نصيحة لمن يغالي في المهور
السؤال
بعض الآباء يشدد على بناته في شأن الزواج ويرفض من يتقدم للخطبة، ويطلب طلبات تثقل المتقدم، فرج الله كربك يا شيخ، نرجو منك تعليقاً لطيفاً في غاية الحسن على هذه المشكلة؟
الجواب
وأنت فرج الله كربك أيها الشاب، وزوجك بنتاً صالحة إن شاء الله قريباً، ونقول في تعليقنا للآباء: اتقوا الله في فتياتكم، اتقوا الله في بناتكم وفلذات أكبادكم، ابنتك يا أخي قطعة منك، فلذة كبدك، ما هي بأمة عندك تبيعها وتشتريها، أو سلعة تأخذ فيها أعلى سعر، ولا أرضية ولا سيارة، هذه جزء منك، إذا كنت تبحث حقاً عن كرامتها وسعادتها فزوجها، فسعادتها والله مع الزوج، فوالله لو عملت لها قصراً عشرين دوراً، وصنعت لها غرفة عشرة في عشرة، وجعلتها تنام على الحرير والذهب فإنها في عذاب، ولو أعطيتها زوجاً ونامت معه على الحصير فإنها في نعيم، لأن الله يقول: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:21].
فيا من في قلبه إيمان ورحمة ورأفة على بنته زوجها، وإذا لم يأتك الخاطب فابحث لها أنت عن خاطب، وقد أخبرني أحد المشايخ عن رجل صالح في الرياض -رجل موفق نسأل الله أن يوفقه في الدنيا والآخرة- عنده ثلاث فتيات تخرجن مدرسات، ولم يأته أحد لخطبتهن، فذهب إلى المسجد واختار لهن ثلاثة من خيرة الشباب، ومسك كل واحدٍ منهم على حدة، وقال: تعال تريد تتزوج؟ قال: أين هي فقط؟ قال: تعال، فأخذه معه وأدخله المجلس، وأخذ الكبيرة وأدخله عليها وقال: هذا يريد أن يتزوجك فهل تقبلينه؟ فنظرت إليه ونظر إليها، قالت: نعم.
وقال هو: نعم.
فقال: حياك الله، غداً تأتيني أنت وأبوك وإخوانك، لا تأتيني بأحد غيرهم، جدك وخالك وولد عمك وعم عمك وجيرانك وجماعتك لا أريدهم، أريد فقط ثلاثة أو أربعة.
ثم ذهب، وفي المغرب جاء بثانٍ من الشباب الذين قد ضبطهم في ذهنه، وأراه الثانية وقال له: حياك الله في الغد أنت وأبوك وإخوانك.
ثم بالثالث في العشاء وقال له مثلما قال لصاحبيه، وبعد مغرب يوم الغد جاءوه الثلاثة ومعهم آباؤهم وإخوانهم للعقد، فطلب من كل واحد منهم مبلغاً زهيداً من المال، وعشاهم بكبش واحد فقط، وبعد ما انتهوا دعا الكبير وقال: أين سيارتك؟ ثم قال: يا فلانة اصعدي، وقال: هذه امرأتك اذهبوا وحياكم الله على الغداء في الغد، والثاني كذلك، والثالث كذلك.
وفي الغداء تغدوا عند الرجل، ثم ذهبت كل واحدة مع زوجها، فما رأيكم بهذا العمل؟! هل نستطيع أن نعمل مثله؟ بعض الناس إذا أراد تزويج ابنته عمل قضية كبيرة لا تنحل إلا بسبعين عقدة، فأول شيء لا يريد تزويجها إلا على من يملك راتباً كبيراً، وإذا رأى أنه مبتلى بالزواج، قال: ائت لنا بأبيك وجدك، وبعد ذلك الجلسة الأولى للتفاهم، والجلسة الثانية لأخذ موعد، والجلسة الثالثة للعقد، والجلسة الرابعة للمشاورة في شئون العرس وهل سيكون في فندق فخم أم في صالة أفراح عظيمة، ومن المدعوين، وكم الكروت ونوعيتها، وكيف الشكل، سبحان الله!! فما تخرج هذه البنت حتى تخرج روح زوجها.
هذا من التعقيد الذي ما أنزل الله به من سلطان، نحن نقص هذه القصص لتكون عبرة للناس من أهل العقول الذين يسعون في سبيل سعادة بناتهم؛ لأن الأب لما يزوج بهذا الأسلوب يريح ويرتاح، لكن بعض الآباء يشغل نفسه، تراه أسبوعاً يطلع، وينزل، والخيام، والكراسي، والدعوات، والذبائح، والقدور، والصحون، والأكياس، وبعد ذلك يأخذون ابنته ويتركونه هو والكراسي.
أكتفي بهذا القدر، وأسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يجعل فيما سمعنا بركة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(115/18)
اتقوا فراسة المؤمن
بدأ الشيخ محاضرته بتحديد مفهوم البصيرة، وتمييزها عن البصر المادي، ومن ثم بين حرمان العصاة من هذه الصفة، مبيناً بعد ذلك مفهوم الأولياء وكيف يكون المؤمن ولياً لله.
ومن ثم بدأ بتوضيح أسباب امتلاك البصيرة، وتطرق إلى كل سبب بشيء من التفصيل.(116/1)
البصر والبصيرة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وأسعد الله هذه الوجوه الطيبة، وأسأل الله كما جمعنا في هذا المكان الطاهر على طاعته أن يجمعنا جميعاً في دار كرامته.
أما موضوع الكلمة التي سوف أتكلم بها هذه الليلة، فهي بعنوان: " اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله "،كل إنسان يمتلك حاسة البصر، وعنده أيضاً حاسة سادسة اسمها: البصيرة أو الفراسة، أما سائر الحيوانات والمخلوقات الأخرى فهي تمتلك حاسة البصر، وتمتلكها بقدر أكبر من امتلاك الإنسان لها، فعين الثور كبيرة، وعين الطائر ترى دقيق الحب من جو السماء، فالطائر الصغير عينه مثل حبة الذرة، ولكنه يطير في السماء ويرى حبة الذرة في الأرض، فينزل ويأخذها ففيها حدة، وعين الغراب دقيقة جداً لكنها عيون مادية تبصر في حدود مادية.
والإنسان ببصره وبمقدار الرؤية وبموازين النظر التي عنده له مثل ما عند الحيوانات مع بعض الفوارق، أما الحاسة السادسة والنور الداخلي الذي هو البصيرة، فهذا لا يملكه إلا الإنسان المؤمن الذي فتح الله بصيرته، وبمقدار قوة البصيرة عند الإنسان وضعفها تتحدد سعادة الإنسان أو عكسها، فكلما كانت بصيرة الإنسان نافذة، وميدانها واسع، ومسافتها بعيدة، كان مردود السعادة عليه في الدنيا وفي الآخرة أعظم.(116/2)
حرمان العاصي من البصيرة
وكلما كانت البصيرة قليلة أو ضعيفة، كان ذلك بمقداره، فيحرم العاصي من البصيرة، والمؤمن يعطى نوراً في قلبه، وبصيرة في عقله، تجعله يرتب الأمور بحسب أولوياتها في الترتيب، تقديماً وتأخيراً، وتعظيماً، مهماً وأهم، هل البصر يرتب هذه القضايا.
لا.
إن الذي يرتبها هي البصيرة.
النور يقذفه الله عز وجل في قلب المؤمن.
والذي لا يملك هذه البصيرة يعيش أعمى ولو كانت عيونه كعيون الثور، والله يقول: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} [الإسراء:72] ويقول عز وجل: {إِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46] ويقول عز وجل: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ * إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} [فاطر:19 - 23].
فالذي ليس معه نور الإيمان فهو أعمى، ولا يعرف كيف يسير في هذه الحياة، ولا يعرف كيف يرتب نفسه، ترتيباته ترتيبات مادية، فيقدم شهوة البطن فيأكل، أو يقدم شهوة الفرج فيبحث عن مواطنها، أو يقدم شهوة الملابس فيظهر في ملبس فاخر، أو يقدم شهوة السكن فيريد عمارة، أوشهوة السيارات فيريد سيارة جديدة فهذه ترتيباته وأولويات حياته كلها محصورة في نطاق مادي، في شهوات البطن والفرج والسيارة والنوم والعمارة وتمشية وأكل، لكن شيء غير هذا.
لا.
أهم شيء في حياته الذي خلق من أجله، ومصيره كالموت والقبر والحشر والنشر والصراط والحوض والكتب والجنة والنار، هذه مشطوب عليها في ميادينه، ما لها كرت أو ميزان! لماذا؟ لأنه أعمى لا يرى الطريق، وليس لديه البصيرة، لكن لو كان عنده بصر لرفع بصره ونظر إلى الآخرة، ثم نظر إلى الدنيا، بشهواتها، وملذاتها، ومتاعها، وما فيها من اللذائذ كلها إذا وضعتها في موضعها الطبيعي تراها، لكن إذا قربتها إلى قلبك، إلى أن تغطيه فلن ترى إلا هي، ولن تبصر إلا هي، مثل إصبعي هذه، إذا وضعتها أمامي أرى مساحتها (4×3×1 سم) لكن لو قربتها من عيني إلى أن أغطي بها عيني فلا أرى شيئاً إلا هي، ولا أرى أن وراءها مسجد، أو أناس، أو عمارات وأراضٍ، ما أرى إلا هي؛ لأني لصقتها لصقاً كاملاً بعيني، فحجبت مجال الرؤية، والناس حين يلصقون الدنيا وشهواتها بقلوبهم، حتى تحجب عنهم كل شيء يرونه فلا يرون إلا الدنيا، ولهذا رب العالمين يقول: {أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} [الشورى:18] ويقول عز وجل: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً} [الأحقاف:26] وجعلنا لهم سمعاً من أجل أن يسمعوا، وأبصاراً من أجل أن يبصروا، يسمعون ماذا؟ يسمعون كلام الله، ودينه، وخطابه، يبصرون طريق الله، وأفئدة يعقلون عن الله أسرار خلق البشر، فهم ليسوا كالبقر، الآن هؤلاء أهل الشهوات، وأهل الكفر والمعاصي، الواقعين فيها والبعيدون عن الله، اسأل: ما الفارق بينهم وبين حياة البهائم؟ لا شيء!! اسأل الحمار، قل له ماذا تريد يا حمار؟ يقول: أريد حمارة.
فقط تراه يمشي، فإذا رأى حمارة رفع رأسه وجرى وراءها، نعم هل عند الحمار غير هذا الاهتمام؟ وماذا تريد غير الحمارة؟ قال: أريد علفاً آكله، حتى أشبع، وبعد ذلك؟ قال: أرقد.
فهذه هي حياة البهائم، والذين يعيشون هذه الحياة.
من البشر هم بهائم يعيشون في مسلاخ بشر، والله سماهم بهائماً في القرآن قال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44] يعني: كالبقر والحمير، فالبقر، والبهائم أفضل منزلة؛ لأن الله تعالى سخرها وسارت فيما سخرها الله فيه، أما الإنسان خلقه وميزه وكرمه وفضله، وأعطاه العقل من أجل أن يعرف طريق الحق فيختاره ويعرف طريق الباطل فيجتنبه، فاختار طريقاً ليست حتى من مراتب الحيوانات، قال الله: {بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44].
فالله زودهم بهذه الإمكانيات، فاختاروا الخيار الأسوأ والعياذ بالله، وعاشوا لا يعرفون حقيقة الحياة التي هي عندهم ما تراه عيونهم وشهواتهم، أما الحقائق فإذا جئت تكلمه في يوم من الأيام تقول له: يا أخي! الموت قادم؛ فلأنه لا يرى إلا الدنيا، يتضايق من ذكر الموت، يقول لك: أنت تريد أن تميتنا قبل وقتنا دعنا نتمتع الآن، تقول له: أمامك الجنة والنار والقبر، أما ترى أباك من يضعونه في القبر بعد الفراش الوثير، والنور والزوجة فيجعلونه في ثوب ويهيلون عليه التراب ويتركونه؟ هناك عالم آخر.
أما المغالطون فيقولون: لا شيء هناك، تضعونه في القبر فحسب، من قال لكم: لا يوجد شيء؟ من هو الذي مات، ونزل القبر وذهب الآخرة وما نظر شيئاً ورجع يقول: لا يوجد شيء؟ هل هناك من رأي ذلك؟ لا.
حسناً من قال لنا: لا يوجد لا أحد قال لنا ذلك، ومن قال: إن هناك شيئاً بعد الموت؟ الأنبياء والرسل أخبروا عن الله بإجماع منهم منذ نوح إلى محمد صلى الله عليهم وسلم، ما من نبي إلا ويعلن أن البشر مبعوثون، وأن الناس سوف يحاسبون.
وأيضاً هناك دليل عقلي منطقي: لا بد من الحساب، فالذي يقول: لا يوجد بعثاً ولا حساباً، هذا يلغي عقله؛ لأن العدل ما تحقق في الدنيا فلا بد من تحققه في الآخرة جزماً، فالآن ترى الواحد يعيش وهو مؤمن بر تقي صالح ومن أحسن الناس ولكن لا يجد له جزاءً على هذا الصلاح، لكنه قد يؤاخذ، وربما يسجن، أو يؤذى، أو يقتل أو يمرض ويعيش فقيراً، بينما تجد الآخر فاجراً، مجنوناً، مجرماً، خبيثاً، هتاكاً للأعراض، يلغ في الدماء يكذب يسفك يبيع الشعوب يمارس كل أنواع الجرائم، وبعد ذلك يموت، ويموت ذلك البر المؤمن، ولم تصل يد العدالة إلى ذلك المؤمن فتجازيه على عمله الطيب، ولا إلى ذلك الفاجر فتجازيه على عمله السيئ، أتنتهي الحياة بهذا؟ هل يتصور ذلك؟ كلا.
يقول الله عز وجل: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:35 - 36] ويقول: {أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:28] ويقول: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [الجاثية:21 - 22] فالذي يقول: لا يوجد شيء بعد الموت، نقول له: من قال لك؟ يقول: أنا ما رأيت شيئاً، وكونك ما رأيت شيئاً هل يعني أنه ليس هناك شيء؟ الآن هذا الجدار من يراه يقول: ليس وراءه شيء، لكن افتح الباب وانظر، وسوف ترى أن وراءه أشياء، يقول صلى الله عليه وسلم: (ما منكم إلا ويرى مقعده من الجنة أو النار وهو في بيت أهله) في ساعات الاحتضار تزول الحواجز والحجب، ويرى المؤمن وهو جالس في بيته ملائكة الرحمة، ويرى الفاجر ملائكة العذاب، فيفرح المؤمن ويتمنى لقاء الله، ويحزن الفاجر والكافر ويكره لقاء الله، فهنا يحب الله لقاء المؤمن، ويكره لقاء الفاجر.
فهذا الذي يعيش في سجن المادة الذي غطى على قلبه بالدنيا والشهوات، حتى لم يعد يرى شيئاً مما يجب أن يراه في هذه الدنيا، إذا حدثته تقول له: الآخرة! يقول لك: لا.
لماذا؟ لأن الران قد كسا قلبه، واستحوذ عليه الشيطان فأنساه ذكر الله.(116/3)
مفهوم الولاية عند أهل الأتباع وأهل السنة
وهذه البصيرة التي يرزقها المؤمن لها أسباب: ففي صحيح البخاري في الحديث القدسي فيما يرويه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل يقول: (من آذى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) التعرض لأولياء الله من العلماء، ومن الدعاة الفضلاء، والصالحين والمصلين المؤمنين، فالإيذاء والتحرش بهم، وتشويه سمعتهم، والنيل منهم، وتضخيم أخطائهم إذا كان لهم أخطاء فهم ليسوا بمعصومين؛ فتكبير أخطائهم وتشويه السمعة لهم هذا حرب على الله.
لماذا؟ لأنهم أولياء الله، والله يقول: (من آذى لي ولياً) والولاية هنا ضد العداوة؛ لأنه لا يوجد في الدنيا إلا ولي أو عدو: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62] من هم؟ {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:63].
فكل مؤمن تقي فهو ولي لله.
أما الولي عند أهل البدعة والضلال: هو الذي على قبره ضريح، وعلى الضريح قبة، ويذبح حوله ويطاف، هذا هو الولي عندهم! ذاك الذي يلبس عمامة كبيرة، وله مسبحة طويلة، وله أذكار وهمهمات، وتجليات وتكشفات، ويذهب إلى الحرم ويصلي فيه، كما يقول أهل البدعة مثل الصوفية.
يقول أحد الشباب: زرت شخصاً من الصوفية في بلد من البلدان العربية بعد صلاة المغرب، يقول: فأعطانا من الخزعبلات، والكلام الفارغ عن شخصيته، ومكانته عند الله، وأن الكرسي والقلم في يده، والعرش تحت رجله، وأن الدنيا تحت قدمه، يقول: والمساكين المضللين فهموا هذا الكلام، فلما حان وقت صلاة العشاء قلنا له: قم صل معنا يا شيخ، قال: لا، سأصلي في الحرم -وهو في بلد بعيد عن الحرم- فخرجنا وقال الناس: هنيئاً له يصلي في الحرم، يقول: ولما أقيمت الصلاة، رجعت وذهبت إلى بيته، ونظرت من شق في الباب، وإذا به راقد على السرير؛ لأنه لا يريد أن يصلي أصلاً، فمثل هذا ليس عليه صلاة! فالذي يدعي كل هذه الأشياء هذا طاغوت وفاجر، فيدعي أنه يصلي في الحرم حتى لا يلزمه أحد بالصلاة مع المسلمين يقول: فرقد الرجل وأنا ذهبت أصلي وبعد الصلاة أتينا، فلما دخلوا قالوا: له هنيئاً يا شيخ صليت في الحرم، يقول: نعم.
صليت في الحرم، يقول فقلت له: يا شيخ أنا دخلت عليك قبل الصلاة، وأتيت ورأيتك من شق الباب وأنت نائم على السرير، قال: قد رجعت، فهم يصلون مبكراً في الحرم.
الولاية بهذا المعنى هي ولاية الشيطان، هذه ولاية باطلة مرفوضة يداس عليها بالأقدام؛ لأنها ولاية شيطانية.
أما الولاية الربانية، فهي أن تكون مع الله، كيف مع الله؟ أي على كتاب الله وسنة رسول الله، تقوم بأوامر الله، وتنتهي عما نهى عنه، تكون ولياً من أولياء الله، من آذاك أو تعرض لك؛ فإنه يقع تحت وعيد الله، يقول العلماء: بأي إيذاء، لو أن أحدهم في الحمام يتوضأ وأنت تنتظره، وطرقت عليه الباب يعد هذا إيذاء للمسلم، هل أحد في الدنيا يقعد في الحمام مسروراً، لا يوجد أحد يبقى في الحمام إلا من يقضي حاجته، فلماذا تزعجه وتستعجله بالخروج، تريده يقطع قضاء الحاجة، هو لا يعقد إلا لأجل أن يكمل حاجته، ما في أحد يأخذ له وسادة ومسنداً ويقعد في الحمام إلا طائفة واحدة من الناس يرتاحون في الحمام، وهم أهل الدخان! نعم.
بعض أهل الدخان إذا منعوا منه في الدوائر الحكومية ذهبوا إلى الحمام؛ لأنهم يجدون في الحمام رائحة دخان آخر.
أما العقلاء فيبقون في الحمام بمقدار الحاجة ويخرجون، فإذا طرقت الباب على شخص منهم فيكون هذا إيذاءً له، وإذا كنت تقف عند إشارة المرور، ووقف بجانبك ومعه عائلته لا تنظر إليه، فهذا إيذاء له؛ لأن الذي أوقفه هو مصلحة المسلمين، بحيث لا يتجاوز أنظمة السير، فلو تجاوز الإشارة ومشى من أجل أن يحمي عرضه من هؤلاء الفضوليين لقطع السير وجوزي، وربما تسبب في حادث، فلا يجوز لك النظر إليه بحال من الأحوال، فهذا إيذاء للمسلم، وغيرها من أوجه الإيذاء، قال تعالى: (من آذى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) يعني: أعلنت عليه الحرب، وإعلان الحرب من الله عز وجل، عاقبته التدمير؛ لأن الله غالب على أمره، ومن ذا يغلب الله يا إخوان لا إله إلا الله! من أنت -أيها الإنسان- حتى تقف في مواجهة رب العالمين؟ كم حجمك؟ متران في نصف متر، يعني متر مربع.
وكم حجمك بالنسبة لـ أبها وبالنسبة للمملكة، وبالنسبة لـ آسيا وللكرة الأرضية؟ وما الأرض بالنسبة للشمس؟ فالشمس أكبر من الأرض بمليون مرة، وما الشمس بالنسبة للمجرة؟! وما المجرة بالنسبة للمجرات الأخرى؟! وما المجرات كلها بالنسبة للكرسي؟! وما الكرسي بالنسبة للعرش؟! وما العرش بالنسبة لله؟! لا إله إلا الله الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وأنت تقف في مواجهته!! أتظن أن الله غافل عنك عندما يمهلك؟ نعم.
إن الله يمهل ولكن لا يهمل، يقول الله عز وجل: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [القلم:44 - 45] الآن الصياد عندما يأتي إلى البحر يأتي بالخطاف والشبكة ويصنع فيها لحماً أو خبزاً أو أي شيء، ويرميه ويمهله، وتأتي السمكة فتقول ما هذه المناسبة الضخمة، ما هذه الأكلة الفاضلة وتلتهمها، فإذا رأى الصياد أن هذه اللحمة أصبحت في فم السمكة، ماذا يفعل؟ يشد الخطاف بسرعة ثم يخرجها ويأكلها، فالله يمهل ويملي ويضع لك الطعم من منصب أو وظيفة شباب بسطة في الجسم ثم لا تدري إلا وقد خطفك، فلا يفلتك إلا في النار، قال تعالى {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102] وقال صلى الله عليه وسلم (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته) فلا تغتر بإملاء الله عز وجل -أيها الإنسان- عنك، فإملاء الله للإنسان في هذه الدنيا من أجل أن يرجع إلى الله، فإذا لم يرجع فهذه مصيبة الإنسان، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من آذى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه).
أيها -المحارب لله- أنك ستموت، ولا تغتر بما أنت فيه من الجاه أو المنصب، أو المال، أو العافية، أو الشباب، فإنها كلها أشياء مؤقتة سوف تزول، لم تبق لمن قبلك حتى تبقى لك، ولو بقيت للذي قبلك لما وصلت إليك، لكن هذه المفاهيم والموازين تنتقل من إنسان إلى آخر، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، تذكر أنك ستموت، وأنك في ساعات الاحتضار ستكون أضعف ما تكون، وقد لاحظت وربما لاحظتم وحضرتم جنائز وتصورتم وضع الميت وهو في حالات الاحتضار، الله يقول: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [القيامة:26 - 27] راق: يعني قارئ يقرأ أو طبيب يعالج {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ} [القيامة:28] أي: تيقن أنه الموت {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} [القيامة:29] والتفاف الساقين كناية عن الضعف المنقطع النظير؛ لأنه لا تلتف السيقان إلا من ضعف؛ لأنه لو كان متعافٍ لما التفت ساقاه، المريض في ساعات الاحتضار تلتف ساقاه، وتبرد أطرافه، وتتفصل مفاصله، وتنخسف أصداغه وتصير مثل الحفر، وتميل أنفه؛ لأن الأنف هذه تخرج منها الحياة، وهي أصلها غضروف، فإذا خرجت منها الحياة مالت الأنف، هذا هو الإنسان في هذه الحياة، تذكر أنك ستكون في هذا الموقف، متى؟ يمكن أن يكون ذلك في هذه الليلة، أو غداً وأنت لا تعلم، إذاً كيف تحارب الله وهذا موقفك؟ وقل لي بأي سلاح، وبأي صواريخ تقابل الله عز وجل؟ ثم تذّكر أنك ستوضع في الحفرة المظلمة، وسيوضع معك عملك، وسيأتي معك منكر ونكير يسألانك عن عملت في هذه الحياة، وتذّكر أن الله سيبعثك، وأنك ستقف بين يدي الله حافياً عارياً ليس معك أحد، ينجيك عدلك، ويوبقك ظلمك، وتذّكر أنه سيؤمر بك إلى الجنة أو إلى النار، فماذا تقول؟ فلا تؤذ عباد الله، لا تعادي أولياء الله، وقد سمعت عن رجل من الصالحين -وأسأل الله أن يهديه- وهو من عامة الناس، لكن عنده غيرة وحرقة على الإيمان والدين، ومع هذا محسوب من العاديين وليس من الملتزمين أو من الذين لهم شارة كبيرة في الدين، ففي أحد المجالس نال أحد الجالسين من أحد العلماء في المنطقة وتكلم فيه، وقال: إنه لما صافحني في وليمة مدّ رءوس أصابعه فقط، كناية عن الاستهزاء والسخرية من هذا العالم! فقال ذلك الرجل الطيب الموفق: يا أخي! لا تنل منه، والله حرام أنك تمسه بيدك؛ لأنك تنجس يده،، ولو علم الشيخ بك لكف يده؛ لأنك أنجس من الكلب، لسانك هذا تنال به من العلماء، وبدأ يدافع عن الشيخ دفاع المستميت، هذا هو الذي يريد أن يكون عند الله في منزلة عظيمة، عندما تسمع من ينال من عباد الله، أو أولياء الله، أو العلماء أوقفه عند حده، قل: لا يجوز.
والثاني يقول معك: لا يجوز والثالث وهكذا فإذا سمع أهل الشر والفساد أن أهل الإيمان يد واحدة يذبون عن عرض بعضهم بعضاً، لا يستطيعون الكلام بكلمة، لكن إذا تكلم هذا وسكت أهل الخير كلهم، بل بعضهم قال: صحيح، لا يفتح فمه بكلمة واحدة، أين الإيمان، وأين الدين؟!(116/4)
البصر والبصيرة الربانية
يقول الله عز وجل: (من آذى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بعمل أحب إلي مما افترضته عليه) فأحب شيء عند الله أن تعمل الفريضة: (وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه) فهذا العمل محبوب عند الله، لكن أنت غير محبوب عند الله بالعمل فقط، انظروا إلى التفريق في الحديث (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه) يعني: أفضل عمل تتقرب به إلى الله وهي: الفريضة، لكن لا تكفي لنيل محبة الله لك، فأنت، لا تنال محبة الله إلا بشيء ثانٍ مع الفريضة وهو النافلة قال: (وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه) فأنت تقدم العمل المحبوب عند الله ثم تزيد العمل الثاني حتى يحبك الله فإذا أحبك الله، قال: (فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به) تصبح هذه الأذن ليست سمعك، أنت تسمع بالله، فهل يمكن أن تسمع حراماً وأنت تسمع بالله، فبمجرد أن تسمع أغنية تضطرب أذنك وتهتز؛ لماذا؟ لأنك تسمع بالله، أذن ربانية لا يمكن أن تسمع كلمة تسخط الله (كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به) عينك لا يمكن أن ترى حراماً، إذا رأت امرأة كأنما ترى شيطاناً لم يعلم أين الآخرة والجنة؟ بينما ذاك المؤمن يغض بصره لماذا؟ لأنه بصر رباني لا يمكن أن يرى ما حرم الله، كونك ترى امرأة منظر جميل، لكن ماذا يغنيك النظر إذا رأيت حراماً؟ ما هي المصلحة؟ الله يقول: {ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور:30] يعني: غض البصر، لكن النظر ليس أزكى، لماذا؟ لأنك تنظر إلى شيء لا تقدر ولا تصبر عليه، وإذا قدرت عليه فهو حرام، والحرام لا يحل مشكلتك، هب أن أحداً من الناس لم يخف الله ولم يراقبه، واستطاع بعد أن نظر أن يتصل بها ويزني، هل يحل الزنا مشكلته؟! لا.
إن الحاجة إلى الجنس كالحاجة إلى الطعام، إذا تغدى لابد أن يتعشى، وإذا تعشى لابد أن يفطر، وإذا أفطر لابد أن يتغدى.
هب أنه زنى مرة، هل يستطيع أن يزني كل يوم؟ وهب أنه استطاع أن يزني كل يوم، هل يزني في كل حياته؟ هل يعيش زانياً ملعوناً مطروداً عن الله عز وجل؟ ما هو الحل؟ الحل من أول الطريق: لا تنظر.
(باب تأتيك منه الريح سدّهُ واستريح) هذه عينك التي يأتيك منها ريح الزنا ماذا تفعل؟ أغلقها، فإذا رأيت امرأة غض بصرك، نعم هناك تعب، لكنه أقل مائة مرة من تعب النظر.
يقول الناظم:
وأنا الذي جلب المنية طرفه فمن المطالب والقتيل القاتل
إذا أنا نظرت إلى الحرام فماذا يحصل؟ الذي يحصل أن مردود الحرام يرجع على قلبي فيكسره ويحطمه، فمن مصلحتي أن أغض بصري ابتداء، ولكن لماذا أشعر بالتعب حين أغض بصري؟ لأن الشيطان يزين النظر أمامي، ولكن حين أحتسب هذا عند الله عز وجل يحصل لي منه ثواب كثير.
