أمور لابد أن تتوفر في الصابر الصادق
لا يكون الصابر صابراً إلا إذا توفرت فيه أمور، فليس كل صبر ينال عليه صاحبه ثواباً بل، لا بد من أشياء توجد في هذا الصابر ومعه:(94/9)
الإخلاص
لابد أن يكون الصبر لله، لأن الصبر أمر مشترك عند كل الناس، حتى الكافر يصبر مضطراً، فيصبر على الدراسة، والحيوانات تصبر فالشاة تذبحها وهي صابرة.
ومثال ذلك الرجل الذي ضيف رجالاً وهو لا يريد أن يضيفهم، فأخذ تيساً من غنمه وذبحه فصاحت الذبيحة فيقول للتيس: اصبر والله إنك مغصوب وأنا مغصوب -يقول: ليس بإرادتي أن أذبحك ولكن ماذا نصنع فكلانا مغصوب-.
فالصبر أمر مشترك بين الإنسان والحيوان، وبين الكافر والمسلم، كل الناس لا بد أن يصبروا، لكن من هو الذي له الأجر؟ إن الذي له الأجر هو الذي يصبر لله قال الله عز وجل: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر:7] ليس لشهواتك، ولا لمرادك، وهواك، وإنما لخالقك ومولاك، وقال عز وجل: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ} [الرعد:22] الذين يصبرون ابتغاء وجه الله، ويريدون بهذا الصبر ما عند الله عز وجل: {وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً} [الرعد:22].
لقد مدحهم الله وأثنى عليهم؛ لأنهم صبروا ابتغاء وجهه، وأنت عندما تصبر على ألم الدراسة لكنك لا تصلي؟ صحيح أنك صبرت حتى نلت الشهادة، ولكنك مقطوع الصلة بالله، هل صبرك هذا من أجل الله أم من أجل الشهادة؟ إنه من أجل الشهادة، فعندما حصلت على الشهادة هل تنال عليها أجراً؟ لا.
لكن لو أنك استصحبت النية الصالحة وكنت عبداً لله طيباً، ودرست هذه الدراسة من أجل طلب العلم، ومن أجل احتلال منصب ووظيفة، لأجل نصرة الحق، أو من أجل المشاركة في بناء وطنك، لكانت دراستك هذه وصبرك عليها صبراً لله.
فالمزارع الذي يزرع ويريد بهذه الزراعة جلب أقوات المسلمين، ويحتسب عند الله ما يأكله الطائر، وما يشرب من البهيم، وما يأخذه الغريب، وما يتصدق به على المسكين، فهذا يصير صبره على الزراعة صبراً لله، لكن من يصبر على الزراعة، ويضع عليها بيوتاً محميةً من كل اتجاه، ولا يدع عليها طائراً يأخذ منها حبة واحدة، ويكمم العنب بالصناديق، ويجعل عليها عمالاً لكي لا يمر أحد من عندها، ثم لماذا هذا كله؟ قال: أريد أن أبيعها.
وإذا جاء وقت جني الثمرة لا يحمل معه للبيت شيئاً، ولا يهدي لجاره ولا لصديقه حبة، وإنما في الصندوق هذا صَبَرَ، ولكن لماذا صبر؟ من أجل الأموال، وقد حصل على المال ولكن صبره هذا ليس لله عز وجل.
فالصبر لله يجب أن يكون خالصاً، ومصحوباً بالنية السليمة من أجل نيل ما عند الله من الثواب، ولهذا قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ} [الرعد:22].(94/10)
الشكوى لله فقط
- ثانياً: ألا يكون مع هذا الألم والصبر شكوى لغير الله، وهذا معنى الصبر الجميل، يقول يعقوب عليه السلام عندما أخبروه أن ولده ليس موجوداً وقد أكله الذئب: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف:18] قيل: الصبر الجميل: هو الذي لا شكوى فيه ولا جزع، لا يجزع من قضاء الله، ولا يشكو إلى أحدٍ غير الله تبارك وتعالى، والذي يشكو الناس أو يشكو الله إلى الناس، هذا لم يعرف الله عز وجل، يقول:
وإذا عرتك مصيبة فاصبر لها صبر الكريم فإنه بك أعلم
وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم
أي: تشكو الرحيم تبارك وتعالى إلى الذي لا يرحم، لا تشكو إلى أحد وإنما اشك إلى الله، ولهذا كان يقول: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف:86] تشكو بثك وحزنك وما تجده من لوعةٍ في قلبك إلى الله عز وجل، ولا تشك إلى أحد غيره، فإنك إن شكوت إلى الناس فالناس لا ينفكون عن رجلين: رجلٌ يحبك، ورجلٌ يبغضك، فإن شكوت إلى الذي يحبك آلمته؛ لأنه يعاني معك، وإن شكوت إلى الذي يبغضك سررته وفرح، ولو هز رأسه لك، وقال: أنا آسف والله المستعان.
ولكن في السر يقول: يستحق، لماذا؟ لأنه يكرهك ويتمنى أي شيء يقع عليك، فلا تشتك إلى أحد، ولا تُحزن الذي يحبك، أليس الذي يحبك تحب ألا يحزن؟ إذاً لا تحزنه بشكواك إليه، ثم ماذا تتصور أن يعمل من أجلك هذا الذي شكوت إليه؟ شكوت إليه المرض فهل عنده عافية؟! شكوت إليه الفقر هل عنده أموال يعطيك؟! شكوت الهم هل عنده فرج؟! ليس عنده شيء، إنما تشكو إلى من؟ إلى الله الذي لا إله إلا هو.
كان الواحد من السلف إذا أتاه شخص وهو مريض وفي أشد المرض يقول له: كيف حالك؟ قال: الحمد لله.
قال له: من ماذا تشتكي؟ قال: أشتكي من ذنوبي -لا يشتكي من ربه بل يشتكي من ذنبه- لأنه يعرف أن المرض لم يأته إلا بذنب.
قال: ماذا تريد؟ قال: أريد رحمة ربي.
قال: هل جاءك الطبيب أو نأتي به؟ قال: قد جاءني.
قال: وماذا قال لك؟ قال: يقول: أنا الفعال لما أريد.
هذه حياتهم رضي الله عنهم وأرضاهم، فأنت حاول باستمرار ألا تشكو إلا إلى الله، فإن شكواك إلى الله عبودية، وشكوى ربك إلى الناس والعياذ بالله عدم معرفة بالله، وبجلاله عز وجل.(94/11)
الصبر عند الصدمة الأولى
أيضاً أن يكون الصبر في مكانه، وفي وقته وأوانه، فمتى يعرف الصابر؟ (إنما الصبر عند الصدمة الأولى) أما بعد ذلك فستصبر غصباً عنك، إذا ماتت أمك أو أبوك أو لدك ثم بكيت وصحت ونحت وفعلت كل شيء وفي النهاية، ماذا تفعل؟ تصبر، ذلك اسمه صبر الاضطرار.
وهذا لا أجر لك فيه ولا ثواب، ولكن متى يكون الصبر لله، ويكون خالصاً لوجه الله؟ يكون عند الصدمة الأولى، عندما يأتيك الخبر وهو جديد وأنت تقول: لا إله إلا الله، إنا لله وإنا إليه راجعون، الحمد لله على كل حال، هذا هو الصابر الصحيح.
لكن جاءك الأمر والخبر وقمت وصحت، وشققت جيبك، ورفعت صوتك، ونتفت شعرك، وبعد أيام وليالٍ صبرت، لم يعد لك شيء فيه.
وفي البخاري ومسلم من حديث أنس يقول: (مر عليه الصلاة والسلام على امرأة عند قبرٍ وهي تبكي بكاءً حاراً، وهذا الولد الميت ولدها قد قطع قلبها -ومعذورة مسكينة ولكن قد زادت في البكاء- فقال لها الرسول صلى الله عليه وسلم: يا أمة الله! اتقي الله واصبري، قالت: إليك عني فإنك لم تصب بمثل مصيبتي).
وهي لم تعرفه، ما يدريك من هذا الذي أبكي عليه، فليس ولدك حتى تنصحني، هذا ولدي، أنت لا تعرف ما أعرف وما أعاني منه، فقيل لها لما تركها النبي صلى الله عليه وسلم: إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كيف تردين عليه بهذا الكلام، هذا رسول الله يأمرك بتقوى الله ويأمرك بالصبر وتردين عليه بهذا الرد؟! فقامت ولحقت بالنبي صلى الله عليه وسلم وأتت إلى الباب وقالت: يا رسول الله لم أعرفك وأنا الآن سأصبر، قال: (إنما الصبر عند الصدمة الأولى).
انتهى وقت الصبر، وهذا ما يسمونه بصبر الاضطرار وهو صبر أهل النار في النار، لكن هل معهم مخرج غيره، يقول أهل النار: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} [إبراهيم:21].
ويقول عز وجل لهم: {اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور:16].
ولا بد -أيها الإخوة- في الصبر من ثلاثة أمور: - أولاً: لا بد أن يكون لله عز وجل.
- ثانياً: ألا يكون معه شكوى لغير الله.
ثالثاً: أن يكون عند الصدمة الأولى.
فإذا حصلت هذه كنت -أيها الإنسان- من الصابرين.(94/12)
الصبر على المصائب تنقية وترقية إلى مرتبة الكمال
بعض الناس يتصور أن البلايا والمصائب -التي تأتي في هذه الدنيا- عبث، وأنها تعذيب، وأنها من الله عز وجل شيء فيه ضرر، لا.
هذه المصائب التي تأتيك في الدنيا عملية تنقية وترقية لك في مجالات الثواب عند الله عز وجل، إذ لا يمكن أن يعطيك الله ثواباً وأنت على النعمة، فالصبر على ماذا؟ على الرز واللحم والعافية؟! لا.
لا بد من شيء تصبر عليه، وتعاني منه، ولهذا الله تبارك وتعالى يقول في سورة العصر: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3].
يقول أحد العلماء: إن هذه عجلات أربع لا يسير دين العبد إلا عليها -ما رأينا سيارة تمشي على ثلاثة (إطارات) - وكذلك الدين لا يمشي إلا على أربع عجلات: عجلة الإيمان، وعجلة العمل الصالح، وعجلة التواصي بالحق، وعجلة التواصي بالصبر، وكيف نتواصى بالصبر من غير بلاء؟ لا بد أن يأتيك بلاء ومصيبة، لكي تُمتحن وتعرف هل أنت من أهل الصبر، فيتم لك دينك، وتصبح من أهل الكمال، أم لا، فتسقط والعياذ بالله.(94/13)
من ميادين الصبر: الصبر عند المصائب
ميادين الصبر كثيرة، منها: الصبر على مصائب الدنيا، لأن الإنسان لا يسلم من الآلام والمصائب والأمراض في النفس، وفي البدن، وفي فقدان الأحبة، وفي خسران المال، وفي ضياع بعض المقدرات، والله عز وجل يقول: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} [البقرة:155] وهنا مؤكد بعدة مؤكدات {بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:155 - 156].
وهذه العبارة من أعظم ما يبرد القلوب على المصائب، إذا أردت أن تضع على قلبك المشتعل بالمصيبة ماءً وثلجاً يبرده فقل: إنا لله وإنا إليه راجعون.
مات ولدٌ لامرأة هو أكبر أولادها والموظف الذي يصرف عليهم، وما عندهم في الدنيا إلا الله ثم هذا الولد، فمات في حادث مروري، وهي ضعيفة البنية مريضة الجسد، وقالوا: إذا أخبرناها أنه مات ستموت، فقالوا: لا تخبروها، وأُخبر أحد الصالحين عنها وهو قريبٌ لها فجاء إليها، ولما دخل عليها أحست أن الوضع قد تغير، ورأت حركة غير طبيعية في البيت، رأت أناساً يدخلون وأناساً يخرجون فتوقعت وقالت: أين فلان؟ قالوا: موجود لم يحدث له شيء، قالت: أين هو، ما الذي حدث له؟ فقال لها هذا الموفق: قولي: إنا لله وإنا إليه راجعون.
فقالت: مات؟ يقول: لو قلت لها مات ستموت هي، وستنطفئ روحها، لكن ما قلت لها مات، وإنما قلت لها: قولي: إنا لله وإنا إليه راجعون.
فقالت: أخبروني هل مات؟ قلت لها: قولي (إنا لله وإنا إليه راجعون)، يقول: فما زلت أكرر عليها (إنا لله وإنا إليه راجعون)، وهي تقول: مات أخبروني، حتى قالت في نفسها: إنا لله وإنا إليه راجعون.
يقول: فلما قالت -وهي تكاد تشتعل من الجزع والحزن-: إنا لله وإنا إليه راجعون، هدأت وسكنت.
فكررتها مرة ومرتين وثلاثاً وأربعاً، ولكن يقول: ما أخبرتها بأنه مات، لكن تكراري للعبارة يدل على أنه مات، إذ لا تُقال هذه الكلمة إلا عند الموت.
ولكن جئت إليها بالخبر عن طريق آية تبرد قلبها: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة:156 - 157] الله أكبر كيف يأتي الثناء من الله، صلوات، أي: تثبيت من الله وثناء ورحمة منه سبحانه: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:157].
فلا تتوقع أن تعيش سالماً، لا بد في هذه الدنيا من مصائب وعجائب وهي مثل العجلة، أناس فوق وأناس تحت، ثم الذين تحت يصيرون فوق والذين فوق ينزلون تحت، وما تترك أحداً إلا ودقت بابه، ولا يوجد أحد في الدنيا سليم منها أبداً، اليوم تجد في هذا البيت زواجاً وفي البيت الآخر عزاء، وبعد سنتين أو ثلاث ترى العزاء في بيت الزواج، والزواج في بيت العزاء، ما يبقى أحد على حال واحد إلا الله عز وجل.
فاصبر لكل ما يأتيك به القضاء من الله وتحمل.(94/14)
نماذج من صبر الأنبياء
البلاء يصيب القلوب، ويصيب البطون بالجوع، ويصيب الأجسام بالمرض، والأموال بالسرقة، والأولاد والزوجات بالمرض والموت، ولا بد من الصبر، وكان لا بد -في هذا المجال- من قدوة، فذكر الله عز وجل في القرآن الكريم الأنبياء، باعتبارهم النماذج البشرية الرائدة التي يقتدي الناس بهم.
قال عز وجل للرسول صلى الله عليه وسلم: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35] وقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90] فالله هدى أنبياءه ورسله إلى جميع الأخلاق الفاضلة، ثم جمع كل أخلاقهم في محمد صلى الله عليه وسلم، فما من كمالٍ إلا وهو فيه، حتى قال الله فيه: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].
فالله عز وجل ابتلى الأنبياء من أجل أن يكونوا قدوة لغيرهم.(94/15)
صبر أيوب عليه الصلاة والسلام على المرض الذي حل به
ابتلى الله أيوب عليه السلام بالمرض في جسده، وعانى منه معاناةٍ لا يعلمها إلا الله، ومكث ثماني عشرة سنة وهو يعاني من ألم المرض، وقالت له رحمة بنت يوسف -وهي زوجته-: إنك نبي مستجاب الدعوة فاطلب من الله أن يرزقك العافية.
قال لها: كم لي مريض؟ قالت: لك ثماني عشرة سنة -من يصبر منَّا ثماني عشرة دقيقة أو ثماني عشرة ساعة، أو ثماني عشر سنة؟ لم يقل: يا رب! أعطني العافية- قال: وكم لي معافى من قبل؟ قالت: ثمانون سنة.
قال: إني أستحي أن أطلب من ربي العافية حتى تبلغ مدة بلائي مدة عافيتي.
يقول: إذا وصلت إلى ثمانين سنة أعلميني فأقول: يا رب أعطني العافية، ونحن الآن ليس فقط نطلب العافية من الله لا بل نطلبها من غير الله.
كثير من الناس من حين يأتيه المرض فإنه يذهب إلى غير الله، يذهب إلى الكاهن، وإلى الطبيب العربي، ويذهب إلى المشعوذ، ولا يصبر، ولا يتداوى بالأدوية المشروعة، وليس هناك مانع من التداوي فإن الله أمر به، ولا ينافي التوكل بل هو مشروع، ولكن الصبر طيب، وحتى وأنت تتداوى يجب أن تصبر، وتعرف أن العافية من الله، وأن هذه الأسباب لا تجلب لك العافية إلا بإذن الله تبارك وتعالى.
فأيوب صبر صبراً عظيماً وقد شهد الله له بذلك، فقال: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:44] متى استحق هذه الشهادة يا إخواني؟! الله أكبر! بعد ثماني عشرة سنة، يقول بعض العلماء: إنه ما طلب العافية إلا عندما دخلت دودة من الدود التي كانت تأكل لحمه دخلت في قلبه، والثانية دخلت في لسانه؛ لأنها لم تجد فيه شيئاً، فما بقي إلا اللحم والعصب والعروق، فوجدت لحمة محروسة بالذكر وبالشكر، فتحرشت بها وقرصتها فصاح وفزع إلى الله وقال: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83].
قال العلماء: إن الضر الذي شكاه أيوب ليس ضر المرض، فهو فيه من ثماني عشرة سنة، ولكن ضر التعطيل عن ذكر الله وشكره، يقول: يا رب! لا أستطيع أن أعيش بغير ذكرك وشكرك، وإذا دخل عليَّ هذا البلاء في لساني تعطل لساني عن ذكرك، وتعطل قلبي عن شكرك، وهذا هو الضر، فكيف بمن يعيش مدى حياته لا يذكر الله، ولا يشكره؟! لا إله إلا الله! كيف تتحول حياة الناس حينما يبتعدون عن الله عز وجل.
أيوب ابتلاه الله عز وجل في بدنه وماله وأهله حيث فقدهم فصبر، ولما صبر نجح وأخذ الشهادة الأزلية التي تتلى إلى يوم القيامة: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:44] ثم أعطاه الله عز وجل كل ما أخذ منه، قال: {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} [ص:43].
خرجت زوجته من عنده وهو في بيت خرب بعيد عن الناس لأنهم يسمونه مبتلى، ولا يقعد معهم من أجل العدوى، وكانت تفرش له الرماد ولا يوجد فرش إلا الرماد يقعد عليه؛ لأنه لا يتحمل شيئاً، فقال له الله عز وجل: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} يعني: اركض الأرض بقدمك، فانفجرت تحت قدمه عينان: واحدة مغتسل، والأخرى شراب بارد: {هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص:42].
فشرب من الأولى فأذهب الله ما به من الأدران، واغتسل من الثانية فأذهب الله ما به من الأمراض الخارجية، ثم كساه الله حلة من الجنة، وأُتي له بكرسي من ذهبٍ من الجنة، وجلس عليه كحالته يوم مرض في عز شبابه، وعندما جاءت زوجته ومعها كسرة من العيش عملت لأجلها طوال اليوم، ولما لم تجده في المكان بحثت عنه فما وجدته؟ ظنت أن الكلاب قد أكلته، فجاءت إليه وقالت: يا رجل! أسألك بالله: هل رأيت هذا المبتلى أين ذهب؟ قال: أي مبتلى؟ قالت: أيوب.
قال: أنا أيوب.
قالت: أتهزأ بي؟ قال: لا، وإذا به أيوب يوم عرفته.
متى حصل على هذا؟ إنه بعد الصبر الطويل.(94/16)
صبر يعقوب عليه السلام
ابتلى الله عز وجل يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم أبو يوسف، ابتلاه الله عز وجل بفقدان أولاده، فكان يبكي حتى عمي؛ لأن البكاء الذي يأتي من حرارة يعمي العين، وما جمع الله بينه وبين بنيه إلا بعد أربعين سنة، عندما قال له ولده يوسف: {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً} [يوسف:100].
ثم سأله فقال: يا أبت لم تبك هذا البكاء؟ أما كنت تعلم أننا إذا لم نلتق في الدنيا التقينا في الجنة؟ قال: نعم إني أعلم ذلك ولكن خشيت أن تسلك طريقاً غير طريقي فلا ألقاك لا في الدنيا ولا في الآخرة.
انظروا كيف كان بكاؤهم يا إخواني، ليس بكاء عاطفة -أريد ولدي من أجل أن يجلس معي- لا.
بل يريد ولده لكي يربيه على الإيمان والدين ويكون مثله في الرسالات والنبوة ويجتمع به في الدنيا.
يقول: لا أبكي من أجل الدنيا لكني بكيت خشية ألا تسير في الطريق الذي سرت فيه -وهو طريق الإيمان والدين- فتسلك طريقاً آخر لا ألقاك فيه لا في الدنيا ولا في الآخرة.(94/17)
صبر يوسف عليه السلام
أيضاً: صبر يوسف عليه السلام صبراً عظيماً في البئر، وصبراً عظيماً في السجن، وصبراً عظيماً عندما عرضت عليه الفتنة عن طريق امرأة العزيز، ولكن كان يقول: {مَعَاذَ اللَّهِ} [يوسف:79] صبر حتى أخرجوه من السجن، ويقول: ارجع إلى ربك -الآن السجين إذا أخرجوه لا يقول شيئاً، بل يكبر ويصيح ويخرج يريد الفرج- والله ما أخرج إلا ببراءة، اتركوني مكاني مدى الحياة، لماذا؟ {قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} [يوسف:50].
فلما سألهن، قلن: نعم حصحص الحق، والله إنها راودته عن نفسه، وما علمنا عليه من سوء، وأخذ بها شهادة وخرج عليه الصلاة والسلام، يقول عليه الصلاة والسلام: (رحم الله أخي يوسف) أي: لو كان غيره لكان خرج بدون أن يسأل؛ لأنه مكث في السجن بضع سنين ليس يوماً ولا شهراً ولا سنة، بل بضع سنين وهو جالس في السجن والمعاناة، ولكنه صابر صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر الأنبياء.(94/18)
صبر إبراهيم الخليل وابنه إسماعيل عليهما السلام
- أيضاً: صبر إبراهيم عليه السلام وهو يعاني من التكذيب والرد والرفض والضرب والإبعاد والإخراج والإحراق عن طريق الكيد الكبير: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ} [الأنبياء:68].
وبدلاً من أن يحرقوه بحزمة من الحطب أو بعود كبريت وينتهي ويموت، لا.
جمعوا من الحطب مثل الجبال الرواسي، وقالوا للنساء: أي امرأة لا تشارك في حمل الحطب عليه سوف ينقطع نسلها ولن يأتي لها أولاد، فجاء النساء والرجال يحملون الحطب مثل الجبال، ثم أشعلوا النيران، ولما أشعلوها كانت تشوي الطير في كبد السماء من شدة الحرارة، ولما أرادوا أن يحرقوه عجزوا أين يضعونه، فهم لا يستطيعون أن يقربوا من النار؛ لأن وهجها ولهيبها يطردهم على مسافة الأمتار البعيدة، وهم لا يريدون أن يضعوا له طريق في طرف النار وإنما يريدونه في وسط النار.
{قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ} [الأنبياء:68] فماذا صنعوا؟ اخترعوا المنجنيق وأتوا به ثم كتفوه وربطوه ثم قذفوه بالمنجنيق وضربوا به وسط النار، وهو صابر يقول: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173] هذه الكلمة قالها إبراهيم وهو يلقى في النار، وقالها النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعذب ويسجن في شعب أبي طالب، قال الله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:173 - 174].
فإبراهيم عليه السلام صبر، ثم بعد ذلك صبر على أمر الله أن يخرج سراً بزوجته هاجر وابنه إسماعيل ابن ليس كالأبناء، جاءه على كبر، ثم من خيرة الرجال، وجعل يسافر به من بيت المقدس إلى أن يضعه في مكة المكرمة ويتركه لوحده، من يصبر على هذا؟ صعب جداً أن يترك الإنسان ولده في وادٍ غير ذي زرع، ويقول بعدها: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم:37].
ولما ولى بدأت عواطف المرأة تضغط عليه وتقول: يا إبراهيم! أفي مثل هذا الوضع تتركنا؟ لمن تتركنا يا إبراهيم؟ وهو يسكت لا يرد عليها بكلمة خشية أن يعتذر لها أو يبرر لها موقفه، وينفذ أمر الله وهو ساكت، بدون أي مراجعة، فعرفت أن هناك سراً وقالت له: آلله أمرك بهذا؟ أي: تركتنا هنا بأمر الله؟ قال: نعم، قالت: إذاً لا يضيعنا.
وفعلاً لم يضيعهم ربي، رغم أنه تركهم في (وادٍ غير ذي زرع)، حجارة صلداء، الموت الأحمر يشب منها، لا يوجد ماء ولا مرعى ولا أكل، حتى الطير لا يوجد في السماء.
وعندما انتهى الماء الذي في الدلو الذي معها -الذي فيه الماء- وبدأ الولد يتلهب عطشاً وانفجر قلبه من العطش، وبكى وصاح، فقامت تبحث ولم تقطع الأمل في الله، تصعد إلى المروة ثم تنزل إلى الصفا، وإذا نزلت بطن الوادي أسرعت وهرولت ثم تعود، وتطلع وتنزل، وتدعو الله، وإذا بها ترى الولد والماء من بين يديه ينبع ويمشي فتزمه وترده.
يقول عليه الصلاة والسلام: (رحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم لكانت عيناً معيناً) لكانت نهراً يجري ويغرق الدنيا كلها، لكنها زمتها وبقيت، وهاهي الآن تروي الملايين من البشر ولا ينقص فيها (سنتيمتراً) واحداً بأمر الله، من أين أتت؟ وأين البحار التي تنبع منها؟ من وسط الجبال الصلد، لا إله إلا الله! فهذا صبر إبراهيم.
ثم صبر إبراهيم على ذبح ولده، حيث جاءته الرؤيا -ورؤيا الأنبياء وحي- أن يذبح ولده، والولد لا يُذبح، لكنه كان يحبه، يقول ابن القيم: إن إبراهيم كان يُحب إسماعيل حباً عميقاً لطاعته، ولمشاركته له في بناء الكعبة، ولبره، ولنبوته، ولرجولته وفتوته.
حتى أنه أمره أن يطلق امرأته فما قال: لا.
والله ما أقدر على أن أطلقها، والنساء غاليات وأنت لا عقل عندك، لا.
بل مباشرة، وبكلمة واحدة، جاء يزورهم من بيت المقدس ولما دخل عليهم ودق الباب، أجابت المرأة، فقال: كيف أنتم؟ -وكانوا في أحسن حال- قالت: في شر حال -لأن بعض النساء حتى ولو كنت في أحسن حال، تجعل حسن الحال شر حال؛ لأن قلبها شرير والعياذ بالله- قال: إذا جاء زوجك، فقولي له: أتى شيخ إلى هنا وقال: غيِّر عتبة دارك.
المرأة يعبر عنها بعتبة الدار؛ لأنها أول ما تنظر إذا دخلت البيت، وفي عتبة الباب تبدأ المرأة تدعو عليك وتنكبك على رأسك، وإذا كانت العتبة سهلة فكل يوم تستقبلك وتفتح قلبك وتبش في وجهك، وتجعل حياتك كلها أنس، ولهذا فالمرأة عتبة؛ إما عتبةً سيئةً أو عتبةً حسنةً، قال: غيِّر العتبة -هذه العتبة ليست حسنة- فلما عاد من الصيد، قالت: جاء شيخ يقول: غيِّر عتبة الدار، فقال: اذهبي إلى أهلك، فطردها بدون مراجعة.
وبقي فترة، ثم تزوج بأخرى، وكانوا في وقت شدة وجوع وقحط وليس عندهم شيء؛ لكن هذه المرأة صاحبة دين وخير، فجاء إبراهيم فقال: أين زوجك؟ قالت: في الصيد.
قال: كيف حالكم؟ قالت: في أحسن حال.
انظر إلى بعض الزوجات عندما تدخل عليها وليس عندها في البيت شيء، ولكن عندها إيمان، ومعك ضيف فتدخل وتقول: عندكم عشاء؟ تقول: نعم.
كل خير موجود، وهي ليس عندها شيء، ولكن تريد أن تفتح قلبك، هذه الكلمة كأنها عشّت الضيف، وبعد ما تقول لك: نعم أبشرك، فكل شيء جيد، ثم تدعوك بعد وقت، وتقول: ما رأيك أن تأتي لنا بخبز ولبن وهكذا عن طريق المشاورة، فأنت رأساً تقول: نعم.
نأتي بكذا وكذا؛ لأنها قد فتحت قلبك، لكن بعض النساء قد تجد بيتها مليئاً بالخيرات، وإذا دخل زوجها بضيف واحد فقط، قالت: لماذا تأتي به؟ تريده أن يأكل عشانا، تريد أن تظهر أمام الناس، اذهب وأحضر أكلاً، والله لا يذوق عندنا لقمة، أعوذ بالله من بعض النساء! ما هذه الأخلاق؟! فهذه المرأة الصالحة، قالت له: نعم نحن في أحسن حال، فقال لها: قولي لزوجك أن يثبت عتبة داره؛ أي: لا يترك هذه المرأة.
ولما بلغ معه السعي وأصبح رجلاً: {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات:102] يقول المفسرون: إن إبراهيم لم يخير إسماعيل -يعني: لم يقل له: ما رأيك نذبحك أم لا؟ - لا.
لم يقل: انظر ما هو رأيك؟ وإنما قال: {فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات:102] أي: كيف ننفذ أمر الله، تريد أن أذبحك وأنت قائم، أو أذبحك وأنت جالس، أو أذبحك وأنت على جنبك، أو أذبحك وأنت على بطنك؟ وتريد أن أذبحك بالسكين، أو أذبحك بالرمح؟ أي وسيلة المهم ماذا ترى في تنفيذ أمر الله؟ لكنه ليس رأياً: تنفذ أم لا، فقال إسماعيل عليه الصلاة والسلام: {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102] لا إله إلا الله! ما أعظم هذا الموقف أيها الإخوة! الولد يستسلم، والأب يستسلم، ويخضعون لأمر الله، وقد كان هذا رؤيا لكن قوة الإيمان: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات:103] تله للجبين: أي وضعه على الأرض وأهوى على حلقه بالسكين من طريق جبينه، فنظر إلى عينيه والعينين تنظر إلى الولد، والولد ينظر إلى السكين، وكلاهما مستسلمان لله، فتعبر الرحمة الموجودة في قلبه بولده، أن السكين لا تذبح، ولا تقطع؛ لأن الله عز وجل سلبها القدرة، لأن الذي أعطاها القدرة سلبها القدرة، والذي أعطى النار القدرة سلبها القدرة.
فهو يخلق ما يشاء ويختار، فيذبح بالسكين فلا تقطع، فيقول الولد لأبيه: كبني على وجهي لكي لا تنظر إلى حتى تنفذ أمر ربي عز وجل، وبينما هو في هذا الوضع وإذا بالفرج يأتي من الله عز وجل قال: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات:104 - 107] هذا صبر الأنبياء وهم أفضل خلق الله، وكذلك غيرهم من الصالحين، والله يقول: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35] في ميادين الابتلاءات العادية.(94/19)
من ميادين الصبر: الصبر عن شهوات النفس
النفس حبب إليها الشهوات، قال الله: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} [آل عمران:14] كل هذه النعم الناس يحبونها مزينة، لكن فيها حلال وفيها حرام: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ} [آل عمران:14].
يوجد في النساء حلال وهن الزوجات، ويوجد في النساء حرام وهن الباغيات والزانيات، ويوجد بنون تحبهم لأنهم يعينوك على طاعة الله، ويوجد بنون يجب أن تبغضهم لأنهم يصرفونك عن طاعة الله، ولا يسيرون معك في خط الله عز وجل.
كذلك المال: يوجد من المال الحلال ويوجد من المال الحرام، فالحلال يحبه الله، والحرام يبغضه الله، فعليك في ميادين الصبر أن تصبر عن شهوات النفس إذا أخذت الدنيا زخرفها، وأقبلت وتزينت، وظننت أنك قادرٌ عليها، فاحذر من أن تقدر على شيء حرمه الله، فقد تسقط في هذا الميدان، لأنه شهوة، والشهوة تحبها النفس، والشهوة منزلق تنزلق فيه النفس، ولا مصير إلا النار، والله يقول: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:35] ويقول عز وجل: {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:131].
ثم لا بد أن تعرف أيها القانع بما رزقك الله أن الله عز وجل لا يعطي المال لأصحاب المال، ولا المناصب لأصحاب المناصب، بناءً على حبه لهم، فقد يعطيهم وهو يبغضهم، يقول الله: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون:55 - 56].
والله يبتلي بالمال كما يبتلي بالفقر، والمال يعطيه الله من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من يحب، فلا تحزن إذا لم يعطك الله مالاً، ولا تحزن إذا لم يعطك الله منصباً ولا سؤدداً، وعليك أن ترضى بما قسم الله لك، وأن تعرف أن هذه قسمة الله تبارك وتعالى.
قارون عندما خرج على قومه في زينته {قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص:79] فقال أهل الإيمان والعلم بالله في الدنيا والآخرة قالوا: (ويلكم) دعوا عليهم بالويل، وقالوا: {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص:80].
فخسف الله بقارون وقومه فهو يتجلجل في بطن الأرض إلى يوم القيامة.
والذين قالوا: {يَا لَيْتَ لَنَا} [القصص:79] قالوا: {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ * تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:82 - 83].(94/20)
من ميادين الصبر: الصبر بعد العمل
عليك بعد أن تعمل عملاً أن تصبر ولا تنظر لنفسك بعين العجب والرياء والاستكبار، وتتظاهر بأنك عملت وأنك صنعت، فتأتيك السمعة، لأنه جاء عنه صلى الله عليه وسلم أن (من راءى راءى الله به، ومن سمّع سمّع الله به).
وبالتالي يحبط عملك، ويبطل أجرك، وتخسر دنياك وآخرتك، ولم تربح شيئاً، بل عليك بعد العمل أن تكون أضعف منك حالاً قبل العمل، ولهذا شرع الله لنا الاستغفار بعد الصلاة، وشرع لنا الاستغفار في قيام الليل: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17 - 18].
وشرع لنا الاستغفار بعد يوم عرفات، قال عز وجل: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:199] إذا أفضت من عرفات وقد غفر الله ذنبك فعليك أن تستغفر الله، لماذا؟ لكي لا يأتي عجب، وتقول: أنا الآن غفر الله ذنبي فأنا لم يبق عليَّ شيء، سأعمل ما أعمل، لا، قد لا يغفر الله ذنبك، فعليك أن تستشعر باستمرار صبرك على العمل وطلب القبول من الله عز وجل حتى لا يحبط عملك.(94/21)
من ميادين الصبر: الصبر في الدعوة إلى الله
إن الدعوة إلى الله وظيفة الأنبياء، وهي ظيفة المسلم في هذه الحياة، ولا يختص بها نفر دون نفر، ولا يتصور أحد أن الدعوة هي وظيفة من يخطب، أو يقول الكلام الطيب للناس، لا.
هي وظيفة كل مسلم، الذي يجب أن يكون داعية.
وتتفاوت مراتب الناس ودرجاتهم بحسب إمكانياتهم وقدراتهم، ولكن لا بد أن يكون داعية؛ لأن الله يقول: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108] لا بد من كل من اتبع الرسول أن يكون داعية إلى الله عز وجل، والذي يدعو الناس إلى الله فإنه يتعرض لآلام ومتاعب، لماذا؟ لأن الداعية يطلب من الناس أن يطلقوا ويتركوا أهواءهم، وينتصروا على شهواتهم وأن يقفوا عند حدود الله أمراً ونهياً، وأكثر الناس لا يحب هذا النمط، ولا يحب القيود، بل يحب أن يكون طليقاً كالدابة أو الحيوان، يأكل ويمشي ويبقى على لذته، وبالتالي يتخذ من الدعوة والدعاة موقفاً مغايراً وعداءً مستحكماً، هذه سنة الله في خلقه منذ أول نبي إلى يوم القيامة.
إن الذي يأمر الناس وينهاهم لا يستجيب له الناس كلهم، فمن هنا كان لا بد من الصبر واليقين على هذه البلايا والمصائب.
يقول الله عز وجل حكاية عن لقمان وهو يعظ ابنه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان:17].
وهذا الداعي أيضاً مأمور بصبر خاص، صبر حينما يعرض الناس عن دعوته؛ لأن من الناس من يتصدى لدعوة الآخرين، ثم لا يجد قبولاً، وهذا امتحان من الله واختبار له، هل يثبت ويستمر، أم يقل: والله لا يوجد أحد أطاعني؛ إذاً انتهى كل شيء؟ لا.
اصبر، أنت عليك أن تدعو إلى الله، وتجلب بضاعة سماوية إن اشترى الناس منك فالحمد لله، فاجلب البضاعة والتوفيق بيد الله تبارك وتعالى، ولا شيء أثقل على النفس من إعراض أهل الباطل عن الحق، هذا صعب جداً، حتى إن نوحاً قال لربه: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلَّا فِرَاراً * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً} [نوح:5 - 7] ثم عدد ونوع أشكال الدعوة: دعاهم سراً، ودعاهم جهاراً، ودعاهم جماعة ودعاهم نفراً، بكل أسلوب، ثم بعد ذلك رفضوا دعوته، فقال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} [نوح:26].
والنبي صلى الله عليه وسلم أيضاً كان يتألم لرفض دعوته فيقول: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} [فصلت:3 - 5] ولكن قال الله: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:127 - 128].(94/22)
من ميادين الصبر: الصبر على الزوجة والأولاد
هناك ميادين الصبر في البيت، ولا بد من الصبر، وإذا لم تصبر وتعالج أمورك بالحكمة والصبر فشلت، وإذا فشلت فلن تجد امرأة كاملة، من أراد كمالاً في المرأة فذلك في الجنة، والمرأة خلقت من ضلعٍ أعوج، وإن أعوج ما في الضلع أعلاه، فاستمتعوا بهن على عوجهن، فإذا وجدت عوجاً في المرأة فعليك أن تصبر، وتعالج الأمور بالحكمة وبالتي هي أحسن، إلا عوجين لا صبر لك عليهما؛ عوجاً في الدين: كأن تكون لا تصلي، أو كافرة، أو قليلة دين.
أو عوجاً في العرض: كأن تكون خائنة لعرضك، هذان العوجان لا صبر عليهما، وإنما الصبر في غيرها، كأن لا تجد طعاماً مطهياً، ولا ثوباً مغسولاً، ولا ولداً نظيفاً، ولا بيتاً مرتباً، أو لم تجد عبارة حلوة، أو لم تجد فراشاً طيباً، وإنما وجدت مشاكل، فاصبر فإنك إن لم تصبر تعبت.
وكذلك أولادك عليك أن تصبر عليهم؛ لأن الله يقول: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:28].(94/23)
من ميادين الصبر: الصبر على الإخوان في الله
الأخوة في الله رابطة من أعظم الروابط الإيمانية، أن تحب في الله وتبغض في الله، ولكن الإنسان من طبيعته النقص والنسيان والغفلة فلا يوجد أحد كامل، ولذلك قد يصدر من بعض إخوانك فعلٌ يؤذيك، فعليك ألا تقابل هذا الفعل بشر، وإنما عليك أن تقابله بتحمل، وباحتمالٍ طيب، وأن تحمله محملاً حسناً، وأن تغض الطرف عنه، لأنك إذا أخذت إخوانك على هذا المنوال، فكلما أخطأ عليك أخطأت عليه، وكلما أخطأ عليك غضبت عليه وقاطعته، لن تجد في يوم من الأيام معك أحداً، ستبقى وحيداً في الحياة لا تجد من يخاللك؛ لأن الناس كلهم فيهم نقص، ولكن اصبر والله عز وجل يأمر بهذا ويقول: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:34 - 35].
فطوبى لمن ألجم نفسه بلجام الحلم، وكبح جماحها، وصبر على الإخوان، وحرص على دفع شرورهم وأذاهم عن طريق الصبر والرحمة والسلوك الجميل، وبهذا يحقق له كثرة من الإخوان، ويحقق له محبة في قلوب الناس أجمعين.(94/24)
من ميادين الصبر: الصبر في طلب العلم
يشكو كثير من إخواننا ويقولون: لنا الآن سنوات ماذا نعمل؟ لم نتعلم شيئاً، ولم نتلق علماً؟! لا.
اصبر قد تظل سنوات.(94/25)
صبر ابن حجر في طلب العلم
جلس ابن حجر خمس سنوات وهو ملازم للمشايخ لم يتعلم حرفاً واحداً، وجاء إلى شيخه يوماً فقال له: أتدري؟ قال: نعم.
قال: هذا حبل وهذه عصا، اذهب واحتطب أو ارعَ لك غنماً، أما العلم فليس لك، أنت في تطلب العلم منذ خمس سنوات وما تعلمت شيئاً.
فذهب ابن حجر ولما مر في طريقه على بئر والناس يتعبون في إخراج الماء، لاحظ أن الحبال قد قطعت الحجر، فتعجب وقال: الحبل يقطع الحجر! الحبل الذي من القطن يقطع الحجر الصلب؟! فقالوا: على الدوام يقطع الحبل الحجر، قال: وعلى الدوام يقطع العلم ابن حجر، وقطعه رضي الله عنه وأرضاه، وأصبح الإمام الحافظ، صاحب فتح الباري، الذي قال فيه العلماء: لا هجرة بعد الفتح.
يعني: في طلب العلم، من عنده فتح الباري كأن في بيته نبي، فالعلم كله مجموع في فتح الباري، لأنه شرح صحيح البخاري، وأتى بالعلم كله من أوله إلى آخره، من أين أتى بهذا؟ بالمداومة والمرابطة، فلا بد من الصبر عند طلب العلم.(94/26)
صبر موسى عليه السلام في طلب العلم
- وفي قصة موسى عليه السلام عظة وحكمة، فقد وقف موسى خطيباً في بني إسرائيل وقال: ما على وجه الأرض أعلم مني، فأوحى الله إليه وقال: لا.
يوجد في الأرض أعلم منك، وكان قد نسي أن يقول: إلا الله، فدله الله على عالم في أقصى الأرض، في طنجة في مجمع البحرين، في ملتقى البحر الأبيض المتوسط بالمحيط الأطلسي، في مضيق جبل طارق، الذي بين أسبانيا والمغرب، وقد كان موسى يعيش في أطراف مصر بالقرب من فلسطين، فانظر كيف قطع هذه المسافة عبر مصر ثم ليبيا ثم تونس ثم الجزائر ثم المغرب.
رحلة طويلة، فأخبره الله، وشد رحله وأخذ صاحبه وفتاه وخرج.
وقال: يا رب! كيف أعرف هذا الرجل؟ أريد علامة، قال: معك هذا الحوت الميت المحنط المملح إذا عادت الروح إلى هذا الحوت فانظر الرجل هناك.
ثم مشى حتى وصلا إليه، ولما وجده {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} [الكهف:66] قال له: أريد أن أمشي معك فعلمني، قال: {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} [الكهف:67] العلم يتطلب صبراً، وأنت رجل تريد العلم في يوم وتعود، ليس عندك صبر فلا تصلح، قال: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً} [الكهف:69] انظروا أدب طالب العلم، إني إن شاء الله صابراً، وبعض الناس يريد طلب العلم في ليلة، قال: حضرنا ندوتين وثلاث، وما وجدنا إلا كلام.
إن العلم يريد منك أن تعطه كلك ويأتيك بعضه.
: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء:85].
ومن قال: إنه قد علم فقد جهل، فقال له: {قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً * قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ} [الكهف:70] كن مؤدباً، طالب العلم لا يسأل، إلا إذا قلت لك وعلمتك فاسأل: {حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً} [الكهف:70] فمشوا وركبوا في السفينة، ولما ركبوا قام الرجل وأخذ المخراق والمطرقة وقام يخرق السفينة ويدق فيها، يريد موسى أن يسكت وهو نبي، والنبي بعث للإصلاح وليس للإفساد.
ونظر أن هذا إفساد وتخريب للسفينة، والسفينة هذه لمساكين وليس معهم إلا هي، وكيف تخربها ونحن ساكتون ونغرق وتغرق، فقال له موسى: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً} [الكهف:71] ولم يصبر: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} [الكهف:72] ألم أقل لك: لا تسأل؟! {قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً} [الكهف:73] يقول له: اعذرني فقد نسيت.
{فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً} [الكهف:74] دخلوا في قرية ووجدوا الأطفال يلعبون، فأمسك بواحدٍ من الأطفال، أخذ برأسه فذبحه وفصل رأسه عن جسده، فغضب موسى.
فقال: ما هذا الرجل الذي عنده علم وهو يذبح الناس؟! {أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً} [الكهف:74] هناك قال: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً} [الكهف:71] وهنا قال: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً} [الكهف:74] يعني: هذا منكر ولا نصبر عليه، قال له: {أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} [الكهف:75] هناك قال: {أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ} [الكهف:72] وهنا قال: {أَلَمْ أَقُلْ لَكَ * قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي} [الكهف:75 - 76].
قال: أعطني فقط فرصة أخيرة، ودائماً العالم من شأنه ألا يغضب على طالبه من أول مرة ويطرده، انظر أعطاه المرة الأولى والثانية والثالثة، وبعد الثالثة لم يقبله أبداً، قال له: امض، {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا} [الكهف:77] وكان أهلها بخلاء، فلم يعطوهم شيئاً ولم يضيوفهم، وإذا بجدار سيسقط، فبنى الخضر الجدار، فتعجب موسى وقال: عجيب أمرك، هؤلاء لا يضيفوننا وأنت تبني جدراهم، على الأقل خذ عطية على هذا: {لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً * قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً * أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} [الكهف:77 - 79] فيقول: أنا خرقتها لا لأغرقها ولكن خرقتها لتنجو، ولئلا يأخذها الملك الذي كان يأخذ كل سفينة غصباً، فالخرق هنا فيه مصلحة، ولكن هذه المصلحة يعرفها الخضر ولا يعرفها موسى، رغم أن موسى نبي، لكن عند الخضر علم ليس عند موسى.
قال: {وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ} [الكهف:80] وقد علم الله من هذا الولد أنه ضال وفاجر، وسوف يرهقهما طغياناً وكفراً: {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً} [الكهف:81] يقول: نقتله حتى لا يكون سبباً في كفر والديه.
قال: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً} [الكهف:82].
يقول عليه الصلاة والسلام: (رحم الله أخي موسى لو صبر لقص علينا الله من خبرهما ما شاء) يقول: لو صبر لأراه الله من الخضر الشيء العظيم، لكن لم يصبر واستعجل، وقال: {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف:78] ثم لما أراد موسى أن يرجع دعاه -والحديث في البخاري - الخضر فقال: يا موسى! قال: نعم، وقد نظر إلى المحيط الأطلسي وفيه طائر من عصافير البحر يقف على طرف البحر، يركز منقاره في الماء ثم يأخذ له قطرة ثم يرفع رأسه لكي تنزل هذه القطرة قال: أترى هذا العصفور ينقص من البحر؟ قال: لا، قال: والله ما علمي وعلمك وعلم الناس أجمعين بالنسبة لعلم الله إلا كما ينقص هذا العصفور من هذا البحر.
والله يقول: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان:27]، قال تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} [الكهف:109] لو أنه مداد أي: حبر بكلمات الله لانتهى البحر ولم ينته ما عند الله عز وجل: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:96].
وفي هذه القصة أحكام وفقه نذكره: - أولاً: على طالب العلم أن يتواضع، فلا يرفع رأسه ويقول: أنا عندي شهادة، وعندي (ماجستير)، وعندي (دكتوراة)، والناس يسمعون كلامي، وأنا عالم، وصاحب مركز، لا.
عليك أن تتواضع وإلا سقطت من عين الله عز وجل، وإذا سقطت من عين الله سقطت من كل عين؛ لأن قلوب العباد بيد الله، هذا موسى قال: ليس في الأرض أعلم مني.
ونسي أن يقول: إلا الله، فأراه الله أن في الأرض من هو أعلم منه.
- ثانياً: على طالب العلم أن يصبر ويصابر ويتأدب، ولا يتعجل على استعجال العلوم من العالم.
- ثالثاً: يجب أن يلتزم العقد الذي شرط عليه الشيخ، فإذا كان الشيخ قد قال له: لا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكراً، إذا قال لك الشيخ: لا تأتي إلا بعد العصر، لا تأتني إلا بعد المغرب، لا تظل تنازعه، تقول: لا والله بعد المغرب عندي عمل، اذهب إلى عملك ما عليَّ منك، أنا أعطيك؛ لأن العالم إذا أعطيته قلبك أعطاك علمه، وإذا أعطيته صلفاً، طردك، فيجب أن تكون متأدباً بكمال الأدب مع العالم.
وكذلك يجب على العالم أن يراعي ضعف تلميذه، وألا يغضب عليه وألا يرده، بل عليه أن يتحمله حتى لا يأخذه بأول غلطة.(94/27)
أمور تعين على الصبر
هناك أمور تعينك على الصبر لا بد أن يعرف كل عاقل أن الصبر مأخوذٌ من الصَبِرِ وأنه مر المذاق، ليس من العسل، ولا بد لهذه المرارة من معاناة، أنت تصبر على مرارة الدواء، وتصبر على وخز الإبرة، وتصبر على ألم العملية طمعاً في العافية والثواب، وهناك أمور تعينك على الصبر: - أولاً: معرفة طبيعة هذه الدنيا، أنها دار بلاء ومصائب، ليست دار جزاء، وليس فيها نعيم، بل جبلت كلها على كدر: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4] في معاناة وتعب، فإذا أرادت أن تكون على غير ما أرادها الله، لا تستطيع.
أنت لست الذي خلقها، الله الذي خلقها، فوطن نفسك على أن تعتبرها دار بلاء ومصائب، فكلما أتت مصيبة وأنت مستعد لها وإذا بها خفيفة، لكن إذا لم توطن نفسك على المصائب، تأتيك المصائب فتتعبك، يقول:
إن لله عباداً فطناً طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
نظروا فيها فلما علموا أنها ليست لحي وطنا
جعلوها لجة واتخذوا صالح الأعمال فيها سفنا
والله يقول: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4].
ويقول الناظم الرندي رحمه الله:
لكل شيءٍ إذا ما تم نقصان فلا يغر بطيب العيش إنسان
هي الحياة كما شاهدتها دول من سره زمن ساءته أزمان
ليعلم العبد أنه يتقلب بين النعيم والعذاب، وبين المصائب والمنح، وبين الفتن والعطايا، وبين النعم والبلايا، فإذا أتت البلية فاصبر لها، وإذا أتت المنحة والهدية فاحمد الله واشكره عليها.
- ثانياً: مما يعينك على الصبر أن توقن بالجزاء على المصيبة: لأن الله عز وجل يجزي كل إنسان بعمله إلا الصابر فيجزيه بغير حساب، قال الله عز وجل: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10] وقال عز وجل: {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:96].
فيوم أن تشعر أنَّ على هذه المصيبة ثواباً تفرح، وتقول: الحمد لله، وهذا مما يعينك على الصبر.
ثالثاً: معرفة نفسك: اعرف نفسك أيها الإنسان! والمال الذي يذهب هو مال الله، والولد الذي جاءك ومات من الله عز وجل، وأنت نفسك إذا مت ومرضت أنت نفسك من الله، فما دام كل شيء من الله فهو ملكه يتصرف فيه كيف يشاء؛ فلماذا الغضب؟ وفي هذا حديث في البخاري ومسلم وهو حديث أم سليم زوجة أبي طلحة رضي الله عنها، وهذه زوجة عظيمة مثالية ما أظن في الدنيا مثلها في مثل هذا الموقف، الله أكبر! مات ولده ولما مات قالت لأهل البيت: اسكتوا ولا تخبروه، أنا سوف أخبره، فلما دخل قربت له العشاء، وأكل وشرب، ثم تصنعت له وتجملت وتعطرت، ثم جاءت إليه، فقال لها: ما صنع الغلام؟ قالت: هو أهدأ ما يكون، أي: مستريح وهي صادقة لأنه قد مات في أهدأ ما يكون، ثم لا زالت به حتى أتاها وواقعها، فلما رأت أنه قد شبع واستراح معها، قالت له: يا أبا طلحة -انظروا كيف العقلية يا إخواني، هذه ليس عندها (ماجستير) ولا (دكتوراه)؟!! انظروا كيف يجعل الإيمان من هذه النماذج قمماً في الحياة- قالت: يا أبا طلحة! أرأيت لو أن قوماً أعارونا عارية -ماعوناً أو أي شيء- ثم طلبوها -طلبوا عاريتهم- ألنا أن نمنعهم؟ -إذا أعطونا دلواً، أو فأساً، أو سيارة، وقضينا بها حاجتنا والآن طلبوها، أيجوز لنا أن نمنعهم؟ قال: لا.
قالت: فاحتسب ابنك عند الله فإنه عارية الله طلبها.
وما المال والأهلون إلا ودائع ولا بد يوماً أن ترد الودائع
فغضب أبو طلحة رضي الله عنه غضباً على هذا الموقف، وقال لها: تركتيني حتى تلطخت -أي: لم تخبريني إلا بعدما عملت، أعلمتني بولدي- ثم انطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما كان فقال عليه الصلاة: (بارك الله لكما في ليلتكما) فحملت تلك الليلة، ووضعت ولداً، حنكه النبي صلى الله عليه وسلم بيده بالتمر، وسماه عبد الله، الذي رزق تسعة من الولد كلهم حفظوا القرآن بأسباب المرأة الصالحة، التي عرفت أن هذا الولد من الله عوضها الله في الدنيا والآخرة.
لكن لو أنها صاحت ووجلت مثل النساء وبكت ماذا سيصير؟ هل سوف يحيا ولدها؟ لا.
ستخسر ولدها وتخسر ثواب الله عز وجل، فلا بد من أن نستعين بمعرفة أنفسنا، وأننا لله الذي لا إله إلا هو.
أيضاً نستعين بالله على المصاب، إذا جاءتك مصيبة في ولدك أو زوجتك أو سيارتك أو في أي شيء، قل: إنا لله وإنا إليه راجعون، استعنا بالله، فالله يقول: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45] والله يقول: {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا} [الأعراف:128] فلا بد أن تصبر.
وأيضاً أن تتأسى بأهل العزائم، وأهل الصبر الذين صبروا مثل الأنبياء والرسل؛ لأن الله يقول: {وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ} [هود:120] ويقول: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد:23].
- أيضاً مما يعينك على الصبر على المصيبة: أن تعلم أنه مهما كانت فإن هناك أعظم منها، لا يوجد مصيبة في الدنيا إلا ويوجد أكبر منها، وإن الله اختار لك هذه المصيبة، وأنه يوجد أعظم منها، وأن الله عز وجل يثيبك عليها، واعلم أن أعظم مصيبة وقعت بك هي مصيبتك في محمدٍ صلى الله عليه وسلم.
اصبر لكل مصيبة وتجلد واعلم بأن المرء غير مخلد
وإذا دهتك مصيبة فاصبر لها واذكر مصابك في النبي محمد
هل هناك أعظم على المسلم من مصيبته في رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لا والله.(94/28)
أمور تحدث عند الحزن لا تنافي الصبر
هناك أمور يعملها الواحد منا ولا تنافي الصبر، وهي: بكاء العين وحزن القلب، فإن الإنسان بشر وليس بحجر، فإذا مات ولدك أو ماتت زوجتك، ودمعت عينك أو حزن قلبك، فهذا مباح؛ لأنه من طبيعة البشر، والنبي صلى الله عليه وسلم لما مات ولده إبراهيم، ذرفت عيناه صلى الله عليه وسلم وقال: (إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، إنا لله وإنا إليه راجعون، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون).
فقال عبد الرحمن لما رآه: وأنت يا رسول الله؟! أنت تبكي يا رسول الله وأنت تنهانا عن البكاء، قال: (يا ابن عوف! إنها رحمة لا بد أن تكون في قلب الإنسان) والذي لا يبكي بكاء الرحمة فقلبه قاسٍ، والقلب القاسي بعيدٌ عن الله عز وجل.
فلا ينافي الصبر إذا دمعت عينك؛ لكن لا تدمع عينك مع رفع صوت، ولا مع ندب، ولا مع شق جيب، ولا مع نتف شعر، أو اعتراض أو شيء من السخط، إنما تدمع عينك ويحزن قلبك وتشكو أمرك إلى الله عز وجل.
وأيضاً هناك شيء لا ينافي الصبر وهو الشكوى، لكن إلى الله: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف:86].
حسبنا الله ونعم الوكيل، إذا قلتها فرج الله همك، اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، اشك إلى الله؛ لأن الله بيده الأمور، بيده الخفض والرفعة، بيده المنع والإعطاء، فكل شيءٍ عنده، فاشك إليه.
أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يرزقنا وإياكم الصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله أعلم.(94/29)
صحة الإنسان في شريعة الرحمن
من خصائص هذا الدين العظيم: الشمول والتكامل والإحاطة بجميع جوانب الحياة، ومن ذلك أنه اهتم بالإنسان المسلم وصحته، حتى أصبح ذلك مظهراً من مظاهر إعجاز هذا الدين العظيم.
والمتأمل في كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام يلاحظ أن الشارع أمر بأمرين هما أساس الصحة وطلب العافية: الأول: الوقاية وطرق العمل بها.
فالوقاية -كما يقال- خير من العلاج.
والثاني: العلاج والتداوي، فقد أوجب الإسلام ذلك وحث عليه، والنصوص مليئة بذكر ذلك للمتأمل والمتدبر.(95/1)
علاقة الصحة بدين الإسلام
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فإن موضوع درس هذه الليلة سيكون عن الصحة في الإسلام، وقد تتعجبون من اختياري لهذا الموضوع، ولكن إذا علمتم أن الصحة واهتمام الإسلام بها وتركيزه عليها يعتبر مظهراً من مظاهر إعجاز النبي صلى الله عليه وسلم، ودليلاً من دلائل نبوته عليه الصلاة والسلام؛ لزال العجب، إذ قد يقول قائل: ما علاقة الصحة بدراسة العقيدة والتوحيد؟ فنقول: إن العلاقة قوية، والصلة شديدة، إذ أنك إذا علمت هذه الأمور التي هي أعظم مما قد تصل إليه عقول البشر عبر سنيها وتجاربها الطويلة، وقد سبق إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع الجوانب الصحية، الوقائية منها والعلاجية، فإنك بهذا تدرك أن هذا الرسول صلى الله عليه وسلم مرسل من عند الله، فتترسخ عقيدتك، ويزداد إيمانك، ويقوى يقينك، وتخضع لشريعة مولاك بعد أن علمت أنه صلوات الله وسلامه عليه لا ينطق عن الهوى.
ومن خصائص هذا الدين العظيم الذي ارتضاه الله للعالمين: الشمول والتكامل والإحاطة بجميع جوانب الحياة، عقيدةً وعبادةً، وسلوكاً ومعاملةً وأخلاقاً، وهذه دلالة واضحةٌ على أنه من عند الله عز وجل، وتؤكد لنا هذا تأكيداً جازماً، فيزداد المسلم إيماناً ويقيناً، ويعيش على نورٍ من الله وبرهان، فينال السعادة في الدنيا والفوز والفلاح في الدار الآخرة.
والمتأمل لكتاب الله، والمطلع على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمتابع لسيرة أصحابه وحياتهم رضي الله عنهم وأرضاهم، والمتابع لحياته صلوات الله وسلامه عليه في مسجده وبيته، وفي جهاده وسلمه، وفي حله وترحاله، يجد أن للصحة مساحةً واسعةً وقدراً كبيراً من الاهتمام.
كيف لا! وهي تتعلق بالإنسان الذي هو المستخلف على هذه الأرض، ويجد ويلمس ما يبعث على الدهشة، ويثير العجب، ويشعر بأنه أمام إعجازٍ باهرٍ يؤكد أن هذا الدين من عند الله، وأن هذا النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلا فكيف يمكن لرجل أمي لا يقرأ ولا يكتب، يعيش في مجتمعٍ أولي لا توجد به جامعات ولا مراكز بحث علمي؛ كيف يمكن لهذا أن يضع الأسس العامة للصحة الوقائية والعلاجية التي يعجز عنها أمهر الباحثين والخبراء، وكبار الأساتذة والأطباء، رغم تقدم الوسائل وكثرة الإمكانيات، ووجود المجاهر والمختبرات ومزارع الميكروبات وأجهزة الكمبيوتر إلى هذا الوقت، فبالرغم مما استطاع الإنسان أن يصل إليه من هذه الإمكانيات، إلا أنه عاجز أن يصل إلى ما وصل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فتُثبِت هذه الأمور عندنا، وتقيم لدينا أدلةً واضحة ساطعة كالشمس في رابعة النهار على أنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلى وحي يوحى.
وسوف نقضي هذا الوقت الضيق والقصير مع الإعجاز النبوي في مجال صحة الإنسان في الجانبين: الجانب الوقائي، والجانب العلاجي، فإن الوقاية خير من العلاج، ودرهم وقاية خير من قنطار علاج، وإذا استطعت أن تقي نفسك من المرض فأنت أفهم وأقدر من أن تصبر حتى يأتيك المرض ثم تعالج نفسك.(95/2)
الإعجاز النبوي الطبي في الجانب الوقائي
أما في مجال الوقاية فقد وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم الخطوط الرئيسية لما يسميه الأطباء اليوم: بالوقاية، والتي تعتبر خط الدفاع الأول ضد الأمراض المعدية وغير المعدية.(95/3)
الحجر الصحي كوسيلة من وسائل الوقاية
ندب الشرع إلى الوقاية بالحجر الصحي، وهو الذي يسميه الأطباء اليوم: (الكرنتينا) أو الحجر الصحي، فقد ثبت في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (كان في وفد ثقيف رجلٌ مجذوم قدم ليبايع النبي صلى الله عليه وسلم، فأرسل إليه صلى الله عليه وسلم أن ارجع فقد بايعناك) لماذا؟ للحجر، حتى لا يأتي فتنتقل عدواه إلى بقية الناس، وثبت في صحيح البخاري عنه صلى الله عليه وسلم قوله: (فر من المجذوم فرارك من الأسد)، وفي الصحيحين قال عليه الصلاة والسلام: (لا يوردن ممرض على مصح) من أجل ألا تنتقل العدوى إلى الصحيح، وهذا هو أساس الحجر الصحي، وأيضاً ورد في الصحيحين حديث عن الطاعون قال فيه عليه الصلاة والسلام: (إذا سمعتم بالطاعون بأرضٍ فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرضٍ وأنتم بها فلا تخرجوا منها).
وكان العلماء قبل مسألة الحجر الصحي يقولون: كيف -إذا دخل الطاعون- نبقى ولا نخرج، نعرض أنفسنا للموت ونبقى فيها! لكن لما جاء الطب بمسألة الحجر وجدوا أن الحديث فيه معاني الحجر الصحي، إذ أنه إذا دخل الطاعون في أرض وأنت فيها فلا تخرج منها؛ حتى لا يؤدي خروجك منها إلى نقل الوباء إلى الآخرين، فابق فيها واصبر على قضاء الله وقدره، وإذا حلَّ الطاعون في أرض وأنت خارجها فلا تدخل إليها.
وتحدثنا كتب المغازي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما وصل إلى (عمواس) وهي أرض في الشام، وجد الطاعون قد تفشى بها فلم يدخلها، فقال له أبو عبيدة رضي الله عنه: [أفراراً من قدر الله يا أمير المؤمنين؟! قال: يا أبا عبيدة! لو غيرك قالها! نَفِرُّ من قدر الله إلى قدر الله] انظروا حكمة عمر رضي الله عنه، ثم ضرب له مثالاً وقال: [أرأيت يا أبا عبيدة لو كانت لك إبل، فهبطت بها وادياً له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة، ألست إذا رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإذا رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟ قال: نعم]، وبينما هم في الكلام إذ جاء عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه وهو السابق إلى الإسلام، وأحد المبشَّرين بالجنة، وتاجر الصحابة لكنه تاجر من طراز فريد، ما كان يبيت ليلة إلا وهو يكسر الذهب بالفئوس ويخرجها في سبيل الله، وكان كلما أخرج زادت أمواله أعظم مما كانت؛ لأن الله يقول: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ:39] لما جاء قال: عندي في المسألة حكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وما عندك؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا كان الطاعون بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها، وإذا سمعتم به في أرض فلا تقدموا عليها) صلوات الله وسلامه عليه.
هذا الإجراء هو ما يعرف اليوم بالحجر الصحي، أي: عزل الأماكن والناس عند تفشي الأمراض الوبائية كالطاعون والكوليرا، والجدري، وذلك لمحاصرة المرض والتغلب عليه، والحيلولة دون انتشاره، هذا أول عامل من عوامل الوقاية بالحجر.(95/4)
النظافة من وسائل الوقاية
العامل الثاني من عوامل الوقاية: النظافة؛ فإن النظافة من أهم العوامل الصحية التي تحول بين الإنسان وبين الوقوع في الأمراض، ولقد عني الإسلام بأمر النظافة عناية فائقة، ووجه الأنظار إليها، واعتبرها من صميم رسالة الإسلام، فأوجب نظافة البدن والثياب والأمكنة والطرق والبيوت، ونظافة كل شيء، حتى جعل النظافة جزءاً من الإيمان.
ففي نظافة البدن شرع الإسلام الوضوء للصلوات الخمس في اليوم والليلة خمس مرات، وليس من الطهارة، بل من الوضاءة، أي: الحسن والجمال، ولذا ترى الذي يتوضأ دائماً عليه إشراقة ونور، بينما الكافر لو اغتسل في اليوم مائة مرة ما عليه وضاءة، ولا فيه نور ولا جمال، لماذا؟ لأن الكفر يغطيه -والعياذ بالله- فالوضوء الذي تمارسه كعبادة يختلف عن النظافة التي تمارسها كعادة، وهذا أمر فوق النظافة، وفيه يتم غسل الأعضاء الخارجية التي غالباً ما تكون عرضة للتلوث وحمل الجراثيم والإفرازات التي لا تنقطع، فقد أخرج البخاري ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ).
والوضوء طهارة مادية للأعضاء، وطهارة معنوية للقلب بتكفير الذنوب والخطايا ومحو السيئات، روى الإمام مسلم عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قلنا: بلى يا رسول الله! قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط).
وفوائد الوضوء الصحية كثيرة منها: الحيلولة دون إصابة الجلد بالالتهابات وسرطان الجلد، وقد أجريت دراسات وبحوث بين مجموعة من المسلمين الذي يتوضئون في اليوم خمس مرات، وبين مجموعة من غير المسلمين الذين لا يتوضئون، ووجد أن نسبة إصابة المسلمين بسرطان الجلد والالتهابات اليدوية الجلدية نادرة بل ومعدومة، وأنها كثيرة جداً في الكفار الذين لا يتوضئون، فهذا من إعجاز النبي صلى الله عليه وسلم.
وأيضاً يحول دون إصابة أصابع القدمين بالفطريات، وغسل الوجه يمنع حب الشباب وخشونة البشرة، وقد اهتم الإسلام أيضاً ضمن الوضوء بنظافة الفم وتطهيره، وتجلية الأسنان وتنقيتها عن طريق المضمضة واستعمال السواك عند الوضوء والصلاة وقراءة القرآن، وأكد الرسول صلى الله عليه وسلم ضرورة استعماله لما له من الفوائد المادية والمعنوية، يقول عليه الصلاة والسلام فيما رواه الإمام أحمد في المسند: (السواك مطهرة للفم مرضاة للرب) وفي الصحيحين يقول عليه الصلاة والسلام: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة) وفي رواية: (عند كل وضوء).
والسواك أفضل من غيره من وسائل التطهير، فوسائل التطهير الأخرى -وهي الفرشاة والمعجون- طيبة ولكن السواك أفضل منها؛ لأنه يشد اللثة ويقويها، وفيه مادة حارقة تذيب العوالق الكلسية التي تترسب على الأسنان، وإذا جمعت بين السواك والفرشاه كان حسناً.(95/5)
سنن الفطرة من وسائل الوقاية
ومن اهتمام الإسلام بنظافة الجسم ما شرعه لأتباعه من سنن الفطرة، وهذه غير موجودة في أي أرض إلا عند المسلمين، ففي الصحيحين: (خمس من الفطرة: الختان، والاستحداد -يعني: حلق العانة- وقص الشارب، وتقليم الأظافر، ونتف الإبط)، وهذه فضلات، فمن أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الأشياء لولا أنه رسول من عند الله، وقد وصل الطب في زماننا إلى نظافة متناهية لكنهم يتركون هذه الأشياء فيقعون عن طريقها في أمراض كثيرة.
وإليك تفصيل سنن الفطرة الخمس: الختان: وهو إزالة القطعة اللحمية الموجودة على رأس قضيب الرجل؛ لما يترتب على بقائها من وجود أقذار وأوساخ تأتي عن طريق خروج البول، فحرص الإسلام على إزالتها؛ ليكون العضو قابلاً للتطهير والتنظيف بسهولة، لكن بوجودها تبقى الفضلات، ولذا فأكثر الأمراض الجنسية في العالم موجودة في الأعضاء التناسلية في الرجل والمرأة بأسبابٍ منها وجود هذه القلفة وعدم الختان، أما المسلم فإنه بالختان يجنب نفسه جميع هذه الأمراض، والحمد لله.
الاستحداد: وهو حلق شعر العانة؛ لأن وجود الشعر في تلك المنطقة وقربها من النجاسات، يؤدي إلى نمو بعض الحشرات، ووجود بعض الحبيبات، فلو لم يحلق لترتب على وجود ذلك مفاسد وأضرار صحية.
نتف الإبط: فالإبط منطقة مغلقة دائماً عن طريق إرخاء العضد على الجنب، ويترتب على وجود الشعر في هذه المنطقة صعود روائح كريهة، ثم يصير عفناً، ويترتب على العفن نمو ميكروبات وفطريات وأمراض، فجاء الإسلام وأمر بنتف الإبط.
وأيضاً تقليم الأظافر، فالله أوجد الأظافر لحماية الأصابع، إذ لو لم يكن معك ظفر لما عرفت كيف تعيش بإصبعك، فالظفر له أهمية كبيرة في حماية الإصبع، وفي نفس الوقت تجديد قوتها، وأيضاً الاستعانة على لقط الأشياء به، ولكن إذا طال تجمعت الجراثيم والميكروبات تحته، ثم إذا جئت تأكل انتقلت الميكروبات إلى فمك، وبالتالي إلى جسمك وترتب على هذا مرض، فجاء الإسلام وجعل من الفطرة تقليم الأظافر.
ولكنا نرى أن الناس اليوم يصادمون الفطرة، ويغالبون سنن الله، فتجد بعض النساء إذا رأيتها كأنها قطة -والعياذ بالله- تطيل أظافرها ثم تصبغها بالمادة الحمراء كأنها قطة كانت تخمش لحماً، فتتقزز نفسك من منظرها، ثم أيضاً تضع على شفتيها حمرة حمراء كأنها كانت تلعق الدم، فإذا نظرت إليها قلت: ما هذه القطة التي تخمش بأصابعها وتلعق بفمها؟! هي تبحث عن الجمال والحقيقة أنه قبح؛ لأن الجمال شيء آخر غير هذا، فإطالة الأظافر مخالفة سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
وأيضاً: قص الشارب بحيث يبقى على الإطار؛ لأن إطالة الشارب يؤدي إلى أنك إذا شربت لبناً أو ماءً أو غيره تلوث هذا المشروب بانغماس الشارب فيه؛ لأن شعر الشارب قد يكون محملاً بالجراثيم والميكروبات العالقة في الأجواء أو النازلة من أنفك؛ لأنك عندما تمتخط أو تستنثر تخرج هذه الميكروبات وقد يعلق شيء منها في شاربك، وإذا جئت تشرب وقعت في اللبن أو في الماء أو في المرق وشربته بسبب طول شاربك، فقص شاربك وأعف لحيتك كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم، لكن الناس نكسوا الفطرة، فالنساء قلبن المسألة في أصابعهن، والرجال قلبوا الحكم إلى لحاهم، فحلقوا اللحى وأرخوا الشوارب، ترى شارب الواحد طويلاً تقول: ما هذا؟ قال: شنب، لماذا تطلق الشارب هكذا والرسول يقول: (قصوا الشوارب) (أعفوا اللحى) (أكرموا اللحى) (أرخوا اللحى) (جزوا الشوارب) (أنهكوا الشوارب) لا بد أن تقصه.
فلا إله إلا الله! بل بعضهم مشغول بفتل شاربه، يريده أن يكبر ويقف عليه الصقر، يا أخي! طول الشارب للقطط، فهل تريد أن تتشبه بها أم تتشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول: قص شاربك وأعف لحيتك؟ كما حرم الإسلام وحذر من إهمال تنظيف اليد والفم من الأطعمة ذات الرائحة النفاذة والزهومة كاللحم والسمك، وكره أن ينام المسلم ورائحة الطعام وزهومة اللحم واللبن لا تزال عالقة في يده أو في فمه، يقول عليه الصلاة والسلام والحديث رواه البزار: (من بات وفي يده ريح غمر فأصابه شيء فلا يلومن إلا نفسه) فإذا نمت ويداك فيهما رائحة لحم أو رائحة سمك، أو فمك فيه رائحة لبن أو في يديك، ثم أصابك شيء فلا تلومن إلا نفسك، لماذا؟ قال العلماء: لأن هذه الروائح تجلب الحشرات، وتجلب الآفات والقاذورات، فلهذا عليك أن تنظف فمك قبل أن تنام وتنظف يديك بالماء والصابون إن وجد، وكذلك الأسنان حتى تنام وأنت طاهر، فلا تعرض نفسك لشيء من ذلك.
وشرع الإسلام للمسلم غسل البدن كله ونظافته عند الدواعي التي تفرض ذلك، وجعل الغسل أساساً لا بد منه لممارسة العبادات، ولم يدع الغسل خاضعاً لظروف الإنسان، فقد يتكاسل الإنسان عن الاغتسال ما دامت دواعيه لم تقم، لذلك وقَّت للغسل أوقاتاً، فجعل في كل أسبوع يوماً واحداً وهو غسل الجمعة، والحديث في الصحيح يقول عليه الصلاة والسلام: (غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم) والعلماء يختلفون في كلمة واجب هنا، هل هو الوجوب الفرضي الذي يلزم بتركه الإثم؟ أم أنه وجوب على درجة الاستحباب لأحاديث أخرى؟ والصحيح من أقوال أهل العلم أنه ليس بواجب حتمي ولكنه سنة مؤكدة ومرغب فيه، والدليل ما روى البخاري بعد هذا الحديث؛ أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يخطب فدخل عثمان بن عفان، فلما دخل قطع عمر الخطبة وقال: [أفي هذه الساعة يا عثمان! -تتأخر إلى أن يقوم الخطيب وتأتي- قال: ما هو إلا أن توضأت وجئت -يعني ما اغتسلت- فسكت عمر وسكت الصحابة] قال العلماء: إن عمر لم يأمره بالذهاب ليغتسل، فدل عدم أمره بالاغتسال على أن الأمر ليس للوجوب وإنما للاستحباب فهو مستحب.
أيضاً سن الإسلام الغسل لمن أراد الإحرام، وعند دخول مكة، وعند الوقوف بـ عرفة، وسنه لمن غسل ميتاً، كما فرضه فرضاً عند حدوث الجنابة بالجماع أو بالاحتلام، كما فرضه للتطهر من الحيض أو النفاس، ومما يؤكد حرص الإسلام على النظافة أنه ألزم المسلم بإعادة التطهر بعد الحدث حتى ولو كان الإنسان لا يزال نظيفاً، فمن توضأ ثم انتقض وضوءه بأي ناقضٍ لزمه الوضوء مرة ثانية ولو بعد لحظات، ومن اغتسل ثم وقع منه ما يوجب الغسل، فعليه الغسل مرةً ثانية ولو بعد لحظات، لماذا؟ من اهتمام الإسلام بالنظافة.
أيضاً اهتم الإسلام بنظافة الملبس وحسن المنظر، وكريم الهيئة، وجمال السمت والزي وهو شيء ملاحظ، فقد ألحق الإسلام ذلك بآداب الصلاة فقال عز وجل: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31]، ولفظ المسجد يدل على أن الزينة عبادة يقصد بها رضوان الله، إذ لا يستوي من يتزين للمسجد ومن يتزين للملعب أو للمنتزه، أو للمرقص، فرق بين هذا وذاك: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31] إذ ينبغي لك إذا أردت أن تقف بين يدي الله أن تأخذ زينتك وثيابك الجميلة ذات الرائحة الطيبة، ثم تأتي لتقف بين يدي الله وأنت جميل الشكل طيب الريح حتى لا تؤذي المسلمين، ولا تؤذي الملائكة، ولكن وللأسف فقد قلبت المسألة عند بعض المسلمين؛ فيأتي ليصلي وهو يلبس (بجامة) النوم، ولكنه لا يستطيع أن يذهب إلى الدوام (ببجامة) النوم، ما هو رأيكم لو ذهب شخص إلى العمل وجلس على الكرسي وهو (بالبجامة) ماذا يقول عنه الناس؟ على الفور يحكمون عليه بالجنون، معقول تأتي تداوم (بالبجامة)؟ أين عقلك تأتي ورأسك عارٍ، أما أن يأتي ويصلي ويقف بين يدي الله ورأسه عارٍ و (بالبجامة) فلا أحد يقول له شيئاً، ما هو بمجنون في هذه الحالة، لكن في الحالة السابقة مجنون، يقول تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31] اجعل لصلاتك ثياباً طاهرةً نظيفة تصلي فيها حتى تقف وكأنك الشامة البيضاء.
أيضاً: كان صلى الله عليه وسلم يلبس أحسن الثياب وأجملها وأنظفها، وكانت له حلة جديدة يتجمل بها ويلبسها في الجمع والأعياد، وعند مقابلة الوفود التي كانت تفد إلى المدينة، وقد شوهد مرة وهو ينظر صلوات الله وسلامه عليه إلى ركوة ماء يسوي ثيابه وشعر لحيته، وقد اتخذ من صفحة الماء مرآة فقيل له: وأنت تفعل هذا يا رسول الله؟ يعني: تنظر في المرآة فترى فيها نفسك، فقال: (إن الله يحب من عبده إذا خرج للقاء إخوانه أن يكون حسن الهيئة حسن المنظر) ثم قال: (إن الله جميل يحب الجمال) رواه الإمام مسلم.
وكان صلى الله عليه وسلم يحب الطيب ويقول: (حبب إليَّ من دنياكم الطيب والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة) وكان يكثر من استعماله صلوات الله وسلامه عليه، وكانت أردانه الشريفة تعبق ريحاً عظيماً بالطيب، وإذا مشى انبعثت رائحته الزكية لتعطر الأجواء، يقول جابر رضي الله عنه: [لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يمر في طريق فيتبعه أحد إلا عرف أنه سلك من هذا الطريق] يعرفون أنه مشى من أثر رائحته، إذا جاءوا بعده قالوا: مر الرسول صلى الله عليه وسلم من هنا، وكان الصحابة يعرفون قدومه صلوات الله وسلامه عليه بشم رائحة عطره الذي يسبقه من مسافة بعيدة.
ولقد اجتمع فيه صلوات الله وسلامه عليه الرائحة المادية والمعنوية، أما المادية فحبه للعطر، وأما المعنوية فإنه أكرم مخلوق خلقه الله على وجه الأرض، وكان إذا صافح أحداً بيده ظل طوال يومه يجد رائحة الطيب من مصافحة النبي صلى الله عليه وسلم.(95/6)
نظافة الشعر والثياب من وسائل الوقاية
كان النبي صلى الله عليه وسلم يهتم بتنظيف شعره وتعهده وترجيله، يقول عليه الصلاة والسلام: (من كان له شعر فليكرمه) أي: شعر الرأس، رواه أبو داود، قال أبو قتادة: (يا رسول الله! إن لي جمة أفأرجلها؟ قال: نعم وأكرمها) فكان أبو قتادة ربما يرجل ويدهن جمته في اليوم مرة أو مرتين من أجل قول النبي صلى الله عليه وسلم.
(ورأى رجلاً ثائر الرأس فأشار إليه الرسول إشارة فهم منها أنه يأمره بإصلاح شعره، ففعل الرجل، ثم عاد وهو حسن الهيئة وقد رجَّل شعره، فقال صلى الله عليه وسلم: أليس هذا خيراً من أن يأتي أحدكم ثائر الرأس كأنه شيطان) رواه الإمام مالك.
وقد سمعت واحداً من العلماء -نسأل الله أن يعفو عنه- يستدل بهذا الحديث على حلق اللحية، وهذا استدلال باطل وفهم معكوس؛ لأنه قال في الحديث: جاء رجل ثائر الرأس، يعني: شعره منفوش، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: رجّل رأسك -وذلك لما نظر إليه كأنه أنكر عليه- فذهب الرجل ومشط رأسه ودهنه ورجَّله وجمعه، فلما جاء وإذا به جميل فقال: (أليس هذا خيراً من أن يأتي أحدكم ثائر الرأس كأنه شيطان).
وكان يكره صلوات الله وسلامه عليه أن تقع عينه على رجل رث الهيئة وسخ الثياب وفي إمكانه أن يظهر في زي أفضل وفي صورة مقبولة، روى جابر بن عبد الله قال: (نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى راعٍ لنا يرعى إبلنا) -وتعرفون أن الراعي لا وقت لديه ليغتسل ولا ليغير ثيابه، فهو طوال يومه يطارد الإبل والغنم (وعليه بردان قد بليا وفنيا، فقال: أما له غير هذين؟ قيل: بلى يا رسول الله! له بردان جديدان في عيبة عندنا، قال: ادعه يا جابر! فليلبسهما، فلما ولى الرجل فلبسهما، فقال عليه الصلاة والسلام: ماله ضرب الله عنقه، أليس هذا خيراً من أن يبقى في ثيابه البالية، فسمعه الرجل وهو هناك، قال: يا رسول الله! في سبيل الله -يعني: ضرب الله عنقي في سبيله- قال: في سبيل الله، فاستجاب الله دعوة الرسول وقتل هذا الرجل في سبيل الله شهيداً) اللهم صلِّ وسلم على رسول الله.
ولكن الاهتمام بالنظافة يجب أن يكون باعتدال، فإن الإسلام دين الوسطية والاعتدال، يدعو إلى النظافة، وإلى المنظر الجميل والأناقة، ولكن في غير ما سرف ولا مبالغة وتصنع وتزويق وتلميع.
كما يدعو إلى الاهتمام بالشكل ولكن بعد الاهتمام الأكبر بالمضمون، إذ ليس من الإسلام ما نلاحظه اليوم على بعض الشباب من المبالغة في الملابس، والعناية بالمظاهر والأحذية الفاخرة الغالية، وبالتغييرات المتعددة، والاهتمام بالشكل؛ في حين أهملوا قلوبهم ولم ينظفوها من أدران الشهوات والشبهات والانحراف والضلالات والمعاصي والسيئات.
كما أنه ليس من الإسلام في شيء من يظن أن اتساخ الثياب والملابس ضرب من الزهد والعبادة، وأن الثياب الجميلة والنظيفة تدل على الكبرياء والغطرسة، فهذا ظن خاطئ، فقد روى الإمام مسلم قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرةٍ من كبرٍ، فقال رجل: يا رسول الله! إن الرجل يحب أن يكون ثوبه نظيفاً ونعله حسناً، فقال عليه الصلاة والسلام: ليس هذا من الكبر، إن الله جميلٌ يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس) هذا هو الكبر، وبطر الحق رفضه، كأن جاءك الحق ورفضته فأنت متكبر، والذي يتكبر ويرفض الحق لا يهديه الله، يقول الله عز وجل: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف:146] ويقول: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} [الأعراف:40].
إذا علمت أن غض البصر أمر من أوامر الله، وأن إطلاقه إلى النساء حرام ثم رفضت فقد تكبرت على الله ورددت الحق، فهذا بطر الحق، أما غمط الناس، أي: احتقارهم وازدراؤهم وظلمهم فهذا هو الكبر، أما أن يكون ثوبك جميلاً، ونعلك حسناً، وسمتك جميلاً فليس هذا من الكبر في شيء.(95/7)
نظافة المساكن والبيوت والطرقات من وسائل الوقاية
أما نظافة المساكن والبيوت فقد حث الإسلام على الاهتمام بها والعناية بشأنها، يقول عليه الصلاة والسلام فيما رواه الإمام أحمد: (أصلحوا رحالكم -أي: مساكنكم- ولباسكم حتى تكونوا في الناس كأنكم شامة).
ومن ضمن وسائل الاهتمام بالمساكن إصلاحها وتفقدها، وحسن تصميمها وتهويتها وإضاءتها وتعريضها للشمس، وكنسها وتطهيرها من الحشرات المؤذية، وتخليتها من الفضلات والقمامات، ولقد حذر عليه الصلاة والسلام من كل ذلك كما هو شأن اليهود، يروي البزار في مسنده حديثاً يقول فيه عليه الصلاة والسلام: (إن الله طيب يحب الطيب، نظيف يحب النظافة، كريم يحب الكرم، جواد يحب الجود، فنظفوا أفناءكم وساحاتكم ولا تشبهوا باليهود يجمعون الأكب في دورهم) والأكب: هي الفضلات والكناس والقمامة التي تتجمع في البيت، فبعض الناس عنده زبالة في بيته مجتمعة منذ أسبوع، خاصةً إذا كان (عزوبياً) فيتولد عن هذه التجميعات ميكروبات وفضلات، فالمفروض أن تغيرها مرة في اليوم، أو مرتين في الصباح والمساء؛ لأنه يأتي عليها الذباب والبعوض والحشرات والصراصير، ويترتب على هذا فساد صحتك وتعريضك للمرض.
كما أوجب الإسلام على المسلم المساهمة في نظافة الطريق وعدم إلقاء الفضلات فيها، فليس من الإسلام وأنت ماشٍ أن ترمي المنديل في الشارع، فمن يأتي ويأخذه؟ تقول: البلدية، وأنت ما هو دورك؟ دورك أن تحمي الشارع من هذه الفضلة، فلا ترمِ المنديل، ولا تبصق، وإذا بصقت في منديل فاجعله في جيبك إلى أن تصل إلى القمامة وتضعه فيها، ولا ترمِ علبة (البيبسي) والماء، أو قشور البرتقال أو الموز أو التفاح، لا ترمِ أي شيء من الفضلات في الشارع، لماذا؟ لأن إماطة الأذى عن الشارع والطريق صدقة، ومفهوم الحديث: أن وضع الأذى في الطريق معصية، فأنت تعصي الله بهذا الأمر، ولو أن الناس كلهم فعلوا هذا ما كنا نحتاج إلى البلدية، لكن الله المستعان، شخص يبني وآخر يهدم، والذي يبني يتعب أما الذي يهتم، فإنه يرمي ولا يهمه، يقول:
أرى ألف بانٍ لا يقوم لهادم فكيف ببانٍ خلفه ألف هادم
وإماطة الأذى عن الطريق من الإيمان، يقول عليه الصلاة والسلام: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان) وكان بعض السلف يخرج إلى الأسواق ليس له عمل إلا أن يميط الأذى عن الطريق، فيلتقط المسامير والزجاجات والحجارة والأخشاب، وإذا أخذه قال: لا إله إلا الله، قالوا: مالك؟ قال: أريد أن أجمع بين أعلى درجات الإيمان وشعبه وبين أدناها، يأخذ فيقول: لا إله إلا الله، فيأتي بأعلى شعب الإيمان وهي لا إله إلا الله، وأدنى شعب الإيمان وهي إزالة الأذى عن الطريق.
كما حرم الإسلام البصاق في المسجد والسوق والأماكن العامة ووسائل المواصلات، وفي الطرق التي يغشاها الناس، ففي صحيح البخاري ومسلم يقول عليه الصلاة والسلام: (البصاق في المسجد خطيئة -يعني: معصية- وكفارتها دفنها) والدفن كان كفارة يوم أن كانت المساجد من التراب والرمل، فما هناك وسيلة إلا أن تدفنها، لكن الآن إذا بصق الإنسان على الفراش لا يوجد دفن لها؛ لأن الدفن يؤدي إلى التلويث، ولا بد من إزالتها وغسل الموضع الذي وقعت فيه؛ لأنه سيأتي من يضع رأسه يصلي، وقد يشم بأنفه موقع بصاقك، ويكون في بصاقك ميكروب أو مرض فينتقل إليه وهو لا يدري، فأنت الذي غششته وخدعته؛ لأنه جاء ليؤدي عبادة وأنت أعطيته هذا المرض وهذا الوباء -والعياذ بالله- فلا يجوز للمسلم أن يبصق في المسجد.
كما حرم الإسلام التبول والتبرز في المياه والظل والأماكن التي يجلس فيها الناس ويرتادونها مثل أماكن النزهة، فإذا خرجت إلى مكانٍ فينبغي عليك أن تحرص على أن تترك الموقع مثل ما جئت إليه؛ لأن بعض الناس يأتي ويجلس ويستمتع تحت شجرة أو في مكان أو في منتزه، فلا يقوم إلا وقد ترك المكان وقذراً وملطخاً بكل الأوبئة والأمراض والفضلات -والعياذ بالله- بترك حفاظات أطفاله وقاذوراتهم، وأيضاً فضلات طعامه، لا يا أخي! إذا جاء شخص بعدك ورأى المكان هكذا ماذا يقول؟ يدعو عليك ويقول: الله أكبر عليك! الله يجعلها في وجه هذا الوسخ الذي جلس هنا؛ لأنك يوم أن جئت ووجدت المكان نظيفاً فرحت، ولو وجدته قذراً لانزعجت، فعليك أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك، يقول عليه الصلاة والسلام: (اتقوا الملاعن الثلاثة: البراز في المورد، وقارعة الطريق، وفي الظل) وسميت ملاعن لأنها تسبب لصاحبها اللعنة، إذا جاء واحد وأراد أن يجلس تحت شجرة فتلفت وإذا تحتها نجاسة فماذا يقول؟ يقول: لعن الله من وضعها، هكذا تستحق: (اتقوا الملاعن)، إنه يريد أن يجلس، وإذا بالأذى بجانبه فتسببت في طرده من هذا الموقع، لأنه لا يقدر على الجلوس والأذى بجانبه، الظل ليس لك لوحدك يا أخي! بل هو حق لكل مسلم يستظل فيه، والطريق إذا مشى فيها ماشٍ وهو آمن وإذا برجله تقع في النجاسة، فمن حين يقع فيها وهو يلعن، يقول: لعن الله من وضع هذه، فهذا يستحق: (اتقوا الملاعن الثلاثة) لماذا؟ لأنها تسبب لصاحبها اللعن، كما أن الشخص الذي يتخلى في الطريق العامة والظل يعتبر ساقط المروءة، يؤذي المسلمين، ويستوجب سخطهم، وتتوجه إليه لعائنهم، فقد روى البيهقي في السنن يقول: (من آذى المسلمين في طرقهم وجبت عليه لعنتهم)، والعياذ بالله!(95/8)
نظافة بيوت العبادة والوسائل التي تؤدى بها
ويأمر الإسلام المسلم بأن يتنزه من البول حتى تكون ثيابه طاهرة، ورائحته جميلة؛ لأن عامة عذاب القبر من البول، فإذا جئت تتوضأ فينبغي لك أن تتأكد من انقطاع البول وخُلوِّه وانتهائه، أما أن تسرع ويستمر البول في النزول ويتلوث ثوبك وتسوء رائحتك، وتفسد صلاتك، ويبطل وضوءك، فهذا تعذب به في القبر كما صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال في الرجلين اللذين يعذبان في القبر: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير: أما أحدهما فكان لا يستبرئ من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة بين الناس).
وقد بال أعرابي في المسجد، وكان له كل المبررات في أن يفعل ذلك؛ لأن المساجد جديدة في حياة المسلمين، فقبل الإسلام ما كان هناك مساجد، أما الآن فالحمد لله المساجد نعيشها ونعيش حبها وعظمتها وكرمها في قلوبنا من الصغر؛ لأننا معها من يوم خلقنا، لكن في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم بني المسجد فجاء الأعرابي من الصحراء لا يدري ما هذا المكان، ولا يعرف ما هذا الموقع، فجلس في طرفه وبال كأنه في طرف بيته، فغضب الصحابة غضباً شديداً، وقاموا إليه ليضربوه وليقتلوه، ولكن النبي صلوات الله وسلامه عليه قال: دعوه لا تزرموه، لماذا؟ قالوا: الحكمة تستدعي أن يكمل؛ لأنه لو قام وهو يبول، فسيرش به المسجد كله، وبدل ما كان البول في جزء سيكون في جميع المسجد، أليس من الحكمة أن يكمل في مكانه؟ اللهم صلِّ وسلم على رسول الله.
ثانياً: سيؤدي احتباسه بالبول إلى أن يمرض، فإن الإنسان إذا أخرج البول ثم أمر بقبضه أصبح عنده التهابات، إذ أن هذا الماء المستعد للخروج يتلوث ثم تقبضه فيرجع إلى المثانة ويعمل إجراءات صعبة في المثانة فيحدث بذلك مرض للإنسان.
ثالثاً: يؤدي إلى أنه يكره الإسلام، فيمكن أنه جاء لكي يسلم، لكن من أجل هذا البول يخرج، فلا يرجع أبداً فيدخل النار، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: دعوه، فلما أكمل دعاه النبي صلى الله عليه وسلم وقال للصحابة: (صبوا على بول الأعرابي ذنوباً من ماء) لأن الأرض كانت ترابية، والماء يصب على ظهرها فيمتص النجاسة وتذهب النجاسة إلى باطن الأرض، ليس هناك وسيلة أعظم من هذه الوسيلة، ثم دعاه وقال: (إن المساجد لا ينبغي أن تكون لشيءٍ من هذا، فقال الرجل بعد أن رأى كرم أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم اغفر لي ولمحمدٍ ولا تغفر لأحد معنا) يقول: هؤلاء الذين كانوا يريدون أن يضربوني لا تغفر لأحد منهم فقال عليه الصلاة والسلام وقد تبسم: (لقد حجرت واسعاً) أي: ضيقت واسعا، فمغفرة الله واسعة ورحمته عظيمة.
فهذا من اهتمام الإسلام بالنظافة.
أيضاً: اهتم الإسلام بنظافة المسكن بتركيزه على نظافة المياه وحماية مصادرها من التلوث، وتنقيتها من الشوائب؛ لأن فساد الماء وتلوثه يسبب الأمراض الكثيرة والأوبئة الخطيرة، فمن وسائل الوقاية النهي عن البول في الماء الراكد، فممنوع أن تبول في الماء الراكد، فقد روى مسلم: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه) لأن هذه الفضلات ملوثة، وإذا وضعتها في الماء الراكد انتشرت فيه ثم إذا اغتسلت لوثت نفسك، والعلماء يقولون: ليس معنى هذا جواز البول في الماء الجاري، فإن الماء الجاري أيضاً لا يجوز أن تبول فيه؛ لأنك أيضاً تلوثه ولو كان جارياً، لكن الرسول بينَّ أن الماء الراكد إذا بال فيه الإنسان لا يجوز فيه الغسل؛ لأنه يصير نجساً، أما الماء الدائم الجاري فإنه لو بال فيه أحد لا ينجس ولكن قد يتلوث، ولذا لا ينبغي لك أن تبول في الماء، فإذا أردت أن تبول فبل في المكان البعيد، ثم خذ معك من الماء فاستنج وتطهر، ثم توضأ في الماء الجاري.
ومن أبرز الأمراض التي تنتشر من المياه الملوثة البلهارسيا وحمى التيفود.(95/9)
القضاء على الحيوانات الضارة من وسائل الوقاية
وأيضاً: من استكمال النظافة في المكان القضاء على الحشرات والدواب الضارة، فقد أخرج البخاري ومسلم حديثاً في الصحيحين: (خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور) فالفأر يؤدي إلى انتشار مرض الطاعون، والكلب العقور يؤدي إذا ولغ في ماء وشرب منه أن تصاب بداء الكلب والدودة الشريطية.
وأيضاً روى البخاري عن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: (كان بي أذىً من رأسي، فحملت إلى رسول الله وأنا محرم والقمل يتناثر على وجهي، فقال: ما كنت أرى الجهد قد بلغ بك ما أرى) وأمره أن يحلق رأسه رغم أن حلق الشعر للمحرم لا يجوز، لكن للضرورة فقال: (احلق رأسك) وأمره أن يطعم ستة فقراء، أو يذبح شاة، أو يصوم ثلاثة أيام؛ وهي كفارة لما يرتكبه الإنسان من محظورات الإحرام والتي منها حلق الشعر.
وقد نهى الإسلام عن اقتناء الكلب إلا لضرورة، والضرورة محددة لحرثٍ أو صيد أو ماشية، يقول عليه الصلاة والسلام والحديث في صحيح البخاري: (من اقتنى كلباً فإنه ينقص من عمله كل يوم قيراط، قيل: وما القيراط؟ قال: مثل جبل أحد، إلا كلب حرث أو ماشية) وفي رواية للنسائي وابن ماجة: (أو صيد) وقد ثبت طبياً أن الكلاب تنقل الدودة الشريطية، وأنها لا تموت إلا بمادة كيماوية لا توجد إلا في التراب، يقول عليه الصلاة والسلام: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات إحداهن بالتراب).
ففيه ميكروب يسبب الدودة الشريطية، هذا الميكروب لا يموت لو غسلته بالماء مليون مرة، إلا إذا غسلته بمادة كيماوية، وقد وجدوها في التراب، فإذا غسلته بالتراب فإنه يموت، صلوات الله وسلامه على رسوله.(95/10)
الصلاة من أهم الوسائل الوقائية
من العوامل الوقائية التي شرعها الإسلام غير النظافة: الصلاة، فهي الركن الأعظم بعد الشهادتين، وهي فرق ما بين المسلم والكافر، وهي الصلة التي تربط العبد بالله، وقد شرعها الإسلام لحكمٍ جليلة أهمها العبودية المطلقة والخضوع والتذلل لله، ولكن هذا لا يمنع أن يكون لها أيضاً حكم أخرى من ضمنها الحكم الصحية، فلقد أثبت الأطباء تأثير حركات الصلاة من القيام والقعود والركوع والسجود على العظام والمفاصل والعضلات، مما يحميها من الأمراض ويساعدها على المرونة وخفة الحركة، كما يساعد على تنشيط الدورة الدموية، وعدم احتقان الدماء في الأوردة، كما أن الانزلاق الغضروفي مرض يصيب العمود الفقري، والعمود الفقري: هو عبارة عن حلقات من العظام، بين كل حلقة وحلقة مادة غضروفية، فيحصل أن ينزلق العظم من مكانه فيترتب على هذا ضغط على النخاع الشوكي الموجود في هذه الحلقات، فإذا ضغط عليه أحسست بألم شديد لا يعلمه إلى الله، يسمونه المشع، أو ألم الظهر، هذا إذا جاءك، حتى النفس إذا تنفست أحسست أنك تتنفس من ظهرك، وإذا عطست أو سعلت أو تحركت أو تكلمت تحس بهذا الألم الشديد جداً، هذا الانزلاق الغضروفي أجريت حوله دراسات كثيرة فوجد أنه لا يصاب به إلا الذين لا يصلون، أما الذين يصلون دائماً ويقومون ويقعدون ويركعون ويسجدون فإنهم من النادر أن يصابوا به.
كما أن أداءها في مواعيدها له أكبر الأثر على صحة القلب وقوته وحمايته من حدوث الأمراض الخطيرة؛ مثل انسداد الشرايين، أو الذبحة الصدرية التي يسمونها موت الفجأة.(95/11)
من وسائل الوقاية: الصيام
أما الصيام فما أدراك ما الصيام؟ الصيام عامل عظيم في الوقاية الصحية شرعه الله وفرضه، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] وفوائده الصحية أكثر من أن تحصر، ولن نتحدث عنه في هذه الليلة، فإن أمامنا فرصة إن شاء الله قبل رمضان للحديث عن الصوم في كل أحكامه وشئونه، وهو علاج فعال للأمراض الناتجة عن خلل التمثيل الغذائي؛ مثل السمنة والروماتيزم العضلي والمفصلي، وعلاج الأمراض الناتجة عن ضيق الشريان التاجي، وارتفاع أو انخفاض ضغط الدم، وعلاج الأمراض في الجهاز الهضمي مثل النزلات المعدية والمعوية، ومثل أمراض الكبد والمعدة، يقول طبيب غربي وهو لا يعرف الإسلام، يقول: إن الامتناع عن الطعام شهراً واحداً في السنة يقضي على الفضلات الموجودة في الجسم لمدة سنة، تصوم شهراً فتقضي على فضلات بدنك سنة، فإذا أردت أن تتحقق لك هذه الفوائد فلا بد من الصيام الشرعي، وسوف نتكلم عنه إن شاء الله في الندوة المقبلة بإذن الله.(95/12)
من العوامل الوقائية: تجنب المحرمات والفواحش
أيضاً من العوامل الوقائية: تحريم الإسلام للفواحش ومنها الزنا، واللواط، والعادة السرية، ومواقعة الزوجة أثناء الحيض أو أثناء فترة النفاس؛ لما يسبب الزنا لمرتكبه من الأمراض الخطيرة التي تفتك بالجسم، وتقوض الصحة وتقضي على الإنسان، ومنها مرض الزهري؛ وهذا مرض خطير -والعياذ بالله- وأعراض هذا المرض: ظهور طفح جلدي وقروح على الأعضاء التناسلية، وشعور الإنسان باستمرار بصداع، ثم تتفقع هذه القروح وينتقل منها شيء إلى جدار الفم والأنف واللسان من الداخل، ثم يتزايد المرض حتى يصاب بالتهاب في الكبد والعيون والمفاصل، ثم يصاب الغشاء السحائي الذي يغطي النخاع في الدماغ، والدماغ والنخاع الشوكي يصاب بالشلل وتدهور القوى العقلية، هذا بالنسبة للزهري.
أيضاً: مرض ثانٍ يصيب صاحبه عن طريق الزنا واللواط: وهو السيلان؛ وهو مرض يصيب المجاري البولية للرجل والمرأة، وأعراضه شعور بحرقان شديد عند التبول، ثم إفرازات ومواد صفراء، ثم أمراض، ثم وباء -والعياذ بالله- يقضي على الإنسان.
أيضاً: من الأمراض التي تنتشر عن طريق العلاقات الجنسية المحرمة كالزنا واللواط والعادة السرية: الهربز أو الهربد، وهو مرض ينتج عن الزنا، وأعراضه ظهور قروح كثيرة على الجهاز التناسلي للرجل والمرأة، وآلام عظيمة عند ممارسة الجنس، ويؤدي إلى الإصابة بالسرطان وهو مرض معدٍ، والعياذ بالله! يقول أحد الأطباء: لو تمنى إنسان أن يوجد الله مرضاً يقضي على الناس لتمنى الهربز، نعوذ بالله منه.
أيضاً: من الأمراض الخطيرة التي ظهرت في هذا الزمان وهي نتيجة إدمان الناس على المعاصي في الزنا واللواط: مرض الإيدز؛ وهو جندي سلطه الله على الأمم الكافرة، وأرهب الله به دول الشرق والغرب؛ وهو فيروس صغير لا يرى بالعين المجردة، وهو عبارة عن فقدان الجسم للمناعة، فيقضي على المناعة في جسمك؛ لأن الله أوجد فيك قوى لتحارب الأمراض، حتى إذا دخل فيك أي ميكروب تقضي عليه هذه القوى في كريات الدم البيضاء، لكنَّ هذا الإيدز يقضي على كريات الدم البيضاء، ويبقى الإنسان غير قادر على مقاومة أي مرض، وبالتالي فهو مهدد بالموت في كل لحظة.
أما اللواط -والعياذ بالله- فهو رذيلة من الرذائل وجريمة من الجرائم، دمَّر الله من عملها أعظم تدمير، وهو من الأمراض الخطيرة.
وأما العادة السرية فهي أيضاً شبيهة بهذا، والأطباء يحذرون منها؛ لأنها خطيرة وذات آثار بعيدة على الإنسان وصحته وقوته وإنجابه للأطفال في المستقبل، فإن الذي يمارس العادة السرية وهو شاب إذا تزوج يكون غير قادر على الإنجاب؛ لأنه استنفد جميع قواه وحيواناته المنوية عن طريق يده، فإذا تزوج لم يكن قادراً على الإنجاب، أو إن أنجب فينجب أولاداً ضعفاء هزيلين؛ لأن عوامل الحياة فيهم ضعيفة جداً لضعف الحيوانات المنوية التي يفرزها.
كذلك حرم الإسلام جماع الحائض والنفساء؛ لأن ذلك يؤدي إلى أضرار بليغة؛ يقول الله: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً} [البقرة:222] فالحيض والنفاس دماء عفنة قذرة ذات روائح كريهة مملوءة بالجراثيم، فإذا أتى الرجل زوجته وهي حائض أو نفساء أدى هذا إلى إصابته وإصابتها بالأمراض الخطيرة التي منها الإيدز، ومنها الهربز والسيلان والزهري، والله تبارك وتعالى يقول: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222] وليس معنى عدم إتيان المرأة الحائض ألا تقربها، إنما يعني: ألا تأتيها في الجماع المباشر أو الوطء، أما الاستمتاع بها في غير ذلك فإنه جائز، تقول عائشة رضي الله عنها: (كنت أَتَّزر ثم آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيباشرني وأنا حائض) والمباشرة معناها: الاستمتاع بالمرأة دون الفرج، أما الوقوع في الوطء عن طريق الجماع وهي حائض أو نفساء فإن هذا حرام ولا يجوز، ومن عمله فقد عصى الله وعليه أن يتوب إلى الله، ويلزمه كفارة، والكفارة صدقة فيما يعادل خمسين ريالاً.(95/13)
ومن العوامل الوقائية: تجنب الأطعمة والأشربة المحرمة شرعاً
أيضاً من العوامل الوقائية: أن الإسلام حرم على المسلمين بعض الأطعمة والأشربة لآثارها البيئية، وأضرارها الصحية على الإنسان، فحرم الخمر والدخان والمخدرات والشيشة، فقد أجرت جامعة الملك عبد العزيز دراسة ميدانية عن مرض اسمه: إيدز الكبد، والكبد يصاب بالتهابات عن طريق فيروس كبدي اسمه فيروس
الجواب
أو B عنيد أو خبيث، إما أن يؤدي إلى مرض السرطان، أو يؤدي إلى مرض غير السرطان، وهذا الفيروس ينتشر عن طريق الشيشة والدخان، فحرم الله كل هذه حماية لصحتك.
فالمخدرات والخمور تضر بصحتك، وتقضي عليك، والدخان يضرك صحياً ويقضي على رئتك، والشيشة والجراك والشمة، والقات، والحشيش، والإفيون؛ كل هذه الخبائث حرمها الله لضررها المادي والعقائدي والنفسي على الإنسان.
كما حرم الله بعض الأطعمة مثل الميتة، فإن الميتة إذا ماتت وبقي الدم فيها واحتقن تسمم، فإذا أكلتها بدمائها حصل لك ضرر، والدم ولحم الخنزير محرمان لما فيهما من قذارات.
هذه الوسائل الوقائية التي جاء بها الإسلام كعوامل تقي الإنسان من الوقوع في المرض، فإذا عملها الإنسان فإنه جدير بإذن الله بأن يكون محمياً، ومع هذا فقد يبتليه الله بالمرض؛ لأن المرض إذا جاءك وأنت على الإيمان كان تكفيراً لخطاياك، ورفعاً لدرجتك، يقول الله عز وجل: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:155 - 157].
والمرض يكفر الله به الخطايا، يقول عليه الصلاة والسلام: (إن من الذنوب ذنوباًَ لا تكفرها الصلاة ولا الصيام، ولا يكفرها إلا طول البلاء، ولا يزال البلاء بالمؤمن حتى يسير على الأرض وما عليه خطيئة).
والله يبتليك بالمرض ليعرفك وليعلمك في ميدان الواقع -وإلا فهو يعلم العلم الأزلي- مدى صبرك وتحملك، هل أنت عبد عافية وضراء، أم عبد عافية فقط؟! لأن من الناس من هو عبد عافية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11].
وكما أن الله يبتليك بالمرض من أجل أن يشعرك بعظم النعمة، فإن النعمة لا تعلم إلا عند فقدها، فلا تعرف نعمة العافية إلا إذا أتاك المرض، ولا تعرف نعمة الحرية إلا إذا سجنت، ولا تعرف نعمة الشبع إلا إذا جعت، ولا تعرف نعمة السيارة إلا إذا مشيت، ولا تعرف نعمة البيت إلا إذا بت في الشارع، لكن إذا استمرت النعم زال مفهومها منك، فالله يسلب منك النعمة ويجلب لك المرض من أجل أن تدعوه، ومن أجل أن تشكره على العافية التي عشت فيها سنين طوالاً، ومن أجل أن تصبر فيرفع الله درجتك ويكفر خطيئتك؛ لأنه: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80] هذا المجال الأول وهو المجال الوقائي.(95/14)
الإعجاز النبوي في الجانب العلاجي
أما المجال العلاجي فهو عظيم، ومظهر من مظاهر الإعجاز النبوي الكريم صلوات الله وسلامه على رسوله، فلقد وضع الإسلام قاعدة صلبة ينطلق منها البحث العلمي والجهد المتواصل الدائم من أجل الوصول إلى أسباب الداء والعثور على الدواء، فقد أمر الإسلام بالتداوي؛ لأن التداوي لا ينافي التوكل؛ بل هو عين التوكل، فإذا مرضت وقلت: أنا لن أتداوى توكلاً على الله، نقول: هذا ليس توكلاً بل هو تواكل، عليك أن تتداوى وتداويك هو التوكل، فالذي جاء بالناقة إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا رسول الله! أطلقها وأتوكل، قال: لا، اعقلها وتوكل) فتداو وتوكل، أما ألا تتداوى وتتوكل فهذا تواكل، وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالتداوي، فقد روى الإمام أحمد حديثاً صحيحاً قال: (تداووا عباد الله! فإن الله لم يضع داءً إلا وضع له شفاءً، إلا داءً واحداً هو الهرم) وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل للهرم دواء؟ لا.
فلو كان هناك دواء لمرض الهرم لاكتشفوه، لكن ليس له دواء، يبلغ الهرم سن الثمانين أو التسعين وعنده أموال وأولاد ومنصب وملك، لكن يترهل جسمه، وتتساقط أسنانه، وتضعف حواسه، وتصبح عينه لا ترى، وأذنه لا تسمع، وعضلاته وعظامه لم تعد تقوى على شيء، ثم يموت، ما رأيكم لو أن هناك دواء للهرم يرد الواحد شاباً هل سيبقى خافياً؟ لا.
لكن لا دواء للهرم بنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فما أنزل الله من داء إلا وله دواء إلا داءً واحداً هو داء الهرم، ثم إن إقرار الرسول صلى الله عليه وسلم بأن لكل داء دواء يفتح باب الأمل أمام المرضى أن هناك أملاً في الشفاء، وأمام الأطباء أن هناك أملاً في أن نجد الدواء، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما أنزل الله من داءٍ إلا وأنزل له دواء، علمه من علمه، وجهله من جهله)، وهذا يفتح باب الأمل عند المريض فمهما مرض يقول: عندي أمل أن الله يكتب لي دواء ويكتشف، وعند الأطباء أنه إذا ما بحث الأطباء والخبراء فعندهم أمل أنهم لا بد أن يأتوا بهذا الدواء، لكن إلى الآن ما عرفوه، وسوف يعرفونه بإذن الله، إلا داء واحداً هو الهرم.(95/15)
وجوب التداوي وسلوك طرقه المشروعة
أيضاً من العوامل العلاجية: أن الإسلام جعل التداوي واجباً دينياً، وذلك للوقاية؛ لأن العلاج للمريض معناه تجنيب غيره من المرض، لكن إذا تركنا المريض بغير علاج فكأننا نسوغ للمرض أن ينتقل من هذا إلى آخر، فإذا قضينا على المرض عند شخص أفضل من أن نقضي عليه عند عشرة، ولقد كان صلى الله عليه وسلم يصف الدواء للمرضى بنفسه صلوات الله وسلامه عليه.
أخرج البخاري ومسلم في الصحيحين: (أن رجلاً اشتكى بطنه، فجاء أخوه يشتكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اسقه عسلاً، فسقاه عسلاً فزاد، فجاء الرجل وقال: يا رسول الله! سقيته عسلاً فزاد، قال: اسقه عسلاً الثانية، فسقاه عسلاً فزاد، فجاء وقال: يا رسول الله! زدناه عسلاً فزاد، قال: اسقه عسلاً ثلاث مرات، صدق الله وكذب بطن أخيك، فسقاه الثالثة فبرئ).
يقول ابن القيم: إن الدواء لا ينفع إلا بأمرين: الأمر الأول: الوقت.
الأمر الثاني: الجرعة.
فالأول أخذ جرعة واحدة ما تكفيه لإيقاف الداء، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: أعطه جرعة ثانية ثم ثالثة؛ فأعطاه الجرعة الثالثة فوقف الداء، لكن بعض الناس عندما تقول له: خذ عسلاً.
فإذا أخذه مرة قال: ما شفيت، بينما يذهب إلى الأطباء فيعطونه (كرتوناً) من الحبوب، حبة صباحاً وحبة ظهراً وحبة مساءً، ويداوم عليها، ويقولون له: إذا لم تأخذ العلاج بانتظام فلن تستفيد.
والجرعة مهمة في الدواء، بعض الناس يذهب إلى الطبيب ويأخذ كرتون الأدوية ويأخذ حبتين وبعدها يرمي بالباقي، مابك؟ قال: قد أخذت الحبوب وما استفدت، لا بد من مواصلة العلاج، كذلك الطب النبوي، عليك إذا أخذت عسلاً أن تأخذه باستمرار في مقدار الجرعة وفي وقت التداوي حتى تشفى بإذن الله تعالى.(95/16)
العسل والحبة السوداء من أفضل الأدوية
من أعظم الأدوية للعلاج البطني العسل، فالعسل شفاء بإذن الله، لكن ليس من كل داء بل من بعض الأمراض يقول الله عز وجل: {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل:69] وقد ينفع في أمراض ولا ينفع في أخرى، ولكن الذي ينفع من كل داء إلا الموت أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح وهو الحبة السوداء، يقول عليه الصلاة والسلام: (عليكم بهذه الحبة السوداء فإنها شفاء من كل داء إلا السام) يعني: الموت، والتداوي بالحبة السوداء أو بالعسل يقتضي منك الاستمرارية، ومعرفة مقدار الجرعة بالتجارب، حتى يشفيك الله سبحانه وتعالى؛ لأنها سبب، وأما الاعتماد فيجب أن يكون على مسبب الأسباب، وعلى الذي ينزل العافية وهو الله تبارك وتعالى.(95/17)
واجبنا نحو نعمة العافية
أيها الإخوة! إننا بهذا العرض الموجز نقف أمام صورة باهرة، ومعجزة من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، ومن دلائل رسالته صلوات الله وسلامه عليه تشمل العديد من الصور، وهي أيضاً تعطينا وتفرض فينا القيام بالعديد من الواجبات التي أهمها: أولاً: أن نشعر بأن العافية والصحة نعمةٌ من نعم الله يجب أن نشكر الله عليها، فإذا نمت في فراشك، واستلقيت على سريرك، وتذكرت كم جهازاً يسير فيك، ثم تذكرت عروقك ودماءك ومفاصلك وعظامك وأسنانك، وأجهزتك السمعية والبصرية والتنفسية والهضمية والعظمية والدموية، وكلها تعمل، فتعرف نعمة الله عليك، ما ظنك لو آلمك ضرس، أو اختلج فيك عرق، أو ضرب عليك مفصل، أو أصابك التهاب في عينك؟! فاشكر الله يا أخي! على نعمة الإسلام، ثم انتقل ببصرك إلى زوجتك وأولادك وإخوانك، واعرف نعمة الله عليك.
وإذا أردت أن تعرف النعمة أكثر فاذهب إلى المستشفيات، فإذا زرت مريضاً فانظر في الأقسام: كم تجد من مريض ومتأوه ووجيع، كم تسمع من الصياح، وأنت لا تئن ولا تصيح ولا تتشكى بل أنت معافى، فاشكر الله على نعمته! ثم من شكر الله على نعمة العافية أن تستعمل هذا الجسد في طاعة الله، فإذا أتى وقت الفريضة فلا تنم يا أخي! بل قم إلى بيت الله، واستخدم هذا البدن في شكر المنعم الواهب لك هذه النعمة، فإن الله عز وجل وهبك النعمة وطلب منك أن تصرفها في طاعته تبارك وتعالى.
ثانياً: أن تعلم أن صحتك هذه أمانة في عنقك يجب أن تستخدمها في طاعة الله، ثم أن تعلم أن صحة المجتمع كله أمانة في عنقك فتسعى في حمايته ووقايته من انتشار الأمراض باتباع وسائل الوقاية ووسائل العلاج.
ثم لتعلم أن النظافة تقف حصناً حصيناً في مقدمة الحصون التي نحمي بها أجسامنا ومجتمعاتنا من الأمراض والأوبئة.
وقد أمر الإسلام بالتداوي للقضاء على المرض ووقف انتشاره لكن بالحلال، إذ لم يجعل الله شفاء الأمة فيما حرم عليها، فلا يجوز التداوي بالشركيات عند الطبيب الذي يسمونه طباً عربياً، ولا بشرب الخمور، ولا بلبن بعض الدواب أو البهائم كمن يشرب لبن الأتان.
فقد جاء شخص يسألني قال: هل يجوز شرب لبن الأتان؟ قلت: لماذا؟ قال: يقولون: إنه ينفع من السعال الديكي، قلت: كذب، وإن حصل فإن الله سيشافيه ولو لم يشرب لبن الأتان؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها) فما دام لبن الأتان حراماً فلا شفاء فيه، فلا ينبغي لك أن تشربه، ثم إذا شربت لبن الأتان فربما تتخلق بأخلاق الحمير، وينبت لحم ولدك مثل الحمير! وهذه مصيبة ولا حول ولا قوة إلا بالله!! وأخيراً أيها الإخوة! هذه هي الخطوط الرئيسية والأسس العامة التي وضعها الإسلام للحفاظ على صحة الإنسان التي هي أعظم ما يمكن أن يصل إليه العقل البشري، وما ذلك إلا لأنه تنزيل من حكيم حميد، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فنشهد أن لا إله إلا الله، ونشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، بلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، فجزاه الله عن أمته أفضل ما جزى نبياً عن أمته، وصلوات الله وسلامه عليه.
ونسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يحشرنا في زمرته، وأن يجعلنا ممن يرد حوضه، وممن يراه في دار الكرامة، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وسوف نجيب على بعض الأسئلة باختصار.(95/18)
الأسئلة(95/19)
حكم زواج رجل بأخت أخيه من الرضاعة
السؤال
خطبت ابنة عمي فقالوا لي: لا بأس، إلا أنهم ذكروا أنه وقع رضاع ولا بد من الفتوى، فقلت: وما هو؟ قالت زوجة عمي -أعني: أم البنت-: إنها أرضعت أخي الأكبر وأختي الكبرى، إلا أنها لم ترضعني أنا، والبنت التي أرغب الزواج منها بنت عمي لم ترضع من أمي أنا، فهل يجوز لي أن أتزوج بتلك البنت، مع العلم أن لي أخاً من الأم سبق وأن تزوج من عند عمي؟
الجواب
يجوز لك أنت أن تتزوج من ابنة عمك ما دمت لم ترضع من أمها، ولم ترضع هي من أمك، وما دام الرضاع حصل من أخويك الكبيرين، وسواء كانا كبيرين أو صغيرين؛ والولد الذي رضع أصبح أخاً لهذه البنت وولداً لأبيها ولهذه المرأة، وأخاً لجميع الأولاد الذين رضعوا من هذه المرأة والأولاد الذين هم من صلب ذلك الرجل، أما إخوانه الكبار أو الصغار فلا علاقة لهم، وأنت أخوه لا علاقة لك؛ لأن الرضاع إنما يلزم الراضع ولا ينتشر إلى الإخوة.(95/20)
حكم استئجار عمال كفرة
السؤال
عندي عمال أجانب أمرتهم بالصلاة فقالوا لي: إنهم صلوا ولم يجدوا من ذلك فائدة، وحاولت إرشادهم ولكن دون جدوى، وقلت لهم: لا تحلقوا لحاكم فقالوا: وهل ذلك حرام -أي: لما قلت لهم: لا تحلقوا لحاكم فإن ذلك حرام، قالوا: من قال: إن ذلك حرام- قلت: كتاب الله وسنة رسوله، قالوا: من رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو لا يحلق لحيته فخشيت أن أستمر معهم -وفعلاً لو استمررت لوصلت إلى أكثر من هذا- فما حكم ذلك؟
الجواب
أولاً: لا يجوز لك أن تبقي هؤلاء العمال معك؛ لأنهم كفار، والكافر لا يبقى معك، ولا يجوز أن يعمل لك ويجلب لك مالاً، وإذا دخلت عليك أموال من طريقهم فالذي تأكله من وراء أيديهم حرام عليك -والعياذ بالله- وموادّة الكافر حرام: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة:22]، بل عليك ترحيلهم الليلة، فما يمسي الليلة أو غداً إلا وقد عملت لهم خروجاً، وأسأل الله ألا يردهم، وإذا أتاك عامل وأنت في بلدك فاشترط عليه: الصلاة والدين والإيمان، فإذا وافق فليأت، وإذا لم يوافق فلا تقبل، أما من يأتي بالكفار -بعضهم لا يأتي بمسلمٍ؛ بل يأتي بكافر أو نصراني والعياذ بالله- فهذا قد ارتكب محرماً؛ لأنه لا يجوز أن يبقى الكافر في جزيرة العرب لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يبقى في جزيرة العرب دينان) فلا يبقى إلا دين واحد.(95/21)
حكم زكاة الغنم التي لا ترعى وإنما تعلف
السؤال
لي غنم تبلغ نصاباً، وهي في شبك وأنا أشتري الشعير والأعلاف لها، فهل عليَّ فيها زكاة؟
الجواب
إذا كان الكلام كما ذكرت من أن غنمك في الشبك وأنها لا ترعى لحظة واحدة، وإنما تعلفها باستمرار فإنه لا زكاة عليك فيها، إنما الزكاة في السائمة التي ترعى الحول أو أكثره، أما إذا كانت معلوفة فلا زكاة فيها، أما إذا كانت ترعى وتعلف، يعني: ترعى في الصباح قليلاً وتعلفها بقية النهار، أو ترعى في بقية النهار؛ لأنك في الدوام وفي الصباح تعلفها فهذه فيها زكاة؛ لأنها رعت، وإذا رعت جزءاً من النهار فهي سائمة وعليك الزكاة فيها.(95/22)
أخ يطلب الدعاء من الشيخ لصديقه
السؤال
أحد الإخوة من أهل هذه المجالس -رجل صالح ولا نزكي على الله أحداً- وقع له حادث مروري مرعب، وهو الآن في غرفة الإنعاش وفي حالة لا يعلمها إلى الله، وابنته معه، نرجو منك الدعوة له بالشفاء العاجل ولابنته، وهؤلاء الإخوة الصالحون يؤمنون على دعائك؟
الجواب
نسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يشفي هذا الأخ الكريم، وأن يشفي جميع مرضى المسلمين إنه ولي ذلك والقادر عليه، اللهم عجل له بالشفاء يا رب العالمين.(95/23)
حكم التصوير
السؤال
سمعت فتوى، أو سمع بعض الإخوة فتوى تجيز التصوير (بالكاميرا) فأخذوا يتصورون مع أقرانهم في الرحلات، وقد سألت بعض الإخوة وهم يدعون الالتزام فقالوا: إن هذا للتسلية؟
الجواب
التصوير في الأصل محرم بالأدلة التي جاءت في أكثر من حديث: (لعن الله المصورين) (المصورون يؤخذون يوم القيامة على شفير جهنم يؤمرون بنفخ روح ما صوروا) هذا في الأصل، ثم وقع خلاف بين العلماء في التصوير الفوتوغرافي، يعني: هل ما يتم تصويره بالكاميرا حرام؟ فمعظم العلماء المحققين يقولون: إنه حرام؛ لأنه بفعل الإنسان، فكأن الإنسان يمسك الريشة ويصور، فكذلك هو يمسك الكاميرا والعدسة ويضبط ويضغط ويطبع ويحمض ويلون، هذا هو تصوير، وبعض العلماء قالوا: لا.
إنه ليس بتصوير وإنما هو حبس للظل، فأنت ما صورت وما أبدعت إنما أمسكت شيئاً خلقه الله وثبتَّه في هذه الورقة، والمعتدلون الذين يجمعون بين الأقوال يقولون: إن التصوير إذا كان للضرورة فلا بأس، فإذا كان التصوير الفوتوغرافي للضرورة في الأمن، أو لمعرفة هويات الناس عن طريق البطاقة، أو عن طريق التابعية، أو الجواز، أو رخصة المرور، أو الضرورة الدعوية مثل: تصوير المحاضرات الإسلامية بالفيديو والاحتفاظ بالشريط ونقله إلى البيوت والأسر لتكراره والاستفادة منه؛ فهذه ضرورة، إذ لو لم تصور هذه الكلمة لذهبت ونسيها الناس، وإذا كنا نقول للناس: لا تستعملوا الفيديو، ولا تشغلوا الأشرطة فيه، فإنه ينبغي أن نوجد البدائل لهم، والبدائل هي الأشرطة الإسلامية، فهذه ضرورة، يبقى فيها محذور الصورة، لكن ما دامت فيها مصلحة راجحة فنحن نغلب المصلحة على الضرر الآتي منها ونستغفر الله تعالى.
فإذا كانت القضية للضرورة فلا بأس، أما للذكرى والرحلات، وللاحتفاظ بها في الألبوم وأنت تعرف أن فيها لعنة، فماذا تتذكر يا أخي؟ تتذكر لعنة الله، بعضهم يقول: أصور ولدي وهو صغير حتى إذا كبر أريه صورته يوم أن كان صغيراً، وأتصور أنا وزوجتي في ليلة عرسي حتى إذا شبنا نقول: انظروا كيف كنا تلك الأيام.
ماذا تنظر يا أخي؟ والله ما تتذكر إلا العذاب واللعنة والسخط.
