إلى هذا الجائر الحاكم بغير ما أنزل الله أمةٌ ضالة منحرفة عن النهج القويم والصراط المستقيم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} [النساء:60]، ويقول الله سبحانه وتعالى مخاطباً نبيه الكريم: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء:105]، ولم يقل: برأيك؛ لأنه حتى النبي عليه السلام ليس له أن يحكم برأيه، فضلاً عن أن يأتي رجل كافر أو حتى مسلم ليضع قانوناً للبشرية غير شرع الله سبحانه وتعالى، ولذلك فإن البشرية لا يجوز لها أن تخضع لنظام غير نظام الله أو لشرع غير شرعه.
الإمام العادل: هو الذي يقول الله عز وجل فيه: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ} [الحج:41]، أي: أعطيناهم سلطة، ونفوذاً، وتصرفاً، وأمراً ونهياً {أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:41].
هذا هو الإمام العادل يقيم الصلاة في نفسه ويقيمها في الأمة ويؤتي الزكاة المفروضة، ويفرضها على الأمة ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، أما لو وقف هذا الإمام ضد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فليس بعادل، ولم يؤدِ الأمانة والمسئولية التي أناطها الله عز وجل بعنقه، وسيسأل عن هذه الأمانة يوم القيامة: أحفظ أم ضيع؟ الإمام العادل: هو الذي لا يقدم نفسه على غيره، ولا يرى لنفسه حقاً على غيره، بل ويترفع عن حظوظ نفسه مقابل إقامة العدل في مجتمعه، ولا يتميز إلا بما ميزه الله عز وجل، أما هو فإنه يساوي بين حاشيته وبين نفسه وبين غيره.(14/3)
العدل أساس قيام الدول
حينما نتتبع سير سلفنا الصالح، نرى أنهم لا يحكمون الناس إلا بالعدل؛ ولأجل ذلك ولدت دولة الإسلام في المدينة، وبعد مدة وجيزة بسطت نفوذها على أكثر الكرة الأرضية، حتى كان أحد خلفائها يرفع رأسه إلى السماء ليقول لسحابةٍ مرت وهو في بغداد: (أمطري أنى شئت، فسيأتيني خراجك ولو بعد حين).
وفي ظل هذه الدولة الإسلامية العادلة كان الراكب يسير من بلاد الصين شرقاً إلى المحيط الأطلسي غرباً في دولة واحدة، وتحت رايةٍ واحدة، ليست هناك حدودٌ ولا حواجز تستوقفه لتقول له: من أنت؟ ولو قيل له: من أنت؟ لقال: أنا مسلم أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله! في ظل العدل قامت هذه الدولة في مدةٍ وجيزة، لا تبلغ نصف قرنٍ من الزمان.
وفي ظل الجور الذي يعيشه العالم اليوم تمزقت الدولة الإسلامية، فأصبحت عشرات الدول.
فالعدل هو الذي يقيم الأمم كما أن الجور هو سبب دمار الشعوب والأمم، وشتان بين العادل والجائر؛ قال عليه السلام: (إن المقسطين عند الله على منابر من نور: الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا)، وأما القاسطون -وهم الجائرون- فيقول الله عز وجل عنهم: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً} [الجن:15].(14/4)
العدل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم
إن لنا في سلفنا الصالح قدوةً في العدل والإنصاف، ابتداءً من رسول البرية عليه السلام، الذي ما كان يعرفه الأعرابي حين يقدم عليه إلى المدينة، فكان يدخل المسجد ويقول: أيكم محمد رسول الله؟! فلم يكن عليه السلام ليتميز حتى في مجلسه، أو في هيئته، أو في أي أمرٍ من الأمور.
كان عليه الصلاة والسلام في غزوة بدر يرص الصفوف للقاء العدو، وكان يمسح بيده الكريمة بطون القوم؛ ليتأكد من استقامة الصف، فيمر على أعرابي يدعى سواد بن غزية، فيمسح على بطنه، فيقول: (يا رسول الله أوجعتني!)، أتظنون أنه قال: خذوه إلى السجن؟! لا بل كشف الرسول عليه السلام عن بطنه وقال: (خذ حقك مني)، فيأتي هذا الصحابي ويقبل بطن رسول الله عليه السلام، فيسأل عن السر في ذلك، فيقول: (والله إنها لساعة أرجو أن تكون آخر عمري من الدنيا، وأريد أن يكون آخر عهدي بالدنيا تقبيل رسول الله عليه السلام، أو تقبيلي لبطن رسول الله عليه السلام).
وذات يوم اختصم بلال وأبو ذر رضي الله عنهما في أمرٍ من الأمور، فقال أبو ذر لـ بلال: (اذهب يا ابن السوداء!، فغضب بلال وذهب إلى الرسول عليه السلام فأخبره، فغضب رسول الله عليه السلام وقال: أعيرته بأمه؟ ليس لابن سوداء على ابن بيضاء فضل إلا بالتقوى)، فمعيار التفاضل فيما بين الخلق هو التقوى، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13]، فما كان من أبي ذر رضي الله عنه -وهو الرجل العربي الأصيل- إلا أن وضع خده على الأرض ليطأه بلال! هكذا يقر الإسلام قواعد العدل في الأمة، وحينئذ فليس في منظور الإسلام شريف ولا وضيع: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13].
وكذلك المرأة المخزومية التي كانت تأخذ المتاع وتجحده، وأراد النبي عليه السلام أن يقطع يدها، فأراد أسامة بن زيد رضي الله عنه أن يشفع لها عند رسول الله؛ لئلا تلحق العار ببني مخزوم، وهم من أشراف قريش، فقال الرسول عليه السلام: (إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها).(14/5)
العدالة عند أبي بكر وعمر
أما أبو بكر الصديق رضي الله عنه: فهو الذي يستهل خلافته بقوله: (أما بعد فإني وليت عليكم ولست بخيركم)، وقد كان الخلفاء الراشدون يعتبرون ولاية أمر المسلمين تكليفاً لا تشريفاً، لا كما يعتبره كثيرٌ من ولاة المسلمين اليوم.
ويقول أبو بكر رضي الله عنه في خطبته: (القوي فيكم عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، والضعيف عندي قوي حتى آخذ الحق له إن شاء الله، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم)، هكذا يعلم ولاة أمر المسلمين كيف يتعاملون مع الله ومع الناس.
أما عمر بن الخطاب رضي الله عنه: فقد أراد ذات يوم أن يقنن المهور لعل ذلك يكون حلاً للأزمة فقال ذات يومٍ وهو على المنبر: إن المهور باهظة فيجب أن تكون كذا وكذا فتقوم امرأة وتقول له: أخطأت يا عمر! إن الله تعالى يقول: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً} [النساء:20]، فقال: أخطأ عمر وأصابت المرأة.
ويقول ذات يوم: إذا رأيتم مني اعوجاجاً فقوموني، فيقوم سلمان الفارسي ويهز سيفه وسط المسجد ويقول: يا عمر! والله لو رأينا منك اعوجاجاً لقومناه بسيوفنا هذه، فيقول: الحمد لله الذي جعل في قوم عمر من يقومه بسيفه لو اعوج.
لم يقل: خذوه إلى السجن، أو إلى التحقيق؛ لأنه يريد أن يحكم هذه الأمة بالعدل، ولذلك فليس غريباً أن ينام عمر بن الخطاب رضي الله عنه ويتوسد رداءه -وهو خليفة المسلمين- ليقول له شاهد عيان: حكمت فعدلت فأمنت فنمت يا عمر.
وفي ذات يوم أسلم رجل من نصارى العرب في بلاد الشام يدعى جبلة بن الأيهم، وكان رجلاً مرموقاً في قومه، ففرح عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث أسلم هذا الرجل القيادي العظيم، وأسلم معه خلقٌ كثير، وطلب جبلة بن الأيهم من عمر بن الخطاب أن يأذن له ليعتمر، مع أنه لم يكن الطريق إلى العمرة مقفلاً، لكنه يريد أن يكون له موكبٌ خاص، فأذن له عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فذهب جبلة إلى مكة، وهو حديث عهدٍ بجاهلية، وبينما هو يطوف ويجر رداءه في المطاف، كان وراءه رجل من فقراء المسلمين من فزارة، فوطئ على رداء جبلة بن الأيهم دون أن يشعر، فسقط الرداء، فالتفت جبلة فلطم الفزاري حتى انهدم حاجبه، فذهب الفزاري إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال: يا أمير المؤمنين! هذا ما فعل بي جبلة بن الأيهم.
وكان في موكبٍ عظيم يطوفون حول الكعبة، فقال عمر: ائتوني بـ جبلة إن الدعوة إلى الإسلام لا تكون على حساب الميل والجور، وإنما: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29]، فجيء بـ جبلة ذليلاً أمام عمر، فقال له: يا جبلة! أأنت الذي هدمت حاجبه؟ قال: نعم.
إنه وطئ ردائي.
فقال الفزاري: والله ما علمت به يا أمير المؤمنين! فقال عمر: كتاب الله القصاص يا جبلة! يكسر حاجبك، فقال: كيف يا أمير المؤمنين؟! هو سوقة وأنا رجل من عظماء العرب، قال: ليس في ديننا سوقةٌ وعظيم، الكل في حكم الله سواء، فقال: إذاً أتنصر يا أمير المؤمنين! قال: لو تنصرت لقتلتك حد الردة.
قال: أعطني مهلة ثلاثة أيام، فأعطاه مهلة ثلاثة أيام، فهرب الرجل في ليلةٍ مظلمة ومن معه إلى ملك الروم وارتدوا عن الإسلام.
فلم يندم عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن ارتدوا عن الإسلام مقابل أن يقر قواعد العدل والإنصاف في الأمة الإسلامية.
وحينما اختلف ابن لـ عمرو بن العاص مع رجل من أقباط مصر، حينما سابقه فسبقه القبطي فضربه ابن عمرو بن العاص، فأرسل عمر إلى عمرو يقول له: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟!)، وأمر أن يُوقف ابن الأمير ليضربه الرجل القبطي وإن كان على غير ملة الإسلام.(14/6)
العدل مع غير المسلمين
أما علي بن أبي طالب رضي الله عنه: فقد فَقَد درعه ذات يومٍ في معركة صفين، فذكر له أن الدرع عند يهودي، فأخذ اليهودي إلى القاضي شريح، وقال للقاضي: هذا اليهودي أخذ درعي، فقال شريح لليهودي: أأخذت درعه؟ فقال: لا.
فيلتفت إلى أمير المؤمنين علي -وهو الخليفة- ويقول: ألك بينة يا أبا الحسن؟ فيقول: والله ما عندي بينة! فقال: إذاً الدرع لليهودي! فلما ولى اليهودي رجع مؤمناً؛ لأن هذه الأخلاق تدعو إلى الإسلام، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، وأشهد أن هذه أحكام أنبياء، الدرع لك يا أمير المؤمنين، تبعتك يوم صفين فسقط منك فأخذته.
انظر يا أخي ماذا فعل العدل!! رد الدرع والحق إلى صاحبه، ودخل رجل يهوديٌ في الإسلام وحسن إسلامه، وانتهت القضية بالعدل، الذي لا يُحكم الناس إلا به.
إن ديننا الإسلامي دين عدل حتى مع غير المسلمين، فلابد أن ينصفَ الكافرُ من المسلم إذا كان المسلم ظالماً، فهذا طعمة بن أبيرق كان رجلاً يدعي الإسلام، وفي ذات يوم سرق سرقة وأراد أن يلصقها برجل يهودي، وارتفع الأمر إلى الرسول عليه السلام، وجاء ناس من قوم طعمة يشهدون أن السارق هو اليهودي، حتى كاد النبي عليه السلام أن يعاقب اليهودي، لولا أن الله تعالى أنزل قرآناً يبرئه، ويأمر الرسول بالعدل والتحري، ويحذر المسلمين من أن يشهدوا ولو مع رجل مسلم ضد رجل كافر.
قال الله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً * وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً * وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ} [النساء:105 - 107]، ولو كان مسلماً وذاك يهودي {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً * يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً * هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} [النساء:107 - 109]، ثم أخبر الله عز وجل أن الإنسان إذا عمل سوءاً فعليه أن يستغفر الله: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمِ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً * وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً * وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} [النساء:110 - 112]، ولو كان يهودياً، ثم يقول الله تعالى لرسوله الله عليه السلام: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ} [النساء:113].
إذاً: هذا هو العدل الذي قامت عليه دولة الإسلام، ولو فتشنا عن أسباب سقوط الأمم؛ لوجدنا أن السبب الرئيس هو عدم العدل بين الرعية، فإن الأمم لا تقوم إلا على العدل ولا تستقر إلا بالعدل، ولذلك فإن العدل هو أفضل طريق إلى الجنة، ولرضا الله عز وجل، ولاستقرار الأمور وهدوئها.(14/7)
فضل العدالة في إقامة الأمر بالمعروف والدعوة إلى الله
إن الإمام العادل هو الذي يقود سفينة الحياة إلى طريق أفضل، هو الذي يخلصها من الأمواج المتضاربة، والأزمات المدلهمة إن العدل هو الذي يفرض على من يتولى أمراً من أمور المسلمين أن لا يولي على أمورهم إلا كفؤاً.
والعدل هو الذي يفرض على الإمام الذي يحكم بشرع الله أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، قال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:41]، فلابد من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن الأمة التي لا ترسخ فيها قواعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يفسح فيها الطريق للدعوة إلى الله عز وجل؛ أمةٌ في خطر؛ لأنها تكون قد فقدت أكبر وأعظم مقوم من مقومات البقاء والوجود في هذه الأرض، ويخشى عليها من عقاب الله عز وجل.
إنه قد تأتي فترةٌ من الفترات، في زمن من الأزمنة، في مكان من الأمكنة ينشط دعاة الباطل، ويتكلمون ملء أفواههم، ويسكت دعاة الحق عن الدعوة إليه، وحينئذٍ يضطر دعاة الحق إلى أن يطالبوا بالعدل؛ فضلاً عن أن يطالبوا بأن تكون الكلمة للمصلحين لا للفسقة والمجرمين، هذا هو الذي يحدث في كثيرٍ من الأحيان في أيامنا الحاضرة في جل العالم الإسلامي.
ولذلك فليس من العدل أن يتحرك دعاة الباطل ويسكت دعاة الحق؛ لأنه إذا تحرك دعاة الباطل وسكت دعاة الحق فإن المصيبة لن تكون في الجور وعدم العدل فقط، ولكنها مصيبة الفساد العريض الذي سيصيب الأمة، ولذلك نقول لمن ولي أمراً من أمور المسلمين: اتق الله! واترك المجال للدعوة إلى الله عز وجل، فإن دعاة الباطل وإن ابتسموا في وجوه الناس، أو في وجوه ولاة الأمر، فهم الذين يحملون الحقد الدفين على هذه الأمة، وعلى أي حكومةٍ شرعية تقوم على منهج الكتاب والسنة، أما دعاة الحق فهم الذين يشعرون دائماً بالعهد والميثاق الذي أبرموه بينهم وبين الله عز وجل من جانب، وبينهم وبين السلطة الشرعية من جانب آخر، وهم الذين يحرصون كل الحرص أن تكون على ما يرضي الله عز وجل، وأن تكون الأمور على ما يرضي الحاكم بشرع الله عز وجل.
إن مفهوم الإمام العادل ليس مقصوراً على من تولى الإمامة الكبرى فحسب، وإن كان هذا أول ما يتبادر إلى الذهن، لكن كل من ولي أمر المسلمين فإنه سيسأل بين يدي الله عز وجل يوم القيامة عن هذه المسئولية، وعن هذه الأمانة التي تحملها، وهي الأمانة التي يقول الله عز وجل عنها: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72].
إن الإمام العادل الذي يحكم الناس بشرع الله، ويطبق فيهم أوامر الله عز وجل، ويفسح الطريق للدعوة إلى الله من أجل أن تسير الأمور إلى الأفضل، هو أول السبعة الذين يظلهم الله عز وجل في ظل عرشه يوم القيامة.
أما الإمام الجائر الذي يسير بالأمة في طرق منحرفة معوجة، ويرى أن الحق له دائماً وليس هناك حق عليه الذي يحاسب الناس على كل صغيرة وكبيرة، ولا يفكر أنه سوف يحاسب بين يدي الله عز وجل يوم القيامة، ذلك الحساب الذي ينشر له فيه كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ويقال له في ذلك الموقف: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء:14]؛ فإنه على خطر عظيم، وعليه أن يتوب إلى الله عز وجل قبل فوات الأوان.(14/8)
بطانة السوء وانحراف الحكام
إنه قد يقع ممن ولاه الله عز وجل شيئاً من أمور المسلمين انحراف وزيغ وميل وجور، وحينما نبحث عن الأسباب التي أدت به إلى هذا الانحراف؛ مع أنه يحكم بشرع الله، وهو مستخلف من قبل الله عز وجل في الأرض: {إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ} [ص:26]، {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30]، حينما نبحث عن الأسباب نجد أن هناك أسباباً كثيرة لعل من أهمها: بطانة السوء التي تحيط بالرجل فتضيق عليه الخناق، وتزين له ما حرم الله عز وجل، وقد ربما تغريه بالمؤمنين؛ لأن هذه البطانة منحرفة، فتريد أن ينحرف معها هذا المسئول؛ ومن هنا تختل قواعد الأمن والعدل في هذه الحياة، وحينما تختل قواعد العدل تفسد الحياة كلها.
وإنما تسلطت هذه البطانة على هذا الحاكم؛ لأنه أعرض عن دين الله وعن كتاب الله، والله تعالى يقول: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف:36]، وليس الشياطين شياطين الجن فقط، بل إن شياطين الإنس أكثر وأشد، وقد يفسدون في حياة البشر أكثر مما يفسده شياطين الجن.
إن شيطان الجن يهرب منك إن استعذت بالله منه، لكن هذا الشيطان -شيطان الإنس- يدنو منك ويقترب مع أنك تستعيذ بالله منه {نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف:36]، لا يفارقه أبداً حتى في حال نومه، فهو دائماً معه يقول له: افعل كذا لا تفعل كذا حتى يفسد عليه دينه، وفي يوم القيامة يوم القدوم على الله عز وجل، يندم ذلك الذي انجرَّ وراء هذا الشيطان من شياطين البشر، ولكن ولات ساعة مندم {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} [الزخرف:36 - 38].
لكن هذا لا ينفعه في ذلك اليوم، قال الله تعالى: {وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:39]، فهو وشيطانه الذي كان سبباً في ضلاله في عذاب أليم.
إنه من فضل الله على هذا الإمام العادل أنه يكون في مقدمة السبعة الذين يظلهم الله في ظل عرشه يوم القيامة، فحري بمن ولي أمراً من أمور المسلمين أن يكون عادلاً؛ حتى ينال هذه المكرمة العظيمة، وإنه لمن الخسارة بمكان أن يفرط في هذا الأمر العظيم، فيخسر خسارة لا ينفع معها مال ولا بنون ولا سلطان ولاجاه.(14/9)
الشاب الذي ينشأ في عبادة الله يظله الله في ظله يوم القيامة
الثاني من هؤلاء السبعة: قال رسول الله عليه السلام: (وشاب نشأ في عبادة الله عز وجل).(14/10)
الاستبشار بشباب الصحوة
كيف نشأ في عبادة الله؟ لقد تربى هذا الشاب في بيئة صالحة، رعته أبوة وأمومة تعطف عليه، وليست العاطفة هي السهر لمرضه، والبحث عن علاجه وعن قوته فحسب؛ لكنها العاطفة التي ترتبط بروحه، وتربيه تربية صالحة في بيئة طاهرة، ينشأ فيها هذا الشاب ليست ملوثةً بالأغاني، واللهو، واللعب، والعبث، والمحرمات إنه الشاب الذي ليست له صبوة، كما قال الرسول عليه السلام: (إن الله عز وجل يعجب من شابٍ ليست له صبوة!).
إننا حينما ننظر إلى شباب الصحوة اليوم نتذكر هذا العنصر من عناصر هذا الحديث الصحيح.
لقد مرت الأمة بظروف حرجة حتى كان يقول القائل: سينتهي الإسلام حينما يموت فلان وفلان من الناس، فإذا بها تخيب كل توقعاتهم، وتفسد كل حساباتهم، ويخر عليهم السقف من فوقهم، ويأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون، في فترة كانوا يظنون أن الإسلام وأن الخير سوف يودع هذه الأمة بعد فترة وجيزة، فإذا بالأمور تنقلب رأساً على عقب: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة:52].
إن كثيراً من شباب الصحوة الإسلامية لم ينشأ حتى في بيت محافظ، ففي بيوتهم كثيرٌ من المحرمات، ولربما يكون سلوك الأب غير سلوك الابن لقد كان منذُ مدةٍ ليست بالقريبة يشتكي الآباء من الأبناء، وفي أيامنا الحاضرة نجد أن الأبناء هم الذين يشتكون من الآباء؛ إن هؤلاء الشباب الذين ولدوا على الفطرة هم الآن يعودون إلى الفطرة والحمد لله.
إن هذا الشاب الذي نشأ في عبادة الله لم يتربَّ في المسارح، ولا أمام الأفلام، ولا أمام الغانيات والراقصات، ولا أمام المسرحيات والمسلسلات هذه الوسائل المفسدة التي قد غزت جميع بيوت المسلمين؛ فلم تدع بيت شعر ولا مدر -إلا ما شاء الله- إلا ودخلته.
هؤلاء الشباب الذين تربوا على طاعة الله عز وجل، قد أغمضوا أعينهم عن كل هذه الوسائل، وإن كانت تغزوهم في عقر دارهم، وتتابعهم آناء الليل وآناء النهار، ولكن بالرغم من هذا يأبى الله إلا أن يتم نوره، وأن يظهر هذا النور على الدين كله، وأن يظهر هذا الخير في فترةٍ كانت الحسابات تقول غير ذلك.(14/11)
نماذج من السلف للشباب الصالح
هناك نماذج مشرقة من سلفنا الصالح رضي الله عنهم، تبين كيف كان شبابهم، وما هي همومهم وطموحهم نعرضها سريعاً: فهذا أسامة بن زيد رضي الله عنه، يقود جيشاً إلى بلاد الشام وهو في الثامنة عشرة من عمره، وكان في مقدمة هذا الجيش أكابر المهاجرين والأنصار.
لقد كان عبد الله بن عمرو رضي الله عنه شاباً في مستهل حياته، اشتكته زوجته إلى رسول الله عليه السلام وقالت: (يا رسول الله! إن عبد الله لم يطأ لنا فراشاً!! لأنه كان يقوم الليل ويصوم النهار، فنهاه النبي عليه السلام، وقال له: إن لجسدك عليك حقاً، وإن لعينك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً).
إلى هؤلاء الشباب الذين يسابقون الفتيات اليوم على الموضات، والذين نستطيع أن نقول: إنهم أنصاف أو أرباع أو أشباه رجال، وأنهم أقرب إلى النساء في كثيرٍ من الأحيان منهم إلى الرجال! نقول لهم: إن محمد بن القاسم قاد جيشاً ليفتح لنا شبه القارة الهندية وعمره لا يتجاوز سبع عشرة سنة! لقد كان الشباب في عهد النبي عليه السلام، يقف أحدهم على رءوس أقدامه؛ ليراهم النبي عليه السلام كبار الأجسام حتى لا يعفيهم من القتال في سبيل الله!! كم هو الفرق بين أولئك الشباب وبين شبابنا اليوم؟! إن الفرق كبير والبون شاسع، ولكن لنا أمل في شباب الصحوة الإسلامية المباركة، أن يعز الله بهم الإسلام والمسلمين.
وفي غزوة بدر يأتي الشابان الصغيران، اللذان لم يبلغا الحلم بعد، وهما معاذ ومعوذ ابنا عفراء، فيطلبان أبا جهل، ويبحثان عنه أشد البحث يا ترى لماذا هذا كله؟! من أجل أن يقتلا فرعون هذه الأمة؛ لأنه كان يسب رسول الله عليه السلام فوجداه بعد بحث طويل، وعناء كبير، فتسابقا على قتله، حتى قتلاه وأراحا هذه الأمة منه.
أين شبابنا الذين أصبح هم أحدهم كيف يشبع شهوة بطنه وفرجه من أولئك الشباب؟! إن الشاب الذي ينشأ في عبادة الله عز وجل -إضافةً إلى كونه عضواً فاعلاً ونافعاً في مجتمعه- هو في ظل عرش الرحمن يوم القيامة، يوم لا ظل إلا ظله.(14/12)
تعلق القلب بالمساجد من أسباب دخول المرء فيمن يظلهم الله يوم القيامة
ثالث هؤلاء السبعة: قال عليه السلام: (ورجل قلبه معلق بالمساجد).(14/13)
العلاقة بين الرجولة وتعلق القلب بالمسجد
كيف يكون القلب معلقاً بالمساجد؟ إن هذا الرجل قد أحب المسجد وألفه حتى اختلط حب المسجد بدمه ولحمه وعظمه، فصار المسجد أحب إليه حتى من بيته، وصار إخوانه الذين يرتادون المساجد أحب إليه من أصدقائه، وأقرب إليه من أهله وذويه.
إن القلوب إذا تعلقت بالمساجد ازدادت إيماناً وهدىً وتقوى، وهناك في المساجد يتربى الرجال، لا في المسارح وأمام الأفلام والملهيات فالمساجد مصانع الرجال، ومن المساجد تنطلق وتنهض الأجيال، وإن المؤمنين لا تتعلق قلوبهم إلا بالمساجد، ولذلك يقول الله تعالى عن المساجد: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ} [النور:36 - 37]، ليسوا ذكوراً فحسب، ولكنهم رجال؛ لأن كلمة (رجل) تحمل معنيين: الأول: ذكر، والثاني: رجل مكتمل الرجولة، ولذلك لا تأتي كلمة (رجال) في القرآن ولا في السنة إلا وتعني رجالاً عظاماً، قال الله تعالى: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ} [النور:37]، وقال تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:23]، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالاً} [الأنبياء:7]، وهكذا كلما تتبعنا كلمة (رجال) وجدناها تحمل هذا المعنى، أي: أنهم اكتملت الرجولة عندهم.
ولذلك فإن أصحاب المساجد هم الرجال حقيقة، قال تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ} [النور:36 - 37]، وقد جاءت هذه الآية بعد آية تتحدث عن نور الإيمان الذي يكون في القلب، قال تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ} [النور:35]، أي: مثل الإيمان الذي يقذفه الله في قلب المؤمن، وليس المعنى: أن النور اسم من أسماء الله؛ لأنه لو كان اسماً من أسماء الله لما جاز تشبيهه بغيره، {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور:35]، ثم يقول الله بعد ذلك: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ} [النور:36 - 37].
قال المفسرون: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ) متعلقة بقوله تعالى: (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ)، وكأن سائلاً سأل: أين يوجد هذا الإيمان الذي هو كالمشكاة، وهي الكوة غير النافذة، وفي هذه الكوة سراج، وهذا السراج عليه زجاجة، والكوة تعكس الضوء إلى الأمام، والزجاجة تزيد هذا الضوء، وهذا السراج يوقد من شجرة الزيتون التي تصيبها الشمس في وقت الشروق ووقت الغروب؟ هذا ضوء عجيب! فيقول الله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور:36].
فإذا أردت -يا أخي- أن تبحث عن هذه القلوب النيرة المضيئة فلن تجدها في المسارح، ولا أمام الأفلام، ولا أمام اللهو والموسيقى، والمسرحيات والمسلسلات التي ابتلي بها كثير من المسلمين اليوم، وانتشرت في بيوت المسلمين انتشار النار في الهشيم، وحلت محل ذكر الله وتلاوة كتابه المبين، ولا حول ولا قوة إلا بالله! إن هذه القلوب لم تترب في تلك الأماكن، وإنما تربت في المساجد: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور:36]، أي: أن هذا الإيمان ولد وتربى ونشأ في هذه البيوت، ومن هنا يذكر الرسول عليه السلام من هؤلاء السبعة: (ورجل قلبه معلقٌ بالمساجد).(14/14)
استنهاض الهمم للتعلق بالمساجد
والتعلق هنا ليس حقيقة فإن قلوب الناس لا تعلق بالمساجد، وإنما هو كناية عن ارتباط هذا القلب بالمسجد، حتى أصبح المسجد هو مقره الرئيس، فهو عندما يخرج إلى بيته، أو إلى سوقه، أو إلى شغله، أو إلى أمرٍ من أموره، يخرج ويترك قلبه في المسجد، فإذا صلَّى الظهر عد الدقائق واللحظات حتى يأتي وقت العصر، فإذا صلَّى العصر فهو كذلك حتى يحين وقت المغرب وهكذا؛ فهو يرقب الساعة وقلبه معلقٌ بالمسجد، وجل همه وفكره هو الصلاة في المسجد، بل إن جميع شئون حياته، وكل تصرفاته، وبيعه وشرائه، وجميع أحواله يجعلها بعد الصلاة، أي أن الصلاة تتقدم على كل حياته؛ لأن قلبه معلق بالمسجد.
كم هو الفرق بين هؤلاء الرجال، وبين رجال قلوبهم معلقة بزينة الحياة الدنيا ومتاعها؟! حتى إن أحدهم إذا دخل إلى المسجد تجده يصلي وهو يخطط كيف يكسب في هذه التجارة، وكيف يتعامل، وكيف يبيع ويشتري، وكيف يبني ويهدم؟! وأشد من ذلك قوم قلوبهم معلقةٌ بالمحرمات، ينتظرون العطل والإجازات؛ ليفروا من المجتمع المحافظ كما يفر الطير من القفص، إلى بلاد الكفر والفسوق والعصيان؛ ليشبع رغباته وشهواته، وليفسد على نفسه وعلى أمته دينها وأخلاقها.
لقد كان الرسول عليه السلام لا يقدم على الصلاة شغلاً، بل حتى في ساعة المعركة أمره الله عز وجل أن يقيم الصلاة جماعة، والرءوس تتطاير، والدماء تراق، والأنفس تزهق، قال الله تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} [النساء:102].
هذا هو منهج المسلم، عليه أن يجعل الصلاة أهم أعماله، لا أن يضعها على هامش الحياة كما هو حال كثير من الناس، بل حتى في المعركة، وقد حمي الوطيس، لابد أن تقام الصلاة جماعة، ولو أدى ذلك إلى تغيير شيء من حركات الصلاة وهيئاتها، فيسجد صف ويبقى صف يحرس المسلمين في الركعة الأولى، وفي الركعة الثانية يسجد الصف الثاني ويبقى الصف الأول يحرس المسلمين وهو يصلي.
كم هو الفرق بين هذا الأمر وبين الواقع الذي يعيشه كثير من الناس؟! إذا طال عليهم الليل تخلفوا عن صلاة الفجر؛ لأن البرد شديد، وإذا قصر الليل تركوا صلاة الفجر؛ لأن الليل قصير، وما هذا إلا لأن الإيمان ضعيف في نفوس كثير من هؤلاء الناس، حتى أصبح إيمانهم لا يرشدهم إلى المسجد، فضلاً عن أن يدفعهم إلى الجهاد، وإلى إراقة الدماء في سبيل الله.
إن الذين تعلقت قلوبهم بالمساجد تحت ظل عرش الرحمن يوم القيامة، ولا يؤذيهم العرق، ولا يزعجهم الحساب: {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء:103].(14/15)
المتحابان في الله يظلهم الله في ظله يوم القيامة
رابع هؤلاء السبعة: قال عليه السلام: (ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه).
إن هذين الرجلين ليست بينهما صلة نسب ولا قرابة، ولا مال، ولا شركة، ولا مصالح، وإنما هي محبة في الله سبحانه وتعالى من أجل دين الله، من أجل هذا الحق الذي جاء به محمد عليه السلام من عند الله تعالى، كانت هذه المحبة والعلاقة بين رجلين أو بين امرأتين؛ لأن ذكر الرجل هنا ليس خاصاً بالرجال، بل إن النساء يدخلن في مثل هذا الحكم.
إن المحبة في الله هي أوثق عرى الإيمان، والمتحابون في الله على منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء يوم القيامة.
وإن شرط المحبة أن تكون خالصة لله، قال عليه السلام: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار)، إن هذه الصفات إذا وجدت عند العبد المؤمن فإنه سيجد حلاوة الإيمان، والتي منها: وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله.
إن هناك علاقات كثيرة قائمة على معصية الله، وقائمة على أمور الدنيا، وعلى الفساد في الأرض، وعلى المباحات في كثير من الأحيان، لكنها لا تدوم أبداً.
ولذلك أخبر الله تبارك وتعالى بأن كل العلاقات التي هي قائمة بين البشر في الحياة الدنيا على غير طاعة الله وتقواه -أنها منتهية؛ بل تتحول يوم القيامة إلى عداوة محضة، قال الله تعالى: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67]، وقد تتحول العلاقات التي تبنى على غير طاعة الله إلى خصومة ونزاع في الحياة الدنيا، وهذا يحدث كثيراً؛ لأنها لم تقم على أساس صحيح، وإن لم تفسد هذه العلاقات في الحياة الدنيا فسوف تفسد في الحياة الآخرة، بل إن المتحابين على غير طاعة الله يلعن بعضهم بعضاً، قال تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً} [الأحزاب:67 - 68]، وقال تعالى عن الكفار إذا ألقوا في النار: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ} [فصلت:29]، هكذا هم في الآخرة، لكنه في الدنيا كان يفديه بالروح وبالدم، وربما أظهر له الولاء الكامل وهو كاذب.(14/16)
اختيار الجليس الصالح
إنه لابد على المؤمن أن ينظر من يصاحب (لا تصاحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقي).
احذر مصاحبة الأشقياء، فإن مصاحبتك لهم كالجلوس عند نافخ الكير، فلابد أن ينالك منه شيء من الأذى إما أن يحرق ثيابك، أو -على الأقل- تجد منه رائحةً خبيثة، وعليك بمرافقة الصالحين، وابحث لأولادك عن صحبة صالحة، فإن الجليس الصالح كبائع المسك، إما أن تبتاع منه، وإما أن يحذيك، وإما أن تجد منه -على الأقل- رائحة طيبة.
وأكثر من ضل عن الطريق إنما كان بسبب قرناء السوء، وجلساء الباطل، والبطانة الفاسدة التي تزين لهم السوء، وتبعدهم عن طاعة الله عز وجل، وقد يوقعون بين المؤمنين، ويؤججون بينهم العداوة.
يروى أن أحد خلفاء بني أمية كان جالساً في مجلسه وفي كبريائه، فمر عبد الله بن المبارك رضي الله عنه وكان رجلاً صالحاً، وقد كان عند الخليفة جليس صالح وجليس فاسق، فقال الجليس الفاسق للخليفة: يا أمير المؤمنين! هل تعرف هذا؟ قال: لا.
قال هذا الذي يقول: وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها فقال: ائتوني به، وأراد أن يفتك به.
فقال له الجليس الصالح: يا أمير المؤمنين! وهو الذي يقول أيضاً: لولا الخلافة لم تأمن لنا سبل وكان أضعفنا نهباً لأقوانا فقال: أطلقوه! إذاً: هذا هو الفرق بين الجليسين، ولذلك فإن على المرء المسلم أن لا يتخذ جليساً سيئاً، ولا يخالطه، بل ولا يجعله له سكرتيراً، ولا مدير مكتب، ولا بطانة؛ لأنه سوف يسخر أمامه بالمؤمنين، ويضحك منهم، ويتتبع هفواتهم، بل عليه أن يبحث عن الرجال الصالحين، الذين يدلونه على الخير، فإذا فعل خيراً شجعوه، وإذا نسي خيراً ذكروه، وإذا غفل نبهوه هكذا تكون البطانة الصالحة، وهكذا يكون الجلساء الصالحون.
إن المتحابين بجلال الله تحت ظل عرش الرحمن يوم القيامة، وهم بعد ذلك على منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء، وهم الذين يعيشون حياةً سعيدة في هذه الحياة الدنيا حياة مشتملة على طاعة الله ومرضاته، خالية من معصية الله وما يغضبه.(14/17)
الولاء والبراء من جنس المحبة
إن المسلم مطالبٌ أن يكون ولاؤه للمؤمنين، وهذه هي المحبة في الله، وهي التي يقول الله عز وجل عنها: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:55 - 56].
أما الذين يوالون الفسقة، وربما يوالون الكفرة، فإنهم على أمر خطير: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ [المجادلة:14]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} [الممتحنة:13] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51].
إذاً: الولاء لغير الله، ولغير أولياء الله، ولغير الصالحين؛ معصية عظيمة، وجريمة منكرة، سوف يحاسب عليها الإنسان يوم القيامة.(14/18)
صدقة السر سبب لدخول المرء فيمن يظلهم الله في ظله
خامس هؤلاء السبعة: قال عليه السلام: (ورجل تصدق بصدقةٍ، فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه).
لقد مدح الله سبحانه وتعالى صدقة السر فقال: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:271]، ولكن قد تكون صدقة العلانية أفضل من صدقة السر؛ وذلك إذا كان هناك حاجة إلى إعلان الصدقة، كالرجل الذي جاء بصرة وقدمها إلى النبي عليه السلام، فجعل الناس يقتدون بهذا الرجل ويقدمون صدقاتهم.
لكن الأصل أن الصدقة تكون سراً؛ لأن الصدقة إنما سميت صدقة؛ لأنها تدل على صدق إيمان صاحبها؛ لأنه إذا أخرجها سراً فإن هذا دليل على أنه لا يريد ثناءً من الناس؛ فإن هذا الثناء قد يجر إلى الرياء والسمعة.
وقال عليه السلام مادحاً صدقة السر: (صدقة السر تطفئ غضب الرب، وتدفع ميتة السوء)، وهذا الرجل قد تصدق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه، وذلك كناية عن شدة إخفائه عند إخراج الصدقة.
إذاً: أفضل أنواع الصدقة هي صدقة السر.
لذلك على المسلم أن يحرص كل الحرص على أن لا يترك صدقة السر، ولو بشيء يسير، فقد كان بعض السلف يتصدق كل يوم، فإذا لم يجد أحياناً تصدق ببصلة يقدمها إلى فقير.
إن أصحاب صدقة السر هم في ظل عرش الرحمن يوم لا ظل إلا ظله.(14/19)
الخوف من الله سبب لدخول المرء فيمن يظلهم الله
سادس هؤلاء السبعة: قال عليه السلام: (ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله).
من يستطيع أن يفعل مثل هذا الموقف؟! شاب شهوته متأججة مشتعلة، والفتن والمغريات كثيرة أفلام، ومسلسلات، ونساء، واختلاط، وعشق وغرام، وموسيقى وأغان تملأ الأسواق والبيوت أمور كثيرة تؤجج الشهوة وتشعلها، وقد تكون المهور غالية فلا يستطيع أن يتزوج، ثم تعرض له شهوة من شهوات الحياة الدنيا، وليس هناك أحد يطلع عليه إلا الله عز وجل قد أسدل الأستار، وأخفى أمره في ظلام الليل، ثم تدعوه امرأة ذات منصب -أي: مكانة عالية- وجمال، وتقول له: تعال للفاحشة! فهل سيترك هذا الشاب تلك الفاحشة بعد تلك المغريات، وبعد تلك الأمور التي شحذت شهوته وأشعلتها في قلبه؟! نعم إنه يستطيع أن يتركها إن كان من الأتقياء الصالحين؛ لأنه يعرف أن هذه الشهوة سوف تحرمه شهوةً خالدة ونعيماً لا يزول، فيقول كما قال يوسف عليه الصلاة والسلام: {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف:23].
هكذا يجب أن تكون الخشية لله عز وجل، وإن هذه الخشية التي تنتهي بدمعة حارة تنزل على الخد، وقد غاب هذا الإنسان عن أعين الناس، لا يمكن أن تلين لأجل مخلوق من المخلوقين.
إن هذه الخشية هي التي نريد أن نتحلى بها جميعاً؛ بل إننا أشد حاجة إليها من حاجتنا إلى الطعام والشراب والهواء في أيامنا الحاضرة؛ لأن الفتن قد كثرت وانتشرت، واعترضت طريق المؤمن إلى ربه سبحانه وتعالى، وأصبح كثير من الناس يخوَّف بغير الله عز وجل: {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [الزمر:36]، لقد خاف كثير من الناس من غير الله عز وجل في هذا السبيل، فحصل خلل لا في جانب العمل والسلوك فحسب، بل في جانب العقيدة والتوحيد.
إن الخشية من دون الله عز وجل ليست معصية فحسب، ولكنها نوع من الشرك لماذا تكون الخشية لغير الله عز وجل؟ أليست قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء؟! أليس الرزق والحياة والموت والنشور كله بيد الله عز وجل؟! أليس البشر لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم موتاً ولا حياةً ولا نشوراً؟ أليست الأرزاق مقسومة ومقدرة من لدن حكيم خبير؟ أليست الأعمار مقدرة في كتابٍ مؤجل لا يستأخر عنه الإنسان ساعة ولا يستقدم؟ إذاً: فلم الخشية من غير الله عز وجل؟(14/20)
من الذين يظلهم الله رجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه
سابع هؤلاء السبعة: قال عليه السلام: (ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه).
لقد ذكر الله تعالى في مكان لا يطلع عليه أحد، ولا يراه إلا الله عز وجل، فعظم الله تعالى في قلبه، وتصور كبرياءه وجبروته، وأنه مالك الملك لا إله إلا هو خالق السماء ورافعها، وباسط الأرض وداحيها، الذي بيده مقادير الأمور، يعلم كل صغيرة وكبيرة تذكر هذا كله فدمعت عيناه خشية من الله، وخوفاً منه سبحانه، وتعظيماً له، وإقراراً بجبروته وملكوته.
لقد قلَّب فكره في ماضي أيامه، فمرت أمام عينيه صفحة سوداء من ذنوبه وآثامه، ومعاصيه وجرائمه؛ تذكر هذا كله وتذكر أن له رباً يغفر السيئات، ويتجاوز عن المعاصي والمهلكات، ويدعو عبده ليستغفر من الذنوب والزلات فنزلت على خده دمعة حارة صادقة من قلب خاشع قانت، معترف بذنوبه وآثامه، نادم على تفريطه وإجرامه دمعة يرجو بها من الله أن يغفر له ما مضى، وأن يتجاز له عما سلف.
إن هذا الرجل قد بكى من خشية الله وهو في خلوة لا يراه فيها أحد، وقلبه خالٍ من التعلق بالدنيا، وهذا يدل على صدق إخلاصه لله رب العالمين، وتجرده عن الرياء والسمعة، أو مدح الناس وثنائهم، بل إنه يرجو الثواب من الله وكفى، فلما كانت هذه حاله لم يعد يهمه نظر الناس إليه ما دام أن رب الناس ينظر إليه.
إن هذا الرجل لما كان كذلك استحق أن يكون في ظل عرش الرحمن يوم لا ظل إلا ظله.
وقد ورد في البكاء من خشية الله أحاديث عن النبي عليه السلام، منها حديث أبي ريحانه رفعه: (صرفت النار عن عين بكت من خشية الله).
وحديث أبي هريرة أن النبي عليه السلام قال: (لا يلج النار رجل بكى من خشية الله).
رواه الترمذي والحاكم وصححه.
لقد دمعت عين هذا الرجل خشية لله عز وجل، وخوفاً منه سبحانه، وإن هذا السلوك لمن صفات عباد الله المتقين وأوليائه الصالحين، الذين يراقبونه في جميع تحركاتهم وتصرفاتهم، ويعلمون أنه سبحانه مطلع عليهم، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، لا يغيب عنه شيء وإن كان مثقال ذرة أتى بها وحاسب عليها.
إنه لما استقر هذا الأمر في قلب هذا العبد المؤمن، وعرف أن الله تعالى مطلع عليه دمعت عيناه خشية من ربه ومولاه.
إن الخشية يجب أن تكون لله عز وجل وحده، ومن هنا سوف تنزل هذه الدمعة الصادقة، التي لو كانت كرأس الذباب -كما أخبر الرسول عليه السلام- فإنها سوف يكون لها وزنٌ في ميزان العبد يوم القيامة أكثر من كل أعماله التي يقدم بها على ربه سبحانه وتعالى.
وفي الأخير نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الذين يظلهم الله في ظله يوم القيامة يوم لا ظل إلا ظله، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(14/21)
إقامة صلاة الجماعة
لقد أثنى الله تعالى على الذين يعمرون مساجد الله وشهد لهم بالإيمان وعمارتها تكون بالعمارة الحسية وهي بناؤها، وبالعمارة المعنوية وهي عمارتها بالذكر والطاعة والعبادة، ومن ذلك إقامة الصلاة فيها مع المسلمين؛ فإنها أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين، فيجب على المسلم أن يحافظ عليها في جماعة إلا من عذر.(15/1)
مثل نور الله عز وجل في قلب المؤمن
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن آله ومن دعا بدعوته وعمل بسنته ونصح لأمته، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: أيها الإخوة في الله! اتقوا الله تعالى، يقول سبحانه: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور:35 - 38].
أيها الإخوان! هكذا يضرب الله سبحانه وتعالى مثلاً لنوره الذي يقذفه في قلب المؤمن بمشكاة فيها مصباح، هذا المصباح في زجاجة، هذه الزجاجة كأنها كوكب دري إنه نور الإيمان، إنه نور العقيدة الذي يقذفه الله في قلب من قلوب عباده المؤمنين، وكأن سائلاً سأل: أين توجد هذه القلوب؟ وأين ينمو هذا النور؟ فقال سبحانه وتعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36].