فيقول صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: (كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض روح عبدي المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته، ولا بد له منه) فلا بد من الموت -أيها الإنسان- فالشاهد في الحديث: (كنت بصره الذي يبصر به) فمتى يكون الله بصرك؟ ومتى تبصر بالله؟ ومتى يكون بصرك ربانياً؟ تقدم المواضيع وتؤخرها على ضوء أولويات دينك وعقيدتك، ترى القرآن فتألفه، وترى المجلات فترفضها، ترى المساجد فتحبها، وترى الملاعب والمقاهي والمنتزهات التي فيها المعاصي فتنفر منها، ترى النساء فتغض بصرك ولا تنظر إليهن، ترى زوجتك أجمل ما يمكن أن ترى إن كنت متزوجاً، وإذا لم تكن متزوجاً فاستعفف (ومن يستعفف يعفه الله) والله تعالى يقول: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:33] ما هي العفة؟ هي استعلاء، وتطهر وتنزه وترفع عن هذه القاذورات إلى أن تتزوج حلالاً، ثم تسير في طريق الحلال الذي شرعه الله لك.(116/5)
أسباب نفاذ البصيرة لدى المؤمن
أيها المسلم! فإذا أنت عملت بهذه الأمور، وقدمت وأخرت بحسب مقتضيات هذه العقيدة كان بصرك هذا وبصيرتك ربانية.
وهناك خمسة أسباب تجعل بصرك ربانياً وبصيرتك ربانية، ذكرها ابن القيم رحمه الله في كتابه الجواب الكافي نقلاً عن أحد السلف اسمه شاه الكرماني يقول: 1 - من غض بصره عن الحرام.
2 - وعمر باطنه بالتقوى والمراقبة.
3 - وعمر ظاهره بالسنة.
4 - وكف نفسه عن الشهوات.
5 - وعود نفسه أكل الحلال، لم تكد تخطئ له فراسة.
فهذه الخمس هي أسباب فتح البصيرة، بحيث لا تخطئ لك فراسة، تنظر إلى الأمور كأنها مجلية أمامك، كأنك تنظر إلى الغيب، كأنك تستقرئ أشياء المستقبل بنور الله عز وجل، فمهما حاول الناس، ومهما حاولت الشهوات والمغريات أن تُعمّي عليك، أو أن تقدم أو تؤخر في موازينك فبصيرتك تمنعك؛ لأن ميزان الآخرة والصلاة والقرآن عندك أرفع شيء، وميزان حب الله وحب رسوله وأوليائه في قلبك أعظم شيء، الحلال تسير فيه، والحرام تتركه، لماذا؟ لأن عندك موازين واهتمامات، ولك مبادئ تسير عليها، وهذه الأسباب الخمسة أتحدث عنها بتفصيل.(116/6)
غض البصر عن الحرام
أولاً: من غض بصره عن الحرام: قال العلماء: إن غض البصر يعقبه فتح البصيرة؛ لأن الجزاء من جنس العمل، تغض بصرك عن الحرام يفتح الله بصيرتك على كل ما يرضي الله في الدنيا والآخرة، وتصبح بصيرتك نافذة.
والبصيرة هي التوفيق والتسديد والهداية، أي: أن الله تعالى يَمنُّ عليك بقوة تمكنك من السير في طاعة الله عز وجل، إذا سمعت المؤذن وأنت في غاية الراحة والنوم، والأنس بالزوجة، والدفء بالفراش، تسمعه يقول: الله أكبر! بصيرتك هذه توقظك، حتى إذا أردت أن تنام فإن جنبك لا يطاوعك، قال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ} [السجدة:16] ما يطيعك جنبك في أن تنام على فراشك، لماذا؟ لأن الجنب هذا مدفوع دفعاً داخلياً منَّ البصيرة التي منَّ الله تعالى بها عليك من غض البصر عن الحرام.
وغض البصر هو وصية الله للمؤمنين في سورة النور، يقول الله عز وجل: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور:30] وجاء بعد الأمر بغض البصر الحديث عن النور الذي ذكره الله عز وجل، وأنه في قلب عبده المؤمن كمشكاة فيها مصباح! وأن هذا نور يوجد في المساجد! وجاءت بعده الأوامر كلها التي تدل الناس على سعادتهم في الدنيا والآخرة، ومن ضمنها أن الله عز وجل أمر الناس بأن يغضوا من أبصارهم، حتى تضيء هذه الأنوار قلوبهم.
فهذه الأنوار الربانية التي يبحث عنها الناس ويريدونها -وهي نور البصيرة- إذا أرادها المسلم فلها أسباب، من أول أسبابها: غض البصر، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من غض بصره عن الحرام، أبدله الله إيماناً يجد حلاوته في قلبه إلى يوم يلقاه) وغض البصر ذكر ابن القيم رحمه الله فيه اثنتي عشرة فائدة، وهي من الفوائد التي كل واحدة منها خير من الدنيا وما عليها، ومن أعظمها: تعظيم الله: فأنت تعلم حين تغض بصرك أنك لا تعمل هذا إلا خوفاً من الله، هل من أحد يغض بصره في الدنيا خوفاً من أحد؟ لا أحد يستطيع أن يضبط بصرك في الدنيا إلا الله، أنت إذا أردت أن تنظر في عمارة وفي هذه العمارة نافذة وفي هذه النافذة امرأة، ونظرت أنت إلى المرأة في النافذة، ومرّ بك صاحب العمارة ورآك فقال: لماذا تنظر إلى المرأة؟ أما تستحي؟ فبإمكانك أن تعتذر بأبسط الأساليب وتقول: يا شيخ! أنا لا أنظر إلى المرأة، أنا أنظر في (تلييس) العمارة، (التلييس) ممتاز! أنا أنظر في نافذة الألمنيوم! وعينك أنت في المرأة لكنك أوهمت هذا بقولك أنك تنظر في العمارة، فمن الذي يعلم أن عينك في العمارة أو في المرأة؟ قال تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19] لا تخفى هذه على الله.
فإذا أنت غضضت بصرك، كان هذا دليل قطعي على إيمانك بالله وتعظيمك له، فشعورك بأن الله مطلع عليك ألزمك بأن تغض بصرك خوفاً منه تبارك وتعالى، وهذا الخوف منه هو تعبير عن منتهى العبودية، وهو درجة من درجات الدين اسمها: الإحسان.
فمراتب الدين ثلاثة: إسلام، وإيمان، وإحسان، فالإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه فعندما تغض بصرك من أجل الله، كأنك ترى الله عز وجل، فغض البصر من أعظم دلائل الإيمان عند العبد المسلم.
ومن فوائد غض البصر راحة القلب، فالذي يغض بصره قلبه مرتاح دائماً، وذاك الذي يتلفت مسكين! قلبه يتوقد، مثل الدجاجة التي تدور في الشواية، وهذا الذي يوقد قلبه على (شواية) النظر، وكل يوم يذهب، إلى أين تذهب؟ قال: أنظر، ماذا تنظر؟! ينظر إلى ما يقطع قلبه ثم يرجع، بعضهم لا ينام الليل من نظرة واحدة! يخرج إلى السوق أو الشارع وهو خالي القلب والفؤاد، ليس في باله شيء، ثم يرجع إلى البيت وهو حزين، يقال له: تعشى، قال: لا، ما أريد، راجع دروسك، قال: نفسي مسدودة، ماذا بك؟! قال: لا شيء، ثم يزفر زفرة يتقطع لها قلبه! هل يزفر على الأقصى لأنه الآن بيد اليهود، وأن المسلمين الآن يسامون سوء الذلة في الدنيا كلها؟ هل يزفر على الأفغان أو يزفر على الإسلام؟ لا! بل يزفر على امرأة رآها وتقطع قلبه من أجلها، أعوذ بالله من هذه الهمم الدنيئة، والغايات الهابطة! يزفر ويبيت ليله في مرض، أما ذاك المؤمن الذي رآها وغض بصره، فيتعب قليلاً في لحظة غض النظر وحين يصرف المؤمن بصره يجد قوة تدفعه إلى النظر، لماذا؟ لأن الشيطان يريد أن تنظر وأنت تصارعه، لكن إذا ذهب المنظر، وذهب الشيطان شعرت بإيمان تجد حلاوته في قلبك إلى أن تلقى الله.
وأذكر لذلك قصة: ذات يوم وأنا في بيتي جاءني أحد الشباب يزورني، وحان وقت صلاة العصر، وخرجت معه إلى المسجد ثم رجعنا! وفي الطريق قابلنا مجموعة من الفتيات كأنهن عائدات من المدرسة، أو من زيارة، فأنا وهو آخذ بيدي غضضت بصري -وما لي فضل في ذلك- لأني كبير في السن، والشايب الذي ما يغض بصره هذا شايب عائب -والعياذ بالله- ولهذا جاء في الحديث: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة منهم: أشيمط زان) كبير في السن وما زال يتلفت في النساء، ولكن المؤمن الذي هو شابٌّ ويغض بصره هذا عظيم، شاب نشأ في طاعة الله، شاب دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله رب العالمين، والشاب المؤمن هذا كان بجواري، المهم غضضنا أبصارنا وكنت أراقبه وجزاه الله خيراً، وكان يغض بصره وعينه في الأرض، وكلما اقتربنا كلما قويت قوة الشيطان على عيوننا، ولما جاوزن من عندنا -وفي قوة لكن في صبر- نظرت إليه وقلت له: غض البصر أفضل أم الالتفات؟ قال: غض البصر أفضل، قلت له: لماذا؟ قال: صبرت قليلاً لكن ليس في قلبي شيء، ولو أني ما غضضت بصري لبقيت مريضاً طوال يومي، فالأفضل أن أصبر قليلاً ولا أصبر كثيراً، الآن الإبرة تصبر عليها من أجل أن تسلم من المرض، لكن بعضهم يقول: لا والله.
أظل مريضاً طوال حياتي ولا يضربوا لي إبرة واحدة، وهذا جنون! لكن اضرب نفسك بإبرة وغض البصر من أجل أن تسلم من المرض، إلى أن يعافيك الله سبحانه، ويعطيك عافية كبيرة إن شاء الله بزوجة حلال، أما أن تبقى مريضاً بمرض النظر إلى أن تسكنك عيونك في النار، فلا؛ لأن من ملأ عينيه بالحرام؛ ملأهما الله من نار جهنم والعياذ بالله.
ففائدة أخرى من فوائد غض البصر: أن الله عز وجل يريح قلبك، فترتاح وتعيش هادئ البال، وهل في الدنيا مطلب أعظم من راحة القلوب؟ والله راحة القلب بطاعة الله أعظم من كل راحة.(116/7)
إعمار الباطن بالتقوى والمراقبة
ثانياً: وعمر باطنه بالتقوى والمراقبة: ما معنى هذا؟ معناه: أن يستشعر الإنسان مراقبة الله له في كل وقت وحين، وأن يشعر بأنه واقع تحت الرصد الرباني، والنظر الإلهي، وأنه لا يخفى على الله منه خافية، وأن الله معه في الليل والنهار، والسر والجهار، وأن الله يرصد ويسجل عليه كل عمل، يقول الله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [المجادلة:7] كل شيء تعمله مكتوب عليك فلا تظنن أنك مفلت أبداً:
وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
قال تعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} [النساء:108] الله معك وأنت تعمل هذا، والله يراقبك ويراك وينظر إليك، فإذا أحسست بهذا الشعور، وتعمق عندك هذا المعنى، فهل يمكن أن تعصيه وأنت تعلم أنه يراك؟ أبداً! فمن الذي يعصي؟ الذي غاب قلبه عن الله، وشعر أن الله لا يراه، أما من يشعر أن الله يراه ينتهي بسرعة، ولا يفعل معصية، فالحديث الذي في صحيح البخاري وصحيح مسلم عن الرجل الشاب الذي كان يحب بنت عمه كأشد ما يحب الرجال النساء، وبعد ذلك راودها عن نفسها فلم توافق، وبعد ذلك ألجأتها الظروف والحاجة إلى أن تطلبه مبلغاً من المال، فقال لها: لا أعطيك حتى تخلي بيني وبين نفسك، فوافقت تحت وطأة الاضطرار، ولما قعد منها مقعد الرجل من امرأته قالت له: يا هذا اتق الله، ولا تفض الخاتم إلا بحقه.
فقام، لماذا؟ لأنه مؤمن تذكر عظمة الله، فقام وتركها.
هذا العمل جليل وعظيم عند الله، وكان كفيلاً بأن يزحزح الله عنهم الصخرة ويخرجون؛ لأن هذا العمل لا يفعله إلا شخص عنده إيمان مثل الجبال، فتستشعر مراقبة الله عز وجل لك، ولو ما يراك أحد، فأنت تمشي في الشارع وترى امرأة وما يراك أحد، ولكن الله يراك فتغض بصرك.
أنت في غرفة نومك في الليل ومعك المسجل أو الراديو، ومررت على أغنية، وكنت تحبها من أيام الجاهلية، ونفسك الأمارة بالسوء، وشيطانك الغوي يريدك أن تسمع، فلا تسمع؛ لأن الله تعالى يراك.
فإذا أعطيت الراتب وفيه زيادة مائة أو خمسمائة وعددتها مرة ومرتين، وتأكد لك أن هذه زائدة تخرجها وتردها، بإمكانك أن تدخلها في جيبك ولكن الله يعلم أن هذا حرام، وأنت تعلم أن الله يعلم، كيف تقدم على هذا وأنت تعلم أن الله يعلم؟ لا يمكن؛ لأنه توجد مراقبة في قلبه.
والمراقبة في قلبك تجعلك كبيراً، لا يمكن أبداً أن تقع في معصية لله، ولا أن تترك لله طاعة، لأنك مراقب من الداخل، فالآن عندما يقولون في الخط: السرعة محددة، والخط مراقب بالرادار، فإذا كانت السرعة محددة وجاء من تجاوز هذه السرعة، فإن سيارة المرور تلتقط رقم السيارة عن طريق الرادار، وتبلغ النقطة التالية، والتي بدورها توقف صاحب السيارة، وتلزمه بدفع الغرامة المحددة، فكل واحد منا عينه تتحرى أثناء السير، لماذا؟ لأن الخط مراقب.
وطرق الله -يا إخوان- أما فيها مراقبة؟ بلى فيها مراقبة {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة:7] فالله معك، لماذا لا تستشعر مراقبة الله؟ وبعد ذلك لا يمكن أن تفلت من قبضة الله، يمكن أن تفلت من قبضة سيارة المرور، يمكن جندي المرور أن يعفو عنك، يمكن لا توجد سيارة في الخط، أما هنا أبداً يسمع الله عز وجل دبيب النملة السوداء، في الليلة الظلماء، على الصخرة الصماء، يعلم السر وما هو أخفى من السر، فلا يخفى على الله شيء، ولهذا قال رحمه الله: وعمر باطنه، أي جعل في باطنه عمارة، مبنى عظيم من المراقبة والخوف من الله، والاستشعار بعظمة الله، وعَمَر باطنه بالتقوى والمراقبة.(116/8)
إعمار الظاهر بالسنة
ثالثاً: وعمر ظاهره بالسنة: ليس ظاهرك فقط يعني: شكلك، بل ظاهرك كل مظاهر حياتك، ظاهرك في لحيتك، وثوبك، وسواكك، وأكلك، وشربك، ونومك، ودخولك بيتك، وخروجك منه، وتعاملك، وفراش نومك، وكل شئون حياتك، تعمر هذا بالسنة، والسنة لم تفرط في شيء، حتى دخول الحمام فيه سنة، حتى جلوسك على الكرسي فيه سنة، أي تعظيم للإنسان أعظم من هذا التعظيم، أن الله يتولى رعايتك، ويحدد لك أمورك إلى أقصى شيء، حتى مباشرتك لزوجتك يعلمك الإسلام ما تقول عندما تأتي أهلك، ليست القضية بهيمية أو غريزة جنسية أو نزوة حيوانية، من حيوان على حيوانه، لا.
إنها إنسانية، إنها صلة، إنها جنس؛ ولكن يمارس بإذن الله، يمارس باسم الله، ويتحول إلى عبادة، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (إذا أتى أحدكم امرأته وقال: باسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فرزق مولوداً لم يقربه شيطان) وهذا تجدونه فيمن غض بصره عن الحرام، وعمر باطنه بالتقوى والمراقبة، وعمر ظاهره بالسنة.
فلا تتهاون -يا أخي- عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه ومنهجه، عليك أن تعظمها، ولا تحسبها هينة فهي عند الله عظيمة.(116/9)
كف النفس عن الشهوات
رابعاً وكف نفسه عن الشهوات: شهوات البطن، شهوات الجسد، وملذات الحياة، وخصوصاً المحرمة؛ لأن الاستغراق في الحرام مصيبة، ومن حام حول الحمى يوشك أن يرتع فيه.(116/10)
تعويد النفس على أكل الحلال
الخامسة: وعود نفسه أكل الحلال: حرص على أن يكون كسبه طيباً؛ لأن الحلال الطيب ينبت العمل الطيب، والجسم الطيب.
والحرام خبيث (وأيما جسد وكل لحم نبت من سحت فالنار أولى به) والرسول صلى الله عليه وسلم يقول لـ سعد: (أطب مطعمك تجب دعوتك) والحديث الوارد في صحيح مسلم، يقول صلى الله عليه وسلم: (ثم ذكر الرجل أشعث أغبر يطيل السفر، يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له) فيجب أن يكون عندك دقة في مراقبة دخلك بحيث لا يدخل عليك ريال واحد من حرام؛ لأنه إذا دخل عليك ريالاً واحد من حرام أفسد عليك الحلال والعياذ بالله.
فهذه الأمور الخمسة أذكرها بإيجاز، وهي من غض بصره عن الحرام، وعمر باطنه بالتقوى، وعمر ظاهره بالسنة، وكف نفسه عن الشهوات، وتعود أكل الحلال، لم تكد تخطئ له فراسة، هذا الكلام قاله: شاه الكرماني، ونقل الكلام عنه ابن القيم في كتابه الجواب الكافي، وكما نقل في كتابه فوائد غض البصر، وهي فوائد عظيمة جداً.
يقول: وكان شاه الكرماني لا تخطئ له فراسة، كان ينظر بنور الله جل وعلا.
وقبل أن نقدم المفاجأة التي ذكرها الشيخ أجيب باختصار عن بعض الأسئلة.(116/11)
الأسئلة(116/12)
حكم الحب العفيف
السؤال
يقول أحد الإخوان: إن سألتم عنا فلله الحمد والمنة.
الشيخ: متى سألت عنك يا أخي، الله يحفظك ويطيل عمرك؟!! السائل: ما حكم الحب العفيف؟
الجواب
أولاً: أسأل عنك إن شاء الله، أنا أسأل عنك وعن كل أخ في الله، وليس على التخصيص، ولكن على التعميم، والقلوب والأرواح كما جاء في الحديث: (جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف) ونسأل الله أن يجمعنا جميعاً في الجنة دار الكرامة، وجزاك الله خيراً.
ثانياً: أما الحب العفيف فلا يوجد شيء اسمه (حب عفيف) هناك حب حلال، وحب حرام.
فالحب الحرام: هو حب المرأة الحرام.
والحب الحلال: هو حب الزوجة الحلال.
فإذا كنت تحب زوجتك فهذا حلال، وهو طاعة لله، أما أن تحب بنت الناس التي لا يربطك بها رابط شرعي، وهي ليست زوجتك، وتحبها حباً عفيفاً، فهو حرام، بل هو حب سخيف -والعياذ بالله- وخبيث، ولا يوجد حب عفيف، الحب العفيف هو حب زوجتك الحلال.
وقد سئل أحد العلماء ما حكم الحب؟ قال: حب الحرام حرام، وحب الحلال حلال.(116/13)
الربط لمنع الحمل لضرورة
السؤال
عندي زوجة، ولها ثمانية أولاد وبنتان وقد فتح بطنها، وأخرج منها طفل عن طريق العملية، هل يجوز لي الربط لما في ذلك من المصلحة حتى لا تحمل؟
الجواب
إذا قال الأطباء إن حملها يتعبها ولا تتم ولادتها إلا عن طريق العملية، وأنت عندك هذا العدد من الأولاد، فقد أفتى العلماء أنه يجوز الربط؛ لأن في ذلك مصلحة، وأنه لا ضرر ولا ضرار في شريعة الله عز وجل.(116/14)
أثر الدعوة في تجديد الإيمان
السؤال
نشكركم على تفضلكم بزيارة منطقة جيزان في الأسبوع الماضي، ونسأل الله لك السلامة يقول: إنا نحبك في الله، ويعلم الله كم كان لمحاضرتكم من التأثير الكبير في المنطقة، ولكن لنا بعض الشكاوي: الأولى: عدم توفر شريط تلك المحاضرة في تسجيلات أبها.
ثانياً: قلة زيارتكم أنتم والشيخ عائض للمنطقة، وأنتم تعلمون ما لكم من التأثير فيها.
حقيقة: باسم أهل جيزان أنقل عتابهم للشيخ عائض؛ لأن أولى الناس بالمشايخ في أبها منطقة جيزان، والمناطق المجاورة، وأولى الناس بالمعروف هم، وهذه المنطقة منطقة إيمان، والداعية لا يتعب فيها؛ لأن هناك جهد مبذول في المنطقة من الماضي، هناك جهود الشيخ عبد الله القرعاوي رحمه الله، وجهود الشيخ حافظ الحكمي رحمه الله، وجهود الدعاة والمشايخ والعلماء، ليس هناك بيت في منطقة جيزان إلا وفيه شهادة من كلية أصول الدين، والمنطقة مملوءة من أهل العلم، ولكن يحتاجون إلى بعثرة قليلة فقط لإزالة الغبار وتطلع جذوة الإيمان، والله لقد رأيت في منطقة أبو عريش في الأسبوع الماضي ما سر قلبي، وشرح صدري، فقد امتلأ ملعب كرة القدم من العارضة إلى العارضة كلهم جاءوا مرتين، جاءوا المرة الأولى واعتذرت؛ لأني كنت مريضاً، وجاءوا في المرة الثانية، فجزاهم الله خيراً.
وفي منطقة سامطة أتيت في نادي التسامح وفي نادي حطين وكان الملعب ممتلئاً، والصالة ممتلئة، فهناك إقبال، ويجب أن يقابل هذا الإقبال بحرص العلماء على الحضور، وأعدهم إن شاء الله أن أكرر الزيارة وباسمهم أنقل إلى الشيخ عائض طلبهم بأن يذهب، ولا يعتذر بأن المكان بعيد، فالمسافة تستغرق ساعتين، وأهل أبها الآن ينتقلون إلى تهامة بيسر(116/15)
فضل الحب في الله
السؤال
لم أجد سؤالاً أكتبه، ولكن أخبرك أني أحبك في الله، وجميع من في هذا المسجد أخبرهم أني أحبهم في الله، وأشهد الله على ذلك، وأسأل الله أن يجمعنا وإياك وإياهم في دار كرامته.
الجواب
يقول: لم أجد سؤالاً أكتبه، كثر الله خيرك أرحتنا منك، وأنا أنقل لكم أنه يحبكم في الله، والله -أيها الإخوة- أن إن أعظم حب في الدنيا هو هذا الحب، ليس حباً في ورق، ولا عود، ولا حباً في سفرة ولا أكل، ولا حباً في دنيا، إنه حب في أعظم شيء، حب في الله (أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله) يقول صلى الله عليه وسلم: (عن يمين الرحمن وكلتا يدي ربي يمين، أقوام ليسوا بأنبياء ولا شهداء، قال أحد الصحابة وجثا على ركبتيه: صفهم لنا يا رسول الله؟ قال: أقوام نزاع من القبائل، يجتمعون وينتقون من الذكر أطايبه كما ينتقي آكل التمر أطايبه) فهم نزاع من القبائل من كل بلد، مثلكم الآن، من شرق، ومن غرب، ونجران، وجيزان، وبيشة، وبالقرن، وحائل، ومن كل أرض، واجتمعتم هنا من أجل ماذا؟ هل هناك أموال توزع بعد هذا الدرس؟ هل هناك من يعشيكم؟ لكن يعشيكم الرحمن تبارك وتعالى، يعشيكم مولاكم بأن يقول لكم في آخر الجلسة: (قوموا مغفوراً لكم، قد بدلت سيئاتكم حسنات).(116/16)
مفاسد بيع الدخان والمجلات الخليعة
السؤال
نفيدكم أن صاحب سوق منهل المركزي استجاب للنصيحة وقام بمنع بيع الدخان، والمجلات العارية، وورق البلوت من محله نرجو أن تدعو له؟
الجواب
نسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يبارك له في دكانه، وأن يخلف عليه بخير، وليبشر، فوالله ما ترك شيئاً لله إلا عوضه الله خيراً منه.
ونحن بالمناسبة نناشد كل أصحاب محلات (السوبر ماركت) والأسواق المركزية، ومحلات الفيديو والتسجيلات، نناشدهم بالله، وندعوهم بدعوة الإيمان، ونقول لهم كما قال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال:24] لن تحشروا إلى الأسواق المركزية، ولا محلات الفيديو، ولا محلات التسجيلات، سوف تحشرون حفاة عراة، معكم أوزاركم وأوزار الذين تضلونهم بغير علم، ما من شريط فيديو ولا أغنية يباع في محل من هذه المحلات إلا وعلى صاحب المحل إثمه، وإثم من أضله إلى يوم القيامة، وعلى مالك العمارة مثل ذلك مع اللعنة والتشريد، لماذا؟ لأنه أجر العمارة لعمل حرام، لا يجوز لك أن تؤجر عمارتك على مثل هؤلاء، فليتق الله كل إنسان، نحن نحسن الظن بأصحاب المحلات التجارية، وأصحاب محلات (السوبر ماركت) وأصحاب محلات الفيديو، ومحلات التسجيلات، فلا نظن أنهم يحاربون الله، ولا نظن أنهم يسعون إلى هدم أسس المسلمين، ولا نظن أنهم ينشرون الرذيلة، ولكنهم يريدون تجارة فقط، وأكثرهم يقول: أنا أبيع وأشتري، هذا فاتح صيدلية، وهذا فاتح مواد بناء، وهذا (سوبر ماركت) أنا أفعل شيئاً جديداً، هل أفتح صيدلية؟ لا.
بل أفتح شيئاً جديداً، ولكن أخطأت في الجديد، هذا فتح صيدلية لعلاج الأجساد، وهذا فتح سوقاً مركزياً لمصالح الناس، وهذا فتح مواد بناء في أمور مباحة، أما أنت فتحت مكاناً وقلعة لمحاربة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
ومحلات الفيديو والأغاني قلاع حرب ضد الله، ورسوله، وكتابه، والمؤمنين، والفضيلة، لماذا تنشر الأغاني؟ أسألك بالله بم تعتذر يا صاحب المحل أمام الله عز وجل، وقد أغناك الله؟ والله لأن تعجن من التراب، وتأكل طيناً، خير لك من أن تأكل في بطنك ناراً.
إنك تربي أولادك على النار، أرباحك كلها نار، تفرح في نهاية كل يوم، تجيء وتسأل العامل كم بعت شريط فيديو اليوم؟ يقول: بعت مائة شريط اليوم، أفسدت مائة أسرة في ذاك اليوم! أفسدت مائة بنت وولد هذا اليوم! ما أحد يزني على هذا الشريط إلا وعليك مثل وزره هو زنى وأنت زنيت معه؛ لأنه من دل على ضلال كان عليه وزره ووزر من عمل به إلى يوم القيامة، يا صاحب السوق المركزي: بعض الناس يقول: أنا لا أجلب المجلات والجرائد، وكذلك الدخان لذاتها ولكنها تجلب لي المشتري، ليست هي التي تجلب المشتري، إن الذي يجلب المشتري لك هو رزاق السماء والأرض.
نعم.
إن الله هو الرزاق ليس الدخان هو الرزاق، إذا كنت تعتقد أن الذي يرزقك هو المجلات والجرائد فهذا قدح في عقيدتك، فأنت ما آمنت بأن الله هو الرزاق، أنت عطلت صفة من صفات الله، وتعطيلك لصفة من صفات الله قدح في عقيدتك، ليست المسألة مسألة بيع دخان، ولكن المسألة مسألة خراب ذمة وعقيدة، فعليك أن تعتقد في الله: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ} [الزخرف:32] وتعتقد في الله: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} [العنكبوت:60] فليس على الدخان رزقك ولا المسجل، ولا الشريط، رزقك على الذي خلقك، لكنك استعجلت الحرام وأكلته، فعشت حياة ملطخة بالحرام، ويوم تموت والله ما ينفعك ولا يغني عنك شيئا، وسوف تندم وتعض على أصابع الندم وتقول: {لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} [الحاقة:25 - 27].
أما المفاجأة وإن كانت غير سارة في نظر الناس، ولكنها سارة عند الله، في الأسبوع الماضي جمعت تبرعات لجماعة تحفيظ القرآن الكريم في هذا المكان، وكانت تبرعات مذهلة، يعني: جمعوا من هذا المجلس المبارك مائة وثمانين ألف ريال، شيء ما يصدقه العقل -يا إخوان- لكن البركة إذا حلت بارك الله في كل أمر، وجاء العشرات والمئات من الشباب، يقولون: ما علمنا بأمر التبرع، ولو علمنا لاستعدينا له.
قلنا: إنها (ملحوقة) في الليلة الآتية نفتح صناديق التبرع عند الباب، والذي يريد الأجر يدركه إن شاء الله، والذي تبرع في الأسبوع الماضي ما يمنع أنه يتبرع الآن، لماذا؟ لأن المرء تحت ظل صدقته يوم القيامة، قال تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ:39].