يا أخي المسلم! لا تتصور إلا إذا أكرهت واقتضت الضرورة ذلك، فنسأل الله أن يعفو عنك بذلك.(95/24)
حكم هجر قاطع الصلاة والعاصي
السؤال
يا شيخ من يدخن ويخزن ويأكل الشمة، ولكن إذا رآني أطفأ السيجارة وخبأ الشمة، وصلَّى، والله يعلم إذا أتيت من أبها يخبرني الإخوة بأنه لا يصلي إذا ذهبت، وإذا قابلته قابلته ببشاشة وأسلِّم عليه وأفرح معه وأمزح، فهل أستمر في الكلام معه، أم أهجره؟
الجواب
لا يا أخي! لا تهجره ما دام يستحي ولا يبارزك بالعظيمة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم -والحديث في صحيح البخاري وصحيح مسلم - يقول: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين) فالمجاهر المعاند الذي يعاندك بالمعصية، لكن ما دام يستحي إذا رآك فيترك المعصية فهذا فيه خير إن شاء الله، ولكن عليك أن تدعوه إلى الله، أما إذا هجرته فإنه سيستمر على ما هو عليه، إلا إذا كان هجره يمنعه من الوقوع في المعصية فلا بأس.(95/25)
حكم زواج الشغار
السؤال
ما حكم زواج الشغار، وإذا كان الطرفان متراضيين من ناحية الزوجات وبدون مهر أو مع المهر، وإذا أراد أحد الطرفين أن يشترط أو دون أن يشترط، نرجو منكم التوضيح في جميع الأحوال في هذا، وإذا زوج أحد الأخ بمهر خمسين ألفاً وبعد سنة أو سنتين أراد المزوج أن يخطب عند رحيمه فما الحكم؟
الجواب
الشغار: هو زواج رجل بامرأة بشرط أن يزوجه الآخر محرمه، هذا هو الشغار، مثل أن آتي إلى الرجل فأقول: أريد ابنتك، قال: حسناً! لكن بشرط أن تعطيني ابنتك، قلت: لا بأس، فهذا شغار حرام، ونكاح باطل، والأولاد أولاد سفاح والعياذ بالله، حتى لو سمينا المهر وقلنا: هذه لها خمسون وهذه لها ستون، وهذه راضية وهذه راضية فهذا لا يصلح، ما دام أن فيه شرطاً فلا يجوز، لكن رجلٌ تزوج من إنسان وزوجه ابنته وانتهى، وبعد ما تداخلوا عرفوا أن عندهم بنتاً، فقال: ما رأيك نخطب فلانة لفلان؟ فهذا ليس فيه شيء؛ لأنه لم يشترط في العقد الأول، وإن كان الأفضل للإنسان ألا يتزوج بهذه الطريقة، يعني: ليس حراماً لكن الأفضل؛ لأن هذا يؤدي إلى وجود قطيعة، إذا تزوجت من إنسان ثم بعد فترة حدث خلاف بينك وبين زوجتك وذهبت إلى أهلها، فإن أهلك سيأخذون زوجة ذاك الولد، يقولون: تعالي حتى يردها، فيكون كالقضاء للسلف، ما ذنب هذه؟ ليس بينها وبين زوجها مشكلة لكن من أجل أخيها فتقول: ما أقعد عندكم وزوجة أخي عندكم، أرجعوا زوجة أخي وإلا ذهبت إلى أهلي، فتصير مشكلة، فالأولى أن تأخذ أخرى.(95/26)
الشهداء سبعة
السؤال
يقول: إني أحبك في الله -نسأل الله عز وجل أن يجعل حبنا وحبك في الله- لي صديق ذهبت إليه قبل مدة ونصحته، وقبل نصيحتي واستجاب لها واغتسل -كأنه ما كان يصلي- وغيَّر ملابسه وخرج معي إلى محاضرة لك في هذا المسجد، يقول: وحضرنا المحاضرة وبعد ما انتهت المحاضرة خرجت أنا وهو إلى البيت وتعشينا في البيت وقال: عليك أن تمر علي في كل ندوة، وانبسط الولد جداً وتاب إلى الله، وبعد ما ذهبت إلى بيتي وتركته لمدة لأنني كنت مشغولاً بقراءة القرآن؛ وذلك أنني كنت حديث عهد بتوبة فقلت: أقوي إيماني بالقرآن، وذهبت إليه بعد شهر وأخذته معي لزيارة بعض الإخوة في الله، وقلت له بأني سوف آخذه إلى العمرة في آخر الأسبوع إذا لم ينزل معي أهلي، فذهب أهلي معي وذهب هو مع بعض الزملاء الطيبين إن شاء الله ليلحقنا إلى العمرة، وصدم ثلاثة جمال في الطريق وتوفي وهو ذاهب إلى العمرة -نسأل الله أن يغفر له {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء:100]، انظروا النهاية الطيبة لهذا الشاب- يقول: فمات هو وبقي صاحبه فهل يعتبر شهيداً أم لا؟ علماً: أنه مات بإحرامه، وكان ينوي الذهاب إلى العمرة أفيدوني أفادكم الله؟
الجواب
هذا يبعث يوم القيامة محرماً وملبياً، فالناس يخرجون ويصيحون وهو يقول: لبيك اللهم لبيك، هذا نسأل الله أن يكون شهيداً؛ لأنه ورد حديث في مسند الإمام أحمد وفي سنن أبي داود والسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الشهداء سبعة: القتيل في سبيل الله شهيد والمطعون شهيد -المطعون الذي يصاب بالطاعون-، والغريق شهيد، وصاحب ذات الجنب شهيد -الذي يأتي مرض اسمه داء الجنب تلصق الرئة في الجنب هذا- والمبطون شهيد) الذي يأتيه إسهال في بطنه حتى يموت ويسمونها الكوليرا، وهي داء يصيب البطن فيحدث عند الإنسان إسهال حتى يموت (وصاحب الحريق شهيد، والذي يموت تحت الهدم شهيد، والمرأة تموت بجمع شهيدة) بجمع يعني: تموت وهي حامل ويموت جنينها في بطنها، فلم تكن هناك عمليات جراحية وقيصرية وفتح بطن، فهذه شهيدة، وهذا المتردي بالسيارة يدخل ضمن من يموت بهدم، فإن البيت إذا انهدم على صاحبه فمثله السيارة إذا وقعت عليها كارثة وانهدمت بفعل صدامها بجمل أو بسيارة أخرى أو بغيره، نسأل الله أن يجعله في عداد الشهداء، ولكن متى يكون شهيداً أيها الإخوة؟ إذا كان صالحاً، أما إذا كان فاسداً لا يصلي ومات في البحر فلا يصير شهيداً، وإذا مات في الحريق لا يصير شهيداً، وإذا مات في حادث لا يصير شهيداً، متى يصير شهيداً؟ إذا مات وهو طيب فإن الله يرفع درجته ويجعله إن شاء الله من الشهداء.(95/27)
طريقة لتجنب الغش
السؤال
إني أحبك في الله، وما هي الطريقة التي تجعلني لا أغش في الامتحان؟
الجواب
الطريقة أن تذاكر الدروس حتى لا تغش في الامتحان؛ لأنه لا يغش إلا البليد، أما الذكي فلا يغش، يعرض نفسه للخطر والعذاب في الدنيا والآخرة، لكن البليد يدخل ولا عنده حرف فيلصق نفسه بـ (برشمات) وأوراق ويدخل يغش، لكن: (من غشنا فليس منا) وامتحانه باطل، وشهادته زور، ويقول العلماء: حتى الوظيفة التي يحصل عليها حرام؛ لأنه أخذها بالزور والكذب، لكن إذا تاب تاب الله عليه؛ لأن التوبة تجب ما قبلها إن شاء الله.(95/28)
حكم الصلاة إلى القبلة مع انحراف في استقبالها
السؤال
أخذت بوصلة وقد اكتشفت أن القبلة مختلفة في قبلة كثير من المساجد في أبها فهل أصلي على قبلة البوصلة، أم على قبلة المساجد؟
الجواب
صلِّ على قبلة المساجد، ولا تصلِّ على بوصلتك، فالبوصلة تستعملها إذا كنت في الصحراء، أما ما دمت في المساجد فصلِّ مع المسلمين؛ لأن ما بين المشرق والمغرب قبلة، فالقضية نسبية، فإذا أتيت على البوصلة وضبطتها وانحرفت قليلاً ومشيت إلى مكة هل معنى هذا أنك تدخل مكة؟ قد تصل الطائف فليست مضبوطة مائة بالمائة.
قال العلماء: من كان في الحرم يلزمه استقبال عين الكعبة، فإذا وقفت والكعبة أمامك فيجب عليك أن تقف أمامها، فإذا كانت الكعبة أمامك وأنت متجه لغيرها فصلاتك باطلة، ومن كان في مكة يلزمه جهة الحرم، ومن كان في الآفاق يلزمه جهة مكة -ليس عين مكة أو عين الكعبة- بل جهة مكة، فلا تصل على البوصلة وإنما صلِّ مع المسلمين في مساجدهم فإنها إن شاء الله على القبلة.(95/29)
وصية حول الرفقة
السؤال
أريد أن أسلك طريق الالتزام، ولكن عندي صاحب يدعوني ويحثني على كل شر فأوصني وصية؟
الجواب
الله أكبر! تريد أن تتردد وتماري في طريق الجنة، من الذي يماري في الجنة أو في النار؟ ما لك خيار يا أخي! الآن تب إلى الله، وزميلك هذا انفض يدك منه، واطرده طرد الكلب، وحدد معه موقفا وقل له: أنا تائب إلى الله؛ فإن كنت تريد أن تمشي معي في الطريق الصحيح فحياك الله، وإن كنت لا تريد ذلك فلست مني ولا أنا منك، إني بريء منك، فتبرأ منه قبل أن يقودك برقبتك إلى النار ثم تلعنه ويلعنك، وتقول: {يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً} [الفرقان:27 - 28].
ثم يقول في السؤال: ادع لي بالهداية! أقول: اللهم اهده واهد شباب المسلمين.(95/30)
عقيدة أهل السنة والجماعة حول رؤية الله في الدنيا والآخرة
السؤال
ذكرت أن موسى طلب من الله الرؤية فقال له: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143] فهل هذا في الدنيا والآخرة، أم في الدنيا فقط؟
الجواب
قوله: (لن تراني) في الدنيا فقط، أما الرؤية في الآخرة فهي حق وستقع لأهل الإيمان، وهي عقيدة أهل السنة والجماعة، أما أهل البدعة والضلالة من المعتزلة والجهمية فإنهم ينكرون الرؤية في الدنيا والآخرة، ولكن هذا غير صحيح، والصحيح: أنه يُرى، ويستدلون: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143] ودليلهم: بـ (لن) و (لن) ليس فيها دليل على عدم الرؤية، لماذا؟ أولاً: يقول العلماء: إن موسى لا يمكن أن يطلب محالاً، فإن موسى يعرف أنه سيرى الله، ولكن ظن أنه سيراه في الدنيا كما سيراه في الآخرة فطلب ذلك في الدنيا فقال الله له: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143].
ثانياً: أن الله ما قال: إنني لا أُرَى، بل قال له: لن تراني، يعني: الآن، أما الرؤية في الآخرة فسوف تقع، والأدلة من الكتاب والسنة دالة على الرؤية، يقول الله في القرآن الكريم: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23] وقد عدي فعل النظر بحرف الجر (إلى): {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23] أي: مشاهدة.
وأيضاً يقول الله: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] أي: عن رؤية الله تبارك وتعالى، فدل حجب العصاة والكفار أن المؤمنين يرون الله، إذ لو أثبتنا أن المؤمنين لا يرون الله لسوينا بين الكفار والمؤمنين، فالمؤمنون يرون الله، وفي الحديث الصحيح يقول عليه الصلاة والسلام: (إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة النصف لا تضامون في رؤيته).(95/31)
حكم من افترى على الدين
السؤال
ما رأيك فيمن يقول عن الصالحين: إنهم يقصرون ثيابهم فيشوهون منظر المسلمين؟
الجواب
هذا كذب وافتراء، وإذا كان مصراً عليه فقد يصل به إلى الكفر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (أزرة المسلم إلى نصف الساق)، وهو أعلم بما يزين المسلمين، فالذي يقول: إن تقصير الثياب يشوه المسلمين فكأنما يرد دين الله، والله يقول: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [النساء:115].
ما هو الذي يحسن منظر المسلمين؟ سحب الثياب وإسبالها مثل النساء، أن تسحب ثوبك مثل البنت ثم تقول: إني أرفع من شأن المسلمين؟ لا والله، الذي يزين منظر المسلمين رفع الثوب، فأنت ترى أهل البادية من تهامة وفي الجبال، لما يأتيك الرجل في أزرته وفي ردائه ويمشي أمامك كأنه أسد يدق الأرض دقاً، وأرجله تنظر إليها كأنها أرجل أسد، لكن ذاك الذي يسحب ثيابه والله إنك تغض بصرك عنه.(95/32)
العوامل المساعدة لأداء صلاة الفجر جماعة
السؤال
ما هي العوامل التي يستطيع الإنسان أن يقوم بها لصلاة الفجر؟
الجواب
أولاً: النوم على ذكر الله وعلى طهارة، والنوم مبكراً وبنية القيام، وأن تخبر شخصاً ينبهك، أو تنام وعندك ساعة تدق عند رأسك، ثم إذا استيقظت فاجلس مباشرة، ثم استو قائماً، ثم قل: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
عند ذلك لا يأتيك نوم، ليس هناك شخص قام من نومه ثم استتب قائماً ثم أرجعه الشيطان ينام، لكن من يستعيذ بالله وهو راقد يركب الشيطان فوق رأسه كما قلت لكم في الأسبوع الماضي: الذي يضارب لا يضارب قاعداً بل يقف.(95/33)
حكم التلفظ ببعض الكلام كدعاء الجن وغيره
السؤال
لقد انتشر بين الناس دعاء الجن مثل: خذوه، وانفروا به، وسبعة، وشلوه، نرجو من فضيلتكم بيان حكم هذه الألفاظ؟
الجواب
هذه الألفاظ شركية، وقد سألت الشيخ عبد العزيز بن باز فقال: هذا شرك، قلت: ما يدري الناس؟ قال: يُعَلَّمون، فمن علم وتاب تاب الله عليه، ومن علم واستمر فهو مشرك كافر لا تؤكل ذبيحته ولا يصلى عليه.(95/34)
حكم من أنكر البعث
السؤال
يوجد بعض العوام يكثرون العبادة ويقومون بالأركان من صلاة وزكاة وصيام، ولكنهم ينكرون البعث ويتعجبون من ذلك؟
الجواب
من أنكر البعث فهو كافر ولو صلى وصام؛ لأن الإيمان بالبعث ركن من أركان الإيمان يجب الإيمان به لقول الله: {أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} [الشورى:18](95/35)
زيادة (إنك لا تخلف الميعاد) في آخر دعاء الأذان
السؤال
ذكرت الدعاء الذي بعد الأذان بصوت عالٍ، ثم ذكرت إنك لا تخلف الميعاد؟
الجواب
أما بصوت عالٍ فلا، لكن (الميكرفون) كبر صوتي، وإلا فأنا مثلك أقوله؛ فصوتي بلغ (بالميكرفون) أما قول: (إنك لا تخلف الميعاد) فقد صحت هذه الزيادة في سنن الترمذي وليست في الصحيحين، ففي الصحيحين: (اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته).
أما: (إنك لا تخلف الميعاد) فهي ليست في الصحيحين، بل زيادة في سنن الترمذي، ولكن حقق المحققون أنها صحيحة، وقد أخبرني بذلك سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين.(95/36)
محارم الرجل
السؤال
هل أنا محرم لبنت عمي وبنت خالي؟
الجواب
لا.
لست محرماً لهما، فالقاعدة: كل من يجوز لك أن تتزوج بها يحرم عليها أن تتكشف عندك؛ لأن المحرمات نوعان: محرمات على التأبيد، ومحرمات على التوقيت، فالمحرمة على التأبيد يجوز أن تراها وأنت محرمها، والمحرمة على التوقيت ولو كانت متزوجة عند واحد تقول: بنت عمي أزورها، لكن لو طلقها زوجها لجاز لك أن تتزوج بها، إذن فلا يجوز لك أن تراها ولست لها محرماً.
والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(95/37)
أحوال أهل النار
تكلم الشيخ حفظه الله عن تباين الناس في الحياة، مبيناً أن ذلك ينبني عليه تباينهم في الآخرة، وقد أوضح أن ذكر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم لحال الكافرين إنما هو لحكمة بالغة، ثم تحدث عن ذلة الكافر يوم القيامة وهوانه، وعذابه، وندمه، وخصامه لغيره من أهل النار، ذاكراً وقوع الخصومة بين التابع والمتبوع، والضعفاء والمستكبرين، بل خصومة الكافر مع أعضائه، أعاذنا الله وإياكم من ذلك.(96/1)
الحكمة من الإخبار بأحوال الآخرة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فإن أحوال الناس تختلف يوم القيامة بحسب أحوالهم في هذه الحياة، فلا يكون مصير الناس سواء؛ لأن سلوكهم في هذه الدنيا ليس بسواء، قال الله سبحانه وتعالى: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر:20] وقال جل جلاله: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:35 - 36] وقال سبحانه: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:28] وقال: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21].
فمن ظن أن مصير الناس يوم القيامة واحد فهو كافر وجاهل وجاحد.
لا.
فليس المصير واحداً؛ لأن العمل هنا ليس واحداً، قوم آمنوا بالله وصدقوا المرسلين، وخضعوا لشريعة الله، وساروا على منهج الله، وأحلوا ما أحل الله وحرموا ما حرم الله، وبكوا من خشية الله، وجاهدوا في سبيل الله، هل يستوون هم والمفسدون في الأرض الذين زنوا، وسكروا، ولاطوا، وقتلوا، وسرقوا، وارتكبوا ما حرم الله، ورفضوا جلَّ ما حرم الله، هل يكون مصير هؤلاء وهؤلاء واحداً؟ مصير الناس يختلف يوم القيامة بحسب اختلاف أحوالهم في هذه الدار.(96/2)
تثبيت الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم
وإن من رحمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بنا أن نقل لنا في كتابه وفي سنة رسوله صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلِيهِ صوراً حية من أحداث يوم القيامة ومن أحوالها التي تكون لأهل الإيمان ولأهل الكفر والنفاق، حتى لكأن الإنسان ينظرها عياناً، وهذه فيها حكمتان ومصلحتان: الحكمة الأولى: تثبيت الإيمان بالرسول الكريم صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلِيهِ، إذ من أخبره بما يحدث يوم القيامة يخبرنا عن أمور لا تكون في هذه الدار، وما سمع بها أحد منذ آدم -من غير الأنبياء والرسل- وما سمعنا أحداً بعده منذ مات إلى يومنا هذا يخبر ويتهدد ويتوعد ويَعد ويمني بجنة أو نار، فإن من توعد وهو لا يستطيع التنفيذ يعرف أنه من أكبر الكاذبين، وإذا وعد وهو يعرف أنه لا يفي يعرف أنه أحد الكاذبين، لكن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يهدد الكفار ويتوعدهم بالعذاب من مصدر القوة، والثقة بالله ثم بالنفس، ويعد المؤمنين ويمنيهم بالجنة من مصدر الثقة بأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سوف يعطيهم جزاءهم.
جاء رجل اسمه العاص بن وائل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد حمل في يده عظمة من عظام الأموات هشة -وهو كافر- وقال: يا محمد! أتزعم أن الله يعيدنا بعد أن نكون عظاماً ورفاتاً، وفت العظم بيده أمام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بكلمة الواثق المطمئن إلى وعد الله ووعيده.
قال: (نعم.
ويدخلك الله النار).
فمات هذا الرجل على الكفر، فلو كان هذا الرجل أسلم لكان الوعد غير صحيح، إذ كيف يدخله الله النار وهو مسلم؟ لكن من علم الله الذي أعطاه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن أخبره بأن هذا الرجل سيستمر على كفره ولن يسلم، رغم أن الناس في ذلك الوقت كانوا يدخلون في الدين وكان من المتوقع أن يكون هذا ممن يسلم، ولكن قال له: (ويدخلك الله النار) فمات كافراً.
ونزل القرآن يؤيد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويقول له: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً} [يس:78] يعني: بالعظم {وَنَسِيَ خَلْقَهُ} [يس:78] الذي يخلق العظم، ومن هذا الذي خلق العظم! إن الذي خلق هذا العظم قادر على أن يعيد هذه العظام ولو صارت رماداً.
{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:78] * {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس:79] القادر على البداءة قادر على الإعادة، وله المثل الأعلى، إذ لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:79] * {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} [يس:80] * {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} [يس:81] * {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] * {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس:83].
هذه هي الحكمة والمصلحة الأولى التي نجنيها من مشاهد أحوال الناس يوم القيامة، تثبيت الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ لو كان متقولاً ما وعد.(96/3)
العظة والعبرة
الحكمة الثانية: أننا نأخذ العظة والعبرة، ونعمل عملاً صالحاً، حتى لا نكون ممن يتعرضون لتلك الأحوال؛ لأن الكفرة والمنافقين كلٌّ يمقت نفسه ويزدريها، ويتمنى لو تسوى به الأرض، يقول الله عز وجل: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء:41] * {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} [النساء:42] يودون أن تبتلعهم الأرض ويكونون عدماً، من المقت، والنكال والخزي، والعار، والعذاب والنار.
في ذلك اليوم يحصل مقت، ويعني: ازدراء واحتقار للنفس، يقول: أحدهم مخاطباً نفسه: ما الذي أوصلني إلى هذه الحال المزرية، إنه سلوكي وتصرفاتي، يا ليتني لم أسرْ في هذا الطريق، يا ليتني أطعت الله {يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا} [الأحزاب:66] {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ} [الحاقة:25] * {وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ} [الحاقة:26] * {يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} [الحاقة:27] * {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ} [الحاقة:28] ما نفعني مالي الذي كنت أتعب في جمعه {هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:29] فلقد ضاعت سلطتي، وانتهت مرتبتي ورتبتي، وضاع ملكي وجاهي.
فيقول الله للملائكة: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} [الحاقة:30] يحصل للإنسان عندها مقت عظيم ذكره الله في القرآن في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} وهم في حالات المقت الشديد لأنفسهم {يُنَادَوْنَ} [غافر:10] وبنى الله الفعل هنا للمجهول {لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [غافر:10] يزدريكم ويحتقركم الله أكثر مما أنتم الآن تحتقرون أنفسكم وتزدروها؛ لأنكم وضعتموها في مكان كان بالإمكان أن تضعوها في غيره، لكن عصيتم الله بالزنا، وبالغناء، وبالكفر، وبالنفاق، وبالعجز، وبالتكاسل، وبالتسويف، وبالتكذيب، وضعتموها في هذا الموقف وقد جاءتكم الآيات، والله ما في الأرض أوضح من آيات كتاب الله وسنة نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ماذا بقي لنا أيها الإخوة؟ إن الله أنزل إلينا قرآناً فيه ثلاثون جزءاً، ثلاثون جزءاً أما يكفينا؟ يقول الله: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت:51] كان يكفي أمره: أسلموا وادخلوا في دين الله وكفى، لكن لا.
كرر أوامره ونهيه: يا أيها الذين آمنوا يا أيها الناس اعملوا اعملوا ينادي الله عباده ويوجهم.
ويوم القيامة يمقت الكافر نفسه ويزدريها ويتمنى أنه لم يعرف هذه الحياة، والإنسان بطبيعته إذا وضع نفسه في وضع مزري فإنه يمقتها، لو رأينا إنساناً يُجلد في السوق، ويقام عليه حد الزنا، ويُنزل من السيارة ويداه مكبلتان والعساكر يقودونه كالماشية، ويأتي مأمور التنفيذ ليضرب ظهره ويجلده، فما هي نفسيته في تلك اللحظات؟ أليس يمقتها؟! أما يتمنى أن تبتلعه الأرض وأنه لا يحضر السوق في ذلك اليوم؟! بل بعضهم يلطم وجهه، وبعضهم يرخي رأسه، وبعضهم ما يود أن يذكر اسمه في الإعلان، فهل يعدل هذا الموقف لذة الزنا، إن لذة الزنا ذهبت وانتهت لكن جلد ظهره، وتشويه سمعته، وتسجيله في القائمة السوداء، مع أصحاب الجرائم والسوابق، وأخذ بصماته لأن له سوابق: هذا (زانٍ، سكير، عربيد، خبيث) كل هذا لم ينته.
وآخر يقتل ويخرج لتدق عنقه أو ليرمى صدره بالبندقية؛ لأنه قتل، فما هو شعوره إذا أنزل من السيارة ونظر يميناً وشمالاً فرأى الناس مجتمعين حوله، والعساكر يحملون الأسلحة، وهو يُقاد ويرى الحبل والخشبة أمامه، ما رأيكم بنفسيته؟ أليس يمقتها؟ أليس يزدريها؟ أما يتمنى أنه ما عرف الحياة؟ أما يشعر أنه أبأس إنسان على وجه الأرض؟ وأنه ليس هناك في الدنيا أشقى منه؟ نعم.
لماذا؟ من وضعك في هذا المكان؟ عدم خوفك من الله، وعدم سيرك على منهج الله.(96/4)
أحوال الكفار والمنافقين يوم القيامة
الأحوال الأخروية ثلاثة: 1 - حالة الكفار والمنافقين.
2 - وحالة العصاة.
3 - وحالة المؤمنين جعلنا الله وإياكم منهم! وسوف نتحدث عن حالة الكفار والمنافقين يوم القيامة: عن ذلتهم، وهوانهم، وصغارهم، وخيبتهم وندامتهم.(96/5)
ذلتهم وهوانهم على الله
يقول تَبَارَكَ وَتَعَالَى في وصف ذلتهم: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً} [المعارج:43] الأجداث: القبور {كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} [المعارج:43] * {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [المعارج:44] أهل الإيمان لا تجد عليهم ذلة، بل لهم عزة وكرامة عند الله، ولهم فضل وفرح بلقاء الله، لكن الكفار ترهقهم ذلة وأبصارهم خاشعة، فترى المجرم لا يرفع رأسه؛ لأن وجهه أسود، وسلوكه سيئ فهذه حالتهم: {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} [المعارج:44] والرهق: هو الحركة المضطربة بقوة.
إذا قيل: فلان يرهقه البرد فليس برداً فقط وإنما يرتعش، فهذه الذلة تأخذهم وترهقهم {ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [المعارج:44].
والخروج من القبور بهذه الصورة يصور سرعة انطلاقهم إلى مصدر الصوت؛ لأنه ينادى يوم القيامة فيبعث من في القبور، {يَخْرُجُونَ مِنْ الأَجْدَاثِ سِرَاعاً} [المعارج:43] مسرعين منطلقين، ماذا حدث؟ يريدون سماع الصوت {كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} [المعارج:43] مثلما كانوا ينطلقون إلى هذه الأنصاب، والأفراح، والزنا والمعاصي مسرعين، فهناك أيضاً ينطلقون مسرعين كأنهم على تلك الصفة {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [المعارج:44].
وبعد ذلك الصوت القوي، يقول الله عَزَّ وَجَلّ: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ} [القمر:6] * {خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ} [القمر:7] * {مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} [القمر:8] والحكمة من التصوير والتمثيل بالجراد؛ لأنه من أضعف الحشرات، ولعل منكم من أدرك فترة وجود الجراد في النهار خاصة، إذا ما جئت إليه وهو بين الزرع وأردت أن تنفره كيف هي حالته؟ وهل تخاف منه؟ هل يأكلك الجراد؟ لا.
تنفره، وهو ينتشر من الرعب والخوف الذي أنت تطارده به، فيهرب منك.
كذلك الكفار والمنافقون يوم القيامة {خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ} [القمر:7] * {مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} [القمر:8] وبعد أن يقوموا يتأكد لديهم بأنه البعث، وأنه الذي كانوا يوعدون، فقد كانوا يكذبون بالبعث، ولم يكونوا مصدقين به، فلو كانوا يصدقون به لكان له أثر في حياتهم، ولكنهم كذبوا، وعندما يقومون من قبورهم يقولون كما قال الله عَزَّ وَجَلّ: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} [يس:51] * {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس:52] وعندها يجيبهم أهل الإيمان فيقولون: (هَذَا) يعني: هذا يوم البعث {هذا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس:52] هذا وَعدْ الله لنا وصدق الرسول لنا فيصدقون، ماذا يقولون: {وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ} [الصافات:20] يدعون على أنفسهم بالويل والثبور وعظائم الأمور.(96/6)
جحوظ أعينهم وشخوص أبصارهم
ثم تضيف الآيات الأخرى ملامح جديدة وأبصارهم في حالة الخوف والشدة، حتى إن العين لتبرز جاحضة من الخوف، تكاد أن تخرج ولا يستطيع أن يغمضهما عن النار؛ لأن النوم وإغماض العين أمنة.
تجد من يُخرج إلى السوق ليقتل تكون عيناه تدور شمالاً ويميناً، وينظر من أين سيأتي السياف ليقطع رقبته، ومن ذا يربطه، وأخيراً تغطى عينيه حتى لا يرى شيئاً.
ويصور الله عَزَّ وَجَلَ هذا المشهد بعد خروجهم وأبصارهم شاخصة فيقول الله عَزَّ وَجَلَ: {إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} [إبراهيم:42] * {مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ} [إبراهيم:43] لا يمكن أن يطرف طرفةً واحدةً، فعينه انفتحت وشخصت وجحظت وبرزت، لم تعد تقدر على الإغماض حتى تتصلب {لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء} [إبراهيم:43] هواء من الخوف؛ لأن القلب هنا هو مصدر الخوف، إذا كان لديك خوف فهل يرتاح قلبك أو يضطرب؟ لو أن شخصاً أخبرك بخبر مخوف، تقول: إن قلبي يكاد أن يطير من الخوف، وإذا كان الخبر ساراً تجد في قلبك انشراحاً وطمأنينة.
مثال آخر: إذا ركبت في الطائرة يضعون لك حزام الأمان، فإذا انطلقت الطائرة، وأتيت على مطب هوائي تشعر بأن قلبك اُنتزع من مكانه، فما بالك -أخي- بخوف يوم القيامة (وأفئدتهم هواء) كما قال الله عَزَّ وَجَلّ.(96/7)
فزعهم وهلعهم
ثم يذكر الله عَزَّ وَجَلّ مشهداً آخر، وهو مشهد الفزع والخوف والهلع الذي يقتلع قلوب الناس يوم القيامة -اللهم ارحمنا برحمتك- حتى إن القلوب لتسد الحناجر، فلا يبقى للرجل حنجرة يتكلم بها أو يتنفس منها، فتبلغ القلوب الحناجر، يقول الله عَزَّ وَجَلّ: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر:18] * {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19] والآزفة: القيامة، أزفت الآزفة، أزف الموعد، أزف الامتحان، أي: لا توجد فرصة، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سمى القيامة آزفة فإذا أزفت الآزفة فإن القلوب لا تبقى في الصدور كما هي الآن، وإنما تصعد إلى الحناجر {إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر:18] * {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19].
هذه القيامة -أيها الإخوة- يصورها الله لنا، فماذا أعددنا لها؟ لا إله إلا الله، ما أقسى قلوبنا!! أخي الكريم: إذا أتيت المخبز تذكر لو طلب منك أن تجلس ولو لحظة واحدة في هذا الفرن، والله لن تستطيع، لو طلب منك أن تعبد الله طيلة حياتك أو أن تجلس فيه دقيقة واحدة لاخترت الأول ورفضت أن تجلس.
نحن أيها الإخوة! في غفلة وبعد عن الله، لقد تحجرت قلوبنا وماتت، والله لو تعلم البهائم من أمر الآخرة ما نعلم ما أكلنا منها سميناً.
خرج عليه الصلاة والسلام على الصحابة وهم يضحكون فقال لهم: (والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، ولما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصُّعدات تجأرون إلى الله) كان أهل الإيمان يبكون من خشية الله، لا نريد الآن بكاء بل نريد الابتعاد عن الحرام والمعاصي، والقيام بطاعة الله عَزَّ وَجَلَ.(96/8)
تقديمهم إلى العذاب الشديد مقرنين في الأصفاد
ولما كان المجرم والكافر متمرداً على الله، هارباً منه، مستكبراً عن عبادته، فإنه يؤتى به يوم القيامة مقبوضاً عليه، مقرناً، أي: في القيد؛ لأنه لو ترك لم يأت، وهذا شأن كل مجرم في الدنيا، فإن أي مجرم لا يحضر إلا بقيد، والقيد توقعاً لهروبه، أما هؤلاء فإلى أين يهربون يوم القيامة؟! يقول الله حكاية عن الكافرين: {يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ} [القيامة:10] * {كَلَّا لا وَزَرَ} [القيامة:11] * {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} [القيامة:12] فيؤتى بهم وهم مقرنون في الأصفاد، تجمع أيديهم مع أقدامهم إلى رقابهم ثم يوضعون في قيد واحد.
يقول الله عَزَّ وَجَلّ: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم:48] * {وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ} [إبراهيم:49] * {سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ} [إبراهيم:50] ملابسهم من القطران، أي: الزفت {وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} [إبراهيم:50] الأيدي والأقدام والرقاب مقرنة كما تقرن البقر في الأضماد يقرنون في الأصفاد، وملابسهم الفاخرة تجدها من قطران أسود، وتشب على وجوههم النار.
ثم قال الله: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [إبراهيم:51] إن الله سريع الحساب ولو أمهلهم، وفي هذه الأجواء يؤتى بهم على هذا الوضع المزري مقرنين مكتفين وسرابيلهم من قطران، في تلك اللحظات يحصل شيء عظيم آخر وهو: أن الشمس تدنو من الرءوس، تقترب منهم حتى تغلي رءوسهم كما يغلي اللحم في القدر، وأما أهل الإيمان فإنهم في مظلات الرحمن، اللهم إنا نسألك من فضلك يا مولانا، ونسألك أن تظلنا في ظلك نحن وآبائنا وأمهاتنا وإخواننا وأنتم إن شاء الله منهم كما في الحديث في صحيح مسلم (وشاب نشأ في عبادة الله) أسأل الله أن يجعلني وإياكم منهم.
وشاب نشأ في عبادة الله لم يعرف الهوى ولا الغناء ولا الزنا، وإن عرفها تركها وتاب إلى الله.
أخي حفظك الله! اصبر.
كم هذه الدنيا، خمسين أو ستين سنة؟! لماذا تعرض نفسك لهذا العذاب؟ وما بين الرجل منا والجنة والنار إلا أن يموت؟ يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (والذي نفسي بيده! إن الجنة أو النار أقرب لأحدكم من شراك نعله).
شراك نعلك الذي في رجلك والله إن الجنة والنار أقرب إليك منه، فإذا أتتك منيتك تَحَدَّدَ مصيرك.
فمن يضمن أنه يعيش هذا الأسبوع أو هذا الشهر، ما يدريك يا أخي! لعلك لا تنام اليوم، فلماذا نفرط؟ ولماذا لا نتق الله في ديننا وإسلامنا.
ففي تلك اللحظات وتلك الأجواء يؤتى بالشمس وتدنو حتى لا يكون بينها وبين الناس إلا مقدار ميل، والميل ورد في ذكره في صحيح مسلم، يقول عليه الصلاة والسلام: (تدنو الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل) يقول سليم بن عامر: [والله لا أدري هل هو ميل المسافر أو ميل المكحلة] وسواء هذا أو هذا فكلها مصيبة، فإن ميل المسافة كم سيكون الميل يساوي [1700] متر تقريباً، كيلو وثلثين، لكن أين الشمس الآن؟ ومن يستطيع أن يجلس فيها لحظة في النهار؟
تفر من الهجير وتتقيه فهلا من جهنم قد فررتا
فلست تطيق أهونها عذاباً ولو كنت الحديد بها لذبتا
فكلما صعد الإنسان إلى أعلى تعرض للصهر والاحتراق، فالذين يصعدون إلى الفضاء تكون لهم ملابس خاصة تتحمل درجة الحرارة العالية والتي قد تصل إلى (400) درجة مئوية فوق الصفر.
ولكنها يوم القيامة تدنو على رءوس الناس، وفي تلك اللحظات يقوي الله أجسادهم كي تتحمل النار؛ لأنهم خلق جديد لن يموت، فهم خلقوا وماتوا، ثم بعثوا ولن يموتوا بعدها، فتأتي النار فتحرقهم وتصهر أجسادهم وتذيب جلودهم ويسيل معها العرق إلى درجة أنه يلجم بعضهم إلجاماً، وهذا حديث في صحيح مسلم، يقول عليه الصلاة والسلام: (يكون الناس على قدر أعمالهم من العرق، فمنهم من يكون عرقه إلى كعبه، ومنهم من يكون عرقه إلى ركبتيه، ومنهم من يكون عرقه إلى حقويه، ومنهم من يلجمهم العرق إلجاماً، وأشار صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى فمه).
من منا الآن يعرق ويسيل عرقه أمامه مثل الماء؟! إن أعلى درجة حرارة في الرياض أو جدة تصل الآن (45) درجة مئوية، الآن الماء لا تتحمله لأنه ساخن بدرجة (45) درجة، ومهما بلغت درجة حرارة الأرض فلا يمكن أن يسيل عرقك سيلاً أمامك، فكيف بيوم فيه العرق أنهاراً بل بحاراً يغطي الناس من كثرته.(96/9)
ندمهم وحسرتهم
لا إله إلا الله! وحين يرون هذا المصير ويتذكرون الذي أوردهم هذه الموارد، وإذا بهم يراجعون أنفسهم ويقولون: إنها المعاصي والذنوب، والكفر، والتكذيب، فيحصل عندهم حسرة وندامة تقطع قلوبهم؛ لذا سمى الله يوم القيامة بيوم الحسرة؛ لأن فيه حسرة ليست بعدها حسرة، يقول الله عَزَّ وَجَلّ: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [مريم:39] أنذرهم يوم الحسرة، وقد أنذرنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الحسرة وصاح في يوم من الأيام كما في الحديث أنه قال: (أنذرتكم النار أنذرتكم النار أنذرتكم النار).
وتصل درجة الحسرة عند الإنسان إلى درجة أنه يأكل يديه من بنانه إلى كتفه، قال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً} [الفرقان:27] * {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً} [الفرقان:28] * {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً} [الفرقان:29] وبعد هذه الحسرات والندم وأكل اليدين يعيد الله له يده الأولى وهكذا.
وفي تلك اللحظة يحصل عندهم يأس وإبلاس، والإبلاس هو غاية اليأس، يعني: عدم الرجاء، أي: لا يسلمون من هذا المصير، ولهذا يقول سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ} [الروم:12] وسمي إبليس؛ لأنه أبلس من رحمة الله، قال الله: {وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} [ص:78] فليس عنده أمل بأنه ينال هذه الرحمة؛ ولذا سمي إبليس من الإبلاس، وهؤلاء يوم القيامة يبلسون أي: تتقطع آمالهم وينقطع رجاؤهم وييأسون من رحمة الله، وهذا أعظم العذاب؛ بأن ينقطع الرجاء، فالرجاء يجعلك على أمل.
مثلاً: سجين يقولون له: هناك أمل أنك تخرج في يوم كذا وكذا، فيبعث في قلبه الطمأنينة، أما إذا قيل له: حكم عليك بالسجن المؤبد، كيف سيكون حاله؟ تجد أنه انقطع الأمل عنه ويحصل عنده اليأس، ويمر عليه اليوم كسنة؛ لأنه لا يوجد أمل.(96/10)
إحباط أعمالهم
كذلك أهل النار عندما يدخلون النار يبلس المجرمون، وبعد ذلك يتعلقون ببقايا آمال في أعمال كانوا يصنعوها في الدنيا ظنوا أنها تنفع؛ لأن أعمال الكفار يوم القيامة تنقسم إلى قسمين: أعمال بغي وكفر وفساد، فهذه باطلة وفاسدة، ولا يرجون ولا يتوقعون من ورائها خيراً، وهذه شبهها الله في القرآن بالظلمات، قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور:39] * {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40] هذه الأعمال الباطلة ظلمات بعضها فوق بعض.
وظلمات يظنون أنها تنفعهم يوم القيامة وهي: الصدقة، العتق، صلة الأرحام، الصدق في المواعيد، والمعاملة، والاتجار، لكن هذه نفعتهم في الدنيا؛ لأنهم لم يعملوها لوجه الله وإنما للدنيا، صدقوا في المعاملات لكي تنضبط أمورهم، أخلصوا في العمل لكي تشترى بضائعهم، ووصلوا أرحامهم لكي يبادلوهم بالمودة والمشاعر، وتصدقوا إلى جمعيات الحيوانات من أجل غريزة نفسية؛ فما نفعهم هذا العمل في الدنيا، يقول الله فيهم: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ} [هود:15] * {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:16].
حبط ما صنعوا في الدنيا والحبط: هو داء يصيب بعض المواشي، إذا أكلت بعض النباتات انتفخ بطنها، ثم حبطت ثم انفجرت يسمى (الحشر) ويقولون: الغنم (حَشَرَت) إذا أكلت طعاماً من ذرة لم تنضج، فهؤلاء يأتون ببطون يحسبون أن فيها شيئاً، لكن قال الله {وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:16].
ويقول عَزَّ وَجَلّ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى:20] ويقول الله عَزَّ وَجَلّ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً} [الإسراء:18] {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً} [الإسراء:19] فهؤلاء عملوا عملاً صالحاً ولكن ما أرادوا به وجه الله، فإذا جاءوا يوم القيامة ظنوا أنهم على شيء، قال الله: ((وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ)) [النور:39] أي: أعمالهم الصالحة {كَسَرَابٍ} [النور: 39] السراب الذي في الصحراء، إذا رأيته في الظهيرة ترى كأنه ماء، فتقدم عليه وتشد نفسك إليه فكلما اقتربت ابتعد عنك، قال الله: {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} [النور:39] فهؤلاء عملوا عملاً كسراب، ويوم لقوا الله ما وجدوا شيئاً.
ثم مثَّل الله عملهم بالرياح الشديدة التي تهب على الزروع والثمار اليانعة فتحطمها، قال الله عَزَّ وَجَلّ: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ} [آل عمران:117] يعني: الكفار، نفقاتهم، وصدقاتهم، وإغاثاتهم، وإعطاؤهم للجمعيات الخيرية، والبر وهم كفار؛ {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ} [آل عمران:117] ريح لا رياح، والريح أشد {فِيهَا صِرٌّ} [آل عمران:117] أي: فيها عواصف شديدة وصوت يصر ويقطع الأشجار {فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [آل عمران:117] لديهم زروع وثمار من العمل لكن لديهم ريح فيه صر وهو الكفر، فأهلكت عملهم هذا والعياذ بالله.
وقد شبه الله عملهم أيضاً بالرماد، وتصوروا رجلاً جعل الله أعماله كلها رماداً، والرماد نهاية النار، كما يقول المثل: (النار ما خلفت إلا رماداً) يضرب هذا المثل إذا وجد -مثلاً- رجل صالح وابنه فاسد فيقولون هذا المثل.
فقد شبه الله أعمال الكفار الصالحة بالرماد، قال الله عَزَّ وَجَلّ: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} [إبراهيم:18] تصور شخصاً معه رماد، والريح اشتدت فذهبت به، قال الله: {لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} [إبراهيم:18] ولذا يجعل الله أعمالهم هذه كلها هباءً: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23].
في الحالة الأولى: لهم الذلة والصغار والنكال والعذاب.
ثم في الحالة الثانية: لهم إحباط العمل، فيقولون: عندنا عمل، فيحبطه الله فلا يبقى.(96/11)
تخاصم أهل النار
الحالة الثالثة: وهي التخاصم والتلاوم والمعاذير، وكل شخص يتكلم على أخيه وزميله، يسبه ويلعنه ويحمله المسئولية على هذا.
مثلاً: قُبض على أربعة سكارى وأدخلوهم السجن، فكل شخص يلعن الآخر في سجن الدنيا.
أما في يوم القيامة فهو يحدث عندما يعاين أهل النار النار، ويرون العذاب وما هم فيه وما يحصل لهم.(96/12)
عداوة وكراهية بعضهم لبعض
أولاً: كراهية وعداوة بعضهم لبعض يقول الله عَزَّ وَجَلّ: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67] يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: خليلان مؤمنان وخليلان فاسقان! يقول: أما المؤمنان فمات أحدهما فأدخله الله الجنة، وفي الجنة رأى ما هو فيه من النعيم، وذكر صاحبه الذي كان يأمره بطاعة الله وينهاه عن معصية الله فخشي عليه أنه يضل بعده، فقال: اللهم! إنه كان لي خليل يأمرني بطاعتك وينهاني عن معصيتك حتى وردت هذا المورد ودخلت الجنة، اللهم! إني أسألك أن تثبته على دينك حتى تجمعني به في جنات النعيم، قال: فثبته الله وكتب له الجنة وهو في الدنيا، قال: والخليلان الفاسقان أحدهما مات فدخل النار، فلما وقع في الورطة تذكر من ورطه، فإذا به يخشى أن يسلم خليله ويهتدي ويذهب إلى الجنة وهو في النار، فقال: اللهم! إنه كان لي خليل يأمرني بمعصيتك وينهاني عن طاعتك حتى وردت هذا المورد، اللهم! لا تهده ولا تجعله يسلم حتى يرى ما رأيت ويدخل فيما فيه دخلت.
{الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67] هذا مخاصمة بين أهل النار لا يوجد منهم شخص يحب الآخر، أما أهل الإيمان فهم {عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الصافات:44] * {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} [الصافات:45] * {بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} [الصافات:46] * {لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} [الصافات:47] يتساءلون ويتحادثون ويتنادمون {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الطور:25] * {قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} [الطور:26] * {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:27] * {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور:28] نسأل الله من فضله أن يجعلنا من أهل الجنة وآبائنا وأمهاتنا وإخواننا المسلمين.
هؤلاء أهل النار كلهم: بعضهم يلعن بعضاً، لا يوجد شخص يحب الآخر.(96/13)
المخاصمة بين التابعين والمتبوعين
وتحصل مخاصمة ثانية بين التابعين والمتبوعين، بين العابد والمعبود، فيتبرأ كل من الآخر.
قال تعالى: {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ} [الشعراء:91] * {وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ} [الشعراء:92] * {مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الشعراء:93] أين آلهتكم؟ أين أصنامكم؟ أين مبادئكم؟ أين أفكاركم؟ أين قدوتكم؟ أين شيوعيوكم؟ أين حداثيوكم؟ {هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ} [الشعراء:93] هل ينصرونكم وينقذونكم، أو يمتنعون من العذاب؟ قال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ} [الشعراء:94] يعني: الذين عبدوهم، كلهم سواء {وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} [الشعراء:95] * {قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ} [الشعراء:96] يتشاجر في النار التابع والمتبوع {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الشعراء:97] * {إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:98] نجعلكم مثل الله نطيعكم، تحرمون ما أحل الله فنحرمه، وتحلون ما حرم الله فنحله، وتشرعون شريعة غير دين الله ثم نطبقها، وتضعون قوانين ما أنزل الله بها من سلطان ونحن نطيعكم عليها، سويناكم برب العالمين سبحانه {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الشعراء:97] أي: والله لقد كنا في ضلال مبين {إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:98] ثم يقولون: {وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ} [الشعراء:99] من هم المجرمون؟ هم دعاة الضلال الذي يضلون الناس ويزينون لهم الباطل، ويخدعونهم بدعوتهم إلى غير منهج الله، هؤلاء يقال لهم يوم القيامة بأنهم مجرمون، ثم يقولون: {وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ} [الشعراء:99] * {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ} [الشعراء:100] * {وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء:101] * {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:102] لكن لا عودة أبداً {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:103] * {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:104].
تحدث مخاصمة أيضاً بين هؤلاء الأتباع والمتبوعين بين الظالمين ومن تبعوهم في الضلال.
يقول الله عَزَّ وَجَلّ: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات:22] يعني: نظراءهم وأشكالهم، وليس المقصود أن كل ظالم يحشر هو وزوجته، فقد يكون الرجل ظالماً لكن زوجته مؤمنة، مثل فرعون فهو ظالم كافر في النار، وزوجته آسية بنت مزاحم مؤمنة في الجنة: {قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ} [التحريم:11] لم تقل: ابن لي بيتاً في الجنة وحسب، وإنما قالت: (عندك) سألت الجار قبل الدار! فهنا يقول الله: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ} [الصافات:22] أي: الذين ظلموا والذين هم مثلهم، والذين كانوا يعبدونهم {مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ} أي: دلوهم، لكن إلى أين؟ {إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات:23] فقد دللناهم في الدنيا على صراطنا المستقيم فرفضوه وساروا في طريق الشيطان، فالآن دلوهم إلى نهاية الطريق {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات:23].
ثم قال: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ} [الصافات:24] * {مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ} [الصافات:25] لماذا لا تستنكرون؟ لماذا لا يدافع بعضكم عن بعض؟ {بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} [الصافات:26] * {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات:27] * {قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} [الصافات:28] يقولون: كنا كلما أتينا نريد طريق اليمين ردتمونا عنه {قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الصافات:29] أي: أنتم في الأصل كنتم معنا، {وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} [الصافات:30] لم نأخذكم بالغلظة أو بالقوة والبطش {بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طَاغِينَ} [الصافات:30] * {فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ} [الصافات:31] * {فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ} [الصافات:32] يقولون: نحن هكذا كنا غاوين فأغويناكم معنا فلماذا أطعتمونا؟ قال الله: {فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الصافات:33] * {إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} [الصافات:34] * {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات:35].(96/14)
الخصام بين الضعفاء والمستكبرين
يحدث أيضاً خصام آخر في النار بين الضعفاء والمستكبرين، يقول الله: {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً} [إبراهيم:21] يقولون: نحن أتباعكم ولابد أن تحملوا من العذاب شيئاً أكثر منا {فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} [إبراهيم:21].
وفي موضع آخر من القرآن يقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ} [غافر:47] يعني: يتحاكمون ويتخاصمون، ويتشاجرون {فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا} [غافر:47 - 48] الله أكبر! لا إله إلا الله! يقولون: أين نذهب بكم؟ كيف ننصركم؟ ونحن معكم.
فأهل النار يقول الكبير منهم للصغير: {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} [غافر:48].
وهذا كله في عرصات القيامة قبل أن يدخلوا النار، وعندما يدخلون النار ويقفون على الأبواب يتخاصمون أيضاً، يقول الله عَزَّ وَجَلّ: {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ} [ص:55] شر مآب وشر مصير للطاغين المجرمين {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ * هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ * وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ * هَذَا فَوْجٌ} [ص:56 - 59] يعني: مجموعة جاءوا إلى النار ((مُقْتَحِمٌ)) [ص:59] فلا يدخلون النار مشياً وإنما يدفعون دفعاً {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً} [الطور:13] ثم سبعين سنة يهوون حتى يصلوا إلى قعرها {هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ} [ص:59] أي: مقتحم عليكم في النار.
فيقول من في النار: {لا مَرْحَباً بِهِمْ} [ص:59] كان إذا رآه في الدنيا يرحب به ويأخذه بالأحضان؛ لأنهم اجتمعوا في الدنيا على صوت العود والأغاني، ويوم القيامة يقول: {لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ} [ص:59] فيقول الذين في الأعلى: {قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ * قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ} [ص:61 - 61].(96/15)
ظهور الحقيقة للكافرين الساخرين من المؤمنين
{وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ} [ص:62] وهم في النار تذكروا، قالوا: أين الذين كنا نتصورهم من الأشرار من هم؟ هم أهل الإيمان؛ لأن الكفار كانت فطرهم منكوسة، ونظراتهم مغيرة، كانوا يتصورون المؤمن شريراً ويقولون: هذه عقلية متخلفة وهذا هوس ديني.
فتجده في الدنيا يلمز ويغمز، ويصب الاتهامات على المتدينين، فأحياناً يصفهم بالتزمت، وبالاحتقار، فنقول: وأنت أين أنت؟ يقول: هؤلاء أشرار.
أين الذين {كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ} [ص:62] * {أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً} [ص:63] يقول ضحكنا عليهم في الدنيا، أين هم الآن؟ {أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ} [ص:63] لعلهم في النار، ونحن لا نراهم بأعيننا، أين هم؟ {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} [ص:64].
ثم يتضح لهم أن أولئك في جنات ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر، بما صبروا وتحملوا من الأذى في سبيل إرضاء الله تعالى.
ويقع خصام آخر بين الكافر وبين قرينه، القرين: الشيطان.
يقول الله عَزَّ وَجَلّ: {وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} [ق:23] * {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} [ق:24] * {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ} [ق:25] * {الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ} [ق:26] فيقول الآخر: {قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} [ق:27] فيتبرأ إبليس ويقول: ما أطغيته، ولكن كان في ضلال بعيد، فقال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ} [ق:28] * {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق:29].(96/16)
خصام بين الكافر وأعضائه
هذه مخاصمة بين الكافر وبين الناس، ثم بينه وبين زملائه، بينه وبين المستكبرين، ثم بينه وبين شيطانه، ثم تحصل مخاصمة بين الإنسان وبين نفسه، بينه وبين أعضائه، فعينك التي تستخدمها في الحرام والله لتكونن خصماً لها يوم القيامة، وتكون خصمك يوم القيامة.
فيقول الله: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} [فصلت:19] يوزعون، أي: يجمعون، يجمع أولهم على آخرهم، مثلما تَجَمعُ الغنمَ إذا أدخلتها في الحضيرة، لا تُدخلها واحدة واحدة، وإنما تتجمع كلها، تخشى أن إحداها تهرب فتردها وهكذا، يحشرون ويوزعون حتى لا يفلت منهم أحد.
{حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [فصلت:20] ويبدأ الخصام: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [فصلت:21] يقولون: إن الله الذي أنطقنا كما أنطقكم أول مرة، أنطقنا نحن الجوارح بما عملنا.
أنت كانت عينك لك، وجعلتها عدوة لك، وكانت أذنك لك، ولكن جعلت أذنك عدوة لك، كان بالإمكان أن تجعل هذه العين صديقة لك تنظر بها في الحلال، وتقرأ بها القرآن، وأذنك تسمع به القرآن ولسانك تتكلم به في الحق، فتكون هذه يوم القيامة شواهد لك، ولكن يوم أن سخرتها في الباطل أصبحت شهيدة عليك.
ويكون هذا حين يعاينون العذاب الشديد الذي أعده الله لهم، فيلجئون بعد ذلك إلى التقليد، والإنكار، وتكذيب الملائكة، ويدعون أنهم كانوا صالحين، فما يبقى عليهم حجة إلا أن يُشْهَدَ الله عليهم أنفسهم.
فيختم الله على أفواههم، وتنطق أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، وبعد سماعهم لكلام جوارحهم، يقول أحدهم لأعضائه: بعداً لكنَّ وسحقاً، عنكن كنت أجادل.
يا إخوان! والله إن هذا الحديث تشيب منه الرءوس إن كان في القلوب إيمان وحياة، أخرج الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يلقى العبد ربه فيقول له: ألم أكرمك ألم أسودك؟ ألم أزوجك؟ ألم أسخر لك الخيل والإبل؟ وأذرك ترأس وتربع؟ فيقول: بلى أي رب.
فيقول الله: أظننت أنك ملاقيَّ، قال: لا يا رب، فيقول له: اليوم أنساك كما نسيتني، ثم يلق الله آخر -رجلاً ثانياً- فيقول له مثل ذلك، ثم يلق الله -رجلاً ثالثاً- فيقول له مثل ذلك فيكذب على الله- فيقول: رب آمنت بك وبكتابك وبرسولك وصليت، وتصدقت، وصمت، ويثني بخير على نفسه ما استطاع فيقول الله: ألا نبعث شاهدنا عليك؟! فيفكر في نفسه، فيقول: من الذي يشهد عليَّ فيختم الله على فمه، ويقول لفخذه: أنطقي، فتنطق فخذه، وينطق فمه وعظمه وجلده بعمله الذي كان يعمله، وذلك ليعذر من نفسه، وذلك المنافق الذي يسبب سخط الله عليه).
أخرجه مسلم.
وفي صحيح مسلم حديث آخر، وفيه حوار آخر يجري بين العبد وبين جوارحه، وهذا الحوار يثير العجب والاستغراب، وقد أضحك هذا الموقف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ففي صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: (كنا عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فضحك فقال: أتدرون مما أضحك؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: من مخاطبة العبد ربه، يقول: يا رب ألم تجرني من الظلم، فيقول الله: بلى.
فيقول: إني لا أجيز على نفسي إلا شاهداً مني، فيقول: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء:14] ثم يختم على فيه فيقال لأكتافه: انطقي فتنطق بأعماله، ثم يخلى بينه وبين الكلام -وبعد ما تأتي أعضاؤه بالشهادة يعطى فرصة للكلام- فيقول: لأعضائه بعداً لكُنَّ وسحقاً، عنكن كنت أناضل، عنكن كنت أجادل!).
هذه هي الخصومات ثم يدخلون بعد ذلك النار وترتفع أصواتهم باللعن، ويقول الله في هذا {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنْ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:38].
هذا -أيها الإخوة- هو حال الكفار يوم القيامة، فهل يريد أحد منا أن يكون في مثل هذه الحال؟ نعوذ بالله من هذه الحال.
اللهم إنا نعوذ بك من النار ومن حال أهل النار، ومن حر النار، ومن عذاب النار، ومن الخزي والبوار، ونسألك يا الله، يا أرحم الراحمين! أن تجيرنا من النار، اللهم حرم أجسادنا على النار، ولحومنا على النار وأبشارنا على النار، وحرمنا يا مولانا على النار! وآباءنا وأمهاتنا، وإخواننا وأخواتنا، وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(96/17)
لقاء مع الشيخ سعيد بن مسفر
تضمن هذا اللقاء التعريف بالشيخ والمراحل التي تدرج فيها في طلبه للعلم، وعن كيفية بداية هدايته.
وقد دار كلام الشيخ حول الهداية والثبات على هذا الدين، إذ ليس للإنسان قيمة في هذه الدنيا وكذلك في الآخرة إلا بالتمسك بهذا الدين والثبات عليه؛ لأنه سبب الفلاح والسعادة في الدارين، ولا يكون ذلك إلا بالتمسك بالكتاب والسنة مع وجود الرفقة الصالحة التي تعينه على الخير.(97/1)
نبذة تعريفية عن الشيخ سعيد بن مسفر
الحمد لله الذي يرفع بالعلم أقواماً ويضع بالجهل آخرين، والصلاة والسلام على من حثنا على الأخذ بالعلوم الشرعية، وأمر بتوقير أهلها وإجلالهم، وانطلاقاً من محبة العلماء وطلبة العلم والرغبة في الاستفادة منهم ومن علمهم، دأبت أسرة ثابت بن قيس إحدى أسر جمعية التوعية الإسلامية بمدرسة تحفيظ القرآن الكريم بـ أبها لهذا العام الدراسي (1408) هـ على زيارة بعض العلماء وطلبة العلم من هذه المنطقة، وهذه هي الزيارة الثالثة من سلسلة هذه الزيارات، والتي نتشرف فيها بزيارة فضيلة الشيخ سعيد بن مسفر حفظه الله ونفع بجهده وعلمه، ونطلب من فضيلته أن يتفضل بتعريفنا ببطاقته الشخصية على الاسم كاملاً، ومراحل الدراسة وطلب العلم، والعمل الحالي.
الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.
أولاً: أرحب بكم، وأسأل الله تبارك وتعالى أن يجزل لكم المثوبة والأجر على هذه الزيارة المباركة التي تقومون بها لأخ لكم في الله عز وجل، والكل يعرف أن من أعظم الفرص ومن أرفع الدرجات التي تحصل للعبد هي الزيارة في الله عز وجل، فحياكم الله وأثابكم الله.
أما البطاقة الشخصية: فالاسم: أخوكم في الله سعيد بن مسفر بن مفرح.
مراحل الدراسة: تخرجت من معهد إعداد المعلمين في أول دفعة نظام قديم سنة (1379) هـ، وعملت مدرساً لمدة ثلاث سنوات، ثم انتقلت إلى إدارة التعليم وعملت بها موجهاً للتربية الرياضية والتربية الكشفية لمدة خمس سنوات، وفي عام (1387) هـ، وبعد حصول التحول في حياتي من اللهو واللعب والحياة الجاهلية إلى الحياة الإسلامية التي أسأل الله تبارك وتعالى أن يثبتني عليها حتى ألقاه، انتقلت من التربية الرياضية والكشفية لأعمل في التوعية الإسلامية والتربية الإسلامية بإدارة التعليم، ومكثت فيها حتى عام (1396) هـ حينما افتتحت أول مدرسة لتحفيظ القرآن الكريم بمنطقة عسير؛ حيث عملت مديراً لها حتى عام (1400) هـ، وبعد ذلك عملت بكهرباء المنطقة الجنوبية، ولا أزال حتى هذا التاريخ، والعمل الحالي هو مدير إدارة شئون العاملين بالنيابة بكهرباء الجنوب.
أما طلب العلم ومراحل الدراسة؛ فكما قلت: تخرجت من معهد إعداد المعلمين، وحاولت الدراسة بالمرحلة الليلية في الثانوي، ولكني اصطدمت ببعض المدرسين الذين كانوا يقدمون العلم في صورة مجردة عن الإيمان، وأذكر على سبيل المثال أن مدرس الطبيعة كان يدرسنا كيف تكونت الأرض؟ فكان يقول: إن الأرض كانت جزءاً من الشمس، وإنها انفصلت عنها، وإن هذه الكتلة التي كانت ملتهبة، ثم تكونت الجبال، وتكونت السهول وصارت بحاراً، وتكون اثنين هيدروجين مع واحد أكسجين وصار ماء؛ فقلت له: من سوى هذا الكلام؟! قال: هكذا صار، فقلت له: يقول الله عز وجل: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً} [الكهف:51] ثم ذكرت له قول الله عز وجل: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [فصلت:9] وذكرت له مراحل الخلق التي حصلت للأرض والسماوات وفق ما أخبرنا به القرآن والسنة، ولكنه كان بعيداً عن الكتاب والسنة المطهرة؛ فكان يقف لي بالمرصاد، حتى اضطررت إلى ترك الدراسة في أول ثانوي، ولم أتمكن من مواصلة دراستي في المرحلة الثانوية.
وفي عام (1397) هـ حينما افتتحت كلية الشريعة بمنطقة الجنوب، وقابلنا مدير الجامعة الدكتور عبد الله التركي، وطلبنا منه أن يسمح لنا بالقبول في كلية الشريعة رغم أننا لا نحمل الثانوية العامة، فقال: على شرط أن نجري لكم امتحاناً يعادل امتحان الثانوية العامة، فقبلنا، وفعلاً تقدمنا للامتحان بفضل الله، وحققنا نتائج طيبة، وحصلنا على معدل (82%) في القبول، ودخلت كلية الشريعة مع أول دفعة، وتخرجت سنة (1400) هـ من كلية الشريعة بتقدير جيد جداً (منتسب)، هذه هي المراحل التي مررت بها في طلب الدراسة والعلم.(97/2)
بداية هداية الشيخ سعيد بن مسفر
السؤال
لكل هداية بداية، ونريد أن تحدثنا عن بداية الهداية لفضيلتكم، لعلنا نسترشد بها في مسالك الحياة، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
حقيقة لكل هداية بداية، بفطرتي كنت أؤمن بالله، وحينما كنت في سن الصغر كنت أمارس العبادات وكان ينتابني شيء من الضعف والتسويف على أمل أن أكبر وأبلغ مبلغ الرجال حينما أكون مكلفاً، فكنت أتساهل في فترات معينة في الصلاة، فإذا ما حضرت جنازة أو مقبرة أو سمعت موعظة في مسجد ازدادت عندي نسبة الإيمان؛ فأحافظ على الصلاة فترة معينة مع السنّة، وبعدما أستمر أسبوعاً أو أسبوعين أترك السنّة، وبعد أسبوعين أو ثلاثة أترك الفروض، حتى تأتي مناسبة أخرى تدفعني إلى أن أصلي.
وبعد أن بلغت مبلغ الرجال وسن الحلم، لم أستفد من ذلك المبلغ شيئاً، وإنما بقيت على وضعي في التمرد وعدم المحافظة على الصلاة بدقة؛ لأن من شب على شيء شاب عليه، حتى تزوجت، وكنت أصلي أحياناً وأترك أحياناً، فليس هناك التزام قوي بالدين، رغم أنه كان عندي إيمان قوي بالله، حتى شاء الله تبارك وتعالى في مناسبة من المناسبات كنت فيها مع أخ لي في الله لعلكم تعرفونه، وهو فضيلة الشيخ سليمان بن محمد بن فايع بارك الله فيه، وهذا كان سنة (1387) هـ، نزلت من مكتبي وأنا مفتش تربية رياضية وكنت ألبس الزي الرياضي، والتقيت به على باب إدارة التعليم وهو نازل من قسم الشئون المالية، فرحبت به؛ لأنه زميل الدراسة، ولكن أنا في اتجاه وهو في اتجاه، أنا في الكرة وهو في العلم وطلب العلم، فلما رحبت به وأردت أن أودعه، قال لي: إلى أين؟ وكان هذا في رمضان سنة (1387) هـ؛ أي: قبل إحدى وعشرين سنة، قلت له: إلى البيت لأنام، وكانت عادتي أن أذهب بعد نهاية الدوام إلى البيت فأنام إلى المغرب دون أن أصلي العصر، إلا إذا استيقظت قبل المغرب، وأنا صائم.
فقال لي: يا أخي! لم يعد هناك فرصة، فالعصر قريب، دعنا نتمشى، فقلت له: طيب، فمشيت أنا وهو على أقدامنا، وصعدنا إلى سد وادي أبها ولم يكن آنذاك سداً ولا يزال المكان فارغاً، وكان فيه غدير وحشائش ورياحين وروائح طيبة، فجلسنا هناك حتى أذن العصر وتوضأنا وصلينا ثم نزلنا، وفي الطريق ونحن نازلين ويده في يدي، قرأ علي حديثاً كأنما أسمعه لأول مرة، وأنا قد سمعت هذا الحديث؛ لأنه من الأحاديث المشهورة، لكن حينما كان يقرأه كان قلبي ينفتح له، حتى لكأني اسمعه لأول مرة، هذا الحديث هو حديث البراء بن عازب رضي الله عنه رواه الإمام أحمد في مسنده ورواه أبو داود في السنن، قال رضي الله عنه: (خرجنا في جنازة رجل من الأنصار؛ فجئنا إلى القبر ومعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فوجدنا القبر لمّا يلحد، فجلس عليه الصلاة والسلام على شفير القبر وقال: إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزلت عليه ملائكة من الجنة ومعها حنوط من الجنة وكفن من الجنة، فيجلسون للميت على مد البصر، ثم يأتي ملك الموت فيقول: يا أيتها الروح الطيبة اخرجي إلى روح وريحان وإلى رب غير غضبان).
المهم ذكر لي الحديث كله من أوله إلى آخره، وانتهى من قراءة الحديث حينما دخلنا أبها في ساحة البحار، وهناك سنفترق سأذهب أنا إلى مقر سكني وهو سيذهب إلى مقر سكنه، فقلت له: يا أخي! هذا الكلام من أين أتيت به؟ قال: هذا في رياض الصالحين، قلت: وأي كتاب تقرأ أنت؟ قال: أقرأ كتاب الكبائر للذهبي، فودعته وذهبت إلى المكتبة مباشرة، وكانت آنذاك مكتبة واحدة بـ أبها اسمها مكتبة التوفيق، صاحبها إدريس الحازمي، فاشتريت منه كتاب الكبائر وكتاب رياض الصالحين، وهذان الكتابان هما أول كتابان أكتنفهما، وفي الطريق وأنا ماضٍ إلى البيت أقول لنفسي: أنا الآن على مفترق الطرق، وأمامي الآن طريقان: الطريق الأول: طريق الإيمان ويوصل إلى الجنة، والطريق الثاني: طريق الكفر والنفاق والمعصية ويوصل إلى النار، وأنا الآن واقف؛ فأي الطريقين أختار؟ العقل يتحكم ويتدخل ويقول: الطريق الأول طريق الإيمان، والنفس الأمّارة بالسوء المغمورة بالشبهات، المدفونة بالشهوات تقول لي وأنا ماض إلى البيت: لا.
امشِ الآن وسأخبرك بعد ذلك، إذا كبرت يمكن أن تتوب ويهديك الله، أما الآن فأنت لا تزال شاباً وصغيراً، فأستشير العقل، فيقول العقل: لا تطع هذه، هذه غدارة.
كل هذه الأفكار وهذه الصراعات كانت تدور في ذهني وأنا ماضٍ إلى البيت، حتى وصلت إلى البيت وأفطرنا، وبعد صلاة المغرب، صلينا العشاء تلك الليلة وصلاة التراويح، ولم أذكر أنني صليت التراويح كاملة إلا تلك الليلة، كنت قبلها أصلي ركعتين وأذهب، وأحياناً إذا رأيت أبي أصلي أربع ركعات وأذهب.
وفي تلك الليلة صليت التراويح كاملة، وانصرفنا من الصلاة، ورأساً توجهت إلى الأخ سليمان في بيته، فوجدته خارجاً من المسجد، فذهبت معه إلى البيت وقرأنا تلك الليلة في أول كتاب الكبائر أربع كبائر: الكبيرة الأولى: الشرك بالله، والكبيرة الثانية: السحر، والكبيرة الثالثة: قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، والكبيرة الرابعة: ترك الصلاة، وحينما قرأناها وانتهينا منها كان ذلك قبل السحور، قلت في نفسي: أين نحن من هذا الكلام؟! فقال لي: هذا في كتب العلم ونحن غافلون عنه، قلت: والناس أيضاً في غفلة عنه، الناس الآن في غفلة لا بد أن نقرأ عليهم هذا الكلام، قال: ومن يقرأ؟ قلت: أنت.
فقال: بل أنت فالقراءة سهلة ولكن من يقف، وأخيراً استقر الرأي على أن اقرأ أنا هذا الكلام.
فأتينا بدفتر وكتبنا فيه الكبيرة الرابعة: كبيرة ترك الصلاة، ومن الأسبوع نفسه في يوم الجمعة، وفي أول مناسبة وقفت في أحد المساجد وهو الذي يصلي فيه الآن الشيخ مداوي الجابر، الذي بجوار مركز الدعوة ولعلكم تعرفونه، وكان في أبها مسجدين فقط للجمعة: الجامع الكبير وهذا المسجد، فوقفت فيه بعد صلاة الجمعة، وقرأت على الناس هذه الموعظة المؤثرة التي من يراجعها منكم يجد فيها فائدة كبيرة، وكانت السبب بفضل الله عز وجل في هدايتي واستقامتي، وأسأل الله تبارك وتعالى أن يقيمني وإياكم على الصراط حتى نلقاه إنه على كل شيء قدير.(97/3)
نصيحة في الثبات على دين الله
السؤال
يتأرجح كثير من الشباب بين الشرة والفترة، وبين النهوض والنكوص، فما نصيحتكم لأولئك؟
الجواب
نصيحتي للشباب: هو الثبات على دين الله؛ لأن التأرجح والتقدم تارة والتأخر أخرى هذا يدل على عدم استقرار اليقين في النفس البشرية؛ لأن المؤمن حينما يدخل في طريق الله يجب أن يدخل دخول الجازم الصادق الذي لا ينتابه أدنى شك في صحة الطريق الذي هو عليه، وفي صحة الغاية التي يسعى إليها، وأنه على الحق ولو خالفه أهل الأرض، هذا الشعور إذا توفر في بداية الطريق؛ فإن هذا كفيل بإذن الله أن يستمر الشاب على الطريق المستقيم.
لكن هناك عقبات وعوائق تقف في طريق الشاب، وعليه ألا يتوقف عندها؛ لأن التوقف هو بداية الانهزام، بل عليه أن يأتي إلى كل عقبة بقوة وعزيمة، شأنه في ذلك شأن العربة أو المركبة أو السيارة التي يقودها قائدها، فيرى أن أمامه عقبة أو طلعة؛ فإنه إن صعد بعزم أسفل الطلعة تمكن من الصعود، لكن لو أخذ بعزم ثم في منتصف الطلعة توقف فإنه لن يستطيع المواصلة، وطريق الله عز وجل طريق فيه صعوبة، وإنه ليسير على من يسره الله عليه، فلا بد من القوة، وخير ما أوصي به الشاب لئلا يتأرجح: ما ذكره الإمام سيد قطب شهيد الإسلام رحمه الله في أول كتابه العظيم معالم الطريق، حينما تحدث عن الجيل القرآني، وقال: إن القرآن هو القرآن، وإن السنّة هي السنّة، وإن مقومات هداية الجيل القرآني لا تزال موجودة إلى الآن وفي كل يوم إلى قيام الساعة، ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وحياته ضرورية لبقاء الدين لما اختاره الله إلى جواره، ولكن الدين باقٍ رغم موته صلى الله عليه وسلم.
ولكن ما هي الميزة التي تميز بها الجيل القرآني الفريد الذي عاش في عهد الإسلام، في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الميزة تنقسم إلى ثلاث ميزات: أول ميزة: وحدة التلقي.
وهي: عدم تلقي أي شيء إلا من القرآن ومن السنّة؛ لأن الشاب إذا أخذ من القرآن والسنّة، وأخذ من مصادر أخرى حصل عنده خلط في التلقي، وتشويش في الفكر، وانحراف، لكن حينما يقصر نفسه على أن يتلقى فقط من الكتاب والسنّة ومن أخيه في الله الذي يجلس معه، فهذا لا شك أنه يجنبه الخلط في التلقي، ولهذا لما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم نسخة من التوراة بيد عمر يقرأها غضب عليه عليه الصلاة والسلام وقال: (أفيّ شك يا ابن الخطاب، لقد جئتكم بها بيضاء نقية، والله لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي) يقول: موسى الذي أنزلت عليه التوراة كان موجوداً ما نظر في التوراة التي أنزلت عليه، ولا يسعه إلا أن يتبعني، فنحن لا ينبغي لنا إلا أن نتبع المصدر الوحيد الذي جاءنا من الله وهو كتاب الله، وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم.
الميزة الثانية من ميزات الجيل القرآني الفريد: أنهم كانوا يدخلون في الهداية والدين، ويقطعون كل صلة لهم بالجاهلية التي كانوا فيها، ما كانوا يدخلون في الإسلام ولهم جذور أو لهم روابط تربطهم بالماضي، كمن يهتدي وهو يحب الغناء، أو يهتدي وهو يحب النظر المحرم، أو يهتدي وهو يحب الكرة، أو يهتدي وهو يحب السهر، لأن هذا سيبقي له روابط بالجاهلية، وهذه الروابط مهما كانت يسيرة إلا أنها تؤثر في سيره، وربما تعيقه وترده، فعلى المسلم إذا أراد السير في طريق الإيمان أن يقطع كل صلته بالجاهلية، وأن يدخل الإسلام وهو منقطع عن كل التصورات الأخرى، وأن يخلع ملابس الجاهلية على عتبة الإسلام.
الميزة الثالثة التي لا بد منها، والتي كانت من أبرز ميزات الجيل القرآني: أنهم كانوا يأخذون القرآن والسنة للعمل والتطبيق، لا يأخذونه للاستزادة أو للمتعة، ولا للمباهاة والرياء، وإنما للتطبيق، ولهذا يقول ابن مسعود رضي الله عنه: (ما كنا نتجاوز العشر آيات من القرآن حتى نعيهن، ونتعلمهن، ونعمل بهن، ونطبقهن) عشر آيات! ويروى أن ابن عمر مكث في سورة البقرة ثمان سنوات، قراءة العلم والتدبر والتطبيق والعمل، لكن إذا قرأ الإنسان القرآن لمجرد الحفظ من أجل يأخذ جائزة، أو من أجل أن الحفظ مقرر عليه في مرحلة دراسية معينة، أو من أجل أنه يحوز به مرتبة أو شيئاً ما فلا ينتفع بالقرآن.
ولكن إذا قرأ القرآن آية آية وطبق، وكلما مرت عليه آية من آيات الأوامر سأل نفسه: هل هو ملتزم بهذا الأمر، وكلما مرت عليه آية من آيات النواهي سأل نفسه: هل هو منتهٍ عن هذا النهي، لأن القرآن هو كتاب الله إليك أيها المكلف، فأنت معني بهذا الخطاب أمراً ونهياً، وخبراً وإنشاءً، وقصصاً واعتباراً، وكل ما في القرآن أنت مخاطب به، فتسأل نفسك، فإذا أخذت القرآن على هذا النحو من الأخذ والتلقي بقصد العمل، يحصل للإنسان الهداية، أما إذا أخذه بغير هذا القصد فلا يحصل له المراد، فهذه وصيتي لمن أراد أن يسير في الطريق، وألا يتذبذب ويتأرجح كما نسمع بين مد وجزر، وبين سقوط وصعود؛ لأنه يُخشى على من يسقط ألا يقوم، القلوب تغيراتها عجيبة جداً، والإنسان ضعيف، ويقول عليه الصلاة والسلام: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراعاً، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها).
وهذا فيه حث من النبي صلى الله عليه وسلم على أن يستمر الإنسان في عمل أهل الجنة حتى يموت، ولا يعمل بعمل أهل النار لحظة واحدة، فقد يموت وهو يعمل عمل أهل النار؛ فيُكتب من أهل النار، وفي الحديث نفسه قال: (وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراعاً، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة) وفي هذا الحديث أيضاً حث على أن من يعمل بعمل أهل النار عليه أن يسارع بالتوبة إلى الله، وأن يعمل بعمل أهل الجنة، فقد يموت حين يعمل بعمل أهل الجنة، هذا هو مفهوم الحديث ومنطوقه بارك الله فيكم.(97/4)
بعض المظاهر والمشاكل السيئة عند الشباب وعلاجها
السؤال
فضيلة الشيخ هناك ظواهر لدى الشباب أذكر بعضاً منها، ونريد من فضيلتكم التعليق على كل ظاهرة، وسأوردها واحدة واحدة:(97/5)
العناية الزائدة باللباس والمظهر
السؤال
الظاهرة الأولى: العناية الزائدة باللباس والمظهر؟
الجواب
العناية الزائدة باللباس وبالمظهر تدل على نقص يشعر به الإنسان في نفسه، ويحاول أن يستعيضه عن طريق الشكل العام، وإلا فإن الشكل لا يعطي الدليل الصحيح على قوة المؤمن ويقينه، صحيح إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، والله جميل يحب الجمال، وقد أمرنا الإسلام بالطهارة والنظافة، وأن نلبس جميلاً، وأن نركب جميلاً، وأن نسكن جميلاً، ولكن في حدود المعقول، أما المبالغة في ذلك بحيث لا يخرج الإنسان إلا في ثوب معين، ولا يخرج إلا بغترة مكوية على نمط معين، وفي حذاء معين، أو يشرب شراباً معيناً، فهذه المبالغة تدل على نقص وضعف في الإيمان.(97/6)
التحمس لمشاهدة المباريات والمسلسلات
السؤال
الظاهرة الثانية: الحماس للكرة ومشاهدة المباريات والمسلسلات؟
الجواب
الكرة وثن من أوثان الجاهلية الحديثة، وإذا كانت بنو إسرائيل فتنتهم في العجل؛ فُفتنت هذه الأمة في هذه الكرة.
إن جلد الحمار المنفوخ فتن الناس شيبهم وشبابهم، رجالهم ونساءهم، كبارهم وصغارهم، حتى غدت أمتنا حقيقة أمة الكرة لا أمة القرآن ولا أمة السيف والجهاد، وانشغال طلبة العلم بها، والاهتمام بها، والاهتمام الذي يحدث يدل على ضعف اليقين، وعلى ضعف الإيمان بالله عز وجل، ولا ينبغي للمؤمن أن ينشغل بهذه التراهات والحماقات التي هي أصلاً ليست وليدة المجتمعات الإسلامية، إنها وليدة المجتمعات الضالة التي لا هدف لها ولا رسالة، ولا دور في قيادة البشرية، وإنما مجتمعات كافرة ضالة أوجدت مثل هذه اللعب لتشتغل بها، ثم نقلتها إلينا نحن المسلمين واشتغلنا بها، وظلت هي تشتغل بما هو أهم، فما ينبغي للمسلم أن يعطي هذه الأمور من التفاهات أي شيء من وقته، هذا بالنسبة للكرة وللمباريات.
أما المسلسلات، فهذه أخطر وأشد فتكاً بعقيدة المؤمن وأخلاقه؛ فهي تصل إلى درجة الحرمة، إذ لا ينبغي للمسلم أن يرى امرأة تمثل، ولا ينبغي للمرأة أن ترى رجلاً يمثل، ثم إن التمثيليات والمسلسلات في حقيقتها هي عبارة عن قصص مكذوبة ليست حقيقة، كاتب روائي كذاب يختلق قصة من عقله، ثم يأتي بسبعة أو ثمانية من الممثلين الكذّابين ليؤدوا هذه التمثيلية كلٌ في دور معين، ثم يشغلون بها الناس، هذه كلها من الأشياء التي ينبغي للمسلم أن يتنزه عنها، وألا يشغل حياته وفكره بهذه الخزعبلات.(97/7)
السهر بدون فائدة
السؤال
الظاهرة الثالثة: سهرات الشباب مع بعضهم بدون فائدة؟
الجواب
سهرات الشباب مع بعضهم بدون فائدة ظاهرة مرضية ينبغي أن يتداركها الشاب قبل أن تستفحل فتقضي عليه؛ لأن الوقت هو عمرك أيها الشاب، فإن لم تستدركه وتستغنمه في شيء يعود عليك بالنفع في الدنيا أو في الآخرة، وإلا فإنك تقتل عمرك وتنتحر من حيث لا تدري، ونحن الآن ليس عندنا فراغ حقيقة، بعض الشباب يقول: أنا فاضٍ ليس عندي شيء أبداً، فنقول لهذا: إن لدينا من الأعباء والمسئوليات والواجبات ما لو أن عندنا أضعاف أضعاف الوقت الذي عندنا ما ملأناه، نحن الآن ما فرغنا من حفظ كتاب ربنا، ولم نفرغ من معرفة سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم نفرغ من معرفة تاريخ أمتنا، ولا من سيرة نبينا صلوات الله وسلامه عليه، وما فرغنا أيضاً من معرفة التفسير، ولا من معرفة مصطلح الحديث، ولا قراءة متون العلم، هذه كلها واجباتنا ومسئولياتنا.
لو سألت طالباً من طلبة العلم عن تفسير آية من كتاب الله ما عرفها، وتجده جالساً، فتقول له: ما بالك؟ قال: فارغ بلا عمل كيف تكون فارغاً وابن كثير جالس بجوارك ما تسأله عن تفسير هذه الآية؟! أنت فارغ وما عرفت تفسير هذا الحديث؟! كيف أنت فارغ وأنت ما عرفت هذه المسألة الفرضية؟! إن أوقاتنا مليئة لو أردنا أن نملأها، لكن إذا غاب العقل والتفكير عن المسئولية والواجب نبذ الفراغ، لأنه إذا وجد الفراغ استغله الشيطان ليملأه بالباطل.(97/8)
إهمال الشاب الملتزم لدراسته
السؤال
الظاهرة الرابعة: إهمال الشاب الملتزم لدراسته؟
الجواب
وهذه مشكلة المشاكل حقيقة، إن الدين والالتزام يحث الشاب المؤمن على كل فضيلة، وينهاه عن كل رذيلة، ومن الفضائل التي يحث عليها أن يكون له قدم السبق في كل مجال، سواءً كان هذا المجال علماً شرعياً أو علماً دنيوياً، لنثبت للناس أننا سبَّاقون في كل ميدان، وحتى لا يتصور الناس أنني بمجرد أن اهتديت أصبحت منعزلاً في الزوايا، ولا أقيم للحياة وزناً، فيُتصور للناس أن هذا الدين هو الذي حثني على هذا القصور، لا أبداً، إن الدين يحثك على عمارة الدنيا والآخرة، ويطلب منك أن تكون سبَّاقاً في كل ميدان؛ لأنه بهدايتك والتزامك استطعت أن توفر من وقتك وجهدك، فتصرف الوقت والجهد في المجال الذي أنت فيه؛ فإذا كان ترتيبك متأخراً يوم أن كنت ضالاً فإنه ينبغي لك بعد الهداية أن يكون ترتيبك الأول أو الثاني.
يقول الشاعر:
ونحن أناس لا توسط بيننا لنا الصدر دون العالمين أو القبر(97/9)
عدم حضور حلقات العلم في المساجد
السؤال
الظاهرة الخامسة: عدم حضور حلقات العلم في المساجد؟
الجواب
حضور حلقات العلم في المساجد شيء مطلوب للمؤمن وللشاب الملتزم؛ لأنها وجبات روحية يتعب مقدموها في تجهيزها وتحضيرها، وأنت إذا أردت أن تتناول وجبة تعدها أنت بنفسك لزمك أن ترجع إلى عدة مراجع حتى تهيئ لك وجبة متكاملة، لكن العالم أو طالب العلم الذي التزم بأداء درس معين في مسجد معين، فإنه قبل أن يأتي يهيئ لك هذا الدرس، ويجمع لك أطرافه، ويحصر لك مشتقاته، فتأتي على وجبة جاهزة، فحرصك على هذه الجلسة أو على هذا الدرس دليل على حياة قلبك، وعدم حضورك لهذا الدرس أو ضيقك فيه دليل على مرض قلبك، أو على موته والعياذ بالله.
لذا كان من أوجب الواجبات على كل شاب مسلم أن يحرص على مجالس الذكر، وأن يتابع العلماء، وقدوته في ذلك صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، وسلف هذه الأمة، الذين كانت حياتهم كلها حلق علم، ومجالس ذكر، ينتقلون من حلقة إلى حلقة، ومن علم إلى علم؛ لأن العلم إذا وجد على يد عالم كان له أثر في النفس، بعكس العلم الذي تأخذه من كتاب فقط، فقد تأخذ من الكتاب وتفهم شيئاً لم يرده صاحب الكتاب، ولكن بالتلقي من عالم أو من طالب علم تفهم العلم على حقيقته، وإذا حصل لديك إشكال يكون بإمكانك بعد الدرس أن تقف معه، وأن تستوضح منه وتستفهم حتى يزول الإشكال، فتبني علمك وثقافتك الإسلامية على أساس متين من الفهم والوضوح.(97/10)
ضعف القراءة والاطلاع
السؤال
الظاهرة السادسة والأخيرة: ضعف القراءة والاطلاع؟
الجواب
الكتب الإسلامية والمواضيع الشرعية هي بمنزلة وجبات الروح، وعدم الإقبال عليها يدل على مرض الإنسان، مثل وجبات الطعام التي تقدم له، فعدم الإقبال عليها يدل على مرض، فمثلاً الذي لا يأكل الطعام الطيب، فالعلة ليست في الطعام، لكن الرجل هو المريض، معدته مريضة جسمه غير قابل للطعام.
وكذلك الكتب الإسلامية والشرعية طيبة، لكن عدم الإقبال على قراءتها يدل على مرض المعرض نفسه، لا على عدم صلاحيتها، فهي صالحة وطيبة، ولكن من أراد الشفاء فعليه أن يُلزم نفسه بالقوة ولو كانت نفسه لا تريد.
فأنت حين تتناول كتاباً من كتب العلم في بدايته تشعر بضيق وانقباض، ولكن ألزم نفسك بالقراءة، حتى ولو شعرت بالانقباض أو عدم الارتياح، وإذا جاءك النوم وأنت تريد أن تقرأ وكنت مستلقياً فاجلس، وإذا جاءك النعاس وأنت جالس؛ فاذهب وتوضأ واغسل وجهك ثم ارجع واقرأ، وألزم نفسك بالمداومة مرة ومرتين وثلاثاً وأربعاً حتى تصبح القراءة خلقاً لك، بحيث لا يمكن أن تجلس إلا على قراءة.
وحاول أن تستفيد من كل لحظة، بحيث يكون عند رأسك عندما تنام كتاب، وعند مقعدك وأنت جالس في غرفة الجلوس مع أهلك بعض الكتب، وتتناول في كل مناسبة كتاباً، ثم لتكن قراءتك واطلاعك قراءةً ذات قيمة ومعنى، فالقراءة ذات القيمة تقتضي أنك إذا حصلت على شيء مفيد لا تذهب عنه بسرعة بل ردده، أي: ارجع إليه مرة ومرتين وثلاثاً وأربعاً حتى تهضمه، ثم بعد ذلك إذا أردت أن تنقله في ورقه فقم بنقله وهذا لا شك أفضل، وإذا نقلت هذه الفائدة في ورقة فانقلها لأول شخص تلقاه من إخوانك، لأنك حينما ترددها ترسخ في ذهنك، وحينما تنقلها تزداد رسوخاً، وحينما تبلِّغ بها أخاك في الله تزداد رسوخاً أيضاً، وحينما تقولها لأهلك في المجلس في مناسبة قادمة تزداد وتزداد.
ولكن مجرد القراءة العابرة لا تجزئ في الثقافة، لأنها عبارة عن معلومة تطرأ على ذهنك وتمسح التي قبلها، لكن القراءة المتيقنة الراسخة تثبت في ذهنك، وبهذه القراءة تستطيع أن تحصِّل العلم، بمعنى: أنه بمجرد أن يمر عليك شهر أو شهران أو ثلاثة إلا وقد أصبح عندك حصيلة علمية وثقافية كبيرة من جراء القراءة الرزينة، أما القراءة التي ليس لها تأكيد فإنك مهما قرأت لا يمكن أن يستقر في الذهن منها شيء؛ لأن كل معلومة جديدة تمسح التي قبلها؛ لأنها لم ترسخ في ذهن الإنسان.(97/11)
ممارسة الدعوة بالخطابة والتحدث
السؤال
كثير من الشباب يرغب أن يمارس دوره في الدعوة إلى الله بالخطابة والتحدث، ولكن يمنعه الحياء أحياناً كثيرة، فكيف يتغلب على هذه الحالة؟
الجواب
حقيقةً إن ممارسة الدعوة عن طريق الخطابة عمل له سلبيات وإيجابيات، فمن سلبيات هذا العمل: أنه يدعو النفس إلى الرياء؛ لأنه يحصل للإنسان إذا وقف يتكلم أمام الناس من الثناء والإعجاب والتقدير ما يغلب على طبعه كبشر، فيحول نيته من الله إلى الناس، وبهذا يفسد عمله، فلا يجعل الله عز وجل لكلامه قبولاً في قلوب الناس؛ لأن هذا الدين من خصائصه أنه إذا أريد به وجه الله انتُفع به، وإذا أريد به وجو الناس زل الكلام من آذانهم كما يزل الماء من على الصفا، فما ينتفع الناس بكلامه مهما كان بليغاً، وهذه من سلبيات الخطابة.
أما إيجابياتها فكثيرة جداً، أولاً: أنها تدفع الشاب الملتزم إلى البحث ليقدم الجديد للناس.
ثانياً: أنها تدفعه إلى الالتزام بما يقول للناس، إذ من العار والعيب عليه أن يقف ويقول: صلوا، وهو لا يصلي، أو لا تغنوا وهو يغني، أو يحذرهم من النظر إلى المحرم وهو ينظر إلى المحرم؛ لأنه يضع نفسه بالدعوة في موضع القدوة، والشيطان حريص على ألا تضع نفسك في موضع القدوة، فالشيطان يريد باستمرار أن تبقى مجهولاً أو مخفياً بحيث يستطيع أن يمارس عليك ضغطه ويستطيع أن يهزمك بممارسة المعصية، لكن يوم أن تشعر أنت بأنك قدوة في المجتمع، وأن لك مكانة معينة، وإذا أردت أن تسقط جاءك الشعور الإيماني كيف تسقط وأنت تقول كذا، فيدفعك هذا إلى الاستقامة باستمرار.
وعامل الحياء الذي يرد على الشاب حينما يريد أن يقف في مثل هذه المواقف هو حياء شيطاني ليس من الله، وإنما هو من الشيطان بواسطة التخذيل والتخويف لئلا تقف في هذا الموقف؛ لأنك حينما تقف تنصِّب نفسك لمعادة الشيطان، وهو لا يريد أحداً أن يعاديه، فربما إذا وقفت يُشعرك بالحياء والخجل والغلط أول مرة، وربما يسلط عليك بعض أصحابك فيضحكون عليك، ويقولون: أنت أخطأت، وأنت قلت، ولكن إذا علم الله منك صدق النية واليقين وسلامة القصد بأنك لم تقف إلا لوجهه، ولا تريد من هذا الوقوف إلا إبلاغ دين الله، فإن الشيطان لا يمكن أن يقف في طريقك، وعليك أن تستمر وتبدأ الطريق، ولا يهمك بعد ذلك أية معوقات، ولعل الله أن يهدي على يديك ولو رجلاً واحداً من هذه الأمة.(97/12)
كيفية السير على طريق الدعوة أمام المعوقات من قبل الوالدين
السؤال
يعاني بعض الشباب في بيوتهم من وقوف الآباء في وجه تطلعاتهم وتوجهاتهم الإيمانية مما يعكس أثراً سلبياً على استمرارية أولئك الشباب في طريقهم، ونود من فضيلتكم وضع معالم لهؤلاء الشباب تبين لهم كيفية السير في مثل هذه الظروف؟
الجواب
من الصعوبات الحقيقية التي تصادف الشاب أن يبتلى بأبيه أو بأمه أو بإخوانه في بيت لا يعينونه على طاعة الله عز وجل، هذه من أعظم المعوقات، وقد ضرب الله لنا الأمثلة في القرآن الكريم بأنبيائه ورسله الذين وُجِهوا بمثل هذه الصعوبات، فهذا نوح عليه السلام تقف في وجهه امرأته وولده، وهذا لوط عليه السلام تعانده امرأته وتكذبه ولا تؤمن به ولا تصدقه، وهذا إبراهيم عليه السلام يقف في وجهه والده، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقف في وجهه عمه وكافله وحاميه أبو لهب، هذه الأمثلة جاءت لتعزية المسلم وتسليته وإخباره بأنه ليس الوحيد في هذا الطريق، وأن الهداية ليست بيد الإنسان، وإنما هي بيد الله عز وجل.
فأنت حينما تهتدي وتجد أن أباك أو أمك أو أختك أو أخاك أو بعض أقاربك يقفون في وجهك، فعليك أن تثبت أولاً، وألا تتزعزع، وأن تسير في الطريق بدون تردد.
أما الأسلوب الذي يجب أن تتبعه في دعوة الوالدين والإخوة فهو أسلوب الرفق واللين والصبر وعدم التصدي، وعدم ممارسة الأوامر والنواهي، لأن من عرف أنك صغير استحقرك، ولأن الوالدان باستمرار لا يريدان أن يتلقيا التوجيهات ممن هو أصغر منهم؛ لأنهما إذا رأوه يأمرهما وينهاهما وهما يعرفان ماضيه بأنه كان طفلاً صغيراً، وأنه عبر أطواراً معينة حتى بلغ مبلغ الهداية، فيقيسونه بماضيه وصغره وجهله وعبثه، يقولون: هذا اللعاب أصبح يهدينا ويأمرنا وينهانا، يا ألله! اذهب فالعب، فتجد الأب يضرب ولده والأم تضرب ولدها، لماذا؟ لأنه جاءهم بصيغة الأمر والنهي.
ولكن عليه أن يمارس الدعوة برفق وبحساسية وبدقة، وعليه أن يستغل الفرص فلا يمارسها في كل وقت؛ لأن النصح في كل وقت يؤدي إلى الضجر والملل والرفض، لكن عليه أن يلتزم هو في ذاته، وإذا رأى فرصة مناسبة لدعوة والديه فلا يتركها، مثل قضايا الموت، فإذا سمع أن فلاناً مات يستغل ذلك، أو حضور جنازة، أو كسوف الشمس، أو خسوف القمر، أو هبوب الريح، أو وجود أمطار، أو شهر رمضان، أو موسم الحج، أو أية مناسبة دينية تحصل له، فعليه أن يستغل هذه المناسبة ويورد شيئاً مما يمكن أن يقبله والده أو والدته حتى يتأثرون.
أيضاً: يستعين بالأشرطة الإسلامية؛ لأنهم قد لا يثقون في الكلام الذي ينقله بذاته؛ لأنهم يعلمون بصغر سنه، يقولون: ما هذا الكلام الذي قلته لكن إذا جاءهم شريط من عالم بشرط أن يكون هذا العالم موضع ثقتهم، فلا يأتي بأحد ليس موضع ثقة؛ لأنه إذا زعزعت ثقتهم في العالم أو الداعية الذي يسمعون كلامه، كأن يكون له سلوك سيئ، أو مواقف ليست مشرفة في الدين، فإذا سمعوه يكرهونه ويكرهون الدين، لكن يسألهم ويعرف ويتعرف من الذي يحبونه من الدعاة أو من العلماء؛ فيأخذ الشريط الذي يناسبهم ويعطيهم إياه، ويدعو الله تبارك وتعالى في صلاته في الليل، وفي صلاته في الفريضة، وفي سجوده يدعو الله أن يهديهم، فيكون مكلفاً لمسئوليتين: يدعو الله أن يهديهم، ويدعوهم إلى الهداية الله، ففي الليل يدعو الله لهم، وفي النهار يدعوهم إلى الله عز وجل.
وهكذا بالنسبة للأخ، خصوصاً الأخ الأكبر، ينبغي أن يمارس معه نفس الأسلوب الذي يمارس مع الوالد، أما الأخ الأصغر فله أسلوب آخر، فكلما كان الأخ أكبر من الثاني فإن الصغير يريد أن يقتدي به، فهذا الأخ الصغير ينبغي أن تشمله بعطفك، ورعايتك وحنانك، وأن تقدم له كل ما تستطيع من الإعانة المادية، ولو على حساب مصلحتك أنت، المصاريف التي أنت تتناولها يومياً أعطه إياها، أشعره بأنك تحبه وترحمه، لا تذهب مكاناً إلا وهو معك، إذا ذهبت تشتري شيئاً اشتر له قبلك، ومن ثم أخدمه، فإذا أراد شيئاً أعطه إياه، لا تحاول أن تستخدمه حتى يحبك، فإذا أحبك ورأى منك هذا الخلق فإنه رأساً يتشبث ويقتدي بك.
ومن ثم تهدي له، خصوصاً من الأشياء التي يحبها مثل: الملابس، والأحذية، والكتب، والأدوات الدراسية، عندما تفتح حقيبته وترى أنه ليس عنده علبة هندسة، تذهب وتشتريها له بخمسة ريالات وتعطيه، تقول: هندستك قديمة هذه هندسة جديدة خذها، أو تعطيه قلماً، أو تساعده في حل واجباته، فإذا كان لك إخوة صغار فهؤلاء هم أعظم خامة بالنسبة لك، فيمكن لك أن تشكلهم على ما تريد أنت، لكن إذا كنت الكبير وأنت الملتزم فيهم، بينما تمارس على أخيك الصغير الضغوطات: قم وهات وافتح الباب واطلع وانزل كرّْهته فيك، وإذا بك تدعوه فيكرهك أكثر، فهذا أسلوب نافع بإذن الله عز وجل.(97/13)
قوة البداية وحسنها لها أثر في استمرارية الإنسان على الإلتزام بدين الله
السؤال
هناك مقولة تقول: "من لم يحترق في بدايته لم يتوهج في نهايته" ما مدى انطباق هذه المقولة على البداية الجادة القوية للتوجه الإيماني، والبداية الفاترة الهزيلة له؟
الجواب
هذه المقولة صحيحة إلى حد ما؛ لأن قوة البداية وحسنها لها أثر في استمرارية الإنسان في دين الله، أما ضعف البداية وعدم وضوح النية فيها فقد عده العلماء من أسباب الردة في دين الله عز وجل؛ أي أن الأشياء التي يُحبط بها دين الإنسان ويرتد بها عن الدين، هي أن تكون بدايته أصلاً لغير وجه الله، أو أن تكون هزيلة، أو لغرض مادي أو شهواني، فهؤلاء قليل منهم من يتجاوز الطريق ويصل، وغالباً ما ينقطع ويعجز عن الوصول؛ لأن الدافع في الأصل ضعيف، وحينما يكون الدافع ضعيفاً لا يمكن له أن يواصل السير.
لكن حينما تكون البداية قوية والدافع قوي، يترتب على هذا دفع قوي؛ لأن هذا دين الله، والله تبارك وتعالى يقول: {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ} [الأعراف:145] ويقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل:5] وطريق الإيمان طريق ليس مفروشاً بالزهور ولا بالورود، وإنما طريق شائك، طريق فيه تمرد على النفس، فيه تحرر على الطباع والشهوات، وفيه انقلاب على الأهواء والملذات، يُطلب منك إذا اهتديت أن تغير كل شيء، تغير سمعك فلا تسمع إلا شيئاً جديداً عما كنت تسمع، تغير نظرك وأصدقاءك، وطباعك، وبرامجك، وكتبك وأشرطتك، وتغير حتى أسلوبك في الأكل، والنوم، والتعامل، والسير في الطريق، كل شيء في حياتك يحصل فيه انقلاب رأساً على عقب.
أما الذي يدخل بضعف؛ فالضعيف لا يستطيع أن يقوى على شيء، فلا بد للمؤمن أن يدخل بقوة وبعنف وألا يتردد، هذه في مقامه مع نفسه.
أما مع غيره في أسلوب الدعوة فلا ينبغي له أن يكون عنيفاً؛ أي: مع نفسي آخذها بأعلى درجات الكمال، ولكن مع الناس آخذهم برفق؛ لأن الشدة معهم مصادمة ومضادة للأسلوب النبوي، أسلوب الرسول صلى الله عليه وسلم الذي دلنا عليه وأمرنا به، والذي أخبرتنا به سنته هو اللين، يقول عليه الصلاة والسلام: (يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا) وكان ليناً صلوات الله وسلامه عليه: (ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما) والله تبارك وتعالى يقول: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] ويقول للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].
فإذا كنت تدعو أخاك أو أمك أو أباك أو صاحباً لك يجب أن يكون هذا بتدرج ولطف ورفق، أما دعوتك لنفسك فبأقصى درجات الحزم؛ لأن النفس إن لم تحزم عليها، وتأخذها بقوة وتفطمها بعنف تمردت، والناظم يقول:
والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
فاصرف هواها وحاذر أن توليه إن الهوى ما تولى يصمي أو يسم
فخذ نفسك بالقوة، لا ترض أن تتزحزح، أو أن تتراجع، أو أن تتخاذل أمام شهوات النفس؛ لأنها أمَّارة بالسوء، ولكن لا تزال بها بقوة حتى تبلغ بها درجة اسمها درجة الاطمئنان، وهي النفس المطمئنة، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهلها.(97/14)
دور الشاب الملتزم في المجتمع الذي يعيش فيه
السؤال
دور الطالب الملتزم بدينه مع زملائه في الصف، وإخوانه في المنزل، وجيرانه في الحي، هذا الموضوع يحتاج إلى بيان شافٍ من قبلكم، فتفضلوا علينا بذلك جزاكم الله خيراً؟!
الجواب
دور الشاب الملتزم تجاه إخوانه في بيته أوضحته فيما سبق، أما تجاه زملائه في الصف أو الأصدقاء في الحي أو الرفاق في المسجد والمصلى، فهو دور بارز وذو أهمية كبيرة ينبغي أن يوليها الشاب أكبر الاهتمام، وأول مرحلة ينبغي أن يتمسك بها هي القدوة؛ لأن القدوة دعوة عملية، تقنع الناس بصلاحية ما عندك أيها الشاب، وأقوالنا ما لم تكن مترجمة في سلوكنا وأعمالنا، وإلا فإننا ندعو الناس بألسنتنا إلى الإسلام، ونطردهم بأعمالنا من الإسلام، ودائماً الفعل أشد تأثيراً ووقعاً من القول، فالقول يسهل على كل واحد أن يقول، لكن الالتزام والفعل صعب جداً.
فأول ما ينبغي للشاب الملتزم أن يكون قدوة في سلوكه وتصرفاته مع زملائه، قدوة في التحلي بالأخلاق الإسلامية الفاضلة: من الصدق، والعفة، والمروءة، والشهامة، والكرم، والنجدة، والصبر، والوفاء بالوعد، والبذل، والإخلاص، والتضحية، هذه كلها أخلاق إسلامية إذا توفرت فيك أحبك الشباب، وأحبوا أن يكونوا مثلك.
ثانياً: القدوة في العبادة، بحيث يرونك دائماً الأول: الأول في الصف، الأول في الروضة، الأول في كل خير، والأول في الندوة وفي جلسة العلم، بهذه الأولوية تكون قدوة؛ لأن الشاب الذي يراك يقول: لماذا هذا الأول وأنا لا أستطيع؟! لكن حينما يراك تأتي في مؤخرة الصفوف، وهو لا يأتي أصلاً فإنه لا يبالي، فلا بد أن تكون قدوة في العبادة إلى جانب القدوة في الأخلاق.
والقدوة الثالثة: قدوة في ترك المعاصي والذنوب؛ لأن الذنوب والمعاصي حجاب بين العبد وبين الله عز وجل، فإذا أردت من الناس ألا يقتدوا بك في هذه الأشياء فعليك أن تبتعد أنت بنفسك عنها، وعن ممارستها أو القرب منها، يقول لي أحد الشباب: كنت أسمع داعية يدعو إلى الله باستمرار في المساجد، يقول: فأتت مناسبة من المناسبات فذهبت أنا وإياه في وليمة، وكنت أقود السيارة وكان بجواري، يقول: وفي الطريق دخلنا على إحدى القرى، وفجأة عرضت أمامنا فتاة وكانت متبرجة، يقول: فأنا اعتبرت هذا الموقف بمنزلة الاختبار لهذا الداعية، فجلست أرصده، أرى ماذا سيفعل، هل سينظر، أم سيغض بصره؟ يقول: فنظرت إليه وأنا أقود وإذا به منكساً رأسه، نكس رأسه وهو يستغفر الله عز وجل، يقول: فكان لهذا الفعل منه أكبر الوقع والأثر في قلبي، إذ أن هذا العمل أثر بي أعظم من ألف موعظة سمعتها في غض البصر، لكن لما رأيته يغض بصره والمرأة أمامه وهو شاب مثلي، ولديه مثلما لدي من الرغبة في النظر، ولكن الذي منعه خوفه من الله، يقول: فغضضت بصري من ذلك الوقت، وأصبح هذا الموقف مرسوماً في عيني إلى أن أموت.
فالقدوة مطلوبة في ترك المعصية، ومطلوبة في الحرص على الطاعة، ومطلوبة في التحلي بالأخلاق الإسلامية.
ثم بعد القدوة ممارسة الدعوة بالأسلوب اللين عن طريق الإكرام، أهم شيء -أيها الإخوة- نستطيع به كسب الناس: إكرامهم، ومحبتهم، وإشعارهم بقيمتهم، وعزيمتهم، والإهداء لهم، ولو بالعبارة الطيبة، أو البسمة الطيبة، أو حتى بتقديم الحذاء له وهو خارج، أو بتقديم أي خدمة له، فبهذا أكسب مودته ومحبته، فإذا كسبته وأصبح يحبني عندها أي كلام ألقيه عليه يستجيب، ولهذا تعرفون كيف أن الله عز وجل اختار من البشر أحب الخلق إلى الخلق، صلوات الله وسلامه عليه، فكانوا يسمونه الصادق الأمين، وكان محبوباً على مستوى جميع طبقات قريش فكلهم يحبونه، فاختاره الله عز وجل لمنزلته من قلوب الناس، لكن لو اختار واحداً مبغوضاً فلن يحب أحد هذا الدين، لأنك إذا كرهت إنساناً كرهت الحق الذي معه، وإذا أحببت إنساناً أحببت حتى الباطل الذي عنده.
ولهذا ترون أن أهل الباطل الآن يجذبون الشباب بالمغريات، وعن طريق الرحلات والشهوات والهدايا، فنحن أولى بأن نجذب إخواننا وزملاءنا في الفصول؛ وفي المسجد، وفي الحي عن طريق الإهداء وكسب المحبة، ثم الرفق بهم، وعدم العنف، وعدم تحميلهم أكثر من طاقتهم، نريد أن يصبح الشاب وفق إمكاناته هو، لا وفق أن نسحبه سحباً؛ لأنك إذا سحبته ثم تركته انفلت وتفلت، لكن إذا مشى معك بذاته ثم تركته فلا يزل على مكانه.
فرق بين من تحمله وبين من يحمل نفسه، من تحمله أنت إذا تركته انفلت، لا ينفع إلا أن تجلس معه باستمرار، وإذا تركته أخذ ينظر إلى النساء، ويسمع الأغاني، لكن من يمشي معك وهو يحمل نفسه، إذا تركته فهو مكانه لا يزل، لماذا؟ لأنه يسير بنفسه لا بحملٍ منك، فدعه يسير على مقدار إمكاناته، وأما دورك فيكون في تشجيعه وفي حمله على أن يصير بنفسه لا بحمل منك أنت.(97/15)
وصايا للحضور
السؤال
كان سلف الأمة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين إذا التقوا في مجالس الخير والعلم ثم أرادوا الانصراف بعد ذلك هل يختتمون مجلسهم بوصية تذكرهم بالله تعالى، ونريد من فضيلتكم وصية نختم بها مجلسنا المبارك؟
الجواب
بارك الله فيكم وجزاكم الله خيراً، أما الوصية التي أوصي بها نفسي، وأوصي بها إخواني، فهي وصية الله عز وجل للأولين والآخرين التي قال الله فيها: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131] وتقوى الله هي مراقبته، وأن يجعل العبد بينه وبين عذاب الله وقاية من العمل الصالح، وأستطيع أن ألخص هذه الوصية في ست فقرات أو ست وصايا بإذن الله، تكون إن شاء الله نافعة للإنسان السائر إلى الله عز وجل: الوصية الأولى: قراءة القرآن الكريم.
بأن يكون لك ورد يومي من كتاب الله عز وجل، لا يمكن أن تتأخر أو تتخلف عنه بحال من الأحوال، ولو لم يكن هذا الورد كثيراً، ولو صفحة واحدة تقرأها وتعرف تفسيرها ومعناها، كوجبة روحية لقلبك في كل يوم، وأنسب الأوقات وأفضل اللحظات لقراءة القرآن بعد صلاة الفجر؛ لأن النفس صافية، والذهن موجه للاستقبال، وأي شيء تقرأه أو تسمعه في تلك اللحظات يثبت؛ لأنه بعد استراحة، وكذلك في بداية يوم جديد؛ لأنك تكون فيه نشيط العقل والذهن، فهذه الوصية الأولى وهي: قراءة كتاب الله وقراءة تفسيره ومعانيه، وأوصي بقراءة تفسير ابن كثير لمن أراد التوسع، وقراءة تفسير في ظلال القرآن لمن أراد الفكر الناصع الدعوي الحي، وقراءة تفسير صفوة التفاسير فإنه يعطي شيئاً من المفاهيم التي جمعها من معظم التفاسير.
الوصية الثانية: أن يكون لك في كل يوم حديثاً واحداً تقرأه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لا بد ألا يمر عليك يوم إلا وقد قرأت حديثاً واحداً، وخير كتاب يوصى به في هذا: كتاب رياض الصالحين؛ فإنه كتاب قيم، اشتمل على كل الإسلام بأصح الأحاديث؛ فليس فيه حديث موضوع، كل أحاديثه تدور بين الصحيح والحسن، وليس فيه حديث موضوع أبداً بأي حال من الأحوال، وقد ذكر أهل العلم أن فيه سبعة عشر حديثاً ضعيفاً، ولكنها في فضائل الأعمال، وقد جوزوا الاستشهاد بها، فيجب أن تقتني هذا الكتاب، وأن يكون عند رأسك، وأن تقرأ كل يوم ولو حديثاً واحداً، فإذا فهمت الحديث فالحمد لله، وإذا لم تفهمه رجعت إلى تفسيره، وتفسيره في كتاب اسمه: دليل الفالحين شرح رياض الصالحين، وهو أربع مجلدات شرح فيه رحمه الله رياض الصالحين.
الوصية الثالثة: أن تحرص على مرافقة الصالحين.
لأن الطريق شاسع، وإن لم يكن معك أخ في الله يعينك، وإلا فإنك سوف تتردد، والأخ هذا الذي سوف تمشي معه هو من يسحبك ويعينك على طاعة الله لا من يخذلك، فإذا مشيت مع واحد ووجدت أن عنده ضعفاً في الدين فاحذر منه؛ فإنه يعيقك عن الإتيان في طريق الله.
الوصية الرابعة: أن تحذر كل الحذر من رفيق السوء الذي يزين لك الباطل.
فكم من إنسان كان شعلة في الهداية، ولكن بجلسة واحدة مع صاحب سوء رده ونكسه والعياذ بالله: (فالقلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء) فبجلسة واحدة تؤمن، وبجلسة واحدة تكفر، فلا بد من اختيار الزميل، لا تقول: فقط هذه الرحلة، لا.
أنت إذا جلست مع شخص أجرب أو شخص عنده سل أو كوليرا أو إيدز، لا تجلس معه لحظة واحدة، هذا والله الذي عنده طعن في دينه، وشك في عقيدته، وفسق في أخلاقه، والله إنه أخطر عليك من كل خطير.
الوصية الخامسة: عليك أن تجتهد كل الاجتهاد في طاعة الله عز وجل، حافظ على جميع الأوامر الربانية؛ لأنها غذاؤك ووقودك في السير إلى الله، فالسيارة لا تمشي إلا بوقود، وأنت لا تستطيع أن تعيش إلا بغذاء، فغذاؤك في طريقك إلى الله كثرة العبادة، حتى ترق روحك وتصير شفافة؛ لأن من الناس من لديه حماس للدين لكن عنده ضعف في العبادة، فهذا لا ينفع، تجده يحترق على الدين من قلبه، لكن لا يصلي في المسجد، فلا بد أن يكون لك قوة عبادة مثل: كثرة الأذكار؛ أذكار الصباح والمساء، وأذكار الأحوال والمناسبات، أيضاً كثرة القراءة، وكثرة النوافل سواءً كانت هذه النافلة الضحى، أو نافلة صلاة الفجر التي بعد الشروق، أو نافلة التهجد في الليل.
أما السنن والرواتب فإنها بحقك أنت مثل الفرائض فلا تتركها أبداً، أيضاً كثرة الصدقة إذا كان عندك إمكانيات ولو من مصروفك، أشعر نفسك بالاستعلاء على المادة، إذا كانت مصروفاتك في اليوم خمسة ريالات، فكل ثلاثة ريالات وأبقِ معك ريالين وحاول أن تذهب بهما في المجال الخيري، إما بإهدائها لأخ، أو صدقة على زميل لك من زملاءك التي تعرف أن حالته متعبة، ليست القضية أن ليس عندك شيء، لا.
فالريال الواحد له ميزان عند الله عز وجل.
أيضاً نوافل العبادات في الصيام، كصيام يومي الإثنين والخميس من كل أسبوع، أو صيام ثلاثة أيام من كل شهر، أو نوافل العمرة والحج، أو نوافل صلة الأرحام، أو نوافل بر الوالدين، هي فريضة لكن هناك نوافل بالمبالغة في بر الوالدين.
وهذه مصيبة! أكثر الشباب المهتدي منذ أن يهتدي ويرى أمه وأباه ليسوا مثله يعصيهم، ويظن أن معصيتهم طاعة لله، لا.
فالله أمر بطاعتهم ولو كانا مشركين، قال: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15] فأنت عندما تكون أنت وأخوك، أخوك غير مهتدٍ وأنت مهتدٍ في البيت، ثم ترى والدتك أو والدك أنك عاصٍ لهما وأنك باستمرار بعيد عن مصالحهم، ويرون أخاك العاصي في أيديهم أينما طلبوه وجدوه، وأينما أرسلوه يلبي، وباستمرار في خدمتهم، فهذا يدعوهم بفعله إلى المعصية، فيحبون المعاصي بأخلاقه، وأنت تدعوهم بفعلك إلى ترك الدين، لكن إذا انعكست الآية وأصبحت أنت البار والطيب وأنت الذي تخدم، وأنت الذي باستمرار في كل خير، بطبيعة الحال هذا الفعل سيؤثر في أمك وأبيك.
الوصية السادسة: وهي الحرص الكبير جداً على الطاعة، ينبغي أن تكون في المسجد قبل الآذان، وإذا تأخرت فليكن بعد الأذان مباشرة، لا كما يفعل بعض الناس لا يخرج إلا إذا أقيمت الصلاة، لا.
ثم يأتي وتفوته تكبيرة الإحرام، لا.
بل يجب أن تكون في أول الصف، تأتي وتصلي ركعتين تحية المسجد، ثم تصلي بعدها نافلتين أو أربع ركعات، ثم تأخذ المصحف وتقرأ القرآن، ثم تذكر الله حتى تقام الصلاة وأنت مشرق النفس متهيئ للقاء الرب.
الوصية السابعة والأخيرة هي: الحرص الكبير على عدم ممارسة أي معصية من معاصي الله عز وجل مهما كانت صغيرة، فإن الصغير غداً يصير كبيراً، يقول:
لا تحقرن من الذنوب صغيراً إن الصغير غداً يعود كبيراً
إن الصغير وإن تقادم عهده عند الإله مسطر تسطيراً
فلا تستصغر أي ذنب، كأن تقول: والله هذه أغنية، فإذا كنت مع زميل لك في سيارته وشغل أغنية لا تقل: سهلة وتستحي منه، لا.
ولكن كن كالأسد وأغلقها، إذا قال لك: لماذا؟ تقول: لا أريد أن أسمع، واتركه إذا أصر لا تكن ضعيفاً؛ لأنك إذا لم تتركه أملى عليك الباطل، ويمكن تنزل من السيارة وقد تغير قلبك، فقد يأتيك إبليس ويقول: رأيت كيف أن الناس في راحة! وأنت عقدت نفسك على الأشرطة القرآنية وعلى الدين، انظر هذا مرتاح! فيوحي إليك الشيطان فتتزعزع فتسمع فتزيغ.
وكم كان الزيغان لأكثر الناس إلا بمثل هذه الأساليب، لا تتزعزع أمام أغنية أو أمام نظرة كأن تمشي في الشارع فترى امرأة، وأول نظرة هذه هي الخطر، فإذا رأيتها غض بصرك مباشرة واستغفر الله، يسكب الله في قلبك النور والإيمان، لكن إذا تابعت الثانية يذوب الإيمان في قلبك ويحترق، ولا يبقى معك دين أيها الإنسان.
لا تتزعزع أمام المال الحرام مهما كان ولو قرشاً واحداً من حرام لا تأخذه، ولا أمام غيبة في مجلس من المجالس، فإذا سمعتهم يغتابون فلا تتكلم في الغيبة ولا بالنميمة، ولا بأي معصية من المعاصي التي حرمها الشرع، احرص ألا تعصي الله، كن دائماً نظيفاً، لماذا؟ لأنك بالطاعات تبني، وبترك المعاصي تحمي، فما دام البنيان قائم والحماية حاصلة يكتمل البنيان، لكن إذا كان البنيان يقوم والمعاصي تهدم؛ فإن المعاصي تفتك بالبنيان ولا يقوم.
أما إذا كان العكس فالمعاصي مستمرة، والبنيان متفوق، -مثل أكثر الناس الآن، ليله ونهاره كله معاصٍ: أغانٍ، وتمشيات، وسب، وشتم، وقطع صلوات، وليس هناك طاعة- فلا يقوم له البنيان.
هذه الأمور السبعة التي أوصي بها نفسي أولاً، وأوصيكم بها، وأعيدها لتثبت في أذهانكم.
أولاً: ليكون لك ورد في كتاب الله يومياً، ولا يمكن أن تخل بهذا أبداً مهما كانت الظروف، مثلما تعرف تأكل يجب أن تأخذ وجبتك أولاًَ من القرآن، وأن يكون لك ورد من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولك أصدقاء صالحين، وأن تبتعد من الأصدقاء الفسقة والعصاة، وأن تحرص على طاعة الله، وأهم طاعة لله: الصلاة في المسجد وخصوصاً الفجر، وأن تحرص على ألا تعصي الله عز وجل، وأعظم شيء أحذِّر منه الشباب باستمرار الغناء والنظر للمحرم واللعب، خاصة الملهيات في المجالس، تجد بعض الشباب يجتمعون أربعة أو خمسة فيلعبون الورق أو الدمنة أو الكيرم، هذه تدل على أن الشخص لا يعرف لما يعيش له، صحيح أن النفس تريد نوعاً من التسلية لكن في حدود المباح، أما الانشغال بهذه الملهيات عن دين الله عز وجل فهي خطأ، وهل هناك أعظم من تسليتك بكتاب الله وسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ليس أعظم من ذلك، بارك الله فيكم.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(97/16)
التبرج والسفور والحجاب
بدأ الشيخ بالحديث عن الحكمة من وجودنا في هذه الدار الدنيا، ومن ثم تكلم عن مصير الإنسان بعد الموت.
ثم تحدث بعد ذلك عن المخالفات التي تقع فيها كثير من النساء -سواءً عن إصرار أو جهل- ذاكراً من هذه المخالفات كثرة اللعن والتهاون في أداء العبادات وترك المنهيات عامة.
ومن ثم حذر المرأة من إدخال بيتها من لا يرضى الزوج دخولهم، متناولاً العواقب المترتبة على التبرج وطرح الحجاب والعواقب الوخيمة المتحققة بسبب ذلك.(98/1)
حكمة وجودنا في الحياة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فنسأل الله تبارك وتعالى أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً، وأن يجعل تفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، وألا يبقي فينا ولا منا شقياً ولا محروماً؛ فإن الشقي المحروم هو من حرم طاعة الله عز وجل في هذه الدنيا.
شقيٌ في هذه الدار بالمعصية، ومحروم في الدار الأخرى من الجنة، يقول عليه الصلاة والسلام وهو يدعو: (اللهم لا تبق فينا شقياً ولا محروماً، ثم قال: أتدرون من الشقي المحروم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: قاطع الصلاة أو تارك الصلاة).(98/2)
السعي لبلوغ أعلى درجة في الجنة
أيها الإخوة! نحن في هذه الدار غرباء، ولا بد للغريب من الرحيل، وموعد الرحلة غير محدد، والمؤمن العاقل هو من يكون دائماً على أهبة الاستعداد للرحيل من هذه الدار، فهو لا يعرف متى يفاجئه القضاء، في ليله أو نهاره، بعد سنة أو يومٍ أو ساعة أو لحظة، فهو دائماً على أهبة الاستعداد، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني) والكيس هو: العاقل.
إننا في هذه الدنيا غرباء؛ ولكن بسبب طول المدة أصبحنا كأننا من أهلها، وإلا فلسنا من أهل هذه الدار، نحن جئنا إليها عراة فرادى، وسنخرج منها عراة فرادى، قال الله تعالى: {لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً * وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ} [الكهف:48 - 49] إن هذا الكتاب هو كتاب الأعمال التي عملها الإنسان في هذه الدنيا، وما من يومٍ تشرق فيه الشمس إلا وصفحة جديدة من كتاب أعمالك تفتح لك في ذلك اليوم، وأنت الذي تملي والملائكة هم الذين يسجلون، فإن أمليت خيراً سجلوا خيراً، وإن أمليت شراً سجلوا شراً، فإذا غربت شمس ذلك اليوم طويت هذه الصفحة.
حتى إذا ما انتهت صفحات هذا الكتاب -وهو عبارة عن انتهاء عمرك في هذه الدنيا- ونقلت من هذه الدار إلى الدار الآخرة، نقلت ونقل معك هذا الكتاب، ثم هو يبقى معك إلى يوم القيامة، وفي يوم القيامة تتطاير الصحف، وتؤخذ الكتب إما باليمين وإما بالشمال قال تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ} [الإسراء:13 - 14] الذي أمليت {كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً * مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً * وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً * وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً * مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ} [الإسراء:14 - 18] يعني: الدنيا {عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً * كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} [الإسراء:18 - 20].
فأنت في هذه الدنيا تملي البيانات، وتملأ الملفات، وفي الحديث: (ما من يوم تشرق فيه الشمس إلا وملك ينادي مع هذا اليوم: يابن آدم! أنا خلق جديد، وعلى عملك شهيد، فاغتنمني فإني لا أعود إلى يوم القيامة).
الليل والنهار خزانتان تخزن فيهما الأعمال، والرحيل لا بد منه قال تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ} [الكهف:49] لأن أياديهم سوداء، وأعمالهم فظيعة، وجرائمهم شنيعة، ووجوههم -والعياذ بالله- مكفهرة من قلة الإيمان وكثرة المعاصي والذنوب، فإذا رأوا الكتاب قالوا: {يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49].
فنحن -كما قلت، أيها الإخوة- في هذه الدنيا غرباء؛ لأننا جئنا إليها رغم أنوفنا، ولا يوجد أحد أعطي حرية الاختيار في المجيء إلى هذه الدار، وهل يوجد أحد أُخذ رأيه قبل أن يولد: أتريد أن تولد أم لا؟ لا.
بل يأتي إلى الدنيا رغم أنفه، ولا يترك له حرية اختيار النوع: أيكون رجلاً أو امرأة؟ أيكون في هذه القرية أو في القرية الثانية؟ أيكون في هذه البلاد أو في بلاد أخرى؟ إنه يخلق ويولد ويوجد وفق مشيئة الله تبارك وتعالى، ثم هو يقضي هذه الفترة من العمر في هذه الحياة، حتى إذا ما انتهت تابعية السماء، وانتهى العمر المحدد من رب العالمين في هذه الدنيا؛ انتقل من هذه الدار رغم أنفه، ولا أحد يريد الموت!(98/3)
طلب نعيم لا موت فيه
إن الإنسان في أول الحياة يتعب، ويكد ويكدح ويدرس السنين الطوال، فإذا ما كبر أولاده وأصبحت الأموال في قبضته، والأولاد في خدمته، والمجتمع كله يقدره ويجله؛ إذا بالموت يهدم عليه كل شيء.
لهوت وغرتك الأماني وعندما أتمت لك الأفراح فوجئت بالقبر
تزينت له الدنيا من كل ناحية ثم فجأة يأتي الموت.
يقول الحسن البصري رحمه الله: [أبى الموت إلا أن ينغص على أهل النعيم نعيمهم، فاطلبوا نعيماً لا موت فيه! قالوا: أين يرحمك الله؟ قال: في الجنة!] قال تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود:108] أي: غير منقوص.
فعلى المسلم العاقل الحازم أن ينتبه! لماذا أتى إلى هذه الدنيا؟ وما الذي أراده الله من خلقه؟ أخلقك الله -أيها المسلم- من أجل أن تأكل وتشرب كما يأكل الحيوان ويشرب؟! أم من أجل أن تمسي وتصبح، تنكح، وتأكل وتشرب، وتنام وتستيقظ، ويكون همك محصوراً في هذا؟ إذا كنت كذلك فاعلم أن الأنعام أيضاً همها محصور في هذا، قال عز وجل {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} [محمد:12].
أما المؤمنون فإنهم يدركون أن الله خلقهم لشيء غير هذا، يعرفون أن الله أوجدهم لطاعته، وخلقهم لعبادته، فهم يبذلون الليل والنهار، والسر والجهار، والأموال الطائلة، والأعمار الطويلة كلها في طاعة الله تبارك وتعالى، حتى إذا ما جاء الرحيل من هذه الدنيا؛ إذا بهم ينتقلون إلى دار الآخرة، وقد ملئوها بالعمل الصالح، يقول ابن القيم رحمه الله:
فحي على جنات عدنٍ فإنها منازلنا الأولى وفيها المخيمُ
ولكننا سبي العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونُسلمُ
وقد زعموا أن الغريب إذا نأى وشطت به أوطانه فهو مغرمُ
وأي اغترابٍ فوق غربتنا التي لها أضحت الأعداءُ فينا تحكمُ
فيا خاطب الحسناء إن كنت راغباً فهذا زمان المهر فهو المقدمُ
فكن أيّماً عمن سوها فإنها لمثلك في جنات عدنٍ تأيمُ
وكن مبغضاً للخائنات بحبها لتحظى بها من دونهن وتكلمُ
إذا أردت الجنة -يا أخي المسلم- فأعد لها من الآن، ولا تغفل عن طاعة الله تبارك وتعالى حتى إذا نزل الموت إذا بك مفلس من العمل الصالح.
إذا جاء الموت، ورأيت الحقيقة، وقامت عليك الحجة، ورأيت مقعدك من الجنة أو من النار، ونظرت إلى الأولاد وهم يتبرءون منك، ونظرت إلى الأموال وهي لا تدفع عنك شيئاً، ونظرت إلى الأقارب وهم يمسكونك بأيديهم ويقلبونك على فراش الموت، ما يملكون حيلة في تلك اللحظات، ويتمنى الإنسان أنه يرجع إلى الدنيا، يقول الله تبارك وتعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:99 - 101].(98/4)
يوم يلقى الإنسان ما قدمت يداه
وإن البرزخ: حياة القبر، والحياة البرزخية منذ أن يموت الإنسان إلى أن يبعث من في القبور يوم القيامة.
لأن الحياة تنقسم إلى ثلاث مراحل: حياة الدنيا، وحياة البرزخ، وحياة الآخرة.
فالحياة الدنيا نقضيها نحن وإياكم كما تعرفون، والحياة البرزخية يقضيها أهل القبور في قبورهم منذ أن ماتوا وحتى يقوموا يوم القيامة، والحياة الآخرة من يوم القيامة حين يرث الله الأرض ومن عليها إلى مالا نهاية، وليس هناك وقت محدد بل هم فيها خالدون، أي: في النار أو الجنة.(98/5)
هول يوم النشور
ينبغي للعاقل أن يتنبه، قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:99 - 101] يهرب الإنسان من أبيه، وأخيه، وأمه، قال الله تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37] كل مشغول بنفسه ذلك اليوم، يأتي الولد إلى أبيه يقول: يا أبي! أنت ربيتني صغيراً، وغذوتني كبيراً، أسألك بحق بنوتي عليك أن تعطيني حسنة أرجح بها ميزاني؟ فيقول: يا ولدي! غذوتك صغيراً، وعطفت عليك كبيراً، أسألك بحق أبوتي عليك حسنة واحدة أثقل بها ميزاني، فيهرب كل من الآخر، ولا يأخذ أحد من الآخر شيئاً، لماذا؟ لأنهم يرون النار يحطم بعضها بعضاً، ويرون الجنة تتزين لأهلها، فإذا لا يوجد هناك عملة تنقذ إلا عملة الحسنات، فيود كل واحد أنه يفتدي من ذلك اليوم بملء الأرض ذهباً ولو كان يجده، لكنهم لا يجابون إلى ذلك أبداً، والناس في موقف عظيم لا يعلمه إلا الله:
مثل لنفسك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمورُ
إذ كورت شمس النهار وأدنيت حتى على رأس العباد تسيرُ
وإذا الجبال تقلعت بأصولها ورأيتها مثل السحاب تسيرُ
وإذا البحار تأججت نيرانها ورأيتها مثل الحميم تفورُ
وإذا الجنين بأمه متعلقٌ خوف الحساب وقلبه مذعورُ
هذا بلا ذنبٍ يخاف لهوله كيف المقيم على الذنوب دهورُ
يوم القيامة يشيب له الوليد! أيها الإخوان! اتقوا يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً الطفل الصغير يشيب، والأم تذهل عما أرضعت، والحامل تضع حملها، قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:1 - 2].
وإذا الجنان تزينت وتزخرفت لفتىً على طول البلاء صبورُ
وإذا الجحيم تسعرت نيرانها فلها على أهل الذنوب زفيرُ
أين أنت -يا أخي- في ذلك اليوم؟! إنه هول عظيم يشيب له رأس الوليد.
يقول كعب الأحبار لـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [يا أمير المؤمنين! اعمل عمل وَجِلٍ، فوالذي نفسي بيده! لو وافيت القيامة ومعك عمل سبعين نبياً إلى جانب عملك لظننت أنك لا تنجو يوم القيامة] ويقول: [اعمل عمل وَجِلٍ، فوالذي نفسي بيده! إن جهنم لتزفر يوم القيامة زفرة ما يبقى معها ملك مقرب، ولا نبي مرسل؛ إلا ويخر على ركبتيه جاثياً!].
فيا أخي! ليس بينك وبين هذا إلا أن يقال: فلان مات، وبعدها إما أن تكون في روضة من رياض الجنة إذا كنت من أهل الإيمان، وإما أن تكون في حفرة من حفر النار إذا كنت من أهل النفاق والعصيان، أعاذنا الله وإياكم من ذلك.(98/6)
تقوى الله غوث كل مستغيث
فعلينا أن نتقي الله تبارك وتعالى، وألا نغفل عن هذا المصير الذي لا بد منه، ومن كان عنده شك وغفلة وتردد فلينظر إلى القبور، ويسألها لتحدثه بأخبار من فيها:
ما للمقابر لا تجيب إذا رآهن الكئيب
حفرٌ مسقفة عليـ هن الجنادل والكثيب
كم من حبيب لم تكن عيني لفرقته تطيب
غادرته في بعضهن مجندلاً وهو الحبيب
تترك أمك وأباك، وزوجتك وولدك، وهم أحب الناس إليك، تتركهم في حفرة مظلمة وتذهب عنهم، تبكي أياماً وليالي، ثم تسلو وتنسى، وأنت سوف تُترك في تلك الحفرة تتوسد فيها التراب، وسوف يكون غطاؤك وفراشك فيها التراب، وأمامك وخلفك التراب، لا فراش معك، ولا أنيس، ولا قريب؛ إلا العمل، فإن كان العمل طاعة الله فأنعم بهذا المقام، وإن كان العمل معصية وغفلة فبئس المقام وبئس الورد المورود، لا حول ولا قوة إلا بالله.