إنها المساجد، إنها بيوت الله عز وجل، وهي أحب البقاع إليه سبحانه، وأحب عباده إليه أكثرهم زيارة إلى بيوته.(15/2)
دور المساجد في الإسلام
هذه المساجد هي التي يقول سبحانه وتعالى عنها: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36]، فأمر وأوجب وشرع أنه لابد أن ترفع وتقام، ولابد أن تبنى حسياً وتطهر وتنظف من أجل أن تقام فيها أفضل فريضة، ومن أجل أن يؤدي فيها المسلمون أعظم شعيرة، ولذلك فقد وضع صلى الله عليه وسلم الحجر الأساسي لهذه المساجد يوم أسس أول مسجد أسس على التقوى من أول يوم، ذلكم المسجد هو مسجد قباء الذي أسسه النبي صلى الله عليه وسلم في أول لحظة شرف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة المنورة، ثم بنى مسجده -المسجد النبوي- ليكون مركزاً لإشعاع الحضارة في الدنيا كلها.
وهكذا كانت المساجد تؤدي هذا الدور منذ تلك الفترة، وستبقى هذه مهمتها إلى يوم القيامة، فقد كان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم منطلقاً للخير كله، وكانت الجيوش تدرب فيه، وفيه كان المسلمون يتلقون العلم في مجالس العلم على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم على يدي السلف الصالح من بعده، وكانت المساجد قطب رحى الحياة، وقد أدرك المسلمون أهميتها، فانطلقوا من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العالم أجمع؛ يبشرونهم بهذا الدين، وينشرون تعاليمه، وبقيت المساجد تؤدي هذه المهمة إلى أن فصل عدونا بين ديننا وبين حياتنا، فأصبحت المساجد في نظر طائفة من الناس لا تؤدي هذه المهمة، وأصبحت زاوية من زوايا الحياة المهجورة في كثير من بلاد الإسلام، بل في أعمها؛ إذ لا يأوي إليها في كثير من الأحيان إلا الشيوخ والعجزة، أما طائفة كبيرة من الشباب، وأما أصحاب المراكز، وأما أصحاب المادة فكثير منهم مشغول عنها، ومن هنا هبطت رسالة المسجد في رأي طائفة من الناس، وأصبح كثير من شبابنا لا يعرفون الطريق الموصلة إليه، فلا يعرفونه أبداً، وربما يعرفون الطريق في يوم الجمعة، ولربما يؤدون الصلاة في المسجد في رمضان، وإن كان طائفة منهم لم يعرف المسجد ولم يدخله إلا حينما يقدم لتصلى عليه صلاة الجنازة.
ومن هنا فقد المسلمون رسالة المسجد، وفقدت حلق العلم ومجالس الذكر فيه؛ بل أصبحت المساجد تشكو في بلادنا هذه أنها لا تفتح إلا حينما يحين موعد الصلاة، وكأنها تشبه كنائس النصارى أو معابد اليهود! وهذه الرسالة لابد أن يعود المسلمون إليها؛ لينطلق المسلمون انطلاقتهم الثانية من المسجد.
فالمسجد كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم هو المدرسة، هذه المدرسة هي التي يمكن أن ينطلق منها المسلمون بعد أن يتربوا في أحضانها منذ سن السابعة وحتى سن العاشرة، وإلى أن يكونوا رجالاً يدركون الواجب المقدس في أعناقهم.(15/3)
الأمر ببناء المساجد
معشر المسلمين! أمر الإسلام ببناء المساجد وتشييدها وتنظيفها وتطهيرها، فقال سبحانه وتعالى: {أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور:36]، أي: أن تبنى وتشاد.
وحث الرسول صلى الله عليه وسلم على بنائها فقال عليه الصلاة والسلام: (من بنى لله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة).
وروى البيهقي بسند حسن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يتبع المرء من عمله وحسناته بعد موته: علم علمه ونشره، أو بيت لابن السبيل بناه، أو مسجد بناه، أو نهر أجراه، أو مصحف ورثه، أو ولد صالح تركه، أو صدقة أجراها في حياته تتبعه بعد موته)، ولذلك يقول سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة:18].
فحينما نبني هذه المساجد ابتغاء مرضاة الله وننفق أموالنا رجاء ما عنده؛ فإننا نكون قد أعددنا لأنفسنا بيوتاً في الجنة.
وإن أخوف ما أخافه على هؤلاء الأثرياء الذين من الله عليهم بالمال ألا يبذلوا شيئاً لخدمة هذه المساجد وبنائها، حتى إذا شعروا بالموت قد دنا بدءوا يوزعون المال هنا وهناك، وربما يوزعونه في طرق الخير حينما يكونون على فراش الموت، ونسوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إن أفضل الصدقة أن تتصدق وأنت صحيح شحيح، تأمل الغنى وتخشى الفقر، ولا تهمل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان كذا).
معشر المسلمين! لابد أن ننفق هذا المال في وجوه الخير، فقد من الله علينا بأموال كثيرة، وبلادنا تشهد توسعاً عريضاً، والعالم الإسلامي مفتقر لإقامة المساجد والمراكز الإسلامية في أنحاء العالم، ويفقد هذا المال الذي من الله به علينا.
وإني أدعوكم -بعد أن أدعو نفسي- لإنفاق شيء منه في هذا الأمر؛ فذلك خير من أن نقف أموالنا بعد الموت كلها في طرق الخير، فعلينا أن نقدمها ونحن نأمل الغنى ونخشى الفقر.
وهذه العمارة لابد أن يقدمها المسلمون؛ لأن الله أمر بذلك فقال: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور:36]، وإذن الله بمعنى الوجوب والفرض، فلابد من ذلك، والمسلمون الذين يملكون هذه الأموال يأثمون حينما تكون هناك قطعة في الأرض يستطيعون أن يقيموا فيها مسجداً ولا يقيمونه.
معشر المسلمين! لو أهملنا هذه المساجد ولم نعطها ما تستحق من عناية، فإن أعداء الإسلام يعملون على قدم وساق في سبيل حرف أبناء هذه الأمة، ولكن هذه المساجد تعتبر مركز إشعاع وخير للعالم كله؛ حيث ينطلق منها المسلمون إلى أمانيهم، لذا فإن علينا أن نحقق هذا الأمر، وأن نبذل هذا المال، فإن الله تعالى يقول: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:7]، ثم يبين سبحانه وتعالى أن هذا المال سيعود إليه فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم:40].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(15/4)
وجوب العمارة المعنوية لبيوت الله عز وجل
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحبه ويرضاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن آله وأصحابه الطيبين الطاهرين الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! إذا كانت العمارة الحسية للمساجد يطالب بها طائفة من المسلمين وهم الذين يملكون المال ومن الله عليهم بنعمته، فإن عمارتها المعنوية يطالب بها كل مسلم قادر على الذهاب إليها، ولذلك يقول سبحانه وتعالى عن هذا النوع من العمارة: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور:36 - 37].
إنهم يحسبون ليوم القيامة حسابه، فإذا عنت لهم راحة تذكروا يوم القيامة، وإذا أراد الشيطان أن يغويهم ليصرفهم عن الصلاة فإنهم يتذكرون يوم القيامة، يتذكرون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار، فتقفز القلوب عن أماكنها إلى الحناجر، وتقفز الأبصار إلى أعلى الرءوس من شدة الذعر والخوف، وهؤلاء جزاؤهم: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الزمر:61].(15/5)
جزاء الذين يعمرون مساجد الله
أما أولئك الذين يعمرون المساجد بالطاعة والعبادة، والتسبيح والتهليل، وإقامة حلق الذكر وتلاوة كتاب الله وتدبره، وإقامة الصلاة مع الجماعة فإن أجرهم عظيم، كما روت أسماء بنت يزيد رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة نادى منادٍ بصوت يسمع الخلائق كلهم: سيعلم أهل الجمع من أولى بالكرم، ثم يرجع فينادي: ليقم الذين كانت لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، فيقومون يومئذ، وهم قليل، ثم يحاسب سائر الخلق).
إنها فرصة يجب أن يستغلها المؤمن في حياته، ومن هنا على المسلم أن يؤدي الصلاة جماعة في المسجد؛ لأنها واجبة من واجبات الدين، ولأن الله أمر أن ترفع، وأن يسبح له فيها بالغدو والآصال.
ثم مدح الله عز وجل الذين يعمرن المساجد بأنهم رجال، رجال لا كالرجال؛ لأن هممهم عالية، فهم وإن كانت لهم دكاكين وتجارة، وأموال وبيعات؛ لكنها لم تلههم لحظة من لحظات الزمن عن ذكر الله تعالى وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة.(15/6)
وجوب صلاة الجماعة والوعيد لمن تخلف عنها
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤتى به إلى المسجد في أيام مرضه الشديد، فكان يغمى عليه في طريقه إلى الصف عدة مرات، لا يمنعه ذلك من أن يقيمها مع المسلمين جماعة.
أما صحابته رضي الله عنهم فلقد كان الواحد منهم يندم أشد الندم لو فاتته تكبيرة الإحرام، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يزور بستانه، ثم تفوته صلاة العصر، ثم يتصدق ببستانه كله؛ حيث كان سبباً في فوات صلاة العصر! أما عبد الله بن عمر فإنه كان يبكي إذا فاتته تكبيرة الإحرام، ويعتبرها مصيبة، ويقدم بين يدي توبته رقبة يعتقها في سبيل الله.
ولذلك فقد وصفهم الله عز وجل في القرآن الكريم بقوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح:29].
وقد أمرهم الله سبحانه أن يقيموا الصلاة جماعة حتى في ساعة المعركة، فلم يعذرهم، ولو غيروا شيئاً من معالم الصلاة، فقال لهم: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} [النساء:102].
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم توعد الذين يتخلفون عن الصلاة معه في المسجد بأن يحرق عليهم بيوتهم بالنار، فقال عليه الصلاة والسلام: (أثقل الصلاة على المنافقين صلاة الفجر وصلاة العشاء، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر بحطب فيحتطب، ثم أنطلق إلى قوم لا يشهدون المسجد فأحرق عليهم بيوتهم).
وقد أتاه رجل كفيف البصر شاسع الدار فقال: (يا رسول الله! أتأذن لي أن أصلي في بيتي؟ فأذن له، حتى إذا ولى ناداه فقال: هل تسمع النداء؟ قال: نعم.
قال: فأجب؛ فإني لا أجد لك من عذر).
فليعلم هؤلاء المتخلفون هذا الخطأ الكبير الذي يقترفونه حينما يتخلفون عن الصلاة في المساجد، حتى لقد أصبح لا يحضر المسجد من الناس إلا النزر القليل.
فانتبهوا لهذا الأمر يا معشر المسلمين! وحاسبوا أنفسكم، واعلموا أن الصلاة بدون جماعة تفريط وتضييع لكثير من الأجر، فإن الصلاة في البيت لا تساوي إلا درجة واحدة، أما الصلاة في المسجد فيقول عليه الصلاة والسلام: (صلاة الجماعة تضاعف على صلاة الفرد بسبع وعشرين أو بخمس وعشرين درجة)، بل قال طائفة من العلماء: إن الصلاة جماعة شرط من شروط الصلاة، وإن الصلاة في المسجد شرط من شروط الصلاة؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد)، وهو من يسمع النداء.
معشر المسلمين! إن هذا هو واجبكم، وإن هذه المساجد هي بيوت الله، فأدوا الصلاة فيها جماعة مع المسلمين، والله تعالى يقول: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43].
واحذروا التخلف؛ فإن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (إن الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم يأخذ القاصية، فإياكم والشعاب! وعليكم بالجماعة والعامة والمسجد).
ويقول عليه الصلاة والسلام: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط).
أيها الإخوة المؤمنون! إن الرسول صلى الله عليه وسلم بين أن الرجل الذي يتعلق قلبه في المسجد يظله الله عز وجل يوم القيامة في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله.
فاحترموا هذه المساجد، واعمروها بذكر الله، وتلاوة كتابه، وتدبر معانيه، وتفهموه، واعلموا دورها في هذه الحياة، وشيدوها وابنوها، وابذلوا أموالكم في سبيل بنائها؛ فإن ذلك عمل خالد تجدونه يوم تقفون بين يدي الله عز وجل؛ لأنه سبحانه يقول: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس:12].
إن أصدق الحديث كتاب الله، وإن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة في دين الله بدعة.
يقول عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه، اللهم ارض عنا معهم، وارزقنا حبهم، واجمعنا بهم في مستقر رحمتك.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم احم حوزة الإسلام من المفسدين والمخربين.
اللهم رد المسلمين إليك رداً جميلاً، اللهم وفقهم للأخذ بأسباب النصر، اللهم وأيدهم على عدوهم، ولا تكلهم إلينا ولا إلى أنفسهم ولا إلى أحد من خلقك طرفة عين ولا أقل من ذلك.
اللهم وزلزل الأرض من تحت أقدام أعدائهم اللهم وأسقط عليهم كسفاً من السماء، وأنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم الكافرين.
عباد الله! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون.
والحمد لله رب العالمين.(15/7)
خطر النصرانية
لاشك أن المسلم بفطرته يحب الله ورسوله ودين الإسلام، وهذا الحب يقتضي بغض ومعاداة كل من خالف هذا الدين وعاداه من اليهود والنصارى وغيرهم من ملل الكفر، فإن الكفر ملة واحدة، والكفار بعضهم أولياء بعض، ولا يجوز للمسلم أن يتجاهل خطرهم، أو أن يتغافل عن كيدهم، وخاصة النصارى الذين كثر شرهم وكيدهم في بلاد الإسلام، فلا يجوز إدخالهم إلى جزيرة العرب، ولا التعامل معهم بأي شكل من أشكال التعامل، ومن ينكر ذلك بحجة أنهم ليسوا كفاراً، أو نحو ذلك؛ فقد ضل ضلالاً بعيداً.(16/1)
وجوب معاداة الكافرين والبراءة منهم
الحمد لله الذي حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق العصيان وجعلنا من الراشدين، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون.
اللهم صلَّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن آله، ومن دعا بدعوته وعمل بسنته ونصح لأمته وسلّم تسليماً كثيراً.
أما بعد: أيها الأخوة في الله! اتقوا الله تعالى، واشكروه على نعمه التي أهمّها: أن هدانا للإسلام وأضلّ عنه خلقاً كثيراً.
أيها الإخوة! لقد حدد الإسلام الرابطة بين المسلمين وأعدائهم فقال سبحانه: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:55 - 56].
أيها الإخوة! إن أوثق عرى الإيمان وأهمها: الحب في الله، والبغض في الله.
والحب في الله يقتضي محبة أوليائه، والعطف عليهم وإيثارهم، ولقد مدح الله المؤمنين في قوله: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54]، وقال سبحانه: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29].
وإن من أبرز قواعد الإيمان وأسسه: بغض أعداء الله وحربهم، وحمل العداء الدائم لهم.
إن مبدأ المؤمنين هو قول الله تعالى: {كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4].
ومن هذا المنطلق فلقد جاء الإسلام يحثّ المؤمنين على حمل العداء لأعدائهم الذين يتربصون بهم الدوائر، والذين يحملون لهم الحقد الدفين، ومهما أظهروا من العطف فإن قلوبهم تأبى ذلك: {يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ} [التوبة:8].
معشر المسلمين! ومن هذا المنطلق أمر الله عز وجل المؤمنين أن يعادوا الكافرين، وألا يتخذوا اليهود والنصارى أولياء؛ فالكفر كله بأشكاله وملله ونحله ملّة واحدة، يتحد في الكفر وفي حرب الإسلام، وهو صف على المسلمين، وكل هذه الطرق في نار جهنم، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51].
ولما نزلت هذه الآية قال طائفة من المنافقين: نريد أن نؤلف اليهود معنا؛ لأننا نخشى أن تصيبنا دائرة، فأنزل الله قوله تعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة:52].(16/2)
عداء اليهود والنصارى للمسلمين
لقد أدرك العالم كله اليوم عداء اليهود، واليهود تستحق كل هذا العداء، بل فوق ذلك، ولكن المسلمين اليوم يجهلون عدواً آخر لا تقل عداوته عن اليهود، وهم النصارى الذين قرن الله بينهم وبين اليهود، وبينّ أنهم أولياء لهم في قوله تعالى: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51]، والنصارى لهم مواقف تشبه مواقف اليهود أو تزيد، ولقد كان النصارى يقفون في وجه الإسلام كلما سنحت لهم الفرصة.
لقد بقي النصارى في الحروب الصليبية ما يزيد على مائة وسبعين عاماً ينهلون من دماء المسلمين، ويسومونهم سوء العذاب، ونصارى العرب والنصارى الوافدون هم الذين فتحوا لهم الباب عن طريق لبنان؛ فساموا المسلمين سوء العذاب، وبالرغم من ذلك كله فإن الله تعالى يحذرنا من موالاة الكافرين بجميع أشكالهم، فيقول لنا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} [الممتحنة:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} [الممتحنة:13]، {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة:55].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:23 - 24].
{لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [المجادلة:22].
معشر المسلمين! يبين الله لنا أن هذه الفئات الكافرة كلها تسعى لهدم الإسلام وتقويض بنيانه: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120].
ثم يقول سبحانه وتعالى: {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ * لَنْ تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} [الممتحنة:2 - 3].
وهكذا تبين لنا الآيات عداء اليهود والنصارى جميعاً في آن واحد، فهم يتجمعون حيث يتفرق المسلمون، ولقد كانت أول معركة تجمعت فيها كل قوى الكفر والضلال ضد الإسلام: يوم الأحزاب، يوم وقف الرسول صلى الله عليه وسلم يحيط به أعداؤه من كل جانب، ثم تكتلوا يوم جاءوا باسم الحروب الصليبية، وهاهم في كل فترة يتكتلون لحرب الإسلام، ويعذبون المسلمين، لتعيش الأقليات الإسلامية تحت مطارق الكافرين.(16/3)
ضلال من يقول بعدم كفر النصارى
بالرغم من هذا العداء كله، وبالرغم من هذا الحقد الدفين كله؛ يجهل طائفة من الناس ما يقوم به النصارى اليوم من دور في حرب الإسلام، فتقوم طوائف في الأرض تدعو إلى التقارب مع النصارى، أو مع الفئات الكافرة ضد الشيوعية، وما علم أولئك أن الكفر كله ملة واحدة، وأنه وإن تفرق في الظاهر لكنه يتحد في ضرب الإسلام، وهذه دعوة ضالة لا تقبلها النفوس المؤمنة، وسأحدثكم حديثاً تحفظونه فاحفظوه: إذا كانت هذه دعوة غير مقبولة، ففي صحفنا وفي صحيفة تنشر في بلادنا يكتب فيها فاسق من أبناء جلدتنا؛ بل ممن يحملون شهادة عملاقة، بل ممن يقومون بدور التدريس في إحدى جامعاتنا، ويربون شبابنا، ليقول لنا بالحرف الواحد: إن المسيحيين ليسوا كفرة! وإن تكفير المسيحيين جاء من جهل هذه الأمة! فإن المسيحيين قد ذكرهم الله في القرآن، ودينهم دين سماوي!! هكذا يقول من يحمل شهادة الدكتوراه، ولا أدري أهي شهادة الدكتوراه في الجهل أم في هدم الإسلام!! النصارى يقول الله عز وجل عنهم: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:17]، وأكد كفرهم بلام القَسَم، وبـ (قد) التي تفيد التحقيق.
وقال في موضع آخر {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة:73].
وقد قرنهم الله مع اليهود في قوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:30 - 32].
وبالرغم من هذا النداء، وبالرغم من هذا الخبر، تقوم صحيفة من صحفنا على يد هذا الكاتب لتشكك المسلمين في تكفير النصارى! وإذا كان في العالم الإسلامي من يدعو إلى التقارب مع النصارى؛ فإن في بلادنا هذه الأرض المقدسة من يشكك المسلمين في تكفير النصارى! أي كفر يبقى إذا لم يكن النصارى كفرة؟! أولئك الأعداء الحاقدون على الإسلام، الذين لا تكاد تحين لهم فرصة من الفرص إلا ويصبّوا جام غضبهم على العالم الإسلامي.
معشر المسلمين! ولقد كنا نظن أن الإعلام هنا يسعى فقط لهدم الأخلاق، فإذا هو يشكك المسلمين في أصول دينهم، وفي أمر جاء بنص القرآن الكريم، وأجمعت عليه الأمة، ونحن نقول لهؤلاء: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} [آل عمران:100].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.(16/4)
التحذير من التعامل مع النصارى وإدخالهم جزيرة العرب
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! اتقوا الله تعالى، واعرفوا خطورة الكفرة على الإسلام، واحذروا أن تتخذوا منهم بطانة من دون المؤمنين؛ فإنهم: {يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ} [التوبة:8].
إنهم يحرصون كل الحرص أن يعيشوا في بلاد الإسلام، ليتجمعوا حينما تسنح لهم الفرصة، وعلى هذا فإن أخطر ما بليت به بلادنا في أيامنا المعاصرة أن يعيش أولئك النصارى بين المسلمين، بالرغم من أن الرسول عليه الصلاة والسلام نهى أن يجتمع في جزيرة العرب دينان، وعلى هذا فإني أدعو الدولة التي جاء كثير من المسئولين فيها بكثير من النصارى حتى كادوا اليوم أن يشكلوا أكثرية جاءوا أطباء، وجاءوا ممرضين، ولربما جيء بهم مدرسين، وجيء بهم حتى للحرف التافهة مثل تنظيف الأسواق، والله سبحانه وتعالى أمرنا بأن نحذر هؤلاء الكفرة، ثم هذه الأموال التي نغدقها على هؤلاء النصارى حينما نستخدمهم في هذه الأعمال، ربما تعود إلى هناك لتعود إلينا مرة أخرى ضربة قاسية، ولعلنا قد نسينا ما حدث في الأندلس يوم تجمع النصارى فأخرجوا المسلمين من بلادهم.
معشر المسلمين! أدعو أصحاب المؤسسات أن يتقوا الله، وألا يستوفدوا النصارى إلى هذه البلدة الطاهرة، التي لم تدنسها أقدام الاستعمار، والتي ما زال الكثير منها على صبغة الإسلام الصحيحة.
هذه الأموال يجب أن تذهب إلى المستضعفين من المسلمين، الذين يعيشون تحت مطارق الكافرين، ولعلك حينما تناقش أصحاب المؤسسات وتقول لهم: لماذا لا تأتون بالمسلمين؟! فيتهمون الإسلام والمسلمين بالضعف والخيانة، ويزعمون أن هؤلاء النصارى يقومون بدور أكبر من الدور الذي يقوم به المسلمون! وإذا كانت هذه خطورة، فأخطر من ذلك أن صار النصارى اليوم يعيشون في قعر بيوت المسلمين، في سبيل الخدمة، وتربية الأطفال، أو قيادة السيارات، يسلم المسلمون لهم أغلى ما يملكون، وينظرون إلى أقصى أسرارهم ويتمعنونها! إن الله سبحانه وتعالى نهانا أن نركن إلى الكافرين فقال: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ} [هود:113].(16/5)
كفر النصارى والرد على من ينكر ذلك
إن اليهود والنصارى فئة واحدة، وهناك من المسلمين من يتذرع ببعض النصوص التي لم يفهم حقيقتها ومعناها، حيث يقولون: إن الله تعالى يقول: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} [المائدة:82].
ونحن نقول لهم: اقرءوا آخر الآيات، فإن الله بين أن هذه الآيات نزلت في قوم من النصارى قد اعتنقوا دين الإسلام، فإن الله يقول في الآية التي بعدها: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة:83]، فقد نزلت في النجاشي الذي اعتنق الإسلام، وحتى لو كانت هذه الآية عامة فإنها لا تدل على أن النصارى إخوان وأصدقاء وأحباء للمسلمين، ولكنها تعني أن نسبة كفرهم أقل بقليل من نسبة كفر اليهود، أما الكفر فإنهم يشتركون فيه؛ لأن الله يقول: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51].
ويستدل هؤلاء أيضاً بقوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6]، وهذه الآية تحمل مبدأ البراءة من الكافرين بنصها، فكلٌ له دين، وكلٌ يحاسب يوم القيامة عما يعمل.
ويستدلون بقوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} [الممتحنة:8].
ونحن نقول: إن ذلك حق ثابت، فنحسن إليهم لو كانوا فقراء يعيشون مسالمين للمسلمين، وإذا تحاكموا مع المسلمين فعلينا أن نعدل بينهم وبين المسلمين، أما أن نتخذهم بطانة أما أن نسلّم لهم مقاليد الأمور، ونعطيهم فرص العمل أما أن نسلّم لهم فلذات أكبادنا لتقوم هذه المربيات بإعداد أولادنا وتنشئتهم تنشئة كافرة أما أن نسلّم لهم محارمنا ليقوموا بدور قيادة السيارات في غفلة منا! فهذا هو الخطر، وهذه هي المصيبة، وهذا هو الذي يخالف أمر الله، ويعرض المسلمين عامة إلى خطر كبير.
والقول بأن النصارى ليسوا كَفَرة هو الكفر الصريح.
ألا وصلّوا وسلّموا على من أُمرتم بالصلاة والسلام عليه كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، اللهم ارض عن آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه، اللهم ارض عّنا معهم، وارزقنا حبهم، واجمعنا بهم في مستقر رحمتك.
اللهم إنا نشهدك ونشهد ملائكتك وعبادك الصالحين أننا ننكر كثرة النصارى في بلاد الإسلام، وفي جزيرة العرب التي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن تطّهر منهم، اللهم لا حول لا لنا ولا قوة إلا بك، ولا نملك أكثر من ذلك، فلا تؤاخذنا بما كسبت أيدينا، ولا بما فعل السفهاء منا، واغفر لنا وارحمنا، أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين.
عباد الله! {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90].
{اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].(16/6)
فضل الصيام
جعل الله عز وجل الصيام ركناً من أركان دينه، ورتب عليه الثمرات الجليلة، والحكم العظيمة، فمنها ما عرفناه، ومنها ما غيّب عنا، فهو يعوّد الإنسان على الصبر، ويكسبه التقوى، وهو طريق من الطرق الموصلة إلى الجنة، وللصيام فوائد جليلة ينبغي على المسلم أن يحسّن صيامه، وأن يخلصه مما يكدر صفوه؛ حتى ينال تلك الفوائد والثمرات.(17/1)
الصيام والصبر
الحمد لله، الحمد لله الذي جعل شهر رمضان شاهداً لنا أو علينا، لما نقدمه فيه من عمل صالح أو غيره، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق؛ ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون.
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن آله ومن دعا بدعوته، وعمل بسنته، ونصح لأمته، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: أيها الإخوة في الله! اتقوا الله تعالى، يقول سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:183 - 185].
معشر المسلمين! إن الأمم الحية الواعية منذ القدم وهي تختبر قوتها وإمكانياتها، تختبر قوتها أمام شهواتها ونفوسها، قبل أن تخوض معترك الحياة.
وإذا كانت الأمم القديمة قبل الإسلام تفرض الصيام على جيوشها، بل وعلى شعوبها لتعودهم الصبر، فإن الإسلام جاء بالصيام ليكون عبادة، وليكون امتحاناً واختباراً للنفس البشرية، وحينئذٍ فلا يصح لهذا الإنسان أن يخوض معترك الحياة قبل أن يختبر نفسه بنفسه، وقبل أن يمنعها من شهواتها، وحينئذ يخرج بدليل واضح إذا كان قد تغلب على نفسه، وعلى شهواته، فإنه رجل الحياة الذي يستطيع أن يتغلب على مشاكلها، ويخوض غمارها، ولكنه حينما يغلب أمام شهواته وحينما ينهزم أمام نفسه فإنه عاجز عن أن يخوض هذه الحياة، ويتغلب على صعابها، من أجل ذلك شرع الله عز وجل الصيام، وجعله ركناً من أركان الإسلام.(17/2)
الحكمة من الصيام
إن التقوى مطلب عظيم لابد أن يتحلى به المسلم طول حياته، والصيام يعود الناس على التقوى والطاعة لله عز وجل، ولذلك يقول سبحانه: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183].
ثم أيضاً لابد لهذا الإنسان أن يكون أميناً على شهواته؛ ليكون بعد ذلك أميناً على قيادة الحياة كلها، وعلى عمارتها، ولكنه حينما يكون خائناً لربه، خائناً لنفسه، حينما يخلو بشهوته في وقت لا يطلع عليه إلا الله عز وجل، حينما يخون هذه الأمانة، فإنه خائن للحياة كلها، ولا يصلح أن يتولى أمراً من أمورها صغيراً كان أو كبيراً، لذلك كان من أكبر أهداف الصوم: تعليم الإنسان الأمانة على الحق، فحينما يخلو بشهوته، وحينما ينفرد في قعر بيته، قد أسدل الأستار بينه وبين الناس في لحظة لا يطلع عليه فيها إلا الله عز وجل، ثم يدع هذه الشهوة من أجل الله عز وجل وحده، فإنه حينئذ هو الرجل الأمين الذي يصلح للحياة، ولذلك جاء في الحديث القدسي فيما رواه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل أنه قال: (كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، إلا الصوم؛ فإنه لي وأنا أجزي به؛ يدع شهوته وطعامه من أجلي، للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك)، يقول عليه الصلاة والسلام: (فاستكثروا فيه من أربع خصال: خصلتان ترضون بهما ربكم، وخصلتان لا غنى لكم عنهما، أما الخصلتان اللتان ترضون بهما ربكم: فشهادة أن لا إله إلا الله وحده، وتستغفرونه، وأما اللتان لا غنى لكم عنهما: فتسألونه الجنة، وتعوذون به من النار).
ويقول عليه الصلاة والسلام: (إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب الجنة، فلا يغلق منها باب، وغلقت أبواب النار، فلا يفتح منها باب، وصفدت مردة الشياطين).
ويقول عليه الصلاة والسلام: (إن في الجنة باباً يقال له الريان، لا يدخل منه إلا الصائمون، فإذا دخلوا منه أغلق فلا يدخل منه أحد غيرهم).
معشر المسلمين! هذه هي حقيقة الصيام، وهذا هو الصوم الحق، فليس الهدف منه إيلام النفوس وإيذاءها، إنما الهدف ترويضها وتربيتها على طاعة الله عز وجل, فليس من الصدف أن يفرض الصيام في السنة الثانية من الهجرة، وتكون أول معركة للجهاد في سبيل الله يرتفع فيها علم الإسلام في السنة الثانية من الهجرة؛ إذ لم تمض إلا أيام قلائل تعد بالأصابع بعدما فرض الصيام إلا وكانت معركة بدر الكبرى؛ حيث تغلب الناس على شهواتهم، وأصبحوا أقدر على عدوهم من عدوهم عليهم.(17/3)
أصناف الناس في رمضان
معشر المسلمين! أما الناس في أيامنا الحاضرة فإنهم يختلفون في إدراك حقيقة رمضان والصيام، وينقسمون إلى صنوف شتى: فمنهم من لم يرفع برمضان رأساً، ولم يقم له وزناً، فهو مكب على لهوه وشهواته ومعصيته، مفطر في رمضان حسبما تحيط به من ظروف، سواء أعلن فطره أم أخفاه عن أعين الناس، وهؤلاء لا يفسرون رمضان إلا إيذاءً للنفس وحرماناً لها من شهواتها، فأولئك هم الذين عناهم الله عز وجل بقوله: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} [الزخرف:83]، وقوله: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر:3]، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (من أفطر يوماً من رمضان من غير رخصة ولا مرض لم يكفره صيام الدهر كله وإن صامه).
وهناك نوع آخر مكب على المعصية، يركب المحرمات، ويترك الواجبات، ولا يبالي بذلك أبداً، حتى إذا قرب موعد شهر رمضان سلك مسلك الصالحين، فلا توبة ولا إنابة، ولكنها عادة ألفها، فعرف حينئذ الطريق الموصلة إلى المسجد، ولربما صام رمضان، وترك كثيراً من المحرمات، حتى إذا ودع شهر رمضان ودع العبادة كلها، وإن أخوف ما أخاف أن يكون هذا النوع الذي بدأت تغص به المساجد اليوم من هذا الصنف، وأعيذكم بالله من شر ذلك! فهؤلاء لم يزيدهم رمضان من الله إلا بعداً، إلا إذا استقبلوه بتوبة نصوح، وعاهدوا الله على العمل المتواصل، وهؤلاء يشبهون الذين قال الله فيهم: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ * أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} [البقرة:17 - 19].
فهؤلاء يرون الحق فترة من الزمن، ثم يخفضون أعينهم عن الحق، فيزيد ظلامهم ظلاماً.
وهناك نوع ثالث ركب المحرمات، وترك كثيراً من الواجبات، فاشتد شوقاً إلى موسم تزداد فيه التوبة، وتضاعف فيه الحسنات؛ لعله يستعتب بين يدي الله عز وجل، حتى إذا أقبل عليه شهر رمضان أبرم عقداً وثيقاً بينه وبين ربه سبحانه وتعالى، وعض أصابع الندم وقرع سناً على ما سلف من أمره، ثم يسلك مسلك الصالحين، ويسير مسيرتهم؛ حتى يلقى الله عز وجل.
وهؤلاء هم الذين يقول الله لهم: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر:53 - 56].
وهناك نوع رابع قد أبرم العهد مع الله، وصار ذا عبادة، فهو على العهد والميثاق، لم يتخلف لحظة من لحظات الزمن عن طاعة ربه، ولم يفعل شيئاً من المحرمات، حتى إذا أهل عليه هلال شهر رمضان طارت نفسه شوقاً إلى منزل من مواطن العبادة تضاعف فيه الحسنة، وتحط فيه السيئة، فهو لا يترك العبادة، ولا يفعل شيئاً من الحرام طول عمره، فهؤلاء هم الذين قال الله فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا} [فصلت:30] يعني: في ساعة الموت، {وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30]، وقال عز وجل فيهم: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [يونس:62 - 64].(17/4)
رمضان فرصة للتوبة والإنابة
معشر المسلمين! إن في رمضان فرصة للتوبة والإنابة، ولذلك فإن الرسول عليه الصلاة والسلام صعد المنبر فقال: (آمين ثلاث مرات، ثم نزل، فقيل له في ذلك، فقال: إن جبريل أتاني فقال: يا محمد! من أدرك رمضان من أمتك فلم يغفر له فمات فأبعده الله فدخل النار، قل: آمين، فقلت: آمين).
والحسنة في رمضان مضاعفة، كما في الحديث القدسي: (إذا تقرب العبد فيه بنافلة كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه).(17/5)
استغلال شهر رمضان في الطاعة والعبادة
أيها الإخوة المؤمنون! إن المحروم هو الذي تمر به مثل هذه الفرص الثمينة ثم يفوتها، وتنصرف أيام رمضان دون أن يستعتب أو يتوب أو يرجع، فما يدريك يا أخي! لعل هذا الشهر آخر فرصة من فرص حياتك، وربما لا تدرك رمضان آخر! أما علمت أن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمة يقلبها كيف يشاء؟ أما علمت أن الجنة أقرب إلى أحدنا من شراك نعله، وأن النار مثل ذلك؟ فاتقوا الله يا معشر المسلمين! وأكرموا هذا الشهر بالعبادة، وأقيموا أيامه بالصيام، وأقيموا لياليه بالعبادة والتهجد، وعليكم بصلاة التراويح؛ فإنها سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وعليكم بقيام الليل؛ فإنه دأب الصالحين قبلنا، واعلموا أن الله ينزل حينما يبقى ثلث الليل الآخر إلى سماء الدنيا فيقول: (من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟ وذلك كل ليلة).
قال عز وجل: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:185].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(17/6)
حقيقة الصيام
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! اتقوا الله تعالى، واعلموا أن للصيام حقيقة وصورة، أما الصورة فتلك الأفعال التي يفعلها الناس؛ حيث يدعون الطعام والشراب والشهوة من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وأما حقيقته: فهي ترك الحرام كله؛ ابتغاء مرضاة الله، وخوفاً من ساعة الوقوف بين يديه.
أيها الإخوان! إن أهون الصيام ترك الطعام والشراب، وإن أشده ترك المحرمات، فالتزموا بالصيام على الوجه المطلوب، وافهموا معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه).
وحينئذٍ فإن على الصائم أن يحفظ جميع جوارحه من الحرام، فيحفظ البصر؛ فلا ينظر إلى ما حرم الله عليه، ويحفظ اللسان؛ فلا ينطق إلا بما أباح الله له، ويسخر هذا اللسان في تلاوة كتاب الله؛ ففي هذا الشأن أنزل ليكون هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان.
أما سلفنا الصالح رحمة الله عليهم فكانوا يتركون كل شيء حينما يدخل رمضان، ويقبلون على تلاوة كتاب الله حفظاً وتفهماً وتدبراً، ويتركون مجالس الفقه والعلم.
أما نحن فإننا نطالب المسلمين اليوم أن يهجروا المحرمات، وإذا كان الإعلام الذي قد انخرط في بلادنا لم يتورع عن الحرام حتى في ليالي رمضان، فإني أحذركم معشر المسلمين! أن تتابعوا هذه البرامج فتفسدوا عباداتكم، وتمسحوا حسناتكم، وإذا لم تدعوا هذه المعصية طول العمر وأنتم مطالبون بذلك، فإنكم مطالبون بأن تتركوها ولو في هذه الأيام الفاضلة التي تضاعف فيها السيئة كما تضاعف فيها الحسنة.
معشر المسلمين! أدوا زكاة أموالكم، وجودوا بالنفقة، واحذروا الإسراف في الأكل والشرب، وأحسنوا إلى الفقراء، فلقد كان من مقاصد رمضان أن يذيقكم طعم الجوع؛ لتعرفوا قدر نعمة الله عليكم طول العمر، ثم تحسنوا إلى الفقراء.
هذا وإن أصدق الحديث كتاب الله، وإن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وإن شر الأمور محدثاتها، وكل محدثة في دين الله بدعة.
قال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، اللهم ارض عن آله وأزواجه، وأصحابه وأتباعه، اللهم ارض عنا معهم، وارزقنا حبهم، واجمعنا بهم في مستقر رحمتك، اللهم لا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وبصفاتك العليا أن تجمع شمل المسلمين على طاعتك، وأن تؤلف بين قلوبهم، وتصلح ذات بينهم، وأن تجعل قيادتهم وأمرهم في عبادك الصالحين.
اللهم أيد المسلمين المجاهدين بنصر منك، اللهم لا تكلهم إلى أنفسهم ولا إلينا ولا إلى أحد من خلقك طرفة عين.
اللهم زلزل الأرض من تحت أقدام أعدائهم؛ إنك على كل شيء قدير.
اللهم انصر المسلمين في أفغانستان على الشيوعية، وأيد المجاهدين في سوريا على حزب البعث، وأيد المسلمين في الأرض كلها على اليهود والنصارى والمتمردين.
ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين، ونجنا برحمتك من القوم الكافرين، {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10].
عباد الله! {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90].
والحمد لله رب العالمين.(17/7)
الزكاة
الزكاة هي الركن الثالث من أركان الإسلام، ولا يتم إسلام المرء ولا يكتمل إلا بها، فمن جحد وجوبها أو أنكرها فقد كفر، وهي أجل العبادات المالية، وهي قرينة الصلاة في أكثر من ثمانين موضعاً في القرآن الكريم، وقد قاتل الصديق الأكبر رضي الله عنه أهل الردة من أجلها، وهي سبب البركة، ودوام الخير، والزيادة في الرزق، ودفع البلاء.(18/1)
وجوب الزكاة وفرضيتها
الحمد لله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وكل شيء عنده بمقدار، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يبتلي الناس بالفقر كما يبتليهم بالمال، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون.
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن آله، ومن دعا بدعوته، وعمل بسنته، ونصح لأمته، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! يقول سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ * الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:267 - 268].
أيها الإخوان! بني الإسلام على خمس، ومن أبرز أسسه وأهم دعائمه: الزكاة، التي هي رأس العبادات المالية، والتي تكرها مقرون بالشرك في قول الله سبحانه وتعالى: {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت:6 - 7].
فالزكاة ركن من أركان الإسلام، من تركها جحوداً لها فقد كفر، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11]، وقال: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة:5].
وقد شرح الله صدر أبي بكر الصديق رضي الله عنه لقتال مانعي الزكاة وقال: (والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، والله لو منعوني عناقاً -أو عقالاً- كانوا يؤدونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه).
ومن هنا أجمع المسلمون عامة والصحابة خاصة على قتال كل من منع الزكاة جاحداً لوجوبها، أما من منعها بخلاً وتهاوناً فقد ركب إثماً عظيماً، وعرض نفسه لسخط الله عز وجل.
ولقد توعد الله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّه} [التوبة:34]، والمراد بالكنز هنا: منع الحقوق الواجبة من زكاة وغيرها، توعدهم الله عز وجل بنار جهنم يوم القيامة، فقال عز من قائل: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة:34 - 35].
وفي هذا المعنى يقول عليه الصلاة والسلام: (ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد، فيرى مصيره إما إلى الجنة أو إلى النار).
ويقول عليه الصلاة والسلام: (من آتاه الله مالاً فلم يؤدّ زكاته مُثّل له يوم القيامة شجاعاً أقرع، له زبيبتان، فيأخذ بلهزمتيه -يعني: شدقيه- فيطوّقه، فيقول: أنا كنزك أنا مالك، ثم قرأ عليه الصلاة والسلام {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [آل عمران:180]).(18/2)
فوائد أداء الزكاة
معشر المسلمين! إن الزكاة تطهر المال وتنميه وتزيده، ويمحقه منع الصدقة منه؛ ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما هلك مال في بر أو بحر إلا بسبب منع الصدقة)، وفي حديث آخر: (داووا مرضاكم بالصدقة، وحصنوا أموالكم بالزكاة، وادفعوا أمواج البلاء بالدعاء والتضرع).
إنها تنمي المال وتطهره، كما أنها تطهر صاحب المال من الشحّ تطهر قلبه، وتطهر جسمه من الحرام، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9].
إنها تطهر المجتمعات من الفساد؛ ذلك أن المجتمع الذي لا يتوازن فيه الاقتصاد حسب ما يريده الله عز وجل ليعيش الفقراء آمنين من الفقر بسبب ما فرض الله لهم من أموال الأغنياء، حينما لا يكون ذلك سينتشر النهب والسلب والسرقة والفوضى، وهناك تباع الأعراض، ويتسلط الفقراء على الأغنياء، ويرفع الله عز وجل يده عن الأغنياء.(18/3)
التحذير من منع الزكاة
معشر المسلمين! ما حلت الشيوعية في بلد من البلاد إلا بسبب فسادها الاقتصادي، حينما يكون هناك بذخ وإسراف لدى طبقة من الناس، ويعيش بجوارهم فقراء لا يجدون قوت يوم وليلة.
وما ينقم أهل هذا البلد لو بخلوا بحق الله عز وجل الذي جعله حقاً واجباً في أموالهم، ما ينقمون إلا أن كانوا فقراء، فقدر الله لنا ثروات الأرض من تحت آلاف الأمتار، ولقد كنا عالة فأغنانا الله عز وجل، وكنا أذلة فأعزنا الله بهذا الدين، وكنا خائفين فأمَّنَنا وطمأنَنَا، ويتخطف الناس من حولنا، ولو بخلنا بالزكاة فإنه يوشك أن يولي الله علينا حكاماً ظلمة، يسلبون أموالنا بدون حق، ويسوموننا سوء العذاب، وهذا الواقع المرير موجود، حيث تعيش مئات الملايين من البشر من المسلمين تحت مطارق الكافرين، مثل الحكم الشيوعي الذي كان رد فعل لما يقترفه المسلمون أولئك في يوم من الأيام من الإثم والمعصية والبخل بحق الله.
معشر المسلمين! إن أخوف ما نخافه أن يكون لدى طائفة منّا أموال ضخمة ولا يؤدون زكاتها، ويوجد في هذه الأيام من لديهم أموال كادت الأرقام أن تعجز عن إحصائها، وكادت البنوك أن تعجز عن حفظها، ثم يحسب هؤلاء زكاة أموالهم فيجدونها تبلغ عشرات الآلاف أو مئات الآلاف، ثم تزل بهم القدم فيبخلون بهذا المال حينما يستكثرونها بالزكاة.
ولقد حدثنا القرآن الكريم عن رجل كان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحكى بعض المفسرين أنه ثعلبة بن أبي حاطب، كان رجلاً فقيراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا رسول الله! ادع الله أن يرزقني مالاً.
فقال له عليه الصلاة والسلام: يا ثعلبة! قليل تؤدي شكره خير لك من كثير لا تطيقه.
ثم جاء مرة أخرى وقال: يا رسول الله! ادع الله أن يرزقني مالاً.
فقال: أما ترضى أن تكون مثل نبي الله؟! فوالذي نفسي بيده لو أردت أن تسير معي جبال الدنيا ذهباً لسارت.
ثم جاء المرة الثالثة وقال: يا رسول الله! والله لئن دعوت الله فرزقني مالاً لأوتين كل ذي حق حقه -أبرم العهد مع الله- فقال عليه الصلاة والسلام: اللهم ارزق ثعلبة مالاً.