وأذكر لكم قصة حدثني بها أحد الإخوة في مكة: يقول: كنا في وليمة، ومعنا بعض الإخوة والمشايخ يقول: شخص من الأثرياء خرج من المسجد الحرام، وركب سيارته الفارهة -سيارة (لكسز) - وهو ثري يملك الملايين يقول: وأثناء وقوفه وقف بجانبه رجل فقير من فقراء الحرم، وما أكثرهم! وقال له: من فضلك أعطني ما أتعشى به، وهو يملك الملايين ولا يضره لو أعطاه مائة ألف أومليوناً، لكن يقول: أنا مستعجل، وقد شغلت السيارة وقد مشت السيارة قليلاً يريدني أن أقف وأدخل يدي في جيبي وأخرج ريالاً، فالأمر يطول، قال: فقلت له: على الله، قال: فنظر إلي بعينين كأنها تبتلعني، وقال: تقول لي: على الله، تحيلني إلى ربي، أنا أعلم أن رزقي على الله ليس عليك، ولا بريالك، ولا بعشرتك، يقول: فرقعني بنظرته ثم ولى وتركني، يقول: وكان أمامي امرأة فقيرة تبيع حلويات، قال: لما رأته انصرف من عندي وما أعطيته شيئاً قالت له: تعال وفكت كيسها وأخرجت ريالاً وأعطته إياه، فانظروا كيف أن ريالاً سبق الريالات، قال: فلما أعطته قال: ضربني في قلبي شيء مثل السهم، يقول: الله ما أقل بركة هذه الدنيا وما أنا فيه، يُطلب مني ريالاً فلا أعطي، وهذه المسكينة ربما ما معها اليوم إلا هذا الريال، يقول: على الفور أوقفت السيارة وأطفأتها وأدخلت يدي في جيبي وفتحت الشنطة، وأخرجت عشرة ريالات، ونزلت أبحث عن الرجل فلم أجده، وكأن الأرض ابتلعته، يقول: فرجعت كأن هناك من ساقني إلى هذه المسكينة فأعطيتها العشرة، فسبحان الله، أنفقت ريالاً فردها ربي عليها بعشرة.
فأنت الآن عندما تضع ريالاً فلا يضيع عند ربي: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ:39] ليكن لكل منا في هذا المكان ريالاً سهماً في سبيل الله، نسهم به في ميدان الله عز وجل.
أسأل الله لنا ولكم التوفيق، والله أعلم وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(116/17)
معوقات الهداية [2.
1]
تحدث الشيخ في هذه المحاضرة عن معوقات الهداية، وقد بدأ حديثه بمقدمة لهذا الموضوع، فبدأ بالحديث عن نعمة الهداية ثم تحدث عن ثمرة الهداية، كما تحدث عن أهمية محاسبة النفس في سيرها إلى الله عز وجل، مبيناً الأسباب التي تعوق تحقق الهداية للمرء وقد فصل فيها تفصيلاً نافعاً.(117/1)
فضل نعمة الهداية
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه، ونؤمن به ونتوكل عليه، ونشكره ولا نكفره، ونخلع ونترك من يفْجُره.
اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفِد، نرجو رحمتك ونخشى عذابك، إن عذابك الجِدَّ بالكفار مُلْحِق.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله وخيرته من خلقه، صلوات ربي عليه صلاة دائمة متتابعة ما تتابع الليل والنهار، وسلَّم تسليماً كثيراً.
أما بعد: أيها الإخوة في الله: الإيمان ولزوم طريق الإيمان نعمة يمن الله بها على من يشاء من عباده، ونور يقذفه الله عز وجل في قلب من يشاء من عباده، نعمةٌ لا ككل النعم، ونور يختلف عن جميع الأنوار، يقول الله عز وجل في وصف هذه النعمة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة:3] أي: ديني.
ويقول للرسول صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} [الفتح:1 - 2].
ويقول عز وجل في سورة يوسف على لسان يعقوب: {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} [يوسف:6] اللهم أتمم علينا نعمة الدين والإيمان والهداية؛ لأن الإنسان بغير دين لا معنى له، ولا قيمة لوجوده، بل هو سَعفة في مهب الريح، ذرة هائمة من ذرات هذا الكون، حشرة تافهة من حشرات هذا العالم، لكنه بالدين والإيمان والهداية عنصرٌ فريد، إنسانٌ كريم، الله أكرمه، أنزل عليه كتابه، أرسل إليه رسوله، بيَّن له الطريق، أعدَّ له الجنة، كرامات إثر كرامات، متى تستحقها؟ إذا سرت في الطريق، إذا رُزِقت نعمة الهداية.
نعمة الهداية نعمة تفسِّر لك هذه الحياة، وتقدِّم لك التفسير الحقيقي لِلُغْزِها، وتدلُّك على الطريق الصحيح الموصل إلى الله عز وجل، وتسكب في قلبك الأمن والطمأنينة والسرور والانشراح، وتطمئنك على المستقبل، وتبيِّن لك أن ما أمامك سيكون خيراً لك مما أنت فيه {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ} [فصلت:30 - 31] لما كنتم أولياء لله كانت الملائكة أولياء لكم؛ لأن الملائكة توالي من والى الله، وتعادي من عادى الله: {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ} [فصلت:31] منذ كنتم في الحياة الدنيا وفي الآخرة {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:31 - 32].(117/2)
ثمرة الهداية
نعمة الهداية نعمةٌ ثمرتها الجنة، والحديث عن الجنة تُشرق له النفوس، دون أن تعلم حقيقة الحديث، فإن كل ما خطر في بالك فالجنة بخلاف ذلك، كل ما تتصور، اذهب بخيالك واسرح ببالك في آفاق الخيال، وتصور كل ما يمكن أن يهديك إليه بالك وخيالك، ولكن أغلى الأماني عندك وأعظم الخيالات لديك تقف دون أن تصل إلى حقيقة ما في الجنة، يقول الله عز وجل: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17] {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنْزِفُونَ * وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ * وَحُورٌ عِينٌ} [الواقعة:17 - 22] جاء الوصف مترتباً بعضه على بعض إلى أن جاء كمال النعمة بزوجات الجنة، غذاء، وطعام، وشراب، وفاكهة، وبعد ذلك لحوم، وبعد ذلك لا بد من شيء بعد هذا، حتى يتم السرور كله، قال الله: {وَحُورٌ عِينٌ} [الواقعة:22] كيف هُنَّ يا ربِّ؟ قال: {كَأَمْثَالِ الْلُؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} [الواقعة:23] الحورية كاللؤلؤة المكنونة {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً * إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً} [الواقعة:24 - 26].
نسأل الله وإياكم من فضله.
{يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزخرف:71] وفوق هذا كله طمأنينة، لا خروج {وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزخرف:71].
هذه نعمة الجنة، ثمرة من ثمار الهداية والإيمان والدين.
وثمرة أخرى، لا تقل عن هذه أهمية، هي: النجاة من النار، والله لو ما في الهداية إلا النجاة من النار لكانت السلامة كرامة، لو أمرك الله أن تخر ساجداً منذ خلقك إلى أن تموت من أجل أن تنجو من النار، وبعد ذلك يصيرك الله تراباً، لكان من حقك ألا تعصي الله طرفة عين؛ من أجل أن تنجو، أو لو أن الله أمرك منذ خلقك إلى أن تموت أن تخر له ساجداًَ من أجل أن تدخل الجنة وإذا عصيت يصيرك تراباً؛ لكان من حقك أن تطيع الله، فكيف إذا أطعته أدخلك الجنة ونجاك من النار؟! هل بقي لك مسوغ عقلي أن تعصي الله من أجل شهوة طاغية، ومن أجل لذة زائلة، ومن أجل شُبهة مضللة؟! لا والله.
كذلك النار، كلما يمكن أن تتصوره من العذاب مهما سرحت في الخيال، وتصورت في البال فإن ما أعد الله لأهل النار في العذاب لا يخطر على بال، يقول الله عز وجل: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47] بدا لهم من العذاب ومن النكال والدمار ما لم يكن يخطر لهم على بال {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} [مريم:71 - 72].
{يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [العنكبوت:55].
{لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} [الزمر:16].
{إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ * يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} [القمر:47 - 48] على وجهه، أغلى ما في المرء وجهه، تود أن تُسحب على كل شيء إلا على وجهك {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ} [الزمر:24]، لكن: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47] {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:48 - 49].
{إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ} [غافر:71] أغلال، الغل هو: القيد الواسع، الذي يوضع في الرقبة، ثم إن الغل مربوط بسلسلة (وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} [غافر:71 - 72].
{إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} [الدخان:43 - 46] إذا بلعه فلا ينزل من حلقه إلا بتعب، زقومٌ، ينشف لا يطلع ولا ينزل، ثم إذا نزل فإنه ينزل بدافع الماء الحميم، يشرب الماء فينزله، فإذا نزل اشتعل في بطنه، نفس الطعام {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ} [الدخان:43 - 44] وما هو نوعه؟ قال: {كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ} [الدخان:45] يشتعل في بطنه، لا إله إلا الله! {كَغَلْيِ الْحَمِيمِ * خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الدخان:47] أي: إلى وسط النار {ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ} [الدخان:48] لماذا؟ قال: {ذُقْ} [الدخان:49] ذُقْ يا شخصية! ذُقْ يا عظيم! ذُقْ يا ثري! {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان:49] كنتَ عزيزاً في الدنيا وكريماً في الدنيا؛ لكن ما كنتَ عزيزاً على الله، ما كنتَ كريماً لدى الله، عزيزاً في الدنيا، في المادة والدرهم والمنصب والجاه والسلطة، ولكن لا وزن لك عند الله، لا قيمة لك عند الله عز وجل {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان:49] هذا عذاب ذكره الله، وذكر غيره كثيراً في القرآن.
فيا إخواني! من يصبر على هذا العذاب؟! الذي لديه إمكانية يرفع إصبعه ويقوم، وما نذهب به إلى نار مثل هذه النار، نُشعل في يده عود الثقاب فقط -عود كبريت- ونقول له: يا بطل الأبطال! ويا متحدي النيران! أشعل هذا الثقاب واصبر عليه حتى يصل إلى إصبعك، وكن شجاعاً، اصبر لنرى كم تتحمل من نار هذا الثقاب! مهما كانت شجاعتُه، ومهما كانت بطولته، والله لا يستطيع أن يصبر على نار عود الثقاب، ولهذا يقول الله: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} [البقرة:175] ما أصبرهم على عذاب الله، وقد كان بإمكانهم ألا يطئوا النار وألا يدخلوها، من يصبر على هذا العذاب؟! ومن يصبر أن يفوته النعيم الذي ذكره الله في الجنة؟!(117/3)
وقفة محاسبة
إخواني! ما هذه الغفلة، وإلى البِلى المصيرْ؟! وما هذا التواني والعمر قصيرْ؟! وإلى متى هذا التمادي في البطالة والتقصيرْ؟! وما هذا الكسل في الطاعة، وقد أنذركم النذيرْ؟! وإلى متى تُماطلون، وتعِدُون، وتكذبون، والناقد بصيرْ؟! انتبهوا -رحمكم الله- فالأمر والله شديد، وبادروا بقية العمر، فالندم بعد الموت لا يفيد! {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19].
أين أحبابكم الذين سلفوا؟! أين أترابكم الذين رحلوا وانصرفوا؟! أين أرباب الأموال والمناصب وما خلَّفوا؟! ندموا على التفريط، يا ليتهم عرفوا! حول مقام يشيب من هوله الوليدْ! {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19].
واعجباً لك -يا أخي! - كلما دُعيت إلى الله توانَيتْ! وكلما حرَّكتك المواعظ إلى الخيرات أبَيتَ وماطلتَ وتمادَيتْ! وكلما حذَّرك الموت ما انتهيتْ! يا من جسده حي وقلبه مَيْتْ! ستُعايِن والله عند الحسرات ما لا تريدْ! {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19].
كم أزعج المنون نفوساً من ديارها؟! فَيَبْنِي الإنسانُ العمارة، والفيلة، وغرف النوم الواسعة، والدواوين، والصوالين العريضة، والسيارات الفارهة، فيأتي الموت يُخرجه منكوس الرأس، يُخرجه من القصر إلى القبر، ومن النور إلى الظلام، ومن الأنس إلى الوحشة، ومن الأهل إلى الوحدة.
كم أزعج المنون نفوساً من ديارها؟! وكم أباد البِلى من أجساد منعَّمة ولَمْ يُدارِها؟! وكم نقل إلى القبر أرواحاً بأوزاها؟! أما علمت أن الموت لك بالمرصادْ؟! أما صاد غيرك ولك سيصطادْ؟! أما بلغك ما فعل بسائر العبادْ؟! أما سمعتَ قول الملك المجيدْ: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19]؟ إخواني! أين مَن بنى وشاد وطوَّلْ؟! أين مَن تأمَّر على العباد وساد في الأوَّلْ؟! أين مَن ظن أنه لا يتحوَّلْ؟! لم يدفع عنه المال ولا العبيدْ؟! {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19].
كأنك -يا أخي! - بالموت وقد اختطفكْ! فيهرب منك الأخ وينسى إخاءكْ! ويُعرض عنك الصديق ويرفض ولاءكْ! وتذهل عن أولادك وعن نسائكْ! ويرجعون يقتسمون مالك ومتاعكْ! وأنت في اللحد فريد وحيدْ! {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19].
والله لقد رُميت القلوب بالقسوة والغفلة، فلا تنتفع بوعظ ولا تخاف من تهديدْ! فإلى الله نشكي قسوة قلوبنا ونفوسنا الظالمة، إنه يفعل ما يريدْ، ونسأله العفو والعافية.
فإنه نعم المولى ونحن بئس العبيدْ.
إخواني في الله: لا مجال لنا في المماطلة، ولا مصلحة لنا من تأخير التوبة، إن الخيار الصحيح والبديل الأمثل أن نستجيب لله من أول لحظة، ثم نلزم الطريق ولا ننتكس، فإن العبرة بالخواتيم، لو صمتَ إلى قبل الغروب بلحظة ثم أفطرتَ بطل صيامُك، ولو صليتَ العشاء إلى قبل السلام بلحظة ثم انتقض وضوءُك بطلت صلاتُك، لا تنتفع بشيء إلا مع حُسن الخاتمة، فلا تطل عليك المدة، {وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16].
سر في طريق الإيمان والزمه، وعض عليه، واثبت عليه، ولو خالفك العالم كله، إذا عرفت فالزم؛ لكن متى يرجع الإنسان وينتكس؟ إذا لم يعرف، وهو ما سنتكلم عنه في سؤال نجيب عنه إن شاء الله في الأسئلة.(117/4)
معوقات الهداية
أما الهداية، والموانع والمعوقات التي تمنع الناس منها، فهي كثيرة جداً، طريقٌ لاحِدٌ طويل، وعقبةٌ شاقةٌ كَئود، جنة عالية، سلعة غالية.
تهون علينا في المعالي نفوسنا ومن يخطب الحسناء لَمْ يغلها مهرُ
الجنة سلعة الله الغالية، في طريقها عقبات، ودونها موانع، ومن بينك وبينها معوقات، إذا استطعت أن تزيح هذه الموانع، وأن تقتحم هذه المعوقات وصلت إلى الهداية، وإن قصُرت بك الهمة، وضعُفت بك النفس، ووقفتَ أمام هذه المعوقات موقف العاجز الضعيف، وتقهقرت إلى الوراء، خسرتَ الدنيا وخسرتَ الآخرة {ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11].
ما هذه المعقوقات؟ وما هذه الموانع؟ هي كثيرة جداً، نذكر منها هذه الليلة ستة موانع:(117/5)
جليس السوء
المعوق الأول -وهو أخطرها، وأهمها، وأعظمها-: الزميل السيئ، والرفيق الفاسد:- هذا قاطع طريق بينك وبين الله، كلما أردتَ أن تسلك إلى الله قطع الطريق بينك وبينه، لا يريدك أن تهتدي، لا يريد منك أن تسير إلى الله، يقطع الطريق عليك، يريدها عوجاً والله يريدها سمحة، يريدها ضلالاً والله يريدها هُدى، يريدها معصية والله يريدها طاعة، يريدها ظلاماًَ والله يريدها نوراً.
الزميل السيئ: قد عرفنا من التجربة ومن الواقع كم سبَّبت زمالة السوء من نكبة لأصحابها، يقول علي رضي الله عنه:
فلا تصحب أخا الفِسقِ وإياكَ وإياهُ
فكم من فاسق أردى مطيعاً حين ماشاهُ
يُقاس المرء بالمرءِ إذا ما المرء ماشاهُ
وللمرء على المرءِ مقاييس وأشباهُ
وللقلب على القلبِ دليل حين يلقاهُ
ويقول الآخر:
عن المرء لا تسل وسل عن قرينهِ فكل قرين بالمقارَن يَقتدي
إذا ما صحبتَ القوم فاصحب خيارهمْ ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي
ولا تصحب العاصي؛ لأنه يرديك ويُهلكك، ففي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مثل الجليس الصالح، كمثل حامل المسك، إما أن يُحْذِيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة) أنت رابح مع الزميل الصالح في كل الأحوال، اشتريت، أو أهدى لك، أو وجدتَ ريحاً طيبة (ومثل الجليس السوء، كنافخ الكير، إما أن يُحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة).
وقصة أبي طالب؛ عم رسول الله صلى الله عليه وسلم في السيرة ثابتة وواضحة، لما حضرتْه الوفاة، وكان ممن يُدافع عن الإسلام وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، دافع عن رسول الله دفاعاً عظيماً، وما استطاعت قريش أن تنال من رسول الله شيئاً يوم كان حياً، يقول في كلامه:
ولقد علمتُ أن دين محمد من خير أديان البرية دينا
ثم يقول:
لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدْتَني سمحاً بذاك مبيناً
يقول: أنا أعرف أنه أعظم دين؛ لكن أخاف من اللوم، رأسُه ناشف متعصب جاهلي يخاف من أن يلومه أحد، وما الشيء الذي يلومونك عليه؟! أيلومونك إذا دخلت الجنة وتركت النار؟! هذا مثلما يقول الآن بعض الناس عندما تأتي عنده، وتقول له: حجِّب نساءك، فيقول: يا شيخ! هذه عاداتنا، والله لا أستطيع أن أحجِّب امرأتي على فلان، إذا حجَّبتها فهذا عار عندنا، أعارٌ أن تدخل الجنة؟! العار إذا دخلت جهنم ونُكِّست على وجهك أنت وامرأتك في جهنم، هذا هو العار الصحيح، أما أن تحتجب زوجتك، وتطبق أمر ربك فما هو بعار.
فهذا الرجل الجاهلي، لَمَّا حضَرته الوفاة جاءه الرسول صلى الله عليه وسلم، فيقول في أبياته:
والله لن يصلوا إليك بضربةٍ حتى أُوسَّد في التراب دفينا
يقول: إذا متُّ فهو عُذري، أما وأنا حي فوالله لن ينال منك أحدٌ منهم بشيء، وعندما جاءت قريش تفاوضه، وقالوا: نعطيك شاباً من خيرة شبابنا يكون ولداً لك وتعطينا ولدك نقتله، قال: ما أسفه عقولكم! تعطوني ولدكم أغذوه، وأعطيكم ولدي تقتلوه.
ثم طردهم، وبصق في وجوههم.
هذا الرجل لَمَّا حضرته الوفاة كان الرسول صلى الله عليه وسلم يريد أن يقول كلمة: لا إله إلا الله، من أجل أن يجد له مبرراً يشفع له به عند الله، من أجل المواقف العظيمة النبيلة التي وقفها في حماية الدين والإسلام، فجاء إليه وقال: (يا عم! قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله) أعطني فقط حُجة أنك قلت لا إله إلا الله؛ حتى أستطيع أن أشفع لك عند الله.
فالرجل لان قلبُه لهذه الكلمة، ثم أنه لن يخسر شيئاً، فهو ذاهبٌ ذاهبٌ في تلك اللحظات، لم تبق إلا لحظات ويموت، فلا يصلي، ولا يصوم، ولا يتعب، فقط يقل الكلمة هذه، والبقية على الله عز وجل، فأراد أن يقولها؛ لكن قرناء السوء حالوا بينه وبينها، كان عنده أبو لهب وأبو جهل، وعنده الوليد بن المغيرة، وعنده العاص بن وائل، هؤلاء رؤساء الكفر، صناديد قريش واقفون عند رأسه، فلما نظروا إليه وهو يتردد يريد أن يقولها، قالوا: أترغب عن ملة عبد المطلب؟! فضربوه على الوتر الحساس، على العصبية، فعرفوا أن رأسه ناشف، فذكّروه بملة أبيه وجده، قالوا: أترغب عن ملة عبد المطلب؟! فقال: بل على ملة عبد المطلب، ومات عليها، فقال صلى الله عليه وسلم بعد أن مات: (والله لأستغفرن لك، ما لم أُنْهَ عنك) واستغفر له الرسول صلى الله عليه وسلم، ونهاه الله، وقال له: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} [التوبة:113] ولو كان عمّه {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113] وقال فيه: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:56].
فكان من عذابه أن معه نعلان من نار يغلي منها رأسه مثلما يغلي اللحم في القدر، يرون أهل النار أنه أخفهم عذاباً وهو يرى أنه أشد أهل النار عذاباً.
تصوَّر حذاءً من نار! إذا أردتَ أن تعرف العملية بالضبط، فإذا جاء الغد، وأنت خارج من المسجد في القائلة، فاخرج بدون حذاء، وامش على الأسفلت بدون حذاء، هل تستطيع؟! وفي القائلة؟! ودرجة الحرارة (40) درجة مئوية، لا تستطيع أن تمشي.
لقد رأيتُ رجلاً وأنا في العُمرة، خرج من المسجد الحرام، وقد سُرقت حذاؤه، فأراد أن يقطع الشارع فقط ليشتري حذاءً، فعَبَر الأسفلت، فانسلخت أرجله من حرارة الأسفلت، وهو يبكي من حرارة الشمس، وهي فقط مسافة خمسة أمتار فقط يقطع فيها الشارع إلى المكان الآخر ليشتري حذاءً، فكيف بمن له نعلان من نار يغلي بها دماغه، وهو في ضحضاح من نار، وهو أخف أهل النار عذاباً، بسبب ماذا؟ بسبب الزميل والرفيق السيئ، فالزميل الصالح: يقول: قل لا إله إلا الله، والزميل السيئ يقول: لا.
بل على ملة عبد المطلب، انظروا دور هذا ودور هذا.
وأيضاً: في السنة تفسير الآية الكريمة في القرآن الكريم، قصة عُقبة بن أبي مُعيط -عليه لعائن الله المتتابعة- عُقبة هذا كان رجلاً أريباً وعاقلاً ولبيباً، وكان يحب أن يهتدي ويُسلم، ولكن كان له زميل خبيث، يصرفه عن الهداية، ويحول بينه وبين الإيمان، استغل عُقبة سفر زميله هذا إلى الشام، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، واستمع القرآن، وكاد أن يُسلم، ولكنه تأخر، حتى جاء زميله من الشام، ولَمَّا دخل الزميل السيئ البيت سأل زوجتَه عن زميله، قال: ما صنع رفيقي فلان؟ قالت: صَبَأ -صَبَأ أي: أسلم- قال: صَبَأ؟!، قالت: نعم.
فخرج من بيته لِتَوِّه، ما نام، وذهب إلى بيت زميله، وطرق عليه الباب، فلما خرج وحياه قال: علمتُ أنك صَبَأتَ، قال: لا.
قال: بل صَبَأتَ، قال: لا.
قال: إن كنتَ صادقاً فهيا معي الآن إلى المسجد الحرام، وابصق في وجه محمد -الرسول صلى الله عليه وسلم- قال: أبشِر، فخرج معه إلى المسجد، وجاء والرسول ساجد في الكعبة عند المسجد الحرام، ما كان له أحد يحميه -صلوات الله وسلامه عليه- كان يتعرض لجميع أنواع الأذى، يُصب سلا الجزور على ظهره يُبصَق في وجهه يُرجم بالحجارة يُضرب، ولكنه صابر، ولا يدعو عليهم، وإنما كلما آذوه يقول: (اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون) هذا هو الداعية، هكذا يكون الذي يدعو إلى الله، لكن بعض الناس بمجرد أن تعبس على وجهه قال: الله أكبر عليك أنت لا خير فيك.
وذلك بمجرد أن تقول له كلمة واحدة، فلا يحب إلا أن تصفق له وتطبل له، وتقول: جزاك الله خيراً، لكن بمجرد أن يتعرض لأقل ابتلاء فإنه يغضب مباشرة ويسب ويشتم ويشتكي ويعمل الأعمال، ويقول: هؤلاء لا خير فيهم، هؤلاء منافقون، لا يا أخي! أنت داعية، اصبر على ما ينالك، احتسب كل ما يأتيك، لا تشتكِ إلا على الله، اعفُ، اسمح.
فجاء عقبة وزميلُه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد رجوعه من حادثة الطائف عندما قال له مَلَك الجبال: أتريد أن أُطبق عليهم الأخشبين؟ فقال: (لا.
إني أرجو الله أن يُخرج من أصلابهم من يعبده) حيث كان نَظَرُ النبي صلى الله عليه وسلم بعيداً، وحُلُمه واسعاً، ونفسه كبيرة، فهي نفس نبي.
جاء عقبة وبصق في وجه النبي صلى الله عليه وسلم، فمسح عن وجهه البُصاق، ودعا له: (اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون) ولم يقل بعدها أية كلمة، ورجع هذا الشقي عُقبة، وعاش بقية عمره، إلى أن بقيت أيام قليلة، فبعد هذه الحادثة هاجر الرسول، وحدثت معركة بدر الكبرى، وكان مِن ضمن مَن قُتل عقبة بن أبي مُعيط، قُتل إلى النار، وأدخله الله النار، وأخبر الله عز وجل عنه في النار أنه يعضُّ يديه ندماً؛ لأنه ما اهتدى، قال عز وجل: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} [الفرقان:27] لم يقل: على يده ولا إصبعه، بل قال: {عَلَى يَدَيْهِ} [الفرقان:27] يأكل يديه كلها، فأنت إذا دخلت السوق واشتريت لك شماغاً بستين ريالاً، ووجدتها في دكان آخر بثلاثين ريالاً، فما رأيُك؟ وكيف سيكون شعورك؟ ستذهب إلى البيت ولن تتعشى تلك الليلة، يقال لك: تعشَّ، فتقول: لا والله، كيف أشتري الشماغ بستين وغيري اشتراه بثلاثين؟! أين عقلي أنا؟! هل كنتُ مجنوناًَ؟! لماذا لم أبحث جيداً في الأسواق؟! لماذا لم أبحث في عشرة دكاكين واحداً واحداً.
فمن أجل ثلاثين ريالاً لن تتعشى؛ لأنك ضيعت شيئاً من حقك بغير حق؛ لكن يوم القيامة غبنٌ أعظم، سمى الله ذلك بيوم التغابن؛ يُغبن أهل ا(117/6)
اتباع الهوى
المعوق الثاني من معوقات الهداية: اتباع الهوى لا اتباع الشرع:- وذلك كما يقول أكثر الناس اليوم، عندما تعرض على أحدهم الدليل من كتاب الله وسنة رسوله، يقول: صدقت، ولكن -يا شيخ- نفسي تقول لي كذا، وهواي يقول لي كذا.
فهذا عبد هواه ولم يعبد مولاه، وهذا لا يهديه الله، يقول الله عز وجل: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23] أي: نفسه، وكيفه، ومزاجه، {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} [الجاثية:23] كيف يهديه الله وقد اتخذ إلهه هواه؟ فلما اتخذ إلهه هواه جاءت العقوبة عليه أن الله ختم على سمعه وعلى قلبه، وجعل على بصره غشاوة، فلا يرى الحق، ولا يرى طريق النور، ولا يسمع الحق ولا يفقهه؛ لأنه اتخذ إلهه هواه.
قال الله: {فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية:23] فيجب عليك أن تخضع لأمر مولاك، ولا تقل: أنا على كيفي، أو على مزاجي، لا.
لا كيف لك ولا مزاج ولا نفس، أنت على مراد ربك، أنت على شرع خالقك، أنت على هدي نبيك، {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر:7]، ولو كان أمر الله عز وجل لا تقبله نفسُك الأمارة بالسوء بسرعة أقصرها، {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات:40] فإذا قالت نفسك: اسمع الأغاني، فقل لها: لا.
أو قالت نفسك: انظر إلى النساء، فقل: لا.
أو قالت نفسك: احلق لحيتك، فقل: لا.
أو قالت نفسك: اسحب ثيابك، فقل: لا.
أو قالت نفسك: اترك الصلاة، فقل: لا.
أو قالت نفسك: عق والديك، فقل: لا.
لماذا؟ لأنك تسير وفق شرع ربك وخالقك، هذا هو المؤمن.
أما أن تسمع أمر الله وتصر على المعاصي، فهذا ما لا ينبغي، كأن تعرف أن الغناء حرام، وتقول لمن ينصحك بتركه: والله صدقت، لكن ماذا أفعل؟ لا أستطيع، نفسي والله تحب الغناء، أحب الطرب.
فهذا الذي يحب الطرب سوف يندم على الطرب يوم القيامة.
دخلتُ في سوق من الأسواق في أيام العيد أشتري سلعة، وإذا بصاحب الدكان ينظر إلى جهاز التلفزيون وفيه مطرب -مغنٍ-، وهو يعزف بألحان، والرجل فاغرٌ فاه ينظر إليه، فسألتُه: بكم هذا؟ ما سمعَني، قلت: يا هذا، يا أخي تكلم! ماذا وراءك؟ قال: يا شيخ! ما رأيتَ؟ قلت: ماذا هناك؟ قال: المطرب العظيم هذا، أما تعرفه؟ قلت: لا والله لا أعرفه، نسأل الله أن يجعلني لا أعرفه، معرفة هذا وأشكاله خسارة، لا أعرفه، قال: (أوه!) فاتك نصف عمرك، قلت: وأنت فاتك كل عمرك، كيف فاتني نصف عمري؟! قال: هذا المطرب العظيم الذي كذا وكذا.
وجعل يشيد به، قلت: وماذا في المطرب؟ ماذا يفعل؟ هل اخترع شيئاً؟ قال: لا.
بل مطرب، يجعل الناس يلحنون ويغنون، قلت: حسناً، إذا مات هل ينفعه الطرب عند الله؟ أجاب مباشرة بنفسه، وقال: لا.