هذا المقام ليس بعيداً عني ولا عنك ليس بيني وبينك وبين هذا المقام إلا أن يقال: فلان مات، وقد يقال: فلان مات هذه الليلة؛ لأن موت الفجأة من علامات الساعة، يخرج الرجل من بيته وهو يفكر بما سيفعله في سنينه الطوال فلا يعود إلا خبره، ما عاد أحد يموت اليوم في البيوت، لا يموتون إلا في المستشفيات والطرقات، فالله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله! فعليك أن تكون دائماً مستعداً متأهباً حتى إذا جاء الموت تكون على أحسن حالة وأحسن هيئة وتقول: حياك الله، كما قالت تلك المرأة الصالحة التي جاءها ملك الموت وهي جالسة، فسلم عليها قالت: عليك السلام من أنت؟ قال: أنا ملك الموت، قالت: أهلاً وسهلاً بخير غائبٍ أنتظره.
امرأة مؤمنة علمت الحقيقة في هذه الدنيا، فقامت ليلها ونهارها في طاعة الله، لا يمكن أن تنطق بقول فاحش، أو تلعن، أو تتبرج، أو تختلط بالرجال، أو تؤخر الصلاة أو ترتكب معصية، ولهذا لما جاءها الموت قالت: أهلاً وسهلاً بخير غائب أنتظره، قال لها: هل لك من حاجة؟ -يعني: نعطيك فرصة- تقسمين أموالك، أو توصين أهلك وأولادك، قالت: أما أموالي وأولادي فالله خليفتي عليهم، أريد فقط أمراً واحداً، قال: ماذا؟ قالت: أمهلني حتى أصلي ركعتين، فإذا صليت وأنا في السجود فاقبضني فإني أكون أقرب إلى ربي في تلك اللحظة، فأعطاها ما أرادت.
لا تكن -يا أخي- مثل ذلك الذي كان في ملكه وجبروته وسلطانه، خرج يختال في مشيته، ويتبختر على حصانه، والخيل والموكب الملكي من أمامه ومن خلفه، ويظن أنه لن يموت نسي الموت، وظن أنه بهذه الأبهة وبهذا الملك والغطرسة سوف يخرج من سيئاته كما تخرج الشعرة من العجين، جاءه ملك الموت يعترضه ويمسك بخطام حصانه ويقول له: قف يا هذا! فقال الملك: أمثالك لا يجرءون على هذا، من أنت؟ قال: ادن مني، فدنا منه فقال له: أنا ملك الموت، قال: وما تريد؟ قال: قبض روحك الآن.
قال: أمهلني لحظة.
قال: لا.
قد أمهلناك وأعطيناك فرصة طويلة، أما الآن فلا، فخر صريعاً بين يدي حصانه.
فلا يغرك الشباب إن كنت شاباً، وانظر إلى الأموات من الشباب؛ لأن شبابك إلى هرم، وعافيتك إلى سقم، وحياتك إلى موت، وغناك إلى فقر، وقصرك إلى قبر، وأنسك بأهلك وزوجتك وأطفالك وأقاربك وفراشك ومعاشك سيكون كله نهايته الحفرة المظلمة، فلا تغتر بهذا، إن مثل من يغتر بهذا مثله مثل إنسان في السجن، قالوا له وهو في سجنه: وسوف ينفذ فيك الإعدام غداً، فهذا عاقل قال لنفسه: ما دام الإعدام غداً فلا مجال لي أن أشتغل بطعام أو شراب أو لباس، إنما أشتغل بآخرتي، وأتوب وأستغفر الله عز وجل، وسوف أقوم هذه الليلة، وأصوم هذا النهار، فإذا جاءه الموت كان مستعداً.
لكن آخر قال: غداً يحلها حلال، وسيف الموت على كل رقبة، وإذا به قطع الصلاة، وارتكب المعاصي، وإذا به يفجعه الموت، فما نفعه شيء مما كان فيه.(98/7)
العمل الصالح خير زاد في الآخرة
يا أخي المسلم! عليك أن تعلم أن المصير محقق وقريب، وليس بينك وبينه إلا أن تموت، وما ذلك ببعيد مني ولا منك انظر إلى الأموات وقل كما قال الأول:
أمر على المقابر كل حينٍ ولا أدري بأي الأرض قبري
فأفرح بالغنى إن زاد مالي ولا أبكي على نقصان عمري
يمر علي رضي الله عنه على أهل المقابر ويقول لهم: [السلام عليكم دار قومٍ مؤمنين، أنتم السابقون ونحن اللاحقون، أما الديار فقد سكنت، وأما الأموال فقد قسمت، وأما النساء فقد تزوجت، هذه أخبارنا فما أخباركم؟] وما عندنا شيء تغير، الليل هو الليل، والنهار هو النهار، والأكل الذي كنا نأكله هو أكلنا، ولا شيء جديد، وتقطعت الأرحام، وظهر العلم، وقل العمل، وتباغض الناس بالقلوب، وتلاعنوا بالألسن -والعياذ بالله-.
يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا أظهر الناس العلم، وضيعوا العمل، وتحابوا بالألسن، وتباغضوا بالقلوب، وتقاطعوا الأرحام، عند ذلك لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم) ويقول: (إذا ظهر في أمة خمس عشرة خصلة حلَّ بها البلاء: إذا كانت الأمانة مغنماً، والزكاة مغرماً، وأطاع الرجل زوجته، وعق أمه وأباه، وتُعلم العلم لغير الدين، وظهرت الأصوات في المساجد -بالخصومات، والبيع والشراء، وإنشاد الضالة، والمحاكمات- وظهرت القينات -يعني: المغنيات- والمعازف، وشربت الخمور، وسميت بغير اسمها -والعياذ بالله- ولعن آخر هذه الأمة أولها، فلينتظروا زلزلة وريحاً حمراء وخسفاً ومسخاً) وهذا حصل كله، فيقول: [هذه أخبارنا -ما من شيء جديد- ثم قال: أما -والله- لو نطقوا لقالوا: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197]].
تزود -يا أخي- من العمل الصالح، فإن خير الزاد التقوى، لن ينفع زادك من المال والعلم إلا إذا كان العلم مقروناً بالعمل، لن ينفعك زادك من الجاه، والسلطة، ومن العضلات والقوة، وإنما زادك من التقوى هو ما ينفعك في ذلك المكان الذي يتخلى فيه عنك كل قريب حبيب، ولا ينفعك إلا ما قدمت يداك، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.(98/8)
حال المؤمن والكافر بعد الموت
ويقص علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما يحدث للإنسان بعد الموت، نحن في غفلة عن الموت، يقول البراء بن عازب رضي الله عنه: (خرجنا في جنازة لرجل من الأنصار، ومعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ وهو على شفير القبر عوداً ينكت به الأرض، وقال: إن العبد المؤمن) جعلنا الله وإياكم من أهل الإيمان، ليس ادعاء وإنما عملاً، فلا يكفي أن تدعي أنك مؤمن، ثم لا تأتي على هذا الإيمان بدليل من عملك الصالح.
مؤمن في عينك فلا تقع على حرام، مؤمن في سمعك فلا تستمع لحرام، مؤمن في لسانك فلا يتكلم بفحش، مؤمن في بطنك فلا تأكل الحرام، مؤمن في فرجك فلا يقترب من حرام، مؤمن في يدك فلا تمدها إلى حرام، مؤمن في قدمك فلا تأتي بها إلى حرام، مؤمن في عقلك وفكرك وبيتك وزوجتك وجماعتك وفي وظيفتك، مؤمن في كل تصرفاتك، آمنت بالله وسلمت أمرك لله، أما مؤمن وهو لا يصلي في المسجد يتكاسل عن صلاة الفجر يستأنس بالجلوس مع غير المحارم من النساء اللائي حرم الله عليه الجلوس معهن يطرب لسماع الغناء ويرتاح بتمعين ناظريه في الزنا والحرام -والعياذ بالله- يأكل الحرام والحلال ولا يفكر عاق لوالديه قاطع لرحمه مؤذٍ لجيرانه نقمة على جماعته وقريته، يبغضه كل شيء، أين يكون هذا الإيمان؟! (إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال على الآخرة -يعني: انتهت أيامه في هذه الدار، وبدأت أيام الآخرة -نزلت له من الجنة ملائكة معهم حنوط من الجنة، وكفن من الجنة، ثم يجلسون له على مد البصر، ثم يأتي ملك الموت فيقول: يا أيتها النفس المطمئنة كانت في الجسد الطيب الطاهر- النظيف، الذي لا يقع ولا يمكن أن يقع في معصية، ولا يلطخ نفسه بجريمة- اخرجي إلى رحمة من الله ورضوان، وإلى رب غير غضبان) انظر الدعاء واللطف في العبارة، نفس زكية، نفس مؤمنة، كانت تخاف الله وتتقيه، كانت تسرع إلى طاعة الله، قال: (فتنسل روحه من جسده كما تنسل القطرة من فم القربة، فلا يدعوها في يده طرفة عين حتى تأخذها الملائكة، ثم تضعها في ذلك الحنوط، وفي ذلك الكفن، ثم يصعد بها إلى السماء، فيخرج منها كأطيب ريحٍ وجد على وجه الأرض، ثم يصعدون بها إلى السماء الدنيا، فيستفتحون لها أبواب السماء، فتقول الملائكة: من؟ فتقول الملائكة التي معها الروح: روح فلان بن فلان بأحسن الأسماء التي كان يسمى بها في الدنيا، فيقولون: نعم العبد نعرفه، كان يأتينا منه عمل) يتبين أن هذا العبد كان يحول على الآخرة، كان بينه وبين أعمال الآخرة صك، كل يوم يحول خيرات وصلوات ودعاء وبر وصدقات وإحسان ومعروف وكل خير عنده، الخير عنده مأمول، والشر من جانبه مأمون، لا يمكن أن يتوقع أحد عند مؤمن شراً، ولهذا يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (المؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم) لا يخافون منه؛ لأنه مؤمن رادعه خوفه من الله وإيمانه.
فتقول الملائكة: (نعم العبد نعرفه كان يأتينا منه عمل، فتفتح له أبواب السماء، فتستقبله الملائكة التي في السماء الدنيا، ثم يشيعه من كل سماءٍ مقربوها، إلى الثانية، ثم الثالثة، ثم الرابعة إلى السابعة، فإذا بلغوا به السابعة قال الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين) السجل حولوه لعليين، وعليين هذه درجة من درجات الجنة العالية، يقول الله تبارك وتعالى فيها: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ} [المطففين:18 - 20] موقع، من الذي يشهده؟ {يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين:21] الملائكة في السماء، وما في هذا الكتاب؟ {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين:21 - 28] هذا الكتاب.
(اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوا روحه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى، قال: فتعاد روحه إلى بين الجلد والكفن) وهو لا زال يغسل، ويحمل على الرقاب، توضع روحه بين كفنه وجلده، وإذا هي تقول وهي على الرقاب: (قدموني قدموني) تقول: أسرعوا بي إلى الجنة، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (أسرعوا بها؛ فإنها إن تك صالحة فخيراً تقدمونها إليه، وإن تك غير ذلك -يعني فاسدة والعياذ بالله- فشراً تضعونه عن رقابكم) دعوه يذهب، دعوه يقدم على ما قدم، دعوه قد قلنا له ولكنه أبى، الله أكبر! قال: (فإذا وضع في قبره ووضع عليه اللحود) وجعلوا التراب عليه، من هو؟ أنا -يا أخي- وأنت، ليس ببعيد هذا -يا أخي- عنك ولا عني، أنا الآن سأعود ولا أعلم أأبلت في بيتي أو لا؟ وأنت كذلك لا تعلم، توقع أنها الليلة الأخير -يا أخي- توقع أن الفراش الليلة ليس إسفنجاً ولا بطانية ولا سجادة، توقع أن الفراش هو الثرى، وأن الدفاء هو الثرى، وأمامك التراب، وليس عندك كهرباء، ولا معاش، ولا راتب، ولا زوجة ولا شيء، توقع هذا في كل لحظة -يا أخي- توقعه في كل حين، حتى يتقوى إيمانك ويتحرك قلبك، وتذكر الآخرة.
(فإذا وضع في قبره) وولى الناس عنه، حتى إنه ليسمع قرع نعالهم.
(أتاه ملكان فيقعدانه) يأتي منكر ونكير، وهما الملكان اللذان لا بد أن نمر عليهما أنا وأنتم، ما من كبير أو صغير إلا ولابد أن يأتي عليه الدور عندهما.
(أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان له: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟) ثلاثة أسئلة لكنها صعبة الجواب، هنا يمكن أن أقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد، لكن هناك يختم على اللسان، يقول الله عز وجل: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ} [يس:65] هل يدك هذه عرفت الله وهي تستلم الرشوة؟ هل عرفت الله وهي تدفع الزكاة الكذابة المغلوطة؟ هل عرفت الله وهي تذهب للمالية لتستلم المال الحرام؟ هل عرفت الله وهي تدفع أو تمتد إلى الحرام؟ هل عرفت الله وهي تقع وتلمس امرأة غير محرم لها؟! هي التي تتكلم ذاك اليوم، تقول: ربي الله، ولا تقول: ربي الشيطان {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65] لا يتكلم اللسان في تلك اللحظة؛ لأنه مختوم عليه (من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فيقول المؤمن: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم) وفي هذا التثبيت العظيم، يقول الله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} [إبراهيم:27] يعني: في الدنيا {بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم:27] يعني: في القبر {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27] يضله الله ولو كان أكبر عالم، ولو كان اسمه (محمد) ما استطاع أن يقول: (محمد) في ذلك اليوم.
يقول: لا أعلم من هو نبيي.
(فتقول الملائكة: على هذا عشت، وعليه مت، وعليه تبعث إن شاء الله، ثم ينادي منادٍ من السماء: أن صدق عبدي، فافرشوا له من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة -من عند قدميه إلى الجنة- ومهدوا قبره إلى الجنة، فلا يزال في روحٍ وريحان ونعيم عظيم، ثم يأتيه عمله على أحسن هيئة -أحسن صورة- شاب جميل المنظر، طيب الرائحة، أبيض الثياب، فيقول له: أبشر أبشر، قال: من أنت فوجهك الذي يبشر بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح، حفظتني حفظك الله، فلا يزال معه في سرور وهو يقول: رب أقم الساعة رب أقم الساعة -يريدها أن تقوم لكي ينتقل إلى أهله وماله في الجنة- أما لعبد الفاجر-أعاذنا الله وإياكم أن نكون من الأشقياء- فإنه إن كان في انقطاع من الآخرة، وإقبال على الدنيا، نزلت إليه ملائكة معهم مسوح من النار، وكفنٌ من النار، سود الوجوه، فيقعدون منه مد البصر) فإذا رآهم حزن؛ فهو يراهم قبل أن يموت، أما المؤمن فيراهم فيبتسم، والمنافق والعاصي والفاجر إذا رآهم يحزن ويقول: ماذا يريد هؤلاء؟ الآن إذا أتاك العسكر يدقون بابك ستخاف، وستقول: من الذي اشتكاني؟ (فيقعدون له على مد البصر، ثم يأتي ملك الموت إلى هذه النفس الخبيثة فيقول: يا أيتها النفس الخبيثة! -كانت في الجسد الخبيث- اخرجي إلى سخط من الله وغضب -اخرجي الآن- قال: فتتفرق في جسده فلا يبقى عرق ولا شعرة ولا عصب ولا ظفر ولا عظم إلا وتدخل فيه -تهرب من ملك الموت- قال: فينزعها بقوة كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، ثم تخرج روحه من كل عرق، ومن كل شعرة، فيجد من ألم الموت ما لو وزع على أهل الدنيا لماتوا كلهم.
قال: فلا يدعوها في يده طرفة عين -إذا أخذها الملك- حتى يضعوها في ذلك المسوح الخبيث الذي من النار، ثم يلفونها، فيصعد لها من الريح كأنتن ريح جيفة على وجه الأرض) لأنه جيفة وداخله خراب، باطنه خبيث -والعياذ بالله- فاسد مجرم منافق عدو لله ولرسوله، كان مستوراً في الدنيا بستر الله، والآن انكشف الغطاء، لا يوجد أمل للستر، فضحه الله في ذلك اليوم.
(ثم يصعدون بها إلى السماء، فإذا بلغوا بها السماء استفتحوا فتقول الملائكة: من؟ فيقال: روح فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا، فتقول الملائكة: بئس العبد لا نعرفه) ما كانوا يجدون له من عمل، كان مقطوعاً ما له عمل صالح، كان عمله تحت الأرض قال: (ثم قرأ قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا ع(98/9)
مخالفات تقع فيها النساء
هناك -أيها الإخوة- أمر مهم يتعلق بالنساء؛ لأن النساء شقائق الرجال.(98/10)
اللعن وكفران العشير
يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (يا معشر النساء! أكثرن من الاستغفار، فإني رأيتكن أكثر أهل النار، قالت عائشة رضي الله عنها: ولم يا رسول الله؟ -لماذا أكثر أهل النار نساء- قال: لأنكن تكفرن العشير، وتكثرن اللعن) تكثر المرأة اللعن، تلعن ولدها، وبقرتها، وثوبها، ولقمتها، وزوجها، وبيتها، ولو وقفت لقمتها في نحرها لعنتها، فهي -والعياذ بالله- في لعنة الله؛ لأنها لعَّانة، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (ليس المؤمن باللعّان، ولا بالطعّان، ولا بالفاحش، ولا بالبذيء).
وفي مرة كانوا في غزوة، ومعهم امرأة على ناقتها، فعثرت بها الناقة فلعنتها، فقال صلى الله عليه وسلم: (خذوا ما عليها من المتاع ودعوها فإنها ملعونة، لا يصحبنا ملعون، فيقول عمران: كأني بها لا يتعرض لها منا أحد) لأن هذه ملعونة، فكيف لو بعث النبي عليه الصلاة والسلام وقال: كل هؤلاء من الملاعين دعوهم فإنهم ملعونون، أكثر الناس -والعياذ بالله- يلعن؛ الزوج يلعن الزوجة، والزوجة تلعن الزوج، وتلعن كل شيء في البيت، فكيف تكون الحياة والبركة واللعنة موجودة؟ لا حول ولا قوة إلا بالله! قال: (لأنكن تكثرن اللعن، وتكفرن العشير) يعني: يجحدن الزوج لو أحسن الزوج إلى الزوجة طول العمر ثم أسخطها مرة قالت: ما رأيت منك خيراً قط، متى أحسنت إلي؟ مهما يحسن الزوج إلى زوجته تكفره وتجحده وتنكر جميله إلا المؤمنة، أما غير المؤمنة فإنها تجحد زوجها وتكثر اللعن في لسانها، وهذه من أهل النار كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم.(98/11)
التهاون في العبادات
أيضاً هناك من النساء والعياذ بالله من تكون في الدنيا مثل الجني، وفي طاعة الله من أكسل من الكسالى، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وبعضهن تصلي من غير وضوء، إذا كانت طاهرة أثناء البرد أخذت لها بعض الماء ومسحت وجهها ويديها وقالت: طهور المؤمنين! ولا تغسل يديها ولا تمسح على رأسها ولا تغسل قدميها ولا وجهها، ولا تتمضمض، ولا تستنشق، ولا تغتسل، ولا تستنجي، ثم إذا جاءت تصلي تأتي وقصتها عارية، ويداها وذراعاها وقدماها عارية، وربما ثوبها نجس ملطخ ببول ونجاسة الولد أو البنت الذي تربيه، ثم تصلي صلاة لا تضبطها، وتركع الركوع في طرفة عين تقرأ الفاتحة ثم مباشرة تسجد دون أن تركع -وأكثر النساء لا يركعن، ولا يرفعن من الركوع- فصلاتها باطلة، وعليها لعنة الله وهي في سخط الله حتى تصلي صلاة صحيحة، وهي في ذمة زوجها حتى يعلمها؛ لأن الجاهل في ذمة المتعلم حتى يعلمه، ويلٌ للعالم إذا أخل بعلمه، والمرأة سلسلة في عنق الزوج حتى يقيم عليها الحجة ويعلمها طاعة الله، حرفاً حرفاً ودرساً درساً، يعلمها أولاً الوضوء، والغسل من الجنابة، والحيض، والنفاس؛ لأن بعض النساء يأتيها الحيض فتترك الصلاة أسبوعاً، ثم تجلس يوماً أو يومين بعد انقطاع الحيض عنها لا تصلي تقول: لكي أتم الطهارة، وهي لا تعرف أنها إذا طهرت وانقطع عنها الدم ثم تركت صلاة واحدة متعمدة فقد برئت منها ذمة الله وذمة رسوله، وعليها لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
وإذا تركت صلاة واحدة بعد أن ينقطع عنها الدم وتطهر طهارة شرعية فقد كتب اسمها على باب جهنم، صلاة واحدة، لكن بعض النساء تطهر في الصباح وينقطع عنها الدم، فتقول: سوف أمكث إلى الصباح من اليوم التالي لكي أتأكد، وتضيع الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والفجر، وإذا طهرت الضحى قالت: أتركها للعشاء، وجلست حتى ضيعت الظهر والعصر، إذا أتى العشاء قالت: برد أتركها للصبح، وضيعت المغرب، والعشاء والفجر، وكل صلاة تتركها عليها بها لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
حتى اللقمة التي تبلعها تقول: لعنك الله يا عدوة الله! تأكلين من رزق الله، ولا تؤدين حق الله، ثوبها الذي على جسدها يقول لها: لعنك الله يا عدوة الله! والله! لولا أن الله سخرني لك لفررت منك.
فعلى الزوج أن يعلم زوجته متى تغتسل من الحيض، والنفاس؛ لأن من النساء من إذا نفست انقطع عنها الدم في عشرة أيام، وبعضهن في أربعة أيام، وبعضهن في يوم واحد، وبعضهن في عشرين يوماً، فإذا انقطع عنها الدم وطهرت طهارة كاملة وجب عليها أن تغتسل وتصوم وتصلي، وليس ضرورياً أن تمكث أربعين يوماً، والأربعين إنما هو حد أعلى، وقد تطهر من غدها، لو نفست بالليل وأصبحت طاهرة عليها أن تصوم وتصلي، فتكون الزوجة في ذمة زوجها وعليه تعليمها.
بعض النساء والعياذ بالله تخرج من بيتها بغير إذن زوجها، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (أيما امرأة خرجت من بيت زوجها بغير إذنه فهي في لعنة الله حتى ترجع، وأيما امرأة باتت -يعني نامت- وزوجها عليها ساخط فعليها لعنة الله، وأيما امرأة دعاها زوجها إلى فراشه فلم تجبه إلا كان الذي في السماء ساخطاً عليها حتى يرضى عنها زوجها) وأكثر النساء لا يعرفن هذا الكلام كله، ومن أين تعرف؟ لا حضرت إلى المسجد، ولا علمها زوجها، ولا أسمعها الأشرطة.
وإذا طهرت من الحيض أو من النفاس وانقطع عنها الدم انقطاعاً كلياً فإنها تغتسل وتصلي، فإن رجع إليها دم فتعمل بينه وبين ذاك الدم مقارنة، فإن كان دم الحيض -دم العادة- الذي يأتيها دائماً، ودم الحيض معروف، وهو دم أسود ثخينٌ ذو رائحة كريهة؛ امتنعت مدة الحيض عن الصلاة والصيام حتى تطهر منه ثم تبدأ صلاتها وصيامها، أما إذا كان هذا الدم الذي جاءها دم الاستحاضة، وهو دم أحمر رقيق ليس له رائحة، فإنها تغتسل بعدما يأتيها وتصلي، فإن كان يأتيها بين الصلاتين فتصلي الظهر والعصر جمعاً، والمغرب والعشاء جمعاً، أما إذا خرج منها ماء أبيض فلا تمتنع من الصلاة وليس لهذا الماء حكمٌ شرعي، بل تبقى على صلاتها وصيامها.
فأكثر النساء تجهل هذه الأحكام، وبعض الرجال يذهب إلى المسجد وهو يعلم أن امرأته لم تصل، بعضهن لا تصلي المغرب إلا مع العشاء، تقعد تحلب البقر، وتسري الغنم، وتشعل النار، وتفعل العَشاء، فإذا دخل وقت العِشاء وضعته وقالت: سأذهب أصلي، صلاتها ليست مقبولة في تلك اللحظة، فتجمع الظهر مع العصر، والمغرب مع العشاء، والفجر لا تصليه إلا إذا أشرقت الشمس.(98/12)
إدخال بيت الزوج من لا يحب
كذلك من النساء من تدخل بيتها من لا يريد زوجها، إما من الرجال أو من النساء، وهذا حرام، لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تدخل بيت زوجها رجلاً كان أو امرأة إلا بإذن من زوجها، أما تعلمون عن خبر تلك الصحابية التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يثني عليها ويمدحها، ويبين لـ فاطمة رضي الله عنها منزلتها من الجنة، ويكثر من الثناء عليها، امرأة الحطاب، كان الرسول يثني عليها: إن لها في الجنة منزلة، إن لها المنزلة والمكانة العظيمة، وفي يوم من الأيام خرجت فاطمة تريد أن تعرف مقدار عبادتها وتقواها، فذهبت إليها، فلما جاءت إليها طرقت الباب.
قالت: من؟ قالت: فاطمة بنت محمد.
قالت: بأبي وأمي أنت يا بنت رسول الله! ماذا تريدين؟ قالت: أريد أن أدخل عندك، قالت: بأبي أنت وأمي! إن زوجي قد ذهب إلى الحطب وما أذن لي أن أدخلك عليَّ، ولكن إذا أردت أن تأتي لنا فغداً تعالي، وأنا أستسمح لك إن شاء الله الليلة منه، فإذا سمح تأتيني غداً، قالت: حسناً، جاء الرجل من الحطب وقالت: يا زوجي! قد أتتني بنت رسول الله عليه الصلاة والسلام وطلبت الدخول ومنعتها؛ لأن ما عندي إذن منك، فهل تسمح لها غداً؟ قال: نعم أسمح لها غداً، من يرد بنت الرسول عليه الصلاة والسلام؟ جاء اليوم الثاني فأخذت فاطمة معها الحسن -ولدها الصغير- وجاءت به وطرقت الباب.
قالت: من هناك؟ قالت: فاطمة بنت محمد، قالت: ومن معك؟ قالت: معي الحسن.
قالت: أنا ما أخذت الإذن إلا لك وحدك، أما الولد فلا أستطيع أن يدخل، ولكن إذا أردت تعالي غداًً، وأنا أطلب من أن يسمح له غداً.
جاء الزوج، قالت: جاءتني اليوم فاطمة ومعها الحسن فما أدخلتها، قال: يرحمك الله! كيف تردين بنت الرسول صلى الله عليه وسلم؟ لا مانع عندي، إذا أتت مع ولدها فأدخليها.
ثم جاءت بـ الحسن والحسين، قالت: من معك؟ قالت: الحسن والحسين، قالت: أنا -والله- أستسمح منك، ليس عندي الإذن إلا لك أنت والحسن، أما الحسين فليس له عندي إذن -مع أنه أصغر من الحسن - ولكن تعالي غداً، ولما أتى الزوج عليها قالت له: جاءت اليوم ورديتها.
قال: أخجلتينا مع بنت رسول الله عليه الصلاة والسلام، لو أتت مع آل محمد كلهم افتحي لها، من يتوقع أن عند بنت رسول الله شر أو أن في بيت آل رسول الله شر، ولكن انظروا الطاعة العظيمة للزوج، ما أدخلتها وهي بنت أطهر الخلق، وهي فاطمة رضي الله عنها.
جاءت اليوم الثاني: جاءت ومعها الحسن والحسين ودخلوا، فلما دخلت في البيت جلست معها، فلم تلاحظ عليها كثير عبادة ولا صلاة ولا صيام امرأة مستورة، كانت تحافظ على صلاتها وفروضها وتطيع زوجها وربها، فلما رجعت فاطمة إلى بيتها قالت: يا رسول الله! إنك تثني على فلانة وإني ذهبت إليها فما وجدت عندها من العبادة الشيء الكثير، وجدتها مقتصرة على الفرائض، وطائعة لله ولزوجها، قال: (بطاعتها لزوجها بلغت ما بلغت) المنزلة العالية في الجنة تلك ما بلغتها بكثرة الصلاة ولا الصيام، بل بلغتها بالتقيد بأمر الله والزوج، ما كانت تُدخل أحداً بيتَها إلا بإذن زوجها لو كان من كان.
وتلك الصحابية الثانية التي كانت لا تخرج من البيت إلا بإذن زوجها، ولما ذهب زوجها إلى الجهاد في سبيل الله عز وجل مرض والدها، فأرسلوا إليها في البيت: إن والدك قد مرض فهل تريدين زيارته؟ قالت: إن زوجي غائب ولم يأذن لي بالزيارة، وأنا لا أستطيع أن أزوره وزوجي لم يأذن لي.
فجلست اليوم الأول والثاني والمرض يزداد بأبيها، فجاءوا إليها وقالوا: إن أباك قد اشتد مرضه وقد يموت، وهو يطلب حضورك، تعالي ودِّعيه فأنتِ وهو في المدينة، قالت: والله! لو صعدت روحه ما استطعت أن آتيه إلا بإذن زوجي، الله أكبر! إنا لله وإنا إليه راجعون! في اليوم الرابع ازداد المرض على أبيها وجاءوا إليها.
قالت: لا يمكن أن أخرج إليه.
ثم مات الأب ولم تره، ولما مات قالوا لها: قد مات فهيا إلى العزاء، قالت: ما أتيته وهو حي كيف آتي وهو ميت؟ لا.
حتى يأذن لي زوجي، فلما جاء زوجها من الغزو أذن لها أن تذهب إلى أهلها، فذهبت إلى أهلها، وسألت عن قبر أبيها، فذهبت إليه ودعت الله له بالمغفرة عند القبر، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله قد غفر لأبيها وأدخله الجنة بدعوتها له، وأولئك الذين حضروا وقبروا ومرّضوا ما نفعوه مثلها، وهي التي جلست على طاعة الله ثم طاعة الزوج بدعوتها دخل أبوها الجنة.
فينبغي للمرأة المسلمة أن تتقيد بأمر الله ثم بأمر الزوج في طاعة الله تبارك وتعالى، وألا تخرج من بيتها إلا بإذنه، وألا تدخل عليه في بيتها من لا يأذن له من الرجال أو النساء.(98/13)
عواقب التبرج وطرح الحجاب
إن المصيبة العظمى في هذا الزمن هي مصيبة التبرج الذي قتل الأمة، وحطم الأخلاق، وقضى على القيم، هذا التبرج والاختلاط الذي وقع فيه أكثر الناس في هذه المنطقة، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
التبرج هذا نافذة خطيرة إلى الزنا، نافذة كبيرة شنيعة إلى الزنا، لا يمكن أن يوصل إلى الزنا إلا من باب التبرج والاختلاط، والله تبارك وتعالى قد سد هذا الباب، وقال: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} [النور:30 - 31] الزينة، والثوب، والذهب، والوجه، والجلسة، والابتسامة، والكلمة؛ لا يمكن أن تكون من المرأة المسلمة المؤمنة إلا لزوجها فقط، لكن الحال عندنا معكوس، تطبخ وتكنس وتعمل في ثوبها ذاك الذي كأنها ستدفن فيه، فإذا خرج الزوج وقالوا: فلان ذهب ودعيت إلى مناسبة أو عرس جاءت إلى (الشنطة) وكسرتها، تبحث عن المفتاح فلا تجده، مفتاح القفل سوف يؤخرها عن السمرة واللعب! فكسرت (الشنطة) وأخرجت الثوب الجديد ذاك الذي اشتراه لها المسكين من عرقه، ثم خرجت متزينة متبرجة تنشر الفتنة بغير حساب، وتبيع عرض زوجها بلا ثمن، وهي في لعنة الله، وزوجها إذا رضي بهذا فهو ملعون، قال عز وجل: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} [النور:31] والبعل في الشرع هو واحد، لكن إذا الجماعة كلهم يرون المرأة، فمعناه: أن البعل ليس واحداً؛ لأن القرية كلها بعول {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} [النور:31] المرأة جوهرة لا تصل لها يد ولا تمتد لها عين؛ إلا يد وعين زوجها فقط {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ} [النور:31] أبوها: والأب في الشريعة أيضاً واحد وليس القرية كلها {أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} [النور:31] يعني: والد زوجها {أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ} [النور:31] ولدها تكشف عليه {أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} [النور:31] ولد بعلها من غيرها {أَوْ إِخْوَانِهِنَّ} [النور:31] أخوها من أمها وأبيها، أو من أحدهما، أو أخوها من الرضاعة {أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ} [النور:31] ثمانية أصناف.
قال: {أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور:31] التابعين: تابع الزوج، خادم أو عامل أو راعي الزوج، الذي يشتغل عندك في مزرعتك ومعملك، وهو تابع لك تحت إمرتك وراتبه من عندك ولكن بشرط: أن يكون هذا التابع وهذا العامل وهذا الراعي مخصياً، هذا إذا كان مخصياً يجوز لك في الشرع أن يكشف على نسائك، لكن عمالنا هذه الأيام الذين يجلسون مع النساء ويدخلون ويخرجون كيف حالهم؟! هم أخطر على النساء من النار، وأكثر الناس متساهل في هذا، يكون الزوج حريصاً على المحارم لكن من العامل والراعي يقول: ماذا نعمل لا نستطيع، لا -يا أخي- هذا الذي يعمل عندك اجعل له غرفة مخصصة هناك في المزرعة، ولو تعبت، لكن تحمي عرضك، أما أن يجلس مع المرأة والنساء والبنات ويطلع وينزل، فترى هذا العامل يقبل منك أقل راتب، وغيرك عرض عليه أكثر منك فلا يقبلها، أما أنت فيقبل منك مائة؛ لأن مائتك فيها عسل، مائتك معها امرأة وبنت، لكن ذاك الذي يعطيه خمسمائة وهو جالس منعزل هناك في الصندقة أو الزرع لا يريده.
وكلكم تعرفون قصة ذلك الرجل الذي وجد راعياً في السوق، فأعجب به، ثم نصحوا الرجل وقالوا: يا فلان نرى أن هذا الراعي سلوكه ليس بطيب مع أولادك، قال: اسكتوا ولا تقولوا في فلان أي شيء، عيالي تركوني، ما معي إلا فلان يرعى الغنم.
هو يرعى في النهار! وفي الليل يرعى النساء؟ لا حول ولا قوة إلا بالله! وبعد أيام وإذا به يسحر البنت ويقطع شعرها، ويلبسها ثياب رجل، ويأخذها ويفر بها، ولا يقبض عليه إلا وهو في بلاده، ويؤتى به ويحكم عليه القاضي بالقتل، وتقطع رقبته في السوق في يوم الثلاثاء، فما ينبغي لك أن تتهاون -أيها المسلم- في هذا الأمر قال الله: {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ} [النور:31] أي: ليس له في النساء طلب، مثل العنّين هذا إذا كان بهذه الهيئة يجوز له أن يكشف على زوجتك، ولكن بشرط: أن يكون تابعاً لك، يعني: إذا كان ممن ليس له إربة في النساء وهو خادم أو عامل عند جارك فلا يجوز أن يكشف على امرأتك؛ لأنه سوف يكشف عرضك ويصف زوجتك للآخرين، أما عاملك أنت فلا يستطيع أن يكشفها؛ لأنه يخاف منك، لأنه تابع لك {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31].
أما آن لنا أن نتوب.(98/14)
غيرة الله على محارمه
أيها الإخوان! إذا كان الله يحرص علينا هذا الحرص العظيم، إلى درجة أن امرأتك إذا لبست الزينة أو الخلخال أو الذهب أو الحجاب أو الأساور إذا مشت في الشارع فحرام عليها أن تضرب برجلها، أو تقلقل حليها؛ لأن القلقلة هذه تفتن فهي حرام، فكيف إذا معها حلي في وسطها ورقبتها، ويدها، ثم جاءت وهي كاشفة سافرة تشاهد الرجال وتجلس معهم أين الإسلام والإيمان؟ وإذا جاءهم واعظ، أو رجل صالح قالوا: اسكت، زوجتي طاهرة، نحن ملائكة نزلنا من السماء ما عندنا شهوة، ولا نريد النساء ولا الرجال!! هل قلبها أطهر من أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها؟ هل قلب هذا الرجل أطهر من قلب الرسول عليه الصلاة والسلام؟! إن أمر الحجاب أول ما نزل على رسول الله {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ} [الأحزاب:59] خطاب خاص للنبي {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ} [الأحزاب:59] قل لمن؟ {قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} [الأحزاب:59] أول شيء، هل لأن أزواج النبي فيهن فتنة؟ لا، والله! حاشا لله؛ أمهات المؤمنين طاهرات مطهرات {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الأحزاب:59].
أما المنافقون الذين يصطادون في الماء العكر، ويتقلبون في السفور والتبرج؛ لأنه لا يريد التبرج إلا من يريد أن يتلفت في نساء الناس، يدري ويعلم أن النساء إذا التزمن بالحجاب، وكلف الرجال نساءهم بالحجاب خسر الصفقة، ولن توجد نساء يستطيع أن يقعد إليهن، بعضهم لا يرتاح إلا مع النساء، والجلسة التي تنقصها النساء جلسة كئيبة.
فهذا المنافق الذي في قلبه مرض إذا سمع أن هناك حجاباً، أو أن الجماعة تواصوا وتجمعوا وقرروا: أنه يجب أن ننفذ أمر الله فينا، والذي لا ينفذ هذا الأمر فليس منا.
مثلما فعلت بعض القرى في بعض المناطق فيقول أهل المنطقة: لما جاءهم الأمر اجتمع أولوا النهي، وكبار الجماعة، والأعيان وقالوا: نحن كنا نجهل أمر الله، والآن عرفنا أمر الله عز وجل، هذا كلام الله مثل الشمس في رابعة النهار، ما رأيكم ننفذ أم لا؟ إن كنا مؤمنين نفذنا، وإن كنا كذابين لا ننفذ، فقرروا أن ينفذوا، وعزموا وقالوا: من لا يأمر زوجته أن تتغطى وأن تحتشم ليس منا، لا نضيف ضيفه، ولا نبيع عليه، إذا أراد أن يشتري من دكان في القرية لا نبيع له، وإذا جاورته في سيارة من سيارات القرية التي تذهب البلد أو تذهب المركز نقول: لا تركب أنت؛ لأن امرأتك مكشفة، وإذا مرض لا نزوره، وإذا مات لا نتبع جنازته، نقاطعة ولا نكلمه حتى يغطي امرأته.
لعل قائلاً من الناس يقول: إن زوجاتنا غير زوجاتكم في المدن، أنتم في المدن عندكم الماء والإمكانات، ونحن في قرية محتاجون إلى خروج الزوجة إلى الزرع، لكي تأتي بالعلف وبالماء وأغراض البيت، نقول لكم: إن الإسلام لم يحرم على المرأة المؤمنة أن تساعد زوجها في خدمة بيته وبيتها، ولكن بشروط شرعية، فإذا أرادت المرأة أن تخرج إلى الماء فعليها أن تلتزم الشروط الشرعية: أولاً: أن تحتجب، ما يمنعها من الحجاب؟ تأخذ لها (شيلتين) واحدة خفيفة وأخرى ثقيلة، والخفيفة من تحت، والثقيلة من فوق، ولا تخرج إلا وقد لبست أردى ثيابها، ما تأخذ الثوب المزركش، بل تلبس أردى ثيابها، ولا تأخذ معها عطراً، فإذا أمنت وهي في طريقها إلى البئر أو البستان أو الزرع تلفتت يميناً أو يساراً فإذا لم ترَ أحداً فتحت الغطاء الثقيل وأبقت على وجهها الخفيفة التي تمكنها من الرؤية، ولو شاهدها شخص بعيد لا يراها، فإذا سمعت أو رأت أحداً تنزل الثانية.
ما الذي يمنعها، ما يمنعها؟ من هذا شيء إلا النفاق وحب التبرج والمعصية؛ لأن بعض النساء تقول: أنا أخاف أن أسقط في البئر إذا تحجبت، لن تسقطي في البئر أبداً، بل إنك لو سقطت في البئر لكنت شهيدة، ولكن إذا كشفت فإنك ستسقطين في آبار عظيمة، في آبار جهنم، عمق البئر سبعين سنة، ومن يستطيع أن يخرج منها، ولا حول ولا قوة إلا بالله! فعليها.
أولاً: أن تأخذ ثوباً رديئاً، وشيلة متينة، ثم إذا خرجت تختار الوقت المناسب الذي لا يكون فيه رجال، إما مع الفجر، أو بعد المغرب معها شخص من أهلها، أو في الظهيرة إذا كان الناس منشغلون بالطعام، لا تخرج في العصر، لا تخرج في وقت تجمع الرجال وخروجهم، ثم إذا خرجت إلى البئر أو إلى الزرع وصادفت أن قابلها رجل، ماذا تعمل؟ إذا قابلها رجل فإن كان هناك طريق غير الطريق الذي يقابلها فيه فتفر عنه، تجعل طريق الرجل له وتمشي في طريق لوحدها، وإن كان لا يوجد إلا تلك الطريق فإنها تمشي على حياء، فإذا قربت منه تلتصق بالجدار، ولا يجوز له أن يسلم عليها.(98/15)
وجوب احتجاب كلا الجنسين من الآخر
نسمع الكثير من الناس يقول: أما بالنسبة للجماعة فيما بينهم سهل، أم الكلام فهو على الأجنبي الذي يأتي من بعيد إنهم الجماعة وربي غفور رحيم! حتى لو كان أخاك من أمك وأبيك؛ لا يجوز له أن ينظر لزوجتك، لماذا؟ لأن أخاك أجنبي عن امرأتك، هو ابن ناس وهي بنت ناس، ولو طلقتَ زوجتَك لجاز لأخيك أن ينكح زوجتك من بعدك، فـ (الحمو هو الموت)، وليس معنى هذا: أن تقاطع إخوانك وجماعتك لا، فقط حجّب المرأة، والذي لا يصحابك إلا من أجل المرأة لا يحبك، بعض الناس ما يحب الرجل إلا إن كان يرى امرأته، فإن حجبها عنه قال: يحجب امرأته عني؟! قل له: أحجبها أتحبني من أجل المرأة؟ هذه محبة فاسدة.
وبعضهم يذهب إلى رجل أخرج له زوجته، ثم إذا أتاه ذلك الرجل قال لامرأته: اخرجي حيي الضيوف، قالت: إني أستحي، ولا أحب أن أدخل على الرجال، قال: اسكتي، أنا ذهبت عنده وامرأته رحبت بي ودعتني للغداء، فيدعو امرأته للتجمل لصاحبه، ويعتبره رداً على حسن الضيافة، ويقول لها: اذهبي وتجملي لضيوفي وقابليهم بوجه حسن، فمسكينة تذهب تلبس وتغسل وجهها بالصابون وتنظف نفسها وتنظر في المرآة وتقوم بتحية الرجال في المجلس والرسول يقول: (لأن يمس أحدكم جلد خنزير أولى من أن يمس جلد امرأة لا تحل له) يظن أنه إن لمسها في يدها فالأمر هين، ولكنه نار، وصعقة كهربائية.
الآن السلك الكهربائي سلك أحمر وآخر أسود، إذا التقى الأسود والأحمر ما الذي يحصل؟ (التماس كهرباء) وحريق، لكن إذا وصلنا السلك الأحمر والسلك الأسود إلى (الفيش) أيحصل حريق؟ لا.
هذا (الفيش) هو الزواج، يلتقي فيه الرجل السلك الأحمر بالمرأة (السلك الثاني)، يلتقون داخل الزواج، فلا يحصل حريق، يصبح وئام ولطف ورحمة، وينتج عنه ذرية صالحة، إما ولد أو بنت، أما إذا التقوا قبل الزواج كانت فتنةً وفساداً كبيراً لا يعلمه إلا الله تبارك وتعالى، وكذلك السلك العاري كيف تأمنه؟ تقوم بعزل السلك العاري ويقال: لف عليه حجاباً، فزوجتك هذا -يا أخي- سلك عار! تؤثر في قلوب الناس، ضع عليه مادة عازلة، والمادة هذه هي الحجاب، حجب هذه الزوجة، إن كانت جميلة فخلها لك -يا أخي- لا ينظر إليها الناس، وإن كانت قبيحة فاجعلها قسمك حتى لا يضحك منك الناس ويترحموا عليك ويقولون: (مسكين مع هذه الجنية)، وإن كانت جميلة قالوا: لا يستحقها! لا -يا أخي- إن كانت جميلة فقد قدرها الله لك، وإن كانت قبيحة فقد قدرها الله عليك، لأن المرأة كما يقول الناظم:
إن الرجال الناظرين إلى النسا مثل الكلاب تطوف باللحمان
إن لم تصن تلك الأسود لحومها أكلت بلا عوضٍ ولا أثمانِ
فإذا عدا كلب على لحمة آخر، فيكون هناك من يعدو على لحمته دون أن يعلم، ومن يزنِ يزنَ بأهله، يقول:
عفوا تعف نساؤكم في المحرمِ وتجنبوا ما لا يليق بمسلم
إن الزنا دينٌ فإن أقرضته كان القضا من أهل بيتك فاعلمِ
من يزن بامرأة بألفي درهمٍ في بيته يُزنى بغير الدرهمِ
إذا نظرت بعينك إلى الحرام جاء من ينظر لمحارمك من الحرام، وإذا غضضت بصرك عن الحرام صرف الله الأنظار عن محارمك، فاتق الله في محارم الناس يحفظ الله محارمك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (احفظ الله يحفظك) لكن إذا كان الرجل غيوراً على محارمه، ويريد من المرأة أن تتحجب، لكنه لا يحفظ حرمات الآخرين فإذا دخل على النساء القعود سلم عليهن وجلس معهن، وإذا ذهب إلى البيت قال: لا تكشفي على الرجال؟ لا يمكن أن تلتزم زوجتك بالحجاب إذا لم تلتزم به أنت، الزم نفسك أولاً بالاحتجاب عن النساء، إذا دخلت على النساء وهن أمام الرجال كاشفات فانهرهن، وقل لهن: اتقين الله، ارجعن وتحجبن، استحي يا امرأة!! تقولها هكذا بصوت قوي، فإذا رفضت النساء الاحتجاب عنك فتحجب أنت، غض بصرك؛ لأن الله يقول: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30] استجب لله إذا عصت هي، حتى بعد ذلك تخجل هي، وزوجتك إذا علمت أنك ألزمت نفسك بالحجاب لا يمكن أن تتفرج على غيرك، لماذا؟ لأنها أمنت جانبك، فهذا المنكر -أيها الإخوان- منكر مستطير، وفسادٌ كبير واقع فيه أكثر الناس، ولكن لا يصعب تجنبه، المؤمن يحمل هذا ويتوكل على الله ويجتهد والله معه، أما ضعيف الإيمان مهزوز العقيدة فإنه يسمع ولكن يقول: والله! إني لا أستطيع، لماذا لا تستطيع الامتثال لأمر الله؟ {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:85].
أسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا وإياكم من عباده الصالحين، وأن يرزقنا وإياكم إيماناً صادقاً، وعملاً صالحاً، ويقيناً خالصاً، حتى نعلم أنه لا يضرنا ولا ينفعنا إلا هو، إنه على كل شيء قدير.(98/16)
الإيمان بالبعث
بدأ الشيخ بالكلام عن فضل مجالس العلم والترغيب فيها، وبيان ما تعود به على المسلم من المنفعة في الدارين، ثم بدأ في طرق موضوع المحاضرة، وبيان أن الإيمان من القضايا الكبرى عند المسلم، بعد ذلك تناول طرق القرآن الكريم في إثبات البعث، وقد شملت هذه الطرق: طرق القياس العقلي، وطرق التوكيد بالقسم، وطرق عرض صور من يوم القيامة.
وقد ذكر بعد هذا أسباباً تؤدي إلى تقوية الإيمان بالبعث، شارحاً جانباً منها.(99/1)
فضل مجالس العلم
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:102 - 103] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
ثم أما بعد: أيها الإخوة في الله! كم هو جميل وعظيم عند الله أن نجتمع على ذكر الله، في روضة من رياض الجنة، تحفنا فيها الملائكة، وتغشانا فيها الرحمة، وتنزل علينا السكينة، ويذكرنا الله عز وجل فيمن عنده.
إن هذا المجلس المبارك المجلس الإيماني، القرآني، النوراني هو الرصيد الذي سوف يبقى للإنسان بعد أن يغادر هذه الحياة، وسوف يتحسر ويتألم ويتندم أن أوقاته لم تكن كلها مثل هذه الجلسة، لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ما جلس قوم في مجلس لم يذكروا الله عز وجل فيه، إلا كان عليهم من الله ترة يوم القيامة) أي: عهدة ومؤاخذة عن كل مجلس وعن كل ساعة قضيتها -أيها الإنسان- في غفلة عن ذكر الله.
أما هذا المجلس فإن الغنيمة التي تحصل عليها بجلوسك فيه هذه الساعة أو هذه الدقائق غنيمة غالية، وثمرة عالية، يقول صلى الله عليه وسلم: (ما جلس قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا ناداهم مناد من السماء: أن قوموا مغفوراً لكم، قد بدلت سيئاتكم حسنات) ويقول صلى الله عليه وسلم: (إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا، قالوا: وما رياض الجنة؟ قال: حِلق الذكر).
والله يخبر أن من يعرض عن هذه المجالس فإن الشيطان يتسلط عليه، فيكون له قريناً في الدنيا، وقريناً في النار في الآخرة، قال عز وجل: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف:36] وقال عز وجل {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنْ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} [الزخرف:37 - 38] قال الله عز وجل: {وَلَنْ يَنفَعَكُمْ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:39].
ويخبر ربنا تبارك وتعالى أن من أعرض عن ذكر الله، وترك مجالس الذكر، ولم يحرص على الجلوس فيها؛ فإن الشيطان -والعياذ بالله- يتسلط عليه، وأن الله عز وجل يعرض عنه، فقال عز وجل: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه:124 - 127].
ويخبر ربنا تبارك وتعالى أن الذي يعرض عن ذكر الله ولا يحرص على مجالس الذكر فإن الشيطان يتسلط عليه، فيقول عز وجل وهو يضرب لنا مثلاً ممن كان في الأمم السابقة قبلنا: آتاه الله العلم، والدين، والآيات، والدلالات، ولكنه انسلخ منها وأخلد إلى الأرض واتبع هواه، قال عز وجل: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف:175 - 176].
وبئس هذا المثل يا عباد الله! من يؤت القرآن والدين، وتعرض عليه السلعة الغالية ويرفضها، انظر إلى التعبير قال الله عز وجل: {فَانسَلَخَ مِنْهَا} [الأعراف:175] والانسلاخ: هو ترك الشيء مع عدم الرغبة في العودة إليه، أنت عندما تخلع ثوبك من أجل أن تنظفه وتزيل ما فيه من الأوساخ والأقذار ما تقول: سلخت ثوبي، بل تقول: خلعت ثوبي أو وضعت ثوبي، لكن إذا سلخت جلد الشاة، ما تقول: خلعت جلدها، بل تقول: سلخت جلدها؛ لأنه لا يوجد أمل أن يرجع جلدها إليها، فهذا الذي انسلخ من الدين كأنه لم يعد يريده، يرفض الآيات، قال الله تعالى: {فَانسَلَخَ مِنْهَا} [الأعراف:175] فماذا حصل له بعد الانسلاخ؟ {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ} [الأعراف:175] لأنه كان في حصن، وحرز، وحماية، ووقاية بأسباب الآيات، والقرآن، والدين، كان محروساً بدين الله، ومحفوظاً بآيات الله، ومحاطاً بعناية الله، فلما انسلخ منها أصبح خلواً، مكشوفاً، عارياً، قال الله تعالى: {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ} [الأعراف:175] فماذا حصل عندما أتبعه الشيطان؟ {فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ} [الأعراف:175].
ومن كان الشيطان تابعه ومتبوعه كان من الغاوين، قال عز وجل: {فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ} [الأعراف:175 - 176] انغمس في الحمأة الوبيئة، وتلطخ بالتراب القذر، فأخلد إلى الأرض واتبع هواه ولم يتبع مولاه، اتبع هواه ولم يتبع رسوله صلى الله عليه وسلم، اتبع هواه ولم يتبع كتاب الله {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف:176].
فهنيئاً لكم -أيها الإخوة- هذا المجلس، وجزى الله كل خير من ساهم فيه ودل عليه وسار في أسبابه، ونسأل الله جل وعلا أن ينفعنا بما نقول وما نسمع، وأن يجعل ما نسمع وما نقول حجة لنا لا علينا.(99/2)
علاقة الإيمان بالبعث بقضايا الإيمان
أما موضوع الكلمة التي اختارها الإخوة فهي: "الإيمان بالبعث".
وقضية الإيمان بالبعث بعد الموت قضية مهمة ورئيسة، ومن قضايا الإيمان الكبرى، بل لقد كادت أن تكون نداً لقضية التوحيد في القرآن الكريم؛ لأن القرآن الذي نزل على النبي صلى الله عليه وسلم في مكة المكرمة عالج أمور العقيدة، وأكد على أمرين: الأمر الأول: أمر الوحدانية.
الأمر الثاني: الإيمان بالبعث.
إذا استقرت عقيدة الإيمان بوحدانية الله لم يعبد إلا هو، وإذا استقرت عقيدة الإيمان بالبعث استقام سلوك المكلف؛ لأنه إذا علم أنه مؤاخذ بعد هذه الحياة، ومبعوث بعد الموت، ومجزي على عمله، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر إذا استقرت العقيدة في قلبه استقام سلوكه، أما إذا كانت العقيدة مهزوزة، والإيمان بالبعث ضعيفاً، فإن هذا ينعكس رأساً على سلوكه، فيضيع فرائض الله، ويتساهل في أوامره، ويقع في محارمه، ولا يخافه؛ لأنه ليس مؤمناً بالعقوبة؛ لأن من أمن العقوبة أساء العمل.
ولهذا يذكر الله عز وجل أن أهل النار يقولون بأنهم ما كانوا مستيقنين بالبعث، قال عز وجل: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ} [الجاثية:27] تنكشف حساباتهم، وتتعرى أوراقهم، فيرون أن تجارتهم خاسرة، وأرباحهم بائرة، وأنهم خاسرون، قال: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ * وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ * وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً} [الجاثية:28 - 32] أي: ليسوا مكذبين على الإطلاق ولا مصدقين على اليقين، بل عندهم ظنون، قال: {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنَّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ * وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون * وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ * ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمْ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ * فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الجاثية:32 - 37].
فقضية الإيمان بالبعث قضية مهمة لا بد من التأكيد عليها، ولا بد من تأصيلها؛ لأنه باستقامتها وثباتها تصلح حياتك، وبزعزعتها وضعفها تخرب حياتك.(99/3)
وفد الأزد وخصال الإيمان والبعث
يقول سويد بن الحارث رضي الله عنه وهو صحابي جليل من هذه الديار من بلاد الأزد -بلاد الأزد يعني جنوب المملكة - قال فيما يرويه أبو نعيم في الحلية قال: (قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سابع سبعة من أصحابي في وفد الأزد -في سنة الوفود- قال: فلما دخلنا عليه سلمنا، فرد السلام، ثم أعجبه ما رأى من سمتنا) أي: لباسهم وهيئتهم، أعجب النبي صلى الله عليه وسلم هيئة هؤلاء الرجال، كانوا يلبسون العمائم، وكان لهم لحى، وكان معهم عصي، ويلبسون (الجنابي)، ولهم أزر، فكان منظرهم منظراً رجولياً يبعث على الارتياح، فأعجب النبي صلى الله عليه وسلم هذا المنظر.
(فقال: من القوم؟ قالوا: مؤمنون يا رسول الله!) انتسبوا إلى العقيدة، ما انتسبوا إلى العرقية، ولا القبيلة، ولا اللون، ولا الجهة، ولم يقولوا عدنانيون ولا قحطانيون ولا سعوديون، بل قالوا: (مؤمنون يا رسول الله! فقال صلى الله عليه وسلم: إن لكل قول حقيقة فما حقيقة إيمانكم؟) لأن دعوى الإيمان لا تثبت إلا بالدلائل والبراهين، فما حقيقة الإيمان الذي تدعونه.
(قالوا: يا رسول الله! حقيقة إيماننا خمس عشرة خصلة، خمس أمرتنا رسلك أن نؤمن بها، وخمس أمرتنا رسلك أن نعمل بها، وخمس تخلقنا بها في الجاهلية -أي: عندنا عادات من قبل الإسلام- ونحن عليها اليوم، إلا أن تكره منها شيئاً تركناه) انظروا إلى الرجولة، لم يقولوا لا نستطيع، نحن على عادة الآباء والأجداد، قالوا: إن كان يوافق ما عندك يا رسول الله! عملنا بها، وإن كنت تكره منها شيئاً يرده الدين ويكرهه الإسلام تركناه.
(قال: ما الخمس التي أمرتكم بها رسلي؟ قالوا: أمرتنا رسلك أن نؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وبالبعث بعد الموت -وهذا هو الشاهد في هذا الحديث: وبالبعث بعد الموت- قال: وما الخمس التي أمرتكم رسلي أن تعملوا بها؟ قالوا: أمرتنا رسلك أن نشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وأن نقيم الصلاة، وأن نؤتي الزكاة، وأن نصوم رمضان، وأن نحج البيت الحرام إن استطعنا إليه سبيلا، قال: وما الخمس التي عندكم في الجاهلية -أي: ما هي العادات التي عندكم في الجاهلية ولا تزالون عليها- قالوا: خمس خصال، الأولى: الشكر عند النعماء) إذا أنعم الله علينا شكرنا، فلا نبطر، ولا نتكبر، ولا نتنكر، ولا ننس الماضي، وبعض الناس كان فقيراً يتسول على الأبواب واليوم صار غنياً يتاجر بالملايين، وإذا قيل له: تذكر حالتك الأولى، قال: هذا مال ورثته كابراً عن كابر، لماذا؟ لأنه نسي ما كان عليه، وما كان فيه.
قالوا: (الشكر عند النعماء)؛ لأن المؤمن إذا أنعم الله عليه شكر الله على النعمة، واستعمل النعمة فيما يرضي الله، وتزود بالنعمة في مراضي الله عز وجل، ولم يبطر بها ولم يتكبر، ولم يتعال على الناس من أجلها، وإنما يعرف أن النعمة من الله وأن الله يقول: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ} [النحل:53] فهو المنعم تبارك وتعالى، فإن من شكر نعمة الله أن أشكر الله أولاً، ثم أصرفها في مرضاة مسديها وموليها تبارك وتعالى، لكن الفاجر إذا جاءت النعمة فجر واستعلى بها، وصرفها في مساخط الله، واستعان بها على كل ما يبغضه الله تبارك وتعالى.
(قالوا: الشكر عند النعماء، والصبر عند البلاء) لأن المسلم والإنسان في الدنيا بصفة عامة يتقلب بين النعماء وبين الضراء، الحياة ليست على وتيرة واحدة، الحياة كل يوم لها وضع، والله كل يوم هو في شأن، والناس يتقلبون بين نعم الله وبين مصائبه، والله تعالى يقول: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] تجده اليوم معافى وغداً مريضاً، واليوم مريضاً وغداً معافى، واليوم فقيراً وغداً غنياً، واليوم غنياً وغداً فقيراً، واليوم بيت فيه عزاء وبيت آخر فيه زواج وفرح، وبعد أيام تجد العكس فالبيت الذي كان فيه فرح أصبح فيه عزاء، والذي كان فيه عزاء صار فيه فرح {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140].
فيقولون: نحن عندنا هذه الخصلة أننا نصبر عند البلاء، لا نتضجر، ولا نتذمر من قضاء الله، وكلما ابتلانا الله بشيء قلنا: الحمد لله على ما كتب الله، يتمثلون قول الله عز وجل: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ} [البقرة:155] من هم؟ {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:156 - 157].
(قالوا: والرضى بمر القضاء) لا نصبر فقط، وإنما نصبر ونرضى، وفرق بين الصابر اضطراراً والصابر اختياراً، فالمصيبة تنزل ولكن الواحد يتقبلها بصدر رحب، ويعلم أنها من اختيار الله عز وجل فيثيبه الله، وآخر تنزل عليه المصيبة فيصبر صبر المضطر، فليس له إلا أن يصبر وإلا ماذا يصنع؟! فيصبر رغماً عنه! فهؤلاء يقولون: (نصبر على البلاء ونرضى بمر القضاء)، أي: نعلم أن هذا هو اختيار الله فنرضى باختيار الله عن اختيارنا.
(قالوا: والصدق في مواطن اللقاء) أي: يقولون: إذا قابلنا أعداءنا لا نعرف إلا المضي إلى الأمام، لا نعرف شيئاً اسمه انسحاب ولا نرجع إلى الوراء، لا نعرف إلا إلى الأمام، إما النصر أو الموت.
قالوا: هذه من شيم الرجال ومن شيم أهل المروءة.
(قالوا: وترك الشماتة بالأعداء) أي: لا تشمت على أحد تكرهه فيعافيه الله ويبتليك؛ لأن الشماتة ليست بيدك؛ فإن ما أصابه قدر والأقدار بيد الله، فإذا ابتلاه الله تأتي أنت وتشمت به، هل أنت الذي قضى عليه؟ هل أنت الذي قدر عليه؟ يا أخي: حتى ولو أنك تكرهه، وكان عدوك، لا تفرح لما أصابه، لا تقل يستحق ما به، لا -يا أخي- بل قل: اللهم عافه يا رب ولا تبتلنا، ولو كان عدوك فلا تشمت به؛ لأنك إذا شمت بعدوك عافاه الله وابتلاك، ونزلت المصيبة عليك أنت، لكن إذا رأيته وقلت: اللهم عافه ولا تبتلنا، عافاه الله ولم يبتلك.
هذه هي الخمس التي عندهم في الجاهلية.
فقال صلى الله عليه وسلم لما سمع خمسهم: (حكماء علماء؛ كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء) فهذه هي شهادة النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء الرجال: (حكماء علماء؛ كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء).
ثم قال: (وأنا أزيدكم خمساً: إن كنتم كما تقولون فلا تبنوا ما لا تسكنون) أي: أنه يزيدهم خمساً بعد الخمس عشرة، والأولى متحققه فينا كلنا، خصوصاً بعد انسكاب الدنيا علينا، ولكن ما المخرج؟ المخرج أن تسكن فيما بنيت، وإذا وسع الله عليك وزودك بالسكن فاستعمل ما يدخل عليك من هذا السكن في طاعة مولاك جل وعلا، واستعن بما يفتح الله عليك في طاعة الله؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ} [الأعراف:32] ويقول: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون:51] ويقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:172].
فإذا وسع الله عليك بالمساكن، أو بالمآكل، أو بالملابس، أو بالمراكز، أو بالمناكح، أو بالمشارب، أو بأي شيء مما منَّ الله تعالى به عليك فتمتع به، فإن الله لا يريد أن يحرمك منه، بل أنت أولى الناس بالطيبات في الدنيا ولكن بشرط: أن تستعين بهذا المتاع على طاعة الله.
فإذا بنيت عمارة تعمرها بذكر الله فلا تعمرها بمعصية الله، وإذا أعطاك الله جسداً معافى فاستخدمه في طاعة الله، وإذا أعطاك الله منصباً وجاهاً فسخره فيما يرضي الله جل وعلا، حتى تتحول أمورك كلها إلى عبادة، فإذا كنت موظفاً أو مديراً أو مسئولاً ولكنك تتقي الله في عملك فكأنك تعبد الله بهذا العمل؛ لأن بصلاح النية تتحول عادات المسلم إلى عبادات، وبفساد النية تتحول عبادات المسلم إلى عادات، مثل أكثر الناس اليوم يصلي ولكن عادة، يصلي ويخرج ليشهد الزور، يصلي ويفكر كيف يقول شهادة الزور، لماذا؟ لأن صاحباً له قد جاءه وقال: عندي دعوى في الزرع أو المبنى أو المكان وتعرف أنني بحثت عن شهود ولم أجد، وأنت تعرف أن الدنيا يوم لك ويوم عليك، فأنا اليوم أحتاجك وأنت غداً قد تحتاجني، وتعلم أنه لا يوجد زرع ولا غير ذلك لا يوجد إلا وجهي، أريد أن أظهر على هذا الإنسان وأكسب هذه الدعوى، وأنت صاحبي وما ترضى أن تخذلني فتأتي تشهد معي قال: آتي أشهد، ولو أنت كبير في السن؛ لأن كبار السن يعرفون الأماكن والبقاع والحدود، ولو جاء شخص صغير في السن -شاب- لقالوا: أنت صغير ولا تعرف الحدود والأماكن، ولهذا دائماً يقولون: ابحث لك عن شيخ كبير قد تجهز للآخرة فيختم حياته بشهادة الزور والعياذ بالله.
ويقول: أبشر! ويأتي يصلي هذا الشيخ ولا يفارق المسجد ولكنه يشهد الزور، كيف تشهد الزور وقد قرن الله تعالى شهادة الزور بالشرك بالله؟ حيث قال الله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج:30] مثل الشرك بالله، وفي صحيح البخاري وصحيح مسلم عن أبي بكر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله! قال: الشرك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس! وقال: ألا وقول الزور، ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور قال الصحابة: فما زال يرددها حتى قلنا: ليته سكت!).
فشهادة الزور ليست سهل(99/4)
حديث جبريل والإيمان بالبعث
وفي حديث جبريل الصحيح، الذي جاء يعلم فيه الصحابة أمور دينهم حينما كانوا جالسين كما يروي عمر قال: (بينما نحن جلوس عند رسول الله إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه من القوم أحد) وكان السفر في الماضي ليس كالآن، يجلس في الطائرة كأنه في البيت، لا بل يأتي من السفر أغبر جائع أشعث تعبان يقطع الطريق ويمضي فيها شهوراً، فهذا جاء من سفر ولكن ثيابه نظيفة وليست مغبرة، وشعره غاية في السواد، وثوبه أبيض جداً وليس أشعث، وما عليه أثر سفر ولا يعرفه أحد من الصحابة، فمن أين أتى هذا؟ ليس بمسافر ولا من المعروفين من الناس! نعم.
جاء من السماء.
(فجلس أمام النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام؟ قال: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً، قال صدقت، قال الصحابة: فعجبنا له يسأله ويصدقه!) معناه أنه أعلم منه، حين تسأل شخصاً ويجيب، فتقول: صدقت! فمعناه: أنك تعلم الجواب، فسؤاله ليس سؤال المستفهم بل سؤال المؤكد والمعلم.
(قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره من الله، قال صدقت، ثم قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، قال: صدقت، ثم قال: فأخبرني عن الساعة؟ قال صلى الله عليه وسلم: ما المسئول عنها بأعلم من السائل) يقول: أنا والله ما أعلمها أكثر منك، إن كان هناك علم عنها فهو عندك؛ لأنك أتيت ومعك علم من السماء.
فما المسئول عن الساعة بأعلم من السائل، فهذا سؤال ولكن السائل والمسئول لا يعلمان عنها شيئاً، يقول الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ} [الأعراف:187] فعنده علم الساعة، لا يعلمها ملك في السماء ولا نبي في الأرض، وإنما اختص الله نفسه بعلم الساعة.
قال: (فأخبرني عن أماراتها) أي: أعطني دلالات أو إشارات تدل على قرب وقوعها، فأخبره عن بعض أماراتها، قال: (أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان) وقد حصل في هذا الزمان، فالذين كانوا يسكنون في القفار والصحاري والربع الخالي وفي البادية ما كانوا يعرفون المدنية كانوا يبنون بيوت الشعر، فإذا انقطع المطر في أرض ذهبوا إلى أرض أخرى، فأصبح لديهم فلل وعمارات، قال: وأن ترى العالة أي: الفقراء، الحفاة أي: الذين لا يعرفون الأحذية، العراة: الذين ما معهم ملابس يلبسونها، تراهم يتطاولون في البنيان، كل شخص يقول: عمارتي أحسن من العمارة الثانية، وتنسيق عمارتي أحسن من تنسيق العمارة الثانية، وهذا الحديث فيه ذكر البعث بعد الموت.(99/5)
طرق القرآن في إثبات البعث والدعوة إلى الإيمان به
المتأمل للقرآن المكي يلحظ التأكيد على قضية الإيمان بالبعث، والمتأمل للقرآن بصفة عامة يلحظ أن القرآن قد عالج قضية الإيمان بالبعث بعد الموت عن طريق ثلاثة أمور: الأمر الأول: القياس العقلي والمنطقي.
الأمر الثاني: اليمين والقسم المؤكدة للقضية.
الأمر الثالث: عرض صور حية ومشاهد وأحداث تحدث يوم القيامة والله أعلمنا بها قبل أن يكون ذلك اليوم.(99/6)
طريقة القياس العقلي والمنطقي
فالأمر الأول وهو القياس العقلي المنطقي لأهل العقول الذين يقولون: لا نرضى بالدليل، نريد فقط أدلة عقلية منطقية مثل: (1+1=2) وإلا فلا نقبل.
فنقول: قال الله عز وجل: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ} [يس:78] فرجل من الكفار جاء بعظم لميت من المقبرة، فحمله إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفت العظم بين يديه، وقال: يا محمد! تزعم أن ربك بعد أن نكون عظاماً ورفاتاً يبعثنا ويعيدنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (نعم، ويدخلك الله النار) فنزل القرآن يؤيده في نفس اللحظة، فقال الله: {وَضَرَبَ} [يس:78] يعني: هذا الكافر {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ} [يس:78] فضرب بالعظم مثلاً ونسي العظم الذي يحمل العظم، جاء يفت العظم بالعظم المحمول؛ لأن العظم هو الأساس لكل شيء في الإنسان، فالعظم يحيط بالمخ والمخ هو مركز الدماغ، والدماء هل تعلم أين تصنع؟ تصنع داخل نخاع العظم، فهذه الدماء الموجودة فينا، تكسر فينا كريات الدم الحمراء كل مائة وعشرين يوماً، بعد أربعة أشهر كل الدماء التي تلفت تكسر وتذهب مباشرة إلى الطحال، وتقوم العظام بعملية توليد جديد وخلق جديد للدماء، فالعظم الذي يحمل العظم يقول الله فيه: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:78] قال الله: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:79] الذي خلقها أولاً أيعجز أن يخلقها ثانياً؟! لا.
فسبحان الله!! {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنْ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:80 - 82] الأمر عند الله بين الكاف والنون، لا وسائل ولا إمكانيات، بل كن فيكون، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء تبارك وتعالى، فهذا هو القياس المنطقي الأول.
القياس الثاني في سورة مريم: يقول الله عز وجل: {وَيَقُولُ الإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً} [مريم:66] يعني أنه يستبعد ذلك، يقول: إذا مت أخرج مرة ثانية حياً؟ {وَيَقُولُ الإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً} [مريم:66] قال الله تعالى: {أَوَلا يَذْكُرُ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً} [مريم:67] لماذا تنسى أن الله خلقك ولم تكن شيئاً؟! فأنت تعيش منذ ثلاثين سنة، فأين كنت قبل الثلاثين؟ ارجع إلى الوراء قليلاً يا صاحب العضلات والجسم القوي، والبنية المشدودة، ارجع إلى تاريخك قليلاً واذكر كيف كنت؟ كنت أول خلقك نطفة مذرة، خرجت من ذكر أبيك، لو صرفت هذه النطفة لكانت كالبصاق أو كالنخامة، هذا هو أصلك -أيها الإنسان- من ماء مهين، لقد خلق الله الإنسان من ماء حقير، لماذا تتكبر؟ {أَوَلا يَذْكُرُ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً * فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ} [مريم:67 - 68]: هؤلاء المكذبين، الضالين، الشاردين الهاربين: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً} [مريم:68] أي جاثين على ركبهم: {ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً * ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيّاً * وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} [مريم:69 - 72] نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم، اللهم اجعلنا منهم وآباءنا وأمهاتنا وإخواننا وأخواتنا وجميع المسلمين.
{وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} [مريم:72] فهذا المنطق الثاني، إن الله تعالى أولا يذكر الإنسان أنه كان نطفة مذرة، ثم صار علقة، ثم صار مضغة، ثم صار عظاماً، ثم كساه الله لحماً، ثم بعد هذا اللحم أنشأه الله خلقاً آخر، ثم أخرجه، خرج من موضع البول مرتين، الأولى: من ذكر أبيه، والثانية: من فرج أمه.
يقول: [يا بن آدم! كيف تتعالى على الله وأولك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وفي بطنك تحمل العذرة].
بعض الناس تقول له: صل، فيأبى، ولا يعلم ما بداخله، فلولا أن الله كتمه وما أظهر رائحته والله لما قعد معه أحد، فوالله لا يوجد أخس من الإنسان، وهذا معلوم، فالغائط والبول الذي يخرج من كل الحيوانات لا يشبه بول وغائط الإنسان، فالإنسان حقير بذاته، لكن الله تعالى كرم الإنسان بهذا الدين، وشرفه بهذا الإيمان، فإذا تخلى عن كرامة الله له وتشريفه له فلا كرامة له، ولهذا قال الله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} [محمد:12] هذا القياس الثاني المنطقي.
والقياس الثالث جاء في سورة الحج: قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنْ الْبَعْثِ} [الحج:5] فإذا كان عندكم شك من البعث فتعالوا وخذوا الأدلة، ما من يوم إلا فيه خلق جديد، وفي كل بيت من بيوت المسلمين تجد آل فلان جاءهم ولد، آل فلان جاءتهم بنت، تعال وانظر إلى هذا المولود، من أين جاء؟ من شق بصره؟ من صوره؟ من قدره؟ من ركبه؟ من جعل فيه هذا الاتساق وهذا الخلق وهذه الحكمة العظيمة؟ من ركب له العينين في رأسه؟ من ركب له الأذنين في رأسه؟ من ركب له الرئة رغم أنه في بطن أمه لا يتنفس؟ من أعطاه القدمين رغم أنه لا يستعملها إلا بعد سنة أو سنتين؟ من أعطاه هذه الأجهزة وهذا الخلق وهذا اللسان؟ إنه الله الذي لا إله إلا هو: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:7 - 8] ويقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنْ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج:5 - 7].
انظر إلى هذه الخمس الأخيرة، كل العرض السابق كله لتقرير هذه الخمس الأصول! خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ، ثم يقر في الأرحام ما يشاء، ثم بعد ذلك: يخرجكم طفلاً لتبلغوا أشدكم، ثم تكونوا شيوخاً، ثم بعد ذلك: منكم من يرد إلى أرذل العمر، أي يبقى إلى أن يشيخ كلياً.
ومنكم من يتوفى، وبعد ذلك: {تَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً} [الحج:5] وهذا هو الدليل على الإحياء، وهو أن الأرض الهامدة الجامدة إذا أنزل الله عليها الماء اخضرت واهتزت وربت وأنبتت ألواناً بهيجة: {وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج:5].
ثم قال الله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج:6 - 7].
هذه ثلاث آيات دلت بالمنطق والعقل على قدرة الله على الإحياء بعد الموت.(99/7)
طريقة التوكيد بالقسم
الأمر الثاني من أمور علاج الإيمان بالعبث: العلاج باليمين والقسم المؤكد: قال عز وجل في سورة التغابن: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي} [التغابن:7] فلم يقسم الله تبارك وتعالى ولم يأمر نبيه بأن يقسم به في القرآن إلا في ثلاثة أماكن وعلى البعث فقط، هذه واحدة، قال الله: قل يا محمد: {بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن:7] إذا كان يصعب عليكم -لأنكم ضعفاء- أن تخلقوا ذباباً فليس عسيراً على الله؛ لأنه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
ولقد تساءلوا وقالوا: كيف يعيد الأولين والآخرين؟ قال الكفار: يمكن أن يعيدنا نحن، ولكن أولئك الذين من القدم من عاد ونوح وآدم كيف يبعثهم الله؟ قال الله عز وجل: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان:28] فما خلقكم ولا بعثكم كلكم من أولكم إلى آخركم إلا كنفس واحدة، وقال عز وجل: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر:57] يعني: أن السماوات وما أعد الله بها من العجائب، والأرض وما خلق الله بها من العجائب، أكبر من خلق الناس {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [غافر:57].
فالله تعالى يقول في هذه الآية: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن:7].
والقسم الثاني: قال عز وجل: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ} [يونس:53] يسألونك أحق هو؟ أي: هل البعث بعد الموت حق؟ قال: {قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يونس:53] أي: البعث من بعد الموت {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [يونس:53].
وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ:3].
وفي سورة الذاريات يقول الله عز وجل: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ} [الذاريات:23] أي: البعث بعد الموت {مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات:23] مثل ما أنك تتكلم حقاً ولا تنكر أنك تتكلم، فوالله إن البعث بعد الموت كذلك بقسم من الرسول صلى الله عليه وسلم قال الله: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات:23] هذا الأسلوب أو الأمر الثاني من أمور علاج العقيدة وتأصيلها في الإيمان بالبعث من بعد الموت.(99/8)
طريقة عرض مشاهد من يوم القيامة
أما الأمر الثالث: فهو عرض أحداث ومشاهد وأشياء تحدث في القيامة لا نعرفها نحن، ولكن الله من رحمته بنا نقل لنا صوراً حية من أجل أن نعتبر ونتوب، ونكون ممن يعيش هذه الأحداث، ولا نتأسف حين لا ينفع الأسف، نذكر لكم ثلاثة أحداث، أو ثلاث قضايا ومشاهد: مشهد بين مصدق الجنة ومكذب النار: المشهد الأول: مشهد حوار بين رجلين، رجل مصدق من أهل الجنة ورجل مكذب من أهل النار، وكانا في الدنيا زملاء وشركاء في تجارة، ذكر الله تعالى قصتهما في سورة الصافات، ونقل ابن كثير قصتهم في التفسير، وملخص القصة: أنه كان هناك رجلان مؤمن وكافر، وكانا شريكين في تجارة، وكان المؤمن يشتغل دائماً بالآخرة، ويعطي الدنيا جزءاً يسيراً من الاهتمام، وكان الكافر معرضاً عن الآخرة ويعطي الدنيا كل الاهتمام، ليله ونهاره مع التجارة ولكن ذاك إذا جاء وقت الصلاة ترك تجارته وذهب.
ولكن هذا الكافر ما أعجبه هذا وقال له: أنا أتعب، وأنا الذي أثمن المال، وأنا الذي أنميه وأحرص على زيادته، وأنت على الهامش، إما أن تشتغل مثلي وإلا نتقاسم، قال: نتقاسم، فحصرا المال فوجداه ثمانية آلاف دينار، فاقتسما المال وأخذ كل واحد أربعة آلاف دينار، أخذ هذا المؤمن ماله وكنزه، وأخذ هذا الكافر ماله وبدأ يستغله.
لكن كيف استغله؟ اشترى مزرعة كبيرة طويلة عريضة بألف دينار، ثم بعد ذلك حفر فيها الآبار، وشق فيها التراب، واشترى بألف ثانية عبيداً وخدماً يخدمونه ويعملون فيها، واشترى بالألف الثالث قصراً من أعظم القصور في الدنيا، والألف الرابعة تزوج بها زوجة من أجمل نساء الدنيا، وتمت له النعمة، مزرعة عظيمة، وخدم يخدمون فيها، وقصر عظيم وزوجة جميلة، ماذا يريد بعد ذلك؟ ثم لقي صاحبه بعد أيام قال له: ماذا صنعت بالمال؟ قال: لم أصنع به شيئاً، قال: أنا أعلم أنك ستضيع المال، قال: أنت ماذا صنعت به؟ قال: اشتريت مزرعة وبنيت فيها قصراً وتزوجت زوجة، فقال له: حسناً ما صنعت، وجاء الليل فقام هذا المؤمن يصلي وقال: اللهم إن شريكي فلاناً اشترى مزرعة في الدنيا يموت ويتركها، واشترى عبيداً يموت ويتركونه أو يموتوا ويتركونه، وبنى قصراً يموت ويخرج منه، وتزوج بزوجة جميلة يموت ويتركها أو تموت وتتركه، اللهم إني أشتري عندك حديقة في الجنة، وأشتري عندك خدماً في الجنة، وأشتري عندك بيتاً في الجنة، وأخطب عندك حوراء في الجنة بأربعة آلاف دينار، وقام في الصباح وأخذ المال ودفع الثمن مقدماً، ووزعه على عباد الله، ولم يبق معه شيء.
والله عز وجل ابتلاه وزاد له في الاختبار، فظل فقيراً مدة من الزمان حتى إنه آوته الحاجة إلى أن يتسول فلم يجد أحداً يعطيه، وتذكر وقد كاد يموت من الجوع صديقه ذاك فقال: أذهب إليه لعلي أجد عنده حاجتي، فذهب إليه ووقف بالباب، فلما رآه الخدم والعبيد طردوه، قالوا له: انصرف لا يخرج سيدنا ويراك فيعاقبنا، أنت بمنظرك هذا وبثيابك البالية والمقطعة تشوه منظر القصر، قال: قولوا لسيدكم فلان يريدك، قالوا: أنت تعرف سيدنا؟ قال: نعم أنا أعرفه ويعرفني، فذهب واحد من الخدم وقال له: يوجد شخص فقير في الباب يقول إنك تعرفه ويعرفك اسمه فلان، فالرجل تذكره ونزل إليه، فلما رآه بهذه الحالة وسلم عليه، قال له: أسألك بالله أين مالك الذي كان معك؟ قال: أقرضته قال: ومن أقرضته، من الذي يقرض حقه؟ قال: أقرضته المليء الوفي، المليء الذي لا يضيعه، والوفي الذي يرد رداً عظيماً، قال: من؟ قال: ربي، فنزع يده منه وضربه وقال له: اذهب إليه، فرجع منكس الرأس من الذل، فأعطاه الله ما أقرضه، وأدخله الجنة التي قد اشترى منه فيها، وذلك أدخله الله تعالى في السجن؛ لأنه ليس معه شيء فحبسه الله في سجن الآخرة.
فيخبر الله عز وجل يوم القيامة في سورة الصافات أن المؤمن هذا يتحدث عن رفيقه هذا، قال عز وجل: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ} [الصافات:50 - 51] أي: من أهل الجنة {إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} [الصافات:51] رفيق صاحب زميل شريك {يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَدِينُونَ} [الصافات:52 - 53] يقول لزملائه: كان لي صديق يقول: أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً سنبعث وندان ونحاسب {أَئِنَّا لَمَدِينُونَ} [الصافات:53] وبينما هم في الكلام يخاطب زملاءه، وإذا بخطاب يأتيهم قال: {قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ} [الصافات:54] تريدون أن تروه، هو موجود، ولكن ليس في هذه الدار هو في الدار الثانية، ما أعجز الله، وما أفلت هو مقبوض عليه {قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ} [الصافات:54 - 55] يعني: من أعلى {فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الصافات:55] رآه وهو كالفحمة يتقلب في النار، لم ينفعه القصر ولا الزوجة ولا المزرعة ولا العبيد، هل نفعه شيء من هذا النعيم؟ لا.
الآن الدنيا هذه مثل البطن، تشبعه أول وجبة، الآن نحن كم قد أكلنا وكم تغذينا، مرات ومرات، وكذلك إذا مات الإنسان ولو تنعم بكل نعيم، ولو تزوج بكل جميلة، ولو ملك كل ريال، ودخل القبر ورأى حفرة من حفر النار والله ما يبقى من نعيم الدنيا شيء.
ولكن لو تعذب في الدنيا بكل عذاب، وتعب بكل تعب، ومات ووجد القبر روضة من رياض الجنة والله ما بقي معه من ذاك التعب شيء {هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الصافات:54 - 55] فكلمه: {قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ} [الصافات:56] أي: إن كدت لتهلكني بموقفك ذاك، وردك عليَّ، وطردك لي {وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي} [الصافات:57] أنه ثبتني على الإيمان {لَكُنتُ مِنْ الْمُحْضَرِينَ} [الصافات:57] ثم يلتفت إلى إخوانه في الجنة ويقول: {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ} [الصافات:58] لم يعد يوجد موت {إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأُولَى} [الصافات:59] أي: الموتة التي أخذناها في الدنيا {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الصافات:59 - 60].
والله هذا هو الفوز العظيم {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ} [الصافات:61] لمثل هذا المصير فليجتهد المجتهدون، وليشمر المشمرون، وبعض الناس إذا مكث في العسكرية أو ذهب إلى الغربة سنين، ثم جاء بأموال واشترى مزرعة وبنى قصراً وتزوج قالوا: والله فلان حليم؛ لأن معه مالاً، ولو جاء وعليه دين وهو مؤمن ويتقي الله ويعلم الناس الدين، قالوا: والله هذا وضيع، تغرب وجاء بكتاب، فلا إله إلا الله! والله! إن الرجل الحقيقي هو الذي يأتي بدين الله، الرجل الحقيقي هو الذي أثنى الله تعالى عليه بالرجولة وقال: {فِيهِ رِجَالٌ} [التوبة:108] يعني: في المسجد {يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة:108] وقال: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور:36 - 37] الرجولة الحقة في دين الله، ليس الرجل من يجمع المال ويضيع الدين، ولكن الرجل من يجمع الدين، فإذا جمع الدنيا مع الدين فشيء طيب:
ما أجمل الدين والدنيا إذا اجتمعا لا بارك الله في دنيا بلا دين
فهذا يقول: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ} [الصافات:61] ثم يقول الله تعالى: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً} [الصافات:62] يعني: هذه الجنة العالية خير نزلاً {أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} [الصافات:62] يسأل العقول يقول: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} [الصافات:62]؟ لا يوجد شك أن الجنة أفضل من شجرة الزقوم، قال الله تعالى: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} [الصافات:64] وتخيلوا شجرة تنبت في النار كيف تكون؟ معلوم أن الإحراق ضد الشجر، فلا يوجد شجر ضد النار إلا شجر النار {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا} [الصافات:64 - 65] يعني: ثمرتها {كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ * فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ} [الصافات:65 - 66] أي: يأكلون من ثمرها الطالع من النار.
{ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ} [الصافات:67] والشوب: هو الماء الذي يتجمع مع غليان الماء، الماء إذا غلى يتجمع ويصعد منه شوب إلى أعلى، هذا هو أحر شيء في الماء، قال الله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ * ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ} [الصافات:67 - 68] المرد إلى أين؟ {لإٍلَى الْجَحِيمِ} [الصافات:68] لماذا؟ قال تعالى: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ * فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ * وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنذِرِينَ * فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ} [الصافات:69 - 73].
وهذا مشهد من مشاهد يوم القيامة، ولا أظن أحداً يريد أن يدخل في هذه الدار ما من أحد يريد أن يدخل النار! والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((99/9)
الأسباب المؤدية إلى تقوية الإيمان بالبعث
فأنا أؤكد وأؤصل قضية الإيمان بالبعث بما لا مزيد على ما قلت، وإنما بما يقيم لنا دليلاً على أننا مؤمنون بالبعث وهو شيء واحد: الاستجابة لأمر الله والبعد عن معاصي الله، فإذا كان هذا الأمر بأيدينا وفي أنفسنا وفي جميع حركاتنا، وأننا مسارعون إلى طاعة الله ومبتعدون عن معصية الله، فلنعلم أننا مؤمنون بالبعث، وننتظر الجزاء من الله إن شاء الله.
وإن كانت الأخرى، فلا يوجد استجابة لأمر الله، ويوجد حب لمعصية الله، فالإيمان بالبعث عندنا ضعيف، وعلينا أن نقويه، وتقوية الإيمان بالبعث يكون بستة أمور: الأمر الأول: تلاوة كتاب الله مع التدبر.
الأمر الثاني: تلاوة حديث رسول الله يومياً -حديث واحد- مع التدبر.
الأمر الثالث: اختيار الرفيق الصالح، فلا بد أن تختار رفيقاً مؤمناً تجلس معه، وتتقوّى به.
الأمر الرابع: الابتعاد عن الرفيق السيء، إذا وجدت شيطاناً رجيماً يدعوك إلى معصية الله، وينهاك عن طاعة الله، فأعرض عنه وفرّ منه؛ لأنه مصاب في دينه، أنت لو جئت إلى شخص مصاب بـ (الكوليرا) أو السرطان أو الطاعون، أتجلس معه؟ أم تهرب منه؟ فهذا والله أخطر منه، وهذا عنده طاعون في دينه و (كوليرا) في عقيدته، وسرطان في دينه، كيف تجلس معه وهو يقول لك: لا تصل؟! تمر معه بجانب المسجد والمؤذن يؤذن، فتقول له: هيا نصلِّ، فيقول لك: يا شيخ أتريد أن تصلي وأنت صغير، فيما بعد إذا كبرنا نصلي، دعنا نستمتع بالحياة، هذا شيطان رجيم اتركه -والعياذ بالله- وابتعد عن قرناء السوء.
الأمر الخامس: أن تحرص على طاعة الله وتسارع إليها.
الأمر السادس: أن تبتعد عن معصية الله.
هذه ست وسائل لتقوية الإيمان.
أسأل الله تعالى أن يقوي إيماننا وإيمانكم، وأن يوفقنا وإياكم إلى كل خير.
اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم اجعل ما قلنا وما سمعنا حجة لنا لا حجة علينا، اللهم انفعنا بما قلنا، وانفعنا بما سمعنا، واجعل ما علمتنا يا رب العالمين حجة لنا ينفعنا بين يديك يوم القيامة، اللهم آمنا في دورنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا أرحم الراحمين.
اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا غيث الإيمان في قلوبنا، واسقنا غيث المطر في بلادنا وأوطاننا برحمتك يا أرحم الراحمين.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(99/10)
الأسئلة(99/11)
النوم واليقظة دليلان من أدلة البعث العقلية
السؤال
ظاهرة النوم واليقظة أليست دليلاً من أدلة البعث؟
الجواب
أولاً: لم أقل إنني سوف أتكلم عن كل أدلة البعث، وإنما قلت سآتي بنماذج فقط، وإلا فالقرآن من أوله إلى آخره مملوء بأدلة البعث، ولو كان هناك مجال لاستشهدت بجزء واحد في القرآن وهو جزء (عم) من أول سورة عم إلى آخر سورة الناس، ما من سورة من هذه السور إلا وفيها دليل على البعث، وقس عليها بقية سور القرآن.
فظاهرة النوم -لا شك- ظاهرة مادية محسوسة، وهي دليل مادي محسوس من أدلة البعث، قال عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتسألن عما كنتم تعملون) والله تعالى يقول في سورة الروم: {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [الروم:23] فالنوم آية من الآيات الدالة على الله والبعث وكل القضايا الإيمانية، لماذا؟ يقول الله عز وجل: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الزمر:42] فالآن هناك ميتتان: ميتة كبرى وهي الميتة المعروفة، وميتة صغرى وهي النوم المعروف، قال عز وجل: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ} [الزمر:42] يعني: يتوفاها -أيضاً- {فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى} [الزمر:42] يعني: التي في النوم {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر:42] فالنوم هو جزء من الموت، ولهذا ترى الإنسان الآن ينام على فراش وبجواره إنسان آخر ينام على فراش آخر، ويرى هذا رؤيا حسنة ويرى هذا رؤيا سيئة، فيتنعم هذا بالرؤيا الحسنة، ويتعذب هذا بالرؤيا السيئة، وأجسادهم ما بها شيء، وجسم هذا الذي تنعم ما أصابه نعيم، وجسم هذا الذي تعذب ما أصابه عذاب، لكن يستيقظ هذا من الحلم الجميل قائلاً: ما أجمل هذه الرؤيا، رأى أنه تزوج، فيقول: يا ليتكم لم توقظوني من هذا الحلم، بينما ذاك رأى أنه وآخر يتطاعنان وذاك يطعنه فيستيقظ قائلاً: ما ذاك الحلم، فيقال: ما بك؟ قال: واحد يطعني في جنبي! نعم فمن الذي زوج هذا، ومن الذي طعن هذا؟ الأجسام ما بها شيء، جسم هذا على الفراش وجسم هذا على الفراش، فروح هذا تنعمت فتنعم الجسد، وروح هذا تعذبت فتعذب الجسد، فالنوم دليل من أدلة البعث.(99/12)
حكم الاستخارة لأداء الطاعات
السؤال
هل يجوز الاستخارة لأداء الحج النافلة؟
الجواب
لا يا أخي المسلم، الاستخارة إذا ما أردت أن تعمل عملاً دنيوياً: تتزوج، تبني، تشتري سيارة، تسافر، أمر من الأمور المباح، فلا بد لك أن تستخير؛ لأنك لا تعلم ما هو الخير فيه، وكأنك ستشتري هذه السيارة والله عز وجل قد قدر عليك الموت بهذه السيارة، أو أن تتزوج بهذه المرأة وهي سبب هلاكك في الدنيا والآخرة، فإذا هممت بأمر فصل ركعتين، ثم إذا أكملت الركعتين، فقبل أن تسلم أو بعد السلام -وردت الصفتان- ولكن شيخ الإسلام يرجح أنه قبل السلام، فيقول: "اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، فإنك تعلم ولا أعلم، وتقدر على ما لا أقدر، اللهم إن كنت تعلم أن في هذا الأمر -ويسميه، وليكن مثلاً شراء سيارة- أن في شراء هذه السيارة خيراً لي في ديني ودنياي وعاجل أمري وآجله فأقدره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن في شراء هذه السيارة شراً لي في ديني أو دنياي أو عاجل أمري وآجله؛ فاصرفه عني واصرفني عنه، واكتب لي الخير حيث شئت، ثم رضني به".
فإذا عملت هذا الأمر فإذا يسر الله لك شراء السيارة فاعلم أن شراءها خير لك، وإن صرف عنك شراءها فاعلم أن الله صرف عنك شراءها، وهذا في الأمور العادية.
أما في الطاعات والعمل الصالح فلا يوجد فيه استخارة، فحين تريد أن تصلي تقول: سوف أستخير الله أصلي أو لا أصلي، لا.
حين تريد أن تحج، تقول: سوف أستخير الله وتقول: "اللهم إن كان الحج خيراً لي"، معلوم أن الحج خير لك؛ لأن (من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه) ولأن (الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أردت أن تحج سواءً أكان فرضاً أو نافلة، أو تتصدق، أو تصوم، أو تصلي، أو تعمل أي عمل من أعمال الخير فتسارع إليه من دون استخارة.
شخص يريد أن يزني، فهل يستخير الله؟ الأعمال المحرمة لا استخارة فيها، والأعمال المشروعة لا استخارة فيها، وإنما الاستخارة في الأمور العادية المعتادة من أمور دنياك، التي لا تعلم أفيها خير أو شر، فتستخير الله، وكان الصحابة يستخيرون الله حتى في شراك النعل، إذا قطعت حذاؤه، وما كان معهم أحذية مثلنا الآن، فبعضهم تجده رابطاً بين أصابعه شراكاً (سيراً) وقطعة من الجلد من تحت فحسب، وبعضهم يحملها على عصاه ويمشي حافياً؛ لأنها مقطوعة! والواحد اليوم معه عشرون حذاء وهذا من نعم الله علينا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فلا استخارة في هذا وإنما عليك أن تباشر العمل الصالح.(99/13)
حكم سؤال الله الجنة ثمان مرات بعد المغرب والفجر
السؤال
هل ثبت أن المسلم يسأل الجنة ثمان مرات بعد الفجر والمغرب أم لا؟
الجواب
لا.
لم يثبت، الذي ثبت والحديث في سنن الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قال عقب صلاة الفجر وعقب صلاة المغرب سبع مرات: اللهم أجرني من النار، قالت النار: اللهم أجره مني، قال الله: قد أجرته منك) وهذا الذي ثبت، وهو في سنن الترمذي وهو صحيح، فعلى المسلم أن يحافظ عليها بعد الفجر بعد أن يكمل أذكار الفجر، وقبل أن ينصرف من مجلسه يقول: اللهم أجرني من النار سبع مرات، وفي المغرب مثلها، وتصور أنك تدعو الله كل يوم أربع عشرة مرة، الله كريم ما يردك إن شاء الله، أجارنا الله وإياكم من النار.(99/14)
حكم الصلاة في ثياب النوم، واستخدام مكبرات الصوت في الزواج
السؤال
ما رأي فضيلتكم بالصلاة وخاصة الفجر في ثياب النوم، وما رأيكم بمكبرات الصوت في الزواج وخاصة عند الرجال؟
الجواب
أما صلاة الفجر في لباس النوم، فالله يقول: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31] نسأل صاحب لباس النوم، هل يذهب إلى العمل بلباس النوم؟ نتحداه أن يذهب، هل يقابل الأمير بلباس النوم؟ والله ما يستطيع إلا لو كان مكتفاً يُذهَب به غصباً عنه، ماذا يقول له الأمير؟ يقول: كيف تأتي لتسلم علينا بلباس النوم.
فكيف تقابل ربك في بيت الله بلباس النوم؟! إن سألت عن صحة الصلاة فالصلاة صحيحة إن شاء الله إذا كانت الثياب طاهرة، إذا لم يكن لباس النوم فيه نجاسة فالصلاة صحيحة وليست باطلة، ولكنها مخالفة للأدب الذي ينبغي أن يكون عليه المسلم قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31] لم يقل: عند كل محفل، أو مطرب، أو مجلس، لا بل عند كل مسجد.
أما مكبرات الصوت في الزواج فهي مصيبة من مصيبات هذا الزمان، خاصة إذا أخذوا مكبرات المسجد، وقد سمعت أنه في بعض القرى يستعملون مكبرات المسجد ويغنون بها طوال الليل ثم يردونها ويصلون بها صلاة الفجر، فلا إله إلا الله!! يا إخواني: زواج السنة يشعر ويعلم عنه بالوليمة وبضرب الدف للنساء بشرط: ألا يرافق ذلك رفع الصوت حتى يسمعه الرجال، وألا تضربه حرة، والدف هو إطار مثل المنخل عليه جلد ثور أو جلد جمل، وتأتي أمة -ليست بحرة- وتضرب عليه فقط، فإن سئلت: ماذا بك؟ تقول: زواج في بيت فلان.
أما أن تستعمل المعازف وترتفع أصوات النساء وهي أصوات تبعث على الحب والغرام والعشق والهيام، ويقولون: إن هذا من السنة.
والله ما هذا من السنة، السنة غير هذا -يا عباد الله- المرأة صوتها عورة حتى في التلبية والتسبيح، فلو أن عندنا في هذا المسجد نساء يصلين في طرف هذا المسجد وأخطأ الإمام أو غلط الإمام ماذا يحصل؟ قال: "سبح رجل وصفقت امرأة"، المرأة وهي في المسجد لا تسبح، فكيف تصفق؟ قالوا: تصفق بظهر كفها، ما تصفق ببطن كفها، لأن كفها رطب، وهذا الصوت يحدث فتنة في قلب الرجل، بل تصفق بظهر كفها، هذا الجاف الناشف؛ لأن الله قال: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32].
إذا جاء أي واحد يطرق باب بيتك وزوجتك موجودة، وقال: هل فلان في البيت، فيجب أن يكون جواب زوجتك بصوت جاف، فتقول: لا.
لكن أن يأتي فيسأل فتقول هي: لا.
والله ليس بموجود، وإن شئت تفضل، فيأتي إليه الشيطان ويقول: هذه ممتازة، اسمع الصوت انظر العسل، ولهذا قال الله: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} [الأحزاب:32] يعني: لا ترقق المرأة صوتها، لماذا؟ {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} [الأحزاب:32] يعني: إذا قالت قولاً معروفاً قوياً انتهى الرجل، ولكن إذا رققت صوتها فتن بها.
يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة والأذن تعشق قبل العين أحياناً
أما تجمع الرجال وخروجهم في مناسبات الزواج، يتجمعون من كل قرية، حيث كانوا في السابق يأتون من كل قرية وجبل، لكن الآن يركب السيارة من قرية إلى قرية، ويلبس الجنبية المذهبة والسيف المذهب، ويأتي يرفع صوته من العشاء إلى الفجر بالكلام المبتذل، والنساء فوق السطوح يتسمعن، ثم نقول: نريد مطراً من السماء، والله -يا إخواني- لو تنزل علينا حجارة من السماء ما كنا نستبعدها؛ لأن الله تعالى يقول -كما في الحديث القدسي-: (إني أنا والجن والإنس لفي خبر عظيم، أخلقهم ويعبدون غيري، أرزقهم ويشكرون سواي، خيري إليهم نازل وشرهم إلي صاعد، أتحبب إليهم بالنعم ويبتغضون إلي بالمعاصي).
فيا إخوان: نحن في نعم، فينبغي علينا أن نشكرها ونحمد الله عليها، أما إذا لم نشكرها وقمنا نستعملها في معصية الله، مثل ما يحدث في هذه المناسبات، فهذا والله شيء ينذر بعذاب من الله تبارك وتعالى، فاتقوا الله في أنفسكم، فلا تنبغي المكبرات ولا السهر، الزواج إنما هو ستر وما هو بفضيحة، الزواج ستر فاستر ابنتك أو ولدك وأولم بشاة، بشاتين، بثلاث، بقدر عدد الضيوف، ولا تتكلف، ولا تتعب نفسك -يا أخي- لماذا السرادقات؟ والكراسي؟ وبعد العرس تبقى أياماً تهدم الخيام، وترفع الكراسي، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
زوج ابنتك الزواج السني زواج الإسلام، بوليمة متواضعة، بقدر معين من الرجال وبقدر معين من الذبائح، وينتهي الأمر، وفرت مالك وأرحت نفسك ودينك، وأرضيت ربك، لكن البعض يبقى لهذا العرس من قبل أسبوعين يجهز، ويبقى بعدها أسبوعين أو يزيد وهو يعاني من هذه المشاكل، ولا حول ولا قوة إلا بالله!(99/15)
ضرورة التزام الحجاب عند الأقارب من غير المحارم
السؤال
أكثر الناس لا يعترفون بالحجاب أي: أن بعض الناس يأكل ويشرب مع زوجة أخيه كأنها أخته أو بنته؟
الجواب
أمر الحجاب في القرآن مثل أمر الصلاة، ما رأيكم في شخص قلنا له: صلِّ، فقال: لا.
الدين في القلوب، أنا أحب ربي، ولكن لن أذهب لأصلي، ما رأيكم في كلام هذا الرجل؟ هو كافر؛ لأنه أنكر آية من كتاب الله، وترك الصلاة كفر.
الأمر بالصلاة في القرآن يرافقه الأمر بالحجاب، في آيات عديدة في سورة الأحزاب والنور والنساء: ففي سورة الأحزاب يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ} [الأحزاب:59] حتى لا يقول شخص: إن الأمر لنساء النبي، فلو أن شخصاً طاهراً شريفاً عفي من هذا الأمر لعفي نساء النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن بعض النساء تقول: أنا قلبي طاهر.
حسناً أأنتِ أطهر أم نساء النبي صلى الله عليه وسلم؟ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:59] وليس نساء الفسقة والمجرمين، نساء المؤمنين، ماذا يعملن؟ قال: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الأحزاب:59].
وقال: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31] والجيب على الصدر والنحر، والخمار على الرأس، فتضرب بخمارها على رأسها، يعني: يصل من رأسها إلى جيبها، أي: يمر على وجهها ويغطيه {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ} [النور:31] لثمانية أصناف من الرجال والأقارب، وأربعة من غير الأقارب، من هم الأقارب الذين يباح لهن الكشف عليه؟ قال تعالى: {إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ} [النور:31] والبعل في الشرع واحد، أما أن تظهر على أبي فلان وأبي علان، وتسلم على هذا وتسلم على يد هذا، هذه المسألة ليست اشتراكية في الأعراض، ولا حول ولا قوة إلا بالله! بعولتهن فقط، بعلها الذي استحلها بكلمة الله.
{أَوْ آبَائِهِنَّ} [النور:31] أبوها الذي خرجت من صلبه.
{أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} [النور:31] يعني: أبو بعلها -عمها- لأنه لا يجوز له أن ينكحها بعد ابنه.
{أَوْ أَبْنَائِهِنَّ} [النور:31] ولدها.
{أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} [النور:31] أي: ولد بعلها من غيرها؛ لأنها عمته، لا يستطيع أن ينكحها من بعد أبيه.
{أَوْ إِخْوَانِهِنَّ} [النور:31] أي: أخوها من أمها وأبيها أو من أمها أو من أبيها أو من الرضاع.
{أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ} [النور:31] أي: أبناء أخيها.
{أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ} [النور:31] أي: أبناء أختها وهي خالتهم، فقط، وليس فيهم أخو الزوج، فلا نأتِ بقرآن جديد، ليس هناك إلا كلام الله.
والأربعة الباقين من غير الأقارب هم: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} [النور:31] يعني: المرأة المؤمنة تكشف على المرأة المؤمنة.
{أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [النور:31] يعني: المرأة التي عندها عبيد تكشف عليهم؛ لأنه ما يكشف عورتها، فهو يخاف منها؛ لأنها سيدته ومولاته.
{أَوْ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنْ الرِّجَالِ} [النور:31] والتابع هو الذي يتبع الزوج أي: خادم الزوج، الراعي عند الزوج، العامل عند الزوج، السائق عند الزوج، لكن بشرط: أن يكون هذا الراعي أو الخادم أو السائق مخصياً؛ لأن الله تعالى يقول: {أَوْ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ} [النور:31] ما معنى غير أولي الإربة؟ يعني مخصياً، لكن إذا كان كمن هم عندنا الآن، فهذا هو الموت، هذا الذي يسمونه (السارق النزاع) يرى كل امرأة، ويدخل كل بيت، وهو أخطر من كل خطير، وكما قال الأول: (حذارك من الديدان والخدم).
{أَوْ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور:31] فالطفل الصغير غير المدرك الذي لا يعرف شيئاً عن عورات النساء يجوز للمرأة أن تكشف عليه، أما الطفل الذكي فلا؛ لأن بعض الأطفال رغم صغره إلا أنه ذكي ترسله إلى بيت من البيوت بسلعة، فيذهب ويلعب بصره في كل شيء في البيت، فيرجع فيُسأل: ماذا رأيت؟ فيقول: ما أكثر ما رأيت في ذلك البيت، فيه ثريات ومعهم صورة، ومعهم ومعهم، فصور الدنيا كلها في لمحة واحدة، وهذا خطير لا ينظر إلى النساء؛ لأنه سينشر عرض النساء في المجالس، أما الطفل الصغير الذي ما يعرف شيئاً، فإن سئل: رأيت شيئاً؟ يقول: لا.
فهذا الذي يجوز أن يكشف عليه.
ثم قال عز وجل: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور:31] يعني: إذا كانت المرأة معها خلخال في رجلها، أو كان معها أساور في يدها، أو عصابة في رقبتها فمشت، فعليها ألا تقلقلها ولا تصلصلها؛ لأن الله تعالى يقول: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31].
وليس معنى -أيها الإخوة- أن يحجب الإنسان زوجته عن أخيه أو عن قريبه أنه لا يثق فيه، فالثقة شيء وأمر الله شيء آخر، أنا أثق في أخي ثقتي بنفسي، وأثق في زوجتي ثقتي بنفسي، ولكني أحجب زوجتي عن أخي، لماذا؟ لأن الله أمرني بهذا؛ لأن بعضهم يقول: هل أنا خائن كيف لا يأمنني على زوجته؟ نعم.
لا آمنك على امرأتي، كل شيء آمنك عليه إلا المحارم؛ لأن المحارم ليس فيها جدال، يقول الشاعر:
لا تتركن أحداً بأهلك خالياً لو كان في النساك مثل بُنان
أي مثل: ثابت البُناني.
إن الرجال الناظرين إلى النسا مثل الكلاب تطوف باللحمان
إن لم تصن تلك اللحوم أسودها أكلت بلا عوض ولا أثمان
بالله ما رأيكم لو سلخنا جلد شاة وأخرجناها إلى السوق تمشي، ورأتها الكلاب أتتركها؟ والله تأكلها أكلاً، ولكن إذا عليها جلدها ما تستطيع الكلاب أن تعضها، وكذلك الحجاب للمرأة مثل الجلد لا يستطيع أحد أن ينظر إلى شيء منها، لكن إذا عرينا النساء، نظر الرجال وحصلت الفتنة، ولا حول ولا قوة إلا بالله! فالحجاب مطلوب ولكن ليس من أجل أنك تشك في زوجتك أو تشك في أخيك ولكن من أجل أن تطيع ربك، فمن أراد طاعة الله فعليه أن يحجب زوجته، ومن أراد معصية الله فلا يحجبها، وسوف يكون خصماً لله وهي ستكون خصمة له بين يدي الله يوم القيامة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (النظر سهم مسموم من سهام إبليس، من تركه لله أبدله الله إيماناً يجد حلاوته إلى يوم يلقاه).(99/16)
وذكرهم بأيام الله
إن التذكير بأيام الله سنة الأنبياء، وطريق الدعاة إلى الله من بعدهم، يرد المسترسل في غيه، وينبه الغافل، ويوقظ الوسنان، فالواجب على كل مسلم عامة، وكل داعية خاصة، أن يذكر الناس بما أوجب الله عليهم من الفرائض، وبما تئول إليه المعاصي من العقوبات والمهالك، وعليه أن يذكرهم بالأمم السابقة التي أهلكها الله بسبب عصيانها، وعدم استماعها لمواعظ أنبيائها ودعاتها.(100/1)
واجب الداعية تجاه الناس
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين، سيدنا وحبيبنا وإمامنا وقدوتنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اقتفى أثره وسار على دربه واتبع شريعته ودعا إلى ملته وسلَّم تسليماً كثيراً.
أما بعد: أيها الأحبة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسعد الله جميع أوقاتكم، وأسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجمعنا دائماً على الهدى والخير في هذه الحياة، وأن يجمعنا في الآخرة في دار كرامته، وفي جنته مع آبائنا، وأمهاتنا، وإخواننا، وأخواتنا، وزوجاتنا، وذرياتنا، وجميع إخواننا المسلمين برحمته، إنه أرحم الراحمين.
هذه المحاضرة تلقى في جامع الحمودي بمدينة جدة بعد مغرب يوم السبت، الموافق للثامن عشر من شهر صفر، عام: (1422) للهجرة، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
وعنوان هذه المحاضرة: (وذكرهم بأيام الله) وأيام الله التي أمر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم، وأمر قبله جميع الأنبياء والرسل أن يذكروا أممهم بهذه الأيام هي: الأيام التي يعاقب الله فيها الناس حينما ينحرفون عن منهجه، ويتمردون على شرعه، وحينما يتعرضون لمساخطه، فتحق عليهم لعنته، وينزل عليهم غضبه وأليم عقابه، ويدمرهم بشتى أنواع العذاب والدمار، ولذا يبعث الله الرسل من أجل تذكير الناس بهذه الأيام حتى لا يقع عليهم مثلما وقع على غيرهم.
وآخر الرسل وأفضل الخلق محمد صلى الله عليه وسلم ذكَّر ووعظ، وخوف هذه الأمة، وترك فيها الكتاب الكريم، والسنة النبوية الشريفة؛ من أجل تكرار التذكرة، وإزالة ما قد يعلق على القلوب من صدأ الذنوب والمعاصي، حتى لا يُحق الله عز وجل ما أحقه على الأمم من قبلهم.
ودور العلماء والدعاة إلى الله هو: تحذير الأمم، وتنبيه الناس إلى ما يترتب على هذه الذنوب والمعاصي من العقوبات التي استقرأناها من خلال تاريخ الإنسانية والبشرية منذ بدء الخليقة.
ولو استعرضنا هذا التاريخ البشري والإنساني لوجدنا العبرة ماثلة، ولوجدنا القصص الذي ينبه القلوب، ويقرع النفوس في أن سنة الله التي لا تتبدل، والتي يجريها الله سبحانه وتعالى أنه كلما حاد الناس عن منهج الله، وتمردوا على أمره، كلما عاقبهم الله في الدنيا، وكلما أكدوا عقابه لهم في الآخرة.
ولذا يأمر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم بالذكرى، ويقول: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى:9].
ويقول: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55] ويقول: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:21 - 22].
ولا تعني الذكرى -أيها الإخوة- بالذنوب والمعاصي أن الخير قد انعدم، وأن الناس ليس فيهم خير، لا.
فإن الأمة بخير، والناس لا يزالون على خير، وفي مجتمعنا الذي نعيش فيه تظهر صور الخير ماثلة للعيان، فهاهي المساجد ترتفع مآذنها في كل حي، وهاهي المساجد تمتلئ جنباتها بالشباب والشيب، وبالرجال والنساء، وهاهي حلق العلم ومحاضرات الدين والشريط الإسلامي، وهاهي إذاعة القرآن، وهاهم الشباب ينشئون على الإيمان، وهاهن الفتيات يملأن مدرجات المدارس والجامعات، وهن ثابتات متمسكات بدين الله، فالخير موجود، ولكن -أيها الإخوة- الشر موجود أيضاً، والهجمة شرسة، وأعداء الله من اليهود والنصارى، وممن يستجيب لهم من بني جلدتنا ويتكلم بلساننا، ويعرف مدخلنا ومخرجنا من المغرَّر بهم ها هم يوجهون سهامهم ليرشقوا هذه الأمة، وليخترقوا صفها؛ من أجل زعزعتها وإبعادها عن دينها؛ ولكن: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30].
من أجل ذلك -أيها الإخوة- نستجيب لأمر الله، ونذكر بأيام الله، وتأتي هذه المحاضرة بهذا العنوان من أجل تنبيه النائمين، وإيقاظ الغافلين، ورد الشاردين، حتى يهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حَيَّ عن بينة.
وهذا الموقف -أيها الإخوة- هو موقف النصح والإخلاص! وبيان الحق والتذكير، وهذا هو الذي أوجبه الله على العلماء والدعاة، وأخذ الله عز وجل عليهم به العهد والميثاق، يقول سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران:187] هذا عهد أخذه الله على العلماء من أهل الكتاب ومن هذه الأمة، على أن يبينوا الحق، وأن يحذروا الناس؛ ولكن -أيها الإخوة- إذا ما سكت العلماء والدعاة ولم يبينوا للناس الحق، ولم يحذروهم من مغبة المعاصي والذنوب فمن يرشدهم؟! ومن أين يتلقون التوجيه؟! أعبر قنوات الفضاء أم عبر أجهزة الشر؟! إن هذه تهدم ولا تبني، وتفضح ولا تستر، وتخرج الناس من الدين ولا تردهم إليه، ولم يبق -أيها الإخوة- إلا هذا المسلك وهو مسلك النصح عن طريق تحذير الناس، يقول عليه الصلاة والسلام -والحديث في صحيح مسلم -: (الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة -ثلاث مرات- قلنا: لمن يا رسول الله؟! قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم).
هذا هو الدين! أي: أن نكون ناصحين مخلصين متواصين متناهين لله: بإخلاص التوحيد له.
ولرسوله صلى الله عليه وسلم: بالمتابعة الصحيحة لهديه وسنته.
ولكتابه: بالعمل بأوامره وترك نواهيه.
ولأئمة المسلمين: بمناصحتهم، وطاعتهم في المعروف، وعدم الخروج عليهم، والدعاء لهم، ولعامة المسلمين: وذلك ببيان الحق لهم، وتحذيرهم من طرق الغواية والضلال، وبيان ما قد يخفى عليهم، فإن من الناس من يقع في الشر نتيجة التغرير والمكر والخداع الذي يقوم به الشيطان وزبانيته من الإنس والجان.
والله عز وجل يأمر بهذا رسوله صلى الله عليه وسلم في كثير من الآيات وفي كثير من الأحاديث بالأمر بطاعة الله سبحانه، وطاعة رسله، والتحذير من معصيته سبحانه، ومعصية رسوله صلى الله عليه وسلم، وبيان ما في امتثال أمر الله عز وجل من حصول الخيرات، وحلول البركات، ودفع النقمة، وما في معصية الله عز وجل ومخالفة أمره من محق البركات في العلم، والأعمال، والأعمار، والذريات، والمكاسب، وفي جميع الشئون والتصرفات.
ويشمل أيضاً التذكير بأيام الله في خلقه، وما أحل الله عز وجل بمن عصوا رسله من المثلات، وسائر ألوان العقوبات، مما يكون من أعظم واعظ للناس لمن كان في قلبه حياة.(100/2)
المعاصي سبب للهلاك والدمار
فإذا عُرِف ذلك -أيها الإخوة- فإن المعاصي كما ذكر الإمام ابن القيم رحمة الله عليه في كتابه القيم: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي: المعاصي هي أسباب كل نقص، وأسباب كل شر وفساد في الأديان، والبلاد، والعباد، يقول عز وجل: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30] {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر:45] ومقتضى العدل أن العبد إذا وقع في معصية عاقبه الله؛ ولكن هل يعاقب الله الناس على كل شيء؟! لا.
بل يمهل سبحانه، ويعفو، ويصفح، ويستر، فيعصي العبد ربه مرةً، ويوماً، وسنةً، وشهوراً، وسنينَ، ثم يحلم عليه سبحانه، ولا يعاجله بالعقوبة، فإذا تاب وأناب قَبِل الله توبته، ومَحا حَوبته، وغفر ذنبه، بل بدل سيئاته حسنات، فيا لهذا الفضل! وما أعظم هذا الرب سبحانه وتعالى! ما الذي أهبط الأبوين من الجنة؛ دار اللذة والنعيم؟! هذه بداية الحياة! سبب الخروج من الجنة: المعصية.
ما الذي أهبط الأبوين من الجنة؛ دار اللذة والنعيم، والبهجة والسرور، إلى دار الآلام، والأحزان، والمصائب، إلا المعصية، أي: بأكل اللقمة من الشجرة التي نهى الله عز وجل عنها، قال عز وجل: {وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:35] فتركوا كل الذي في الجنة، وأكلوا من الشجرة: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى} [طه:118 - 119] وكان في نعيم الجنة -أيها الإخوة- ما يشفي ويكفي؛ لكن المكر والتضليل الذي قام به إبليس مع أبينا آدم حتى أوقعه فيما أوقعه فيه، والذي لا زال يقوم به مع ذريته إلى يومنا هذا، وإلى يوم القيامة.
فما من شر، وما من معصية يقوم بها إنسان إلا وللشيطان فيها دور، فهو الذي يزين المعصية، وإلا لو نظر الإنسان إلى المعصية بمنظار الشرع والعقل لوجدها قبيحة، فالزنا والربا وقتل النفس قبيح، وجميع المعاصي، والخمور والمخدرات قبيحة؛ ولكن ما الذي يجعل الناس يقعون فيها؟ إنه تزيين الشيطان، يجعل عليها مسحة من اللون والطعم، فيجد الإنسان للمعصية لذة، وللجريمة منظراً؛ ولكن لو نظر إليها حقيقة لوجد أنها عار، فالزنا عار، ودمار، وشنار، وفضيحة -والعياذ بالله- ومرض، وإيدز، وهربز، وأمراض خطيرة، وهتك للعرض ماذا فيه أيها الإخوة؟! في الجاهلية قبل الإسلام كان العقلاء والفضلاء من الناس يترفعون عنه، فـ هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان، أم معاوية لما جاءت تبايع، ومدت يدها للنبي صلى الله عليه وسلم، والرسول لا يمد يده للنساء، قال: (أبايعكِ على ألا تشركي بالله شيئاً، ولا تسرقي، فبايعت، ولما قال: ولا تزني، كفَّت يدها، وقالت: يا رسول الله! أوَتَزْني الحرة؟!) أي: التي عندها دم، وعرض، وعقل تزني؟! هذا شيء مستغرب! ومستبعد! هذا في الجاهلية قبل الإسلام.
وجاء الإسلام ليؤكد هذه المعاني، وليعمق ويجذر هذه المفاهيم في نفوس الرجال والنساء حتى يجعل جريمة الزنا فاحشة، يقول الله: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:32].
وإنك لتعجب -أيها الأخ- حينما تنظر فتجد كثيراًَ من الأمة يحرصون على الزنا والله يقول: {وَلا تَقْرَبُوا} [الإسراء:32] لم يقل: لا تزنوا، بل: (وَلا تَقْرَبُوا) الطرق التي توصل إلى الزنا ممنوعة ومحرمة.
فما الذي يجعل الناس يقعون فيها؟! إنه الشيطان، كما أوقع آدم وجاء إليه من باب المكر والخداع، وقال له: {يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ} [طه:120] وهي شجرة ماذا؟ شجرة الخروج، وليست شجرة الخلد؛ لأن الشيطان يعكس المفاهيم، ويقلب الحقائق، ويجعل الأسود أبيض، والليل نهاراًَ، والحق باطلاً، والباطل حقاً، والزنا علاقات جنسية، من الذي سماه بهذا؟ الشيطان، فهم لا يقولون: زنا؛ لأن (زنا) كلمة تنفر منها النفوس؛ ولكن يقولون: قضايا جنسية، أي: علاقات.
ويجعل الربا الذي هو من السبع الموبقات، والذي أذن الله بحرب صاحبه، يقولون: هذه فوائد، وعمولة، ولا يقولون: نعطيك ربا، بل يقولون: نعطيك عمولة، وهو ربا؛ ولكن من باب تمرير الباطل عن طريق تغيير المسمى، ويجعلون العُهْر، والعُرْي، والفضيحة، والتفسخ فَناً، وهو عفن، فيسمونه: فنوناً، وهو عفن وجنون والعياذ بالله! ويجعلون السحر، والشعوذة، والكهانة، ألعاباً بهلوانية، (وسيرك).
ويجعلون الخمر أم الخبائث التي إذا وقع فيها الإنسان؛ فإنه يكون مستعداً لأن يزني، وأن يقتل، ويفعل كل جريمة؛ لأنها تذهب عقله، فيقولون: مشروبات روحية، لا إله إلا الله! مشروبات روحية؟! هل شراب الروح من هذه الخبائث؟! بل مشروبات شيطانية، وقذرة، ولعينة، ونجسة، فقد سماها الله: رِجْساً: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ} [المائدة:90] والرجس في كلام العرب هو: الركس، أي: العذرة التي يضعها الإنسان؛ لكن تُقَدَّم الآن في بلاد المسلمين.
-والحمد لله لا نزال سالمين؛ ولكن في بلاد كثير من المسلمين في غير هذه البلاد- تُقَدَّم في المطاعم، والفنادق، والأسواق، والمطارات، والذي لا يشرب يسمونه: متخلفاً، فدليل التحضر عندهم والرقي أن تشرب الخمر، والناظم يقول:
واترك الخمرة إن كنت فتىً كيف يسعى في جنونٍ مَن عَقَلْ(100/3)
آدم وخروجه من الجنة
جاء إبليس بهذا الكيد إلى آدم، وقال: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ} [طه:120] وأبونا آدم كان يخاف من الخروج؛ لأنه ليس أصلاً من أهل الجنة؛ فهو إنسان جاء إليها بالتبعية، ولم يأت إليها بالأصالة، فهو مخلوق من الطين، وخُلِق من الأرض، وجيء به إليها، وأُسْكن الجنة، وأيُّ إنسان يؤتى به من بلد إلى بلد أجمل فإنه يخشى الخروج، ويريد إقامة دائمة.
فاستغل إبليس هذه الرغبة النفسية عند آدم وحواء، وجاء إليهما من هذا الباب، وقال له: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف:20] وبعد هذا أعطاهما عليه يميناً، قال تعالى: {وَقَاسَمَهُمَا} [الأعراف:21] أي: حلف بالله، {إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:21] ما رأيكم في إبليس؟ ناصح، أم خائن؟ والله خائن وألعن خائن؛ ولكن الخائن يحلف؛ كبعض الناس الآن يقع في كارثة وجريمة المخدرات بيمين، أي: يأتي زميله ويقول له: انظر! أما تثق فيَّ؟! قال: نعم.
قال: والله إنني لا أعمل هذا الشيء، ولا أدلك على هذا الشيء إلا من أجل مصلحتك، ووالله إني لمخلص لك.
هل تصدق بأنه مخلص لك وهو يدلك على المخدرات، لتروج وتتعاطى وتهرب المخدرات؟! هل هذا ناصح لك؟! والله ليس بناصح؛ بل والله إنه مِن أغش الناس لك، ولو كان ناصحاً لقال: اتق الله، هذه جريمة، وفاحشة، وكارثة عليك، وعلى أسرتك، ومجتمعك، ودولتك، وبلدك؛ ولكنه يحلفون، لماذا؟ لأن جدهم إبليس قد حلف، فهو قائدهم الأول القائل: {إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:21] قال عز وجل: {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ} [الأعراف:22].
ولما أكلا من الشجرة حصلت المعصية؛ لأن أصل المعاصي قسمان: إما ترك مأمور: وهي معصية إبليس، يوم أمر الله الملائكة بالسجود، فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس، ترك أمر الله.
أو فعل محذور: وهذه معصية آدم، لا تأكل، فأَكَل، مثل بعض الناس الآن تجده يترك الطيبات كلها ويشرب الدخان، ويأكل القات، ويشرب الشيشة والخمر، ويتعاطى المخدرات، سبحان الله! آلاف الأصناف من الطيبات ما أقنعتك؟! ما كَفَتْك؟! إلا أن تقع في الخبائث! إنه مكر الشيطان، إنها وسوسة إبليس.
ما الذي أخرج الأبوين إلا شؤم المعصية! حينما أكلا من الشجرة التي نهاهما الله عن الأكل منها.(100/4)
إبليس وطرده من الجنة
ما الذي أخرج إبليس من ملكوت السماء، وطرده، ولعنه، ومسخ ظاهره وباطنه، وجُعِلَت صورته أقبح وأشنع صورة؟! ومثَّل اللهُ شجر النار وطلعها وثمرها برءوس الشياطين، يقول عز وجل: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا} [الصافات:64 - 65] أي: ثمرها {كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات:65] يقول المفسرون: مثَّل الله للناس برءوس الشياطين، فهل رأى الناس رءوس الشياطين؟! لا.
لكن ماذا تتوقع في مخيلتك أن يكون رأس الشيطان؟! أيكون جميلاً؟! لا.
ولذلك المبدعون وأصحاب الخيال الذين إذا رسموا صورة شيطان، كيف يظهرونه؟! يظهرون له قروناً، ولساناً طويلاً، وعينيه قبيحة، لماذا تقول حين تراه: أعوذ بالله؟ لأنه شيطان! أي نعم.
كذلك الشيطان جعل الله لصورته في أذهان البشر كلهم أقبح صورة، واذهب بخيالك في تصوراتك عن الشيطان وستجد أن خيالك ينتهي في تقبيح صورة الشيطان، وستجد أن الشيطان أقبح مما ذهب إليه خيالك، نسأل الله ألا نرى الشيطان، أتدرون من الذين يرونه؟! أهل النار، أما أهل الجنة فيرون الله عز وجل، كما جاء في الآية الكريمة: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23].
وفي الحديث في الصحيحين يقول عليه الصلاة والسلام: (إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر، لا تضامُّون في رؤيته) إذا رأيت القمر ليلة النصف، هل تحتاج إلى من يقول لك: تعال أُرِيْك القمر؟! بل هو واضح، تنظر إليه، وهكذا سترى الله كما ترى القمر من غير صعوبة؛ ولكن في أول الشهر إذا كان القمر هلالاً، ورآه أحدالناس وقال: القمر رأيتُه في أول يوم، فيأتي الثاني فيقول: لم أره أين هو؟ ويأتي الثالث فيقول: أين هو؟ فتضمُّه إليك، هذا معنى: (لا تضامُّون) أي: يضمُّ بعضُكم بعضاً حول الذي رأى، ثم يمد يده يقول: انظروا إصبعي، تحققوا من إصبعي، انظروه، انظروه، هذه هي المضامَّة، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إنكم سترون الله كما ترون القمر ليلة البدر -أي: في الليلة الخامسة عشرة، ليلة الإبدار- لا تضامُّون في رؤيته).
أسأل الله أن يجعلني وإياكم ممن ينظر إلى وجهه الكريم في الدار الآخرة؛ لأن هذه النعمة هي أعظم نعمة على أهل الجنة، ولا تأتي ابتداءً، ولكن تأتي بعد دخول الناس الجنة، وتقسيمهم على منازلهم ودرجاتهم، وإجراء الأرزاق عليهم، وإعطاء كل واحد الزوجات، والولدان، والحور، والقصور، والحبور، وهم في النعيم يأتيهم خبر أن الله يتجلى لهم، كما قال ابن القيم في النونية:
ويرونه سبحانه من فوقهم نظر العيان كما يُرَى القََمَرانِ
أي: كما ترى الشمس والقمر.
أهل النار لا يرون الله، يقول الله في أهل النار: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ} [المطففين:15 - 16] هذه النهاية، وفي النار يرون الشيطان.
وورد في الحديث أنه ينصب للشيطان منبر من نار في جهنم، ويصعد عليه الشيطان ويُلقي خطبة على أهل جهنم، كلهم يسمعونه، وذكر الله الخطبة في القرآن في سورة إبراهيم، يقول عز وجل: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ} [إبراهيم:22] لما قضي الأمر، أي: أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، يقف فيقول: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} [إبراهيم:22].
ورد في التفسير أن هذه الكلمة على أهل النار أعظم من عذاب أهل النار؛ لأنه عذاب نفسي، إذ ليس أشد على النفس ممن يورطك ويورطك ويورطك إلى أن تتورط، ثم يقول: ليس ليَ سلطان! من الذي قال لك؟! أنت الذي أطعتني! وهذا هو عمل الشيطان، يورِّط الناس ويقول: ما لي عليكم من سلطان، ما أخذتكم بعصا ولا (بِمِشعاب) ولا بدفتر ولا كتاب: {إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ} [إبراهيم:22] أي: وسوستُ لكم، {فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم:22].