فاتخذ غنماً فنمت كما ينمو الدود حتى ضاقت بها المدينة، ثم ذهب بعيداً، وتخلف عن بعض صلوات الجماعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم زادت، فتخلف عن الجماعة مطلقاً، ثم زادت، فذهب بعيداً عن المدينة فترك الجمعة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن خبر ثعلبة، حتى إذا أخبر بخبره قال: يا ويح ثعلبة! ثم أرسل الرسول عليه الصلاة والسلام رجلين على الصدقة، حتى إذا عرضا كتاب رسول الله عليه، وقرأه وعرف المقدار الضخم الذي يلزمه حينما تضخم ماله، قال: والله ما هذه إلا جزية، والله ما هي إلا أخت الجزية! ثم رفض أن يدفع الزكاة، حتى أنزل الله فيه قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ * أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [التوبة:75 - 78].
فما كاد ثعلبة يقرأ هذه الآيات حينما سمعها من الركبان حتى جاء يحثو التراب على وجهه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعرض ما يريد من المال، فرفض ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ لأن الله سبحانه قد حكم عليه بالنفاق إلى يوم القيامة: (إلى يوم يلقونه).
وكم في كتاب الله من الدروس، وكم في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من المواعظ! فليحذر هؤلاء الذين منّ الله عليهم بالمال امتحاناً وفتنة واختباراً، ليحذر هؤلاء أن يبخلوا بحق الله عز وجل الذي جعله حقاً واجباً معلوماً للسائل والمحروم، حتى إذا حانت ساعة الموت قرعوا سنّ الندم، وعضوا الأصابع، ولات ساعة مندم! يقول الله سبحانه وتعالى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون:10 - 11].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(18/4)
وجوب إخراج الزكاة لمن يستحقها
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، اللهم وارض عن آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! اتقوا الله تعالى، واعلموا أن الزكاة ركن من أركان الإسلام، وأن أمرها خطير، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله).
معشر المسلمين! ويل للذين يبخلون بما أوجب الله عليهم من الصدقة؛ فإن الله عز وجل استخلفهم في هذا المال ليختبرهم، وأمرهم بالإنفاق مما جعلهم مستخلفين فيه فقال: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:7].
ثم هذا المال سيصير لله عز وجل يوم يرث الأرض ومن عليها: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم:40].
وحينئذ يجب على المسلم أن يخاف الله عز وجل، وأن يحافظ على هذا الواجب الذي فرض الله، وأن يحسب ماله وما عليه في رأس كل عام، وفي يوم يحدده ليخرج زكاة هذه الأموال من نقد أو عروض تجارة، ويصرف هذه الزكاة للذين يستحقونها، وهم الذين ذكرهم الله عز وجل في قوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} [التوبة:60].
أيها الإخوان! لا يجوز أن ندفع الزكاة مجاملة أو محاباة أو صيانة لأموالنا؛ بل يجب أن ندفعها كما أمر الله عز وجل، فهو الذي تولى حفظها بنفسه وتوزيعها.
معشر المسلمين! إن هناك ظروفاً تتطلب من المسلم أن يبادر بإخراج زكاته طيبة بها نفسه، هناك عزاب لا يجدون مئونة الزواج، فيجب أن نبذل من أموالنا ما نزوجهم به من أجل أن نحصن أموالنا، ونحصن المجتمع من شر العزوبة، وعَلَم الجهاد اليوم قائم في سبيل الله في أرجاء الأرض، والمجاهدون يفقدون المال، وهناك الأُسر التي أرملتها الحروب على أيدي أولئك الظلمة، كل هؤلاء يجب أن نبذل أموالنا لهم، ولو خرجنا عن هذه الحدود الإقليمية فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [المؤمنون:52]، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (إنما المؤمنون إخوة).
إن علينا أن نؤدي هذا الحق المقدس، ومن هنا ندرك الفرق الواضح بين نظام الإسلام في الصدقات والزكوات، وبين الأحكام الجائرة التي تسود أكثر العالم الإسلامي اليوم، فإن الزكاة في الإسلام يؤديها الناس ركن من أركان دينهم، طيبة بها أنفسهم، يبتغون الأجر والمثوبة من الله، أما تلك الضرائب فإنها لا تؤخذ إلا تحت قسوة القوانين الجائرة، والزكاة في الإسلام كما قال عليه الصلاة والسلام: (تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم)، أما تلك فإنها تؤخذ من الأغنياء والمتوسطين والفقراء، ولا ترد على الفقراء ولكنها تنفق لتثبيت عروش تعتز بأهلها بسبب ما كسبت أيديهم.
انتبهوا لهذا الأمر، واحذروا البخل؛ فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38].
أيها الإخوان! حاسبوا أنفسكم قبل أن نقف يوم القيامة بين يدي أسرع الحاسبين، ليحاسبنا على هذه الأموال صغيرها وكبيرها، واعلموا أن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة في دين الله بدعة.
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، اللهم ارض عن آله وأزواجه وأتباعه، اللهم ارض عنا معهم، وارزقنا حبهم، واجمعنا بهم في جنات النعيم.
اللهم إنا نتوجّه إليك في هذه الساعة المباركة من هذا اليوم المبارك، من هذا الشهر المبارك أن تهدي ضال المسلمين إلى الحق، وأن ترد المسلمين إليك رداً جميلاً، وأن ترزقهم حكاماً صالحين يقودونهم إلى طريق الجنة والسعادة في الدنيا والآخرة.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم احم حوزة الإسلام من المفسدين والمخربين، اللهم طهر المجتمعات الإسلامية من الشح والبخل، والفساد والضلال، والمعصية والشرك، والشك والنفاق.
اللهم وأيد المسلمين المجاهدين في سبيلك، اللهم خذ بأيديهم إلى ما فيه سعادة الأمة بأجمعها، اللهم لا تكلهم إلينا فنعجز عنهم، ولا تكلهم إلى أنفسهم ولا إلى أحد من خلقك طرفة عين، اللهم وعليك بأعدائهم، اللهم وعليك بأعدائهم من جميع الكفرة والملحدين، اللهم زلزل الأرض من تحت أقدامهم وأسقط عليهم كِسْفاً من السماء، وأرنا فيهم عجائب قدرتك، واجعل فيهم آية وعظة للمتعظين والمعتبرين.
{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23].
{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201].
{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10].
عباد الله! {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90].
{اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].(18/5)
الحج
إن الله سبحانه وتعالى قد أتم علينا النعمة، وأكمل لنا الدين، وارتضى لنا الإسلام ديناً، وجعل لهذا الدين أركاناً يقوم عليها، من ترك ركناً منها فقد هدم دينه، وعصى ربه جل وعلا، ومن هذه الأركان حج البيت الحرام الذي جعله الله للناس قياماً، فيجتمع فيه المسلمون من كل فج عميق، ويلبون دعوة ربهم فتتنزل عليهم السكينة، وتغشاهم الرحمة، وتحفهم الملائكة، ويذكرهم الله فيمن عنده؛ بل ويباهي بهم ملائكته، وأكثر ما يعتق الله من النار في يوم عرفة، فطوبى لمن وفقه الله، فحج حجاً مبروراً يرجع بعده طاهراً من الذنوب كيوم ولدته أمه.(19/1)
فضل فريضة الحج وما فيها من المنافع
الحمد لله الذي دعا عباده المؤمنين إلى حج بيته الحرام؛ ليشهدوا منافع لهم، وليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً.
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن آله، ومن دعا بدعوته، وعمل بسنته، ونصح لأمته، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! يقول الله عز وجل: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:26 - 29].
أيها الإخوان! إن الله سبحانه وتعالى جاء بدين الإسلام من أجل أن يقرر قواعد لا بد منها، ولعل من أبرز هذه القواعد وأهمها: قضية التوحيد لله عز وجل، والإخلاص له في العبادة، وإقامة قواعد دينه على هذا الأساس، وتحطيم كل ما يعبد من دون الله من حي أو ميت، من أجل ذلك بوّأ الله سبحانه وتعالى لسيدنا إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام مكان البيت، ثم أمره بأن يطهر البيت من الأصنام والأوثان، ثم أمره بأن ينادي بالحج من أجل أن يحضر المسلمون من كل صوب وحدب؛ ليشهدوا هذه المنافع؛ وذلك من أجل إقامة مآرب التوحيد.
ولقد استجاب نبينا إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام لهذا النداء، فبنى البيت كما أمره الله، ثم صعد على جبل أبي قبيس، وقال: أيها الناس! إن الله بنى لكم بيتاً فحجوا، فسمعه كل مخلوق كان أو لم يكن على وجه الأرض، حتى من كانوا في أصلاب آبائهم، فنادى الجميع بصوت واحد: لبيك اللهم لبيك.
ومنذ ذلك الحين والعالم يحج هذا البيت الذي وضعه الله عز وجل ليكون أول بيت وضع للناس في الأرض.
أما المنافع التي أرشدنا الله عز وجل إليها فهي كثيرة، والدليل على كثرتها: التنكير، فإن الله سبحانه وتعالى قال: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج:28]، وحينئذٍ فإنها منافع عظيمة، يجب أن يبحث عنها المسلمون في كل فقرة من فقرات الحج، وفي كل زاوية من زوايا الأرض المقدسة.
هذه المنافع تبرز منذ تلك اللحظة التي يغادر فيها المرء أهله وعشيرته معتمداً على الله عز وجل، قد ولى وجهه شطر بيت الله الحرام، قد ودع الأهل والعشيرة، وانقطع من كل شيء سوى الله سبحانه وتعالى، ثم يأتي سر التجرد مما يملك، بحيث ينزع كل ما يملك عن بدنه، حتى ثيابه الرقيقة؛ ليرتدي ثياباً خشنة تشبه الأكفان، وكأنه يريد أن يتذكر ساعة الموت والفراق، يوم يلف بهذه اللفائف، وحينئذ يحضر ذلكم الاجتماع الكبير الذي يحكي لنا موقف يوم القيامة، يوم يجمع الله عز وجل الأولين والآخرين في صعيد واحد، ينفذهم البصر، ويُسمعهم الداعي، يحضرون من كل فج عميق ليبحثوا عن هذه المنافع.(19/2)
تحقيق التلبية للتوحيد
أيها الإخوان! أما حينما يردد المسلمون هذه التلبية، فإنهم يحققون التوحيد بمعناه الكامل، فهم يقولون: لبيك اللهم لبيك، أي: نجيب دعوتك مرة بعد مرة، لبيك لا شريك لك لبيك، قد ألغوا كل ما يعبد من دون الله عز وجل، أو كل ما يخاف منه البشر من حي أو ميت، وحينئذٍ يتحقق التوحيد الكامل الذي ينشد دين الإسلام وجوده في هذه الأرض، بحيث لا يعبد إلا الله، ولا يخاف غيره، ولا يستعان بأحد سواه.(19/3)
مواقف في الحج تؤخذ منها العظة والعبرة
معشر المسلمين! وهناك في تلك المواقف في بطحاء مكة، وحول جبل النور وغار حراء وغار ثور، يتذكر الإنسان المسلم تلك المعالم التي وقفها رسولنا صلى الله عليه وسلم يوم أعلن دعوة الإسلام وحيداً، قد جفاه الأهل والعشيرة، وحينئذٍ يتذكر الجهاد في سبيل الله، وتلك الحجارة تنطق بكفاح نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وفيها قطرات من دمه الشريف يوم آذاه وضربه قومه، وأخرجوه بغير حق إلا أن يقول ربي الله.
معشر المسلمين! وفي الحج نتعلم الخضوع الكامل لله عز وجل، يوم ندور حول هذا البيت خاضعين أذلاء، تأخذنا السكينة والخشوع لله عز وجل، ثم نمد أيدينا لنستلم الحجر الأسود، ونحن في الحقيقة نمدها لنبرم عهداً وتوبة بيننا وبين الله عز وجل، في ذلكم الموقف الرهيب الذي وقف فيه صلى الله عليه وسلم وبكى، ثم التفت فإذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يبكي بجواره، فيقول له: (يا عمر! هاهنا تسكب العبرات).
وإذا كان العالم يعيش اليوم في ذعر وخوف وقلق؛ لأنه تجرد عن العقيدة الصحيحة؛ فإنه يذهب هناك ليذوق طعم الأمن؛ لأن الله يقول عن ذلكم البيت: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص:57].
ذلكم المكان الذي يعلمنا كيف نجاهد في الله عز وجل حق جهاده، وحينما ننطلق بين منى وعرفات والمزدلفة إذا بنا نتعلم الطاعة المطلقة لله عز وجل؛ فإن الحجاج هناك لا يكادون ينزلون منزلاً إلا ويفارقونه بعد مدة وجيزة، دون أن يعرفوا الدوافع من أجل هذا النزول أو ذاك الرحيل، ولكنها طاعة لله واتباع لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهذه هي الطاعة المطلقة التي لا تفكر في الحكمة ولا في الهدف، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36].
هناك في ذلك الصعيد يلتقي المسلمون بإخوتهم من جميع بقاع العالم؛ ليحلوا مشاكلهم؛ وليرى بعضهم بعضاً عن كثب.
هناك تعالج مشاكل المسلمين، وليس ذلك بدعاً في تاريخ الحج، فإن أول لبنة لدولة الإسلام في المدينة قد وضعت في أيام الحج بجوار جمرة العقبة.
أيها الإخوة المؤمنون! وإذا كانت هذه القوميات المعاصرة تتصارع اليوم على القضاء على الإسلام؛ فإن في الحج لنا خلاصاً، وإن في الحج لنا منعة، إن هذه القوميات لا تستطيع أن تلتهم المسلمين، ولا أن تحطم هذا الدين؛ لأن هذه الشرائع تتكرر من حين لآخر؛ من أجل أن تؤلف بين المسلمين وتربط بعضهم ببعض.
هناك الصلوات الخمس التي يكسوها اجتماع أكبر منها يوم الجمعة؛ ليكون هناك اجتماع ثالث أكبر وأوسع في أيام العيدين، ولكن هذه الاجتماعات المصغرة لا بد أن تتحد كلها وبأجمعها في اجتماع يلم كل هذه الاجتماعات، ومن أجل ذلك شرع الله عز وجل الحج، وكانت شريعة الحج آخر شرائع الإسلام.(19/4)
وجوب فريضة الحج
الحج ركن من أركان الإسلام، حكم الله عز وجل بكفر من تركه فقال: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:97]، ويقول عليه الصلاة والسلام: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً)، ويقول عليه الصلاة والسلام: (من كان له جدة فلم يحج فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً).
ويقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لقد هممت أن أبعث إلى هذه الأمصار فأنظر إلى من كان له جدة فلم يحج فأضرب عليه الجزية، ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين).
ويقول علي رضي الله عنه: من كان له زاد وراحلة يبلغانه إلى بيت الله الحرام فلم يحج فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:97].
معشر المسلمين! تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والنحاس والذهب، وقد (سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن أفضل الأعمال، فقال: إيمان بالله ورسوله.
قيل ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله.
قيل ثم ماذا يا رسول الله؟ قال: حج مبرور، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، ومن حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه).(19/5)
شروط الحج المبرور
الحج المبرور: هو ما توافرت فيه شروط ثلاثة: الشرط الأول: أن تكون النفقة حلالاً طاهرة، أما النفقة الحرام التي تكسب من الربا أو المعاملات الربوية التي وضع عليها غطاء شفاف، أو الذي يكسب بالغش والخداع، أو بالغصب أو بالنهب، أو باللصوصية؛ فإنه لا يقبل؛ لأن في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الحاج إذا وضع رجله في الغرز -أي ركب دابته- فقال: لبيك اللهم لبيك، وكانت نفقته حراماً، نادى منادٍ من السماء: لا لبيك ولا سعديك، نفقتك حرام، وزادك حرام، وراحلتك حرام، وحجك مأزور غير مبرور.
وإذا كانت النفقة حلالاً فقال: لبيك اللهم لبيك، نادى منادٍ: لبيك وسعديك، زادك حلال، وراحلتك حلال، وحجك مبرور غير مأزور).
الشرط الثاني: أن يكون هذا الحج خالصاً لله، أما إذا كان للمفاخرة والمباهاة، أو أرقام يحصيها الإنسان لنفسه كم حجة حجها؟ فإن ذلك لن يزيده من الله إلا بعداً؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول في الحديث القدسي: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه).
الشرط الثالث: أن يكون صواباً، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام في حجته التي حجها فكانت نموذجاً للحجاج إلى يوم القيامة، (خذوا عني مناسككم)، فالله سبحانه وتعالى يقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء:7].(19/6)
تحذير الحجاج من الأعمال الشركية عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم
معشر الحجاج! هناك طائفة يؤدون هذه الفريضة ولكنهم يبطلونها بالشرك، فحينما ينهون أعمال الحج يعرجون على مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا عمل طيب، ولكنهم يشركون بالله عز وجل غيره؛ فيتجهون إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه من دون الله! والله عز وجل يقول: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65].
لذلك لا يجوز أن يسأل في هذه الأرض أحد غير الله عز وجل؛ فهو الذي يستطيع أن يكشف الضر، ويجلب الخير.
أما غيره من رسول مقرب أو أي إنسان فإنه لا يملك لنفسه بعد موته ضراً ولا نفعاً، فأخلصوا لله، واحذروا البدع؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد).
واحذروا الشرك؛ فـ {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] وقال تعالى: {مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة:72]، وقال سبحانه: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(19/7)
فضل عشر ذي الحجة وبعض أحكامها
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! اتقوا الله تعالى، واقدروا للأشهر الحرم قدرها، واقدروا لعشر ذي الحجة قدرها؛ فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر:1 - 2]، قال طائفة من المفسرين: هذه الليال العشر هي عشر ذي الحجة.
وفي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من أيام العمل فيها أحب إلى الله منه في هذه الأيام العشرة -يعني عشرة ذي الحجة- قالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء).
إنه فضل عظيم يرشدنا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد سن صيام هذه الأيام العشرة، وأمر بالاجتهاد بالأعمال الصالحة فيها، ومن أهم هذه الأعمال: إحياء سنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم غفل عنها الكثير من الناس، فكان الرسول والصحابة معه إذا دخلت أول ليلة من عشر ذي الحجة يرفعون أصواتهم بالتكبير: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد، الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً.
يرددون هذه الكلمات، وفي غمرة هذه الحضارة التي نعيشها اليوم غفل كثير من الناس عن هذا التكبير، فكانت سنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم تكاد اليوم أن تنسى، وإن من أحياها فإن له أجراً عظيماً؛ لأنه دل الناس على هدى النبي صلى الله عليه وسلم.
إن علينا أن نحيي هذه السنة، وأن نرفع أصواتنا بها في الأسواق، وفي مجامع الناس، وفي المساجد، في كل ساعة من الساعات نكرر هذا التكبير بقدر ما أوتينا من وسع.
أيها الإخوان! ولقد أرشدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن من أراد أن يضحي فإنه لا يجوز له أن يمس شعره أو بشرته منذ أول ليلة من ليالي هذه العشر إلى أن يذبح أضحيته.
إن أصدق الحديث كتاب الله، وإن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة في دين الله بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، اللهم ارض عن آله وأصحابه وأزواجه، اللهم وعنا معهم، وارزقنا حبهم، واجمعنا بهم في مستقر رحمتك.
اللهم إنا نتوجه إليك في هذه الأيام المباركة، ونسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا وتوحيدك أن تؤيد المسلمين بنصر منك.
اللهم رد المسلمين إليك رداً جميلا، ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون، اللهم أيد المجاهدين في كل شبر من أرضك الواسعة، اللهم وعليك بأعدائهم الذين يحاربون هذا الدين، اللهم زلزل الأرض من تحت أقدامهم، وأسقط عليهم كسفاً من السماء، واجعل لنا فيهم آية وعظة وعبرة.
ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين، ونجنا برحمتك من القوم الكافرين، واجعل ولايتنا وجميع أمورنا وأمور عبادك المسلمين في عبادك الصالحين، الذين يصلحون في الأرض ولا يفسدون.
اللهم إنا نشهدك ونشهد ملائكتك وعبادك الصالحين أننا ننكر كل معصية لا نستطيع أن نغيرها، فلا تؤاخذنا بما كسبت أيدينا، ولا بما فعل السفهاء منا، واغفر لنا وارحمنا، أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين.
عباد الله! إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].(19/8)
الثبات على الأعمال
الناس أقسام وطرائق، فمنهم من يعمل للدنيا فقط، ومنهم من يعمل للآخرة فقط، ومنهم من يعمل للآخرة ولكنه لا يترك العمل للدنيا، ومنهم من يتخذ الدين ليتوصل به إلى متاع دنيوي زائل والله تعالى قد ذكر هذه الأنواع للناس في كتابه، وبعد ذكره لها أمر الناس أن يدخلوا في الإسلام كافة، وأن يأخذوا به من جميع جوانبه، لا أن يأخذوا منه ما يوافق أهواءهم، ويدعون ما يخالف ذلك، فإن هذه صفة من صفات المنافقين، والمارقين من الدين.(20/1)
أقسام الناس في تحصيل العمل الدنيوي والأخروي
إن الحمد لله، نحمد ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل على محمد النبي، وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته وأهل بيته، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد: فيقول الله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ * وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة:200 - 208].
جاءت هذه الآيات لتقسم الناس إلى أقسام أربعة:(20/2)
من يريد الحياة الدنيا فقط
القسم الأول: نوع يسعى إلى الحياة الدنيا جهده، فهو لا يريد إلا الحياة الدنيا، يعمر بها مجالسه، ويسعى فيها طول عمره في غفلة عن الحياة الآخرة، وإذا قدم عملاً من الأعمال التي يرجى بها وجه الله عز وجل فإنه يحبط هذه النية التي بها يكسب الأجر، فهذا ليس له في الآخرة من نصيب؛ لأنه لا يريد إلا الحياة الدنيا، ولا يريد الحياة الآخرة، ولكن الله سبحانه وتعالى يعطيه من الدنيا التي يسعى إليها نصيباً كما يريد الله لا كما يريد هو، يقول سبحانه وتعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء:18 - 19]، وقال سبحانه: (وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى:20].
وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16].
وقد قال المفسرون في معنى الآية الأخيرة: إن العبد ليعمل العمل يشبه عمل المؤمنين كأنه يقربه إلى الآخرة، ولكنه لا يريد بعمله هذا إلا الدنيا يقدم المال للفقراء باسم الإنسانية، ويبذل جهده في خدمة الوطن باسم الوطنية، لكنه يفقد النية الصالحة التي يتقرب بها إلى الله عز وجل، فيعطيه جزاء ذلك في الدنيا من صحة وقوة في السمع وفي البصر ومن مال وولد، فيعجل له جزاءه وافياً كاملاً غير منقوص؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يظلم أحداً حقاً من حقوقه.
وهذا النوع أيضاً إذا رفعوا أكف الضراعة إلى الله لا يسألونه إلا الدنيا؛ لأنها ملكت قلوبهم، وسيطرت على أفئدتهم، فهم يقولون دائماً: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة:200].(20/3)
من يعمل للآخرة ولا يترك الدنيا
أما القسم الثاني: فهو نوع وضع الدنيا في كفه ووضع الحياة الآخرة في قلبه، يسعى إلى الدنيا ليعمرها باعتبارها سبيلاً إلى الحياة الآخرة؛ لأن الحياة الآخرة هي الغاية التي يجب أن يسعى إليها الناس أجمعون، وإذا رفعوا أكف الضراعة إلى الله يسألونه سعادة الدنيا والآخرة فيقولون: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201]، ثم يقول الله لهؤلاء: {أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [البقرة:202].
حينما نحث الناس على السعي إلى الحياة الآخرة لا يعني ذلك أن تعطل الحياة الدنيا، ولكن يجب أن يعمل المؤمن للدنيا ويسعى إلى الآخرة، فيمشي إلى الدنيا مشياً: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} [الملك:15]، ويسعى إلى الآخرة سعياً حثيثاً: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء:19].
ومن هنا ندرك أن دين الإسلام وسط بين طرفي نقيض، فإذا كانت الشيوعية الملحدة تقدس البدن والمادة وتلغي الروح، والصوفية تقدس الروح وتلغي البدن، فإن دين الله الخالص يحترم الروح والبدن جميعاً، ويعطي كلاً منهما حقه.(20/4)
من تخالف أقوالهم أفعالهم
أما القسم الثالث: فهم أناس يعجبك قولهم في الحياة الدنيا، فألسنتهم أحلى من العسل، ولكن قلوبهم قلوب الذئاب، فهم يحقدون على هذا الدين، رغم أنهم يصوغون الخطب الرنانة ويعتلون المنابر يخدعون الأمم بخطبهم، ولكنهم أخطر شيء على دين الله عز وجل وعلى الناس {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:204 - 205]، حيث يجر على أمته من المشاكل والمصائب ومن عقوبات الله عز وجل وسخطه، ما لا يعيش معه حرث ولا نسل، ثم إنهم يتصفون بالكبرياء والأنفة والعصبية الجاهلية، فإذا قيل لأحدهم: اتق الله، أخذته العزة بالإثم، لماذا يقال له اتق الله وهو فوق هذا المستوى، وفوق هذه الأمم التي تعيش حوله؟! إن هذا لا يذيبه إلا حر نار جهنم، يقول عز وجل عنه: {فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة:206].
وإن كان قد فقد النفاق الذي كان أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن في دنيا العالم اليوم من أنواع النفاق ما لا يحصيه إلا الله، ولعل من أبرز أنواع النفاق هذه الهويات التي أصبح يحملها ما يزيد على ألف مليون، ثم حينما نفتش في واقع هؤلاء المسلمين فإن الكثير لا نجد فيهم من يطبق الإسلام إلا النزر القليل.
من هؤلاء المنافقين من يتقلدون المناصب، ويمتطون الإسلام مطية إلى أغراضهم، حتى إذا انتهى بهم المطاف إلى السيطرة على السلطة وإذا بهم يعلنون الحقد الدفين على هذه الأمة.
وهناك من يدعي الإسلام، وهو في الحقيقة إنما يأخذ من الإسلام ما يتناسب مع مطالبه، أما حينما يتنافى الإسلام مع أهدافه أو يصطدم مع مخططاته فإنه يضرب بهذا الدين -دين الله- عرض الحائط غير مبال به، فحسبه جهنم ولبئس المهاد.
هناك من يتغنى بالإسلام، ويملأ الدنيا صراخاً وعويلاً: الإسلام الإسلام الدين الدين وهو أبعد الناس عن دين الله عز وجل، فحسبه جهنم ولبئس المهاد.(20/5)
من باع نفسه لله عز وجل
هناك نوع رابع جعل حياته كلها لله عز وجل، وهو صفوة هذه الأقسام الأربعة، فهو نوع باع نفسه لله عز وجل وقبض الثمن الذي لابد منه وهو الجنة، وسلم المثمن وهو نفسه، فهو ينتظر الجزاء: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} [البقرة:207].
لا يحني رأسه لغير الله، ولا يسأل إلا الله، لا يعرف في هذا الكون من يستحق أن يعبد أو يخشى إلا الله، قد رفض الدنيا كلها في سبيل شراء عقيدته والاحتفاظ بها.
كان صهيب الرومي رضي الله عنه يريد أن يلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مهاجراً، وكان رجلاً ثرياً، فيلحقه أهل مكة فيقولون له: يا صهيب! والله لا تغادرنا وقد جئت رجلاً فقيراً، ثم أنت اليوم ترتحل من أثرى الناس، فيقول: يا قوم! إن كنتم تريدون مالي فإن مكانه في كذا وكذا في مكة، وإن كنتم تريدون أن تصرفوني عن اللحاق بمحمد صلى الله عليه وسلم فإني والله من أرمى العرب، ووالله لا أترك سهماً في كنانتي حتى أصيب به واحداً منكم أو تتركوني وتخلوا بيني وبين نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم، فيقولون: دلنا على مالك، فيدلهم على جميع ماله، ويخرج بنفسه لاحقاً برسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يكاد يصل المدينة حتى تتلى هذه الآية في حقه {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة:207].(20/6)
أمر الله تعالى لعباده بالدخول في الإسلام كافة
وبعد أن ختم الله هذه الأقسام الأربعة أمر الناس عامة بجميع مللهم وأشكالهم وأنواعهم أن يدخلوا في دين الله جملة واحدة، بحيث لا يتخلف أحد عن هذا الدين؛ لأن الله لا يقبل منهجاً سواه، ولا عقيدة غيره، فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208].
أي: لا تتركوا منه صغيرة ولا كبيرة؛ حيث إن دين الله ملة واحدة، وإن أي مذهب من هذه المذاهب يذهب بهؤلاء الناس عن الدين الصحيح فإنه مرفوض وغير مقبول.
أما الذين يريدون أن يأخذوا من هذا الدين بطرف ليتركوا طرفاً آخر، فإن الله سبحانه وتعالى لا يقبل أنصاف ولا أثلاث ولا أرباع المسلمين، فهذا الدين إنما يؤخذ كاملاً أو يترك كاملاً، وحينما يأخذونه كاملاً يكونون مسلمين حقاً، أما حينما يرفضون الإسلام فأولئك هم الكافرون حقاً.
الإسلام منهج حياة متكامل، وليس عبادة فحسب، ولكنه عبادة ومنهج حكم ومنهج حياة اقتصاد وسياسة واجتماع، وأي واحد يريد أن ينحي الإسلام عن هذه النواحي فإن الله سبحانه وتعال له بالمرصاد يأخذه أخذ عزيز مقتدر.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(20/7)
الأخذ ببعض الدين وترك بعضه الآخر
الحمد لله حمداً كثيراً مباركاً فيه كما يحبه ربنا ويرضاه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! اتقوا الله تعالى، وخذوا بهذا الدين كاملاً، واحذروا تلك العبادة المؤقتة التي يتجه إليها الناس فترة من الفترات لينصرفوا بعد فترة أخرى، إن الإسلام كتلة واحدة يجب على المسلمين أن يأخذوا به جميعاً؛ لأن الله تعالى يقول: {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208].
أما هؤلاء الذين يتكيفون ويغيرون ويبدلون في دين الله فيأخذون ما يروق لهم، فيحجون لأن الحج فيه لقاء، ولكنهم لا يدفعون زكاة المال لأن فيها غرامة كما يظنون، أو يصلون لأن الصلاة لا تكلفهم جهداً، ولكنهم لا يصومون لأن الصيام يحرمهم شهواتهم، أو يصومون ويحجون، ولكنهم لا يحافظون على الصلاة لأنها تتكرر عليهم في اليوم خمس مرات، هذا ليس هو منهج المسلم، إن المسلم مطالب بأن يأخذ بهذا الدين كاملاً غير منقوص؛ لأنه عبارة عن أركان أوجبها الله على كل واحد من المسلمين.
معشر المسلمين! كثير من الحجاج لا يحافظون على الصلوات الخمس في المساجد، وهي فرض عين على كل واحد من المسلمين، لا يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق.
احذروا معصية الله، وحافظوا على هذا العهد الذي أبرمتموه بينكم وبين الله عز وجل، ولا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون، واعلموا أن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة في دين الله بدعة، فاحذروا البدع فإن كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، اللهم ارض عن آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه، اللهم ارض عنا معهم، وارزقنا حبهم واجمعنا بهم في مستقر رحمتك.
اللهم اكتب النصر لعبادك المجاهدين في سبيلك، اللهم انصرهم على عدوهم ولا تخذلهم، اللهم وزلزل الأرض من تحت أقدام أعدائهم، اللهم وأتبع الظالمين بالظالمين، وأرنا فيهم عجائب قدرتك، اللهم عليك بأعدائك الذين يعذبون المسلمين في سوريا، اللهم أتبعهم بالظالمين، اللهم طهر الأرض من الفجرة والكفرة الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، اللهم طهر أرض المسلمين من هؤلاء أجمعين، وأتبع بعضهم ببعض، وارفع راية الإسلام برحمتك يا أرحم الراحمين.
ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإسلام، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا، ربنا إنك رءوف رحيم، اللهم خلص إخواننا في سوريا وخلص إخواننا في مصر الذين يعيشون في غياهب السجون، واجعل ولايتنا وأمر المسلمين عامة في عبادك الصالحين الذين يصلحون في الأرض ولا يفسدون.
عباد الله! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].(20/8)
غزوة بدر
كانت معركة بدر الكبرى في اليوم السابع عشر من رمضان، وكانت معركة حاسمة غيرت مجرى التاريخ، وقد سمى الله تعالى ذلك اليوم بيوم الفرقان؛ لأنها فرقت بين الحق والباطل، والهدى والضلال، وبين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، وقد جعل الله تعالى فيها من العبر والدروس ما يجب على المسلمين أن يستفيدوا منها في واقع حياتهم، ولا يجعلوها ذكرى عابرة للاحتفال، والإكثار في المجالس من القيل والقال، بل علينا أن نستفيد منها في الأعمال والفعال.(21/1)
سبب معركة بدر ووقتها وبدايتها
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، قوته لا تقهر، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون.
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن آله ومن دعا بدعوته وعمل بسنته ونصح لأمته، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! اتقوا الله تعالى وامتثلوا أوامره، واجتنبوا نواهيه، وسيروا على النهج القويم تدركوا النصر.
يقول الله سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ * لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:123 - 128].
معشر المسلمين! إن شهر رمضان ميدان للجهاد في سبيل الله، وليس للنوم واللهو واللعب كما يتصوره طائفة من البشر، إنه ميدان للجهاد المقدس الذي رفع شأن المسلمين وأقام دولة الإسلام الشامخة، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ففي مثل هذه الأيام بل في مثل يوم غد وقف الإسلام والكفر وجهاً لوجه، فكان النصر فيه للمسلمين الذين عاهدوا الله عز وجل على الجهاد في سبيله، والذين بذلوا أنفسهم وأموالهم ودماءهم في سبيل الله.
لقد وقف الإسلام والكفر، فانتصر الإسلام نصراً خارقاً، وحينئذ بالرغم من قلة العدد وكثرة العدو فلقد تعطلت كل نواميس الحياة، واختلت المقاييس المادية حينما وقف الإيمان بحق في وجه الكفر، لقد كانت موقعة بدر في مثل هذه الأيام، وانطلق موكب صغير في حجمه، عظيم في قدره، يريد أن يأخذ عيراً لقريش؛ ليسترد شيئاً من أمواله التي خلفها هناك في مكة على غير استعداد ولا إرادة قتال، وحينئذ أصبح لا مناص من القتال حينما أقبلت قريش بخيلها وخيلائها: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:32].(21/2)
استشارة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه وبدء المعركة
وحينئذ وقف عليه الصلاة والسلام يستشير قومه أصحاب العدد القليل في القتال، فيحبذ المؤمنون القتال، ويقوم زعيم المهاجرين المقداد بن الأسود رضي الله عنه فيقول: يا رسول الله! والله لقد آمنا بك وصدقناك، فلو خضت بنا برك الغماد لخضناها معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24]، ولكن: اذهب فقاتل فإنا معك مقاتلون.
فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال مرة أخرى: (أشيروا علي معشر القوم -وكأنه يريد أن يأخذ رأي الأنصار- فقام سعد بن معاذ رضي الله عنه وقال: يا رسول الله! لعلك تعنينا، والله لقد آمنا بك وصدقناك، وعلمنا أن ما جئت به هو الحق، والله لو خضت بنا هذا البحر لخضناه وراءك -يشير إلى البحر الأحمر- ما تخلف منا رجل واحد، وإنا لصبر في الحرب، صدق عند اللقاء، وإنا لنرجو أن يريك الله منا ما تقر به عينك).
فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقضى ليلة سبعة عشر من رمضان -أي مثل هذه الليلة- ما بين ساجد وراكع لله عز وجل، يمد أكف الضراعة ويستدر رحمة الله عز وجل، ويقول لربه: (اللهم أنجزني ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصبة لا تعبد في الأرض).
وهكذا يكرر رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الليلة توسله بين يدي الله، حتى إذا كان الصباح وبدأت المعركة، كانت قد أعطت لوناً جديداً من الجهاد لم يعرفه تاريخ الإنسان منذ القدم، لقد وقف هذا العدد القليل أمام ذلكم الحشد المسلح، ثم ينتصر المسلمون في المعركة! ولقد وصفها لنا أحد أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام وهو يقول: والله إننا لنرى الرأس يطير، ونرى اليد تقطع، ولا نرى من الذي يفعل ذلك! لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:12 - 13].(21/3)
انتصار المسلمين في المعركة
انتهت المعركة، وانتصر الإسلام، وكان نصراً حاسماً، وقامت هناك دولة الإسلام آمنة مطمئنة، عزيزة الجانب، وحينئذ كانت آية، كما قال سبحانه وتعالى: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ} [آل عمران:13].(21/4)
أخذ العبر والدروس من معركة بدر
إن هذه الآية تتجدد بعد كل فترة، فإذا ضعف المسلمون وتأخروا عن دينهم برزت تلك الآية، ولعل هذه الآية تبرز اليوم كثيراً ونحن نسمع مئات الملايين من المسلمين؛ بل نسمع عشرات الملايين من العرب يغلبون أمام عدد قليل؛ لأنهم تركوا الجهاد في سبيل الله بحق؛ لأنهم عصوا الله في أيام الأمن والرخاء، فيرفع الله سبحانه وتعالى يده عنهم أيام الشدة، إنها آية عظيمة، هذه الآية حينما نرى المسلمين اليوم يعيشون معذبين تحت مطارق الكافرين، بالرغم من تلكم الإحصائيات الضخمة أمام أعدائهم، وما عرف المسلمون الهزيمة في تاريخهم الطويل، اللهم إلا إذا تأخروا عن دينهم وركبوا المعاصي والآثام، أو تهاونوا بالواجبات.
إن المسلمين اليوم يستحقون النصر لو كان لهم قائد أعلى مثل محمد صلى الله عليه وسلم، يقضي ليلة المعركة ما بين ساجد وراكع لله، بعد أن يطهر مجتمعه من الفساد والانحراف والمعصية إنهم يستحقون نزول الملائكة اليوم لو كان فيهم قادة أمثال سعد بن معاذ والمقداد بن الأسود، لا يبالون بأن يركبوا الماء بدون سفينة في سبيل الله إنهم يستحقون هذا النصر لو كان فيهم جنود مثل عمير بن الحباب رضي الله عنه، الذي ما كاد يسمع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يقاتلهم اليوم مؤمن صابر محتسب مقبل غير مدبر إلا وجبت له الجنة)، وكان يحمل تمرات في قرنه فيقذفها على الأرض ويقول: والله إنها لحياة طويلة إن أكلت هذه التمرات قبل أن ألقى الله عز وجل! أما اليوم وقد ركب الناس هذه المعاصي والآثام، وتدربت كثير من جيوش المسلمين في بلاد الكفر وركبوا هناك كثيراً من المعاصي، وتدرب الناس عامة أو أكثرهم على موائد التلفاز والفيديو، وعلى الأفلام الخليعة التي غيرت مجرى حياتهم؛ فرفع الله عز وجل النصر عنهم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [آل عمران:123].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(21/5)
حكم إحياء ليلة سبعة عشر من رمضان
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحبه ربنا ويرضاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! إن معارك الإسلام ومواقفه المشرفة لا يجوز أن تتحول إلى ذكريات بعد أن كانت حقائق رفعت شأن الإسلام والمسلمين، وإذا كان هناك طائفة ممن يشعرون بالهزيمة اليوم في أيامهم أمام هذه الجيوش التي رفع الله عز وجل يده عنها، يريدون أن نكتفي من موقعة بدر بذكريات نقيمها ليلة سبعة عشر من رمضان! إن هذه بدعة لم ينزل الله عز وجل بها من سلطان، فما أحيا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الليلة أبداً في غير تلك المعركة، وما فعل ذلك أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إن هذه الذكرى يجب ألا تمر مر الكرام في أذهان المسلمين، يجب أن يفتشوا في أنفسهم، وينظروا في واقعهم المرير وهم يعيشون مستضعفين تحت مطارق الكافرين، وحينئذ عليهم أن يعاهدوا الله عز وجل على التوبة، وعلى العمل الصالح: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30].
ونحن في هذه الذكرى وهي تمر بنا في هذه الأيام، ونحن نرى العالم الإسلامي كله محاطاً بأعدائه، محاطاً بالشيوعية وأعوانهم من كل جانب، وباليهودية من جوانب أخرى، هذه الذكرى يجب ألا تمر عابرة، ويجب على كل مسلم أن يفتش عن نفسه، وأن يسعى في إصلاح مجتمعه؛ لتعود لهذا المجتمع عزته وكرامته وقتئذ؛ فإن نصر الله قريب، وإن الله يقول: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173].
حينما نكون من جند الله، وحينما نبرم العهد مع الله عز وجل؛ فإن نصر الله قريب، وإن رحمة الله قريب من المحسنين.(21/6)
فضل العشر الأواخر من رمضان
معشر المسلمين! إننا نستقبل أياماً فاضلة، أيام العشر الأواخر من رمضان، التي فيها ليلة القدر التي يقول الله سبحانه وتعالى فيها: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:3]، ويقول: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان:3].
فانتبهوا لهذا الأمر، وعاهدوا الله على العمل، وجددوا التوبة مع الله، واجتهدوا في مثل هذه الأيام الفاضلة، وأكثروا من الركوع والسجود والتضرع بين يدي الله، فإننا نعيش فتنة عمياء، ومصيبة لم يمر مثلها في تاريخ الإنسان الطويل، فأكثروا من السجود والركوع والتضرع بين يدي الله عز وجل، واسألوه مخلصين له الدين أن يرد المسلمين إليه رداً جميلاً، وأن يعيد للأمة الإسلامية مجدها وعزتها وكرامتها.
عباد الله! إن أصدق الحديث كتاب الله، وإن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة في دين الله بدعة.
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، اللهم ارض عن آله وأصحابه وأتباعه وأزواجه، اللهم ارض عنا معهم، وارزقنا حبهم، واجمعنا بهم في مستقر رحمتك.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم إنا نتوجه إليك في هذه الساعة الشريفة من هذا اليوم المبارك ونحن نستقبل ليلة بدر ويومها أن تعيد للأمة الإسلامية عزها ومجدها، اللهم أيد المجاهدين في سبيلك، اللهم قوّ جانبهم، وخذ بأيديهم إلى ما تحب وترضى، اللهم قوّ إخواننا المجاهدين في أفغانستان، وفي إرتيريا، وفي فلسطين، وفي سوريا، وفي كل مكان من الأرض يعذب الكافرون فيه المؤمنين.
اللهم رد المسلمين إليك رداً جميلاً، ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين، ونجنا برحمتك من القوم الكافرين، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
عباد الله! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].(21/7)
خواطر شهر محرم
الأيام تمر، والسنون تنقضي، وإذا مر عام فلا بد من الذكرى والاعتبار، فإن رأس مال الإنسان هو عمره، فإذا حافظ عليه، واستغله في طاعة ربه جل وعلا فقد أفلح وأنجح، وإذا فرط فيه واستخدمه في معصية الله عز وجل فقد خاب وخسر، ولهذا يجب على كل إنسان أن يحاسب نفسه، وأن يستغل وقته في طاعة ربه، وأن يحذر كل الحذر من الذنوب والمعاصي والآثام.(22/1)
أنواع القلوب
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، أرسله رحمة للعالمين، وحجة على الناس أجمعين.
أما بعد: أيها الإخوة في الله! إن القلوب ثلاثة: قلوب منيرة، وهي قلوب المؤمنين، وهي التي تتربى في المساجد، ولا تتربى في المسارح، ولا تتربى في دور الدعارة، وإنما تتربى في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه.
وعلى خلاف ذلك قلوب أخبر الله عز وجل عنها أن أعمالها كسراب بقيعة؛ لأن أعمالها ظاهرها الخير، وباطنها السوء.
القلوب الثالثة: قلوب مظلمة، نعوذ بالله منها! ظاهرها وباطنها كله ظلام، كما قال عز وجل: {كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور:40].
والناس في هذه الحياة الدنيا إما أن يتربوا في المساجد؛ فتكون قلوبهم {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} [النور:35]، أو يتربوا في خلاف المساجد؛ فتكون قلوبهم مظلمة، أو أن أعمالهم ظاهرها الخير وباطنها السوء، ولعل المجال يفسح لنا في وقت لاحق إن شاء الله حتى يكون حديثنا عن هؤلاء الأجناس الثلاثة.(22/2)
أهمية محاسبة الإنسان لنفسه
إن الحديث عن شهر الله المحرم حديث ذو شجون؛ لأنه حديث عن فرصة تحقق فرصة أخرى، هذه الفرصة تفتح فيها صفحة جديدة من صفحات التاريخ في حياة الإنسانية جمعاء، وستنتهي هذه الصفحة لتفتح بعدها صفحات وصفحات إن طال بنا الزمان.
أيها الإخوان! أما نحن وذكرياتنا في شهر الله المحرم فيجب أن تكون لنا مواقف، هذه المواقف يجب ألا نغفل عنها.
إخوتي في الله! إن الرجل التاجر الذي يعمل ليلاً ونهاراً طيلة العام في بيعه وشرائه، يأخذ من فلان ويبيع على فلان ويشتري من فلان، ويعطي ويستعطي لابد وأن تكون له ساعة يقف فيها أمام دفاتر تجارته؛ لينظر ما له وما عليه، وماذا كسب وماذا خسر؟ وماذا عليه أن يعمل؟ وكيف يجب أن يتصرف ليزيد في أرباحه وتجارته؟ وهذا أمر بدهي، ندركه في حياتنا التجارية، وإذا كان المسافر يسير في طريق طويلة فإنه لابد أن يقف أمام لوحات الطريق، ولابد أن يقف أمام معارج الطرق وأمام المنعطفات؛ لينظر كم قطع من الطريق؟ وماذا بقي له في هذا الطريق؟ وكم ميلاً قطعه؟ وكم ميلاً بقي؟ ثم يعود مرة أخرى لينظر في زاده ماذا بقي؟ وكيف يجب أن يتزود؟ هذه فطرة بشرية ندركها جميعاً ونحن اليوم نعيش أمام مفرق من مفارق الطرق، وأمام لوحة من لوحات الطريق؛ لأنا نسير جميعاً إلى الله عز وجل وإلى الدار الآخرة.