قلت: إذاً: ماذا يفعل بهذا الطرب؟! قال: والله لا يحبه الله، قلت: الإنسان خُلق في الدنيا لكي يطرب ويغني فيدخل النار؟! إذا لم يكن في هذه الحياة خير ينفعني في الآخرة فما قيمة حياتي؟! يقول الله عز وجل: {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْأِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} [الفجر:23] أي: لم تعد تنفعه الذكرى، فماذا يقول؟! {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر:24] أين هي حياته؟ أهي هذه التي نحن فيها؟ لا.
هذه ليست حياته {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر:24] أي: للآخرة، التي فيها الحياة الطويلة، قلت: هذا المطرب لن ينفعه شيء من الطرب في الآخرة، قال: نعم.
والله لن ينفعه، قلت: وما رأيك في الجماهير الذين يحبونه؟! أيحشرون معه يوم القيامة؟! قال: والله معه، قلت: أوينفعهم هذا؟ قال: لا ينفعهم، قلت: وأنت ما موقفك؟ تبرأْ منه الآن حتى لا تكون معه في الآخرة، أما إذا كان هو يطرب وأنت تشجع، فجمهوره في النار، كما جاء في حديث ابن ماجة عن عمرو بن مرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن المغنين يُبعثون يوم القيامة عرايا، لا يستترون بِهَدَبَة، لهم عواء كعواء الكلاب في النار) الصياح الذي كان يصيحه في الدنيا يتحول من صياح إلى شكل آخر، صياح والنار تصلاه، والعذاب يناله في كل جزء من جسمه، يصيح صياحاً يؤذي أهل النار، لا حول ولا قوة إلا بالله.
فانتبه لا تتبع الهوى، واتبع الشرع، فعليك أن تتبع دين الله عز وجل، يقول الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} [القصص:50] أي: لا أحد أضل ممن اتبع هواه، أي: لا يهديه الله، ألستَ تريد الهداية؟ ستقول: نعم.
سنقول لك: إذاً الهداية في اتباع الشرع، لا تتبع الهوى، لا تقل: أنا على كيفي وعلى هواي وعلى مزاجي ومع نفسي، لا.
بل كن على كيف ربك، على هوى ودين شرع ربك، أما هواك فلا {فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} [الأعراف:30]، لماذا؟ قال: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأعراف:30] عندما اتخذ الشيطان ولياً من دون الله صرفه الله عز وجل عن الهداية، وحقت عليه الضلالة، {وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} [الأعراف:30] والعياذ بالله.
هذا المعوق الثاني، وهو اتباع الهوى، وعدم اتباع الشرع.
نريد أن نضبط هذه المعوقات واحدة تلو الأخرى، نريد أن تكون هذه المجالس مجالس عمل مجالس منهج، لا نريد كلاماً ثم نخرج وكفى، لا.
بل من هذا المجلس تقرر مصيرك، من هذا المجلس تحدد اتجاهك إلى الله، تغير واقعك رأساً على عقب، تغير كل شيء في حياتك؛ لأنك اهتديت إلى الله.
أولاً: الزميل السيئ، ارفضه.
ثانياً: الهوى المتَّبع، ارفُضْه، فماذا تتبع إذاً؟ تتبع الشرع.
فما هو الهوى؟ الهوى: ما تَرِد عليك من خواطر، ومن أفكار، ومن رغبات، ومن شبهات، ومن شهوات، هذا هو الهوى.(117/7)
الإعراض عن دين الله
المعوق الثالث من معوقات الهداية: الإعراض عن دين الله:- فلا يُتَعَلَّم ولا يُعْمَل به، فتقول للمعرض: خذ هذا الشريط واسمعه، يقول لك: لا.
لن أسمع، أرجوك اصرفه، صاحب الشريط صدق كثيراً؛ لكننا إذا سمعنا الشريط فسيكون حجة علينا، ويكون علينا ذنب إذا سمعناه ولم نعمل به، فالأفضل ألا نسمعه ولا نعمل به.
انظر إلى الشيطان كيف يغويه! سبحان الله! يقول: إذا سمعنا الشريط وما عملنا به صار علينا ذنب، ولكن نتركه، لا نسمع ولا نعمل؛ لكي لا يكون علينا ذنب.
لا.
بل لكي يكون عليك ذنبان لا ذنب واحد، ذنب الإعراض وذنب الكفر، لكن لو استمعت فلعل الله أن يهديك، فما تدري، ربما في الشريط هذا خير، خذه -يا أخي! -، إذا عُرض عليك شريط إسلامي فخذه، وإذا رأيت كتاباً إسلامياً فخذه، وإذا سمعت بندوة إسلامية احضرها، وأقبل على الله.
أما الإعراض عن دين الله، لا يتعلمه ولا يعمل به، فهذا مانع من موانع الهداية، إذ لا يهدي الله عز وجل من هو معرض عنه، يقول الله عز وجل: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:124]، ويقول: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً} [الزخرف:36] انظر، هذه واحدة بواحدة، اعرض عن ذكر الرحمن فسيسلط الله عليك شيطاناً، ثم إن الشيطان ماذا يفعل بك؟ هل يدلك؟ على الخير قال الله: (فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف:36] أي: رفيقٌ وصاحب، ماسِكٌ لمقود سيارتِه يقوده، ثم قال: {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} [الزخرف:37] لن يهديك إلى الله، بل يضلك عن الله، ثم يقلب الموازين عندك، فيقول الله: {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:37].
فيضللك الشيطان ويهديك إلى سوء الجحيم، ويقنعك أنك أنت الذي على الحق، وأن الذين على الحق هم على الباطل، فإذا انكشفت الأوراق يوم القيامة وزالت الحواجب، كل الحُجُب، قال: {حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} [الزخرف:38]، قال الله: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ * أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ} [الزخرف:39 - 40] الأصم الذي لا يريد أن يسمع، والأعمى الذي لا يريد أن يرى، أتهديهما؟! {وَمَنْ كَانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ * فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ} [الزخرف:40 - 43] القرآن {إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ} [الزخرف:43 - 44] سوف تُسأل يوم القيامة عن هذا الدين سواءً أحفظتَه أو ضيعته، أقبلت عليه أو أعرضت عنه.
فإياك إياك أن تعرض عن الله.
هذا هو المعوق الثالث، وهو: الإعراض، فكثيرٌ من الناس الآن تجد الرجل منهم جاهلاً أجهل من حمار أهله، وإذا قلت له: تعال نتعلم الدين، قال: يا شيخ! نعرف الدين.
هذا الشخص لا يريد أن يهتدي، لماذا؟ لأنه معرض، لا يريد أن يهتدي؛ لكن لو قلتَ له: تعال، هناك عشاء، أو كبسة، أو لعبة، أو عَرْضة، ويسمونها عَرْضة شعبية، فسيجيبك، ويتقفز من المغرب إلى الفجر، ويقفز ويرجع، ويقفز ويرجع، وما آخر القفزات هذه؟ لا شيء، يعود إلى البيت وقد تعب، ثم ينام.
لكن إذا قلت له: تعال إلى ندوة من ندوات العلم، وحلقة من حلقات الذكر، قال: نحن نعرف الدين، الدين يُسر، نحن أحسن من غيرنا، عَقَّدْتُم أنفسكم بالجلوس في هذه الندوات، وفي هذه الحلقات.
وأنت -أيها المعرض- ألست بمعقد، نعم، لقد أوقع نفسه في معصية الله -والعياذ بالله- وسوف يندم يوم يرى الحقائق ماثلة أمام عينيه، ويقول: {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر:24].
هذا هو المعوق الثالث.
المعوق الأول: الزميل السيئ.
المعوق الثاني: اتباع الهوى.
المعوق الثالث: الإعراض عن دين الله، لا يتعلمه ولا يعمل به، بل أقبل -يا أخي- على الله، {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد:17] {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات:50].(117/8)
الكبر
المعوق الرابع: الكِبْر: الكبرياء، إذا قلت للمتكبر: تعال قال: لا.
أنا شخصية، إذا جئت وأنا شخصية، فربما يجلس بجانبي فقير أو جندي أو فرَّاش، وأنا شخصية، فكيف يكون هذا؟! أََأُسْقِط اعتباري، ستذوب شخصيتي؟! لا لا، إلا إذا كان المجلس كله شخصيات فإنني سآتي.
أتدرون من قال هذا التعبير؟ قاله كفار قريش، قالوا للرسول: لا نجلس معك وعندك هؤلاء العبيد، فأبعد من المجلس بلالاً وسلمان وصهيباً لا نجلس معهم، فالرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يخصص لهؤلاء جلسة ولهؤلاء جلسة؛ لكن جاء التصريح من الله، قال الله: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف:28] وهؤلاء هم الضعفاء (وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف:28] مفروطة عليه، ضال -والعياذ بالله-، أضله الله، وأموره كلها مَفْلُوتة، فلا تطعه، بل اجلس مع هؤلاء المؤمنين.
فالكبرياء مانع من موانع الهداية، لماذا؟ قال الله: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف:146].
الكبرياء، انتبه! لا تتكبر على الله، اجلس في مجالس الذكر، ولو كنتَ عظيماً، ولو كنتَ مديراً، ولو كنتَ وزيراً، ولو كنتَ ثرياً، فأنتَ فقير إلى الله ولو كنتَ عظيماً، أنتَ فقير إلى الله ولو كنتَ مديراً، أنتَ فقير إلى الله ولو كنتَ وزيراً، أنتَ فقير إلى الله ولو كنتَ ثرياً؛ لأن الناس كلهم فقراء، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15] لا يوجد أحدٌ يستغني عن الله في شيء، كيف تستغني عن الله وبيده مقاليد الأمور؟! فلا بد أن تَضَعْ نفسَك ولا تتكبر، لا تتكبر على عباد الله؛ لأن الكبرياء لله، يقول الله في الحديث القدسي الصحيح: (الكبرياء إزاري، والعظمة ردائي، فمن نازعني فيهما ألقيته في النار ولا أبالي).
فالمتكبرون يوم القيامة يحشرهم الله عز وجل كأمثال الذر في صور الرجال، يحشر الله المتكبر فيجعله مثل الذرة، لكن في صورة رجل، ويصغره الله إلى أن يصير مثل الذرة لكن في شخصية رجل، يطأه الناس بأخفافهم، ويركضونه بأرجلهم، ولا يعرفون أنه هو، لا يرونه؛ لأنه مثل الذرة، وأخبر صلى الله عليه وسلم أن المتكبرين يوم القيامة يحشرون في سجن يُقال له: بُوْنِس -هكذا في الحديث- تشب عليهم فيه نارُ الأنيار، ليست ناراً، بل نار الأنيار، نار من نوع خاص؛ لأن هذا الكبرياء لله، ليس لك.
إذاً: فما هو الكبر؟ الكبر: هو غَمْطُ الناس وبَطَرُ الحق.
غَمْطُ الناس: أي: يحتقر الناس، كلما جاءه فلان قال: ليس عنده شيء، ما وظيفته؟ فيقال له: فراش، فيشيح وجهه، ثم يقول: كم رصيده؟ فيقال: ليس عنده شيء، ثم يسأل: أعنده مزرعة؟ أو عنده شيء؟ فيحقر الناس، وربما أن هذا الفراش أعظم من ملء الأرض من أشكال هذا المتكبر؛ لأن موازين الله غير موازين البشر {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] فلا تتعاظم.
وبَطَرُ الحق: إذا جاء الحق قال المتكبر: لا.
من قاله؟ فلان؟ لا.
الحق لا يؤخذ من فلان أو فلان، الحق يؤخذ من الله ورسوله.
فلا تتعاظم.
علامات الكبرياء: العلامة الأولى: الشموخ والأنفة ورفع الرأس، فبعض المتكبرين تراه كأنه مشنوق في السماء، إذا مشى كأنه مربوط بأنفه في السماء، لا يمشي معتدلاً، بل يمشي ورأسه إلى أعلى، ثم بعد ذلك؟ سيَدُسُّون بأنفك هذا -أيها المتكبر- في الطين، فما تنفعك أنفتُك.
العلامة الثانية: عدم التسليم على الناس:- إذا دخل الإدارة -مثلاً- لا يسلم؛ فإذا قيل له: لماذا لا تسلم؟ قال: السلام يذيب الشخصية.
أتريد بناء الشخصية على الكبرياء، بل والله تسقط شخصيتك بالكبرياء، لكن عندما تدخل على موظفيك وتقول: السلام عليكم، صباح الخير، وتسلم على الفراش، وتصبِّح عليه، وتسأله: كيف أنت يا أبا فلان؟ إن شاء الله مبسوط، مالي أرآك اليوم غضبان، فإن هذا هو الذي يبني لك شخصية، فهذا التصرف إذا متَّ أو أحالوك من الوظيفة، فإن الناس كلهم يقولون: بارك الله فيه، وفقه الله وحفظه في الدنيا والآخرة، لكن ذلك الذي يتكبر، فسيصبرون عليه حتى يرحل من الوظيفة، وإذا رحل ولقوه في الشارع -فوالله- لن يسلموا عليه، بل إذا رأوه يبصقون في وجهه، هذا الذي يريد أن يبني له شخصية، ما عادت له شخصية في تلك اللحظة.
العلامة الثالثة: حب تقدم الناس:- إذا مشى المتكبر مع أناس فإنه يريد أن يمشي أولاً.
العلامة الرابعة: حب قيام الناس له:- إذا دخل المتكبر على الناس فإنه يريد أن يقفوا له كلهم، لم يقفوا يكون غضبان.
لا -يا أخي! -، المتواضع إذا دخل على المجالس وقاموا له: قال: لا.
مكانكم مكانكم، وجلس في أقرب مكان، هذا هو المؤمن، هذا هو الْْهَيِّن اللَّيِّن، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل على قوم جلس أينما ينتهي به المجلس، ولكن كان الصدر عنده صلوات الله وسلامه عليه، أكرم خلق الله، جاءه رجلان أعرابيان قد سمعوا بذكره، وقد نُصر بالرعب مسيرة شهر، فلما جاءوا إليه وقفا وهما ترتعد فرائصهما، خوفاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (ما عليكما، لا تخافا، إني ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة) يقول: لا تخافوا مني، أنا لستُ بشخصية ولا شيء، أنا رجل ابن امرأة كانت بـ مكة تأكل القديد.
ما هو القديد؟ القديد: اللحم الجاف، الذي يُعَلَّق على المناشير من الفقر، ثم يأكلونه يوماً بعد يوم.
فيقول: أنا فقير ما عندي شيء، فما زالا حتى سكن، صلوات الله وسلامه عليه.
فلا تتكبر -يا أخي! - على عباد الله، حتى يهديك الله، أما إذا نفخ الشيطان في أنف أحدٍ بالكبرياء فهذا لا يهديه الله.(117/9)
معاندة الحق بعد الوضوح
المعوق الخامس من معوقات الهداية: معاندة الحق بعد الوضوح:- بعض الناس يتضح له الحق ثم يعاند فيه، فتقول له: قال الله وقال رسوله، يقول: صدقتَ، نعم.
قال الله وقال رسوله.
لكنه لا يمتنع، فهذا معاند، لا يمكن أن يهديه الله، لماذا؟ لأن الله يقول: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:115] أي: نثَبِّتُه في طريق الضلال، وبعد ذلك، ما هي النهاية؟ {وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ} [النساء:115] لأنه مشى في طريق جهنم من أولها، {وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء:115] فلا تشاقق الرسول.
وفي الحديث الصحيح أن رجلاً كان عند الرسول صلى الله عليه وسلم يأكل بشماله، وما منعه أن يأكل بيمينه إلا الكبرياء، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (كل بيمينك، قال: لا أستطيع) أي: أنا شخصية، لا آكل إلا بهذه، لا أستطيع بغيرها، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا استطعت) أي: جعلك الله لا تستطيع.
قال العلماء: فما رفعها إلى فمه حتى مات، أصابها الله بالشلل، وصارت يابسة، لا يستطيع أن يحركهاالسبب هو الكبرياء.
يحدثني أحد الإخوة الثقات بالأمس، فيقول: كان هناك شاب يلعب الكاراتيه، ولديه عضلات، فدعاه أحد المؤمنين إلى الله، وذكَّره بالموت، وذكَّره بعذاب الله، فسخر منه، وما ألقى له بالاً، قال له الأخ الصالح: حسناً -يا أخي! - إذا جاءك ملك الموت فماذا تفعل؟ يريد أن يهدده بالله وبالموت، قال: أواجهه بالكاراتيه -يعني: أعطيه ضربة كاراتيه- يقول: وفي هذه اللحظة، وبعد أن أكمل الكلمة، ونحن جلوس، إذا بالرجل يضطرب، ويقع على وجهه، ويرتفع ويقع، ثم أخذناه وغسلنا وجهه، وقلنا له: ماذا بك؟! قال: ضربني بعصا على ظهري مثل جذع النخلة -أي: (أحدٌ ضربني بصَمِيْل لا كالصُّمل المعروفة) بل مثل جذع الشجرة في ظهري، فوقعت على وجهي- فقلنا له: من هو؟ قال: لستُ أدري، قال له الرجل الصالح: لماذا لم تعطه ضربة بالكاراتيه؟! قال: إني أشعر بالموت، وأنت تفكر في الكاراتيه، فقال: الحمد لله.
فأخذوه وذهبوا به إلى البيت، وجلس أياماً متعباً، ثم تاب وتاب الله عليه.
انظر إلى الضربة كيف جاءت من الله عندما عاند الرسول، وأراد أن يلعب كاراتيه.
هل سمعتَ -يا أخي-؟! لا تعاند، كلما سمعتَ أمراً لله فارض به، وقل: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [البقرة:285] ولا تقل: {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} [البقرة:93] أو سمعنا ولكن! لا.
بل إن لكن هذه ملف الشيطان، وملف المنافقين.(117/10)
الكذب
المعوق السادس -وهو من أخطرها-: الكذب:- وأنا جعلتُه الأخير، لأنه مرض منتشر في أكثر الناس.
الكذاب لا يهديه الله أبداًَ، مستحيل أن يهديه، قال الله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [غافر:28] فهو كذاب، كيف يهدي الله رجلاً كذاباً دجالاً متلوناً، كل يوم له صبغة، وكل يوم له لون، وكل يوم له فكرة؟ لن يهديه الله.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم والحديث في الصحيحين: (عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدُق ويتحرى الصدق حتى يُكتب عند الله صِدِّيقاً، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب ويتحرى الكذب حتى يُكتب عند الله كذاباً) وإذا كتبه الله كذاباً قال الله فيه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [غافر:28] لا يمكن أن يهديه الله، ولهذا ترون أن الكذاب من الناس هو أحط درجة في المجتمع، أسفل رجل، وأنقص رجل، لا قيمة له، حتى عند نفسه، فلو سألت الكذاب عن شيء، ستجده في نفسه يعرف أن خبره ليس صدقاً، حتى زوجته لا تثق في كلامه، وأولاده لا يثقون في كلامه، وجيرانه لا يثقون في كلامه، وكل الناس لا يثقون فيه، إذا نُقل خبر قيل: من قائل هذا الكلام؟ فإذا قيل: فلان، قيل: فلان كذاب، فلا يوثق في كلامه، حتى وإن كان صادقاً فسيقال عنه: كذاب؛ لأن الله قد كتبه كذاباً.
فـ {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [غافر:28]-والعياذ بالله، يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119]، ويقول: {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} [محمد:21]، وأيضاً في الصحيحين يقول عليه الصلاة والسلام: (البيعان بالخيار، ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبيَّنا بُورِك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما مُحِقت بركة بيعهما) الكذاب الذي يبيع سلعته، ويخفي العيب فيها، ويكتم، ويكذب في استعمال السلعة، هذا يمحق الله بركته، لكن انظروا إلى التاجر الصادق، إذا جئت إليه، وقلت له: ماذا في السيارة؟ قال: السيارة فيها الماطور لا يعمل جيداً، هذا الذي أعرف فيها، وغير ذلك لا أدري، نقصت قيمة السيارة، بدل أن كان سيبيعها بعشرين أصبح يبيعها بعشرة، لكن يبارك الله في العشرة.
وكم من بائع يبيع سيارة بثلاثين ألف ريال، ويقول: ليس فيها أي شيء، فيقال له: أمصدومة هي؟ فيقول: أأبيع لك سيارة مصدومة؟! أتصدق هذا الكلام؟! فلا يعطيه كلمة لا وكفى، بل يعطيه شيئاً أعظم من لا، يقول: وهل تصدق أني أبيع لك السيارة مصدومة؟ أبداً، هذه ليس فيها أي شيء، وإذا سأله عن الكيلو كيف هو؟ قال: الكيلو؟ لم يقف لحظة واحدة.
وهو واقف منذ سنتين، وإذا سأله: كم مشت؟ قال: خمسة آلاف فقط.
من البيت إلى الدوام، لا أذهب إلى أي مكان آخر.
ثم باعها بقيمتها وربما أكثر، لكن محق الله البركة.
قال: (فإن كذبا) أي: في السعر (وكتما) أي: العيب، (محقت بركة بيعهما) وكم رأينا كثيراً من الحالات، أن الكذاب يمحق الله بركة بيعه.
أيضاً: الكذب من علامات النفاق، روى البخاري ومسلم في الصحيحين قال عليه الصلاة والسلام: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان) فالذي يكذب في المواعيد وفي الأقوال هذا -والعياذ بالله- منافق ولا يهديه الله إلا إذا تاب.
وأيضاً في الحديث الصحيح عند البخاري، حديث سمرة بن جندب، حديث الرؤية الطويل، أنه صلى الله عليه وسلم انطلق مع اثنين من الملائكة في رحلة طويلة، ومن ضمن أحداث الرحلة أنه قال: (انطلقنا فأتينا على رجل مستلقٍ على قفاه، وآخر معه كلُّوب من نار، فيُشَرْشِر شِدْقه من فمه إلى مسمعه، ثم يُشَرْشِر الثاني، ثم يعود لهذا، فيكون كما كان، قلت: من هذا؟ قال: هذا الرجل يخرج من بيته، فيكذب الكذبة، تبلغ الآفاق).
كذاب، يصنف الكذبات، يصنع ويصدر الكذب، لا يسمع شيئاً إلا ويضيف عليه كذبة، هذا -والعياذ بالله- عذابه في النار، أعاذنا الله وإياكم.
وأيضاً عند البخاري ومسلم حديث صحيح: يقول عليه الصلاة والسلام: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: -منهم- رجل باع سلعة، فحلف بالله أنه اشتراها بكذا، فصدَّقه ذاك وهي على غير ذلك) هذا -والعياذ بالله- لا يكلمه الله يوم القيامة، فتأتي عنده في الدكان، فتقول: هذه السلعة بكم يا أخي؟ فيقول: نعطيك برأس مالها، فتقول: كم رأس مالها؟ فيقول: والله أنها عليَّ بأربعين، تفضل خذها بأربعين.
ماذا ينتظر من الزبون أن يفعل له؟ أيعطيه ثلاثين، وهو يحلف له بالله أنه أخذها بأربعين؟ أينوي أن يخسره؟ بل يعتبره ما قصَّر وتجمل فيه أنه أعطاه برأس ماله، وما ربح عليه، ولكن عندما يخرج من عنده ويذهب إلى الدكان الآخر يجد السلعة بثلاثين، أي: أنها بعشرين، ذاك أقنعه وصدقه بيمينه، ولكن باع السلعة واشترى النار، واشترى غضب الجبار.
لا تحلف بالله كاذباً ولا باراً، لا حول ولا قوة إلا بالله!!(117/11)
هل تريد الهداية؟
هذه الستة المعوقات التي تعيق المسلم إذا أراد أن يهتدي، فتقف هذه المعوقات حجر عثرة في طريق هدايته.
هل تريد الهداية يا مسلم؟ إن قلت: نعم، فعليك أن تشغِّل دَرَكْتَرات القوة، ودَرَيْدَرات العزيمة الرجولية، وتزيح هذه المعوقات من طريقك، وتلزم طريق الإيمان.
أولاً: لا تصاحب الفسقة والعصاة، واختر الزملاء الصالحين.
ثانياً: لا تتبع الهوى، ولكن اتبع الشرع.
ثالثاً: لا تعرض عن دين الله، ولكن أقبل على الله، وتعلم واعمل بدين الله.
رابعاً: لا تتكبر بل تواضع واخضع؛ تواضع دائماً في ملبسك، وفي مأكلك، وفي مشربك، وفي مركبك، حتى السيارة التي تركبها وأنت ماشٍ امشِ متواضعاً، كيف تمشي متواضعاً؟ أولاًَ: اركب أي سيارة.
ثانياً: إذا ركبتَ فسم الله؛ إذا شغلت السيارة سم الله واذكر الله.
ثالثاً: اجلس جلسة المتواضع.
رابعاً: شغل السيارة بهدوء.
خامساً: حركها بأدب.
سادساً: راعي آداب الطريق، إذا رأيت أحداً ماراً في الطريق يريد أن يقطع فقِفْ له.
سابعاً: إذا رأيت أحداً يريد أن يسبق بسيارته بعد أن كان محبوساً، ولم يسمح له أحد، فقف له وأشر له، ودعه يمشي، وبعض الناس يعاند، تأتي من هنا يعاند، وتأتي من هناك يأتيك، وينظر، يريد أن يقطع عليك، لماذا هذا الحجز دعه يمشي.
هذه كلها من علامات التواضع.
لكن من علامات الكبرياء: أن يأتي الرجل إلى سيارته، ويفتح الباب بأنفة، برأس إصبعه، وبعد ذلك يضع المفتاح دون أن يذكر الله ودون أن يسمي، وبعد ذلك يضبط المراية التي أمامه، وبعد ذلك يشغل ورقبته منحنية هكذا، ثم عندما يحرك السيارة لا يحركها بهدوء، بل يدوس إلى آخر ضغطة في البنزين وينزع رجله من آخر قوة من الكَلَتْش، فتعمل السيارة لفة، يسميها أصحابُها تفحيطة، يريد أن يفحط في النار، فيلف لفة قوية، فإذا كانت هناك حجارة أو تراب أو شيء فإنه يَحْثُوه على وجوه الناس، وعلى وجوه السيارات التي وراءه، ثم يدخل على هذا من هنا، ويأتي من هنا، ويأتي من هنا، وإذا رأى مارَّاً من هناك أتاه يريد أن يخيفه ويلف عليه، وإذا رأى سيارة أمامه اقترب منها وهكذا.
هذا متكبر ومتغطرس، هذا ستأتيه مصيبة في الدنيا أو في الآخرة، وكل من رآه قال: الله أكبر عليه، الله ينتقم منه، جعلها الله في وجهه، فيدعو الناس عليه.
لكن ذاك المؤمن إذا مشى مشى متواضعاً؛ لأن الله يقول: {الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [الفرقان:63]، {وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً} [الإسراء:37]، حتى بالسيارة، انتبه! (إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً} [الإسراء:37] لا.
لا تمشِ في الأرض مرحاً، ولا تتكبر.
إذاً: فهذا الكبرياء، وهو المعوق الرابع من معوقات الهداية.
الخامس: لا تعاند في الحق بعد وضوحه، إذا جاءك نهر الدليل، وإذا جاءك الأمر من الله ومن رسوله، فمباشرة لا تعاند، انتبه! أتعاند خالقك؟! أتعاند الذي بمشيئته يقبض عليك؟! أتعاند الذي مصيرك إليه، وناصيتك بين يديه؟! أتعاند الذي لا يمنعه منك شيء، وهو يمنعك من كل شيء؟! فانتبه! السادس والأخير: لا تكذب.
بل كن واضحاً صادقاً في كل أمورك، وفي كل تصرفاتك، مع مديرك، أو مع أستاذك، أو مع والدك، أو مع والدتك، أو مع زوجتك، أو مع أولادك، أو مع جيرانك، قل الحق ولو كان مرَّاً، لا تكذب ولو حمَّلك الصدق جزءاً من المسئولية والمعاناة؛ لكن لو قارنت بين آلام الصدق، وآلام الكذب، لوجدتَ أن آلام الصدق أخف بمليون مرة من آلام الكذب.
هناك رجل توفي والده وهو طفل صغير، أرسلته أمه مع قافلة إلى بلد ما ليتعلم العلم، وقالت له وهي تقبله: يا بني! أوصيك بتقوى الله، وعليك بالصدق، وإياك والكذب.
فقط، تقوى الله، والصدق، وإياك والكذب، وأعطته مائة وخمسين ريالاً، وركب مع القافلة لينتقل إلى قرية فيها عالم يطلب العلم على يديه، وفي الطريق اقتطعت القافلةَ مجموعةٌ من قُطاع الطريق، وهم السرق، وقد جاءوا بالرجال وكتَّفوهم، وسلبوا الأموال، ثم فتشوا الرجال واحداً واحداً، ولما أتوا إلى الولد وهو جالس، قال سيدهم: لا تفتشوه، فليس عنده شيء، قال الولد: لا.
عندي مائة وخمسين ريالاً، قال: فتشوه، ففتشوه فوجدوا معه مائة وخمسين ريالاً، فأخذوها منه.
أما زعيم اللصوص فقد استرعى انتباهه هذا الموقف، قال: يا ولدي! لماذا قلت هذا الكلام، ونحن قلنا: ليس عندك شيء؟ قال: إن أمي أوصتني بتقوى الله، والصدق، وحذَّرتني من الكذب، فإن الصدق يوصل إلى الجنة، وإن الكذب يورد إلى النار، فأنا خشيت أن أكذب وأدخل النار.