انظر الناس الآن -والعياذ بالله- وراء الشيطان مثل الكلاب، والرسول صلى الله عليه وسلم يدعوهم وهم ينفرون منه ويفرون إلى الشيطان، فيقول لهم: {إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم:22].
وماذا بعد ذلك؟ قال: {فَلا تَلُومُونِي} [إبراهيم:22] ما فعلتُ لكم شيئاً، {وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} [إبراهيم:22].
فهل هناك فزعة؟! قال: {مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ} [إبراهيم:22] يقول: والله ما أفزع لكم إذا صرختم وصحتم: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم:22] وفي هذه اللحظة يتمكن أهل النار وهو يخاطبهم من رؤيته -نسأل الله ألا نراه، لا في الدنيا ولا في الآخرة- وبُدِّلت صورتُه بأقبح صورة، بل وأقبح من معصيته؛ لأنه لم يسجد لله سجدة! كيف بمن لم يطع الله في الصلاة وفي غيرها؟!(100/5)
إغراق قوم نوح
االذي أغرق أهل الأرض كلهم حتى علا الماء فوق رءوس الجبال في عهد نوح عليه السلام.
نوح نبي بعثه الله عز وجل من أجل إزالة الشرك من الأرض، إذ كان الناس منذ آدم إلى عهد نوح على التوحيد، أي: لا يوجد شرك.
وسبب إرسال الله لنوح: أنه كان هناك أناسٌ صالحون طيبون فلما ماتوا، والذين بعدهم قالوا: نريد أن نصورهم، لماذا؟ قالوا: من أجل أن نتذكرهم، فنعبد الله مثلهم؛ فصوروهم، وعبدوا الله كلما تذكروهم.
ثم جاء جيل جديد، ومات الجيل الأول، فقالوا: آباؤنا ما صوروهم إلا لأنهم صالحون، إذاً: ماذا نفعل؟ قالوا: نعبدهم.
فعبدوهم.
فبعث الله نوحاً عليه السلام ليصحح مسار البشرية في التوحيد، ولكن كذَّبوا، وعاندوا عناداً مريراً، رغم طول المدة في الدعوة، ألف سنة إلا خمسين عاماً من الدعوة المتواصلة ليلاً ونهاراً، ليست ندوة أسبوعية أو شهرية، ثم إنها بكل الأساليب، سراً وجهاراً، ودعوة فردية وجماعية، وبكل أساليب الدعوة، ومع هذا كلما قام يحدث فيهم {جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} [نوح:7] فيستمر يحدّث فلا يطيقون حتى رؤيته، فيغطون وجوههم وهو يتكلم، {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً} [نوح:5] * {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلَّا فِرَاراً * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً} [نوح:5 - 8] يعني: علناً، {ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً * فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} [نوح:9 - 10] وذكرهم بأيام الله وبما عندهم من النعم {إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً * مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً * أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً} [نوح:11 - 16] إلى آخر الآيات.
ولما كَذَّبوا ماذا حدث؟! يصبر أيضاً، ولا يستعجل بالعقوبة حتى يأتي الخبر من الله: {لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود:36] كم آمَن؟ قال: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:40] وفي أصح الروايات أنهم: اثنا عشر رجلاً، جهد (950) سنة، وهذا فيه إشارة إلى الدعاة بألا يستعجلوا، اصبر على من تدعوه، والهداية بيد الله، ولا تحاول أن تُكَثِّر، فلو هدى الله على يديك واحداً خير لك من حُمُر النَّعم، وتبعث يوم القيامة مبعث الأنبياء.
وبعد ذلك لما عرف نوح عليه السلام أنه لن يؤمن أحد بعد هذا، والله أخبره أنهم إذا ولدوا لا يلدون إلا فاجراً كفاراً، دعا وقال: ربِّ إِنِّي {مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر:10] فقط، ولم يحدد عليه السلام وسيلة الانتصار من الله، قال: أنا مغلوب، بذلتُ كل جهدي، ومارستُ كل أسلوب، وما دام أنه لا يوجد أحد يسلم ويجيب، قال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ} [نوح:26 - 27] أي: الذين عندي هؤلاء الاثني عشر، يردونهم مثلهم: {وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً} [نوح:27].
وأمر الله سبحانه وتعالى نوحاً أن يصنع له سفينة، وكانوا يعيشون في الصحراء: {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ} [هود:38]: ما هذه يا نوح؟! قال: هذه سفينة، قالوا: ما تفعل بالسفينة؟! السفينة يصنعها الناس عند البحار! وأنت في الصحراء تصنع سفينة؟! وبدءوا يضحكون عليه، ويسخرون منه، ويقولون: تعالوا انظروا هذا النبي، هذا الرجل المجنون، يصنع سفينة من أجل أن ينجو فيها، ولا يوجد ماء؛ ولكنه كان ثابتاً، قال: {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ} [هود:38] ماذا قال؟ {قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود:38] وبعد فسوف تعلمون من هو الذي يُضحك عليه.
ولما اكتملت السفينة، قال الله له: {فَاسْلُكْ فِيهَا} [هود:40] أي: أرْكِب فيها {مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنَيْن} [هود:40] أي: مِن كل خليقة الله اثنين اثنين، وقوله: {وَأَهْلَكَ} [هود:40] أهلك هنا أي: الذين آمنوا من قومك وقوله: {مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ} [هود:40] أي: احمل في هذه السفينة من جميع المخلوقات؛ لأن الله أجرى تدميراً كاملاً لكل الكائنات الحية؛ إلا من ركب في السفينة من جميع الحيوانات، والطيور، والبهائم، والهوام، والوحوش، {مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [هود:40] أي: ذكراً وأنثى؛ من أجل أن يستمر التناسل.
ولما ركبوا جاء المطر كيف جاء المطر؟! قال الله: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ} [القمر:11] والأرض! قال: {وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ} [القمر:12] ماء السماء على ماء الأرض، حتى التنور الذي ما يُتَوَقَّع أن يكون فيه ماء؛ لأن فيه نار، قال الله: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ} [هود:40] التنور الذي فيه نار صار ماءً.
وعلا الماء رءوس الجبال، وأسرعوا يصعدون الجبال هرباً من الفيضان والطوفان، وكان من ضمن من صعد الجبل ولد نوح، وتذكرَ نوح وعدَ الله: {وَأَهْلَكَ} [هود:40] قال: يا ولدي! {ارْكَبْ مَعَنَا} [هود:42] فرفض: {قَالَ سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} [هود:43] فغَرِق، وحينما شارف على الغرق دعا نوح: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} [هود:45] أنت قلتَ: أرْكِب أهلَكَ، وهذا ولدي من أهلي، أي: لا تغرقه يا رب! دعه يحيا -أي: لا يغرق ولو لم يركب- قال الله: {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود:46] هذا ليس من أهلك، الأهل هنا: أهل الدين، أهل العقيدة: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود:46] وغرق، وغرقت البشرية كلها إلا مَن ركب مع نوح عليه السلام.
وكانت تجري وتقف إذا قال: باسم الله جرت {مَجْرَاهَا} [هود:41] وإذا قال: باسم الله وقفت: {وَمُرْسَاهَا} [هود:41] أي: مرساها باسم الله، ومجراها باسم الله.
إلى أن جاءت إلى الجودي -الجبل- فأرساها الله سبحانه وتعالى بجانبه، ونزل نوح ومن معه، وبدأت البشرية طَوراً جديداً من أطوار الحياة بعد أن طهر الله الأرض من الشرك، والأرجاس، والأصنام، والأوثان.(100/6)
هلاك عادٍ قوم هود
ثم أيضاً: يعود الكفر، وتعود العقوبات، ويسلط الله سبحانه وتعالى الريح العقيم على قوم هود، وهي قبيلة من قبائل العرب كانت تسكن في الربع الخالي، اسمهم: عاد، وكان لهم سطوة، وعندهم قوة، وكانوا مثل النخل في طولهم وأجسامهم، وكانوا ينحتون الجبال بأصابعهم، ينحتون الجبال فتصير بيوتاً، وكانوا إذا بطشوا بطشوا جبارين.
فبعث الله إليهم هوداً، ودعاهم إلى الله، فكذبوا أمر الله، وكذبوا دينه وشرعه، فسلط الله عليهم الريح، وفُتِح عليهم من ريح جهنم قدر منخار ثور، وشبّك الرسول صلى الله عليه وسلم شبك بين إصبعه وإبهامه، وهذه الريح اسمها: العقيم، والعقيم هو الذي ينجب، وهذه ريح إذا مرت لا تترك شيئاً: {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذاريات:42].
وجاءت هذه الريح وهبت عليهم، وكانت تقتلع الرَّجُل من الأرض، ثم ترتفع به إلى السماء، ثم تلقيه من السماء إلى الأرض، يقول عز وجل: {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} [الحاقة:7 - 8]؟ لا.
سلط الله عليهم هذا بعد أن رأوا الريح وهي آتية من هناك، وكانت سوداء، والعرب إذا رأوا الريح سوداء قالوا: هذه محملة مطراً، فهم على الخمر، والزنا، والكفر، والشرك، ويرون الريح فيقولون: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف:24] قالوا: المطر جاء، قال: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف:24 - 25].(100/7)
هلاك قوم لوط
هكذا تستمر البشرية في المخالفات، ويستمر الله في العقوبات، ويعاقب الله سبحانه وتعالى قوم لوط الذين كانوا يسيرون في الشذوذ الجنسي، ويتركون ما أباح الله لهم من النساء، ويأتون الذكران، ويمارسون فاحشة ما فعلها أحد قبلهم، ولا يفعلها أحد من سائر المخلوقات حتى البهائم، والكلاب، والقردة، والخنازير، والحمير، وجميع البهائم إذا مارسَت هذا الأمر فإنما تمارسه الذكور مع الإناث، ولا يمارس الذكر هذا الأمر مع الذكر من البهائم، ولا يفعل هذا إلا الشاذ من البشر كما قال عز وجل: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:80] فسلط الله عليهم الملائكة، جاءتهم مجموعة من الملائكة ومعهم جبريل، ومعلوم أن الملائكة مضرب المثل في الجمال، أي: إذا رأينا إنساناً جميلاً نقول: فلان كأنه مَلَك أو ملاك في الجمال، فصورهم جميلة، بعكس صور الشياطين القبيحة، فلما جاءوا في صورة بشر تسامع الخبثاء المنحرفون -أي: هؤلاء اللوطيون- سمعوا بالخبر فجاءوا، وقالوا: نريد ضيوفك، قال: {َلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي * هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُم} [هود:77 - 78] يقول: تعالوا أزوجكم بناتي {َلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ * قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ} [هود:78 - 79] يقولون: لا نريد بناتك، {وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} [هود:79] نريد هؤلاء الضيوف نفعل فيهم الفاحشة؛ فخاف؛ ولكن الملائكة طمأنوه وقالوا له: {إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ} [هود:81] وامرأته كانت على دين قومها، وكانت خبيثة: {إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود:81].
جلسوا في أماكنهم، وحملهم جبريل على طرف جناحه -غرس جناحه في الأرض- حتى بلغ تخوم الأرض السابعة، ثم رفعه ورفع عليه قراهم، وكانوا في ست قرى، وقيل في بعض الروايات: أربع قرى، في مكان يقال له: البحر الميت الذي هو الآن بين فلسطين وإسرائيل، هذا البحر ليس فيه كائنات حية، وأصله ليس بحراً، ولكنه كان منطقة سكن لهؤلاء، ولما حملها صار في المنطقة تجويف، وجاءت الأمطار وتجمعت فيه فصار بحيرة، فسمي البحر الميت، لماذا؟ لأنه لا أسماك فيه، ولأنه موطن عذاب، وما عذب الله أمةً فلا يحيا فيه شيء.
حملهم، وارتفع بهم، ثم رفعهم إلى السماء، حتى سمعت الملائكة في السماء عواء الكلاب، ومواء القطط، وصياح الناس، ثم نكسها، قال الله: {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} [الحجر:74] ثم لم يكفِ هذا، فقد أرسل الله عليهم {حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} [هود:82] سجيل من جهنم {مَنْضُودٍ} [هود:82] أي: مسبوك، كذلك ((مُسَوَّمَةً)) أي: معلَّمة، على كل واحدة اسم صاحبها، تنزل في جبهته وتخرج من دبره {مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ} [هود:83] أي: معلَّمة عند ربك {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:83] أي: إذا نزلت على قوم لوط فأيضاً يمكن أن تنزل على من يفعل فعلهم من البشر الشاذين الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله مَن عَمِل عَمَل قوِم لوط، لعن الله مَن عَمِل عَمَل قومِ لوط، لعن الله مَن عَمِل عَمَل قومِ لوط) وقال: (اقتلوا الفاعل والمفعول به).(100/8)
هلاك قوم شعيب
كذلك أُرسل بسبب الذنوب والمعاصي -بعد هذا أيضاً- السحاب كالظلل على قوم شعيب، فقوم شعيب كذبوا رسولهم، وكانوا يطففون في المكيال والميزان، فلما استمروا على فسقهم، وكفرهم، وشركهم، وعنادهم أخذهم عذاب يوم الظلة، وعذاب يوم الظلة هذا: سلط الله عليهم حراً في بيوتهم، حتى كان الإنسان منهم يكاد يحترق، مثل النار تشب في أجوافهم، وجلودهم، وثيابهم، وفرشهم، وغرفهم، وبيوتهم، فخرجوا من الحر إلى مكان ظل، وفوقه سحابة، هذه السحابة هي العذاب -عذاب الظلة- قال الله: {فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ} [الشعراء:189].
فاجتمعوا، وكل من دخل تحت هذه الظلة بَردَ، والحر الذي في البيوت يخرجهم لكي يأتوا إليها، فلما تكاملوا كلهم في هذه الظلة أنْزَلت عليهم هذه السحابة ناراً تلظى، فأحرقتهم وأبادتهم عن بكرة أبيهم، بأسباب ماذا أيها الإخوة؟! بسبب المعاصي والذنوب.
أيضاً: ما الذي أغرق قوم فرعون، ثم نقلت أرواحهم إلى النار وأبدانهم للغرق إلا المعاصي.(100/9)
آثار المعاصي والذنوب
أيها الإخوة: لو استقرأنا التاريخ كله إلى يومنا هذا، لوجدنا أنه ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رُفِع إلا بتوبة إلى الله سبحانه وتعالى، وهذا إلى جانب الآثار البعيدة والمترتبة على المعاصي التي منها: حرمان العلم: فإن العلم نور؛ ولكن العاصي لا يوفق لبركة العلم.
حرمان الرزق: أي: البركة في الرزق: (فإن العبد ليُحْرَم الرزق بالذنب يصيبه).
ومنها: وحشة يجدها العبد في قلبه بينه وبين الله: فيستوحش من الله، ويستوحش من العلماء والدعاة، وأهل الخير، والمساجد، فإذا دخل المسجد كأنه سارق يقعد هناك بعيداً، لماذا؟ لأنه عاصٍ، بينما الطائع يدخل ويأتي إلى الصف الأول، ويستأنس، ويتكئ، ويأخذ المصحف، وذاك تراه عند الباب هناك، ماذا بك؟! لا يريد أن يقترب، كأنه دخل سارقاً؛ ولكنه إذا دخل المقهى يدخل وهو يضحك وينبسط: (هات يا ولد، هات الحجر، عبئ حجراً وهات أربعة سُوْد) ولا يريد أن يخرج، لماذا؟ إنها الوحشة التي بينه وبين الله سبحانه وتعالى، وإذا رأى العلماء عبس، إذا رأى الدعاة انقبض؛ لكن إذا رأى اللاعبين ضحك، وإذا رأى المغنيين انبسط، لماذا؟ وحشة في قلبه من أهل الخير بأسباب الذنوب والمعاصي.
أيضاً: ظلمة يجدها في قلبه، وتعسّر في أموره، وجبن، ووهن، ونقص في العمر ومحق للبركة: فكما أن البر يزيد في العمر كذلك المعاصي والفجور تُنقص العمر والبركة.
ينسلخ من قلب الإنسان استقباح صورة المعاصي، فتُزَيَّن له المعاصي، وتُكَرَّه له الطاعات، وتصير له المعصية عادة، ويصير خُلُقاً، أي: بعض الناس الآن يدخن من غير رغبة؛ ولكن أصبح الأمر (أوتوماتيكياً) وهو جالس معك لا تدري إلا وقد أدخل يده جيبه وأخرج (الباكت) وأشعل وشربَ دون أن يحس.
وقد حدث هذا لي مرة: كنت عند طبيب في مراجعة حالة مرضية، وإذا بالطبيب نفسه يبكي، قلت: ماذا بك؟ قال: مريض.
قلت: عالج نفسك، ألست طبيباً تعالج الناس؟! قال: إني لأعرف مرضي، وأعرف دواءه؛ ولكن الطب كله لا ينفع.
قلت: كيف لا ينفع؟ أي: ليس في هذه الأدوية مصلحة؟! قال: لا.
أنا أعرف مرضي، وأعرف علاجه؛ ولكنه -أيضاً- ليس بنافع.
قلت: ما هو مرضك؟ قال: مرضي (النقرس).
سماه: (النقرس) وهو: داء يصيب المفاصل والعظام، وكانوا يسمونه في الماضي: داء الملوك، وكان يصيب السلاطين والملوك؛ لأنهم كانوا هم الذين يشبعون ويأكلون اللحم؛ لكن الآن أصبح يصيب الناس كلهم، ولهذا لو حللت غداً -عافاك الله- ستجد أن عندك (النقرس) لماذا؟ للإفراط في أكل اللحوم، فالناس يفطرون بلحم الكبد، ويتغدون لحماً، ويتعشون لحماً، حتى قست قلوبهم كقسوة قلوب البهائم.
وأكلة اللحوم هي السباع، ولهذا يقول الغزالي: من يكثر من أكل اللحوم يتخلق بأخلاق السباع -أي: يصير سبعاً في أخلاقه، ويكون شرساً؛ لأنه يأكل لحماً- والذي يكثر من الخضار يتخلق بأخلاقها -أي: يصير عنده نوع من الخلق واللين- فنحن الآن أصبحت بطوننا مقبرة البهائم والحيوانات، حتى أننا لا نأكل إلا لحماً، والبيت الذي ليس فيه لحم في يوم من الأيام فإن ذلك يعتبر جريمة في حق الأسرة، لماذا لا يوجد لحم؟! و (النقرس) يأتي الناس الآن إلا من رحم الله وعافانا الله وإياكم، بل كما يقول أحد الإخوة: حتى الكلاب شبعت لحماً الآن، الآن الكلب تعطيه لحماً نَيِّئاً يقول: اذهب واطبخه- لماذا؟! مِن كثرة النعم -أيها الإخوان- فتصير عادة.
فهذا الرجل الطبيب لما كلمتُه عن المرض ووعظته، وأنا وإياه نتكلم في الدين، والأمل في الله، وإذا به يدخل يده في جيبه ويخرج (الباكت) ويفتحه، ويخرج واحدة منها مثل المدفع ويقول: تفضل، فسكتُ قليلاً، ثم نظرت إليه وقلت: ماذا؟! قال: تفضل.
قلت: أما تستحي على وجهك؟! قال: آه! آسف يا شيخ! آسف! والله لقد نسيت فأنا متعود هكذا أنه كلما كان عندي ضيف لا بد أن أقدم له، عادة فقط، كما هو الآن فعل أكثر الناس، تصبح المعاصي في حقهم عادة: عندما يركب السيارة يشعل السيجارة، ويشغل الشريط، وعندما ينام يشغل الأغنية.
أصبح الأمر عادة! وبئست العادة -يا أخي- أن تتعود على معصية الله.
كما أن الطاعات عند الطيبين عادة، من حين أن يركب السيارة يقول: باسم الله {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} [الزخرف:13 - 14] الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، وإن كان مسافراً قال: اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى.
وهذا ليحفظه الله سبحانه وتعالى.
وإذا جاء لينام فبدلاً من أن يبحث له عن أغنية قبل أن ينام، يقول: باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين.
وإذا لم يأته النوم أكمل التسبيح وفتح الراديو ليسمع إذاعة القرآن، لعله ينام على ذكر الله.
وهكذا تصبح الطاعات مَلَكات وصفات راسخة عند أهل الإيمان، وتصبح المعاصي مَلَكات وصفات راسخة عند أهل المعاصي، فلماذا -يا أخي- ترضى أن تكون عاداتك معاصٍ؟ إنها بأسباب ذلك.
يقول هنا: فتصبح المعصية عادة يستمر عليها، وذلك لسقوط العبد من عين الله، فتورثه الذلة، وتفسد عقله، وإذا تكاثرت المعاصي وزادت طُبِع على قلب صاحبها، ودخل العبد تحت لعنة الله، وحدث في الأرض أنواع من الفساد بسببه: في الماء، والهواء، والزروع، والثمار، والمساكن، والأشجار، والأولاد، والبنات، والزوجات، قال الله عز وجل: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41].
يقول مجاهد عند هذه الآية: [إذا سعى الظالم بالظلم والفساد حُبِس بذلك القطر، وهلك الحرث والنسل، والله لا يحب الفساد].(100/10)
أهمية التعاون في النهي عن المنكر
في الحديث عن عبد الله بن عمر قال: (أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه فقال: يا معشر المهاجرين والأنصار! خمس بخمس، أعوذ بالله أن تدركوهن: ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى أعلنوها إلا ابتلوا بالطواعين والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم) الفاحشة أي: الزنا، إذا أُعْلِنت وظهرت سلط الله عليهم أوجاعاً وأمراضاً لم تكن في أسلافهم، وقد رأيت هذا ماثلاً أمام عيناي وأنا في أوروبا قبل أسبوع، حينما ظهرت الفاحشة التي يمارسونها علناً، من غير إنكار، والذي ينكر عليهم يدخل السجن، وكنا في المطار جالسين وإذا برجل خبيث منهم يمسك بواحدة ويضمها أمام الناس، ونحن جالسون ننتظر الطائرة، فتغيرت، وقمت وقلت: سأذهب لأتكلم عليه ومعي واحد من الإخوة المسلمين هناك، أمسكني وقال: اجلس.
قلت: ماذا بك؟ قال: دَعْه.
قلت: يا أخي كيف؟! أما نتكلم ونأمر؟! قال: اسكت، لأنك لو قلت له كلمة فسيدخلونك السجن الآن، أي: مباشرة (البوليس) يأخذك ويدخلك السجن، ويعاقبك بالسجن ربما إلى سنة أو سنتين، وربما تُعَزَّر.
قلتُ: لماذا؟! قال: لا يجوز لك أن تتكلم وتقول له: هذا حرام أو هذا لا يجوز.
قلت: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حتى أعلنوا بها).
لكن الإيدز أين هو؟! موجود عندهم، وبدأ الآن يصل إلى بعض بلاد المسلمين.
وقبل فترة اتصل بي شاب من الحرم، يقول: أنا جئت الحرم الآن، ولن أخرج منه! قلت: لماذا؟! قال: حلَّلتُ فقيل لي: عندك الإيدز، فتبتُ إلى الله، والآن هل لي من توبة؟ قلت: نعم.
لك توبة؛ لكن لا تقعد في الحرم، ارجع إلى بيتك، وسلم نفسك للسلطات الصحية حتى يوفروا لك علاجاً وحجراً صحياً؛ حتى لا ينتشر هذا الداء منك إلى غيرك، وتب إلى الله، ونسأل الله أن يتوب علينا وعليك.
ثم قال لي: أنا الذي أتيت به من الخارج، يقول: مارست الفاحشة هناك وأتيت به معي.
فهذا الذي يأتون به من الخارج! فبدلاً من أن يخرجوا إلى الخارج ليتعلموا الصناعة والعلم، ويأتوا إلينا بالعلم لننهض، يتعلمون الخمر والزنا، ويأتونا بالإيدز.
فلا إله إلا الله! (خمس بخمس أعوذ بالله أن تدركوهن: ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى أعلنوا بها إلا ابتلوا بالطواعين والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا) رغم الوعي الصحي، ورغم التقدم الطبي، ورغم المستشفيات، ووسائل النظافة إلا أن الله يسلط عليهم الأمراض بأسباب الفاحشة: (وما نقص قوم المكيال والميزان -هذه الثانية- إلا ابتلوا بالسنين -أي: سنين الفقر والقحط- وشدة المئونة -أي: غلاء الأسعار- وجور السلطان -أي: ظلم الحكام- وما منع قوم الزكاة -هذه الثالثة- إلا مُنِعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا) لأن البهائم لها حق وما لها ذنب، فينزل شيء للبهائم، ما هو حق البهائم؟ هذا الذي يبل القشرة الأرضية، وينبت الزرع، فقط؛ لكن هل ينفع في الآبار؟! هل ينزل إلى الأعماق كي يعوض الماء الذي نأخذه الآن ونستنفذه؟ لا.
ما يأتي مطر غزير، بل يأتي مطر بهائم الرعي، تَخْضَرُّ الأرض شهراً أو شهرين أو ثلاثة لكي تأكل هذه المسكينة أما الناس ماذا يعملون؟ لا يستفيد الناس إلا من الماء الذي ينزل في الأرض، وتستفيد منه الآبار، ثم يزرعون ويسحبون الماء، أما هذا فلا يفعل شيئاً: (ولولا البهائم لم يمطروا -هذه ثلاث الرابعة-: وما نقض قوم العهد إلا سلط عليهم عدواً من غيرهم، فيستبيح بيضتهم، وما لم تعمل أئمتهم بكتاب الله إلا جعل الله بأسهم بينهم) أي: إذا لم تحكم الأئمة بكتاب الله حصل في الناس الافتراق، والاختلاف، والتحزب، والحروب الأهلية، والشقاق الذي هو موجود الآن، والنزاعات في كثير من بلاد المسلمين، وهذا تسليط من الله بسبب عدم حكم الأئمة بكتاب الله.
ونحن في هذه البلد نحمد الله أن ولاتنا يحكمون فينا بشريعة الله، ونسأل الله أن يعينهم على ذلك، وأن يزيدهم ثباتاً عليه؛ حتى نبقى في هذه النعمة التي يغبطنا عليها جميع أهل الأرض.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما طفَّف قوم كيلاً، ولا بخسوا ميزاناً إلا مُنعوا القطر، وما ظهر في قوم الزنا إلا ظهر فيهم الموت، وما ظهر في قوم الربا إلا سلط الله عليهم الجنون، ولا ظهر في قوم القتل إلا سلط الله عليهم عدوهم، ولا ظهر في قوم عمل قوم لوط إلا ظهر فيهم الخسف، وما ترك قوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا لم ترفع لهم أعمال، ولم يسمع لهم دعاء).(100/11)
التوبة النصوح
أيها الإخوة: لا شيء يُسْتَجْلَب به الرزق -بل وكل خير- ويُسْتَدْفَع به الشر -بل وكل سوء- إلا التوبة إلى الله، التوبة النصوح الصادقة، وذلك: بالرجوع عن كل ما حرمه الله من المعاصي والذنوب، إلى كل ما أمر الله به من الطاعات والقربات ويحقق للعباد توحيدهم.
ويبتعدوا عن جميع ما ينافي التوحيد أو ينقصه أو يقدح فيه، ويحافظوا على فرائض الله بدءاً بإقامة الصلوات في المساجد جماعة، وتربية الأولاد عليها، وملاحظة النساء والبنات في البيوت على أدائها، وأداء زكاة الأموال كاملة، والقيام بجميع فرائض الله، كالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله، والحب في الله، والبغض في الله، وتعليم الناس الخير، إلى جانب الابتعاد والاجتناب عن جميع المحرمات والفواحش، وأجناس المسكرات، والمخدرات، والمفترات، والربا في المعاملات، والخيانة في الأمانات، واستعمال أنواع الملهيات، ووسائل الشر، كالدشوش، والتلفاز، وجميع هذه الوسائل التي تصد عن ذكر الله، وعن الصلاة، وتدعو إلى الفاحشة والفضيحة.
فعليكم -أيها الإخوة- وعلى كل مسلم التوبة إلى الله سبحانه وتعالى، والتآمر بالمعروف، والتناهي عن المنكر، فيما يعود علينا بالخير، وأن يعاون بعضنا بعضاً، فالرجل يعين امرأته، فإن من النساء من يهديها الله إلى الخير؛ ولكن تُواجَه في البيت بعدم المعاونة من قبل البيت، بل بعض الأزواج يرغم زوجته على المعاصي، والعكس، يكون فبعض الأزواج طيب وفيه خير؛ لكن زوجته لا تتعاون معه على الخير، فتقوم بإفساد حياتها مع زوجها، وإفساد أولادها وبناتها، فلابد من التعاون على مستوى الأسرة، الرجل يعين امرأته على الدين، والمرأة تعين زوجها على الدين، والرجل يعين ولده، وقد يصلح بعض الأولاد ويلتزم، فإذا رأيت ابنك التزم فكن عوناً له على طاعة الله، والمرأة تعين ابنها، وتعين ابنتها: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2].
التعاون فيما بيننا في مستوى الأسرة، والحي، والإدارة أو المدرسة، أو المؤسسة، أو الشركة، فإذا رأينا مديراً طيباً تعاونَّا معه، وإذا رأينا موظفاً طيباً تعاونَّا معه، وإذا رأينا من يقول الخير وقفنا بجانبه، وإذا رأينا من يقول الشر وقفنا في وجهه، لنكون كلمة واحدة؛ لأن صوت الحق الواحد ليس كاثنين وليس كثلاثة، وكلما زاد الخير انقمع الشر؛ ولكن حينما نسكت عن الخير، ويتكلم أهل الشر يزداد الشر، وأنت في طريقك إلى المسجد ترى طفلاً يلعب ولا يصلي قل: صلِّ يا ولد، وإذا مر الثاني وقال: صلِّ يا ولد، ومر الثالث وقال كذلك، ماذا سيكون الأثر عند هذا الولد؟! سيصلي؛ لأن الناس كلهم أمروه؛ لكن حينما تمر أنت وتسكت، ويمر الثاني ويسكت، ويمر عشرة ويسكتون، ثم يمر واحد ويتكلم فسينظر إليه نظرة استغراب ويقول: انظر إلى هذا الفضولي! كل الناس ذهبوا يصلون إلا هو، ما دخلُك؟! من أين جاء هذا الشعور؟! من الأنانية، والسلبية، وعدم الشعور بالتضامن في الدعوة إلى الله.
كنت مرة في السوق، وأنا أشتري في محل خضروات، وآخذ من هذا ومن هذا، وإذا بامرأة كاشفة وجهها في محل آخر بجانبي تشتري من بائع آخر، فوقف شاب جزاه الله خيراً ينصحها فقال: تغطي.
فلم تستجب للنصيحة، وقالت: ما علاقتك؟! ما دخلُك؟! لكن البائع الذي أمامها كان فيه خير، قال: ما دخلُه؟! كيف ما دخلُه؟! تهتكين دين الله، وتهتكين عرضك، وعرض زوجك، ثم تقولين: ما دَخلُه؟! لا بد أن يكون له دخل.
أنا نظرتُ وسمعت الكلام فصحت عليها: نعم له دخل وهذا يصيح وذا يصيح وذاك يصيح ماذا فعلت المرأة؟! مباشرة قالت: جزاكم الله خيراً.
وتغطت، لماذا؟! بالتعاون، والتضامن؛ ولكن لو أننا تركناه عند كلمته هذه، وتكلَّمَتْ عليه لانتصر الباطل.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإياكم لكل خير، ونسأل الله سبحانه أن يحيينا وإياكم حياة طيبة، اللهم أحينا مؤمنين، وأمتنا مؤمنين، واحشرنا في زمرة النبيين والشهداء والصالحين، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم احفظ لنا أمننا، ونعمتنا، واستقرارنا، اللهم وفق ولاة أمورنا لما تحبه وترضاه، اللهم وفق شبابنا، وعلماءنا، ورجالنا، ونساءنا، وجميع المسلمين لما تحبه وترضاه، إنك على كل شيء قدير.
والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله.(100/12)
التزمت ولكن!!
أصبح الالتزام بالدين والرجوع إليه ظاهرة ملموسة بين شباب الأمة، إلا أن هذا الالتزام قد يصل بصاحبه إلى مفترقات من الحيرة والتيه إذا لم يؤخذ بيده، ويوجه الوجهة الصحيحة، ويجاب عن أسئلته واستفساراته، حتى يستطيع مواصلة طريقه، ولا يبقى يراوح مكانه مهدداً خلال ذلك بالانتكاس، والنكوص عن طريق الالتزام.(101/1)
مقدمة عن الالتزام والهداية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين، سيدنا وحبيبنا وإمامنا وقدوتنا محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اقتفى أثره وسار على دربه، واتبع شريعته ودعا إلى ملته.
أما بعد: أيها الأحبة في الله! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسأل الله سبحانه وتعالى كما جمعنا في هذا المكان الطاهر، وفي هذه الليلة الشريفة وجمعنا على طاعته، وعلى ذكره بعد أداء فريضته، أسأله بأسمائه الحسنى، وبصفاته العلى أن يجمعنا في جناته جنات النعيم، وآبائنا وأمهاتنا، وإخواننا وأخواتنا، وزوجاتنا وذرياتنا، وجميع إخواننا المسلمين برحمته إنه أرحم الراحمين.
التزمت ولكن!! عنوانٌ مثيرٌ للتساؤل، يبحث في مشكلة ويقدم الحلول المناسبة لها، هي في الأصل ليست مشكلة بل هي بارقة أمل، وصحوة قلب، ودليل عافية، وعملٌ لا بد منه.
الالتزام هو: التمسك بطاعة الله، وأداء فرائض الله، والبعد عن محارم الله، والاستقامة على منهج الله، هذا المعنى العام لكلمة الالتزام.
وظاهرة الالتزام: ظاهرة منظورة وملاحظة ومشهودة، ليس أدل عليها من حضوركم، فهذا الحضور الغفير، وهذا الجمع الكبير يبعث على الأمل، لا سيما إذا عرفنا أن معظم الجالسين من الشباب الذين سلكوا طريق الهداية إلى الله، وتركوا خلفهم كل طرق الغواية والضلال، ولم يستجيبوا لكل نداءات الشهوة والحرام، ولبوا نداء ربهم: لبيك اللهم لبيك، وبرهنوا على ذلك بتمسكهم بأوامر الله، والتزامهم بشريعة الله، واستقامتهم على منهج الله.
لكن، ماذا بعد الالتزام؟ وماذا يعني الالتزام؟ وماذا يطلب من الملتزم إذا التزم؟ وما هو البرنامج العملي الذي يجب أن يسير عليه حتى يصل إلى ساحل النجاة وبر الأمان، وحتى يدخل إلى جنة الرضوان، وينجو من عذاب النيران؟ أسأل الله سبحانه وتعالى كما هدانا أن يرزقنا الثبات حتى الممات، وأن يجعل لنا بصيرةً في أمرنا، ونوراً في قلوبنا، وعقولنا، وأبصارنا، وأسماعنا، وجوارحنا، ونوراً من بين أيدينا، ومن خلفنا، وعن أيماننا، وعن شمائلنا، ومن فوقنا، ومن تحتنا، فإنه لا نور إلا نوره، ولا توفيق إلا من عنده، هو الموفق يوفق من يشاء، ويخذل من يشاء، ويهدي من يشاء، ويضل من يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، يهب الخير إذا طُلب (يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم) اللهم اهدنا يا رب العالمين! فقد كان سيد الهدى يطلب الهدى، ويقول فيما روته عائشة في الصحيحين: (كان صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يقول: اللهم رب جبرائيل، وميكائيل، وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراطٍ مستقيم) وهو سيد الهدى، فاللهم اهدنا لما اختلف فيه من الحق بعلمك وبإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراطٍ مستقيم.
فإن هناك موفق وهناك مخذول، وهناك مضل وهناك مهدي، فلا مهدي إلا من هدى الله، ولا موفق إلا من وفقه الله.
اشترى قاضٍ من قضاة البصرة جارية -في عهد السلف - وفي أول ليلة وهي في بيته قام آخر الليل يتفقدها؛ لأنه لا يعرف أخلاقها، فلما دخل غرفتها إذا هي ليست في الغرفة، فأساء الظن.
أين ذهبت؟ وحينما بحث وجدها في زاوية غرفتها وهي تناجي ربها في آخر الليل، وتقول وهي ساجدة: اللهم إني أسألك بحبك لي أن تغفر لي، -تسأل الله في حبه لها أن يغفر لها- فلم يستسغ الشيخ هذه العبارة وقال: إن الأولى أن تقول: اللهم إني أسألك بحبي لك -لأن الإنسان يتوسل بفعله وعمله- أن تغفر لي، فانتظرها حتى سلمت ثم قال لها -وهو عالم-: لا تقولي اللهم إني أسألك بحبك لي؛ وإنما قولي: اللهم إني أسألك بحبي لك، قالت له: ليس المهم أن تُحِب، لكن المهم أن تُحب، لولا حبه لي ما أيقظني وأغفلك، أي: حبه لي هو الذي جعلني أقوم.
وليس المهم أن تحب قد تحب شخصاً لكنه لا يحبك، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم كان يسأل الله حبه: (اللهم إني أسألك حبك، وحب من يحبك، وحب كل عملٍ يقربني إلى حبك، اللهم اجعل حبك إلي أحب من الماء البارد على الظمأ، -ثم يقول- اللهم ما أعطيتني مما أحب؛ فاجعله لي عوناً على ما تحب، وما زويت عني مما أحب؛ فاجعله لي فراغاً فيما تحب) انظروا الكلام العظيم! (اللهم ما أعطيتني مما أحب) لأن الإنسان يعطى أشياء يحبها، يعطى المال وهو يحبه، ويُعطى الزوجة وهو يحبها، ويُعطى المنصب وهو يحبه، ويُعطى الولد وهو يحبه، فيقول صلى الله عليه وسلم: (اللهم ما أعطيتني مما أحب -من هذه الأشياء- فاجعله عوناً لي على ما تحب) اجعل الزوجة عوناً لي على محبتك، واجعل المال عوناً لي على محبتك، واجعل الأولاد عوناً لي على محبتك، واجعل المنصب عوناً لي على محبتك؛ لأن من الناس من يُعطى مما يحب؛ فيكون ما يُحب قاطعاً له عن محبة الله، الزوجة التي يحبها تقطع الطريق بينه وبين الله، المال الذي يحبه يقطع الطريق بينه وبين الله، فيصبح حبه لهذه الأشياء مانعاً له من محبة الله عز وجل.(101/2)
حقيقة الالتزام
الالتزام -أيها الإخوة- يحتاج من الإنسان إلى فهم لمعناه، ولحقيقته ولمقتضياته.
أما معناه: فهو التمسك والاستقامة على دين الله ظاهراً وباطناً، التزامٌ في المعتقد، والتزامٌ في العبادة، والتزامٌ في السلوك والأخلاق، والتزامٌ في التعامل، هذا هو الالتزام الكامل، التزامٌ في الباطن، والتزامٌ في الظاهر، التزامٌ في المسجد، والتزامٌ في العمل، والتزامٌ في السوق، والتزامٌ في البيت، لماذا؟ لأنك خضعت: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163].
فالدخول في الدين والالتزام يجب أن يكون دخولاً كاملاً، ليس دخولاً جزئياً تشليحياً، يشلح الدين، يأخذ من الدين لحية وثوباً فقط، وذاك يأخذ من الدين صلاة فقط، لا.
الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208] ما رأيكم! برجل ذهب للتشليح وأخذ له (دركسوناً) ووضع فوق رأسه (بوري) ومشى بالشارع ويضرب (بوري) هل هذه سيارة؟ لا.
(بوري) و (دركسون) فقط؛ لكن أين السيارة؟ السيارة لها أجزاء لا بد من توفرها، كذلك الدين له أجزاء لا بد من توفرهما، لا تأخذ من الدين (البوري) ولا تأخذ فقط (الدركسون) و (الإشارة)، خذ الدين كاملاً كما قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة:208].(101/3)
بعض المشاكل التي تقع للملتزم بعد التزامه
هذه الظاهرة والحمد لله التي نشهدها في شباب الأمة رغم جهود أعداء دين الله، وضراوة الهجمات، وشراسة الأساليب التي تسلط على الشباب من أجل إبعادهم عن دينهم، وزعزعة عقيدتهم من قلوبهم، ولكن والحمد لله تواجه كل هذه الجهود بالالتزام والتمسك، والعودة إلى الله، غير أن الشباب الملتزم بعد الالتزام يواجهون ببعض المشاكل.
منها أولاً: الجهل بما يجب أن يفعله بعد التزامه، يقول: التزمت؛ لكن ماذا أعمل الآن؟! ليس لديه منهج، وليس له برنامج، وليس عنده خطوات يمشي عليها، مجرد أنه التزم ثم أين يذهب؟ فيرتب له هذا الجهل الوقوع في بعض المعضلات، أهمها: الانتكاس؛ لأنه إذا التزم ومشى فترة ولا يعرف ماذا يفعل، ماذا يعمل بعد ذلك؟ يرجع إلى ما كان عليه والعياذ بالله.
ومنها: الالتزام الأعوج، بدل أن يلتزم التزاماً مستقيماً؛ يلتزم التزاماً أعوجاً، أعوج في أخلاقه، أعوج في تصرفاته، أعوج في فهمه للنصوص، أعوج في تعامله مع نفسه، أعوج في تعامله مع زوجته وأولاده، أعوج في تعامله مع والده ووالدته، أعوج في تعامله مع مديره وزملائه في العمل، لماذا؟ لأنه التزام خاطئ، ما عرف الالتزام، ويظن أنه على هدى بسبب جهله بمعنى الالتزام، وبما تقتضيه عملية الالتزام من عملٍ بعد ذلك.
وفيها: الالتزام الأجوف، ونعني بالالتزام الأجوف: أن يلتزم الإنسان في الشكل، ولا يلتزم في المضمون، فيكون أجوف، ظاهره طيب، لكن باطنه خراب، هذا لا ينفع، لا بد من الالتزام الكامل الذي يشمل الظاهر والباطن.
ومنها: الفهم المغلوط للدين، لم يفهم الدين كما أراد الله، ولم يتلقاه عن كتاب الله، وسنة رسول الله؛ لكن فهمه فهم مغلوط، أو أحياناً يتلقى بعض الأفكار الضالة، والعقائد المنحرفة، كعقيدة الخوارج، أو كعقيدة المعتزلة، أو كعقيدة الأشاعرة، أو كعقيدة -والعياذ بالله- القدرية، أو عقيدة المرجئة، هذه عقائد كانت واندثرت؛ لكن بقيت مضامينها موجودة في الناس، قد يقول أحدكم: كيف؟ أقول: عقيدة الإرجاء تعتمد على: أن الإيمان ليس له علاقة بالعمل، إذ لا يضر مع الإيمان عندهم معصية، ولا ينفع مع الكفر عمل، فيقولون: أنت تؤمن بالله، وتصدق بلسانك، أما العمل ليس من الدين وليس من الإيمان، هذه العقيدة ضيعت دين الله، وأذهبت شريعة الله، ولكنها الآن موجودة في كثيرٍ من الناس، عندما تأتي تكلمه عن أوامر الله مثل الصلاة في المسجد، وإطلاق لحيته، قال: يا شيخ! ربنا رب قلوب، إن الله لا ينظر إلى صوركم، الله ينظر للقلوب، أنا مؤمن بربي بس فقط، هذه العقيدة موجودة عند خمسين أو ستين في المائة من الأمة، يقول: يا شيخ! الدين في القلوب، الدين ليس في اللحية، ولا في الصلاة في المسجد، الدين في القلب، أنا قلبي طيب، بل بعضهم لا يعمل عملاً قط ويقول: قلبه طيب.
كنت مرة قبل فترة في قطر وأثناء وجودي في الفندق سمعت أزيز الموسيقى يكاد الفندق يرقص بآلة صاخبة لها ضجيج وأنا أطلع في المصعد أنظر من أين الصوت، وإذا هناك رجلٌ أبيضٌ، رأسه كبير وأصلع، عنده أجهزة موسيقى ضخمة، وهو الذي رج الفندق كله بدقته على هذه الأجهزة، قلت: إنه غربي، ثم بعد فترة نزلت أصلي وبينما أنا أنظر إذا به واقف عند العلاقات العامة للفندق فدعاني صاحب العلاقات يعطيني رسالة، فجئت وإذا بهذا يسلم علي، نفس الرجل الطويل الكبير الذي رأيته يعزف الموسيقى، قلت: أنت عربي؟ قال: نعم.
قلت: مسلم؟ قال: نعم.
قلت: من أهل السنة؟ قال: نعم.
قلت: من أي بلاد الله؟ قال: من لبنان، قلت له: أنت الذي كنت تدقدق وتغني؟ قال: نعم، هل أعجبك غنائي؟ قلت: أسألك سؤالاً بالله عليك، هل هذا الغناء والطرب وهذا اللعب ينفعك بعد الموت يوم تقف بين يدي الله؟ قال: لا والله يا شيخ! -باعترافه يقول: والله يا شيخ! ما ينفعني، وفعلاً لا ينفع- قلت له: فكيف تعيش على عمل لا ينفعك بعد الموت؟ قال: والله يا شيخ! أنا مؤمن بقلبي وهذه عقيدتي، قلت: يعني أنك لا تصلي، قال: لا والله لا أكذب عليك، قلت: لماذا؟ قال: أمي تصلي.
أمه تصلي بالنيابة، انظر العقيدة! يعني: كون أمه تصلي إذاً سقط عنه التكليف، وكونه يؤمن بالله بقلبه؛ فلا يوجد تكليف.
هذا نموذج من الناس من مئات الملايين من المسلمين ليس في بلادنا فقط، الملايين من المسلمين ألف مليون مسلم، ليس في بلادنا إلا ستة عشر مليوناً من المسلمين، والبقية في العالم وهذه عقيدة أكثر الناس.
عقيدة الخروج والخوارج تأتي عند المتدينين الذين يفهمون الدين ويتحمسون له ويندفعون إليه، ثم يكبر في قلبهم الحماس حتى يتجاوزونه، ولهذا سموا المارقة، لماذا؟ لأنهم يمرقون من الدين، يقول عليه الصلاة والسلام فيهم: (يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم، وعبادته إلى عبادتهم، ثم قال: يمرقون من الدين كما تمرق السهم من الرمية ثم لا يعودون إليه) يقرءون القرآن؛ لكن لا يجاوز حناجرهم، حظهم من القرآن التلاوة، لكن لا يفهمون منه شيئاً، ولا يدخل في قلوبهم منه شيء، موجودة هذه في كثير من المجتمعات تراه يتوقد ويحترق حماساً للدين، لكن ليس هذا هو الدين، الدين ما شرع الله، وشرع رسوله صلى الله عليه وسلم.
من أين تأتي مثل هذه الأشياء؟ تأتي من الخطأ في الالتزام، الالتزام يحتاج إلى ضوابط، وإلى موازين بحيث لا ينحرف الملتزم فيضل أكثر من ضلال ذاك المفلوت؛ لأن المفلوت في الشر، والواقع في الغناء والزنا والمعاصي منحرف ويعرف أنه منحرف، ولذا يمكن أنه في يوم من الأيام يتوب، أما الملتزم خطأ، يمشي في الخطأ ويظن أنه على هدى، ولذا ليس هناك أمل أنك تصلحه؛ لأنه يحسب أنه على الهدى {زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ} [التوبة:37] فتأتي الخطورة في انحراف الملتزم من هذا الجانب.(101/4)
الواجب على الملتزم بعد التزامه
يبدأ
السؤال
ما الواجب عليَّ بعد الالتزام؟ هذا السؤال يتردد في ذهن كل شخص، ماذا أعمل بعد الالتزام؟ العمل بعد الالتزام كالتالي:(101/5)
تغيير ما كان عليه في السابق
أولاً: أن تعرف أنك بالالتزام قد انتقلت من حياة إلى حياةٍ جديدة، وأقبلت على الله، فينبغي أن تهيئ لنفسك مناخاً يتناسب مع الحياة الجديدة، وأن تجري تغييرات في أسلوب حياتك، الكتاب الذي كنت تقرأه؛ تغيره بالكتاب الإسلامي، المجلة التي كنت تقرأها وهي غير إسلامية؛ تبدأ تغيرها بمجلة إسلامية، والشريط الغنائي الذي كنت تسمعه؛ تغيره بشريط إسلامي، وإذا كنت تنام متأخراً تبدأ تنام مبكراً؛ لأنك ستقوم لصلاة الفجر، الصديق والزميل الذي كنت تمشي معه على الباطل تغيره بصديق وزميل تمشي معه على الحق، العلاقة التي كنت تربطها بالقهوة وبالشارع وبالرصيف وبالسوق تقطعها وتبدأ علاقة جديدة بالمسجد وبحلقات العلم، لماذا؟ لأنك ملتزم تغيرت ما عدت كما كنت، عينك تغيرت، كانت تحب النظر في النساء، والآن لاتلتفت ولا تنظر، أذنك تغيرت كانت تسمع الغناء والآن لا تسمع، لسانك تغير كان يتكلم في الحرام والآن لا يتكلم، كل شيء تغير في حياتك، ويجب أن توطن نفسك، وتشعر نفسك، وتستشعر من قرارة نفسك أنك قد انتقلت من حياة إلى حياة، ومن وضعٍ إلى وضع، فينبغي لك أن تتكيف على الجو الجديد، وعلى المناخ الجديد، وأن تتعامل معه على هذا الأساس، هذا أول شيء، وهو شعور قلبي يترجم إلى واقع عملي ينبعث من عمق النفس البشرية، وهذا يتطلب منه الخطوة الثانية.(101/6)
تعلم العلوم الشرعية
أن يتعرف ويتعلم هذا الدين الذي التزم به، فيبدأ في العلم بحفظ القرآن الكريم، ويبدأ بدايات مرشدة، يحفظ جزء عم، ثم جزء تبارك، ثم جزء قد سمع، ثم تحفظ إلى (ق) واسمه المفصل؛ لأن سوره مفصلة، وكلما قرأت سورة تأخذ تفسيرها من القرآن، ماذا أراد الله مني؟ ماذا يطلب الله مني؟ تقف عند الآيات، تراجع نفسك مع مضمون هذه الآيات، كما كان السلف رضي الله عنهم يعملون، يقول عبد الله بن مسعود: [كنا لا نتجاوز العشر آيات من القرآن حتى نعيهن ونعمل بهن] إذا أكمل العشر الآيات وطبقها انتقل إلى العشر الأخرى، ولذا فهم يتعلمون ويعملون، واليوم نقرأ القرآن من أوله إلى آخره، وإذا أكمل الفرد منا القرآن أوقفه وقل: بالله ما قرأت؟ يقول: القرآن، حسناً ماذا أمرك الله فيما قرأت؟ قال: لا أعرف، وماذا نهاك الله فيما قرأت؟ قال: لا أعرف، ما هي القصة التي مررت عليها في القرآن؟ ما هي النواهي؟ وما الأخبار؟ لا شيء، يقرأه ولا يدري ماذا قرأ، هذا ليس تعاملاً شرعياً مع القرآن، الله أنزل القرآن ليُعمل به بعد التدبر، يقول عز وجل: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29] ويقول عز وجل: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] فأول شيء أن تتعلم الدين الذي التزمت به، وتعرف الطريق الذي سرت فيه، أنت التزمت الآن؛ لكن لا تدري ما الذي التزمت به؟ فتبدأ بحفظ القرآن، الأجزاء الأولى منه، دراسة تفسيرها، وحفظ شيء من السنة، تبدأ بـ الأربعين النووية، وتقرأ شروحها من كتاب ابن رجب الحنبلي جامع العلوم والحكم، وتبدأ بـ آداب المشي إلى الصلاة الذي ألفه الشيخ محمد بن عبد الوهاب، تبدأ بـ الأصول الثلاثة في العقيدة، تقرأ مختصر السيرة النبوية لـ محمد بن عبد الوهاب أيضاً، تبني نفسك علمياً لكي يوجهك العلم، وأنت ماشي تجد العلم يوجهك؛ لأن العلم نور، والذي يمشي بغير علم مثل الذي يمشي في الظلام، والذي يمشي في الظلام يقع في الحفر ويقع في الآفات، وربما يصاب في طريقه وهو لا يشعر.
فلا بد أول شيء بعد الشعور أنك انتقلت إلى الحياة الإيمانية، أن تبدأ في الحياة العملية بطلب العلم، وترفق العلم بالعمل سواء، ولا تقل: أتعلم ثم أعمل، لا.
كلما علمت تعمل، أي شيء تعرف أنه من الدين بدليل من الكتاب والسنة تطبقه مباشرة، فتتعلم وتعمل في آنٍ واحد.(101/7)
إجراء بعض التعديلات في أسلوب الحياة
ثم إجراء التعديل في أسلوب حياتك -مثلاً- في العبادة، كنت تصلي لكن تصلي صلاة عادية، مثلما يصلي أكثر الناس الآن، يأتي متأخراً، ويدخل ويكبر ثم يستسلم للأفكار وللخطرات والمعاني، ثم يسلم ويذهب بلا سنة، لا.
الآن انتهى.
أنت ملتزم، متى تأتي؟ قبل الأذان، وإذا تأخرت فمع الأذان، أما تكبيرة الإحرام، فلا تفوتك، يقول أحد السلف: إذا رأيت الرجل تفوته تكبيرة الإحرام فانزع يدك منه فإنه ليس بشيء -هذا الذي تفوته تكبيرة الإحرام كيف الذي لا يصلي؟! - فتكون في صلاتك ملتزماً، الصف الأول لك، بل الروضة لك، بئس العبد الذي لا يأتي إلا إذا دعي، الذي لا يأتي إلا بعد الأذان هذا بئس العبد، ولذا كان معظم السلف لا يسمعون الأذان من خارج المسجد.
يقول: سعيد بن المسيب: [والله ما نظرت إلى ظهر مصلٍ] يعني: لا يصلي إلا في الصف الأول، ويقول: [والله ما سمعت الأذان من خارج المسجد خمسين سنة، ولا خرجت إلى المسجد يوماً فلقيني الناس وقد انصرفوا] يقول: ما خرجت ولقوني وقد انصرفوا من الصلاة هذه هي العبادة، هذا هو الالتزام الصحيح، فتجري تغييراً في أسلوب أدائك للصلاة، بأن تؤدي الصلاة مع أول الناس، ثم في الصلاة كيف تصلي؟ الصلاة هي حركة جسد، وحركة قلب، فتكبر بتحقيق وتقرأ بترتيب، وتتأمل معاني القراءة، ثم تركع بخشوع، وتسجد بخضوع، وتجلس بيقين، وتتشهد بطمأنينة، وتسلم في رجاء، وبعد هذا لا تدري أقبلت صلاتك منك، أم ردت عليك.
يقول أحد السلف: والله لأن تختلج الأسنة بين كتفي أحب إليَّ من أن أذكر شيئاً من دنياي في صلاتي، فكيف بصلاتنا يا إخواني؟! -لا إله إلا الله- فيتغير وضعك مع العبادة، ثم يتغير وضعك مع النافلة، كنت قبل ذلك تصلي الفرض وتذهب، لا.
الآن أنت ملتزم، تصلي الفرض وتصلي الرواتب، وتصلي النوافل وتقوم الليل، وتصلي ركعتي الضحى، هذه لا تتركها؛ لأنك ملتزم، والله إنه شيء يؤلم -أيها الإخوة- أن نرى في بعض المساجد أكثر من يقضي الركعات في الصلاة الملتزمين، وتجد العوام العاديين في الصف الأول، إذاً من الملتزم الحقيقي؟ الذي في الصف الأول، أما ذاك ولو كانت سيماه سيما الالتزام، لكن عمله ليس عمل التزام.
أيضاً في الإنفاق أنت ملتزم، يجب أن تدخر لك شيئاً عند الله، من مصروفك الشخصي إن كنت طالباً، أو من مصروفك العائلي إن كنت رب الأسرة، اجعل شيئاً لله من دخلك، ولو عشرة ريال في الشهر، أو خمسين أو مائة ريال.
وأيضاً في علاقتك بالعلماء، وفي علاقتك بمجالس العلم بالندوات، في علاقتك بكل عملٍ يحبه الله ويرضاه أجر تغييراً على الوضع.
أيضاً في السلوك والتعامل والأخلاق، كنت تمر في الشارع وتمشي بالسيارة، وتفحط وتسرع، لكن الآن بعد أن التزمت لا بد أن تمشي بهدوء.
إذا شغلت السيارة قل: بسم الله، سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، تحركت السيارة تتحرك بأدب؛ لأنهم يقولون: القيادة فن وذوق وأخلاق، وأنا أقول: القيادة دين وذوق وأخلاق، تعرف دين الإنسان من قيادة السيارة، تمشي تمسك جانبك الأيمن، تريد أن تتجاوز؟ تتجاوز بأصول، أتيت الإشارة تقف، لا تسرع: {وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً} [الإسراء:37] لماذا؟ لأن مشيك في الشارع وأنت ملتزم عبادة ودعوة، إذا رآك الناس وأنت تمشي في الشارع وجاء شخص يريد أن يدخل توقفت له لكي يمشي ونظر إليك وشكرك ورأى لحيتك؛ ماذا يقول؟ يقول: ما شاء الله! انظروا كيف هم المتدينون، الدين يا جماعة! خير عظيم، الدين يهذب الأخلاق، كيف تعلم هذا من الدين أن يترك لي فرصة السير، لكن لو أتيت ورأيته يريد أن يدخل، وهو داخل وأنت تريد أن تسبقه ونظر لحيتك، قال: انظر المطوع المعقد هذا، ولا أعقد من المطاوعة هؤلاء، هذا (أبو دقنة)، هذا يضايقني، مشيك في الشارع إما دعوة لك وإما دعوة عليك.
بل كنت مرة من المرات وأنا في أبها إمام مسجد، وأنا آتي من بيتي وفي شارع عام ذي اتجاهين يفصلني عن المسجد، فوقفت على الشارع أريد أن تمر السيارات وأمشي، فجاء أحد المصلين ووقف بجانبي، وأحد الإخوة جاء مسرعاً، ولحيته ما شاء الله! تملأ صدره؛ لكنه مسرع، وإذا بهذا الأخ يقول لي: انظر انظر لحيته يا شيخ! قلت: وما في لحيته؟ قال: يسرع، قلت: من الذي يسرع لحيته أم رجله؟ من الذي داس بنزين؟ قال: رجله، قلت: حسن ولماذا لا تقول: انظر أنفه أو انظر عينه؟ لماذا ما نظرت إلا للحيته، أم أنك لا تريد اللحية، قال: لا.
هذا مطوع مفروض أنه لا يسرع، انظروا كيف الناس! يقول: المطوع من المفروض أن لا يسرع.
فأنت إذا التزمت؛ عليك أن تجري تغييراً حتى في قيادة السيارة.
ثم تجري تغييراً في التعامل، وأنت موظف تدخل الفصل أو المكتب تقول: السلام عليكم، وتبتسم، وتقول: صبحكم الله بالخير يا إخوان! كيف حالكم؟ عساكم طيبين؟ بعد ذلك تكون سباقاً إلى الخير في الخدمة، والأخلاق، والكرم، وفي كل شيء؛ لماذا؟ لأنك ملتزم، علمك الدين الالتزام، كنت قبل ذلك لا تبالي، ليس عندك أخلاق، ولا عندك ذوق، ولا تراعي، ولا تكرم الناس، ولا تسلم على الناس؛ لكن عندما التزمت يفرض عليك التزامك أن تغير أخلاقك بأخلاق الإسلام.
لكن الحقيقة أن هناك الآن توجه عكسي، تجد بعض الشباب لديه أخلاق، فإذا التزم تغيرت أخلاقه، يدخل على زملائه في المكتب ينظر إلى لحاهم محلوقة فيجلس، ماذا هناك؟ قال: لا أسلم على العصاة، ما شاء الله! هل هذه دعوة؟ إذا كانوا عصاة في حلق لحاهم؛ فأنت أكبر عاصٍ في تعاملك السيئ معهم، عليك أن تسلم وأن تبش، وأن تبتسم، وأن تكرم، لكي تكسب قلوبهم، لكن إذا تعاملت معهم بهذا المنطق؛ تبغضهم في الله، ولا تسلم عليهم ماذا يعملون هم؟ يبغضونك، وإذا أبغضوك أبغضوا من؟ أبغضوا دعوتك ودينك، فتكون أنت بتصرفك هذا بدل أن تدعوهم تطردهم، تنفر الناس عن دين الله، فيجب أن يتغير وضعك.(101/8)
تغيير الوضع في البيت مع الأهل
ثم يتغير وضعك في البيت مع المرأة عندما التزمت ما شاء الله! صرت في البيت باستمرار، كنت من قبل تائه في المقاهي، وفي الاستراحات؛ لكن بعدما التزمت، وأصبح لا يوجد لك مكان إلا بيتك، من بعد العشاء وأنت في البيت، بعد المغرب في البيت، بعد العصر في البيت، أين تذهب؟ إلى المسجد.
أين كنت؟ في المسجد، أين ستذهب؟ للندوة، بعد ذلك المرأة تشعر أنك موجود، ثم أعطيتها حقها من الابتسامة ومن المعاشرة والإكرام، والعدل إن كان عندك زوجتان، ومن التعامل الطيب، ومن الجلوس الطيب، ومن الخدمة في البيت، فإذا رأيتها تغسل في المطبخ تأتي وتقول: أنت تغسلين وأنا أصفي، هل هذا عيب؟ لا والله، كان صلى الله عليه وسلم يفعل هذا في بيته، كان يكنس البيت، ويخدم مع أهله، وعندما تفعل هذا مع المرأة في البيت ما هو انعكاسه عليها، ماذا تقول؟ تقول: جزاه الله خيراً، من يوم التزم وربي هداه، وتحب الالتزام، وتلتزم.
لكن إذا التزم بعض الشباب وعنده زوجة، لم تعد تراه أبداً، تقوله له: أين كنت؟ قال: مع الإخوة في الله -من المغرب إلى الفجر- وإذا أتى في الصباح صلى الفجر وعاد للبيت ينام إلى الظهر، وخرج فتقول له: إلى أين أنت ذاهب؟ فيقول: عندي رحلة، عندي التزام، عندي موعد، عندي ندوة، قالت: الله أكبر عليك! من يوم التزمت لم نعد نراك، وتكره الالتزام.
إذاً الالتزام يقتضي منك أن تكون موجوداً في بيتك.
أيضاً تعاملك مع والدك ومع والدتك، من يوم أن تلتزم تعود إلى الوالد تلتصق بالوالد تكون ظل الوالد، إذا خرج إلى السوق تخرج معه، أو تتقضى له أنت، وإذا جاءه ضيف ترحب به وتصب القهوة له، وتفتح البيت له، وقبل أن تخرج من البيت تقول: يا أبي تريد شيئاً؟! تريد أن تذهب إلى مكان؟ تأذن لي؟ إذا قال أبوك: اذهب؛ فاذهب، وإذا قال: اجلس، تقول: حاضر يا أبي! فماذا يكون انعكاس هذا على والدك، يقول: الحمد لله ولدنا منذ هداه الله والتزم بالدين والله إنه طيب، وأخلاقه صارت طيبة، وبدأنا نراه، والآن ينفعنا، ويقوم بلازمنا، ويحب الالتزام؛ لكن بعض الشباب إذا التزم انقطعت صلته بوالده، لماذا؟ قال: أبي عاصي لا تجوز خدمته، فيكره الوالد الولد، ويكره الالتزام، وإذا رأى ولداً آخر من أولاده يريد أن يلتزم ضربه، قال: لا.
تريد أن تكون مثل فلان.(101/9)
تزكية النفس
ولا بد أن تجري تغييراً مع نفسك في تزكيتها؛ لأنك ملتزم، كنت قبل ذلك إذا مشيت في الشارع ورأيت امرأة جلست تنظر فيها، أو سمعت أغنية جلست تسمعها، أو رأيت ملعباً قعدت تلعب فيه، وإذا رأيت مجموعة في رصيف جلست معهم، لكن عندما صرت ملتزماً؛ أصبحت مسئوليتك تجاه نفسك أكبر أن تزكيها، يقول الله عز وجل: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس:7 - 9] يجب أن تزكيها؛ لأنك ملتزم، ولا تدسيها؛ لأنك ملتزم، ما دام أنك وضعت نفسك في هذا الموضع، والله أكرمك بأن التزمت بالدين، فيجب عليك أن تزكي نفسك وتطهرها، وتنقيها، وتصونها، وتحميها من الذنوب، ومن المعاصي، ومن الآفات، ومن الأماكن التي لا تليق بها.
ثم أن تعمل لهذا الدين، الله هداك لهذا الدين فما موقفك؟ أن تعمل له، وأن تخدمه، وأن تدعوا إليه، وأن تمد حبال المجال للآخرين لكي تأتي بهم، حتى يكثر سواد المسلمين، ويكثر الخير، وينتشر الخير، ويعم الفضل، وهذا من مسئولياتك؛ لأنه إن لم تدع أنت وأنت الملتزم بالدين؛ فمن تتوقع أن يدعو إليه غيرك، إنها مسئوليتك، وجزءٌ من عملك أمام الله سبحانه وتعالى.(101/10)
قطع الصلة بالحياة السابقة
أيضاً هناك شيء مهم وهو: أن تقطع الصلة بالحياة السابقة، وهذا فعل الصحابة، كان الرجل منهم يدخل في الإسلام، ويخلع على عتبة الدين كل ملابس الجاهلية، ولا يلتفت إليها، ولا يحن إليها، ولا يبقى في قلبه أي رغبة فيها، فتقطع صلتك بالحياة الأولى، القرين السيئ، زميل السوء، أماكن السوء التي كنت تذهب وتسمر فيها خلاص، شريط السوء الذي كنت تسمعه، فيلم السوء الذي كنت تراه، أي مكان له علاقة بوضعك الأول قبل الالتزام اقطع الصلة به؛ لأن استمرار الصلة به معناه الحنين إليه، والرغبة في العودة إليه، وهذه بداية الانهزام، وإنما تسلك الطريق ولا تنظر إلى الخلف، إذا نظرت إلى الخلف خارت قواك.
يقول ابن القيم رحمه الله: انظر إلى الظبي وكلب الصيد، فالظبي إذا رأيته كأنه خلق للطيران -بطن الظبي لاصقة بظهره- وإذا أسرع في المشي تظن أنه لا يمس الأرض وأنه يسبح في الهواء، وكلب الصيد ليس سريعاً كالظبي، ولكن لماذا يمسك بالظبي؟ السبب أن الظبي يجري ويلتفت، يريد أن يتأكد هل الكلب وراءه أم لا؟ والكلب يجري ولا يلتفت وعينه إلى الأمام، فكلما التفت الظبي خارت قواه درجة، وزادت في قوى الكلب درجة؛ لأن الكلب يُعرف أنه لا يلتفت إلا وهو متعب، فذاك يشد وذاك يضعف، إلى أن يمسك به، لكن يقول ابن القيم: لو أن الظبي مشى ولم يلتفت؛ لا يطلبه الكلب ولا يصل إليه.
وأنت تمشي إلى الله مسرعاً، يقول الله: {وَسَارِعُوا} [آل عمران:133] أي: سابقوا؛ لأن وراءك كلب يريد أن يمسك بك، وهو الشيطان، فإذا مشيت ولم تلتفت، لا يستطيع أن يقبض عليك؛ لأن الله يقول: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر:42] لكن إذا التفت إلى الأغنية التي كنت تسمعها، ومرت عليك في الراديو قلت: أريد أن أسمعها قليلاً، أمسك بك الشيطان، التفت إلى المرأة، التفت إلى القهوة التي كنت تسمر فيها، والاستراحة التي كنت تقعد فيها على الدش، قلت: سأذهب هذه الليلة، هذه بداية الانتكاس، فاقطع صلتك بالماضي، وافطم نفسك عنه بالكلية، حتى ولو للدعوة؛ لأن الشيطان قد يأتي بك بطريق مبرر، ويقول لك: زملاءك، أقرانك، أحبابك، إن الله هداك؛ فلماذا لا تذهب لتهديهم؟ أنت في هذا الطور لا تستطيع أن تهدي، بالكاد تتعافى فقط، ما نريدك أن تهديهم، اهد نفسك فقط؛ لأنك إذا رجعت إليهم تريد أن تهديهم؛ سحبوك، وأرجعوك إلى ما كنت عليه؛ لأنك لست مؤهلاً لعلاجهم؛ لأن العلاج لا يأتي إلا على طريق الأطباء، أما المرضى إذا تعافى المريض يعافي نفسه، أما أن يتحول من مريض إلى طبيب فإنه سيرجع مريضاً.(101/11)
المعوقات في طريق الالتزام
مما يعين على الثبات وعلى الالتزام: أن يعرف الإنسان أن طريق الالتزام فيه كثيرٌ من المعوقات، ليس طريقاً سهلاً، وليس طريقاً مفروشاً بالورود، بل طريق صعب وشاق، يقول عليه الصلاة والسلام: (حفت الجنة بالمكاره) وأنت ما هدفك من الالتزام؟ الجنة.
كل شخص يلتزم لكي يحصل على الجنة، وينجو من النار، حسن (حفت الجنة بالمكاره) كيف تصل إلى الجنة؟ لا تصل إلا عبر تجاوز هذه المكاره، فوطن نفسك؛ لأنك ما دمت تريد الجنة لا بد أن تتجاوز المكاره، مثل الذي يريد أن يتخرج من الجامعة، حفت الجامعة بالمكاره، ما هي المكاره؟ الدروس، ولا بد أن تدرس ست سنين، وثلاث متوسط، وثلاث ثانوي، وتدخل في الجامعة، وتأخذ كتباً وتدرسها حتى تتخرج، شخص يقول: أريد شهادة جامعية؛ لكن لا أريد أن أدرس، أريد أن أجلس في البيت، الدروس تعقيد ومشاكل، ودوام في الصباح، وأربعين دقيقة حصة، ومدرس يضربنا، ومراقب يلطخنا، وامتحانات يمتحنونا، والله ما أريد أن أدرس، أنا أريد فقط الشهادة في آخر السنة، ولكن من غير دراسة! هل أحد يعطيه هذا؟! لا.
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبسِ
الذي يريد الجنة يصبر على المكاره.
وما هي المكاره التي تقف في طريق الملتزم؟ أولاً: الضعف عن مقاومة الإغراءات، يوجد في الطريق إغراءات، وفي النفس شهوات طبع الإنسان عليها، مثل: شهوة النساء، وشهوة المال، وشهوة النوم، وشهوة اللعب، فيها حلال وفيها حرام، مغريات، النفس البشرية تدعوك إلى هذه المغريات، والعقل والقلب الإيماني يدعوك إلى الترفع عنها، فلا بد أن توطن نفسك على ألا تستجيب لهذه الإغراءات ولهذه الشهوات حتى تسلم، أما إذا ظننت أن بإمكانك أن تكون ملتزماً مع الاستجابة للشهوات، فتسمع الحرام، وتشرب الحرام، وتمشي وتسهر على الحرام، وتظن أنك ستبقى ملتزماً، هذا غير صحيح! ولا يمكن أن يكون، ولا يقبل.
أيضاً الضعف عن ممارسة واستمرار أداء العبادات؛ لأن العبادات فيها تعب، يقول الله: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45] جعلنا الله وإياكم منهم، الصلاة والعبادة ليست عملاً تؤديه مرة فقط، لا.
بل تؤديه وتؤديه وتؤديه إلى أن تموت، تصلي الآن العشاء وغداً تصلي الفجر، وبعد الفجر تصلي الظهر، وبعد الظهر تصلي العصر، وبعد العصر المغرب، وبعد المغرب العشاء، إلى متى؟ إلى أن تموت، فوطن نفسك على أنه لا بد أن تقوم بهذا العمل، فإذا جاء رمضان لا بد أن تصوم، وإذا جاء الحج جاء لا بد أن تحج، عندك مال لا بد أن تزكي، عندك والد لا بد أن تطيعه، عندك أم لا بد أن تبرها، عندك رحم لا بد أن تصلها، عندك أخ في الله لا بد أن تكرمه وتزوره، رأيت منكراً لا بد أن تغيره، القرآن لا بد أن تحفظه وتقرأه، الذكر لا بد أن تؤديه، فوطن نفسك على القيام بها وعدم التثاقل عنها؛ لأنك إن لم توطن نفسك، سيأتي يوم من الأيام تقول إلى متى؟ ثم وطن نفسك على مواجهة الضغوط الأسرية التي قد تواجه بها، قد يستقيم الشاب ويأتي البيت وإذا بالأسرة ليست معه، الأب له وضع، والأم لها وضع، والإخوان لهم وضع، والأخوات لهن وضع، وهو مستقيم فيجد أن أمامه أسرة تواجهه، وتحد من نشاطه، وتقف في طريقه وتمنعه، وربما تسخر منه وتستهزئ به، وربما يضربونه وربما يمنعون عنه المصروف، وربما يقولون له: أنت أخبل! أنت مجنون! أنت متطرف! أنت وأنت، وطن نفسك على هذا! ولهذا ذكر الله لنا قصصاً في القرآن من أجل تربيتنا، أخبرنا الله عز وجل عن إبراهيم وأن ممن كفر به أبوه، حتى إذا جاء أبوك يردك تتذكر أن إبراهيم رده أبوه، فيكون لك قدوة.
وأخبرنا عن نوح أن ممن كفر به ولده، وأخبرنا عن لوط أن من ضمن من كفر به زوجته، وأخبرنا عن محمد صلى الله عليه وسلم وأن من ضمن من كفر به عمه.
إذاً إذا أبوك ما أعانك؛ لك قدوة وهم الأنبياء، وإذا ولدك ما استجاب لك؛ لك قدوة وهم الأنبياء، وهكذا فيجب أن توطن نفسك على مواجهة الضغوط الأسرية التي تريد منك أن تترك الالتزام، وأن تعود إلى وضعك الحياتي الأول في الأسرة؛ لأنك تدخل الأسرة ولك أسلوب جديد، ولك منهج جديد، وتريد أن تجري تغييراً في البيت، وهم لا يريدون التغيير، يريدونه على ما كان عليه، فيضغطون عليك حتى ترجع؛ لكن لا ترجع؛ لأنك على الحق وهم على الباطل، فقط غير بالأسلوب الذي سوف نذكره إن شاء الله.
أيضاً وطن نفسك على مواجهة نظرة المجتمع إليك؛ لأن نظرة المجتمع تختلف من مجتمع إلى مجتمع، نحن في مجتمعنا والحمد لله، ينظر إلى الملتزم والمتدين نظرة إكبار، وتكريم، وتقدير، وحب؛ فإذا رأوا الرجل، أو الشاب تدين؛ قدره كل شخص، لكن في بعض المجتمعات المسلمة، لا.
إذا التزم وتدين بدءوا يمقتونه، ويخافون منه، ويصفونه بالإرهاب والتطرف، وكل شخص إذا رآه يقول: انظروه! انظروه! بل في بعض الدول يعتبر مجرماً، فهذه تضغط على الإنسان، وتؤدي به في لحظة من اللحظات إلى أن يترك الالتزام ويرجع؛ لأن المجتمع له هيمنته، وله ضغطه الذي يمارسه على الإنسان.(101/12)
وسائل الثبات على الالتزام
مما ينبغي للشاب الملتزم أن يتعرف على وسائل الثبات حتى يثبت، وهذه ضرورية ومطلوبة جداً؛ لأن الحياة التي يعيشها الملتزم حياة كثيرة المطبات، كثيرة الحفر، فإذا مارسها وليس عنده وسائل تثبيت كلما جاء مطب أو حفرة؛ وإذا به يشد (صواميله)، فيستمر في الطريق، وإذا لم يكن عنده ما يشد به (صواميله) ترجه حفرتان أو ثلاث أو أربع ثم يسقط، نظراً لعدم وجود وسائل الثبات التي تعينه على السير في طريق الله.
ومن أهم وسائل الثبات: أولاً: تحديد الغاية والهدف، وهي رضوان الله ودخول الجنة والنجاة من النار، وأنت تلتزم هكذا تقول: لماذا ألتزم؟ من أجل دخول الجنة والنجاة من النار، إذاً في سبيل هذا الهدف وهذه الغاية أستصغر كل صعب، وأتحمل كل بلاء، وأصبر على كل تضحية، لماذا؟ لأن هدفي الوصول، هذا أول شيء.
الأمر الثاني: تحقيق أركان الإيمان على الحقيقة بقول اللسان، واعتقاد القلب، وعمل الجوارح، فإن الإيمان إذا خلا من واحدة من هذه نقص، وإذا نقص ذهب، فلا بد أن يكون إيمانك مبني على الحقائق الثلاث، قولٌ باللسان تظهره، واعتقادٌ بالقلب توقن به، وعملٌ بالجوارح تذعن وترضخ له، فيكون إيمانك صحيح وأصيل وقوي ومتين، لا تزعزعه الأحداث، ولا ترده المناسبات وإنما يثبت؛ لأنه حقيقي.
أيضاً من وسائل الثبات حضور مجالس العلماء، وطلب العلم، وسماع الأشرطة الإسلامية، واستماع إذاعة القرآن الكريم، وقراءة الكتب الإسلامية، والمداومة على العمل، وعدم الحماس الزائد، وهو الذي يعبر عنه العلماء بالغلو؛ لأن الغلو هو عملية ردة فعل، فإذا غلوت في جانب؛ كان على حساب الوسطية، فتمشي في الغلو ثم لا ترجع غلى الوضع الطبيعي، وترجع إلى الانتكاس؛ لأن من أسباب الانتكاس الغلو في الدين، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن هذا الدين عميق فأوغلوا فيه برفق، فإنه لم يشاد الدين أحد إلا غلبه) فلا تتحمس الحماس الزائد للدين، وإنما اجعل حماسك منضبطاً بالكتاب، وبالسنة الشريفة.
أيضاً مجالسة الصالحين، هذا مثبت من مثبتات الإيمان.
البعد عن قرناء السوء.
قراءة القرآن وحفظه.
مراجعة كتب السنة وحفظها.
الحرص على مزاولة عمل أو دراسة.
ما دمت متلزماً احرص على العمل، أو واصل تعليمك، لماذا؟ لتثبت أن الالتزام مظهر عملي جاد، وليس مظهر فراغ؛ لأن بعض الشباب من يوم أن يلتزم يترك الدراسة ويقول: ماذا فيها هذه الدروس يا شيخ؟! فيها مشغلة وفيها منكرات، وفيها معاصي، أو عمل وضيفي، إذا كان عندك عمل أبدع فيه، كنت تأتي الساعة التاسعة، ولكن من يوم أن التزمت لا بد أن تكون منذ السابعة والنصف وأنت عند الباب، والساعة الثانية والنصف وأنت تخرج آخر واحد، تتواجد باستمرار، كنت وأنت غير ملتزم شاب مقصر في الدراسة مهمل؛ لكن بعد الالتزام أصبحت الأول، لماذا؟ حفظت وقتك، وشعرت بمسئوليتك، فتثبت على دين الله عز وجل.
الحذر من الذنوب ومن المعاصي فإنها تحجزك عن الله، وتردك عن طريق الله، وبالتالي تبعدك عن الالتزام.
ثم آخر شيء من وسائل الثبات: الدعاء، تدعو الله في كل وقت، وفي كل لحظة، وفي أماكن الاستجابة، وتقول: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8] وتقول كما كان يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على طاعتك).
اللهم ثبت قلوبنا على طاعتك {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8].
اللهم احفظ لنا ديننا، وأمننا ونعمتنا واستقرارنا، ووفق ولاة أمورنا، وعلمائنا، ودعاتنا، ومشايخنا، وشبابنا، وشاباتنا، وجميع المسلمين وفقهم لما تحبه وترضاه، من الدعوة إلى دينك، وإلى مناصرة شريعتك، وإلى العمل بأحكام كتابك وسنة نبيك، إنك ولي ذلك والقادر عليه، والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(101/13)
الأسئلة(101/14)
حكم إطلاق صفة الالتزام على من يقوم ببعض المنكرات
السؤال
فضيلة الشيخ! أشكو إلى الله ثم إليك التقلب وعدم الثبات، فهل تصدق صفة الالتزام على شاب لا زال متعلقاً ببعض المنكرات من سماع الغناء، أو العادة السرية، أو التعلق بالمرد، أو مشاهدة الأفلام، أفيدونا أفادكم الله؟
الجواب
نعم.
يصدق عليه أنه ملتزم، لكنه ملتزمٌ بالباطل، ملتزمٌ بالشر، ملتزمٌ بمعصية الله؛ لأن الالتزام إما التزامٌ بالحق، وإما التزامٌ بالشر، فالذي يلتزم بسماع الغناء، وبالعادة الشيطانية التي يسميها الناس (عادة سرية) من باب التلطيف لها، وإلا ليست سرية، سرية على من؟ على الناس؛ لكن الله يراك وأنت تفعل هذه الفعلة القبيحة المحرمة، التي لا تفعلها إلا القرود -والعياذ بالله- وأيضاً الملتزم بالأغاني، والأفلام والمسلسلات وماذا بقي معك من الالتزام؟ فيا أخي الكريم! هذه جنة لا تُنال باللعب، ولا تُنال بالتذبذب والتقلبات، هذه سلعة غالية، يبذل في الحصول عليها النفس والمال {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} [الصف:10 - 11] {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:142] {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214] فالجنة سلعة غالية، ولا تنالها الهمم الضعيفة، والنفوس الخبيثة.
يا سلعة الرحمن ليس ينالها في الألف إلا واحدٌ لا اثنانِ
يا سلعة الرحمن لست رخيصةً بل أنت غالية على الكسلانِ
يا سلعة الرحمن سوقك كاسدٌ بين الأراذل سفلة الحيوانِ
يا سلعة الرحمن كيف تصبر الـ خطاب عنك وهم ذووا إيمانِ
يا سلعة الرحمن لولا أنها حفت بكل مكاره الإنسانِ
ما كان عنها قط من متخلفٍ وتعطلت دار الجزاء الثاني
لكنها حفت بكل كريهةٍ ليصد عنها المبطل المتواني
وتنالها الهمم التي ترنوا إلى رب العلا في طاعة الرحمنِ
فالطريق صعب، والله يقول في القرآن: {ألم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:1 - 3] تريد أن تكون ملتزماً ولا تفتن بالأوامر، والنواهي، والطاعات، والمعاصي، والذنوب، ثم تنهزم وتقول أنك ملتزم؟! لا.
إما أن تسلك الطريق بجد والتزام وتكون صادقاً، لا تكون مذبذباً، مرة هنا ومرة هناك لا يوجد لك خيار، سر في الطريق والزمه حتى تلقى الله.(101/15)
الضابط في الترفيه
السؤال
جانب الترفيه والتسلية المنضبط له أثرٌ كبير في تربية الشباب في بداية الالتزام، فهل من وصية للشباب القائمين على قيادة الشباب؟
الجواب
الحياة الإسلامية حياة متكاملة، فيها جد، وفيها أيضاً نوع من الترفيه في حدود المباح، لكن الترفيه في حياة المسلم مثل الملح في الطعام، فإذا كثر أفسد الطعام، وإذا قل صار الطعام سامجاً ليس له طعم، فنريد من الشباب أن يكون جل وقتهم جد، ولا مانع من بعض الأمور التي فيها نوع من الترفيه الحلال، مثل ما ورد في السنة، أن النبي صلى الله عليه وسلم سابق عائشة، وكذلك المصارعة رياضة، لكن لا تنظر إليها في التلفزيون، ترى مصارعة الكفار وهم شبه عرايا، وبعض النساء تطالع في هذه الأجسام الخبيثة، لا.
لكن لو ذهبت رحلة مع زملاء وعملتم نوعاً من اللعب ليس هناك مانع، لكن في حدود الحلال، بحيث لا تكثر؛ لأنها إذا كثرت أفسدت الحياة، فلا بد منها، وهذه لها موازين دقيقة، مثل الذي يضع الملح في الطعام، بعضهم يضع قدراً وفيه مد رز، ويضع عليه كيس ملح، ما رأيكم في هذا؟ ما أصبح رزاً بالملح، أصبح ملحاً بالرز، فبعض الشباب حياته كلها ضحك، وعبث، ولعب، ورياضة، وكرة، وإذا قلنا: اقرأ كتاباً قال: يا شيخ! قد قرأنا من زمان، وقالوا: هذا ترفيه بريء، لا يصح، يجب أن تكون الحياة كلها جد، إلا فترات يحاول فيها الإنسان أن يجدد النشاط، لئلا تكون حياته سامجة، وليس فيها شيء من البراءة.(101/16)
كيفية التحصن من المغريات
السؤال
يشكو كثير من الشباب كثرة وتنوع سهام الانحراف الموجهة ضدهم من أعدائهم، أضف إلى ذلك وسائل التشويق للمنكر، فما السبيل إلى التحصين ضد هذا الوباء؟
الجواب
بالعلم؛ لأنك تعيش في غربة الإسلام؛ ولأن لك أجر خمسين حينما تتمسك بالسنة، قالوا: (يا رسول الله! منا أو منهم؟ قال: منكم، ثم قال: أنتم تجدون على الحق أعواناً وهم لا يجدون) وأن تعرف أنك إذا تمسكت بدينك إنما تكون كالقابض على الجمر، ما رأيكم بشخص في يده جمرة وهو قابض عليها، هل هو مرتاح أم هو في صعوبة؟ ليس مرتاحاً؛ لأنها جمرة، كذلك الدين، القابض على الدين كالقابض على الجمر؛ لأن كثرة السهام والتصويبات من الأعداء موجهة إليه، خصوصاً في زمامننا هذا، كان الناس في الماضي المؤثرات سهلة، كان الشاب لا يعرف شيئاً، إلا غنم أبيه، وزرع أبيه وبستان أبيه، وثورٌ يقوده، أو غنم، والقرية محصورة، لكن اليوم العالم كله في يده، العالم كله في الدش عند بعض الناس، وجاء الإنترنت الأخطبوط الخبيث هذا وقلب الدنيا كلها، ثم تبرج وإغراء، المرأة في الماضي كانت لو خرجت في الشارع لا أحد ينظر إليها، قد يبست من التعب، ومن الغم، ومن الرعي، واليوم المرأة جالسة بالبيت تتحسن وتتدلع، وجلبوا لها جميع وسائل الزينة، لكي تفتن الناس، وتشتري براتبها -ثمانية آلاف- مساحيق وموديلات، ولا تعطي بعلها أو أباها ريالاً واحداً، لكي تفتن وتغري.
فأصبح وضع الإنسان الذي يريد الهداية أمام كثرة هذه الفتن والمغريات وضعٌ متعب، لكن لا خيار لك، إما أن تمشي في طريق الهداية؛ أو النار، إذا كنت تريد طريق النار؟! يقول الله عز وجل: {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً * إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ} [النساء:168 - 169] طريق جهنم مفتوحة، تريد أن تعود؟ فعد، وأنت أبصر بنفسك.(101/17)
فوائد غض البصر
السؤال
ما السبيل إلى حفظ العين، والفتن تعرض على الأعين صباح مساء، فكم من شابٍ انحرف وكان ضحية للنظر الحرام، فهل من رسالةٍ إلى أولئك؟
الجواب
غض البصر من أعظم الأعمال والقربات، ينال به الإنسان ثواباً عظيماً عند الله سبحانه وتعالى، وله فوائد كثيرة: وأول فائدة من غض البصر: أنه يصعد إلى درجة الإحسان، لماذا؟ لأنه ما غض بصره إلا لشعوره بأن الله يراه، وهذه مرتبة الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فعندما رأيت امرأة وعرفت أن الله يراك غضضت بصرك، فهذه مرتبة الإحسان.
ثانياً: يفتح الله بصيرتك، فإن الجزاء دائماً من جنس العمل، فمن غض بصره أطلق الله بصيرته في دين الله، ومن فتح بصره أعمى الله بصيرته في دين الله، والجزاء من جنس العمل.
ثالثاً: (من غض بصره احتساباً لوجه الله أبدله الله إيماناً يجد حلاوته إلى يوم يلقاه).
رابعاً: حسنة؛ لأن العبد إذا هم بسيئة ثم لم يعملها كتبت له حسنة، هممت أن تنظر إلى امرأة ثم غضضت بصرك، ما الذي جعلك تغض؟ خوفاً من الله، فغضك للبصر ثواب.
خامساً: أن تعلم أن نظر الله أسرع إليك من نظرك إلى المنظور إليه، قالوا للحسن البصري: [بم نستعين على غض البصر؟ قال: بعلمك بأن نظر الله إليك أسرع من نظرك إلى المنظور إليه] فأنت تنظر والله ينظر فما هو موقفك؟! لو أن رجلاً معه امرأة ويمشي بها في الشارع، وجئت أنت أمامه وهو واقف بجانبها وأنت تنظر إليها وهو واقف، هل أحد يفعل هذا؟ لا يستطيع، يخجل ممن؟ من الزوج، أفلا تخجل من الله؟! هذه من محارم الله، وكل هذه الأمور يجب أن تستشعرها وتستعين بالله ثم تغض بصرك.
أيضاً: أن تعلم أن إطلاق البصر لا يفيد، يعني: مهما نظرت هل تشبع؟ مثل رجل يكاد أن يموت من الجوع، وهناك قدر مملوء من أحسن الطعام، ولكنه بعيد، وهو يشم، هل يشبع بالشم؟ لا يشبع إلا (بضرب الخمس) إذا أكل، كذلك هناك امرأة هل تشبع بالنظر؟ لا يشبع إلا (بضرب الخمس)، وجوع الجنس مثل جوع البطن، إذاً لماذا تعذب نفسك وتنظر في النساء؟ يقول الله عز وجل: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور:30] أفضل لك، هذا ربك يقول: إن غض البصر أزكى لك.
ثم في غض البصر راحة القلب، فإن القلب مصب العين، فإذا صبت العين على القلب جمراً احترق؛ ولهذا يقول:
وأنت إذا أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعبتك المناظرُ
رأيت الذي لا كله أنت قادرٌ عليه ولا عن بعضه أنت صابرُ
والآخر يقول:
وأنا الذي جلب المنية طرفه فمن المطالب والقتيل القاتل
وبعض الناس تجده يخرج من بيت أهله ليس عنده مشكلة، فإذا ذهب إلى السوق أو الشارع ورأى امرأة، نظر إليها ونظرت إليه، وعاد إلى البيت وهو مغموم مهموم، يقولون له: تعش، قال: لا أريد، ماذا بك؟ ما الذي حصل؟ نظرة.
كم نظرة فتكت في قلب صاحبها فتك السهام بلا قوسٍ ولا وترِ
وماذا تعمل؟ غض بصرك، صحيح أن غض بصرك متعب؛ لكنه أسهل مليون مرة من تعب فتح البصر، طاعةً لله تبارك وتعالى، والله لا يقول لك غض بصرك دائماً، لا.
غض بصرك إلى أن تتزوج، فإذا تزوجت فافتح عينك على امرأتك إلى أقصى حد؛ لأنها معك، لكن أن تنظر في بنت الناس، ماذا تستفيد؟ ذهبت بيت أهلها، وأنت ذهبت بيت أهلك، وهب فرضاً أنك استطعت أن تصل إليها عن طريق الحرام، وأشبعت جوعة الجنس التي هي مثل جوعة البطن، نحن تغدينا قبل الساعة الثانية، والآن ما رأيكم هل أنتم جائعون؟ كذلك الذي يصل إلى الحرام بعد يومين يريد الحرام، وإلى متى وأنت في الحرام؟ أوقف الحرام إلى أن تتزوج ثم انظر إليها؛ لأنك تنظر في شيء في يدك، إذا أردتها فهي حاضرة وهي حلال ولك أجر على جماعك.(101/18)
نصيحة لمن يكل ويمل من حياة الالتزام
السؤال
يستطيل بعض الشباب الطريق ويمل ويكل ويقسو قلبه أحياناً، ويصبح التزامه مجرد عادة لا عبادة، فما الحل إلى ذلك جزاكم الله خيراً؟
الجواب
الحل أن يعرف أن الطريق طويل وشاق، ومحاط بالشهوات والشبهات والمكاره، وإن الأمر يتطلب منه أن يستقيم إلى أن يموت، يقول الله: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] وما هو اليقين؟ الموت، وإذا لم يدرك الإنسان هذه المعاني فإنه سيسقط في الطريق ولن يواصل.(101/19)
نصيحة لمن استبدلوا طلب العلم بتجريح العلماء
السؤال
ما نصيحتك للشباب الذين استبدلوا طلب العلم بتجريح العلماء، وتنصيب أنفسهم قضاة يعدلون هذا ويجرحون هذا، ويجرحون ذاك؟
الجواب
هؤلاء مفتونون، وقعوا في الفتنة، وسوف يبتليهم الله سبحانه وتعالى، يقول ابن عساكر في تاريخ بغداد: إياكم ولحوم العلماء فإن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في الذين ينالون منهم معلومة، ومن ابتدرهم بالثلب، ابتلاه الله قبل الموت بموت القلب.
العلماء واجهة الدين، وهم الممثلون لهذه الشريعة، وليسوا ملائكة معصومين، وليسوا أنبياء، وإنما هم بشر يخطئون ويصيبون، لكن خطأهم مغفور، إذا اجتهدوا وأخطأوا فلهم أجر الاجتهاد، والخطأ مغفور، وإذا اجتهدوا وأصابوا فلهم أجر الاجتهاد وأجر الإصابة؛ لكن من ينتقدهم، أو يأكل لحومهم، أو يشوه سمعتهم، أو يجرحهم؛ هذا ليس له أجر بل هو على خطر، وسوف تقع به فتنة إن لم يتب إلى الله سبحانه وتعالى.
وعلى طالب العلم أن ينصرف إلى العلم الشرعي، وحفظ كتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا لاحظ خطأً من عالم من العلماء فيسلك في تصحيحه مسلك أهل السنة والجماعة، المعروف بأدب الخلاف، يتصل بالعالم، أو يذهب إليه، أو يرسل له رسالة، أو يثني عليه بما هو أهله، ويعترف له بالفضل، ثم يقول له: ولكن يا شيخ! لي ملاحظة لا أدري أنا على حق فيها أو أنت على الحق، لا تظن أن ملاحظاتك صحيحة، يمكن أنك تلاحظ ملاحظة وأنت مخطئ، والشيخ عنده عليها دليل، فتقول له: عندي ملاحظة ولا أدري هل أنا على صواب أو على خطأ أريد أن أسمع رأيكم في الموضوع، قلتم كذا، أو سمعت منكم كذا، أو ذكر عنكم كذا، فإذا سمعت كلامه، إما أن يقول: نعم.
أخطأت أنا وأستغفر الله، أو يقول لك: لا يا أخي! ما هو بخطأ، والصواب كذا وكذا، ويبرر لك ويقنعك.
أما أن تأكل لحمه في المجالس وتشوه صورته وتغتابه، فأنت في هذا تضر نفسك؛ لأنك تعطي حسناتك لغيرك، وفي نفس الوقت إن لم يكن عندك حسنات؛ تأخذ ذنوبه على ظهرك، ثم بعد ذلك تخسر الدنيا والآخرة والعياذ بالله.(101/20)
مدى صحة النشرات التي توزع بين المسلمين
السؤال
يتناقل الناس في هذه الأيام عن نشرة تحمل رسماً لجنازة التف حولها ثعبان على رجل تارك للصلاة، وقد ذكر لنا أنك يا فضيلة الشيخ! قد حدثت عن واقعة وقفت عليها في الأردن، نأمل توضيح تلك الواقعة والتعليق على هذه النشرة، وأضيف -أيها الشيخ- أن هناك بعض الأوراق -أيضاً- تنشر بين الناس كالتي تسمى بورقة حامل مفتاح الحرم وما أشبه ذلك، فما تعليقكم على ذلك وفقكم الله؟
الجواب
أما النشرة التي فيها صورة بالكاريكاتير لجنازة عليها ثعبان هذه صورة رسم يد، وهي باطلة ولا تجوز، وقد سألنا عن صحة الخبر الذي ذكر أنه في البقيع في المدينة وعرف أن الكلام لا أساس له، وأن القصة مختلقة ومكذوبة.
أما ما ذكر عني من قصتي التي حصلت في الأردن فهذه القصة نقلها لنا الثقة والذي أخبرنا بها شاهد عيان رآها بعينه، وهو ثقةٌ لا نظن به كذباً، وهو المهندس علي بن غرم الشهري، كان طالباً في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن في الظهران، وجاءنا في أبها يتدرب أثناء الصيف، وهو متخصص في الحاسب الآلي، واشتغل معنا في شركة كهرباء الجنوب، وعرفنا منه الجدية والحماس للدين والدعوة، وهو رجل داعية نشيط، يعيش كل وقته لله وللإسلام، نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحداً، وأخبرنا أن القصة وقعت في الزرقاء في الأردن وهو موجود، وأنه رأى الثعبان الذي وجدوه في القبر عندما حفروه، وذهبوا إلى الشيخ وكان موجوداً معهم في المسجد، قال الشيخ: احفروا قبراً آخر، فحفروا قبراً آخر، فخرج لهم الثعبان نفسه من المكان الثاني، فأرادوا أن يقتلوه فقال الشيخ: ما دام أنه خرج معناه أنه ليس حنشاً، فأخرجوه ودفنوا هذا الولد، وهو شاب داست عليه سيارة، ووضع في القبر، وعندما وضعوه في القبر؛ تحرك الثعبان ودخل عليه في القبر، ولم يستطيعوا أن يفعلوا شيئاً، ثم ذهبوا إلى بيت العزاء ووجدوا الوالد، فأخبروه فقال: كان لا يصلي، وكان يشرب الخمر، والعياذ بالله.
هذه القصة منقولة بالسند الثقة الذي لا مطعن فيه، وقلت هذا الكلام بعدما أخبرنا به الشيخ علي، وقلت له: أننقل عنك؟ قال: انقلوا عني، قلت هذه الكلمة في مسجد من مساجد قرى مدينة أبها، وسجلت، وانتشر الشريط في عقوبة تارك الصلاة، ثم جاءت مكالمات من بعض المشايخ، فتثبت أكثر، واتصلت بالأخ علي قال: نعم.
انقل عني وعلى ذمتي، بعد ذلك أردت التثبت من ذلك، وهل هذا ممكن من الناحية العقدية، فقرأت كلاماً لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه في موضعين من الفتاوى، وقد سئل: هل يمكن أن يرى الناس في عالم المشاهدة شيئاً مما يحدث في القبور من نعيمٍ أو عذاب؟ قال: نعم.
وقد حدث هذا كثيراً.
وهناك قصة لـ ابن عمر رضي الله عنه نقلها عنه ابن رجب الحنبلي في كتابه أهوال القبور أنه رأى رجلاً يطلع من قبرٍ والنار تشتعل من رأسه.
ونقل ابن القيم قصصاً كثيرة من هذا النمط.
فلا مانع من ناحية المعتقد، المهم أن يثبت الخبر بالنقل عن الثقة، فقصة الزرقاء هذه على مسئولية ناقلها وهو المهندس علي بن غرم الشهري.
أما قصة المدينة فيقولون أنها: ليست صحيحة ولا لها سند ثابت.
وأما النشرة الثانية نشرة حامل مفتاح الهجرة النبوية نزيل المدينة الشيخ أحمد الذي يقول أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم وأنه قال أنه خجلان من ربه عندما يموت في كل يوم سبعين ألفاً على غير الإسلام، فهذه نشرة باطلة مكذوبة، قد صرح العلماء بأنها مختلقة وأنها خرافة، وممن صرح في ذلك سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن باز رحمة الله تعالى عليه، فله رسالة في الرد على هذه الفرية، قال: إنها تظهر من زمان، من حوالي أربعين أو خمسين سنة ونحن نسمعها، وكلما ماتت قام شخص وطبعها ثلاثين مرة ووزعها، الذي يوزعها يأتيه شيء، والذي لا يوزعها تصيبه مصيبة.
وهناك نشرة ثالثة، نشرة السيدة زينب البنت التي عمرها ستة عشر سنة، التي أصيبت بالسرطان ورأت السيدة زينب في المنام فقالت لها: قولي هذه الكلمات، وانشريها على ثلاثة عشر شخص، وإذا لم تنشرها تحدث لك مصيبة.
هذه وأمثالها من النشرات الخرافية التي يروجها أعداء الإسلام بين الفينة والأخرى من أجل إظهار أن هذا الدين دين خرافة؛ لأنه إذا لم يوزعها ولم يحصل له شيء قال: والله إنها ليست صحيحة، إذاً الدين كله ليس صحيحاً.
الدين من عند الله، والدين قال الله قال رسوله، وليس الدين من الرؤى والأحلام، ومن الخرافات والخزعبلات، فإذا رأيت مثل هذه فواجبك أن تأخذها وأن تمزقها وترميها، أما أن تنشرها وتساعد على ترويجها فهذا حرام.(101/21)
حكم الألعاب الإلكترونية
السؤال
انتشر جهاز جديد يسمى (سوني بلستيشين) يقول: ما الحكم في لعبه في أوقات الفراغ؟
الجواب
أما السوني هذا فلا أعرفه حتى أحكم عليه؛ لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، إلا إذا كان من أجهزة لعب الأطفال، وليس فيها شيء يؤثر على معتقدهم، وإنما لمجرد اللهو بها كلعبة من اللعب مثل اللعب التي تعلب بها الأطفال، فهذه فيها سعة، أما إذا كان لها علاقة بأخلاق أو معتقدات، أو بتصورات، أو تربية على شيءٍ لا يرضي الله فهذه تأخذ حكمها من نوعيتها.(101/22)
نصيحة لأصحاب الإنترنت
السؤال
الإنترنت سلاح ذو حدين فما النصيحة لمن أدمن التعامل معه؟
الجواب
الإنترنت جهاز يسمونه الأخطبوط المعلوماتي، يجلب كلما تريد من المعلومات في الأرض، وهو سلاح كما ذكر الأخ ذو حدين، وهناك فلترة له من قبل المسئولين في مدينة الملك عبد العزيز العلمية، وقد قاموا بإجراء حصار عليه ومراقبة بحيث لا يدخل بعض الأشياء الخطيرة على دين الإنسان، وعقيدة الإنسان، وأمن هذه البلد؛ لكن مع هذا أيضاً أهل الشر يتفننون كلما سد باب فتحوا آخر، فأنت إذا كانت لك حصانة إيمانية، واستقامة شرعية تمنعك من أن تقع في هذا وعندك حاجة إلى مثل هذه المعلومات، وعرفت أنك إن شاء الله تضمن ألا تنحرف فلا بأس؛ لأنه سلاح ذو حدين مثلما عرفت.
أما إذا لم تكن عندك حصانة، وتشتري هذا الجهاز، ثم تقتحم ميادينه، وتخرج فيه إلى كل شر فهذا خطرٌ عليك، وقد أخبرني من أثق فيه بوقوع كثير من الناس في هذا الضلال، منهم شخص في مكة استطاع أن يتعرف على فتاة من خلال الإنترنت، ثم حصل له بها الضلال، وانحرف عن دين الله، فترك الصلوات، وترك بيته وزوجته وأطفاله، واستأجر شقة في جدة وكان يذهب يومياً بعد الدوام لكي يمارس فيها الشر عن طريق الإنترنت واللقاءات التي يحددها بمواعيد من الإنترنت، حتى انسلخ والعياذ بالله.
فهذا سلاح ذو حدين وأنت أعرف بنفسك إن كنت، تستطيع أن تمسك نفسك وتحجزها، فإذا رأيت أنه خطر عليك فلست بحاجة إلى أن تورد نفسك موارد الهلاك.(101/23)
نداء لأصحاب الدشوش
السؤال
يعلم الجميع أن (الدشوش) والصحون الهوائية لما تبثه من الشر حرام، ومع ذلك نرى وللأسف انتشارها فما تكاد ترى بيتاً إلا وعلى سطحها هذا (الدش)، فهل من نداءٍ وصرخةٍ للغيورين قبل فوات الأوان؟
الجواب
جيد أن مسألة أنها حرام معروفة؛ لأن بعض الناس عنده شك في حرمتها، وقد صرح العلماء بحرمة وضعها في البيوت، بل أفتى سماحة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين بأن من وضع الدش في بيته أنه يعتبر غاشاً لرعيته، وفي الحديث: (من مات غاشاً لرعيته لم يرح رائحة الجنة) هذا حديث صحيح، فالذي يضع الدش فوق بيته هل أخلص لرعيته وأولاده وزوجته أو غشهم؟ لا شك أنه غشهم وخدعهم، وأوردهم موارد الهلاك، لما تبثه هذه القنوات من شر ولما تلتقطه هذه الأطباق من باطل، ثم تدش به أهل البيت، واسم (دش) اسم على مسمى، وصدق من سماه دشاً؛ لأنك إذا تخاصمت أنت وشخص وتكلمت عليه تقول والله أعطيته دشاً، يعني: أغرقته بالكلام البطال.
كذلك هذا أعطاك دشاً، دش ماذا؟ خير؟ لا والله دش شر ودش باطل، فكك الأسر ضيع الأسر كانت الأسرة تجتمع على السفرة سوياً، ويستيقظون سوياً، ويسمرون سوياً، وينامون سوياً؛ لكن الآن بعدما دخل الدش البيت ما عدت تراهم معاً، الأب على الأخبار، والولد على المباراة، والبنت على المسلسل، والمرأة على طبق الطعام، تطبخ طبق اليوم، وكل فرد لحاله، يرقدون وكلٌ يرقد في موعد، ويأكلون لكن متفرقين، يذهب الأب المطبخ ويأكل وما عادت المرأة تعرف بعلها.
يقول أحد الناس: أدخلت الدش وأريد أن أنام يقول: أنادي المرأة ولا تأتي، يقول: فآتي وأسحبها من يدها، يقول: وأرقد قليلاً ثم أغمض وأفتح عيني وإذا بها قد قامت ووضعت المخدة، وذهبت لترى الفيلم، يقول: أولادي أرقدهم بالقوة، وأقوم بعد قليل، وإذا بهم قد شردوا وذهبوا كلهم يتابعون التلفاز؛ لأنه شر متواصل، شر لا يقف؛ لأن البث ينطلق من الأرض كلها، فعندما يكون عندنا ليل يكون عندهم نهار، فالبث متواصل خلاف أربع وعشرين ساعة مع الشيطان، حتى ضاعت أوقات المسلمين، وضاعت صلوات المسلمين، وضاعت أخلاق كثير من المسلمين، فإنا لله وإنا إليه راجعون! فاستمرار الناس في تركيب هذا الشيء أو عدم إزالته يدل على جهلهم في حقيقة إيمانهم، وحقيقة حياتهم، وحقيقة دورهم في تربية أبنائهم، وأسرهم، وإن لم يتوبوا؛ فسيندمون ندماً ولكن بعد فوات الأوان، والله أعلم.(101/24)
مصيبة الأمة في فقد علمائها
السؤال
في هذا العام أفلت نجومٌ من العلماء الذين كان لهم خدمةٌ لهذا الدين وكان من آخرهم سماحة الشيخ العلامة محمد ناصر الدين الألباني رحمة الله عليه، ومصيبة الأمة في وفاة العلماء، وقد ينطبق علينا في هذا العام أنه عام الحزن، فهل من كلمة يا فضيلة الشيخ! على مكانة علماء الأمة، وعلى مصيبة الأمة في فقدهم، وعلى حث الشباب على نهج طريقتهم وسيرتهم، التي كانوا ينهجون بها طريق نبينا صلى الله عليه وسلم، فحدثنا حفظك الله حول هذه القضية؟
الجواب
أيها الإخوة! إن أعظم مصاب تصاب به الأمة هو فقد علمائها؛ لأن علماءها مصابيح الدجى فيها، هم الأنوار في الأرض، هم الشموس، هم البدور، إذا انقطعت الكهرباء الآن في هذا المسجد هل يقوم أحد يبحث عن الكهرباء؟ هل نستطيع أن نسرج العمود ونقول: أسرج يا عمود؟! العالم مثل النور، فإذا مات العالم أظلمت الأرض، وقد سمي فعلاً هذا العام بعام الحزن؛ لأن الأمة فقدت فيها أبرز العلماء، ماتوا بقضاء الله وقدره، وبآجالهم، وكلهم قد تجاوز السبعين والثمانين بل بعضهم وصل التسعين، منهم سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن باز طيب الله ثراه، ونور الله ضريحه، وقدس الله روحه، وليست هذه -يا أخوان- عبارات بدعية، هذه يقولها شيخ الإسلام، ومعنى قدس وأنا كان في نفسي منها شيء بحكم الجهل، ولما سمعت شيخ الإسلام يقول: قدس الله روحه قلت: الله يقدس؟ التقديس يكون من العبد، رجعت إليها في اللغة وإذا معنى قدَّس أي: طهر، ليس عظم، فـ شيخ الإسلام يقول: قدس الله روحه، يعني: طهر الله روحه، ادخلوا الأرض المقدسة، يعني: الأرض المطهرة، فالتقديس له معنى عندنا وهو التعظيم، ولكنه له معنى في الشرع وهو التطهير، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يغفر لسماحة الوالد الشيخ.
بليت الأمة به بلاءً عظيماً، بل والله لقد تغير الجو، وتغير الليل والنهار في أنظار وأبصار كثير من طلبة العلم، وأنا حينما بلغني الخبر وكنت ذلك اليوم قد خرجت من المسجد الحرام وذهبت إلى البيت، ونمت قليلاً، ورأيته في المنام في ذلك اليوم نفسه وأننا نتجه إلى مكان نصلي الجمعة موكب من السيارات، والمشايخ، وطلبة العلم، وفجأة توقف موكب الشيخ، ووقف معه بعض طلبة العلم، فمشى أناس وأنا وقفت، وقلت: ما للشيخ وقف هنا لا يصلي؟ ونزلت وإذا بأحد العساكر المكلفين بحراسة الشيخ يقابلني، قلت له: ما به الشيخ لا يصلي معنا؟ فقال لي: الشيخ لن يصلي معكم هذه الجمعة، أي والله بهذا النص، واستمريت في المنام قليلاً، وإذا بالتليفون يضرب عند رأسي، ويتصل بي أحد الإخوة من منطقة الزلفي، يقول لي: عندك خبر عن الشيخ؟ -صباح الخميس 28/ 1/- قلت: نعم.
عندي خبر، الحمد لله خرج من المستشفى، وأمس استقبل الناس وهو طيب ووضعه تمام، قال لي بصراحة: أحسن الله عزاءك فيه، وحين قالها شعرت أن شيئاً كالرمح استقر في كبدي، ألم ما شعرت به في حياتي، فوضعت يدي على صدري وقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، إنا لله وإنا إليه راجعون، إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم اجبرنا في مصيبتنا وأبدلنا خيراً منها، مصيبة يا إخواني، مات رحمة الله عليه، ولكن لم يمت علمه، فعلمه موجود، وكتبه منتشرة وآثاره ظاهرة، وما علينا إلا أن نتعرف على سيرته وعلى منهجه، وعلى حياته؛ لنأخذ منه عبرة.
ثم بعد ذلك تبعه العلماء مات الشيخ علي الطنطاوي، ثم مات الشيخ صالح المنصوب، وقبله مات الشيخ عطية سالم بـ المدينة، مات الشيخ مناع القطان في الرياض، وآخر من سمعنا من موت العلماء الشيخ محمد ناصر الدين الألباني غفر الله له ورحمه وجمعنا به في جنات النعيم فقد كان خادم السنة، ومحقق الحديث، الذي قضى حياته كلها في خدمة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، على منهج السلف الصالح رضي الله عنهم، فهذه مصيبة.
ولكن أيها الإخوة! الخير في هذه الأمة، وهذه الأمة كالغيث؛ لا يدرى الخير في أوله، أو في آخره، يموت عالم، ويعيش ألف عالم، ها نحن نرى الآن والحمد لله طلبة العلم يملئون الجامعات، ويملئون المساجد، ويهزون المنابر بالخطب، ونرى منهم عودة صادقة إن شاء الله، فالدين باقٍ، والخير في هذه الأمة باق، ونسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يرحم ويغفر لعلمائنا، وأن يعوضنا منهم خيراً في أبنائنا وشبابنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله.(101/25)
اتق المحارم تكن أعبد الناس
تكلم الشيخ حفظه الله عن الحياة وحقيقتها وعن القائلين بأنها خلقت عبثاً، ورد عليهم بالدليل الشرعي ثم أردفه بالدليل العقلي المقنع مثبتاً أن الحياة بعدها حساب وعقاب.
ثم تكلم عن أن المرء عندما يتقي المحارم فإنه يكون أعبد الناس، ثم بين الأمور التي تنافي حقيقة التقوى، وبعد أن ذكرها أجاب عن سؤال مضمونه: التفجيرات وما وراءها من مفاسد.(102/1)
الحياة حكمة لا عبث
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: أيها الأحبة في الله! هذه الظواهر الكونية المبثوثة في الآفاق والأنفس من ليل ونهار، وشمس وقمر، وسماء وأرض، وجبال وبحار، وإنسان وحيوان، وجماد ونبات على ماذا تدل؟ وماذا تعني؟ ما تفسيرها؟ وما حقيقتها؟ وما سر وجودها؟ لماذا جاءت أو خلقت؟ وأين النهاية بعد أن يؤدي الإنسان دوره على مسرحها؟ أيها الإخوة في الله! لا تفسير لظاهرة الحياة إلا أحد تفسيرين، ولا احتمال لمعناها إلا أحد احتمالين: الاحتمال الأول: أن تكون هذه الحياة إنما خلقت عبثاً؛ ليس لها غاية، وليس من ورائها حكمة، وإنما هكذا وجدت، وهكذا وجد الإنسان نفسه يعيش كما تعيش البهائم، وينتهي كما تنتهي البهائم، ثم بعد الحياة ليس هناك حياة أخرى.
هذا هو الاحتمال الأول.
الاحتمال الثاني: أن تكون لهذه الحياة أسرار، ويكون لها أهداف وحكمة، أي: لم تخلق عبثاً، وإنما لحكمة أرادها خالقها.
فأي الاحتمالين هو الصحيح؟ نحن لا نريد إجابة منبعثة من العاطفة، وإنما نريد إجابة مدعمة بالدليل النقلي الشرعي، وبالدليل العقلي الفكري؛ لأن من يناقش أو ربما يسأل لا يؤمن إلا بمنطقه وعقله، فلنأخذ كل احتمال ونناقشه لنرى مدى صحته أو بطلانه.
الاحتمال الأول: أن هذه الدنيا وهذه الحياة إنما خلقت عبثاً: وللأسف الشديد أن هذا الاحتمال يسير عليه ويتبناه معظم سكان الأرض في هذه الأزمنة، من العقلاء والكبار والمفكرين، يفسرون الحياة على أنها ليس لها هدف، وبعضهم يغالط نفسه فلا يفسر هذا التفسير بلسانه، ولكن واقعه وتطبيق حياته وأسلوب معيشته يدل على أنه لا يؤمن إلا بهذه الحياة، وأنه ليس له هدف بعد هذه الحياة.
وهذا الاحتمال باطل بالدليل الشرعي والنظر العقلي.(102/2)
الأدلة الشرعية على أن الحياة لحكمة
أما الدليل الشرعي: فيقول عز وجل: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115] أفحسبتم؟ استفهام في صيغة الاستنكار، أي: أتظنون أن الله خلقكم عبثاً؟! ومعنى هذا: أن الله ما خلقكم عبثاً {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:115 - 116] تعالى الله وتنزه وتقدس عن العبث! أيخلق هذه السماوات وما فيها من إحكام وتنظيم، ويخلق الكون بما فيه من تنظيم وتقدير وتدبير عبثاً من غير غاية ولا هدف؟! تعالى الله عن العبث.
ويقول عز وجل في آية أخرى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً} [ص:27] أي: عبثاً {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص:27] فهذا الزعم أن الله خلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً؛ لأنه زعم الكفار، فويل للذين كفروا من النار.
ومن الذي يقول هذه الكلمة؟ إنه الله! ويل لهم من هذه المقولة، فإنهم يصفون الله بالباطل، ويقول عز وجل: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} [الأنبياء:16] أي: عبثاً {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء:17 - 18] تهديد آخر بالويل لهؤلاء الذين يصفون الله بأنه خلق السماوات والأرض عبثاً.
نعم.
ثبت بالدليل الشرعي أن الله ما خلق السماوات والأرض والكون عبثاً، وإنما خلقها لحكمة.(102/3)
الأدلة العقلية على أن الحياة لحكمة
ثم نأتي بالنظر العقلي فنجد ونشاهد ونلمس أن الإحكام والدقة والتنظيم والتقدير والتدبير يشمل الكون من أصغر جزء في المادة وهي الذرة إلى أعظم جزء في المادة وهي المجرة! كل شيء بتنظيم! وكل شيء محكم: ليل ونهار، أفلاك وشموس، أقمار وأنجم، أزهار وأشجار، أنهار وبحار، كل ما في الكون يشهد من أصغر جزء فيه إلى أكبر جزء بأن له خالقاً:
وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد
أولاً: هل يعقل أن يكون هذا التنظيم كله عبثاً وصدفة؟ وكما يقولون: قانون الصدفة: قانون يعمل ولكن في حدود.
يقول أحد العقلاء: لو أن رجلاً على سطح بيت وضع تحت السطح لوحاً خشبياً، وقذف من يده بمائة إبرة خياطة، فصدفة وقعت إبرة من هذه الإبر على رأسها، ألا يمكن أن يحصل هذا؟ نعم يحصل بالصدفة، ثم بعد ذلك أتى بألف إبرة ثانية ورماها مرة ثانية على هذا اللوح الخشبي، فصدفة وقعت إبرة من هذه الإبر الألف في خرق الإبرة الواقفة تلك، هذا ممكن وصدفة، ولكن متى؟ قالوا: إذا قذف عشرة ملايين إبرة يمكن أن تأتي واحدة في خرق تلك الإبرة التي وقفت سابقاً، قالوا: ثم جاء ورمى بعد ذلك بألفين، وجاءت واحدة ووقعت في خرق الإبرة الثانية الواقفة تلك، قالوا: هذا مستحيل، مستحيل أن تصل المسألة إلى هذا الكلام، الصدفة لها حدود، وغير مطردة! ومثال آخر: حروف المطبعة التي تصف في المطابع، طبعاً يأتي الذي يصف الحروف فيأتي ويضع (بسم الله الرحمن الرحيم) الباء والسين والميم ولفظ الجلالة من أجل أن يطبعها بعد ذلك، ويدخلها في القالب وتنطبع، فلو جاء آخر وقال: أنا سأعمل كتاباً، وأتى بالحروف من غير صف بل خبطها وأدخلها المطبعة، وأصبحت لوحة مكتوبة، يقول: يمكن أن يأتي مع الصدفة كلمة مكونة من أربعة حروف! يمكن أن تأتي كملة: سعيد، صدفة يأتي السين مع العين والياء والدال، لكن هل ممكن أن يأتي سعيد بن مسفر بالصدفة في هذه الحروف؟ قالوا: مستحيل، حسناً يأتي سعيد بن مسفر بن مفرح القحطاني؟ قالوا: هذا لا يمكن.
حسناً هل يمكن أن تطبع لك المطبعة بهذا الصف الفوضوي العشوائي صفحةً مطبوعةً بموضوع معين، وبرقم معين، وبأفكار متسلسلة، وبتنظيم معين، هل يمكن هذا؟ طبعاً مستحيل!! ثانياً: هذا الكون البديع وهذا التنظيم المتقن، ولا نذهب بعيداً بل الإنسان نفسه، يقول الله عز وجل فيه: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] الذي خلقك وقدرك وأعطاك هذه الهيئة وهذا القدر من الإحكام والتنظيم في كل جزئية من جزئياتك، أيكون هذا الخلق عبثاً وصدفة؟ لا.
هذا الرأس لوحده الذي جعله الله عز وجل قمة الجسد وركب فيه جميع الحواس: العينان في المقدمة، والأذنان في الجانبين، والأنف والفم في وسط الوجه، فالعينان تفرزان مادة ملحية، والأذنان مادة صمغية مُرَّة، والأنف تفرز مادة مخاطية، والفم يفرز مادة لعابية، من ملّح هذه، وأمرّ هذه وحلى هذه؟ والمصدر واحد؟!! ولماذا هذا ملح وهذا مر وهذا حلو؟ الملح؛ لأن العين شحمة ولو لم يوجد الملح لتعفنت ولظهر فيها الدود! وهذه الأذن جعل الله فيها مرارة؛ لأنها مفتوحة، ولو لم تكن هذه المادة الصمغية المرة موجودة لدخلت فيها الحشرات وأنت نائم، فقد تأتي الصراصير والجرذان والقمل وتملأ مسامعك، لكن الله جعل هذه المادة حتى تهرب أي حشرة تقترب من أذنك، وهذا الفم جعل الله فيه غدداً لعابية تفرز هذا اللعاب الذي هو أحلى من العسل! من حلَّاه؟ ثم لماذا يفرز هذه المادة؟ من أجل المساعدة على عملية تحضير الطعام وتجهيزه للجسم، ثم خلق الله في هذا الفم ورشة مصغرة لتجهيز الطعام، ومكونة من عدة آلات: آلات تقطع وأخرى تخرق وتطحن؛ الثنايا تقطع، والأنياب تخرق، والأضراس تطحن، وجعل الله فوق الضرس ضرساً وفوق الثنية ثنية، وفوق الناب ناباً، وبعد ذلك قدم الفك من أجل أن يقطع مثل المقص؛ لا بد أن يركب في الآخر؛ لأنه لو كان فوق بعض ما قطع، وجعل بين الأسنان جهازاً مثل (الكريك) يقلب الطعام وهو اللسان، وبعد ذلك يجهز الطعام ثم يمضغ ثم ينزل.
فيستقبل هذا الطعام قناة اسمها المريء: والمريء يوصل إلى المعدة، وبجانب هذه القناة قناة أخرى اسمها البلعوم.
المريء قناة عضلية، والبلعوم قناة غضروفية مفتوحة باستمرار؛ لأنها تقوم بإيصال الهواء إلى الرئتين، أما تلك فتوصل الطعام إلى المعدة فهي عضلية تسمح بنزول الطعام ولا تسمح بخروجه؛ من حين أن تنزل اللقمة تقوم تلك العضلة بعصرها إلى أن تنزلها إلى المعدة، ولولا وجود هذه العضلة لاحتجت مع كل لقمة إلى سيخ من حديد حتى تصل إلى بطنك، وإلا فمن سيقوم بإنزالها؟! وبين الماسورتين: ماسورة المريء وماسورة البلعوم، لحمة صغيرة يسمونها في الطب: لسان المزمار، ويسميها الناس باللسان العامي: اللهى أو الطراع.
وظيفتها أنها تتلقى إشارات من المخ إذا دخل الطعام بأن تقفل قصبة الهواء، وإذا تكلم تقفل قصبة الطعام؛ لأنه لو تكلم الإنسان وهو يأكل أو يشرب ودخلت حبة من الأرز أو قطرة من الماء في قصبة الهواء لمات الإنسان، وهو الذي نسميه الآن شرقه، بعض الناس يتكلم وهو يأكل، فيصدر أمر من المخ إلى هذا أن انفتح وإلى هذا أن انفتح فيبقى الجندي مسكين لا يدري من يفتح، هذا أم هذا؟ فتسقط حبة في قصبة الهواء، فماذا يحصل؟ هل يموت الإنسان من أجل غلطة بسيطة؟ لا.
تصدر الأوامر إلى القوات التي في القصبة أن هناك جسماً غريباً فاطردوه، فيقوم الإنسان يتنحنح، حتى يخرج هذه الحبة، وتبدأ عينه تغرورق بالدمع ماذا هناك؟! يقول: كدت أموت من أجل حبة أو قطرة.
هذا هو الإنسان! أليس هذا إحكام أيها الإخوة؟! ولن نذهب بعيداً في الكون ولكن فقط في الإنسان، ولهذا أكثر الناس إيماناً هم العلماء والأطباء؛ لأنهم يرون أجهزة سمعية وبصرية وتنفسية وتناسلية ودموية وأجهزة لا يعلمها إلا الله.
فيك أيها الإنسان جهازان مركبان في الظهر وهما الكليتان، ومهمتها تصفية الدم، فهي مثل الصفاية التي تصفي البنزين في السيارة، في كل كلية ثلاثة ملايين وحدة تنقية، وقد خلق الله تعالى اثنتين، رغم أن الواحد يعيش بواحدة، لكن الله تعالى خلق اثنتين حتى إذا تعطلت واحدة تبقى معك واحدة ثانية، أو يكون لك حبيب ويصير عنده فشل كلوي فتعطيه واحدة.
وما كان الناس يميزون هذا في الماضي، وبعد ذلك خلق الله تعالى رئتين وعينين وأذنين.
وجعل الله من كل عضو نافع اثنين ومن كل عضو ضار واحداً، كاللسان كم لساناً مع الإنسان؟ لسان واحد، وليت الإنسان يسلم من لسانه، فكيف لو كان معك لسانان، والفرج واحد! فكيف لو كان معك فرجان؟! الأذنان اثنتان فإذا تعطلت إذن فالأخرى تعمل، بعض الناس عنده أذن لا تسمع، ولا يسمع إلا بواحدة، وتملك عينين فإذا عميت واحدة ترى بالثانية، ويدين إذا قطعت واحدة تستعمل الثانية، وعندك رجلان ورئتان وكليتان وهكذا، إلا عضو واحد نافع وجعله الله واحداً وليس اثنين وهو القلب، قال الله: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب:4] لماذا؟ لأن القلب ملك الجوارح، ولا يمكن أن يكون في البلد الواحد ملكان، وإذا كان معك قلبان أحدهما يريد يذهب ليداوم، والآخر يريد أن ينام، من تطيع؟ لا يوجد إلا قلب واحد يعمل، رغم أنه نافع، لكنه قلب يعمل لا يمرض! وقد ترون كل الأعضاء تمرض وتتضرر لكن أقل الأعضاء مرضاً أو تعرضاً للأمراض هو القلب، وإلا فهو يعمل عملاً مضنياً، فهو مضخة تضخ الدم إلى جميع أجزاء الجسد، وتعطي هذا الضخ حركة في كل دقيقة ثمانين مرة، فتصور جهاز يشتغل مدى حياتك ولا يتعطل! أربعة وعشرين ساعة يعمل وأنت نائم وقائم وجالس وتمشي ثم جعل الله عضلة القلب عضلة لا إرادية، -أي: تشتغل بدون اختيارك- ولو أن الله جعل عضلة القلب إرادية بحيث إنه من أراد أن يعيش فليشغل قلبه، ومن أراد ألا يعيش فليوقفه، أكان الناس يشتغلون بغير قلوبهم؟!! لن يبقى أحد إلا وهو مشغول بعملية ضخ قلبه، حتى لو جاء لينام، يقول لامرأته: تعالي وحركي قلبي، أنا أريد أن أنام قليلاً، وانتبهي لا تغفلي فأنا سأموت إذا غفلت، فتنشغل بضخ الدم في قلبه قليلاً، ثم تقول له: تعال.
أنا أريد أن أنام تعال حرك قلبي! لكنك نائم وهي نائمة والقلب ينبض، ثمانين ضخة في كل دقيقة وهو ينبض، يضخ الدماء ليذهب بها إلى الجسد، هذه جزئية ولمحة بسيطة من قدرة الله في خلقك أيها الإنسان.
نعم أيكون هذا الخلق عبثاً؟!! لا.
فبطل -أيها الإخوة- بالنظر العقلي كما بطل بالدليل الشرعي أن الإنسان والكون والحياة خلقت عبثاً، ولم يبق لنا إلا الاحتمال الثاني، وهو: أن الله خلق الكون والحياة والإنسان لحكمة، ولم يدع الله الناس في تيه، بل وضح لهم الحكمة، فإنه أعلم بما خلق، يقول الله تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] هو الذي خلق الإنسان، فأعرف الناس بالصنعة صانعها.
فخالقك وصانعك هو الله، وهو الذي صنعك ويدري لماذا صنعك، فبين لنا في كتابه في سورة الذاريات وقال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] فهذا هو الغرض، وهذه هي الحكمة، لا يوجد حكمة من وراء خلق الناس إلا هذه الحكمة؛ لأنها محصورة بين (ما) و (إلا) {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] ما: نافيه أم مثبتة؟ تقول: نافية: ما في المسجد إلا زيد، يعني: لا تجد معه عمرو، والله يقول: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] يعني: لا يوجد عمل لهم غير العبادة، لكن ما هو مفهوم العبادة في الإسلام أيها الإخوة؟(102/4)
مفهوم العبادة في الإسلام
مفهوم العبادة في الإسلام مفهوم واسع يشمل كل الحياة، فليس مفهوماً مقصوراً على الشعائر فقط، فالشعائر التعبدية هي أساس العبادة، لكن كل ما في الكون عبادة كما يعرفه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله تعالى عليه في كتابه العبودية يقول: العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
فكل عمل يحبه الله ويرضاه فهو عبادة، حتى جعل النبي صلى الله عليه وسلم تبسمك في وجه أخيك صدقة، وهذه عملية ليس لها علاقة بالدين، لكن جعلها الإسلام عبادة، فإذا لم يكن عندك عبادة كثيرة فاخرج إلى الشارع، وعندما تلقى مسلماً قل له: السلام عليكم، كيف حالك يا أخي؟ صبحك الله بالخير تسجل حسنات، لماذا؟ قالوا: لأنك بالابتسامة والسلام تزرع في قلب المسلم الأمن والطمأنينة فتنشر الحب والود في المسلمين، ولا يظهر الدين إلا في أرض الحب، يقول صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده! لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولن تؤمنوا حتى تحابوا، ثم قال: أفلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم).
وإفشاء السلام من أعظم القربات عند الله عندما تخرج بهذه النية: (إن في الجنة لغرفاً يرى ظاهرها من باطنها، ويرى باطنها من ظاهرها، قالوا: لمن هي يا رسول الله؟ قال: لمن أدام الصيام، وصلى بالليل والناس نيام، وأطعم الطعام، وأفشى السلام).