ونحن أيضاً في تجارة مع الله عز وجل، لكنها تجارة تنجينا من عذاب أليم تجارة هي أعظم تجارة.
إذاً: أولاً: جدير بنا وأحق بنا أن نقف اليوم كما يقف التاجر أمام دفاتر تجارته، وكما يقف المسافر أمام لوحات الطريق، وأمام مفارق الطريق ومنعطفاته؛ لننظر كيف الطريق؟ وهل نحن في صحة من مسيرتنا أو يجب أن نغير الطريق مرة أخرى لنصل إلى الهدف الذي ننشده إن شاء الله؟ هكذا نحن أيها الإخوة المؤمنون نتصور أنفسنا ونحن نضع أقدامنا في شهر الله المحرم، وهو أول شهر في العام؛ ولذلك سمي الشهر المحرم؛ لأنه أحد الأشهر الأربعة الحرم التي يقول الله عز وجل عنها: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة:36]، بل هو أعظم الأشهر الحرم؛ لأنه وضع بداية لتاريخ الإنسانية جمعاء، وذلك حينما استشار عمر بن الخطاب رضي الله عنه المسلمين في عصره بأي شيء يبدأ السنة: أيبدؤها بميلاد رسول الله صلى الله عليه وسلم أم بهجرته أم بوفاته أم بماذا يبدؤها؟ فرأى المسلمون أن يبدأها من الهجرة، وأن يكون شهر الله المحرم هو أول السنة؛ لأنه يعود فيه الحجاج إلى مواطنهم، ولأنه تستأنف فيه أنشطة كثيرة.
إخوتي في الله! ومن هذا المنطلق يجب أن نقف نفكر ونستعرض صفحات العمل، ونستعرض سجلات العمل التي أودعناها في العام المنصرم، ونصحح المسيرة إن كنا قد أخطأنا، أو نثبت على المسيرة إن كنا قد أحسنا.
خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل هذه المناسبة فقال: (أيها الناس! إن لكم معالم فانتبهوا إلى معالمكم، وإن لكم نهاية فانتبهوا إلى نهايتكم؛ إن العبد المؤمن بين مخافتين: أجل قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه، وأجل قد بقي لا يدري ما الله قاضٍ فيه، ألا فليأخذ العبد من نفسه لنفسه، ومن شبيبته لهرمه، ومن دنياه لآخرته).
ويقول أبو بكر الصديق رضي الله عنه في مثل هذه المناسبة: (أيها الناس! إنكم تغدون وتروحون إلى أجل قد غاب عنكم علمه، فإن استطعتم أن تعملوا صالحاً فاعملوا).(22/3)
مواقف يجب أن يقف الإنسان عندها
هكذا أيها الإخوان! يجب أن نتصور مثل هذه المواقف، ولذلك فإن الله عز وجل برحمته بهذا الإنسان وضع مراحل له في طريقه إلى الله عز وجل، ووضع أموراً يجب أن تستوقف المرء المسلم العاقل؛ لينظر في مسيرته، هذه المعالم نجدها تتكرر ونجدها تتعدد.
ومن أبرزها ومن أهمها: مرور الأيام والسنين، ومن أهمها أيضاً: بلوغ أربعين سنة، ولذلك يقول الله عز وجل عن هذه المرحلة: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ} [الأحقاف:15 - 16].
ومن هذه المعالم أيضاً: بلوغ الستين، ولعلها تكون نهاية المعالم وآخر الإنذارات التي يجب أن ينتبه لها المسلم، فلا يضيع الفرصة بعد ذلك، ولذلك ورد في الحديث الصحيح المتفق على صحته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أعذر الله إلى رجل أخر أجله حتى بلغ الستين)، ومعنى (أعذر) أي: لم يترك له عذراً بعد ذلك، فإذا أراد أن يستعتب ويعتذر إذا نزل به الموت فإن الاستعتاب والاعتذار لا يقبل بعد ذلك؛ لأنها آخر مرحلة من مراحل الاستعتاب والاعتذار.
ثم هذا الشيب وتغير لون الشعر أيضاً معلم من هذه المعالم، وإنذار من تلك الإنذارات التي تعترض مسيرة المرء المسلم في حياته، ولذلك يقول الله تعالى للناس الذين فرطوا في العمر: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر:37]، قال طائفة من العلماء: إن المراد بالنذير هنا هو الشيب وابيضاض الشعر.
أيها الإخوة المؤمنون! هذه الإنذارات لا تمر بالرجل العاقل إلا وتستوقفه ويستوقفها، ولا تمر بالرجل الجاهل إلا مر الكرام، فلا يدري ماذا مضى وماذا بقي؛ لأنه في غمرته غافل؛ كما قال عز وجل: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} [الأنبياء:1 - 3]، فلهو القلوب هو الذي أضل كثيراً من الناس؛ فإن كانت القلوب متعلقة بالله فإنه يرجى لهذه القلوب خير؛ لكن إذا لها القلب فإن المصيبة لا تساويها مصيبة.(22/4)
وجوب استغلال العمر في طاعة الله عز وجل
إخوتي في الله! يجب أن نقف ونفكر: ماذا فعلنا؟ وماذا تركنا؟ وماذا يجب أن نفعل؟ وماذا يجب أن نترك؟ وإلا فإننا قد غفلت ولهت قلوبنا.
أيها الإخوان! علينا أن نستعرض صفحات ما مضى من السنة الماضية، وماذا تركنا من الواجبات؟ فكثير من الواجبات تركه الناس، وكم فرطنا في كثير من الأوامر! وكم مرت بنا ليالٍ طوال وأيام لا تحصى ونحن في هذه الغفلة! والليل والنهار كما ورد في الأثر: (والليل والنهار خزانتان فانظروا ماذا تودعون فيهما)، بل يقول الله عز وجل قبل ذلك: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان:62] ومعنى (خلفة): أي: يخلف بعضها بعضاً.
فإذا مضت عليك فرصة لا تتعبد فيها لله عز وجل بالنوافل فأمامك النهار؛ لأن الله تعالى لما ذكر قيام الليل قال: {إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا} [المزمل:7] وإذا مضى عليك النهار ولم تستفد منه فإن أمامك الليل الذي هو مطية الصالحين الذين يسيرون فيه إلى الله عز وجل، والذين يقول الله عز وجل عنهم: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات:17]، وقال عنهم: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:16 - 17].
كنا نقول هذا لأنفسنا منذ زمن، وكنا نخاطب الناس بمثل هذا المنطق، لكننا أصبحنا اليوم نتنازل مع الواقع المرير، فنقول للناس: صلوا صلاة الفجر مع المسلمين، بدلاً من أن نقول لهم: إن الله قال عن المؤمنين: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة:16]، وأصبحنا نتمنى من المسلمين أن يصلوا صلاة الفجر! وصلاة الفجر لها ميزان عظيم عند الله عز وجل؛ لأن الله تعالى يقول عنها: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78]، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم عنها: (ومن صلى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله).
إذاً: يجب أن ينتبه المسلم! فكم ضيعنا أيها الإخوة المؤمنون من الصلوات! وكم ضيع المسلمون من هذا الجانب! فهناك سواد عظيم لا يقيمون للصلاة وزناً، يجب أن يقفوا أمام سجلاتهم من العام الماضي لينظروا فيها؛ فهل ترك الصلاة أمر سهل أو أمر عظيم؟ إنه والله من أعظم الكبائر! بل إنه الردة عن الإسلام؛ لأن الله عز وجل يقول: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم:59]، ولعله قد ارتبطت إضاعة الصلاة باتباع الشهوات لأن من عصى الله عز وجل قيض له شيطاناً فهو له قرين، فأصبحت هذه الشهوات ألذ شيء له في حياته، ولذا قال عز وجل عنه: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إِلَّا مَنْ تَابَ} [مريم:59 - 60]، فباب التوبة مفتوح، وباب التوبة لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها، وبالنسبة لعامة الناس وبالنسبة لكل فرد من الأفراد فإن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يغرغر، أو ما لم تبلغ الروح الحلقوم، ولذلك يقول الله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء:17].
وأبشركم يا إخوان! بمعنىً لهذه الآية أجمع عليه المفسرون، وهو: أن قوله: (بِجَهَالَةٍ) ليس معناه في حالة جهلهم للمعصية، بل معناه: في أيام الجهل وأيام الغفلة.
ثم أبشركم أيضاً بأن قوله: (مِنْ قَرِيبٍ) ليس معناه أن يتوب مباشرة وإلا فلا تقبل منه التوبة، ولكن معناه: أن ذلك القريب هو ما قبل الموت؛ بدليل الآية الأخرى بعدها: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ} [النساء:18].
وعلى هذا فكل ما عصينا الله عز وجل به فهو بجهالة؛ لأن الإنسان لا يعصي الله عز وجل إلا في فترة جهالة، وأيضاً القرب ما زال أمامنا؛ لأن الروح ما زالت في الجسد -والحمد لله- فهي فرصة، ولذا يجب أن نستعتب، ويجب أن نتوب؛ فوالله ما بعد الموت من مستعتب.(22/5)
إضاعة الصلاة سبب في الوقوع في الشهوات
إخوتي في الله! إذا كان قوم قد أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات؛ فإن إضاعتهم للصلاة هي التي أوقعتهم في كثير من الشهوات، هذه الشهوات التي انفتحت على الأمة الإسلامية تدركونها دون أن أتناولها بكثير من التفصيل، ولكني سأتناولها بشيء من ذلك.
إخوتي في الله! أين يذهب كثير من شباب المسلمين في عطل الصيف؟! أولئك الذين يرقبون ورقة التقويم ينظرون فرص الإجازات وفرص الصيف، كثير منهم نجدهم يذهبون إلى بلاد الكفر وإلى بلاد المعصية يذهبون إلى بلاد التحلل، يقتلون الأخلاق، ويذيبون الأموال، ويفسدون الحرث والنسل! هذه الشهوات جاءت مرتبطة بترك الصلاة؛ لأن الصلاة كما أخبر الله عز وجل عنها أنها: (تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45].
أيها الإخوة المؤمنون! كثير من الفساد غزا قلوب كثير من الناس، بل وغزا بيوتهم؛ فأصبح في قعر بيوت المسلمين أفلام ترقص وتغني حتى الهزيع الأخير من الليل!(22/6)
آثار الشهوات على الأخلاق والسلوك
هؤلاء الذين اتبعوا الشهوات كان لهذه الشهوات آثار في قلوبهم، وآثار في أخلاقهم، وآثار في سلوكهم؛ فصار هؤلاء يتطلعون إلى المعصية ليلاً ونهاراً.
لقد أصيب كثير من المسلمين بهذه المشكلة، فكان ذلك جزاءً وفاقاً، ولكن على هؤلاء المسلمين أن ينتبهوا ما دام في الأمر متسع وفسحة، فكثير من المسلمين وقع في كثير من المحرمات.(22/7)
بيان ضرر الربا وخطره
هذا الربا يا إخوتي! قد أعلن الحرب على الله عز وجل جهراً في وضح النهار، وفتح أبوابه علناً في بلاد المسلمين؛ يعطي الدرهم بدرهمين إنها معصية عظيمة لله عز وجل توعد الله عز وجل فاعلها بالخلود في نار جهنم والعياذ بالله! فقال عز وجل: {وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:275].
والمرابي أعلن الحرب بينه وبين الله عز وجل وبين رسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:278 - 279].
هذا الربا صار ينقسم في حياتنا اليوم إلى قسمين: قسم قد أعلن الربا علناً، وفتحت البنوك أبوابها أمام المسلمين: ادفع ريالاً وخذ ريالين ادفع درهماً وخذ درهمين، وبعد فترة من الزمن فتح أبوابه مغطى وملفوفاً بلفائف مكشوفة لدى كثير من التجار الذين أصبحوا يتحايلون على الربا، ويستحلون محارم الله بأدنى الحيل، الذين يقول أحدهم: تعال إلي واشتر هذا المال شراءً صورياً، ثم بعه علي أو بعه على فلان، ثم بعد ذلك اخرج في دقائق ومعك شيء من المال بزيادة، وكل ذلك من الربا الذي يكاد أن يحل بنا سخط الله عز وجل، بل قد أخذ الربا في أيامنا الحاضرة أضعافاً مضاعفة، وهو آخر ما وصلت إليه جاهلية الأمس، وهو في الذروة بالنسبة لواقعنا اليوم، والله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ} [آل عمران:130]، فنجد أن البنوك اليوم إذا حل الدين بالساعة وبالدقيقة تسجل زيادة على هذا الرجل المدين حتى يؤدي هذا المال الذي عليه.
فهذا هو الربا الأضعاف المضاعفة الذي هو أعظم ما فعلته جاهلية الأمس بعد الشرك بالله عز وجل، وهو الآن موجود لدى كثير من التجار.
إذاً: يجب على هؤلاء التجار، ويجب على هؤلاء المسئولين عن البنوك؛ بل يجب على السلطة التي تشرف على هذه البنوك أن تستعيد صفحات حياتها، وأن تتقي الله عز وجل؛ لأن هذا من الأمور العظام التي يقول عنها الرسول صلى الله عليه وسلم: (الربا بضع وسبعون شعبة، أدناها -أي: أخفها- كأن ينكح الرجل أمه).
فتصور يا أخي! من يستطيع أن ينكح أمه؟! لكنه يستطيع أن يكسب ملايين الأموال بسبب هذه البنوك وهو لا يتصور عظم هذه الجريمة.
وأضف إلى ذلك ما وقع من المعاملات المحرمة، ثم أضف إلى ذلك ما وقع من السلوك المنحرف الذي مني به كثير من الناس، نسأل الله العافية!(22/8)
خطر التشبه بالكفار
ولعل جاهلية الأمس التي بعث فيها محمد صلى الله عليه وسلم لم تترك شاردة ولا واردة في عصرنا الحاضر إلا وفرضته عليه.
ومن هنا يجب أن ينتبه المسلمون لهذا؛ فإن هذا سلوك يشبه سلوك الكافرين سواءً بسواء، مصداقاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لتتعبن سنن -أي: طريقة- من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة -أي: كالسهم يتبع السهم- قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟).
ونحن نكره اليهود في حقيقتنا وفي واقعنا وفي ألسنتنا، لكن أخلاقهم وسلوكهم قد وقع فيها كثير من المسلمين، نسأل الله العافية! بل إذا قيل لأحدهم: اتق الله! قال: هذه هي الحضارة، وهذا هو التقدم! فسموا الأشياء بغير أسمائها، وغيروا المسميات كما غيروا الأسماء؛ فسموا الربا اقتصاداً، وسموا الرقص والغناء فناً وفنوناً، والفنون جنون، وسموا الخمر مشروبات روحية، وسموا النفاق مجاملة، وسموا الكذب دبلوماسية!! وسموا وسموا وكل هذه الأشياء حقائقها ما زالت باقية، لكن أسماءها قد غيرت، يريدون أن يموهوا على الناس وهي على حقيقتها لا تتغير؛ فالحقائق لا تتغير.
أيها الإخوان! حينما ننظر في سلوك كثير من المسلمين الذين ابتلوا بتقليد أعدائهم، والذين حكى عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم وأخبر بقوله: (لتتعبن سنن من كان قبلكم)؛ نجد أنهم أصبحوا صورة طبق الأصل لأعدائهم الذين هم يظهرون العداء لهم في الظاهر.(22/9)
خطر تبرج المرأة وتقليدها للكافرات
لقد تبرجت المرأة الكافرة، وخرجت سافرة، وكشفت عن مفاتنها، وتجولت في الأسواق، وصارت تغدو وتروح، وذهب كثير من شبابنا وكثير من رجالنا إلى تلك البلاد، فعشقوا تلك الأزياء وذلك السلوك، فجاءوا وفرضوه على كثير من البلاد الإسلامية الآمنة المطمئنة، وقالوا: إن هذه هي الحضارة! ثم أيضاً رأوا أن النساء هن أكبر وسيلة للقضاء على الأخلاق والفضائل، وذلك حينما تخرج متبرجة عارية أو شبه عارية، وقالوا: إن هذه هي الحضارة! ثم بعد ذلك أرادوا أن يحرفوا أبناء المسلمين من خلال هذه التوصية التي كان سادتهم يوصونهم بها: إنه لا أحد أقدر على جر المجتمعات إلى الدمار من هذه المرأة، فاتخذوا من هذه المرأة وسيلة للدمار، ووسيلة للفناء، ووسيلة للانحراف، ولذلك فإن أحدهم يقول قولاً معسولاً وحاله كما قال عز وجل: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:204 - 205].(22/10)
حرمة تشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال
أيضاً نرى أن كثيراً من الشباب -وهذا أعجب مما سبقه- بدءوا يعشقون عادات هي غريبة كل الغربة عن أخلاق الإسلام، بل عن الرجولة وعن أخلاق العرب! فنجد أن كثيراً من الشباب قد سقط عن رجولته، وتنازل عن الدرجة التي ميزه الله عز وجل بها عن المرأة، الدرجة التي يقول الله عز وجل عنها: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة:228]، ويقول: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء:34].
فتنازلوا عن هذه الدرجة، فرأينا في أيامنا الحاضرة أن كثيراً من الشباب بدأ يتنازل عن رجولته، ويتشبه بالمرأة، وينافسها في شكلها، وفي صوتها، وربما في شيء من لباسها، فربما يلبسون الذهب، والملابس الرقيقة والضيقة، ولربما يرققون أصواتهم، وهذا أمر عجيب أعجب من الأول! ولذلك يقول الشاعر: فلا عجب أن النساء ترجلت ولكن تأنيث الشباب عجيب لأن الرجل حينما ينزل إلى مستوى المرأة إنما تنازل عن حق من حقوقه، وحينما تتطلع المرأة إلى صفة من صفات الرجال إنما تطالب بدرجة هي أعلى من درجتها التي وضعت لها.
وعلى هذا فإن هذه من الأمور التي وقع فيها طائفة من شبابنا الذين ضلوا الطريق على أيدي أعدائنا، فيجب أن نتنبه لهذا الأمر.
بعد ذلك نرى أن هذه الموضات وهذه الفتن وهذه المعاصي ظهرت في فترة قلّ فيها جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأصبح كل إنسان لا يفكر إلا في نفسه إلا ما شاء الله؛ بل ربما أن طائفة من هؤلاء الناس أصبحت ترهبهم قوة البشر أكثر من قوة خالق البشر سبحانه وتعالى، فتنازلوا عن هذا الواجب أو تركوا هذا الواجب الذي أناطه الله عز وجل في أعناقهم، فخلا الجو لهؤلاء ولأولئك، فباضوا وفرخوا في هذا المجتمع الذي فقد كثيراً من جوانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.(22/11)
وجوب قيام كل صاحب مسئولية بمسئوليته
أيها الإخوان! كل هذه الأمور مسجلة في صفحات هذا الجيل في أيامه الماضية، وكل هذه الأمور سيسأل عنها، وسنسأل عنها بصفة عامة، وسيسأل عنها الولاة والذين استرعاهم الله عز وجل على هذا العالم الإسلامي بصفة خاصة، خصوصاً الآباء الذين قال الله عز وجل عنهم: {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، والولاة الذين قال الله عز وجل فيهم: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:41]، كل هؤلاء سيسألون وسيوقفون بين يدي أحكم الحاكمين سبحانه وتعالى.(22/12)
وجوب المبادرة إلى التوبة
لكن حينما نستعرض شيئاً من صفحات ما مضى ونحن نقف اليوم على هذا المفرق من مفارق الطريق في حياة الإنسانية، يجب أن نبادر إلى التوبة؛ لأني أرى أن كثيراً من الشباب الذين يتمتعون بالفتوة والقوة وأجسادهم مفتولة، أرى أن كثيراً من هؤلاء يسوفون في التوبة، ويقولون: نتمتع في هذه الحياة، وأمامنا متسع، وباب التوبة مفتوح، وقد سمعنا أن باب التوبة مفتوح إلى أن يموت هذا الإنسان أو إلى أن يقارب أجله.
ونحن نقول: كم من الناس من حيل بينه وبين ما يريد! قال عز وجل: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال:24].
فكم من الشباب في أيامنا الحاضرة من تختطف أرواحهم أكثر من الشيوخ! ولو ذهبنا إلى المرور لنسجل الوفيات التي حصلت -مثلاً- في منطقة القصيم لمدة سنة، ثم حصرنا الذين ماتوا على فرشهم؛ لوجدنا أن الذين يموتون على فرشهم لكبر سن أو لمرض لا يساوون عشرة بالمائة بالنسبة للذين يموتون في حوادث المرور، أو في موت الفجأة أو ما أشبه ذلك.
وهؤلاء كلهم في الغالب من الشباب الذين كانت عندهم آمال، وكانت عندهم طموحات؛ ولذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم رسم على الأرض خطاً طويلاً وقال: (هذا الإنسان، وهذا أمله، ورسم خطاً أقصر منه بكثير وقال: هذا الأجل).
إذاً: الأجل أقرب من الأمل يا إخوة! فلا نخطط لسنين، فعندنا من الشجاعة النفسية والأمل الطويل العريض ما يجعلنا نخطط لسنين.
فعلينا يا إخوتي! أن نتقي الله سبحانه وتعالى، وعلينا أن نبادر بالتوبة.
وأرى كثيراً من الأصحاء يسوفون أيضاً في التوبة، ويقولون: نحن أصحاء في أجسامنا، فلنا أن نتمتع وننهل من لذات هذه الحياة إلى أن يكبر بنا السن أو إلى أن نضعف! وكل هذه من الآمال التي لا تتناسب مع عقلية المؤمن، ومع الفطرة التي فطر الله عز وجل المسلمين عليها.
إذاً: علينا أن نبادر بالتوبة، وألا تفوتنا هذه الفرصة، وهي خاطرة من خواطر شهر الله المحرم الذي نعيشه اليوم.(22/13)
قيام الدولة الإسلامية في شهر الله المحرم
ولعلنا نعرج قليلاً على الخاطرة الثانية، وهي أيضاً من ذكريات شهر محرم: شهر محرم شهر له أثر في قيام الدولة الإسلامية بكاملها؛ لأن في شهر محرم ذكرى لهجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أدراك ما هي هذه الهجرة! إنها الركب الذي انتقل من مكة إلى المدينة في حجم صغير، لكنه في معنى كبير هذا الركب الصغير في حجمه العظيم في قدره هو الذي وضع الحجر الأساسي في مثل هذه المناسبة لقيام الدولة الإسلامية، وذلك يوم وقف الكفر مسلحاً أمام بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد أن قرر في دار الندوة ذلكم القرار المشئوم؛ بل هو قرار كان له أثره في الهجرة، فهو قرار خير في آخر أمره، وذلك حينما انتقل المسلمون بعد ذلك القرار الذي كشفه الله عز وجل في قوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30].
ومن هنا أقام الرسول صلى الله عليه وسلم دولة الإسلام، وكانت هذه الدولة وارفة الظل، سامقة الأصول؛ لأننا ما زلنا ولا يزال المسلمون يتفيئون ظلالها إلى الآن وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
فعلينا يا إخوتي! ألا تمر بنا هذه الذكرى إلا ونحن قد وعينا الدرس الحقيقي منها، فهناك قامت دولة الإسلام، وهناك شرع الجهاد في سبيل الله، ونزلت أول آية تنفس عن المسلمين، وتأذن لهم بالجهاد في سبيل الله، ألا وهي قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج:39 - 40].(22/14)
ذكرى عاشوراء، وبيان الأحداث التي وقعت فيه
هناك أيضاً ذكرى ثالثة وخاطرة ثالثة نمر بها أيضاً مر الكرام، ألا وهي ذكرى عاشوراء، الذي صامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر المسلمين بصيامه، وقال: (خالفوا اليهود، لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع، صوموا يوماً قبله أو يوماً بعده).
ولهذا اليوم ذكرى عطرة لا في تاريخ المسلمين فحسب بل في تاريخ الإنسانية؛ لأنه يوم نجى الله فيه موسى ومن معه من المؤمنين، وأهلك الله فيه فرعون ومن معه من الكافرين المتمردين؛ وذلك حينما جاء ذلكم الطاغية الذي تحدى كل القيم وتحدى كل المعتقدات، وقال للناس: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]، وقال لهم: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، وأنكر ألوهية الخالق سبحانه وتعالى، أنكرها بلسانه، لكنه آمن بها في حقيقته وفي قرارة قلبه، وقد كشف الله تعالى هذا الإيمان، وكشف هذا السر فقال سبحانه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل:14] لماذا جحدوا بها؟ {ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14]، أي: جحدوا بها ظلماً وعلواً واستيقنتها أنفسهم.
وقال الله عز وجل عنه على لسان موسى: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ} [الإسراء:102].
ولذلك نجد أن هذا الطاغية إنما أنكر الخالق من أجل أن يستعبد الأمة، وهكذا في كل فترة من فترات التاريخ، أي فرد يريد أن يستذل أمة أو يستعبد شعباً فلابد أن يحول بينه وبين الإيمان بالخالق سبحانه وتعالى، ابتداءً من الفرس في معتقدهم الأول، وإلى فرعون عليه لعنة الله حينما أنكر الخالق، ومروراً بالشيوعية التي تكتسح كثيراً من العالم اليوم، والتي لم تجد سبيلاً إلى السيطرة على العالم إلا أن تنكر الخالق سبحانه وتعالى.
قال عز وجل: {إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:34]، فيجيئون بها وفق منهج اقتصادي في الظاهر، ولكنه في الحقيقة ينتهي إلى إنكار الخالق سبحانه وتعالى، وإنكار القيم، وإنكار الرسل والكتب السماوية والحياة الآخرة، وإنكار كل المبادئ؛ ليقولوا لهذا الإنسان: إنه حيوان ينتهي من حيث يبتدي! ولذلك يزعمون أن هذا الإنسان يوجد نتيجة التفاعل الكيماوي والحيوي، كما تقول الشيوعية، أي: أنه يتعفن في هذا الكون كما يتعفن الطعام، فتولد منه هذه الدودة، ثم هذه الدودة تطورت في نظر الشيوعية حتى صارت جسداً ثم صارت إنساناً!! هذه هي نظرية التفاعل الكيماوي والحيوي في نظر الشيوعية، وهذه بداية الإنسان! وأما نهاية الإنسان في نظر الشيوعية فيجب أن يباد كما تباد هذه الحشرات؛ لأنه تولد من التعفن في نظرهم كما تتولد الحشرات.
ولذلك يا إخوان! لو نظرنا نظرة فاحصة إلى ما يفعله الشيوعيون في أفغانستان وفي غيرها -نسأل الله السلامة، ونسأل الله أن يعز الأمة الإسلامية- لوجدنا أن النهاية تطابق البداية بالنسبة لنظرة الشيوعية.
يباد إخواننا المسلمون هناك بالبلاد الأفغانية كما تباد الحشرات، والله لقد زرت مستشفيات لو كان الذين فيها كلاب لوجب أن نعطف عليهم، وقد قطعت أيديهم، وقطعت أرجلهم بسبب القنابل والمواد السامة، وشوهت وجوههم!! إلى غير ذلك.
مستشفيات يحصى من فيها بعشرات الآلاف بل بمئات الآلاف من البشر! إضافة إلى من يقتل ويباد هناك، ونحن في غفلة نسمع أخبار السلفادور وأخبار العالم كله، ولا نتابع أخبار إخواننا الأفغان أبداً إلا ما شاء الله، وإذا تابعنا نجده في زاوية مهجورة من صحفنا لا تتعدى ثلاثة سنتيمترات في ثلاثة.
فإخواننا هناك يبادون على أيدي الشيوعية؛ لأن الشيوعية تقول: إن الإنسان ولد نتيجة التعفن، فيجب أن نعامله كما تعامل الحشرات، ولذا يبيدونه بالمواد السامة.
ولذلك فإن فرعون عليه لعنة الله ما استعبد بني إسرائيل وما أراد أن يستعبد المصريين إلا من هذا المنطلق، حيث أنكر الخالق، والشيوعية وهي تريد أن تستولي على هذا العالم لا تستطيع أن تستولي على هذا العالم كما تتصور إلا إذا أنكرت الخالق؛ لأن العالم الذي لا ينكر الخالق سيقف كما يقف الأفغان في أيامنا الحاضرة الذين يقاتلون الروس ولو بالحجارة، في الوقت الذي غفل عنهم إخوانهم المسلمون، ولم يمدوهم حتى بالمال.
فالشيوعيون لا يريدون الإيمان بالخالق؛ حتى لا يتسابق الناس إلى الشهادة؛ وإنما يريدون أن يقول الإنسان كما قال الدهري الأول: {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24].
المهم أن فرعون ذلكم الطاغية ولد في بيته طفل تولى الله عز وجل تربيته على عينه، كما قال: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39]، تولاه الله عز وجل، وتحدى به فرعون، فإذا كان يقتل الأطفال من بني إسرائيل فإن هذا الطفل سيتربى في بيت فرعون، كما قال سبحانه: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص:8].
وانظروا أيها الإخوان! إلى ألطاف الله عز وجل، وانظروا إلى تعطل نواميس الحياة إذا أراد الله عز وجل أن تتعطل يقتل الأطفال من بني إسرائيل، لكن موسى يعيش في بيت فرعون ولا يقتله! ثم بعد ذلك يكون سبباً في هلاكه، وذلك حينما أمره الله عز وجل في يوم عاشوراء من شهر الله المحرم أن يخرج ببني إسرائيل صوب البحر، فلحقه فرعون بجنوده، حتى قيل: إن بني إسرائيل كانوا يحصون في ذلك الوقت بأكثر من ستمائة ألف، أي: الذين عبروا البحر الأحمر بهذه المعجزة الخارقة للعادة.
وكان بنو إسرائيل إيمانهم ضعيفاً، فلما رأوا موسى يريد أن يتجه بهم إلى البحر والبحر أمامهم وفرعون من خلفهم قالوا لموسى: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61]، وهذه فطرة بشرية لا يلامون عليها؛ لكن الرجل المؤمن موسى عليه السلام قال: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62].
هكذا الإيمان إذا حل في القلوب؛ حيث تهون كل الدنيا في وجه الرجل المؤمن؛ ولذا قال: (كَلَّا) و (كلا) للردع، (إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ).
ولما علم الله عز وجل إيمانه أمره أن يضرب البحر ضربة واحدة بعصا صغيرة، فتحول هذا البحر إلى اثنتي عشرة طريق، كل طريق يعبر منها سبط من أسباط بني إسرائيل إنها آية عجيبة! فمن كان يظن أن البحر سيتجمد ليعبر الناس عليه بالأقدام؟! إنها قدرة الله عز وجل.
فيعبر المؤمنون مع موسى عليه السلام، ثم يدخل فرعون وجنوده من ورائهم، ثم يأمر الله عز وجل البحر أن يطبق على الأقباط مع فرعون ويغرقهم أجمعين، ثم يجعل الله عز وجل فتنة فرعون آية باقية إلى يوم القيامة، ولعل الذين يذهبون إلى مصر ويدخلون المتحف الوطني يرون هذه الآية ما زالت باقية، يقول الله عز وجل: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس:92].
فمن أراد أن يتكبر، أو ينكر الخالق، أو يشك في الخالق سبحانه وتعالى، أو يطغى على خلق الله، أو يتجبر في هذه الأرض أو يظلم؛ فإن عليه أن ينظر إلى تلك الآية التي مضى عليها اليوم ما يزيد على خمسة آلاف سنة، وهي آية ما زالت باقية يمر بها السواح، ولكن كثيراً منهم لا يشعرون.(22/15)
كيف نستفيد من ذكرى شهر المحرم؟
أيها الإخوة المؤمنون! إن علينا أن نعتبر شهر الله المحرم شهراً عظيماً له ذكريات، وهذه الذكريات يجب علينا أن نقف عندها، وأن تستوقفنا، وأن نأخذ منها عظة وعبرة، فنأخذ منها العظة الأولى بأن علينا أن ننظر في صفحات أعمالنا، وفي سجلات حسناتنا وسيئاتنا قبل أن ينشر لنا الكتاب يوم القيامة، ويقال لأي واحد منا: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:14].
ثم علينا أيضاً أن نستعيد ذكرى الهجرة مرة أخرى؛ لنشكر الله عز وجل أن قامت دولة الإسلام، ويجب أن نحافظ على دولة الإسلام التي كتب الله لها الخلود إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ثم أيضاً علينا ونحن نرى الطغيان اليوم ينتفخ ويتشدق ويتطاول على الجبال، ويملأ السجون والمعتقلات بالمؤمنين، ويستذل المؤمنين علينا أن ننتظر الفرج من الله عز وجل، وأن نعرف أن هذا كله زبد، وأن الزبد كما قال الله عز وجل: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد:17].
ومن هنا أيها الإخوان! لا نيأس من روح الله، قال عز وجل: {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87].
وعلينا أيضاً أن نمد أكف الضراعة إلى الله عز وجل أن يؤيد المسلمين بنصر منه، وأن يخلص إخواننا المعتقلين والمضطهدين تحت مطارق الكافرين والظلمة والطغاة، ولكن علينا بجوار هذا الدعاء أن نقوم بجانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الله عز وجل يقول: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الأنفال:53].(22/16)
أهمية نعمة الأمن والرزق ووجوب المحافظة عليها
إذا كنا نعيش في هذا الوطن الآمن المطمئن قد أرخى الأمن علينا سدوله، وقد هيأ الله عز وجل لنا تحكيم شرع الله فكان سبباً في أمننا وطمأنينتنا؛ فإن علينا أن نتقي الله، وأن نحافظ على هذه النعمة، وأن نتجه إلى المسئولين ونقول لهم: اتقوا الله عز وجل! وعلى المسئولين ألا يغضبوا حينما يقال لهم: اتقوا الله! ونقول لهم: {لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} [غافر:29].
وعلينا أن نحارب المعاصي والإلحاد، وأن نحارب كفر النعم الذي أصبح اليوم ظاهراً في كثير من البلاد التي فجر الله لها ينابيع الخيرات وقد كانت بالأمس تعيش في فقر ومسغبة، وهو ابتلاء من الله عز وجل، بل هو آخر مرحلة من مراحل الابتلاء؛ لأن الله عز وجل قد أخبرنا عن ذلك في القرآن فقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} [الأعراف:94].
ونحن هنا في نجد كنا في بأساء، وكنا في ضراء، وكنا في خوف، وكنا في جوع، وكنا في مسبغة، فأرسل الله لنا هذه الخيرات ابتلاءً وامتحاناً، يقول الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ * ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ} [الأعراف:94 - 95]، فقد أصبحنا نسكن في القصور الفارهة، ونركب السيارات المترفة، ونملك الأموال الطائلة، ونعيش في أمن، ويتخطف الناس من حولنا، لكن ما هي النتيجة؟ كثير من الناس إذا قيل له: اتق الله يا أخي! أنت كنت فقيراً فأغناك الله، وأنت كنت أعزب فجعل الله لك هؤلاء الأولاد الشهود، وأنت كنت تعيش في خوف وذلة فأصبحت الآن مرفوع الرأس والحمد لله، لكنه يقول: هذا أمر قد انتهى ضده! وقد مرت بنا فترات الخوف والجوع، والله تعالى يقول لنا عن هذا الموقف: {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوا} [الأعراف:95] أي: زاد المال وزاد الأولاد {وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ} [الأعراف:95]، أي: انتهى الضد، ولن يعود الضد مرة أخرى، ولكن الأمور في تقلب، فماذا كانت النتيجة؟ {فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [الأعراف:95].
فعلينا أن ننتبه يا إخوان! فنحن هنا يتخطف الناس من حولنا، وتحيط بنا دائرة حمراء من الدماء، ونقط حمراء من الدماء، ونحن نعيش في منطقة -والحمد لله- آمنين مطمئنين، قد جعل الله لنا حرماً آمناً، ويتخطف الناس من حولنا.
لكن هل تظنوا أيها الإخوان! أننا نستحق ذلك دائماً؟
الجواب
لا والله، إلا إذا حافظنا على هذه النعمة، وشكرنا المنعم سبحانه وتعالى، وقمنا بحقه، وحاربنا المعاصي؛ لأن الله عز وجل يقول: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ} [هود:116]، ويقول عز وجل: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} أي: من النعيم {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام:44].
إذاً: أيها الإخوان! علينا أن نخشى الله عز وجل، ووالله ليس بيننا وبين الله عهد ولا ميثاق، والله تعالى يقول: {أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ} [الرعد:31]، ونحن نرى أنه يحل قريباً من دارنا كثير من الكوارث؛ واسمعوا أخبار لبنان وأخبار إيران وأخبار العراق وأخبار أفريقيا، والأماكن التي فيها مجاعة، وأنا رأيتهم بعيني يموتون أمامنا من الجوع! ونحن -والحمد لله- عندنا هذه الأموال؛ بل كثير من الناس أصبح لا يستطيع أن يحصيها؛ حتى الأرقام عجزت أن تحصي أموال كثير من الناس، ومع هذا لم تفكر طائفة منهم في أن يوصلوا قليلاً من هذا المال لإخوانهم الفقراء.
ويخشى في يوم من الأيام أن يسلط الله عز وجل على هؤلاء أصحاب الأموال أمة لا يرعون فيهم إلاً ولا ذمة، فيأخذون الأموال ويبتزونها، ويريقون الدماء ويسفكونها، ويتلاعبون بهذا الأمن الذي من الله علينا به.
فهذه أمم كثيرة كانت تعيش في رخاء وفي نعمة أكثر مما نعيش اليوم، وكان الناس يذهبون من هنا إلى أفريقيا الخضراء، وكان الناس يذهبون إلى لبنان الناعمة الآمنة المطمئنة، وكان أناس يذهبون إلى الهند، فأصبح كل هذا العالم يأتي يبحث عن لقمة العيش في بلادنا والحمد لله.
إذاً: أيها الإخوة! هذه نعمة لابد أن نشكرها، وإذا لم نشكرها فإن الله عز وجل يقول: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7]، فهذا عذاب الله نسمع جزءاً منه تعيشه كثير من الأمم المجاورة؛ فخذوا حذركم، واعتبروا بمن حولكم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(22/17)
الأسئلة(22/18)
دور النوادي في إصلاح الشباب
السؤال
لدى بعض الإخوان -وخاصة أولياء الأمور- مفهوم قاصر عن أهمية الأندية الرياضية، والحقيقة أنها تخالف ذلك، وهي تدعوكم دائماً وأبداً، وفيها تفاؤل إلى التوجيه؛ فما هي كلمتكم تجاه ذلك؟
الجواب
الحقيقة أنني كنت ممن يتحرز من هذه الزيارة؛ لأن هناك حواجز منيعة بيننا وبين هذه النوادي؛ لأننا لا ندري ما وراء هذه النوادي، لكننا -والحمد لله- صرنا لا نشك في أنها اتجهت اتجاهاً طيباً؛ لأن الصحوة الإسلامية التي يتمتع بها الناس أجمعون أخذت النوادي الرياضية بنصيب وافر منها.
وعلى كل فإننا مطمئنون -والحمد لله- في أيامنا الحاضرة على هذه النوادي، وليس كل الاطمئنان، ولكن أكثر اطمئناناً، وليس في كل النوادي الرياضية، ولكن في أكثرها؛ فنحن مطمئنون -والحمد لله- على أن المسئولين عنها رجال صالحون، أقصد رؤساء النوادي وأعضاء الأندية الرياضية.
وعلى كل فنحن مستبشرون بهذا الواقع الطيب، ونرجو لهم مزيداً من الاستقامة، ولكن نقول: النوادي الرياضية مسئولة عن أمانة كبيرة؛ فولدي وولد فلان وفلان من الناس نسلمهم إلى هذه الأندية الرياضية مدة من الزمن، ثم بعد ذلك لا ندري ماذا يحدث وراء الكواليس! لكننا مطمئنون إلى هؤلاء الذين هم الآن أصبحوا يقومون بإدارة الأندية الرياضية؛ ولذلك فإننا نحملهم أمانة كبيرة.
إن الأمة تقاس بشبابها، والشباب لا يقاس بقوة جسده فقط، فحينما تقدم الأندية الرياضية تقوية الأجساد فقط لا يكفي؛ لأن الإنسان لا يتميز بقوة جسده، فالإنسان مهما بلغ من القوة لا يبلغ درجة الجمل أو درجة الأسد أو درجة النمر في قوة جسده، ولكنه بقوة روحه إضافة إلى قوة جسده، وإذا تمتع هذا الشاب بقوة الروح مع قوة الجسد فإنه يصبح إنساناً يرجى من ورائه نفع.
ولذلك فإن الأمم الحية ما كانت فقط تعتمد في تربية شبابها على قوة أجسادهم، وإنما تعتمد كل الاعتماد على تربية عقولهم.
ونحن نطالب أصحاب الأندية الرياضية أن يربوا وينموا العقول تربية طيبة، فإذا كانت الأمم الشيوعية تربي أبناءها على الإلحاد؛ فالأمم المؤمنة المسلمة يجب أن تربي أولادها وتربي أبناءها على الإيمان الحقيقي الذي به يصلون إلى درجة لا يصل إليها أحد من الناس.
ولذلك فإني أدعو القادة والمسئولين على الأندية الرياضية -وأقصد بالقادة رؤساء مجلس الإدارة ومدير ورئيس النادي، أما القادة الكبار فنسأل الله لهم الهداية أيضاً- فنقول: عليكم أن تتقوا الله في هذه الأمانة؛ لأنكم أصبحتم أمناء على أبناء المسلمين، ولأنكم ستسألون في الآخرة عما يصل إليه مستوى هؤلاء الأبناء الذين ينتسبون إلى الأندية التي أنتم قائمون عليها، فإن خرج هذا الشباب مؤمناً تقياً عاملاً جاداً في عمله مصلحاً في هذه الحياة، فأنتم أول من يجني هذه الثمرة، وإن خرج هذا الشباب تافهاً منحرفاً ضالاً سفيهاً، فأنتم من يسألكم التاريخ ويسألكم الناس؛ بل ويسألكم الله عز وجل يوم القيامة عن هذه الأمانة.(22/19)
حكم مخالطة أصحاب المعاصي
السؤال
هناك شاب يحب الخير، وله أصدقاء يحافظون على الصلاة، ولكن يعملون بعض المعاصي، وأنا أحب أن أكون مثل بعض الشباب الطيب في هذه البلدة، فماذا أفعل؟ أفتوني وجزاكم الله خيراً.
الجواب
الله تعالى يقول: {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة:1]، فإذا كان هؤلاء الأصدقاء الذين أشار إليهم الأخ يعملون الكبائر فحرام عليك أن تعيش معهم؛ لأن الله تعالى يقول: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ} [النساء:140]، ويقول سبحانه: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68].
وعلى هذا فإذا كان هؤلاء يعملون الكبائر أو الأوبئة المعدية التي يتعاطاها طائفة من الشباب كالتدخين، فأنا أنصح بألا تعيش مع هؤلاء؛ لأن التدخين يعتبر من الأمراض التي تنتقل بسرعة عن طريق المخالطة.
وأما إذا كان هؤلاء فقط يعملون شيئاً من المزاح أو الهزل الذي لا يصل لدرجة المعاصي الكبيرة؛ فهؤلاء لا بأس بمجالستهم، بل من الأفضل أن تعيش مع هؤلاء، خصوصاً إذا كانت حياتك معهم ستنقلهم من الهزل إلى الجد، وتستغل فيها الفرص من أجل أن تقدم لهم أشياء لعلها تكون سبباً في استقامتهم والتزامهم.
وعلى كل: فإن الرجل المؤمن عليه أن يستعمل عقله في مثل هذه الأمور؛ فإذا كان يتأثر في مثل هذه المجالس فحرام عليه أن يجلس مع هؤلاء، والمسألة لا تصل إلى درجة الكبائر فيتسامح في ذلك.(22/20)
مذاهب العلماء في أحاديث نفي الإيمان ونحوه
السؤال
تمر أحاديث نبوية عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها نفي، فنود من فضيلتكم تفسير هذا النفي هل هو على إطلاقه أم لا؟ منها: (من مس الحصى فقد لغا، ومن لغا فلا جمعة له)، ومنها: (لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد)، ومنها: (لا يدخل الجنة رجل في قلبه ذرة من كبر)؟
الجواب
هذه الأحاديث صحيحة، لكن العلماء اختلفوا في تأويلها؛ لأن بعضها ينفي الإيمان، وبعضها ينفي الجمعة، وبعضها ينفي أشياء أخرى، فبعض العلماء له تأويل في هذه الأحاديث؛ لأنها أحاديث صحيحة لا شك في صحتها.
فقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد)، بعض العلماء أخذه على ظاهره، كالإمام ابن تيمية رحمة الله عليه، وقال: كل إنسان يستطيع أن يصل إلى المسجد ويصلي منفرداً فصلاته غير صحيحة.