هذا الموقف هز الرجل هزة عنيفة، وقال: سبحان الله! طفل صغير يخاف من الكذب، حتى على ماله الذي هو له، حتى لا يدخل النار، ونحن ما نخاف من الله عز وجل، ثم التفت إلى رجاله وقال: ما أنا فيكم؟ قالوا: أنت سيدنا وفحلنا، قال: كلامكم وطعامكم وشرابكم عليَّ حرام إلا أن تشيروا معي فيما أشير به، قالوا: معك -في الخير أو الشر؛ لأنه فحل وبطل- فقال: إلى أين أنت ذاهب يا ولد! قال: أطلب العلم عند العالم الفلاني، أرسلتني أمي، قال: ونحن معك، ثم أمر بفك الرجال كلهم، وأرجعوا مال كل واحد إليه، وأرجعوا مال الولد إليه، وتابوا توبة إلى الله، وأصبح هذا الرجل من خيار الصالحين، هذا بسبب ماذا؟ هذا كله بسبب الصدق.
الناس الآن يقولون: اكذِبْ تَنْجُ! لا.
بل اصدُق تَنْجُ، أما الكذب فليس بجميل بأي حال من الأحوال، كن صادقاً ولو في أحلك الظروف، وفي أحرج المواقف فإن الله سيجعل لك فرجاً إذا صدقتَ؛ لأن الله يقول: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3].
أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يدلني وإياكم على طريق الهداية، وأن ييسر لي ولكم أسبابها، وأن يعيذنا وإياكم من موانعها ومعوقاتها.
ثم إنني أدلكم على شيء قبل هذا كله، وقبل الهداية، ألا وهو: القناعة، فالذي ليس لديه قناعة أن يكون من المهتدين فإنه لا يريد أن يمشي في هذا الطريق كله، لكن إذا اهتديت، وحوَّلت الموجة إلى الله، وسلكت السبيل إلى الله، فالله سيفتح لك الأمور كلها؛ لأن الله يقول: {وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} [الرعد:27].
فتُب وارجع إلى الله عز وجل، وصحِّح الوضع، وثق بأن الله كريم، ولن يردك، فالله عز وجل يقول في الحديث القدسي الصحيح: (أنا مع عبدي ما تحركت بي شفتاه، فإن ذكرني في نفسه ذكرتُه في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرتُه في ملأ خير منهم، وإن تقرب إليَّ شبراً تقربتُ إليه ذراعاً، وإن تقرب إليَّ ذراعاً تقربتُ إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيتُه هرولة، وكنتُ إليه بكل خير أسرع).
أكرر سؤالي ورجائي إلى الله الذي لا إله إلا هو أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً.
اللهم كما جمعتنا عليه من أجل طاعتك، فاجمعنا من أجله في دار كرامتك، ووالدِينا ووالدِي والدِينا وإخواننا وأخواتنا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.(117/12)
الأسئلة
.(117/13)
ثمرة الحضور في مجالس الذكر
السؤال
بعض الإخوة الذين يحضرون المحاضرات والدروس، ولكنهم -مع الأسف- لا يغيرون من أنفسهم، ولا من وضعهم، ولا من وضع بيوتهم وأهليهم، ولا من طباعهم، وكأنهم أرض سبخاء لا تستفيد من الماء، فهل هو ممن يقول: {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} [البقرة:93]؟
الجواب
ثمرة الحضور في مجالس الذكر: هو التحول والتغير في حياة الإنسان، أما الحضور مع الاستمرار على الوضع الأول دون تغيير في حياته، فهذا أشبه بالإدمان على المواعظ، أي: أن الموعظة في حياة الناس الذين لا يغيرون شيئاً أصبحت كشيء تعودوه وأدمنوا عليه، يحبونه؛ ولكن إذا جئت لتفتش حياتهم وجدتَ حياتهم هي هي، لم تغير هذه الدروس، ولا المواعظ، ولا الخطب، ولا المحاضرات شيئاً من واقعهم، واستمروا على وضعهم السيئ، فهؤلاء يُخشى عليهم -والعياذ بالله- أن يطبع الله على قلوبهم، فإذا طُبع على قلب الإنسان -أي: ختم عليه- لم يعد ينفع فيه شيء؛ لأن بني إسرائيل كانت تنزل عليهم الكتب، ويُوحى إلى أنبيائهم، ولكن {طُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} [التوبة:87]، يسمعون الكلام من هنا ويخرج من هنا، وحليمة على عادتها القديمة، هذا لا ينتفع، فانتبه! حتى لا يطبع الله على قلبك عليك أن تغير باستمرار، فكل شيء تسمع من دين الله حق، ثم تجد أنك في وضع لا يتلاءم مع هذا الحق، فعليك أن تسعى إلى التصحيح، وستجد كل يوم وأنت تصحح أنك في وضع إيماني أفضل إلى أن تصل -بإذن الله- إلى درجة تنشرح فيها نفسك، وهناك يقول الله لك: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30].
أما البقاء في المكان، والمراوحة على الأقدام في مكان واحد وعدم السير إلى الله خطوة واحدة، وتظن أنك مخدوع بهذا السماع وبهذا الحضور، هذا مكر من الشيطان.(117/14)
من مآسي المسلمين: الاختلاط والربا
السؤال
نغبط فضيلتكم بما منَّ الله به عليكم من جهد في الدعوة إلى الله، ومن قبول في التوجيه إلى الله، فجزاكم الله خيراً ونفع الله بكم، لقد بُلي الناس بمآسٍ محزنة، تبلَّد أمامها بعض الأشخاص، فما هو علاجها؟ وما هو موقف الشباب منها؟ ومن هذه المآسي: أولاً: الاختلاط الذي يكمُن في المستشفيات، وخاصة في التمريض والاستقبال، وواجهات الجمهور بشكل مخالف لشرع الله سبحانه وتعالى، فما هو موقف الإسلام؟ وما هو تصرف الشباب أمام هذا جزاكم الله خيراً؟ ثانياً: المآسي الربوية، والتي أصبح كثير من الناس يتعاملون بها، فما هو موقف الإسلام منها؟ وما هو العلاج ثبتكم الله بالحق ووفقكم إليه؟
الجواب
أولاً: شكر الله للأخ الكريم دعوته لي بالتوفيق والهداية، وأسأل الله لنا ولكم التوفيق والهداية والثبات.
أما المآسي التي تنتشر في هذا الزمان فهو شيء طبيعي، أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم بأنه في آخر الزمان يكون القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر، وقال: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء) ولكن عودة الناس إلى الله، واستشعارهم بالطريق الصحيح، هذا يُلزمهم ببعض التصرفات الإيجابية أمام تلك الظروف الغير مستصاغة والغير مقبولة، وهي تُبرِز مدى صدقهم مع الله، إذ أن الإنسان في الأجواء الصحيحة التي هي (100%) لا يبرز ولا نعرف إن كان صادقاً أو غير صادق، لكن إذا أُدخل الإنسان في ساحة البلاء وفي صالة الامتحان عُرف صدق إيمانه من كذب دعواه، فالذين يُبتَلون بالعمل في المستشفيات أو يضطرون إلى مراجعة المستشفيات، ويلمسون ما يجدون أو يشاهدون من الممرضات والعاملات، فهؤلاء يُفترض فيهم أن يكونوا إيجابيين، بِمَ؟ بغض أبصارهم؛ لأن الله قد ركب لك عينين، وركَّب لك على كل عين جفنين (وبابَين أوتوماتيك) أي: أنك لا تحتاج إذا أردتَ أن تغطي عينيك إلى جهد لا، بل افعل هكذا، وأغلق جفنيك مباشرة وأوتوماتيكياً وهذا من فضل الله، والله أمرك في عينيك فقال: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30] فإذا راجعت المستشفى، أو كنت تعمل في المستشفى فليس هناك من أحد يستطيع أن يفتح عينك على منظر لا تريده إلا أنت، ولكن بإمكانك أن تغض بصرك وتمشي.
وقد أعجبني طبيب سعودي موفق في أحد المستشفيات عندنا هناك يحمل شهادة الدكتوراه، وذلك عندما كنت مريضاً في مستشفى، حيث جاءني ومعه الممرضات بجانبه، وجلستُ أرصد حركته، -فوالله- كان يتحرك وهن ثلاث واقفات بجانبه، وما رفع نظره إليهن، كان يتكلم ويقول: قولوا كذا، واعملوا كذا، وسوُّوا كذا، وعينه أمامه، ولا يلتفت إليهن أبداً، بل عينه في الأرض، فهل تستطيع أي واحدة أن ترفع عينه؟ لكن بعض الناس مُجرد أن يرى المرأة تظل عينه مُسَمَّرة فيها، ويتكلم معها، و ( Good Morning) بالإنجليزي، أي: صباح الخير, و ( marsih) بالفرنسي، أي، شكراً، وكيف حالك؟ وهل أنتِ بخير؟ ثم يقول: ماذا نفعل؟ إنهن نساء! نقول له: نعم.
نساء؛ لكنك ما اتقيت الله في النساء، ولو أنك حينما رأيت النساء غضَّيت، لكان فعلك هو المنطق، لكن حينما ترى النساء ترفع عينك، وتقول: -والله- وضعوا لنا النساء فلا؛ لأن النساء موجودات، وعينك موجودة في رأسك، وجفنك في تصرفك، وبإمكانك أن تغض بصرك، فهذا ابتلاء.
الثانية: مسألة الربا وما يتعلق به: هذا مما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم أن الناس في آخر الزمان يأكلون الربا، ومن لم يأكله يُصبه من غباره.
والربا -كما تعرفون- موبقة عظيمة، ومن أعظم الجرائم، ومن الموبقات -والعياذ بالله-، وقد توعد الله صاحبه بالحرب، ما أذن الله بالحرب على صاحب معصية كما أذن بالحرب على صاحب الربا، وقال عليه الصلاة والسلام في صحيح مسلم: (لعن الله آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه) الحديث صحيح.
وأخبر صلى الله عليه وسلم في حديث سمرة بن جندب، الذي في صحيح البخاري، حديث الرؤيا الطويل: أنه انطلق إلى رجل فأتيا على رجل يسبح في نهر من دم، وآخر على طرف النهر معه حجارة، وهذا يسبح إلى أن يأتي إليه، ثم يرمي بحجر في فمه، فيفغر فاه ويلتقم الحجر، ويرجع إلى طرف النهر، ثم يأتي ويرجمه، قال: من هذا؟ قال: هذا آكل الربا.
وأخبر صلى الله عليه وسلم أن أكلة الربا يبعثون يوم القيامة وبطونهم كالجبال.
بطن أحدهم كالجبل، مليء بجميع الأموال التي رابى بها في الدنيا، ثم أيضاً ترى الأموال التي داخل بطنه؛ لأنها شفافة، مثل البالونة، فترى السيارات، والأراضي، والعمارات، كلها داخل البطن، وهو تحتها، بطنه مثل الجبل، وهو بجسمه العادي يومئذ، أي: أن رأسه صغير، ورجليه صغيرتان، ويديه صغيرتان، لكن بطنه كبيرة كالجبل، وتصوروا إذا كان بطن أَحَدٍ كالجبل وهو تحته، فكيف سيكون حاله، لا حول ولا قوة إلا بالله! فهذه مصيبة.
فعلى المسلم أن يتقي الله عز وجل وألا يسير في أمر من أمور الربا، فإذا كان لديك مال، وأردتَ أن تودعه فلا تودعه في البنوك الربوية، ولكن أودعه في البنوك الإسلامية التي انتشرت -والحمد لله- وموجودة الآن، وإذا لم تجد مكاناً فضع أموالك في بيتك، قد تقول: ربما تُسرق، فنقول: لا.
الله سيحفظها -إن شاء الله-، لكن بعض الناس تجده من مجرد أن يحصل على خمسة آلاف أو عشرة آلاف يقول: سأفتح حساباً، وهذا دفتر شيكات، ويضع دفتر الشيك هنا في الجيب، وإذا سأله أحدٌ شيئاً قال: كم تريد؟ أأقطع لك شيكاً أو أعطيك نقداً، بمعنى: أنه يريد أن يكون شخصية، الله أكبر يا هذه الشخصية! لا يا أخي لا يحتاج هذا إلى شخصية، بل إن الشخصية العظيمة تكمن في الطاعة لله، من مراقبة الله تبارك وتعالى.
أما أن تنفخ نفسك بالكذب، فالنفخة هذه لن تنفعك عند الله يوم القيامة، فاتق الله، اتق الله واحذر من الوقوع في هذه المأساة -مأساة الربا- لأن الله يقول: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:275]، ثم قال الله: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة:276]، ويقول: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم:39].(117/15)
نصيحة للنساء اللاتي يحضرن المحاضرات
السؤال
فتاة تقول: لو سمحت -جزاك الله خيراً- في إبداء النصح للمستمعات من الأخوات الحاضرات من ناحية رفع الصوت والكلام أثناء المحاضرة، ناسيات بذلك أو متناسيات أو متجاهلات أن ذلك يحبط العمل وهن لا يشعرن، بالإضافة إلى التشويش على الحاضرات جزاك الله خيراً.
الجواب
قد كنتُ أتصور أن مشكلة النساء وكلام النساء، وكيف حالكِ؟ وهل أنتِ بخير؟ وكم لديكِ من أولاد؟ وكنا نريد أن نأتي إلى عمارتكم، وهل معكم سيارة؟ وأين يعمل زوجك؟ وغير ذلك، كنت أتصور أن هذا عندنا في الجنوب فقط، ولكن تبين أن ذلك موجود حتى عندكم في الرياض؛ وطبع النساء واحد، ولا حول ولا قوة إلا بالله! أهل الإيمان يبكون في حِلَق الذكر من خشية الرحمن، وهي جالسة تتكلم مع زميلتها، لم تعلم أين الجنة ولا أين النار، وتطلب من زوجها، وتقول: أوصلنا نحضر الذكر، فتخرج من هنا بالإثم والغضب من الله؛ لأنها معرضة عن الله، تجد العالم ينقطع صوتُه ويَبُحُّ نحرُه، وهو يحذِّر وينذِر، ويرغِّب ويرهِّب، وتجدها تتكلم، وإذا خرج زوجها من المسجد فقال: ماذا عرفتِ؟ قالت: ذكره الله بالخير، لم يدع وادياً إلا أوصلنا إليه، ذكره الله بالخير، وإذا قال: وما عرفتِ؟ قالت: لستُ أدري، كلام الواجب، ما دريتُ أين أوله ولا أين آخره.
وذلك لأنها كانت تتكلم فما درت عن شيء؛ وإذا رأت امرأةٌ أمراةً أخرى لأول مرة منذ سنة أو سنتين أو ربما لا تعرفها، فإنها تسألها مجرد أن تدخل: أين بيتكم؟ وهي لا تعرفها، فتقول لها: بيتنا في حي كذا، فتقول: البيت لكم، أم هو مستأجر؟ وإذا قالت: بل مستأجر، قالت: أرجو أن يكون واسعاً، يحتوي على غرف أربع أو خمس، وهل معكم سيارة؟ وأين وظيفة زوجك؟ وهل عندك أولاد؟ وكم هم؟ وهل الأول في المدرسة؟ وكم سِنُّه؟ وكيف هي ابنتكم؟ وتظل في الحديث إلى الساعة الثامنة والنصف، وتخرج وقد توِّجت بغضب الله.
وليتها ما حضرت -والعياذ بالله-.
إن المؤمنة ينبغي لها إذا جاءت إلى المساجد أن تلتزم بآداب الإسلام: أولاًَ: ألا تلبس من الثياب جميلاً، فلا تخرج إلى المسجد كما تخرج إلى معرض الأزياء، لا.
بل تلبس البذل من الثياب والرديء.
ثانياً: ألا تتطيب؛ لأن شم الريح منها يفتن، وإذا خرجت فشم الرجال ريحها فهي زانية.
ثالثاً: أن تحتجب بالحجاب الشرعي الكامل، فلا يبدو منها شعرة ولا ظفر، وجهها ويداها وقدماها وجسمها بالكامل.
رابعاً: أن تدخل المسجد خاشعة خاضعة، لا ترفع صوتها، ولا تنظر إلى أحد.
خامساً: أن تجلس في مصلاها، وتستقبل القبلة، ولا ترد كلمة على أحد، وحتى التي تسلم عليها تقول لها: لا كلام الآن، اسمعي الواعظ أو الشيخ، إلى أن تنتهي الحلقة.
ثم تخرج -إن شاء الله- وقد استفادت.
أما أن تأتي لتتكلم فليتها ما حضرت، لا حول ولا قوة إلا بالله!(117/16)
مسائل تتعلق بلباس المرأة
السؤال
كثير من الإخوة يخبرون الشيخ بأنهم يحبونه في الله سبحانه وتعالى.
وهنا سائلة تقول: فضيلة الشيخ! هناك من الزميلات من قد انْسَقْنَ وراء اتباع الموضة، من قص الشعر، ومن لبس الضيق والمفتوح وغيره، مما كان من الغرب، وقد أتلف أبصارهن أيضاً كثرة نظرهن إلى التلفاز، وإلى التمثيليات، وأنا أدعو لهن بالخير، فما هو الحل -جزاك الله خيراً-؟
الجواب
هذه فتنة استطاع الشيطان أن يروجها، وأن يبيعها في سوق النساء؛ لأنهن -كما جاء في الحديث- حبائل الشيطان، إلا من هدى الله وعصم، فتنة التبرج، والتبرج: هو خلق من أخلاق الجاهلية، يقول الله عز وجل لنساء النبي صلى الله عليه وسلم، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، والخطاب موجه لهن ولسائر نساء الأمة: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33] والتبرج: يشمل كل مظهر من مظاهر الفتنة: في اللباس، أو في المشية، أو في النغمة والصوت، أو في أي مظهر من مظاهر الفتنة، وما نلمسه اليوم ونشاهده هذا تبرج جاهلي من طراز عال جداً، وهو لبس الضيق من الثياب، وقد جاء في الحديث: أن من يصنع هذا فهو من أهل النار، قال عليه الصلاة والسلام: (صنفان من أهل النار لم أرَهما بعد: نساء كاسيات عاريات)، قال العلماء: كاسية وعارية، كيف تكون؟ قال العلماء في الماضي: كاسية بنعم الله، عارية من شكرها؛ لكن أثبت الواقع اليوم أنها كاسية وعارية؛ لأنها تلبس لباساً ضيقاً يصف جسمها، ويفصل عورتها، كما لو كانت عارية، أي: لو أنها عارية لفَرَّ الناس منها، لكن بهذا اللباس أعراها أكثر، وفضحها أكثر، والحق للمسلمة أن تلبس ثوباً واسعاً فضفاضاً، لا يصف منها عورة، ولا يكشف منها سوءة (نساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات)، وقف علماء الحديث في الماضي أمام هذه العبارة، وقالوا: الله ورسوله أعلم من مراده منها! كيف مائلة مميلة؟ أما الآن فرأيناهن مائلات مميلات، مائلة: في باروكتها، فتأخذ لها شعراً، ثم تجمعه فوق رأسها، إلى أن يصل فوق رأسها مثل سنام البعير، كما جاء في الحديث (رؤوسهن كأسنمة البُخت) انظر إلى سنام الجمل إذا مشى كيف يكون، يميل يميناً وشمالاً، وهذه كذلك، تكوِّم الشعر وتلفه وتلفه إلى أن يصل فوق رأسها مثل: سنام البعير، ثم إذا مشت مالت وأمالت، وأيضاً: تلبس الكعب العالي، الذي يقلب المحملة، وقد ذكر علماء الطب: أن المرأة التي تلبس الكعب العالي تنقلب محملتها، وإذا تزوجت لا تحمل؛ لأنه يرفع عجيزتها من الوراء، ويبدي سوءتها للناس، وهذا مظهر من مظاهر الجاهلية، وهذا نوع من التبرج.
أيضاًَ من صور التبرج الموجودة عند النساء اليوم: لبس الثياب المشقوقة من عند الأرجل، تفصل إحداهن ثوباً ثم تشقه من تحت، لماذا؟ ما هذا؟ عيب هذا الفعل، الثوب لا بد أن يكون ساتراً، أما الثوب الفاضح، وإن أرغمت عليه المرأة أن يكون ضيقاً من عند رجلها، فإنها تشقه من عند رجليها من اليمين ومن الشمال، وأعطت تأشيرة دخول للشيطان من يمينها ومن شمالها والعياذ بالله، فلا يجوز هذا.
وأيضاً: الروائح، فتتعطر بعض النساء والبنات بالروائح الباريسية، هذه الكالونية الفاتنة، وتخرج -والعياذ بالله- ليشم الرجال ريحها.
كل هذا من صور الجاهلية، والتبرج الذي نهى الله عنه في القرآن.
وعلى المرأة المسلمة أن تتقي الله تبارك وتعالى، وأن تعلم أن عذاب الله عز وجل سيحل بها، وأنها لن تفلت من قبضة الله إذا ماتت وهي على هذا العمل، ولتذكر الوقوف بين يدي الله، ولتذكر دخول القبر، ولتذكر الخلوة فيه، ولتذكر الوحشة والضجة في القبر، لن ينفعها شيء في الدنيا.
اتقي الله أيتها المرأة المسلمة، وتوبي إلى الله، فإنك بعملك هذا تصرفين الناس عن الله، وتصدين عن دين الله، وتضلين الشباب عن هداية الله، وما من شاب ينظر إليكِ إلا ويسمر الله في جسدك مسمارين يوم القيامة، وما من شاب تسببين في إهلاكه وإضلاله عن طريق الله بعبارة أو بكلمة أو بنظرة أو بحركة أو بريحة أو بمنظر يراه منك إلا وأنت سبب في ضلاله وقائدة له إلى عذاب الله في النار والعياذ بالله.
والثوب إذا لبسته المرأة وشقت له فتحتان عن يمين وشمال على حجة أنها لن يراها إلا النساء فسوف يراها الرجال حتماً، أتدرون لماذا شقَّتها النساء؟! لأن هذا بداية لنزع الحجاب؛ لأن النساء تركب السيارات، فإذا جاءت لتركب السيارة وثوبها طويل فلن يرى أحدٌ شيئاً، لكن عندما تقدم رجلاً، وترفع العباءة، فعند الفتحة ينكشف الساق، فيرى الناس ساقها، فتفتن الناس، وإذا قالت: لا أحد يراني، لا يراني إلا زوجي وأهلي، نقول لها: ولكن حينما تركبين السيارة والشارع مليء بالناس، والشياطين يقتنصون، فسوف يراك الناس، لكن لو لبستِ هذا الثوب فقط في البيت بحيث لا تخرج، بل تلبسه للنوم لزوجها، فلا مانع، فإذا كانت لا تلبس هذا الثوب إلا للزوج فلا مانع؛ لأن للزوج كل شيء.(117/17)
موقف الشباب المسلم من تعدد الجماعات
السؤال
يسأل السائل بالله العظيم أن يُعْرَض سؤالُه على الشيخ، وهو يقول: نسمع في هذا الوقت بالجماعات التي تدعو إلى الله سبحانه وتعالى مثل: جماعة الإخوان المسلمين، وجماعة الدعوة إلى الله، وجماعة السلفية، فما رأيك في ذلك؟ مع بيان موقف الشاب المسلم مما هو موجود؟
الجواب
أولاً: لا يجوز لمسلم أن يُلزم الآخر وأن يسأله بوجه الله في أمر لم يُلزم به من قبل الشرع، فما ينبغي لك أن تسأل بالله العظيم أنه لا بد أن يُقرأ سؤالُك، لماذا؟ لأن الجواب على السؤال إنما يقرر الحاجة له، هو المسئول عن الندوة والمسئول أيضاً عن الإجابة، فكل سؤال يَرِد ليس بالضروري أن يُجاب عليه، فلا تلزم الناس، بل اسأل سؤالك، فإن أجِبْت عليه فالحمد الله، وإن لم تُجَب عليه فبإمكانك أن تسأل سؤالك في الرجل الذي تريد أن تقدمه له على انفراد، أو بالتليفون، أو تذهب إلى غيره، أما أن تفرض على الناس أنهم يجيبون على سؤالك غصباً، وتقول: أسألكم بالله، فهذا لا يجوز.
أما سؤال هذا الأخ الكريم، فنحن إذا دُعينا إلى الله ينبغي أن نسأل الذي يدعونا: إلى ما يدعونا؟ فإن كان يدعونا إلى شخص، أو إلى هيئة معينة، أو إلى جماعة معينة، فلا نستجيب له، وإن كان يدعونا إلى كتاب الله وإلى سنة رسول الله، وإلى دين الله الذي جاء به رسول الله، فنحن نستجيب له، ليس عندنا في الإسلام شعارات، ولا عندنا لوحات، ولا لافتات، بل عندنا شعار واحد، ولافتة واحدة اسمها: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، كتاب الله وسنة رسوله، يقول عليه الصلاة والسلام: (تركتُكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك)، وقال: (تركتُ فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وسنتي).
فأي واحد يدعوك، إذا دعاك فقل: إلى أي شيء تدعوني؟ إذا قال: أدعوك إلى الإسلام -الكتاب والسنة- فأنت معه، وإذا قال: أدعوك إلى جماعة كذا، أو حزب كذا، أو هيئة كذا، أو مؤسسة كذا، فقل: لا يا أخي، أنا مسلم، ولا أريد أن أعيش إلا على الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وإلا فإن السلف الأول وتابعوهم كانوا من أي جماعة؟ فما عندنا تحزبات في دين الله، وإنما عندنا دين الله الواضح، وشرع الله الكامل الذي جاء من عند الله تبارك وتعالى، كتابٌ وسنة، وغيرهما فلا.(117/18)
موقف الشاب الملتزم من زملائه الذين لا يصلون
السؤال
فضيلة الشيخ! أنا أحبك في الله سبحانه وتعالى، وأنا موظف، وهناك بعض زملائي في الوظيفة، عندما تأتي صلاة الظهر لا يصلون، وقد نصحتهم مراراً، فما هو موقفي منهم جزاك الله خيراً؟
الجواب
أولاًَ: أحبك الله الذي أحببتني فيه.
ثانياً: موقف الموظف وهو رجل محافظ ومجتهد وملتزم أسأل الله أن يثبته، بالنسبة لإخوانه الموظفين معه في العمل فله أولاً: أن يبدأ بالنصيحة، والدعوة ولكن بالصبر والحكمة وبالكلمة الطيبة، سمعتُم في القراءة التي قرأها عليك المقرئ أول اللقاء، سمعتم قول الله عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33] ثم قال الله عز وجل بعدها مبيناً الأسلوب الصحيح للدعوة، فقال: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ} [فصلت:34] لا يستوي الأسلوب الطيب، والأسلوب السيئ في الدعوة، {ادْفَعْ} [فصلت:34] بماذا؟ {بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت:34] أي: قابل الأمور وعالج المشاكل بأحسن عبارة وألطف أسلوب {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ} [فصلت:34] بأسلوبك الطيب الذي بينك وبينه عداوة تحوله إلى ماذا؟ {كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34] ثم قال عز وجل إن هذا الكلام لا يقدر له كل أحد، هو في الذهن سهل لكن في التطبيق صعب، قال الله: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35].
أسأل الله أن يرزقني وإياكم من الحظ العظيم في هذا الشيء الكثير، وهو الحِلم والصبر، فإذا جئتَ إلى زميلك، وقلتَ له: صلِّ: يا أخي الصلاة خير، وقال: جزاك الله خيراً، فقد برئت ذمتُك منه، ولكن ليس بالضروري أن تذهب وتبحث عنه في المسجد، وإذا ما لقيتَه في المسجد تتكلم عليه، أو تضاربه، أو تبغضه، لا.
بل عليك بدلالة الإرشاد، أما الاتباع فليست لك، هداية الإتباع لمن هي؟ لله، أنتَ دله على الطريق وكفى، ولكن متى تبغضه؟ تبغضه إذا رفضك، أما إذا حدثته كل أسبوعين أو ثلاثة وجلست معه، وليس كل يوم، كلما مررت عليه قلت له: صلاة صلاة، كأن تقول له اليوم: صلاة، وغداً تقول له: صلاة، وبعد غد تقول له: صلاة، ثم بعدها يغضب عليك ويزهق منك، ويقول: يا رجل! شغلتنا، كل يوم صلاة صلاة، لن أصلي، فتكون أنتَ من جعله يقف هذا الموقف بأسلوبك، بل إذا قلتَ له: صلاة، فقد انتهى الموضوع، فتتحين له فرصة أخرى، أو انظر له مناسبة أخرى، أو زُره في بيته أو في مكتبه، أو اهدِ له شريطاً، اذكر له الحياة الدنيا الآخرة الموت الجنة، بأسلوب طيب وبطريقة حكيمة، حتى يكون عندما تذكر له مرة أخرى قال: جزاك الله خيراً، الحمد لله.
أما إذا نصحتَه ودعاك وقال لك: أرجوك لا تنصحني، فكلما جلستُ معك قلتَ: الصلاة الدين، تريد أن تجلس فاجلس، الدين ما عدتُ أريد أن أسمعه منك، ولا تنصحني، ولا لك علاقة بي، فهناك يلزمك شرعاً أن تبغضه في الله، وتقول له: فِراقٌ، لماذا؟ لأنه حدد منك موقفاً معيناً يلزمك أنت أيضاً أن تحدد منه موقفاً معيناً.
أما إذا كان ما زال يقبل الدواء، فأعطه الدواء، فأنت كالطبيب وهو كالمريض، والمريض في المستشفى كلما يمر عليه طبيب يعطيه علاجاً، ويقبل، والعافية بيد من؟ بيد الله، لكن ما رأيكم إذا قال الطبيب للمريض في الصباح: اشرب هذه الحبوب، فقال: لا أقبلها، فقال له: نعطيك إبرة، قال: والله لا أضربها، فقال له: إذاً: نعطيك أشعة، قال: ما هذه الأشعة، ما رأيكم ماذا سيفعل في الطبيب؟! أيتركه أم يخرجه؟ بل يكتب له ورقة خروج، ويقول: المريض غير متجاوب مع العلاج، لماذا؟ لأن المريض حدد من العلاج موقفاً.