بل جعل الإسلام شيئاً من الشهوات واللذائذ النفسية طاعة وعبادة، قال عليه الصلاة والسلام: (وفي بضع أحدكم صدقة -يعني: إذا جئت أهلك فإنها صدقة- فاستغرب الصحابة وقالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر؟! قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ قالوا: نعم.
قال: فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر).
بل إماطة الأذى عن الطريق صدقة، وهذه هي عملية البلدية في تنظيف الشوارع، ولكن الإسلام يدعوك -أيها المسلم- أن تساهم في نظافة الشارع؛ لأن الشارع ملك الجميع، فلا يجوز لك أن تلوثه، بل يجب عليك إذا رأيت شيئاً من الأذى أن ترفعه، ولهذا ورد حديث في الصحيحين: (الإيمان بضع وستون -وفي رواية: بضع وسبعون- شعبة، أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من شعب الإيمان) هذه العبادة بمفهومها الشامل.(102/5)
اتقاء المحارم أعلى درجات العبادة
هناك من يعبد الله في أعلى الدرجات، أي: يوجد رجل عابد ويوجد رجل أعبد، وأعبد هنا صيغة تفضيل، تقول: فلان كريم وفلان أكرم، فلان شجاع وذاك أشجع، فكذلك العبادة، فلان عابد وفلان أعبد.
كيف تكون أعبد الناس؟ دلك النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح كلمه وجوامع كلمه صلى الله عليه وسلم؛ في السنن قال صلى الله عليه وسلم -والعنوان طرف من حديث-: (اتق المحارم تكن أعبد الناس).
فيا من تريد أن تكون عابداً اتق المحارم؛ لتكن أعبد الناس! وطبيعي عندما تكون أعبد الناس فإنك تكون أفضل الناس، وتنجو في الدنيا والآخرة، لماذا؟ لأنك أعبد الناس.
وصيغة (أفضل) جاءت للنبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين؛ عندما أراد بعض الصحابة أن يتعلم عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فذهبوا إلى أهله وسألوا عن عبادته، فلما أخبروا كأنهم تقالوها، وليست بقليلة فقد كان صلى الله عليه وسلم أعبد الناس، ولكن الصحابة من شدة الإقبال على الله كأنهم رأوا أنها قليلة، وقالوا: أين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فنحن لم يغفر لنا! إذن نزيد؟ فقال أحدهم: أما أنا فلا أنام الليل أبداً.
يقول: الليل هذا لا ننام فيه؛ الليل للنوم ولكن نجعله للعبادة وللوقوف بين يدي الله جل وعلا، وقال الآخر: وأنا لا أفطر الدهر أبداً، وهذا الحديث يبين أن قدرات الناس تختلف؛ لأن بعض الناس لا يستطيع أن يقوم في الليل حتى ركعة واحدة ولكنه يستطيع أن يصوم، وبعضهم لا يستطيع أن يصوم يوماً واحداً ولكنه يستطيع أن يصلي، وبعضهم لا يستطيع أن يصوم أو يصلي ويستطيع أن يتصدق، وبعضهم لا يستطيع أن يتصدق ولكنه يستطيع أن يقرأ القرآن، ولهذا الله سبحانه وتعالى عدد مسارات العمل الصالح ليجد كل مسلم طريقاً إلى الله، قال الثالث: أما أنا فلا أتزوج النساء أبداً، فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الخبر جمع الناس، وقال: (ما بال أقوام يقولون كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله، وأعلمكم بالله، وأطوعكم لله، ولكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني).
فأعبد الناس على الإطلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت -أيها المسلم- إذا أردت أن تكون من أعبد الناس فعليك بشيء واحد وهو: اتقاء المحارم.
فليس أعبد الناس من يكثر الصلاة، أو الصدقة، أو الصيام، أو الحج والعمرة، أو يعلِّم الناس الخير ويدعو إلى الله، أو يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويحب في الله ويبغض في الله، ويعمل أعمال الخير، هذا لا شك أنه عابد، لكن أعبد الناس من يتقي محارم الله، أي: لا يقع في شيء من الحرام، ولماذا كان هذا أعبد الناس؟ قال العلماء: لسببين رئيسيين: السبب الأول: أن الله عز وجل إنما شرع تلك العبادات من أجل إمداد الإنسان بطاقة إيمانية تعينه على ترك المحرمات، ولهذا قال الله عز وجل عن الصلاة: {إِنَّ الصَّلاةَ} [العنكبوت:45] ماذا تعمل؟ {تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45] ولهذا أنت تصلي من أجل أن تنتهي عن الفحشاء، فإذا صليت ولم تنته عن الفحشاء فأنت تمثل فقط، وفرق بين من يمثل وبين من يؤدي الدور الحقيقي، فأنت تخدع نفسك وتضحك على نفسك: {إِنَّ الصَّلاةَ} [العنكبوت:45] و (إن) مؤكدة.
والصلاة الحقيقية، هي الصلاة المؤثرة، والفاعلة، والمقبولة، والتي عملت عملها فيك فتنهاك عن الفحشاء والمنكر، وأما الشخص الذي ما نهته صلاته عن الفحشاء والمنكر فكأنه ما صلى، وهذا رفعت عنه صلاته عقوبة في الدنيا ولا نستطيع أن نقول: إنه كافر؛ لأنه صلى، لكن بإتيانه للفحشاء والمنكر مع صلاته لم ترفع عنه صلاته، فتعرضه هذه الصلاة لعقوبة الآخرة؛ لأنه لو كان مصلياً حقيقياً لنهته صلاته عن الفحشاء والمنكر.
وكذلك الحج: فهو ركن مثل الصلاة؛ لأن الله سبحانه شرعه وقال فيه: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197].
الصوم: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه) وجميع الشعائر التعبدية فرضها الله سبحانه وتعالى من أجل أن تمدك وتربيك -أيها الإنسان- وتؤهلك وتجعلك قادراً على مواجهة المحرمات فلا تقع فيها هذا سبب.
والسبب الثاني وهو المهم: أن هذه المحرمات التي حرمها الله تعالى على الناس في النفس البشرية مَيْل إليها ورغبة فيها؛ لأن الله خلق في الإنسان غرائز تميل إليها، فمثلاً: الزنا محرم وفاحشة، والله يقول فيه: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:32] وشرع للزاني أشنع قتلة وأشنع عقوبة؛ إن كان محصناً يرجم حتى يموت، وإن كان غير متزوج يجلد بالعصا جلداً مبرحاً مؤلماً {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور:2] مائة سوط، لماذا نضرب الزاني؟ قالوا: لأنه تخلق بأخلاق الحمار، ونسي أنه إنسان ومسلم، وأنه يجب أن يكون عفيفاً، فهبط ونزل إلى درجة الحيوانية، فنجلده مائة سوط ولا نرحمه، كي نخرج الحيوانية من رأسه ويعرف أنه رجل وليس حماراً: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور:2].
فهذا الزنا؛ الفاحشة الكبرى، يقول فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (ما عصي الله بذنب بعد الشرك أعظم من نطفة يضعها الرجل في فرج لا يحل له) (ومن زنى بامرأة في الدنيا كان عليه وعليها في القبر نصف عذاب هذه الأمة) (والذي نفس محمد بيده! إن ريح فروج الزناة ليؤذي أهل النار) (والذي نفس محمد بيده! إن فروج الزناة لتشتعل ناراً يوم القيامة) وفي صحيح البخاري من حديث سمرة قال: (ثم أتينا على تنور أعلاه ضيق وأسفله واسع، وفيه رجال ونساء عراة يأتيهم لهب من تحتهم، فيرتفعون وينخفضون، قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الزناة والزواني من أمتك).
هذا هو الزنا الذي تميل له النفس، لماذا؟ لأن الله عندما خلق الإنسان وخلق الرجل والمرأة جعل في الرجل ميلاً إلى المرأة وجعل في المرأة ميلاً إلى الرجل، لبقاء الجنس البشري، إذ لو كان الرجل لا يريد النساء، والنساء لا يردن الرجال لبقي الرجل في جانب والمرأة في جانب، وكلما قيل للمرأة تزوجي، قالت: لا أعرفهم، وأنت تزوج قال: لا أعرف النساء، وبعد ذلك تموت المرأة ويموت الرجل، وتنقرض البشرية ولا يبقى أحد في الحياة.
فالله جعل عند الإنسان ميلاً، فلا يوجد رجل إلا ويحب النساء، ولا امرأة من النساء إلا وتحب الرجال، لكن هذا الميل بحيث يلتقي الرجل بالمرأة عند نقطة شرعية اسمها الزواج، وحرم كل لقاء قبله أو بعده في الحرام، فقط الزواج، فيأتي الشيطان فيستغل هذا عند الإنسان، فيزين له الحرام ويوقعه في الباطل، فإذا قام الإنسان ومنع نفسه من الحرام كان هذا هو العابد الحقيقي، أي: الذي عنده رغبة في الزنا ثم يمتنع منه خوفاً من الله فهذا هو العابد الصحيح.
فإذا صليت الآن فلا يوجد مانع من أن تصلي، بل المؤيد في نفسك أن تصلي؛ لأن الصلاة حركة، فقد يقول لك شخص: الصلاة جيدة، فيها ركوع وسجود ومشي وذهاب إلى المسجد وعودة منها، وخطوات ورياضة وتغيير جو؛ بمعنى أنها فائدة، والصيام أيضاً عملية صحية، والحج أيضاً رحلة ونزهة وتمشية، لكن الزنا من يتركه؟ ما يتركه إلا من يخاف الله! ولهذا جاء في الحديث: (سبعة يظلهم الله في ظله -يوم القيامة- يوم لا ظل إلا ظله منهم: رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال -أي: إلى الزنا- فقال: إني أخاف الله رب العالمين).
هنا يوجد الإيمان، ولذا فالناس الآن يقيسون بهذا المقياس، فإذا رأوا رجلاً متديناً تظهر عليه علامات التدين والصلاة والصيام والعمل الصالح، ثم يرقبونه في مواطن الاحتكاك بالنساء، فإذا رأوه ينظر إلى النساء وهو المتدين، ماذا يقول الناس؟ يقولون: انظروا إلى هذا المطوع الكذاب، كيف ينظر إلى النساء، فعلموا أن تدينه غير صحيح؛ لأنهم قاسوه بالحرام، فلما وقع في الحرام قالوا: كذاب.
فهذه الميول النفسية إلى الحرام التي ترفضها وتحجزها وتستعلي عليها وتنتصر بنفسك عليها دليل على أنك أتقى الناس، وأعبد الناس.(102/6)
العفة عن المال الحرام من العبادة
المال حبب إلى كل الناس، والله تعالى يقول: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} [آل عمران:14] فهذا محبوب، ولا يوجد أحد لا يحب المال، فكل واحد يحب المال، والإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يحب المال، وجميع المخلوقات لا تحب المال، فهل رأيتم حماراً يحب المال، أو بقرة تحب المال، أو جملاً؟ أبداً.
لا يوجد إلا الإنسان، لماذا؟ قالوا: إن الله خلق في الإنسان حب المال من أجل تطوير الحياة، إذ لو كان الناس لا يحبون المال لما كان هناك تطور، ولكان الإنسان الآن يجلس في عشة أو كوخ، وبورق الشجر يلطخ جنبه ويستر عورته إلى أن يموت ولا يطور نفسه، لكن لما جمع المال وأحبه وجد أن المال يمكِّنه من تطوير نفسه، ولهذا فالصراع الآن في الحياة كلها بسبب المال؛ المال عصب الحياة المال سماه الله قياماً، قال تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} [النساء:5] أي: قوام الحياة هو المال، وبالمال تجد الدول المتطورة غنية، والدول المتخلفة فقيرة، ليس عندها مال ماذا تصنع؟ لا تستطيع التطوير، لكن التي عندها مال تقوم بالتطوير.
الحيوانات لما كانت لا تحب المال ما تطورت؛ فالحمار حمار من يوم أن خلقه الله إلى قيام الساعة، لم يفكر أن يشتري له حذاء، والبقرة بقرة! لم تفكر في يوم من الأيام أن تشتري لها سروالاً وتستتر من الناس، لماذا؟ لأنه ليس عندها تطوير، لكن يهمها أن تأكل وتشرب وتُحلب وتنام، وكذلك جميع الحيوانات، أما الإنسان فقد حبب الله إليه المال وجمع المال، ولكن جاء الشرع ونظم هذا الحب، وجعل المال الحرام غير محبوب، والمال الحلال محبوباً كسبه، فإذا رفضت المال الحرام كنت أعبد الناس.
الناس الآن إذا رأوا شخصاً متديناً، وبعد ذلك جاءت له فرصة من فرص الكسب الحرام فأخذها مع الناس، فإنهم يزدرونه، أضرب لكم مثالاً: في دائرة من الدوائر الحكومية رئيس القسم وجد أن عنده معاملات كثيرة، وطلب من مدير الإدارة أن يمنح العاملين عنده عملاً إضافياً لمدة أسبوعين لإنهاء الأعمال المتراكمة، وبعد ذلك هو يريد أن ينفعهم، وجمع الموظفين وقال: نحن طلبنا لكم عملاً إضافياً، وأنا أعرف أن العمل الإضافي لا تستحقونه، لكن أريد أن أحسن وضعكم ولكن أكملوا المعاملات وتعالوا بعد العصر لمدة نصف ساعة أو ساعة ووقعوا الانصراف والدوام، قالوا: جزاك الله خيراً، وشخص متدين وعليه علامات الخير قال: جزاك الله خيراً، بارك الله فيك، ماذا ستقول له الجماعة؟ سيقولون: المطوع أخذ معنا من الحرام، لكن لو وقف هذا المتدين وقال: لا يا جماعة الخير.
أنا لا أسجل معكم، تريدوني أن آخذ فوق هذا زيادة هي حرام؟ لا.
أنا لا آخذ، هذا الفعل من هذا الإنسان هو أعظم تأثيراً في الدعوة في قلوب الناس من ألف موعظة يلقيها هذا الإنسان، وإذا قالها قالوا: والله إن فلاناً صادق؛ جاءه راتب نصف شهر زيادة وتركه، هذا هو الصادق، نعم.
فأنت أتقى وأعبد الناس يوم أن تترك المحارم.
وهذا هو دعاء الملائكة -أيها الإخوة- من فوق سبع سماوات لأهل الأرض، يقول الله عز وجل: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ} [غافر:7 - 9] فهذه الملائكة تدعو لك وأنت في الأرض، تقول: يا ربنا قهم السيئات، أي: اصرف عنهم المحارم والمحرمات، ثم قال عز وجل عن الملائكة إنها تقول: {وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [غافر:9] إذا وقاك السيئات فقد رحمك الله.
فمتى تستحق رحمة الله؟ إذا وقيت نفسك من السيئات: {وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [غافر:9].(102/7)
أبواب المحرمات السبعة
ما هي المحارم التي يجب أن نتقيها؟ إذاً: عرفنا أن الذي يتقي المحارم هو أعبد الناس، فما هي المحارم؟ المحارم كما يقول ابن القيم رحمه الله: تدخل المحارم على القلب فتفسده من سبعة أبواب مثل نار جهنم لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم، كذلك المحارم تدخل على القلب من سبعة أبواب، ومن الناس من يدخل جهنم من كل باب، فهي مفتوحة له على مصاريعها، وهو الأول، ومنهم من يدخل من خمسة أبواب، ومن ستة، ومن ثلاثة، ومن أربعة، ومن واحد، لكن المؤمن لا يدخل من أي باب منها، لأنه أقفلها كلها واتجه إلى فتح أبواب الجنة الثمانية: من صلاة وصيام وجهاد وعمل صالح وقرآن وذكر وتلاوة وحج وعمرة، يعمل للجنة وتلك -أي: جهنم- مغلقة الأبواب السبعة؟ ذكرها ابن القيم رحمه الله في كتابه: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي:(102/8)
باب اللسان
الباب الأول: وهو أوسع وأخطر باب وأهم باب على دين العبد (اللسان): فهذا اللسان أخطر شيء عليك، يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (من يضمن لي ما بين لحييه وفخذيه أضمن له الجنة) فقد ضمن لك الرسول صلى الله عليه وسلم أن تحفظ لسانك ويدخلك الجنة، وفي الحديث يقول صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب، ورب كلمة قالت لصاحبها: دعني) بعض الناس يقول: الكلام بسيط! لا.
فالكلمة ليست بسيطة، الكلمة لها أهميتها! الكلمة تدخل النار وتدخل الجنة، الكلمة تشعل حروباً، وتثير الفتنة، وتقيم مشاكل! لا.
ولهذا قال الله تعالى للناس: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء:53] لا تتكلم بأي كلام إلا أحسن شيء، وأحسن هنا للتفضيل {يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء:53] ابحث عن أحسن عبارة وقلها، حتى مع زوجتك وزملاؤك وأولادك، فلا تبحث عن الخبيثة، وبدلاً من أن تقول لولدك: (انهض.
الله يأخذك) قل له: (انهض.
الله يهديك)؛ لأنه لو أخذه الله هل ترضى؟!! وبعض الناس يقول: (قم عمى) لماذا تدعو عليه بالعمى؟ والله لو عمي ولدك لذهبت به إلى كل المستشفيات، فلماذا تقول له: (عمى) وبعضهم يقول: (قم.
الله يجعلها في وجهك) وزوجته تدعوه فتقول: فلان، قال: طاعون، لماذا طاعون؟ أعوذ بالله، لماذا لا تقل: لبيكِ، قال: أقول لها لبيك، لماذا؟ لا.
إنها زوجتك: (خيركم خيركم لأهله) أفضل من تقول له لبيك: أمك وأبوك وزوجتك، من يخدمك ويربي ولدك إلا زوجتك، ومن يقضي غرضك إلا زوجتك؛ لها فضل عليك كبير، إذا ذهبت إلى بيت أهلها كيف يصبح بيتك؟ يتحول بيتك إلى مقبرة، ترجع من الدوام وكل شيء في غير مكانه، والطعام غير جاهز، والفرش غير منظمة، والغرفة مبعثرة؛ مخدة في زاوية وبطانية في زاوية، تقول: ليت أم الأولاد موجودة لتنظم وتنظف وتطبخ.
فهذه زوجتك تقوم بكل هذه الخدمات معك، لماذا لا تحسن القول معها؟ والذي ليس فيه خير لزوجته ليس فيه خير للناس، فبعض الناس يتظاهر بالخير أمام الناس لكن يقول العلماء: إن المحك الحقيقي لأخلاق الإنسان، وإذا أردت أن تقيم إنساناً فاسأل عنه أهل بيته، فإن أثنوا عليه ففيه خير، وإن ذموه فليس فيه خير، لماذا؟ لأنك تسفر عن طبيعة خلقك في بيتك، أما مع الناس فيمكن أن تتصنع وتتظاهر بالمجاملات، ولهذا ترى أكثر الناس في بيته يكلم امرأته بوجه -كالأسد- عبوس، ولا يتكلم بكلمة طيبة، فإذا دق التلفون ورفع السماعة ودق عليه أحد الناس قال: أهلاً! مرحباً! كيف الحال، (عساك طيب) حتى تقول: هذا من الملائكة لحسن أخلاقه، فإذا وضع السماعة قال: يا امرأة: افعلي الشاي.
انهضي.
أعوذ بالله! كيف التحول من حال إلى حال؟ لماذا لا تقول: يا أم فلان: عندك شيء؟ أريد بعض الشاي، يبارك الله فيك، الله يحفظك! الكلمة الطيبة صدقة، ولكن بعض الناس لا يزن عباراته، ولهذا -أيها الإخوة- أخطر شيء عليك اللسان:
احفظ لسانك أيها الإنسان لا يلدغنك إنه ثعبان
كم في المقابر من قتيل لسانه كانت تهاب لقاءه الأقران
احفظ لسانك من الكذب، فإنه يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار، والرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً.
واحفظ لسانك من الأيمان الفاجرة، فإن هناك يميناً تسمى: اليمين الغموس، وهي: التي يحلف بها صاحبها وهو يعلم أنه كذاب، وبسببها يغمس في النار.
احفظ لسانك من المواعيد المخلفة احفظ لسانك من الغيبة وخصوصاً غيبة العلماء وأهل الفضل، فإن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في الذين ينالون منهم معلومة، ومن ابتدرهم بالثلب ابتلاه الله قبل الموت بموت القلب والعياذ بالله.
احفظ لسانك من النميمة، وهي: نقل الكلام بين الناس على جهة الإفساد.
احفظ لسانك من القيل والقال، والتدخل فيما لا يعنيك، والخوض فيما لا يهمك.
قال صلى الله عليه وسلم والحديث صحيح: (من يضمن لي ما بين لحييه وفخذيه أضمن له الجنة) وفي الحديث الآخر في الصحيحين يقول صلى الله عليه وسلم: (أكثر ما يدخل الناس النار: الفم والفرج) وهذا أول باب، فاحفظه.
وأنت أعرف بنفسك، وأنت بعدم حفظه تبدد الحسنات وتجمع السيئات، كم من حسنة يفعلها شخص ولكن ما معه منها شيء، كلما عمل حسنة أخذها الناس؛ لأنه يتكلم في الناس ويسب الناس، يقول صلى الله عليه وسلم: (أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس عندنا من لا دينار له ولا درهم، قال صلى الله عليه وسلم: لا.
المفلس من يأتي يوم القيامة بحسنات كالجبال، ولكن يأتي وقد سب هذا، وشتم هذا، وهتك عرض هذا، وأكل مال هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، حتى إذا فنيت حسناته أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار).
أجل.
لا تضع حسناتك -يا أخي- ولا تتكلم بكلمة واحدة إلا وقد عرفت مغزاها، وهل هي ترضي الله أم لا؟ قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) إذا أردت أن تتكلم فاعرض الكلام على قلبك، فإن كان حقاً قلته، وإن كان باطلاً رددته، وإن كان: لا حق ولا باطل فاسكت عنه، فإن غايته أن تضيع حياتك في الكلام الفارغ الذي ليس حقاً ولا باطلاً، والذي لا ينفعك في الدنيا ولا في الآخرة، وهذا هو الهراء.(102/9)
باب الفرج
الباب الثاني في الخطورة وهو باب: الفرج: ومعصيته الزنا واللواط -والعياذ بالله- وقد سمعتم الوعيد في الزنا؛ أما اللواط فهو الفاحشة الكبرى والمنكر الأعظم الذي تستنكره حتى الحيوانات، يقول عبد الملك بن مروان أحد خلفاء بني أمية: والله لولا أن الله قصَّ علينا في القرآن خبر قوم لوط ما صدقت أن رجلاً يركب رجلاً.
لأن هذا تعافه حتى الحيوانات، لا يوجد حمار يركب حماراً، ولا كلب يركب كلباً، ولا قرد يركب قرداً، ولكن الإنسان إذا ضل وانحرف عن منهج الله فعل هذه الفاحشة، ولذلك سماها العلماء الفاحشة الكبرى، وقرر الله لها عقوبة من أعظم العقوبات مقتبسة من فعل الله بقوم لوط الذين أرسل الله عليهم الملائكة، فحملهم جبريل على طرف جناحه حتى بلغ بهم أعلى السماء ثم قلبها عليهم، قال الله تعالى: {جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:82 - 83].(102/10)
باب الأذن
الباب الثالث: باب الأذن: ومعصيته سماع ما حرم الله من الغيبة؛ لأن الغيبة لا تتم إلا من طرفين: مغتاب وسامع، هل يوجد مغتاب يجلس في غرفة ويغتاب؟ من يغتاب معه؟ هل يوجد من يسمع؟ فإذا سمعت الغيبة فأنت أحد المغتابين، فما موقفك إذا اغتاب رجل عندك آخر تقفل الباب عليه وتقول: دعنا منه، اتركنا من الغيبة، إن كان عندك كلام طيب وإلا فاسكت، أما أن تجامله وتسكت فأنت المغتاب الثاني، ولك صورة طبق الأصل من معصيته؛ لأن الغيبة لا تتم إلا من طرفين، مثل الزنا لا يتم إلا بطرفين، والربا لا يتم إلا بطرفين، كذلك الغيبة لا تتم إلا من طرفين، فلا تستمع الغيبة ولا تسمع النميمة.
إذا أتاك رجل وقال لك: فلان قال فيك وقال فيك، فلا تصدقه؛ لأنه فاسق وإن كان صادقاً؛ لأن الله تعالى يقول: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6] فسماه الله فاسقاً وإن كان صادقاً، وإذا جاءك بغيبة فرد عليه، وقل له: إن الذي نقلت عنه النميمة لم يبادرني بها عياناً، ولكن الذي سبني أنت، أنت الذي حملها إلي فلا جزاك الله خيراً، من أجل أن تقطعه وترده عن فعل هذا المنكر العظيم.
فلا تسمع شيئاً من القيل والقال والغيبة والنميمة ولا الغناء؛ لأن الغناء رقية الزنا؛ الغناء محرض على الجريمة، ويبعث في النفس الشهوة، ويدعوها إلى الوقوع في المحرمات، فحرمه الله تعالى كما قال سبحانه في القرآن الكريم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان:6] قال ابن مسعود: [والله الذي لا إله إلا هو إن لهو الحديث في هذه الآية هو الغناء]-والعياذ بالله- فهي باب من أبواب المحارم؛ فاتق الله وسد أذنك ولا تسمع بها إلا قال الله وقال رسول الله، وما ينفعك في آخرتك.(102/11)
باب النظر
الباب الرابع: باب النظر: وهذا مهم جداً وخطير، ومن يفتح عينه في الحرام يعمي الله بصيرته عن الحق؛ لأن الجزاء من جنس العمل، ومَن غض بصره فتح الله بصيرته، ومن أطلق بصره أغلق الله بصيرته، وطمس على قلبه والعياذ بالله، والله تعالى يقول: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:30] والذي يفتح عينه على الحرام -والعياذ بالله- فهو يبرهن على أنه لا يخاف الله، إذ أن النظر هو أول الطرق وأول الخطوات في الفواحش، والذي يغض بصره ابتداءً لا يقع في الفاحشة، ولكن من أطلق بصره قاده الشيطان إلى الخطوة الثانية، فإذا كان ينظر اليوم فانتظره بعد أيام، تجده يبدأ يتكلم ويتصل، وبعد الاتصالات تتطور؛ لأنها خطوات والله يقول: {لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [النور:21] ما قال خطوة الشيطان، بل خطوات الشيطان، فالشيطان لا يجرك إلى الزنا في خطوة واحدة؛ لأنه لا يستطيع عليك بإيمانك، ولكن يقول: انظر، وبعد ذلك ينقلك إلى الكلام، ثم إلى المواعيد واللقاءات، ثم إلى الفاحشة والزنا ثم إلى النار والعياذ بالله.
فغض البصر من أعظم أسباب وقاية القلب؛ لأن النظر سهم مسموم من سهام إبليس، وتصوروا سهماً مسموماً يفتك ويفري، أرسله عدوك الشيطان إبليس، كيف يكون فعله في القلب؟!! قال قائل:
كم نظرة فتكت في قلب صاحبها فتك السهام بلا قوس ولا وتر
والمرء ما دام ذا عين يقلبها في أعين الغير موقوف على الخطر
يسر ناظره ما ضر خاطره لا مرحباً بسرور جاء بالضرر
كل الحوادث مبدؤها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر
أجل.
واجبك -يا أخي- أن تغض بصرك، وأن تعلم أن النظر لا يفيدك، بل يحرق قلبك، ويغضب ربك، ويرضي شيطانك، وتهتك به عرض أخيك المسلم، وكما أنك لا تحب أن يُنظر إلى أهلك، كذلك الناس لا يحبون ذلك، والله عز وجل لا يرضى هذا؛ لأن محارم الناس هي محارم الله، والله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن.(102/12)
باب البطن
الباب الخامس: البطن: وهي باب عظيم من أبواب دخول المحارم، وأكل الحرام من الربا، والربا من أعظم المنكرات وأكبر الكبائر، وهو موبقة، وما أذن الله بحرب صاحب كبيرة كما أذن بحرب صاحب الربا، قال صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: (لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه) وفي مسند الإمام أحمد يقول صلى الله عليه وسلم: (درهم ربا يصيبه الرجل أعظم من ست وثلاثين زنية في الإسلام) وفي سنن ابن ماجة قال صلى الله عليه وسلم: (الربا بضع وسبعون حوباً -أي: ذنباً- أدناه كأن ينكح الرجل أمه) -والعياذ بالله- فلا تأكل الربا، ولا تقبل الرشوة، فالرشوة حرام، قال صلى الله عليه وسلم: (لعن الله الراشي والمرتشي والرائش) والرشوة معناها ضياع الحق وظهور الباطل، وفساد النظام، فإذا كانت المعاملة لا تمشي إلا بشيء من الحرام، أي: أن صاحب الحق لا يأخذ حقه إلا أن يدفع حراماً، وصاحب الباطل يأخذ الباطل بالحرام، فإنه ينعدم العدل، وتضيع الحقوق، وتنتهك الحرمات حتى إذا فشت فاحشة الرشوة فلا تقبلها واتق الله ولو كنت فقيراً، فوالله لأن تعيش فقيراً حتى تموت خير لك من أن تكون غنياً ومصيرك إلى النار.
ما قيمة الثراء: أتبني عمارة وتشتري سيارة وأثاثاً وتملأ الثلاجات وتسمن نفسك لجهنم؟ لا -يا أخي- إن لك أن تعيش فقيراً وتموت على إيمان وتقوى وخوف فيعوضك الله في الجنة التي فيها (ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) أفضل لك من أن تأكل في لذة قصيرة عاجلة دنيئة، ثم تخرج منها وتتركها وتدخل النار فتعذب عذاباً لا يعذبه أحد من العالمين.
الرشوة فيها لعنة الله ورسوله -والعياذ بالله- وكذلك جميع أنواع الكسب المحرم، ومن ذلك: الخمور والمخدرات والدخان، والدخان نضيفه إلى الخبائث، ونبين حرمته وحكمه في الشرع؛ لأن بعض الناس يقول بأن الدخان ليس بحرام، اتصل بي شخص وقال: الدخان ليس حراماً، قلت: لماذا؟ قال: لا يوجد في القرآن أن الله حرم الدخان، قلت: سبحان الله العظيم! ثم ذكرت له الأدلة، فأجابني في النهاية بأن الدخان حرام.
قلت له: الدخان طيب أم خبيث؟ فسكت، قلت له: أخبرني.
فسكت، قلت: حسناً عصير البرتقال طيب أم خبيث؟ قال: طيب.
قلت: والدخان طيب أم خبيث؟ قال: لا.
ليس طيباً، قلت: إذن ما هو؟ قال: خبيث، قلت: أمتأكد من أنه خبيث؟ قال: نعم.
قلت: اقرأ قول الله في سورة الأعراف: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] فما دمت معترفاً أنه خبيث فهو حرام.
وحتى لو لم تعترف بأنه خبيث فقد اعترفت الشركة الصانعة بأنه خبيث، أي (علبة) من علب الدخان فإنه مكتوب عليها: تحذير رسمي: التدخين مضر بصحتك فننصحك بالامتناع عنه.
فما معنى هذا: هل معناه أنه طيب أم خبيث؟ إذا كانت الشركة الصانعة تقول بأنه يضرك، والذي يضر طيب أم خبيث؟ خبيث.
فكل صناعة تصنع يكتب عليها تاريخ صلاحية بداية ونهاية المصنوع، إلا الدخان ليس عليه صلاحية؛ لأنه فاسد من يوم أن صنعوه؛ مكتوب عليه يضرك من أول يوم.
وكل شركة تصنع صناعة ترسل معها دعاية لها إلا الدخان تصنعه الشركة وترسل دعاية ضده، وبعد ذلك أعلمك أن الدخان خبيث أم طيب، هل تستطيع أن تشرب الدخان في المسجد مع الفضلاء والعلماء؟ لا.
لكن إذا كانت إدارة رسمية ممنوع التدخين فيها، أين يدخن المدخن إذا لم يستطع أن يدخن في المكتب؟ أين يدخن؟ في الحمام.
طيب هل يستطيع أن يشرب أو يأكل في الحمام؟ فلو جاع وفي جيبه قطعة سندوتش، هل يستطيع أن يأكلها وهو على الكرسي؟ لا يستطيع أبداً؛ لأنه لو أكل في الحمام فسوف يطرش! كيف يأكل وهو في الحمام؟!! لكن لماذا يستسيغ الدخان وهو في الحمام؟ لأنه خبيث وفي مكان خبيث؛ ولأنه يدخن من فوق ومن تحت، فيجتمع الدخان على أحسن هيئة والعياذ بالله.
فشرب الدخان حرام؛ لأنه خبيث مفتر مضر، وإسراف وتبذير للأموال في غير حقها، ولأنه لا يبدأ عليه باسم الله، ولا يختم بحمد الله، والدخان حرام؛ لأنه يعلم صاحبه خصلة لا تليق بالإنسان، فإن الإنسان إذا أكل طعاماً وبقي منه شيء رفعه، أما الحيوان إذا أكل طعاماً وبقي منه شيء داسه بأرجله، وكذلك شارب الدخان إذا شرب الحبة وانتهى منها أين يذهب بها، يضعها في الأرض ويدوسها برجله، نعم.
يتعلم خصلة من خصال الحيوان -والعياذ بالله- فاحفظ بطنك -يا أخي- من هذه الخبائث.(102/13)
باب اليد والقدم
الباب السادس: اليد: كفها عما حرم الله، فلا تبطش بها في حرام، ولا تسرق بها مالاً معصوماً، ولا تسفك بها دم مسلم، ولا تمدها على امرأة لا تحل لك، كف يدك؛ لأنك لو مددتها في الحرام دخلتَ النار عن طريق يدك والعياذ بالله من النار.
الباب الأخير: القدم: الخطوات؛ فلا تحملك قدمك إلى معصية الله؛ لأن كل خطوة مسجلة عليك: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس:12] أي: خطواتهم، فلا تحملك قدمك إلا إلى بيوت الله، وحلق العلم، ومجالس الذكر، وصلة الرحم، وبر الوالدين، وقضاء مصالحك الدينية والدنيوية، لكن لا تذهب برجلك إلى منكر، ولا تحملك قدمك إلى معصية، لا تذهب بها إلى مجلس زور ومكان فجور وممارسة منكر؛ لأنك عندما تخطوها فإنها تسجل عليك يوم القيامة.
فإذا استطعت أن تقيم بإيمانك حراسة على هذه الأبواب السبعة فأنت من أعبد الناس، ويتحقق فيك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اتق المحارم تكن أعبد الناس).
ولكن -أيها الإخوة- لا تظنوا أن اتقاء المحارم يتم بشيء من اليسر والسهولة! إنه صعب يحتاج إلى جهاد، وإلى عناد وتربية للنفس، ومجاهدة ومحاربة للشهوة؛ لأن الشهوة تطغى، والمتع تسوق إلى الحرام، واللذائذ تقنع بالشر، ولكن عليك بمجاهدة نفسك؛ لأن الله تعالى يقول: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40 - 41] ويقول عز وجل: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].
وهذه المجاهدة لا تتم في بدايات الطريق، ولكن إذا علم الله منك صدق اليقين، فتح الله بصيرتك، ونور قلبك، وحبب إليك الإيمان وزينه في قلبك، وكره إليك الكفر والفسوق والعصيان، وجعلك من الراشدين، هنالك تصبح الأمور سهلة، ويصبح أحب شيء عندك كلام الله، وأبغض شيء عندك الغناء، أحب شيء عندك يوم تنظر إلى المساجد وإلى القرآن، وأكره شيء عندك يوم تنظر إلى النساء، لماذا؟ لأنك عبد رباني، كما قال الله تعالى في الحديث القدسي في صحيح البخاري يقول صلى الله عليه وسلم نقلاً عن ربه عز وجل: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها) فما معنى هذا أيها الإخوة؟ أن يكون الله سمعك الذي تسمع به، أي: لا تسمع ولا تبصر إلا ما يحبه الله، ولا تبطش بيدك إلا فيما يحبه الله، ولا تمشي بقدمك إلا إلى ما يحبه الله؛ لأنك عبد رباني.
أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يجنبني وإياكم الفواحش والمحارم ما ظهر منها وما بطن، وأن يوفقنا للطاعات، ويحفظنا من كل سوء ومعصية.
والله أعلم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(102/14)
الأسئلة(102/15)
تفجيرات الرياض وما وراءها من مفاسد
السؤال
ما هو التوجيه حيال التفجير الذي حدث في الرياض؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب
حادث التفجير الذي وقع قبل عدة أشهر لو كان حادثاً جنائياً يقع من أناس عاديين ما كان لنا حياله شأن؛ لأنه جريمة والجرائم يمكن أن تقع، لكن الحادث هذا بالذات مهم؛ لأنه انطلق من منطلق فكري وعقدي، إذ جرى فيه تضليل وخداع الذين قاموا به وإقناعهم أنه عمل جهادي ومشروع، وهنا الخطورة والمصيبة، حين تضلل مفاهيم الشباب المسلم، ويقنعون بأفكار تتنافى مع أصول أهل السنة والجماعة، الذي نعرف أن كل أحد من أهل هذا البلد بالذات لا يحب إلا أن يكون من أهل السنة والجماعة، أليس كذلك؟ هل يوجد أحد يريد أن يكون من أهل البدعة والضلال؟ لا.
ولكن المصيبة أن بعض الناس يريد أن يكون من أهل السنة والجماعة وهو لا يفهم مناهج ولا أصول ولا معتقدات أهل السنة والجماعة، ويأتي بمفاهيم ليست من مفاهيم أهل السنة والجماعة، نعم هناك الخوارج والرافضة والمعتزلة وكثير لهم مفاهيم وأصول ومناهج، أما أهل السنة والجماعة فلهم أصول ولهم مناهج ولهم معتقدات خاصة.
فالعمل الذي حصل ليس من مفاهيم ولا أصول أهل السنة والجماعة، بل يختلف معه اختلافاً كاملاً ويتنافى معه، والتوجيه حياله من عدة أمور: أولاً: قبل البدء فيه: نحن في هذا البلد بالذات ننعم بنعم عظيمة لا ينعم بها مثلنا على وجه الأرض، ويدلل على هذا: حرص الملايين من البشر في جميع دول الأرض على أن يشاركونا في هذه النعمة، لا يوجد بلد فيه أجانب في الدنيا مثل ما في بلدنا، لماذا؟ لا يوجد خير في بلادهم؟ لا.
فبعضهم يوجد في بلده فرص عمل مثلنا أو أحسن، لكن لماذا يفضل أن يعيش هنا بالذات؟ ليحصل له الأمن والطمأنينة التي يفتقدها في أي بلد آخر، فالإنسان ليس بحاجة إلى أن يأكل ويشرب ويسكن، لا.
هو يحتاج إلى أمن، وسكينة، وطمأنينة، فهذه غير موجودة، يقول لي أحد الزملاء المهندسون في شركة الكهرباء وقد ذهب إلى بلده لقضاء إجازته يقول: جلست شهراً في بلدي بالسيارة ورجعت بالسيارة يقول: والله ما نمت ليلة إلا وأنا في قلق، إلى أن دخلت حدود المملكة العربية السعودية، وما إن تجاوزتها حتى شعرت براحة ونزلت عند أول مقهى ونمت نومة شعرت فيها بلذة النوم وبالأمن.
{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} [النحل:112] هذه تنطبق على هذا البلد {فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ} [النحل:112] نعوذ بالله من هذه الثانية {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112] نحن في هذه البلد ننعم بنعم عظيمة، وأي محاولة لزعزعة الأمن وخلخلة هذه النعم مرفوضة وهي محاولة آثمة؛ لأنها تتصادم مع أهداف الشريعة، أهداف الشريعة التي جاءت في الكتاب والسنة، تحفظ للناس خمس كليات: الدماء: فقد حرم الله القتل وشرع القصاص.
الأعراض: حرم الله الزنا وشرع حد الزنا.
الأموال: حرم الله السرقة وشرع قطع يد السارق.
العقول: حرم الله الخمر وشرع حداً لشاربه.
الدين: حرم الله الردة (من بدل دينه فاقتلوه).
هذه الكليات الخمس ننعم بها في هذا البلد وبأعلى قدر ومستوى، فدماؤنا محقونة، وأعراضنا مصونة، وأموالنا محفوظة، وعقولنا محفوظة، وديننا محفوظ، أنريد أن نغير -أيها الإخوة- فيغير الله ما بنا؟!! لا والله.
الأمر الثاني: إذا أراد الإنسان تصحيح أخطاء موجودة، فإن التصحيح يجب أن يكون على منهج أهل السنة والجماعة، وعمليات التخريب والتفجير هذه ليست من أساليب أهل السنة والجماعة؛ لأنها عمل إفساد وليست عمل تصحيح، فالذي يريد أن يعمل عملاً إصلاحياً لا يرتكب فساداً حتى يصحح شيئاً، الإصلاح إصلاح، ولا يترتب على الإصلاح إفساد، فإذا ترتب على الإصلاح إفساد كان الإفساد الذي جاء به أعظم من الإفساد الذي جاء من أجل تصحيحه، فما موقفك -أيها المسلم- في المجتمع الذي نعيش فيه؛ مجتمع المملكة العربية السعودية؟ أولاً: موقف المسلم في الدرجة الأولى هو تصحيح وضعه مع الله، وهداية نفسه أولاً وتصحيحها بإقامة الإسلام فيها عن طريق العقيدة السليمة، والعبادة الخالصة، والسلوك المستقيم، والتعامل الحسن، والبعد عن الحرام -وترك المحرمات التي ذكرناها في المحاضرة- هذا أول شيء عليك أنت وهذه مسئوليتك، وإذا قدرت عليها فأنت داعية، ومن دعا نفسه فقد دعا، وقد حصل له خير كبير.
ثانياً: تنتقل من دائرة النفس إلى دائرة الأسرة، أمك وأبوك وإخوتك وأهلك وبنوك، وهذه مسئولية لا يقوم بها غيرك، فمن تتوقع أن يدخل من الشارع إلى أمك وأبيك فيدعوهم؟ وإذا فشلت أنت في دعوة أبيك وأمك، فمن يؤدي دورك عنك؟ بعض الشباب يقول: أبي ليس فيه خير، لا.
أبوك فيه خير ولكن أنت نفسك ما عرفت كيف تخرج هذا الخير، وبعضهم يقول: أمي ليس فيها خير أبداً، والرسول يقول: (خيركم خيركم لأهله) وأمك وأبوك من أهلك، ويجب أن يكون فيك خير لأهلك، وإذا كنت صادقاً مع الله وتحمل النور الحقيقي فلا بد أن يستفيد منك أمك وأبوك، وقد لا يستفيد منك في سنة أو سنتين أو ثلاث أو أربع، ولكن هذه مسئوليتك، انصرف إليها، ولو أن كل شاب حمل هذا المنهج وأصلح نفسه وأمه وأباه وأخواته وإخوانه وأسرته القريبة منه لما احتجنا إلى دعاة.
لكن بعض الناس ينهزم أمام أمه وأبيه وزوجته وأولاده فينعكس انهزامه في أن يصل إلى المجتمع فيكفر الناس ويقول: الناس كلهم ما فيهم خير، وهو الذي فيه خير فقط، يتصور أن الخير عنده والناس ما عندهم خير، وهذا من أسوأ ما يمكن أن يقع فيه الإنسان.
ثالثاً: إذا استطعت أن تنتقل من دائرة أهلك وبيتك، انتقل إلى الدائرة الأوسع؛ دائرة عملك: إذا كنت طالباً مع أصدقائك، أو كنت موظفاً مع الموظفين، أو كنت مدرساً مع المدرسين، انظر إلى المدرسين وخذ واحداً منهم، واعمل معه علاقة زره أقنعه بالدين يهديه الله خلال سنة سنتين تبعث يوم القيامة مبعث الأنبياء، هذا هو واقعك.
فما هو موقفك في المنكرات الموجودة في المجتمع؟ الشرع ما ترك الأمر -أيها الإخوة- ولا يوجد جزئية من جزئيات الدين إلا وهي موضحة، بين لنا الشرع كيف نغير المنكرات، وأخبرنا أن المنكرات تغير بأحد ثلاثة أساليب: الأسلوب الأول: اليد.
وهذا لولي الأمر ومن منح صلاحية، ليس الأمر فوضى، فلو ترك تغيير المنكر لكل واحد يرى منكراً فيقوم ويغيره مباشرة، لتحولت الحياة إلى فوضى، لكن الشرع نظم، أي: أن تغيير المنكر بالنسبة للمنكرات العامة إنما يقع على جهة ولي الأمر، وهو المطلوب من أن يغير المنكر، فإذا لم يغير أثم، لكن أنت لزمك أن تبلغ، فإذا لم يقبل تبليغك فقد برئت ذمتك، أما أن تذهب وتقول: أنا بلغت وما غيروا، إذن أنا أغير، لا.
إذاً تقع في المنكر ولا يجوز لك.
إذا كنت في بيتك غير بيدك؛ لأن بيتك مملكتك، إذا كان في بيتك منكراً من يمنعك أن تغير بيدك؟ لكن الشارع ليس ملكك، والمحلات العامة ليست ملكك، والإدارات ليست ملكك، بلغ ولي الأمر، والجهة التي أنيط بها هذا الأمر، فإن لم تستطع بيدك وهذا الذي يحصل فبلسانك، وهذا الذي نستطيعه.
الأسلوب الثاني: باللسان.
ولكن بالحكمة والموعظة الحسنة والكلمة الطيبة، لا أن تمر على مرتكب المنكر وأنت محدق في عيونه كأنك تريد أن تأكله، حتى ذلك يظن أنك لا تريد أن تهديه، ولكن يظنك عدواً له، ولكن ابتسم له حتى ولو لم تكن صادقاً ولكن من أجل أن تدخل قلبه، فالابتسامة هذه مثل البنج للمريض، فالذي يريد أن يضرب إبرة للمريض ماذا يصنع؟ يضع له بنجاً حتى لا يشعر بدخول الإبرة.
فكذلك أنت تريد أن تدخل الإيمان إلى قلب هذا العاصي، فتجيء وتقول له: أنت عاصٍ، وصاحب منكر، وما فيك خير، يقول لك: وأنت ما فيك خير، ويقوم ليضاربك، لكن إذا أتيته وقلت له: السلام عليكم، كيف حالك يا أخي؟ بارك الله فيك، الله يوفقك، الله يرشدك، أنت من أهل الخير، ووجهك مملوء بالإيمان، حتى ولو كنت لست بصادق، أقل شيء يقول لك إذا دعيته: جزاك الله خيراً.
وهنا قلت الكلمة وانتهى منها، ويجيء الثاني ويقولها، ويجيء الثالث ويقولها، ويجيء الرابع، فيقول صاحب المنكر: الناس كلهم يقولون بأني على منكر، أما أستحي؟ فيستحي ويترك المنكر.
الأسلوب الثالث: بالقلب.
إذا لم تستطع عند العجز فبقلبك، إذا أنكرت بقلبك عند العجز برئت ذمتك، مهما كانت المنكرات والله يعلم أنك تكرهها ولا تحبها، ولو كان بيدك إنكارها لأنكرتها، فإن الله عز وجل يعفيك عن مسئوليتها ولا يلحقك من جهتها إثم.
حسناً ما موقفك تجاه ولي الأمر؟ هنا -أيها الإخوة- مكمن الخطورة، في أن بعض الشباب لا يعرف منهج أهل السنة والجماعة في قضية التعامل مع أولي الأمر.
قضية التعامل مع ولي الأمر قضية مهمة، وأصل من أصول أهل السنة والجماعة؛ قرروه وأكدوه، وما من كتاب من كتب السنة التي ألفها العلماء والمحققون من أهل السنة إلا وفيها باب: طاعة ولاة الأمور.
لماذا يقيدون طاعة ولي الأمر: هل لأن الأئمة يريدون من ولي الأمر مالاً، أو منصباً أو شهادة أو أي شيء؟ لا.
لكنهم يتعاملون معه من منطلق الشرع، وأصول أهل السنة والجماعة؛ لأن قضية التعامل مع الولي لا تحكمها المصلحة والمنفعة، ولا قضية الحب ولا الكراهية، فبعض الناس يقول: أنا أكره ولي الأمر أو أنا أحبه، أو أنا ما لقيت منه شيئاً، فمسألة تحبه أو تكرهه أمر يخصك، سواء أعطاك أو منعك هذا لك، لكن نحن نطالبك بما طالبت به الشريعة، فقد طالبت الشريعة بثلاثة أشياء تجاه ولي الأمر: الأول: مطلوب منك إن كنت صاحب هدى وسنة أن تدعو له، يقول الإمام أبو الحسن محمد بن علي البربهاري وهو عالم من أئمة أهل الس(102/16)
آداب حامل القرآن
أنزل الله القرآن ليكون مصدر تشريع ومنهج حياة ولكن لابد لهذا الدستور ممن يحمله، ومن ثم لابد لهذا الحامل من التحلي بصفات وآداب تخوله القيام بهذا الواجب على أكمل وجه، وقد وردت هذه الآداب والأخلاق في هذه المادة بشيء من التفصيل.(103/1)
شرح القصيدة البائية للإمام الصنعاني
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: اللهم اجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً، واجعل تفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تبق معنا ولا منا ولا فينا ولا إلينا شقياً ولا محروماً؛ إنك أنت أرحم الراحمين.
يقول الإمام الصنعاني في قصيدته البائية: يتحدث فيها عن كتاب الله عَزَّ وَجَلّ ويقول:
أما آن عما أنت فيه متاب وهل لك من بعد البعاد إياب
تقضت بك الأعمار في غير طاعةٍ سوى عمل ترضاه وهو سراب(103/2)
التوبة قبل الندم
يخاطب المكلفين ويقول لهم: أمْا آن لكم أن تتوبوا إلى الله، لماذا يسوِّف الإنسان؟ ولماذا يماطل؟ ولماذا يؤخر التوبة؟ وهو لا يستفيد من هذا التطويل أو هذه المماطلة، أو هذا التأخير إلا ضرر على المستويين إما أنه يزيد من المعاصي، أو يفاجئ بالموت فيخسر الدنيا والآخرة.
يقول: لِمَ تؤخر التوبة؟ أما آن لما أنت فيه، ووقعت فيه من الذنوب والمخالفات والمعاصي أن تتوب منها؟ إلى متى وأنت عاصٍ أيها الإنسان؟! هل قررت أن تعيش هذه الحياة للمعاصي؟ زودك الله عز وجل بالسمع والبصر والفؤاد للتتعرف بهذه الحواس عليه، فاستعملتها فيما يغضبه، يقول الله تعالى: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ} [الأحقاف:26] {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:78] إن وسائل الإدراك هذه التي أعطاها الله لك من أجل أن تتعرف عليه وتشكره عليها لا من أجل أن تحاربه بها.
ولذا من استعملها في الغرض التي خلقها الله له سعد بها، ومن استعملها في الضرر والمعاصي قال الله عَزَّ وَجَلّ فيه: {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ} [الأحقاف:26].
فيخاطب العقلاء ويقول:
أما آن عما أنت فيه متاب وهل لك من بعد البعاد إياب
تقضت بك الأعمار
انصرمت بك الليالي، وذهبت الشهور، ومرت الدهور والأعوام، وأنت على ما أنت عليه فلم تتغير، تقضت بك الأعمار من غير طاعة سوى عمل تتصور أنه ينفع وترضاه وهو سراب.
ثم يقول:
ولم يبق للراجي سلامة دينه سوى عزلةٍ فيها الجليس كتاب
كتابٌ حوى كل العلوم وكل حواه من العلم الشريف صواب
فإن رمت تاريخاً رأيت عجائباً ترى آدم مذ كان وهو تراب
إذا رأيت التاريخ ارجع فيه إلى السجل التاريخي، فالقرآن سجل بشري للعالم منذ خلق الله آدم إلى يومنا هذا، ثم قال في النهاية:
ففيه الدواء من كل داءٍ فثق به فوالله ما عنه ينوب كتاب(103/3)
القرآن الكريم منة الله على الأمة
يقول الله عَزَّ وَجَلّ: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر:21] لو خُوطب بهذا الكتاب الجبال الرواسي لرأيتها خاشعة متصدعة من خشية الله، وأنت قلبك أقسى من الجبل، وأعظم صلابة من الجبال الشم الرواسي، تهجر القرآن وترفضه وتعرض عنه وتدير مؤشر المذياع منه إلى غيره، وقد ورد في بعض الآثار أن العبد إذا وقف في صلاته وصرف بصره أو قلبه عن الله قال الله: (أإلى خير مني) أي: أين تذهب بقلبك وأنت بين يدي؟ قال الله: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر:21] {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29] {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42].
يقول الحارث الأعور -وقد خرج وسمع الناس يخوضون في حديث رواه الترمذي، والحديث فيه مقال ولكنه يستشهد به- قال: فحدثت علي بن أبي طالب فقال: أوقد فعلوها؟ قلت: نعم.
قال: إني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (إنها ستكون فتنة، فقلت: فما المخرج منها يا رسول الله! قال: كتاب الله، فيه حكم ما بينكم، ونبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أذله الله، هو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، من قال به صدق، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم، ومن حكم به عدل، وهو الذي لا يشبع منه العلماء، ولا يبلى على كثرة الرد، ولا تلتبس به الألسن، وهو الذي ما سمعت به الجن حتى قالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ} [الجن: 1 - 2]).
هذا الكتاب الكريم العظيم الذي يقول الله فيه مخاطباً عقول الناس، يقول: أو لم يكفهم يا محمد دلالةً عليك وعلى صدق رسالتك أنا أنزلنا عليهم الكتاب؟ {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت:51] أليس في هذا الكتاب دلالة واضحة كافية معجزة وباقية بقاء الليل والنهار إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؟!! هذا الكتاب العظيم يوم القيامة يتقدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشكوى، يشكو فيها من أعرض عن هذا الكتاب وهجره، ويقول كما قال الله عَزَّ وَجَلّ في سورة الفرقان: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} [الفرقان:30].
الله أكبر! كم هو عظيم يا أخي أن تكون يوم القيامة ممن يعزل ويصبح مما يشتكى به أمام الله، وأنك اتخذت كتاب الله مهجوراً، نور أنزله الله لك لتسير على هديه، كما قال الله عَزَّ وَجَلّ: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} [الشورى:52 - 53].(103/4)
هجر القرآن والإعراض عنه
إن هجر القرآن والإعراض عنه، وعدم تعلمه وتعليمه، وعدم العمل به، كل هذا من أسباب الدمار، ومن أسباب عذاب القبر؛ لأن المعاصي الكبيرة يرتب الله عليها عذاباً في الدنيا والآخرة، ومن ضمن المهالك الكبيرة التي توعد الله عَزَّ وَجَلّ أصحابها بالعذاب: هجر القرآن والإعراض عنه.
وفي هذه الليلة نذكر لكم حديثاً في صحيح البخاري وهذا الحديث الذي معنا في موضوع أسباب عذاب القبر هو حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه، والذي فيه: أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انطلق مع اثنين من الملائكة، ثم سار معهم ورأى مناظر ومشاهد مما يحصل للمعذبين في دار البرزخ في القبور، ومن ضمن ما رأى (رأى رجلين: رجلٌ مستلقٍ على قفاه -أي: على ظهره- وآخر واقفٌ على رأسه ومعه حجرٌ كبير يحمل الحجر فيرضخ به رأسه، ثم يتدهده هذا الحجر، فيذهب هذا الرجل ويأتي به فلا يعود إلى صاحبه إلا وقد أعاد الله رأسه كما كان فيضربه الضربة الثانية ويتدهده الحجر -وهكذا-).
أي: أنه يرضخ رأسه والله يعيده، فتعجب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من هذا المنظر وقال: (ما هذا؟ -ما هو سبب هذه المصيبة العظيمة؟ فقالا له: انطلق انطلق، قال: فانطلقنا -وفي نهاية الرحلة أخبراه- فقالا له: أما الرجلان المستلقي على قفاه والآخر يضرب رأسه ويرضخ رأسه في الحجر: هو الرجل يعلمه الله القرآن ثم ينام عنه في الليل ولا يعمل به في النهار).
إذاً: ينام عن القرآن في الليل، ولا يتشرف بأن يقوم لله عَزَّ وَجَلّ ولو بركعتين في جوف الليل، وتعرفون منزلة القيام، فالقيام: هو المطية التي يمتطيها أهل الآخرة إلى الله عَزَّ وَجَلّ إذا نام الغافلون: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} [الإسراء:79].
وقال تعالى: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات:17] * {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:18].
وقال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة:16] وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ركعتان في جوف الليل خير من الدنيا وما عليها).
وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ينزل ربنا في الثلث الأخير من الليل نزولاً يليق بجلاله فيقول: هل من سائلٍ فأعطيه سؤله، هل من تائبٍ فأتوب عليه، هل من مستغفرٍ فأغفر له) فمن صادفها ولقيها فهنيئاً له؛ لأن قيام الليل مركب الصالحين، وهو ضمان لأداء صلاة الفجر، إذ أن الذي يقوم الليل لا يمكن أن يضيع صلاة الفجر إلا إذا كان مخذولاً لعب عليه الشيطان وأقامه في الليل، ثم نام بعد قيام الليل وأضاع صلاة الفجر، فهذا من لعب الشيطان على الإنسان أن يقيمك للقيام ويضيعك عن الفريضة؛ لأن الفريضة أهم عند الله في الميزان من النافلة: (فهو الرجل ينام عن القرآن في الليل، ولا يعمل به في النهار) أي: لا يتخلق بأخلاق القرآن ويسير في الطرق التي حرمها القرآن، ولا يسير في الأوامر التي أمر بها القرآن، فالقرآن مهجورٌ في قلبه، مهجورٌ بالتلاوة، ومهجورٌ بالتدبر، ومهجورٌ بالعمل، ومهجورٌ بالانصياع والانقياد، ومهجور بالحكم والتحاكم، فقد هجر القرآن من كل جانب، ويوم القيامة يكون خصمه القرآن، ومن كان خصمه القرآن قهره، كما جاء في الحديث: (واجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهلك وخاصتك).
إن القرآن يأتي يحاج صاحبه يوم القيامة أو يحاج له، فإن كان من أهله يحاج عنه حتى يدخله الجنة، وإن كان ليس من أهل القرآن، فإنه يحاجه عن كل معصية عملها ويقول له: لماذا عملتها وأنا في جوفك وقد قلت لك، ثم يحاجه حتى يدخله النار والعياذ بالله، وإن شاء الله سوف نذكر شيئاً من التفصيل في بعض الأشياء المتعلقة بكتاب الله عَزَّ وَجَلّ.
قال الله عَزَّ وَجَلّ: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر:29 - 30] وهذه الآية يسميها المفسرون: آية القراء وهي آية في سورة فاطر.
يتلون كتاب الله أي: يملئون حياتهم به؛ لأن ما يعانيه الناس اليوم من جفافٍ في القلوب وقسوة؛ سببه هجر القرآن، وعدم تلاوة القرآن، وأنتم تعرفون إذا دخل رمضان وأقبل الناس على القرآن، وبدأ كل واحد يقرأ، تدخل المسجد وتجد الناس لهم دوي في التلاوة، وتجد الشخص في المكتبة يقرأ، وقبل الصلاة يقرأ، وبعد الصلاة يقرأ، وفي الليل يقرأ، كيف تتحول أخلاق الناس؟ أما ترون أثراً في سلوك الناس، وليناً في قلوبهم، واستقامة في حياتهم، وصفاءً في أرواحهم بسبب القرآن؟ فإذا انتهى رمضان ودعوا المصاحف وعادوا إلى حياتهم، فيأتي بعدها قسوة القلوب والهجر للقرآن وهجر المساجد ونسيان الآخرة، وعدم ذكر الله عَزَّ وَجَلّ.
فما من مشكلة يعاني منها الناس اليوم إلا وسببها هجر القرآن، هل يمكن للإنسان التالي لكتاب الله أن يزني؟! أن يغني؟! أن ينظر إلى الحرام؟! فالقرآن حاجز بينك وبين المعاصي، فإذا هجرت القرآن استغل الشيطان الفراغ، وملأه بالمعاصي والعصيان، ولذلك يقول سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ} [الكهف:27] ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اقرءوا القرآن فإنه يأتي شفيعاً لأصحابه يوم القيامة).
فهذه آية القراء فيها وعدٌ عظيم، وبشرى عظيمة: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [فاطر:29] يرجون، أي: يأملون ويرغبون بالتجارة مع الله، الذي من تاجر معه ربح.
(لن تبور) لن.
يسميها علماء اللغة: لن الأبدية الزمخشرية، فتجارتك لا تبور مع الله أبداً، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والحرف من القرآن بعشرة أمثاله إلى سبعمائة ضعف، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا أقول: (ألم) حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف) هذه تجارة رابحة مع الله، لا تبور ولا تخرب ولا تتعرض أبداً لأي خسارة؛ لأنك تتاجر مع غني، والذي يتاجر مع الغني لا يخسر، كل التجارات معرضة للربح والخسارة إلا التجارة مع الله، فإنها تجارة رابحة، قال الله عَزَّ وَجَلّ وهو يبين تفاصيل التجارة: {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ} [فاطر:30] أي: يعطيهم ثواب أعمالهم، وهذا كافٍ، إن التجارة الرابحة هي أن تجعل ثمناً لعملك.
وقال عز وجل: {وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر:30] يزيدك من فضله وفضل الله واسع، ففضل الله عظيم إذا ما تعرضت لفضله.(103/5)
أحاديث في فضل تعليم القرآن وتعلمه
عن عثمان والحديث في البخاري ومسلم قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) أي أن أشرفكم وأعلاكم منزلةً وأعظمكم مكانة عند الله في الدنيا والآخرة: من تعلم هذا القرآن أو علمه.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الذي يقرأ القرآن وهو ماهرٌ به مع السفرة الكرام البررة) فالذي ليس عنده صعوبة فيه، وطوع نفسه ولسانه، وأمضى جهداً كبيراً في سبيل تذليل عقبة الهضم والإجادة لكتاب الله على الطريقة الشرعية بالتجويد حتى أصبح ماهراً فيه، هذه هي منزلته عند الله عز وجل.
وعنها قالت: قال عليه الصلاة والسلام: (الذي يقرأ القرآن وهو ماهرٌ به مع السفرة الملائكة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن وهو يتعتع فيه وهو عليه شاقٌ له أجران).
وهنا وقفة بسيطة حتى لا يتصور بعض الناس الذين يتعتعون في القرآن أن هنالك أجرين إذا كان هناك تعتعة، قال العلماء: إن التعتعة هذه التي يعاني منها الإنسان وله فيها أجرين، هي التي تكون أثناء تعلم العلم، أو أثناء تحسين وضعك في التلاوة، تجلس إلى العلماء وأنت تتعتع ويردك العالم فتذهب وتذاكر، ثم يردك فتذاكر، وهكذا حتى تصبح ماهراً، فأثناء فترة التعليم لك أجران: أجر المشقة، وأجر التلاوة، أما شخص لا يتعلم القرآن ولا يجوده، بل يلحن فيه اللحن الجلي، وإذا قلت له: يا أخي! اتقِ الله، واطلب العلم، واجلس مع العلماء ومع المشايخ ومع القراء قال: أريد أجرين، فهذا ليس له أجران؛ لأنه مهمل ولا يريد أن يقرأ القرآن كما أمر الله، وقد قال الله عز وجل: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} [المزمل:4].
لما سئل علي رضي الله عنه عن الترتيل قال: [هو إخراج الحروف، ومعرفة الوقوف] فتعرف كيف تقف، وكيف تبدأ، وتخرج الحرف من مخرجه الشرعي.
أما أن تقف على ما تريد، وتخرج كما تريد، فترفع المنصوب، وتنصب المرفوع، وتقول: إن لك أجراً فلا، بل ربما يكون عليك وزر العياذ بالله.
والحديث أيضاً رواه البخاري ومسلم في الصحيحين، وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة بلفظ: (من يقرأ القرآن وهو ما هرٌ به).(103/6)
الفرق بين قارئ القرآن وغيره
أيضاً روى البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي بسند صحيح عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجه، ريحها طيب وطعمها طيب) والأترجه: فاكهة من فواكه الدنيا، لكنها غير موجودة عندنا، وقدر لي قبل أيام كنت فيها في زيارة للدعوة إلى منطقة العلا ومنطقة العلا تبعد عن المدينة المنورة بـ (400) كيلو متر، فلما دخلت على الأخ الذي دعاني للكلمة في بيته قبل صلاة الظهر وإذا بشجرة كبيرة جداً في داخل الفناء، والفناء مملوء بالأشجار؛ لأن عندهم مياه غزيرة وأرضهم أرض طيبة، فعندهم النخيل وأكثر الحمضيات، فلما دخلت وإذا بي أرى هذه الشجرة العظيمة ذات الأوراق العريضة وفيها ثمار صفراء اللون كبيرة جداً مثل أكبر كرة، فقلت له: ما هذا؟ قال: هذه الأترجة التي في الحديث، قلت: بشرني لعلها ناضجة، فإني أريد أن أكل منها، قال: على أحسن وضع، فأتى إلي بحبة كبيرة فأوصلها إلى أهله فقطعوها وقشروها كمثل الأناناس، وذروا عليها قليلاً من السكر، وجاء بها وأكلنا منها، فكان طعمها وريحها من أروع ما يمكن؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (طعمها طيب وريحها طيب) فشممت رائحتها وإذا بها من أزكى الروائح.
هذا مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن طعمه طيب، وريحه الذي يخرج على الناس هو أثره وسلوكه الطيب.
القسم الثاني: قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن) وهو المؤمن الذي يقف عند حدود الله، ولا يمكن أن يقع في معصية، ولا يمكن أن يدع لله أمراً، ولكنه مسكين، ما قرأ القرآن ولا تعلم: (مثله كمثل التمرة، لا ريح لها وطعمها حلو) فإذا أتيت إليه تجده صاحب ريح طيب، أي: صاحب إيمان، ولكن لا تنبعث منه رائحة تنفع الناس عن طريق قراءة القرآن، وتعليم القرآن والدعوة إليه.
قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر) إذا سمعت كلامه تقول: ما شاء الله هذا قارئ مجود، لكن إذا دخلت إلى قلبه وفتشت في خصائصه، وبحثت عن طعمه إذا به علقم مر يؤذيك، فإن هذا الصنف لا ينفعه الريح، فإن الريح في الدنيا فقط، لكن الطعم هو الذي ينفع في الآخرة.
وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة طعمه مر وريحه خبيث) والحنظل شجر ينبت في الأرض ليس له أغصان يقوم عليها، وإنما يثمر ثمرة مثل الليمون الكبير، إذا فتحته وذقته كان طعمه مراً أمر من العلقم، فهذا مثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن، وهذا الحديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة، أي: رواه أصحاب الكتب الستة.(103/7)
القرآن عزة لأقوام ذلة لآخرين
عن عمر بن الخطاب رضي عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن الله تعالى ليرفع بهذا القرآن أقواماً ويضع به آخرين) إن هذا القرآن عزة لأقوام وأيضاً يوضع به آخرين، فيرفع به من يحمله، ومن يعمل به ويجعله أمامه وإمامه، ويوضع به من أعرض عنه واستدبره، ومن لم يقف عند حدوده، ولا عند أوامره ولا زواجره ولا نواهيه، وهذا الحديث رواه الإمام مسلم في صحيحه.
وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول (اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه) وهذا الحديث أخرجه الإمام مسلم في صحيحه.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (لا حسد) أي: لا غبطة، لا تغبط أحداً في الدنيا على شيء: (إلا في اثنتين) وليس حسداً تتمني به زوال النعمة؛ لأن الحسد في الشرع ممقوت، وهو: تمني زوال النعمة عن المُنعم عليه، ولكن الحسد المشروع هو: الغبطة، أن تغتبط بما عند الناس، وتتمنى أن يكون لك مثلهم دون أن يزيل الله نعمهم، فلا تغبط أحداً ولا تتمنى أن يكون لك مثل ما عنده إلا في اثنتين: الأولى: (رجل آتاه الله القرآن، فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار -في الليل يقرأ القرآن ويصلي به، وفي النهار يعمل به ويطبقه- ورجلٌ آخر آتاه الله مالاً -فتح الله عليه الدنيا- فهو ينفقه في سبيل الله آناء الليل وآناء النهار) فهذا تغبطه وتتمنى من الله أن يعطيك مثل ما عنده، وإذا أعطاك الله عَزَّ وَجَلّ فخير، وإن لم يعطك أعطاك الله بنيتك، تأتي يوم القيامة وأنت في منزلة صاحب المال؛ لأن الناس أربعة كما جاء في الحديث: (الناس أربعه: رجل آتاه الله مالاً وعلماً، فأنفقه على هلكته في الخير، فهو في أرفع المنازل، ورجل آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً فهو يقول: لو أن عندي مالاً لصنعت به مثل ما يصنع به فلان فهو في منزلته، وهما في الأجر سواء، ورجل آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً فأنفقه في وجوه الشر، فهو في أخبث المنازل، ورجلٌ ما آتاه الله علماً ولا مالاً فهو يقول: لو أن عندي مالاً لصنعت به مثل فلان، فهو في منزلته، وهما في الإثم سواء).
وهذا الحديث أيضاً رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجلٌ آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار).(103/8)
قراءة القرآن كنز من الحسنات
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (من قرأ حرفاً من كتاب الله فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: (ألم) حرف، ولكن (أ) حرف، و (ل) حرف، و (م) حرف) والحديث رواه أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي وقال: حديثٌ حسن صحيح.
هذا الحديث فيه بشرى عظيمة لمن يقرأ القرآن، فبإمكانك أن تدخل المسجد وتقرأ وتخرج وأنت مليونير حسنات، فإذا كانت سورة الفاتحة فيها (150) حرفاً إذا قرأتها مرةً سجَّل الله لك في موازينك (1500) حسنة، وهذه أصغر سورة في القرآن هي (الإخلاص) فيها (66) حرفاً، إذا قرأتها سجل الله لك (660) حسنة، وأنا قرأت مرة صفحة من الصفحات وعددت حروفها، وكانت من الصفحات التي فيها (15) سطراً فوجدت في الصفحة الواحدة أكثر من (450) حرفاً، اضربها في عشرة ستكون (4500) حسنة، من يترك هذه التجارة؟ والله لا يتركها إلا خاسر، تقرأ الجريدة أو المجلة والقرآن عندك؟!! مد يدك إلى القرآن واقرأ وتاجر تجارة رابحة مع الله، حتى تكون عبداً ربانياً بإذن الله عز وجل.
وفي الحديث الذي رواه الترمذي وقال: حديث حسن، وقد وافقه النووي في تحسينه، قال: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (يقول الله عَزَّ وَجَلَ: من شغله القرآن وذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين، وفضل كلام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على سائر الكلام كفضل الله تعالى على سائر خلقه).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن الذي ليس في جوفه شيءٌ من القرآن كالبيت الخرب) والتشبيه هنا تشبيهٌ رائع؛ لأن الذي لا يحفظ شيئاً من القرآن شبهه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالبيت الخرب، والبيت الخرب الذي لا يعمر لا يمكن أن يسكن فيه أحد، فيعمره الغربان والبوم والحيوانات السائبة، ويدخل فيه الناس لقضاء الحاجة، وكذلك القلب الذي ليس فيه شيء من القرآن كالبيت الخرب الذي لا تنزله الملائكة ولا الرحمة، فيسكن فيه الشياطين تتغوط فيه وتتبول.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها).
وقد اختلف العلماء هنا في معنى (آخر آية تقرؤها) هل هي آخر آية تحفظها؟ أم هي آخر آية تتقن قراءتها وتقرأها باستمرار؟ فقال بعضهم: إن منزلتك عند آخر آية تحفظها من القرآن الكريم؛ ليتم بهذا التفاضل بين من يحفظ القرآن وبين من لا يحفظه؛ لأن حفظ القرآن من أعظم المنازل ومن أعظم الدرجات، يقول الله عَزَّ وَجَلّ: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49] ويقول عليه الصلاة والسلام: (إن أناجيل أمتي في صدورهم) أي: القرآن معهم في صدورهم.
وقال بعض العلماء: لا.
إن فضل الله واسع، والحديث رواه أبو داود والترمذي والنسائي وقال: حديثٌ حسن صحيح، لم يتضمن الحفظ وإنما تضمن القراءة، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها أي: عند آخر آية تتقن قراءتها ولو بالنظر، ففضل الله واسع، فالذي يقرأ القرآن كله وهو ماهر به يقال له يوم القيامة: اقرأ من أول القرآن إلى آخره، وآخر منزلة لك في الجنة عند آخر آية تقرؤها.
وعن معاذ بن أنس رضي الله عنه، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (من قرأ القرآن وعمل بما فيه) وهذه بشرى للآباء الذين يوفقهم الله لإلحاق أبنائهم بمدارس القرآن، سواءً الرسمية أو الخيرية، وبشرى للأبناء الذين يحفظون القرآن ثم يوفقون للعمل به، أما الذي يحفظ ولا يعمل، فهذه لعنة في جبينه والعياذ بالله، وهنا شرط يقول: (من قرأ القرآن وعمل بما فيه ألبس الله والديه تاجاً يوم القيامة ضوءه أحسن من ضوء الشمس في بيوت الدنيا) فما ظنكم بمن عمل بهذا، وهذا الحديث رواه الحافظ أبو داود.(103/9)
فضائل قارئ القرآن
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (اقرءوا القرآن فإن الله تعالى لا يعذب يوم القيامة قلباً وعى القرآن) فالله لا يعذب قلباً يعي القرآن الكريم: (وإن هذا القرآن مأدبة الله -أي: الوليمة، والضيافة التي جعلها الله لعباده- فمن دخل فيه فهو آمن، ومن أحب القرآن فليبشر) فإذا أردت أن تعرف منزلتك عند الله فاعرف منزلة القرآن في قلبك، إن كنت تسمع القرآن فتفرح به وتستأنس فاعلم أن الله يحبك، وإن كانت الأخرى، وهي إنك إذا سمعت القرآن انقبضت أو سمعت الذكر أعرضت عنه: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف:36] فاعلم أن الله يبغض الأخرى والعياذ بالله، وهذا الحديث رواه الدارمي بإسناده.
وعن الحميدي قال: سألت سفيان الثوري عن الرجل يغزو أحب إليك أو يقرأ القرآن؟ قال: يقرأ القرآن لحديث البخاري ومسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) ولكن يوفق ابن القيم رحمه الله ويقابل بين هذا الحديث وبين حديث معاذ بن جبل (الجهاد في سبيل الله ذروة سنام الإسلام) -فهي أعلى مكانة- فيقول: لا شك أن المجاهد في سبيل الله في أرفع المنازل، ولكن إذا جمع مع منزلة الجهاد منزلة القرآن كان في أعلى شيء، ولكن الذي يقرأ القرآن أفضل من الذي لا يجاهد، والذي يجاهد أفضل من الذي لا يقرأ القرآن، والذي يقرأ القرآن ويجاهد أفضل من الذي يقرأ القرآن ولا يجاهد، هذا نوع من التفضيل، والتفاضل بين الأعمال بحسب قوة الأدلة وبحسب مدلولاتها الشرعية.
وثبت أيضاً في الحديث الذي رواه مسلم -وفي هذا تفضيل وترجيح لأهل القرآن- قال عليه الصلاة والسلام: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله تعالى) فدل الحديث على أن أهل القرآن مفضلين، ودليل تفضيلهم أن أقرأهم هو الذي يؤمهم في الصلاة، إذ لا يمكن أن يؤم القوم في الصلاة ويتقدم بهم إلا أفضلهم ديناً وقرآناً وعلماً وسلوكاً.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما، والحديث رواه الإمام البخاري في صحيحه قال: [كان القراء أصحاب مجلس عمر وأهل مشورته] كان لا يجالس إلا أهل القرآن ويشاورهم، وقال الإمام النووي: واعلم أن المذهب المختار الذي عليه اعتماد أكثر العلماء.
أن قراءة القرآن أفضل عند الله في الميزان من التسبيح والتهليل وغيرهما من سائر الأذكار.
وقد ورد في الشرع الحث على إكرام صاحب القرآن، ففي الحديث الذي رواه أبو داود وهو حديث حسن، قال: عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن) إذا عظمت وأجللت ذا الشيبة المسلم وقدمته وأكرمته وقربته واحترمته، فإنك تجل بهذا وتكرم الله عَزَّ وَجَلّ؛ لأن ما من مسلمٍ يشيب شيبة في الإسلام إلا كانت له نوراً على الصراط يوم القيامة، معنى هذا أن له خبرة وله أقدمية في خدمة الدين، ولذا كان له منزلة، وهذا واقع لدى كل الناس حتى في الدوائر الحكومية، فالذي عنده خبرة طويلة يكون له منزلة في الإدارة، ويكون له منزلة في العمل، فيقدم ويرقى ويعطى فرص أكثر؛ لأنه قديم وعنده خبرة طويلة، كذلك الشيبة المسلم الذي عنده أقدمية وأهلية كبيرة وقدم راسخة في الدين حتى شاب رأسه في دين الله، فهذا يقدم ولكن متى؟ هل الشيبة المسلم الطائع، أما الشيبة المسلم الفاجر والعياذ بالله، فهذا ممن لا ينظر الله إليه يوم القيامة، ففي الحديث: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، منهم: شيخ زانٍ) وفي بعض الروايات: (أُشيمط زانٍ) أي: عمره ستين سنة أو سبعين سنة وهو لا يزال ينظر في النساء ويتتبعهن، ويتمنى الزنا، بل إن بعضهم شيخ كبير ويسافر إلى الخارج ليزني والعياذ بالله.
فالشيبة المسلم التقي الورع الملتزم يجب أن تكرمه، لكن كيف تعرف أنه شيبة؟ بعضهم لا تعرف أنه شيبه؛ لأنه يحلق لحيته فكيف تدري أنه شيبة؟ وبعضهم ينتف الشيب، كلما ظهرت شعرة بيضاء انتزعها لا يريدها حتى لا يقال: إنه شيبة، وبعضهم إذا كثر الشيب لا يستطيع أن ينتفه كله، فيصبغه بالسواد وكلما صبغ وجهه بالسواد وجلس يومين أو ثلاث أيام ظهرت الشعر الأبيض فيصبغها.
وهناك حديث كنت متوقفاً عنه ولكن بعد أن راجعته عليه ظهر لي أنه صحيح، أخرجه وذكره الإمام السيوطي في صحيح الجامع قال: (يأتي أقوام آخر الزمان يصبغون لحاهم بالسواد كحواصل الطير لا يدخلون الجنة ولا يجدون ريحها).
الأمر ليس سهلاً فلا تسود وجهك يا أخي! فيسود الله وجهك في الدنيا والآخرة، اترك الشيب في وجهك وإذا أردت تغييره فغيره بما جاءت به السنة بالحناء والكتم، والكتم موجود، تطحنه ثم تخلطه مع الحناء فتخضب به لحيتك.
أما أن تصبغ وجهك بالسواد من أجل أن تخدع النساء وتخدع الناس وتخدع نفسك، وتقول: أنا شاب وأنت شايب فهذا لا ينبغي.
ولذا قال العلماء: من صبغ وجهه بالسواد ثم خطب امرأة وقبلته بناءً على ما رأت من ظاهره، ثم بعد ذلك اكتشفت أن شيباً فيه فإن لها فسخ العقد، وله أن يطلقها بالقوة؛ لأنه بنى عقده على غرر وخداع وكذب، فاترك الشيب في وجهك يا أخي!
الشيب في رأس الفتى لوقاره فإذا تعلاه المشيب توقرا
فإن من إكرام الله إكرام الرجل ذي الشيبة المسلم، وإكرام حامل القرآن غير الغالي فيه أو الجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط، وهو الرجل الذي مكنه الله بسلطته، والسلطة لا نتصور أنها على مستويات سلطة الملك أو الوزير، لا.
السلطة مقسمة من الملك إلى آخر مسئول في الدولة، فكل شخص يلي أمر المسلمين ولو أمر اثنين، لو كنت رئيس قسم وعندك اثنان، أو مدير مدرسة وعندك خمسة مدرسين، أو كاتب وعندك كاتب آخر، فأنت مسئول ولديك سلطة يجب أن تكون عادلاً فيها، فإذا كنت ذا سلطة في أي مستوى وعدلت في هذا الأمر ينبغي إكرامك؛ لأن إكرامك إكرام لله عَزَّ وَجَلّ.
وعن جابر رضي الله عنه (أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يجمع بين الرجلين في قتلى بدر وأحد ثم يقول: أيهما أكثر أخذاً للقرآن، فإن أشير إلى أحدهما قدمه وجعله الأول في اللحد)؛ لأنه الأقرب إلى الله عَزَّ وَجَلّ.(103/10)
من آداب حامل القرآن
هناك آداب لحامل القرآن ينبغي مراعاتها.(103/11)
حامل القرآن والتحلي بأكرم الصفات والشمائل
ينبغي لحامل القرآن أن يكون على أكمل الأحوال وأكرم الصفات والشمائل، ما دمت من أهل القرآن فأنت قرآن يمشي، وعليك لوحة أنك من أهل القرآن فلا تخرب؛ لأن أي تخريب يأتي منك إنما ينال أثره من الدين، يقولون: انظروا إلى (المطوع).
وأذكر مثالاً: ففي مرة من المرات كنت أريد أن أقطع الشارع لأدخل المسجد لكي أصلي بالناس، وهناك شخص واقف بجواري، فمر شخص في سيارة ولكنه من أهل القرآن ومن أهل الدين إن شاء الله، لديه لحية، فكان مسرعاً يريد أن يدرك الإشارة، فالذي بجواري قال لي: انظر إلى لحيته، فكررها، قلت: ماذا بك؟ قال: انظر إلى لحيته وكيف يسرع؟ قلت: الذي أسرع لحيته أم رجله؟ قال: رجله! قلت: ما ذنب لحيته تحمّلها أثر السرعة، فلحيته لم تنزل تضغط البنزين، رجله هي التي سببت السرعة للسيارة، فقال لي: يا شيخ! هذا (مطوع) الأصل أنه لا يسرع، فقلت له: صدقت! لأن خلق الشاب الملتزم يجب أن يكون معتدلاً حتى في السير، إذا جئت وأردت أن تسير في طريق وهناك شخص يريد أن يقطع الشارع ووقفت له وأشرت إليه بأن يمشي، ونظر إلى وجهك ورأى أثر السنة فيقول: هذا (المطوع) جزاه الله خيراً، انظروا كيف الدين يعلمهم الأخلاق، الدين يعلمهم حتى الأخلاق في السير.
أما إذا شاغلته وزاحمته فيقول: انظروا إلى هذا (المطوع) المعقد، فيصب لعناته على الملتزمين وأنهم معقدون، ورغم أنه قد يكون أمامك أناس زاحموه قبلك ولكن لم يسخط عليهم كما يسخط عليك؛ لأنه ينتظر منك أن تكون صاحب خلق.
كذلك في البيع والشراء: فبعض الناس إذا جاء يبيع ويشتري، والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (رحم الله امرأ سمحاً إذا باع، سمحاً إذ اشترى، سمحاً إذا قضى، سمحاً إذ اقتضى).
هذه دعوة من الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إلى من يتعامل مع الناس أن يكون سمحاً إذا باع، لا تكون شديداً وإذا اشتريت أيضاً لا تبخس صاحب المحل، يقول لك: السلعة بعشرة تقول له: بريالين.
فهذه ليست سماحة في البيع والشراء، إذا فعلت هذا الفعل وأنت شاب ملتزم وملتحٍ فمباشرة هذا الرجل يكره الدين ويقول: لا تبايع (مطوعاً) فتراه يخرج روحك، بينما قد يكون هناك شخص ليس (مطوعاً) وقد بايعه وأخرج روحه فلم يعب عليه، لكن صاحب القرآن عاب عليه لأنه يعتبره قدوة للآخرين.
فإذا أردت أن تشتري فلا تزعج الآخرين، وإذا رأيت السلعة ورغبت بها فخذها وإلا فقل له: بارك الله لك ثم اذهب إلى غيره.
ولذا فاجعل من نفسك قدوة للآخرين، وكن سمحاً إذا اشتريت، وسمحاً إذا بعت، وسمحاً إذا اقتضيت شخصاً لك مال عنده فأردت أن تأخذه منه فلا تضيق عليه في أحرج الظروف، ولا في الفرص الصعبة، فهكذا ينبغي لحامل القرآن أن يكون سمحاً، وأن يتحلى بأحسن الصفات وأكرم الشمائل وأكمل الأحوال؛ ليكون قرآناً يمشي على رجلين، يدعو إلى الله عَزَّ وَجَلّ.(103/12)
حامل القرآن والترفع عن كل ما نهى عنه القرآن
ومن آداب حامل القرآن: أنه ينبغي له أن يرفع نفسه عن كل ما نهى عنه القرآن؛ إجلالاً للقرآن الذي في جوفه.
فلا يصلح لك أن تذهب إلى أماكن الرذيلة؛ لأن في جوفك قرآناً كريماً فلا تهينه، يقول أحد الشباب: هداني الله واهتديت، ودرست القرآن والتزمت وأصبحت في أحسن حالٍ، وفي يومٍ من الأيام وأنا خارج من صلاة العشاء وذاهب إلى البيت سمعت زيراً يطرق وزلفة تنقع -في زواج- يقول: وأنا لي مدة مع الزلفة والزير قبل التزامي، فكنت أذهب إليها ولو كانت على بعد عشرات الكيلوهات، قال: فلما سمعتها استغل الشيطان هذا السماع فدخل في قلبي وفي أذني وفي جوارحي، فأخذت ألعب وأنا في مكاني قبل أن يأتي اللعب، ونسيت أنني قد اهتديت والتزمت، فما وجدت نفسي إلا وأنا أفرّق الصفوف لأدخل.
فأخذت ألعب وأرقص بلحيتي بعد أن خرجت من المسجد، فبعد أن وقفنا لكي نسمع أنشودة جديدة وإذا بشخص يقبص ظهري، فقال: يا فلان! قلت: نعم.
فأخذني إلى خلف الملاعب وقال: يا فلان! إنك قبل وقت قصير كنت تقرأ علينا في المسجد والآن تلعب، انظر شمالاً ويميناً من الذي بجوارك! إنهم السفلة من الناس، فقد كنت في المسجد تقول: قال الله وقال رسوله والآن تلعب؟!! فهذا العمل لا يصلح، إما أن تلعب وتترك الدين لأهله، وإما أن تتمسك بالدين وتسير مع أهله، فوقع كلامه مثل الرصاص في قلبي، فقلت له: صدقت! والله لن ألعب.
يقول: فخرجت إلى البيت وجلست طوال الليل لم يأتِ إليَّ النوم من خوف الله عَزَّ وَجَلّ والبكاء، وأنا أصلي وأبكي وأطلب من الله المغفرة.
لا يليق أن تذهب بالقرآن إلى أماكن الرذيلة؛ لأنك تهين الذي في قلبك، فعليك أن تكرم القرآن، ونعمة والله يا أخي! أن أنعم الله عليك بالقرآن الذي يحول بينك وبين المعاصي؛ لأنه سور حاجز بينك وبين المعاصي، فإذا أعانك شخص على أن تمتنع من المعاصي فهذا خير عظيم.(103/13)
حامل القرآن شريف النفس متواضع للصالحين
ومما ينبغي لحامل القرآن: أن يكون شريف النفس، مترفعاً عن الدنايا، متواضعاً للصالحين، مكرماً للمساكين، وهذا خلق أهل القرآن؛ لأن الله عَزَّ وَجَلّ يقول: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54] لكن بغير القرآن لا.
يصبح الذي ليس عنده قرآن ذليل عند الكفار عزيز عند المؤمنين، فإذا رأى كافراً تراه متذللاً له، وإذا رأى مؤمناً تراه متعالٍ عليه؛ لأنه لا يوجد في قلبه شيء من القرآن، فلو وُجد في قلبه القرآن حقيقةً لتواضع لأهل الإيمان.
وإذا كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو سيد الأولين والآخرين، كان جلساؤه هم الضعفاء والبسطاء والمساكين والمماليك (صهيب الرومي - وبلال الحبشي، وسلمان الفارسي، وابن أم مكتوم الأعمى) ولما جاء في يوم من الأيام وأراد أن يجمع المشركين للجلوس معهم قالوا له: لا نجلس مع العبيد والضعفاء والفقراء، نحن أعزاء وصناديد قريش، فاجعل لنا يوماً ولهم يوماً، فأراد أن يفعل هذا، فقال الله له: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف:28] أي: لا تجلس مع هؤلاء، ولما دخل عليه الأعمى ابن أم مكتوم، عبد الله بن قيس رضي الله عنه، وهو يريد أن يتعلم من الدين، وكان الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مشغولاً في مجلسه مع بعض صناديد قريش طمعاً في هدايتهم، والرجل ينادي ويقول: يا رسول الله! علمني مما علمك الله، ولم يعرف بأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مشغولاً، ولو أنه عرف أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مشغولاً ما تكلم، فكره منه الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الموقف؛ لأنه جاء في وقت غير مناسب وهو مشغول مع هؤلاء، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يطمع أن يجري معهم صفقة الإيمان، حتى إذا أسلموا أسلمت مكة بأسرها، فإنه لم يكن صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مشغولاً بصفقة دنيوية أو بصفقة معاملات، وإنما كان مشغولاً بالدين، ولكن قطّب وعبس ولم يتكلم، أي: كشر فقط، فنزل القرآن من السماء يخطّىء الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويعاتبه ويقول: {عَبَسَ وَتَوَلَّى} [عبس:1] عبس أي: قطب جبينه، لماذا؟ {أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} [عبس:2 - 3] {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى} [عبس:5] فالذي استغنى بماله وسلطته وجاهه من هؤلاء الكفار فأنت له تصدى: {وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى} [عبس:7] أي: وما يضرك سواء أسلم أم لم يسلم، الجنة عندنا لأهل الإيمان، والنار لأهل الكفر والنفاق، لا تحرص على هداهم: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} [النحل:37] {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56] {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى} [عبس:3 - 7] ما لك منه شيء، ثم: {وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى} [عبس:8] أي: الأعمى {وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} [عبس:9 - 10].
ثم قال: {كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} [عبس:11] أي: هذا الموقف وهذا العمل الذي عملته يا محمد تذكرةٌ لك، وتذكرة للأمة من بعدك، أَن الناس لا يوزنون ولا يقاسون ولا يفاضل بينهم بموازين الأرض وإنما بموازين السماء: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] أحب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابن أم مكتوم وعرف منزلته عند الله، فكان إذا دخل عليه وهو لمفرده يفرش له رداءه ويقول له: (أهلاً ومرحباً بمن عاتبني ربي فيه).
وهذا يبين لك أخلاق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنه ليس عنيداً، فلو كان شخصاً آخر لكان أخذها نقطة عليه ويقول: هذا الذي سبب لي المشاكل فينتقم منه، ولكن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يفرش له الفراش ويقول: (أهلاً بمن عاتبني ربي فيه) فعليك أن تكرم المؤمنين وألا تعز الفاجرين؛ لأنك من أهل القرآن.(103/14)
حامل القرآن مظهره ووقاره
وأيضاً ينبغي لحامل القرآن أن يكون مظهره مجللاً بالسكينة والوقار والخشوع، فقد جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فقال: [يا معشر القراء! استبقوا الخيرات، ولا تكون عيالاً على الناس] لأن السكينة التي تظهر الإنسان بالضعف ليست من الدين، والتكبر والتعالي الذي يظهر للناس العظمة هذا أيضاً ليس من الدين، وإنما التواضع في غير ذلة: من سكينة وخشوع ووقار لأن الوقار جزء من سمات المؤمنين.(103/15)
حامل القرآن وقيام الليل
ينبغي لحامل القرآن أيضاً كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: [أن يعرف بليله إذا الناس نائمون -فإذا نام الناس فصاحب القرآن لا ينام معهم- وبنهاره إذا الناس مفطرون، وبحزنه إذا الناس يضحكون، وببكائه إذا الناس يفرحون، وبصمته وخشوعه وسكوته إذا الناس يخوضون، وبخشوعه وتواضعه إذا الناس يختالون ويتكبرون].
فإذا دخلت مجلساً ورأيت فيه رجلاً صامتاً والناس يخوضون فإنما يلقّن الحكمة، وسكوته إذا كان خوضهم في باطل، بل لا ينبغي أن يجلس ولا بد أن ينصرف، لكن إذا خاضوا في أمور مباحة من الدنيا، ليس فيها غيبة ولا نميمة وهو ساكت لضرورة تعرف من صمته ووقاره وخشوعه أنه يلقّن الحكمة؛ لأنه من أهل القرآن.
وعن الحسن رضي الله عنه قال: [إن من كان قبلكم رأوا القرآن رسالةً إليهم من ربهم فكانوا يتدبرونها بالليل ويعملون بها في النهار] لقد كان السلف يرون القرآن تعاليم ربانية ورسائل إلاهية إليهم، فهم يتدبرونها ويراجعونها ويعرفون أحكامها في الليل، وفي النهار يطبقونها في الواقع العملي، هذا هو شأن أهل القرآن.
وقال الفضيل بن عياض: [لا ينبغي لحامل القرآن أن يحتاج إلى أحد غير الله].(103/16)
حامل القرآن وسؤال الناس
قيل: دخل سالم بن عبد الله بن عمر الكعبة فلحقه أحد خلفاء بني أمية وهو داخل الكعبة، فقال له: هل من حاجة يا أبا عبد الله؟! قال: إني أستحي أن أسأل غير الله وأنا في بيته! فسكت عنه، فلما طاف بالبيت وخرج من البيت لحقه، فقال: يا أبا عبد الله! هل لك من حاجة، ها قد خرجت من بيت الله؟ تريد شيئاً قال: أمِن حوائج الدنيا أم من حوائج الآخرة؟ قال: من حوائج الدنيا أما حوائج الآخرة فليس عندنا، قال: والله ما طلبت الدنيا ممن يملكها وهو الله، أفأطلبها منك وأنت لا تملك منها شيئاً فخجل الأمير خجلاً وتركه وولى.
وكان الفضيل بن عياض رضي الله عنه في ليلة من الليالي في بيته، فخرج هارون الرشيد وقال لـ يحيى البرمكي وزيره: اذهب بي إلى عالم من أهل العلم يلين قلبي، فدخل به إلى عالم من العلماء فوعظه وأعطاه مالاً وأخذه ومشى، ثم ذهب إلى آخر فوعظه فأعطاه، ثم أتيا الفضيل فسلما عليه، فرأى يد أمير المؤمنين رطبة، فقال الفضيل: ما أرطب هذه اليد إذا نجت من النار يوم القيامة ثم قال له: عظني فوعظه حتى بكى الخليفة، فقال وزيره: أشفق على أمير المؤمنين، فقال الفضيل: أتقتلونه وأنا أشفق عليه؟! فقال الخليفة: اسكت يا يحيى فسكت! فوعظه ثم وعظه حتى أنه كاد يموت من البكاء، يقول: ثم أعطاه عشرة آلاف درهم فردها إليه وقال: ندله على النجاة، ويدلنا على النار، فتهلل وجه الخليفة من الفضيل وانصرف وهو يثني عليه.
يقول الفضيل بن عياض: لا ينبغي لحامل القرآن أن يكون له حاجة إلى أحدٍ غير الله.
يقول الشاعر:
الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب
لا تسألن بُني آدم حاجةً وسل الذي أبوابه لا تغلق
اسأل ربك في كل شيء، والله عز وجل ينزّل عليك كل شيء، وخذ بالأسباب والدعاء، وإذا أردت أن تنجح ادع الله وذاكر وهكذا، إذا أردت أن تتوظف اطلب الله في الليل، ولكن في الصباح اذهب وتقدم إلى ديوان الخدمة المدنية، أو على أي مؤسسة حكومية، وإذا أردت زوجة اطلب الله واذهب وابحث واخطب، خذ بالأسباب ولا تجلس وتعطل الأسباب وتقول: إني أدعو الله.
وهنا مثال: يذكر أن رجلاً مسكيناً ضاقت عليه سبل الرزق، فكان يذهب كل يوم يبحث عن رزق فلا يجد شيئاً، ولكن الله لا يضيعه فيرسل إليه الرزق، وفي يوم من الأيام لقيه أحد التجار الأثرياء فقال له: أين تعمل؟ قال: ليس عندي عمل، فقال له: من أين تأكل؟ قال له: أبحث عن الرزق فلم أجده، ولكن الله لم يتركني فيرسل إلي رزقاً من عنده! قال له: من أين يأتيك؟ هل ينزل إليك من السماء كيس فيه بر وسمن وعسل؟ قال: الله عَزَّ وَجَلَ على كل شيء قدير، فسخر منه وتوعده وتركه، وبعد يومين عاد إليه التاجر، وقال له: عندي لك شغل، فقال له: نعم، فأدخله التاجر إلى مزرعته وفي المزرعة بئر ليس فيها ماء، وقال له: لقد ضاعت عليَّ صرة في هذه البئر فيها نقود، فلم أستطع إخراجها فأريد أن تنزل في هذه البئر وتأخذ الصرة وتأخذ منها أجرتك، فوافق الرجل.
فأخذ التاجر الحبل وربطه فيه وأنزله إلى البئر، فعندما وصل إلى البئر رمى التاجر بالحبل، وقال له: اجلس مكانك حتى يأتيك من السماء كيس فيه بر وسمن وعسل -من باب النكاية والاستهزاء به- فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون، وذهب التاجر وعاد إلى دكانه، وكان هذا التاجر شديد البخل، وعنده مخازن من الطعام، والمفتاح في جيبه يخرج طعام كل يوم في يومه، ويخرج لامرأته قليلاً من الطحين، وقليلاً من السمن، وقليلاً من اللحم، فكانت المرأة إذا أعطاها شيئاً ادخرت منه شيئاً يسيراً للأيام الطارئة إذا نزل عليهم ضيف، أو يكون غير موجود، فكانت خلال مجموعة من الأيام قد وفّرت كميةً من الدقيق والعسل والسمن، وفي ذلك اليوم الذي جاء التاجر بالعامل وأدخله في البئر تذكرت هي وخادمتها أنها جائعة، فصنعت البر والسمن والعسل، ولكن التاجر طرق الباب والطعام جاهز وهن يأكلن، وإذ بالتاجر يدخل البيت يريد غرضاً، فقالت المرأة: إذا دخل ورأى الأكل فسيذبحنا واحدة تلو الأخرى، فسيقول: من أين سرقتموه؟ فقالت الخادمة: أين نذهب به؟ فقالت المرأة: ضعيه في كيس واربطيه بحبل وأنزليه في البئر إلى أن يخرج فنأتي به ونأكله، قالت الخادمة: نعم.
فأتت بكيس ووضعت فيه السمن والبر والعسل، وربطته بحبل وأنزلته إلى البئر وإذا بالرجل جالساً يذكر الله، فلم يشعر إلا والكيس على رأسه، فنظر إليه وإذا بالكيس فيه السمن والعسل والبر، ثم أخذه فأكله وجلس يذكر الله إلى المغرب، فأتى التاجر قبل غروب الشمس وقال للرجل في البئر: هل أتاك البر والسمن والعسل، قال: نعم والله، أتاني كيس فيه بر وسمن وعسل.
فأنزل له حبلاً وقال له: اربط نفسك واصعد؛ فربط نفسه وصعد، وقال الرجل وعليه أثر السمن: الحمد الله لقد شبعت، فقال التاجر: هذا أمر عجيب!! ثم ذهب التاجر إلى زوجته فقال لها: من الذي ترك السمن والبر والعسل في البئر؟ فقالت المرأة: لا تذبحنا نحن نقر لك بالخبر، أنت كلما أعطيتنا طعام يوم أبقينا منه شيئاً حتى إذا أتى إلينا ضيف أو حصل أمر طارئ جمعناه وإذا بنا نأكل منه، فبينما نحن نأكل أتيت علينا فتركناه في البئر وإذا بالجن قد أكلوه، فعلم الرجل وقال: آمنت بالله.
إن التوكل والاعتماد على الله عظيم، ولكن مع الأخذ بالأسباب، فلا تأخذوا كلامي هذا وتجلسوا في البيوت وتقولون: إن كل واحد منا يأتيه بر وسمن وعسل، وإنما خذوا بالأسباب والله هو الرزاق ذو القوة المتين.
فالرجل كان يمشي ويعرض نفسه على الناس، لهذا لما عرض عليه التاجر العمل لم يتردد، ولم يقل: إنه سيأتيني كيس، وإنما قال: أذهب وأشتغل.(103/17)
حامل القرآن والإكثار من التلاوة
أيضاً: ينبغي لمن يقرأ القرآن: أن يحافظ على تلاوته ويكثر منها، وقد كان السلف رحمهم الله شأنهم الإكثار من تلاوة كتاب الله، ويتفاوتون في قدر ما يقرءون من القرآن الكريم، فمنهم من كان يختم في كل شهر مرة وهذا أقلهم، يقرأ في كل يومٍ جزءاً، وهذا أمر سهل، وقد ذكرته مرة من المرات في جلسة من الجلسات، وأخبرني بعض الإخوة أنهم تمسكوا به وأنهم ما ملوا منه أبداً، بل من أسهل الأشياء أن تجعل لك في كل يوم جزءاً، وليكن الجزء الموافق للتاريخ نفسه مثلاً: في اليوم التاسع والعشرين ينبغي أن تكون في الجزء التاسع والعشرين، وغداً يكون التاريخ واحداً تختم الجزء الثلاثين في الليل، ثم في الصباح تبدأ بالجزء الأول وهكذا؛ لأن هذا يسهل عليك عملية المراجعة فتستطيع أن تقرأ وأنت في المكتب أو المسجد أو البيت؛ وبذلك تعرف أنك في الجزء العاشر إذا كنت في اليوم العاشر من الشهر، وفي الجزء الثامن إذا كنت في اليوم الثامن من الشهر وهكذا، وبالتالي تختم القرآن في كل شهر مرة.
أما إذا لم تعمل هذا العمل فإنه يصعب عليك، ويمكن ألا تختم القرآن في السنة ولو حتى مرة.
وكان بعضهم يختم في كل عشر ليالٍ ختمة، وبعضهم وهو الأكثر من السلف كان يختم في كل أسبوع مرة، وكان بعضهم يختم في كل ثلاثة أيام، ولا أقل من ذلك، فقد روى أبو داود والنسائي والترمذي أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (لا يفقه من يقرأ القرآن في أقل من ثلاث) وقد وردت بعض الآثار أن عثمان رضي الله عنه كان يختم في كل يوم مرة، وكذلك الشافعي أثر عنه أنه ختم في رمضان ستين مرة -ختمة في الليل وختمة في النهار-؛ لأن ألسنتهم أصبحت مثل الآليات على القراءة، مارسوا فيها قراءة القرآن ممارسة عظيمة جداً، فلا يجدون تعباً في القراءة.
ويستطيع الشخص منهم أن يقرأ القرآن في عشر ساعات أو في إحدى عشرة ساعة، وقد جربت أنا هذا، فعندما كنت في مسجد النمصا استطعت أن أختمه في أقل من ثلاث عشرة ساعة يتخللها الصلوات، لكن لو أن شخصاً جلس لا ينصرف أبداً عن القرآن، فإنه يستطيع أن يختم في عشر ساعات أو في ثمان ساعات؛ لأنه يقرأ الجزء في ربع ساعة أو الثلاثة أجزاء في ساعة واحدة.
ينبغي لكل شخص أن يكون له ورد من صلاة الليل، يقرأ فيه القرآن سواء نظراً أو غيباً؛ لأن الله أثنى على من يقرأ القرآن في قيام الليل، فقال: {ومِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران:113] * {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران:114] إذ أن قراءة القرآن في الليل أجمع للقلب، خصوصاً إذا كان بصوتٍ نديٍ طري، وهو أبعد عن الشواغل والملهيات؛ لأن الناس في سكون ولا يوجد أحد يشغله، وهو أصون عن الرياء، فتدخل غرفتك وتضيء المصباح إضاءة خفيفة، وتأخذ مصحفك ثم تصلي لله كما تشاء، ركعتين أو أربع أو ست أو ثمان أو عشر، إلى قريب الفجر، ثم توتر قبل أن يؤذن لصلاة الفجر.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (من قام بعشر آيات -أي: من صلى الليل بعشر آيات خمس آيات في ركعة وخمس أخرى في ركعة- لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كتبه الله من القانتين، ومن قام بألف آية كتبه الله من المقنطرين) الذين يأتون يوم القيامة بقناطير، وهذا الحديث رواه أبو داود وغيره.
فعليك أن تجعل هذا الحديث نصب عينيك، فلا تفوت الفرصة، ولا تجعل الليل يذهب بدون قيام مهما كانت أشغالك، ومهما كانت التزاماتك، فليس لديك عذر أبداً.
فصل حتى ولو ركعتين، نعم.
قد تجد صعوبة في بداية الأمر ولكن هذه الصعوبة تتذلل إذا علم الله منك صدق اللجوء وقوة اليقين، بل ويعينك ويوقظك قبل الموعد بدقائق، بإذن الله، وهذا شيء مجرب.
وعليك إذا كنت متزوجاً أن تنبه زوجتك أن تكون لك عوناً على هذا الأمر، ولا بد أن توقظك لقيام الليل وأن تقوم معك، وعليك أن تبين لها هذه الأحاديث والأدلة على فضله، وليس شرطاً أن تقوم كثيراً، لا.
وإنما تقوم بثمان طويلات أو أربع، وأقل شيء ركعتين ولو كانت خفيفتين.(103/18)
حامل القرآن والحذر من النسيان
ينبغي لحامل القرآن أن يتعاهد القرآن وأن يحذر من أن ينساه؛ لأنه ثبت في الصحيح عند البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (تعاهدوا هذا القرآن، فوالذي نفسي بيده لهو أشد تفلتاً من الإبل في عقلها).
فالبعير إذا رأيته معقلاً هل يرغب بالعقال أم يريد أن ينفك منه؟
الجواب
لا يمكن أن يرضى إلا أن يفك القيد وينطلق.
فكذلك القرآن في قلب من يحفظه أشد تفلتاً من الإبل من عقلها، ولكن عليك أن تلتزم به وبتلاوته المستمرة وبتدبره، أما إذا لم تعمل به أو لم تقرأه أو تتلوه فإنه يذهب ولا يبقى معك منه حرف واحد والعياذ بالله.
وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: [إنما مثل صاحب القرآن كمثل الإبل المعقلة إن عاهد عليها رباطها وعقالها أمسكها وإن أهملها أطلقت نفسها وذهبت].
فالقرآن إن تعاهدته فإنك تحتفظ به، وإن تركته فإنه ينفلت منك.
وعن سعد بن عبادة رضي الله عنه قال: [من قرأ القرآن ثم نسيه لقي الله عَزَّ وَجَلّ يوم القيامة وهو أجذم] والحديثان كلاهما في الترمذي وفيهما مقال، ولكن كما يقول أهل العلم: لهما شواهد، أي: بعضها يعضد بعضاً، قال صلى الله عليه وسلم: (عرضت عليَّ ذنوب أمتي فلم أر فيها ذنباً أعظم من رجل أوتي شيئاً من القرآن ثم نسيه) فحاول يا أخي المسلم! يا من وفقت للقرآن أَلا تنسى كلام الله؛ لأن نسيانك له يدل على الحرمان والخيبة -والعياذ بالله- وعلى سوء المنقلب والمصير.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(103/19)
الأسئلة(103/20)
حكم أداء فريضة الحج عن الميت
السؤال
والدتي نوت قبل وفاتها أن تحج عن أمها أو تؤجر من يحج عنها، ولكنها توفيت قبل أن تفي بما نوت، علماً بأن لدي خال (شقيق والدتي) وهو في مكة وعلى قيد الحياة، ولكنه لم يعمل شيئاً لوالدته، فما الحكم؟ علماً بأني أرغب بتنفيذ رغبة والدتي؟
الجواب
جزاك الله خيراً، مادامت جدتك لم تحج وأمك لم تحج عنها، وقد نويت أن تحج عنها، وأنت ترغب في أن تقوم بهذا الأجر العظيم، فبارك الله فيك، وفي هذه السنة حج عن جدتك، ولك مثل أجرها دون أن ينقص من أجرها شيء، وتسقط الفريضة عن جدتك، وإن لم تكن قادراً على الحج، فإنه بإمكانك أن تبحث عمن يحج مقابل مبلغ تعطيه له، ولكن اختر من طلبة العلم المخلصين الذين يعرفون كيف يؤدون هذه الشعيرة ولا يتاجرون بها؛ لأن من الناس من يأخذها تجارة، لم يحج لنفسه وقد حج لغيره ستين حجة، وكل سنة يأخذ ألفين ريال أو ثلاثة ألف ريال، فيصبح تاجراً للحجج.
أما من حج حجة الإسلام وكان محتاجاً إلى أن يحج، وأدى هذه الأمانة على خير وجه، وقام بها على أفضل أداء، فإن له أجراً إن شاء الله، وله أيضاً أجرة إن شاء الله.(103/21)
كيفية التعامل مع من يصلي أحياناً ويتركها أحياناً
السؤال
أسكن مع عمي وهو الذي رباني؛ لأن أبي قد توفي، ولكن عمي لا يصلي، ويعرف حكم الصلاة ولا يبالي، وحتى الصلاة إذا صلى لا يصليها إلا في البيت ما عدا صلاة المغرب، ولكن في رمضان فقط يصليها في المسجد، ومشكلتي هي: هل أواصل دراستي في الجامعة وأقبل منه المصروف، وهل أقبل أن يزوجني على حسابه الخاص؟ وهل أعيش معه في البيت؟ وهل يجوز أن أقابل زوجته علماً بأن المكان ضيق، وأنا أسكن معهم في البيت الضيق؟
الجواب
أولاً: واصل دراستك في الجامعة بارك الله فيك؛ لأنك لا تستطيع أن تنفصل عن عمك في إمكانياتك الذاتية، فواصل دراستك.
ثانياً: مسألة زواجك من ماله فإن كان ماله الذي يدخل عليه من طريق حلال فلا مانع من أن تقبل ذلك وتستفيد من زواجك إن شاء الله بهذا المال وتحصن فرجك، أما إذا كان ماله يجمعه من الحرام فلا يجوز أن تأخذ منه.
ثالثاً: عيشك معه في البيت: فما دمت محتاجاً فلا مانع أن تبقى معه في البيت، وإثمه على نفسه، لكن إذا كنت قد تخرجت من الجامعة وأصبحت مستقلاً فينبغي عليك أن تفارقه وتنصحه وتهديه إلى الله، فإن استجاب وإلا فتحول أمرك إلى الله.
رابعاً: أما العيش في البيت، وزوجته التي تكشف عليك والبيت ضيق، فأنت لا تستطيع أن تلزمها أن تتغطى، ولكن تستطيع أن تلزم نفسك بأن تغض بصرك، ولا تنظر إليها إلا نادراً بقدر الضرورة، ولا تحملق ببصرك فيها، غض بصرك حتى إذا كلمتك تكلمها وأنت غاض لبصرك، وإذا قالت: ما لك غاض لبصرك؟ قل لها: لأن الله أمرني بغض بصري، وأمركِ بالحجاب، لكنك ما تحجبتِ، أنا أغض بصري، لأن لي أمراً على عيوني.(103/22)
ضوابط تعامل الخاطب مع مخطوبته
السؤال
لي خطيبة وهي ابنة عمي، والخطبة سوف تستمر طويلاً، وأنا لا يمكن أن أتزوج حتى أتخرج، فكيف أعامل خطيبتي؟ وهل يجوز لي أن أهدي لها شيئاً؟ وهل يجوز أن أختلي بها لفترة بسيطة حتى أحدثها عن أمور الزواج؟
الجواب
المخطوبة على نوعين: إما خطيبة قد عٌقد بها، فهذه خطيبة يجوز لك أن تفعل معها كل شيء؛ لأنها زوجتك فتجلس معها وتختلي بها.
وأما مخطوبة تنوي أن تتزوج بها، ولكن إلى الآن لم تصبح زوجة لك فهذه يحرم عليك حرمةً قاطعة أن تحدثها، أو تجلس معها، أو تختلي بها، أو تهدي لها، أو تصنع معها أي شيء، إلا شيئاً واحداً وهو: الرؤية المجردة من الفتنة بحضور وليها.
فيجوز لك أن تدخل عليها في مجلس وأبوها موجود، أو وليها أو أمها، وتنظر إليها مقبلةً ومدبرةً ثم تنصرف، أما أن تصنع كل شيء على أساس أنك سوف تتزوج بها بعد سنين فهذا لا يجوز.(103/23)
الحزن من هموم الدنيا والبكاء من خشية الله
السؤال
كلما تكثر علي هموم الدنيا أذهب إلى فراشي في الليل وأستمع إلى القرآن وأبكي بكاءً شديداً، وفي الصباح أقول لنفسي: كيف أبكي من هموم الدنيا ولا أبكي من خشية الله، والسؤال: هل يجوز لنا أن نحزن من أجل الدنيا خصوصاً والأيام صعبة؟
الجواب
أولاً: كونك تحزن من هموم الدنيا فهذا شيء طبيعي في البشر، هكذا ركب الله الفرح في البشر من أجل الدنيا، والحزن من أجل الدنيا، ولكن ينبغي أن توطن نفسك بأن يكون الحزن والهم كله للآخرة؛ لأن من جعل الهم هماً واحداً وقاه الله شر كل هم، ومن تشعبت به الهموم لم يبالِ الله فيه بأي وادٍ هلك، فلا تجعل همك الوظيفة، ولا تجعل همك الزوجة، اجعل همك الأول والأخير كيف يكون الله راضٍ عنك؟ كيف تنجو من عذاب الله؟ كيف تدخل الجنة؟ كيف تكون على أحسن وضع يرضاه الله عَزَّ وَجَلّ لك؟ فإذا جعلت هذا همك، يسر الله لك كل شيء؛ لأنه من يتق الله يجعل له مخرجاً، وإذا جاءك بكاء في ليلة من الليالي وأنت تسمع القرآن وكان هذا من أجل خشية الله، كان ذلك من أعظم المنازل، أما إذا كان البكاء من أجل الدنيا والحزن عليها، فعليك أن تعوَّد نفسك على أَلاَّ تحزن إلا من أجل الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى.(103/24)
حكم تخصيص شهر رجب بعبادة مستقلة
السؤال
قلت لبعض الناس في القرية: لا يجوز تخصيص شهر رجب دون غيره بصيام؛ لأن الناس يعظمون هذا الشهر، ولكن سمعت أن هذا الشهر عظيم والصيام فيه أعظم فأرجو التبيين؟
الجواب
ليس في شهر رجب عن غيره من سائر الشهور فضيلة في صيامٍ أو قيام أو صدقةٍ، وما ورد فيه من أحاديث فيه تدور بين الضعف والوضع، هكذا يفتي سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، أنه لم يكن صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخصص رجب بأي شيء من العبادات، وإنما هو شهر من الشهور، وأما ما يخصصه الناس من ليلة سبع وعشرين أنها ليلة الإسراء والمعراج فيحيون ليلها بالقيام، ويتصدقون فيها، ويصنعون هذه الاحتفالات فهذا من البدع، وهذا لم يفعله رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنه أسري به وأخبر الصحابة، ولو أن هذا الأمر مشروع لاحتفل به هو؛ لأنه صاحب العلاقة الأولى، ولو كان هذا الأمر مشروعاً لاحتفل به أصحابه أو سلف هذه الأمة، فلما لم ينقل أنه فعله ولم يفعله أصحابه ولا سلف هذه الأمة دل هذا على أن هذا الأمر مبتدع، وما لم يكن في ذلك الزمان بدين فليس في هذا الزمان بدين، بل إن علينا أن نتبع ولا نبتدع.
والله يقول: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21] هذا رغم أن المؤرخين اختلفوا في كون ليلة الإسراء والمعراج في السابع والعشرين أو في غيرها، ولكن على فرض صحة كونها في ليلة سبع وعشرين فإنه لا يجوز أن نعمل بأي عمل إلا بأمرٍ من الله، أو من رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(103/25)
حكم ترك الطبيب لصلاة الجماعة
السؤال
أنا طبيبٌ في المستشفى، وكثيراً ما يشغلني عملي وكثرة المرضى في وقت الصلاة، فأضطر إلى تأخيرها، وأحياناً أصلي الجمعة صلاة ظهرٍ فما رأيكم؟
الجواب
الطبيب في المستشفى أحد طبيبين: إما طبيب يمارس العلاج العادي للمرضى الذين يقفون أمامه، والذين لا يترتب على تأخير علاجهم مفسدة، فهذا المفروض في حقه أنه إذا سمع المؤذن أن يضع قلمه وسماعته ويذهب إلى وضوئه ومسجده ثم يعود ويعالج، ولا يجوز له أن يؤخر الصلاة متذرعاً على أنه يعالج، فإن هذا الطبيب الذي يعالج وهو يؤخر الصلاة ليس في علاجه بركة، أما الطبيب الذي يصلي يجعل الله في علاجه بركة بإذن الله عَزَّ وَجَلّ.
الطبيب الثاني: هو الذي تدركه الصلاة وهو في عمل جراحي خطير لو تركه وذهب يصلي مات الإنسان، مثل الطبيب الجراح إذا دخل غرفة العمليات -مثلاً الساعة التاسعة صباحاً- وكان من المتوقع أن ينتهي من العملية الساعة الثانية عشرة ويصلي الظهر، لكن طالت العملية ولم ينته إلا الساعة الواحدة ظهراً وأذن المؤذن فلا يجوز له أن يترك هذا المريض يموت ويذهب ليصلي؛ لأنه يترتب على ذلك ضرر ومفسدة، فذهابه ضرر لهذا المسلم، فعليه أن ينهي عمله ويكمل عمليته ثم يذهب ليصلي وله أجر الجماعة بإذن الله عز وجل؛ لأن الذي منعه مصلحة المسلمين وحرصه على حياة هذا المسكين.
أما يوم الجمعة: فإنه إذا كان هذا الطبيب مطلوب منه المناوبة ولا يوجد في المستشفى خطبة جمعة، فإنه يجوز له أن يصلي ظهراً شأنه بذلك شأن الجندي المرابط على الحدود، أو الجندي المطلوب منه حراسة على إدارة، أو الموظف المطلوب منه المداومة أو المرابطة في عمل، فلا يجوز له أن يترك هذا الموقع ويذهب ليصلي بل يصليها ظهراً.(103/26)
حكم ترك صلاة الجماعة
السؤال
ماذا تقول في الذين يصلون جميع الفروض في البيت؟
الجواب
الذي يصلي جميع الفروض في البيت ولا يصلي في المسجد هذا والعياذ بالله على خطرٍ عظيم، وقد قال بعض أهل العلم بأن صلاته غير صحيحة، منهم: شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فقد ذكر في الاختيارات الفقهية أن صلاة الجماعة شرطٌ في صحة الصلاة، ووضح الأحاديث التي في الصحيحين أن صلاة الرجل مع الجماعة تفضل على صلاة الفرد بسبعٍ وعشرين درجة، فقال بعض أهل العلم: ما دام أن صلاة الإنسان في بيته بدرجة فإنها مقبولة، قال: لا.
إن المفاضلة هنا بسبعة وعشرين درجة، ودرجة لمن صلى في البيت لعذر، صلى في البيت لإنه كان نائماً، أو صلى في البيت لأنه كان مريضاً، أو صلى في البيت لأنه كان خائفاً، فهذا له درجة، أما من صلى في المسجد فله سبعة وعشرون درجة، وليس هناك مجال للمفاضلة بين ما هو واجب وبين ما هو محرم؛ لأن علماء الأصول يقولون: المفاضلة بين الأمور المستوية بالحكم، أو تفاضل في الواجبات، أو تفاضل في المستحبات، تفاضل في المسنونات، أما تفاضل بين واجب ومحرم فلا.
فالواجب هو إتيان الصلاة في المسجد، والمحرم هو إتيان الصلاة في البيت، فلا يمكن أن نقول: إن صاحب المحرّم له درجة، وصاحب الواجب له سبعة وعشرون درجة، فالذي لا يصلي جميع الفروض في المسجد فهذا عطل سنة الله، والحديث في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (من سره أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هذه الصلوات الخمس حيث يُنادى بهن، فإنهن من سنن الهدى، وإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق).
والله عَزَّ وَجَلّ يقول: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43] أي: مع المصلين، ويقول عَزَّ وَجَلّ: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [النور:36] * {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور:37] * {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور:38] ويقول الله عَزَّ وَجَلَ حكايةً عن أهل النار حينما يسألهم أهل الجنة: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر:42] * {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:43].
يقول المفسرون: يمكن أنهم كانوا يصلون ولكن لم يكونوا مع المصلين، فلا ينبغي لمسلم يخاف الله أَلا يصلي الفريضة إلا في المسجد، وإلا لماذا بنيت المساجد؟ وحديث الأعمى في الصحيحين: (قال: يا رسول الله! إني رجل أعمى شاسع الدار -أي: بعيد- ليس لي قائد يقودني، والمدينة كثيرة الهوام والسباع، فهل أجد رخصة أصلي في بيتي، قال: أتسمع النداء قال: نعم.
قال: أجب، فلا أجد لك رخصة) من يقوده؟ ومن يمنعه؟ فكيف تصلي في بيتك والمساجد تحيط بك من كل جانب، وتسمع النداء يخرق أذنك من كل مأذنة والشوارع مزفلتة ومضاءة كأنك تخرج في النهار ولست بأعمى، وأنت شابع في بطنك، آمن في وطنك، معافى في جسدك، تقوم من غرفتك إلى حمامك الماء حار تغسل في إناء نظيف تلبس من أحسن الملابس تخرج إلى المسجد فهل لك عذر أن تصلي في البيت؟ إذا كان الله لم يعذر هذا الأعمى ولا رسوله فكيف يعذرك إلا النفاق؟ أما المنافق: فلا يريد الصلاة في المسجد ولكنهم جنوا على أنفسهم يوم القيامة، سوف يندم ندامة لا يمكن أن يخرج منها والعياذ بالله.
هذا وأسأل الله لي ولكم التوفيق في الدنيا والآخرة.(103/27)
الإيمان حقيقته وشعبه
لقد بعث الله بالإيمان الرسل، وأنزل به الكتب، إلا أن من حكمة الله أن هذا الإيمان لا يمثل حقيقته كل أحد، إذ أن حقيقته لا تتحصل إلا بتحقيق لوازمه اللفظية، والقلبية، والعملية.
وكما أن لهذا الإيمان حقيقة، فله أيضاً شعب بعضها قوليّ، وبعضها قلبي، أو عملي، وعلى قدر الإتيان بهذه الشعب يزيد الإيمان وينقص.(104/1)
الإيمان زاد الرحيل إلى الآخرة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: أيها الأحبة في الله: أعظم ما يملكه الإنسان ويحرص على تحصيله في هذه الحياة هو الإيمان الإيمان الذي تتحقق به للإنسان سعادة الدارين، والفوز والفلاح في الحياتين، فلا سعادة في الدنيا إلا بالإيمان، ولا فلاح من العذاب في الآخرة إلا بالإيمان؛ بالإيمان تعرف حقيقة الخلق وحكمة الوجود، وتشعر بلذة وطعم الحياة، وتتصل بخالق الأرض والسماء، ويستقيم سيرك على درب الحياة، وتعرف كيف تتعامل مع الكون والحياة من حولك.
وحينما تغادر الحياة في الرحلة الإلزامية، والسفر الإجباري الذي كتبه الله تعالى على كل مخلوق -لا بد من الرحيل إلى دار القبور، لا أحد يستطيع أن يمنع نفسه من الموت- حينما تلزم بالارتحال، وتخرج من الدنيا رغم أنفك.
لهوت وغرتك الأماني وحينما أتمت لك الأفراح فوجئت بالقبر
والآخر يقول:
ما للمقابر لا تجيب إذا رآهن الكئيب
حفر مسقفة عليهن الجنادل والكثيب
فيهن أطفال وولدان وشبان وشيب
كم من حبيب لم تكن عيني لفرقته تطيب
غادرته في بعضهن مجندلاً وهو الحبيب
في تلك الرحلة لا تنتفع بشيء: لا مال، ولا ولد، ولا جاه، ولا منصب، ولا رتبة، ولا مرتبة، ولا ينفعك في تلك اللحظات الحرجة وفي تلك الأيام الصعبة إلا الإيمان، في بيت الوحشة والظلمة والدود، لا ينفع هناك أحد.
يا من بدنياه اشتغل وغرَّه طول الأمل
وقد مضى في غفلة حتى دنا منه الأجل
الموت يأتي بغتةً والقبر صندوق العمل
لا ينفعك في القبر وعرصات القيامة إلا الإيمان: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2] لا ينجو من تلك الأهوال إلا أهل الإيمان.
يوم تزفر جهنم، وتتزين الجنة: {وَأُزْلِفَتْ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ} [ق:31 - 34].
هنا الفخر والمجد والشرف والعزة، هنا الفوز والفلاح أيها الإخوة! لكن لمن؟ لمن آمن وعمل صالحاً، ولكن: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35].(104/2)
حقائق الإيمان الثلاث
هذه الكلمة: (الإيمان) لها حقيقة وصورة، ولكن الصورة لا تغني عن الحقيقة شيئاً، فالصورة تعطي فكرة عن الحقيقة لكن لا تؤدي دور الحقيقة، إذا رأيت صورة سيارة، تعرف من الصورة أن هذه سيارة، لكن هل تستطيع أن تقطع بها مسافة؟ أو أن تركب عليها وهي في الورق؟
الجواب
لا.
إذا أريتك صورة عمارة، تعرف من الصورة أنها عمارة، لكن هل تسكن في شقة في الورق؟ الجواب: لا.
إذا أخذت فئة خمسمائة ريال -ورقة مالية- وصورتها وكانت الصورة طبق الأصل: الرقم، والتوقيع، والفئة، وكل شيء، هل تستطيع أن تشتري بالصورة حزمة كراث بريال؟ الجواب: لا.
لماذا؟ لأنها صورة.
وإذا أعطيتها صاحب المخبز، وتريد رغيفاً، يقول: اذهب، هذه صورة لا تنفع، لكن أظهر الخمسمائة الريال الحقيقية، تشتري بها حمولة سيارة، لماذا؟ لأن هذه حقيقية وتلك صورة.
والإيمان له حقيقة، وله صورة، صورته النطق باللسان، والادعاء والبيان دون أن تقيم على هذا الادعاء والبيان دليلاً من العمل الصالح لا ينفع، أما حقيقة الإيمان فهي: حقيقةٌ غالية ذات قيمة باهظة، وتكاليف ثقيلة، الإيمان له ثلاث حقائق عند أهل السنة والجماعة: حقيقة لفظية، وحقيقة قلبية، وحقيقة عملية، ولا بد من توفر الثلاث، وإذا نقصت واحدة فسد الإيمان وتحول إلى إيمان صوري.(104/3)
حقيقة الإيمان اللفظية
والحقيقة الأولى: حقيقة لفظية لسانية، وهي الإعلان والشهادة بأنه لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه هي الركن الأعظم من أركان الإسلام، وهي أساس الدين، وهي أول مطلب يطلب من أي إنسان يريد الدخول في الإسلام، فإذا أراد الإنسان -وهو كافر- أن يدخل في دين الله، فإنه لا يقبل منه أي شيء حتى يعلن هذه الكلمة، فلو صلى قبل أن يشهد أن لا إله إلا الله، فما حكم صلاته؟
الجواب
مردودة، لو صام قبل أن يشهد أن لا إله إلا الله، فما حكم صيامه؟ الجواب: باطل ومردود، لو قاتل حتى مات، ما حكم قتاله وموته؟ الجواب: مات على الكفر؛ لأنه ما شهد أن لا إله إلا الله، وما أعلن هذه الكلمة (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ولا بد منها، وهي أول واجب، وهي أيضاً آخر كلمة يقولها الإنسان حينما يموت، والذي يلهم هذه الكلمة عند الموت هذا دليل على أنه صادق قد أدى مقتضياتها حينما كان حياً، ولهذا جاء في الحديث قال صلى الله عليه وسلم: (من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة).
فمن علامات حسن الخاتمة أن يلهم المسلم كلمة: (لا إله إلا الله) عند الموت، ولكن من هو الذي يوفق لها؟ هو الذي قالها وصدق وحققها، أما من قالها بلسانه، ولم يحققها بفعلها بجوارحه؛ فهذا يصرف عنها، ولا يوفق إليها عند الموت، بل إذا قيل له: قل: (لا إله إلا الله) يرفض، ولا يستطيع أن ينطق بها؛ لأنه خانها وما أدى أمانتها، هذه كلمة (لا إله إلا الله) وهي تمثل أساس الدين.
وطبعاً من متضمنات (لا إله إلا الله): (محمد رسول الله)، هي كلمة الإخلاص، ولهذا؛ أركان الإسلام خمسة: الركن الأول: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فليست ركنين بل ركن واحد.