ويعتبر الصلاة في المسجد شرطاً من شروط الصلاة؛ كالوضوء، واستقبال القبلة، وستر العورة، وما أشبه ذلك، وجمهور العلماء يؤولون مثل هذا، ويرون أن قوله: (لا صلاة)، أي: لا صلاة كاملة؛ لأن صلاة الجماعة ليست بشرط، وإنما هي واجبة وفريضة، فإذا صلى المرء في بيته فصلاته صحيحة، لكنه قد عمل محرماً إذا لم يكن له عذر في تركه الصلاة مع الجماعة.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، وقوله: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)، قال بعض العلماء: هذه جرت مجرى الوعيد، وآيات الوعيد وأحاديث الوعيد أيضاً كثيرة، ولعل ذلك فيمن استحل الكبر؛ لأن الكبر من أكبر الذنوب المحرمة، واستحلاله يعتبر ردة عن الإسلام؛ لأنه محرم بالإجماع، وكل محرم بالإجماع فإن استحلاله كفر وردة عن الإسلام، فلعل هذا فيمن استحل الكبر، أو أن هذا جرى مجرى الوعيد.
وعلى هذا فكل ما ورد بلفظ: (لا يؤمن)، (لا يدخل) (لا جمعة له) ونحو ذلك، كل هذا لعله يؤول، كقوله صلى الله عليه وسلم: (ومن لغا فلا جمعة له)، فبعض العلماء قال: هو على حقيقته، فمن عبث بالحصى، والإمام يخطب، فإنه تفسد جمعته، وكأنه لم يصل الجمعة، ولعله يكتب له أجر الظهر، وبعضهم رأى أن هذا جرى مجرى الوعيد، كما ورد أيضاً: (إذا قلت لأخيك: أنصت أو اسكت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت، أو لا جمعة لك)، كل هذا يجرونه مجرى الوعيد، وبعضهم يجريه على ظاهره، فيقول: معنى (لا جمعة له) أي: سقط منه أجر الجمعة، لكن برئت ذمته من صلاة الجمعة.
والله أعلم.(22/21)
حكم قراءة التوراة والإنجيل وبيان أنها محرفة
السؤال
ما حكم قراءة التوراة والإنجيل؟ وهل ما يوجد منها الآن صحيح؟
الجواب
أما بالنسبة لقراءتها للرد على أمور -مثلاً- وصلت إلى أيدي المسلمين، ونحن نريد أن نبين للمسلمين خطأ ما فيها؛ فلعل ذلك يتسامح فيه.
أما قراءتها للعلم فإن هذا لا يجوز؛ ولذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لما رأى قطعة من التوراة مع عمر رضي الله عنه غضب صلى الله عليه وسلم، وظهر الغضب في وجهه وقال: (لو كان أخي موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي).
وكذلك الإنجيل وكل الكتب السماوية التي يزعم أصحابها أنها من الكتب السماوية؛ لأنها منسوخة بالقرآن، فكما نسخت التوراة والإنجيل فإن القرآن قد نسخ التوراة والإنجيل، ولذلك يقول الله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85].
وهذه الدعوة يجب أن نوصلها إلى كل هؤلاء الذين يعيشون مع المسلمين من غير المسلمين.
أما بالنسبة للكتب السماوية المزعومة الموجودة في أيامنا الحاضرة فهي كلها محرفة، وليست كتباً حقيقية؛ لأن الله تعالى قد أخبرنا بأن اليهود قد حرفوا كتابهم، وكذلك النصارى.
وعلى هذا فإن ما في أيدي اليهود وما في أيدي النصارى اليوم كله محرف، وليست هي الكتب السماوية التي نزلت من السماء.
وحتى على فرض أنها كتب سماوية فنحن نؤمن بأصلها، لكنها غير معتبرة في أيامنا الحاضرة؛ لأنها منسوخة بالقرآن.(22/22)
أنواع الذنوب وضررها على صاحبها
السؤال
إذا كان الإنسان يصلي ويصوم، ويتصدق ويزكي، ويحب الخير، وقد يعمل بعض المعاصي مع علمه بحرمتها، فهل هذا يؤثر على عمله الصالح أم لا؟ وهل تتأثر الحسنات مع وجود السيئات؟
الجواب
أما كونه يؤدي أركان الإسلام ويفعل الواجبات لكنه يفعل شيئاً من المحرمات، فهذا نسأل الله لنا وله الهداية والتوفيق.
لكن فعله للسيئات لا يطعن في إيمانه، ولا يطعن في إسلامه، فهو ما زال مسلماً ما دامت هذه السيئات لا تصل إلى درجة الردة، فإذا وصلت إلى درجة الردة فإنه يكفر، ويحبط عمله نهائياً، لكن فعل السيئات أيضاً يختلف؛ فهناك كبائر، وهناك صغائر؛ فإذا وصل إلى درجة الكبائر فإن هذه الكبائر تذهب الحسنات التي كسبها، كما أن الحسنات يذهبن السيئات، فكذلك السيئات قد تستهلك الحسنات.
ولذلك الله تعالى أخبرنا بأن الوزن يومئذٍ الحق، وأن الله تعالى يزن أعمال الإنسان الحسنات والسيئات، يزنها يوم القيامة، فتوضع الحسنات في كفة، وتوضع السيئات في كفة، فإن رجحت الحسنات فقد سعد، وإن رجحت السيئات فقد شقي.
ولكن المسلم الذي يعمل هذه السيئات عليه أن يبادر بالتوبة؛ لأنه إذا بادر بالتوبة فإن الله عز وجل يغفر له مهما بلغ من الذنوب، كما قال عز وجل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزمر:53 - 54]، أي: بهذا الشرط.
وإذا لقي الله عز وجل بهذه السيئات التي لا تصل إلى درجة الكفر فإنه تحت مشيئة الله وإرادته، إن شاء الله تعالى غفر له، وإن شاء عذبه، لكنه لا يخلد في النار.
فمن فعل الكبائر مهما كانت الكبائر، ما دامت لا تصل إلى درجة الكفر وإلى درجة الشرك فإنها لا تخلده في النار؛ فقد يغفرها الله له ولا يحاسبه عليها، وقد يحاسبه عليها، ثم يكون مصيره إلى الجنة ما دام قد مات على عقيدة الإيمان والتوحيد والإسلام.
ولكن يا أخي! اعلم أن هذه مخاطرة؛ فهذه الحسنات التي تتعب فيها احذر أن تستهلكها بالسيئات، ونقول: اتق الله! ودع هذه السيئات، إلا أن أكبر سيئة أحذر الناس منها هي: الشرك بالله عز وجل، ولذلك يقول الله تعالى في الحديث القدسي: (يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة).
والشرك بالله قد انتشر في أيامنا الحاضرة؛ فلا نظن أيها الإخوان! أن الشرك قد انتهى إلى الأبد، صحيح أن اللات والعزى ومناة وإساف ونائلة وهبل قد فقدت وانتهت، لكن لا زالت هناك أوثان كثيرة في أيامنا الحاضرة؛ وإن شئت فاذهب إلى البلاد الإسلامية المجاورة فستجد أناساً يطوفون حول القبور، ويتمسحون بالقبور، ويخشعون أمام القبور، وينذرون لها النذور، ويتقربون إليها بأنواع القرب، وهذا هو الشرك الأكبر؛ لأن هؤلاء يقولون: نحن نرجو شفاعتهم يوم القيامة، وهذا كما قال الأولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3].
ففي كل بلاد المسلمين آلهة، فالدنيا تعبد من دون الله في أيامنا الحاضرة، وهذا نوع من الشرك، والزعماء يعبدون من دون الله في أيامنا الحاضرة في كثير من البلاد الإسلامية؛ لأنهم يشرعون ويطيعهم البشر، ويرفضون أحكام الله، ولو صدر أمر من أحد هؤلاء المسئولين وأجبر الناس عليه لوجدت الناس ينجبرون وراء هذا الأمر؛ خوفاً من سياط القوة المادية، ويغفلون عن عذاب الله عز وجل، وهذا نوع من الشرك، فالخوف من البشر أكثر من الخوف من الخالق سبحانه وتعالى نوع من الشرك.
والذين تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعضهم تركوه خوفاً من أن ينالهم أذى، وهذا يخشى أن يصل بهم إلى درجة الشرك؛ لقوله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت:10]، أي: أنه يساوي بين هذا وهذا.
المهم أن الشرك موجود، وهو من الذنوب التي لا يغفرها الله عز وجل، وصاحبه مخلد في نار جهنم، أما المعاصي فإنها تحت مشيئة الله وإرادته.
ولذلك فإني أدعو أخي الذي يقيم أركان الإسلام وتعاليم الإسلام ويؤدي الواجبات إلى أن يخشى الله عز وجل في هذه المحرمات؛ لأنها ستستهلك حسناته في يوم من الأيام.(22/23)
شروط التوبة
السؤال
ما هي شروط التوبة؟
الجواب
شروط التوبة: أن يقلع الإنسان عن الذنب، وأن يندم على ما مضى، وأن يعزم على ألا يعود، وأن يرد المظالم إذا كانت المعصية في مظلمة بينه وبين الخلق، فإن كان قد سب إنساناً يعتذر منه، وإن كان قد أخذه ماله يرد إليه هذا المال، وإن كان قد آذاه بأي أذىً يطلب منه المعذرة.
هذه هي شروط التوبة، وجماعها كلها: صدق القلب وعزمه على الإقلاع من فعل الذنب.(22/24)
حكم من يقول بجواز الإسبال والغناء
السؤال
ماذا تقولون فيمن قال: إن إسبال الثوب إذا كان في غير بطر جائز، ومن قال: إن استماع الأغاني جائز؟
الجواب
أما من قال: إن إسبال الثوب بغير بطر جائز، فنقول: أنت أخطأت، ولا نقول: إنك تعديت، بل نقول: أخطأت؛ لأن بعض العلماء يرى أن الإسبال بغير نية البطر جائز، لكن أنا أرى أن هذا الرأي لا مكان له؛ لأن عندنا وعيدين من الرسول صلى الله عليه وسلم: الوعيد الأول: قوله عليه الصلاة والسلام: (من جر إزاره خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة)، فهذه عقوبة من فعله خيلاء.
والوعيد الثاني: قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (وما كان أسفل من الكعبين فهو في النار)، فهذا ليس له صلة بذلك، فمن فعله بنية الكبرياء فهو أخطر، وعقوبته أنه لا ينظر الله إليه، وهذا من أعظم الوعيد، ومن فعله لكنه لا يريد الكبرياء فنقول: عليه عقوبة، لكنها لا تصل إلى درجة ألا ينظر الله إليه يوم القيامة.
وبعض العلماء قال: إن هذا يحمل على هذا، فيحمل على البطر، واستدل بقصة أبي بكر رضي الله عنه: (إن إزاري يسترخي إلا أن اتعاهده) الحديث، لكن هذا لا يصلح دليلاً؛ لأن معنى يسترخي: ينزل، ثم يرفعه، ونحن نقول لمن نزل ثوبه: ارفع ثوبك، وتخرج من المشكلة.
وعلى كل فإن الوعيد موجود لمن فعله بطراً ولمن فعله بغير بطر.
أما من ادعى حل الغناء فنقول أيضاً: أنت على خطر يا أخي! ولو استمعت الغناء لكان أمرك أسهل، لكن ما دمت قد قلت: إن الغناء جائز، فإنك على خطر؛ لأن الغناء يكاد أن يجمع علماء المسلمين على تحريمه، وما دام أنه يكاد أن يجمع علماء المسلمين على تحريمه فنقول: أخطأت في هذا، ولو كان الغناء من الأمور المجمع على تحريمها عند جميع العلماء لكان من يقول بهذا الرأي مرتداً؛ لكن ما دام أن هناك من يشك في تحريم الغناء فإن الأمر لا يصل إلى درجة الردة.
وعلى هذا نقول: يا أخي! عليك أن تصحح مفهومك، وأن تقرأ ما كتب عن الغناء، بل تقرأ ما ورد في الأدلة الشرعية عن الغناء، كقوله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا} [لقمان:6]، وقول الله عز وجل: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} [الإسراء:64].
واقرأ ما قاله المفسرون في هذا الأمر، واقرأ آراء العلماء والفقهاء في الغناء، ولعل مثل هذا يقتنع فلا يقول بعد ذلك: إنه جائز.(22/25)
حد عورة الرجل وحكم كشفها
السؤال
فضيلة شيخ! ما حكم كشف العورة؟ وما حد عورة الرجل؟ وهل في ذلك خلاف بين العلماء؟
الجواب
أما عورة الرجل فإن له عورة في الصلاة وخارج الصلاة؛ ففي الصلاة ما بين السرة إلى الركبة، فهذا لا يجوز أن يكشف في الصلاة، وأحد العاتقين يلحقه العلماء؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء)، أي: لابد أن يغطى أحد الكتفين، ولذلك الإخوان الذين يلبسون فنايل علاقية نقول لهم: هذه لا تصلح في الصلاة، بل لابد أن يغطى واحد من الكتفين.
أما في غير الصلاة فقد اختلف العلماء في تحديد العورة، فجمهور العلماء يرون أنها إلى الركبة، ومنهم من يرى أنها فوق الركبة، واختلف في الفخذ هل هو عورة أو ليس بعورة؟ لكن الاحتياط أن يغطى الفخذ.
ولذلك فإني أدعو أصحاب النوادي الرياضية إلى أن يوجهوا الشباب الذين كثيراً ما يستعملون ألبسة تكون فوق الركبة إلى أن ينزلوها إلى الركبة، خصوصاً وأن كثيراً من الذين يلعبون هذه الألعاب من الشباب الأحداث الذين يخشى عليهم ومنهم الفتنة.
وعلى هذا فإني أقول: هذا موضع خلاف، لكن الاحتياط أن يغطى الفخذ؛ هذا بالنسبة لغير الصلاة، أما بالنسبة للصلاة فلابد أن يغطى إلى الركبة.
وكذلك أدعو الشباب الذين يلبسون ملابس شفافة وعليهم سراويل لا تصل إلى الركبة، أدعوهم إلى أن يغطوا إلى الركبة في الصلاة؛ لأنه كثيراً ما نصلي بجوار كثير من هؤلاء الشباب وعليهم ملابس شفافة رقيقة من خلالها نرى لون البشرة بيضاء أو سوداء أو حمراء، وهذا من الخطأ؛ لأن الصلاة من شروطها: ستر العورة؛ والله تعالى يقول: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31]، أي: استروا عوراتكم، وعلى هذا نقول: إن الذين يلبسون سراويل قصيرة وثياباً شفافة قد أخطئوا، وصلاتهم ترد عليهم، فعليهم أن يستروا إلى الركبة.
أما بالنسبة لخارج الصلاة فالاحتياط أن نستر إلى الركبة أيضاً.(22/26)
تعريف ذوي الأرحام وبيان حكم قطيعة الرحم
السؤال
من هم ذوو الأرحام الذين يجب على الإنسان زيارتهم؟ ومن هو قاطع الرحم؟
الجواب
ذوو الأرحام لها مفهوم في الفرائض ومفهوم في عامة الشرع: أما ذوو الأرحام في عامة الشرع: فهم الذين تجب صلتهم، وهم الذين خرجوا من رحم واحدة، فهذه النسبة نسبة إلى الرحم، والرحم: هو رحم المرأة، أي: أنه تجمعهم أم واحدة وأب واحد، كأعمامك، وأبناء عمك، وإخوتك، وأبناء إخوتك، وأعمام أبيك، وأعمام أمك، وأخوالك، كل هؤلاء يجمعهم رحم واحدة، وهؤلاء هم ذوو الأرحام الذين تجب صلتهم، وتحرم قطيعتهم.
أما صلة ذوي الأرحام فإنها واجبة، وقد توعد الله عز وجل الذين يقطعون الرحم، ووعد الذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل بالجنة.
وقطيعة الرحم من الأمور التي تحدث بسبب خلاف الناس على متاع الحياة الدنيا، وعلى هذا فلا يجوز للناس أن يتقاطعوا في أرحامهم لأي سبب من أسباب الحياة الدنيا، اللهم إلا إذا وصل الأمر إلى درجة المعصية التي تلزم المسلم بالهجر؛ فإن عليك أن تهجره، ويلزمك حينئذٍ أن تقطع هذه الرحم إذا عجزت عن إصلاحها، لكن هذه القطيعة لا تصل إلى درجة الجفاء الذي يفعله كثير من الناس.
فقد أمر الله عز وجل بصلة الوالدين الكافرين اللذين يلزمان ولدهما بالكفر، فقال عز وجل: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15]، والمراد بالصحبة بالمعروف هنا: ألا تقسو عليهما، وأن تنفق عليهما في حال الحاجة، وما أشبه ذلك.
كذلك رحمك الذين لا يخشون الله عز وجل عليك أن تحسن إليهم عند الحاجة والضرورة؛ لأن هذا الإحسان قد افترضه الله تعالى في كل أمر من الأمور.(22/27)
أفضل الكتب بعد كتاب الله عز وجل
السؤال
ما هي أفضل الكتب التي يمكن شراؤها بعد كتاب الله عز وجل التي تفيد المسلم في دينه وخلقه؟
الجواب
الكتب الآن كثيرة، ولا نستطيع أن نحصرها، لكن يمكن أن نعطي نماذج في كل فن من الفنون، فمثلاً: التفسير هو أول العلوم التي يجب أن يكون لها نصيب؛ لأنه يفهمنا كتاب الله عز وجل، فياحبذا لو كان للإنسان كتابان من كتب التفسير: أحدهما يهتم بالأحكام والألفاظ اللغوية، والثاني يهتم بالنكت البلاغية والأسرار القرآنية؛ حتى يصل الإنسان إلى شيء من هذه الأسرار.
وفي الحديث أيضاً يكون للإنسان كتاب يلجأ إليه في بعض الأحيان، ويقرؤه إذا كان من الطموحين، ككتاب فتح الباري في شرح صحيح البخاري، أو كان أقل من ذلك من الكتب الصغيرة التي تهتم بشرح بعض معاني الحديث.
وكذلك بالنسبة للكتب الثقافية، نحن أيضاً بحاجة إليها أكثر من حاجتنا إلى أشياء كثيرة، ففي أيامنا الحاضرة يتصارع الخير والشر أمامنا، ويكاد أن يلتبس الخير بالشر أمام كثير من العقول التي أصبحت قد اختلط عليها الأمر، فعلينا أن نقرأ الكتب التي ترد على هذه الأفكار الوافدة، والتي تعلمنا ما هي الشيوعية وأخطار الشيوعية، وأخطار الرأسمالية في مفهومها الحاضر، وتعلمنا أخطار الاشتراكية، وأخطار هذه الأفكار والمذاهب القديمة والجديدة.
ومن هذه الكتب الطيبة الكتب التي نثق في مؤلفيها كـ سيد قطب ومحمد قطب وحسن البنا والمودودي رحمة الله عليهم، ونحوهم من هؤلاء المثقفين الذين عايشوا هذه الفتن وهذه الأفكار، فكانت لهم ردود عليها بينوا فيها السبيل.(22/28)
حكم الصلاة في الملعب إذا كان المسجد يبعد كيلو متراً
السؤال
هناك جماعة من الشباب يصلون صلاة المغرب داخل أحد الملاعب الرياضية، علماً أن المسجد لا يبعد عنهم سوى كيلو متر، فما حكم هذه الصلاة؟
الجواب
الكيلو متر بعيد، وهمم الناس الآن أصبحت تجعل الكيلو متراً بعيداً، وعلى كل يا أخي! الصلاة في المسجد أفضل؛ لأن الله تعالى يقول: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36].
لكن إذا كانت صلاتك في النادي لها أثر في المصلين، فلعلها تكون أفضل من الصلاة في المسجد من هذا الجانب؛ فإذا كنت إذا صليت في النادي تجمع إخوانك وتلقن المتخلف وتنصح المثابر وهكذا، فلعل صلاتك في النادي تكون أفضل في مثل هذه الحالة.
فعليك أن تنظر المصلحة، فإذا كان لك وزن في صلاتك في النادي فصلاتك في النادي أفضل، وإذا لم يكن لك وزن فصلاتك في المسجد أفضل، لكن صلاتك في النادي أيضاً كافية.
وبعد كيلو متر مسافة تعتبر كبيرة، وأنت لا تطالب بأن تركب السيارة إلى المسجد، وما دمت قد وجدت أناساً يقيمون الجماعة فلا بأس أن تصلي معهم ولو كان المسجد قريباً منك.(22/29)
وجوب عبادة الله عز وجل على بصيرة
السؤال
كيف يعبد الإنسان ربه في عموم أحواله، حيث قال عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]؟
الجواب
هذا السؤال غامض! فالمسلم يعبد الله في كل أحواله، ولابد أن يكون على بصيرة، ولعله يقصد: ما هي الطريقة إلى عبادة الله عبادة صحيحة؟ والجواب: أن يكون على بصيرة، والبصيرة: هي العلم، والعلم يجب على المسلم في حدود ما يعرف به الله عز وجل، وما يعرف به قدرة الله سبحانه وتعالى، وما يعرف به كيف يؤدي الفرائض، وكيف يجتنب المناهي.
فعبادة الله تعالى على بصيرة واجبة، ويكون ذلك عن طريق العلم، ولذلك فإن الله عز وجل أمر الناس بأن يتعلموا فقال: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9].
ومدح العلم والعلماء، واعتبرهم ورثة الأنبياء، وجعل حتى الحيتان في البحر تستغفر لهم، والملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع، كل ذلك من أجل أن يعرف الإنسان ربه معرفة حقيقية، وأن يعبد الله عبادة توافق المنهج الذي جاء به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
فهذه هي الطريقة التي يجب أن يعبد الإنسان فيها ربه، وذلك بأن يكون على بصيرة، وأن يكون على هدىً من الله، وأن يكون متابعاً لرسوله صلى الله عليه وسلم.
ولذلك يا إخواني! لو نظرنا في كثير من عبادات الناس في العالم الإسلامي لوجدناها على غير بصيرة، نسأل الله العافية.
وكثير من الناس أحدثوا في دين الله أموراً لم يشرعها الله، وتركوا واجبات فرضها الله عز وجل عليهم، وهذا هو الخطأ، وهذا يتنافى مع شهادة أن محمداً رسول الله؛ لأن معنى (أشهد أن محمداً رسول الله): طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، وألا نعبد الله إلا بما شرعه.
ولذلك فإن أصحاب البدع والخرافات الذين أحدثوا في دين الله ما لم يأذن به الله، هم الآن يعبدون الله على غير بصيرة، ويقلدون الآباء والأجداد والمشايخ ولو كانوا على غير بصيرة، ويتركون الهدى الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى.
وهذه هي المشكلة التي يعيشها كثير من العالم الإسلامي، فأصبحت البدعة لدى طائفة منهم سنة، وأصبحت السنة لدى طائفة منهم بدعة، وكثرت المعاصي عقوبة على هذه البدع، وجاء الشيطان قوماً عن طريق البدع، كما جاء آخرين عن طريق المعصية.(22/30)
بيان الأشهر الحرم وسبب تسميتها بذلك
السؤال
ما هي الأشهر الحرم؟ ولماذا سميت بالأشهر الحرم؟ وما مناسبة تلك التسمية؟
الجواب
الأشهر الحرم هي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، وهذه أشهر متوالية، ورجب، وهو المنفرد.
هذه هي الأربعة الأشهر الحرم، وقد ذكرها الله تعالى بقوله: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة:36].
وهذه الأشهر الحرم سميت حرماً لأن الله تعالى حرم القتال فيها، وحتى المشركون الأولون كانوا يقاتلون طوال السنة؛ فإذا دخل شهر من الأشهر الحرم وهم في وسط المعركة يقفون؛ لأنهم يحرمون الأشهر الحرم.
والمعاصي قد حرمت دائماً، وهي في الأشهر الحرم أكثر منها في غيرها بإجماع العلماء.
والأمر الذي اختلف فيه العلماء هو: هل تحريم القتال في الأشهر الحرم ما زال باقياً أو أنه منسوخ؟ فمن قائل: إنه نسخ، وأصبح القتال في سبيل الله مباحاً دائماً على مدار السنة، ومنهم من قال: إن الأشهر الحرم لا يجوز فيها القتال ابتداءً، وإنما يجوز دفاعاً عن النفس؛ فإذا هجم العدو على المسلمين فإنهم يدافعون عن أنفسهم ولو كان في الأشهر الحرم، لكن لا يبتدئون القتال في الأشهر الحرم.
هذا بالنسبة للقتال.
أما بالنسبة لتعظيمها وتشديد المعصية فيها، وأن المعصية فيها أعظم من المعصية في بقية الأشهر الثمانية، فإن ذلك ما زال باقياً، وسيبقى إلى يوم القيامة.
ومناسبة تسميتها بالحرم من التحريم، أي: أنه حرم القتال فيها، فأصبحت حرماً، أي: لها حرمة أكثر من غيرها.(22/31)
تكرار التوبة إذا تكرر الذنب
السؤال
إذا كان الإنسان يتوب ثم يرجع وهكذا، فهل لهذا توبة؟ وهل يجوز أن ينذر طاعة حتى لا يعود إلى المعصية، كأن يقول: إن فعلت هذه المعصية فعلي أن أصوم يوماً أو يومين أو أن أصلي عشر ركعات؟ فهل مثل هذا جائز؟ وما الحكم إذا ترك الإنسان المعصية من أجل هذه الدوافع لا من حيث إنها محرمة أو محظورة؟
الجواب
بالنسبة للذي يعصي ويتوب ويعصي ويتوب، هذا باب التوبة مفتوح أمامه، ولا نقول: إنه إذا عصى وتاب وعصى وتاب فلا توبة له، بل باب التوبة مفتوح إلى أن تطلع الشمس من مغربها، أو إلى أن تبلغ الروح الحلقوم.
لكن أنا أخاف على ذلك الذي يعصي ويتوب ويعصي ويتوب أن يعصي الله تعالى ولا يتوب بعد ذلك، وذلك أنه إما أن يعاقب بسوء الخاتمة، نسأل الله العافية! وإما أن يطبع الله على قلبه فلا يتوب بعد ذلك، وإما أن يحصل له شيء آخر يحول بينه وبين التوبة في أي أمر من الأمور.
لكن باب التوبة مفتوح له، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف:36]، فربما يقيض الله له شيطاناً من شياطين الإنس أو شياطين الجن فيحول بينه وبين التوبة.
وعلى كل فنحن نقول له: اتق الله يا أخي! وإذا عصيت وتبت فحافظ على هذه التوبة؛ لأن التوبة باب ولجت فيه إلى الله عز وجل، وخرجت به من معصيته إلى طاعته، فحافظ على هذه التوبة.
ولكن إذا عصيت مع ذلك أيضاً فتب، ولو عصيت ثالثة فتب، وكن دائماً إذا عصيت تتوب، ولا نقول: اعص، وإنما نقول: تب إذا عصيت.
أما بالنسبة لأن يلزم الإنسان نفسه بعبادة من العبادات من أجل أن يمتنع فيها عن المعصية، فأنا لا أرى أن يلزم الإنسان نفسه بذلك؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن النذر وقال: (إن النذر لا يأتي بخير)؛ لأنه عبادة يلزم الإنسان بها نفسه.
فإذا كان هذا الإنسان ينذر بأنه إذا عصى يصوم أو يصلي أو نحو ذلك؛ فنقول: لا تفعل؛ لأن النذر منهي عنه، لكن لو نذرت فإنه يلزمك أن تفي به، لكن لا خير في النذر؛ لأنه لا يأتي بخير، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولربما تكون هذه الطاعة قد ألزمت بها نفسك فلا تستطيع أن تؤديها في يوم من الأيام، لكن لو ألزمت نفسك بها بنذر فإن عليك أن تفي به.
وهذا لا يكون في الحقيقة علاجاً لمن يعصي ويتوب ويعصي ويتوب، وإنما العلاج الصحيح لمن يعصي ويتوب ويعصي ويتوب أن يتصور معنى التوبة، وأن الله تعالى قد فتح بابه له، وبسط يده له، وأنه قد أنعم الله عليه بهذه التوبة، فكيف يترك نعمة بعدما حصل عليها؟! فهذه التصورات تغني عن هذه العبادات التي يلزم الإنسان بها نفسه.
لكن لو ألزم الإنسان بها نفسه وليس على طريق النذر فلعل ذلك لا بأس به، لكن الأولى له ألا يلزم نفسه بشيء من ذلك؛ اللهم إلا إذا كان قد تاب فإنه يكون من أسباب هذه التوبة أن يتقرب إلى الله عز وجل بعبادات؛ لعل الحسنات يذهبن السيئات، كما قال الله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114]، وكما قال كعب بن مالك رضي الله عنه لما قبل الله تعالى توبته: (يا رسول الله! إن من توبتي أن أنخلع من مالي شكراً لله تعالى.
فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك).
وعلى كلٍ فالإلزام بالطاعة ليس بالشيء الجيد، لكن أنا لا أستطيع أن أجزم بأن أقول: إنه منهي عنه أو غير منهي عنه، والأقرب أنه مباح، لكن لا يلزم الإنسان نفسه؛ لأنه قد يعجز عن أداء هذا المباح فيصبح مطالباً بذلك.(22/32)
حكم أخذ الفوائد الربوية من البنوك
السؤال
ما رأيك في شخص أخذ فائدة من البنك وحسن بها وضع أسرته الفقيرة، بدلاً من أن يأخذ ذلك البنك وينمي به رأس ماله؟
الجواب
أما ربا البنوك فنحن لا نشك بأنه من ربا النسيئة المحرم الذي لا شك فيه، والله تعالى علمنا كيف نعمل بالفائدة المحرمة في حال التوبة فقال: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279].
ولذلك أنا أخالف الذين يقولون: إننا لا نترك الفائدة؛ لأن هذه البنوك يتقوى بها الكفر على الإسلام؛ فالكفر قوي بأموال كثيرة غير هذه الأموال، والاجتهاد في موضع النص لا يجوز، فالله تعالى يقول: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279].
هذا بالنسبة لمن تاب، فكيف بالذي لم يتب؟ فالذي تاب لا نقول له: أنت مسامح في الماضي الأول، وإنما نقول: خذ رأس مالك ورد الزيادة على أصحابها.
ولذلك فإن الذين يأخذون الزيادة والفائدة من البنوك ويقولون: ندفعها في طرق الخير، نقول لهم: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً)، وإذا كنت تريد أن تبذل في وجوه الخير فابذل من مالك الحلال؛ أما من الربا فإن الخير لا يقوم على الربا وعلى الأموال المحرمة.
وقد قال لي كثير من الذين يتعاطون الفوائد الربوية: لو تدفعونها إلى المجاهدين في أفغانستان، وأقول: لعل هذا العمل هو السبب في عدم نجاح المجاهدين في أفغانستان في جهادهم؛ لأن الجهاد في سبيل الله لا يقوم على الربا، والمسلمون لا يقدمون للجهاد في سبيل الله إلا أفضل أموالهم.
فالذي يقدم فائدة البنوك للإصلاح وللأسرة، أو لمساعدة فقير أو منكوب، أو للجهاد في سبيل الله، نقول له: قد أخطأت، وعليك أن ترد هذه الفائدة إلى البنك ولو تقوى به؛ فإن ذلك لا يهمنا؛ لأنه لا يجوز لك أن تأخذها حتى ولو كنت سوف تحرقها؛ لأنك إذا أحرقتها قد تملكتها ثم أحرقتها.
فنقول: ردوها؛ لأن الله تعالى يقول: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279]، ولك رأس مالك، وتنفق في وجوه الخير ما شئت من رأس مالك، لكن لا تنفق من هذه الفائدة المحرمة.
هذا هو ما أعتقده وأدين الله تعالى به.(22/33)
تأجير البيوت لغير المسلمين
السؤال
أجرت بيتي من شركة وإذا بها تسكن أفراداً غير مسلمين، وبعضهم مسلمون لا يؤدون الصلاة جماعة، فما حكم هذا التأجير؟
الجواب
أعتقد أن التأجير لا بأس به، فمعاملة غير المسلمين لا بأس بها، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يبيع ويشتري من اليهود، ومات ودرعه مرهونة عند يهودي؛ فلا مانع أن تسكِّن فيها غير مسلم؛ بشرط ألا يكون هؤلاء غير المسلمين في حي يضايقون المسلمين؛ وإنما يكونون في منطقة بعيدة معزولة.
الشرط الثاني: ألا تعمل فيها المحرمات علناً، كأن تعلق فيها الصور والرموز التي ترمز للديانات المسيحية، أو يشرب فيها الخمر علناً، أو ما أشبه ذلك.
أما أن تتعامل مع غير مسلمين فذلك لا بأس به؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} [الممتحنة:8]، فأباح البر والإقساط إليهم، وألا نضايقهم، وألا نؤذيهم أيضاً.
وعلى هذا فلا مانع من أن يؤجر المسلم على غير مسلم بيتاً، بشرط ألا يكون هناك مضايقة للمسلمين، وألا يكون فيه أذية، وألا تظهر فيه شعائر غير شعائر الإسلام.(22/34)
انتشار الصحوة الإسلامية في هذه الأزمنة
السؤال
فضيلة الشيخ! دائماً بعض المحاضرين يتكلمون عن الشباب وما يظهر فيهم من المعاصي والانحراف، ولم يتكلموا عن هذه الصحوة التي حصلت بين الشباب اليوم من صلاح ورجوع إلى الله، نرجو منكم بيان ذلك؟
الجواب
أحسنت يا أخي! أنا كنت أريد أن أتكلم عن هذه المسألة ونسيتها، والحقيقة أنه بالرغم من وجود إرهاصات مخيفة في المجتمعات الإنسانية، فهناك -والحمد لله- الآن بوادر خير في كل العالم والشعوب.
فلو ذهبت إلى أمريكا لوجدت أنه يوجد فيها شباب متدين متمسك، مع أن الشهوات تحيط بهم من كل جانب؛ بل جميع أنواع الشهوات مبذولة وميسرة، ولكنهم فتية آمنوا بربهم وزادهم الله هدى، وهكذا لو ذهبت إلى أوروبا أو ذهبت إلى الشرق والغرب، لقد رأيناهم -والحمد لله- بأعداد هائلة.
وهكذا يعيش معنا -والحمد لله- كثير من هؤلاء الشباب الذين تحدوا جميع أنواع الغزو والأفكار التي وفدت إلى البلاد الإسلامية، وأعلنوا إيمانهم الحقيقي، وظهر هذا الإيمان وبرز في وجوههم وفي كل شئون الحياة.
فهذه الصحوة الإسلامية لم تأت صدفة، وإنما جاءت نتيجة دعوات وعمل جاد قدمه إخواننا المسلمون هذا أمر.
الأمر الثاني: سنة الله تعالى في الحياة أن الله تعالى قد تكفل ببقاء هذا الدين إلى يوم القيامة، وبمقدار ما يخاف طائفة من الناس على هذا الدين يطمئنون وهم يشاهدون هذه الصحوة الإسلامية.
ثم أيضاً قد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه لا تزال طائفة من أمته على الحق ظاهرين حتى يأتي أمر الله أو حتى تقوم الساعة.
وعليك يا أخي! وعليَّ وعلى كل واحد منا أن ينضم إلى هذه المجموعة؛ ليحقق هذه الفئة التي أخبر الله عز وجل عنها وأخبر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد أخبر الله تعالى بأن هذا الخير باقٍ إلى يوم القيامة، كما قال عز وجل: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:51]، وقال: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:21]، ومن غلبة الرسل أن يبقى دين محمد صلى الله عليه وسلم الذي هو خاتم الرسل إلى يوم القيامة.
فهذه الصحوة يا إخوان! علينا أن ندعو الله سبحانه وتعالى أن يثبتها، كما أن علينا أن نشجعها؛ لأني أرى أن طائفة من الآباء بدءوا يسخرون من أبنائهم، ويقولون: إنهم موسوسون، فعلوا كذا، وفعلوا كذا! والحقيقة أن هذا الكلام الذي يقوله الآباء خطر؛ لأن الله تعالى يقول: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} [المطففين:29 - 30]، ويقول تعالى وهو يخاطب الكافرين وهم في النار: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون:109 - 111].
ولذلك فإني أدعو الآباء أن يشجعوا هؤلاء الأبناء، وأخشى عليهم أن يقعوا في ردة عن الإسلام حين يقولون: فلان دخل في الدين، وكأن الوساوس التي يخافون منها يسمونها بالدين، أو يعتبرون الدين شيئاً كالجنون يدخل فيه طائفة من الشباب.
وعلى هذا نقول: هذه سنة الله تعالى في الحياة، وهذا الخير يتحدى الله عز وجل به كل قوى الشر المعاصرة في أيامنا الحاضرة، ففي أيامنا التنصير والتبشير والتكفير والعلمنة، وكثير من الأفكار التي جاء بها أناس، وكانوا يخططون بأن فلاناً وفلاناً وفلاناً من الناس إذا انتهوا انتهى دور الدين من هذه الحياة، فإذا بهم يخر عليهم السقف من فوقهم ويأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون.
فتأتي هذه الصحوة الإسلامية في أحلك فترة من فترات التاريخ، وفي أشد ساعة من ساعات الزمن، وفي أيام كان هؤلاء يظنون أنهم كادوا أن يقضوا على الدين، فإذا بهذا الدين يعلن نفسه في كل أرجاء الأرض، ولو سرت إلى أي بلد من بلاد الله لوجدت هذه الصحوة الإسلامية -والحمد لله- تقوم على أشدها.
ومن العجب أن الجامعات العصرية التي تدرس العلوم العصرية صارت تتمتع بهذه الصحوة أكثر من كلية الشريعة وكلية أصول الدين! أسأل الله سبحانه وتعالى أن يثبت الأقدام، وأن يأخذ بالنواصي إلى ما فيه صلاح الأمة، وأن يتوفانا على الإسلام، وأن يوفق القادة والمسئولين عن هذا الدين، كما أسأله أن يوفق رواد الأندية الرياضية والمسئولين عنها والرئاسة العامة إلى أن يقودوا هذا الشباب إلى ما فيه عز الدين والدنيا.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.(22/35)
شرح حديث حذيفة فيما يستقبل من الزمان
إن من سنن الله جل وعلا أن جعل الصراع بين الخير والشر طويلاً وممتداً على مر العصور، وجعل العاقبة للمتقين، فلابد للمسلم من معرفة أسباب النجاة، ومعرفة أسباب الهلاك؛ حتى يعمل بهذه، ويجتنب تلك، ويجب على المسلم أن يحذر الدعاة الذين على أبواب جهنم، من أجابهم قذفوه فيها، فعلى المسلم أن يأخذ بأسباب الثبات على دين الله، وأن يكون على بصيرة من دينه، وصلة بربه، حتى يلقى الله مسلماً مؤمناً صادقاً.(23/1)
ظهور فتنة الدعاة على أبواب جهنم
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، ونصلي ونسلم على عبد الله ورسوله محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فسيكون الكلام حول موضوع خطير؛ لأن له مساساً بواقعنا، وله صلة بما يجري في مجتمعنا اليوم، وهذا الموضوع معجزة، كان حديثاً فأصبح حدثاً! كان حديثاً من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم فأصبح واقعاً ملموساً.
هذا الحديث رواه لنا حذيفة بن اليمان رضي الله عنه فقال: (كان الناس يسألون الرسول عليه الصلاة والسلام عن الخير، وكنت أسأله عن الشر؛ مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله! كنا في جاهلية وشر، فجاء الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم.
قلت: يا رسول الله! وهل بعد هذا الشر من خير؟ قال: نعم، وفيه دخن.
قلت: وما دخنه يا رسول الله؟ قال: قوم يستنون بغير سنتي، ويهتدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر.
فقلت: يا رسول الله! وهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها.
قلت: يا رسول الله! صفهم لنا؟ قال: قوم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا).
كل هذه مقدمة ثم يأتي بيان ما يجب على المسلم تجاه هذه الفتن، قال: (قلت: يا رسول الله! فماذا تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم.
قلت: يا رسول الله! وإن لم يكن يومئذٍ للمسلمين جماعة ولا إمام؟ قال: فاهرب بدينك ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك).
عُرف عن حذيفة أنه دائماً يسأل عما سيحدث من الشر قبل أن يحدث؛ مخافة أن يدركه هذا الشر على غير علم، وفي هذا الحديث بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن ذلك الخير الذي جاء به، وتلك الحياة السعيدة في ظل الإسلام سيعقبها شر، ولقد حدث في تاريخ العالم الإسلامي في أوله شيء من ذلك الشر، مما يدلنا على صحة هذا الحديث، ثم جاء الخير وكان فيه دخن، ثم جاءت هذه الفتنة العمياء التي تمثل المرحلة الرابعة من مراحل هذا الحديث الصحيح، وهي شر يتمثل في: (دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها)، ثم هم أيضاً: (من أبناء جلدتنا، وممن يتكلمون بألسنتنا!!) وفي الواقع أن هذه المرحلة ربما نعيشها اليوم بحذافيرها.
وأما المرحلة الرابعة فقد تحققت برمّتها في واقعنا اليوم، فأصبحنا نعيش هذه المرحلة، والدليل على ذلك أن هؤلاء الدعاة على أبواب جهنم الآن يتسلمون مناصب كبيرة في كثير من نواحي الحياة، ثم هم أيضاً بقدر ما يتيسر لهم من إمكانات يزاولون هذه المهنة وهذه المصيبة التي حدثنا عنها الرسول صلى الله عليه وسلم بأنهم يزاولوها.
فإذا كانوا من ذوي السلطة والمكانة فإنهم يقودون الناس إلى أبواب جهنم بالسلاسل، ويقودونهم بالقوة ليفتنوهم عن دينهم وليصرفوهم عنه، ثم يقودونهم إلى أبواب جهنم ليقذفوهم فيها!! أما إذا كانوا أقل من ذلك فإنهم دعاة الباطل الذين مكنتهم الحياة الراهنة من أن تكون لهم مكانة، ومن أن تكون لهم أفكار وأقلام وألسنة يقودون بها الناس إلى الهاوية وهم كما في الحديث: (دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها)، وما أكثرهم اليوم!! وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من أجابهم إليها)، دليل على أن العاقل لا يلتفت إلى هؤلاء ولا ينخدع بهم؛ لأن علامة النفاق واضحة عليهم وإن كانت ألسنتهم معسولة حلوة، ولقد جاء وصفهم في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} [البقرة:204] بأنه صادق {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة:204]، أي: أخبثهم، {وَإِذَا تَوَلَّى} [البقرة:205]، أي: إذا تمكن واستطاع أن يخدع الناس فاستلم زمام الأمور فإنه سيفسد في الأرض فساداً عريضاً: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} [البقرة:205]؛ لأن الفساد في الأرض يؤدي إلى فساد في الطبيعة، وفساد في مخلوقات الله تعالى، وفساد في الاقتصاد، وفساد في المال والثمرات والأنفس، وفي كل شيء كما قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا} [الروم:41].
وعلى أيدي هؤلاء المفسدين يحدث كل ما يحدث من شر وفتنة، لكن الله يقول: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30]، وهؤلاء يقول الله تعالى عنهم: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} [البقرة:205] أي: أنه حينما ينشر الفساد يتسبب في وقوع العقوبة من الله فيهلك الحرث والنسل، وهذا نتيجة معصيته وإجرامه، {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205].
وهؤلاء لهم عزة وأنفة في غير وجهها الصحيح كما قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ} [البقرة:206]، وهؤلاء لا يذيب قسوة قلوبهم إلا نار جهنم، يقول الله تعالى: {فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة:206].(23/2)
لزوم جماعة المسلمين خير وسيلة للوقاية من شر هؤلاء الدعاة
السبيل للخلاص من هذا الغزو بينه الرسول صلى الله عليه وسلم في آخر هذا الحديث، فقال: (الزم جماعة المسلمين وإمامهم)، فإذا كان للمسلمين إمام ولهم جماعة فما عليك إلا أن تنضم إلى هذه المجموعة لتصبح عضواً في هذا الجسم السليم الذي نبذ كل هذه الأوبئة وهذه الأمراض.
وقوله: (الزم جماعة المسلمين) دليل على أن الدعوة الفردية لا تحل مشكلة، ولا تقضي حاجة؛ إذ إن أي فرد من المسلمين يريد أن يتخلص من هذا الغزو الذي يحمل أعباءه دعاة من أبناء جلدتنا، فلا بد أن ينضم إلى مجموعة خيرة صالحة يتعاون معهم؛ ليحمي نفسه من هذا الغزو؛ وليتخذ لنفسه حصانة؛ لأن الذئب إنما يأكل من الغنم القاصية، ومن الناحية الأخرى: ليشكل قوة تحمي الإسلام، وتحمي أبناء المسلمين، وتقوم بالدعوة إلى الله تعالى، والإصلاح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ من أجل أن تحتمي الأمة الإسلامية من أعدائها؛ ولذلك فإن العمل الجماعي في سبيل الدفاع عن الإسلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله هو السبيل التي أرشدنا إليه الرسول صلى الله عليه وسلم حينما قال: (الزم جماعة المسلمين وإمامهم).
أما لو فُقدت هذه الجماعة، وأصبح الشر مستطيلاً في الأرض، وأصبح الأمر بحيث لا يجد المرء فيه ملجئاً وملاذاً في مجتمع إسلامي يعبد الله، ويقيم تعاليم هذا الدين، ويحميه من أعدائه، ولم يكن للمسلمين حينئذٍ إمام؛ فما على المسلم إلا أن يلجأ إلى أصل شجرة فيعض عليها، أي: يلتزم مكاناً نائياً عن هذه المجتمعات الفاسدة، وعن هذه البيئة المتلوثة؛ من أجل أن يفر بدينه، وفي الحديث: (يوشك أن يكون خير مال المسلم غنماً يتتبع بها شعف الجبال؛ يفر بدينه من الفتن).