فأنت عنده كالطبيب، وما دام يقبل العلاج منك فأعطِه، مَرَّةً حبوباً، ومَرَّةً إِبَراً، ومَرَّةً أشعةً، ومَرَّةً هديةً، وهكذا، إلى أن يعافيه الله، والعافية لا تنتظرها أنت، الذي ينزل العافية هو الله، {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءَُ} [القصص:56].(117/19)
ظاهرة الانتكاس وعلاجها
السؤال
يقول: ظاهرةُ الانتكاسِ، ظاهرةٌ ملاحَظةٌ في صفوف الشباب الذين التزموا والشابات اللاتي التزمن، فما الحل؟ وما العلاج؟
الجواب
نعم.
يلتزم الشاب فترة معينة، أسبوع أسبوعين، شهر شهرين، ثم ينتكس، وتلتزم الشابة فترة معينة ثم تنتكس، ويصابون بشيء من الإحباط نتيجة اصطدامهم ببعض القضايا في بيوتهم، أمه ترفض أبوه يرفض أهله ضده، وبعد ذلك يعاكس ويصادم، وبعد ذلك ينهزم، ويرجع رجعة ألعن مما كان عليه قبل الاهتداء -والعياذ بالله-.
أولاً: المنتكس والراجع هذا سببه سوء البداية، فسوء البداية يؤدي إلى سوء النهاية، فالذي يلتزم الطريق من أوله يوصل، لكن الذي يمشي الطريق من أوله وهو غلطان، فيكون كلما سار زاد غلطه، والذين يهتدون هداية شكلية مظهرية، أو هداية عاطفية، بناءً على موقف معين مر بهم، فهؤلاء لا يلزمون الطريق بأسلوب صحيح، بل يأتون بعُنف على أنفسهم، وعلى أسرهم، وعلى آبائهم، وفي مجتمعهم، ثم تزول العاطفة، وينكشف المظهر الخادع، فيُحبَطون ويرجعون، مثل رجل يريد طلوع السطح، وبدل أن يأتيه درجة درجة حتى يطلع، بدلاً عن ذلك أراد أن يقفز مباشرة إلى السطح، فلا هو الذي وصل، ولا هو الذي سلم، بل ضرب برأسه في وسط الجدار ووقع وانكسر، ولو أنه مشى شيئاً فشيئاً لوصل.
أو كرجل أخذ له سيارة وبدل أن يمشي بها مثلاً إلى الجنوب أو إلى الشمال أو إلى أي جهة، ويقف كلما مشى قليلاً، أو كلما سخنت، وإذا ما انتهى زيتُه يغيره، وكلما انتهى بنزينه يغيره، بدلاًَ عن ذلك استهلكها استهلاكاً متواصلاً من يوم أن أوقفها إلى أن انتهى البنزين أو إلى أن فسد الزيت تماماً حتى خَرِبَت السيارة، فهذا اسمه المُنْبَتُّ، لا ظهراً أبقى ولا أرضاً قطع.
المُنْبَتُّ: الذي يمشي بغير هدىً، يأخذ جمله ويمشِّيه ويمشِّيه دون أن يوقفه، ودون أن يؤكله ودون أن يريحه، حتى أمات الجمل، وبعد ذلك تعطَّل، لا هو الذي وصل، ولا هو الذي سلم، قال العلماء: كالمُنْبَت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى.
فما أبقى له جملاً، ولا وصل، وهؤلاء هم أكثر الشباب اليوم، فهم يغترون بالمظاهر، ويتصورون فقط أن الهداية والالتزام في بعض الأمور التي جاء بها الدين، ولكنها أمور ظاهرة، فيخدعون بها أنفسهم ويخدعون الناس بها، وهذه أمور سهلة، كل واحد بإمكانه إطلاق لحيته، وتقصير ثوبه، وعمل بعض الأمور التي جاءت في الدين، لكن هذه ليس عليه المعوَّل، بل المعوَّل على القلوب، الكلام في قلبك، صدقك مع الله، يقينك بالله، تصديقك بحقائق الإيمان، إخلاصك في توبتك ورجعتك لله، هل أنت مخلص لله؟ ترجو النجاة من عذاب الله؟ ترجو الفوز بجنة الله؟ تراقب الله في كل حين؟ بعض الشباب تجده ثوبه قصير، ولحيته معفاة، لكنه تجده إذا رأى امرأة فتَّح عينيه هكذا، وتجده إذا دخل غرفته في الليل بدل أن ينام على ذكر الله، يبحث له عن أغنية ويجعلها مرخية جداً لكي لا يسمعها إخوانه، ولكن الله يسمعك، ويخدع الناس، ظاهره ظاهر إيماني، فهذا لا يستقيم أبداً ولا يستمر، بل يرجع إلى العذاب -والعياذ بالله- والدمار، ونحن نقول لإخواننا: أولاً: صححوا البدايات.
ثانياً: أخلصوا العمل لله.
ثالثاً: رويداً رويداً، والصبر، {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا} [فصلت:35] على أهلكم وعلى أسركم، فإذا جاء أحدكم إلى أسرته فلا يحمل أسرته على الطاعة بالقوة، ويأخذ نفسه بالكمال، لا مانع، لكن في بيته لا يغضب على أمه ولا على أبيه ولا على إخوانه ولا على أخواته، إنما بلطف وحكمة وطيب وخدمة وحب وتفاني، وليدعُهم إلى الله بحكمة، فإن أطاعوه واستجابوا فالحمد لله.
أما بالقوة والعناد والمضاربة، فإنه يحوِّل كل الأسرة ضده، وبالتالي يجد نفسه لوحده في الميدان، وإذا به يريد كل شيء، فيخسر كل شيء، ولا يحصل على شيء، ويقولون: من أرادها كلها ضيعها كلها.
لكن قليلاً فقليلاً.
رابعاًَ: عليكم بمثبتات الإيمان وهي كثيرة، وأذكر لكم أربعة فقط: 1 - المثبت الأول: كتاب الله: كتاب الله أعظم مثبت، يقول الله عز وجل: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} [الفرقان:32] فمن قرأ القرآن واستمر على قراءته، وداوم على تدبره، فهذا لا يضله الله بل دائماً يثبته الله.
2 - المثبت الثاني: فعل أوامر الله وترك نواهيه، والدليل: قوله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} [النساء:66].
3 - المثبت الثالث: قراءة سِيَر الأنبياء وتاريخ الرسل، فتقرءون سَيَرَهم في القرآن الكريم وفي التفاسير، فتقرءون قصة موسى، وقصة عيسى، وقصة نوح، وقصة أيوب، وقصة هود، وقصة يوسف، وقصة يعقوب، وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم تقرءونها، قال الله عز وجل في القرآن الكريم: {وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود:120] فعليكم أن تثبتوا موازين الإيمان عندكم بهذه الأمور الثلاثة مع الأمر الرابع.
4 - المثبت الرابع: الدعاء، ادع الله في كل لحظة، فقولوا: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8] اجعلوا هذا الدعاء في سجودكم، واجعلوه في قيامكم في الليل، واجعلوه في كل لحظة من لحظاتكم، كلما ذكرتم الله ادع الله به، {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا} [آل عمران:8] وادع بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك).(117/20)
نصيحة لمن يقترفون المعاصي ويتوبون ثم يرجعون إليها
السؤال
يقول: فضيلة الشيخ! أنا أحبك في الله، وأنا في طريق الاستقامة منذ مدة، ولكن هناك بعض المعاصي إذا ابتعدتُ عنها رجعتُ إليها، ثم أندم بعد ذلك وأستغفر الله سبحانه وتعالى، لكن ما ألبث على ذلك إلا بضع أيام وأعود إليها، فماذا تنصحني وأمثالي جزاك الله خيراً؟
الجواب
ننصحك أن تتوب إلى الله توبة صادقة نصوحاً التي خاطبك الله بها وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً} [التحريم:8] قال العلماء: التوبة النصوح: هي التي توفرت فيها شروط التوبة الثلاثة: أولاً: الإقلاع عن الذنب.
ثانياً: الندم على ما فات منه.
ثالثاً: العزم على عدم العودة إليه.
فمن تاب هذه التوبة تاب الله عليه.
أما التوبة الكاذبة التي يتوب منها الشخص وفي نيته أن يعود في الغد، فهذا لم يتُب توبة نصوحاً، فالتائب من الذنب والعائد إليه كالمستهزئ بالله عز وجل، ونخشى عليك يا أخي! أنك تتوب إلى الله من ذنب ثم ترجع إليه، فلا تتوب إلى الله منه، بل تُب، ولكن لا يُقفل الشيطان الباب عليك، بل كلما أراد أن يوقعك في ذنب فتُب إلى الله؛ لأن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها، فلا يا أخي! لا تقنط من رحمة الله، وأقبل وتُب.(117/21)
حكم العادة السرية
السؤال
أنا شاب مُبتَلىً بالعادة السرية، وبعضُهم يُجيز لي أن أفعلها باعتبار الضرورة، فما هو الحُكم؟ وبماذا تنصحُني؟
الجواب
الذي يُجيزها ليس له دليل، والفتوى صادرة من هيئة دار الإفتاء اللجنة الدائمة للإفتاء، بتوقيع سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، بأنها محرمة، وهي أخت الزنا -والعياذ بالله-، وأدلة تحريمها من كتاب الله ومن سنة رسول الله.
فأما من كتاب الله: فقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ} [المؤمنون:5 - 6] ماذا؟ {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون:6] زوجتك أو الأمة التي عندك، ملك يمينك، فقط، {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ} [المؤمنون:6 - 7] فمن ابتغى شيئاً غير هذين الأمرين، بيده أو بغير ذلك {فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:7].
وأما من سنة رسول الله: فقوله صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للطرف وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم) ما قال: فعليه بيده، (فإنه له وِجاء).
ووردت بعض الآثار في التحذير والنهي عن هذه المعصية المحرمة والعياذ بالله.
فتُب إلى الله، واعلم أن الذي يقودك إلى الوقوع فيها هو الشيطان، فإذا رأى منك صلابة في الموقف وقوة في العزيمة انصرف عنك، أما إذا رأى منك ضعفاًَ وخَوَراً وحباً لهذه الشهوة المحرمة، قادَكَ إليها فتهلك.
وقد قرر الطب الحديث أن الممارسة لهذه العادة السرية الخبيثة -واسمها العادة السرية تلطيفاً لاسمها، وإلا فإن اسمها: نكاح اليد- قرروا أنها سبب لإصابة الإنسان بأمراض خطيرة، منها: العُقم، الذي يُمارس العادة السرية إذا تزوج يكون عقيماً؛ لأن الحيوانات المنوية ذات الحياة والقوة تُستهلك وتُستنفذ عن طريق العادة السرية، فإذا تزوج لم يبقَ له شيء، قد صرَّف كل بضاعته في يده -والعياذ بالله- فلا تحمل زوجتُه، ثم قالوا: أنها تحدث له أمراضاً نفسية، وتجعله إنساناً هابط النفس، ليس لديه من شُغل إلا يده -والعياذ بالله- لم يخلقك الله يا أخي! لهذه المعاناة، لكن اصبر، وتمسك بطاعة الله، وابتعد عن المهيجات، لا تنظر إلى النساء، ولا تسمع الأغاني، ولا تقرأ القصص الجنسية، ولا تنظر إلى المسلسلات والأفلام الجنسية، ولا تجلس مع العُصاة الذين يذكرونك بالبنات والنساء، وإنما إذا قامت عندك الشهوة، واستطاع الشيطان أن يقنعك بشيء من هذا، فاغتسل، وصلِّ ركعتين أو أربع ركعات، أو اقرأ القرآن، أو اسجد لله، والله سوف يصرف عنك هذا الشر بإذن الله عزَّ وجلَّ.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(117/22)
قوة الروح، وقوة الجسد
إن قوة الروح والجسد لدى المؤمن تنفعه في الدنيا والآخرة، فأما في الدنيا فيعيش في سعادة وأمان واطمئنان حتى الموت، وأما في الآخرة فإنه يجد ما حباه الله من النعيم الأبدي، والخلود السرمدي ما لم يعطه لأحد غيره من ضعفاء الأرواح والأبدان، ولذلك على المؤمن أن يكون قوياً في عقيدته وروحه وإيمانه، فيسعد بذلك سعادة لا يشقى بعدها أبداً.(118/1)
أهمية القوة الإيمانية وفضلها على القوة المادية
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.
وبعد: أيها الإخوة في الله! القوة مطلوبة، والمؤمن مطالب بأن يكون قوياً؛ لأن الحياة لا تعترف إلا بالقوي، الضعيف يرفض ويداس بالأقدام؛ خصوصاً حينما تغيب شريعة الرحمن، وتسود شريعة الغاب، والله عز وجل يأمر بإعداد القوة فيقول: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60] ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن القوي خيرٌ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كلٍ خير).
والقوة المطلوبة قوة شاملة، قوة في الإيمان والأبدان والعلوم والاقتصاد، وكل مناحي الحياة: (المؤمن القوي خيرٌ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍ خير).
وحينما تذكر القوة لا يتبادر إلى أذهان الناس إلا القوة المادية؛ لأن العقول تلوثت وحصلت فيها تصورات غريبة على الإسلام، حينما يعتمد الناس على قوة المادة وينسون قوة الله، فإذا ذكرت لهم (القوى) فلا تنصرف الأذهان إلا إلى قوى المادة، وينسون قوة الإيمان والأرواح، رغم أن أهمية قوة الروح والإيمان أعظم بملايين المرات من قوة الأبدان والسلاح، لماذا؟ لأن الله عز وجل ينصر بالإيمان ولا ينصر بقوة السلاح، والتاريخ أمامنا، وبالاستقراء نعرف كيف حصل هذا؟ ففي غزوة بدر خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومجموعة من أصحابه ليس فيهم إلا اثنان من الخيالة فقط، وما خرجوا لقتال، إنما خرجوا لاقتطاع القافلة التي كانت تأتي بالتجارة لقريش من الشام إلى مكة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في حرب مع قريش، ومن حقه أن يقطع عليهم الطريق، فلما علم أن القافلة قادمة من الشام خرج لقطعها، ولما علم أبو سفيان -وكان أمير القافلة- نجا بها عن طريق الساحل، وعلمت مكة بخروج النبي لاقتطاع القافلة فخرجت عن بكرة أبيها؛ بقضها وقضيضها، وحدها وحديدها، ورجالها ونسائها يبلغون ألف مقاتل، ولما بلغهم أن القافلة قد نجت اختلفوا، فقال قائل منهم: نحن خرجنا لإنقاذ القافلة وما دام أن القافلة قد نجت فلم نقاتل؟! وقال الفريق الثاني: ما خرجنا للقافلة فقط، خرجنا لنستأصل شأفة الإسلام من أساسه، لنقضي على محمد، فإنه إن نجت القافلة اليوم لن تنجو غداً، ويقول أبو جهل: والله ما نرجع حتى نصل بدراً، ونشرب الخمر، ونضرب الطبول، وتعلم العرب أننا قد انتصرنا على محمد، وأيد هذا النداء في قلوبهم الشيطان، قال لهم: إني جار لكم، وقال لهم: لا غالب لكم اليوم من الناس، وقال: إني معكم، ولما حصلت المواجهة بين قوى الإيمان ممثلة بالصحابة وهم ثلاثمائة وبضعة عشر، بدون سلاح إلا سلاح الإيمان، وبين قوى الكفر الممثلة في قريش بجميع أسلحتها وعددها؛ كانت القوى غير متكافئة، فتدخلت قوة الله لتغليب جانب قوى الإيمان، وأرسل الله ملائكة، أمدهم الله بألف جندي من جنود السماء، وهذه أول معركة تشترك فيها الملائكة مواجهة بالإنس، وما كانت تعرف الملائكة كيف تقتل الناس؛ لأنها لا تعرف كيف تقاتلهم؟ فالله علم الملائكة فقال: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال:12] من أراد الله قتله ضربته الملائكة في رقبته، ومن أراد الله تعويقه دون قتلٍ ضربته الملائكة في أصابعه فتطيح الأسلحة من يده، تتقطع البنان وهي الأصابع: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال:12] وقتل الكفار، وانتصر الإسلام يوم الفرقان.
وتدور عجلة الزمن إلى أن يحصل الفتح ويدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة منتصراً، ثم يجهز الجيش على قبيلة ثقيف وهوازن، ويخرج اثنا عشر ألف مقاتل ثلاثمائة، ولكنهم اعتمدوا على قوتهم، وقال الله عز وجل: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة:25] وكانت ثقيف وهوازن قد استحكموا في رءوس الجبال، فأمطروهم بالنبال، وضربت النبال في وجوه الخيول ورءوس الجمال فانتكست ورجعت، ثم من أراد أن يقف لا يستطيع لأن الجيش كله يرجع إلى الخلف، فهرب كل الناس حتى قال قائلهم: والله ما يردهم إلا البحر، ولم يثبت في ذلك اليوم إلا الرسول صلى الله عليه وسلم ومائة صحابي فقط، كان ينادي عليه الصلاة والسلام: (يا أهل بيعة الرضوان! يا أهل سورة البقرة! أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب) قال الله عز وجل: {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا} [التوبة:26] اثنا عشر ألفاً ما نفعوا لكن مائة مع الله نفعوا، فأقوى قوة يجب أن نعدها هي قوة الإيمان؛ لأننا منصورون بدون شك، وإذا قلت الإمكانات نصرنا الله عز وجل بجنود السماوات والأرض: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الفتح:4] الريح جنود، الملائكة جنود، الأمطار جنود، التثبيت المعنوي جنود، كل هذه جنود إذا تدخلت في المعارك لا يستطيع أحد أن يغلبها؛ لأنها قوة الله، والله تعالى يقول: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ} [آل عمران:160] لا يغلبك أحد إذا نصرك الله: {وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران:160] وتركيز الناس فقط على قوى المادة مع إهمال قوى الدين والإيمان والروحانيات دليل على خلل في تصوراتهم وأفكارهم، ينبغي تصحيح هذا الخلل.(118/2)
تركيب الإنسان من روح وجسد، وما يحتاجه الجسد من ضروريات
حتى نجيب على هذا الأمر لا بد أن نسأل: ما هو الإنسان؟ وما تركيبه؟ وما أصل خلقته؟ الإنسان مخلوق من عنصرين ومركب من مادتين: قبضة من التراب، ونفخة من روح الله، وأما بقية الحيوانات فإنها مشكلة من عنصر واحد: قبضة من طين الأرض، أما الإنسان ففيه عنصر طيني وعنصر روحاني، يقول الله تعالى فيه: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [ص:71 - 72] هل جاء السجود لآدم بعد التسوية من الطين؟ لا.
بل بعد نفخ الروح؛ لأنه أكرم عنصريه.
{فَإِذَا سَوَّيْتُهُ} يعني: من الطين: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [ص:72] فجاء الأمر بالسجود بعد نفخ الروح دليلاً على أن أكرم عنصريك هي الروحانية التي فيك؛ لأنك تشارك بها الملائكة، وتشارك بالعنصر الطيني الحيوانات، فإذا تجردت من الروحانيات عشت حياة الحيوانات بل أضل؛ لأن الحيوان يعرف مصلحته، وهذا ما نص الله عليه في القرآن الكريم، يقول عز وجل: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179] سبحان الله!! بغير الدين ما أنت؟ حمار؟ لا.
ألعن من الحمار! ليت الواحد حماراً نركب على ظهره، لكن ماذا نعمل فيه إذا لم يكن عنده دين؟ لأن الحمار يعرف مصلحته، والثور يعرف مصلحته، لكن الذي ليس عنده دين لا يعرف مصلحته، له عقل لا يعقل به، وله عين لا ينظر بها، وله أذن لا يسمع بها، عطلها الله حيث يقول: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأحقاف:26] {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:78] فالإنسان إذا لم يكن معه إيمان ودين يسقط وينزل درجة أقل من درجة الحيوانية، يقول الله عز وجل: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44] قدم للحيوان شيئاً ضاراً يرفضه، ادفع الحيوان إلى حفرة فيها نار يصرخ، مع أنه يضرب به المثل في البلادة، فقد ضرب الله به مثلاً في القرآن الكريم، وشبه به اليهود الذين عندهم علم ما عملوا به، رفضوه واعتمدوا على نسبهم وقالوا: هم شعب الله المختار، قال الله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [الجمعة:5] وهم في حقيقتهم يقولون: هم شعب الله المختار، والناس هم الحمير، والله سماهم الحمير حقيقة! الحمار وهو أبلد الحيوانات إذا حفرت أمامه حفرة ثم أخذته بعنانه وسحبته إليها يرفض، وتحاول تجره فيثبت يديه، يقول: أين عقلك أنت؟! لكن أكثر الناس أضل من الحمار، يرى النار بعينه ويقتحمها، أجل هو أضل! فالإنسان مكرم لأكرم عنصريه وهو عنصر الروح، عنصر الإيمان، وكما أن للجسد ضرورات فإن للروح أيضاً ضرورات، لا يستطيع الجسد ولا تستطيع الروح أن تعيش إلا بضروراتها.(118/3)
الهواء من ضرورات حياة الجسد
الجسد لا يستطيع أن يعيش إلا بالهواء، أليس كذلك؟ هل يستطيع أحد أن يعيش بغير الأوكسجين؟ أهم شيء عند الناس في الدنيا كلها وأغلى شيء الهواء؛ لأن الإنسان لا يستغني عنه لحظة، ولذا جعل الله عز وجل الهواء مما لا سلطة لأحد فيه، ويكون معك في كل مكان، ففي المسجد هواء، وفي الخارج هواء، وعندما تركب السيارة يلحقك الهواء، أو تدخل بيتك تجد الهواء، وتدخل دورة المياه فتجد الهواء، وتركب في الطيارة يلحقك الهواء وتمشي في أي مكان والهواء معك، وبعد ذلك تشتريه، ما رأيك؟ لو أن الهواء بنقود لكان كل واحد فوق ظهره قربة وجالون وعيار، متى يغلق؟ لكنه مجاناً يا إخواني! أهم شيء وأغلى شيء موجود هو الهواء، وبالرغم من هذا يجعله الله بالمجان وفي كل مكان.(118/4)
الماء من ضرورات حياة الجسد
شيء آخر أقل أهمية من الهواء، لكن إذا لم يكن موجوداً مات الناس! الماء تحتاج إليه في أوقات وتستغني عنه في أوقات، فما جعل الله الماء ملازماً لك بحيث تمشي والماء يمطر عليك ليل نهار؛ ولو كان ذلك لغرقت وانتهيت، لكن جعل الله الماء في إمكانك الحصول عليه بأبسط التكاليف، تحفر الأرض فتخرج لك عين أو بئر، يجري الله الأنهار، وينزل الأمطار، فتحمل الأرض هذه المياه وتختزنها إلى مستوى قريب ثم تحفرها وتلقاها، لو أن الله عز وجل أخذ ماء المطر وتركها فوق الأرض لأسنت الأرض وتعفنت وانتشرت فيها الملاريا والحمى وكل الأمراض، ولو أن الله عز وجل فتح الأرض ونزل الماء إلى أسفل السافلين لم نجد قطرة، لكن لماذا الله عز وجل نزله إلى عدة أمتار وأبقاه؟ يقول الله عز وجل: {فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون:18] وقال: {وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} [الحجر:22] تأتي على البئر مملوءة بالماء لا تذهب، بينما الماء إذا وجد أي فرصة للنفاذ ينفذ، والأرض عبارة عن طين وحجر وفيها شقوق لكنها أقوى من الحديد، فلا تسمح بنفاذ قطرة واحدة، ولو فتح في الأرض في أسفل البئر شق صغير لذهب الماء كله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} [الملك:30] الله رب العالمين.
فلما كان الماء ذا أهمية -ولكن أهميته تقل عن أهمية الهواء- وجد الماء لكن بنوعٍ من الكلفة؛ تحفر لك بئراً أو تمشي إلى النهر وتأخذ لك ماءً، المهم أنه موجود، لكن لا تستطيع أن تصبر عن الماء طويلاً، وفي البلاد الحارة يقول الأطباء والعلماء: يمكن أن يعيش الشخص مدة ثلاثة أيام أو أربعة أيام أو أسبوع إلى أسبوعين إلى ثلاثة أسابيع بدون ماء، لكن بعدها تجف عروقه ويموت، وفي البلاد الباردة يمكن أن يعيش إلى شهرين بدون ماء؛ لأن الجو يرطب جسده ويعطيه قدرة على العيش بدون الماء.(118/5)
الغذاء من ضرورات حياة الجسد
شيء ثالث من الضروريات للجسد: الغذاء.
الطعام ضروري جداً للإنسان، ولا يعيش الإنسان إلا بالهواء والماء والغذاء، ولكنه ليس مهماً كالماء، فيستطيع الإنسان أن يصبر عن الطعام مدة طويلة، تعرفون بعض الناس يضربون عن الطعام أشهراً ولا يموتون، ولذا كان خروج الطعام للإنسان من الأرض بكلفة أشد، وبتعبٍ أكثر، لماذا؟ لأنه يستطيع أن يصبر عليه، هذه ضرورات الحياة: هواء وماءٌ وغذاء، هذه ضروريات لا يستطيع الإنسان أن يعيش بغيرها، وإذا فقد الجسد هذه الضروريات الثلاث مات.
وكما أن للجسد ضرورات لا يستطيع أن يعيش إلا بها كذلك للروح ضرورات لا يستطيع الإنسان أن يعيش إلا بها، وإذا قصر في هذه الضرورات ماتت روحه، والناس في غفلة من هذا الأمر، وهذه مهمة -أيها الإخوة- ويجب أن نركز على هذا الموضوع جداً، فإذا كنا نعرف أننا مخلوقون من هذين العنصرين وأن لكل عنصرٍ غذاءه المناسب له، فلما كانت الروح من السماء كان غذاؤها من السماء، ولما كانت الجسد مخلوقة من الأرض والطين كان غذاؤها من الأرض والطين، ويوم أن نقصر في أي مادة من مواد الروح أو مادة من مواد الجسد تموت.
أجل! نحن لا بد أن نعيش حياتين متكاملتين في تنفيذٍ لمتطلبات الجسد والروح، والذي يحصل الآن في البشر أنهم يغلبون جانب الجسد ويهملون جانب الروح فتموت أرواحهم، ويعيشون بغير دين، ويوم أن يعيشوا بغير دين يحصل هناك هزة عنيفة لكيان الإنسان، ويحكم الإنسان على نفسه بأنه ليس إنساناً بل حيوان؛ لأن فيه الجانب الحيواني ممثل بجسده، والجانب الروحاني ملغى من قلبه، فهو من أجل هذا الجانب يركز عليه ومن أجل ذاك الجانب يهمله، وبالتالي يعيش حياةً مشطورة.(118/6)
أهمية الإيمان وسر تكريم الإنسان
كلامي السابق ينتج عنه
السؤال
هل الإيمان والدين، والعفة والطهر والعفاف والنقاء، والأخلاق والقيم والمبادئ هل هي ضرورة للإنسان كضرورة الغذاء والشراب والهواء أم لا؟ هل يمكن أن يعيش الإنسان بغير هذه الأشياء؛ يأكل ويشرب ويتمتع ويعيش حياة سعيدة؟ الجواب هنا له شقان: فالذين نظروا إلى هذا الإنسان على أنه إنسان مكرم، وسر التكريم له أربعة جوانب: 1 - خلقه الله بيده.
2 - نفخ الله فيه من روحه.
3 - أسجد له ملائكته.
4 - علمه الأسماء كلها.
هذا سر التكريم؛ وليس لأحد غير آدم، كل المخلوقات يقول لها: كوني؛ فتكون، إلا آدم فإنه مخلوق بيد الرحمن، ومنفوخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وعلمه الأسماء كلها: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة:31] هذا تكريم لهذا الإنسان، وهذا معنى قول الله عز وجل: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء:70] وهذا معنى قول الله عز وجل في سورة الحج: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج:18] من أهانه الله حينما ترك دينه فمن يكرمه؟ أجل الكرامة هنا في الدين، سر التكريم فيك أيها الإنسان في الإيمان، أجل ولا يمكن أن تعيش حياة كريمة سعيدة إلا بالإيمان، وإذا عشت بغير إيمان فإنها تعيش حياة هينة هابطة لا قيمة لها.