ومعنى (لا إله إلا الله): تجريد الإخلاص في العبادة لله وحده، ومعنى (محمد رسول الله): تجريد المتابعة في العبادة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحده، فلا معبود بحق إلا الله، ولا مُتَّبَع بحق إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا معنى (لا إله إلا الله محمد رسول الله) وهي الحقيقة الأولى.(104/4)
حقيقة الإيمان القلبية
الحقيقة الثانية: حقيقة قلبية: وهي أن تصدر هذه الكلمة من قلبٍ يعتقدها ويقر بها ويصدقها، لا تكون كلمة من اللسان؛ لأن الكلمة من اللسان بغير تواطؤ القلب عليها نفاق، والله سبحانه وتعالى قد رد هذا الإيمان في أول سورة البقرة، قال عز وجل: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:8] هم قالوا: آمنا، ولكن الله يقول: {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:8] أي: كاذبين، وقال: {مِنْ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} [المائدة:41] فلا بد من تواطؤ القلب واللسان، فاللسان يعبر، والقلب يعتقد، ثم تأتي الحقيقة الثالثة من حقائق الإيمان.(104/5)
حقيقة الإيمان العملية
الحقيقة الثالثة: العمل: وهي العمل، والتطبيق، والاستسلام، والخضوع لله عز وجل في فعل الأوامر، وترك النواهي بالجوارح، ويقول أهل العلم: إن الحقيقة الثالثة هي التي تصدق كلمة اللسان، واعتقاد القلب، فإذا اعتقد بقلبه، وقال بلسانه؛ برز هذا الاعتقاد في سلوكه وواقع حياته، أما إذا قال بلسانه وزعم أنه يعتقد بقلبه، ثم نظرنا إلى أعماله فلم نجد أثراً لهذا الاعتقاد الذي زعمه أو لهذا القول الذي لفظه، ولم نجد له أثراً ولا فعاليةً في سلوكه، ولا في ممارساته، ولا عبادته، عرفنا أنه كاذب.
ولذا ما جاء لفظ الإيمان في القرآن مجرداً، وإنما جاء مقروناً بالعمل الصالح: قال تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الشعراء:227]، وقال تعالى: {إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} [سبأ:37].
إذ لا يكفي أن تقول: آمنت، بلسانك، ولا يكفي أن تدعي أنك آمنت بلسانك وصدقت بقلبك، حتى تقيم على هذا الادعاء دليلاً من فعلك، وهو التكاليف الشرعية، أمراً ونهياً، والتكليف الشرعي له شقان أوامر أمر الله بها: عقيدة صافية، صلاة، صيام، زكاة، حج، بر، صلة، فعل خير، أمر بمعروف، نهي عن منكر، ذكر الله، دعوة إلى الله، تلاوة لكتاب الله هذه اسمها أوامر.
ونواهٍ ومحرمات، تمنع شرعاً حتى الاقتراب منها: عينك غضها عما حرم الله، لسانك كفه عن الحرام، أذنك احفظها من الحرام، يدك كفها عن الحرام، رجلك لا تمش بها إلى الحرام، بطنك لا تدخل فيها حراماً، فرجك لا تطأ به في حرام، هذه نواهٍ.
فإذا رأينا رجلاً يمتثل الأوامر، ويجتنب النواهي؛ عرفنا أنه صادق، أما رجل يقول: آمنت بالله، وأنا مصدق بالله، ولكن لا يفعل أمراً، ولا ينتهي عن نهي؛ فهذا كاذب.(104/6)
زيادة الإيمان بالطاعات ونقصه بالمعاصي
هذه هي حقائق الإيمان الثلاث، وهي معتقد أهل السنة والجماعة، عندما يعرفون الإيمان يقولون: الإيمان قول باللسان، واعتقاد بالقلب والجنان، وتطبيق بالجوارح والأركان.
ثم يضيفون: يزيد بالطاعة، وينقص بالعصيان؛ لأنه ما دام له علاقة بالعمل، والعمل ليس بمستوى واحد عند الناس، ويتفاوت، فلذلك الإيمان يزيد وينقص، يزيد بماذا؟ بالطاعات، فكلما زدت في الطاعات زاد إيمانك، وينقص، ويتضاءل، ويضمحل بالمعاصي، وكلما وقعت في معصية نحتت في إيمانك، وقطعت فيه، وجرحته إلى أن يزول -والعياذ بالله-.(104/7)
أثر الإخلال بإحدى حقائق الإيمان
هذه -أيها الإخوة- هي حقيقة الإيمان، فلا يكفي أن تأتي بواحدة، من قال: آمنت بلسانه، ولم يصدق بقلبه، ويعمل بجوارحه؛ فهو منافق.
ومن زعم أنه مؤمن بقلبه، ولم يعلنها، وعمل، ولكن لم يقل: (لا إله إلا الله)؛ فهو كافر ولو عمل، فـ أبو طالب قام بأعمال عظيمة لا يقوم بها أحد، من حماية الإسلام، والدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه لم يقل: (لا إله إلا الله) حتى قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (يا عم! قل: لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله) أي: أتخذها حجة؛ لأنك عملت بعمل عظيم، الرجل آمن بأن النبي رسول حق من عند الله، ولهذا قال في أبيات شعرية له:
ولقد علمت بأن دين محمدٍ من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبينا
فهو عرف أن الدين حق، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم صادق، ولكن ماذا منعه؟ خشي أن يلومه أحد من الناس؛ لأنه أسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم في آخر لحظة من حياته: (قل: (لا إله إلا الله) يا عم!) قال: هو على ملة عبد المطلب، فما نطق بـ (لا إله إلا الله) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (والله لأستغفرن لك! ما لم أُنْهَ عنك) فلماذا يستغفر له النبي صلى الله عليه وسلم؟ ليس بدافع القرابة، وإنما بدافع المواقف المشرفة التي كان يفعلها أبو طالب معه، ثم إن الله سبحانه وتعالى نهى النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أن يستغفروا للمشركين، وقال: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113].
فالإنسان إذا لم ينطق بـ (لا إله إلا الله) وآمن بقلبه، وعمل بجوارحه؛ فهو كافر.
ومن عمل بجوارحه الأعمال الصالحة، ولكنه ما نطق بلسانه، ولا اعتقد بقلبه؛ فهو أيضاً كافر، الآن في الشرق والغرب في العالم، أناس يعملون الصالحات، إذا رأيتهم تقول: هذه أعمال أهل الإسلام.
فإذا قالوا صدقوا، فلا يكذبون، بعض الكفار لا يكذب أبداً بأي حال من الأحوال، وإذا وعدوا لا يخلفون، ولهذا إذا قال لك أحد: موعد، تقول له: نعم.
قال: موعد إنجليزي؟ تقول: إنجليزي، يعني: موعد مضبوط (100%) أما وعد المسلم فكذب، يقول: آتيك الساعة السادسة، ويأتيك الساعة الثامنة، فلا إله إلا الله! وإذا اشتغلوا في صناعات لا يغشون، فتفتح العلبة وتجدها مليئة إلى آخرها، ولا ينقص منها شيء، بينما المسلمون يغشون، إذا باع الطماطم يضع الفاسدة بالأسفل والجيدة بالأعلى، ويدقدق العلبة من الجوانب من أجل أن توفر له شيئاً من الطماطم، ذلك عمل صالح: كونه صادقاً في صناعته، ومتقناً في شغله -أيضاً- وفي دوامه: إذا كان يعمل في شركة، والدوام يبدأ الساعة السابعة تجده الساعة السابعة وهو حاضر، ولا ينصرف إلا نهاية الدوام بالضبط، ولا يمكن أن يخرج من العمل في الدولة، أي عمل؛ أو في الشركة أو في العمل دقيقة واحدة، بينما تجد بعض المسلمين يتلاعب، يأتي الساعة التاسعة ويوقع: السابعة والنصف، وهو يعرف أنه كاذب، وينصرف الساعة الواحدة ويكتب الانصراف: الثانية والنصف، ويمرر وقت الدوام في الكلام، وقراءة جرائد، وتلفونات، وضحك، وغير ذلك، وأعمال المواطنين عنده أكوام، وكلما جاء مراجع، قال له: غداً، فالمعاملات كثيرة، ويدعي شهادة: أن لا إله إلا الله محمد رسول الله، وهذا مخطئ، وذاك مخطئ، والحق أن تقولها بلسانك، وأن تعتقد بقلبك، وأن تطبق بجوارحك.
فهؤلاء الكفار رغم أنهم يصدقون في أقوالهم، ويوفون بوعودهم، ويخلصون في أعمالهم لكن هل ينفعهم هذا عند الله يوم القيامة؟ {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:16] لأنهم ما قالوا: آمنا بالله، ولا قالوا: (لا إله إلا الله محمداً رسول الله)، هذه أيها الإخوة حقيقة الإيمان.(104/8)
التكاليف الشرعية امتحان لإثبات الإيمان
حتى تربح الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة، لا بد أن تحقق هذه الثلاثة الأمور: أن تقول بلسانك، وتعتقد بقلبك، وتطبق بجوارحك، وهذا الأمر ليس أمراً سهلاً بل هو صعب، ولهذا رد الله عز وجل على من يظن أن هذا الأمر سهل، وقال في أول سورة العنكبوت: {ألم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:1 - 2] أي: كيف لا يفتنون ويختبرون، وقد قالوا: آمنا؟ إذ لا بد من الاختبار والابتلاء.
وقد فتن الله واختبر العباد بالتكاليف الشرعية، أما تدري أن هذه التكاليف التي فرضها الله علينا نوع من الامتحان؟ صلاة الفجر امتحان؛ لأن الله جعلها في وقت النوم والراحة، صيام رمضان امتحان، خاصة عندما يأتي في فصل الصيف، الحج جزء من الامتحان، المداومة على الصلاة في المسجد وبرمجة الحياة على أساس الصلاة، هذا من الامتحان.
كذلك تحريم المحرمات والشهوات نوع من الامتحان، كونك ترى شيئاً وقلبك يتطلع إليه، وعندك ميل إليه، لكنه محرم فتمتنع عنه؛ ابتلاء، يقول الله تعالى: {ألم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:1 - 2] ويقول عز وجل: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214].
فلا تتصور أن السلعة بسيطة، لا، السلعة غالية ولهذا فثمنها غالٍ، يقول الشاعر:
تهون علينا في المعالي نفوسنا ومن خطب الحسناء لم يغلها المهر
فأنت تخطب الجنة، ولهذا لا تتصور أن السلعة رخيصة، يقول ابن القيم في النونية:
يا سلعة الرحمن لست رخيصةً بل أنتِ غالية على الكسلان
يا سلعة الرحمن ليس ينالها في الألف إلا واحد لا اثنان
من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون في جهنم وواحد إلى الجنة، فليست حظيرة بقر، كل من جاء دخل، لا.
لا يدخلها إلا واحد من الألف:
يا سلعة الرحمن كيف تصبَّر الـ خُطَّاب عنكِ وهم ذوو إيمان
يا سلعة الرحمن سوقكِ كاسد بين الأراذل سفلة الحيوان
هذا أيها الإخوة هو الشق الأول من عنوان المحاضرة، الإيمان حقيقته.(104/9)
شعب الإيمان
أما الشق الثاني فهو: (شعبه) أي: طرقه ومجالاته، وجاءت هذه الشعب محددهً في صحيح البخاري وصحيح مسلم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضعٌ وستون شعبة، أعلاها: شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان).
(بضع وستون) هذه رواية البخاري، أما رواية مسلم: (بضع وسبعون) والبضع هو: من الواحد إلى التسعة، يقال للواحد، أو الاثنين، أو الثلاثة إلى التسعة: بضع، قال الله تعالى: {فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [يوسف:42] أي مجموعة من السنين: من واحد إلى تسعة.
شعبة: أي مجالاً، أو طريقاً، أو فجاً، أو معنىً، أو مفهوماً، ثم ذكر صلى الله عليه وسلم ثلاث شعب، فذكر أعلى شعبة وأدنى شعبة، وذكر شعبة تضم كل الشعب، وهي: (الحياء).
يقول أهل العلم: لماذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أعلى شعبة وأدنى شعبة، ثم ذكر الحياء من بين سائر الشُعب؟ قالوا: أما ذكره لأعلى شعبة وهي: (لا إله إلا الله) فهذا واضح، من كون العقيدة أهم ما في الدين؛ لأنها الأساس الذي يبنى عليه الدين، فلا يقبل الله عملاً إلا إذا كان التوحيد صحيحاً، فلو قمت في المسجد قيام هذا العمود، ولو حججت طوال الأزمنة، ولو أنفقت ما في الدنيا والعقيدة فاسدة؛ فإن الله لا يقبل هذا العمل مطلقاً.
يقول الله سبحانه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65] ويقول عز وجل: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:88] ويقول عز وجل: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23] فأهم شيء في دين الله هو العقيدة والتوحيد، وهي الأساس، إذا وجدت العقيدة؛ وجد إعمار، وقامت بناية الدين، وإذا لم توجد عقيدة، أي: ليس عند الإنسان دين، حتى ولو كان عنده وَهْمٌ أنه صلى صلاة ولكنها باطلة، أو زكاة لكنها مردودة، أو حج لكنه باطل، لماذا؟ لأنه منسوف من أساسه، لا يوجد له أساس، ولا قاعدة، إذ القاعدة هي: الدين، فذكر صلى الله عليه وسلم أعلى شيء في شُعب الإيمان، وهي كلمة التوحيد (لا إله إلا الله): أي لا معبود بحق إلا الله، تنفي جميع الآلهة، وتثبت الألوهية الحقة، والعبودية؛ لله سبحانه وتعالى.
أما ذكر أدنى شعبة من شعب الإيمان، وهي: إبعاد الأذى عن الطريق، فلبيان أن هذا الدين منهج حياة، وأنه ينتظم كل شئون الحياة في الدنيا والآخرة، حتى عملية بسيطة من أعمال الناس، وهي تنظيف الشوارع، بالرغم من أن هذا العمل من أعمال البلديات، لكن الإسلام يجعله من شُعب الإيمان، ومن مسئوليات المؤمنين، إذا مررت في الشارع ورأيت منديلاً، أو قرطاساً، أو مسماراً، أو زجاجة، أو أي أذىً يؤذي المسلمين؛ من الإيمان أن ترفعه وتبعده، أما إذا رميت به في الشارع فأنت بهذا تخالف شعبة من شعب الإيمان.
والشعبة الثالثة: الحياء: قالوا: لأن الحياء يمثل ستاراً يستطيع الإنسان أن يغطي به جميع شعب الإيمان، إذا فقد الحياء فقد الإيمان، قال صلى الله عليه وسلم: (الإيمان والحياء مقرونان، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر) (وكان صلى الله عليه وسلم أشد وأعظم حياءً من العذراء في خدرها) والحياء يحجزك عن المعاصي، وتستحي أنك تعصي الله، وأن تتأخر عن الفريضة، وأن تهجر القرآن، وألا تقوم إلى طاعة الله، وأن تنظر وتسمع ما حرم الله، لكن من هو الذي يأتي هذه المحارم ويترك الطاعات؟ هو قليل الحياء السيء، الذي لا يستحي من الله -والعياذ بالله- ولهذا فإن الحياء شعبة من شُعب الإيمان.
الآن عرفنا ثلاث، وبقي ست وستون شعبة لم يحددها النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن أهل العلم -رحمة الله عليهم- غاصوا في نصوص الشرع في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثلما يستخرج الغواص اللؤلؤ من أعماق البحار؛ استخرج العلماء الشُعب من بطون الكتب والمراجع، وحددوها بتسع وستين شعبة، وقد ذكرها الإمام ابن حجر في فتح الباري شرح صحيح البخاري، نقلها عن الإمام ابن حبان ثم قسمها ثلاثة أقسام: قسم يتعلق باللسان، وقسم يتعلق بالقلب، وقسم يتعلق بالجوارح.
تسع وستون شعبة: منها سبع شُعب يقولها اللسان، ومنها أربع وعشرون شعبة يعتقدها القلب، ومنها ثمان وثلاثون شعبة تتعلق بالجوارح، المجموع كله تسع وستون شعبة، ثم ذكرها بالتفصيل، وسوف نتكلم عنها على سبيل الإجمال، لن نفصل في سردها؛ لأن كل واحدة من هذه الشعب تحتاج إلى محاضرة، ولكن على سبيل الإجمال والإيضاح المقتضب.
ونبدأ بالسبع التي تتعلق باللسان:(104/10)
شعب الإيمان المتعلقة باللسان
الشعبة الأولى: التلفظ بكلمة الإخلاص: (لا إله إلا الله)، وهذه من أعظم شعب الإيمان، يقول موسى عليه السلام لربه سبحانه وتعالى: (يا رب! قل لي قولاً أذكرك به؟ قال: يا موسى! قل: (لا إله إلا الله)، قال: يا ربِّ كل عبادك يقولون هذا -يقول: أريد شيئاً خاصاً أعظم من هذه الكلمة- قال: يا موسى! لو أن السماوات السبع والأراضين السبع وعامرهن غيري في كفة و (لا إله إلا الله) في كفة لرجحت بهن (لا إله إلا الله)) فهذه الكلمة أعظم كلمة في الوجود، أن تقول: (لا إله إلا الله) وهي أساس الإيمان، بل أعلى كلمة وأعلى شعبة من شعب الإيمان.
الشعبة الثانية من الشعب التي تتعلق باللسان: قراءة القرآن، وهي من الإيمان، ولهذا إذا قرأت القرآن، ماذا يحصل؟ يحصل لديك زيادة في الإيمان، يقول الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً} [الأنفال:2 - 4] فهذه شهادة من الله تعالى، أن المتصفين بهذه الصفات مؤمنون حقيقيون، وليسوا مؤمنين صوريين: {لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:4]، فقراءة القرآن أيها الإخوة من أعظم شعب الإيمان، والذي يداوم ويكثر الصلة بالقرآن تلاوةً، وتدبراً، وتجويداً، وعملاً، وتطبيقاً، يزيد إيمانه حتى يصير مثل الجبال، والذي يهجر القرآن، ويقطع الصلة بالقرآن، يتضاءل إيمانه، وينحسر دينه إلى أن يضعف، بل يذبل، وربما يموت وينتهي إيمانه.
ولهذا ترون في الناس من جفاف في الأرواح، وقسوة في القلوب، وتحجر في العيون، وجرأة في المعاصي، وكسل في الطاعات؛ السبب الأول والأخير في ذلك بُعد الناس عن القرآن، وإذا أردت أن تعرف مقدار درجة الإيمان عند أي شخص فانظر إلى علاقته بالقرآن.
وإذا أردت أن تعرف منزلتك عند الله؛ فاسأل نفسك عن منزلة القرآن في قلبك، إن كان للقرآن في قلبك مكان ومحل ومنزلة ولك به علاقة، فاعلم أن لك منزلة عند الله، وإن كان القرآن مهجوراً في حياتك وليس له مكانة، فليعلم العبد البعيد ألا مكانة له عند الله.
فالله الله أيها الإخوة! عودة إلى كتاب الله، إن قراءتك للقرآن ذكرٌ لك في الأرض، وذخرٌ لك في السماء، ولا يوجد أعظم أجراً من تلاوة القرآن، فالذين يقرءون القرآن عندهم ملايين من الحسنات، بل أكثر، يقول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر:29 - 30].
فلابد أن تعيد ترتيب حياتك بحيث ترتبها على ضوء القرآن الكريم، وتجعل في برنامجك وقتاً للتلاوة، بعد الفجر، بعد المغرب، عقب كل صلاة، قبل كل صلاة، المصحف في الجيب، وفي السيارة، وفي المكتب، وعند سرير نومك، وكلما وجدت فرصة تمد يدك إلى القرآن، وتقرأ القرآن ولك بكل حرف عشر حسنات، قال صلى الله عليه وسلم والحديث في السنن والمسند: (من قرأ حرفاً من القرآن فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول ألم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف) فأي تجارة أعظم من هذا أيها الإخوة.
الشعبة الثالثة من شعب الإيمان المتعلقة باللسان: ذكر الله، وهذه يقول أهل العلم: إنها إذا ما وجدت فهي دليل على حياة القلب بالإيمان، وعدم وجودها دليلٌ على موت القلب، وعدم وجود الإيمان فيه، لحديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: (مثل الذي يذكر الله، والذي لا يذكر الله؛ كمثل الحي والميت).
والذكر هذا عمل عظيم، في سنن أبي داود وغيره -يعظمه شيخ الإسلام ابن تيمية - حيث قال صلى الله عليه وسلم: (ألا أدلكم على أفضل الأعمال عند مليككم، وأزكاها عند ربكم، وخيرٌ لكم من إنفاق الذهب والفضة، وخيرٌ لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا رقابهم ويضربوا رقابكم؟! قلنا: بلى يا رسول الله! قال: ذكر الله) فذكر الله عظيم، إذا ذكرت الله ذكرك الله، إذا ذكرت الله في نفسك ذكرك الله في نفسه، وإذا ذكرت الله في مجموعة من الناس ذكرك الله في ملأ خير منهم في السماء: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152] وقد طلب الله من العباد أن يكثروا من ذكره: {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً} [الأحزاب:41] {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب:35].
وطلب من العبد أن يشغل لسانه بالذكر دائماً: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران:191] فلا يوجد حالة رابعة، إما قائم، أو قاعد، أو راقد، فتذكر الله قائماً، وقاعداً، وعلى جنب.
ولكن -أيها الإخوة- ما أصعب الذكر على الغافلين.
لقد غفل كثير من الناس عن ذكر الله، وملئت حياتهم بما يصد عن ذكر الله، ملئت حياتهم بشيء يقعدون أمامه الساعات الطوال لا يذكرون الله، يجعل أحدهم دشاً فوق البيت ثم يأخذ معه الجهاز، ويقفز من شر إلى شر، ومن قناة إلى قناة، حتى يقوم وقد جف قلبه، وتحجرت عينه، ويأتي لينام فترفض عينه أن تغمض؛ لأنها قد جفت من الدمع، من النظر إلى الحرام -والعياذ بالله- وقلبه أقسى من الحجر، وجسمه أكسل ما يكون في طاعة الله، لماذا؟ لأنه غفل عن ذكر الله.
وما كانت في الماضي هذه الأمور فالله الله! ذكراً لله، لا بد أن تكون ذاكراً لله بأنواع الذكر الخمسة: الأول: ذكر الله عند ورود أمره.
الثاني: ذكر الله عند ورود نهيه.
الثالث: ذكر الله في الأحوال والمناسبات.
الرابع: ذكر الله بالأذكار العددية.
الخامس: ذكر الله المطلق.
(لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله) كما قال صلى الله عليه وسلم.
الشعبة الرابعة من الشعب المتعلقة باللسان: تعلم العلم وتعليمه: فإن هذا من أعظم الشعب، ومجيئكم إلى هذا المجلس جزءٌ من شعب الإيمان، ولهذا سوف تجدون بعد نهاية الجلسة أن قلوبكم أرق وأرقى في الإيمان منها قبل أن تدخلوا، لن يكون قلبك بعد نهاية الجلسة مثلما كان قبل أن تأتي، لماذا؟ لأن إيمانك زاد، وكيف؟ بسماع العلم، سمعت آية من كتاب الله، وحديثاً من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلمة ترقق قلبك، وتقربه إلى الله، ولذا لا بد أن تتعاهد قلبك حتى يزيد إيمانه عن طريق مجالس العلم.
اجعل في جيبك ورقة وفيها الندوات والمحاضرات التي بين المغرب والعشاء في أي مكان في الرياض -مثلاً- واجعل هذا الوقت لله، وقل: ليس لي عمل عند أحد، ولست مدعواً عند أحد، ولا أنا مشغول بأحد، لماذا؟ عندي محاضرة في مسجد كذا، وغداً في مسجد كذا، وتابع حلق الذكر بهذا بعد فترة تجد إيمانك مثل الجبال، زاد إيمانك عن طريق تعلم العلم.
الشعبة الخامسة: الدعاء: دعاء الله، وتفويض الحاجات إلى الله، وطلبها من الله، هذا يدل على قوة الإيمان؛ لأن الذي يدعو عنده ثقة، ويقين على أن المدعو قادر، ولذا تجد دائماً كل من كان إيمانه بالله أقوى كانت صلته بالله أقوى، ودعاؤه لله أقوى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان أكثر الناس دعاءً لربه، ما كان يعمل شيئاً إلا ويدعو الله، في كل أمر يدعو ربه، وكلما دعوت ربك استجاب لك، لكن لا تعجل، وتقول: قد دعوت، وقد دعوت! لا.
مشيئة الله ليست على ما تريد، ادع وعندك يقين أن الله لن يضيع دعاءك، يقول الله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]، وخصوصاً إذا خلا الدعاء من الموانع التي تمنعه من الوصول إلى الله سبحانه وتعالى، ومن أعظمها أكل الحرام، الذي يتغذى بالحرام لا يستجيب الله دعوته، والحديث في صحيح مسلم: (الرجل أشعث أغبر يطيل السفر، يمد يده إلى السماء: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له؟!!) يعني: يستبعد أن يستجاب له؛ لأنه قد أكل الحرام والعياذ بالله.
الشعبة السادسة: الاستغفار: وهو إعلان الانكسار والتضرع بين يدي الله، وهو مشروع عقب الطاعات فضلاً عن المعاصي، يقول الله عز وجل: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ} [البقرة:199] بعد يوم عرفة، وأنتم واقفون طوال اليوم في عرفة وقد غفر الله الذنوب، أفيضوا واستغفروا الله: {كَانُوا قَلِيلاً مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17 - 18].
إذا صلينا الآن العشاء، من وقت أن يسلم الإمام وكل واحد منا يقول: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، تستغفر من ماذا؟ هل كنت تغني، أو تلعب أم تصلي؟ والصلاة أعظم عمل، لكن تستغفر الله، لماذا؟ لأنك قد تكون قصرت في صلاتك سهوت أو غفلت، أو أنقصت أو زدت، تستغفر الله، فإذا كان الاستغفار مشروعاً ومطلوباً عقب الطاعة، فكيف لا يكون مشروعاً عقب المعصية؟! ولهذا قال الله عز وجل: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُو(104/11)
شعب الإيمان المتعلقة بالقلب
أما المتعلقة بالقلب فهي أربعٌ وعشرون شعبة: فمن الأولى إلى السادسة: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وبالقدر خيره وشره، وباليوم الآخر، والإيمان باليوم الآخر يشمل: الإيمان بعذاب القبر، وبالحساب يوم القيامة، وبالميزان الذي توزن فيه أعمال الخلق، وبالصراط، وهو جسر يضرب على متن جهنم لا عبور إلى الجنة إلا عن طريقه، والإيمان بالجنة وبالنار، فهذه كلها من شُعب الإيمان.
السابعة: محبة الله من شعب الإيمان.
الثامنة: الحب في الله والبغض في الله، وهذه من أقوى شُعب الإيمان.
التاسعة: محبة النبي صلى الله عليه وسلم.
العاشرة: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وهي من الإيمان، فلا ينبغي أن يُذكر الرسول وما تقول: اللهم صلِّ وسلم عليه، لماذا؟ لأن الله تعالى أمرك بهذا، وامتثال أمر الله من الإيمان، يقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب:56]، فإذا ما صليت عليه فقد صلى عليه الله وملائكته: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56]، وقال صلى الله عليه وسلم: (من صلى عليَّ صلاة واحدة، صلى الله عليه بها عشراً) والصلاة من الله رحمة، والصلاة من العبد دعاء، فإذا صليت على النبي صلى الله عليه وسلم صلاة واحدة رحمك الله عشر مرات.
وفي صحيح مسلم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد المنبر فقال: آمين، آمين، آمين، ثلاث مرات، قلنا: يا رسول الله! ما آمين؟ قال: جاءني جبريل وقال لي: رغم أنف من ذكرت عنده ولم يصلِ عليك، قل: آمين، فقلت: آمين، ثم قال: رغم أنف من أدرك رمضان ولم يغفر له، قل: آمين، فقلت: آمين، ثم قال: رغم أنف من أدرك أبويه أو أحدهما ولم يدخلاه الجنة قل: آمين، فقلت: آمين).
(رغم أنفه) أي: تمرغ أنفه بالرغام، والرغام هو التراب الدقيق وهذه خسارة -والعياذ بالله- والثانية: (من أدرك رمضان) أي: أن رمضان دخل وخرج وهو على عادته ومعاصيه وفسقه وفجوره -والعياذ بالله- والثالثة: (من أدرك أبويه)؛ لأن وجود الأب والأم من أعظم الفرص لدخول الجنة، وهو باب عظيم اغتنمه قبل أن يموتا أو قبل أن تموت.
ومن الشعب المتعلقة بالقلب: الحادية عشرة: الإخلاص.
الثانية عشرة: التوبة.
الثالثة عشرة: الرجاء.
الرابعة عشرة: الشكر.
الخامسة عشرة: الوفاء.
السادسة عشرة: الرضا بمر القضاء.
السابعة عشرة: التوكل.
الثامنة عشرة: الرحمة.
التاسعة عشرة: التواضع.
العشرون: توقير كبير المسلمين ورحمة صغيرهم.
الحادية والعشرون: ترك الكبر.
الثانية والعشرون: ترك الحسد.
الثالثة والعشرون: ترك الحقد.
الرابعة والعشرون: ترك الغضب.
فهذه شُعب إيمانية متعلقة بالقلب.(104/12)
شعب الإيمان المتعلقة بالجوارح
أما الشعب المتعلقة بالجوارح فهي كما أسلفت ثمان وثلاثون شعبة: الأولى: الطهارة؛ لأنها مفتاح العبادة.
الثانية: ستر العورة.
الثالثة: الصلاة.
الرابعة: الزكاة.
الخامسة: فك الرقاب.
السادسة: الكرم.
السابعة: الصيام.
الثامنة: الحج.
التاسعة: العمرة.
العاشرة: الاعتكاف.
الحادية عشرة: التماس ليلة القدر.
الثانية عشرة: الفرار بالدِّين.
الثالثة عشرة: الوفاء بالنذر.
الرابعة عشرة: التحري في الأيمان.
الخامسة عشرة: أداء الكفارات.
السادسة عشرة: التعفف بالنكاح.
السابعة عشرة: القيام بحقوق العيال وتربيتهم.
الثامنة عشرة: بر الوالدين.
التاسعة عشرة: صلة الرحم.
العشرون: العدل.
الحادية والعشرون: لزوم الجماعة.
الثانية والعشرون: طاعة أولي الأمر.
الثالثة والعشرون: الإصلاح بين الناس.
الرابعة والعشرون: المعاونة على البر.
الخامسة والعشرون: الأمر بالمعروف.
السادسة والعشرون: النهي عن المنكر.
السابعة والعشرون: إقامة الحدود.
الثامنة والعشرون: الجهاد.
التاسعة والعشرون: أداء الأمانة.
الثلاثون: الوفاء بالدين.
الحادية والثلاثون: إكرام الجار.
الثانية والثلاثون: حسن المعاملة.
الثالثة والثلاثون: عدم التبذير.
الرابعة والثلاثون: رد السلام.
الخامسة والثلاثون: تشميت العاطس.
السادسة والثلاثون: كف الأذى.
السابعة والثلاثون: اجتناب اللهو.
الثامنة والثلاثون: إماطة الأذى عن الطريق، وهي آخرها.(104/13)
علاقة شعب الإيمان بزيادته أو نقصانه
هذه أيها الإخوة! هي مجموع شُعب الإيمان التسع والستين، من حققها كلها فقد حقق الإيمان كاملاً، ومن نقص منها نقص من إيمانه بقدر ما أنقص من هذه الشعب، إلا أن يكون النقص في الأركان؛ لأن الأركان التي ذكرت في صحيح البخاري وصحيح مسلم من حديث جبريل: (أخبرني عن الإيمان؟ قال: الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وبالبعث بعد الموت، وبالقدر خيره وشره من الله) فهذه الستة إذا نقص منها واحد بطل الإيمان كله، لا بد من الأركان، وبقية الشُعب إذا نقص منها شيء إن كان من أركان الإسلام مثل الصلاة فقد بطل الإيمان كله، وإن كان غير ذلك خدش وجرح في الإيمان، فهو يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا جميعاً حقيقة الإيمان، وأن يوفقنا إلى القيام بتكاليف الإيمان وبشُعب الإيمان، كما أسأله سبحانه وتعالى أن ينصر دينه، وأن يعلي كلمته، وأن يبرم لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه أهل الطاعة، ويذل فيه أهل المعصية، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، إنه سميع الدعاء.
اللهم احفظ لنا ديننا وأمننا واستقرارنا ونعمك علينا، اللهم من أرادنا في ديارنا أو غيرنا من ديار المسلمين، بسوءٍ، أو شرٍ، أو كيدٍ، أو مكرٍ، فاجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، وأنزل عليه بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم احفظ ووفق ولاة أمورنا وعلماءنا ومشائخنا ودعاتنا، وشبابنا، وشاباتنا، وجميع المسلمين، وفقهم للعمل بهذا الدين، والدعوة إليه، ومناصرته، إنك ولي ذلك والقادر عليه.
والله أعلم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(104/14)
الأسئلة(104/15)
الفرق بين حلاوة الإيمان ولذة العبادة
السؤال
ما هو الفرق بين حلاوة الإيمان ولذة العبادة، وما هو الطريق للوصول إليهما، وما هي العوائق لهذه الأشياء؟
الجواب
ليس هناك فرق بين حلاوة الإيمان ولذة العبادة، فإن العبادة عمل بالجوارح، واللذة والحلاوة عمل قلبي، قد تجد اثنين يصليان مجتمعين، ولكن بين صلاتيهما مثلما بين السماء والأرض، أحدهما يمارسها وقلبه جاف، وعينه جامدة، وجوارحه مشغولة، وآخر يمارسها بقلبه وقالبه، ويشعر بلذة لها، فاللذة والحلاوة هي شيء واحد.
وأما كيف يحققها الإنسان؟ فيمكنه ذلك بكثرة العبادة والمجاهدة، والتلاوة للقرآن والذكر، والذي ينغصها ويقلل هذه اللذة المعاصي، فإنك كلما وقعت في معصية من المعاصي نقص من إيمانك بقدر المعاصي حتى يذهب، ولهذا ترى بعض الشباب الآن يشكون ويقولون: والله! ذهبت منا لذة الإيمان وحلاوته التي كنا نمارسها منذ أن التزمنا، فتقول له: التزمت وأول ما التزمتَ جاهدتَ، ودخلت الالتزام بمجاهدة وبرغبة فحصلت لك اللذة، الآن بدأت تقل في التزامك وتقل في مجاهدتك، وبدأت تتراجع في سيرك إلى الله، كنت كلما سمعت طرباً أو أغنية تغلقها، الآن تراجعت قليلاً أصبحت تبحث عنها، كنت إذا رأيت امرأة أمامك تنصرف عنها، والآن أصبحت تنظر إليها من قريب أو بعيد، هذا الذي جعل إيمانك يضعف، وجعل قلبك لا يحس بحلاوة الإيمان.
الحلاوة بيدك فإذا زدت في الإيمان؛ تزداد حلاوة الإيمان، وإذا أنقصت في الإيمان؛ تنقص الحلاوة، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود إلى الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار).(104/16)
أثر المعصية على الإيمان
السؤال
متى يعرف الإنسان أنه بلغ مرتبة الإيمان الكامل، وهل من عصى الله تبارك وتعالى أنه خالٍ من الإيمان بتاتاً؟
الجواب
لا.
ليس من عصى الله خالياً من الإيمان بتاتاً، لكنه ناقص الإيمان، ولهذا عقيدة أهل السنة والجماعة في أهل الكبائر: أن صاحب الكبيرة مؤمنٌ بإيمانه، فاسق بمعصيته، عنده إيمان بالإيمان الذي عنده، وعنده فسق بالمعصية التي عنده، ويكون تحت مشيئة الله في الدار الآخرة إن شاء الله تعالى عذبه، وإن شاء غفر له.
أما كيف تعرف أنك كامل الإيمان أو ناقصة؟ فهو بعرض نفسك على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، هذا هو الميزان، زن أعمالك بالكتاب السنة، فإن كنت تقوم بأوامر الله الموجودة في الكتاب والسنة، وتنتهي عما نهى الله عنه في الكتاب والسنة؛ فأنت كامل الإيمان، ولا يعني هذا أنك ستبقى كامل الإيمان دائماً، لا بد من حصول نقص، لكن إذا حصل نقص تصلحه بالاستغفار؛ لأن الله تعالى يقول: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33] وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم: (كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون).(104/17)
مزية القلب على الجوارح
السؤال
من المعلوم أن القلب هو محل الإيمان، ومكان النية، ومنزل المحبة وغير ذلك، لكن ما سبب تميز القلب بذلك عن سائر الجوارح؟
الجواب
إن الله سبحانه وتعالى جعل القلب ملك الجوارح، فحينما خلق الأعضاء وخلق الجسم جعل لها مديراً ومسئولاً، ولذا من يقول أنا التزمت بالدين، ما الذي حصل؟ تغير فيه قلبه، أما عينه ما تغير فيها شيء، لكن قلبه حصلت عنده مفاهيم جديدة، وحصل عنده إيمان، وتفكير ونظر أنه ليس له مخرج في الحياة إلا بالإيمان والدين؛ لأن الدين يكسبه السعادة في الدنيا، والسعادة عند الموت، وبعد الموت، فلما قرر القلب أن يلتزم التزمت الجوارح، العين التي كانت تنظر في الحرام، قال: كفى يا عين! قالت: حسناً، الأذن التي كانت تسمع الحرام قال: لا تسمعي! قالت: سمعاً وطاعة، اللسان الذي كان يتكلم بالحرام صار لا يتكلم، لماذا؟ لأنه صلح القلب، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب) فتميز القلب بهذا؛ لأنه صاحب السيطرة والهيمنة والقرار، وجعل الله هذه الجوارح تحت إمرة القلب، يأمر وينهى، ولذلك كانت القلوب هي ميادين الإصلاح للأنبياء، ما جاء الأنبياء يصلحون الأجساد أبداً، بل جاءوا يصلحون القلوب؛ لأنه إذا صلح القلب صلح كل شيء.(104/18)
حكم الاستهزاء بالدين
السؤال
ما رأيك يا شيخ في الذين يستهزئون بالدين، وخاصة أن هناك من إذا رأوا الملتزمين الذين لا يسبلون ثيابهم غمزوهم وسخروا منهم، وتراهم في المجالس لا يذكرونهم بخير أبداً، بل يغتابونهم آناء الليل وأطراف النهار، فأصبح أمرهم كذلك؟
الجواب
هذا العمل سماه الله تعالى إجراماً، وسمى الله الذين يقومون به مجرمين، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} [المطففين:29]، وعده الله سبحانه وتعالى كفراً، وأثبت كفر مرتكبه في القرآن إلى يوم القيامة، الذي قال في غزوة تبوك قال: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء -أي الرسول وأصحابه- أرغب بطوناً وأجبن عند اللقاء، فقائل هذا الأمر يمزح وليس بصادق، فهو يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أعف الناس بطناً وأشجع الناس صلى الله عليه وسلم، ولكن قالها مزحاً فنزل القرآن من السماء: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة:65] يعني نمزح ما كنا جادين، كما يقولون، قال الله: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66] فالله سبحانه وتعالى أثبت لهم إيماناً ثم نفاه عنهم، وأثبت لهم الكفر بكلمة تكلموا بها.
فلا تقل: أنا أمزح، لا.
كل شيء تمزح فيه إلا الدين؛ لأن الدين له حصانة، والذين يمثلون الدين هم العلماء، والدعاة، والملتزمون؛ ولهم حصانة، وإذا استهزأت بهم استهزأت بالله؛ لأن هذا الرجل ما استهزأ بالله، بل استهزأ بالرسول وأصحابه، ولكن الله سبحانه جعل هنا الاستهزاء به وقال: {قُلْ أَبِاللَّهِ} [التوبة:65] رغم أن الرجل ما قال شيئاً في الله، بل قال في الرسول وأصحابه فقط، فجعلها الله سبحانه استهزاءً به.
فلما تهزأ باللحية، فأنت لا تهزأ بالشخص الذي أطلقها، بل تستهزئ بالنبي الذي أمر بها؛ لأن هذه سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وعندما تهزأ من رجل قصر ثوبه واتبع السنة، فأنت لا تستهزئ بالرجل، ولكن تستهزئ بالذي أمره بهذه السنة، ولذلك انتبه يا أخي! عليك أن تقف عند حدك فيما يتعلق بشيء من ذلك، فلا تستهزئ بالأئمة، ولا بالمؤذنين، ولا بالدعاة، ولا بالقضاة، ولا بالعلماء، ولا بأي شيء فيه دين الله، حتى أن بعض الناس عندهم نكت، يأتون بها على بعض الآيات، أو الأحاديث، أو الأئمة، لا.
النكت ابحث لها عن مكان آخر؛ لأن دين الله حق، ولا يقبل الاستهزاء ولا السخرية.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(104/19)
الفراغ في حياة المرأة المسلمة
تحدث الشيخ في هذه المحاضرة عن الفراغ الذي أصبح سمة مميزة في حياة كثير من النساء، فبدأ بالحديث عن الحكمة أو المهمة التي من أجلها خلق الله الإنسان في هذه الحياة، مبيناً خلال ذلك أهمية الوقت والحث على استغلاله، كما تحدث عن أسباب وجود الفراغ في حياة المرأة المسلمة، وذكر الأسباب التي تعين على حفظ الوقت، وختم حديثه بذكر المجالات التي يمكن للمرأة المسلمة استغلال الوقت فيها، بما يعود بالخير عليها وعلى المجتمع المسلم.(105/1)
المهمة التي خلق الله الناس لأجلها
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: المعروف لدى الجميع أن المهمة التي خلق الله عز وجل الخلق لأجلها والسر الذي من أجله أوجد الله الناس على ظهر هذه الأرض هو: العبادة، يقول الله تبارك وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56 - 58] فالله عز وجل لم يخلق الناس عبثاً {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:115 - 116].
إن الله تعالى منزه عن العبث {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص:27] {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء:16 - 18].
والسر الذي من أجله خلق الله الإنس والجن على هذه الأرض هو: العبادة، والعبادة بمفهومها الشرعي ذات مدلول واسع؛ فليست مقصورة فقط على الشعائر التعبدية التي تعبد الله الناس بها من صيام وزكاة وحج -هذه هي أسس العبادة- ولكنها تظم جميع شئون الإنسان حتى عاداته ومباحاته إذا أحسن الإنسان النية فيها وفي مزاولتها عدت من عبادته، حتى أكله وشربه يقول عليه الصلاة والسلام: (إن الله ليرضى عن العبد يأكل اللقمة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها) وحتى في ممارسة أحب الأشياء إليه وهو الجنس إذا كان في طريق مشروع حلال، يقول عليه الصلاة والسلام: (وفي بضع أحدكم صدقة) فاستغرب الصحابة! كيف يكون للإنسان على هذا الأمر أجر، مع إنه أمر مادي بحت لا علاقة له بالدين؟! قالوا: (أيأتي أحدنا شهوته ويكون له عليها أجر؟! قال: أريتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ قالوا: نعم يا رسول الله! قال: كذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر).(105/2)
أهمية الوقت
العبادة لها محتوى ولها وعاء وإناء لا بد أن تمارس فيه، ألا وهو الوقت، الوقت هو المحتوى والوعاء الذي يمكن للإنسان بواسطته أن يملأه بما يحبه الله ويرضاه من العمل الصالح والعبادة الخالصة لوجه الله عز وجل، فضياع هذا الوقت هو ضياع للعبادة، فإذ ضيع الإنسان وقته فكيف يقضي عبادة ربه؟ أو من أين يتسنى له أن يوجد وقتاً وقد ضاع فيما لا ينفع فيملأه بما يفيد؟ الوقت هو عمر الإنسان، والإنسان هو مجموعة أيام وشهور وسنين؛ كل يوم ينتهي أو شهر ينتهي أو سنة تنتهي هو جزء من الإنسان، حتى تأتي عليه اللحظة التي لا يبقى من عمره شيء فينتهي وينقل إلى الدار الآخرة ليلقى له الحساب والجزاء على ما عمل، إن خيراً فخيراً وإن شراً فشراً.
وأنا أشبه -وقد قلت هذا في بعض المناسبات- عمر الإنسان -أو الإنسان- بأوراق التقويم التي تعلق في المسجد أو المكتب أو المنزل في بداية العام وهو مملوء بالأوراق -ثلاثمائة وستين ورقة- وما من يوم إلا وتنزع منه ورقة إلى أن يأتي آخر العام ولا يبقى إلا اللوح -أي: الكرتون- فيقذف بهذا الكرتون، وكذلك الإنسان عبارة عن مجموعة أيام؛ كل يوم ينزع منه ورقة إلى أن تنتهي أيامه ولا يبقى إلا الجسد فيرمى في القبر، وهناك يعامل على ضوء ما عمل في هذه الدار؛ إن خيراً فخيراً وإن شراً فشراً.
والعبادة بمفهومها -كما بينت- مفهوم واسع يشمل كل شيء ويغطي مساحة حياة المسلم والمسلمة في كل شيء.
وأذكر لكم أثراً أو حديثاً ذكره الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء، وبإمكانكن -أيتها الأخوات- أن تقسن مستوى الوعي والثقافة والإدراك الذي كن يعشن عليه النساء في زمن النبي صلى الله عليه وسلم على مستوى هذه المرأة والتي هي عيّنة من نساء ذلك المجتمع، انظروا إلى عظمة التفكير، وعلو الهمة! انظروا إلى الهمم التي كانت تعيش على أعلى مستويات يمكن أن يصل إليها الإنسان هذه واحدة من تلك النساء العظيمات.
عن أسماء بنت يزيد بن السكن رضي الله عنها: جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: (يا رسول الله! بأبي أنت وأمي، أنا وافدة النساء إليك، إن الله بعثك للرجال والنساء جميعاً، فآمنا بك وصدقناك، وإنا معشر النساء قواعد بيوتكم ومقضى شهواتكم وحاملات أولادكم، وإنكم معشر الرجال فضلتم علينا في الجمع والجماعات، وفي عيادة المرضى وشهود الجنائز، وفي الحج والجهاد في سبيل الله، وإن الرجل إذا خرج حاجاً أو معتمراً أو مجاهداً حفظنا لكم أموالكم وغسلنا لكم أثوابكم، وربينا أولادكم، أفلا نشارككم في الأجر؟ فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه بوجهه وقال: هل سمعتم بمقالة امرأة قط أحسن من هذه!؟!) تعجب صلوات الله وسلامه عليه من هذه المرأة!! هذه المرأة العظيمة كانت تريد أن يتاح لها من فرص العمل الصالح ما أتيح للرجال، ثم قال لها: (أعلمي من خلفك من النساء: أن حسن تبعل المرأة لزوجها، وطلبها لرضاه، واتباعها لموافقته يعدل ذلك كله) حسن تبعلها وطلبها لرضاء زوجها واتباعها لموافقة زوجها يعدل في الأجر والثواب ذلك كله؛ يعدل الجهاد في سبيل الله وحضور الجمعة والجماعات، والحج والعمرات لماذا؟ لأنها تتمثل في هذا الأمر وهي تمارسه؛ تتمثل العبودية التي وجهت لها كعضو فعَّال في المجتمع عليها أن تقوم به.
ليس من الضروري أن تمارس المرأة دور الرجل؛ فإن الله عز وجل خلق الرجل رجلاً وجعل له أدواراً يجب أن يمارسها، وخلق المرأة امرأة ووظفها بوظائف ينبغي أن تمارسها {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} [آل عمران:36].
والذين يدعون إلى المساواة يخدعون المرأة ويظلمونها ويلعبون بعقلها، إن من يريد أن يساوي بين الرجل والمرأة يريد أن يلغي سنة كونية الله عز وجل خلقها، وهي عميلة التفريق في الوظيفة وفي المفهوم.
المرأة إنسانة لها وظائف والرجل إنسان له وظائف، فإذا أردنا من الرجل أن يكون امرأة أو من المرأة أن تكون رجلاً فقد صادمنا بين السنن الكونية! من يريد ويطلب من المرأة أن تساوي الرجل أو من النساء أن تساوي الرجل فهذا ظلم للمرأة حقيقة، لماذا؟ لأنه يطلب من المرأة أن تضيف على نفسها عبئاً أكثر مما يمكن أن تحمله، في حين يتخلى الرجل عن الأعباء الرئيسية التي أضيفت إلى المرأة هل يستطيع أن يحمل الرجل سنة وتحمل المرأة سنة أخرى، هل يستطيع الرجل أن يحيض شهراً وتحيض المرأة شهراً آخر؟! لا، لا يستطيع، فللمرأة وظائفها الفيسلوجية التي تتفق طبيعة تكوينها ولها أعبائها التي فرضها الله عليها.
لذا فإن حسن تبعل المرأة وطاعتها لزوجها وموافقتها لأمر زوجها يعدل ذلك كله عند الله عز وجل، فانصرفت هذه المرأة وهي تهلل وتكبر وتقول: لا إله إلا الله.
أي: علمت علم اليقين أنها على خير حينما استجابت لأمر الله عز وجل، وطبقت تعليماته، ولزمت بيتها، وقامت بطاعة زوجها، والإشراف على خدمة أولادها، وهي بهذا تحتسب هذا الأمر عند الله تبارك وتعالى.(105/3)
الحث على استغلال الوقت وملء الفراغ بالطاعة
العمر والوقت الذي يمكن أن يعيشه الإنسان سواء كان رجلاً أو امرأة هو عمر واحد وفرصة واحدة لا تتكرر للإنسان، وبالاستقراء لم نر إنساناً منح هذا العمر ثم مات ثم منح مرة أخرى، ولذا فإن ضياع هذه الفرصة من أعظم السفه، هي فرصة واحدة وإذا ضيعها الإنسان في غير طاعة الله عز وجل فقد خسر خسراناً مبيناً، ولهذا يطلب أهل النار الرجعة ويقولون: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:106 - 108]؛ ليس هناك رجوع مرة أخرى.
ولذا لا بد أن يكون العاقل عاقلاً في محاسبة نفسه على هذه الأوقات، بحيث إذا مر يوم ولم تكتسب فيه خيراً يقربك إلى الله عز وجل فإن هذا اليوم خسارة عظيمة عليك، يقول عليه الصلاة والسلام في حديث أخرجه الإمام أحمد بسند صحيح يقول: (اغتنم خمساً قبل خمس) اغتنم خمساً في يدك قبل أن تأتي خمس تضيع عليك هذه الخمس وتخسرها، ومن ضمنها: (اغتنم فراغك قبل شغلك) الفراغ نعمة، إذا وجد عندك ضمن برنامجك -أيها الرجل أو أيتها المرأة- فراغاً يمكن أن تملأه بما يرضي الله فاغتنم هذا الفراغ، فلا يحصل عندك فراغ إلا وتغتنمه قبل أن يفوت وقت هذا الفراغ ويأتي عليك وقت لا تجد فيه فرصة لمزاولة عمل فتندم ولكن حين لا ينفع الندم! والوقت الذي هو الفراغ إن لم يشغل بالحق أشغل بالباطل، إذ لا يمكن أن يظل الإنسان فارغاً هكذا؛ بل لا بد أن ينظر ويسمع ويتكلم ويقوم ويقعد فإن لم يشغل نفسه بنظرٍ حلالٍ وبسماعٍ حلالٍ وبكلام حلال ومباح أشغلته نفسه بالباطل، يقول الشافعي: نفسك إن لم تشغلها بالحق أشغلتك بالباطل.
والوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك.
إن لم تقطعه في طاعة الله قطعك في معصيته، لا يمكن أن يقف الوقت وينتظرك، اليوم هو اليوم السادس من شهر ربيع الأول من عام ألف وأربعمائة وأربعة عشر، وسيمضي هذا اليوم وينتهي وسيمر علينا مرة ثانية ولكن من عام ألف وأربعمائة وخمسة عشر بعد عام هذا اليوم.
فإذا غربت شمسه فلن يعود إلى يوم القيامة، وسيحمل معه ما خزن فيه، وهذه الخزائن تفتح بين يدي الله تعالى، ويقدم كشف الحساب للإنسان العامل عند موته ويقال له: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:29].(105/4)
أسباب وجود الفراغ في حياة المرأة
ووقت الفراغ الذي يحصل في حياة المرأة- نحن الآن نتكلم عن المرأة باعتبار أن المشكلة تخصها فكثير من النساء يشعرن بوقت فراغ- نتج عن أسباب، وهذه الأسباب هي:(105/5)
تخليها عن مسئولياتها في البيت وإسنادها إلى الغير
أولاً تخليّها عن مسئولياتها في البيت وإسناد هذه المسئوليات إلى الغير، فنتج عن هذا التخلي وعدم المبالاة فراغ، إذ أول مسئولية في البيت هي مسئولية التدبير المنزلي، فالتدبير المنزلي من تدبيرات المرأة: خدمة الزوج الطهي الغسل نظافة المنزل هذه الأعمال ليست أعمالاً مبتذلة لا يصح أن تسند إلى المرأة، لا.
بل هي في حق المرأة ربما تكون من العبادات، فلما أسندت هذه الوظائف إلى الخادمة أو الشغالة حصل عن هذا الإسناد لهذه الوظيفة فراغ.
ثانياً: وكذلك مهمة تربية الأولاد من أوجب المهمات ومن أعظم المسائل المتعلقة بالمرأة، ولقد أسندت هذه المهمة إلى الشغالة وإلى الروضة وإلى المدرسة، ولم يعد للمرأة دور في ممارسة عملية التربية للولد وللبنت إلا دور بسيط عند المهتمات، أما بعض الأمهات فلا تعرف عن أولادها ولا عن تربيتهم شيئاً، وهذا من أخطأ الخطأ.
ثالثاً: وكذلك نتج الفراغ من جهل المرأة بحقوق الزوج وعدم إعطائها الحق الكامل لزوجها، الزوج مسئولية، وعلى المرأة تجاهه واجبات لا بد أن تقوم بهذه الواجبات، ليست مقصورة فقط فيما تفهمه المرأة غالباً وهو الجانب الجنسي فقط، لا.
الزوج كما يقول أحد العلماء شغلة للمرأة، يجب أن تصرف في خدمته شخصياً ثلث عمرها- ثمان ساعات- لرضاه لخدمته لاستقباله للأنس به للجلسة معه للعناية به لتمريضه لكل شغلة، لكن الرجل لا يجد من المرأة في هذه الجوانب شيئاً، معطلة لهذه الحقوق، وبالتالي تسوء العشرة بين الرجل والمرأة ويضطر إلى الزواج بأخرى تمنحه شيئاً من هذا الحق، أو يعيش طوال حياته مهضوماً مكلوم القلب، يعيش في معاناة نفسية وعذاب داخلي؛ لأنه مهضوم ما أعطي حقه، بينما المرأة هي التي قصرت في هذا الحق.
فنقول للمرأة: إن تخليّها عن مسئوليات بيتها تجاه تدبير منزلها، وتربية أولادها، وخدمة زوجها أحدث لديها فراغاً حاولت أن تملأه بما لا ينفعها، فعبرت عن هذا بما سأذكره إن شاء الله من أشياء غير مناسبة أن تقضي المرأة جزءاً من وقتها متسكعة في الشوارع ومتجولة في الأسواق؛ لأنها فارغة ليس لها غرض أصلاً ولا تريد أن تشتري شيئاً فقط تقول: خذني إلى السوق.
يقول لماذا؟ قالت: نشتري حاجة، وليس في ذهنها شيء! إنما أحست بالضيق في البيت فأرادت أن تقضي شيئاً من الفراغ في السوق، أو تقضيه في مشاهدة الأفلام والمسلسلات، أو في الزيارات المتكررة والجلسات التي تجلس فيها مع جيرانها وجاراتها في جلسات أكثرها معصية لله عز وجل؛ في قيل وقال وغيبة ونميمة وفلانة وعلانة وهذا كلام كله لا يرضي الله تبارك وتعالى! هذا الفراغ ملئ بالباطل يوم تخلت عنه المرأة ولم تملأه بالحق المطلوب منها.(105/6)
التسويف
من الأسباب التي أدت إلى وجود الفراغ: التسويف؛ والتسويف هذا عمل الكسالى من الرجال أو النساء: سوف أعمل سوف أحفظ القرآن سوف أحفظ السنة سوف أكون خياطة سوف أكون مدبرة سوف سوف، ومرت سنة وعشر وعشرون وحليمة على عادتها القديمة لم تتعلم شيئاً، ولم تحفظ آية، ولم تحفظ حديثاً ولا قامت بأي جهد وإنما تمني نفسها وتلعب على نفسها وتخدع نفسها بالتسويف، والتسويف هو رءوس أموال المفاليس، تقول له: ما عندك؟ قال: سوف أبني عمارة في المستقبل، ويموت وهو لم يحقق شيئاً، لماذا؟ لأنه يعيش على الأماني.
هذا التسويف من أخطر الأشياء على المرأة، يجب أن تكون المرأة جادة فعَّالة صادقة تعمل لا تسوف؛ لأن التسويف يضيع عمرها ويشغلها بالأمور التافهة التي لا تنفعها في الدنيا ولا في الآخرة.(105/7)
النوم
ومن أسباب الفراغ الذي يحصل عند المرأة: النوم.
وكثير من النساء لا تنظم برنامج النوم، فيستغرق عدم التنظيم أكثر من اللازم، وإلا فالجسم يحتاج إلى النوم كطبيعة وكضرورة بشرية، لكن لا بد أن يكون له موعد نظام من الساعة -مثلاً- من الحادية عشرة مساءً -أو العاشرة- إلى قبل الفجر بنصف ساعة وتستيقظ، لكن المرأة فوضوية أحياناً، تسهر إلى الساعة الثالثة ليلاً ثم تنام إلى العصر، وأحياناً تجلس طول اليوم ثم تنام بعد العصر فلا تستيقظ إلا الفجر، يعني: لا يوجد تنظيم في عملية النوم، ويؤدي عدم التنظيم إلى خلخلة في التفكير وإلى ضياع في الوقت تنام عشر ساعات وتستيقظ عشرين ساعة، ثم تنام عشرين ساعة، ثم تستيقظ ثلاثين ساعة؟! ليست منظمة، لا بد أن تكون المرأة منظمة، فعند الساعة الحادية عشرة تطفئ الأضواء من أجل أن ينام الأولاد وتنزع حتى التليفونات حتى يكون البيت هادئاً، وعند الساعة السابعة يكون كل البيت قد استيقظ لكن عندما لا ينظم الوقت يضيع العمر ويضيع الوقت من حيث لا تشعر المرأة.(105/8)
القدوة السيئة
ومن أهم الأسباب أيضاً: القدوة السيئة.
فهناك من النساء من لا يكون لها قدوة حسنة في حياتها، وإنما تقتدي بالسيئات، فتخرج وتقرأ وتسمع أخبار الممثلات والراقصات والمغنيات والساقطات وتريد أن يكون لها قدوة من هؤلاء! وبالتالي تشعر بنوع من الفراغ تملأه بمتابعة هذه الأخبار التي ليست لها ولا تليق بها كامرأة مسلمة تؤمن بالله واليوم الآخر وترجو لقاء الله تبارك وتعالى.
هذه هي مجمل الأسباب التي تؤدي إلى وجود فراغ عند المرأة المسلمة.
ولكن هل هناك أشياء تعين المرأة على حفظ أوقاتها؟(105/9)
أسباب تعين المرأة على حفظ الوقت
نعم.
سأذكر إن شاء الله تعالى الأشياء التي تعين المرأة على حفظ وقتها، وأيضاً مجالات قضاء الوقت، أوكيف تقضي المرأة وقتها؟ أما الأشياء المعينة على قضاء الوقت فكثيرة منها:(105/10)
الخوف من الله تعالى
أولاً: الخوف من الله تعالى، واستشعار عظمته، والعلم بأن الله خلقها للعبادة، وأن الله عز وجل سائلها عن كل دقيقة من دقائق عمرها، وأن الله عز وجل سيحاسبها على كل لحظة تقضيها في غير مرضات ربها، فإذا استشعرت هذا كله وشعرت به أدى هذا إلى أن تغتنم الوقت ولا تضيع منه دقيقة واحدة إلا فيما يعود عليها بالنفع في الدين أو في الدنيا والآخرة.(105/11)
معرفة الأزمنة والأمكنة الفاضلة والمفضولة
ثانياً: معرفة الأزمنة والأمكنة الفاضلة والمفضولة، فعندما يكون عندها فقه في دين الله بحيث تعرف يوم الجمعة أنه يوم عظيم، وأنه خير يوم طلعت فيه الشمس، وتعرف أن يوم الإثنين والخميس أيام صيام، وتعرف أن ثلاثة أيام من كل شهر هي أيام صيام هذه الأزمنة إذا عرفتها أعانها ذلك على أن تقضيها في طاعة الله؛ لأن بعض النساء تعرف من يوم الجمعة أنه يوم عطلة ونوم ونزهة وتمشية على البحر وخرجة إلى البر، ولا تعرف أن يوم الجمعة يوم فضيل وذكر، وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ودعاء من بعد العصر إلى المغرب؛ لأن فيه ساعة الاستجابة، ويوم قراءة سورة الكهف، واستعداد للتبكير إلى الصلاة تهيء زوجها؛ فتلبسه وتعطره، وتغسل أولادها وتلبسهم وتنظفهم ولا تأتي الساعة العاشرة إلا وهم في المسجد، فترجع هي وتقوم بدورها في تدبير منزلها، ثم تقوم بالتنظيف والتهيؤ للصلاة، والدخول في مخدعها أو غرفتها وأخذ المصحف وقراءة سورة الكهف، ثم الصلاة، ثم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم الدعاء هذا كله من أعمال يوم الجمعة.
لكن إذا لم يكن للمرأة فقه في هذا ضيعت يوم الجمعة كله في نوم؛ تنام إلى الساعة الثانية عشرة، ثم تقوم ولا توقظ زوجها، ويمكن أن يخرج هو متأخراً، ولا يمكن أن يدرك أحدهم حتى الخطبة، ثم تقوم هي بالطهي من الساعة الثانية عشرة إلى الساعة الثالثة، ويأتي زوجها وما قد صلت ولم تقرأ حتى سورة الكهف، وبعد العصر تمشية إلى نصف الليل هل هذا مما يليق بالمرأة المسلمة؟! هذا من الضياع! هذا من الفراغ وعدم معرفتها لفضيلة الأزمنة التي تمر عليها! فمعرفة المرأة لفضيلة الزمان يعينها على حفظ وقتها(105/12)
شعور المرأة بواجبها تجاه نفسها
ثالثاً: شعورها بواجبها تجاه نفسها أولاً، فتعلم أنها مطالبة تجاه هذه النفس بحقوق، وأنها مطالبة تجاه الزوج بحقوق، وتجاه أبنائها، وبيتها، ومجتمعها هي فرد لا تقول: ليس عليَّ، لا.
كل إنسان في المجتمع يؤدي دوره؛ فإذا فسد هو فسيؤدي فساده في التالي إلى فساد في المجتمع، كحبة التفاح الفاسدة إذا وضعت في صندوق تفاح سليم، هل سيبقى الصندوق كما هو، أم ستؤدي هذه الحبة إلى إفساد الأخريات؟ وهكذا المرأة لها دور عظيم يجب أن تشعر به في عملية إصلاح أمتها، ومجتمعها، ومحيطها الأسري، ومحيطها العائلي الضيق، وزوجها، وأولادها، ونفسها، وخادمتها يجب أن تشعر بهذه الوظيفة وهي: أن تكون أينما وضعت وأينما كانت بناءة، كلمتها صالحة ونظرتها هادفة، وسماعها صالح، وأعمالها كلها صالحة، لا تكون فارغة، أو جوفاء، أو سطحية، همومها فقط مقصورة على الملابس والديكورات والموديلات والأصباغ والتمشيات والأكلات وماذا نتغدى؟ وماذا نتعشى؟ وماذا نفطر؟ أصبح هم الناس الآن: ما هو الغداء وما هو العشاء؟ يعني: شغلتنا بطوننا ولا حول ولا قوة إلا بالله! لكن ماذا نقرأ؟ ماذا نعمل؟ كم نصلي؟ كم نذكر الله؟ من نزور في الله؟ من نعطيه شريطاً في الله؟ من نعطيه كتاباً في الله؟ من اهتدى على أيدينا؟ هذه هموم ثانوية عند كثير من الناس لا يفهمها! وهنا يتفاوت الناس في معرفة حقيقة الحياة بحسب أعمالهم التي يمارسونها في هذه الحياة.
إذاً: فشعور المرأة بواجبها أو ما كلفها الله نحو نفسها ودينها ومجتمعها من أعظم ما يعينها على استغلال وقتها.(105/13)
الجليسة الصالحة
رابعاً: الجليسة الصالحة، فإن الجليس الصالح له أثر على المجالس، والنبي صلى الله عليه وسلم قد بين لنا هذا في حديث صحيح في الصحيحين يقول عليه الصلاة والسلام: (مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك: إما أن يحذيك، أو أن تبتاع منه، أو أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير: إما أن يحرق ثيابك، أو أن تجد منه ريحاً خبيثة) وكذلك الجليس الصالح والجليسة الصالحة التي كلمتها صالحة ونظراتها صالحة وسماعها صالح وأفكارها صالحة وتخطيطها صالح وكل حياتها صالحة التي إذا جلست المرأة معها استفادت منها خيراً.
أما إذا كانت الجليسة سيئة لمجرد أن تجلس معها ونظرتها سيئة وسماعها سيئ ولسانها سيئ وأفكارها سيئة فسوف تزدريك إذا تكلمت بكلام طيب، وتسخر منك إذا نظرت إلى شيء طيب، وتضحك عليك إذا تكلمت بكلام طيب، وتقول: أنت تعيشين في عقلية بعيدة، الناس تطوروا لا، ما تطوروا عندما تركوا الدين بل تثوروا، وأصبحوا حيوانات بشرية، التطور الحقيقي هو في الحفاظ على كتاب الله عز وجل، التطور الحقيقي والعزة الحقيقية هي الدعوة إلى الله تعالى، أما التثور الحقيقي فهو في التخلي عن هذا الدين والعيش كما تعيش البهائم -والعياذ بالله- لأن هذا لا يسمى تطوراً ولا تحضراً بل انهزامية وردة وحيوانية وبهيمية يمارسها الإنسان باسم مستعار، وإلا فإن التطور الحقيقي هو أن تحافظ على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن تتميز على الناس بهذه العقيدة، والأخلاق والمبادئ وأما أن ينغمس الإنسان بالشرور وينحرف مع المنحرفين والمنحرفات ثم يسمي هذا نوعاً من التطور فهذا قلب للحقائق، ووضع للأسماء في غير مسمياتها {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء:227].
فالجليسة الصالحة مهمة جداً، ولها أثر كبير، وكم نعرف والله من القصص التي تدمي القلوب وتزعج النفوس، والتي كانت فيها بعض الأخوات على جانب كبير من الدين ولكن بجلسة واحدة مع امرأة خبيثة غسلت مخها وغيرت دماغها وأفسدتها وأصبحت تلك المرأة التي كانت صالحة من أفسق خلق الله؛ لأنها جلست مع جليسة سيئة -والعياذ بالله!! هذه هي الأشياء التي يمكن أن تعين المرأة المسلمة على استغلال وقت فراغها فيما ينفعها في الدنيا والآخرة إن شاء الله.(105/14)
المجالات التي يتعين على المرأة المسلمة قضاء الوقت فيها
أما مجالات قضاء الوقت؛ كيف تقضي المرأة وقتها حتى تنتهي أربع وعشرون ساعة وليس لديها وقت وليست فاضية لشيء؟(105/15)
قضاء الوقت في خدمة الزوج والأولاد
أول شيء: عملية التدبير والتنظيم، لا بد أن تكون المرأة منظمة؛ لأن النظام ما دخل في شيء إلا زانه، والفوضوية والارتجال والعبث ما كان في شيء إلا أفسده، ألا ترون -مثلاً- اليوم الدراسي في المدارس، ألا ينظم هذا اليوم بواسطة جدول يسمونه جدول الدروس؟ يؤخذ في أول العام المنهج المقرر على المدرسة ويوزع هذا المنهج على أشهر السنة، ويعطى هذا المنهج للمدرسة بحيث توزع البرنامج على ضوء هذا المنهج، ويقوم المدير بوضع جدول يومي يوزعه على المدرسين والمدرسات، وتقوم كل مدرسة بأخذ حصصها الأسبوعية، ثم تقوم بالليل لتحضير هذه الحصص والالتزام بهذه الحصص وقضائها مع الطلاب والطالبات هذا هو الذي يصير الآن، وبهذا التنظيم تقوم العملية التربوية قياماً صحيحاً، لكن لو ترك التعليم فوضوياً وجاءت المديرة وقالت: كل مدرسة تأخذ لها مجموعة من الطلاب وتدرسهم، ودخلت كل مدرسة وأخذت طالباً أو طالبين أو ثلاثة في عشة أو دار وجلست معهم قليلاً وأخرجتهم، هل يمكن أن يقوم تعليم بهذه الفوضى؟! لا.
كذلك البيوت، البيوت هي نماذج من المدارس، البيت مدرسة، المديرة فيه هي الزوجة، والمدير العام هو الزوج، والطلاب هم الأولاد، لا بد من وضع نظام لهذا البيت، يقرر الزوج والزوجة متى ينام الأولاد؟ أيام العطل يمكن أن يتأخر النوم إلى الساعة الحادية عشرة، وأيام العام الدراسي يكون النوم من بعد صلاة العشاء مباشرة.
وتتغير بعد ذلك مواعيد الطعام؛ الطعام كان يتناول بعد العشاء في أيام العطل، لكن في يوم الدراسة يكون العشاء بعد المغرب، والغداء بعد الظهر، والفطور بدل أن كان في الساعة التاسعة والنصف أو العاشرة في أيام العطلة يكون بعد الفجر في أيام الدراسة، هذا برنامج لا بد أن نلتزم به إذا عمل بهذا التنظيم فإنه يعين المرأة على أن تقضي أوقاتها بانتظام، لكن بغير هذا البرنامج لا يمكن أن يستقيم أمر المرأة.
هذا الكلام الآن على مجالات قضاء الوقت؛ كيف تقضي المرأة وقتها؟ يجب أن تشعر المرأة على أنه يجب عليها أن تقضي معظم الوقت في خدمة زوجها وأولادها، ولا بد أن نكون صرحاء مع أخواتنا في الله، فالزوج هو هبة من الله ونعمة للمرأة، وليس بغريب أن تتزوج المرأة، لكن الصعب أن تحتفظ بهذا الزوج، يعني: قد تتزوج؛ لأن الرجل لابد أن يتزوج وهي لابد أن تتزوج، لكن يبدو ويبرز دور المرأة باحتفاظها بزوجها، حينما تنجح في إدارة هذا الزوج والاحتفاظ به والاحتواء له هذه هي الزوجة الناجحة، وكم سمعنا من قضايات كثيرة في فشل الزوجات، يتزوجون ويفرحون ويقضون شهر العسل وبعد شهرين أو ثلاثة لا نعلم إلا والصك في يد الزوج على أهلها: هذه امرأة فاشلة! تزوجت ولعبت وانبسطت في القصر وفي فندق فخم وفي حفلات وفي دنيا وبعد ذلك رماها، ثم إذا جاءها عريس وعلم أنها مطلقة يقول: ما طلقت إلا لأن فيها عيباً.
أريد امرأة ما طلقت، وتبقى مركونة عند أهلها! وربما يمر قطار الحياة ولم تتزوج بسبب فشلها في إدارة زوجها.
الزوج نعمة وعلى المرأة أن يكون من أهم واجباتها كيف تستبقي هذه النعمة؟ واستبقاء هذه النعمة يسير جداً، يقول أحد العلماء التربويين: الرجل كالطفل.
فالطفل عندما تضربه على وجهه وبعد ذلك تضحك له وتقول: خذ قطعة الحلاوة، يأتي إليك وينسى الصفعة، كذلك الرجل؛ الرجل يريد بسمة من المرأة، يريد كلمة طيبة ومظهراً جميلاً، ويريد طاعة من المرأة ونوعاً من الحنان، إذا عاد الزوج من عمله وهو متعب ومرهق في غاية التعب والإعياء وقابلته المرأة على الباب وقد تجملت وتزينت وتعطرت، وبمجرد أن فتحت الباب قالت: حياك الله، يا ألف مرحباً، طولت علينا، سلامات، لماذا أنت متغير اليوم، إن شاء الله لا توجد مشاكل عندك في العمل، وتمد يدها على البشت إن كان يلبس بشتاً وتخلعه، وإذا كان عسكرياً يلبس بدلة تخلع البدلة، وإذا كان مدنياً تخلع الكوت أو الغترة من على رأسه، وبعد ذلك لا مانع أن تمد يدها على قدمه فتخلع الشراب من رجله، ليس هذا إهانة لها إنه عزة ورفعة لها؛ لأنها في هذا كما تقول أحد المؤمنات: [كوني له أمة -يعني: قينة- يكن لك عبداً، وكوني له مهاداً يكن لك عماداً] فأنت عندما تخدمينه هذه الخدمة تستولين عليه، تجذبين قلبه، تستولين على مشاعره بقليل من الحب، ضعي يدك على كتفه، لا مانع من ضمه، لا مانع من تقبيله وهو آت من العمل، بعد ذلك قضية المداعبة والتدليك للرجل؛ لأن الرجل يحتاج إلى هذا، هذا الأمر مرفوض عند المرأة، كثير من النساء لا تمارسه ولا تشعر بأنه يجب عليها، هذا مهم عند الرجل؛ لأن الرجل يقضي جهداً بدنياً وهو واقف في فصله أو واقف في المحل التجاري وهي جالسة، فإذا جاء وضعت يدها على قدمه أو على يده أو على ظهره أو على جزء من جسمه ودلكته وغمدته وأعادت العضلات إلى أماكنها يشعر براحة، هذا لا يكلفها شيئاً، لكن هل تمارس المرأة هذا الجهد عند الرجل؟ كثير من النساء لا تمارسه بل تنتظر منه أنه يدلكها، أو غربت وجهها وأغلقت الباب عليه -والعياذ بالله- وهذا من أسوأ ما يمكن عند المرأة.
فخدمة المرأة لزوجها خدمة شخصية لا نريد خدمة القدور، بعض النساء طاهية ما شاء الله غسالة من أحسن ما يمكن، تنظف البيت حتى تجعله يلمع، لكن زوجها يقول: أنا ماذا يهمني من نظافة الجدار أنا يهمني العمل الخاص بي، أنا أسعد بنظافة الجدار لكن لا أسعد به لوحده؛ أسعد بنظافة الجدار وأسعد بنظافة الإناء وأسعد بنظافة الأولاد، ولكن أريد أن أسعد- كاملاً- أيضاً بتقديم ما يخصني من الخدمة التي أتمنى أن أجدها من زوجتي فأسعد بها سعادة ليس بعدها شقاء، وهذا أول مجال من مجالات قضاء الوقت.
خدمة الأولاد، وهذه الخدمة يجب أن تتقرب بها المرأة إلى الله، لا تسند قضية الخدمة على المربية، فلا مانع أن تقوم هي لتغسل أولادها بيدها، ولا مانع أن تغير ملابسهم، وتضع لهم الحفاظات، وتحملهم، وتتعهد أنوفهم بالتنظيف وتتعهد ملابسهم وتتعهد لعبهم، وتجلس معهم في حديقة المنزل حين يلعبون، وتصعد بهم في السطح، وتخرج معهم في البلكونة إذا كانت ساترة، هذا شيء مهم، أما أن تنفي هذه المسئوليات إلى الخادمة: انزلي معهم، اطلعي معهم، اغسليهم، فينشأ في نفوس الأولاد تصور عن هذه الأم أنها ليست أمهم وأن الأم هي الخادمة، ولهذا يتعلقون بالخادمات.
بعض الأطفال الآن يتعلق بالخادمة أكثر مما يتعلق بأمه، وقد سمعنا عن الطفل الذي مات؛ لأن الخادمة سافرت، خادمة كانت تعمل في البيت وانتهت السنتان وسافرت إلى بلدها، والولد الصغير يحسبها أمه، فلما سافرت لم يعد يأكل ولا يشرب ويبكي ليل نهار حتى فارق الحياة ومات، دقه الحزن في قلبه حتى مات؛ لأنه فقد أمه.
يجب ألا تعتمدي على الخادمة إلا في أشياء ثانوية بعيدة: نظافة المنزل، تغسيل عمومي، إنما الولد يجب أن يكون في حجرك أنت، وينام في حضنك أنت وبجوارك أنت، وأنت التي تحملينه، وأنت التي تأخذينه، وأنت التي تغيرين له، وأنت التي تلبسينه، هذا ولدك، فإذا شعر بهذا منك أعطاك حباً وأعطيته أنت حناناً وشعر بالجميل في المستقبل، أما أن تسندي هذه الأعمال للخادمة فما هو دورك؟ للأزياء والمرايا وللموديلات وللشوارع وللسهر، هذا دور المرأة الفارغة التي ليس لها عند الله وزن وليس لها عند الله عز وجل كيان.(105/16)
قضاء الوقت في التدبير المنزلي
الثاني: مما تقضي فيه المرأة وقتها: التدبير المنزلي.
القيام بالأعباء المنزلية: أعمال الطهي، أعمال التنظيف.
لا مانع، قد تقول المرأة: إن هذه أعمال متعبة ليست من اختصاصي، أنا الآن امرأة مثقفة أنا امرأة جامعية، أنا امرأة أريد أن أرتاح، نقول لها: لا.
حتى ولو كنت جامعية، ولو كنت أيضاً دكتورة فإنك امرأة، مهما كان مؤهلك ودرجتك العلمية فإنك لا تستطيعين بالدرجة العلمية ولا بالمؤهل أن تخرجي عن كونك امرأة ذات مسئولية، ومن ضمن مسئولياتك: الخدمة في البيت، والخدمة للبيت لها فوائد عظيمة: أولاً: فوائد جسدية: فالمرأة التي تعمل في البيت تجدها دائماً ذات رشاقة وذات جسم متناسق ومعتدل لماذا؟ لأنها تعمل من الصباح، ونحن نعلم كيف كانت المرأة في السابق تقوم بأعباء المنزل وأعباء الخارج، كانت تغسل وتطبخ وتنظف المنزل وتحطب وترعى وتعمل في الحقل وتحمل وتلد وبطنها ملاصق لظهرها مثل الغزال ولا تمرض، طوال حياتها والمرأة متعافية، لكن الآن عندما تخلت المرأة عن الأعمال المنزلية حصل عندها نقص في الرشاقة؛ لأنها تنام من نصف الليل إلى نصف النهار، وتقوم في الظهر وجهها مثل الكرة منفوخ، فلا تدري أين وجهها من رأسها من كثرة النوم، ثم بعد ذلك تبقى جالسة، ولا تعمل شيئاً، حتى منديل الورق إذا أرادتها تقول: هاتي المنديل يا خادمة، حتى التليفون لا تستطيع أن تذهب إلى التليفون لتأتي به، فهي جالسة، وجاء الأكل فأكلت وجلست ونامت، وبعد ذلك يترتب على هذا مرض وهو السمن، ويترتب على السمنة أمراض كثيرة، أما تسمعون أن الأمراض المستعصية في الدنيا هي أمراض في السمنة: السكر من السمنة، والجلطة من السمنة؛ الجلطة هذه التي يسمونها الكولسترول هي مادة تترسب في شرايين القلب حتى ينسد، فإذا انسد مات الشخص وهو جالس لا يدري، من أين يأتي الكولسترول؟ من الجلوس، لكن الشخص عندما يعمل ويقوم ويجلس ويصعد وينزل لا يكون عنده كولسترول.
كذلك المرأة نقول لها: قومي واقعدي واصعدي، وانزلي وغسِّلي، لماذا؟ هذه رشاقة، أين تريدين أن تعملي الرياضية؟ تريدين أن تخرجي في الشارع؟ ليس هناك رياضة للمرأة في الشارع، إلا في الغرب لكنهن كافرات، يقاومون عدم وجود أعباء منزلية في اللعب في النوادي، عندهم نوادي رياضية وتلعب المرأة فيها بكرة القدم، وبالطائرة وبالسلة، وألعاب القوى وترون ما يحصل في المنديال في العالم.
لكن المرأة المسلمة ليست كافرة؛ المسلمة ليس لها نادٍ، المسلمة لا تلعب في نوادي الرياضة، رياضتها بخدمة زوجها، وبتدبير منزلها.
إن رياضتها من أعظم الرياضات إذا قامت وقعدت كل يوم ثلاثين أو أربعين مرة في المطبخ، إذا كنست فهي رياضة لظهرها، وإذا غسلت فهي رياضة ليديها، وإذا قطعت فهي رياضة لأصابعها، كل هذه أعمال رياضية تمارسها وهي مرتاحة بإذن الله عز وجل.
فالتدبير المنزلي مهم للمرأة؛ لأنه جزء من واجبها وينفعها في حياتها، ويقرب أيضاً قلبها وقلب زوجها إلى بعض؛ لأن الزوج حينما يرى أن المرأة قامت بجهد منزلي يقدر هذا، ويشعر بأنها امرأة وشريكة حياة، لكن عندما يراها عبئاً عليه، والذي يقوم بالأدوار كلها هي خادمة ربما يستغني هذا عن العبء ويستبدلها بالخادمة ويتركها -والعياذ بالله- وهذا هو النوع الثاني مما تقضي به المرأة وقت فراغها.(105/17)
قضاء الوقت في طلب العلم
الثالث: بعد حق زوجها وأولادها وتدبير منزلها يبقى عليها طلب العلم، بأن تضع برنامجاً تطلب فيه العلم الشرعي، وهذا البرنامج يشمل أربعة فروع: - الفرع الأول: قراءة القرآن الكريم نظراً وحفظاً، فتقرأ يومياً نظراً بما لا يقل عن جزء تقسمه على أوقات الصلاة بحيث تقرأ قبل كل صلاة أو بعد كل صلاة ورقتين في أربع ركعات هذا بالنسبة للنظر، أما بالنسبة للغيب فلا بد أن تقرأ أقل شيء كل يوم صفحة غيباً، حتى تكمل أقل شيء المفصل من سورة قّ إلى سورة الناس- أربعة أجزاء، يجب أن تحفظها وتكون في قلبها لتستعين بها على دعوتها وفي أمور صلاتها وغيرها من العبادات، وهذا الحفظ يمكن أن يكون بعد صلاة الفجر أو بعد صلاة المغرب، ووقت الحفظ بعد صلاة المغرب من أنسب الأوقات، أو بعد صلاة العصر إذا لم يكن عندها تدبير منزلي أو ضيوف فهذا الوقت من أحسن الأوقات لقراءة القرآن وحفظ كتاب الله عز وجل.
- الفرع الثاني من التعليم: قراءة السنة النبوية، وخير كتاب ندل عليه المرأة هو كتاب رياض الصالحين، وهناك شرح مختصر له يتكون من مجلدين اسمه نزهة المتقين شرح رياض الصالحين، تقرأ حديثاً وتقرأ شرحه ثم تقرأ ما يستفاد منه من أحكام ثم تحفظها ثم تبينها لزوجها وتبينها لأولادها إذا جاءوا ينامون، تبينها بالتليفون لقريبتها وصديقتها لكي تثبتها في ذهنها؛ لأن معرفة الحديث وحفظه ثم تعليمه يثبته في ذهن الإنسان الذي تعلمه، لكن معرفته وعدم تعليمه يضيع وينساه الإنسان وهو لا يعلم.
- الفرع الثالث: معرفة الفقه، وأحسن كتاب ندل عليه الآن هو كتاب في السوق اسمه فقه السنة لسيد سابق، كتاب عظيم تقرأ فيه المرأة أحكام الفقه مبتدئة بأحكام الطهارة، ثم أحكام الصلاة، ثم جميع الأحكام الشرعية تقرأها من هذا الكتاب وإن كان فيه بعض الملاحظات لكنها بسيطة وهناك من عالجها من أهل العلم لكن بالنسبة للمبتدئين هذا كتاب عظيم؛ لأنه احتوى على الدليل، وابتعد عن الخلافات وعن التعصب للمذاهب، وإنما كان يورد المسألة أو يورد ما قاله العلماء من أهل العلم من أهل المذاهب ثم يرجح الدليل الصحيح الذي جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا الفقه.
- الفرع الرابع: وهو درس يكون إما في السيرة أو في العقيدة، والكتاب الذي ننصح به في السيرة كتاب عظيم اسمه هذا المحب يا حبيب للشيخ أبي بكر الجزائري، أو تقرأ في مجموعة عمر سليمان الأشقر في العقيدة: الله جل جلاله.
النبي صلى الله عليه وسلم.
الملائكة.
الجنة والنار.
هذه كلها سبعة كتب مجموعة في العقيدة، فإذا كانت عند المرأة فإنها تقرأ فيها وتتزود بما يصحح عقيدتها في أصول الإيمان الستة: الإيمان بالله والملائكة والكتب والرسل والبعث بعد الموت، والقدر خيره وشره من الله عز وجل، هذه كلها من الكتب المفيدة التي تستطيع المرأة أن تتعلمها وتقضي وقتها فيها إن شاء الله تعالى.(105/18)
قضاء الوقت في ذكر الله تعالى
الرابع: من مجالات حفظ الوقت: ذكر الله تبارك وتعالى عن طريق تعلم الأذكار الشرعية التي وردت بها السنة، وخير كتاب في هذا كتاب يسمى الوابل الصيب من الكلم الطيب لـ ابن القيم تتعلم فيه المرأة أذكار الصباح والمساء، وأذكار النوم واليقظة، وأذكار الأكل وجميع الأذكار والحالات التي كانت تمر بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ ما من حالة تمر إلا وعليها ذكر من الرسول صلى الله عليه وسلم، فعلى المرأة أن تحفظها، وبعد ذلك تهتم بالأذكار العددية وهي التي ورد فيها عدد معين، كالحديث الذي في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال عليه الصلاة والسلام: (من قال في يوم مائة مرة لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير كان كمن أعتق عشر رقاب، وكتب الله له مائة حسنة، وحط عنه مائة خطيئة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك، ولم يأت أحد بأحسن مما جاء إلا رجل قال مثل ما قال أو زاد).
وهذا لا يستغرق عشر دقائق.
وجاء في حديث آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قال في يومه مائة مرة سبحان الله وبحمده غفر الله له ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر) رواه مسلم.
تأتي بهذه الأذكار العددية، تجلس قبل غروب الشمس بنصف ساعة وتأتي بالكتاب وتقرأ الأذكار فذكر الله من أعظم الواجبات والمهمات ومن أعظم الشغل الذي يقضى فيه وقت المرأة.(105/19)
قضاء الوقت في الدعوة إلى الله تعالى
الخامس: بقي شيء يمكن أن تستنفذ فيه المرأة ما عندها من فراغ، وهو: الدعوة إلى الله عز وجل، هذه مهمة الأنبياء يقول تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33] وإذا استشعرت المرأة بدورها وقامت بهذا الواجب في دعوة بنات جنسها فإنها تسد فراغاً كبيراً، إذ لا يمكن للرجال أن يصلوا إلى كل مكان فيه النساء، ونحن الآن نشعر حقيقة بتقصير كبير في صفوف المرأة، ولولا أن الله يسر الشريط الإسلامي لكانت المرأة في وضع يرثى له، لكن الله نقل الشريط بحيث أدى بعض الدور لكنه لا يؤدي الدور كاملاً إلا بوجود داعيات من أخواتنا في الله يحملن مشعل الدعوة، لماذا لا يوجد في النساء مثلما يوجد في الرجال؟ أليس فيهن المؤهلات؟ أليس فيهن من يحملن الدكتوراه والماجستير والبكالريوس والليسانس؟ أليس فيهن القارئات والمعلمات؟ لماذا لا يكون فيهن داعيات على مستوى الدعوة من الرجال؟ بل عالمات بدين الله عز وجل، لا بد أن يقمن بهذا الواجب، ولتبدأ المرأة بالدعوة في محيطها ودائرتها الضيقة؛ محيط الزوج والأولاد، ثم تنتقل إلى المحيط الأسري أمها وأبيها وإخوانها وأخواتها، ثم تنتقل إلى المحيط الأعم وهو المجتمع القريب- الحي- الذي فيه جيرانها الذين يزورونها؛ تعرف أن في العمارة ست شقق تتصل بالنساء وتطلب منهن الحضور عندها في يوم من أيام الأسبوع، تهيئ لهن فنجان شاي وفنجان قهوة وبعد ذلك تعطيهن الدرس، وتزورهن وتجلس معهن، تحمل هم الدعوة، تنقل روح الدعوة إلى الناس، هذا إذا كان عندها توفيق من الله تعالى.
وبهذه المجالات الخمسة لن يبقى مع المرأة فراغ، وسوف يستهلك هذا كل وقتها، وتعيش كريمة قد حفظت عمرها ووقتها ولم يكن عندها فراغ، لن تطلب من زوجها أن يذهب بها إلى السوق أبداً؛ لأنها ليست فاضية، ذهابها إلى السوق يعني: ضياع لهذه المهمات، ولن تطلب من زوجها أن تسهر وأن يشتري لها دشاً لكي يمطرها ويمطر أولادها باللعنات والسخطات من الله عز وجل، ولن يبقى عندها فراغ إلى أن تذهب لتزور وتتكلم وتشرب الشاي وتكيف على مكسرات لا.
سيكون وقتها كله في هذه الأشياء، خدمة الزوج والأبناء وتدبير المنزل تعلم العلم ذكر الله الدعوة إلى الله.
إذا استطاعت أن تملأ أوقات فراغها في هذا فإنها تعطي لحياتها معنى وتعطي لوجودها قيمة، وبالتالي تعيش كريمة وتموت كريمة إن شاء الله تعالى، وتبعث بإذن الله داعية إلى الله! أسأل الله تبارك وتعالى أن يوفق الجميع لما يحبه ويرضاه، وأن يوفق أخواتنا بالذات إلى حمل مشعل الدعوة إلى الله عز وجل.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(105/20)
الأسئلة(105/21)
الواجب على الزوجة التي رفض زوجها إخراج التلفاز من المنزل
السؤال
أرجو أن تجد لي حلاً لهذه المشكلة التي أعيشها، فأنا أحاول أن أخرج تلك النار المتقدة في بيتي، ألا وهو التلفاز، إلا أن زوجي رافض لهذه الفكرة، فأنا أعيش هماً وغماً فماذا أفعل؟
الجواب
أولاً نشكر هذه الأخت، ونتمنى أن يكون في بنات المسلمين من أمثالها كثير، والتي تشعر عن طريق إيمانها بربها وإدراكها لحقائق الحياة بخطر هذا الجهاز، فهو في الحقيقة نار تشتعل في البيوت، تفسد الدين وتفسد الأخلاق، ولا يغالط أحد نفسه ويقول: لا.
إن فيه خيراً، أنا أنظر فيه إلى البرامج الدينية! لا.
ما سمعنا أحداً اهتدى عن طريق التلفاز أبداً.
الذي سوف يهتدي سيهتدي عن طرق أخرى شرعية، بل من أدخله وكان يتمنى أن فيه خيراً أفسد عليه أهله؛ لأن ما ينشر فيه خاصة بعد وجود القنوات المتعددة، ووجود البث القريب من القنوات الموجودة من الدول المجاورة وإمكانية التقاطها، حتى لو أمكن التحفظ على الجهاز من حيث البث الإذاعي المحلي أو البث التلفزيوني المحلي لا يمكن التحكم في البث التلفزيوني الخارجي ولن تستطيع أن توقف بنفسك الجهاز بحيث تضعه على القنوات التي تريدها، وبالتالي وجود هذا الجهاز في البيوت هو شر، وأسلم طريق إخراجه، وإخراجه هو من مسئوليات الرجل، أما المرأة فإنه ليس بإمكانها إخراجه؛ لأن الرجل هو صاحب القوامة والسيطرة والهيمنة على البيت، ولكن بإمكانها عملية تحسين تشغيله، يعني: إذا قدرت على إقناع زوجها على إخراجه فهذا هو الحل الأمثل والحل الجذري من أجل الأولاد، لكن إذا لم تستطع فعليها أن يكون دورها دور دعوي في عملية إقناع الزوج في أن هذا الجهاز فيه شرور، وعلينا أن نحسن عملية تشغيله بحيث لا يشتغل إلا في الحق، فإذا جاء الباطل يجب أن تقول له: لا يصلح، وأكبر باطل موجود فيه المسلسلات؛ فهذه المسلسلات والأفلام من أخطر الأشياء على دين الإنسان، ويقع في الدرجة الثانية البرامج الكرتونية التي يقولون أنها للأطفال، الطفل إنسان جديد على الحياة يريد أن يفهم الحياة، وتقدم له الحياة على شكل معلومات كرتونية خاطئة في الجهاز الكرتوني، فيتصور الولد أن هذه الأشياء حقيقة وهو لا يدري أنها كراتين! ولهذا ينشأ في ذهنه تصورات خطيرة عن الحياة، وما أفسد الحياة في أوروبا إلا الأفلام الكرتونية، ويراد -أيضاً- إفساد أجيالنا عن طريق هذه الأفلام؛، فيترتب على هذه الأشياء تصورات في ذهن الطفل عن الحياة وعن الكون والحركة والثبات وعن الأشياء أنها غير حقيقية، وينشأ الطفل مخلخل في المعتقد وفي الفكر مخلخل في كل معلوماته، فلا نريد أفلاماً ولا مسلسلات ولا كراتين، إذاً ماذا يبقى فيه؟ يبقى فيه صلاة المغرب وصلاة العشاء ويبقى فيه الأخبار إن كانت مهمة، ويبقى فيه أشياء من البرامج العلمية القليلة لا مانع.
وبعدها نغلقه.
وإذا لم تستطيعي أن تغلقينه على الزوج فليكن أقل من إقفاله على الأولاد وعلى نفسك، ولست ملزمة أن تجلسي في الغرفة التي فيها هذا الشيء، اذهبي في غرفة أخرى وتذرعي بأنك مشغولة حتى يمر هذا الفيلم، وتبدئي الدعاء ومعالجة الزوج بنوع من الحكمة؛ لأن الوقوف في وجه الزوج بالعنف والشدة قد لا تفيد، فعالجيه بحكمة وأقنعيه بأسلوب حتى يتمكن من إخراجه بإذن الله عز وجل.
أنا ذكرت حينما قلت فقه السنة أن هناك بعض الملاحظات على الكتاب، ولكن وجود الخطأ في أي كتاب لا يعني إلغاء الكتاب كله، ومن فضل الله عز وجل أن الله وفق أحد العلماء وعلق عليه وأشار إلى بعض الأخطاء الموجودة فيه، فله أخطاء فيما يتعلق بحلق اللحية وما يتعلق بالأغاني وبكشف الوجه؛ لأن الشيخ السيد سابق ألف الكتاب في مجتمع مسلم وكان المجتمع فيه نوع من التحلل فأخذ ببعض الأقوال الشاذة، لكن الصحيح في الكتاب الذي فيه التعليق واسمه تمام المنة في الرد على كتاب فقه السنة، بين فيه المؤلف الأخطاء التي وردت في الكتاب وصححها، فإذا أخذ هذا الكتاب مع كتاب فقه السنة يصبح الكتاب من أعظم ما يمكن إن شاء الله تعالى.(105/22)
حكم زواج الفتاة برجل لا تريده
السؤال
ما حكم زواج الفتاة برجل لا تريده مع أن ذلك يؤثر على مستقبلها؟
الجواب
لا يجوز شرعاً أن تجبر المرأة أو الفتاة على الزواج من رجل لا تريده، ومن حقها شرعاً أن تقف لأبيها وتقول له: يا أبت! أنا لا أريده، وإذا رفض فمن حقها أن ترفع دعوى ضد أبيها أمام المحكمة لفسخ العقد، لماذا؟ لأن الزواج بناء، ولا بد لهذا البناء أن يقوم على قناعة ورضى، وهو ليس فيه بيع شيء، لا.
كيف تذهب مع شخص لا تريده؟ لا.
ولهذا ينبغي للآباء ألا يكرهوا أبنائهم على شيء، لكن إذا عرض عليها ووافقت إما بالسكوت أو بالابتسام أو بالبكاء أو بالكلام قالت: نعم.
فيزوجها، وأما إذا قالت: لا أريده، فلا يجوز له شرعاً إذا عبرت عن رأيها صراحة بعدم الرضا عن هذا الزوج أن تتزوج به، وليس في هذا عقوق إذا رفضت هذا الزوج، لماذا؟ لأن الطاعة للوالدين في المعروف، وليست ملزمة أن تطيعه بما ليس بمعروف، وليس معروفاً أن يجبرها على رجل لا تريده.(105/23)
حكم تكشف المرأة بين بنات جنسها
السؤال
هل صحيح أن عورة المرأة أمام المرأة من السرة إلى الركبة، فالنساء يحضرن الأفراح وظهورهن عاريات وسيقانهن ونصف الصدور بحجة هذا الحديث؟
الجواب
لا.
ليس بصحيح، المرأة أمام المرأة لا يظهر منها عادة إلا ما يظهر أمام المحارم مثل الأب والأخ فإن الذي يظهر عادة أمام الأشياء العادية مثل الوجه وأطراف الشعر والقدمين واليدين، وربما الساق والذراع، أما الأشياء الأخرى فلا تظهر لا لمحرم ولا لمرأة ولا تظهر إلا للزوج، وما يصنعه النساء اليوم من ظهورهن العارية ومن سيقانهن وبعض فخوذهن فهذا ليس بصحيح، ولا نريد حتى لو كان مباحاً أن تعمله المرأة؛ لأنه ليس من خلق المرأة المؤمنة.
فالمرأة المؤمنة عفيفة شريفة طاهرة محجبة وإن بدا شيء يبدو الشيء المألوف، أما أن تعرض أشياء -لا يمكن أن يراها إلا الزوج- على النساء وينقل النساء هذه المناظر للرجال فهذا حرام، وبالتالي يصير فساد في المجتمع.(105/24)
حكم ضرب الأم لطفلها
السؤال
هل تتحمل الأم الإثم عندما تضرب طفلها؟
الجواب
إذا كان الضرب للتأديب وبالحدود الشرعية فليس عليها إثم، بل عليها إثم إذا لم تضرب وتؤدب، أما إذا كان الضرب ناتج عن قسوة الأم وصلابة قلبها وحقدها على ابنتها وكراهيتها لهذه البنت ومن غير سبب.
فلا يجوز ونعرف بعض الأمهات تضرب ابنتها من غير سبب؛ عندها حقد على ابنتها، فإذا أخطأت البنت خطأ بسيطاً يستوجب اللفت البياني والكلامي تصفعها وتقيم عليها حداً شرعياً، وتأخذ السوط وتبطحها على بطنها وتضربها حتى تقطع ظهرها هذا لا يجوز! هذه مسئولية؛ لأن الضرب علاج، فلو أتيت مريضاً وأعطيته عشرين حبة وتقول: أريد أن يتعافى، وكذلك الضرب عندما تحتاج البنت إلى صفعة في رأسها أو في طرف جسمها باليد أو قبصة لكن تقيم عليها حداً هذا لا يجوز؛ لأنه مبالغة وضرب بغير حق شرعي، وهي مسئولة، وجاء في الحديث: إنه ليقتص يوم القيامة حتى من اللطمة.(105/25)
حكم الرقص للنساء في حفلات الأعراس
السؤال
ما حكم الرقص للنساء في حفلات الأفراح، علماً بأنه يوجد طبل وغناء؟
الجواب
الطبل والغناء والعود والكمان والزلفة كل هذه آلات لهو محرمة، ما أباح الشرع إلا الدف، والدف إناء مثل المنخل على طرفه جلد ومن الطرف الثاني فارغ تضربه المرأة غير الحرة، الحرة لا تضربه، تضربه الأمة القينة ضربات متتاليات من غير إيقاع ومن غير مرافقة صوت للإشعار بأن هذا زواج، الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (أعلنوا النكاح واضربوا عليه الدف) يعني: اجعلوا الناس يسمعون الدف في هذا البيت فيعرفون أن في هذا البيت زواج فيقولون: من تزوج؟ فيقولون: فلان من فلانة، فيعرفون إذا رأوها بكرة معه أنها زوجته، هذا الهدف منه، أما رقص ولعب ودق وعود ويقولون أنه من الدين، هذا ما أنزل الله به من سلطان، وليس معروف في دين الله عز وجل.(105/26)
حكم بقاء الزوجة مع زوج لا يصلي ولا يؤتي الزكاة
السؤال
أنا امرأة تزوجت- ولي خمسة أشهر- تزوجت رجلاً لا يؤدي الصلاة ولا يؤتي الزكاة ويقوم بأفعال محرمة، وأنا لا أدري به حتى تزوجته واكتشفت فيه هذه الأعمال، وأنا الآن أريد المخالعة عنه، فماذا تنصحني؟
الجواب
أولاً: أنت أخطأت في الاختيار، يعني: بعض النساء تقحم نفسها من غير أن تسأل، لا بد إذا أردت أن تسلمي من هذه المآسي أن تكونين دقيقة في اختيار الزوج، تختارين صاحب الدين، ولهذا جاء في الحديث: (إذا أتاكم من ترضون دينه) أهم شيء الدين وهذا الرجل الذي لا يصلي كافر وبالتالي لا يجوز لك البقاء معه؛ لأنك إن بقيت معه فكأنما يزنى بك، وإذا حملت منه فالحمل حرام وسفاح، وعشرتك معه محرمة والله تعالى يقول: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة:10] فلا تحلين له؛ لأنه كافر، وبالتالي يجب مغادرة البيت والذهاب إلى أهلك، وبيان أمره، ليس هناك مخالعة بالنسبة له؛ لأنه ليس له خلع وليس له طلاق وإنما يفسخ العقد فوراً، أما الطلاق والخلع للمسلم، أما هذا فهو كافر ليس له سلطة {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء:141] فعليها أن تثبت هذا الأمر ضده وبالتالي يطلقها الشرع منه ويفسخ العقد بينه وبينها.(105/27)
حكم قيام الزوجة بحق زوجها مع تقصير الزوج في حقها
السؤال
تقول أخت: إنها تعمل هي وزوجها في مكان واحد وتؤدي عبادتها كلها ولكن زوجها يتخلى عن مسئوليتها في البيت ومصروفها وتدبيره وهي تقوم بكل ذلك، وهي معه على خلاف في ذلك، تطلب منه أن ينتبه للمنزل وهي تغضب لذلك وتقصر في قيامها بحقوقه، فهل عليها إثم في ذلك؟ علماً بأنها ترفض طلبه عندما تكون غضبانة، فهل عليها إثم؟
الجواب
هو مقصر بلا شك في قيامه بواجبه تجاه بيته، ولكن تقصيره لا يبيح لها أن تكون مقصرة هي، إذ عليها أن تقوم بالحق الذي أوجبه الله عليها، وتقصيره سيحاسبه الله عليه، وأما إذا ضيع حقوقها تضيع حقوقه وتعامله بالمثل تفسد الحياة، فعليها أن تصرف على بيتها وعلى أولادها وتعتبر الرجل كأنه ميت ليس موجوداً، وأن تقوم بحقه كاملاً، وتسأل الله له الهداية، وإذا شعر هو بأنها تقوم بالحق الكامل وهو ما يقوم ربما تفرض عليه بحكمة الحياء أن يقوم بالواجب، لكن إذا رآها متضايقة ويناديها وترفض أن تأتي وتتمادى في غيها وفي طغيانها وهو لا يقوم لها بحق وبالتالي يمكن أن تخرب الحياة بينها وبين زوجها.(105/28)
نصيحة لكل امرأة لديها زوج عصبي المزاج
السؤال
أنا امرأة متزوجة وزوجي عصبي المزاج حاد الطبع، وإنني أحتمل منه الكثير مع نصيحتي له، فبماذا تنصحني؟
الجواب
الزوج هو قسمة من الله ونصيب، وعلى المرأة أن ترضى بما قسم الله لها، يعني: ليس بإمكانها أن تفصله قبل أن تتزوجه، وأن تأخذ مقاسات معينة بحيث لا تأخذ إلا على قدها، لا.
هذه قسمة ودائماً القسم شيء جيد وشيء غير جيد -حظ يا نصيب- فإذا كان الزوج طيباً فاحمدي الله، وإن كان سيئ خلق وحاد المزاج أو عصبي مثل هذا الرجل فاصبري عليه ما دام مصلياً؛ ما دام أنه مسلم يؤدي الصلوات الخمس ويؤدي أركان الإسلام، فاصبري عليه، وصبرك عليه لك عند الله عز وجل عليه ثواب؛ لأنه من الصعب تغييره عن طبيعته أو تغييره بشخص آخر.
وإذا أردت أن تغيريه بشخص آخر قد لا يرضى أن يترككي لشخص آخر -أي: قد لا يرضى بطلاقك- وإذا ترككي يمكن أن تتزوجي بشخص آخر، فتقولين: يا ليتني صبرت على ذاك، يقول المثل: اصبر على قردك لا يأتيك أقرد منه، فأنت اصبري على هذا العصبي بدل أن يأتي شخص معه مشعاب يضربك بالغداة والعشي، لماذا؟ لأن هذا قسمة ونصيب من الله تبارك وتعالى، وكوني باستمرار صابرة لعل الله عز وجل أن يهديه.
فإن الله إذا اطلع منك على الصبر أعانك إن شاء الله {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [الطلاق:2] * {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:3].(105/29)
حكم أخذ الأجر على تدريس القرآن
السؤال
أعمل مدرسة في مدارس تحفيظ قرآن كريم نسائية وآخذ أجراً على ذلك فهل هذا حرام، وهل يكون تجارة بكتاب الله أم لا؟
الجواب
ليس بحرام، بل الأجر على كتاب الله أعظم الأجور، وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن خير ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله تعالى) سواء للتعليم أو للاستشفاء، فالاستشفاء حديثه في الصحيحين: لما قرأ الصحابي الفاتحة على الرجل وأعطوه قطيعاً من الغنم فلم يأكلوا منه شيئاً، فلما جاءوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (اضربوا لي معكم بسهم) وهو سيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه، فأنت ما دمتِ تدرسين كتاب الله عز وجل وتأخذين هذا المبلغ وتستعينين به على طاعة الله ولا تصرفينه في معصية الله فهذا خير ولك أجر إن شاء الله؛ أجر الذي أخذتيه من المال وأجر الثواب الذي ينتظرك باعتبارك تقومين بهذا العمل الجليل وهو: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه).(105/30)
حكم أكل المرأة من مال زوجها
السؤال
امرأة يقترض زوجها من البنك مالاً كي يطعم أهله، وهو لا يعمل تكاسلاً، وزوجته امرأة ملتزمة ولا تريد أن تأكل من هذا الطعام؛ لأنه حرام من الربا، وهي في نفس الوقت مضطرة فماذا تعمل: هل تأكل من هذا الطعام الحرام وهي لا تستطيع أن تعمل خارج البيت؛ لأن لديها أطفال، فهل تأكل هذا الطعام الحرام أم ماذا؟
الجواب
هذه حقيقة مشكلة ومصيبة على هذا الرجل الذي يقتات الحرام، وطبعاً ما دام يقترض من الربا ويأكل الحرام فإن أكله حرام، وبالتالي عبادته حرام وحياته حرام.
ويبقى دور المرأة هنا: فبعض أهل العلم يقولون: إن المال لا يتجاوز ذمتين، فما دام أنه عليه حرام فهو عليها حلال، لماذا؟ لأنها زوجته وواجب أن ينفق عليها، وليس لنا دخل؛ سواء أتى به من حرام أو من حلال هو الذي يستحقها، مثل شخص عنده عمال في مزرعته أو في متجره وسرق مالاً وأعطى العمال فالعمال أخذوها بطريقة حلال؛ لأنهم عملوا، أما هو أخذها بطريق حرام، والحرام لا يتجاوز ذمتين.
وكذلك المرأة، زوجها ملزم بالإنفاق عليها، أما من أين ينفق عليها فعليه، فإن اكتسب من الحلال فله أجر، وإن اكتسب من الحرام فعليه إثم، أما هي فتأكل حلالاً بإذن الله تعالى.
وبعض أهل العلم يرى ذلك ورعاً، يقول: لا.
ما دام أنه حرام وهي تعلم أنه حرام فلا يجوز لها أكل الحرام، وبالتالي تفارق البيت، وتطلب منه أن يكون له كسب حلال أو تتركه، حتى لا تؤدي عشرتها معه ومعاونتها له على العيش في بيته والجلوس تحت مظلته على الإصرار بالحرام، لكن لما يشعر هو أن زوجته ذهبت من أجل أنه يأكل الحرام لعل هذا يكون رادعاً له.
وأنا أقول: إن كان هذا سيعمل على ردعه فلتذهب إلى أهلها، أما إذا كان هذا سيعمل على تخريب بيتها وطلاقها وطردها فلتجلس وأكلها الحرام في ذمته.(105/31)
مقومات الزوجة المثالية
السؤال
ما دامت طاعة الزوج من أهم الطرق المؤدية إلى الجنة وإلى رضى الله تعالى، فكيف الطريق إلى طاعته وكيف أكون زوجة صالحة؟
الجواب
هذا يحتاج إلى محاضرة كاملة، وهناك أشرطة وكتيبات ومحاضرة قلتها في مكة بعنوان: مقومات الزوجة المثالية؛ خمس مقومات للزوجة المثالية موجودة في شريط قلته في هيئة الإغاثة في رمضان العام الماضي، وهو موجود في الأسواق، يعني: إذا استطاعت المرأة أن تنفذ هذه الخمس المقومات فهي من الزوجات المثاليات الطائعات لربها، وفعلاً ستصل بإذن الله إلى الجنة؛ لأن طاعة الزوج ربع الطريق إلى الجنة لحديث في مسند أحمد يقول عليه الصلاة والسلام: (أيما امرأة أطاعت بعلها، وصلت خمسها، وصامت شهرها، وحفظت فرجها، قيل لها: ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئت).(105/32)
كيفية وصول ربة الأسرة إلى حلاوة الإيمان
السؤال
كيف أجد حلاوة الإيمان وأنا ربة البيت؟
الجواب
كونك ربة البيت هذا جزء من حلاوة الإيمان؛ لأن الله تعالى يقول: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33]؛ بعد ما وجه نساء النبي والمؤمنات قال: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33] فمكوثك في البيت طريق إلى لذة الإيمان؛ فقراءة القرآن يؤدي إلى زيادة الإيمان، وذكر الله يؤدي إلى زيادة الإيمان، وكذلك العبادة بكثرة الصلاة، وقيام الليل، وسماع الأشرطة الإسلامية والمحاضرات يؤدي إلى زيادة الإيمان، وكذلك الزيارة في الله والصدقة، والبعد عن المعاصي تؤدي إلى زيادة الإيمان وكل هذه توجد حلاوة الإيمان بإذن الله عز وجل.(105/33)
حكم عيش المرأة مع إخوة زوجها
السؤال
ابنتي تزوجت واشترطت قبل الزواج: ألا تسكن مع إخوة زوجها، وبعد الزواج اضطرت على العيش معهم؟
الجواب
هذا شرط شرعي؛ أن تشترط المرأة: ألا تسكن بعد الزواج مع إخوة الزوج؛ لأن هذا سيؤدي إلى الكشف عليهم، وهم غير محارم، بل هم الحمو والحمو الموت، فلا بأس أن تشترط هذا الشرط.
وإذا اضطرتها الظروف للسكن معهم والحجاب قائم فلا بأس، فلا تفتش عليهم ولا يفتشوا عليها، أما إذا كان الحجاب غير قائم ويضلون يكشفون عليها فيجوز لها أن تنفذ الشرط أو ترجع إلى بيت أهلها.(105/34)
حكم إصرار الزوجة على زوجها بأن يأخذها إلى المحاضرات مع كراهته لذلك
السؤال
أحاول مع زوجي أن يأخذني إلى المحاضرات وإلى تحفيظ القرآن الكريم فيذهب بي وهو مكره، فهل عليَّ ذنب؟
الجواب
لا.
ليس عليك ذنب، بل لك أجر، حتى ولو كان كارهاً؛ لأنه يقاد إلى الخير بالسلاسل: (عجبت لقوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل) فأنت لك خير إن شاء الله، لكن لماذا الزوج يكره، إذ لا بد له من ملاحظة، فبعض النساء تقول: أذهب المحاضرات، لكن تذهب لتتكلم؛ من يوم أن تدخل: كيف حالك، طيبة؟ وما معكم؟ وأين ذهبتم؟ ومن أين جئتم؟ وإذا خرجت من المحاضرة يسألها زوجها: ماذا قال الشيخ؟ تقول: والله ما علمت ماذا قال، أجل، لا تذهبي، اقعدي في البيت، وبعضهن تذهب لتحفيظ القرآن لكي تستعرض ثوبها الجديد، أو معها ذهب تريد أن تري النساء، أو هناك خبر تريد أن تخبرهن به، أو تريد أن تتكلم أو منزعجة هذه نيتها غير سليمة ولا يمنحها الله عز وجل ثواباً.
أما من تخرج من أجل الله تعالى، وتذهب بنية طلب العلم، وتذهب إلى القرآن بنية حفظ كتاب الله، فإن الله سيوفقها ويجعل زوجها يرضى بإذن الله عز وجل.(105/35)
سبب نسيان الإنسان لما يحفظ
السؤال
أشكو من كثرة النسيان خاصة هذه الأيام مع أنني لا أنسى القرآن مع كثرة النسيان عندي، فبماذا توجهني؟
الجواب
لا مانع أن تنسين غير القرآن الكريم، أما القرآن إن كنت بحمد الله لا تنسينه فهذه نعمة من نعم الله عليك، ولكن نسيان الأشياء لعله من رحمة الله بك؛ لأن النسيان هذا نعمة من نعم الله، كما يقول العلماء: إن الدماغ يعبأ بالمعلومات، ولولا أن المعلومات بعضها يمسح بعضاً لتفجر مخ الإنسان من كثرة المعلومات، ولكن شيء يذهب وشيء يبقى، وما دام القرآن موجود فهذا هو المراد.(105/36)
الجمع بين استغلال المرأة ليوم الجمعة وزيارة أهلها
السؤال
أنا أحاول طوال الأسبوع أن أقوم بواجب البيت وأقوم بتربية الأطفال وشئون الزوج، وفي آخر الأسبوع أذهب إلى أهلي، وأنت تقول أن يوم الجمعة يوم عظيم يجب أن يكون في عبادة الله عز وجل، فأنا أقوم إلى الصلاة وأذكار اليوم وقراءة سورة الكهف والحمد الله، وأنا وزوجي في خلاف بخصوص هذا اليوم، فماذا أفعل؟
الجواب
يوم الجمعة كما بينا يوم عبادة، والدولة ما جعلته يوم عطلة إلا لتعبد الله فيه ثم تقول أنا مشغول، فينبغي أن تقضيه المرأة في العبادة، ومن العبادة زيارة الأهل؛ لا مانع بعد أن تؤدي المرأة واجباتها الدينية في النهار ويرجع زوجها وتتغدى وتنام هي وإياه إلى العصر وبقية العصر تذهب لتزور أمها أو أقاربها ليس في ذلك بأس، بل زيارتها أمها طاعة لله تبارك وتعالى، أو زيارة أقاربها أو زيارة الرحم، فلا مانع ولا يتناقض هذا مع هذا، وإذا كان الزوج يرفض الذهاب في هذا اليوم فاجعلي الذهاب في يوم السبت؛ ليس من الضروري أن تزوري أمك في يوم الجمعة.
زوري في يوم السبت أو يوم الأحد أو في أي يوم آخر إذا كان هذا لا يرضي الزوج.(105/37)
حكم قراءة المجلات الفاسدة
السؤال
بعد انتهاء اليوم وبعد صلاة العشاء أقوم بقراءة المجلات، فهل في هذا شيء؟
الجواب
ما نوع المجلات التي تقرئينها؟ إن كانت مجلات إسلامية وشرعية مثل: مجلة المجتمع ومجلة الدعوة ومجلة الجهاد ومجلة البنيان المرصوص ومجلة البلاغ فهذا طيب- مجلات الإسلامية- وإن كانت مجلات خبيثة مثل: مجلة اليقظة ومجلة النهضة ومجلة المصور ومجلة آخر ساعة ومجلة الأسبوع العربي ومثل هذا الكلام الفاضي، هذه كلها خبيثة تحمل الخبث وتحمل القصص الماجنة والصور العارية والأفكار المنحرفة، ولا يجوز لك أن تدخليها بيتك، ولا يجوز أن تقرئيها، ألسنا نحرم أنفسنا من الطعام الخبيث؟ هل يمكن أن تأكلي من طعام فيه ذباب؟ هل يمكن أن تأكلي من طعام فيه شعر أو فيه تلويث؟ حسناً فكرك أولى بالحماية من بطنك، كيف تسمعين قصة فاسدة؟ كيف تقرئين مجلة محرمة؟ لا.
فلا مجلة ساقطة ولا أغنية، يقول أحد العلماء: يجب أن نحمي أفكارنا بأعظم مما نحمي معدتنا، فكما نحمي معدتنا من الطعام النازل يجب أن نحمي أدمغتنا وعقولنا من الثقافة الفاشلة، أما أن نكون نظيفين في البطون وغير نظيفين في العقول فهذا باطل.
فإذا كنت تقرئين المجلات الفاسدة فعليك إثم من الله ووزر، أما إذا كانت مجلات صالحة وطيبة فلا بأس إن شاء الله تعالى.
والله أعلم وأكتفي بهذا.(105/38)
رسالة إلى مصلٍ
تكلم الشيخ في هذه المادة عن أهمية الصلاة ومكانتها، وأهمية الخشوع فيها، مبيناً أن الخشوع هو روح الصلاة، وأن الصلاة بدون خشوع كالجسد الميت الذي لا روح له، ثم تحدث بعد ذلك عن الأسباب التي تعين على الخشوع، فبدأ بالأسباب التي تكون قبل الصلاة، ثم ذكر الأسباب التي تكون أثناء الصلاة، وختم الشيخ موضوعه بذكر نماذج من صور الخشوع في الصلاة عند السلف.(106/1)
أهمية الصلاة وموقعها في الدين
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: أيها الإخوة في الله: هذه الليلة سنوجه رسالة إلى المصلي، أي: إلى كل مسلم، إذ ليس بمسلم من لا يصلي، فأهل العلم يجمعون على أن تارك الصلاة كافر؛ للأدلة الصريحة من كتاب الله، ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الصلاة صلة بين العبد وبين الله، إذا قطعها الإنسان وتركها قطع صلته بالله، وهي آخر موقع يتركه الإنسان من الإسلام، يقول عمر رضي الله عنه: [أما إنه لا حظ في الإسلام لمن أضاع الصلاة].(106/2)
أهمية الخشوع
ولأهمية الصلاة وعظم شأنها وسمو منزلتها في الإسلام كانت الأوامر الربانية والنبوية في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تحث وتؤكد على ضرورة الالتزام بها شكلاً ومضموناً، والذي يؤسف له أن الكثير يتقن الشكل الخارجي في البناء لكنه يهمل المضمون، يهمل الروح التي هي حقيقة الصلاة ألا وهي: الخشوع.
وحتى لا ينخدع الإنسان بكونه يصلي ويضيع المهم في الصلاة وهو الخشوع، فإنني أوجه هذه الرسالة إلى كل مصلٍ ليتق الله عز وجل في نفسه، ولا يخدع نفسه، وليجاهدها حتى يؤدي الصلاة كما أراد الله وكما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليعلم من قرارة نفسه أنه إن صلى من غير خشوع أن صلاته كأنها ما وقعت؛ لأنه يكتب للعبد من صلاته ما حضر فيها قلبه، الصلاة حركة قلب قبل أن تكون حركة بدن، فإذا تحرك البدن وقام وقعد وركع وسجد ولكن القلب خالٍ من ذكر الله وعظمته، مشغول بالدنيا، مفكر في حطامها خارج المسجد، فهذا مسكين ما صلى، ولذا قد يصلي الرجلان ويكون بينهما كما بين السماء والأرض، شخص خاشع يجول في العرش، والآخر غافل قلبه يدور في الحش، يعني: في الدنيا -والعياذ بالله- ولذا يذكر الإمام ابن القيم رحمه الله وهو خير من تناول هذا البحث، وقد عني العلماء في القديم والحديث بأمر الخشوع في الصلاة بما له من أهمية؛ لأنه يترتب عليه قبول الصلاة أو ردها.
عني ابن القيم بهذا الأمر في مجموع كتبه وبالأخص منها كتاب الوابل الصيب من الكلم الطيب، وشيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً، وبعض علماء الإسلام منهم الإمام الآجري في كتابه: الخشوع في الصلاة، وفي رسالة حررتها أحد الأخوات في الله اسمها رقية بنت محارب بعنوان كيف تخشعين في الصلاة وجهتها إلى الأخت المسلمة، وقد قرأت هذه الرسالة مع مجموع ما قرأت من المراجع الأخرى، وحصلت على هذه المجموعة من الكلمات التي أوجهها إلى كل مسلم ومسلمة في هذه الحياة ليتقوا الله عز وجل في أمر صلاتهم ويدافعوا الشيطان، ولا يستسلموا لنزغاته فإن الشيطان حريص كل الحرص على أن يقطعك عن الله عن طريق ترك الصلاة، فإذا عجز وبرهنت على قوة إيمانك وصدق يقينك بأن تركت الدنيا وراء ظهرك وجئت إلى المسجد لتصلي ولتقف بين يدي الله عز وجل فإن الشيطان لا يتركك لهذا الأمر، بل يجلب عليك بخيله ورجله، ويأتيك من بين يديك ومن خلفك وعن يمينك وعن شمالك، ويزين لك الدنيا ويذكرك بكل ما لم تكن تذكره قبل الصلاة؛ حتى تخرج من الصلاة وليس معك منها شيء.
ولذا ورد في بعض الآثار أن الشيطان يقول للداخل إلى المسجد: ادخل فوالله لأخرجنك منها مثلما أدخلتك.
يعني: قم واركع واسجد وتوضأ واترك أهلك ونومك لكن الطريق من عندي.
فلا ينبغي أيها الإخوة! أن نصدق ظن الشيطان، بل علينا أن ندحره وأن نستعيذ بالله من شره، وأن نحصر اهتمامنا في عشر دقائق، فإن الصلاة مهما طالت كانت مغرباً، أو عشاء أو فجراً، أو ظهراً، أو عصراً لا تتجاوز في الغالب عشر دقائق جاهد نفسك بقوة وبعنف في ألا تتفكر إلا في الصلاة، ولا تتفكر إلا في الجنة والنار بحيث تخرج من الصلاة وقد اطمأن قلبك، وخشعت جوارحك، وعرفت أنك قدمت عملاً صالحاً؛ لأن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان صالحاً، يقول الله عز وجل: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً} [الكهف:110] ما هو العمل الصالح؟ قال العلماء: الصالح أصوبه وأخلصه، أصوبه على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخلصه لله تبارك وتعالى.
الخشوع في الصلاة روح الصلاة.
الصلاة جسد والخشوع روحها، فإذا توفر الجسد والروح بقيت حياة الصلاة، أما إذا وجد الجسد وخرجت الروح فلا قيمة للجسد، شأن الصلاة شأن الإنسان، الإنسان له قيمة بمجموع أمرين: روحه التي بين جنبيه وجميع جوارحه، فإذا خرجت روحه هل يبقى للجسد قيمة؟! لا يبقى له قيمة أبداً، فالمعول الأول والأخير على الروح وهو الخشوع فهو روح الصلاة، فمن كان خاشعاً في صلاته فهو يصلي، أما الذي يصلي وقلبه في الدكان أو المزرعة أو الزوجة أو المدرسة، أو التجارة، أو مشاكل الدنيا، فلا يصلي.
فبعض الناس لا تنتهي أشغاله، دائماً مشغول طوال اليوم فمتى يخلو إلى أفكاره؟ إذا صليت.
فإذا دخل في الصلاة بدأ يفكر في عمارته وسيارته ومشاكله، لماذا؟ لأنها فرصة ليس عنده وقت يفكر، إذا خرج يفكر في الدنيا من جديد ولكن هناك فرصته، فيأتيه الشيطان ليقذف في قلبه الوساوس والأفكار والخطرات حتى يخرج منها، بدرجة أنك لو أجريت استفتاء في أي مسجد للمصلين بعد أي صلاة من صلاة الجهر وقلت لهم: ماذا قرأ الإمام في الصلاة؟ فإنه لا ينجح إلا القليل، وهذا الكلام يمكن أن نجريه الآن في هذا الوقت، لو نسأل أنفسنا الآن وقد صلينا وسمعنا القراءة من الإمام: ماذا قرأ الإمام في الركعة الأولى وفي الركعة الثانية من صلاة المغرب؟ الذي يعرف هو الذي صلى، والذي ما عرف إنما هو قائم مثل العمود، العمود يصلي أربعاً وعشرين ساعة لكن لو سألنا العمود وقلنا له: يا عمود ماذا قرأ الإمام؟ يقول: لا أعلم، حسناً اسأل العمود الثاني الذي وقف عشر دقائق: يا عمود ماذا قرأ الإمام؟ قال: لا أدري، إذاً: ما الفرق بين العمودين؟ الفرق شاسع، إن هذا يقف أربعاً وعشرين ساعة فهو من الإسمنت موجود دائماً وأنت عشر دقائق وما قدرت أن تفهم ما يلقى عليك من أوامر الله ومن أوامر النبي صلى الله عليه وسلم.
كان السلف رحمهم الله يولون اهتماماً كبيراً لهذه الصلاة وللخشوع فيها.
ولذا يروى عن حاتم الأصم -وكان من التابعين رحمه الله- أنه كان من أخشع عباد الله في صلاته، قيل له: كيف تصنع إذا صليت؟ قال: إذا سمعت نداء ربي توضأت، ثم أقبلت على مسجدي -يعني: يصلي في المسجد- ثم وقفت بين يدي الله، فأتصور أن الصراط تحت قدمي، وأن الجنة عن يميني، وأن النار عن يساري، وأن الكعبة أمامي، وأن ملك الموت سيقبض روحي بعد أداء الصلاة.
فربما لا أصلي إلا هذه الصلاة، ومن الذي عنده يقين أنه يعيش إلى الفجر؟ ربما لا تصلي إلا هذه الصلاة وتكون آخر شيء من حياتك، فصلِّ صلاة مودع، وإذا صليت بخشوع ومت، ختم الله لك بالمضبوط، لماذا؟ لأن الله يعطيك يوم القيامة على أحسن عمل {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} [النور:38] يعني: يأتي بصلاته كلها، وإذا مت على آخر صلاة مضبوطة يضرب الله صلواتك في أحسن شيء صليت، فصل صلاة مودع.
قال: فأتصور أن ملك الموت خلف ظهري يقبض روحي فلعلي لا أصلي بعدها صلاة، ثم أكبر بتحقيق، وأقرأ بترتيل، وأركع في خضوع، وأسجد في خشوع، وأتشهد في يقين، وأسلم في رجاء، ولا أدري أقبلت صلاتي بعد هذا أم ردت عليَّ؟! هذا موقفه وهذا عمله مع صلاته ولا يدري أقبلت صلاته أم ردت عليه!(106/3)
علاقة موقف الصلاة بموقف الآخرة أمام الله
الإنسان في هذه الدنيا وفي الآخرة له موقفان: موقف بين يدي ربه في الصلاة، وموقف بين يدي ربه يوم يلقاه، فمن اهتم بهذا الموقف خفف الله عليه ذاك الموقف، ومن أهمل هذا الموقف شدد عليه في ذلك الموقف، وقد أثنى الله عز وجل على الخاشعين في الصلاة، يقول الله تبارك وتعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1 - 2] ويثني الله عز وجل في سورة الأنبياء عندما ذكر الأنبياء فيقول في آخر الآيات: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90].
ويقول الله عن الصلاة: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} يعني: ثقيلة {إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45] والذي يشعر بثقل في الصلاة دليل على أنه ما عرف الصلاة.
أما الذي يخشع في الصلاة فإنه لا يشبع منها! لماذا؟ لأنه مع الله، كيف يشبع من يقف بين يدي الله؟! لكن من هو الذي يضيق ويريد أن ينصرف بأي وسيلة؟ من قلبه ليس موجوداً، فالجسد يتبع القلب، فإذا كان القلب في الخارج فإن الجسد يريد أن يلحق به، القلب ملك الجوارح، فإذا كان القلب موجوداً فإن الجوارح ساكنة، وإذا كان القلب بالخارج فالجوارح غير مطمئنة، ولذا ترى كل جارحة تشتغل في جانب، جارحة العين تتلفت، وجارحة اليد تحك ظهره وأنفه ورأسه، ويصلح عقاله وغترته، وتراه يوازن بين رجليه، وظهره يؤلمه، لماذا؟ لأنه غير موجود في الصلاة، ولهذا يقول ابن القيم: والله لو سلمت منا القلوب ما شبعت من كلام الله ولا من الصلاة.
إذا صح القلب فلن يشبع من كلام الله ولن يشبع من الصلاة، لكن متى يثقل عليه القرآن وتثقل عليه الصلاة؟ إذا مرض القلب -نعوذ بالله وإياكم من مرض القلب- يقول الله عز وجل عن عباد الله الصالحين: {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} [الإسراء:109] يعني: تلاوة كتاب الله تزيدهم خشوعاً.(106/4)
أصناف الناس في الخشوع
يذكر ابن القيم رحمه الله في كتابه الوابل الصيب: أن الناس في الصلاة على خمسة أصناف: الأول: صنف ظالم لنفسه، وهو الذي نقص من وضوئها ومواقيتها وأركانها وحدودها وواجباتها، مثل أكثر الناس لا يصلي في الوقت المعين ولا مع جماعة المسلمين، وإذا صلى فهو لاهٍ وغافل، يقول: فهذا معاقب.
الثاني: صنف يحافظ على المواقيت، ولا يصلي إلا في الوقت، ويحافظ على الجماعة في المسجد، ويحافظ على الأركان كاملة، ويحافظ على الواجبات كاملة، وعلى الوضوء كاملاً، لكنه ضيع المجاهدة في قضية الخشوع، فهذا محاسب، وعلى قدر ما حضرت صلاته في قلبه يعطى، والذي لم يحضر قلبه ليس له.
الثالث: صنف حافظ على الحدود والأركان وجاهد نفسه في دفع الشيطان والوساوس والأفكار فهو مشغول بمجاهدة عدوه حتى لا يسرق من صلاته شيئاً، فهو في صلاة وجهاد فهذا معفو عنه، يعني: سالم.