وهذه العزلة لا يلجأ إليها المسلم إلا في حال الضرورة إذا لم يكن للمسلمين جماعة ولا إمام، أما إذا كان لهم جماعة وإمام فإن هذا يعتبر هو العجز والكسل، وهو الجبن والخور، حينما يفر بدينه ويترك الميدان، ويترك الحياة يعبث بها الجرذان، وهو قد عض على أصل شجرة، مع أنه يستطيع أن يغير أو يبدل أو يأمر وينهى.
إن المسلمين الآن -والحمد لله- لهم جماعة وإمام، فكل واحد من المسلمين مطالب أن ينضم إلى هذه المجموعة؛ من أجل أن يشكل جماعة تدافع عن هذا الدين، وليس معنى ذلك أن تخرج على السلطة! ولكن لتكون قاعدة للإسلام وبيئة إسلامية سليمة يأوي إليها من يريد الفرار بدينه.
أما أن نفر بديننا ونترك هذه المجموعة تعمل وحدها في ميدان الدعوة والإصلاح، ونريد أن نفضل الراحة أو أن نعكف على العبادة فإن ذلك لا يجوز.
ولقد فهم طائفة من الناس في الزمن الأول في عهد أبي بكر رضي الله عنه هذا الفهم، ففضلوا أن يعيشوا بعيداً عن مشاكل الناس، ويتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتأولوا قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُم} [المائدة:105]، فسارع أبو بكر الصديق رضي الله عنه فصعد المنبر وقال: أيها الناس! إنكم تقرءون هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُم)، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيرونه يوشك الله أن يعمهم بعقابه).
وعلى هذا فليس معنى الآية: الزموا أنفسكم، وأصلحوا أنفسكم فحسب، ولا يضركم من ضل إذا اهتديتم بأن تعكفوا على العبادة.
ولكن معنى ذلك: إذا اهتديتم فأمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر، وأديتم الفرائض كالجهاد في سبيل الله، ثم لم يستجب لكم الناس، فحينئذ لا يضركم من ضل إذا اهتديتم، أما أن نتذرع بهذه الآية أو بغيرها لنعطل هذا الجانب المهم، فإن ذلك ما لا يرضاه الله سبحانه وتعالى.
أيها الإخوان! إن علينا أن نتفهم هذا الحديث، وأن ننظر إلى واقعنا لنرى هذا الحديث وأمثاله من الأحاديث الصحيحة التي تعتبر معجزات لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقعت عياناً، ثم علينا أن نسلك الطريق التي أرشدنا إليها الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لنلزم جماعة المسلمين وإمامهم، وحينئذ فلن تضرنا هذه الفتن، ولن يضرنا أولئك الدعاة وإن كان لهم نصيب من البلاغة والفصاحة، وإن كانوا يتسلمون كثيراً من المراكز العالية فإن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، ولكن المنافقين لا يعلمون.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(23/3)
هؤلاء الدعاة هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا
أيها الإخوان! وحينما نتأمل في أولئك القوم الذين وصفهم لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم نرى أن تلك المواصفات كلها قد انطبقت في هؤلاء، فهم قوم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، ولم يأتوا من الشرق أو من الغرب، وأعداء الإسلام قد مهدوا لهم السبيل، وسلموهم مقاليد الأمور، فأصبحوا يخدمونهم بكل طلاقة وبكل حرية، ويؤدون الدور الذي تعلموه على أيدي الكفار حينما عاشوا بينهم وتربوا على أيديهم، أو حينما أخذوهم إلى بلد هناك ليعيشوا بينهم، وليفرض عليهم نوع من الحياة؛ ليعودوا فيخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي الكافرين، وكما قال الشاعر طرفة في معلقته: وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند وحينما كان الإسلام يحاربه أعداؤه من الكفرة، فإن ذلك أمر واضح يدركه الناس عياناً، فيقيمون الحصون بينهم وبين أعدائهم، ولكن الأمر أخطر حينما يكاد للإسلام من أهله، ويحاول، أن تقطع شجرته بغصن من أغصانه، فيحاربوه بأحمد ومحمد وعبد الله من المحسوبين على الإسلام، فأصبح الأمر من الخطورة بمكان؛ لأنهم قوم من أبناء جلدتنا، فهم ينتسبون إلى العرب وينتسبون إلى الإسلام سواءً كان في الهوية أو في الاسم أو في الأصل والأمجاد، ولكن الإسلام منهم براء؛ لأنهم قد أعلنوا الحرب على الله وعلى دينه، فهم بالرغم من أنهم من أبناء جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، لكنهم (دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها).
أما كيف نستطيع أن نضع الوسام على هؤلاء لنكشفهم أمام الناس، فإن ذلك لا يحتاج إلى أمر عظيم، فما عليك إلا أن تطالع كثيراً من صحف العالم الإسلامي التي تصدر في البلاد الإسلامية، أو كثيراً من مؤلفاتهم ومجلاتهم، أو كثيراً من إعلامهم؛ وستجد أن هؤلاء الدعاة الذين هم من أبناء جلدتنا، وممن يتكلمون بألسنتنا، يبرزون أمام الناس عياناً فلا يحتاجون إلى وصف يوضحهم أكثر من ذلك الوصف، نعرفهم بسيماهم، ونعرفهم في لحن القول، ونعرفهم بنطقهم، ولربما نعرفهم بكفرهم وإلحادهم حينما يتسنى لهم في بعض الأحيان أو في بعض الأماكن، فقد يعلنوا كفرهم وإلحادهم، أو خروجهم على المبادئ الإسلامية، وعلى القيم الحسنة والأخلاق والفضائل، وكل ذلك لا يحتاج إلى دليل، فهو واقع مشاهد.
أيها الإخوان! إننا نقرأ كثيراً من صحف العالم الإسلامي مما يكثر انتشاره حتى في بلادنا هذه، فنشم رائحة هؤلاء، ونراهم بأمهات أعيننا في وضح النهار، وهم من أبناء جلدتنا، وممن يتكلمون بألسنتنا، ولكنهم: (دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها).
فمرة يحاربون الحجاب، ويدعون أن الإسلام لم يفرض هذا الحجاب، وإنما هو من مخلفات القرون الوسطى!! ومرة يقولون: إن هذا التستر وهذا الحجاب تقوقع!! ومرة يقولون: إنه رجعية وتخلف!! ومرة يصفون الحدود والأحكام الشرعية بأنها وحشية وقسوة!! وهكذا لا يدعون جانباً من جوانب هذا الدين إلا ويصيبوه بسهم من سهامهم، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21]، {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف:8 - 9].
وذلك يعني أن المسلمين كلهم محاربون بهذا الغزو، ولقد أصيب بهذا الداء كثير من أبناء المسلمين من ضعاف العقول، إما ممن لم نربهم التربية الصحيحة المكتملة، أو ممن سلمناهم لهؤلاء يوجهونهم كيف يريدون، فأصبح طائفة من هؤلاء يزمرون ويصفقون وراء هؤلاء القوم، وأصبحت الفتنة قد أصابتهم بشيء من ذلك.
والحديث عن هذا الموضوع واضح؛ لأنه واقع نشاهده ونقرؤه ونعايشه، فكم نرى ونقرأ في صحف تصدر في قلب البلاد الإسلامية وهي تحمل هذه المبادئ الخطيرة، وتحمل هذا السم الزعاف؟ كم نسمع ونقرأ ونشاهد ومع ذلك فإن المسلمين لم يتحرك منهم إلا النزر القليل!(23/4)
الأسئلة(23/5)
حكم البعثات إلى بلاد الكفر لدراسة اللغات
السؤال
فضيلة الشيخ! ما رأيكم حول الرحلات والبعثات التي تقوم بها بعض المؤسسات التجارية لدراسة اللغات، سواء في أمريكا أو في بريطانيا، سواء كان بإمكان الشخص أن يقوم بأداء العبادة هناك على وجهها الصحيح أم لا، وشكراً؟
الجواب
الصحيح أن هذه الدورات سواء كان يقوم بها التجار أو تقوم بها الدولة من إرسال الطلبة والبعثات في الحقيقة أننا في غنى عنها، ونستطيع أن نعمل دورات في بلادنا، ونأتي بالمعلمين ليعلمونا اللغة أو أي مادة، والمال هو الذي يحقق كل شيء في هذه الأيام، وماذا علينا لو اكتفينا بكل شيء في بلادنا، ولم نحتج إلى إرسال بعثات إلى بلاد الكفر، فإن ذلك من أكبر الأسباب التي شكلت الخطورة في وقتنا الحالي.
أما الذين يعيشون في تلك البلاد، فإن كانوا يستطيعون أن يقيموا شعائر الدين فنحن لا نقول شيئاً إلا أنهم على خطر في دينهم، أما إذا لم يستطيعوا ذلك فإن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (أنا بريء من كل مسلم يقيم بين المشركين) وفسرها العلماء: بأنه الذي لم يستطع أن يقيم شعائر دينه.
وعموماً: البعثات الخارجية من أخطر ما أصيبت به بلادنا التي تمتاز عن جميع أرض الله كلها بأنها لم تدنسها أقدام الاستعمار، والآن بدأت تتأثر على أيدي هؤلاء الذين ذهبوا يدرسون هناك، ليعودوا إلى هذه البلاد وقد تغيرت أفكارهم، وقد حملوا شيئاً من السم الذي ذاقوا طعمه هناك في تلك البلاد، ونسأل الله أن يوفق المسئولين حتى يحولوا بين شبابنا وبين هذه البعثات، وهو المستعان.(23/6)
حكم استقدام الخدم والسائقين
السؤال
ما حكم استعمال الأسر لكثير من الأجانب، وخاصة غير المسلمين في حياتهم الخاصة كالخدم والسائقين، لا سيما ونحن نعيش في هذه الأيام بجانب هذه الأسر؟
الجواب
الحقيقة أن هذا يشكل حلقة من سلسلة هدم الأخلاق والفضيلة، والله تعالى يقول: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]، ويقول: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء:27]، وهذا مخطط طويل عريض، وإذا لم نذهب إلى هناك فإن أولئك سيأتون إلينا ليعيشوا معنا في قعر بيوتنا، ونأتي بالخادمة من البلاد الكافرة أو حتى من البلاد المسلمة لنخلطها بأبنائنا؛ ويحدث الاختلاط داخل قعر البيوت إذا لم يتحقق الاختلاط في المدارس والجامعات؛ لأن بلدنا هذه -والحمد لله- لم تسمح بأن يكون هناك اختلاط، لكن هذا الاختلاط سيتحقق داخل البيوت؛ لتكون خطوة أولى فيصبح بعد ذلك من السهل أن نخلط هؤلاء بهؤلاء في المدارس وفي كل مكان آخر.
فهذا الاختلاط يشكل خطورة عظيمة، وفي اعتقادي أن من أخطر ما أصبنا به في هذا البلد هو هذا الترف المادي الذي يعتبره كثير من الناس هو كل شيء!! ولكنه قد فتح علينا أبواب خطيرة لعل من أبرزها: أن ذهب بنا هذا الترف وهذا البذل وحب الاستعلاء إلى أن نأتي بهؤلاء الخادمات وهؤلاء المربيات لتفسد البيوت وتفسد الأخلاق، ثم نأتي بهؤلاء الذين يقودون السيارات لنسلم لهم أغلى ما نملك: أخلاقنا وفضائلنا وبناتنا ونساءنا؛ وحينئذٍ ننتظر -لو دام الأمر على هذا الوضع- فتنة أخطر من الفتنة التي نعيشها اليوم والعياذ بالله!(23/7)
معنى المستشرقين
السؤال
من هم المستشرقون معنى وتفصيلاً؟
الجواب
الحقيقة أني لم أطلع على شيء حول هؤلاء، ولكن المعروف أنهم أناس جاءوا من بلاد الغرب إلى بلاد الشرق الإسلامية، وعاشوا مع المسلمين، ودرسوا الإسلام دراسة شبه كاملة، وبدءوا ينقدون الإسلام، ويطعنون فيه من حيث عرفوه، ولربما يكون بعضهم أعرف بالإسلام من أبناء المسلمين، فطعنوا في الإسلام من هذه الناحية، وشككوا أبناء المسلمين في دينهم، وبعضهم قد اعتنق الإسلام حينما اقتنع وتجرد من أهوائه وشهواته، وعرف أن الإسلام هو دين الحق، أما أكثرهم فهم الذين خططوا لهدم الإسلام، وذلك بعد دراسة عن كثب، وبعد مدة عاشوها طويلاً في البلاد الإسلامية؛ عرفوا فيها الإسلام، وعرفوا كيف يغزى الإسلام، فكان من نتائج هؤلاء المستشرقين هذه المخططات التي غزي بها العالم الإسلامي.(23/8)
الشخصية الازدواجية
السؤال
ما رأيك في الإنسان ازدواجي الشخصية؟ وما تعليقك على هذه الخاصية القديمة؟
الجواب
الازدواجية كلمة مصرية، وكانت تسمى في القديم: النفاق، والنفاق أصبحت له الآن مسميات كثيرة، فمرة يسمى (ازدواجية)، ومرة يسمى (مجاملة)، وما أشبه ذلك.
وهذا النفاق أو هذه الازدواجية إذا كانت في الاعتقاد فإن الله يقول: {إن المنافقين فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ} [النساء:145]، أما إذا كانت ازدواجية ونفاقاً في العمل فإنها معصية، وعلى الإنسان أن يبتعد عنها، وعليه أن يكون صريحاً، قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} [البقرة:204]، وفي اعتقادي أن هذه الازدواجية التي تعيش معنا اليوم ونعيش معها أخطر شيء، فهناك ازدواجية في كل شيء، حتى وسائل الإعلام التي نشاهدها ونقرؤها ونراها بأعيننا تمثل هذه الازدواجية، فلا يكاد قارئ ينتهي من قراءة آيات من كتاب الله حتى تأتي أغنية! ولا تكاد تنتهي هذه الأغنية حتى يأتي حديث! وهكذا، فأصبحت هذه الازدواجية تمثل وتشكل عقداً في نفوس الأطفال والشباب، ولربما يأتي ذلك اليوم الذي لا يستطيع فيه هذا الشاب أو هذا الطفل الذي ألِفَ هذه المناظر والمظاهر أن يفرق بين الخير والشر، ثم يصبح الخير كله شراً أو الشر كله خيراً في ذهنه.(23/9)
حكم شراء المجلات الفاسدة
السؤال
حبذا لو تنصح الشباب بقراءة الكتب بدلاً من هذه المجلات الفاسدة، وأن ثمنها يحاسب الإنسان عليه؛ لأنه دفعه في غير ما يرضي الله.
الجواب
ليس هناك شيء أعظم من كتاب الله عز وجل، وأنا أدعو نفسي وأدعو الشباب إلى أن نجعل في كل يوم شيئاً من كتاب الله نقرؤه، ونلزم أنفسنا به، ويا حبذا لو كنا نحفظ ذلك حفظاً، ثم أيضاً هناك مجلات وكتب إسلامية كثيرة تملأ البلاد، وتغص بها المكتبات والحمد لله، وأي واحد منا يستطيع أن يختار أحسن هذه الكتب، وعليه أن يتخير من أنواع هذه الكتب، فهناك الكتب العلمية، وهناك الكتب الثقافية، وما أشبه ذلك، وهناك مجلات تعتني بالتربية الإسلامية، فيا حبذا لو كان الشباب يقتنونها ويكثرون من قراءتها.(23/10)
الغرض من تكرار قصص الأنبياء في القرآن
السؤال
رأيت قصة موسى عليه السلام مكررة في كثير من المواضع في القرآن الكريم، الأمر الذي يثير تساؤلاً عند كثير من الناس، بل كان ذلك من المطاعن التي يطعن بها أعداء الإسلام، فما هي الحكمة من ذلك التكرار، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
الحقيقة أن أعداء الإسلام لو أردنا أن نرضيهم أو أن نسعى لدحض شبهاتهم فلن نستطيع؛ لأن الله يقول: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْه} [آل عمران:7]، وهؤلاء لسنا مسئولين عن إرضائهم، ولكننا مسئولون عن أن نوضح لهم الحق إن أرادوا الحق.
أما تكرار القصص في القرآن: فالحقيقة أن هذا يعطي القرآن الروعة الصحيحة، فقصة موسى هي أكثر قصة تكررت في كتاب الله، ومع ذلك لا يستطيع أحد أن يأتي بقصتين من قصص القرآن تحدثت عن قصة موسى عليه السلام وإحداهما تشبه الأخرى؛ فإن كل واحدة تأتي بأسلوب جديد غير ما أتت به القصة الأخرى.
وعلى هذا: فإن قصة موسى أو أي قصة جاءت في القرآن الكريم لها أهداف، وهذه الأهداف كما قال الله تعالى: {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} [الفرقان:32]، والرسول صلى الله عليه وسلم -وهو يعيش في المحنة الهوجاء التي كان يقاسيها ويعانيها من ذوي قرباه ومن أهل بلده- لا بد أن يُسلى لتخفف المحنة عنه؛ فيخبره الله تعالى بما حدث للمرسلين من قبله، وما فعلت الأمم برسلهم؛ حتى يكون الرسول صلى الله عليه وسلم مطمئن القلب؛ ليعرف أنه ليس وحده هو الذي سار في هذا الطريق الشائك.
وأكثر القرآن من قصة موسى عليه السلام دون غيره من الأنبياء؛ لأن قوم موسى هم أقرب الأمم إلى الأمة الإسلامية، فاليهود آخر أمة بعث فيها رسول، ولربما يقول قائل: إن النصارى جاءوا بعدهم! فنقول: النصارى فرع من اليهود، فاليهود الذين بعث فيهم موسى عليه السلام لما طال عليهم الأمد، بُعث فيهم عيسى عليه السلام، فانتصر النصارى على اليهود وآمنوا بعيسى.
والقرآن كله جاء من أجل تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم، وإخباره بما فعلت الأمم السابقة بأنبيائها، {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام:115]، وهذه القصص كلها تحتوي على الصدق الكامل؛ لأنها من كلام الله عز وجل.(23/11)
حكم من لم يستطع إخراج التلفاز من البيت
السؤال
ما هو الواجب عليّ إذا لم أستطع إخراج التلفاز أو الدش؟
الجواب
إذا كان هناك هذا الشيء وتستطيع أن تحاربه فعليك أن تحاربه، ولكن حينما لا تستطيع أن تبعده عن بيتك فإن الله يقول: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام:68]، فعليك أن تجتنب المكان الذي وجد فيه هذا الشيء وتستعين الله على ذلك.(23/12)
حكم مشاهدة التلفاز
السؤال
ما حكم جهاز التلفزيون، وما هو الواجب علينا إذا كان في البيت تلفزيون ولم أستطع إخراجه من البيت؟
الجواب
الحقيقة أن التلفزيون لو كان قبل هذا الزمن الذي نعيشه لما استطعنا أن نقول عنه أي شيء؛ لأنه آله، أما وقد استخدم اليوم وسيلة لهدم الأخلاق فلا أحد يشك أن أمره خطير، وأن على أي مسلم أن يحاربه بقدر ما أوتي من قوة؛ فهو الذي يفرض الاختلاط، ويعلم الناس الاختلاط، حتى المسرحيات الإسلامية التي نشاهدها أصبحنا نتعلم فيها أن سلفنا الصالح كان يختلط رجالهم بنسائهم! هذا هو ما تحمله تلك المسرحيات التي يسمونها بالمسرحيات الإسلامية! أضف إلى ذلك المسلسلات الفاسدة التي علّمت الناس الفساد والخلاعة، أضف إلى ذلك الأغاني وغيرها، فكل هذه أمور خطيرة تفرض علينا أن نحاربه بقدر ما أوتينا من قوة.(23/13)
حكم التفسير بالإعجاز العلمي والتفسير بالكمبيوتر
السؤال
ما حكم التفسير بطريقة الإعجاز العلمي للقرآن، مثال ذلك: الحكم على نظريات جديدة بإشارة آيات من القرآن لها، ثم تأتي نظرية أخرى فيشار لها بنفس الآية؟ وما حكم استعمال الكمبيوتر في تفسير آيات الكتاب العزيز؟
الجواب
بالنسبة للسؤال الأول: فالحقيقة أن هذا وضع خطير لجأ إليه طائفة من المفسرين العقليين وباعتقادي أن مصطفى محمود من هذا النوع، والحقيقة أن هذا إقحام للقرآن الكريم في أشياء لا تهمنا ولا تهم المجتمع، وهل جميع النظريات العلمية التي يقولها العلماء نحن مسئولون بأن نؤيدها بالقرآن؟! إن هذا باب خطير لربما نؤيد هذه القضية العلمية، ثم يأتي العلم -وهو غير ثابت على حقيقة واحدة- لينقض هذه النظرية في يوم من الأيام، وحينئذٍ نكون قد عرّضنا كتاب الله لأن يصبح ألعوبة، ويكذب به المكذبون.
القرآن فوق مستوى هذه النظريات العلمية، القرآن جاء لتربية المرء المسلم، وما علينا إلا أن نسكت عن هذه النظريات، فإذا تعارضت مع القرآن الكريم تعارضاً واحداً فإن علينا أن نضرب بها عرض الحائط، أما إذا لم يظهر لنا التعارض بينها وبين القرآن الكريم فإن علينا أن نرجئها حتى تتعارض وحينئذ فإن علينا أن نرفضها.
أما أن نفسر هذه النظريات العلمية بآيات من كتاب الله عز وجل، فإن كتاب الله فوق هذا المستوى، وكأن الذين يريدون أن يعملوا هذا العمل كما يقول سيد قطب رحمه الله: يريدون أن يلتقوا مع الجاهلية في منتصف الطريق، يقولون: ندنوا قريباً إليكم، وتدنون منا قريباً، وحينئذ نلتقي معهم في منتصف الطريق.
ولربما يؤدي بنا هذا إلى أن نتنازل عن شيء من ديننا، أو أن نفسر كتاب الله على غير حقيقته!! وضربت لكم مثلاً بـ مصطفى محمود، وأنا لست من الراضين عنه، فأنا أخالف هؤلاء الذين يقولون: إن مصطفى محمود قد رجع عن إلحاده، ولكني أقول: إنه قد لجأ إلى نوع من الإلحاد، وضرب الإسلام بطريقة أخرى غير الطريقة التي كان يسلكها قبل ذلك.
أما بالنسبة إلى تفسير القرآن بالكمبيوتر: فنحن لسنا بحاجة إليه، والعلماء الأولون قد خدموا كتاب الله عز وجل خدمة كافية، وما علينا إلا أن نقرأ ما كتبوه، وحينئذٍ سنجد فيه ما يكفي ويشفي، وإذا كان هناك أشياء فسرها لنا العلم الحديث ولم يفسرها لنا العلماء القدامى الذين لم يدركوا هذا التطور الصناعي الجديد، ولكن العلم الحديث قد فسر لنا هذه الآية تفسيراً جديداً، ولكنه لا يخرج بالقرآن عن إطاره؛ فإننا نقبل ذلك.
وعلى سبيل المثال: قول الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} [الحديد:25]، في بعض الكتب القديمة أنه قد أنزلت المطرقة والمنشار وما أشبه ذلك من السماء، ولكن بعد أن رأينا هذه العجائب من هذا العلم الحديث عرفنا معنى قول الله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ)، وليس معنى ذلك أن القرآن أصبح خاضعاً لهذه النظريات العلمية، ولكن هذه النظريات أصبحت مفسرة للقرآن لا مؤيدة له.(23/14)
دخول الجامعات الخاضعة للنظم الغربية
السؤال
سماحة الشيخ! ما رأيكم في دخول الكليات التي تخضع للنظم الغربية أو الأمريكية؟
الجواب
يقول الله تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود:113]، وإذا كانت هذه الكليات أو هذه الجامعات التي تخضع للأنظمة الكافرة تسعى لهدف خبيث؛ من أجل اقتناص أبناء المسلمين، وصرفهم عن دينهم، فإنه لا يجوز الدراسة فيها؛ لأنه لا يجوز للإنسان أن يركن إلى هؤلاء الكافرين.
أما إذا كان هذا الإنسان يأتي إليها لهدف الإصلاح وهو مطمئن على نفسه بأنه لن يتأثر، فإن هذا نوع من المخاطرة -ولربما تكون هذه المخاطرة فيها شيء من الفائدة لكنها ربما تضر هذا الإنسان- وما دام في المجتمعات الإسلامية -والحمد لله- كليات ومعاهد ومدارس بعيدة كل البعد عن مخططات الكافرين فإن علينا أن نفضلها على غيرها.(23/15)
أهمية التربية الصحيحة للأبناء
السؤال
هناك إهمال شديد من قبل الآباء والأمهات نحو أبنائهم، وإهمال للتربية الصحيحة، وكأن الغيرة قد ماتت، فما توجيهكم؟
الجواب
ينبغي ألا نقول: ماتت الغيرة؛ فالعالم الإسلامي فيه خير كثير، وهناك أمهات وآباء فيهم صلاح، وما زالوا يربون أولادهم تربية إسلامية، وإن ما يحدث اليوم من هذا الضعف سببه: إما انشغال كثير من الآباء بالمادة، أو وجود كثير من المغريات التي كان لها الأثر الخطير في سبيل انحراف هؤلاء الشباب، وواجب هؤلاء الآباء وهؤلاء الأمهات أن يخافوا الله تعالى، وأن يحاسبوا أنفسهم، وأن يعلموا أنها أمانة، وأنهم مسئولون عن هذه الأمانة يوم يقفون بين يدي الله سبحانه وتعالى ليحاسبهم وليحاكمهم، يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27]، فإن على هؤلاء الآباء والأمهات واجب عظيم في سبيل التربية، ولكن التربية لها وقتها المناسب، لا تتقدم ولا تتأخر عليه، والسن السابعة هي التي أرشدنا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أنها بداية السن التي يمكن أن يبدأ الآباء والأمهات فيها بتربية أبنائهم.(23/16)
مواجهة دعاة الشر
السؤال
كيف يقابل المسلم دعاة الشر؟ هل بالرد عليهم أو فضحهم أمام الناس أو تركهم ومخالفتهم؟
الجواب
تختلف المناسبة التي يستطيع أن يرد فيها المسلم على دعاة الباطل والشر الذين هم من أبناء جلدتنا، وهم ممن يندسون في مجتمعاتنا، ويعيشون بين ظهرانينا، فعلى المسلم أن يجند كل القوى والطاقات في سبيل الدفاع عن دينه، وفي سبيل دحض حجج هؤلاء المبطلين، وإزالة ما يقذفونه في المجتمع من شبهات ومن شهوات.
فالمسلم عليه أن يستغل كل ما يمكنه استغلاله من الوسائل، فيرد على هؤلاء، ويؤلف، ويتكلم، ويخطب، ويفعل كل ما في وسعه، وكل ما في طاقته في سبيل توجيه الناس، وفي سبيل إبطال شبه هؤلاء الأعداء، وحينئذ يكون قد أدى الدور الذي أنيط به حينما كان على ثغر من ثغور الإسلام.(23/17)
مفهوم المسلم الحق
السؤال
أريد تحديد مفهوم الشاب المسلم حقاً؟
الجواب
المسلم الحق هو: الذي يقيم تعاليم الإسلام المسلم الحق هو الذي يعرف أنه لا أحد في هذا الكون يستحق أن يُعبد أو يُخاف أو يُخضع له أو يُستغاث به أو يُستعان به إلا الله سبحانه وتعالى المسلم الحق هو: الذي يطبق كل تعاليم الإسلام من أوامر وأركان وواجبات حسب استطاعته بصدق، وهو الذي يجتنب المحرمات التي ما من ذنب يرتكب منها إلا ويعود على هذا المرء وعلى مجتمعه بالفساد والمصيبة والدمار.
الحق هو: الذي يحب لأخيه ما يحب لنفسه يشعر باللوعة والألم وهو يرى العالم الإسلامي ويرى أمته قد انتشرت فيها المنكرات والمعاصي والموبقات، وهو يستطيع أن يغير فلم يغير، إذا كان يشعر بهذا الشعور، ويحاول التغيير، فإنه حينئذ يكون مسلماً حقاً.(23/18)
أهمية استغلال الشباب والفراغ والمال فيما ينفع
السؤال
إن الشباب والفراغ والجدة مفسدة للمرء أي مفسدة فكيف يستطيع الشاب المسلم -وخاصة في العطلة الصيفية- أن يقضي فراغه؟
الجواب
هذه الجوانب الثلاث التي قالها الشاعر: بشار بن برد صحيحة، وهي أخطر شيء على الإنسان: الشباب والفتوة والقوة، والفراغ حينما لا يكون هناك شغل، وتوفر المال دون أن تكون هناك عقلية تستطيع أن توجه هذا المال وجهة صحيحة، هذا أخطر شيء على الإنسان؛ لذلك يقول: مفسدة للمرء أي مفسدة، أي: مفسدة عظيمة، ولكن المرء العاقل يستغل هذه الجوانب الثلاث في أشياء إيجابية تعود عليه وعلى مجتمعه بالنفع العظيم.
فالشباب قوة هائلة لو استغلها الشاب لاستطاع أن يستفيد منها في الدنيا والآخرة، ولاستفادت أمته أيضاً منها، ولكنه حينما يستغل هذه الطاقة وهذه القوة والفتوة في معصية الله فإنها تمكنه مما يريد من هذه المعصية ومن هذا الإثم.
كذلك الفراغ، والفراغ يُحسد عليه المرء، وعلى الإنسان أن يستغل هذا الفراغ فيما يعود عليه بالنفع: بالقراءة، وبمجالسة الصالحين، وبالاجتماع على الخير، أو بالحضور إلى هذه المراكز الصيفية التي أسست من أجل أن تستغل هذا الفراغ، لا من أجل أن تقضي على هذا الفراغ، وإنما من أجل أن تستغله في المصلحة؛ لأنه لا يهمنا أن نقضي الفراغ، وإنما يهمنا أن نستغله في المصلحة.
وهكذا المال أيضاً: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته بالحق).
وعلى هذا: فإن المال والفراغ والشباب كلها أسلحة ذو حدين، فإما أن يستغلها المرء فيما ينفعه، وإما أن يوجهها فيما يضره، وهي إلى الضرر أقرب إذا لم تجد عقلية تفكر وتستطيع استغلالها فيما ينفع.(23/19)
حقيقة التخلف والرجعية
السؤال
يعتقد الكثير من الناس -وخاصة الشباب- أن الالتزام بالإسلام معناه الرجوع والتخلف، فكيف نرد على ذلك؟
الجواب
الصحيح أن ترك الإسلام هو الرجوع وهو التخلف، والله يقول: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} [المدثر:37]، ومما لا شك فيه أن المراد بالتقدم هو: الأخذ بالإسلام، والتأخر: هو رفض الإسلام، أو رفض شيء من تعاليمه.
والدليل على أن التخلف هو رفض الإسلام أن الأمة الإسلامية حينما كانت متمسكة بدينها وعقيدتها وأخلاقها وسلوكها وفضائلها، كانت أمة مثالية، وكانت تنهار أمام جيوشها الحصون قبل أن تصل إليها!! ولو قدر لها أن تتمسك بدينها مدة أطول، لاستطاعت أن تغزو العالم كله، وأن ينتشر الإسلام في جميع أرض الله الواسعة، وإن كل ما حدث من التخلف إنما هو بسبب ترك الكثير من المسلمين لتعاليم دينهم.
وعلى هذا فإننا نقول: إنكم أنتم المتخلفون ونحن المتقدمون؛ لأننا نسعى إلى حياة أفضل من هذه الحياة، وأنا لا أشك أن عقلية الرجل الذي يؤمن بالحياة الآخرة أكبر من عقلية الرجل الذي اخترع المركبة الفضائية وما يسمى بالعقل الالكتروني وما أشبه ذلك؛ لأن هذا قد اكتسب أشياء يراها بحواسه، أما ذلك الذي آمن بالغيب فإن عقليته قد اخترقت الحجب فعلمت بأشياء لم تدركها حواسه، فهؤلاء هم المتقدمون، وأولئك هم المتخلفون.(23/20)
الفرق بين الغرور والثقة بالنفس
السؤال
ما الفرق بين الغرور والثقة بالنفس؟
الجواب
الثقة بالنفس هو الاطمئنان إليها، وإعطاؤها ما تستحق من قيمة، لكن حينما تتعدى الحدود من هذه الناحية فإنها تصل إلى الغرور، والرسول صلى الله عليه وسلم مدح الثقة بالنفس، ونهى عن الغرور، فقال لما سئل عن الإيمان: (إذا سرتك حسنتك، وساءتك خطيئتك، فهذه علامة الإيمان)، لكن السرور بالحسنة لا يصل إلى درجة اغترارها بالحسنة والامتنان بها على الله، فإن ذلك هو الغرور.(23/21)
خطر فتنة النساء والتبرج والاختلاط
السؤال
سماحة الشيخ! ما رأيك في المظاهر الماجنة التي تحدث في الأسواق ولا سيما في سوق الجمعة، حيث تخرج النساء بكثرة ويختلطن بالرجال، والله المستعان؟
الجواب
علينا أن نعلم أن أعداء الإسلام غزونا من ناحيتين: الشهوات، والشبهات.
فإن لم ينجحوا في الشبهات فإنهم يغزوننا بالشهوات، والشبهات قد لا تجد رواجاً مثل الشهوات؛ لأن الشهوات تميل إليها النفوس، أما والناس على بصيرة من دينهم فإنهم لا يعترفون بهذه الشبهات التي تطلق في مجتمعاتهم الإسلامية؛ لأنهم على ثقة من دينهم، لكن غزو الشهوات هو أخطر شيء أصيب به المجتمع الإسلامي اليوم؛ لأن الإنسان -بطبيعته البشرية- لديه ميل إليها.
ولقد استخدم أعداء الإسلام المرأة وسيلة لانحراف المجتمعات الإسلامية، وهذا مخطط رهيب من قِبَل أعداء الإسلام؛ من أجل أن يفسدوا على هذه الأمة دينها، ويقذفوا بهذا الشباب في هاوية سحيقة، فاستخدموا المرأة في كثير من الأماكن والأعمال المختلفة كالسكرتارية وغيرها من الوظائف، وخلطوا بين الشباب والشابات في كثير من المدارس والجامعات في البلاد الإسلامية، وحتى في الخدمات الجوية استخدموا المرأة أيضاً! وكل ذلك من أجل أن يفسدوا المجتمعات الإسلامية.
وإن ما يحدث في مجتمعاتنا من اختلاط في الأسواق، أو من تبرج، لهو نتيجة تلك المخططات، سواء ما تنشره الصحف أو ما تنشره وسائل الإعلام المرئية، وكل ذلك له آثاره السيئة، فكان ذلك سبباً في هذا الاختلاط في الأسواق، أو في هذا التبرج الذي نهى الله عز وجل عنه، ولا سبيل إلى الخلاص من ذلك إلا بأن يعود المسلمون إلى دينهم، وأن ينشط دعاة الإسلام، وأن يوفق الله المسئولين عن أخلاق هذا البلد فيحولوا بين المسلمين وبين هذا الفساد، (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ} [الروم:4 - 5]، {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [إبراهيم:20].(23/22)
حكم قطع النافلة بعد الشروع فيها
السؤال
فضيلة الشيخ! إذا صام الإنسان تطوعاً ثم أفطر خلال هذا اليوم عمداً فهل يجب عليه قضاؤه أم لا، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
بالنسبة للعبادات لا يجب الاستمرار فيها إلا الحج؛ لأن الله يقول: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196]، فالحج -سواءً كان فرضاً أو نفلاً- لا بد من إتمامه، أما سائر العبادات فإن الإنسان غير ملزم بأن يتمها، فلو صام وأفطر أثناء النهار فليس ملزماً بقضاء هذا اليوم، وهكذا أي نافلة لو بدأ بها ثم قطعها فليس ملزماً أن يأتي بنافلة أخرى إلا الحج والعمرة فإنه مطالب بإتمامها ولو كانت نفلاً، فإذا شرع فيهما فلا بد أن يتمها، وإذا أحل فعليه أن يأتي بحج أو بعمرة بدل هذا الحج أو العمرة.(23/23)
شكر النعمة
لقد أسبغ الله جل وعلا علينا نعمه ظاهرة وباطنة، وهي لكثرتها لا تعد ولا تحصى، وقد أمرنا الله سبحانه بالشكر، ووعدنا بالزيادة، فهو الكريم العظيم، وكلما شكر العبد ربه زاده من فضله، ولا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وشكر النعم هو القيام بما أوجبه الله تعالى تجاهها، وصرفها في مرضاته وطاعته سبحانه وتعالى، وكفر النعم هو ضد ذلك، وهو سبب لزوالها وانقلابها نقمة وعذاباً.(24/1)
نعمة المال والأكل من رزق الله تعالى في الأرض
الحمد لله، الحمد لله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، وكل شيء عنده بمقدار، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الإيمان إلا من يحب، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً.
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن آله، ومن دعا بدعوته وعمل بسنته ونصح لأمته وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: أيها الإخوة في الله! أيها الأحبة في العقيدة! افهموا فوائد المال وحقيقته، واسمعوا قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:168 - 169].
في هذه الآية الكريمة يبين الله سبحانه وتعالى أن كل ما في أيدي الناس جميعاً من نعمته، فيأمر الناس عامة: برهم وفاجرهم، مؤمنهم وكافرهم، بأن يأكلوا من رزقه، فإن الله سبحانه وتعالى لطيف بعباده: {يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [البقرة:212]، يعطي الدنيا المؤمنين وغير المؤمنين، ولكن هذه الدنيا إنما هي للمؤمنين، وما فيها من المتاع والنعيم إنما هو لهم، مع أنهم يشاركهم فيها غير المؤمنين، ولكنها خالصة لهم يوم القيامة، يقول سبحانه وتعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:32].
وفي آية أخرى يدعو الله المؤمنين إلى الأكل من رزقه، ويبين أنه خلقه من أجلهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة:172].
والفرق بين هاتين الآيتين: أن الآية الأولى أمرت الناس عامة أن يأكلوا من رزق الله وما في الأرض.
أما الآية الثانية فإنها أمرت المؤمنين وأباحت لهم أن يأكلوا من رزقهم الذي خلقه الله عز وجل من أجلهم.(24/2)
شروط الأكل من رزق الله
حينما نعود إلى الآية الأولى نجد أن الأكل من رزق الله، والأكل مما في الأرض لا بد أن يتوافر فيه شرطان: الشرط الأول: أن يكون حلالاً طيباً، فعلى المؤمنين خاصة أن يجتنبوا الحرام، سواء في ذلك الحرام لذاته، وهو ما حرم من أجل ذاته؛ كالميتة والدم ولحم الخنزير، أو ما حرم من أجل غيره من أموال الناس، ومما يحصل عليه من الكسب الحرام.
الشرط الثاني: ألا يتبعوا حينما يأكلون رزق الله في الأرض خطوات الشيطان، ولا يسيروا على آثاره ويتبعوا نهجه، سواء في ذلك شياطين الإنس أم شياطين الجن، ثم بين سبحانه وتعالى النهي عن اتباع خطوات الشيطان والأمر بالسير على أوامر الله فقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [البقرة:170].(24/3)
ابتلاء الله لعباده بالعطاء والحرمان من النعمة
معشر المسلمين! إن سنة الله في هذه الحياة أن يذيق هذا الإنسان رحمته، والمراد بالرحمة هنا: نعمة المال ولذته، حتى إذا عض على هذه النعمة بالنواجذ نزعها الله من الكافر والباغي نزعاً، حتى إذا أبدله النعمة إثماً وأبدله المال فقراً، وأبدله الصحة مرضاً والأمن خوفاً؛ نسي ما كان بالأمس، وظن أن نعمة الله لن تعود إليه أبداً منذ تلك اللحظة التي يفارقها.
يقول الله عز وجل عن هذا الأمر: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ} [هود:9]، (نزعناها) أي: أخذناها بقوة وبشدة وبسرعة إذا لم يكن أهلاً لهذه النعمة: {ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ * إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [هود:9 - 11].
معشر المسلمين! إن سنة الله في الحياة أن يرد الناس إليه طوعاً أو كرهاً، وحينما ينحرف الناس عن دين الله، وحينما يتنكبون عن طريقه المستقيم، يبتليهم في بادئ الأمر بالفقر والمسغبة والخوف والجوع والأمراض والأسقام، فإما أن يتراجعوا ويعودوا إلى الله عز وجل، وإما يتمادوا في غيهم، فإن الله يمتحنهم في المرحلة الثانية بالنعيم، يمتحنهم بالنعم والأمن والأرزاق تأتيهم رغداً، ثم بعد ذلك إذا لم يعرفوا قدر نعمة الله عليهم أخذهم سبحانه وتعالى أخذ عزيز مقتدر.
تجدون هذه المعاني كلها في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ * ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ * أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [الأعراف:94 - 100].
معشر المسلمين! وهكذا يمتحن الله عز وجل الناس عامة بالفقر والمسغبة، ثم يمتحنهم بعد ذلك بالمتاع والنعيم، فإذا لم يؤثر فيهم هذا وذاك فإن أخذه إليم شديد.(24/4)
استدراج الله تعالى للعاصي بالنعم
معشر المسلمين! ولربما يغتر طائفة من الناس بهذا النعيم، ويظنون أنه مقياس السعادة، وأنه علامة من علامات الرضا، وإذا ناقشت هؤلاء قالوا: الناس في خير! الناس في نعمة! هؤلاء الكافرون منذ القدم يرفلون في نعم الله ولم يأخذهم، ونسوا عند طرحهم لهذه الشبهة أن الله سبحانه وتعالى يقول: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:44 - 45].
أما هؤلاء الكافرون الذين يرفلون منذ القدم في نعم الله فإن الله يقول عنهم: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16].
معشر المسلمين! إياكم واستعمال المقاييس! وإياكم أن تخدعكم هذه النعمة! وأنا حينما أخاف لا أخاف على أولئك المخضرمين الذين عاشوا فترة الجوع والمسغبة والخوف والجوع؛ فإن هؤلاء يدركون نعمة الله عليهم اليوم في كثير من الأحيان -وإن كان كثير منهم قد غير وبدل- ولكني أخشى على هذه الناشئة الجديدة التي ولدت وكما يقول المثل: وفي أفواهها ملاعق من ذهب، لا تسمع إلا عن مئات المليارات من ميزانية الدولة، ثم يظنون أن هذا النعيم كان قديماً، وأنه سيبقى لهم إلى الأبد! معشر المسلمين! احذروا هذا الفهم الخاطئ، واعلموا أن الله يقول: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:182]، أي: ندنيهم من العذاب درجة بعد درجة، بطريق لا يدركون أنه من العذاب، وأقرب ما يكون ذلك حينما تكون العقوبة نوعاً من النعيم في ظاهر الأمر.
أيها المؤمنون! استجيبوا لأمر الله، واستقيموا على دينه، واعلموا أن النعمة قد تصيب القوم مع طاعة الله، وقد تكون علامة من علامات الرضا، أو نوعاً من الجزاء العاجل يعجله الله للمؤمنين، يقول سبحانه: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الجن:16]، ثم يقول بعد ذلك: {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [الجن:17]، {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ} [الأعراف:96].(24/5)
أخذ الله تعالى لمن كفر نعمته ولم يشكره عليها
إن علينا أن نشكر هذه النعمة، فلا نستعملها في معصية الله، ولا نقابلها بكفر المنعم سبحانه وتعالى، فلسنا بحاجة إلى معاهد للموسيقى، أو ننفق أموال الله في مثل هذا السبيل؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق، لهم النار يوم القيامة).
إن الجهاد في سبيل الله الذي يفتح اليوم ذراعيه للمؤمنين أفضل طريق يجب أن ننفق فيه أموالنا وأموال المسلمين.
فاستقيموا واحذروا سخط الله، وإياكم أن تغركم هذه النعمة، فلقد قص الله علينا أخبار كثير من الأمم كانوا في نعيم أكبر من هذا النعيم، وكان هذا النعيم فتنة، كما في قصة عاد الذين تجبروا في الأرض، وآتاهم الله من النعيم أكثر مما آتى غيرهم من الأمم فقالوا: (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [فصلت:15 - 16].
أما قارون فقد قال الله عنه: {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} [القصص:76]، وقد قال له قومه: {لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:76 - 78]، فيقول الله له: {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القصص:78].
وكان قد اغتر بهذا النعيم طائفة من قومه: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص:79]، ولكن العقلاء والمؤمنين يقولون لهم: {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص:80]، فكانت النتيجة: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ * َأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [القصص:81 - 82]، ثم قال تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83].
أما بعضهم فلقد يسر الله له كل وسائل المتاع فاغتر وانخدع وتكبر على الله وعلى عباده، فانتقم الله منه، كما قال تعالى: {فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ * فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلآخِرِينَ} [الزخرف:55 - 56].
ولعلكم تقرءون قصة سبأ، أولئك الذين آتاهم الله من المتاع حتى كان يسير السائر من اليمن إلى الشام في قرى متواصلة تظله الأشجار، فلما كفروا نعمة الله عز وجل أوقع بهم العقوبة، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَي أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [سبأ:15 - 17].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(24/6)
شكر النعم سبب لدوامها
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحبه ربنا ويرضاه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! اتقوا الله تعالى وأطيعوه، وكلوا من فضله ونعمته، واشكروا له إن كنتم إياه تعبدون.