والذين نظروا على أن الإنسان حيوان قالوا: لا قيمة للدين ولا داعي له، لماذا؟ قالوا: نظرنا إلى الحيوانات وهي تعيش بلا دين، فلماذا نحن نحمل ديناً ونحن مثلها؟ حسناً من قال لكم: إن الإنسان حيوان؟ هذه هي فلسفة العصر الآن وعمدته قائمة على حيوانية الإنسان، من أين جاءت هذه؟ الذي لا يقرأ التاريخ ولا يعرف كيف تسلسلت الأحداث في العالم، ولا يراقب عجلة الزمن لا يدري، يظن الأمور جاءت صدفاً، والأمور وراءها مخططون، وراءها عقول تلعب بالبشر كالدمى.(118/7)
النظريات الإلحادية التي أضلت البشرية في العصر الحديث
في إبان الثورة الفرنسية سنة ألف وسبعمائة وتسعة وثمانين للميلاد كانت أوروبا تعيش في سبات وضلال وجهل لا يعلمه إلا الله، وكانت الكنيسة والإقطاع والإمبراطورية الموجودة تمارس ضغطاً وتعذيباً وقتلاً للعلماء وتحريقاً لهم، ومصادرة للفكر والحريات بدرجة لم تعهد البشرية لها مثيلاً، وكانت الشعوب تضيق بهذا القهر والتسلط عليها، فحصلت الثورات الفرنسية، وبعدها الثورة الصناعية في بريطانيا، وتمرد الناس على سلطان الكنيسة، ورفضوا الدين المحرف الذي لعبت به أصابع البشر، والذي ليس من عند الله، الدين الموجود في أوروبا وهو الكنيسة والديانة النصرانية ديانة محرفة وليس دين الله؛ لأن الدين عند الله هو الإسلام، وألغى الله جميع الأديان والشرائع والملل، ورضي الإسلام للبشر ديناً، فالدين المحرف لا تقبله العقول، فلما رفضته أوروبا حصل التمرد على الدين، واستغل المخططون من اليهود هذا الحدث فوجهوه وفق أغراضهم، وفصلوه على غاياتهم وأهوائهم، كيف؟(118/8)
داروين ونظريته في مراحل تطور الإنسان
هناك طبيب اسمه دارون صاحب نظرية ليست حقيقة علمية قال فيها: إن الإنسان تطور ومر بمراحل من الرقي والتطور إلى أن أصبح إنساناً، كيف؟ قال: كان أصله في قديم الزمان خلية، ثم تطور من خلية إلى نبات، ثم تطور من نبات إلى نبات يشبه الحيوان، ثم تطور من نبات يشبه الحيوان إلى حيوان يحس، ثم تطور إلى حيوانات فقارية يعني: ليس لها أرجل ولا أيدٍ، بل تمشي على الأرض مثل السلاحف والحيتان في البحر، ثم تطور إلى القرد، ثم تطور من القرد إلى الإنسان، هذه نظرية دارون! من أين علمت يا دارون أن أصلك قرد من بعيد؟ هو قرد مع أن الله خلق القرود، قال: هذه نظرية التطور، قلنا: حسناً! والتطور هذا الذي حدث، فلماذا الإنسان بقي إنساناً؛ ولم لا يتطور؟ لم لم تستمر المسألة في تطور؟! قال: سوف يتطور، قلنا: وماذا يصير؟ قال: يصير فأراً -قاتله الله- حسناً، متى يا دارون؟ قال: بعد خمسة آلاف مليون سنة.
كبَّر الكذبة! من الآن إلى ذاك الوقت يقول: قد نساها الناس، خمسة آلاف مليون سنة، أين ألف سنة؟ وأين مائة ألف؟ وأين مليون؟ وأين ألف مليون؟ خمسة آلاف مليون كذبة ليس لها طرف! لما قال بهذه النظرية كان يريد شيئاً في نفسه مع أنه يعرف أنه كذاب؛ لأنه ما شهد خلقه، يقول الله تعالى: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً} [الكهف:51] ليس موجوداً يوم خلق الله آدم حتى يقول: إن الإنسان كان خلية، هو جاء في سلسلة البشر القريب، والبشر كائن وموجود منذ زمن طويل فما علم أصلاً، لكنه يضرب على وتر، يريد أن يلغي قضية: إن الله خلق آدم بيده، وأن آدم كرمه الله وعلمه الأسماء، وأنه منفوخ فيه من روح الله، يريد أن يجعل آدم مثل القرد، وما دام القرد أبانا (فمن يشابه أبه فما ظلم) فما دام أن أباك قرد فأنت قرد يا ابن القرد، هو يقوله! فهو يريد غرضاً من هذا الباب.
وفرح اليهود بهذه النظرية؛ لأنها تحقق مبدأً قامت عليه ديانتهم وهو العرقية، اليهود ديانة لا تكتسب ولكنها تورث؛ أي شخص يريد أن يدخل في اليهودية يقولون: ما أصلك؟ إن كان جده يهودياً يدخل، أما إذا لم يكن له نسب في اليهودية فلا يدخل؛ لأنهم يقولون: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:18] ويقولون: إنهم شعب الله المختار، ويقولون: إن بقية الأمم هذه ليست إلا حميراً خلقها الله لخدمة اليهود، وقال الله عنهم: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} [آل عمران:75] الأميون: يعني: جميع الأمم غير اليهود، فهم ينظرون إلى الأمم على أنها درجة أقل من درجة اليهود، ولذا لا بد أن نستحمرهم، كيف نستحمرهم وبأي وسيلة؟ سمعتم قبل أيام بالمذبحة التي حصلت في المسجد الأقصى، والتي هزت كيان ضمير العالم كله مسلمه وكافره؛ لأنها لم تمارس بشكلٍ مثل هذا أبداً، يعني: أي واحد يعترض -مثلاً- في الدول يحتج ويعترض ويتظاهر تعالج هذه الاحتجاجات والمظاهرات بوسائل لفضِّها فقط؛ إما بأن يرشوا عليهم ماءً، أو عيارات نارية تطلق فوق رءوسهم، أو دخان مسيل للدموع، أو اعتقالات وقبض، أما أن يسلطوا الرصاص على العزل الذين ليس عندهم حتى عصي، ويقتلوهم كما يقتلون الغنم فهذا ليس موجوداً، حتى في الغنم الآن، فلو أن عندك غنماً في بيتك وهربت عليك واحدة فأنت لا تأخذ البندق وترشها بالرصاص؛ كيف ترشها بالرصاص فتقتلها، تقول: اقتلوها من أجل أن تمسكها؟! لكن هم ينظرون إلى الناس على أنهم أحقر من الغنم، فجاءوا ليمارسوا شيئاً في داخل الحرم، فاعترض المسلمون قالوا: لا تعملوا هذا الشيء، فماذا كان الجواب؟ إطلاق الرصاص، قتلوا واحداً وعشرين شخصاً، وجرحوا ثلاثمائة شخص في ساعة واحدة، لماذا؟ لأنهم ينظرون إلى البشر على أنهم أحقر من الحمير.
ولهذا فرح اليهود بنظرية دارون وأخذوها وبدءوا يغيرونها من كل جانب من أجل أن توافق أهواءهم ورغباتهم.(118/9)
فرويد ونظريته في الجنس
وظهر لنا خبيث اسمه: فرويد، هذا - فرويد - عالم يهودي وطبيب نفساني يهودي، هذا أنجس طبيب على وجه الأرض، نظريته قائمة على تفسير هو: ما دام أن الإنسان حيوان فإن لحركة الحيوان هذه مقاصد وأهدافاً، ما هي؟ قال: إن كل تحركٍ يتحرك به الإنسان فهو بدافع الغريزة الجنسية، حتى الطفل الصغير يرضع أمه وهو يتلذذ جنسياً، وإذا بكى وهو على ظهرها ورفع رجليه فهي حركة جنسية، وإذا مص إصبعه فهي حركة جنسية، وإذا بلغ سنة من عمره فإنه يرى أباه ويكرهه ويريد أن يمارس الحركة الجنسية مع أمه، فإذا كبر وصار عمره سنتين سرى حقد عنده على أبيه؛ لأنه يراه يأتي أمه، فيحقد على أبيه؛ لكنه يفاجأ بأن أباه كبير ويستطيع أن يضربه؛ فتحصل عنده عقدة الكبت الجنسي، يقول: ثم إذا كبر وأراد أن يمارس الجنس مع أمه فينظر أباه يصرف عليه، ويعطيه، ويذهب به إلى المدرسة؛ فيحصل عنده الضمير يقول: يؤنبه ضميره؛ كيف يصرف عليك أبوك وأنت تريد أن تعمل الجنس مع أمك؟ هذه نظرية الخبيث فرويد.
من قال لك هذا يا فرويد؟! من أين أتيت بهذه النظرية؟!! ألا لعن الله هذا الملحد! قال: أجريت تجربة على قطيعٍ من الثيران في مزرعة من المزارع فوجدت عجلاً من العجول خرج من بقرة من الأبقار وكبر، ويوم أن صار ثوراً جاء وطعن أباه وركب على أمه، يقول: فالإنسان مثله.
ومن قال لك: أيها البعيد! أننا ثيران أو بقر؟! شاهدوا كيف حيوانية الناس تأتي لهذا الجانب! ولذا ماذا قال؟ قال: لا يوجد دين يحكم الغرائز، ولا قيم، ولا مبادئ، والذي يحكم الغرائز الجنس فقط، وهذه أقذر نظرية! وتلقتها أوروبا بالقبول ونفذت، ولما نفذت تحللت الروابط، وزالت القيم، وأبيحت المحرمات، وحصلت الإباحية الجنسية، ففي دول أوروبا الآن الإباحية الجنسية على أتمها، لا يوجد شيء ممنوع، ولذا أحل الله بهم الدمار في الدنيا قبل الآخرة، وسلط الله عليهم جندياً مجهولاً صغيراً لا يرى بالعين المجردة وهو جندي الإيدز، سمعتم بالإيدز؟ هذا (فيروس) وليس حتى جرثومة، (فيروس) لا يرى إلا بالمكبرات، هذا جندي صغير سلطه الله عليهم، أين كان هذا الإيدز؟ والإنسان موجود من قبل، لماذا لم يظهر إلا في هذا الزمان؟! جندي أرسله الله ليدمر البشر الآن، حتى قال وزير الصحة السويدي ورئيس منظمة الصليب الأحمر في السويد: إن علينا أن نعيد النظر في ممارساتنا الجنسية بحيث يبقى لكل رجل سويدي امرأة واحدة سويدية.
وهذا يعني: الإسلام، يقول: لا يصلح أن يمارس الجنس مع كل امرأة؛ هذا سبب لنا هذا المرض وهذه المشكلة، عاشت أوروبا في بعدٍ عن الله عز وجل وفي حيوانية وبهيمية ساقطة بسبب نظرية فرويد التي بناها على نظرية دارون.(118/10)
دور كهايم ونظريته: حتمية القطيع الجمعي
جاء شخص آخر اسمه: دوركهايم وقال: إن الحتمية القطيعية هي التي تحكم الناس، لا دين ولا مبادئ ولا أخلاق ولا قيم ولا تقاليد.
فما الذي يحكم الناس؟ قال: الذي يتعارف عليه الناس.
لماذا؟ قال: إني أنظر إلى قطيع الغنم وهي تأتي من المرعى؛ يكون دائماً في أول الغنم ماعز أو خروف، يقول: إذا مشى شمالاً فكلها تمشي وراءه دون أن تسأله: لماذا مشيت شمالاً؟ كل رءوسها ماشية وراءه فقط، وإذا مشى يميناً كلها تمشي وراءه.
يقول: ونظرت إلى سرب الطير في السماء، وفي أول السرب طائر طار شمالاً وكلها تطير وراءه، يطير يميناً وكلها تطير وراءه دون أن تسأل.
لماذا؟ قال: هذا نظام القطيع، إن القطيع يتبع قائده، يقول: والبشر هم قطعان حيوانية بشرية، فأي شخص يدعوهم إلى شيء مشوا وراءه جميل أو قبيح، المهم أنهم وراءه فقط.
هذه نظرية دوركهايم، يسميها حتمية القطيع الجمعي، يعني: ما اجتمع عليه الناس وساروا فيه هو الذي يقع، بدون أي دين، ولا يكون رسالة من الله ولا يكون تقليداً.(118/11)
ماركس ونظريته المادية
وجاء الثالث اليهودي الخبيث وهو ماركس الذي نادى بنظريته البلشفية الشيوعية، والتي أفلست والحمد لله، وبدأت أوروبا الشرقية التي كانت فيها، وروسيا ترفضها وتتمرد عليها وتنقضها؛ لأنها أثبتت الفشل لها من خلال التطبيق والواقع.
نادى ماركس بحتمية المادة، يقول: إن الذي يحكم الناس: المصلحة المادية، يعني: الريال فقط، ولهذا يقول: لا إله والحياة مادة؛ الحياة ريال، لكن من الذي خلق الإنسان ماركس أو فرويد أو دوركهايم أو دارون؟! الذي خلق الإنسان هو خالق الإنسان، وهو الذي أنزل عليه هذا الدين وهذا الإيمان كلباس مفصل عليه؛ يوم أن يلبسه يعيش في سعادة، ويوم أن يرفضه يعيش في شقاء.
غير أن البشرية أجيبت وفق هذه النظريات الخبيثة على أن الإنسان حيوان، وما دام أنه حيوان فلماذا يكون له دين؟ ولماذا يتميز عن الحيوانات بدين؟ نظروا إلى البقر وإذا ليس لها دين، وإلى الكلاب وإذا بها ليس لها دين، وإلى الخنازير وإذا بها ليس لها دين، وإلى جميع الحيوانات في حدائق الحيوانات ما لها دين، قالوا: وأنت واحد منها فلماذا تخترع لك ديناً؟ لماذا تشذ أنت عن الحيوانات وأنت واحد من الحيوانات؟ فعاش البشر بلا دينٍ كحياة الحيوانات التي قال الله تعالى عنها في القرآن الكريم: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} [محمد:12] هذا كلام الله عز وجل.
ولما قدمت هذه النظريات للبشر فهموها على أنها دين وأنها هي المبدأ السائد في الحياة، فعاشوا حياة الحيوان والعياذ بالله! ويوم أن يكون الإنسان حيواناً فلا مكان للعقيدة، ولا للقيم، ولا للمبادئ؛ لأن هذه الأشياء لا مكان لها في عالم الحيوانات، وما الإنسان إلا واحد من قطيع الحيوانات، ويوم أن يكون الإنسان حيواناً فلا معنى للخطأ والصواب في حياة الناس، وخطأ كل شيء صواب عند الناس، ففي أوروبا الآن كل شيء صحيح، حتى إن مجلس العموم البريطاني أباح أن ينكح الرجل الرجل، تعلمون هذا أو لا؟ نعم.
اقترح على هذا في مجلس العموم، وبالأغلبية وافق مجلس العموم على أنه يجوز للرجل أن يتزوج الرجل من عند القاضي، وأصبح الشخص الآن يأتي له بشخص ويقول: اعقد لي عليه، ويخرج ومعه صك ويأخذه في يده، لماذا؟ لأنه لا يوجد خطأ ولا صواب، لا توجد شريعة تحكم، فما الذي يحكم؟ لأن الناس رضوا هذا الشيء؛ نظام قطيع مجلس العموم قال: هذا أمر طيب، فقالوا: حسناً! ما الذي يحكم الخطأ والصواب في عالم البشر وفي سلوك الناس؟ المشرع، وهو الله الذي يعلم مصلحة البشر ويعرف مضرة البشر، فيحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، وينهاهم عن الشرور ويأمرهم بالخيرات، لماذا؟ {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] يعلم مصلحتك، ينهاك الله عن النظر الحرام: أنت عينك تريد أن تنظر إلى الحرام لكن الله ينهاك عن النظر للحرام لعلم الله بالضرر المتحقق من نظرك إلى الحرام، ولهذا يقول الله عز وجل: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور:30] نعم.
أزكى؛ لأنك تشاهد، والذي يعيش بغير نظر والله إنه يعيش في أحسن راحة قلبية، لا ينظر شيئاً، وإذا شاهد شيئاً غض بصره ومشى، لكن يذهب إلى بيته ينظر زوجته أمامه، لكن ذاك الذي لا يغض بصره فإن قلبه يتقطع على كل ما يرى؛ لأنه يرى شيئاً لا يستطيع عليه ولا يصبر عنه، يقول:
وأنت إذا أطلقت طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر
فشيء لا تستطيع أن تصبر عنه لماذا تنظر إليه؟ لكن رب العالمين يقول لك: لا تنظر! فتذهب إلى بيتك مرتاحاً، لكن يوم أن تنظر وترى تذهب وقلبك يتقطع.
وكثير من الناس الآن يعيش في عذاب بسبب النظر، ولو أنه أطاع الله وغض بصره فإنه بهذا يحقق لنفسه راحة نفسية وإيماناً يجد حلاوته، يقول عليه الصلاة والسلام: (من غض بصره احتساباً لوجه الله أبدله الله إيماناً يجد حلاوته إلى يوم يلقاه) لأنك لا يمكن أن تغض بصرك إلا خوفاً من الله تعالى، لا يوجد أحد يستطيع أن يتحكم في نظرك ويعرف أين تنظر إلا ربك، وبإمكانك أن تنظر إلى امرأة وإذا قال لك شخص: لماذا تنظر؟ تقول: عيني في العمارة التي خلفها يا شيخ! لكن ربي يعرف أين تنظر عيناك، يقول الله تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19].
فالذين أجابوا على أن هذا الإنسان حيوان قالوا: لا دين ولا مكان للأخلاق، ولا مكان للخطأ والصواب، وهكذا كانت هذه النظرية اللعينة نظرية دارون: قنبلة في عقائد البشر! نسفت ما معهم من الدين والقيم والمبادئ، وحولت الإنسان من إنسانيته المكرمة إلى الحيوانية الهابطة، فعاش الناس حياة الحيوان التي لا يحسدون عليها في هذا الزمان، صحيح أنهم طوروا المادة، وفجروا الذرة، وسبحوا في الفضاء، وغاصوا في الماء لكن في الجانب المادي، أما جانب القيم والأخلاق والمبادئ فإنهم في الحضيض، لدرجة أن أحد العلماء يقول: زرت بعض البلدان الغربية فوجدت فيها كل شيء إلا الإنسان ما رأيته.
ما رأيت الإنسان بإنسانيته، بمفاهيمه! بمبادئه! بقيمه! بأخلاقياته! رأيت مسخاً يمشي على قدمين في يده كلب، ما أدري الكلب أوفى أو هو أوفى من كلبه؛ لأنهم يعيشون حياةً بهيمية لا قيمة فيها للحياة الإيمانية، ونحن لا نحسدهم عليها.(118/12)
السعادة الحقيقية الكريمة هي في الإيمان بالله
إذا عرفنا هذا -أيها الإخوة- استطعنا أن نجيب على السؤال الأول: هل الإيمان ضروري للإنسان حتى يعيش حياة سعيدة، أم أنه يمكن أن يعيش بغير إيمان؟
و
الجواب
إنه لا يمكن للإنسان أن يعيش حياة الإنسانية المكرمة، حياة السعادة والرقي والأمن إلا في ظل الإيمان بالله، ويوم أن يتجرد من الإيمان يعيش حياة البهيمية والعذاب والشقاء، يقول الله عز وجل في هذا: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124] ولو كنت مهما كنت، والله لو امتطيت أحدث الموديلات، وملكت ملايين الريالات، وتزوجت بأجمل الزوجات، وسكنت بأرفع العمارات، وكنت في أعلى المناصب والرتب لكن لا يوجد دين! {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:124] هذا في الدنيا، وإذا مات قال: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً} [طه:124 - 125] يحشره الله يوم القيامة أعمى البصر وأعمى البصيرة، في الدنيا كان أعمى البصيرة دون البصر، فلم ينظر ببصيرته في دين الله، فحشره الله أعمى البصر والبصيرة، وأمره أن يسير على الصراط: {وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:125 - 126] الجزاء من جنس العمل، من نسي الله نسيه الله هناك، ومن تعامى عن الدين هنا أعمى الله بصيرته هناك: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه:127].
ويقول الله عز وجل في أهل الإيمان الذين قذف الله في قلوبهم الإيمان: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] لم يقل: ألا بالمال تطمئن القلوب! صحيح في المال تنتفخ جيوبك.
ولم يقل: بذكر الله تطمئن البطون، بالطعام تطمئن البطون وتنتفخ، لكن لا تطمئن القلوب إلا بذكر الله فقط، بالزواج تطمئن الفروج، بالمناصب تطمئن الدنيا ويرتفع القدر في الدنيا، لكن بماذا القلب يطمئن قلبك؟ تدخله برتقالة خاصة؟ أو تنومه في غرفة نوم وحده؟ أو تركبه في سيارة؟ لا يوجد طعام له إلا ذكر الله ودين الله والإيمان بالله: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] وإذا ما اطمأن قلبك فكيف تكون حياتك؟ هب أنك تمتعت بكل متاع الدنيا لكن قلبك ليس مطمئناً، هل هذا متاع؟ هب أنه فاتك كل شيء في الدنيا وقلبك ساكن ومطمئن، فهذا هو المتاع، العالم الآن في ظل المادة وفي البعد عن الدين، حصل ضغط قوي من الحياة المادية على النفس البشرية حتى فجرتها من الداخل، وتمزقت وتوزعت وتخلص الناس من الحياة بالانتحار، الآن آلاف البشر في أوروبا يموتون انتحاراً، والذي ما انتحر ينتحر بالمخدرات، لماذا الناس يتعاطون المخدرات هناك؟ هروباً من الواقع المرير الذي يعيشون فيه، إذا كنت في مكان طيب فلماذا تهرب منه؟ لا يهرب الشخص من مكان إلا وهو سيئ، وهم يهربون من حياتهم البعيدة عن الإيمان إلى حياة يغيبون فيها عقولهم بالخمور والمخدرات والألعاب والسيرك والسحر والتمثيليات والمسلسلات والأفلام، لماذا؟ يريد أن يغيب وقته بسرعة، يريد أن تمر عليه الأزمنة والأوقات حتى يخلص ما فيه من العذاب الداخلي، لأنه ما وجد الإيمان، لكن المؤمن اطمأن قلبه بذكر الله: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97] ويوم أن يسكن قلبك إلى ذكر الله، وتطمئن نفسك إلى دين الله يحصل لك الأمن والأمان والراحة والاطمئنان، ويحصل لك أيضاً الفرح بما أمامك من المستقبل الذي ينتظرك، فإن نتائج الإيمان والدين تحصل للإنسان في الدنيا وفي الآخرة، من الناس من يتصور أن آثار الدين فقط في الآخرة، أنا ألتزم من أجل الجنة، وينسى أن آثار الدين تأتي في الدنيا قبل الآخرة، في الدنيا الأمن والطمأنينة والراحة وهدوء البال، وفي الآخرة الجنة.(118/13)
حقيقة الدنيا عند أهل السعادة
عقوبة المعاصي والكفر تأتي في الدنيا قبل الآخرة، يقول أحد السلف: [والله لو يعلم أهل الجاه والسلطان ما نحن فيه من السعادة لجالدونا عليها بالسيوف].
والآخر يقول: مساكين أهل هذه الدنيا جاءوا إليها وخرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها، قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: التلذذ بطاعة الله عز وجل، فهذه في الدنيا، وليست الدنيا بالنسبة للآخرة إلا كقطرة من بحر.
ورد في الحديث الصحيح قوله عليه الصلاة والسلام: (ما الدنيا في الآخرة إلا كما يدخل أحدكم إصبعه في اليم ثم ينزعها فلينظر بم ترجع) البحر بجوارك هنا، إذا أتيت على طرف الخليج وأدخلت إصبعك في البحر ثم نزعتها كم تخرج إصبعك من ماء؟ قطرة قطرتين ثلاثاً هذه الدنيا، والآخرة أين هي؟ الذي وراءها من الماء، كم وراءها، الخليج فقط؟ انظر! الخليج خط فقط، انظر في البحر العربي الذي تحت، وانظر في البحر الأحمر والأبيض والمحيط الهادي والأطلسي، والمحيط الهندي، والمحيط المتجمد الشمالي، والمحيط المتجمد الجنوبي ثلاثة أخماس الأرض كلها ماء، هذه نسبة الدنيا قطرات إلى تلك؛ فتلك الآخرة، أفتضيع سعادة الآخرة من أجل شهوة عاجلة مثل هذه القطرات الضعيفة؟ ولذا يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة، يقول الله تعالى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} [مريم:39] لأن القلوب تتقطع ألماً وحسرات على ما فاتها من رضا الله: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم:39 - 40] يوم يموت الإنسان يصبح سمعه دقيقاً، وبصره حديداً، يقول الله عز وجل: {أسمعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} [مريم:38] صيغة تعجب هنا، فلان أسمع به، يعني: ما أسمعه! أبصر به، يعني: ما أبصره! فيوم القيامة يقول الله تعالى: {أسمعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} [مريم:38] ما أسمعهم لنداءات يوم القيامة! ما أبصرهم لأحداث يوم القيامة! يقولون: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة:12] لكن لا ينفع، يقول الله تعالى: {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22] يرى المسألة عياناً فيطلب الرجعة ولكن لا يجاب عليها.(118/14)
آثار قوة الروح في حصول السعادة
يا أخي! يا عبد الله! آثار الإيمان وآثار قوة الروح واليقين بالله تكسبك السعادة والعزة في الدنيا، وتكسبك عند الموت في أول مرحلة من مراحل الآخرة أن الله عز وجل يثبتك ويطمئنك وأنت جالس في بيت أهلك، ورد في الحديث: (إن المؤمن ليرى منزله من الجنة ومن النار وهو في بيت أهله) وفي الحديث الآخر يقول عليه الصلاة والسلام: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، قالت عائشة: يا رسول الله! كلنا نكره الموت، قال: لا.
إن المؤمن إذا كان في بيته رأى منزله من الجنة -في بيت أهله- فيحب لقاء الله فيحب الله لقاءه، وإن الفاجر إذا كان عند الموت يرى منزله من النار -وهو بعد في البيت على فراشه، قد يرى كرسيه محجوزاً في جهنم- فيكره لقاء الله فيكره الله لقاءه) لكنه ذاهب إليه عند ساعات الحرج، ساعات الانتقال من الدنيا إلى الآخرة فتنكشف الحجب وتزول الحواجز ويرى الإنسان بعينه وبصره وبصيرته الآخرة، ويقول: {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:99 - 100] فتقول الملائكة: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100].
وفي تلك اللحظات تكون قوة الجسد قد انتهت، لا تنفعك ولا تسقيك ماء، لكن قوة الإيمان في تلك اللحظات تتعرف عليك، ويأتيك إيمانك فيثبتك الله كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:30] قالوا: ربنا الله بالإيمان، ثم استقاموا بالعمل {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا} [فصلت:30] أي: لا تخافوا مما أمامكم، ولا تحزنوا على ما ورائكم {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} [فصلت:31] هذا عند الموت.
ويأتي نداء الرب إلى النفس الطيبة التي طابت بذكر الله وبدين الله فتقول لها الملائكة: (يا أيتها الروح الطيبة كانت في الجسد الطيب، اخرجي إلى روح وريحان، ورب غير غضبان) اللهم إنا نسألك من فضلك يا مولانا، ما أعظم هذا النداء -يا أخي- يوم يقال لك هذا الكلام، وطبعاً الطيب هذا اكتسبه من هنا؛ لأن الطيب طيب في كل تصرفاتك، إذا طاب قلب المؤمن طابت كل حياته، تطيب عينه فلا تنظر في حراماً، وتطيب أذنه فلا تسمع حرام، وتطيب يده فلا يمدها إلى حرام، ويطيب لسانه فلا يتكلم في حرام، ويطيب فرجه فلا يقع به في حرام، وتطيب رجله فلا تحمله إلى حرام، ويطيب قلبه فلا يفكر فيه بحرام، ويطيب كل شيء في حياته، يطيب سلوكه، يطيب وجهه، تطيب ثيابه، تطيب سيارته، تطيب زوجته، يطيب أولاده، يطيب بيته، يطيب عمله، يطيب شارعه، كله طيب لأنه صبغ نفسه بالإيمان، ومن يوم أن تشاهده ترى الدين معه، هذا هو الطيب، فيقول الله تعالى: (يا أيتها النفس الطيبة! كانت في الجسد الطيب اخرجي إلى روحٍ وريحان، وإلى ربٍ غير غضبان، ويقول الله للملائكة قولي: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي} [الفجر:27 - 28]) المطمئنة التي اطمأنت وسكنت وثبتت على دين الله، ارجعي كأنها كانت في رحلة عمل، والآن ترجع من أجل أن تستلم المصاريف السفرية، والانتدابات من رب البرية: {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر:28] راضية مرضي عنها من قبل خالقها وبارئها: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:29 - 30] هذا عند الموت فقط، هذه المقدمات.
وبعد ذلك في القبر حينما يوضع الناس في قبورهم -ونحن منهم ولا نعلم متى يكون، يمكن الليلة أو غد أو بعد سنة أو بعد سنتين لا نعلم- هناك يحصل نقاش وسؤال وامتحان أول، فهذا هو الدور الأول من امتحانات الآخرة، وأسئلته ثلاثة: من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ لكن هي سهلة الآن وصعبة هناك؛ لأن الأجوبة ليست بالتغشيش ولا باللسان: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ} لا يتكلم اللسان لكن الجوارح والقلوب والأعمال: {وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65] هناك يقال للمؤمن: من ربك؟ فيقول: ربي الله، وما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، ومن نبيك؟ فيقول: نبيي محمد صلى الله عليه وسلم، ثبته الله؛ لأنه ثابت من هنا، قال الله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [إبراهيم:27] اثبت هنا تثبت هناك، زغ هنا تزغ هناك، أمسك الحبل من أوله، أمسك الطريق من أولها، احجز من هنا، لكن تبقى ضالاً وشارداً عن الله ثم تموت وتقول: رب ارجعون، فلا يرجعك ربي، هذا لعب لا يصلح، فيثبت الله الذين آمنوا في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
أما العمي الحيوانيون الذين عاشوا حياة البهائم فإنهم هناك لا يعرفون الله؛ يقال له: من ربك؟ يقول: هاه هاه لا أدري، ما دينك؟ هاه هاه لا أدري -مثل الذي يستيقظ من النوم- ومن نبيك؟ قال: هاه لا أدري، فيقال له: لا دريت ولا تليت، ثم يجازى ويأتيه عمله إن كان مؤمناً على أحسن هيئة وشكل، فيقول له: أبشر بالذي يسرك، فيقول له: من أنت فوجهك الذي يأتي بالخير؟ قال: أنا عملك الصالح حفظتني فحفظك الله، والعمل الصالح إذا حفظته يحفظك، إنك ترى كيف يكون سلوك الطيبين، كل عمله له وزن؛ صلاة وصيام وحج وبر، وأمر ونهي وطاعة وإحسان وصدقات، وذكر وقرآن وعلم ودعوة، كل هذا عمل صالح، لكن الفاسد ما معه من عمل؟ عمله كله دنيا وفساد، كله -والعياذ بالله- خبث في خبث، فكيف يجد عند الله عز وجل عملاً صالحاً وهو لم يعمله هنا.