الرابع: من إذا قام إلى الصلاة، أكمل حقوقها وأركانها وحدودها، واستغرق قلبه في مراعاة حدودها وحقوقها، بل همه كله مصروف في إقامتها كما ينبغي لها بإكمالها وإتمامها، فهذا مثاب عند الله عز وجل.
نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من هذه الدرجة والتي بعدها.
والصنف الخامس وهؤلاء لا أظنهم موجودين في الأرض الآن إلا من رحم الله.
يقول: وصنف إذا قام إلى الصلاة قام إليها كذلك مثل الرابع ولكن مع هذا يأخذ قلبه ويضعه بين يدي الله ناظر في قلبه إلى الله، مراقب لله، ممتلئً من محبة الله، وعظمة الله، كأنه يراه ويشاهده، وقد اضمحلت وذهبت تلك الوساوس والخطرات والأفكار، وارتفعت الحجب بينه وبين الله عز وجل، يقول: فهذا بينه وبين بعض المصلين أعظم مما بين السماء والأرض، فهذا مقرب.
نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من المقربين، إذا طلبت فاطلب الله العليا، اجعل همتك عاليه حتى إذا نزلت فيكون نزولاً بسيطاً، نعم اطلب دائماً المرتبة العليا، ولهذا جاء في الحديث: (سلوا الله الفردوس الأعلى) نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من عباد الله المخلصين.(106/5)
فضل البكاء من خشية الله
امتدح النبي صلى الله عليه وسلم الخشوع في الصلاة، وفضل الذي يبكي من خشية الله، يقول عليه الصلاة والسلام والحديث رواه الترمذي في السنن: (لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في ضرع البقرة) لا يلج أبداً أي لا يدخل النار حتى يعود اللبن في الضرع، (ولا يجتمع غبار جهاد في سبيل الله ودخان جهنم) لا يجتمع هذا وهذا، غبار الجهاد في سبيل الله مانع وحافظ وحائل دون أن يدخل الإنسان النار نسأل الله السلامة من النار، ونسأل الله الفضل مما يمتع به أهل الجهاد في الجنة.
وفي الحديث الآخر في الصحيحين يقول عليه الصلاة والسلام: (سبعة يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله وذكر منهم: رجل قلبه معلق بالمساجد، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه -أي: خشعت عيناه- من خشية الله تبارك وتعالى) وهذا هو الذي ينفع كثيراً؛ لأن البكاء ينقسم إلى قسمين: بكاء في الخلوة، وبكاء في الجلوة، فالبكاء في الخلوة دليل قطعي على صدق الإنسان ويقينه.
أما البكاء مع الناس فهذا يحتمل أن يكون خشوع الإيمان ويحتمل أن يكون خشوع النفاق والرياء، ولكن يرجع إلى عمل الباكي، فإن وجد الباكي في الناس صالحاً في الأوامر مبتعداً عن النواهي كان بكاؤه دليل صدقه، أما إذا كان يبكي في الملأ ويعصي في الخلاء فهو كذاب؛ يبكي في المسجد لكنه في الليل يسمع الأغاني، وإذا كان في الشارع نظر إلى البنت، وإذا جاء هنا جاء يبكي، هذا كذاب؛ لأن الله سبحانه وتعالى يحاسبه على الأمر والنهي، إن درت مع الأمر ووقفت عند النهي فأنت مؤمن وإن لم تبك، وإن بكيت -البكاء فضل من الله ونعمة- أما إن عصيت الأوامر وارتكبت النواهي وبكيت من خشية الله وأنت ترتكب النهي وتترك الأمر كان هذا البكاء بكاء النفاق والعياذ بالله! أيضاً كان صلى الله عليه وسلم من أخشع عباد الله في الصلاة، تقول عائشة رضي الله تعالى عنها والحديث صحيح: (كان يحدثنا ويحدثنا، وينادمنا وننادمه، فإذا سمع المؤذن قام إلى الصلاة كأن لا يعرف منا أحداً) وكان أبو بكر إذا وقف في الصلاة كأنه الشعرة في مهب الريح لا يعرف ما يقرأ من كثرة بكائه.
وعمر كذلك وكل السلف كانوا على هذا الوضع.(106/6)
ضرورة استشعار عظمة الله في الصلاة
يقول ابن رجب الحنبلي في كتابه لطائف المعارف وفي كتابه الذي نوصي كل مسلم بشرائه وهو كتاب: جامع العلوم والحكم فهذا لا ينبغي أن يخلو منه بيت؛ لأنه شرح الأربعين النووية وأضاف من عنده عشرة صحيحة وشرحها شرحاً وافياً لم يسبقه أحد إلى ذلك، ولم يأت بعده أحد يشرح مثل شرحه، فكل حديث علق عليه أكثر من خمس أو ست صفحات وجمع فيه كل ما قيل في الموضوع الذي يتناوله هذا الحديث.
ولذا نوصي كل مسلم أن يشتري هذا الكتاب وثمنه أظن (12) ريالاً أو (10) ريالات، جامع العلوم والحكم لـ ابن رجب الحنبلي رحمة الله عليه، يقول: إن الخشوع لين القلب ورقته وسكونه وانكساره وحرقته وحضوره في الصلاة، وهو يحصل بالتأمل في أسماء الله وصفاته، فإذا ما أدرك العبد عظمة من يقف بين يديه وعظمة الموقف الذي يمارسه فإنه يحصل له الخشوع، ثم يدلل على هذا ويقول: إذا وقفت بين يدي ملك فاسأل نفسك كيف تكون في مثل هذا الموقف، لا أحد يستطيع أن ينظر إلى أنفه بين يدي الملك أو يحك ظهره؟ أيستطيع أن يفكر في شيء غير ما يتكلم فيه مع الملك، إذا قام بين يدي الملك أو الأمير أو المسئول وقدم له مطلبه هل يمكن أن يخطر في باله غير الكلام الذي ينادي به الملك؟ لا.
سوف تضيع كل الأفكار إلا هذا الموضوع لأن الموقف جليل، فهل أعظم من أن تقف بين يدي الملك الجليل، ملك السماوات والأرض، لا إله إلا الله! حقيقة إنه موقف مخزٍ أن يقف الإنسان بين يدي الله ثم ينصرف بقلبه عن الله، ولذا ورد في الأثر: "أن العبد إذا وقف بين يدي الله نصب الله وجهه له في الصلاة، فإذا صرف العبد قلبه صرف الله عنه وجهه، وينادي: أإلى خيرٍ مني"، تقف بين يدي وتفكر في الدنيا وتذهب، ضع قلبك معي عشر دقائق، ثم اذهب وسوس من العشاء إلى الفجر كم ساعة الآن من بعد العشاء، إلى الفجر لو صلينا الساعة الثامنة فكم إلى صلاة الفجر ساعات فراغ، أكثر من تسع ساعات لا يوسوس الواحد فيها! لكن إذا صلى جاءت الوسوسة، فهذا يدل على أنك محارب ومطارد من قبل قوة وهي قوة الشيطان بتضييع الصلاة عليك، إذ لا يفكر الإنسان أبداً وهو على الأكل لا يفكر، إذا كان في الدوام لا يفكر، إذا جلس أمام الفيلم إذا كان ممن يرى الأفلام لا يفكر إلا في الفيلم، حتى لو سرقت فلوسه من جيبه ولو جاءت مكالمة لو كلمته امرأته يقول: صه صه، لأنه معلق مشدود لا يفكر في شيء غير هذا، لماذا تجلس ساعات أمام الفيلم لا تفكر إلا به، وعشر دقائق ما قعدت تفكر بين يدي الله، لماذا؟ لأن الصلاة ترضي الله والشيطان يريد أن يسحبك منها.
أما الفيلم فيبغضه الله، والشيطان يريد أن يركز ذهنك فيه ويضيع حياتك في هذه الخزعبلات والخرافات والأكاذيب، كلها كذب في كذب فلا تتابع الكلام الفارغ، المسلسل هذا كذب كتبه كذاب ومثله عشرون كذاباً وأنت تعيش عليه وتحزن، وبعضهم لا ينام في الليل، ماذا بك؟ يقول: والله النهاية المؤلمة التي صارت للبنت، ولا توجد نهاية وكلها كذب في كذب، كن رجلاً واحتفظ بعقلك، لكن!! إنا لله وإنا إليه راجعون ضاعت عقول الأمة وراء هذه الأفلام والفيديو الذي يشتريه بعض الناس بخمسين أو ستين ريالاً ليري أولاده ويدربهم على المفاسد والحب والعشق والغرام والجرائم والأفلام البوليسية، هذه مصيبة والله من أعظم المصائب؛ لأن الله استرعاك هذه الرعية وأنت خنت هذه الرعية، والله يسألك يوم القيامة، {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:92 - 93]، سيسألك الله هل حفظت هذه الرعية وهم زوجتك وأولادك، أم ضيعتهم؟ بعضهم يبكي مع دموع زوجته ودموع أولاده إذا منعهم من الفيلم قاموا يبكون، قال: إذاً دعهم ينظرون، دعهم يتفرجون، دعهم ينظرون إلى الكراتين من أجل أن يكون ولده (كرتوناً) يربيه على الكراتين من صغره، لا حول ولا قوة إلا بالله! وإنا إليه راجعون!(106/7)
الأسباب التي تبذل قبل الصلاة لتحقيق الخشوع فيها
لما كان العبد يتقلب بالليل والنهار بين نعم الله عز وجل، وآلاء الله لا تنقطع عنه؛ فإنه يصاب بالتبلد والفتور والغفلة فيحتاج بناءً على هذا إلى شيء يجدد فيه هذه المفاهيم وهذه المعاني، وكان أعظم مجدد لها هو هذه الصلاة التي هي عمود الإسلام، والتي لا تنفك عن المسلم ولا تسقط عنه بأي حال من الأحوال، فالصوم مرة في السنة، والحج مرة في العمر، والزكاة مرة في السنة، وإذا لم يوجد مال ولا توجد زكاة، وإذا كنت مسافراً، فقد تفطر وتقضي يوماً عنه، أو إذا كنت مريضاً كذلك، وإذا كنت فقيراً ليس عليك حج، لكن الصلاة لا بد أن تقيمها سواء كنت مسافراً أو مقيماً، أو مريضاً أو معافى، حتى لو كنت في الحرب، وعلى أي وضع لا بد أن تصلي، لماذا؟ لأنها صلة، كيف تعيش وقد قطعت صلتك بالله تبارك وتعالى.
ولما كانت هذه الصلاة صلة كان لا بد من الخشوع فيها وهذا لا يتأتى إلا بأسباب، والأسباب كثيرة منها ما هو قبل الصلاة، وما هو في الصلاة، وما هو بعد الصلاة، فالأسباب التي قبل الصلاة كثيرة منها: إذا أردت أن يحصل لك الخشوع فاتبعها واحدة واحدة:(106/8)
الترديد خلف المؤذن
أولاً: إذا سمعت المؤذن فاقطع عملك وقل مثلما يقول، غير أنك إذا قال: حي على الصلاة حي على الفلاح، فإنك تقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، وإذا قال في صلاة الفجر: الصلاة خير من النوم الصلاة خير من النوم، تقول: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم، لما صح عند مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بهذا وقال: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول، ثم صلوا عليَّ؛ فإنه من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، فمن سأل لي الوسيلة حلت له شفاعتي يوم القيامة) الله أكبر! ما أعظم هذا الفضل العظيم، إذا سألت الله الوسيلة للنبي صلى الله عليه وسلم بحيث يبلغه الله هذه المنزلة، وسيبلغها -بإذن الله- فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: وجبت وحلت له شفاعتي يوم القيامة، وسؤال الوسيلة أن تقول: (اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة؛ آتي محمداً الوسيلة والفضيلة، والدرجة العالية في الجنة، وابعثه اللهم المقام المحمود الذي وعدته) إذا قلت هذا حلت لك الشفاعة يوم القيامة، والحديث رواه البخاري.
ثم اجتهد بالدعاء بعد الأذان؛ لأنه ورد أن الدعاء يجاب ما بين الأذان والإقامة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اثنتان لا ترد -أو قال: لا تردان- الدعاء عند النداء -أي: بعد الأذان- وعند البأس حين يلتحم القوم بعضهم مع بعض) رواه أبو داود، إذا أكمل المؤذن الأذان فادع الله فإنه موطن إجابة، اجتهد في الدعاء بأن يعينك الله، ويأخذ بيدك إلى الطاعة، ويوفقك في الدنيا والآخرة.
ثم بين الأذان وبين الإقامة ادع فإنه قد قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (الدعاء بين الأذان والإقامة لا يرد) رواه أبو داود والترمذي وصححه الشيخ الألباني.(106/9)
المسارعة إلى الوضوء بعد الأذان
ثانياً: بعد أن تسمع الأذان وتردد وتدعو تسارع إلى الوضوء عملاً بقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة:6] ومعنى القيام هنا: الإرادة، إذا أردت القيام إلى الصلاة {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:6] واستحضر وأنت ذاهب إلى الوضوء فضله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال فيما رواه الإمام أحمد في الحديث الصحيح: (من توضأ وأحسن الوضوء وصلى غفر له ما بينه وبين الصلاة التي تليها) وبعد ذلك عليك أن تشغل نفسك بالتفكر أثناء الوضوء ولا تغفل؛ لأن هناك شيطاناً يقال له: الولهان، وهو مسلط عليك من أجل ألا تدري ماذا غسلت، بعضهم يغسل يديه قبل وجهه، وبعضهم يغسل وجهه بعد رأسه وهو لا يدري، ولا يعمم ولا يبالغ في الوضوء، ولا يهتم، هذه الوسوسة من شيطان يقال له: الولهان، ولكن عليك أن تشغل قلبك في ذكر الله عز وجل أثناء الوضوء بالتسمية، أولاً: سمِّ الله، هذا إذا كنت تتوضأ في غير الحمام، أما إذا كان بيتك فيه ميضأة بداخل دورة المياه فتسمي خارج الحمام ثم تدخل وهناك لا تسمِّ؛ لأنه لا يجوز لك أن تذكر الله تبارك وتعالى داخل الحمام.
فإذا شرعت في الوضوء فتفكر في كل عضو تغسله، فإذا غسلت يديك تفكر فيما اكتسبت هذه اليد من الذنوب، فإذا فعلت ذلك، فاستحضر في ذلك أن الوضوء يكفر الذنوب التي مستها يداك، وأن الخطايا كلها تخرج مع آخر قطرة تخرج من العضو الذي تغسله بالوضوء، فإذا غسلت وجهك تذكر أن كل خطيئة نظرت إليها بعينك تخرج مع الماء، وإذا غسلت يديك فاستحضر أن كل خطيئة بطشتها تخرج مع الماء، وإذا غسلت رجليك فاستحضر أن كل خطيئة مشيتها برجليك فإنها تخرج مع قطر الماء، وبهذا تخرج من الوضوء مغفور الذنوب كما قال صلى الله عليه وسلم -والحديث في صحيح مسلم -: (إذا توضأ المسلم فغسل وجهه خرجت من وجهه كل خطيئة نظر إليها مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كانت بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه حتى يكون تقياً أو نقياً من الذنوب) رواه مسلم.
ثم إذا هممت بالخروج من مكان الوضوء فاستحضر ما حزته وكسبته من الأجر العظيم، والثواب الجزيل من حط الذنوب، ورفع الدرجات، واستحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟! قلنا: بلى يا رسول الله! قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط) الله أكبر يا إخواني! خصوصاً هذه الأيام مكاره البرد (وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط فذلكم الرباط).(106/10)
تذكر أن الوضوء سيكون علامة مميزة يوم القيامة
ثالثاً: تذكر أن هذا الوضوء سيكون علامة لك يوم القيامة تعرف بها حينما يحشر الناس من قبورهم، وإذا بأعضائك التي توضأت علامة لك يوم القيامة؛ فاحمد الله بشيء من الغبطة والسرور أن هداك الله ووفقك وجعلك من المتوضئين، فكثير من الناس لا يتوضأ ولا يصلي، وأنت قد اجتباك الله وهداك فهذه من أعظم نعم الله عليك أن هداك ووفقك؛ لأن تكون ممن يتوضأ لتعرف بهذا الوضوء يوم القيامة.
يقول أحد الصحابة: خرج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المقبرة في يوم من الأيام فسلم على أهلها، وقال: (سلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، وددت أنا قد رأينا إخواننا -يقول للميتين- قال الصحابة: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: أنتم أصحابي، وإخواني قوم لم يأتوا بعد، وأنا فرطكم على الحوض -يقول: أنا أمامكم أنتظركم- قالوا: وكيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله؟! قال: أرأيتم لو أن رجلاً له خيل غُرّ محجلة -غر، يعني: في جبهتها بياضاً، ومحجلة يعني: قوائم أقدامها محجلة- بين ظهري خيل بُهم دُهم ليس فيها محجلة، ولا فيها غرة، ألا يعرف خيله) إذا كانت خيلك غرة ومحجلة بين خيل بهم دهم سوداء ألا تعرف خيلك؟ (قالوا: بلى يا رسول الله، قال: فإنهم يأتون غراً محجلين من أثر الوضوء) يأتي المؤمن أغرّ الجبين، ومحجل في يديه ورجليه من أثر الوضوء (وأنا فرطهم على الحوض، ألا ليذادن رجال عن حوضي -ألا ليذادن، يعني: يمنعون، يأتون وهم غر محجلون لكن يمنعهم مانع- كما يذاد البعير الضال أناديهم: ألا هلم، ألا هلم، فيقال: إنهم قد أحدثوا بعدك، فأقول: سحقاً سحقاً وبعداً بعداً) رواه الإمام مسلم في صحيحه.
وإذا انتهيت من الوضوء فقل -والحديث في صحيح مسلم ورواه الترمذي ولا نحتاج إلى التفصيل إذا قلنا مسلم أو البخاري فهو صحيح؛ إذ لا يوجد كلام أصح بعد كلام الله من البخاري ومسلم - يقول عليه الصلاة والسلام: (ما منكم من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء) الله أكبر! إلى هنا رواية مسلم وإن زدت فقل: (اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين) الزيادة رواها الترمذي بسند صحيح: (أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين) فإذا فعلت هذا فأنى للشيطان أن يقربك.
كيف يأتيك إبليس وقد رددت مع المؤذن، ودعوت الله بعد الأذان، وسارعت إلى الوضوء، وتذكرت كل هذه المعاني، ثم خرجت إلى المسجد؟ كيف يأتيك إبليس وقد تحصنت بحصون منيعة لا يستطيع أن يصل إليك؟ ولكن لن ييأس وسيحاول الدخول عليك، فتحصن أيضاً بالحصون الآتية إن شاء الله قبل الدخول إلى الصلاة: أولاً: استعد بالسواك -وهذا مهم جداً- والحديث في الصحيحين متفق عليه: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة) استعد بالسواك فإنه من السنن المؤكدة التي تطيب رائحة الفم وتنظف الأسنان؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة) وفي رواية: (عند كل وضوء) والروايتان صحيحتان، ويكسبك هذا قوة ونشاطاً وجمالاً ورائحة ويعلمك التهيؤ للوقوف بين يدي الله تبارك وتعالى.
كما أن السواك له أثر في طرد النوم، خاصة إذا كان سواكاً رطباً، فلا ينبغي أن يكون السواك له في جيبك مدة طويلة؛ لأنه ييبس، ويتلوث، فاستعمله عند الوضوء من أجل إذا انتهيت من الوضوء يكون السواك نظيفاً، ثم بعد أن يمضي يومان أو ثلاثة أو أربعة أيام على هذا السواك وإذا به جاف فترميه وتأخذ غيره؛ لأن الجديد فيه مادة وهي المادة الحارة التي لها أثر في تنظيف الفم وإذابة الأملاح الموجودة على الأسنان ولا مانع من استعمال الفرشاة، ولكن الفرشاة ليست بديلة للسواك فالفرشاة وسيلة تنظيف فقط.
ولهذا يقول الإمام الصنعاني في كتابه سبل السلام في الجزء الأول، يقول: (عجباً لأمة تضيع سنة يقول فيها رسولها أكثر من مائة حديث)، ورد في فضل السواك أكثر من مائة حديث ونضيعها الآن! والشيطان أبدلها الآن بمسواك الدخان، وفعلاً ما رأيت مدخناً معه مسواك -إلا من رحم الله- فتش فلن تلقى مدخناً إلا ومعه مسواك الشيطان؛ لأن الشيطان مخلوق من النار ومسواكه من النار، فأوحى إلى أعوانه وأتباعه أنه لا بد أن تتمسوكوا، بماذا؟ بمسواكه من النار -والعياذ بالله- وبكم؟ باكت واحد بأربعة ريالات كل يوم يدفعها المدخن دون أن يماكس البائع في ثمنها، وأنت مسواكك من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم بريال فقط، وكم يكفيك؟ أسبوعاً، من الجمعة إلى الجمعة.(106/11)
الاستعداد للصلاة بالملابس النظيفة وبالرائحة الطيبة
رابعاً: من أسباب الخشوع قبل الصلاة أيضاً: الاستعداد للصلاة بالملابس النظيفة الجميلة وبالرائحة الطيبة؛ لأن الله يقول: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31] لكننا نأخذ الزينة عند كل ملعب، أو الحفلة أو المناسبة أو الدوام لكن عند كل صلاة لا نأخذ تلك الزينة، فبعض الناس يصلي في بجامة أو ثوب النوم، ويأتي بثياب رائحتها كريهة -والعياذ بالله- قام من النوم وجاء يصلي، يا أخي لماذا هذا الفعل؟ يا أخي! صلِّ في أحسن ثيابك، وخذ ثوباً نظيفاً، وقبل أن تخرج خذ شيئاً من الطيب، حتى إذا صليت إلى جانب أخيك المسلم فإنه يشم رائحتك الجميلة فيأنس بك، لكن بعضهم رائحته قذرة: إما بالدخان، أو بالبصل، أو بالثوم، أو بالرائحة القذرة، وهذا يؤذي المسلمين ويؤذي الملائكة، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم حذر من هذا وقال: (من أكل ثوماً أو بصلاً فلا يقربن مصلانا) وهذا ما يسميه العلماء كف يد، هذه عقوبة من أعظم العقوبات، بعض الناس يأكل ثوماً أو بصلاً ويقول: أصلي في البيت؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فلا يقربن مصلانا) فيأكل الثوم والبصل من أجل أن يجلس ويصلي في البيت، نقول: لا.
إنه ما أذن لك أن تصلي في بيتك ولكنها عقوبة وزجر لك أن منعك من أن تقرب المصلى، لأنك أكلت ثوماً، وما دام منعت من الصلاة في المصلى فإنها مصيبة نزلت عليك.
لذلك لا تأكل لا ثوماً ولا بصلاً حتى لا تمنع من أداء الصلاة في المسجد، فتستعد للصلاة في المسجد في أحسن ثياب وأحسن ريح وأحسن طيب، وأذكر أنني أعرف رجلاً من الصالحين -أسأل الله أن يسكنه فسيح جناته- من أهل أبها توفي قبل سنوات، هذا الرجل كان مسئولاً في الدولة وبعد ذلك أحيل إلى المعاش، وكان معروفاً بحبه للصلاة وللتزين فيها، يعني: لا يخرج إلى المسجد إلا وكأنه قطعة ثلج أبيض، وحين يمشي من بيته إلى المسجد إلا ورائحته في الشارع تعبق وراءه، حتى الكوت نفسه أبيض وغترة بيضاء، ولما سئل عن ذلك، قال: أنا ألبس للدوام وللمزرعة وللعمل ثياباً أخرى، لكن الصلاة لا أستطيع أن أقف بين يدي الله إلا في ثياب بيضاء حتى يكون قلبي أبيض، وأسأل الله أن يجعلني مع من يبيض الله وجوههم يوم القيامة.
وقد جاء في الحديث الصحيح: (إن أحب الثياب إلى الله البيضاء) وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكفن بها الموتى، وليس معنى هذا أن هذه السوداء محرمة بل هي مباحة لكن البيضاء أفضل منها، لماذا؟ قال العلماء: لأن البياض يظهر فيه أثر القذر أما السواد فلا يظهر.
ومن الأمور التي يستعد لها الإنسان في الصلاة قبل الدخول فيها: الحرص على إبعاد ما يشغله عن الصلاة بين يدي الله من لباس أو فراش أو نقوش أو سجادة، أو أي شيء يشغلك أمامك أبعده، فقد ثبت في الصحيحين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في خميصة لها أعلام -يعني: خطوط- ثم لما انصرف من صلاته خلعها، وقال: اذهبوا بها إلى أبي جهم وأتوني بإمبجانيته فإنها ألهتني آنفاً عن صلاتي) خطوط معلمة في الأرضية خلعها رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجم بها وقال: أعطوني إمبجانيته التي لا خطوط فيها، لماذا؟ حتى لا ينشغل الإنسان في الصلاة.(106/12)
الحرص على تهيئة المكان الملائم لأداء الصلاة
خامساً: أيضاً من الأمور التي تستعد بها قبل الصلاة: الحرص على تهيئة المكان الملائم لأداء الصلاة من حيث شدة الحرارة أو البرودة، إذا كان هناك برد شديد وأنت تصلي في الليل فضع لك مدفئة، إذا كنت في برد شديد حاول أن تلبس عباءة حتى تصلي في جو مريح لك فيه خشوع.
وكذلك تبتعد عن أماكن الإزعاج والضوضاء، فقد روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن المصلي يناجي ربه فلينظر بم يناجيه، ولا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن) إذا كنت تقرأ القرآن وجاء شخص يصلي إلى جانبك فاخفض صوتك ولا ترفعه؛ لأنك تشغله (لا يشوش قارئكم على مصليكم).
وكذلك الأمور التي تشوش على الناس في مساجدهم ينبغي أن تعطل مثل: مصنع أو مزرعة أو أي آلات مزعجة بجانب المسجد ينبغي إذا أقيمت الصلاة أن توقف كل دواليب الحياة فتمشي في الشارع ولا سيارة، ولا دكان، لماذا؟ لأن الناس مع الله، أين المسلمون الآن؟ مع ربهم، الناس في بيوت الله، لكن متى هذا؟! الله المستعان! في رمضان تعرفون في المغرب إذا أذن للمغرب لا أحد يتجول في الشوارع فكل واحد على سفرته، والذي في الخلاء تراه مثل المجنون، يقطع الإشارات ماذا بك، يقول: أريد أن ألحق العشاء! ليت الناس في الصلوات في غير رمضان مثل هذا الوقت بحيث إذا أذن لا تجد أحداً في الشارع ولا ترى واحداً في البيت إنما كلهم في المساجد، ينهلون من نعيم الإيمان، ويردون هذه المحطات الإيمانية ليعبئوا قلوبهم من عظمة الله، ثم إذا سلموا يخرجون من مساجدهم إلى أماكنهم وقد امتلأت قلوبهم، لكن إذا كان المسجد غير ممتلئ والشارع ممتلئ هذه مصيبة، وإنا لله وإنا إليه راجعون!(106/13)
الاستعداد لقضاء الضروريات قبل الصلاة
سادساً: الاستعداد لقضاء الضروريات قبل الصلاة، يجب أن تمارس الصلاة وقد قضيت كل الضروريات من حياتك مثل: قضاء الحاجة، فلا تخشع وأنت حاقن، ولا تأتِ وأنت جائع، ولا تحاول أن تورد الطعام في وقت الصلاة كما يفعل بعض الناس فلا يقدم العشاء إلا إذا أذن قال: أريد أن أتعشى حتى يضع الناس في خيارين: إما أن يصلوا وعقولهم في الطعام، أو يأكلوا ويضيعوا الصلاة.
لا.
يا أخي! قدم أو أخر، ولهذا جاء في الحديث يقول عليه الصلاة والسلام -والحديث في مسلم -: (لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان) يعني: البول أو الغائط، عليك أن تستعد للصلاة قبلها، وبعضهم يقول: أصلي الآن من أجل ألا أعيد الوضوء، لماذا؟ هل الوضوء يكسر ظهرك؟! إنما هو نشاط يا أخي، فإذا عرفت أنك إذا صليت وأنت غير خاشع فليس لك صلاة، والحديث صحيح في مسلم: (لا صلاة -يعني: ليس له صلاة كاملة- وهو يدافع الأخبثان) بعضهم يتلوى من بداية الصلاة! اخرج يا أخي! قبل الصلاة وتوضأ وأخرج الأذى ثم تعال وقلبك معك، وكل جوارحك معك حتى تؤدي صلاتك كما ينبغي.(106/14)
الأسباب التي تبذل أثناء الصلاة لتحقيق الخشوع فيها
أما الأوامر التي تعينك على الخشوع أثناء الصلاة فهي كثيرة:(106/15)
استقبال القبلة والدنو من السترة
أولاً: استقبل القبلة، وادن من السترة، وهذه سنة ضائعة عند كثير من الناس، لحديث النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح: (إذا صلى أحدكم فليصلِّ إلى سترة وليدن منها) يعني: لا تصلِّ في وسط مسجد وبينك وبين الجدار عشرة أمتار، بينما هناك عمود ويمكنك أن تصلي إليه، يجب أن تحرص على أن تضع بينك وبين مصلاك سترة لتدن منها، بحيث يبقي بينك وبين سجودك ممر شاة.
وبعد ذلك كيف تخشع؟ بعد تكبيرة الإحرام.(106/16)
رفع اليدين إلى حذو المنكبين أو حيال الأذنين
ثانياً: عليك أن ترفع يديك إلى حذو المنكبين أو حيال الأذنين وقد وردت كلا الصفتين، وأن تكون متوجهاً بباطن الكفين إلى القبلة، ممدودة الأصابع مضمومة، وبعد هذا الوضع وأنت مستسلم وقد رفعت يديك لربك مستسلماً خاضعاً لله منقاداً له، بعد هذا تستشعر المعنى وأنت تكبر تكبيرة الإحرام وقد استسلمت قلباً وقالباً جسداً وروحاً لله تبارك وتعالى.
ثم بعد ذلك وأنت على هذه الحالة تكبر تكبيرة الإحرام: الله أكبر! معلناً بهذه التكبيرة أن الله أكبر من كل شيء، فلا ينبغي أن تتشاغل عن الكبير المتعال بأي شيء، أنت قلت: الله أكبر! أي أكبر من الدنيا، فالدنيا قد تركتها خلف ظهرك، وأقبلت بقلبك على الله، فالله أكبر من الزوجة والوظيفة والأولاد والدنيا وما عليها، وأنت عندما تعلن الله أكبر يجب أن تكون صادقاً؛ لأن من لا يكون صادقاً مع هذه الكلمة يقول: الله أكبر بلسانه لكنه ينقضها بفعله فهو يفكر في المزرعة والعمارة، ثم تدعو بدعاء الاستفتاح، وهذا الاستفتاح يسميه العلماء الاستئذان، كأنك تطرق الباب على الله، تستفتح للدخول على مولاك فتقول وأنت تثني على مولاك: (سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك) وأنت في هذا الموقف ذليل خاضع واضع يدك اليمنى على اليسرى على صدرك بكل سكينة وخضوع وخشوع لمن أوقفك في هذا المكان، مطرق الرأس لا تنظر إلى فوقك بل تجعل نظرك بين قدميك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى طأطأ رأسه ورمى ببصره نحو الأرض، وهذا ذكره الألباني في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وهو صحيح.(106/17)
ذكر دعاء الاستفتاح
ثالثاً: بعد أن تقف هذا الموقف إن أردت أن تزيد دعاء ورد في الصحيحين وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد) هذا الدعاء ثبت في الصحيحين أن النبي كان يقوله قبل الشروع في قراءة الفاتحة، يعني: يستفتح به.
يقول الإمام النووي في كتابه الأذكار وهو كتاب مهم يقول: من أراد أن يجمع بين الأذكار كلها فحسن، ومن أراد أن يكتفي بواحد فحسن، ومن أراد أن يأتي وببعضها مرة وبعضها مرة أخرى فهو حسن، وكلها واردة وصحيحة.
ثم تخيل وأنت تقول هذا الكلام وأنت تردد هذا الدعاء وواقف بين يدي الله تخيل أنه قد جمعت خطاياك كلها منذ كلفت إلى أن تموت فكم خطايانا يا إخواني لو أخطأ كل يوم واحدة كيف وهو يخطئ آلاف الخطايا؟! من الذي لا يخطئ بعينه، وبلسانه، وبيده، الخطايا ترد علينا كالجبال الراسيات، وإذا جمعت كل هذه الخطايا منذ خلقك الله إلى أن تموت ثم بلغت مثل البحر ومثل زبد البحر فإذا باليد، والقدم، واللسان والعين، والأذن، والبطن، والفرج شهود عليك، وأنت واقف بين يدي الله، وهذه الخطايا تسوقك إلى النار لا محالة، فإذا برب العزة والجلال يباعد بينك وبين هذه الخطايا كما باعد بين المشرق والمغرب بسبب ماذا؟ بسبب دعوتك لله، كنت كلما وقفت بين يدي الله تقول: (اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب) وهذا أقصى حد، فهل يوجد أبعد مما بين المشرق والمغرب؟ فقد طلبت أن يكون بينك وبين الخطايا أبعد مسافة، كما قال الله أن الواحد يقول: {يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} [الزخرف:38].
ثم تتذكر وأنت تقول: (اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس) وذلك خشية ألا يكفيك بعد الذنب، قد يكون الذنب بعيداً لكن بقي له علاقات فتقول: اغسلني يا رب ونقني منها كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس فأكون خالياً منها.(106/18)
الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم
رابعاً: بعد ذلك استعذ بالله من الشيطان الرجيم.
دخلت الآن في المعركة مع الشيطان، ولا بد في بداية المعركة من ضربة بأقوى قوة عندك وهي الاستعاذة؛ لأن الله يقول: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [الأعراف:200] فأول شيء تبدأ به في الصلاة بعد دعاء الاستفتاح أن تقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه، ثم تسمي وتقول: بسم الله الرحمن الرحيم، والبسملة إذا كانت الصلاة جهرية فتبسمل في سرك؛ لأن هذا الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أسر وجهر كله ثابت، ولكن كان إسراره أكثر من جهره كما حقق ذلك ابن القيم في كتابه زاد المعاد في هدي خير العباد.(106/19)
التفكر والتدبر في آيات الله المقروءة في الصلاة
خامساً: اشرع في قراءة الفاتحة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما عند مسلم: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي) فدل هذا الحديث على أن الصلاة هي الفاتحة؛ لأنه: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) إذا دخلت في الصلاة تقرأ الفاتحة أولاً قراءة خاشعة ولا تقرأها بسرعة فالسنة أن تقرأها آية آية: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:2 - 3] عندها تستشعر أنك تخاطب الله؛ لأن الله يقول: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي فإذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، قال الله: أثنى علي عبدي، فإذ قال العبد: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3]، قال الله: حمدني عبدي، فإذا قال العبد: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] قال الله: مجدني عبدي، فإذا قال العبد: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] قال الله: هذه بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل) منك العبادة ومن الله الإعانة، بقي الذي لك أنت، هي سبع آيات: ثلاث لك، وثلاث لله، وواحدة بينك وبين الله، الثلاث الأولى للرب: حمد وثناء ومجد، والثانية: بينك وبين الله منك العبادة ومن الله الإعانة، والثلاث الأخيرة لك: (قال الله: إذا قال العبد: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7] قال الله: هذه لعبدي ولعبدي ما سأل) نسأل الله وإياكم من فضله.
واحرص على التأمين بعدها، وعند ذلك تفكر وأنت تقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] أي: تحمد الله بكل محامده؛ لأن الألف واللام للاستغراق، أي: استغراق لجميع المحامد، والعالمين: كل ما سوى الله فهو عالم، فأنت تقول: أي: رب! أصرف إليك جميع المحامد والثناء لك وحدك لا شريك لك؛ ولأنك أنعمت عليَّ بنعمة ليس بعدها نعمة أن أوقفتني بين يديك وجعلتني عبداً من عبادك، ما جعلتني عبداً للشيطان ولا للشهوات ولا للهوى ولا للدنيا.
وبعد ذلك تقول: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] وتتأمل في هذه الكلمة أنك تقرب من الله ما دام الرحمن الرحيم؛ رحمن الدنيا ورحيم الآخرة ورحيمهما كأنك تقول: يا رحمن يا رحيم ارحمني في الدنيا والآخرة.
ثم تقول: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] وهذا اعتراف منك بأن الله هو المتصرف بيوم القيامة.
وكأنك تستجدي ربك وتقول: يا رب ما دمتَ المالك لهذا اليوم أرجوك أن ترحمني في ذلك اليوم.
وبعد ذلك تقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5] وقدم المفعول هنا للاختصاص، ما قال: نعبدك، قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5] أي: لا نعبد إلا إياك {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] أي: لا نستعين إلا بك.
ثم تقول: {اهْدِنَا} [الفاتحة:6] أي: دلنا وأرشدنا وأقمنا على الصراط المستقيم.
ثم تتفكر بعينك وقلبك: أين الصراط المستقيم؟ تقول: هذا الدين الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، هذا الكتاب الكريم صراط، وهذا الرسول العظيم صراط، الصراط أي: المضروب على متن جهنم، القرآن صراط، الإسلام صراط، (اهدنا) دلنا وأرشدنا، وأقمنا على هذا الصراط المستقيم الذي لا عوج فيه ولا انحراف.
وبعد ذلك وكأنك تقول: يا رب هناك فئتان منحرفتان وأنا أريد صراط الذي أنعمت عليهم {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7] اليهود {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] هم النصارى، ثم تقول بعدها: آمين.
واحرص على قول: آمين؛ فإنك إذا أمنت فإن معناها: اللهم استجب، وإذا كنت في جماعة وأمنت عند تأمين الإمام ثم وافق تأمينك تأمين الملائكة غفر لك ما تقدم من ذنبك، وهذا الحديث في صحيح البخاري ومسلم، يقول عليه الصلاة والسلام: (إذا أمن أحدكم فوافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه) الله أكبر! رواه البخاري ومسلم.
بعد ذلك عليك أن تفهم ما تقرأه من السور التي تقرأ، فتقرأ بعدها مثلاً: {أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ} [التكاثر:1] تفكر في معانيها، وأن الله عز وجل يعيب على النفس ويعاقبها: أن ألهاهم التكاثر والتشاغل في الدنيا، حتى وصلوا المقابر، كل واحد مشغول؛ إلى متى وأنت مشغول؟ ومن هو الذي مات وقد أكمل أعماله؟ لا أحد.
أحد الإخوة زاره أخ له، فقال له: تفضل، قال: إني مشغول، قال: فأخذه إلى مقبرة، وقال له: ما رأيك في هؤلاء؟ قال: هؤلاء موتى، قال: والله ما منهم من أحد مات وقد أكمل عمله، لكن جاء من يأخذهم من العمل، فأنت يجب أن تستغل حياتك في طاعة الله سبحانه وتعالى، وبعد ذلك تتأمل الكلام الذي تقرؤه؛ لأن الله ما أنزله إلا للتأمل والتفكر: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] ويقول تبارك وتعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82].(106/20)
الركوع والسجود باستسلام وخضوع لله
سادساً: إذا انتهيت فاركع، وفي الركوع ارفع يديك حذو منكبيك، ثم كبر مستسلماً منقاداً له حيث أمرك بالركوع، واحن ظهرك له، وتفكر كيف أنك لا يمكن أن تعمل هذا العمل إلا لله، وهذا الركوع عبادة، والذي يصنعها لغير الله وقع في الشرك، كما يفعل بعض الناس في التحية عند بعض الأمم الكافرة أسلوب التحية عندهم الانحناء، وهذا لا يجوز، فالركوع لله وحده؛ لأن هذا الإنسان عزيز، فكل الحيوانات ظهورها إلى أسفل إلا الإنسان فظهره إلى أعلى، لا يحنيه إلا لله، فتحني ظهرك في الركوع مستسلماً لعظمة الله تبارك وتعالى.
ثم أيضاً تفكر وأنت تقول: سبحان ربي العظيم، سبحان ربي العظيم، سبحان ربي العظيم، فأنا ما حنيت ظهري ولا ركعت إلا لله؛ لأنه عظيم، لا أركع لأحد في الأرض، لا أركع لملك ولا لسلطان ولا لزوجة ولا لأي قوة على وجه الأرض؛ لأن العظيم الوحيد هو الله الذي لا إله إلا هو، وأنا أعبر عن هذا وأعلن هذا وأقول: سبحان ربي العظيم ثلاثاً أو خمساًَ أو عشراً أو سبعاً ما استطعت وأقل شيء ثلاث، ثم إن أردت أن تزيد فقد ورد دعاء آخر في الصحيحين وهو أن تقول: (سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي).
ثم ترفع ظهرك من الركوع وتفكر وأنت ترفع ظهرك من الركوع وتستشعر أنك مقصر فتقول: سمع الله لمن حمده، ويطمئن قلبك بأن عز وجل يسمع حمدك وثناءك فلا تبخل، أن تقول: ربنا ولك الحمد، الإمام يقول: سمع الله لمن حمده، والجماعة كلهم يقولون: (ربنا لك الحمد، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت).
ثم تسجد: فإذا سجدت عبرت بالسجود بعد الركوع على مقتضى ومنتهى العبودية والخضوع لله سبحانه وتعالى؛ لأنك تمكن محاسن الوجه وأعز شيء محترم فيك أنفك وجبهتك كل مكان فيك ترضى أن تضرب فيه إلا في أنفك؛ لأنه عزيز ولهذا عندما قال: {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} [القلم:16] يعني: أقتله، والخرطوم: هو الأنف، فإذا سجدت لله عز وجل على هذا الأنف الذي هو أعز وأكرم منطقة فيك وجلست ومرغته على الطين احتراماً لله رب العالمين ذلاً وخضوعاً فأنت تعلم نعمة الله عليك بهذه النعمة، ثم تقول: سبحان ربي الأعلى، فجبيني هنا في الأرض والله هو الأعلى، سبحان ربي الأعلى، سبحان ربي الأعلى، ثم تقول أيضاً إن شئت وهو في الصحيحين: (سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي).
ثم تجتهد في الدعاء بما استطعت من خيري الدنيا والآخرة؛ لأنه جاء في الحديث والحديث في مسلم: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء فيه فَقَمِنٌ أن يستجاب لكم) لأنك دعوت إلى الله وأنت ساجد وهذا موطن تقديم العريضة على الله، فإذا دعوت الله وأنت ساجد فإنه أقرب موقف يمكن أن تقرب من الله فيه، وإنه لقمن إن شاء الله وجدير أن يستجاب لك، ثم تفعل ذلك في جميع صلاتك كلها، فتواصل كل هذا الكلام في كل ركعة من صلواتك.
وبعد ذلك إذا أتيت في التشهد الأخير تتشهد وتقول: أشهد أن لا إله إلا الله بعد أن تقدم التحيات.
انظروا إلى آداب الصلاة يا إخواني! استئذان، وبعد ذلك فاتحة فيها ثلاث لله وواحدة بينك وبين الله وثلاث لك، وبعد ذلك ركوع فيه تعظيم، وبعد ذلك تسبيح في السجود، ثم جلوس بين السجدتين واستغفار عما يكون من الخطأ، وقبل أن تنتهي لا بد أن تحيي ربك وتسلم على الله فتقول: التحيات أي: بجميع أنواعها لله، التحيات لله سبحانه وتعالى وهو المستحق لها وحده، التحيات والصلوات والطيبات لله من أقوال وأفعال وخطرات وأفكار وظاهر وباطن.
ثم تسلم على الرسول، فتقول: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي! بصيغة الخطاب المباشر كأنه أمامك، يقول ابن مسعود كما في الصحيحين (كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلمنا التحيات كما يعلمنا السورة من القرآن) وسألوه مرة فقالوا: (يا رسول الله! قد عرفنا كيف نحييك فكيف نصلي عليك؟ قال: قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد) فتحيي الله ثم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم عباد الله الصالحين من جن وإنس على سطح الأرض.
ثم تقول: (أشهد -بعد التحيات تؤكد وتعلن- أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله) ثم تصلي على الرسول صلى الله عليه وسلم إذا كان في التشهد الأخير، فتقول: اللهم صلِّ على محمد، وبعض العلماء يرى أنك تصلي على الرسول حتى في التشهد الأول ولكن لا تطيل تقول: اللهم صلِّ على محمد، ولا تأت بالصلاة كاملة؛ لأنها قد تطول عليك وبالتالي تعارض الحديث الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم يجلس في التشهد الأول كأنه على الرضف يعني: على الحجارة المحماة، فتصلي استجابة لأمر الله؛ لأن الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
وصلاتك على النبي دعاء له واعتراف بفضله حيث كان سبب هدايتك، ولولا الرسول صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الله لهذه الأمة ما اهتدينا وما عرفنا كيف نعبد الله تبارك وتعالى، فصلوات الله وسلامه عليه.
وبعد الصلوات تستعيذ بالله من أربعة أشياء عظيمة: تستعيذ بالله عز وجل من عذاب النار، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المسيح الدجال، ومن فتنة المحيا والممات، ثم تسأل الله من خيري الدنيا والآخرة تقول: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201] وإذا بقي معك وقت فاسأل الله المغفرة لك ولوالديك، ولما تريد في الدنيا وفي الآخرة.
وبعد هذا تسلم ولا تجعل الدعاء خارج الصلاة، فإن الصلاة دعاء والدعاء داخلها وبعدها ذكر وثناء على الله تبارك وتعالى، والذي يجعل الدعاء بعد السلام هو خلاف السنة، يقول ابن القيم رحمه الله: وعامة الأدعية المتعلقة بالصلاة تكون في داخلها لا خارجها.
وهذا هو اللائق في حال المصلي؛ فإنه مقبل على الله عز وجل يناجيه ما دام بين يديه، فإذا سلم انقطعت تلك المناجاة وزال ذلك الموقف العظيم فكيف يترك سؤاله في حال كونه بين يديه ثم يسأله بعد أن ينصرف من بين يديه؟!! عندما تقف بين يدي مسئول تقدم العريضة، لكن إذا ودعته وانصرفت فهل تقدم العريضة وأنت في الخلاء؟ وتخيل وأنت تسلم أنك تسلم على كل مسلم من جهتك اليمنى، وأن كل من يسمعك يرد عليك؛ لأنك تقول: السلام عليكم ورحمة الله، من الذي تسلم عليه؟ لا يوجد أحد تسلم عليه، عليكم بصيغة الخطاب أي: على كل مسلم من الجن والإنس، وأنهم كلهم يردون عليك يقولون: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، ثم تلتفت إلى الشمال وتقول: السلام عليكم ورحمة الله، وكلهم أيضاً يردون عليك مثلما رددت عليهم.
تخيل هذا ثم قل بعده: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام، لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه له النعمة وله الفضل والثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون.(106/21)
الأذكار المسنونة عقب الصلاة
يسن لك أن تقرأ آية الكرسي لحديث صححه ابن حبان وقال فيه شعيب الأرنؤوط: إنه صحيح، وهو عند ابن ماجة وفي سنده عند بعض الأئمة ضعف وقد صححه بعض العلماء، والحديث يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت) ثواب عظيم جداً، فاجعل آية الكرسي من لوازم صلاتك بعد الفراغ منها.
وهناك حديث في صحيح مسلم يقول عليه الصلاة والسلام: (من قال عقب كل صلاة: سبحان الله ثلاثاً وثلاثين، والحمد لله ثلاثاً وثلاثين، والله أكبر ثلاثاً وثلاثين، ثم قال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، غفر الله له ذنوبه ولو كانت كزبد البحر) فثوابه عظيم جداً، ولكن لا يحافظ عليها إلا موفق، فإن الإنسان يأتيه الشيطان بعد الصلوات فيذكره بأعماله وأشغاله حتى يخرجه قبل أن يقول هذا الكلام، أو يجعله يقولها بطريقة غير لائقة ويسرع فيها، إنما المطلوب أن تقولها وأنت متأننٍ ومحسن التلاوة لها والذكر بها مفصلاً لها عارفاً لمعانيها: سبحان الله والحمد لله والله أكبر، سبحان الله والحمد لله والله أكبر، وهذه لا تستغرق دقيقتين.
أحد الإخوة وجد أنها تستغرق دقيقة وأربعين ثانية لكن قلنا: نترك عشرين ثانية، فتكون دقيقتين تقول فيها هذا الكلام عقب كل صلاة يعني: في خمس صلوات عشر دقائق يغفر الله لك ذنوبك ولو كانت كزبد البحر.
وبهذا أيها الإخوة! تكونوا إن شاء الله إذا صليتم هذه الصلاة قد صليتم صلاة خاشعة صحيحة كما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد استجبتم لأمره، فقد ذكر البخاري حديثاً عن مالك بن الحويرث يقول عليه الصلاة والسلام (صلوا كما رأيتموني أصلي).(106/22)
نماذج من خشوع السلف في الصلاة
ومن المناسب أن نذكر بعض قصص السلف الذين كانوا يخشعون في صلاتهم:(106/23)
رهبة علي بن الحسين من ربه قبل الصلاة
فهذا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ابن بنت النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم أجمعين كان إذا فرغ من وضوئه وصار إلى الصلاة أخذته رعدة وانتفض نفضة واصفر لونه يعني: صار في وجهه مثل الغبرة وتغير شكله، فقيل له في ذلك، فقال: [ويحكم أتدرون من سأقف بين يديه بعد قليل] يقول: من سأقابل، فهؤلاء الذين يعرفون الله، فأنت إذا قابلت مسئولاً تستعد له بكل آداب الاستعداد، وتحاول أن تظهر أمامه بالمظهر اللائق، وتخشى أن تحصل منك سقطة واحدة فيحصل منه غضب عليك، فإنه وأنت تقف حسنا ًبين يدي الله عز وجل يجب أن تكون أعظم أدباً؛ لأنك بين يدي ملك الملوك وجبار السماوات والأرض.(106/24)
شدة خوف ابن المنكدر من عاقبة أمره
يُذكر عن محمد بن المنكدر: بينما هو قائمٌ يصلي ذات ليلة فبكى وكثر بكاؤه حتى فزع أهله، وقامت زوجته وأولاده من كثرة بكائه، وسألوه: ما الذي أبكاك؟ فاستعجم لسانه وزاد في البكاء، فأرسلوا إلى أبي حازم جاره؛ فأخبروه بأمره فجاء أبو حازم فإذا به يبكي، قال: يا أخي! ما الذي أبكاك قد روعت أهلك، أَبِكَ علة؟ أتشكو من شيء؟ قال: لا.
إنه مرت بي آية في كتاب الله وأنا أصلي وهي قوله عز وجل: {وَبَدَا لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47] يقول: مرت بي هذه الآية، يقول: فبكى أبو حازم أيضاً واشتد بكاؤهما، فقال بعض أهله لـ أبي حازم: جئنا بك لتفرج عنا فزدتنا فأخبرهم ما الذي أبكاهما، قال: الذي أبكاه وأبكاني قول الله عز وجل: {وَبَدَا لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47].(106/25)
شدة تأثر عمر بآيات القرآن
تذكر كتب السير عن عمر رضي الله عنه أنه قرأ ليلة من الليالي في سورة الطور: {وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ * وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ * وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ * وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} [الطور:1 - 8] فما زال يكررها حتى أصبح ثم مرض وزاروه أياماً، وذلك من تأثير هذه الآية.(106/26)
تقديم عطاء لمناجاة الله على مناجاة الملوك
كان عطاء بن أبي رباح رضي الله عنه؛ وهو تابعي وإمام من أئمة العلم دلته أمه على العلم وكان ذميم الخِلقة، قصير القامة، أسود البشرة، بحث عن عمل فلم يجد، وكلما عمل في عمل لم يوفق فيه، رجع إلى أمه، قال: يا أماه! ما أراني إلا قد شقيت ما لقيت عملاً دليني على مهنة، قالت: ألا أدلك على عمل إن عملته هابتك الملوك وانقاد لك به الصعلوك؟ قال عمل تهابني به الملوك، قالت: نعم.
قال: ما هو؟ قالت: عليك بالعلم، فأخذ محبرته وصحيفته وذهب إلى مكة وطلب العلم، فحفظ القرآن الكريم ثم حفظ السنة المطهرة، ثم فتح الله عليه حتى أصبح لا يقال في الأرض قولاً إلا بعد قول عطاء، إذا نوزع في مسألة، قالوا: ماذا قال عطاء عالم مكة رضي الله عنه وأرضاه.
وقد حج أحد الخلفاء إلى مكة ولما ذكر في مجلسه مسألة قال لهم: ماذا قال فيها عطاء، قالوا: لا ندري! قال: أرسلوا له، فأرسلوا لـ عطاء فرد عليه وكتب له ورقة، قائلاً: ليس لنا حاجة فيما عندك فنأتيك، وإن كان لك حاجة فيما عندنا فتعال عندنا، قال: أنصف والله عطاء، فأخذ نفسه وذهب إليه، ولما طرق الباب عليه كان يصلي فأطال في الصلاة، نزل الولد ورأى الخليفة عند الباب فرجع إلى أبيه وأخبره، فلم يقطع صلاته، وبعد أن أكملها أذن له ودخل الخليفة غاضباً وقال: ما هذا الجفاء يا عطاء! قال: أي جفاء تعني؟ قال: دعوناك فلم تأتنا، واستأذناك فلم تأذن لنا، قال: أما دعوتك لي فقد أخبرتك، وأما استئذانك فإنك استأذنت وأنا بين يدي ملك الملوك فكرهت أن أقطع مناجاته لمناجاتك، قال: ما تقول في المسألة، فأعطاه الجواب، ولما خرج ترك له صرة بها عشرة آلاف دينار، فأرسل بها ولده وقال: ردها له، ندله على النجاة ويدلنا على الهلاك، ما لنا بها حاجة.
هذا عطاء بن أبي رباح رضي الله عنه وأرضاه.
كان بعدما كبر وضعف يقوم إلى الصلاة ويقرأ مائتي آية من سورة البقرة، وهو ضعيف وكبير في السن ويقرأ مائتي آية من سورة البقرة وهو قائم لا يزول ولا يحول ولا يتحرك حركة واحدة.(106/27)
صور لعباد يخشون ربهم من فوقهم
وعن ميمون بن مهران قال: نظر رجل من المهاجرين إلى رجل يصلي وكان يسرع فيها فعاتبه، قال: إني ذكرت ضيعة لي، يعني: مزرعتي ذكرتها، قال: ضيعته الضيعة من صلاته؛ لأنه استعجل فيها.
وكان أبو وائل إذا صلى في بيته يسمع له نشيج، وكان يقول وهو ساجد: اللهم اغفر لي، رب اعف عني، إن تعفو عني ففضلاً من فضلك، وإن تعذبني غير ظالم لي ولا مسبوق، ثم يبكي حتى يسمع نحيبه وراء المسجد.
وكان إبراهيم التيمي إذا سجد تأتي العصافير وتستقر على ظهره كأنه حائط.
وكان أحد السلف في مسجد من البصرة انهدم المسجد واحترق وهو في طرف المسجد فلم يشعر، وجاءوا وأطفأوا النار، ولما أكمل صلاته قال: ماذا هناك؟ فقد كان قلبه بين يدي الله.
وهذا عروة بن الزبير أصابته الآكلة التي يسمونها في الطب (الغرغرينا)، فأوصاه الأطباء بقطع رجله، فقطعوا رجله بدون تخدير، قالوا: نخدرك، قال: لا.
والله لا أشرب مسكراً، تريدونني أغفل عن ذكر الله، ولكن إذا دخلت في الصلاة فاقطعوا رجلي، ولما دخل في الصلاة جاءوا إلى رجله وقطعوا اللحم ثم نشروا العظم ثم أحضروا الدهن المحمي، ثم وضعوا رجله فيه حتى يكف الدم وبعد ذلك سلم.
وبعد ذلك دخل على عبد الملك بن مروان أو أحد السلف، فلما دخل عليه وإذا بذلك الرجل العبسي فيأتي من بلاده وقد عميت عيناه وليس معه شيء، قال: ما شأنك؟ قال: أمسيت وما في عبس أعظم غنىً مني، كان لي وادٍ مملوء بالغنم والإبل والأولاد والأهل، فجاء سيل على غير مطر لا أدري من أين جاء، يقول: فحمل جميع مالي وأهلي وما أبقى لي إلا طفلاً رضيعاً في شجرة معلق وبعير.
يقول: فأخذت الطفل وتركت البعير أريد أقطعه، يقول: فنفخني برجله فأذهب عيناي، يقول: فعدت إلى الطفل أن آخذه؛ لأنه قد أخذه من الشجرة ووضعه في الأرض، يقول: فوجدت الذئب قد لقطه، فأصبحت بغير ولد ولا عين ولا امرأة ولا مال، وما أصبح في الأرض أشقى مني، فدعا بـ عروة، وقال: تعال يا عروة! لتعلم أن في الأرض من هو أعظم مصيبة منك.
كذلك كان سعيد بن جبير يردد إذا قرأ قول الله عز وجل: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281]، وكان إذا أتى على قول الله عز وجل: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * إِذْ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} [غافر:70 - 72]، قال: كان يرددها مرتين أو ثلاثاً ثم يبكي.
هذه بعض قصص السلف ونحن نذكرها ونشكو أمرنا إلى الله، ولكن يا إخواني! هذه وصية والله ما اخترتها إلا لحاجتي إليها فأنا من أشد عباد الله غفلة في الصلاة، وأسأل الله أن يتوب عليَّ وأن يأخذ بي إلى ساحل النجاة، قلت: أعظ نفسي أولاً ثم أعظكم، وأرجو أن ينفعني الله بها وينفعكم بها في صلواتنا والحمد لله، فقد عزمنا على أن نكون عباداً الله، ولكن ما دمنا نصلي فلماذا لا نجاهد أنفسنا حتى نكون في جهاد وصلاة، أو نكون مقربين، أو مثابين.
أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يعيننا وإياكم على شكره وذكره وحسن عبادته إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(106/28)
سلسلة اليوم الآخر: علامات الساعة المستمرة [الحلقة الأولى]
في هذه المادة تحدث الشيخ حفظه الله عن يوم البعث وأنه يوم عظيم تشيب من هوله الولدان، لشدة ما يرون من تغيرات هائلة في الكون، كما تحدث عن علامات الساعة المستمرة وذكر منها: انشقاق القمر، وظهور الفتن، وخروج الدجالين الذين يدعون النبوة وغيرها من العلامات التي أخبر بها الرسول صلى الله عليه وسلم.(107/1)
من أهوال يوم القيامة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: أيها الإخوة في الله: نبأ البعث وخبر الساعة نبأ عظيم، وخبر جليل؛ لأنه يحدث تغيرات هائلة في الكون، السماء تتشقق وتتفطر، والقبور تبعثر، والجبال تُسيَّر، والنجوم تُنثر وتكدَّر، والشمس تكوَّر، والبحار تسجَّر، هذه الأحداث ليست بالأمر الهين السهل في حياة البشر، وأنتم ترون كيف تضطرب قلوب الناس إذا حدث حدثٌ بسيط من ريح عاتية، أو أمواج متلاطمة، أو أمطار غزيرة، كيف يهرع الناس ويخافون وتتقطع قلوبهم من أشياء بسيطة، فكيف إذا حدثت تلك الأحداث الضخمة التي تجعل الوليد شيبة! الوليد الذي لا يعرف شيئاً يشيب رأسه، يقول الله عزَّ وجلَّ: {يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً} [المزمل:17].
في ذلك اليوم: ((تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ)) [الحج:2]، وهذا شيء لا يكون أبداً في الدنيا، يمكن أن تذهل المرأة عن كل شيء إلا عن رضيعها؛ لأنه قرة عينها، وفلذة كبدها، وتود أن تفتديه بحياتها، ولذا تذهل عن نفسها ولا تذهل عن رضيعها؛ لكن في ذلك اليوم تذهل عنه: {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2]، في ذلك اليوم يحصل رعب عظيم لا يتصوره العقل، يقول الله فيه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ} [الحج:1]، خافوا من الله، راقبوا الله، ارجعوا إلى الله، {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} [الحج:1 - 2]، لكن شدة العذاب، ضخامة الأحداث شيءٌ لا يتصوره العقل، يجعل الإنسان مثل السكران، {وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2].
في هذا اليوم الرهيب الصعب نقف جميعاً كلنا في عرصات القيامة، لا يستطيع أحدٌ أن يختفي، ولا يستطيع أحدٌ أن يفر أو يهرب، أو يلجأ إلى مكان آخر، قال تعالى: {يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ} [القيامة:6] هذا الكافر الآن يقول: أين هو يوم القيامة؟! يسأل، يستبعد، {أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ} [القيامة:6]، والله يبتدئ السورة بأنه لا يقسم بيوم القيامة فقط، ولا يقسم بالنفس اللوامة فحسب، بل يقسم بكل ما يُقسَم به، وله تبارك وتعالى أن يقسم بما شاء من عباده: {أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} [القيامة:3] أيقيس الإنسان قدرة الله على قدرته العاجزة، الذي لا يستطيع أن يخلق ذباباً، ولا يستطيع أن يخلق شعيرة، ولا يستطيع أن يجلب لنفسه نفعاً ولا ضراً، ويريد أن يكون الله مثله، ولهذا لما صعُب عليه أمر البعث يستبعده على الله، قال الله: {أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} [القيامة:3 - 4]، والبنان إلى بداية القرن التاسع عشر الميلادي ما كان الناس يعرفون شيئاًَ عن سر الإعجاز والخلق العظيم في البنان.
وبعد ذلك اكتشفوا أن كل بشر له في إبهامه اليُسرى تعرجات، وتعوجات دائرية، تختلف هذه التشكيلة في كل إصبع عن الأخرى من كل البشر، ولو جئت الآن بمن على ظهر الأرض، وهم قرابة أربعة آلاف مليون نسمة، لو جئت بهم وصففتهم وأخذت بصمة إبهامهم، لما وجدتَ اثنين سواءً في الإبهام، وبعد ذلك ليس هذا فقط، لو جئت بالذي قبل مائة سنة؛ لأن قبل مائة سنة ما على وجه الأرض أحد من هؤلاء الموجودين الآن إلا النادر، والنادر لا حكم له، ربما واحد في العشرة ملايين، لو بُعث من في القبور من مات قبل مائة سنة، وجئنا نصُفهم مع الموجودين الآن وأخذنا بصماتهم ما وجدنا اثنين يتساويان في الإبهام من الأولين ولا من الآخرين، ولو أتينا بكل من خلقه الله من آدم إلى يومنا هذا، إلى يوم يفني الله الأرض ومن عليها، لا نجد اثنين سواءً في الإبهام، من يعمل هذا؟! لا إله إلا الله!(107/2)
تفسير آيات من سورة القيامة
يقول الله عزَّ وجلَّ: {بَلْ يُرِيدُ الإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} [القيامة:5]، الإنسان حينما تهزمه الشهوات، وتطغى عليه الملذات والمنكرات، ويصبح عبداً ذليلاً أمام أحقر شيء فيه؛ أمام سيجارة، أمام أغنية، أمام نظرة من فاتنة زانية داعرة، أمام مجلة هابطة، أمام دنياً محتقرة يفجر وينسى الله، وتطغى عليه الذنوب، حتى تتراكم على قلبه، ثم يسود قلبه، ثم ينتكس، فلا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً إلا ما أُشْرِبَه من هواه، وهذا معنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث في صحيح مسلم، يقول: (تُعرض الذنوب على القلوب عوداً عوداً كالحصير، فأي قلب أُشْرِبَها -يعني: قَبِلَها، أحبها، رغبها- فأي قلب أُشْرِبَها نُكِتَت فيه نكتة سوداء -بكل ذنب نكتة سوداء- وأي قلبٍ أنكرها -من حين أن يرى المنكر يرده، يخاف من الله- نُكِتَت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير القلوب على قلبين -لكثرة هذه المؤثرات، تنقسم قلوب البشر إلى قلبين- قلبٌ أسود مرباد -يعني: ليس سواداً سطحياً فقط، بل سواداً متراكماً، يعني: طبقات من السواد- مرباد كالكوز مجخياً -يعني: كالكوب أو الإناء المقلوب المنكوس- لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً، إلا ما أُشْرِبَه هواه)، بل تنقلب عنده الموازين، فيعرف المعروف، ويجعله منكراً، ويعرف المنكر، فيجعله معروفاً، إذا رأى امرأة ينفتح قلبه، وإذا سمع أغنية يرقص، يلعب بعضهم إلى أن يصل إلى الملعب، الآن في السمرات إذا سمع الزير وبينه وبينه عشرة كيلو، وما لقي سيارة، جاء يمشي، وإذا قرب وسمع ضربات الزير أخذ يلعب وهو يسير، وهو لم يصل إلى الملعب بعد.
لماذا؟ أُشْرِبَه هواه -والعياذ بالله-، وإذا سمع القرآن قفز وضاق وحَرِجَ، كأنه في سجن؛ لأن القلب منكوس، والقلب أسود، فأصبحت الرؤية عنده غير واضحة.
ثم قال: (وقلب أبيض -اللهم إني أسألك من فضلك وإخواني المسلمين- وقلب أبيض كالصفا -أبيض ناصع كالصفا- لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض) عنده صَدَّامات قوية، يضرب في أي فتنة فلا تؤثر فيه، لا يمكن أن يدخل فيه شيء، لماذا؟ لأنه أبيض، ويقول العلماء: إن سواد القلوب وبياض القلوب في الدنيا يترتب عليه سواد الوجوه وبياض الوجوه يوم القيامة: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:106] تَبْيَضُّ وجوه أهل الإيمان -جعلنا الله وإياكم منهم- وتَسْوَدُّ وجوه أهل الكفر والفسوق والعصيان -أجارنا الله وإياكم من طريقتهم-.
في هذا اليوم العظيم لا يستطيع أحد أن يهرب فيه من قبضة الله، والإنسان -كما قال الله- يقول في تلك اللحظات: {أَيْنَ الْمَفَرُّ} [القيامة:10] أين المهرب، {كَلَّا لا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ * يُنَبَّأُ الإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} [القيامة:11 - 13] يُخْبَر الإنسان وتُطْلَع أعماله عليه، فيرى فيها كل ما عمل من دقيق أو جليل، أو كبير أو صغير، في ليل أو نهار، كل شيء، حتى إن الواحد يقول -كما قال الله-: {وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف:49] يقولون: ما به؟ قد نسينا، وهذا ما نسي؟! يقول الله عزَّ وجلَّ: {أَحْصَاهُ اللَّهُ} [المجادلة:6] وماذا؟ {وَنَسُوهُ} [المجادلة:6] يقول: قد نسوا، الإنسان نسيَ، وكان الإنسان نسياً، أنت الآن في هذا اليوم 19/ 2/1410هـ هل تذكر 19/ 1/1410هـ قبل شهر ما هو يومه؟ هل هو السبت أم الأحد أم الإثنين؟ لا تذكر، هل تذكر أنك صليت في المسجد أم لا؟ هل تذكر ما تغديت ذاك اليوم؟ هل تذكر مَن زرتَ ذلك اليوم؟ هل تذكر ماذا صنعتَ ذلك اليوم؟ لا تذكر؛ لكن الله يذكر ذلك، يقول الله: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة:6].
{يُنَبَّأُ الإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} [القيامة:13] ثم يقول الله: {بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة:14] أنت أبصر بنفسك، تريد أن تجد طيباً اعمل، الذي يريد بُراً يزرع بُراًَ؛ لكن من يزرع شوكاً ماذا تتصورون أن يجني؟ شوكاً، والذي يزرع حسنات وعملاً صالحاً وإيماناً خيراً يلقاه، يقول الله عزَّ وجلَّ: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ * وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ} [النمل:89 - 90] ماذا تتصورون أن يُعطى هذا؟! أيُعطى حسنة على السيئة؟! لا.
{فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} [النمل:90] من جاء، المسألة منك، القضية والمبادرة من عندك، تستطيع أن تأتي بالطيب والخبيث، تستطيع أن تأتي بالعمل الصالح وبالعمل السيئ، والله لا يظلم أحداً شيئاًَ، هذا شغلك أنت، بضاعتك، الآن في السوق أناس يورِّدون بضاعة طيبة فيبيعونها، وأناس يورِّدون بضاعة خبيثة فيردونها، لا يشتريها منهم أحد، وكذلك أنت، الحياة هذه سوق، وأنت وردت إليها، فما تصدر منها؟ ومن الناس من يصدر بلعنة الله، ومن الناس من يصدر برضوان الله، من الذي يصدر بلعنة الله؟ الذي تعرض لسخط الله، ومن الذي يصدر برضوان الله؟ الذي تعرض لمراضاة الله، وليس في الناس إلا أحد رجلين: رجلٌ قضى حياته وقطع مراحل عمره متزوداً بالمراضي، متنقلاً بين الأوامر ومبتعداً عن النواهي، يحب الله، ويحب رسوله، ويحب كتاب الله، ويحب بيوت الله، ويحب عباد الله المؤمنين، ويسير وفق محبة الله ورسوله، هذا هنيئاًَ له، هنيئاً له، ثم هنيئاًَ له.
وآخر -والعياذ بالله- يعيش حياته ويقطع مراحل عمره متزوداً بمساخط الله -والعياذ بالله-، يبغض الله، ويبغض كتاب الله، وبيوت الله، وأولياء الله، هذا -والعياذ بالله- ويل له، ثم ويل له، ثم ويل له: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الزمر:22].
{بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة:14] أنت أبصر بمصلحتك، الآن والرجل منا يأتي مسرعاً، يفاجأ وهو يسير في الطريق بأن إشارة المرور أضاءت اللون الأحمر، يعني ماذا؟ يعني: قف، أليس كذلك؟ وإذا ما وقفت ماذا يصير؟ مخالفة، وتترتب على المخالفة ماذا؟ أن رجل المرور يطاردك بالسيارة، أو بالدراجة النارية، ويقول: على جنب يا صاحب السيارة، وبعد ذلك تنزل ووجهك خجلاً وحالتك ضعيفة، ثم يقول لك: هات الرخصة، ينزرك نزراً لماذا؟ لأن مركزك ضعيف، نقطة الضعف عندك أنك قطعت الإشارة، أنك خالفت التعليمات، ما احترمت النظام، ولهذا فإن نقطة الضعف هذه جعلتك ضعيفاً في الدنيا أمام جندي ربما هو مسكين، وربما أنك مدير أو في وضع اجتماعي كبير؛ لكن غلطتك جعلتك تقف هذا الموقف المخزي أمام هذا الرجل، يقول: هات الرخصة، هات الاستمارة، فينظر فيها، يريد أن يرى عليك ثغرة، إن كان ما عندك رخصة يا ويلَك! وإن كان عندك استمارة ومطوِّلة يا ويلَك! وإن كان عندك رخصة لكن المدة منتهية يا ويلَك! فإذا ما رأى عليك شيئاً وأنك تمشي برخصة واستمارة، قال: لماذا تقطع الإشارة؟ ماذا عندك من عذر؟ أتقول: مستعجل؟! حسن والناس هؤلاء أما هم مستعجلون؟! أرواح العباد، ممتلكات العباد، أما ينبغي أن تُحترم، ويبدأ يهزئك، وأنت لا تقول له إلا: حاضر، آسف، أعتذر، هذه آخر مرة، وكفى، أنا مستعجل، أنا ما قطعتها إلا لأني مستعجل، فيقول: مستعجل؛ لكن الآن نروضك، لو أنك تأخرت نصف دقيقة أو دقيقة كنتَ مشيتَ بسلام؛ لكن عجلتك أخذتك إلى هذا الموقف، خذ، هذه قسيمة -ثلاثمائة ريال- وبعضهم يخاف من أن يكتب القسيمة، ويظل يسلم على رأس العسكري، وبعضهم يرمي غترته عند العسكري، وقد كان لك من هذا فكاً لو أنك وقفت عند الإشارة حتى تكون خضراء ثم تسير آمناً.
هذا في الدنيا الآن، طَيِّبٌ! والذي لا يقف عند إشارة الرب تبارك وتعالى؟! هناك أيضاً في الأوامر إشارات حمراء، وهي: المحرمات.
وإشارات خضراء، وهي: الطاعات.
والمؤمن يقف عند الإشارة الحمراء، لا يمكن أبداً أن يعمل شيئاً، لماذا؟ يخاف، ليس من جندي المرور، بل يخاف من رب السماوات والأرض، ويخاف من الجندي الذي يطلبه حق الطلب، من هو؟ إنه ملك الموت، الذي لا يعرف أحداً، لا يمتنع منه مانع أبداً، يقتحم الأسوار، يدخل القصور، يأخذ أصحاب الأموال، وأصحاب الملك، وأصحاب العضلات، مَن يمتنع مِن الموت؟! لا أحد، هذا الجندي يأتي بك.
وبعد ذلك تحاسب يوم القيامة على ضوء قطع إشاراتك الربانية التي قطعتها، وتطلب: يا رب! كما قال الله: {رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون:99] ردُّوني ولكن لماذا؟ قال: {أَعْمَلُ صَالِحاً} [المؤمنون:100]، لن أقطع الإشارات يا رب، {أَعْمَلُ صَالِحاً} [المؤمنون:100]، قال الرب عزَّ وجلَّ: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:100 - 101].
وأمر البعث -أيها الإخوة- سبق الكلام عليه في عدة دروس، باعتباره ركناً من أركان الإيمان.
وقد بدأنا الدروس في أبها منذ سنة تقريباً في العقيدة بأركان الإيمان: الركن الأول: الإيمان بالله.
الركن الثاني: الإيمان بالملائكة.
الركن الثالث: الإيمان بالكتب.
الركن الرابع: الإيمان بالرسل.
الركن الخامس: الإيمان بالقدر خيره وشره من الله تعالى.
ووصلنا إلى الركن السادس وهو: الإيمان بالبعث بعد الموت.
ودرس هذه الليلة سيكون عن علامات الساعة المستمرة.
وقد قلنا في الماضي: إن هناك فوائد من دراسة علامات الساعة: منها: الاستعداد.
ومنها: قوة ا(107/3)
انشقاق القمر علامة حدثت وانقضت
ومن ضمن ما ذكرنا في الدرس الماضي: علامة اقتراب الساعة بانشقاق القمر: التي قرأ علينا الإمام أوائل سورتها في الركعة الأولى من صلاة المغرب.
وهذه علامة، مع الإشارة إلى اقتراب الساعة، فالله يقول: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1]، وانشقاق القمر دليل على قربها، وقد حدث انشقاق القمر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، كآية من آيات الله، وعلامة من علامات صدق رسول الله حين طلب المشركون منه أن يشق القمر، فدعا الله فانشق القمر، صارت فلقة وراء جبل أبي قبيس، وفلقة وراء الجبل الثاني، ورآها أهل الأرض كلهم، ليسوا فقط أهل مكة، وتناقل الركبان والمسافرون وأهل الطرق وأهل البُرُد تناقلوا أنه حصل انشقاق في ليلة من الليالي، كانت تلك الليلة؛ ولكن الكفار لما انشق القمر ما آمنوا، قالوا: سحرنا، قال الله عزَّ وجلَّ: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا} [القمر:1 - 3] المكذب ما فيه حيلة، الآن لو قلت لرجل: هذا (ميكرفون) قال: لا.
هذه عصا، تقول: يا أخي! (ميكرفون) قال: هذه عصا، هذه من عصي البدو.
تقول له: يابن الحلال، انظر! فيه سلك، وفيه ضغط، قال: أبداً، والله إنها عصا.
أتستطيع أن تقنعه؟! إنه مكذب، لا يريد أن يصدقك أصلاً، فهؤلاء يأتي لهم الرسول صلى الله عليه وسلم بجميع الآيات الدالة على عظمة الله تبارك وتعالى، وعلى صدق رسالته، ومع ذلك يكذبون، قال الله: {وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ * وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ} [القمر:3 - 4] جاءهم من الأنباء، ومن الآيات والدلالات ما يكفي: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ * فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} [القمر:4 - 6] اتركهم، {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ * خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ} [القمر:6 - 7] الأجداث: القبور، والتشبيه بالجراد: لأن الجراد أضعف شيء، والجرادة ترونها إذا خرجت وطاردها أحد كيف تقف وتقع وترمي نفسها في النار، ولهذا يخرجون من قبورهم مساكين كالجراد، {كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ * مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ} [القمر:7 - 8] لم يعد هناك رفعة رأس، لم يعد هناك تكبر في ذلك اليوم، كثير من الناس الآن عندما تقول له: اتقِ الله، يقول: اذهب يا شيخ، فُكَّنا منك، أنت مطوِّع، قال الله فيه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْأِثْمِ} [البقرة:206] نَفَخَ إبليس، قال الله: {فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ} [البقرة:206] تكفيه جهنم، والله إنها كافية، {وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة:206]، ذاك اليوم لم يعد فيه تكبر، لا يتكبر الإنسان بماله، ولا بجاهه، ولا بمنصبه، ولا بوضعه الاجتماعي وطبقته، ولا يتكبر الإنسان بأي شيء من الدنيا؛ لأنه فقير من كل شيء في الدنيا، يخرج من الدنيا عارياً، ما معه منها، إلا خرقة الكفن، مثل ما مع الفقير، ولهذا ما الذي يتكبر به؟! يقول: أنا صاحب عَظَمة؟! أنا صاحب سعادة؟! أنا صاحب فخامة؟! أنا صاحب وجاهة؟! ما عنده شيء، الملِك والمملوك، والكبير والصغير، والأمير والمأمور، كلهم يخرجون سواء، ما رأينا أحداً دُفن في القبر ببدلته، ولا برتبه، ولا بتيجانه، ولا رأينا أحداً دُفن بعقاله وبشته، ولا رأينا أحداً دُفن بأمواله وشيكاته، وإنما يقول الله: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} [الأنعام:94] خولناكم مناصب وأموالاً وأولاداً؛ لكي تشكروا الله عليها، وتستخدمونها في طاعة الله، فأبيتم ذلك: {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:94].
{وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ * فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ * خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ} [القمر:4 - 7] خُشَّعاً: لا يرفع أحد منهم عينه طرفة، الآن الذي يخرج إلى القصاص وهو مكتف، وينزل من السيارة، وتراه يتلفت في الناس هكذا، يرى صفة العسكر، ويرى وراءهم الرجال والناس، ما رأيكم؟ كيف يكون وضعه، وكيف تكون نفسيته، وكيف يكون بصره، خاشع، خاضع، مسكين، في وضع لا يعلمه إلا الله، الناس الذين يشاهدون يفعلون هكذا (يرتجفون)، كل شخص منهم ترتجف ركبتاه، وهو يشاهد، مع أنه لن يذبح، ولن يضرب بالسيف، فكيف بالذي وسط الحلقة؟! وإذا أجلسوه وهو يسمع الميكروفون يعطي بياناً من وزارة الداخلية: أقدم فلانٌ -وهو يعرف أنه هو- على قتل فلان، وقد صدر الحكم الشرعي بقتله، وهاهو الآن أمامكم يُنَفَّذ فيه حكم الإعدام، كم مرارةً يجدها؟! وكم ألماً يتجرعه؟! وكم حسرة يعيش فيها؟! وهي كلها لحظات، من ساعة أن ينزل من السيارة إلى أن يُضرب، كلها خمس دقائق أو عشر دقائق، وينتظر البندقية وهي تخترق ظهره وتخرج كبده أمامه، ثم بعد ذلك يموت.
لكن يوم القيامة ليس لحظات، بل خمسون ألف سنة، ليس بهذا الوضع، لا.
في وضع أعظم من هذا بملايين المرات، يقول الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْأِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ * قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} [غافر:10 - 11] أتوجد فَكَّة من هذه النار؟! {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} [إبراهيم:42 - 43] يقول المفسرون: الفؤاد هواء: يعني: فراغ من الخوف، لم يعد فؤاده في مكانه، أصبح فؤاده في حنجرته، {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ} [الأحزاب:10] ماذا؟ {الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب:10] أنت الآن في الطائرة إذا ذهبت في رحلة، ثم حصل مطب هوائي، ما الذي يحصل؟ يصعد نَفَسك إلى هنا، ولهذا يقولون: اربط الحزام لكي تجهز نفسك، ستموت إذا جاءك مطب، هذا من أجل مطب هوائي، وربما يكون سبباً في سقوط الطائرة ونزول مترين أو عشرة أمتار أو مائة متر؛ لكن كيف يوم القيامة؟! يقول: {مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} [القمر:8] والله يوم صعب.(107/4)
من علامات الساعة التي ظهرت ولا زالت تتابع(107/5)
خروج الدجالين الذين يدعون النبوة
من العلامات المستمرة -أيها الإخوة! -: خروج الدجالين الذين يدعون النبوة: وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه سيخرج في هذه الأمة دجالون كثيرون يدَّعون أنهم أنبياء، وأن عددهم ثلاثون، وحددهم في بعض الأحاديث بسبعة وعشرين.
والمراد بالأدعياء: الذي يدعي منهم ويثير فتنة في الناس، وينشر المحن في الناس، ويتبعه الناس، وهم يعرفون أنه على باطل -والعياذ بالله-.
عند البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى يُبعث دجَّالون كذَّابون قريب من ثلاثين، كل يزعم أنه رسول الله، ولا رسول بعد رسول الله، ولا نبي بعدي) لأنه نبي الساعة.
وكل أحد يأتي بعد رسول الله يقول: إنه نبي، فهو كذاب، ومباشرة يُقطع رأسه، وإذا تُبِع فمن تبعه فقد كفر بالله ورسوله.
وقد خرج منذ وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا دجَّالون كذَّابون يزعمون أنهم أنبياء، وفي خروجهم تصديق لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الأحداث التي حدثت من أمور الساعة كلها تؤكد وتصدق لنا أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد خرج مسيلمة الكذاب في اليمامة، وادعى أنه نبي، وكتب للنبي صلى الله عليه وسلم كتاباً قال: من مسيلمة رسول الله -لاحظوا الدجَّال- إلى محمد رسول الله.
أما بعد: فإنا قد أُشْرِكنا معك في الأمر، فلك نصف الأرض، ولي نصفها.
يظن أن المسألة قسمة؛ لكن انظروا الرد العظيم من الرسول الصحيح: قال: (من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب أما بعد: فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده) لا لك نصف، ولا لي نصف، الأرض لله، يا دجَّال يا كذَّاب.
وخرجت امرأة في زمانه أيضاً اسمها سُجاح بنت الحارث، هذه كاهنة، ودجلت على الناس بالكهانة والشعوذة، وادَّعت أنها نبية، وبعد ذلك تبعها أهل العقول الضالة، ودَرَتْ هي أنه يوجد كذَّاب مثلها اسمه: مسيلمة، فذهبت إليه، وأمسى معها، النبي مع النبية، وفي الصباح قالت: تشاورنا -تقول: إنه شاور رَبْعها- تشاورنا أنا ومسيلمة فوضعنا عنكم صلاة الفجر والعشاء؛ لأنها أثقل الصلوات على المنافقين، قالت: مسموحون من صلاة الفجر وصلاة العشاء، قالت: أما الظهر والعصر والمغرب فصلوها؛ لكن العشاء والفجر فهاتان فيهما كلفة، ونحن بعد المشاورات وبعد التداول مع النبي الكذَّاب وضعنا عنكم هذا.
ومنهم أيضاً كذَّاب ظهر في اليمن اسمه: الأسود العنسي، ادعى أنه نبي.
وفي عهد التابعين خرج رجل اسمه: المختار الثقفي، ادعى النبوة، وهو كذَّاب.
ومنذ أكثر من مائة سنة ادعى رجل اسمه: حسين بن علي ميرزا، ادعى أنه نبي في إيران، كذَّاب.
وقبل خمسين أو ستين سنة ادَّعى رجل قادياني اسمه: غلام، أنه نبي، وظهرت له جماعة موجودون إلى الآن اسمهم: القاديانيون؛ وهم كفار، وقد أجمع أهل العلم، وأصدرت فيهم هيئة كبار العلماء ومجمع البحوث الإسلامية فتوى أنهم فئة كافرة مارقة خارجة من دين الإسلام.
وبعد ذلك ظهر آخر قبل سنين، وأُعدم، واسمه: محمود محمد طه، ظهر في السودان، وادَّعى أنه نبي، وحاكمته الحكومة السودانية، وحكمت عليه بالإعدام، وأُعدم، وقُطعت رقبته، إلى جهنم وبئس المصير، لعنة الله عليه وعلى من سار على منهجه، وعلى كل كذَّاب ودجَّال يدَّعي أنه نبي؛ إذ لا نبي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والسلسلة باقية، لكن ما هو موقفك أيها المؤمن؟ موقفك ألا تؤمن بأن بعد رسول الله رسول؛ إذ أنه خاتم النبيين، وإمام المرسلين، ولا نبي بعده، صلوات الله وسلامه عليه.(107/6)
ظهور الفتن
من علامات الساعة التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم والتي وقعت ولا تزال تقع بشكل مستمر: الفتن: والإنسان الصالح المستقيم على الإيمان والدين، والأمة التي تأخذ منهجها من كتاب الله الكريم، هذا الإنسان وهذه الأمة تُبتلى ويُبتلون، وقد يثور البلاء من داخل الأمة، بسبب الأهواء والخصام والفرقة، وقد يتمثل هذا البلاء في عدو حاقدٍ من غير الأمة الإسلامية يجتاحها ويستذلها، وقد يصل الخصام والفتنة إلى حد القتال وامتشاق السيوف، وإزهاق الأرواح، وهناك تسيل دماء، وتُسلب الأموال، وتُنتهك الحرمات، وقد أطلع الله رسوله صلى الله عليه وسلم على كثير من البلايا والفتن التي ستقع في مقتبل الزمان في هذه الأمة.
ولذلك أطال صلى الله عليه وسلم وأسهب وأكثر في تحذير الصحابة وتحديثهم من الفتن.
يقول أبو زيد عمرو بن أخطب رضي الله عنه -والحديث في صحيح مسلم - يقول: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر يوماً، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى أذن الظهر -انظروا مدة الخطبة يا إخواني، ما قالوا: أطلت علينا، وأزهقتنا، لا.
من الفجر إلى الظهر وهو يخطب بهم- يقول: ثم نزل، فصلى بهم الظهر، ثم صعد المنبر، فخطبنا، حتى دخل وقت العصر، ثم صعد المنبر -بعد صلاة العصر- فخطبنا حتى غربت الشمس -من الفجر إلى المغرب، وهم جلوس وهو يخطب عليهم صلى الله عليه وسلم- فأخبرنا بما هو كائن إلى يوم القيامة، وأعلمنا أحفظُنا) يقول: أعلمنا الذي حفظ الكلام؛ لأنه لا توجد مسجلات، ولا يوجد أحد يكتب، وإنما كانت قلوب الصحابة أوعية لهذا الدين حفظوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا المقام نفسه يُذكر ويُنقل؛ لكن من طريق حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، والحديث أيضاً في صحيح مسلم، يقول حذيفة: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً، ما ترك شيئاً يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدَّث به، حفِظه مَن حفِظه ونسيَه مَن نسيَه، ثم قال: إنه يكون منه الشيء قد نسيته، فأراه فأذكره كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه، ثم لقيه فعرفه بعد أن يراه).
وقد بلغ من شدة هذه الفتن أن أخبر صلى الله عليه وسلم أنها كقطع الليل المظلم، والحديث في صحيح الجامع، ذكره السيوطي أنه صحيح، يقول عليه الصلاة والسلام: (بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح المرء مؤمناً، ويمسي كافراً) لا إله إلا الله! كيف يسهل على الناس تغيير عقائدهم وغسل أدمغتهم من كثرة الفتن، وهذا واقع الآن، من الشباب من يجلس خمس دقائق مع مجرم ملحد، يُسْمِعه شريطاً أو ينقش في قلبه شبهةً -والعياذ بالله- فيسلخه ويقوم، وإذا به لم يعد يصلي، فيكفر بالله.
(بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح المرء مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً) بعد سمرة فقط، على ورق، أو على بلُّوت، أو على فيلم، لم يعد يصلي الفجر، وينتهي (يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل) والحديث رواه أحمد والترمذي، وهو صحيح.
وفي حديث أنس أيضاً قال: (يكون بين يدي الساعة فتن كقطع الليل المظلم يصبح المرء مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً يبيع أقوام دينهم بعرض من الدنيا) ذكره الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.(107/7)
تمني الناس للموت
ويبلغ من شدة هذه الفتن، ومن ضغطها على الإنسان، ومن الحرج الذي يعاني منها الإنسان، أن الإنسان يتمنى الموت ولا يبقى على الحياة، والحديث رواه الإمام البخاري ومسلم، يقول: (لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل، ويقول: يا ليتني مكانه).
ويقول: (لا تذهب الدنيا -والذي نفسي بيده- حتى يمر الرجل على القبر فيتمرغ عليه -يتمرغ بجلده وجسده على القبر- ويقول: يا ليتني كنتُ مكان صاحب هذا القبر، وليس به إلا البلاء) بلاء وفتن، وهذا لاحظوا أنه موجود في بعض بلاد الأرض، يوجد في بعض دول الأرض (الشرق) مثل روسيا، ومثل المؤمنين الذين يعذبون، الأتراك الذين أخرجوهم من بلغاريا، ومثل بعض الدول يجد المسلم فيها ضيقاً لا يتصوره العقل؛ لدرجة أنه إذا جاء له ولد وسماه علياً أو عبد الله أو محمداً أو شيئاً من هذا يُحكم عليه بالسجن خمسة وعشرين سنة؛ لأنه سمى ولده باسم مسلم، أما إذا كان يصلي فالإعدام، أو يقرأ القرآن أو يعرف شيئاً من القرآن يُقَدَّم له الخمر في رمضان ويقولون له: خذ اشرب، يقول: لا.
أنا لا أريد الخمر، لكن لا يستطيع أن يقول: أنا صائم، لو قال: أنا صائم ذبحوه، هذا موجود في بعض دول الأرض، ونحن في نعمة ليس بعدها نعمة في بلاد الإسلام، الحمد لله على نعمة الإسلام.(107/8)
رفع العلم
وأعظم أسباب وقوع الناس في الفتن: الجهل، وعدم العلم: يكون الإنسان عنده إيمان؛ لكن ليس عنده علم، يقرأ حديثاً أو يطلع على آية، أو يسمع كلاماً، ولا يدري ما هو مفهومه، ولا معناه، ويسأل من هو أجهل منه، فمن أعظم ما يوقع الناس في البلاء: الجهل، وقلة العلم، وكثرة الذنوب والمعاصي، وكثرة انتهاك المحارم، يقول البخاري ومسلم في صحيحيهما: عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن بين يدي الساعة أياماً ينزل فيها الجهل، ويُرفع فيها العلم، ويكثر الهرج، قالوا: ما الهرج؟ قال: القتل).
وعن أنس رضي الله عنه -والحديث في مشكاة المصابيح - يقول أنس: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن من أشراط الساعة: أن يُرفع العلم).
ونعني بالعلم: علم الكتاب والسنة.
العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة هم أولو العرفان
العلم الشرعي، أما العلم المادي لا يُرفع، بل يزيد؛ لكن لا ينفع، العلم المادي يدلك على صلاح الجسد؛ لكن العلم الشرعي يدلك على صلاح الروح، وأنت إنسان بالروح لا بالجسد.
أنت بالروح لا بالجسم إنسانُ
العلم الشرعي يدلك على صلاح أعظم مولِّد فيك، ما رأيكم في سيارة جديدة، كل شيء فيها جديد؛ لكن ليس فيها محرك، هل تمشي؟ لا تمشي، ولو كانت أحدث موديل؛ لأنها ليس فيها روح تجعلها تمشي.
كذلك أيها الإخوة! روحك، دينك، عقيدتك، إيمانك، صلتك بمولاك وخالقك، من يدلك على هذا؟ الهندسة والطب؟! لا.
يدلك على هذا الكتاب والسنة، فلا بد من الاهتمام بعلم الكتاب والسنة.(107/9)
انتشار الزنا
(إن من أشراط الساعة: أن يُرفع العلم، ويكثر الجهل، ويكثر الزنا)، والزنا لا يكثر إلا في بلد ارتفع منه الإيمان والعلم والدين، وسبب وجود الزنا: إخراج المرأة، والنصارى واليهود والملاحدة يعرفون كيف يصطادون الأمة الإسلامية، فيأتون إلينا من باب المرأة؛ لأن المرأة نقطة ضعف أو نقطة قوة، نقطة قوة إذا صلحت، ونقطة ضعف إذا فسدت، فإذا خرجت من حجابها وتبرجت واختلطت وأفسدت وغزت المجتمع ماذا يحصل؟ يحصل الفساد؛ لكن إذا تحجبت وبقيت في عليائها وعزتها وكرامتها ودينها قضينا على الفساد.
يكثر الزنا، وأنتم ترون الآن البيئات التي أخرجت المرأة من عرشها ومن منزلها وكرامتها وهتكت حجابها وتبرجت وتبذلت، وأصبحت عارضة أزياء ومغنية ومضيفة وسكرتيرة وبائعة، كيف وصلت المجتمعات الآن في الفساد؟! وصلت حداً لا يتصوره العقل، مجتمعات مسلمة؛ لكن ترى فيها ما يُدمي قلبك ويؤلمه، حينما ترى المرأة المسلمة وهي ممسوخة -والعياذ بالله- أصبحت في أقذر صورة، وفي أخس موقع؛ لأنها أهينت وسبب ذلك: عدم العلم، وكثرة الجهل، وانتشار المعاصي والزنا.
(ويكثر شرب الخمور، ويقل الرجال، وتكثر النساء، حتى يكون لخمسين امرأة رجل أو قيم واحد) الحديث رواه البخاري ومسلم.(107/10)
إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بفتنة مقتل عثمان وعمر ووقوعها
من الفتن التي وقعت: مقتل الخليفة الراشد الثالث عليه من الله أعظم الرضوان عثمان بن عفان رضي الله عنه: قتله كان خبراً يصدِّق خبر النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه ورد حديث في الصحيحين: عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً من المسجد فدخل بئر أريس -يعني: حائط بستان- قال: ثم قال لي: يا أبا موسى! لا تأذن لأحد إلا بعد أن تشعرني -يقول: لا تدع أحداً يدخل إلا بإذني- قال: فقلتُ: لأكونن اليوم بواب رسول الله صلى الله عليه وسلم -وكانوا يتشرفون بخدمته صلوات الله وسلامه عليه- يقول: فدخل وجلس على طرف البئر، ودلى رجليه فيها، ثم طرق طارق الباب، فنظرتُ فإذا هو أبو بكر فقلت: يا رسول الله! هذا أبو بكر، قال: ائذن له، وبشره بالجنة، قال: ففتحتُ له، وبشرتُه بالجنة -اللهم إني أسألك من فضلك- يقول: فجاء وجلس بجوار رسول الله ودلَّى رجليه في البئر، وبعد قليل: إذا بطارق يطرق، فإذا هو عمر، قلت: عمر يا رسول الله! قال: ائذن له، وبشره بالجنة، قال: فأذنتُ له، وبشرته بالجنة، قال: وبعد لحظات قلتُ في نفسي: ويل أم فلان) أخوه يقول: يا ليته يأتي، يظن أن كل من جاء دخل الجنة، ولا يعلم أنه لا يصل إليها إلا من وفقه الله -اللهم إنا نسألك من فضلك يا رب العالمين- قال: (وإذا بالباب يُطرق، قلتُ: مَن؟ قال: عثمان، قلت: هذا عثمان يا رسول الله! قال: ائذن له، وبشره بالجنة مع بلوى تصيبه)، فتنة ومحنة حصلت على عثمان رضي الله عنه، ذُبح بالسيف من رقبته والمصحف بين يديه، وكان عنده بعض غلمانه وهم أربعمائة عبد، كلٌ سيفه في يده، مستعدون أن يقاتلوا إلى آخر لحظة؛ لكن قال لهم: [من وضع سيفه فهو حر لوجه الله] يقول: دعوني حتى ألقى ما وعدني ربي، ودخلوا عليه وذبحوه رضي الله عنه وأرضاه.
ولما قال له أبو موسى قال (بشرك رسول الله بالجنة، مع بلوى تصيبك، قال عثمان: الله المستعان) لا إله إلا الله.
وقد أخبر رسول الله بتلك الفتنة التي أدت إلى مقتل عثمان، وإلى فرقة الأمة الإسلامية، وقد سُل السيف من ذلك اليوم، وسالت الدماء الطاهرة الطيبة بين المسلمين، بين الصحابة المتخاصمين، وكانت هذه الفتنة تموج كموج البحر.
وهناك أيضاً حديث في صحيح البخاري، يقول حذيفة: [كنت جالساً عند عمر بن الخطاب إذ قال: أيكم يحفظ قول النبي صلى الله عليه وسلم في الفتنة -هذه- قال حذيفة: فتنة الرجل في أهله وماله وولده يا أمير المؤمنين تكفرها الصلاة، والصدقة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال: ليس عن هذا أسألك، ولكن التي تموج كموج البحر، قال: ليس عليك منها بأس يا أمير المؤمنين! إن بينك وبينها باباً مغلقاً، قال عمر: أيُكسر الباب، أم يُفتح؟ قال: بل يُكسر، قال عمر: إذاً لا يُغلق أبداً، قلت: أجل، لا يُغلق أبداً، فقيل: قلنا لـ حذيفة: أكان عمر يعلم الباب؟ قال: نعم.
كما يعلم أنه دون غدٍ الليلة، وذلك أني حدثته حديثاً ليس بالأغاليط، فهبنا أن نسأله عن الباب، فأمرنا مسروقاً فسأله، قال: الباب عمر] وفعلاً كُسر الباب، يعني: قُتل عمر.
ومنذ مقتل عمر بدأت الفتنة، دخلت الأصابع اليهودية والمنافقة، والطابور الخامس ليزعزع الأمة الإسلامية من الداخل بقيادة عبد الله بن سبأ اليهودي، الذي أعلن إسلامه وهو كذَّاب، يريد نسف الأمة من الداخل، وثارت الفتنة وأخبر بها ووقعت كما أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.(107/11)
من الأشياء التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم ووقعت: ظهور الخوارج
مما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم: خروج طائفة اسمهم: الخوارج، واسمهم: الحروريون، نسبة إلى موقع في الشام اسمه: حروراء: وهؤلاء أخبر صلى الله عليه وسلم بخروجهم، ولهم دور عظيم في الفرقة التي وقعت في الأمة الإسلامية في ذلك الزمان، وربما يكون لهم دور في كل زمان، إذا ساروا على نفس المنهج الذي ابتكره الشيطان وأغراهم وأقنعهم به.
وهم يدَّعون العلم، ويُجهدون أنفسهم في العبادة، ويدعون إلى كتاب الله؛ ولكنهم أجهل الناس بأحكام كتاب الله، وهذا هو الخطر فيهم، أن أمرهم ينطلي على البسطاء، وأنه يخدع الجهلاء، حينما يرى الجاهل فيهم كثرة العبادة، وكثرة الانقطاع في الدين، والغيرة على الإسلام، والحماس، والتمسك لدرجة أن أصغر صغيرة من الذنوب عندهم كفر، أي: في معتقدهم أنه إذا عمل مسلم صغيرة فقط، ماذا يصير في حكمهم؟ يصير كافراً، وهذا ضد معتقد أهل السنة والجماعة أن الكبائر لا يخرج الإنسان بها من الدين، المسلم مؤمن بإيمانه، فاسقٌ بعصيانه، تحت مشيئة الله في الدار الآخرة، إن شاء غفر له، وإن شاء أدخله النار، ليعذبه بقدر خطيئته ومعصيته، ثم نهايته إلى الجنة، ما دام أنه يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويصوم رمضان، ويحج البيت الحرام، ويؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وبالبعث بعد الموت، وبالقدر خيره وشره من الله، ويؤمن بجميع القضايا الإيمانية المعروفة من الدين بالضرورة، هذا مؤمن ومسلم؛ لكنه إذا وقع في معصية فهو عاصٍ، وهذه المعصية تحت مشيئة الله، إذا مات هذا الإنسان وهو مصر عليها، إذا تاب منها تاب الله عليه، وإذا مات وهو مصر عليها فهو تحت المشيئة، إما أن يُعذَّب بقدرها، وإما أن يُغفر له.
لكن هؤلاء الخوارج والحروريون عقيدتهم: أن الإنسان إذا عمل معصية ولو كانت صغيرة فإنه يكفر -والعياذ بالله-.
هؤلاء أحكامهم جائرة، وآراؤهم قاصرة، يسفكون دماء المخالفين لهم من المسلمين، إذا خالفهم أحد من المسلمين يستبيحون دمه وعرضه، ويجهِّلون الصحابة والعلماء، إذا جئت عنده، قال: اترك العالم الفلاني، أنا أعلم في هذا الحديث.
وهو لا يفهم في الحديث؛ لأنه ينظر له من منظار ضيق، ويطلع عليه من زاوية ضيقة، لا يعرف منه شيئاً، ليس عنده إحاطة بدين الله، نظراً لحداثة سنه وجهله، وعدم انشراح صدره، وعدم وجود النور الذي يقذفه الله في قلبه؛ لأن الإيمان نور يقذفه الله في قلب من يشاء من عباده.
وفي الحديث الصحيح عند البخاري ومسلم عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سيخرج في آخر الزمان قوم أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من قول خير البرية -يعني: يقولون كلام الرسول صلى الله عليه وسلم- يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم -يقرأ؛ لكن من هنا إلى فوق، لا يدخل حرف واحد والعياذ بالله- يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، إذا لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجر عند الله يوم القيامة لمن قتلهم) هذا الحديث رواه البخاري ومسلم.
وأيضاً يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحديث في صحيح الجامع للسيوطي، قال: (سيكون في أمتي اختلاف وفرقة: قوم يحسنون القيل -يعني: الكلام- ويسيئون الفعل -يعني: الاتباع والاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم- يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم -التراقي هي: العظم الذي في الرقبة- يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، لا يرجعون حتى يرتد السهم إلى الرمية -وهذا لا يرجع- هم شرار الخلق والخليقة، طوبى لمن قتلهم وقتلوه، يدعون إلى كتاب الله وليسوا منه بشيء، من قاتلهم كان أولى بالله منهم).
هؤلاء هم الخوارج، وربما يتكررون، فقد خرجوا في عهد علي رضي الله عنه، وقاتلهم علي، وفاوضهم ابن عباس رضي الله عنه، وكذبوا الصحابة، وربما يتكرر خروجهم إذا وُجد من يتبنى فكرهم.
وطريق السلامة من الوقوع في هذه المزالق: أن تكون متبعاً لا مبتدعاً، مقتدياً مهتدياً بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والقرون المفضلة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر: (أن اليهود افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وأن النصارى افترقت على اثنتين وسبعين فرقة، وأن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قالوا: مَن يا رسول الله؟ قال: مَن كان على مثلما أنا عليه وأصحابي).
والحمد لله أننا نعيش في هذا الزمن والأمة متمسكة بمذهب أهل السنة والجماعة، فالحمد لله، وعلماء السنة هم الظاهرون في الأرض، وهم الموثوق في كلامهم، وهم الذين ينزل كلامهم كالثلج على القلوب.
ولذا نقول للشباب: إذا اهتديت لا تأخذ الدين من رأسك، خذ الدين من العلماء الموثوق في علمهم، وإذا أشكل عليك شيء فارجع؛ لأن الذي يأخذ الدين من الكتاب يخطئ.
هل سمعتم بأن طبيباًَ تعلم الطب من الكتب بدون كلية؟! ما رأيكم؟! ممكن؟! ولو جاء رجل وقال: والله أنا قرأت كتب الطب كلها، وأريد أن أعمل عمليات، أنصدقه؟! نتركه يفتِّح البطون؟! نقول: لا.
الطبيب لا يأخذ العلم من الكتب لوحدها؛ لا بد من دكاترة يتعلم على أيديهم، ولا بد من دروس عملية، ومن ممارسة وتطبيق واختبارات ومختبرات، لكي يعرف الإنسان كيف يعالج الجسد.
لكن من الناس من يريد أن يعالج أرواح العباد التي هي أهم من أجسادهم، وهو ما جلس إلى عالم، ولا اتصل بعالم، وإنما يقرأ الكتاب هكذا، ويأخذ الدليل ويحكم عليه وهو لا يدرى عنه.
وقد جاءني مرة -وقد ذكرتُ هذا الكلام- جاءني أهل قرية وإذا بهم يصيحون، يقولون: يوجد أحد الشباب عندنا كتب لوحة في المسجد، وقال: لا تجوز الصلاة في هذا المسجد، ومن صلى في هذا المسجد فصلاته باطلة.
يقولون: نحن نصلي في هذا المسجد من يوم أن عرفنا أعمارنا، وأجدادنا، وأجداد أجدادنا، من مئات السنين، يصلون فيه جمعة وجماعة، وهذا الرجل يقول: ليس لكم صلاة، فجاءوني في البيت وهو معهم.
قلتُ له: أنت قلتَ هذا؟ قال: نعم.
قلت: وما هو دليلك؟ قال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا تجوز الصلاة في المسجد الذي فيه قبر).
قلتُ: وهل في هذا المسجد قبر؟ قال: يقولون.
قلت: رأيت قبراً بعينك؟ قال: لا.
قلت: حفرتَ في الأرض، ولقيتَ شيئاًَ بعينك؟ قال: لا.
قلت: هناك شيء موجود؟ ضريح على طرف المسجد هنا أو هناك؟ قال: لا.
قلت: فما الذي أعطاك الدليل؟ قال: يقولون: إنه قبل مدة طويلة كان فيه قبر.
قلت: سبحان الله! نبني أحكام الشرع على يقولون، هذه أحكام جائرة ما يجوز، تفسد عبادة المسلمين من أجل (يقولون)؟! المسجد الذي لا تجوز الصلاة فيه هو: المسجد الذي فيه قبر يُقدَّس ويدعَى وينذَر ويطاف به، ضريح موجود ومبني، إنما أرض كان فيها قبر أو لم يكن، ثم انتهى عنها حكم القبر، ونُقل القبر، أو انطمس القبر، أو اندثر القبر فالأرض كلها قبور يا إخوان، يقول الناظم:
ما أظن أديم هذه الأرض إلا من هذه الأجسادِِ
يقول:
طِر إن استطعت في السماء رويداً لا اختيالاً على رفاة العبادِ
لا تمشِ على رفاة الناس، الأرض كلها مملوءة من البشر، والذين ماتوا، والذين أكلهم التراب؛ لكن الشرع حرَّم الصلاة في مسجد فيه قبر ظاهر يُقدَّس ويعظَّم؛ لأنه سيُعبد من دون الله.
أقول للإخوة الشباب: ألا يتسرعوا في إصدار الأحكام، ولا في اقتباسها من الكتب، إنما لا بد من الرجوع إلى العلماء، والاستقصاء، والثقة في أهل العلم؛ حتى نعبد الله على بصيرة، ولا نشذ من السير، ويختطفنا إبليس من طريق السنة والجماعة إلى مثل هذه الطرق التي هي طريق الخوارج الذين قال فيهم الرسول: (إنكم تحقرون عبادتكم إلى عبادتهم -يقرءون القرآن، ويقومون بالعبادة، ويكفرون بالمعصية- لكنهم يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية).
ولا يعني هذا أن يُتهم كل شاب مسلم بمثل هذا، فإن من الجهلة من يسمع هذا الكلام، فيتصور أن كل شاب مؤمن ومهتدٍ وملتزم أنه ربما يكون من هؤلاء، لا.
من تصور فقد افترى؛ لأنك تنسب مؤمناً إلى فرقة كافرة، وهذا -والعياذ بالله- خطر على عقيدتك؛ إنما من اعتقد عقيدة الخوارج، والحمد لله أنه ليس في مجتمعاتنا أحد منهم.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يبصرنا وإياكم بالدين، وأن يزينا وإياكم بالإيمان، إنه على كل شيء قدير.
والله أعلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(107/12)
الأسئلة(107/13)
حكم زواج الرجل بأخت أخيه من الرضاعة
السؤال
هل يجوز لأخي أن يتزوج أختي من الرضاعة؟
الجواب
إذا كنتَ أنت رضعت من أمها أصبحت أخاً لها من الرضاعة، ولجميع إخوانها الكبير منهم والصغير، ولكل من مص من هذا الثدي، أو خرج من صلب الرجل صاحب اللبن، ولو من أم ثانية، مفهوم هذا يا إخوان؟ يعني: رجل عنده أربع نساء، واحدة منهن في الخميس، وواحدة في أبها، وواحدة في الرياض، وواحدة في مكة، وفي الخميس أرضعت زوجتُه ولداً أصبح هذا الولد أخاً لعيالها، وأخاً لجميع أولاد زوجها من التي في أبها، ومن التي في الرياض، ومن التي في مكة، فهذه البنت التي رضعتَ أنت من أمها، أصبحَت أختك من الرضاع، هي وجميع إخوانها، ولا يجوز لك أن تتزوج بها.
أما أخوك الذي ما رضع من أمها فيجوز له أن يتزوجها؛ لكن على شرط: ألا تكون هي رضعت من أمك؛ وإذا كنت أنت رضعت من أمها، الرضاع فقط من جهة واحدة، كان المحرم عليك أنت فقط، وأخوك يجوز له أنه يتزوجها، أما إذا كانت هي رضعتْ من أمك وأنت رضعتَ من أمها أصبحتَ أنت أخاً لجميع أولادها، وأصبحَت هي أخت لك، وجميع إخوانك، ومن ضمنهم أخوك، وبالتالي لا يجوز، هذا إذا كان الرضاع متبادلاً.
أما إذا كان الرضاع من جهة واحدة فالحرمة تتعلق بالراضع فقط.(107/14)
كيفية التخلص من الخوف عند إمامة الناس
السؤال
مشكلتي رغم أني أجيد قراءة القرآن إلا أنني إذا تقدمتُ بالجماعة في المسجد خارت قواي، واضطرب قلبي، وتغيَّر صوتي، وتعرق جبيني، فهل هذا نقص في إيماني؟
الجواب
لا.
شيء طبيعي، يقولون في المثل: (مقابلة السيوف، ولا مقابلة الصفوف)، لكن يذهب هذا العرق والخجل والاضطراب بالتعود؛ لأنك إذا ما تقدمت أنت وأنت تجيد القرآن فمن يتقدم بالناس؟! تقدم واستمر، واستعذ بالله من الشيطان، وما هي إلا فترة قصيرة إن شاء الله ثم تتعود وتواجه الناس، ولا تشعر بإذن الله بأي خجل، ولا يخرج منك أي عرق إن شاء الله.(107/15)
حكم دعاء الاستفتاح في صلاة الجنازة
السؤال
هل في الصلاة على الجنازة دعاء استفتاح؟
الجواب
لا.
ليس لها دعاء استفتاح، وإنما يكبر الإنسان التكبيرة الأولى ويقرأ الفاتحة، ثم يكبر الثانية ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يكبر الثالثة ويدعو للميت ولجميع أموات المسلمين، ثم يكبر الرابعة ولا يقول بعدها شيئاً، ثم يسلم تسليمة واحدة عن اليمين.(107/16)
الواجب على من تاب عن السرقة
السؤال
أنا شاب كنتُ ضالاً وأرافق رفقاء السوء، وكنا نذهب إلى السوق، وندخل الأسواق، ونسرق بعض الأشياء الخفيفة، ثم تبتُ؛ ولكنني محتار، كيف أرد للناس حقوقهم، مع أنني لا أستطيع لظروفي المالية، ولا يعرف أحد عن ذلك؟
الجواب
يلزمك -ما دمتَ تبتَ- أن ترجع الحقوق إلى أصحابها -كل ما أخذته- ولو كان قلماً؛ لا بد أن ترجعه، وإذا كنتَ لا تعرف أصحابها، فتنفق قيمة هذا الشيء الذي أخذته في سبيل الله على نية أصحابه.
وهذا الأمر يستدعي أن نلفت أنظار أصحاب المحلات التجارية إلى الانتباه، وعدم ترك الأمور هكذا سائبة، فإن من الناس من لا دين له، ولا خوف عنده من الله، يدخل المعارض ويقلِّب البضائع، وخاصة الأشياء الثمينة؛ الذهب، أو الساعات، أو الأقلام، ثم يستغل غفلة صاحب المحل ويسرقها ويخرج، اجعل عينك هكذا مثل هؤلاء، وإذا رأيت واحداً فامسكه ولا تتركه إلا في يد العدالة، حتى تقطع يده ويصير عبرة لغيره، لا يجوز أن يُخوَّف المسلمون في بلاد المسلمين.(107/17)
كيفية تغيير المنكر
السؤال
أعرف أن من لا ينكر المنكر في بيته فهو ديوث، وأخاف أن أكون من هذا الصنف، ولكن إذا كان من يفعل المنكر يعرف أنه منكر فهل يجب عليَّ أن أنكر عليه؟
الجواب
ليس كل من يعرف المنكر في بيته يكون ديوثاًَ؛ فإن المنكر يختلف من درجة إلى درجة، والبيوت فيها منكرات لا شك، لكن الديوث من يقر منكر الفاحشة في أهله، يعلم الفاحشة في زوجته أو أهله ويسكت، هذا ديوث، والجنة محرمة عليه -والعياذ بالله-.
أما إذا رأيت في بيتك منكراً فيجب عليك أن تغيره؛ لأن بإمكانك تغيير المنكر في بيتك، أما خارج بيتك فيجب أن تغيره بلسانك، فإن لم تستطع فبقلبك.(107/18)
طلب نصيحة في اقتناء أشرطة
السؤال
انصحني باقتناء خمسة أشرطة لأهديها للدعوة إلى الله عزَّ وجلَّّ.
الجواب
ما أستطيع أن أنصحك؛ لأنني ما أعرف أشرطة لغيري من الإخوة الدعاة والعلماء؛ نظراً لأني ما عندي وقت أسمع حقيقةً.
أما أشرطتي أنا فلا أستطيع أن أدلك عليها؛ لأن هذا جزء من الدعاية للنفس، وهذا لا يجوز في الشرع، ولكن اسأل غيري، وسيدلك غيري على ذلك.(107/19)
التخول في الموعظة
السؤال
سمعتُ أن من يكتم العلم يُلجمه الله يوم القيامة بلجام من نار، وأخذت أعمل، وأحدث الناس في كل مكان، حتى زهقوا مني، وطالبوني بالسكوت، فماذا أفعل؟
الجواب
يا أخي الكريم! هذا الحديث في مَن سُئل عن علم، وأنت ربما لم يسألك أحد أن تتكلم، حتى زهَّقت الناس؛ لأن الدعوة -أيها الإخوة- مثل الطعام، تقدمه للناس حينما يحتاجونه.
ما رأيك بشخص عشَّيْتَه، وعندما شبع قال: الله ينعم عليك.
قلت: لا والله، لا بد أن تأكل.
قال: يابن الحلال شبعتُ.
قلت: لا.
والله لتُكْمِلَنَّ الذي في الصحن، وأن تأكل جفنة العصيدة هذه، وأن تكمل الخروف.
قال: يابن الحلال بطني امتلأت.
قلت: لا.
وأخيراً قام عليك بالعصا، وأكلك غصباً عنك.
أهذا كرمٌ؟! سيقول: الله أكبر عليك وعلى كرمك.
كذلك من الناس من يحدثك إلى أن تشبع، ثم يعيي، ويقول: زِدْ، زِدْ، زِدْ إلى أن يجعلك غير راغب في الحديث.
وابن مسعود يقول: [كان صلى الله عليه وسلم يتخَوَّلنا في الموعظة، مخافة السآمة علينا].
فأنت تقدم العلم والموعظة حينما ترى لها قبولاً، فإذا رأيت الناس صاروا يُدَنِّقون أو صاروا يرقدون أو صاروا يتكلمون فَقِفْ، لماذا؟ لأنك كأنك تكره الناس في الكلام الجيد بإصرارك على أن تقدم شيئاً في غير مناسبته أو في غير وقته.(107/20)
حكم الجمعية التعاونية بين الموظفين
السؤال
ما حكم الجمعية التعاونية التي يقوم بها بعض الموظفين في كل شهر؟
الجواب
هذا كثر الكلام حوله يا إخواني! وقد سئل عنها الشيخ/ صالح بن فوزان في أبها، فأفتى بحرمتها، وقابلتُ بعده الشيخ/ عبد العزيز بن باز، وناقشته أنا والشيخ/ عائض القرني في هذا الموضوع فأفتى بحرمتها؛ مستدلاً بالحديث الذي معناه صحيح، والأمة مجمعة على معناه رغم أن في سنده ضعف؛ وهو (أن كل قرض جر نفعاً فهو ربا) وهذه الجمعيات قروض تجر نفعاً، قرضٌ مشروط بقرض، كأن أقرضك ألفين الآن على شرط أنكم إذا جاء دوري تقرضوني كلكم عشرين ألفاً إذا كنا عشرة أشخاص.
ولهذا (كل قرض جر نفعاً فهو ربا) ولكن الشيخ/ عبد العزيز بن باز قال لنا، وقد سمعتُه بأذني قال: إن هذه المسألة لا تزال موضع نقاش، وهي معروضة الآن على هيئة كبار العلماء، وسوف تصدر فيها فتوى بإذن الله قريباً، فنقول للناس: الذي وقع فيها يتوقف حتى يصدر فيها الحكم.(107/21)
كيفية غض البصر
السؤال
ما هي الطريقة التي أغض بها بصري؟
الجواب
الطريقة التي تغض بها بصرك: استشعار عظمة الله، والشعور بأن الله ينظر إليك، وأنت تنظر إلى محارمه، يقول الحسن البصري وقد سألوه قالوا: [كيف نستعين على غض البصر؟ قال: بعلمك بأن نظر الله إليك أسرع من نظرك إلى المنظور إليه].
هل تستطيع أن تنظر إلى فتاة وأبوها يراك؟! هل تستطيع أن تنظر إلى امرأة وزوجها يراك؟! تستحي، تخاف.
فكيف تنظر إلى امرأة والله يراك؟! والله أغير على محارمه، ومن غيرته: حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن.(107/22)
حكم زيارة الأقارب المقصرين في حق الله تعالى
السؤال
لي أقارب يدخنون، ويسمعون الأغاني، ويحلقون لحاهم، فهل أصلهم؟
الجواب
نعم.
تصلهم، فهل تقطعهم، وتجلس في برج عالي، أنت الجيد وهم السيئين؟! لا.
صلهم، واصبر على أذاهم، واهدهم، وادعهم إلى الله، وابتسم في وجوههم، لا تدخل عابساً؛ لأنهم عاصون أو فيهم معاصٍِ، كيف تدعهم وأنت مُخاصِمُهم؟! إذا تكلمتَ معهم أو دعوتهم وأنت مخاصم لهم فلن يقبلوا دعوتك، لكن تحبب إليهم، اهدِ لهم، اجلس معهم، اسكت على المنكرات التي تراها أول الأمر، إلى أن تغزو قلوبهم بحبك، وسماع دعوتك؛ لأنك إذا أردت أن تقبل فيجب أن تكون محبوباً عندهم، أما إذا جئت بالأوامر والنواهي: افعلوا، اعملوا، قالوا: لا ردك الله، انقلع، وكرهوك، وكرهوا الدين الذي تمثله أنت، بسببك أنت، ولهذا يقول الله عزَّ وجلَّ: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ * فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [آل عمران:158 - 159].
فالقول اللين والسماح مطلوبان من كل داعية إلى الله؛ لكن متى تجب المفاصلة، والبغض في الله؟ إذا حدد العاصي موقفاً منه، أما أن تبدأ تعطيه الدعوة والنصيحة ويقول: جزاك الله خيراً، والله يبارك فيك، وأسأل الله الذي هداك أن يهدينا، فهذا فيه أمل، لكن إذا جئت عند شخص وقلت: يا أخي! اتق الله، صلِّ في المسجد، أو لا تسمع الأغاني، وقال لك: انظر، أنت آذيتني، كل يوم وأنت عندي، أغاني، وثوب طويل، أرجوك لا تعد تتكلم معي في هذا الموضوع.
فماذا يلزمك؟ يلزمك أن تبغضه في الله.
لماذا؟ لأنه لم يعد ينفع، مثل المريض الذي عَيَّ ولن يتعالج، المريض الآن في المستشفى إذا دخل الطبيب عليه وأعطاه حبوباً، هو ينتظر في اليوم الثاني أن يأتي متعافياً، أو يخرجه؟! ما رأيكم في طبيب أعطى مريضاً حبة، وعندما جاء في اليوم الثاني قال: ما بك أنت؟ ما زلت جالساً هنا؟ أما تعافيت؟ ألم نعطك بالأمس حبة؟ هيا أخرجوه، هذا ما فيه خير، أخرجوه.
هل هذا طبيبٌ؟! لا.
بل يعطيه حبة ثانية، ويعطيه حبة ثالثة، وبعد ذلك إذا ما نفعت الحبوب قال: غيروا له حبوباً أخرى، غيروا له علاجاً آخر، وينوع له العلاج حتى يعافيه الله، ولا يخرجه.
لكن متى يخرجه؟ إذا جاء الممرضون وقالوا: هذا رفض الحبوب، والأشعة، والعلاجات كلها، ويريد أن يقعد في المستشفى راقداً.
ماذا يقول الطبيب؟ يقول: خروج، ما دام أنه لا يقبل الدواء فلا يقعد في المستشفى.
وكذلك الذي لا يقبل علاج السنة لا نحبه في الله.(107/23)
حكم التيمم إذا كان البرد شديداً مع وجود الماء
السؤال
هل يجوز لي أن أتيمم إذا كان الجو بارداً؟
الجواب
لا.
لا تتيمم إلا إذا عُدم الماء، أو خيف الضرر من استعماله، بحيث إذا استعملته تموت، أما كونك تَبْرُد فالناس كلهم يَبْرُدون، ماذا يحصل إذا بَرَدْتَ قليلاً فقط وإذا أنت جيد؟!!(107/24)
حكم مخالفة الأنظمة التي يضعها ولي الأمر
السؤال
إنسان عنده سجل تجاري، وآخر يرغب في فتح محل باسمه مقابل مبلغ مقطوع من المال في كل سنة، هل هذا المبلغ جائز، أم لا؟
الجواب
هذا حرام لا يجوز؛ لأنه أكل لمال الغير بغير حق، ومخالفة للنظام السائد في البلد؛ لأن الأنظمة التي يضعها ولي الأمر يلزم المسلمين العمل بها، ما لم تكن حراماً؛ لأنها أنظمة تسن قيوداً على مصالح البشر، ولهذا سماها العلماء المصالح المرسلة، وهي التي أرسل الشرع أمرها لولي الأمر، مثل: نظام المرور الآن، إذا قطعت الإشارة فإنك تعصي الله وتعصي ولي الأمر؛ لأن الله يقول: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59].
فكذلك الأنظمة ينبغي أن تحترم، ما لم يكن النظام هذا يحل حراماً أو يحرم حلالاً، فإذا جئت تأخذ من مسلم مبلغاً بغير حق نتيجة إعطائه اسمك مقابل مبلغ مقطوع، هذا تستُّر، ولا يجوز، وإذا اكتُشِفت في الدنيا ربما تؤاخذ، ويترتب على هذا ضرر عليك في الدنيا وفي الآخرة.(107/25)
حكم دفع المال لأخذ الحق
السؤال
بعض الناس الذين لهم معاوَض، لا يستلمونها حتى يدفعوا مالاً، فهل يعتبر هذا رشوة؟
الجواب
نعم.
رشوة، إذا كان لك معاوَض فينبغي أن تأخذه بالطريق الرسمي، وبالمطالبة الرسمية والشرعية، عن طريق المرافعة لولاة الأمر، أما أن تستحل الحرام، وتذهب تعطي المهندس أو المسئول أو المدير أو الموظف لكي يكثر لك التقدير، ولكي يمشِّي المعاملة، فإنما تأكل ناراً وهو يأكل ناراً -والعياذ بالله-، والحديث: (لعن الله الراشي والمرتشي -الراشي: الذي أعطى، والمرتشي: الذي أخذ- والرائش -يعني: الواسطة-).(107/26)
حكم مقاطعة الزوجة لأهلها لخوفها منهم
السؤال
أنا مسلمة تزوجتُ وحصلتُ على المكان المناسب عند زوجٍ مؤمن بالله، ملتزم بشريعة الله، ولكن أبي وأمي وأخي يريدون أن يأخذوني منه مرة ثانية، من أجل أن أتزوج بمبلغ آخر -يريدون أن يتاجروا بهذه الضعيفة- ولم أساعدهم على ذلك، وبعد أيام ذهبتُ لزيارتهم، فأخذوا ذهبي، والآن لي ست سنوات لم أذهب إليهم خوفاً منهم، فهل أنا آثمة؟ أم أبقى على حالي؟
الجواب
لا.
لستِ آثمة، وإنما أنتِ غانمة؛ لأن ذهابك إلى هؤلاء، ولو كانوا أباً أو أماً وهم يريدون إفسادك على زوجك، فهؤلاء مفسدون، وليس لهم حق، وعليهم أن يتوبوا إلى الله، وبقاؤك في بيت الزوجية، بيت الطاعة مع الزوج الصالح، هو الوضع الصحيح الذي ينبغي أن تستمري عليه.
ولكن إذا استطعتِ أن تصلي أهلك مع أمن العودة فلا بأس، يعني: تستطيعين أن تزورينهم في عيد، أو في مرض، أو في مناسبة، لكن تقدرين أن ترجعي.
أما إذا علمتِ أنك إن دخلتِ عليهم قفَّلوا الأبواب، أو سجنوكِ، أو قيدوكِ، وما عدتِ تقدرين أن ترجعي، فلا يجوز لك أن ترجعي إليهم، ولا أن تذهبي إليهم.
أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(107/27)
للذين استجابوا
ابتدأ الشيخ حفظه الله الخطبة بذكر الحكمة الإلهية من خلق الإنسان، وهي: العبادة، وبيّن أن من امتثل الأمر فأطاع واستجاب؛ فهو ناج من عذاب الآخرة، وأن من عصى وتكبر ورفض الاستجابة لربه فقد سبب لنفسه الشقاء في الدنيا والأخرى.
وقد ذكر حفظه الله أنواع الظلم، وبين أنها ثلاثة أنواع: ظلم العبد لربه، ولنفسه، ولغيره.
ثم ذكر عاقبة الظلم.
ثم خلص بعد ذكره لما تقدم إلى أن الاستجابة هي الخيار الأمثل بل هي الخيار الوحيد، وتحدث عن حال الرافض للاستجابة عند الموت وما بعد ذلك، وختم خطبته ببشرى لمن استجاب لربه تعالى.(108/1)
الحكمة من خلق الإنسان
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله، صلوات الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن سار على هديه واقتفى أثره إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فيا عباد الله: لقد خلقنا الله عز وجل لعبادته لم يخلقنا عبثاً، ولم يتركنا هملاً، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} [الأنبياء:16]، وقال سبحانه: {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص:27]، وقال جل جلاله: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر:85]، وقال عز وجل: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء:17 - 18] وقال جل وعلا: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:115 - 116].
لم يخلقنا ربنا ليتكثر بنا من قلة، ولا ليتعزز بنا من ذلة، ولكن خلقنا وأوجدنا لرسالة سامية، ولغاية نبيلة، ولهدفٍ جليل بيَّنه الله في كتابه، وقال فيه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56 - 58].
خلقنا وأمرنا بطاعته، وبين لنا أن سبيل السعادة والفوز في الدنيا والآخرة هو سبيل الطاعة، فقال عز وجل: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران:132]، وقال عز وجل: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:71]، وقال: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} [النساء:69].
خلقنا الله لعبادته وطاعته ونهانا عن معصيته، ومخالفة أمره، والتمرد على شرعه ودينه، وتوعدنا إن نحن عصيناه بالنار، وأخبرنا أننا لا نستطيع أن نفلت من قبضته، ولن يمنعنا منه أحد، فإنه يمنع من كل شيء، ولا يُمنع منه شيء {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا} [هود:102 - 108] نسأل الله بفضله أن يجعلنا من الذين سعدوا بطاعة الله، سعدوا، وبالاستجابة لأوامره، وبالسير على منهجه؛ فكان جزاؤهم: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ * فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ} [هود:108 - 109].
أما من يضل وينحرف ويرفض السير على الطريق المستقيم؛ فلا تحزن عليه، {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل:127]، ويقول رب العزة والجلال: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر:8]، فإنهم مراقبون وتحت الرصد الرباني، وسوف يُقبض عليهم، ولن يفلتوا من قبضة الله.
وهناك {وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ} [هود:109].
نهى الله عن معصيته فهو لا يحب أن يعصى، يقول ابن القيم في كتابه الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، وهو ينقل أثراً قُدسياً، يقول الله عز وجل: (إني إذا أُطعت رضيت، وإذا رضيت باركت، وليس لبركتي نهاية، وإني إذا عُصيت غضبت، وإذا غضبت لعنت، ولعنتي تبلغ السابع من الولد) غضب الله لا يقوم له شيء.
ففي يوم القيامة حين يدمر الله هذا الكون ويغير معالمه من أجل فصل القضاء بين العباد يقول الله: {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ} [الانفطار:1 - 4] ويقول سبحانه: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ} [التكوير:1 - 2]، ويقول عز وجل: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق:1].
هذه العوالم كلها تتغير عن طبيعتها، ويُبعث من في القبور يقولون: {مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا} [يس:52] أي: من أيقظنا من رقدتنا الطويلة هذه؟ فيقول أهل الإيمان: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ * إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس:52 - 53].