لقد أمر الله عز وجل المؤمنين بأن يتمتعوا بما في الحياة الدنيا من المتاع، وبين أنه خلق ذلك من أجلهم، بل خلق الحياة الدنيا والآخرة كل ذلك من أجلهم، يقول سبحانه وتعالى: {إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128].
المؤمنون هم مطالبون بأن يقابلوا حق الله بالشكر: {كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [البقرة:60]، {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} [طه:81]، {كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة:168].
أما الذين يستغلون نعمة الله ويخونونها، ويستخدمونها في معصيته، فأولئك شر الخلق في الدنيا والآخرة، وقد أمر الله عز وجل بأن نقوم بالشكر شكراً عملياً لا قولياً: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13]، وإذا كانت هناك نماذج في الأرض كثيرة استغلت نعمة الله في معصيته فقد أخذها أخذ عزيز مقتدر، كما قص الله سبحانه وتعالى علينا قصة سليمان الذي آتاه الله الملك والحكمة، ولكنه أدرك نعمة الله عليه وقال: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل:40].
معشر المسلمين! إن الذين يستغلون نعم الله في معصيته إنما يعذبون أنفسهم بعقوبة الله في الدنيا قبل الآخرة: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الأحزاب:62].
أما نحن اليوم فإننا نرفل في هذا المتاع العريض، والأمن قد أرخى سدوله في بلادنا؛ بسبب تحكيم شريعة الله عز وجل، ويتخطف الناس من حولنا، فلم نؤد في الحقيقة شكر هذه النعمة.
حينما كنا فقراء كنا أطوع لله وأتقى له منا اليوم، أما اليوم فإن أقل ما نتحدث عنه بالنسبة لما حصل في بلادنا التي بليت بهذا النعيم -ولا أقول منحت هذا النعيم- أن اعتمدنا على غيرنا في تربية أولادنا اتخذنا الخادمات الكافرات أو المتمسلمات أو -على أحسن الفروض- المسلمات، واختلطن بنا واختلطنا بهن اتخذنا الصحافة في كثير من الأحيان وسيلة لهدم الأخلاق والفضائل.
حينما كنا في فقر ومسغبة كنا أتقى وأطوع لله عز وجل، ونسينا أنه هو الذي يقول لنا: {وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء:132 - 135].
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، اللهم ارض عنا معهم، اللهم ارض عنا معهم، وارزقنا حبهم، واجمعنا بهم في مستقر رحمتك.
اللهم اجعلنا شاكرين لنعمك، مثنين بها عليك، وأتمها علينا بفضلك ورحمتك.
اللهم إنا نشهدك ونشهد ملائكتك وعبادك الصالحين أننا ننكر على كل من استعمل نعمتك في معصيتك، فلا تؤاخذنا بما كسبت أيدينا، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، (وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة:286].
عباد الله! {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90].
{اتْلُ مَاْ أُوْحِيَ إِلِيْكَ مِنَ الْكِتَاْبِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].(24/7)
السبع المثاني
سورة الفاتحة هي فاتحة القرآن، والسبع المثاني، والرقية الشافية، وأم القرآن، وهي التي من أخذ بها هدي ووقي، وفاز برضا الرحمن.
ولفاتحة القرآن معان جليلة، ومقاصد نبيلة، وفضائل عديدة، من أخذ بها أجر، ومن تدبرها ازداد علماً وهدى.(25/1)
هل البسملة آية من القرآن أم لا؟
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
وبعد: فهذه الحلقة الأولى من تفسير كتاب الله عز وجل تحتوي على سورة الفاتحة.
سورة الفاتحة اختلف في البسملة: هل هي آية من السورة، أم أنها زيادة؟ كما أنه قد اختلف في هذه البسملة في كل سورة من سور القرآن، فقيل: إنها آية من الآيات، وقيل: إنها بداية واستفتاح لكل سورة، وليست بآية إلا في سورة النمل، فهي جزء من آية في قوله تعالى: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل:30]، أما من قال: إن البسملة آية من كتاب الله عز وجل، فاستدل بقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر:87].
فإذا قيل: إن السبع المثاني هي سورة الفاتحة؛ والقرآن العظيم هو بقية القرآن، وهذا من باب الاهتمام بسورة الفاتحة، فإن الآية السابعة هي البسملة؛ لأنها ست آيات دون البسملة، والآية السابعة هي البسملة، وعلى هذا فتصبح البسملة في سورة الفاتحة أو في أي سورة أخرى آية من القرآن، أي: لا تكون تلاوة كتاب الله عز وجل إلا بعد هذه البسملة.(25/2)
أهمية سورة الفاتحة وما ورد فيها من فضائل
سورة الفاتحة لها أهمية عظيمة:(25/3)
سورة الفاتحة رقية يرقى بها المريض
أولاً: هي للرقية: فقد كان يرقى بها المريض فيشفى بإذن الله عز وجل، فهي كافية للرقية، كما في قصة القوم الذين أرسلهم الرسول صلى الله عليه وسلم في سرية، فضافوا على قوم فلم يضيفوهم، فجلسوا قريباً منهم، فلدغ سيدهم، فجاءوا إلى هؤلاء القوم وقالوا: هل منكم من راق؟ قال رجل منهم: نعم أنا راق، لكني لا أرقيكم إلا بكذا وكذا من الغنم، فقالوا: أرق سيدنا، فقرأ عليه سورة الفاتحة؛ فزال أثر اللدغة وكأنما نشط من عقال، فأخذوا عدداً من الغنم، وقيل: عددها ثلاثون، وجاءوا بها إلى المدينة، وكأنهم تحرجوا، أي: تحرج بعض الصحابة أن يأكل من هذه الغنم وقد أخذت رقية على كتاب الله عز وجل، فلما جاءوا إلى المدينة أخبروا الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: (وما أدراك أنها رقية؟ اقسموها واضربوا لي بسهم)، أي: أن هذا المال الذي أخذوه على هذه الرقية جائز، فأخذ من ذلك أن سورة الفاتحة كافية للرقية، فتقرأ على المريض أياً كان هذا المرض، وبإذن الله عز وجل يشفى.(25/4)
سورة الفاتحة هي السبع المثاني
ثم سورة الفاتحة أيضاً هي كما سماها الله عز وجل: السبع المثاني، على رأي طائفة من العلماء وهم الجمهور، وقيل: إن المراد بالسبع المثاني: السبع الطوال، ولكن الرأي الأول أرجح، والله أعلم.(25/5)
سورة الفاتحة ركن في الصلاة
وتمتاز أيضاً سورة الفاتحة بأنها ركن في كل ركعة في كل صلاة، سواء كانت نافلة راتبة أو غير راتبة، أو فريضة؛ فإنها لا تصح الصلاة إلا بقراءة سورة الفاتحة، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب).
وتسمى فاتحة الكتاب؛ لأنها أول سورة في القرآن العظيم، فيبدأ القرآن بسورة الفاتحة.
والعلماء متفقون على أنها لا تصح الصلاة السرية بالنسبة للإمام والمنفرد إلا بقراءة هذه السورة، فالمأموم في الصلاة السرية يلزمه أن يقرأ سورة الفاتحة، واختلف في الصلاة الجهرية إذا لم يترك الإمام فرصة بين الفاتحة وبين السورة الأخرى، وعلى هذا فإن هذا الخلاف واضح، بحيث إن قراءة الفاتحة ركن في كل صلاة، وفي الصلاة الجهرية مع الإمام فإنه اختلف في لو لم يترك الإمام سكتة، فإنه يجوز أن يتركها ويتحملها الإمام، ولكن إذا ترك الإمام سكتة وكانت هناك أية فرصة أو في سكتات الإمام المتقطعة فإنه في مثل هذه الحال لا بد أن تقرأ، واختلفوا فيما إذا لم يترك فرصة، وحينئذ فإنه يلزم أن يقرأها في أي حالة من الحالات، والذين قالوا: تسقط إذا لم يسكت الإمام ولم يترك سكتات، ففي مثل هذه الحال فإنها تسقط عند طائفة من العلماء، أما من استدل بحديث: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)، وقال: إنها لا تصح أي صلاة إلا بها، فريضة كانت أو نافلة سرية أو جهرية مع الإمام أو بدون إمام منفرداً أو مأموماً، فإنه يقول: لا بد أن تقرأ في أي حالة من الحالات، ولو كان الإمام يقرأ، واستدلوا بحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن منازعة القرآن، وقال: (إلا بفاتحة الكتاب) أي: في مثل هذه الحال.
وعلى هذا فإن هذه السكتة ولو كانت قليلة يستطيع أن يقرأ فيها المأموم سورة الفاتحة ولو بسرعة، أو يوزعها على السكتات، المهم أنه لا بد أن يقرأها.
أما الذين قالوا: لا يجوز أن يقرأها المأموم إذا كان مع الإمام في صلاته الجهرية، فاستدلوا بقول الله عز وجل: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204].
إذاً: سورة الفاتحة تعتبر أعظم سورة في القرآن العظيم، كما أن آية الكرسي أعظم آية، والدليل على أنها أعظم سورة في القرآن: أن الله عز وجل أثنى عليها، وجعلها منة ونعمة منه على الرسول صلى الله عليه وسلم، كما في قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر:87]، فالسبع المثاني هي الفاتحة، وسميت مثاني لأنها تتكرر في كل ركعة، فيكررها المسلم عدة مرات في اليوم الواحد، معنى (مثاني) أي: مثنى مثنى، أي: تكرر مرة بعد مرة.
وجعل القرآن كله في كفة، وسورة الفاتحة في كفة، إضافة إلى أنها رقية كما ذكرنا، إضافة إلى أن هذه السورة لا تصح الصلاة إلا بها في أي ركعة من الركعات فرضاً كانت أو نفلاً.
وعلى هذا نعرف أن سورة الفاتحة أعظم سورة في كتاب الله عز وجل، بالرغم من قصرها، وقد جاء في الحديث أن الله عز وجل يقول: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، قال الله عز وجل: حمدني عبدي، فإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3]، قال الله عز وجل: أنثى علي عبدي، فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4]، قال الله عز وجل: مجدني عبدي، ثم يقول الله عز وجل: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل)، ويصبح آخر السورة النصف الثاني كله دعاء، في قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7]، آمين.
ولذلك الله عز وجل يقول بعد ذلك: (ولعبدي ما سأل)، والسؤال هنا: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:6 - 7].
وعلى هذا فإنه يتوقع الهداية من الله عز وجل لكل من يكرر هذه الفاتحة؛ لأنها لا تقوم الصلاة إلا بها؛ ولأنها هي الركن الأول من أركان الصلاة بعد تكبيرة الإحرام، فإن أركان الصلاة تبدأ بتكبيرة الإحرام وتثنى بقراءة الفاتحة، فالفاتحة ركن في كل ركعة كما ذكرنا سابقاً.(25/6)
تفسير سورة الفاتحة
والآن نشرع في تفسير هذه السورة.(25/7)
معنى الاستعاذة
نبدأ أولاً بالاستعاذة بالله عز وجل من الشيطان الرجيم: فمعنى (أعوذ) أي: ألتجئ وأعتصم بالله سبحانه وتعالى.
(من الشيطان): المراد بالشيطان كل متمرد من الإنس والجن والطير، فهناك شياطين الإنس، وهناك شياطين الجن، فشياطين الإنس: هم من ضل الطريق من بني آدم، وبدءوا يضلون الناس عن الطريق المستقيمة، وأما شياطين الجن: فالمراد بهم الشياطين من أبناء إبليس، وهم الذين يضلون الناس عن الطريق، ولكن شياطين الإنس والجن كما قال الله عز وجل: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام:112]، ولذلك فإن الإنسان قبل أن يبدأ أي قراءة، وفي كل حالة ينظر أن الشيطان قد تدخل في أمر من أموره، أو بدأ يسول له، فعليه أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، خصوصاً عند بداية القرآن، فإن الله عز وجل يقول عند بداية القرآن: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98]، كما في سورة النحل، وعلى هذا فإن معنى (قرأت القرآن) أي: إذا أردت القراءة؛ لأن الاستعاذة تكون قبل القراءة، وعلى هذا فإن المسلم عليه أن يبدأ كل شيء بالاستعاذة بالله عز وجل من الشيطان الرجيم.
ثم أيضاً هذه الاستعاذة تبعد شياطين الجن، وربما أنها لا تبعد شياطين الإنس إلا حينما تستعيذ بالله عز وجل منه مباشرة، وربما شياطين الإنس يحتاجون إلى جهد أكبر وهو البعد عنهم.
فعلى المسلم أن يبتعد دائماً عن المتمردين من البشر، وأن يبتعد عن مجالسهم ومخالطتهم، إضافة إلى أنه يستعيذ بالله عز وجل منهم، كما أنه يستعيذ بالله عز وجل من شياطين الجن، وعلى هذا فإنك تستعيذ بالله عز وجل من شياطين الإنس والجن، إلا أن شياطين الإنس يحتاجون إلى زيادة وهي الابتعاد عن مواقعهم، كما قال الله عز وجل: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام:68].
أيضاً يقول العلماء: الشيطان مأخوذ من (شاط) أو من (شطن)، فإذا كان من (شاط) فمعناه: احترق؛ لأن الشيطان محترق، أما إذا كان من (شطن) فمعناه: البعد، والشطان معناه: الرباط البعيد، فيسمى شطاناً، وعلى هذا فإنه مبعد عن رحمة الله عز وجل، فنقول: هو مأخوذ من (شطن) أي: ابتعد عن رحمة الله عز وجل، أو من (شاط) بمعنى احترق، والشيطان مبعد عن رحمة الله عز وجل، ومحترق، فهو يأخذ كلا المعنيين اللغويين.
و (الرجيم): فعيل بمعنى: مفعول، أي: مرجوم، والشيطان مرجوم بآيات الله عز وجل، ومرجوم بالذكر الذي لا يمكن الشيطان من وصول بني آدم، أيضاً الشيطان مرجوم بالنجوم؛ لأن الشياطين كانوا يسترقون السمع قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، فيصعد بعضهم فوق بعض إلى أن يصلوا إلى السماء، ويلتقطون من الوحي كلمة واحدة، ويضيفون إليها تسعاً وتسعين كذبة، ثم ينزلون بها فيخبرون بها الكهان، وبعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم سلط الله عز وجل عليهم هذه الشهب التي نلاحظها في السماء تنطلق من النجوم، والله عز وجل يقول حكاية عن شياطين الجن: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ} [الجن:9]، أي: بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم: {يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} [الجن:9]، ولذلك فعلى المسلم أن يكثر دائماً من الاستعاذة بالله عز وجل من الشيطان الرجيم.(25/8)
معنى البسملة
يقول الله تعالى: {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ} [الفاتحة:1]، فهي كما قيل: آية من سورة الفاتحة ومن كل سورة، وقيل: إنه يبدأ بها للبركة إن لم تكن آية من كل سورة، وقيل: إنها آية من سورة الفاتحة فقط؛ لأنها هي المكملة للسبع الآيات التي يقول الله عز وجل عنها: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر:87].
(بسم الله) الباء: للاستعانة، أي: أستعين مبتدئاً بسم الله الرحمن الرحيم.
و (الله، والرحمن، والرحيم): كلها أسماء من أسماء الله عز وجل الحسنى، وكان أهل الجاهلية ينكرون اسم (الرحمن) من أسماء الله عز وجل، فكانوا يكتبون (باسمك اللهم) ويقولون عن (الرحمن): لا نعرف رحماناً إلا رحمان اليمامة، وهو صنم من أصنامهم، وينكرون الرحمن، وإن كانوا يؤمنون بالرحيم من أسماء الله عز وجل، ولذلك كانوا يكتبون: باسمك اللهم، ويكرهون كلمة (الرحمن)، ولا يؤمنون بها اسماً من أسماء الله عز وجل، ورد الله عز وجل عليهم في سورة الإسراء بقوله: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء:110].
ومما يذكر في هذا المقام قصة سهيل بن عمرو رضي الله عنه حين كان مشركاً، حينما أرسله أهل مكة ليعمل صلحاً مع الرسول صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، يوم جاء الرسول صلى الله عليه وسلم للعمرة ومنعوه من دخول مكة، فأرسلوا سهيل بن عمرو من أجل الصلح، وأن تقف الحرب سنين معينة، وأن يرجع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة دون أن يتم عمرته، وأن يحلق رأسه، كما هو النظام الموجود في ذلك الوقت، وهو أيضاً أصبح حكماً شرعياً، ويرجع، فجاء سهيل بن عمرو رضي الله عنه -وكان مشركاً في ذلك الوقت- فجلس مع الرسول صلى الله عليه وسلم يكتبون العهود والمواثيق التي اتفقوا عليها، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لـ علي: (اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، فقال: لا تكتب بسم الله الرحمن الرحيم؛ لأننا لا نؤمن بالرحمن، فقام عمر رضي الله غضبان وقال: يا رسول الله! دعني أكسر ثنيتيه، فقال: يا عمر! اتركه، فلما بدءوا قال: اكتب باسمك اللهم)؛ لأنهم لا يريدون كلمة (الرحمن)، وبعد ذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (اكتب هذا ما اتفق عليه محمد رسول الله مع سهيل بن عمرو، فقال: لا تكتب رسول الله؛ لأننا لو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك، فقال: اكتب: هذا ما اتفق عليه محمد بن عبد الله مع سهيل بن عمرو؛ فغضب عمر رضي الله عنه وقال: يا رسول الله! دعني أقطع عنقه، فقال: اتركه يا عمر! فلعله أن يقف موقفاً نحمده عليه).
وفعلاً لما مات الرسول صلى الله عليه وسلم وكان سهيل بن عمرو قد دخل في الإسلام وحسن إسلامه، وكان من زعماء أهل مكة الموجودين يوم مات الرسول صلى الله عليه وسلم، وارتد كثير من العرب عن الإسلام، بعد ذلك وقف سهيل بن عمرو رضي الله عنه على باب الكعبة وقال: يا أهل مكة! أنتم آخر من دخل في الإسلام، فلا تكونوا أول من يخرج منه، يقول المؤرخون: فما ارتد واحد من أهل مكة بسبب كلمة سهيل بن عمرو رضي الله عنه.
ومعنى (الرحمن): الرحمة العامة، أما (الرحيم) فمعناه: الرحمة الخاصة، ولذلك يقول الله تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:43]، فرحيم على وزن (فعيل) بمعنى: فاعل، أي: راحم، فرحمن ورحيم معناهما متقارب: من الرحمة، ولكن كلمة (الرحمن) أعم لكل الناس، و (الرحيم) خاصة بالمؤمنين، ولذلك يقولون: الرحمن: رحمة عامة، والرحيم: رحمة خاصة؛ لأن الله تعالى يقول: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:43].(25/9)
تفسير قوله تعالى: (مالك يوم الدين)
{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4]، وفي قراءة: {مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] ويوم الدين: هو يوم القيامة والجزاء، فمالك ذلك اليوم هو الله عز وجل، والله تعالى هو مالك الدنيا والآخرة، لكن ربما يكون هناك -كما هو معروف- ملك محدود الزمن والملكية لواحد من ملوك الدنيا، أو لأي واحد من عامة الناس، لكن هذا الملك في الحقيقة مدته محدودة أيضاً، لكن يوم الدين هو مملوك لله عز وجل وحده، وقد جاء في الأثر أن الله عز وجل يوم القيامة يقول: ({لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْم} [غافر:16]؟ فلا يجبه أحد -حينما يفني هذه الخلائق- ثم يرد الله عز وجل على نفسه بنفسه ويقول سبحانه وتعالى {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16]،)، فقد يكون هناك من ملوك الدنيا أو من عامة الناس من يملك شيئاً من هذه الدنيا، لكن يوم القيامة يستقل الله عز وجل بملكه فلا يملكه أحد سواه سبحانه وتعالى.
أيضاً الدين معناه: الجزاء، كما تقول العرب: كما تدين تدان، يعني: كما تحاسِب تحاسُب، أي: مالك يوم القيامة، وهو يوم المحاسبة أو يوم الجزاء؛ لأن يوم الدين هو يوم جزاء وليس فيه عمل، بخلاف أيام الدنيا فإنها أيام عمل وليس فيها جزاء، وقد يكون فيها شيء من الجزاء، فالله عز وجل قد يعطي شيئاً من الجزاء يعجله لبعض أوليائه في الحياة الدنيا، بخلاف أعدائه، فإن الله عز وجل يعجل لهم الجزاء كله في الدنيا، فمن عمل عملاً ظاهره الصلاح لكنه بدون نية وبدون إيمان؛ فإن الله عز وجل يعجل له جزاءه في الدنيا، ولا تبقى له في الحياة الآخرة حسنة واحدة، ولذلك يقول الله عز وجل: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ} [هود:15].
وهذا هو ما نشاهده في عالمنا اليوم حينما نرى أقواماً كفروا بالله عز وجل، أو تمردوا على طاعته، أو عصوا، أو أسرفوا في المعصية صغيرة كانت أو كبيرة، ثم نجد أن الله عز وجل يمدهم بالأهل والمال والبنين والصحة والعافية، وربما نشاهد بلادهم فيها من الخيرات أكثر مما هو في بلاد المسلمين، وعندهم من النعيم والرخاء أكثر مما في أيدي عباد الله المؤمنين، فلعل السر في ذلك -والله أعلم- أن الله تعالى عجل لهم حسناتهم؛ لأن الله تعالى يقول: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ} [هود:15]، و (نُوَفِّ): أي: نعطيهم أجرهم كاملاً غير منقوص: {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ} [هود:15 - 16] نعوذ بالله! {وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:16]، أي: كان باطلاً في الدنيا وحبط أيضاً في الحياة الآخرة، فصنعهم يحبط في ذلك اليوم، وكان باطلاً في الحياة الدنيا لأنه غير مقبول عند الله عز وجل؛ لأنه لا يصاحبه الإيمان أو لا تصاحبه المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم، أو لا يصاحبه إخلاص العبادة لله عز وجل.
وهذا أيضاً هو معنى قول الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ} [الإسراء:18]، أي: الحياة الدنيا بعمله: {عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء:18]، هؤلاء يأخذون جزاءهم في الدنيا، فيوم دينهم أي: جزاؤهم يأخذونه في الدنيا، أما المؤمنون فإن الله عز وجل قد يبعد عنهم رخاء الحياة الدنيا، فقد يعيشون فقراء أو محرومين أو معذبين أو مسجونين أو ما أشبه ذلك، ثم نجد أن الله عز وجل يدخر لهم ذلك في الحياة الآخرة؛ لأن الله عز وجل يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، بل إن الله عز وجل يقول: {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا} [الفجر:15 - 17]، يقول: كلا! أي: لا هذا أكرمه ولا هذا أهانه، فإن الإكرام والإهانة هو في الحقيقة في الدار الآخرة، أما في الحياة الدنيا فقد يكرم الله عز وجل من لا يستحق ذلك استدراجاً أو جزاءً على عمل قدمه في الحياة الدنيا، كأن يبني المدارس، أو يحفر الترع، أو يبني القناطر، أو ما أشبه ذلك مما ينفع الناس لكن بدون نية، فالله تعالى يجعل جزاءه في الحياة الدنيا.
أما المؤمنون فإن الله تعالى وإن عجل لهم شيئاً من ذلك في الحياة الدنيا، لكن الجزاء الأكبر مدخر لهم في الحياة الآخرة، وهذا معنى قوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4]، أي: مالك يوم الجزاء، فهو الجزاء الحقيقي.
كما أن في ذلك اليوم أيضاً جزاء الكافرين والعصاة، فإن كل واحد يأخذ جزاءه في تلك الدار إذا لم يتجاوز الله عز وجل عن سيئاته، كما يجزي المؤمنين بالجنة في الدار الآخرة، فإنه سبحانه وتعالى يجزي الكافرين بالعذاب وكذلك العصاة، إذا لم يتجاوز الله عز وجل عنهم؛ لأن الكفار مخلدون في النار، وعصاة المؤمنين تحت مشيئة الله عز وجل وإرادته، فإذا تابوا تاب الله عز وجل عليهم، وإن ماتوا على معاصيهم فإن الله تعالى قد يعذبهم وقد يعفو عنهم، وإذا عذبهم فإنهم لا يخلدون في النار إذا ماتوا على الدين والتوحيد والطاعة لله عز وجل، وإن كانت عندهم ما عندهم من المعاصي ولو كانت كبائر لم يتجاوز الله عز وجل عنها.
إذاً: قول الله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4]، أي: مالك يوم الجزاء، وعلى هذا فإن يوم الدين ويوم الجزاء هو يوم القيامة، والله تعالى مالك أيام الدنيا ويوم الدين، لكن ملك الدنيا قد يظن أحد من الناس أنه يملك فيه شيئاً، يملك بيته يملك أرضه يملك عقاره يملك أهله وماله وداره يملك الملك دولته ويتصرف هذا التصرف، لكن الملك المطلق يكون في يوم الدين لله عز وجل؛ لأنه لا يبقى ملك لأحد في ذلك اليوم إلا من يملكه الله عز وجل، كما قال الله عز وجل عن المؤمنين أنهم يقولون: {وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} [الزمر:74]، وهذا هو التمليك المطلق الدائم، لكنه بتمليك الله عز وجل، أما ذلك اليوم فالذي يملكه ويملك التصرف فيه، ويملك أيضاً الجزاء، ويملك من يشاء ويحرم من يشاء هو الله عز وجل، ولذلك خص يوم القيامة بقوله تعالى: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ).
إذاً: الدين معناه: الجزاء والحساب، وهذا دليل على أن الله عز وجل هو الذي يحاسب الإنسان بنفسه، ويحاسبه بناءً على علمه أولاً، بما فعل الإنسان في هذه الحياة الدنيا، وما سجلته هذه الصحائف التي سجلت على كل إنسان، كما جاء في الحديث: (إن الله عز وجل ينشر على عبده يوم القيامة تسعة وتسعين سجلاً، كل سجل مد البصر، وهي صحائف الأعمال، فيقول الله عز وجل: أتنكر من ذلك شيئاً؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ ألك عذر؟ ألك حسنة؟ فيقول الإنسان: لا والله يا رب! فيظن أنه قد هلك، فيقال: بلى، إن لك عندنا حسنة، إنك لا تظلم، فيؤتى ببطاقة فيها شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فتوضع في كفة، وتوضع تلك السيئات العظيمة كلها في كفة، فتثقل البطاقة، وتطيش السجلات)؛ لأن هذا الإنسان حقق لا إله إلا الله وعمل بمقتضاها.
وعلى هذا فإن الجزاء من عند الله عز وجل، والله تعالى هو الذي يحاسب هذا الإنسان، حتى إن الله عز وجل كما جاء في الحديث: (يحاسب عبده ليس بينه وبينه ترجمان ولا حجاب يحجبه، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه -أي: عن شماله- فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أمامه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة)، وبالرغم من كثرة الخلائق يوم القيامة فإن الحساب يكون في لحظة واحدة؛ لأن الله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [آل عمران:199]، لأنه قد اطلع، وقد أودع الله عز وجل في هذه الحياة الدنيا شهوداً تشهد على هذا الإنسان: فأولها كما ذكر الله عز وجل: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا} [يونس:61].
الأمر الثاني: أولئك الملائكة، الذين يقول الله عز وجل عنهم: {كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:11 - 12].
الأمر الثالث: الأرض، فإن الأرض شاهدة على الإنسان؛ لأنه لا يمكن أن يفعل الإنسان شيئاً إلا على وجه الأرض، حتى لو كان في جو السماء، فالأرض مطلعة وتشهد عليه يوم القيامة؛ لأن الله عز وجل يقول: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة:4]، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتدرون ما أخبارها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: فإنها تشهد على كل عبد وأمة بما عمل على ظهرها، تقول: عمل علي فلان كذا في يوم كذا وكذا، وعمل علي فلان كذا في يوم كذا وكذا، فهذه أخبارها).
أيضاً جعل الله عز وجل هناك شهوداً آخرين: كالناس يشهد بعضهم على بعض، كما جاء في الحديث: (مرت ذات يوم جنازة فأثنى عليها الناس خيراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وجبت، ثم مرت جنازة أخرى فأثنوا عليها شراً، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: وجبت، فقالوا: ما وجبت يا رسول الله؟ قال: الأولى أثنيتم عليها خيراً فوجبت لها الجنة، والثانية أثنيتم عليها شراً فوجبت لها النار، أنتم شهداء الله في أرضه).
أيضاً: الشاهد الأكبر بعد الله عز وجل هو الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه جاء في قول الله عز وجل في سورة النساء: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيد(25/10)
تفسير قوله تعالى: (إياك نعبد)
ثم قال الله عز وجل: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، هذه الآية تحمل مطلق العبادة والاستعانة بالله عز وجل، وأنه ليس هناك عبودية لأحد إلا لله عز وجل، وليس هناك معبود إلا الله عز وجل، ونأخذ كلمة التوحيد المطلقة من قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]؛ لأن (إياك) مفعول لنعبد، و (نعبد) فعل مضارع، والفاعل نحن، وتقديم المفعول على الفعل والفاعل مما يدل على الاختصاص، وهذه قاعدة في اللغة العربية: كلما قدم ما حقه التأخير فإنه يدل على الاختصاص، وعلى هذا فإنه يصبح قولنا: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، أي: لا نعبد أحداً سواك، ولذلك جاء الضمير منفصلاً؛ لأنه تقدم عن مكانه، وتقدمه للحصر؛ لأنه كلما قدم ما حقه التأخير فيكون حصراً.
إذاً: معنى قول الله عز وجل: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) أي: لا نعبد إلا إياك، ونأخذ الحصر من تقديم ما حقه التأخير، وعلى هذا فإن هذه الآية بجزئها الأول حصرت العبودية لهذا الإنسان لله عز وجل وحده، أي: لا نعبد أحداً سواك، وعلى هذا فإنها تحتوي على كلمة التوحيد المطلقة التي لا تقبل أي جدال ولا شك، ولذلك لما أطلق التمجيد لله عز وجل في تخصيصه سبحانه وتعالى بالعبادة، وتخصص هذا الإنسان بالعبودية لله عز وجل، قال الله عز وجل كما في الحديث: (مجدني عبدي)، عند هذه الآية، فالتمجيد معناه: الثناء الكامل وإضافة المجد كله لله عز وجل.
وعلى المسلم وهو يكررها في كل ركعة من صلاته أو في غير الصلاة أن يفهم حقيقتها، فإذا قال: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ)، فلا يحني ظهره لغير الله عز وجل، ولا يطأطئ رأسه لغير الله عز وجل، ولا يضع أشرف عضو من أعضائه -وهو الوجه- على الأرض إلا لله عز وجل.
وعلى هذا فإن الله سبحانه وتعالى في مثل هذه الآية خص نفسه بالألوهية، ولذلك يرفضها المشركون؛ لأنهم يعبدون آلهة الكفر مع الله عز وجل، ولو قالوا: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، فإنهم يقولون: نعبد الآلهة الأخرى مع الله عز وجل التي تقربنا إلى الله زلفى، ولذلك فإنهم يرفضون (إِيَّاكَ نَعْبُدُ)؛ لأنهم يعرفون أن معناها: لا نعبد أحداً سواك، وهم مضطرون -كما يظنون في قرارة نفوسهم الضالة- أنهم لا بد أن يضعوا هذه الآلهة واسطة بينهم وبين الله عز وجل، كما في قوله تعالى عنهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3].
أما إذا تفهمت يا أخي الكريم! (إياك نعبد)، فإنك تفهم أن معناها الحقيقي: لا يمكن أن يكون هناك معبود غير الله عز وجل، ولا هناك عابد لله عز وجل يعبد مع الله غيره، ونحن نرى أو نسمع أن هناك عشرين ألف ضريح يعبد من دون الله عز وجل في هذا العالم، وقد رأيت كثيراً منها يحج إليها طائفة من الناس، ويتمرغون حول هذه القبور، ويطوفون بها، ويسألونهم الحاجات من دون الله عز وجل، ويقولون: إنها تقربنا إلى الله زلفى، كما قال المشركون الأولون، إلا أنهم يغيرون اللفظ فقط ويقولون: هذه ترمز إلى رجال صالحين، وهذه قبور أناس صالحين نرجو شفاعتهم يوم القيامة، والحقيقة أن هذا يشبه إلى حد بعيد بل لا يختلف أبداً عن قول المشركين الأولين: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]، والله عز وجل لا يحتاج إلى واسطة، فمجرد ما يرفع يديه هذا الإنسان إلى السماء، أو يقول: الله أكبر في الصلاة؛ ينفتح الحجاب بينه وبين الله عز وجل، ويسأل الله عز وجل من خيري الدنيا والآخرة دون أن يحتاج إلى وساطة؛ لأن الله عز وجل لا يريد أن يسأل بجاه أحد، أو بصلاح صالح، أو بأي شيء آخر، وأن يجعل بينه وبين الله عز وجل واسطة.
وعلى هذا: فإن أصحاب الأضرحة والقبور في أيامنا الحاضرة ضلوا الطريق حينما يقولون: هؤلاء الصالحون نرجو شفاعتهم في الآخرة، وأشبهوا المشركين الذين قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3].
وربما يكون هذا الكلام -في بلادنا هنا والحمد لله- قد لا يفهمه كثير من الناس، لاسيما الذين لم يسافروا خارج هذه البلاد، فإن بلادنا هذه -والحمد لله- حرسها الله تعالى بدعوة سلفية منذ مئات السنين، دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه، التي جددت لنا دعوة التوحيد التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم، حينما اتفق مع أمير هذه البلاد محمد بن سعود رحمة الله عليهم أجمعين، فتعاهدوا على كلمة التوحيد، وهدمت القبور والأضرحة كلها، فبلادنا -والحمد لله- خالية تماماً إذا لم نذكر ما يوجد من القلة الذين يأتون من بلاد انتشرت فيها الوثنيات والشركيات في بلادهم، ثم يذهبون إلى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد يأتون بشيء من الشركيات التي نسأل الله عز وجل أن يوفق المسئولين -وهم ما زالوا يحاربونها- أن يزيدوا في محاربتها؛ لأن مكة والمدينة -حرسهما الله عز وجل- تلتقي فيهما عدة حضارات من حضارات العالم، كما تلتقي فيها جنسيات العالم، فيأتي أناس يحملون هذه الفكرة التي هي في بلادهم، وربما يقول أحدهم في بلادنا هنا حينما يصل إلى مكة والمدينة: إذا كنا هناك نعظم ونقدس أناساً عاديين فأولى بهذا التعظيم وهذا التقديس الرسول صلى الله عليه وسلم، فربما يأتون بشيء من شركياتهم، وهذا هو ما نشاهده في بعض الأحيان حول قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، التي هي مركز التوحيد سابقاً.
لكن -والحمد لله- نجد في سلطتنا الخير الكثير، فهم ما زالوا ولم يزالوا وسيستمرون إن شاء الله على محاربة هذا الفكر الذي يرد ويأتي به أناس ربما لا يفهمون الحقيقة الواقعية في المملكة العربية السعودية، إضافة إلى أن بلادنا لا يوجد فيها الشرك، خصوصاً هذه المناطق التي نعيش فيها نحن هنا في نجد وما حولها؛ لأنها بلد انتشرت فيها قاعدة التوحيد والحمد لله، وجددها المجددان محمد بن عبد الوهاب ومحمد بن سعود رحمة الله عليهما، فنشكر الله عز وجل على هذه النعمة، ونسأل الله أن يزيد المسئولين في هذا البلد إيماناً ويقيناً وتوحيداً، وأن يثبتنا وإياهم على قوله الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.(25/11)
تفسير قوله تعالى: (وإياك نستعين)
قال تعالى: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، فكما أنه قد خص بالعبودية عز وجل فإنه خص أيضاً بالاستعانة، (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، أي: لا نستعين إلا بك، ونقول فيها من الناحية اللغوية كما قلنا في (إِيَّاكَ نَعْبُدُ): قدم مفعول (نستعين) وهو (إياك)، والفاعل مستتر، وتقديم ما حقه التأخير يدل على نفس المعنى السابق في (إياك نعبد)، أي: لا نستعين بأحد سواك، وعلى هذا فإن الاستعانة تعتبر جزءاً كبيراً عظيماً حساساً من أجزاء العبودية لله عز وجل، أي: فلا نصرف نوعاً من العبادة؛ لأن الاستعانة بغير الله عز وجل أو بمخلوق من المخلوقين في أمر لا يقدر عليه إلا الله عز وجل أمر لا يجوز، وهو أيضاً يخل بجانب التوحيد، بل يقضي على التوحيد.
وعلى هذا نقول: الاستعانة بالمخلوق فيما يقدر عليه وهو حي فلا بأس أن تستعين به وتقول: يا أخي! ساعدني في كذا، أما إذا كان ميتاً فلا تجوز الاستعانة به بأي حال من الأحوال؛ لأن الميت هو بحاجة إلى الحي، حتى الرسول صلى الله عليه وسلم لا نستعين به بعد موته، وإذا ذهبنا إلى قبره عليه الصلاة والسلام فإننا نسلم عليه بعد أن نزور مسجده، فنقف عند قبره نسلم عليه ولا نستعين به، وإنما نصلي ونسلم ونثني عليه بما هو أهله عليه الصلاة والسلام، ونسأل الله عز وجل شفاعته في الآخرة، لكن لا نسأله شيئاً، وهو أقدر الخلق في حياته عليه الصلاة والسلام على كل شيء، وقد هدانا الله تعالى بسببه، لكنه بعد موته لا يستطيع أن يقدم لنا أي خدمة أو أي معونة مادية، إلا أن نتبع سنته ونموت على ملته، ونسأل الله عز وجل الثبات على ملته.
هذا هو الأمر الذي نستفيده منه، بل هو صلى الله عليه وسلم بحاجة إلى أن نصلي عليه، والصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم معناها الدعاء، إذاً: هو بحاجة إلى دعائنا عليه الصلاة والسلام بعد موته، ونحن بحاجة إلى الله عز وجل مباشرة بحيث لا نستعين إلا بالله عز وجل، فكيف إذاً بمن يستعين بالأموات الذين أصبحوا رفاة ويذهبون إليهم ويقولون: يا فلان! أعطني كذا؟! تذهب المرأة التي لا تحمل -نعوذ بالله- فتجلس عند صاحب الضريح، سواء كان تقياً أو براً أو فاجراً وتقول: أنا لا أحمل! تسأله وكأنه أصبح إلهاً مع الله عز وجل، وهو لا يملك لها ولا لنفسه نفعاً ولا ضراً؛ بل إن الأموات ونحن نمر بقبورهم نسلم عليهم وندعو لهم، فكيف يدعو هذا الإنسان المصاب ويذهب إلى ميت؟! ألا يفر إلى الله عز وجل؟! فيذهب هذا المريض إلى صاحب هذا القبر ويقول: أعطني الصحة والعافية! عياذاً بالله! وهذا هو معنى قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الأعراف:194]، وعلى هذا فإن كل ميت لا يمكن أن يساعد حياً، وكل حي قد يستطيع أن يساعد، لكن فيما لا يقدر عليه لا يجوز أن نسأله، كأمور الآخرة، أو مغفرة الذنوب وما أشبه ذلك، ولو كان حياً، أما الميت فإنه لا يجوز أن نعطيه شيئاً من الدعاء، أو نسأله حاجة من الحاجات؛ لأنه أصبح تراباً، وهو أيضاً رهين في قبره بما قدمه في حياته الدنيا، فقد يكون من أهل السعادة، وقد يكون من أهل الشقاوة، وقبره إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار، حتى لو فني جسمه فإن روحه باقية، وهي التي تعود إلى مكانها يوم يأذن الله عز وجل ببعث الخلائق.
إذاً: هذا هو معنى قولنا: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، أي: لا نعبد إلا أنت يا رب، ولا نستعين إلا بك، لكن ذلك لا يمنع أن تستعين بحي في أمور محدودة يستطيع عليها، وتطلب منه المساعدة والعون، لكنك حينما تطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل، أو تطلب هذا الأمر من ميت أياً كان هذا الميت؛ سواء كان من المرسلين أو من عامة الناس، فإنك في الحقيقة تطلب المستحيل؛ لأن هذه الأمور لا يملكها إلا الله عز وجل، والرسول صلى الله عليه وسلم وإن كان حياً حياة برزخية في قبره كما نؤمن بذلك، إلا أنه ميت عليه الصلاة والسلام، بخلاف ما يقوله غلاة الصوفية والمارقون: أن النبي صلى الله عليه وسلم حي، ويقولون: محمد خلق من نور، وليس له ظل، وهذا كله في الحقيقة كفر بالله عز وجل، وكفر بما جاء من عند الله عز وجل، وما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فالله تعالى أخبر بأنه ميت: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30]، أي: ستموت: {أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ} [آل عمران:144]، إذاً: الموت يقع عليه كما وقع على جميع الأنبياء، والخلاف في الذي لم يمت في الحقيقة هو عيسى عليه الصلاة والسلام، كما دل القرآن عليه حيث قال تعالى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء:158]، {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران:55]، علماً أن طائفة من المفسرين يقولون: قوله: (إني رافعك إلي) فيه تقديم وتأخير في المعنى لا في اللفظ، أي: رافعك ومتوفيك، فالله عز وجل رفعه إلى السماء وتوفاه، ويوم القيامة قبل أن تقوم الساعة حينما يخرج المسيح الدجال ينزله الله عز وجل إلى الأرض، ويقتل الدجال، ويكسر الصليب كما جاء في الحديث.
إذاً: موت الأنبياء موت حقيقي، لكن حياتهم برزخية، وقد حرم على الأرض أن تأكل أجسادهم كما جاء ذلك في الحديث، أما الموت فإنه كتبه الله عز وجل على كل كائن حي بما في ذلك المرسلون عليهم الصلاة والسلام، وفي يوم القيامة يموت كل شيء حتى الملائكة، وآخر من يموت حملة العرش بعد أن يموت ملك الموت، ويفني الله عز وجل هذا العالم كله؛ لأن الله تعالى يقول: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]، {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن:26]، فالذين يقولون: محمد غير ميت وهو حي، هم في الحقيقة يكفرون بالقرآن، ويكفرون بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من عند الله عز وجل من الكتاب والسنة، ويكذبون الرسول صلى الله عليه وسلم في بشريته حينما قال: (ألا أنما أنا بشر)، فلم يخلق من نور، وإنما خلق من لحم ودم، وهذا معنى بشر، وليس هو أول المخلوقات؛ لأن أول مخلوقات البشر هؤلاء هو آدم عليه الصلاة والسلام، كما أخبر الله عز وجل: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30].
وكل هذه من شطحات الصوفية الذين ضلوا الطريق، وأضلوا كثيراً من الناس في أيامنا الحاضرة وعبر سنين طويلة، وسوف يسألون يوم القيامة بين يدي الله عز وجل عن كل من ضل على أيديهم، وعن كل ما افتروه على الله عز وجل، وكذبوا به رسوله صلى الله عليه وسلم، بالرغم من أنهم يزعمون أنهم يحبون الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر من غيرهم.
وعلى هذا نفهم قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، أن الاستعانة أيضاً كالعبودية، وهذا نفهم منه أن الاستعانة نوع من العبادة، بل هي جزء مهم من جزئيات العبادة؛ لأن الله عز وجل ذكرها بعد العبودية مباشرة، وبالرغم من أنها جزء من جزئيات العبودية إلا أنها أصل من أصول العبودية لله عز وجل، الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (وإذا استعنت فاستعن بالله)، لا تسأل غير الله عز وجل، وذلك كله مرتبط بقوله تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، أي: الاستعانة يجب أن تكون لله عز وجل وحده لا شريك له.(25/12)
تفسير قوله تعالى: (اهدنا الصراط المستقيم)
ثم بعد ذلك بدأ الدعاء الذي يقول الله عز وجل عنه: (ولعبدي ما سأل)، في قوله تعالى في النصف الثاني: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]، و (اهْدِنَا) لا بد أن تقرأ بهذا اللفظ؛ لأن هناك من العامة من يقرؤها: (أَهدنا) نعوذ بالله! وهذه القراءة تزيل اللفظ رأساً على عقب، وهي أيضاً تحريف في كتاب الله عز وجل، ولا يعذر الإنسان في ذلك، بل يجب أن يتعلم سورة الفاتحة من أولها إلى آخرها، بحركاتها وسكناتها، فإن من قرأ: (أهدنا) فيكون المعنى من الهدية، فالصلاة تعتبر غير صحيحة، سواء قرأها الإمام أو قرأها المنفرد أو المأموم، فلا بد أن يقرأها بهذا اللفظ: (اهْدِنَا)؛ لأن (اهْدِنَا) من الهداية، وهنا المطلوب الهداية، ومعنى (اهْدِنَا) أي: دلنا على الصراط المستقيم، ولا شك أن الذي يقرؤها ممن دله الله عز وجل على الصراط المستقيم، فكيف يقول: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)، وهو ما وقف يصلي بين يدي الله عز وجل إلا بعد أن اهتدى إلى الصراط المستقيم؟ فنقول: إن لها معنيين: أي: دلنا على الصراط المستقيم، وإذا اهتدينا إليه ثبتنا عليه، ويكون معنى (اهدنا) بالنسبة للمسلم وهو يقرؤها أي: اهدنا إليه هداية تامة مطلقة؛ لأن هناك من يزعم ويظن أنه على الصراط المستقيم، لكنه ضل الطريق، كما قلت لكم في غلاة الصوفية الذين انحرفوا عن الطريق، وكما يوجد في العلمانيين في هذا العصر، يقولون: إن هذا الدين دين عبادة، والقرآن نزل للعبادة، والمسلم مكلف بالعبادة فقط من عند الله عز وجل، أما بالنسبة لأنظمة الحياة فيقول هؤلاء العلمانيون: هذه ليست لله وإنما هي للبشر، هذا لله وهذا لشركائهم، ولذلك يرون أن هذا الدين لا يتدخل في أنظمة الحياة: لا في الأنظمة الاقتصادية، ولا في الأنظمة السياسية، ولا في الأنظمة الأخلاقية، ولا في الأكل ولا الشرب ولا اللباس، إنما يقول هؤلاء العلمانيون قاتلهم الله: إن معنى هذا الدين أن تذهب إلى المسجد تصلي إذا جاء وقت الصلاة، وتصوم إذا جاء رمضان، وتحج إذا جاء الحج وتعتمر إلى غير ذلك من العبادات، أما أموال الناس ومعاملاتهم وسلوكهم وحكمهم وسياستهم فيقولون: لا يتدخل الدين في ذلك، فهذا منهج العلمانيين.