حفظتني حفظك الله، فينام كما ينام العريس إلى أن يأذن الله لقيام الناس من قبورهم، فيحشروا إلى الجنة، وتمر به مراحل وأطوار يوم القيامة كأسهل ما تكون، يمر على الصراط كالبرق الخاطف، ويشرب من حوض النبي صلى الله عليه وسلم شربة لا يظمأ بعدها أبداً، والحوض قد أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم قال: (هو أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، وكيزانه -يعني: آنيته- عدد نجوم السماء، من شرب منه شربة واحدة لم يظمأ بعدها أبداً).
وبعد ذلك تأخذ كتابك بيمينك؛ لأنك من أهل اليمين، وتمشي في اليمين، وتمسك خط أهل اليمين، ولا تعرف الغلط، ولا تعكس الطريق، ولا تعرف الشمال، إنما تمشي مع أولياء الرحمن، وبعد ذلك توزن مع أعمالك وإذا بك لك ميزان، ويثقل ميزانك، لك وزن عند الله، أما أولئك فلا وزن لهم، قال الله تعالى: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} [الكهف:105] وبعدما تتجاوز هذه الامتحانات يقال لك في النهاية: ادخل الجنة، تفضل: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:70 - 72] نسأل الله من فضله.(118/15)
الضعف الروحي وعواقبه الوخيمة في الآخرة
أما أولئك الذين غفلوا عن الله وعاشوا حياتهم -والعياذ بالله- في البعد عن الله؛ فهؤلاء عند الموت تنكشف لهم الحجب، وتزول عنهم الأغطية، ويرون الحقائق كما هي على حقيقتها، فيندمون وتتقطع قلوبهم حسرات وندامات، ويقولون: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر:37] قال الله تعالى لهم: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر:37] وبعد ذلك تقول الملائكة: (يا أيتها الروح الخبيثة! كانت في الجسد الخبيث، اخرجي إلى سخط من الله وغضب) وأنتم ترون هذا في الإنسان البعيد عن الله وأن الخبث يلازمه في كل شيء، حتى لسانه خبيث، عينه تقع في الخبيث، أذنه تسمع الخبيث، يقع في الخبيث، يمشي في الخبث، وإذا فرض أنه جاء مرة في مجتمع نظيف فإنه يضيق ويزهق؛ لأنه جرثومة، والجراثيم لا تعيش في الأماكن الطاهرة والمعقمة، لا تعيش إلا في الأماكن الموبوءة والقذرة، المجتمع الطاهر النظيف يعيش فيه المؤمن كأسعد ما يكون، أما إذا جاء فيه منافق فإنه يضيق منه، يقول: ما هذا! لماذا لا يوجد زنا، ولا خمور، ولا فجور، ولا تمرد، ما هذا! كيف تعيشون على هذا الأمر؟ هذا (أبو جعران) لا يريد أن يعيش في الطهارة يريد من قذارته وجيفته -والعياذ بالله- ومستنقعه! يريد قذاراته ليتلطخ بها، فهذا خبيث، وهذا يوم يموت تقول له الملائكة: (يا أيتها الروح الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، اخرجي إلى سخط الله وغضبه، فتخرج روحه) وبعد ذلك يحصل لها سؤال في القبر: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فلا يجيب، ويأتيه عمله على أسوأ شكل -والعياذ بالله- فما عمله؟ يتجمع الخبث كله، الربا والزنا، والغناء والفجور، والمال والزور كلها تأتي معاً، ويأتيه على أسوأ شكل ويقول له: (أبشر بالذي يسوءك، قال: من أنت فوجهك الذي يأتي بالشر؟ قال: أنا عملك السيئ، ضيعتني فضيعك الله) ثم يعذب في القبر فترة البرزخ إلى أن يقوم يوم القيامة، ويقوم من قبره مذهولاً خائفاً وجلاً تغشاه الذلة والمهانة، يرد على مراحل القيامة فيسقط عند كل مرحلة، يمر على الصراط فيسقط، ويرد الحوض فيطرد، ويوزن فيخف، ويأخذ كتابه بشماله، ثم بعد ذلك يسحب في النار على وجهه، يقول الله عز وجل: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:48 - 49].(118/16)
غذاء الروح بالطاعات، ومرضه بالسيئات
هذه -أيها الإخوة- آثار قوة الروح وتلك آثار قوة الجسد، ونحن مأمورون بالأخذ بالقوتين مع التغليب والتركيز على جانب قوة الروح، فإن قوة الجسد تنفعنا في الدنيا، أما قوة الروح فتنفعنا في الدنيا، وتنفعنا في الموت، وتنفعنا في القبر، وتنفعنا في الحشر، وتنفعنا إلى أن ندخل الجنة، فلنركز -أيها الإخوة- على هذا الجانب.
قد يقول قائل: قوة الجسد معروفة، أني آكل طعاماً نظيفاً، أريح الجسد في رياضة وحركة، نقول: حسناً، لكن قوة الروح كما تأكل لجسدك طعاماً نظيفاً يجب أن تقدم لروحك طعاماً نظيفاً مثلما تحمي جسدك، إذ لو وجدت برتقالاً فيه فساد ما أكلت، أو تفاحة فيها عفن فلن تأكلها، أو لحمة فيها سوس أو دود لا تأكلها، أو لبن انتهى وقت استعماله لا تشربه، وكذلك الروح إذا أكلتها الربا هدمتها، وإذا قدمت لها المعاصي دمرتها، روحك هذه تحتاج إلى حماية من الخبائث، وتحتاج إلى تقوية، مثلما تقوي جسمك بالحركة والسير والرياضة تقوي روحك أيضاً بالطاعة: بقراءة القرآن وهو أهم ما نوصي به عباد الله، أهم ما نوصي به الناس تلاوة كتاب الله، فإن كل ضلال وفساد سببه البعد والغفلة عن الله تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} [الأنبياء:1 - 3].
فتقرأ القرآن وتجعل لك ورداً يومياً منه، وتقرأ السنة وتحافظ على الصلوات الخمس في بيوت الله، تقيم الصلاة، تؤتي الزكاة، تصوم رمضان، تحج البيت، تعتمر، تحب في الله وتبغض في الله، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، تطيع والديك وتبرهم، تصل رحمك، تحسن إلى جيرانك، هذا مع حفظك للجوانب الأخرى وهي المعاصي، يعني: حماية وبناء، فإذا حميت دينك وبنيته كنت بذلك قوي الجسد والروح، وبعد ذلك تعيش حياة الكرامة والعزة، ويوم تموت تلقى الله عز وجل وأنت قوياً صحيحاً سليماً: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89].
انظروا كيف ذكر الله عز وجل أنه الذي ينفع في الآخرة ليس الجسد، الذي ينفع هو القلب {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89] الذي يموت وقلبه سليم يدخل الجنة؛ لأنها دار السالمين، والذي يموت وقلبه مريض لا بد من تصفيته وتطهيره بالنار، في المستشفى الذي علاجه النار: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ * وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ * فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ * وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ * قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ * تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ * فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ * فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:88 - 104].
أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يرزقنا إيماناً يقينياً وعملاً صالحاً، وأن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، وأن يحمينا من المعاصي والذنوب والشرور والآثام، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(118/17)
الأسئلة(118/18)
قوة الإيمان تكون بكثرة العمل الصالح
السؤال يقول: كيف يصبح الإنسان قوي الإيمان؟
الجواب
الإيمان في معتقد أهل السنة والجماعة هو: قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالجوارح والأركان، يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان.
فإذا أردت أن يزيد إيمانك فزد في الطاعات: زد في قيام الليل، زد في صيامك، وفي قراءة القرآن، وفي أذكار الصباح والمساء وأذكار الأحوال والمناسبات، وفي جهدك وجهادك لخدمة دينك ودعوتك، وفي العمل الصالح، فإن العلماء يقولون: إن الإيمان مشبه بالشجرة، كلما ازدادت العناية بها كلما زادت الثمرة، وأن المعاصي تحرق شجرة الإيمان كما تحرق النار شجر الدنيا، إذا كان عندك شجرة تعطيها السماد والماء فإنها تخضر وتثمر، وإذا أعطيتها الجاز والبنزين احترقت، وكذلك أنت إذا أردت أن يزيد إيمانك فتزود من العمل الصالح وتب إلى الله من الذنوب والمعاصي.(118/19)
نصيحة في أهمية الخشوع في الصلاة
السؤال
كيف أصبح خاشعاً في صلاتي؟
الجواب
الخشوع في الصلاة مهم جداً وعليه المعول في القبول، فإنه لا يكتب للعبد من صلاته إلا ما حضر فيها قلبه، صليت أربع ركعات حضر قلبك في اثنتين سجلت اثنتان واثنتان ما لك منها شيء، ولهذا جاء في الحديث الصحيح: (يكتب للعبد في صلاته عشرها، تسعها، ثمنها، سبعها) بعضهم لا يكتب له شيء من صلاته، فأنت حاول واجتهد أن تخشع في صلاتك، واعرف أنك وقفت في معركة مع الشيطان، وأن المعركة هذه مدتها عشر دقائق، والشيطان يجاهدك عشر دقائق ثم يتركك بعدها إلى الفجر، لكن قل: يا شيطان! لن تلعب علي، هي عشر دقائق أضبط نفسي ثم وسوس من بعد العشاء إلى الفجر، لكن الوسواس لا يأتي إلا في الصلاة، إذا أردت أن تتعشى الآن ووضعت السفرة أمامك هل يأتيك وسواس؟ لا تفكر في غير اللحم والأرز والعشاء أبداً، لكن قم صلِّ يأتيك الوسواس، لماذا؟ لأن الشيطان عدو يريد أن يسرقك ويسرق قلبك، وأن يتركك تقوم وتقعد وترفع وتسجد ومالك منها شيء، فلهذا ورد في بعض الآثار أن الشيطان يحرص على أن لا تصلي، فإن أبيت إلا أن تصلي وقف على رأسك عند الباب وقال لك عندما تدخل المسجد: والله لأخرجنك منها مثلما دخلت، يقول: أنت مشاغب، ليس مثل الذين قعدوا في المقاهي، وجلسوا عند نسائهم على الأفلام، ويتابعون الأحداث والمباريات، أنت عنيد لكن سأريك عملك، فإذا دخلت من هناك حلف أنه سيضيعك من صلاتك، فيدخل معك في صلاتك يذكرك العشاء والزوجة، ويذكرك المشاكل والعمارات، ويذكرك التجارات وكل شيء، أي شيء تبغاه يذكرك به في الصلاة، ثم إذا غيرت نفسك وإذا بك ما صليت ولا ذكرت شيئاً.
فعليك يا أخي أن تجند نفسك لمحاربة هذا العدو، وعلى المجاهدة له، ولذا شرعت التكبيرات، أول شيء لما تبدأ في الصلاة تقول: الله أكبر، هذه مدفع ضد الشيطان، وبعد ذلك سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك، ثم تدعو بعد ذلك وتقول: أعوذ بالله السميع العليم، وبوجهه الكريم، من الشيطان الرجيم، من همزه ونفخه ونفثه، بسم الله الرحمن الرحيم، هذه استعاذة، ثم تقرأ الفاتحة ثم تقرأ سورة ثم تقول: الله أكبر، هذه مدفع ثانٍ، سمع الله لمن حمده، الله أكبر هذه مقرعة فوق رأسه، لكن بعض الناس يضرب بالمدفع لكن لا يصيب، شخص يصلي بجواري مرة من المرات وهو قائم يقول: التحيات لله والصلوات الطيبات، لم يعلم أهو قائم أم قاعد؛ نظراً لعدم خشوع قلبه في الصلاة أيها الإخوة! فلا بد من أن تعرف أنك في حربٍ مع الشيطان فلا توسوس في الصلاة.
حسناً، كيف؟ لا أستطيع أن أجيب على هذا، لكن هناك شريط لا أعلم هل وصلكم في الشرقية أم لا، اسمه: رسالة إلى المصلي، هذا موجود في التسجيلات، وهو عبارة عن مجموعة كلام لأخت لنا في الله، وللشيخ ابن القيم رحمه الله، وللإمام الآجري في كتابه: الخشوع في الصلاة، ومجموعة من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، جمعت هذا كله وألقيته في أبها في درس بعنوان: رسالة إلى المصلي، وذكرت فيه أن الذي يريد أن يخشع في صلاته لا بد له من أمور؛ أمور قبل الصلاة، وأمور أثناء الصلاة وأمور بعد الصلاة، قبل الصلاة أشياء لا بد أن تأتي بها، إذا لم تأت بها ما خشعت، وأثناء الصلاة أشياء، وبعد الصلاة أشياء، إذا راعيتها فإن الله عز وجل سيعينك بإذن الله على أن تخشع، وبعد ذلك سينال منك الشيطان، رغم كل الجهاد فسيأخذ منك، لكن فرق بين من يأخذ منه الشيطان شيء، وبين من يأخذ منه الشيطان كل شيء، فمن البشر الآن الذين صلوا معنا المغرب لو عملنا امتحاناً الآن: ماذا قرأ الإمام في الركعة الأولى والركعة الثانية؟ لا أحد يجيب! اجعلوها بينكم وبين الله؛ لأنه يمكن أنا لا أعرف، وبعد ذلك أفشل، فاجعلوها بيننا وبين الله، الذي يعرف ما قرأ الإمام هذا صلى، والذي لم يعرف ما رأيكم لو سألنا العمود هذا الذي فيه الساعة، وقلنا: يا عمود! يا مسلح! ماذا قرأ الإمام؟ هل سيجيب؟ لا يعلم، وإذا أتينا بشخص من المصلين مثل العمود لكن عمود متحرك يمشي على رجلين وقلنا له: ماذا قرأ الإمام؟ قال: لا أعلم؟ فما الفرق بين العمودين؟ هذا العمود أحسن؛ لأنه أربعة وعشرين ساعة يصلي وذاك عشر دقائق وما حفظها، فنقول لإخواننا: الله الله في صلاتكم، اخشع في صلاتك وأحضر قلبك فإذا انتهت الصلاة فالحمد لله، تنتهي من الصلاة الساعة السابعة، ونبدأ الفجر الساعة الرابعة، من سبع إلى أربع تسع ساعات، أبعد ما في رأسك من وساوس كلها، ثم تعال إلى صلاة الفجر عشر دقائق، ثم اجلس من الفجر إلى الظهر، بين كل صلاة وصلاة خمس ست ساعات تسع ساعات ثلاث ساعات وبالرغم من هذا يسرق الشيطان صلاتنا، إذا سرق الشيطان صلاتك فقد سرق عليك أثمن ما تملك؛ لأن الصلاة كما يقول العلماء ثلاثة أقسام: 1 - هيكل عام.
2 - روح.
3 - وأثر.
الهيكل العام المنصوص عليه في كتب الفقه: أركان الصلاة، واجبات الصلاة، شروط الصلاة، سنن الصلاة، مستحبات الصلاة، هذه اسمها الهيكل العام.
والروح ما هو؟ الخشوع؛ إذا أتينا بهيكل لإنسان لكن ليس فيه روح هل له قيمة؟ لا.
والأثر هو أثر الصلاة في سلوكك، أثر الصلاة في حياتك هل تنهاك صلاتك عن الفحشاء؟ هل هناك إنابة وتلازم بين عبادتك ومعاملاتك، أم أنك كالذي يصلي وإذا كان في الدكان نظر إلى الحرام في الشارع إذا خرج، إذا وقف عند الباب وشاهد امرأة فتح عينيه، وكان قبل قليل يقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] وإذا ركب سيارته شغل الاسطوانة والشريط على الأغاني، أين إياك نعبد وإياك نستعين؟! ولعله يرابي، فلابد أن يكون لهذه الصلاة أثر في تحديد سلوكك واتجاهك؛ لأن الله تعالى يقول: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45].(118/20)
نصيحة للشباب في خضم الأحداث والفتن
السؤال
ما هي نصيحتكم للشباب المتمسك بدينه القابض عليه في خضم هذه الأحداث والفتن التي تجري؟
الجواب
وصيتي لنفسي أولاً وإلى الشباب وإلى كل مسلم الاعتصام بكتاب الله عز وجل؛ لأنه: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران:101] والله تعالى يقول في الحديث القدسي: (وعزتي وجلالي ما اعتصم عبدٌ من عبادي بي فكادته السماوات والأرض إلا جعلت له منها مخرجاً، وعزتي وجلالي ما اعتصم عبدٌ من عبادي بمخلوق دوني إلا قطعت عنه أسباب السماء، وأسخطت الأرض من تحت قدميه، ثم لا أبالي في أي وادٍ هلك) فالعصمة بالله، وبكتابه، وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمؤمن مؤمن والله لو عاش في وسط أي بيئة وفي أي مكان فإن إيمانه يحميه، والفاجر فاجر حتى في عهد النبوة فقد كان يوجد منافقون وكفار.
فنقول لإخواننا: تمسكوا بطاعة الله وأقبلوا عليها، وتمسكوا بكتاب الله وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنكم بهذا تنجون؛ لأنها سفينة النجاة، من ركبها فقد نجا، ومن تخلى عنها فقد هلك.(118/21)
أسباب الثبات على دين الله
السؤال
هذا سائل يريد بعض النصائح للثبات على الدين والتمسك بأوامر الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
من أهم الأشياء التي تثبت على دين الله تبارك وتعالى: 1 - تلاوة القرآن الكريم؛ لأن الله تعالى يقول: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} [الفرقان:32] وما عرفنا أن أحداً اعتصم بالقرآن وتلا القرآن وتدبره فضل، من يضل؟ الذي يهجر القرآن تلاوة، أو يهجره عملاً، أو تدبراً، أو احتكاماً، أو استشفاء؛ يضله الله؛ لأنه جاء في حديث الترمذي حديث الأعور عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنها ستكون فتنة، قلت: فما المخرج منها يا رسول الله؟! قال: كتاب الله، فيه خبر ما بينكم، وخبر ما قبلكم وما بعدكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم) الزم القرآن الكريم، قال تعالى: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ} [الزخرف:43 - 44] فاقرأ القرآن باستمرار، واجعل المصحف في جيبك، وفي السيارة، وفي المكتب، وعند سرير نومك، وكلما وجدت فرصة من الفرص فاقرأ القرآن وتدبر، قراءة تدبر يقول الله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82] ويقول جل ذكره: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29].
2 - فعل الأمر وترك النهي: وفي هذا يقول الله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} [النساء:66] أشد هنا: أفعل للتفضيل، أفضل ما تثبت به نفسك أن تفعل ما وعظك الله به: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ} [النساء:66] نوعظ بفعل أوامر الله وترك نواهيه، وأنت تعرف أمر الله ونهيه، لا أحد يغرك إلى اليوم، تعرف أن النظر إلى النساء حرام، فلماذا تنظر وتقول: الإيمان في القلب، تحيلنا على صدرك وعينك مريضة؛ وتعرف أن الدخان حرام وأنه خبيث فلماذا تشربه وتقول: الدخان ليس فيه شيء والإيمان في القلب؟ وتعرف أن الربا حرام فلماذا تستمر فيه؟ وتعرف أن سماع الغناء حرام، فلماذا تستمر فيه؟ وتعرف أن الصلاة في البيت وتركها في المسجد من النفاق فلماذا تنام عن الصلاة؟! كل هذه أمور نعرفها، فإذا قمت بأوامر الله ولم تترك نواهيه فقد كذبت نفسك.
3 - قراءة قصص الأنبياء: فالأنبياء ذكر الله قصصهم في القرآن للعبرة والعظة، قال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف:3] وقال عز وجل: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ} [يوسف:111] وقال جل ذكره: {وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود:120] فكلما قرأت قصة نبي ثبتتك على الإيمان، إذا كنت شاباً وجميلاً ووسيماً وما عندك زوجة والمنكرات من حولك، وسبل الفساد تفتح لك ثم دعيت إلى جريمة، فاذكر يوسف لما دعته المرأة ذات المنصب والجمال فقال: {مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف:23] فتقول: لا والله لا أعمل، إذا رأيت الدنيا تكالبت عليك من كل جانب وضاقت الأرض من كل مكان فتقول كما قال موسى: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62] وإذا ضاقت بك الدنيا فتقول كما قال عليه الصلاة والسلام: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] هكذا تثبتك هذه القصص، فليست مجرد كلام، القرآن ما نزل من أجل أن نتسلى به، بل هو قصص ودروس عملية تربوية، ننتفع بها في حياتنا، وكل قصة ذكرت في القرآن فلها أهداف عظيمة، فاقرأ قصص القرآن، وبعد ذلك اعتبر منه وارجع منه بفوائد ونتائج ودروس في حياتك تمتثلها، وهذا سبب تثبيتك، قال الله تعالى: {وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ} [هود:120].
3 - الدعاء: فتدعو الله في كل وقتٍ وفي كل حين تقول: يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك، وقد ذكر الله عز وجل أن هذا من صفات عباد الرحمن، فهم يقولون: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8] اللهم اهدنا فيمن هديت وثبتنا يا رب العالمين.(118/22)
الطريق الأمثل إلى التوبة النصوح
السؤال
هذا الشاب يسأل فيقول: أريد أن أتوب إلى الله توبة نصوحاً، ولكني أجد صعوبة في الالتزام دائماً، فأرشدني إلى طريق الخير والصلاح، جزاكم الله خيراً؟
الجواب
طبيعي أن تجد صعوبة يا أخي، طريق الجنة فيها وعورة: (حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات) وكل مكرمة لا تنالها إلا بتعب.
الدنيا الآن المكارم فيها والرقي والرتب والمناصب تأتي بتعب، فالضابط لا يحصل على النجمة هذه حتى يذبحونه، وينتفون ريشه في الكلية، لكن يصبر ويمشي إلى أن يصير ملازماً، فأنت -يا أخي- اصبر على الطاعة، واصبر عن المعاصي، يقول: أريد أن أتوب إلى الله لكني أجد صعوبة، يريد أن يغني وهو تائب، يريد أن يظل نائماً وهو تائب، طبعاً (صعوبة ونصف) أتريد الجنة مجاناً والله تعالى يقول: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214]؟ لماذا أمر الله بالصبر في القرآن الكريم وقال: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35] وقال عز ثناؤه: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3] الصبر عن النوم وعن الأرز واللحم مع الرقص واللعب، الصبر على المر، الصبر على أن تزهق روحك في سبيل الله، أن تتعب جسدك في طاعة الله، أن تقمع جماح شهواتك من أجل الله، تغض بصرك وعينك تتقطع وقلبك يتألم، تريد أن ترى لكن تقول: والله ما أنظر من أجل الله، تبتعد عن الأغنية وأذنك تريد أن تظل على الأغنية لكن تقول: والله ما أسمعها من أجل الله، هكذا الصبر، فيعوضك الله يوم القيامة بأن تنظر بعينك إليه، وأن تسمع بأذنك خطابه، وأن يزوجك بدل الزوجة الثانية باثنتين وسبعين حورية، الواحدة منهن خيرٌ من الدنيا وما عليها، تجدها مرآتك وكبدك مرآتها، إذا أردت أن تشاهد وجهك ولا توجد مرآة في الجنة فانظر في كبدها تشاهد وجهك في كبدها، عليها سبعين حلة ترى مخ ساقها من وراء الحلل، نصيفها على رأسها خير من الدنيا وما عليها، لو أنها في المشرق شممت رائحتها في المغرب أنت، إذا أشرفت على الأرض آمن من على وجه الأرض بالله الواحد القيوم، إذا طلعت على أهل الجنة برق برق في الجنة، فيقول الناس: ما هذا البرق؟ قالوا: لا.
هذه حورية تبسمت في وجه زوجها! تريد أن تأتي وأنت نائم؟! لا تأتي يا أخي! ويقول الناظم:
تهون علينا في المعالي نفوسنا ومن يخطب الحسناء لم يغلها المهر
ويقول الثاني:
الجود يفقر والإقدام قتال
الذي يريد أن يكون شجاعاً لابد أن يموت، والذي يريد أن يصير كريماً لابد أن يخسر، والذي يريدها سلامات وعلى طرف لا هذه ولا تلك، فأنت أقدم.
وكن في كل فاحشة جباناً وكن في الخير مقداماً نجيباً
وتب توبة الصادقين، أما توبة الضعفاء والمنهزمين والمهزوزين فلا: أريد أن أتوب ولكن ما زلت أفكر، بعضهم يقول: أفكر في أن أتوب، ماذا يتوب؟ الخيارات دائماً في الأشياء المتقاربة، أما أن تخير نفسك في الجنة أو في النار!! لو دخلت في عمارة وقيل لك: هذه الشقة فيها أرز ولحم وبسطة وغرفة نوم وزوجة، وهذه الشقة فيها سكاكين وفيها نار وجمر، ما رأيك هذه أو هذا، ماذا تقول؟ تقول: والله أفكر؟! هذه جنة يا أخي! وتلك نار، كيف تقول: والله أريد أن أتوب لكني أريد أن أفكر، أقول: تب واصمد واثبت والله معك، ودائماً الذي يلتجئ إلى الله يقول الله عز وجل: (يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم).
اللهم اهدنا فيمن هديت.(118/23)
نصيحة لمن يدرس النظريات الفاسدة
السؤال
ذكرت بعض النظريات أثناء الكلام وهناك بعض المراكز العلمية تدرس هذه النظريات، فما نصيحتكم في ذلك؟
الجواب
وهذه مصيبتنا -أيها الإخوة- حينما تحدث في تصورات أبنائنا وبناتنا مثل التي الأفكار تزعزع عقائدهم من الداخل وتنسفها، والمصيبة أن هذه النظريات الآن تدرس في معظم الجامعات في العالم كله، ولذا نوصي أن لا تدرس عندنا أصلاً، وإذا درست فمن منظور الإسلام ندرسها لإبطالها؛ لأننا مسلمون، نحن أبناء آدم وآدم مكرم، لسنا أبناء القردة والخنازير.(118/24)
كلمة توجيهية للنساء
السؤال
نأمل منك أن توجه كلمة للنساء لعل الله تبارك وتعالى أن ينفع بها؟
الجواب
الحمد لله، كما أن هناك صحوة في صفوف الشباب فإن هناك صحوة في صفوف النساء والحمد لله، والمرأة لها مركز في الدين، المرأة شقيقة الرجل، يقول عليه الصلاة والسلام: (النساء شقائق الرجال) والله تعالى يقول: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة:228] ما الدرجة هذه؟ ليست أفضلية، بعضهم يستعمل هذه في غير مكانها، بل درجة مسئولية، أما الأفضلية فقد تكون المرأة أفضل منك عند الله، آسية بنت مزاحم مؤمنة وزوجها فرعون اللعين كافر، فمن الأفضل؟ آسية، أثنى الله عليها في القرآن، قال الله عز وجل: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ} [التحريم:11] يقول العلماء: إنها طلبت الجار قبل الدار: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ} [التحريم:11] ما قالت: ابن لي بيتاً في الجنة، بل قالت: عندك يا رب! أريد الجار قبل الدار: {وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11].
وزوجها الذي يقول: إنه الرب الأعلى وهي امرأة كانت من أهل الجنة، وهو كافر فهو من أهل النار.
فالقضية ليست قضية أفضلية، فرب امرأة أفضل عند الله من ملء الأرض من الرجال، ولكنها درجة مسئولية، يعني: أن الله أعطاه المسئولية عن الأسرة، مثل المدرسة عندما تأتي مدرسة البنات -مثلاً- فيهن مديرة ومدرسة وفيهن عشر مدرسات؛ هل معنى هذا أن المديرة أفضل من المدرسات كلهن؟ لا.
يمكن بعض المدرسات أفضل من المديرة: أفضل مؤهلاً، وذكاءً، وأفضل خبرة وتصرفاً، لكن خرج حظها قالوا: مديرة، نقول لها: تعالي انزلي، أنت مسئولة، هي التي توقع الدوام وتختم الدوام، والتي توقع الخطابات ومسئولة عن المدرسة، وإذا تدخل أحد تقول له: أنا مسئولة عن الأمر، وكذلك المسئول عن شركة الأسرة وعن البيت هو الرجل، فهو المدير العام للأسرة، والمرأة هي النائب، لكن يوم أن تضيع الأدوار في الأسرة وتحاول المرأة أن تأخذ دور الرجل تخرب الحياة، وتنعكس.
فوصيتنا المرأة ونحن نأمل خيراً والحمد لله أن تدرك مسئوليتها، وأن تعرف أنها درة مصونة، وأن الله أكرمها بنتاً، وأكرمها زوجة، وأكرمها أماً، وأكرمها أختاً، وأن الجاهليين أهانوها، حتى مرت في بعض الفترات في أوروبا في القرن السابع وكان الناس يتساءلون: هل المرأة إنسانة أو شيطانة؟ وهل فيها روح إنساني أو روح شيطاني؟ وإذا كان فيها روح إنساني هل هو على مرتبة الإنسان أو مرتبة أقل؟ هذه التساؤلات كانت تعيش فيها أوروبا، واليوم لما قالوا: نحررها، حرروها فدمروها، ما حرروها حقيقة بل دمروها، أخرجوها من العش الذي كانت تعيش فيه إلى أن تصبح لعبة ومنشفة يمسحون بها قذاراتهم وأوساخهم.
أما الإسلام، فانظر قول الله تعال: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَىوَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً * وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:33 - 34] ويقول في النساء: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الأحزاب:59] ويقول: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:31] إلى آخر الآيات؛ لأنها غالية عند الله، المرأة رخيصة عند الجاهليين.
فنطلب من أخواتنا أن يكن على هذا المستوى من الفهم، وأن تحصل عندهن العزة بالله: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون:8] يقول الله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} [فاطر:10].(118/25)