أما الصوفية فإنهم يصرفون أنواعاً من العبادة لغير الله عز وجل، ويبدأ ذلك من البدع والعياذ بالله! والبدع كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم في كل خطبة جمعة: (كل محدثة في دين الله بدعة، وكل بدعة ضلالة)، وعلى هذا: فإن أي بدعة فإنها تعتبر ضلالة في الحقيقة، وعلى هذا فإن المسلم مطالب بأن يسأل الله عز وجل دائماً الهداية، فإذا كان ذلك الإنسان ضالاً وهو يسأل الله الهداية ويقول: أنا مهتدي، وهو ضال في الحقيقة، كما ذكرت عن هؤلاء الذين يزعمون أنهم على الصراط المستقيم، فهؤلاء أشد الناس فتنة يوم القيامة، وهم في الدنيا يحسبون أنهم يحسنون صنعاً قال تعالى عنهم: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:104]، وأخبر الله عز وجل عنهم في مكان آخر بقوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النور:39].
فهؤلاء الذين يعبدون الله عز وجل على غير بصيرة أو بدون قاعدة التوحيد، أو المنافقون أو من كانت عندهم شطحات عظيمة تخرجهم من الملة: {يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:104]، و {أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} [النور:39]، و (السراب) معناه: الشيء الذي يرى في شدة الحر وكأنه ماء للعطشان، فيركض وراءه، وكلما قرب ابتعد، والحقيقة أنه ليس ماءً، وإنما هو فقط أمام عينيه، وهكذا أعمال هؤلاء القوم الذين يحسبون أنهم على حق وهم على ضلال، ولذلك يروى أن علياً رضي الله عنه كان يسير في الطريق ذات يوم في صحراء، فمر بدير من أديرة اليهود فنادى، فأطل عليه راهب كانت الدموع تسيل على لحيته، فلما رآه علي رضي الله عنه قال: صدق الله العظيم: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ} [الغاشية:2]، أي: في الدنيا، {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية:3 - 4]، أي: في الآخرة، فلا ينفع مثل هذا إيمانه؛ لأنه يبكي على غير منهج صحيح، ولذلك نلاحظ كثيراً من الناس يصرفون وقتاً كبيراً للعبادة، لكن هذه العبادة إما مبنية على قاعدة البدعة أو الشرك بالله عز وجل، أو عمل ليس على المنهج الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، ليس صواباً غير مقبول.
ولذلك المسلم يقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]، فيطلب الهداية إن كان عنده شيء من الأخطاء التي تضله عن الطريق أو هناك من يضله، يسأل الله تعالى أن يهديه، ثم يسأل الله عز وجل الثبات أيضاً على ذلك، أي: ثبتنا على الصراط المستقيم؛ لأن الهداية هي دلالة وثبات، فالله تعالى هو الذي يدل الإنسان على الطريق المستقيم، وقد يضل أذكى الناس كما نشاهد في أيامنا الحاضرة، فإن الذين صنعوا الكمبيوتر والأجهزة الدقيقة، وصعدوا في الفضاء، ووصلوا إلى القمر، وغاصوا في أعماق الأرض، واكتشفوا أشياء دقيقة جداً، ما هداهم الله عز وجل إلى هذا الطريق المستقيم؛ لأن الله عز وجل لا يهدي إلا من يريد، والهداية لا تقوم على الذكاء، أو على الآباء والأمجاد، أو أبناء الذوات أو ما أشبه ذلك، وإنما تقوم على توفيق من الله عز وجل؛ لأن الله تعالى يقول: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:35]، ولذلك المسلم يكررها في كل ركعة، وفي غير الصلاة أيضاً: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ).
وهذا دعاء يطلب من الله عز وجل وإن كان أمراً في ظاهره، لكنه لا يكون من الأقل للأعلى إلا دعاء، فالأمر له عدة حالات: فإذا كان من الأعلى أو من المساوي قد يكون أمراً، لكن إذا كان من الأقل إلى الأعلى فمعناه دعاء وتضرع بين يدي الله عز وجل، وطلب من الله عز وجل الهداية والثبات، وعلى هذا فإن معنى قوله: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)، أي: ثبتنا عليه، سؤال من الله عز وجل أن يثبتهم على الصراط المستقيم.
والمسلم دائماً عليه أن يتأكد من صحة المسار، ومن تأكده أن يكثر من قول: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)، بل إذا قالت له نفسه شيئاً من الغرور، يسأل الله عز وجل الثبات، وإن لم تقل له نفسه شيئاً من هذا الغرور فالرسول صلى الله عليه وسلم وهو أفضل الخلق وأحسنهم عملاً وإخلاصاً ومتابعة لأوامر الله عز وجل كان دائماً يقول: (اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)، ونحن أولى بأن نقول ذلك؛ لأن الله عز وجل يقول: {وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، ولم يقل: أسلموا، وإنما قال: {وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، وجاء في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع -يعني: قرب الأجل- فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها)، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً في أهل النار: (وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع -أي: فيما يظهر للناس- فيسبق عليه الكتاب -أي: يقرب الأجل- فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)، ويأتي إذا قرب الأجل ما قدره الله عز وجل له في اللوح المحفوظ، نسأل الله الثبات، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها، فهو في طول حياته -نعوذ بالله- ضال، لكن الله عز وجل أراد له الهداية وحسن الخاتمة، ولذلك يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (من كان منكم مستناً فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة) نسأل الله الثبات والموت على الملة.
قال تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]، أي: ثبتنا عليه، وهذا الثبات هو الذي يحرس هذا الإنسان؛ لأن الله تعالى يقول: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:27]، وكم نرى من الناس من هو على صلاح وتقى، ولكن الله عز وجل أراد له الضلالة وسجل عليه الشقاوة في جبينه يوم كان في بطن أمه وفي اللوح المحفوظ؛ لأن أول ما خلق الله القلم فقال له: (اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة)، فكتب ذلك كله في اللوح المحفوظ، فنرى صلاحاً وتقى في إنسان، ثم إذا به ينحرف نعوذ بالله! وقد نرى والحمد لله ما هو أكثر من ذلك في أيامنا الحاضرة، أناساً رأيناهم في ضلال، حتى إذا جاء الله عز وجل بهذه الصحوة الإسلامية المباركة، وهذا الاتجاه الطيب، وجدنا أن هؤلاء والحمد لله أصبحوا في مقدمة الصالحين، وقد يكونون أبناء أناس فسقة ومن الله عز وجل عليهم بالهداية، لاسيما في هذا العصر الذي أثلج -والحمد لله- صدور المؤمنين ما نشاهده من اتجاه إلى دين الله عز وجل، نسأل الله لهم الثبات والاتزان والانضباط، حتى لا يتعدوا الحدود التي شرعها الله عز وجل.(25/13)
معنى الصراط المستقيم
(اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)، الصراط المستقيم: هو طريق الجنة، وطريق الإسلام قبل ذلك، وسمي صراطاً لأن الصراط معناه: الطريق، والمستقيم معناه: الذي لا ينحرف، وقد فسرت هذه الآية الآية الأخرى في آخر سورة الأنعام، وهي قول الله عز وجل: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا} [الأنعام:153]، الذي هو دين الإسلام وطريق الجنة، {فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153]، ومعنى السبل أي: الطرق الأخرى، والرسول صلى الله عليه وسلم لما قرأ هذه الآية في سورة الأنعام في آخرها خط خطاً طويلاً مستقيماً وقال: (هذا صراط الله -يعني: الذي يوصل إلى الجنة- وعليه داع يدعو إليه)، خطوطاً منحرفة يميناً ويساراً وقال: (هذه هي السبل، وعلى كل واحد منها شيطان).
ولذلك يقول العلماء: إنه كلما جاء الصراط المستقيم أو دين الإسلام أو الطريق الموصل إلى الجنة جاء بلفظ المفرد، كقوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]، وكقوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا} [الأنعام:153]، وأما إذا جاءت الطرق المنحرفة فإنها تذكر بلفظ الجمع، كما في قوله تعالى: {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} [الأنعام:153]؛ لأن طرق النار كثيرة نعوذ بالله! وطريق الجنة واحد، ليس هناك في الجنة إلا طريق واحدة، وهي طريق الإيمان والتوحيد والمتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم، والمرسلين قبله قبل أن تنسخ أديانهم.
وعلى هذا فإن هذه القاعدة مطردة، كلما جاء الصراط أو السبيل بلفظ الجمع فالمراد به طرق النار نعوذ بالله! والطرق المنحرفة، كما رسم الرسول صلى الله عليه وسلم، وكما جاء في هذه الآية، ولكن ورد في قول الله عز وجل في آخر آية في سورة العنكبوت: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69]، فلم تأت حسب ما أعرف (سبل) مجموعة إلا في هذه الآية، وهي من سبل الطريق المستقيم، قال بعض العلماء عنها: (سبلنا) أي: الطرق التي تنتهي بطريق واحدة، فكأنها ممرات تنتهي بطريق واحدة، وهي طريق الجنة وهو الصراط المستقيم، ولذلك فإن السبل وإن تعددت إذا كانت تنتهي بطريق واحدة فهي طريق الجنة؛ كما جاءت في آخر آية من سورة العنكبوت.
ولذلك فإننا نجد أيضاً أن هذه السبل -كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم- على كل واحد منها شيطان، وهؤلاء الشياطين منتشرون من شياطين الإنس والجن في أيامنا الحاضرة، وفي كل عصر من العصور، يدعون الناس إلى هذه السبل المنحرفة، وكما جاء في الحديث نفسه الذي ذكرته: (أن على كل واحد منها شيطاناً)، وهذا الشيطان قد يكون من شياطين الإنس، وقد يكون من شياطين الجن، وقد يكون من الجميع، قال تعالى: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام:112]، وهذا نجده في هؤلاء المنصرين والمهودين في أيامنا الحاضرة، أو نجده في الذين يدعون الناس إلى الضلال ولو كانوا من أبناء المسلمين، ومن أبناء جلدتنا، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي).
ولذلك فإن المسلم مطالب أن يكون على المنهج المستقيم، وأن يكون متبعاً لا مبتدعاً، ثم أيضاً المسلم مطالب بأن يسأل الله عز وجل الثبات على ذلك، وعليه أن يبحث عن أفضل فرقة، وأفضل أمة، فيضم صوته إلى صوتها، ويضم نفسه إلى مجموعتها؛ حتى لا يضل الطريق، ولذلك أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث رواه حذيفة بن اليمان قال: (كان الناس يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني - ثم قال في آخر الحديث:- دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها، قال حذيفة: قلت: صفهم لنا يا رسول الله! قال: قوم من أبناء جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، قال: فقلت: يا رسول الله! فماذا تأمرنا إن أدركنا ذلك؟ قال: الزم جماعة المسلمين وإمامهم، قال: فقلت: يا رسول الله! وإن لم يكن للمسلمين جماعة ولا إمام؟ قال: اعتزل تلك الفرق ولو أن تعض على أصل شجرة، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك).
وعلى هذا يا أخي الكريم! فإن على المسلم أن يتقي الله عز وجل، وأن يبحث دائماً عن الصواب، وعن الطريق المستقيمة في هذا الأمر، وهذا معنى قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]، إذاً تسأله الثبات على دين الإسلام، وهذا الطريق كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن أوله في الدنيا، وهو طريق الاستقامة، وآخره في الجنة، نسأل الله أن نسلكه جميعاً، وأن يهدينا إليه، وأن يجنبنا السبل الضالة حتى لو كان يتقمصها ويتبناها من أبناء جلدتنا ومن يتكلمون بألسنتنا.(25/14)
تفسير قوله تعالى: (صراط الذين أنعمت عليهم)
ثم وضح الله عز وجل هذا الصراط المستقيم فقال عز وجل: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7]، ومعنى (صراط): أي: طريق، و (صراط) هنا بدل من الصراط، ولذلك نجد أنها منصوبة كما نصبت الصراط، لكن تلك بـ (أل) وهذه مضافة؛ لئلا تجتمع (أل) والإضافة، أي: طريق الذين أنعمت عليهم، والمراد بالذين أنعم الله عليهم: هم المؤمنون، فالله عز وجل أنعم على المؤمنين، وأضل الكافرين عن هذا الطريق.
(صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)، أي: من عباد الله المؤمنين، وهذه النعمة المراد بها نعمة الإسلام، وليس المراد بها نعمة المادة فقط التي يسألها ويطلبها ويسعى إليها كثير من الناس، فنعمة الإسلام هي أكبر نعمة، وأكبر ما من الله عز وجل به على واحد من الناس أن هداه لهذا الدين، ولذلك أخبر الله عز وجل فقال: (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)، أي: أنعمت عليهم بالهداية، وأنعمت عليهم بالتوفيق، وقد ضل عن هذا الطريق أناس كثر، ولذلك قال هنا في أولها: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)، وأخبر بأن هؤلاء الذين هداهم الله عز وجل هم الذين أنعم الله عليهم، كما قال الله عز وجل في سورة النساء: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ} [النساء:69]، أي: نعمة الهداية في الدنيا، ونعمة الجنة والدرجة العالية في الحياة الآخرة، ولذلك قال الله عز وجل: (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)، أي: نعمة سابغة، وهي أعظم نعمة، فنعمة المال والأهل والولد كل هذه في الحقيقة تعتبر نعمة، لكنها وإن كانت نعمة في الحقيقة إلا أنها نعمة دون النعمة الكبرى، فالنعمة الكبرى هي هداية الإسلام، وما أنعم الله عز وجل على أحد أفضل وأكثر مما أنعم به في الهداية إلى الإسلام، وهذا معنى قوله تعالى: (أنعمت عليهم) وهم المسلمون.(25/15)
تفسير قوله تعالى: (غير المغضوب عليهم ولا الضالين)
ثم بين أن هؤلاء الذين أنعم الله عليهم هم المسلمون، والدليل أنهم مسلمون أن الله تعالى قال: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7]، والمغضوب عليهم: هم اليهود، والضالون: هم النصارى، وكل من غضب الله عز وجل عليه من المسلمين فإنه سلك مسلك اليهود، وكل من ضل الطريق بعد الهداية والتوفيق من الله عز وجل فإنه يعتبر من الضالين في حساب النصارى، وإن كان المغضوب عليهم في الأصل هم اليهود، والضالون هم النصارى.
وكلمة (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ)، تدل على أن المغضوب عليهم أشد خطراً وسوءاً وإجراماً من الضالين؛ لأن الإنسان إذا ضل الطريق هو في الحقيقة ترجى له الهداية، لكن الذي يغضب الله عز وجل عليه فإنه يعتبر أسوأ الناس؛ لأن الله عز وجل غضب عليه وقال: {وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ} [المائدة:60]، فالمغضوب عليهم: هم اليهود؛ بدليل هذه الآية التي في سورة المائدة: {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ} [المائدة:60].
وسمى اليهود مغضوباً عليهم؛ لأن كتبهم السماوية التي نزلت على أنبيائهم كلها تذكر صفة محمد صلى الله عليه وسلم، ولكنهم كانوا ينتظرون قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم أنه سيبعث، ويعدون العرب في مكة والمدينة، كانوا يخبرون أهل المدينة بأنه سيبعث رجل من العرب هذه صفاته، وهذا اسمه إلى غير ذلك، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم كفروا به، ولذلك يقول الله عز وجل: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} [البقرة:101] وهم اليهود، {نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [البقرة:101]، وكذلك النصارى معهم: {كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} [البقرة:101]، الذي هو التوراة والإنجيل الذي جاء بصفات محمد صلى الله عليه وسلم، نبذوا حتى كتبهم وراء ظهورهم وكفروا به؛ لأنه أخبر عن محمد صلى الله عليه وسلم، ولذلك غضب الله تعالى عليهم وتوعدهم بالنار، بل جعلهم أشر أنواع الكفار، كما في قوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} [المائدة:82].
علماً يا أخي الكريم! أن هذه الآية لا تدل على أن النصارى إخوة للمسلمين، كما يقول بعض المارقين -نعوذ بالله- أنهم أهل كتاب سماوي، وأنهم لا يكفرون، فإن تكفيرهم أمر مطلوب، ومن لم يكفرهم فقد كفر بالله عز وجل؛ لأن الله تعالى يقول: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:17]، لكن هذه الآية تدل على أن اليهود أشد عداوة وأخطر على الإسلام من النصارى، ولكن العداوة مشتركة؛ لأن الله تعالى قال: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة:82]، فالعداوة موجودة من الجميع، إلا أن التفضيل هنا يزيد اليهود عداوة، ولكن النصارى أعداء أيضاً.
وكما نشاهد في عالمنا اليوم كيف أن النصارى الآن يقفون في وجه هذا الدين كما وقف اليهود، وهم الآن يدمرون بلاد المسلمين، ويدمرون اقتصادهم وأخلاقهم فيما يبثونه في بلاد المسلمين من هذه المحرمات إلى غير ذلك.
واليهود والنصارى يشتركون في العداوة؛ لأن الله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال:73]، لكن في الحقيقة العداوة عند اليهود أشد، ولذلك سماهم الله تعالى مغضوباً عليهم، وقدمهم في الذكر هنا مقابل المؤمنين، ولكنه ذكر بعد ذلك النصارى فقال: (وَلا الضَّالِّينَ)، أي: لا هؤلاء ولا هؤلاء، والمراد بالضالين: النصارى، وليس معنى ضالين أنهم ضلوا الطريق، وأنهم ما بلغتهم الرسالة؛ لأن الذي لم تبلغه الرسالة لا يحاسب، والله عز وجل يقول: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، فمعنى: ضالون أي: ضلوا الطريق على بصيرة، هذا هو معنى ذلك، لكنهم أقل خطراً من اليهود، وأقل جرماً من اليهود.
وعلى هذا فإننا نعتبر أن الطريق المستقيم هو طريق واحدة، أما الطرق المنحرفة فهي لليهود والنصارى وأصحاب البدع والخرافات والوثنيين، وغيرهم من أصحاب الملل حتى من أصحاب الدعوة من الذين بعث فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم، ففيهم ضالون كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة)، أي: أمة الدعوة والبلاغ الذين بعث الرسول صلى الله عليه وسلم لبلاغهم، على ثلاث وسبعين فرقة، بل قد يكون بعضهم ممن يحمل الهوية الإسلامية، فنجد أن العلمانيين يحملون الهوية الإسلامية، ونجد أن غلاة الصوفية يحملون الهوية الإسلامية، وأصحاب القبور يحملون الهوية الإسلامية والاسم الإسلامي، لكن ذلك كله لا ينفعهم؛ لأن الإسلام ليس دين هوية وإنما هو منهج عمل.
وعلى هذا فإننا نستعيذ بالله تعالى في كل صلاة من منهج اليهود والنصارى، ثم إذا أكملنا الفاتحة نقول: (آمين)، و (آمين) ليست آية من القرآن، وليست آية من الفاتحة، ومعناها: اللهم استجب؛ لأن آخر سورة الفاتحة يعتبر دعاءً، والله تعالى يقول: (ولعبدي ما سأل)، فنقول: (آمين) أي: اللهم استجب؛ لأن آمين اسم فعل أمر بمعنى: استجب يا ربنا.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(25/16)
أثر الذنوب والمعاصي
للذنوب آثار وخيمة على الفرد والمجتمع، فما نزل بلاء، ولا منع عطاء إلا بذنب، وما حلّ قحط إلا بذنب، ولا وقعت نكبة إلا بذنب، ولا خيم ذل على أمة من الأمم إلا بسبب الذنوب، فاتق الله أخي المسلم! وخلِّ الذنوب صغيرها وكبيرها عل الله أن يرفع عنك وعن أمتك البلاء.(26/1)
مقدمة عن أثر المعاصي على الأمم
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، والشكر لله الذي ينذر ويعذر، ويبين لنا أسباب الخير والسعادة وأسباب البلاء والشقاوة، حتى لا نضل السبيل، هو الذي ذكر عز وجل النار في سورة الرحمن وما فيها من العذاب ثم قال: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:13]؛ لأن بيان العذاب في الدنيا نعمة من الله عز وجل.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الحكم الحق المبين، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، الذي أرسله الله رحمة للعالمين أجمعين، وحجة على الناس أجمعين، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، فجزاه الله عنا وعن الأمة الإسلامية خير الجزاء، وجزاه خير ما يجزي به نبياً عن أمته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه.
وبعد: إن للذنوب خطورة في حياة البشرية، وذلك شيء نجده في القرآن العظيم، قال الله عز وجل: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} [العنكبوت:40].
وحينما يذكر الله عز وجل عقوبة أمة من الأمم في القرآن العظيم يقول بعد ذلك: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:83] أي: وقوعها على ظالمي هذه الأمة ليس بعيداً.
ولولا دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذه الأمة لحل بها البلاء العام، ولكن الله سبحانه وتعالى قد وضع في عنق كل فرد من أفراد هذه الأمة مسئولية تبليغ هذا الدين جيلاً بعد جيل، فاستجاب الله عز وجل دعوة رسوله صلى الله عليه وسلم أن لا يهلك أمته جميعاً.
أما المعاصي فإنها محارم الله، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (وحد حدوداً فلا تعتدوها) والله عز وجل يغار على محارمه أكثر مما يغار أي واحد منا على محارمه؛ لأن الله عز وجل له غيرة أعظم من غيرة أي واحد منا على محارمه، ولكن الله سبحانه وتعالى يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ولذلك يقول سبحانه وتعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102].
أيها الأخ الكريم! من هنا يجب علينا أن نقف ملياً في قصص القرآن العظيم؛ لنرى ماذا فعل الله عز وجل بالظالمين وأصحاب المعاصي والملاحدة والطغاة والمتجبرين الذين عتوا في الأرض وأكثروا فيها الفساد، فصب عليهم ربك سوط عذاب، إن ربك لبالمرصاد.
ولقد سأل عثمان بن عفان رضي الله عنه أعربياً فقال: يا أعرابي! أين الله؟ فقال الأعرابي: بالمرصاد.
فقال عثمان: (والله لقد سمعتها من فم هذا الأعرابي ولها وقع).
من هذا المنطلق يجب علينا أن نقف لنرى ماذا فعل كثير من الناس في حدود الله ومحارم الله وفرائضه وواجباته، لقد تعدى عليها كثير منهم، والله تعالى يسدل عليهم ستره، ويرغد عليهم رزقه، ويسبغ عليهم خيراته؛ لأن الله تعالى لطيف بعباده {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [النحل:61].(26/2)
الآثار المترتبة على اتخاذ الفيء دولاً
أخي الكريم! موضوع حديثنا حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحديث وإن كان فيه ضعف لكن له ما يقويه من أحاديث أخرى ومن الواقع، فيأخذ درجة القبول، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا اتخذ الفيء دولاً، والأمانة مغنماً، والزكاة مغرماً، وتعلم لغير الدين، وأطاع الرجل زوجته وعق أمه، وأدنى صديقه وأقصى أباه، وظهرت الأصوات في المساجد، واتخذت القينات والمعازف، وشربت الخمور، وظهر الزنا، وأكرم الرجل مخافة شره، وساد القبيلة فاسقهم، وكان زعيم القوم أرذلهم، ولعن آخر هذه الأمة أولها، فليرتقبوا عند ذلك ريحاً حمراء، وزلزلة، وخسفاً، ومسخاً، وقذفاً وآيات تتابع كنظامٍ بالٍ انقطع سلكه فتتابع)، وفي حديث آخر: (إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء).
نتحدث عن هذه الخصال لنرى مدى مطابقتها لواقعنا، وهل في هذه الأمة من تجرأ على هذه الأمور؟! وما هي النتيجة؟! قوله: (إذا اتخذ الفيء دولاً) الفيء في اللغة: هو ما يؤخذ من العدو، وفي الشرع: هو ما يؤخذ من العدو بدون قتال.
ثم صار الفيء يطلق على كل أموال المسلمين العامة، فصار بيت مال المسلمين يسمى فيئاً؛ لأنه يعتبر مصرفاً من مصارف الفيء، كما قال الله عز وجل: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} [الحشر:7] وقال في الآية التي قبلها: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [الحشر:6].
وإذا كان الفيء بيت مال المسلمين، فإن لبيت مال المسلمين الحرمة أعظم من أي مال من أموال الناس؛ لأن مال واحد من الناس يخص ذلك الواحد، ولربما يعفو عن حقه في يوم من الأيام، لكن بالنسبة لبيت مال المسلمين فإنه يتعلق به كل واحد من هؤلاء المسلمين الذين لهم حق ولهم صلة في هذا المال، فالتعدي على بيت مال المسلمين يعتبر من أكبر المعاصي التي تسبب سخط الله عز وجل أياً كان هذا التعدي، ولذلك فإن اتخاذ الفيء دولاً والتلاعب به بحيث يصبح دولة بين الأغنياء من الناس يعتبر سبباً من أسباب البلاء والفتنة.(26/3)
الآثار المترتبة على جعل الأمانة مغنماً
قوله: (والأمانة مغنماً) الأمانة هي ما استودعه الإنسان مما يجب حفظه من أموال المسلمين، والأمانة وإن كانت في معناها الاصطلاحي الشرعي أعم من ذلك لأن الله تعالى يقول: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا} [الأحزاب:72] وهي مسئولية التكليف أياً كانت هذه الأمانة، لكنها قد تطلق على المال المودع عند بعض الناس ليحفظه وليتحمل مسئوليته أمام الله عز وجل، فإذا اتخذت الأمانة مغنماً بحيث يصبح هذا الأمين الذي يأتمنه الناس على شيء من أموالهم يعتبرها فرصة ويعتبرها غنيمة ليتلاعب بهذا المال فذلك بلاء عظيم.
والأمانة هي أول ما نفقد من ديننا، كما جاء في الحديث: (أول ما تفقدون من دينكم الأمانة) إذا وجد ذلك كان ذلك إيذاناً بعقوبة من الله عز وجل، والله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء:58] فالأمانة مسئولية عظيمة عرضت على السماوات والأرض والجبال فأشفقن منها، وتحملها هذا الإنسان وسوف يسأل عنها، ومن هذه الأمانة أموال المسلمين التي يؤتمن عليها هذا الإنسان، فيتحمل مسئوليتها أمام الله عز وجل.(26/4)
الآثار المترتبة على جعل الزكاة مغرماً
قوله: (والزكاة مغرماً) الزكاة في اللغة: النماء والطهارة.
وفي الشرع: هي جزء من المال فرضه الله عز وجل في أموال الأغنياء يقدمونه للفقراء قربة لله عز وجل، وهذه الزكاة أمرها عظيم، والدليل على عظم أمرها أن الله تعالى قرنها بالشرك حيث قال: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت:6 - 7] وقد قرنها أيضاً بالصلاة في مواضع كثيرة، فيندر أن تمر بنا آية من آيات الصلاة إلا وتذكر الزكاة بعدها، كما أنها طهارة للمزكي وللمال وللمجتمع، فالمجتمع الذي تؤدى زكاته مجتمع طاهر نظيف، لا توجد فيه اللصوصية ولا الخيانات ولا السطو ولا السرقة؛ لأن هذه الظواهر السلبية غالباً ما توجد في المجتمعات المحتاجة المضطرة.
ولذلك لما تولى الخلافة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أرسل يحيى بن سعيد إلى أفريقيا ليجبي الزكاة، فجمع أموالاً عظيمة من الزكاة، وكتب إلى أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز: إن الإسلام قد أغنى الناس ولم نجد أحداً يأخذ الزكاة.
فكتب جواباً قال فيه: اشتر بها رقاباً وأعتقهم في سبيل الله.
ولذلك تقول الإحصائيات الرسمية في عصور الإسلام الأولى خلال أربعمائة سنة: إنه لم تقطع فيها إلا أربع أيدي فقط، على اتساع العالم الإسلامي الذي يمتد من الصين شرقاً إلى المحيط الأطلسي غرباً.
ما السر في ذلك؟ السر في ذلك هو أن الإسلام رفع مستوى الناس، سواءٌ أكان من الناحية الاقتصادية، أم من الناحية الثقافية والعلمية، أم مما أشبه ذلك، وعرفهم بالله عز وجل حق المعرفة، ولذلك فإن الزكاة تعتبر زكاة حقيقية؛ لأنها تطهر المجتمع من التحاسد والتباغض والتنافر وغيرها من الأمراض، كما تطهر الفرد من الشح، وتزكي المال وتزيده وتنميه.
أما إذا أصبحت الزكاة مغرماً وخسارة، بحيث إذا طولب هذا الإنسان بهذه الزكاة كأنه يطالب بأن يحمل جبلاً على ظهره، وصارت ثقيلة على النفوس، فمثل هؤلاء الناس حببت إليهم الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة.
ولربما يزيد هذا المال عند هؤلاء فتعجز الأرقام عن حصره أو تكاد، وتعجز البنوك عن استيعابه أو تقارب، ثم إذا بأحدهم يحسب هذا المال العظيم ثم يحسب زكاته العظيمة بمقدار عظمة هذا المال، ثم يغلبه الشح والنفس الأمارة بالسوء، فتصبح هذه الزكاة كأنها غرامة عليه، فيؤديها بثقل وتبرم، ولربما يمنعها فلا يعطيها مستحقها فتزل به القدم، كما فعل الله عز وجل بذلك المنافق الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! ادع الله أن يرزقني مالاً.
فقال: قليل تؤدي شكره خير لك من كثير لا تطيقه.
ثم يأتي مرة أخرى ويقول: يا رسول الله! ادع الله أن يرزقني مالاً.
فيقول: يا فلان! أما ترضى أن تكون مثل نبي الله، فوالذي نفس محمد بيده لو أردت أن تسير معي جبال الدنيا ذهباً لسارت.
فيأتي في الثالثة ويقول: يا رسول الله! والله لئن دعوت الله فرزقني مالاً لأعطين كل ذي حق حقه.
فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: اللهم! ارزقه مالاً.
قال: فاتخذ غنماً فنمت كما تنمو الدود، حتى ضاقت بها المدينة، فتنحى بها، فكان لا يشهد جمعة ولا جماعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين يأخذان الصدقة من هذا المنافق فقال: والله ما هذه إلا جزية) فأنزل الله عز وجل في هذا المنافق وأمثاله قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} [التوبة:75] وكلما جاءت كلمة (منهم) في سورة التوبة فالمراد بها المنافقون؛ لأن الله تعالى لم يكشفهم بأسمائهم وإنما أتى في شأنهم بضمير الغائب (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ) {فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة:76 - 77].
واليوم نخاف على كثير من أرباب الأموال الكثيرة؛ لأنهم حينما يحسبون هذه الأموال والممتلكات ثم ينظرون إلى ربع عشرها فيرونه مالاً عظيماً يضنون بالزكاة ويتخذونها مغرماً، ولذلك من العجيب في مثل هذا الوقت الذي فاض فيه المال أنه يوجد في قارة أفريقيا مائتان وخمسون مليوناً من الناس يهددهم الموت بالمجاعة، وأنا رأيت بعيني أناساً يتساقطون على الأرض من الجوع في بلاد ليس بيننا وبينها إلا هذا البحر، ونحن عندنا -والحمد لله- من الأموال ما نعرفه جميعاً.
ولو أننا اقتصدنا في بذخنا وموائدنا شيئاً قليلاً لأغنينا إخواننا المسلمين الذين تسلط عليهم الكفرة بتنصيرهم وتكفيرهم وتهويدهم بسبب لقمة العيش، خبزة يرسم عليها الصليب ولا يأكلها هذا الإنسان الجائع الفقير إلا بعد أن يرى الصليب بعينيه.
أكثر من عشرة ملايين من المسلمين تنصروا في أندونيسيا بسبب عدم اهتمام المسلمين بهؤلاء المسلمين في أندونيسيا وغيرها، لقد تنصر كثير من المسلمين في أندونيسيا، وفي أفريقيا وفي جنوب شرق آسيا وفي مناطق كثيرة، ولو أن المسلمين أدوا زكاة أموالهم بهذه النسبة اليسيرة لأغنوا أولئك الفقراء عن أعدائهم الذين لا يقدمون لهم لقمة العيش إلا بثمن، وهذا الثمن أن يتنازل كثير منهم عن عقيدته ودينه.
أيها الأخ الكريم! دعت الكنيسة إلى التبرع فجمعت مليار دولار في يوم واحد، واليوم تقوم جمعيات كبيرة متناثرة في العالم الإسلامي لتجمع شيئاً من المال في أيام فلا تحصل على معشار هذا المبلغ الذي جمع في يوم واحد على يد الكنيسة، وتصور هذا المليار كم ينصر؟ ولماذا اختاروا ملياراً بالذات؟ لأن عدد المسلمين مليار مسلم، فقال بعضهم لبعض: نجمع مليار دولار لننصِّر بها ملياراً من المسلمين.
أي: كل المسلمين.
ولذلك كان من تخطيطهم أن تصبح قارة أفريقيا كلها نصرانية خلال عشر سنوات، ولكن الله من ورائهم محيط، قال عز وجل: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ} [البقرة:251].
إضافة إلى أن الزكاة ركن من أركان الإسلام، وأمر واجب مطلوب، فهي أيضاً ضمان لهؤلاء المسلمين من أن ينحرفوا عن دينهم، ومن حكمة الله عز وجل أن تسقط الشيوعية، وكنا ننتظر ذلك منذ أمد؛ لأنها قالت: إنها سوف تضع على هذه الأرض جنة أحسن من الجنة التي يعد الله الناس بها في الآخرة.
مع أنهم لا يؤمنون بالله ولا بالجنة ولا بالآخرة، ثم إذا بها تتساقط تحت أقدام المسلمين والحمد لله.
إذاً ليس هناك إلا الإسلام الذي سوف يسد الحاجة ويرد الحق إلى نصابه، ويعتبر سقوط الشيوعية من الأمور المتوقعة؛ لأن الله عز وجل يقول: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً} [الرعد:17].
وبقي أولئك الذين يقدمون الدرهم والدينار لحرف أبناء المسلمين عن دينهم، فما على هذه الأمة إلا أن تجتهد في الدعوة، وأن تقدم هذا المال في سبيل الله، حتى لا تكون الزكاة مغرماً، أما إذا أصبحت الزكاة مغرماً -أي: ثقيلة على النفوس وغرامة شديدة حينئذ- فلربما يبخل الإنسان بالزكاة فيغضب الله عز وجل فينقطع المطر فيهلك الحرث والنسل، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (ولا منعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا).
فالزكاة أمرها عظيم، ليست فقط ركناً من أركان الإسلام، لكنها إضافة إلى ذلك هي ضمان للفقراء، وحماية لهذا الدين، وضمان وحماية لبقاء الأمة الإسلامية على الأرض، بحيث يشعر هؤلاء الفقراء بحقهم، ولو تعدت هذه الزكاة الحدود السياسية فذهبت إلى أفريقيا، وذهبت إلى جنوب شرق آسيا حسب هذه الحاجة.
والحمد لله على أنه في بلادنا أصبح الفقراء فيها يضاهون الأغنياء.
ولقد رأيت قصر رئيس جمهورية دولة يزيد سكانها على مائة مليون يوجد من فقرائنا هنا من يملك قصراً أكبر من قصر ذلك الرئيس، وفيه من الأثاث أعظم من أثاث قصر ذلك الرئيس.
ارتفع -والحمد لله- هنا مستوى المعيشة، وأصبح الفقراء ملوكاً في أيامنا الحاضرة، ولكن لا ننسى إخواناً لنا تربطنا بهم رابطة العقيدة، يقول الله عز وجل: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [المؤمنون:52]، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10].(26/5)
ظاهرة تعلم العلم لغير الدين وما يترتب على ذلك
قوله صلى الله عليه وسلم: (وتعلم لغير الدين) من أسباب العذاب أن يطلب العلم لغير الدين.
وهذه معجزة عجيبة، فما كان في العصور الأولى أحد يفكر أن يفهم معنى: (وتعلم لغير الدين)؛ لأنهم كانوا لا يطلبونه إلا للدين ورضا الله عز وجل ولمعرفة الله ولعبادة الله، ثم حدث حدث خطير فتعلم لغير الدين، وأصبحت هناك منافسة على الشهادات وحب البروز والظهور، والتنافس على الوظائف والمراكز، وأصبح كثير منهم يتعلم حتى علم الشرع لغير الدين، وإذا قيل له: لماذا؟ قال: أريد أن أؤمن مستقبلي وأؤمن حياتي.
ويقصد بحياته ومستقبله الحياة الدنيا.
السعي للحياة الدنيا أمر مطلوب، أما أن يتخذ طلب العلم الشرعي الذي به يعرف الله ويعبد الله عز وجل لهدف من أهداف الدنيا فيعتبر ذلك بداية النهاية، وأعرف رجالاً كثيرين درسوا في كليات الشريعة ودرجوا في هذه الحياة منذ عشرات السنين، وكنا نظن أنهم سوف يغيرون وجه التاريخ حينما يكونون رجال علم وأصحاب مناصب إلى غير ذلك، وسيعيدون الإصلاح للأمة، وإذا بهم يقفون عند حد الوظيفة، ثم لا يفكر أحدهم إلا في ترقية، أو في مرتبة، أو في سمعة، أو في شرف، وذلك أخطر ما يكون على هذا الإنسان، يقول عليه الصلاة والسلام: (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لِدِينِه).
أيها الأخ الكريم! إذا تعلم لغير الدين، وإذا ذاب علماء المسلمين في المجتمع، وإذا أصبح الناس يتنافسون في الشهادات، وإذا أصبح طالب العلم يطلب العلم ليباري العلماء أو ليماري السفهاء فإن الأمر خطير.
أخي! إذا عرفت شريعة الله عز وجل من خلال جامعة أو كلية أو مدرسة فإن عليك أن تبلغ ما عرفته؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (بلغوا عني ولو آية) (رب مبلغ أوعى من سامع)، أما أن ينتهي الأمر بهذا الإنسان الذي أمضى سنوات طوالاً من عمره في العلم إلى أن يذوب في المجتمع فلا نرى له أثراً، ولربما لا تمضي عليه إلا مدة وجيزة حتى ينسى كل ما تعلمه من شرع الله عز وجل؛ لأنه لم يتحرك بهذا العلم، وكذلك تراه يشاهد الأمم وهي تتهاوى في الحضيض بسبب الجهل والمعاصي، ثم لا نسمع له صوتاً يقول فيه كلمة الحق، بالرغم من أنه خريج كلية الشريعة، أو أصول الدين، أو نال شهادة الماجستير في هذا المستوى، أو ما فوق ذلك من الدكتوراه أو غيرها من الشهادات العملاقة التي يتسابق ويتنافس عليها الناس، ثم حين تعلم لغير هذا الدين أصبحت بركة هذا العلم مسلوبة، وأصبح هذا العلم لم ينتفع به حتى صاحبه، أو لربما انتفع به بمفرده بحيث لا يستفيد منه هؤلاء الناس، وهذا العلم سيكون حجة على هذا الإنسان يوم القيامة.
إذا تعلم لغير الدين فإن ذلك يعتبر بادرة من بوادر العذاب من الله عز وجل.
فلا تعجب -أيها الأخ- وأنت ترى هذه الجامعات الإسلامية في العالم وهي لا تحصى في عددها، وتنتج سنوياً الأعداد الهائلة من هؤلاء الشباب المثقفين ثقافة إسلامية، والمتعلمين علماً شرعياً، ثم لا نرى من يعتلي هذه المنابر ليقول كلمة الحق لهؤلاء الناس إلا الندرة القليلة مما جعلهم محط أنظار الناس، فأصبحوا معرضين لأشياء كثيرة.
نحن نطالب جميع العلماء ونطالب الذين عرفوا شرع الله عز وجل أن يبلغوا هذا الدين تبليغاً كاملاً، أما إذا كان هدفهم فقط هو الدنيا فإن أول من تسعر به النار يوم القيامة ثلاثة، رجل قرأ القرآن وحفظه وعلمه غيره، لكنه لغير الله، فهذا يوقفه الله عز وجل بين يديه يوم القيامة فيسأله، ثم يأمر به فيسحب إلى النار نعوذ بالله من ذلك.
إذاً لا بد من إخلاص النية لله عز وجل، والله تعالى يقول: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:282].(26/6)
الآثار المترتبة على طاعة الرجل لزوجته مقابل عقوق أمه
قوله: (وأطاع الرجل زوجته وعق أمه) هل يوجد في المسلمين من يفعل مثل هذا؟! هذه الأم التي حملتك داخل جوفها وهناً على وهن، ثم وضعتك وهناً على وهن، ثم أرضعتك مدة من الزمن، ثم إذا بها تسهر ليلها مع نهارها من أجل راحتك ومصلحتك، ثم بعد هذا كله تقدم عليها الزوجة! حينما يقع مثل ذلك فهذه بداية العقوبة، وحينما نقول ذلك لا نتغافل عن حق الزوجة، فللزوجة حق كما أن للوالدين حقاً، إلا أن حق الزوجة لا يطغى على حق الوالدين، فالله عز وجل يقرن حق الوالدين بحقه مباشرة، فيقول: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان:14] ويقول سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:23 - 24].(26/7)
تحذير الأبناء من إبعاد الآباء وإدناء الأصدقاء
قوله: (وأدنى صديقه وأقصى أباه) عجيب أن يحدث مثل هذا! كم من هؤلاء الشباب الذين لم يعرفوا بعد قدر الأبوة وفضلها، والذين لم يصيروا بعد آباءً لأنهم مازالوا أبناءً، والذين لا يعترفون بهذا الحق لذويه! ومن يقدم صديقه على أبيه؟! ولذلك تجد أن طائفة من هؤلاء الشباب الذين ابتلوا بهذه الفتنة يندر أن تجده مع أبيه، وإنما دائماً وأبداً مع صديقه، ولربما يكون ذلك الصديق منحرفاً، وهذه تعتبر بلية كبرى، الأب المربي العطوف صاحب النعمة قبل الحمل وبعد الحمل، وقبل الولادة وبعد الولادة هل نقدم عليه الصديق؟! الصديق له حق، ولكنه لا يأتي إلا بعد درجة بعيدة من حقوق الوالدين، أما أن يدني صديقه ويجفو أباه ليصبح الصديق في نظره أعظم وأعلى درجة من ذلك الأب فهذه تعتبر من بداية العقوبة ومن البلايا والفتن.
وبر الوالدين من أحب الأعمال إلى الله عز وجل، وبر الوالدين دين وقرض يقدمه ذلك الولد ليجني ثماره حينما يكون أباً، إن حسناً فحسناً وإن قبيحاً فقبيحاً، يقول عليه الصلاة والسلام: (بروا بآبائكم تبركم أبناؤكم) ولذلك نشاهد ذلك في الواقع، فالأبناء البررة الذين أدوا حقوق الوالدين يمن الله عليهم بأولاد بررة صالحين يؤدون حقهم.
ولذلك فإني أقول: لا بد أن نرعى هذا الحق من حقوق الله عز وجل وهو بر الوالدين وصلة الرحم، فالله تعالى يقول: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22 - 23] ونقرأ في الحديث قصة الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة فسدت عليهم طريق الخروج من باب الغار ولم يستطيعوا الخروج، فتوسلوا إلى الله عز وجل بصالح أعمالهم، لم يتوسلوا بالمخلوق؛ لأن التوسل بالمخلوق شرعاً لا يجوز، والتوسل بالأعمال الصالحة جائز ومطلوب، فهذا أحدهم يقول: (إنه كان لي والدان، وإنه نأى بي المرعى ذات يوم فجئت بغبوقهما فوجدتهما نائمين، فأمسكت بالقدح الذي فيه اللبن ووقفت على رأسيهما طوال الليل ولم أغبق قبلهما أهلي ولم أوقظهما حتى استيقظا قرب الفجر فناولتهما اللبن فشربا، اللهم! إن كنت فعلت ذلك ابتغاء مرضاتك ففرج عنا ما نحن فيه.
فانفرجت الصخرة قليلاً.
فكما أن الأعمال الصالحة تنجي الإنسان من عذاب الله عز وجل يوم القيامة فهي تخلص الناس من مخاوف الحياة الدنيا ومخاطرها، ولذلك يقول الله عز وجل: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الزمر:61] وكم من الناس من وقع في مشكلة فخلصه الله عز وجل بسبب طاعة، أما إذا أدنى الرجل صديقه وجفا أباه فإن ذلك يكون سبباً من أسباب العقوبة، نعوذ بالله.(26/8)