في تلك اللحظات يبلغ الكرب مبلغه بالناس، والشمس تدنو من الرءوس حتى تغلي منها أدمغة العباد كما يغلي اللحم في القدور، وليست هناك عمارات ولا سيارات ولا مظلات، إلا مظلة واحدة: مظلة الرحمن يظل بها سبعة فئات، سبعة أصناف من الأمة، والبقية في عرصات القيامة؛ الشمس تصهرهم صهراً، وتغلي منها أدمغتهم، ويسيل منهم العرق حتى يلجمهم العرق إلجاماً، والناس في كربٍ عظيم، واليوم طويل، مقداره خمسون ألف سنة.
أنت إذا وقفت في طابور تنتظر إجراء معاملة، أو قطع تذكرة، وقفت عشر دقائق، أو ربع ساعة، أو نصف ساعة أو أكثر تعجز، لكن في يوم القيامة تقف خمسين ألف سنة، وكيف يكون هذا الوقوف؟ يقول الله عز وجل عن هذا الوقوف: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} [إبراهيم:42].(108/2)
أنواع الظلم وعواقبه
الظلم كلمة عامة يحملها الناس على محمل ونوع واحد، لكن الظلم ثلاثة أصناف: ظلم العبد لربه، وظلم العبد لنفسه، وظلم العبد لغيره.(108/3)
ظلم العبد لربه
ظلم العبد لربه بأن يشرك به؛ لأن الله يقول: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]، والظلم: وضع الشيء في غير موضعه، ومعناه هنا: أن تجعل العبادة لغير ربك الذي خلقك، أو أن تصرف شيئاً من أنواع العبادة لغير الله، أو أن تجعل لله نداً وهو خلقك، أو أن تخاف، أو أن ترجو، أو أن تدعو، أو تستغيث، أو تلجأ، أو تقدم نوعاً من أنواع العبادة من ذبحٍ أو قربى لغير الله، هذا كله شرك حتى لو كان لنبي أو ولي أو ملك.
لا تفعل كما يفعل بعض الناس في غير هذه البلاد يطوف بالقبر، ويزور الولي، ويقدم له النذور والقربات، ويقول: يا سيد العارفين -ومعلوم أن العارف لا يُعرَّف، والشكوى على أهل البصيرة عيب- أنت تعلم ما في نفسي.
-يقول هذا لصاحب القبر الذي لا يعلم شيئاً كأنما يخاطب الله سبحانه وتعالى.
هذا شرك أكبر مخرج من الملة لا ينفع معه صوم ولا حج ولا صلاة ولا عبادة؛ لأن الله يقول: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23] الشرك عظيم ولا يغفره الله شرك الدعاء والرجاء والاستعانة والاستغاثة والتوكل والنذر والذبح، وأي نوع من أنواع العبادة لا تصرف إلا لله، يقول الله عز وجل للقبوريين الذين يطوفون بالقبور، ويقدمون لها النذور ويعبدونها من دون الله، يقول الله لهم: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:14] فالظلم: أن تصرف شيئاً من أنواع العبادة لغير الله.(108/4)
ظلم العبد لنفسه
ظلم العبد لنفسه: أن يرد بها المعاصي، ويتعدى بها الحدود؛ والله يقول: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق:1] إذا تعديت حدود الله ببصرك فنظرت به إلى الحرام فقد ظلمت نفسك، وإذا تعديت حدود الله بأذنك فسمعت بها الحرام من الغناء أو الكذب أو الغيبة أو النميمة فقد تعديت حدود الله وظلمت نفسك، وإذا تكلمت بلسانك كلاماً يسخط الله فقد ظلمت نفسك، وإذا بطشت بيدك أو مددتها على ما لا يحل فقد ظلمت نفسك.
وقد تقول كيف ظلمت نفسي؟ أقول لك: إن هذه الجوارح التي هي ملك يمينك، وفي قبضتك، ورهن طاعتك؛ في يوم القيامة تشهد عليك، يقول الله عز وجل: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} [فصلت:19] عجيبةٌ هذه الكلمة! فهي تهز نياط القلوب، تأمل كيف يصف الله هؤلاء الناس بأنهم أعداؤه! ومن كان عدواً لله فويل له ثم ويل له من عداوة الله، من ينصره على الله، وهو الذي بيده مقاليد كل شيء؟ خلقك، ورزقك، ودبَّرك، ثم كلَّفك، ثم أمهلك، ثم هو يدعوك ليقبضك، فكيف ترد عليه وهو عدوك؟ إذا وردت على عدو قادر عليك فكيف يكون وضعك؟! قال الله: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} [فصلت:19] أي: يجمع أولهم على آخرهم، كما تجمع الغنم إذا أدخلتها في زريبتها.
{حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ} [فصلت:20] أذنك التي تَسرها بالأغاني تشهد عليك يوم القيامة، {شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ} [فصلت:20] عينك هذه التي تمتعها بالنظر إلى الجميلات تعذبك يوم القيامة وتكون ضدك {وَجُلُودُهُمْ} [فصلت:20] يعني: تشهد عليك جميع جوارحك {بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [فصلت:20].
فيستغرب أعداء الله في هذا الموقف، ويستنكرون هذا التصرف من جوارحهم، ويقولون لها: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا} [فصلت:21]، نحن مارسنا الذنوب، وسرنا في المعاصي من أجلكم، ومن أجل تلبية رغباتكم سمعت الغناء لأمتعك أيتها الأذن! ونظرتُ إلى الحرام لأمتعك أيتها العين، وسرت في الزنا لأمتعك أيها الفرج! فلم شهدتم علينا؟ والجوارح مأمورة لا تملك شيئاً، فمن أنطق هذه اللحمة ينطق هذه الشحمة، قال عز وجل: {قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت:21] لا نملك من أمرنا شيئاً، {أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ} [فصلت:21 - 22] أي: ما كنتم تستطيعون أن تمارسوا العظائم والذنوب والمعاصي مستترين عن جوارحكم هل يستطيع الإنسان أن يعصي وينظر إلى الحرام بغير عينه؟ لا.
وهل يسمع الحرام بغير أذنه؟ لا.
هل يستطيع أن يعصي بجسم آخر؟ لا.
فهم شهود عدول حضروا الواقعة ليس فيهم جرح أبداً {وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ} [فصلت:22] هذا هو السبب.
غابت عنكم مراقبة الله وكنتم تستخفون من الناس ولا تستخفون من الله، تخجلون من الناس ولا تخجلون من الله، إن الزاني إذا انفرد بالزانية ثم علم أن هناك طفلاً عمره سنتان ينظر إليه لا تجرأ على الزنا يستحي ويخاف من مخلوق وينسى الله ونظره إليه، وظن بالله أنه لا يعلم بحاله وأفعاله، قال الله: {وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ} [فصلت:22 - 23] هذه العقيدة الفاسدة، وهذا التصور الممسوخ أنك لست تحت رقابة إلهية {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} [فصلت:23 - 24] ظلمك لنفسك أن توردها المعاصي، فلا تظلم نفسك بل انجُ بنفسك، وتذكر أن عينك اليوم هي عينك لكنها غداً عدوك، وأذنك اليوم هي أذنك ولكنها غداً تبرز هناك تشهد عليك وتكون عدوك.
هل الأسلم لك أن تنجو بنفسك من عذاب الله، أو أن تستمر كالدابة التي تساق إلى حتفها بظلفها وهي لا تدري؟ تهلك نفسك بسماع الغناء، والنظر إلى الحرام وأكله، والبطش بالحرام والسعي إليه، وترك الطاعات، ثم تندم ولكن حين لا ينفع الندم.
هذا هو الظلم الثاني.(108/5)
ظلم العبد لغيره
الظلم الثالث هو: ظلم العبد لغيره، لا تظلم مسلماً بهتك عرضٍ، أو بأكل مالٍ، أو بعدوانٍ، أو بأي صورةٍ من صور الظلم، والظلم ظلمات يوم القيامة، وهو يشمل المجتمع من القمة إلى القاعدة، كل واحد في الدنيا مسئول، فأنت في بيتك مسئول عن زوجتك وأولادك، وفي رئاستك مسئول عن رعيتك.
فلا تظلم زوجتك فتوردها موارد الهلكة فتوفر لها المعاصي والذنوب لا تظلمها فتأمرها بالتبرج والتكشف والخروج بلا حجاب على غير محارمها لا تظلمها فتمارس عليها ضغوطاً نفسية وقهرية؛ لأنك في مركز قويٍ.
بعض الناس يقول أنا رجل وهذه امرأتي، وماذا في ذلك؟ فيعاملها معاملة الدواب!! كيف والله يقول: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة:228] وهذه الدرجة هي القوامة والمسئولية، أما الحقوق فمتساوية كل بحسبه، لكن الزوجة في نظر الدين شريك، ولا بد لكل شركة من مدير، هل سمعتم بأن شركة لها مديران؟ ستخرب الشركة مباشرة.
فالبيت والحياة الزوجية شركة ولا بد لها من مسئول! ومن المسئول فيها؟ الرجل أو المرأة؟ إن الله عز وجل أعطى المسئولية للرجل، ليس تفضيلاً ولا تكريماً ولا استبزازاً ولا تسلطاً، فقد تكون المرأة أفضل عند الله من الرجل بألف درجة، لكن زيادة عهدة وتكليف، قال الله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء:34] فهذا تفضيل في أصل التكوين، فالرجل قوي شجاع يواجه الصعاب، وهذه كلها مميزات يجب أن تكون في القائد والمسئول، ثم {وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34] والرجل يدفع المهر والنفقات.
أما الحقوق والواجبات فلها حقوق وعليها حقوق، فلا تظلمها انتبه! لا تظلم من لا يجد عليك ناصراً إلا الله؛ لأن بعض الناس كالدجاجة والفأر في جميع ميادين الحياة، أما أمام زوجته فإنه أسد، إذا دخل يستعمل كافة الصلاحيات أمام الضعيف، فيضربها، وينهرها، ويزجرها، ويمارس معها كل أساليب الضغط؛ لأن الناس خارج البيت يضغطون عليه، ولا قدرة له عليهم، فيولد انفجاراته على هذه الضعيفة، وهي مسكينة ما عندها حول ولا طول، فماذا تصنع؟ تدعو الله عليه، فينصرها الله ولو بعد حين، فلا تظلم زوجتك، ولا أولادك، ولا جارك، ولا أباك بمعصيته، ولا أمك بعصيانك لها، ولا أي مسلم أبداً.
هذا في محيطك الأسري، وفي محيطك العملي أيضاً أنت مسئول، ولو كنت كاتب استيراد وتصدير، لا بد أن تكون عادلاً لا تظلم، وإذا كنت مسئولاً مسئولية أكبر لا تظلم، كما لو كنت رئيس قسم، انتبه! عندك موظفون في القسم، يجب أن تكون عادلاً بينهم، في توزيع العمل، وإتاحة الفرص، والترقية، والدورة أو البعثة أو الانتداب أو أي شيء، كن عادلاً، لا تحب شخصاً دون غيره، لا تحب زميل اللهو واللعب وتكره زميل المسجد والطاعة، تقول: هذا (مطوع)، والله لا يذهب في دورة ولا بعثة ولا يأخذ ترقية؛ هذا مُعقد! هذا سيعطيه الله حقه كاملاًً من ظهرك يوم القيامة، وإذا كنت مدير إدارة أيضاً فلا تظلم، وإذا كنت ضابطاً عندك جنود لا تظلمهم.
أي موقع أنت فيه فاتق الله فيه؛ لأن الظلم ظلمات، والله يقول في الحديث القدسي في حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه -وهو صحيح-: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا).(108/6)
ما أعده الله للظالمين من عذاب أليم
يقول الله عز وجل: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [إبراهيم:42]، إن الله لا يغفل عنك، وأنت غافل عنه! أنت مغرور بكرسيك، بجاهك، بمالك، بقوتك وعضلاتك، لكن الله ليس بغافل عنك، ولكن ماذا سيصنع بك؟ قال: {إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} [إبراهيم:42 - 43] الفؤاد: فارغ، والقلب: ارتفع إلى الحنجرة، عندما تكون أنت في الطائرة، ويأتي مطب هوائي تحس أن قلبك ارتفع من مكانه؛ ولهذا تربط نفسك بحزام الأمان من أجل أن تشد على قلبك {وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} [إبراهيم:44] يقولون: أعطنا فرصة يا رب! ومهلة وإمكانية نجب دعوتك نرفع المظالم، ونعدل مع الناس، ومعك يا رب في أن نوحدك، ومع أنفسنا فلا نعصيك.
{نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ} [إبراهيم:44] لكن انتهت فرصة هذا التافه، قال الله عز وجل: {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ * وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ * وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ * فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ * يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} [إبراهيم:44 - 48] هذا الشاهد من الآيات: تبدل الأرض غير الأرض والسماوات تبدل غير السماوات {وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ} [إبراهيم:48 - 49] في السلاسل والأغلال، يقرنون كما تقرن البقر في الأضماد: كل اثنين، كل ثلاثة، كل عشرة مقرنون، ليزداد عليهم النكال والعذاب.
{سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ * لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [إبراهيم:50 - 52].(108/7)
أهمية الاستجابة لله قبل فوات الأوان
إن الله عز وجل حذرك من معصيته وتوعدك بناره إن عصيته، وأنت بالخيار في ذلك، وعليك أن تختار الأفضل والبديل الأمثل الذي يسعدك في الدنيا والآخرة وهو: أن تستجيب لله، أما المعصية فهي خيار سيئ، والكفر بديل خسيس مرهق متعب في الدنيا والآخرة، ولكن {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ} [الشورى:47] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24]، إن الحياة الحقيقية إنما تنبع من مقدار استجابتنا لله ولرسوله، فمن كان مستجيباً فهو حي، ومن كان غير مستجيب فهو ميت، ولو كان يأكل ويشرب، فالحمير، والبقر، والكلاب، والخنازير، تأكل وتشرب لكن ليس لها حياة الأرواح، كما قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} [محمد:12].
ويتمنى الكافر والفاجر يوم القيامة إذا رأى الحمير والبقر تحولت إلى تراب أن يكون مثلهم فيقول: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً} [النبأ:40] ليته كان ثوراً وله ذيل وقرون، لكن (يا ليت) لا تبني بيتاً، ولا تنفع يوم القيامة.
فالحياة الصحيحة عندما تستجيب لله، يقول الله عز وجل: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} [فاطر:19] الأعمى أي: الكافر الفاجر، والبصير يعني: المؤمن الطائع، {وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ} [فاطر:20] الظلمات: الكفر، والنور: الإيمان، {وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ} [فاطر:21] الحرور: الكفر، والظل: الإيمان، {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ} [فاطر:22] الأحياء: أهل الإيمان، والأموات: أهل الكفر والنفاق والمعاصي، ثم قال: {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ * إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} [فاطر:22 - 23] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال:24].
يا رب! ما جزاء من يستجيب؟ وما عقوبة من لا يستجيب؟ هذا ما سنذكره في الخطبة الثانية.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.(108/8)
الاستجابة لداعي الله في الأرض
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، ونشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فالمستجيب لله لا يتردد، بل يكفيه داعٍ واحد فقط، وهذا شأن الصحابة عندما سمعوا داعي الله، حتى كان الرجل يدخل في الإسلام فيتغير كل شيء في حياته من نفس اللحظة التي دخل فيها للإسلام.
لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير كسفير له وداعية إلى المدينة قبل الهجرة، فكان أول سفير في الإسلام يرسل لتمهيد العلاقات الدينية هو مصعب بن عمير، ومصعب هذا شاب من شباب الإسلام، كانت أمه من أثرياء مكة، وكان له منها عطاء وهبات، وكان إذا مشى في طريق يعرف الناس أن هذا الطريق مشى فيه مصعب بسبب الرائحة التي فيه، ولما أسلم عارضته أمه، وقطعت عنه الهبات فأصبح فقيراً حتى أنه لما قتل في غزوة أحد وجاء الرسول صلى الله عليه وسلم ليدفنه، ما وجد لديه إلا قطعة ثوب إن غطي بها رأسه انكشفت قدماه، وإن غطيت بها قدماه انكشف رأسه، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم فغُطي بها رأسه ووُضع على رجله من شجر الإذخر، وقال: (لقد كنت أرى مصعباً وهو أنعم شاب في مكة) لكن هنيئاً له الجنة.
مصعب عندما قدم المدينة وجلس يعلم الناس، وعلم سعد بن معاذ بالخبر، أرسل إليه أسيد بن حضير، وقال: أسكت هذا الرجل، وإذا أبى فأت برأسه.
فلما جاء أسيد قال له: اسكت، فقال مصعب: اسمع ما نقول فإن أعجبك وإلا سكتنا، فجلس عنده، فقرأ عليه من القرآن، فدخل الإيمان في قلبه مباشرة، قال: ماذا يقول من أراد أن يدخل معكم في دينكم؟ قال: يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فشهد شهادة الحق، ثم قال لـ مصعب: ذاك الجالس زعيم قومه -أي: سعد بن معاذ - اصدق الله فيه يا مصعب.
فرجع أسيد، فقال سعد: والله إن أسيداً رجع بوجه غير الوجه الذي ذهب به.
فهو ذهب بوجه كافر، وعاد بوجه مسلم، تغيرت ملامحه من أول لحظه رغم أنه لم يعمل شيئاً إلا شهادة الحق، فلما جاء إلى سعد قال له: ما لك لم تسكته؟ قال: اذهب أنت أسكته، يريده أن يذهب هو حتى يسمع الكلام، فأخذ رمحه، وقام مغضباً، وركب جواده، وجاء إلى مصعب وقال له: اسكت، قال له: اجلس واسمع ما نقول، فإن أعجبك وإلا كففنا عنك، قال: لقد أنصفت، فقرأ عليه القرآن -والذي يقرأ بإخلاص، ويدعو بإخلاص؛ يرجو بعمله وجه الله؛ يجعل الله في عمله بركة وخيراً- فما إن دخلت هذه الآيات أذن سعد إلا وأعلن شهادة الحق ودخل في دين الله، وهو زعيم الأوس ورئيسهم، ولما رجع قال لقومه: ما أنا فيكم؟ قالوا: أنت سيدنا، وابن سيدنا، وخيرنا وابن خيرنا، قال: فإن طعامكم، وكلامكم، وشرابكم علي حرام إن لم تؤمنوا بمثل ما آمنت به، فآمنوا كلهم فما بقي بيت من بني عبد الأشهل إلا دخله الإسلام تلك الليلة، تأمل! تجد لديهم استسلاماً واستجابة فورية.(108/9)
عاقبة المصر على ذنبه الرافض للاستجابة
المصيبة في هذا الزمان أن كثيراً من الناس ما استجاب رغم أنه يدعى منذ زمن، كم سمع من المواعظ والخطب وقرأ القرآن وهو يُمني نفسه ويسوف به الشيطان؟ يحضر كل جمعة الخطبة، ويسمع بصريح العبارة بياناً من الله: أن الغناء حرام ولكنه مصر على الغناء، فبيته مليء بالغناء، وكأنه يعاند الله، الله يقول: {اسْتَجِيبُوا} [الأنفال:24] وهو يقول: أنا مستجيب، لكن هذه لا.
يسمع كل يوم أن النظر للنساء لا يجوز، وهو مصر على النظر، ما استجاب لله في هذه الأوامر، وأن الله حرم عليه الربا، وهو مُصر على الربا، وأن الله حرم الزنا وهو يتوق إلى الزنا، وأن الله أمره بالصلوات الخمس في المسجد مع الجماعة من غير تأخير ولا تعللات، -خصوصاً العشاء والفجر- وهو لا يأتي إلا صلاة الجمعة مرة في الأسبوع، أو الظهر لأنه في الدوام، يريد أن يأخذ نصف ساعة من الدوام باسم الصلاة، ولكنه يوم الخميس لا يذهب للجماعة لأنه في البيت، أو المغرب لأنه أتى من التمشية، لكن العشاء والفجر، هنا الاختبارات الربانية لا يصمد فيها إلا أهل الإيمان، أما أهل النفاق فإن فشلهم يظهر فيها، كما جاء في الحديث -وهو صحيح- قال عليه الصلاة والسلام: (أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء والفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً) والله لو يدري المنافق ما في الفجر والعشاء ثم ما استطاع أن يأتي إلا حبواً على قدميه وركبتيه ويديه والله ما تأخر، لكن لا يدري المسكين ما هو أجر أدائها جماعة، ولا يدري ما هو إثم التخلف عنها! لكنه سيدري عندما يدخل القبر في غرفة التحقيق، هناك يقول: {رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون:99] يقول الحسن البصري: فتقول الملائكة: لَمَ ترجع؟ فيقول: {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:100]، لكي أصلي الفجر، وأصوم، وأعمل الصالحات، فتقول الملائكة: كذبت! أنت من هناك أتيت، أنت من سبعين سنة وأنت على المعاصي والمنكرات وقاطع صلاة، ولما ضرب رأسك في القبر تقول: ردوني، أنت كذاب.
قال الله عز وجل: {كَلَّا} [المؤمنون:100] وهي أداة ردع وزجر وتوبيخ لهذا الكذاب المتلاعب، الذي يعيش ليله ونهاره بعيداً عن الله، وعند دخول القبر يقول: ردوني أعمل صالحاً، قال الله: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَإِذَا نُفِخَ فِي الصورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المؤمنون:100 - 102] أي: بالإيمان والعمل الصالح فأولئك هم المفلحون، نسأل الله من فضله {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} [المؤمنون:103] أي: ليس لديه شيء من الحسنات فهو مسكين مفلس، وإن كان عنده في الدنيا عمارة أو وظيفة، أو رصيد، أو منصب، لكن ما عنده شيء في الآخرة، ولما انتقل إلى الآخرة لم يتزود بشيء من الدنيا، فهو لا ينزل قبره بملابسه، ولا سيارته، ولا عمارته ولا أي شيء، لا ينزل القبر بالبدلة الرسمية الموحدة عند الناس كلهم: الكفن، هل هناك تمييز بين الناس في الكفن؟ لا.
الأمير والمأمور، والملك، والمملوك، والغني والفقير، والقوي والضعيف، كلهم يُدخل القبر بزي موحد، قال الله: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} [الأنعام:94]، أين عماراتكم ومتاعكم وأولادكم؟ لأن الكفار قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [سبأ:35] يقولون: نحن عندنا مال ورجال، نمتنع بالمال، وندفع بالرجال، نحن أصحاب ثراء، أصحاب رءوس أموال، قال الله تعالى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى} [سبأ:37] والله لا تنفعكم أموالكم شيئاً إلا من كان عنده شيء آخر غير هذا المتاع الزائف، يقول سبحانه وتعالى: {إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ:37].
يقول فرعون لأهل مصر: (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:51 - 52]، كان فرعون يرى موسى في أقل درجة، وكان يقول: أنا ربكم الأعلى، لكن أين هو الآن؟ قال الله: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ * وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ} [غافر:46 - 47] لكن ما تنفع هذه المحاجّة.
فيا عبد الله -يا مسلم- يقول الله عز وجل: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} [الكهف:105] ليس لهم قيمة، {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} [المؤمنون:102 - 103] ما عنده شيء مما ينفع في الآخرة.
الآن لو دخل علينا في هذا المجلس ملك الموت -ألسنا على يقين بأننا سنموت كلنا- وقال: يا جماعة! يا أهل هذا المسجد! أنا مأمور بقبض أرواحكم كلكم، وكل واحد يخبرني بما عنده من زاد، وكلكم سيتكلم: أحدكم سيقول: أنا عندي صلاة، وآخر سيقول: أنا عندي قرآن، وثالث يقول: أنا عندي عمارة على الشارع العام، سيقول له: اسكت ما تنفع هذه، ويقول الرابع: أنا مدير، فيرد عليه: لا تنفعك إدارتك، الخامس يقول: أنا عندي أربعة أولاد، وعندي زوجتان، وعندي سيارة، وعندي، فيقول: كلها لا تنفع، أين أصحاب الصلاة والزكاة؟ فيقومون.
أين أهل الحج والعمرة؟ فيقومون.
أين أهل القرآن والذكر والعبادة؟ هؤلاء هم الذين سينتفعون بما قدموا، أما من كان عنده شيء من الدنيا فلا.
قال: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ * أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} [المؤمنون:103 - 105] يا من تصر على سماع الغناء، والنظر إلى الحرام، والزنا والمعاصي وأنت تسمع آيات الله تتلى عليك، أين عقلك؟ يقول الله: {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [المؤمنون:105]، والتكذيب هنا تكذيب عملي؛ لأن التكذيب القولي للكفار والتكذيب العملي للمنافقين الذين يسمعون أمر الله ويرفضونه، قال الله عز وجل: {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:106 - 107]، يقولون: أخرجنا لترى كيف نصنع، لترى منا العمل والعبادة؟! أيها الأخوة! أسألكم بالله، هل من المنطق والمعقول أن يسوف الإنسان بالمعاصي والذنوب حتى يدخل النار، ثم يقول رب أرجعني؟ فلم لا تعمل من الآن، أم تريد أن تجلس حتى تصل إلى ذلك المصير، ثم تطلب الرجوع ولا تجاب؟ أين عقلك؟! لا إله إلا الله!! فيكون الرد عليهم: {قَالَ اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108] هناك تُمنع المراجعة، {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ} [المؤمنون:109 - 110]، تتفكهون بهم، وتسخرون منهم، فإذا رأيتم شاباً ملتزماً أطلق لحيته ورفع ثوبه، قلتم: معقد أبله، وإذا رأيتم من يسحب ثوبه ويكنس الشوارع كالمرأة، قلتم: فلان رجل اجتماعي.
{وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ} [المؤمنون:110] قال الله: {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون:111].(108/10)
أهمية المسارعة إلى الاستجابة والصبر عن المعاصي
هذه الدعوة لك يا أخي المؤمن أن تصبر على وعورة الطريق، واستهزاء المستهزئين، وآلام ومعاناة ترك المعاصي، إذا أردت أن تترك الغناء لن تكون هذه الخطوة سهلة عليك، ستحس برغبة وشوق إلى سماع أشياء قد تعودتها، لكن قل لنفسك: أريد أن أسمع كلام الله في الجنة، أريد أن أسمع خطاب الحور العين في الجنة، أريد أن يسلم علي الله، ويقول: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:24] أنا أضحي بالأغاني هذه في سبيل تلك الدار الخالدة، ولما أجري مقارنة أجد أن الفرق شاسع والبون عظيم، لكن يحتاج إلى صبر، قال عز وجل: {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون:111]، ثم يُخاطب أهل النار، فيقال لهم: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ} [المؤمنون:112] كم بقيتم في الدنيا حتى ضيعتم طاعة الله، وطال عليكم الأمد، لأنكم تقيسون الآخرة على الدنيا، يوم الآخرة خمسون ألف سنة، والدنيا ستون سنة فهي أقل بكثير من يوم: {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [المؤمنون:113] يقولون: نحن لسنا متأكدين فهل مكثنا يوماً أو بعض يوم: {فاسْأَلِ الْعَادِّينَ} [المؤمنون:113] أي: الذين عندهم تسجيل وعدد، فيقول الله لهم: {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً} [المؤمنون:114] والله ما نلبث في هذه الحياة إلا قليلاً قياساً على الآخرة {لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ * وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ * وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} [المؤمنون:114 - 118].
لا بد يا أخي أن تستجيب لأمر الله؛ فقد سمعت الكثير، وقامت عليك الحجة، ما بقي عليك إلا أن تقول: إليك يا رب! تائباً مستسلماً منيباً، لا تتردد ولا تؤجل؛ لأنك ربما تموت اليوم، بعض الناس يقول: أنا ما زلت شباباً، يا أخي! كم مات من الشباب مثلك، آلاف من الشباب ماتوا، فهل عندك ورقة أنك لن تموت إلا بعد عشرين سنة، فإذا كان عندك صك بهذا فنقول لك: ما عندنا مانع، ونقول: أخِّر التوبة وقبل الموت بيوم أو يومين تهيأ واستعد، أما ما دام عندك علم بأنك ستموت والموعد مجهول، ما تدري متى الموت فكن دائماً على أهبة الاستعداد، فإن مد الله في أجلك كان لك بكل يوم تعيشه درجة في الجنة، وإن فاجأك القضاء والقدر فإنك لن تتأسف ولن تندم ولن تقول: {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:99 - 100].
فتب يا أخي من الآن وصحح المسار، ومن تاب من الذين قد هداهم الله في الماضي والتزموا بدين الله فعليهم الثبات، إذا عرفت الهداية فلا تلتفت عنها لأنك قد ترجع، الآن سلكت الطريق إلى الله، والله يقول: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام:153] فلا تلتفت يميناً ولا شمالاً ولا تتوقف؛ لأنك إذا توقفت لحقك إبليسُ وردك، ولكن سِرْ إلى الله بالليل والنهار، بالسر والجهر، حرصاً على طاعة الله، ومحافظة على فرائض الله، وتلاوة دائمة لكتاب الله، وملازمة للذكر، ومتابعة لحلق العلم، وأمراً بالمعروف، ونهياً عن المنكر، ودعوة إلى الله، وحباً في الله، وبغضاً في الله، وطاعة للوالدين.(108/11)
طاعة الوالدين خطوة في طريق الاستجابة
هناك مشكلة عند كثير من الطيبين وخصوصاً الملتزمين فتجده طيباً، ويصلي، ويصحب الإخوة في الله، ويذهب إلى الندوات، لكنه عاصٍ لأمه، هذا لا خير فيه، لأن من لم يكن فيه خير فيه لأمه لن يكون فيه خير للناس، هي أولى الناس بِبِرك، في الحديث الصحيح يقول عليه الصلاة والسلام وقد سئل: (من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قيل: ثم من؟ قال: أمك، قيل: ثم من؟ قال: أمك، قيل: ثم من؟ قال: أبوك).
بعض الناس أولى الناس بصحابته زميله، فإذا دعاه زميله وهو جالس قفز كالحصان، وتدعوه أمه وهو جالس يرقد ما يريد أن يلبي لأمه أمراً، لا يجوز ذلك، فكن براً بها، طائعاً لها، منفذاً لرغباتها في غير معصية الله، قد تقول: إنها عاصية، تسمع الأغاني، ولا تصلي، فنقول لك: دورك هنا، من تريد أن يدعو أمك؟ هل تريد أن يأتي من الشارع من يدعو أمك إلى الاستقامة؟ إذا كنت عاجزاً عن دعوة أمك، فهل تريد أن تدعو الناس؟ عليك أن تدعو أباك وأمك أول الأمر، وقد يقول قائل: دعوت، ولم يستجيبوا، نقول: لا.
بل سيستجيبون لأنهم مسلمين وليسوا كفاراً، لكنك ما عرفت الطريق إلى قلوبهم، فعليك أن تدعوهم بغير منطق الأمر.
فبعض الشباب يدخل البيت صارخاً هذا حرام وهذا حرام ممنوع اقعدوا قوموا! فتقول أسرته: من أين أتانا هذا؟ من منذ أن اهتدى ما أراحنا في البيت يوماً والله ما ريحنا في البيت، لا يا أخي! هذا بيت ليس لك فيه أمر، إنما لك فيه الدعوة برفق فقط.
أولاً خذ نفسك بالكمال، أما أمك وأبوك وإخوانك فعاملهم باللطف واللين ثم قدم للبيت أكثر مما تأخذ، قد تقول: كيف؟
الجواب
في البيت رابط أربعاً وعشرين ساعة في البيت، لا تخرج إلا للصلاة وتعود، فإذا جاء أباك ضيفٌ إذا بك تصب القهوة، وإذا طرق الباب طارق إذا بك تفتح الباب، وإذا طلبوا منك مطلباً إذا بك تأتي به، ثم قدِّم خدمة لأمك، فإذا رأيتها تعمل في أي عمل شاركها فيه، كما لو كانت تكنس تقول لها: والله ما تكنسي هذه الغرفة أنا سأكنسها، واغسل الصحون فتقول لأمك: اليوم علي تغسيل الصحون، وتغسل الثياب في الغسالة وتقول: اليوم علي، أنا اليوم في البيت غداً أنا بمفردي، دعيني أتعلم، فماذا ستقول أمك؟ ستقول: بارك الله في ولدي هذا، منذ أن هداه الله وهو يغسل الصحون ويشتغل معي في المطبخ، تعتبر أمك الهداية أنك تغسل الصحون، فلما تأتي أمك وتقول لها: يا أمي ما رأيك فيما قمت به؟ فتقول: نعم أحسنت، والله يجزيك خيراً، لماذا؟ لأنك غسلت لها الصحون!! لكن بعض الشباب يدخل غرفته، وقد رتبت أمه غرفته، لعل لها نصف ساعة ترتبها، فإذا دخل كأنه عفريت يرجم المخدة هناك، والبطانية هنا، ثم يخرج ويتركها، وتدخل الأم وتقول: حسبنا الله! ما هذا الولد؟ حتى فراشه ما أراحني من ترتيبه، فتكرهه وتكره دعوته.
وإذا سألوه أين أنت؟ يقول: مع الزملاء لدي موعد وإذا دخل ألقى أوامر: افعل وافعل ولا ينفعهم بشيء؛ هذا يسيء بدعوته، ولا يمكن أن يستجيب له أحد من أهله، لكن باللطف، وبحسن العشرة، وبالمعاملة، وبالخدمة؛ يدخل الناس في دين الله أفواجاً.(108/12)
بشرى لمن استجاب لله
فيا من اهتدى وسار في الطريق! امشِ، ويا من يتردد! حوِّل الوجهة وانطلق، وكن منتظراً للجزاء العظيم، الذي يقول الله فيه في سورة الرعد: {لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى} [الرعد:18] ما هي الحسنى؟ الجنة {وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [الرعد:18] هل تريد الجنة أم تريد النار؟ كل واحد يقول: أريد الجنة، فهل تريدها بلا مقابل؟ لو أتيت صاحب المخبز وقلت له: تقول: أريد قرصاً من الخبز.
فسيقول: هات ريالاً فلو قلت: ما عندي، فماذا يقول لك؟ سيقول: اذهب وابحث عن ريال!! وأنت تريد جنة عرضها السماوات والأرض بلا مقابل وأنت على المعاصي والذنوب، وبعضهم دجال يخادع الله ويقول: إن الله غفور رحيم، هل الله غفور رحيم لك ولأمثالك؟ نعم إنه غفور رحيم لكن للمؤمنين الذين إذا ساروا في الطريق، وزلت أقدامهم ووقعوا في معصية وتابوا وغفر الله لهم، أما المعاندون لله المحاربون له والذين استدبروا أمره عز وجل ويقولون: الله غفور رحيم، فلا.
ألا وصلُّوا على خير خلق الله فقد أمركم بذلك مولاكم، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر الكفرة واليهود والملحدين وأعداء الدين، اللهم أنزل عليهم بأسك الشديد وعذابك الأكيد فإنهم لا يعجزونك، اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اجعل عملهم في رضاك، واهدهم إلى هداك، وارزقهم البطانة الصالحة، ودلهم على ما يرضيك، إنك على كل شيء قدير، اللهم من أرادنا في هذه الديار أو غيرها من ديار المسلمين بسوء أو شر أو كيد فاجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره في تدميره، وأنزل عليه بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين.
اللهم أصلح شباب المسلمين، اللهم أصلح جميع المسلمين، اللهم بصرهم بهذا الدين، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، اللهم نور على أهل القبور قبورهم، اللهم اغفر للأحياء ويسر لهم أمورهم، اللهم فرِّج همَّ المكروبين، واشفِ مرضى المسلمين، واقضِ الدين عن المدينين، واكتب الصحة والسلامة لنا والعافية والعودة إلى أهالينا، وجميع المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا غيث الإيمان في قلوبنا، وغيث المطر في بلادنا وأوطاننا، اللهم إن بالعباد والبلاد من اللأواء والشدة والضيق ما لا نشوكه إلا إليك، فلا تحرمنا يا مولانا من فضلك، واسقنا الغيث، ولا تجعلنا من القانطين.
عباد الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90] اذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(108/13)
رسالة إلى العروسين
إن الحياة الزوجية مسئولية مشتركة بين الرجل والمرأة، فلكل واحد منهما على الآخر حقوق وعليه واجبات أوجبها الشرع، ولا تحصل السعادة الزوجية إلا إذا قام كل واحدٍ منهما بهذه الحقوق والواجبات، بانياً ذلك على أساس طاعة الله سبحانه وتعالى، وإقامة الأسرة الإسلامية ذات الدين.(109/1)
أهداف الزواج الشرعي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد: فهذه رسالة أوجهها وهي منبعثة من الأعماق، مجللة بأحر التهاني وأحلى الأماني، لكل شاب وشابة ارتبطا برابطة الزواج الشرعي, في ظل تعاليم الدين الإسلامي، وشجرة ديننا العظيم الوارفة, وأنا أتمنى أن تكون جميع إجراءات الزواج قد تمت حسب أوامر الشرع، بعيداً عن التصورات الجاهلية، والتصرفات البالية التي انتحلتها أفكار الجهلة والمبطلين, فإن كان ذلك فهنيئاً لهما، وإن كانا على غير ذلك فإنني أطلب منهما سرعة التوبة والإنابة والاستغفار، وأن يفتحا صفحة جديدة مع الله عز وجل لتتم لهما السعادة في الدنيا، وليحصل لهما الفوز والفلاح في الدار الآخرة.
ولما كانت الحياة الزوجية ذات أثر فعال في حياة الزوج والزوجة، وهي مسئولية مشتركة بإذن الله فقد أحببت أن أتوجه إلى العروسين ببعض الوصايا؛ لتكون معالم لهما للسير بأمان في مجاهيل هذه الحياة؛ ليعيشوا حياة زوجية ترفرف عليها السعادة بسلام, ولينقلبوا بعدها إلى دار السلام في جنة عرضها السماوات والأرض.
هذه الرسالة أوجهها بدافع الحرص على مصلحتهما، بعد أن لاحظت كثرة الفشل في الزواج، وارتفاع نسبة الطلاق مما يدل على وجود خلل في التعامل، وسوء فهم في الواجبات والحقوق، وعدم معرفة للوسائل التي يجب أن تسلك لعلاج المشاكل؛ لذا أحببت تقديم هذه الرسالة مع علمي أنها لن تجد فراغاً في وقت الزوجين الجديدين خصوصاً في (شهر العسل) مع تحفظي على تسميته بـ (شهر العسل)؛ فإن هذه التسمية ليست وليدة الإسلام ولا تصرفات المسلمين، هذه جاءت من البيئات الكافرة؛ لأنهم يرتبطون في الزواج من أجل الجنس فقط, وليس هناك أهداف غير الجنس, كما يرتبط الحمار بالحمارة يرتبط الكافر بالكافرة قال تعالى: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179] ولذا يستنكحون شهراً فيسمونه شهر العسل، فإذا ذهب ما في قلوبهم من الجنس تحول العسل إلى بصل وخربت الحياة.
أما في ظل الإسلام فالحياة الزوجية ليست شهر عسل، ولا سنة عسل، ولكن كلها عسل, منذ أن يرتبط المسلم بالمسلمة إلى أن يموت وهما على ضوء الدين، حياتهم كلها عسل وسيكملون العسل -إن شاء الله- في الجنة، يقول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:21] ويخبرنا الله في سورة غافر أن الملائكة تقول: {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [غافر:8] وقال الله عز وجل: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:23 - 24] نسأل الله وإياكم من فضله.
حياة المسلمين كلها عسل، ولكن إذا علمتما مقدار ما بذلته في توجيه هذه الرسالة، فلعل ذلك يدفعكما إلى بذل شيء من الوقت في سماعها, وأفضل وقت للاستماع: هو وقت النزهة بعد صلاة العصر, إذا قلت: يستمعون في الليل فإن الوقت لا يناسب, لكن بعد العصر يتمشّى ويتركها إلى جواره ويشغل الشريط ويذهبون إلى مكان ما, ساعة ذهاب وساعة إياب، يمكن أن سماع هذا الشريط ينفع جداً, واسمعه مرة وثانية وثالثة، ثم ارفعه على أمل أن تسمعه بعد شهر أو شهرين أو ثلاثة؛ لأنك إذا استمررت عليه أكثر من ثلاث مرات قد تمل الشريط ويمكن أن تكرهه, ولكن أبعده فترة ثم إذا رأيت مشكلة بين الأسرة فخذ الشريط وقل: أريد أن أسمع الشريط الذي سبق أن سمعناه يمكن أن نستفيد منه مرة أخرى.(109/2)
من أهداف الزواج: اختيار ذات الدين
تختلف دوافع الزواج وأهدافه وأغراضه من شخص لآخر، ومن بيئة لأخرى، بحسب اختلاف نظرة الإنسان إلى هذه الحياة, فبينما نجد البعض يهدف في نظرته ودوافعه من الزواج إلى مستوى لا يرقى إلى معنى الإنسانية, حين يجعل الهدف محصوراً في المتعة الجسدية، واللذة الجنسية التي يشاركه فيها الحيوان والبهيمة, نجد الإسلام لا يقر شيئاً من هذه التصرفات، وإنما يهدف من وراء الزواج إلى عقد رابطة روحية سامية فاضلة، تنظر إلى كل متطلبات الإنسان بشقيه وجانبيه المادي والروحي.
ولذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو يبين الأهداف الرئيسة التي يقصد من ورائها الزواج في الإسلام، قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه البخاري في الصحيح: (تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك).
لمالها: أصحاب رءوس الأموال هم أتباع اليهود؛ لأن اليهود أشد الناس حباً للمال، قال تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة:96] حياة اليهودي كلها تدور حول فلك الريال, ولذا سيطروا الآن على رءوس أموال العالم كله, فالذي عنده نزعة لحب المال فيه شبه منهم.
ولحسبها: أتباع أبي جهل , الجاهليون الذين لا يؤمنون بما ورد في كتاب الله، ففي سورة الحجرات قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13] هذه الآية مرفوضة عند الجاهليين, يقولون: لا.
هناك ذكر (أصلي) وذكر (تقليد) والله يقول في آدم وحواء: ذكر وأنثى, والذي لا يؤمن بهذه الآية يكفر بالقرآن, والذي يكفر بالقرآن يخرج من دين الله, البشر كلهم يرجعون إلى آدم وحواء, الوضيع والشريف، والكبير والصغير، (والقبيلي) و (غير القبيلي) هذه الطبقيات التي يتعارف الناس عليها الآن ما أنزل الله بها من سلطان, لقد جاء الإسلام وأعلن وحدة الجنس البشري, وأعلن أن الناس سواسية كأسنان المشط، وأن سبيل التفاضل بينهم هو التقوى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ} [الحجرات:13] لماذا؟ لتتفاضلوا؟ لا.
بل {لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13] فالجاهليون يبحثون عن الحسب, وإذا جاء صاحب الدين يريد أصله وفصله, ولا يقول: ما دينك؟ لا حول ولا قوة إلا بالله! والثالث وهم أصحاب الجمال: وفيهم شبه من النصارى؛ لأن النصارى شقر العيون وشقر الشعر، وفيهم مسحة جمال, فكثير من الناس فيه لذعة من هؤلاء، إذا جاء الشخص بدأ يتفقد ما لونه؟ كم طوله وعرضه؟ كيف عيونه؟! وكيف فمه؟ وكيف خدوده؟ وكيف شكله؟! ولا يسأل عن دينه وصلاته وخوفه وبكائه وخشيته من الله عز وجل.
ثم قال: ولدينها: هذه الأخيرة من صفات أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم, هذا هدف أهل الإيمان، والحديث في صحيح البخاري: (فاظفر بذات الدين تربت يداك) فالزواج بذات الدين هو الزواج الناجح، وإلا أحاط بالإنسان سوء النتيجة، وخسران البضاعة، كمن لا يجد في يديه شيئاً غير التراب بعد السعي الطويل والعمل الكادح, تربت يداك إذا تزوجت بواحدة من أجل مالها، يقول: (لا تزوجوا النساء لمالهن فعسى مالهن أن يطغيهن, ولا تزوجوا النساء لجمالهن فعسى جمالهن أن يقبحهن, ولا تزوجوا النساء لحسبهن) ثم قال في حديث آخر: (من تزوج المرأة لمالها أورثه الله فقرها, ومن تزوجها لجمالها أورثه الله قبحها, ومن تزوجها لحسبها أورثه الله مذلتها, ومن تزوجها لدينها أورثه الله بركتها)؛ لأن المال والجمال والحسب وإن كان من متطلبات الزواج إلا أنه لا يصح أن يكون أساساً لهذه العلاقة المتينة، إذ لا بد من شيء أقوى من شهوة المال والحسب والجمال وإلا لانهارت هذه الصلة, ولكن إذا تزوج بذات الدين، وكان مع الدين جمال ومال وحسب فهذه حسنة الدنيا قدمت لك قبل الآخرة, فاحمد الله عليها.(109/3)
من أهداف الزواج: تحقيق قوة الإيمان بالله
الزواج في حد ذاته آية من آيات الله الدالة على عظمته، قال عز وجل: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:21] أي: من الآيات والعلامات الدالة على عظمة الله هذا الزواج.
فبينما نرى الزوج والزوجة وهما غريبان عن بعضهما، تقوى بينهما الصلة والعلاقة، وتتنوع بينهما أساليبها, وتزرع المودة والرحمة, وتتولد الثقة والطمأنينة لدرجة أن تصبح الزوجة من ألصق البشر بزوجها, بحيث لا تستطيع العيش بدونه، وهو كذلك, وهناك هدف يتحقق من وراء الزواج وهو قوة الإيمان بالله عن طريق التأمل والتفكر والنظر في هذه الآية.(109/4)
من أهداف الزواج: عمارة الأرض ببقاء الجنس البشري
من أهداف الزواج في الإسلام: عمارة الأرض ببقاء الجنس البشري عن طريق التناسل عبر دائرة المسئولية؛ لأن هناك تناسلاً يأتي عن غير مسئولية وهو: تناسل الزنا والسفاح.
أما التناسل في الشرع ضمن دائرة المسئولية؛ أب يتزوج بامرأة فيأتي ولد يقوم الأب برعايته، وتدريسه، وتربيته حتى يخرج فرداً صالحاً في المجتمع.
لكن التناسل عن طريق الزنا يوجد مشاكل، ويخرج في المجتمعات أفاعي, أترون الشيوعية أين انتشرت؟ الشيوعية والبلشفية التي نادى بها ماركس ولينين في روسيا، نادى بها في صفوف اللقطاء الذين ليس لهم آباء وسماهم الكادحين, ودعاهم وقاموا معه وقامت الثورة؛ لأنهم كانوا يشكلون أغلبية كبيرة في المجتمعات الكافرة من كثرة وجودهم, لكن في ظل الدين لا يقوم إلا الإسلام إن شاء الله.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد والطبراني وصححه ابن حبان: (تزوجوا الولود الودود -الولود في نكاحها, الودود في أخلاقها- فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة).(109/5)
من أهداف الزواج: إيجاد البيت المسلم
من أهداف الزواج: إيجاد البيت المسلم الذي يشكل الخلية الأولى في المجتمع، وعلى قدر صلاح الأسرة يتقرر صلاح المجتمع, ولن يتأتى صلاح الأسرة إلا إذا صلحت المقاصد والنيات.
هذه بعض الأهداف التي يهدف إليها الإسلام من وراء الزواج, ولكن إذا تحققت هذه الأهداف، وحصل الزواج الذي ينظر إليه الإسلام على أنه رباط نفيس يجمع بين شخصين، قد لا يكون بينهما رابطة أو صلة من قبل، فيجعلهما تحت سقف واحد، هي من الشرق وهو من الغرب، لكن بالزواج تترك أباها وأمها وإخوانها، ومجتمعها، وبيتها الذي عاشت فيه سنين طويلة، وتأتي غريبة مع هذا الرجل تحت سقف واحد، ويحملهما تبعة ومسئولية تكوين هذه الخلية التي يعيشان فيها، وغالباً ما يختلف الزوجان في كثير من النواحي البيئية، والثقافية، والمعيشية، والوضعية.
وبعض الناس ينكر على زوجته حتى طريقة الأكل, فهي أتت من بيت كانت تأكل فيه بطريقة لا يحبها, وهو كذلك يأكل بطريقة لا تحبها.
وأيضاً في النوم هي تنام بطريقة لا يريدها, فهي غريبة عليه، فليس هناك توافق بينهما، وهذا لا بد منه.
لكن متى يحصل الانسجام؟ مع الزمن يحصل الانسجام, فإن -تبعاً للبيئة- كلاً منهما يتميز عن الآخر من حيث العواطف والمشاعر والميول والآلام والآمال التي قد تكون وليدة إحساس خاص، أو جوٍ نفسي معين، ولكن بمقدار تغلب الزوج والزوجة على هذه العوامل، وإيجاد الحلول المناسبة للمشاكل، والتكيف على جو الحياة الزوجية الجديد بمقدار ما تقوى الرابطة، وتدوم المودة، وتصلح الحياة.(109/6)
حقوق الزوجة على الزوج
أيها الإخوة: وحتى لا يتحطم عش الزوجية السعيد نتيجة لهذه العروض البسيطة فقد حدد الشرع لكل من الزوجين حقوقاً، وألزم الطرف الآخر بالقيام بها، كما حدد على كل منهما واجبات، وألزم كلاً منهما القيام بها, وما دمتما أيها العروسان العزيزان في أول الطريق فإن من الضروري جداً أن يعرف كل منكما ما هي الحقوق التي يلزمه القيام بها للآخر, وسأبدأ بذكر حقوق الزوجة على الزوج فأقول:(109/7)
من حقوق الزوجة على زوجها: المهر
أول الحقوق التي أوجب لها الشرع: المهر، فالمهر لها وليس لوالدها, والمهر: أن يبذل الرجل شيئاً من الصداق للمرأة، قال عز وجل: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء:4] والأمر هنا موجه للأولياء وللأزواج, أي: يا ولي المرأة! أعطها مهرها، ويا أيها الزوج! أعطها مهرها {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} [النساء:4].
والمهر عطية محضة من الله, فرضه الله للمرأة تطييباً لخاطرها, وتعبيراً عن رغبة الرجل فيها, ورمزاً لإكرامها وإعزازها.
ليس من الإسلام ما نراه اليوم من استبداد الآباء والأولياء بمهور النساء، وليس -أيضاً- من الإسلام ما يرتكب في بعض البيئات من النظرة التجارية، والمغالاة في المهور، والمبالغة في التكاليف والشكليات الفارغة.
فهؤلاء بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأزواجه اللواتي هنَّ خير خلق الله في كل فضيلة، وأكمل نساء العالمين في كل صفة, ومع ذلك كان صداقهن (خمسمائة درهم) أي: ما يعادل (150) ريالاً؛ لأن المرأة عزيزة وليست سلعة تباع وينتظر بها أعلى سعر, فهذا الحق الأول وهو مهرها.(109/8)
من حقوق الزوجة على زوجها: النفقة
الحق الثاني: وجوب النفقة على الزوج، وتشمل النفقة: الطعام، والشراب، واللباس، والسكن، والعلاج، وما تحتاج إليه لقوام بدنها.
والإنفاق أمر نسبي بحسب حالة الزوج، ولم يحدد الشرع قدراً معيناً، ولكنه يخضع لظروف الزوج ودخله، ولظروف مجتمعه الذي يعيش فيه: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7] أي: من ضيق عليه في دخله فلينفق مما آتاه الله, أي: (يمد رجليه على قدر فراشه) فلا يتوسع، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها, فحق لها أن تطعمها وتكسوها وتسكنها وتعالجها وتصرف عليها بحسب إمكانك, لا تضييق ولا تعجيز ولا إرهاق لك بحيث لا تستطيع أن تقوم بهذا الواجب.(109/9)
حريتها في اختيار الزوج
من الحقوق التي أعطاها الله للزوجة: حريتها في اختيار الزوج: فليس في الشرع إكراه وإلزام، لا بد من أخذ الرأي في الزواج, فإن كانت بكراً فعلامة رضاها أن تسكت, فإذا سكتت فسكوتها علامة على أنها قبلت, أو تضحك, أو تبكي، فبعض النساء من كثرة فرحها تبكي, وهذا ذكره الفقهاء، وإذا تكلمت وقلنا لها: هل تريدين أن تتزوجي؟ قالت: لا.
والله لا أريد أن أتزوج, لا يجوز شرعاً أن تكرهها, ولا يجوز شرعاً بعد أن تعبر هي عن رغبتها في الرفض، وتقول لك: لا أريد أن أتزوج.
وتقول أنت: لا بد أن تتزوجين, فهذا حرام في الشرع ولا يجوز, هذا بالنسبة للبكر.
أما بالنسبة للثيب فلا ينفع ضحك ولا ينفع بكاء، ولا ينفع إلا الكلام, لا بد أن تقول: نعم رضيت: (البكر تستأذن، والثيب تستأمر).
والزواج من أدق وأهم قضايا المرأة في حياتها, وأمسها بمستقبلها, فلا بد أن يكون لها رأي فاصل في قضيتها الشخصية, وفي مستقبل أيامها, فلا تكره على أمرٍ يخصها، وهذا يدل دلالة عظيمة على احترام الإسلام لرأي المرأة, فليست سلعة تجبر، وإنما يؤخذ رأيها، فإذا وافقت فالحمد لله، وإن رفضت فلا نجبرها.(109/10)
من حقوق الزوجة على زوجها: وقايتها من النار
قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6] بم تقيها من النار؟ بتعليمها دين الله, وتربيتها عليه, وتأديبها على الشرع, وحملها على معرفة ما يجب عليها من حقوق شرعية كأمور الصلاة.
وبعض النساء في بيت زوجها لها عشر سنين لا تعرف كيف تتوضأ, ولا يوجد يوم من الأيام قام فيه زوجها -وربما يكون طالب علم أو مدرساً- بأخذها إلى مكان الوضوء ليريها الوضوء الشرعي أبداً, لكنه لو دخل يوماً من الأيام وزوجته لم تطبخ الطعام لأرغى وأزبد، وحرك الدنيا من أجل أنها لم تطبخ الطعام, ومع ذلك تجده لا يسألها: هل صليتِ؟ لأنه يهمه من أمره ما لا يهمه من أمر الله -والعياذ بالله- بينما هذه حقوق لله يجب أن تقدمها على حقوقك, فتعلمها ما يجب عليها من الأمور الشرعية كالصلاة والطهارة من الحيض الطهارة من النفاس الطهارة من الحدث الأصغر الطهارة من الجنابة، وكيف تغتسل.
وبعض النساء الآن تطهر من الحيض وتجلس يومين أو ثلاثة لا تصلي, لماذا وقد تطهرت قبل يومين؟ قالت: أتأكد أني طهرت, ويمر عليها صلاة أو صلاتان أو أكثر وهي تمدد الإجازة, وتفرح بأسبوع من كل شهر تستريح فيه من الصلاة، وتمددها من عندها ثلاثة أيام، تصبح عشرة أيام من كل شهر لا تصلي, وزوجها لا يخبرها بشيء, فهذه مصيبة ومسئولية على زوجها.
وعليه أن يعلمها مكارم الأخلاق التي علمنا إياها الشرع: من الوفاء والصدق، والبر والصلة، والرحمة والكرم والشجاعة في الأدب, فلا تكون جبانة ولا بذيئة، ولا تكون باستمرار إذا فعلت شيئاً أو أخطأت لا تستطيع أن تقول: أنا أخطأت؛ لأنها تخاف منك، فإذا كسرت الباب قالت: والله هبت الريح, أو خربت شيئاً تخاف ولا تعترف, هذا لا يجوز؛ لأنها إذا خانتك في هذه خانتك في أكبر منها, فعلمها وازرع الثقة في نفسها، وبعد ذلك قل لها: أنا أغلط وأنتِ تغلطين لكن أكبر غلط أنكِ تغلطين وتقولين لي كلاماً آخر, فإذا رددتِ فتحملي المسئولية, فإذا أخطأت عليكِ أو شتمتكِ أو ضربتكِ أو ذهبت بكِ إلى أهلك فهذه بسيطة، ولكن تكذبين عليّ وبعد ذلك أعلم أن الذي كسر هذا هو أنت فهذه هي المصيبة.
فازرع فيها مكارم الأخلاق عملاً بقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6].(109/11)
من حقوق الزوجة على زوجها: الغيرة عليها
وهذا حق مضيع عند أكثر الناس, فعليه أن يغار عليها، وأن يصونها ويحفظها من كل ما يلم بها من أذى في نظره، فالذي يظهر زوجته وهي متخضبة ومتعطرة ويقول: أريدك أن ترحبي بالرجال! قالت: إني أستحي, قال: والله إن امرأة فلان دخلت علينا البارحة، هذه المرأة الصحيحة.
أما أنتِ فلا تظهرين على الرجال, أنتِ لست راجلة, فتقوم المسكينة وتتزين وتقول: أهلاً وسهلاً!! والناس كلهم ينظرون إلأيها، هذا -والعياذ بالله- خائن في أمانته؛ لأنه عرض جوهرته على الرجال, ما رأيك إن كانت حسناء؟ الناس يتمنونها, وإن كانت غير جميلة فالناس يرحمونك ويقولون: هذا مسكين معه هذه القبيحة! ولهذا أسلم شيء لك أن تصون امرأتك، فإن كانت جميلة فلك، وإن كانت غير ذلك فعليك؛ لأن الزوجة أعظم كنز يكنزه الرجل, فلا يليق به أن يعرضها، ويجعلها سلعة تلوكها الألسن، وتلتهمها الأعين, وتجرحها الأفكار والخواطر, والغيرة من أخص صفات الرجل الشهم الكريم, ولا تعني بالضرورة سوء الظن بالمرأة أو عدم الثقة بها, بل هي دليل على كمال الرجولة، وكمال الحب للمرأة؛ لأن بعض النساء تقول: ما تثق بي تغطيني؟! لا.
أثق, لكن من ثقتي أغطيكِ, ولو أنني لا أثق بك ولا أحبكِ فلن أعطيك, ولكن من ثقتي بك وحبي لكِ وغيرتي عليكِ أغطيكِ عملاً بأمر الله وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.(109/12)
من حقوق الزوجة على زوجها: عدم تلمس عثراتها
من حقوقها: ألا يُخوِنها ويتلمس عثراتها؛ لأنه يوجب سوء الظن فيها من غير دليل واضح, أما إن قامت عندك أدلة ورأيت شكوكاً فلا تتعامَ؛ لأن بعض الناس يرى شيئاً ويقول: إنها لا تخون أولادي وهو يراها, فيدس رأسه في الرمال مثل النعامة حتى تكبر القضية, لا.
إذا رأيت ما يوجب شيئاً فتحول وخذ بالعزيمة.
أما إذا كانت الأمور قائمة على البراءة، وعلى الطهارة، فلا يجوز لك أن تجري تفتيشاً وزيارات مفاجئة ومكالمات؛ لأن هذا تخوين وتلمس للعثرات: (ومن تتبع عورة مسلم تتبع الله عورته, ومن تتبع الله عورته فضحه الله في عقر داره).(109/13)
من حقوق الزوجة على زوجها: المعاشرة بالمعروف
من الحقوق: المعاشرة بالمعروف.
قال الله عز وجل: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء:19] وقال سبحانه: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ} [البقرة:228] وذلك يشمل الإحسان والإنصاف والعدل, لا تقل: هذه المرأة لا عليك منها, حتى إن بعض الناس يقول في المجالس: المرأة الله يكرمكم!! الأنثى الله يكرمكم!! هذا ليس من الدين, من هي المرأة؟ المرأة هي أم الرجال, وهي بنت الرجال, وهي أخت الرجال, والمرأة هي شقيقة الرجل، وهن شقائق الرجال, خاطب الله في القرآن الرجال والنساء سواء، قال تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب:35] وبعد ذلك قال الله عز وجل: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران:195] هذه ليست سلعة رخيصة بل هي غالية ونفيسة, ولها كرامتها عند الله عز وجل, فلا بد من العدل معها, ولا بد من الإحسان إليها, ولا بد من الإنصاف, وبذل الخير, واحترام الرأي, وكف الأذى, وغض الطرف عن الهفوات والزلات, ولا تكون عينك مفتوحة باستمرار على السلبيات من زوجتك, ففي الحديث: (لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقاً رضي منها آخر) والحديث صحيح، (لا يفرك) أي: لا يبغض, لا تكن عينك على السيئات كالذباب الذي لا يقع إلا على الشيء السيئ, لا.
إذا رأيت شيئاً سيئاً تذكر شيئاً أحسن منه؛ ليلغي من نفسك هذا الشيء السيئ, وغض الطرف عن الهفوة والزلة ولا تحملها، وإن اعتذرت فاقبل عذرها.
وعليه من باب المعاشرة بالمعروف: التحبب إليها، والاستماع إلى حديثها، واحترام رأيها، وإكرام أهلها؛ لأن إكرام أهلها إكرام لها, لا تسب أباها، أو إخوانها، أو أحداً له علاقة بأهلها في المجلس، كأن تقول: ما فيهم خير لا, دائماً اذكرهم بخير؛ لأن هذا ينعكس على نفسيتها, كذلك أنت لا تريد زوجتك أن تقدح في عرض أبيك أو أمك أو أخيك أو جماعتك، فهي كذلك لا تريد ذلك, هذا كله من العشرة بالمعروف، هذه بعض حقوق الزوجة على الزوج.(109/14)
حقوق الزوج على زوجته
أما حقوق الزوج على زوجته فهي:(109/15)
من حقوق الزوج على زوجته: طاعته في المعروف
إذ أن مقتضى قوامته عليها أن تطيعه في حدود استطاعتها, روى الإمام أحمد والنسائي، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي أن حصين بن محصن قال: حدثتني عمتي قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أذات بعل أنت؟ قلت: نعم, قال: كيف أنتِ له؟ قلت: ما آلوه إلا ما عجزت عنه -أي: لا أقصر في طاعته وخدمته- قال: انظري أين أنتِ منه؛ فإنما هو جنتك ونارك) وروى ابن حبان وصححه الألباني قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا صلت المرأة خمسها, وصامت شهرها, وحصنت فرجها, وأطاعت زوجها قيل لها: ادخلي الجنة من أي أبوابها شئت).
ويروي الحاكم والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راضٍ دخلت الجنة) والطاعة في المعروف، إذ لا طاعة للمخلوق في معصية الخالق, بعض النساء تريد أن تتحجب لكن زوجها يأمرها أن تكشف فتقول: أطيعه لأنه زوجي, لا.
إذا أمرها بأمر يتعارض أو يتضاد مع أمرٍ من أوامر الله فإنه يلزمها أن تستجيب لأمر الله وأن ترفض أمره؛ لأن طاعته إنما تكون في المعروف: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق).(109/16)
من حقوق الزوج على زوجته: أن تؤدي حقوق زوجها أكثر من حقوق والديها
من حق الزوج على امرأته: أن تنظر إلى أن حقه أعظم عليها من حق والديها, حق الزوج أعظم من حق الأب والأم على المرأة، لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الناس أعظم حقاً على المرأة؟ قال: زوجها, قلت: فأي الناس أعظم حقاً على الرجل؟ قال: أمه).
بعض الناس إذا تزوج تحول من عند أمه وتوجه إلى زوجته, لا.
أمك ثم أمك ثم أمك ثلاثاً، وبعد ذلك أبوك، وبعد ذلك أدناك أدناك، ويمكن أن تأتي المرأة في المرتبة العاشرة, فهو ينقلها من المرتبة الأخيرة إلى المرتبة الأولى, وينزل الباقين كلهم لماذا؟ لأنه ليس عنده خوف من الله, ولا حول ولا قوة إلا بالله!(109/17)
من حقوق الزوج على زوجته: ألا تصوم تطوعاً إلا بإذنه
ومن حقه عليها: ألاَّ تصوم تطوعاً وهو حاضر إلا بإذنه؛ لأن هذا يمنعه من الاستمتاع بها.
أما الفريضة فتصوم بغير إذنه, لكن أن تتطوع وتصوم نافلة وهو موجود لا يجوز لها، إلا أن تقول له: ما رأيك هل أصوم غداً؟ فإن أذن لها وإلا فلا يجوز لها أن تصوم؛ لأن صومها يحول دون استمتاعه بها، للحديث الذي رواه البخاري ومسلم: (لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه).(109/18)
من حقوق الزوج على زوجته: ألا تأذن لأحدٍ بالدخول إلى منزله إلا بإذنه
ومن حقه عليها: ألا تأذن لأحد بالدخول في منزله إلا بإذنه، لحديث: (لا يحل للمرأة أن تأذن في بيته إلا بإذنه).(109/19)
من حقوق الزوج على زوجته: ألا تخرج من بيته إلا بإذنه
أيضاً من الحقوق: ألا تخرج من بيته بغير إذنه مهما كانت الأسباب والمبررات, حتى الخروج إلى المسجد, ولزيارة والدها أو والدتها حتى ولو كانا مريضين، نعم.
فلا يجوز, ولو كانا سيموتان لا يجوز, فلا تخرج إلا بإذنه, ما هو الدليل على ذلك؟ ما روى الطبراني: {أن رجلاً سافر عن امرأته ومنعها من الخروج، فمرض أبوها فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيادة أبيها، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: اتقي الله ولا تخالفي زوجك، فمرض أبوها حتى مات وهي في البيت, فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حضور جنازة والدها, فقال لها: اتقي الله ولا تخالفي زوجك، فأوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم: أني قد غفرت لها بطاعتها لزوجها) غفر الله لها بهذا الأمر, وذلك لأن طاعة الزوج واجبة، وعيادة المريض مستحبة، فلا تترك الواجب للمستحب, ولكن لا ينبغي للزوج أن يضيق على المرأة وأن يمنعها من الخروج إلى والديها؛ لأن في ذلك قطيعة لها وحملاً لها على معصيته, وليس هذا من المعاشرة بالمعروف التي أمر الله بها, ليس كل الحقوق ينبغي أن تطالب بها, إذا عرفت أنه لا يجوز أن تخرج إلا بإذنك فلا تكن شديداً تضطرها إلى الخروج, عليك أن تكون مرناً تسمح لها بالحقوق, مثل المدير والموظف أليس الموظف لا يستطيع أن يخرج إلا بإذن المدير؟ لكن ما هو موقف المدير عندما يرى الموظف جاء إليه واستأذنه, يستحي ويقول: حاضر, لكن إذا كان كلما استأذنه قال: لا.
والله لا تخرج!! فماذا يحصل للموظف؟ إما أن ينقل أو يفصل ويخرج, فكذلك المرأة إذا ضيقت عليها وقلت: لا تخرجي لا تخرجي احترمتك حتى تعبت ثم خرجت, فيجب أن تكون مرناً في حدود الحاجة, فإذا كانت هناك ضرورة تقتضيها وزوجتك تذهب إلى بيتٍ وأنت تعرف أن هذا البيت طاهر وليس فيه شر فلا يوجد مانع, لكن المكان الذي فيه ريبة لا.
وألف لا.(109/20)
من حقوق الزوج على زوجته: أن تحفظ ماله
من حق الزوج على زوجته: أن تحفظ ماله وما يودعه في البيت من نقود أو متاع أو أثاث, وألا تتصرف فيه إلا بإذنه؛ لأنها راعية في بيت زوجها, ومسئولة عن رعيتها, والحديث في صحيح مسلم: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) وذكر منهم: (والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها) وقد أثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشاد، ومدح المرأة التي تحنو على زوجها، وتشفق عليه، وتحفظ ماله، وتوفر عليه في مصارفه، فقد روى النسائي والبيهقي، عن أبي هريرة قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (أي النساء خير؟ قال: التي تسره إذا نظر, وتطيعه إذا أمر, ولا تخالفه في نفسها ومالها بما يكره).(109/21)
من حقوق الزوج على زوجته: ألا تطالبه بما يرهقه وبما هو فوق طاقته
ومن حقه: ألا تطالبه بما يرهقه وبما هو فوق طاقته, وأن ترضى منه بالقليل, وأن تشكره على ما يقدم لها من طعام، أو شراب، أو ثياب، إذا أتى لها بثوب ولو كان لا يعجبها تقول: كثر الله خيرك, وبارك الله فيك؛ لأنها إذا مدحته يذهب ويأتي بثوب أحسن, لكن إذا رأته قالت: ما وجدت إلا هذا القماش!! قال: حسناً اتركيه والله لا أحضر لك بعد ذلك أبداً!! فالمفروض أن تشكره حتى تدفعه إلى أن يعطيها, لكنها إذا حطمته لم يعد يعرف شيئاً, حتى ولو أراد أن يشتري ثوباً حسناً يقول لنفسه: وإن كان حسناً فإنها ستقول: ليس حسناً! فعليها أن تشكره على ما يقدم لها من طعام أو شراب أو ثياب مما هو في قدرته, وأن تدعو له بالخلف, إذا جاء وأعطاها قالت: أخلف الله عليك رزقك الله كثر الله رزقك, فإذا قالت هذا الكلام فيضطر أن يعطيها ولو أدى إلى أن يحتجب من ثيابه هو؛ لأن التعامل بين الناس يجب أن يكون على هذا, فكيف بينك وبين الزوجة؟ يجب أن يكون على أعظم درجة من الأدب والأخلاق الفاضلة.(109/22)
من حقوق الزوج على زوجته: تدبير المنزل
ومن حقه عليها: تدبير المنزل؛ والتدبير هو وضع الشيء في موضعه, هذا هو التدبير, وهو الاقتصاد والاعتدال، وألا تسرف في الماء، بإمكان المرأة وهي تغسل الأواني أنها تستغرق الماء كله.
وبعضهن تفتحه إلى آخر شيء, ثم يدق الهاتف فتذهب تتكلم والماء يصب، ثم تأتي بالأواني وقد ذهبت كميات كبيرة من الماء، فهذا ليس من التدبير, إنما هذا من الإسراف وهذه خيانة للزوج؛ لأن الزوج إذا انتهى الماء فهو الذي يأتي بالماء ليست هي, وهي التي أسرفت به, وإذا انتهى اللحم وهي تسرف فيه تقول: اذهب اشتر لحماً, وإذا انتهت الفاكهة تقول: اذهب واشتر فاكهة, فمن حقه عليها التدبير في أمرها بحيث تقتصد في النفقة، وتقوم بالخدمة المتعارف عليها من طبخ وكنس وفرش وتنظيف، وذلك ليتفرغ الرجل للعمل، وللعلم، وجلب متطلبات الأسرة, فواجب الرجل أن يأتي بالمتطلبات الخارجية, وواجب المرأة أن تقوم بالخدمة داخل البيت.(109/23)
من حقوق الزوج على زوجته: أن تبر أهله وأقاربه
ومن حقه عليها أيضاً: أن تبر أهله وأقاربه خصوصاً والديه, إذ يجب عليها برهما، وإكرامهما، وخدمتهما شكراً لله على ما أنعم عليها من ولدهما الذي أصبح زوجها, بعض النساء أول ما تكره من الناس أم بعلها، حسناً! من أتى لك بالبعل هذا الذي تتمتعين به ليل نهار؟! هذه الأم، فالمفروض أنك تعرفين فضلها، وتعرفين واجبها وتقدرينها أكثر من أمك، أما أن تتخذيها عدوة؟! لا.
ولا حول ولا قوة إلا بالله! وما يذكر من الخلاف اللازم بين أم الزوج وبين الزوجة أمر مستغرب جداً، فهو من كيد الشيطان, ومن إضلاله لإفساد الترابط الأسري، ولحمل الزوج على عقوق والدته ووالده.
ودور الزوجة الصالحة يجب أن يكون بارزاً في التحمل، وعدم إثارة المشاكل، والصبر على ما تجد من ألم أو مرارة أو من سوء معاملة من الأم أو من الأب, وعدم الشكوى إلى الزوج من والدته, لا تكون كلما دخل تقول: أرأيت أمك ما فعلت؟ والله إنها قالت وقالت! فماذا يفعل؟ أتريدين أن يذهب ويضرب أمه؟ اصبري, ليس كل قضية تحملينها إليه.
بل تحمَّلي؛ لأنك تضعينه أمام خيارات صعبة؛ لأن هذه الأم وهذا الأب بمنزلة الضيف الذي سيرحل عما قريب, فهذه الأم ستعيش أياماً وليالي سنتين أو ثلاثاً أو أربعاً وبعد ذلك تموت, فهي ضيفة عندكم لا ينبغي أن تسيئي إليها -أيتها المرأة- وأن تضعي زوجك أمام خيارات صعبة، إما التضحية بأمه، أو التضحية بزوجته.(109/24)
من حقوق الزوج على زوجته: حفظ عرض الزوج
آخر الحقوق وأهمها: حفظ عرض الزوج بعدم التبرج, والكشف على غير المحارم, أو الخلوة بالأجانب, حتى ولو كان شقيق زوجها, وعليها أن تصون سمعته، فلا تجعلها مضغة في الأفواه، وأن تراعي شعوره, وتتحرى ما يرضيه، وتتجنب ما يسخطه ويؤذيه.(109/25)
وصايا للبنات عند زواجهن(109/26)
وصية أسماء بنت خارجة لابنتها
روي أن أسماء بنت خارجة الفزاري قالت لابنتها عند زفافها، ونرجو من الأمهات أن يسمعن ويوصين بناتهن هكذا, ليس بالعكس، فبعض النساء إذا أوصت ابنتها قالت: احذري، من حين أن تذهبي لا تخضعي له, أنت بنت رجال, اجعلي لنفسك شخصية, فإنه إذا رآك لينة ضيعك، ولكن كوني عنيدة فتخرب عليها من أول شيء!! قالت أسماء بنت خارجة الفزاري لابنتها: "إنك خرجت من العش الذي درجت فيه إلى فراش لم تعرفيه, وقرين لم تألفيه, فكوني له أرضاً يكن لك سماءً، وكوني له مهاداً يكن لك عماداً, وكوني له أمة يكن لك عبداً".
وهذا واقع فعلاً، إذا رأيت امرأتك تتواضع تضطر أن تكون عبداً لها, لكنك إذا رأيتها تتكبر عليك تضربها على وجهها, وإذا دخلت وهي مبتسمة وراضية وقالت: حياك الله وعسى ما تعبت اليوم؟ وكيف العمل اليوم؟ وكيف الأمور؟ وتقرب لك الطعام بسرعة, تضطر أنك إذا أكملت تأخذ الصحون وتغسلها معها، لماذا؟ تبادلها هذه الخدمة, لكن إذا دخلت وهي تقول: ما هذا الدوام؟ أنا في أشغال وآتي وألقى لي مشاكل هنا فبالعكس! "ولا تلحي عليه في الطلب فيكرهك".
نريد أن نذهب إلى الأهل هذه الليلة, فإذا قال: نذهب فحسن، وإذا قال: لا.
فلا تقولي: أرجوك, الله يرزقك ويعطيك العافية, هذا الإلحاح يجعله يوافق وهو كاره, وإذا كره كرهها هي نفسها.
"ولا تبتعدي عنه فينساك, إن دنا منك فاقربي إليه, وإن نأى عنك -متعباً يريد أن يجلس ليرتاح- فابتعدي عنه, واحفظي أنفه وسمعه وعينه, فلا يشمنّ منك إلا أطيب ريح, ولا ينظر منك إلا إلى أحسن منظر جميل, ولا يسمع منك إلا أحسن كلام" لأن هذه هي القنوات التي تصب إلى القلب.(109/27)
وصية عبد الله بن جعفر لابنته
أوصى عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ابنته عند زواجها فقال: [أي بنية! إياك والغيرة، فإنها مفتاح الطلاق -الغيرة العمياء التي تغارها بعض النساء على زوجها في غير موضع ريبة، هذه والعياذ بالله تفسد الحياة وتفتح الطلاق- وإياك وكثرة العتاب؛ فإنها تورث البغضاء].(109/28)
وصية أمامة بنت الحارث لابنتها
وأوصت أمامة بنت الحارث ابنتها حين زفتها إلى زوجها فقالت: "يا بنية! لو أن الوصية تترك لفضل أدب أو لتقديم حسب لزويت عنك؛ ولكنها تذكرة للغافل -أي: الوصايا- ومئونة للعاقل, أي بنية! لو أن امرأة استغنت عن زوجها لغنى أبويها وشدة حاجتهما إليها لكنت أغنى الناس عن ذلك, ولكن للرجال خلق النساء, ولهن خلق الرجال.
أي بنية! احفظي عني عشر خصال: 1 2/ الصحبة بالقناعة، والمعاشرة بالسمع والطاعة, فإن في القناعة راحة القلب, وفي الطاعة مرضاة الرب.
3 4/ تعاهدي موضع عينه، وتفقدي موضع أنفه، فلا تقع عينه منك على قبيح, ولا يشمنّ منك إلا أطيب ريح.
5 6/ تحري وقت طعامه، واهدئي حين منامه, فإن حرارة الجوع ملهبة, وتنغيص النوم مغضبة.
انظروا هذا الكلام، يمكن أن يكون أصول الحياة, يدرس في الجامعات، وهي امرأة عادية؛ لكن تقول: انتبهي وقت الطعام ووقت المنام, لا تؤخري طعامه ولا تنغصي منامه, فإن تأخير الطعام على النار يغلي، وهو يسمع القدر يصدر الصوت وهي نائمة إلى الساعة الثانية ثم تقوم تطبخ! فيغضب لذلك, يقول: بدل ما كنت أداوم سبع ساعات، الآن أداوم ثمان ساعات من أجلها، هذا بدون إضافي, وبدل ما كنت أرتاح قبل العصر الآن ليس عندي راحة, فيغضب ويأكل كأنه يأكل في دمه, لكن ما أجمل أن تكون الزوجة مهيئة للطعام بمجرد دخوله والطعام جاهز, ثم بعد ذلك اهدئي عند منامه إذا أراد أن ينام، تأخذ أطفالها وأولادها وتذهب بهم في شقة بعيدة، وتسكتهم، وترقدهم، وتجلس معهم ولا يسمع لهم صوتاً, وتراعي الوقت إذا قال: أيقظيني الساعة كذا تضع الساعة عند عينها, ثم تأتي توقظه بلطف, لكن بعض النساء إذا قال زوجها: أريد أن أنام قامت تضرب أولادها يبكى ذلك ويصيح الآخر!! مسكين هذا, أين يذهب لينام؟ أيذهب في الشارع؟ أم في المكتب؟ أم في القهوة أو الفندق؟ إذا كان بيتك الذي هو سكن لك ما وجدت راحة أين ترتاح أيها الإنسان؟! 7 8/ احرصي على ماله، وراعي عياله, وملاك الأمر في المال حسن التدبير، وفي الأهل والعيال حسن التقدير.
9 10/ لا تفشي له سراً, ولا تعصي له أمراً, فإنك إن أفشيت سره لم تأمني غدره, وإن عصيت أمره أوغرت صدره".(109/29)
القول الجامع في أدب الزوجة
القول الجامع في أدب الزوجة: أن تلتزم بيتها, ولا تكثر الخروج إلا لحاجة ضرورية, وأن تكون قليلة الكلام, تحفظ بعلها في غيبته, وتطلب مسرته ورضاه في حضرته, ولا تخونه في نفسها ولا في ماله, ولا تخرج من بيتها إلا بإذنه, فإن خرجت لضرورة خرجت مختفية في هيئة رثة، وتحترز أن يسمع لها صوتاً أو يعرفها أحد, فهمها صلاح زوجها, وتدبير بيتها, والإقبال على صلاتها وصيامها, وقراءة كتاب ربها, قانعة بما رزقها الله عز وجل.
وفي اعتقادي أيها الإخوة وأيها العروسان: أنه إذا قام كل من الزوج والزوجة بالحقوق التي ذكرناها فإنه لن يكون هناك مجال للخلاف, إذا التزم كل واحدٍ بهذه الحقوق وقام بالواجبات فلن يكون هناك خلاف, وسيترتب على ذلك قيام الحياة الزوجية السعيدة، ولكن مع كل ذلك لا تخلو الحياة الزوجية من مشاكل ومنغصات مهما كان, حتى بيت النبي صلى الله عليه وسلم كان يحدث فيه بعض المشاكل, وهذا شيء طبيعي في حياة البشر, فالكمال لله, والزوجة التي ليس فيها عيب ولا نقص هي في الجنة, والزوج الذي ليس فيه نقص هو في الجنة, ومهما حاول الزوج أو الزوجة أن يجتهدا إلا أنه قد يحدث، ليس في كل يوم إنما في السنة أو في كل ستة أشهر.(109/30)
وسائل حل المشاكل الزوجية والقضاء على الخلاف
أما إذا حدثت مشكلة في كل أربعة أشهر أو خمسة أشهر فهذا شيء طبيعي مشكلة في غمرة الدنيا وفي حالة الضعف البشري فعليك أن تقوم بحل هذه المشكلة والقضاء على الخلاف بوسائل:(109/31)
من وسائل حل المشاكل الزوجية: التحلي بالصبر
على كل من الزوجين التحلي بالصبر والتحمل وعدم التصرف السريع في حالات الغضب والانفعال, فيلزم على الزوجة ألا ترد على زوجها في كلمة يقولها, كلما يقول لها: كذا قالت له: وأنت كذا, وقال: أنتِ فتقول: وأنتْ فلا ينفع الكلام, فماذا يفعل هو؟ قد يستعمل وسيلة أخرى، يضربها على وجهها, فإن ضربته رجمها، فإن رجمته قام خبطها، فإذا خبطته طلقها, فماذا بقي معه ماذا يفعل؟ لكن إذا قال لها كلمة وسكتت انطفأت, لكنها عندما ترد عليه لا بد أنه سينفعل, فالرجل باستمرار يحب أن تكون له السلطة في نهاية الأمر, لا يحب أن تكون آخر كلمة تقال له, يريد أن تكون آخر كلمة منه هو, فعلى المرأة بالدرجة الأولى ألا ترد عليه بكل كلمة يقولها.
كما يلزمه أيضاً أن يترفع عن السباب والشتائم, وأن يكون عتابه لائقاً وأدبياً.(109/32)
من وسائل حل المشاكل الزوجية: الانتقال من مكان المشكلة
على الزوج في حالات الخلاف والمشاكل أن يخرج من الغرفة التي وقع فيها الكلام, إذا رأيت المشكلة كبرت قم وقل: أعوذ بالله من الشيطان، واذهب إلى غرفة أخرى, وإذا اقتضى الأمر فليخرج من المنزل, حتى تهدأ العاصفة، ويذهب الغضب، وتعود الأمور إلى مجاريها، وإذا عدت إلى المنزل فيجب عليك أن تبدأ بالسلام, لا تدخل وأنت مغضب, ومع السلام ابتسامة ولو كنت غاضباً, ويجب على المرأة أن ترد عليه السلام بابتسامة, ولو كانت غير راضية؛ لأن هذه أول خطوة في سبيل الوفاق ونزع الخلاف والقضاء على المشكلة.(109/33)
من وسائل حل المشاكل الزوجية: ألا تخبر المرأة أهلها بما حدث بينها وبين زوجها
لا ينبغي لكِ أيتها الزوجة الكريمة أن تنقلي شيئاً، وهذا مهم وأنا أوصي به كل شخص يعلم امرأته في أول ليلة ويقول لها: لا تنقلي شيئاً مما يحدث بينكِ وبين زوجك من الخلافات إلى أهلك، فمن حين أن تذهب إلى أهلها تقول: والله إنه قال لي وعمل بي هذا لا يجوز, لماذا؟ لأنك بهذا توسعين شقة الخلاف, وتكرهين زوجك إلى أهلك, ولا تستفيدين شيئاً، إذ أن أهلك ليس بمقدورهم أن يعملوا شيئاً, ماذا يفعلون؟ أيضربونه؟! سوى أن ينظروا إليه بعين الكراهية, وأن يحملوا هذا الخلاف في قلوبهم, ولا ينسونه, بينما أنتِ سوف تصلحين مع زوجك وتنسين الخلاف معه, مع أول ابتسامة أو نظرة أو قبلة.
فعليك -أيتها الزوجة- ألا تنقلي شيئاً مهما حدث إلى أهلك، لأنك سوف تنسين المشكلة وأهلك لا يزالون يعيشونها، فلا تخبري أهلك بأي مشكلة بينكما ما دمت تؤملين البقاء مع زوجك، حتى على فرض أن الحياة أصبحت مستحيلة -لا سمح الله- وقررت القرار النهائي فهناك لا ينبغي -أيضاً- التشهير بالزوج؛ لقول الله عز وجل: {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة:237] ولا ينبغي تشويه سمعته, ولا الإساءة إليه, إذا طلقت المرأة وجاءها شخص وقال: ما الذي حصل؟ قالت: نصيب وقدر وانتهى, لكن بعض النساء تقول: فيه وفيه وفيه , هذا الكذب عندما تنشره يأتي النساء الأخريات ويقلن: لن نتزوجه, وهو ما كان يضربها إلا لأنها هي السيئة؛ لأنها لو كانت طيبة ما ضربها, فالضرب الذي أتى بها والعتاب الذي حصلت عليه وسوء التعامل بسببها هي, فتشرع تشوه سمعته، وتشهر به بين الناس, وهذا لا يجوز.(109/34)
من وسائل حل المشاكل الزوجية: ألا يخبر الزوج أحداً بما حدث بينه وبين زوجته
أنت أخي الزوج -أيضاً- لا تخبر أهلك ولا أهل زوجتك, ولا تشتك منها على أهلها, بعض الأزواج بمجرد أن يحصل بينه وبين امرأته شيء يأخذ نفسه ويذهب إلى أبيها ويقول: ابنتك فعلت وفعلت , فيقول الأب: هذا واجبك وهذه مسئوليتك، أنا لا دخل لي بها, أنا أعطيتك بنتاً تتعامل معها بالأسلوب الذي تريد, لا يجوز لك أن تشتكي إلى أهلها، فهذه مشكلتك وعليك مباشرتها بنفسك, وعدم إشغال الآخرين بمشاكلك, فلديهم من المشاكل ما يلهيهم ويغنيهم.(109/35)
من وسائل حل المشاكل الزوجية: مبادرة كل من الزوجين إلى الصلح
وإذا غضبتِ أختي الزوجة، وسمعت أي مبادرة بالصلح من زوجك فاستجيبي بسرعة, وبادري واشكري له طيب الخلق.
وأنت أيها الزوج! إذا بادرت زوجتك إلى استرضائك فسارع إلى الاستجابة, ولا تفكر -أخي الزوج- أثناء الغضب والخلاف بالطلاق, فكر في كل شيء إلا الطلاق, ولا يخطر لك على بال، فإن الشيطان قد يستغل نقطة الضعف التي تعيشها أثناء الغضب فيقحمك في هذه الورطة, ثم تحطم حياتك وتندم ولكن حين لا ينفع الندم, فالطلاق مخرج نهائي شرعه الإسلام عند فشل الحياة الزوجية، وعند عدم إمكانية استمرارها وليس سوطاً أو سيفاً تسله على زوجتك كلما غضبت عليها, وقد يظن بعض الشباب أن الطلاق هو الحل الوحيد لجميع المشاكل.
في حين كان بإمكانه أن يطرق وسائل أخرى، منها إعطاء الفرصة للتجربة بإرسال الزوجة إلى أهلها شهراً أو شهرين أو ثلاثة ليعرف الإنسان مدى قدرته على الصبر عنها, ولتعرف هي مدى قدرتها على الصبر عنه.
يقول لي أحد الإخوة حدث بينه وبين زوجته خلاف, وأدى الخلاف بعد أن تصاعد جداً، فغضبت هي وقالت: طلقني الآن, طلقني الآن, قال: عازمة الآن, فقالت: نعم, فقامت وأتت بالورقة, قال: دعيني أفكر إلى غدٍ, وأعطيك الخبر غداً, قالت: حسناً, وذهبت ونامت في غرفتها وأغلقت الباب, وهو نام في غرفته مغلقاً على نفسه, وفي الصباح ذهب للدوام, وجاء من الدوام ودخل وقال: هات الورقة التي معك أمس، قالت: لا أريد الطلاق، لو أنه أطاعها في تلك اللحظة وطلقها لندمت وندم هو أيضاً, أنت إذا رأيت المواضيع تأزمت وتأزمت قل: اذهبي إلى عند أهلك واجلسي شهراً, وبعد شهر تقبل عليك وأنت تقبل عليها, لكن لو تسرعت وطلقت ستندم ثم تذهب تستفتي ولكن لا ينفع الندم.
وأنتِ أيتها المسلمة! لا تحاولي أن تطلبي من زوجك الطلاق, وإذا لاحظت عليه رغبة في التصرف بهذا فسارعي إلى تهدئة الوضع علك أن تثنيه عن هذا التهور, حتى قال بعض العلماء: عليها أن تسد فمه، إذا رأته يتلفظ بها فلتلجمه, وتقول: والله لا تطلقني, يا أبا أولادي!! فتذكره.
وقد يحصل إذا رأيت -يا أخي المسلم- قصوراً أو نقصاً في القيام بالواجب فعالج هذا القصور والنقص بألطف الأساليب وأقرب الطرق، بالكلمة الطيبة والتوجيه الحسن بعيداً عن العصبية والإثارة.(109/36)
من وسائل حل المشاكل الزوجية: ألا تطلب المرأة من زوجها الطلاق
وأنتِ أيتها المسلمة! لا تحاولي أن تطلبي من زوجك الطلاق, وإذا لاحظت عليه رغبة في التصرف بهذا فسارعي إلى تهدئة الوضع علك أن تثنيه عن هذا التهور, حتى قال بعض العلماء: عليها أن تسد فمه، إذا رأته يتلفظ بها فتلجمه, وتقول: والله لا تطلقني, يا أبا أولادي!! فتذكره.
وقد يحصل إذا رأيت يا أخي المسلم قصوراً أو نقصاً في القيام بالواجب فعالج هذا القصور والنقص بألطف اsأسلأساليب وأقرب الطرق، بالكلمة الطيبة والتوجيه الحسن بعيداً عن العصبية والإثارة.(109/37)
من وسائل حل المشاكل الزوجية: الابتعاد عن المحرمات
من الأمور الهامة التي ينبغي التنبيه عليها لما لها من أثر كبير في سعادة الزوجين: الابتعاد عن المحرمات، والمعاصي كبيرها وصغيرها؛ فهي سبب كل مشكلة في البيوت؛ خصوصاً تلك المعاصي التي عمت وطمت وانتشرت وتساهل الناس بها، رغم ورود تحريمها والتحذير منها في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} [الجن:23] فهذه المحرمات والمعاصي هي سبب كل مشكلة في البيوت, والمعاصي كبيرها وصغيرها خصوصاً تلك المعاصي التي عمت وطَّمت وانتشرت، وتساهل الناس فيها حتى أصبحت أمراً عادياً ومقبولاً عند كثير من المسلمين، منها: ترك الصلاة, والكذب, والكبر, والغيبة، والنميمة, واليمين الفاجرة, والاختلاط, والتبرج, وحضور الحفلات المختلطة, وأكل الحرام, وأكل الربا, والتهاون في الواجبات, وعدم أداء الصلاة في المسجد, كل هذه المنكرات ظاهرة.(109/38)
من وسائل حل المشاكل الزوجية: الحرص على الطاعات والنوافل
كما ينبغي التنبيه على الحرص على الطاعات والنوافل، مثل: كثرة قراءة القرآن، وذكر الله, وقيام الليل, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رحم الله امرأً استيقظ من الليل فصلى ركعتين وأيقظ امرأته، فإن لم تستيقظ نضحها بالماء حتى تستيقظ, ورحم الله امرأة استيقظت من الليل فصلت ركعتين ثم أيقظت زوجها، فإن لم يستيقظ نضحته بالماء).
أحد الإخوة بارك الله فيه وفي زوجته, يقول: منذ أول ليلة وأنا لم أتعود قيام الليل, ولكنه تزوج بامرأة صالحة يقول: بعد أن قضى غرضه منها, قامت واغتسلت وهو نائم وجاءت إليه, يقول: فجلست تقرأ القرآن ثم مدت يدها على كأس عندها وأخذت ماءً بسيطاً ونضحته -فلم تصب كوباً, بعض النساء تقول: نضحته أي: تغرقه من أجل أن يضربها- أخذت قليلاًَ من الماء ثم أنزلته كالرذاذ على وجهي, وينزل عليّ الماء كأنه من مكيف, ماء من أصابع دافئة فاستيقظت, وجاءت بالحديث وقالت: (رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها فإن لم يستيقض نضحته بالماء) قالت: فأنا إن استجبت لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم رحمني الله عز وجل, يقول: فلما ذكرت الحديث خفت من الله, يدعو لها الرسول صلى الله عليه وسلم بالرحمة وأنا أقعد نائماً مثل الثور، يقول: فأقوم وأتوضأ وأصلي, ومن تلك الليلة ما تركت قيام الليل, يقول: فنتسابق أنا وهي من أجل رحمة الله فهي تقوم من أجل الدعوة, وأنا أحياناً أقوم من أجل الدعوة, ولكن أكثر الأوقات هي التي تقوم وتسبقني رغم أن عندها أولاداً وتنام متأخرة, لكنها تقوقظني وتنضح في وجهي الماء وتقول: قم: (رحم الله امرأة) وتذكره.
هذا أعظم شيء.
وينبغي للمرأة أن تذكر زوجها بقيام الليل، وقراءة كتب العلم، والاستماع إلى الشريط الإسلامي.(109/39)
من وسائل حل المشاكل الزوجية: الابتعاد عن الإسراف
ومما ينبغي الإشارة إليه: ضرورة الابتعاد عن الإسراف بجميع صوره وأشكاله في المآكل والملابس والمساكن، إذ أن الإنسان المسلم مجبول على الاعتدال، والاقتصاد، والاكتفاء بما هو ضروري، قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف:31] والمبالغة أو الاستغراق في مطالب البطن والجسد يدل على فراغ الإنسان، وعدم إدراكه للهدف الذي من أجله خلقه الله، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56 - 58].
فعليكما أن تبتعدا كلياً عن الإسراف، وأن يتم الاكتفاء بأقل الأمور, وتوفير المبالغ الزائدة وإرسالها إلى الأفغان وإلى المجاهدين في فلسطين , وإلى الفقراء والمساكين, وإنفاقها في وجوه البر، إذ ربما يوجد بقربكما أو من جيرانكما من هو في أمس الحاجة إلى الريال والمساعدة في أمور لا تؤثر عليكما، ولكنها ستكون ذات أثر كبير ونفع جليل لهم, فقد تكون الثياب المبتذلة عندكما ثياب عيد عند غيركما، قال تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:274] وهكذا.
ليس من خلق المرأة الجري وراء بيوت الأزياء والموضات، ومتابعة كل جديد وتقليد العمي, بل.
إن المؤمنة مستقلة النزعة وليست ذيلية تتبع كل ناعق، وتلهث وراء كل مستحدث.
فانتبهي أيتها الأخت الفاضلة! ولا تجعلي اهتماماتك محصورة في اهتمام الساذجات من النساء, اهتمي بالجوهر والمضمون, ولا ترهقي زوجك ولا تثقلي كاهله بكثرة الطلبات والكماليات.
من أهداف الزواج في الإسلام كما ذكرنا من قبل: تكثير سواد المسلمين, وعلى الزوج والزوجة المبادرة إلى الإنجاب والحذر من الاستجابة للدعوات المضللة التي ينادي بها أعداء الإسلام, والتي يقصدون من ورائها إضعاف المسلمين وكسر شوكتهم، وتقليل عددهم على المدى البعيد حتى يسهل القضاء عليهم, فتكاثروا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم مكاثرٌ بكم الأمم يوم القيامة.(109/40)
من وسائل حل المشاكل الزوجية: عدم تجاهل أم الزوج
في كثير من الأحيان تحدث مشاكل بسبب أطراف غير الزوج والزوجة، إما من أهل الزوج أو من أهل الزوجة, ولكن لو فكرنا قليلاً لوجدنا أن السبب الأول والأخير إما الزوج أو الزوجة, فمثلاً: تحدث المشاكل بين أم الزوج والزوجة بسبب تصرف الزوج حين ينصرف بكليته إلى زوجته -ويتجاهل والدته- في النظرة والابتسامة، والسهرة والتمشية والنزهة مما يوغر قلب أمه عليه وعلى زوجته التي تعتبرها سبباً لهذا الإعراض, وبالتالي تتولد الكراهية في نفسها لها.
والطريق الأمثل أن تتجنب -يا أخي- ملاطفة زوجتك أو مداعبتها أو التوجه إليها بالكلام في المجلس الذي تجلس فيه أمك, وقل لزوجتك على انفراد: هذا التصرف من أجل مداراة الأم, وأن بإمكانكما ممارسة كل ما تريدانه من الأنس والملاطفة ولكن عند عدم وجود الوالدة, كما ينبغي عليك أن تعرض على الوالدة الخروج معكما إلى النزهة مهما كانت, وأن تركبها في مقدمة السيارة وألا تدعها في البيت لمفردها, صحيح أنك ربما تريد حريتك مع زوجتك, وترى أن وجود الأم ربما يشكل عليك نوعاً من الضغط أو المضايقة, لكن لا.
إذا تركت أمك تولد في قلبها ناراً عليك وعلى زوجتك وتغضب, وعندما تخرج تقول لها: اذهبي معنا يا أمي! فإذا قالت: لا أريد أن أخرج, قل: لابد أن تخرجي, وتركب أنت وهي في مقدمة السيارة ولا تدعها في البيت وتخرج مع زوجتك فهذا يسبب لها ضيقاً شديداً ينعكس على التصرفات تجاهك وتجاه زوجتك.
أما الهدية والملابس والطيب والعطور مهما كانت، فلا تقدم شيئاً خاصةً لزوجتك إلا بعد تقديم ما هو أفضل لأمك, ولا تتذرع أنها كبيرة في السن, فإن القضية في نظرها قضية اعتبارية, تنظر إليها والدتك من عدة زوايا، فهي لا تريد أن تشعر أنها غير ذات أهمية في بيتك، وأنك قد اتجهت إلى غيرها.(109/41)
وصية إلى الزوجين بالتزام الطريق الصحيح
أخي الزوج! وأختي الزوجة: هذه بعض الوصايا التي أوجهها إليكما, وقبل أن أودعكما أود أن أذكركما بالآثار العظيمة التي تعود عليكما في الدنيا والآخرة إن أنتما التزمتما الطريق الصحيح، وسرتما على النهج الإسلامي القويم, أما في الدنيا: السعادة, والبركة, والرزق, والراحة, والأمن، والطمأنينة, وصلاح الذرية, ودوام الذكر: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97] وأما في الآخرة: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:89] الجنة سببها الهداية والعمل الصالح {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [يونس:9] الجنة ريحانة تهتز, وقصر مشيد, ونهر جارٍ, وثمرة ناضجة, وزوجة حسناء جميلة, وحلل كثيرة, ومقام أبدي في دار سليمة, وفاكهة وخضرة, أرضها وترابها المسك والزعفران, وسقفها عرش الرحمن, وملاكها المسك الأذخر: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ} [محمد:15] وحصباؤها اللؤلؤ والجوهر, ثمارها ألين من الزبد، وأحلى من العسل, وفاكهتها مما يتخيرون, ولحم طير مما يشتهون: {مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ} [ص:51] غلمانها وخدمها ولدان مخلدون {إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً} [الإنسان:19] هذا وأعظم نعمة يمن الله بها على أهل الجنة, أن الله عز وجل يحل عليهم رضوانه فلا يسخط عليهم أبداً, ويحادثهم، ويتجلى لهم، ويرونه سبحانه من فوقهم, فيا لذة الأسماع بتلك المحاضرة! ويا قرة العيون بالنظر إلى وجه الله في الدار الآخرة! {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23].
هذه آثار الهداية من أخذ بها نفعته في الدنيا والآخرة، ومن تركها ضل في الدنيا وشقي في الآخرة, ففي الدنيا الحيرة والضلال والقلق والاضطراب والفساد, وإفساد الأولاد ومحق بركة الرزق: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124] رفض لأنه لا يريد الهداية, الطريق واضحة أمامه أعلامها واضحة, وأماراتها واضحة, كالمحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك, فله وجبتان: الوجبة الأولى في الدنيا: قال الله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:123] والوجبة الثانية: قال تعالى: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124] تصوروا! رجلاً يحشر أعمى ويؤمر بالسير على الصراط, أعمى ويمشي على الصراط كيف يمشي؟! {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:125 - 126] الجزاء من جنس العمل, كذلك أتتك آياتنا في الدنيا فنسيتها وتعاميت عنها وتجاهلتها, كل شيء له في ميزانك ولبرنامجك مكان إلا القرآن والدين والهداية لا تريدها, للمباريات مكان, وللتمشيات مكان, وللمسلسلات, وللألعاب وللدوام وللنوم وللطعام, لكن للعلم للقرآن للصلاة للهداية لا.
هذا البرنامج فارغ, تأتي تقول له: هناك ندوة نحضرها؟ قال: ليس عندي وقت, أشغل نفسه بما لم يشغله الله به, أشغل نفسه بما يضره في الدنيا والآخرة -والعياذ بالله- فنعمة الهداية نعمة عظيمة جداً والله، وهي جديرة بكل اهتمام.
ويكفينا أنك بالهداية تنجو من عذاب الله من النار, يقول الله عز وجل: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ * وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:74 - 77] هذه أمنيتهم, يقولون: نريد الموت, وعرفوا أن النجاة منها مستحيلة، فقالوا: نريد الموت {قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77] لماذا؟ {لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ * أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ * أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} [الزخرف:78 - 80] وهم مضيعون، لا والله، سرك ونجواك -فضلاً عن ظاهرك- مسجل عند الله {بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف:80] كل شيء مسجل عليك: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:29].
{فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ} [الحج:19] التفصيل من نار, ثياب من نار {يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} [الحج:20 - 21] إذا تعبوا من العذاب بالمقامع {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الحج:22] أعاذنا الله وإياكم منها, ففيها ما لا يتصوره العقل، يقول الله عز وجل: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47].
وفي الختام أرجو قبول تحياتي وأحلى أمنياتي مع دعائي لكما من القلب بالتوفيق والسداد, وأن يثبتكما الله بالقول الثابت, وأن يأخذ بأيديكما إلى ما يحبه ويرضاه, وأن يجنبكما ما يسخطه ويأباه محبكما في الله: سعيد بن مسفر بن مفرح في مدينة أبها في يوم الثلاثاء الموافق (8/ 7 / 1409هـ) على صاحبها صلوات الله وسلامه عليه, والله أعلم, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(109/42)
كيف تنال محبة الله؟
إن أعظم ما يحصل عليه الإنسان من نعمة هي محبة الله سبحانه وتعالى محبة العلي الكبير محبة الغفور الرحيم، والله سبحانه إذا أحب عبداً حفظه وكلأه في الدنيا والآخرة؛ لذلك لابد على العبد أن يحرص على نيل محبة الله، متتبعاً في ذلك كل ما يحبه الله من الأعمال والأقوال، ومعرضاً عن كل ما يوجب بغض الله وغضبه، وقد ذكر الشيخ حفظه الله عشرة أسباب ينال بها العبد محبة الله ورضوانه وحمايته سبحانه وتعالى.(110/1)
الذين يحبهم الله
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: أيها الإخوة في الله! يروي أهل السنن دعاءً مأثوراً عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأفضل الأدعية، وأعظم الأذكار ما كان مأثوراً عنه صلوات الله وسلامه عليه؛ لأنه أعرف الناس بربه، وأعبدهم لله عز وجل، فإذا أردت أن تدعو أو أن تذكر الله، فابحث عن الدعاء المأثور الذي نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا مانع من أن تدعو بما شئت ولكن إن أردت الأفضل فأفضل الدعاء هو دعاؤه صلوات الله وسلامه عليه.
أُثر عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: (اللهم إني أسألك حبك، وحب من يحبك، وحب كل عملٍ يبلغني حبك، اللهم اجعل حبك أحب إليَّ من نفسي وأهلي، ومن الماء البارد على الظمأ) هذا الدعاء يتضمن رغبة النبي صلى الله عليه وسلم في نيل محبة الله عز وجل؛ لأنه إذا أُحب من قبل الله فقد ضمن النجاة، إذ أن الله إذا أحب عبداً لم يعذبه، إذا أحب عبداً تولاه، إذا أحب عبداً سدده ووفقه وهداه، فكان يسأل صلوات الله وسلامه عليه من ربه أن يرزقه حبه، وحب كل عملٍ يقربه إلى حبه، ثم يطلب أن يكون حبه لله أحب إليه من النفس ومن الأهل ومن الماء البارد على الظمأ.
وأيضاً يروي الترمذي مع أهل السنن حديثاً آخر فيه دعاءٌ مماثل يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم ارزقني حبك، وحب من ينفعني حبه عندك) تأملوا دقة الألفاظ النبوية.
ثم يقول: (اللهم ما رزقتني مما أحب فاجعله قوةً لي فيما تحب) أي: ما رزقتني من مال، وما رزقتني من جمال، وما رزقتني من منصب، وما رزقتني من جاه، وما رزقتني من أولاد، وما رزقتني من زوجات، وما رزقتني من ثروات (اللهم ما رزقتني مما أحب فاجعله قوةً لي على ما تحب) صلواته وسلامه على الرسول صلى الله عليه وسلم، اجعل المال الذي رزقتني وأنا أحبه قوةً لي فيما تحبه من العمل الصالح، واجعل المنصب الذي أنا أحبه قوةً أستعين به على ما تحب من العمل الصالح، واجعل الزوجة والأولاد والجاه والعمارة والسيارة، واجعل كل شيء رزقتني وأنا أحبه قوةً لي فيما تحب.
إذ أن من الناس من يرزق من هذه النعم فيجعله قوةً على ما يبغضه الله عز وجل، يستعين بالمال على معصية الله، ويستعين بالمنصب على معصية الله، ويستعين بالزوجة على معصية الله، ويستعين بالأولاد على معصية الله، ويصرف كل هذه النعم التي مَنَّ الله بها عليه في معصية الله، فيستعيذ النبي صلى الله عليه وسلم بالله، ويسأل الله عز وجل أن يجعل كل ما يرزق مما يحب عوناً وقوةً له فيما يحب تبارك وتعالى.
ويقول: (اللهم اجعل ما زويت عني مما أحب) ما زويت وما صرفت ولم تعطني إياه مما أحب.
وحب الطمع: لا تطمع فيما عند الناس؛ لأن الناس لا يملكون شيئاً أصلاً، والناس أيضاً فقراء، والله لو كان الشخص منهم مليونيراً وعنده ملايين الدنيا فإنه فقير؛ لماذا؟ يخاف على المال، لكن إذا طمعت فيما عند الله عز وجل أغناك الله، وعلم الله منك صدق التوجه واليقين، وصدق العبودية فيغنيك الله من فضله، ولا تطمع فيما في أيديهم فيعطيك الله، فازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس، واطمع فيما عند الله يحبك الله تبارك وتعالى.(110/2)
الأذلة للمؤمنين الأعزة على الكافرين
فعليك يا أخي! أن تجعل همك الأول والأخير كيف تنال محبة الله عز وجل، وقد جاءت الأوصاف في الآيات الكريمة وفي الأحاديث النبوية تبين من هم الذين يحبهم الله عز وجل، فيقول عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54] هذه صفاتهم: أذلةٍ على المؤمنين: رحماء، وأرقاء، ومتواضعين، ومتعاطفين كالعبد لسيده، وكالوالد لولده، لكن لمن؟ للمؤمنين وفي المقابل أعزة على الكافرين، أشداء كالأسد على فريسته، وكالعقاب على طريدته، لكن على من؟ على الكفار.
انظروا كيف الخلق؟ الإنسان ذو شخصيتين وهو مؤمن يحمل شخصيتين: شخصية الذلة والتواضع والرحمة والعطف والتسامح، وعدم الأخذ على الأخ، والتغاضي عنه والعفو عن زلته لكن للمؤمنين، أما على الكفار فأسد هصور لا يذل، لكن هل المؤمنون الآن في هذا الوضع؟! لا.
إلا من رحم الله، فهم -الآن- أعزة على المؤمنين وأذلة على الكفار ولا حول ولا قوة إلا بالله! هؤلاء لا يحبون الله ولا يحبهم الله.
من هم الذين يحبهم الله ويحبونه؟ {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] لأنهم اتصفوا بهذه الصفات {وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] بعد أن اتصفوا بهذه الصفات، لم يحبهم إلا لاتصافهم بها، ولم يعملوا هذه الصفات ولم يذلوا للمؤمنين ويعزوا أنفسهم على الكفار إلا لأنهم يحبون الله عز وجل: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّه} [المائدة:54] بالنفس والمال واللسان، لا تأخذهم في الله لومة لائم، هذه علامة صدق محبتهم في الله؛ لأن المحب الذي يخاف اللوم في محبوبه ليس بمحبٍ على الحقيقة، يقول:
أجد الملامة في هواك لذيذةً حباً لذكرك فليلمني اللَّوم
يقول: إذا لاموني أني أحبك فرحت وأجد الملامة لذيذة من أجل أن أتذكرك، ويقول:
إذا مرضنا تداوينا بذكركم فنترك الذكر أحياناً فننتكس
فذكر الله عز وجل أعظم شيء عند المؤمن حتى أنهم لا يخافون في الله لومة لائم، من يلومهم وهم في طاعة الله؟ لا يخشون أحداً إلا الله.
من الناس الآن من يخشى ملامة الناس في طاعة الله، يريد أن يطلق لحيته فيقول: الناس يلومونني عندما أطلق لحيتي، سبحان الله! أتخشى في الله لومة لائم؟ يريد -مثلاً- أن يلتزم بطاعة الله فيقول: الناس يلقبونني (مطوعاً) ويصنفونني في مكان! أتخشى في الله لومة لائم؟ يريد أن يقيم مشروعاً، يريد أن يغير منكراً، يريد أن يعمل عملاً صالحاً فيراقب الناس، هذا يخشى في الله لومة لائم، فهذا ليس ممن يحبهم الله، ولا ممن يحبون الله، فالذين يحبهم الله ويحبونه لا يخافون في الله لومة لائم، يخافون الله فقط، أما غير الله فلا يخشونه، ولا يخافون لومته؛ لأنهم يخافون الله ويخشونه ويحبونه، ويحبهم الله سبحانه وتعالى.(110/3)
أهل الصبر
أيضاً الذين يحبهم الله كثير وقد ذكرهم الله في القرآن وفي السنة، يقول عز وجل: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:146] يحب من يتصف بصفة الصبر، والصبر هو نصف الدين، الصبر هو القاعدة التي يقوم عليها الدين، والذي لا يصبر لا يمكن أن يكون مؤمناً، لابد من الصبر في طاعة الله، ولابد من الصبر عن معصية الله، ولابد من الصبر على أقدار الله المؤلمة.
أتريد أن تمارس العبادة بدون صبر؟! لا.
لا يمكن، فالعبادة مشقة، كونك تصلي الصلوات الخمس، كونك تقوم جزءاً من الليل، كونك تصوم، كونك تزكي، كونك تحج، كونك تعتمر، كونك تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر أو تقرأ أو تذكر أو تدعو، هذا جهد لابد فيه من ممارسة ومعاناة.
ولابد من صبر عن معصية الله؛ لأن في ترك المعاصي مشقة، والمعاصي محببة إلى النفس، والأغاني محببة، والنظر المحرم محبب، والغفلة محببة، والغيبة والنميمة محببة، والنوم والفراش الوفير والزوجة الجميلة والمتعة والشهوات، والأغاني والخمور والزنا كل هذه شهوات محببة، لكن المؤمن يحجز نفسه عنها ويستعين على ذلك بالصبر: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45] {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153] فالصبر إذا تحليت به كنت ممن يحبهم الله بنص القرآن، يقول الله عز وجل: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:146].(110/4)
أهل الإحسان
وأيضاً يقول الله عز وجل: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134] المحسن هو: الذي بلغ مرتبةً من مراتب الدين هي أعلى المراتب، فمراتب الدين ثلاثة: المرتبة الأولى: الإسلام.
والمرتبة الثانية: الإيمان.
والمرتبة الثالثة: الإحسان.
والناس يتفاوتون -فدوائر الدين والمكلفين هي خمس دوائر- الدائرة الأولى أوسع دائرة، وهي دائرة الكفار، والدائرة الثانية: دائرة المنافقين، والدائرة الثالثة: دائرة المسلمين، والدائرة الرابعة: دائرة المؤمنين، والدائرة الأخيرة: دائرة المحسنين، هذه لا يدخلها إلا قليل من الناس، وقد عرفها جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح فقال: (أن تعبد الله كأنك تراه) أي: أن تنكشف أمامك الحُجب، وتزول عن عينيك الحواجز والموانع، وتصبح تمارس العبادة كأنك ترى الله، تراقب الله كأنك تراه، تشعر برقابة الله عليك في جوف الليل وأنت ليس معك إلا الله فتمتنع عن المعاصي، تمر يدك على الإذاعة وتسمع أغنية كنت تتقطع لها وتحبها، وليس هناك من يراك أو يسمعك لكنك تعلم أن الله يراك، فتغلق (الراديو) وتزيل المؤشر منه خوفاً من الله، هذه مرتبة الإحسان، تمر في الشارع فترى امرأة متبرجة فاتنة وليس هناك من يراك لو نظرت إليها لكنك تعلم أن عين الله تراك، سئل الحسن البصري: بم نستعين على غض البصر؟ قال: [بعلمك بأن نظر الله إليك أسبق من نظرك إلى المنظور إليه] فإذا تيقنت هذا وعرفت أن الله ينظر إليك غضضت بصرك خوفاً من الله، وهذا هو معنى الإحسان، وهذه درجته، فالله يحب المحسنين، والمحسن هو: الذي يمارس عمله على أحسن درجة من الأداء، محسن في صلاته، محسن في زكاته، تجد الرجل والرجل يصليان وبينهما كما بين السماء والأرض، وشخص قلبه بين يدي الله وآخر قلبه في الحمامات.
نعم.
بعض الناس لا يفكر في صلاته إلا في أقذر شيء، بعضهم يفكر في صلاته في الحرام، كيف يصنع؟ كيف يغني؟! وهو في الصلاة يخطط للمعاصي -والعياذ بالله- وهما يصليان هذا محسنٌ وهذا مسيء، وسمي مسيئاً بنص الحديث، المسيء في صلاته لما عجل فيها وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ارجع فصلِ فإنك لم تصلِ) بينما المحسن هو الذي يمارس أداء العبادة على أحسن قدر من الإتقان، ولهذا كتب الله الإحسان في كل شيء حتى في الذبح وأنت تذبح الذبح موت وليس إحساناً، فهو إساءة وموت، لكن أحسن فيه، كيف تحسن؟ أرح الذبيحة، وحد شفرتك، وأجهز عليها: (وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته) هذا من الإحسان كما قال صلى الله عليه وسلم، فالله يقول: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134] وأيضاً هذه الآيات منطوقها يتضمن مفهومها: أن الله لا يحب غير الصابرين، وأن الله لا يحب غير المحسنين.(110/5)
التوابون المتطهرون
أيضاً يقول عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222] والتواب هنا صيغة مبالغة، لم يقل هنا: يحب التائبين، قال: (يحب التوابين) كثير التوبة الذي كلما وقع في ذنبٍ تاب إلى الله، والذي يستغفر الله في كل حين، والذي يتوب إلى الله في كل لحظة وفي كل وقت من الخلل الذي قد يقع فيه أثناء حياته ومعيشته في هذه الدنيا، فالله يحب التوابين ويحب المتطهرين.
المتطهر: هو الذي يتطهر ويتزكى ويترفع عن الآثام، وعن الذنوب، والمعاصي، وأيضاً يتطهر ظاهراً وباطناً، فظاهراً عن النجاسات، وباطناً عن المعاصي والذنوب والحماقات التي تبعده عن الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222] {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً} [الصف:4] هذه خاصة بالمجاهدين في أول سورة الصف: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [البقرة:222] وفي آية كريمة يقول الله عز وجل: {فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [آل عمران:76] الذين يجعلون بينهم وبين عذاب الله وقاية بفعل أوامره وترك معصيته.(110/6)
صفات لا يحبها الله سبحانه وتعالى
الله عز وجل لا يحب أشياء كثيرة ذكرها الله في القرآن الكريم، منها ما في قوله عز وجل: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205] ما هو الفساد؟ الفساد هو: عمل ضد الإصلاح، هناك إصلاح وهناك إفساد، فالإصلاح يكون على منهج الله، والإفساد يكون ضد منهج الله، والمنافقون يفسدون ولا يصلحون: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة:11] يتصورون عملهم السيئ الذي هو إفساد إصلاحاً، وهو في الحقيقة إفساد، قال الله عز وجل: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} [البقرة:12] فالله لا يحبهم ولا يحب عملهم: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205](110/7)
الفخر والاختيال في الأرض
{وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد:23] مختال ومتكبر، ومتعجرف ومتعالٍ، ومتعاظم على الناس لا يحبه الله؛ لأنه يجهل نفسه، فالذي يعرف نفسه لا يختال ولا يتكبر، الذي يعرف نفسه يعرف حقيقتها أنه عبد وأنه ضعيف، وأن الكبرياء والعظمة والاختيال كلها لله، ليست لك.
أيها الإنسان: تواضع حتى يحبك الله؛ فالله لا يحب كل مختالٍ فخور.(110/8)
الظلم بجميع صوره وأشكاله
{وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران:57] الظلم بكل صوره وأشكاله، ظلم العبد لنفسه بالمعاصي، وظلم العبد لربه بمزاولة الشرك وصرف العبادة عن الله، ظلم العبد لغيره بالعدوان على حقه من مالٍ أو عرضٍ أو دم، فهذا يعرض الإنسان لبغض الله ولعدم محبة الله؛ لأن الله لا يحب الظالمين: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً} [النساء:36] وفي الحديث يقول عليه الصلاة والسلام: (أحب الأعمال إلى الله: الصلاة لوقتها، ثم بر الوالدين، ثم جهادٌ في سبيل الله) وفي آخر يقول عليه الصلاة والسلام وقد سئُل عن أحب الأعمال إلى الله: (إيمانٌ بالله، قيل: ثم أي؟ قال: جهادٌ في سبيل الله، قيل: ثم أي؟ قال: حجٌ مبرور) ويذكر صلوات الله وسلامه عليه يوماً من الأيام أحب الأعمال إلى الله فيقول: (أحب الأعمال إلى الله أدومه وإن قل) لأن القليل مع الاستمرار يفعل فعلة في القلب وفي السلوك أعظم من كثير مع الانقطاع.
ويضرب العلماء هذا المثل يقولون: ائتِ بإناء واجعله يقطر قطرات على صخر وانتظر ثم ائتِ بعد فترة تجد القطرات هذه قد حفرت حفرة في الصخر.
قطرة وقطرة وقطرة، كل يوم تجدها تتقاطر، تعال بعد فترة تجد هذا الحجر قد نقر وأصبحت فيه حفرة بتأثير قطرات الماء؛ لأنها مستمرة، لكن اجمع هذا الماء كله في إناءٍ واحد ثم صبه دفعةً واحدة على الحجر هل يؤثر في الحجر؟ لا يؤثر فيها ولو كان واحداً من مليون من الملي، لا يمكن لماذا؟ لأنه عارض.
كذلك عمل العبادة إذا داومت عليها أثرت في قلبك، ونقشت في قلبك محبة الله، وفي حياتك مراقبة الله عن طريق مداومتك، إذا داومت على صيام يوم، أو على قيام يوم، أو على أذكار معينة، أو على صدقة معينة، أو على قراءة قرآن بجزء معين من القرآن فإنه يؤثر في قلبك حدد لنفسك في القرآن تلاوة أن تتلو كل يوم جزءاً، وداوم عليه وهذا أحب الأعمال إلى الله، أحب من أن تقرأ في يومٍ واحدٍ ثلاثين جزءاً ثم تترك المصحف عشرة أيام أو عشرين يوماً أو شهراً كاملاً، لكن اقرأ كل يوم جزءاً باستمرار وبانتظام عظيم، حدد لنفسك ركعتين في جوف الليل قبل صلاة الفجر أو في أي وقت من الليل أفضل من أن تقوم ليلة من الليالي ثمان ركعات وتترك القيام أسبوعاً أو أسبوعين؛ لأن (أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل).(110/9)
أسباب نيل محبة الله سبحانه وتعالى
أما السؤال أيها الإخوة! كيف تنال محبة الله؟ وهو عنوان الدرس، متى يبلغ العبد هذه المحبة؟ ومتى يصل إليها؟ وكيف ينالها ويحصل عليها؟ يذكر ابن القيم في كتابه العظيم مدارج السالكين أسباباً، فهذه عشرة أسباب يستطيع المؤمن والمسلم أن ينال بها محبة الله عز وجل إذا داوم عليها، وهذه الأسباب أسباب عملية نريد أن يأخذها الشخص كمنهج، وهذه ثمرة حِلق العلم وحضور الدروس والمحاضرات، يجب أن يكون لها أثر ومردود عليك بأن تجد من نفسك تحولاً وتعديلاً، وتغيراً في كل محاضرة تحضرها، أما أن تحضر وتسمع وتخرج ولا تتأثر فهذا لا ينفع، وهذا كان شأن الصحابة رضي الله عنهم مالك بن الحويرث رضي الله عنه جلس مع النبي عشرين يوماً ورجع معلماً لأهله في الدين، وهو الذي روى حديث (صلوا كما رأيتموني أصلي) وهو الذي روى حديث جلسة الاستراحة، كثير من الصحابة بعضهم ما جلس مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا يوماً أو يومين ورجعوا دعاة إلى الله.
الجن سمعوا الرسول صلى الله عليه وسلم يقرأ في وادي نخلة لما رجع صلى الله عليه وسلم من الطائف مكلوماً مطروداً وجلس في الوادي وإذا بجن كانوا مسافرين من الشام إلى اليمن سمعوه، فلما سمعوه رجعوا إلى قومهم منذرين فقالوا: {يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} [الأحقاف:30] ولو إلى قومهم منذرين يدعونهم ويقولون: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِي اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ} [الأحقاف:31].
فلابد أيها الإخوة! أن تكون مجالسنا مجالس علم وعمل، نستفيد منها ونأخذ منها فوائد بحيث نطبقها ونرجع إلى بيوتنا للمحاسبة والمعاتبة والمراقبة للنفس، بحيث أستفيد من كل جلسة، أي عمل أتعلمه أحوله إلى سلوك أسير عليه، وهذه الأسباب العشرة لنيل محبة الله هي:(110/10)
قراءة القرآن الكريم وتدبره
أولها: قراءة القرآن الكريم بالتدبر والتمعن؛ لأن القرآن كلام الله عز وجل، وهو خطاب الله وإلى أهل الأرض، والذي يكثر منه يدل ذلك على محبته لله، وإذا أكثرت من تلاوة كلام الله عز وجل أحبك الله الذي لا إله إلا هو.
لو أتتك رسالة من حبيبك أو من صديقك أو من أبيك أو أمك أو من زوجتك -وبالطبع نحن نتكلم مع أهل الإيمان في رسائل الطهر والعفة، لا نقول رسالة من حبيبتك، وإن كانت حبيبة على الحرام فهي لعينة شيطانة رجيمة؛ تحبك الآن لكنها تلعنك وتلعنها يوم القيامة؛ لأنه حبٌ أقيم على معصية الله، حبٌ أقيم على الحرام، فلا يجوز هذا، وإنما نعني الحب الحلال حبك لزوجتك- وأنت مسافر وتأتيك رسالة منها تقرؤها القراءة الأولى، والقراءة الثانية، والقراءة الثالثة، وكلما ضاق صدرك أخذت رسالتها وقرأتها، وكلما قرأتها انشرحت نفسك، هذه رسالة محبوبك من الأرض، حسناً فرسالة محبوبك في السماء، رسالة الله إليك، خطاب الله إليك، كلما قرأته أحببت ربك، وكلما قرأته أحبك ربك.
ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (من أراد أن يناجي ربه فليقرأ القرآن أو ليقم إلى الصلاة) والذي يقرأ القرآن كما جاء في الأحاديث له ثوابٌ عظيم عند الله عز وجل حتى ينال به أعلى الدرجات، يقول عليه الصلاة والسلام: (من قرأ حرفاً من القرآن كان له حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول (ألم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف) أي: إذا قلت: (ألم) كتب الله لك ثلاثين حسنة، إذا قرأت سورة الإخلاص عدد حروفها ستة و (66) حرفاً كتب الله لك (66) حسنة، إذا قرأت سورة الفاتحة عددها (150) بـ (1500) حسنة، إذا قرأت صفحةً من القرآن -في مصحف المدينة المنورة - هذا المصحف في كل صفحة (15) سطراً، وفي كل سطر (40) حرفاً، في المتوسط (15×40) (600) حرف، إذا قرأت صفحةً واحدةً كتب الله لك (6000) حسنة، وفي كل جزءٍ (20) صفحة، إذا قرأت جزءاً واحداً كتب الله لك مائة وعشرين ألف حسنة، إذا كان وردك اليومي من القرآن جزءاً واحداً تقرؤه في ربع ساعة، أو في ثلث ساعة، أو في نصف ساعة على أبعد التقدير يسجل الله لك مائة وعشرين ألف حسنة، من الذي يأتي بهذه التجارة إلا تالي القرآن، عظيم جداً.
يقول عليه الصلاة والسلام: (الذي يقرأ القرآن وهو ماهرٌ به مع السفرة الكرام البررة -مع الملائكة- والذي يقرأ القرآن وويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران: أجر المشقة وأجر التلاوة) فتلاوة القرآن من أعظم الأذكار ومن أعظم ما يتقرب به العبد إلى الله، فإذا أكثرت من التلاوة فإن الله عز وجل يحبك، والله قد أمر بالقرآن وبالتلاوة فقال في القرآن الكريم: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ} [العنكبوت:45] ويقول عز وجل: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} [المزمل:4] ويثني الله على أهل القرآن فيقول: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر:29 - 30].
والذي يقرأ القرآن -أيها الإخوة- يحفظ من الزيغ، يثبت على الدين، ما عهدنا وما علمنا رجلاً داوم على تلاوة القرآن وعكف على قراءته إلا وثبته الله، الذين يضلون وينحرفون وينتكسون، ويضعفون ويتراخون ويميلون؛ هؤلاء هم الذين هجروا القرآن، يقول الله عز وجل: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} [الفرقان:32] فيثبتك الله على الإيمان إذا داومت على تلاوة القرآن، فاجعل لك ورداً من القرآن، وانتبه واحذر! أن تنسى القرآن إذا كنت حفظته، احذر أن تهجر القرآن إذا كنت تقرؤه، لابد أن يكون لك ورد معين من كتاب الله، تقرؤه كل يوم، إما في الليل أو في النهار أو قبل النوم، وأحسن الأوقات -كما يقول بعض أهل العلم- للتلاوة: هو الذي يسبق الصلاة، أي: أن تعود نفسك باستمرار ألا يؤذن إلا وأنت في المسجد، لا تأت الصلاة متأخراً إذا أذن المؤذن جلست ثم قمت تتوضأ إذا قربت الصلاة، ثم تهاونت إلى أن تقام الصلاة، ثم تأتي وقد فاتتك تكبيرة الإحرام، وقد تفوتك الركعة الأولى أو الثانية، وبعضهم تفوته الصلاة كلها، لا.
عندك ساعة وتعرف الأوقات يؤذن للعشاء -مثلاً- الساعة الثامنة إلا عشر دقائق حاول أن تخرج من بيتك الثامنة خمس عشرة خمس بحيث تدخل ثمانية إلا عشر أو تدخل قبل الأذان فتصلي ركعتين ثم تجلس، ومعك وقت ما بين الأذان والإقامة (ربع ساعة) (ثلث ساعة) (خمسة وعشرين) دقيقة يمكن أن تقرأ فيها جزءاً، في الفجر كذلك، في الظهر كذلك، في العصر كذلك، إذا داومت على هذا ربح عظيم، يمكن أنك تقرأ خمسة أجزاء، تستطيع أن تقرأ في كل جلسة جزءاً، فتكون خمسة أجزاء، فإذا لم تقدر فثلاثة أجزاء بحيث تختم في كل عشرة أيام، أقل شيء أن تختم في كل شهر مرة، هذا أقل شيء، جهد المقل، ولكن فيه بركة كبيرة جداً.
هذا أول سبب من أسباب نيل محبة الله، وهو ممكن، أليس ممكناً أيها الإخوة؟! هل هناك صعوبة بأن نقرأ القرآن نحن الذين جعل الله ألسنتنا ألسنة عربية؟ هذه نعمة من نعم الله علينا أيها الإخوة! هناك إخوة لكم في بلاد العالم الإسلامي في الباكستان وفي الهند وفي أفريقيا وفي الشرق وفي الغرب ألسنتهم أعجمية لا يستطيعون قراءة القرآن، ويجدون صعوبة في النطق به، ويبذلون من أعمارهم السنوات الطوال حتى يتعلمون كيف ينطقون بالقرآن، ثم إذا جاء أحدهم يقرأ القرآن لا يدري ما معناه، يقرؤه ويجوده ولا يدري معنى حرف واحد، وأنت تعرف معناه بسهولة، وتجد ثوابه بسهولة ثم تترك القرآن بعد هذه النعمة!! هذه علامة من علامات عدم محبتك لذكر الله عز وجل -أيها الإنسان البعيد- أما إذا قرأت القرآن وداومت على تلاوة القرآن فإن هذا من أعظم العلامات على حبك لله، وبالتالي سوف يحبك الله تبارك وتعالى.(110/11)
كثرة التقرب إلى الله بالنوافل
الثاني: كثرة التقرب إلى الله بالنوافل بعد أداء الفرائض: والدليل على هذا حديث في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل (ما تقرب إليَّ عبدي بعمل أحب إليَّ مما افترضته عليه) أعظم عمل تتقرب به إلى الله هو الفريضة؛ لأنها شيء مطلوب محتم عليك، ولابد أن تأتي به، فمن فضل الله أن جعله محبوباً عنده كأعظم ما يكون ما دام أنك ملتزم به، لكن لا يكفي بأن تنال به محبة الله، صحيح أن العمل الذي تقدمه من صلاتك للفريضة محبوبٌ عند الله، لكن لا تنال بهذا العمل محبة الله فمحبة الله لك أنت تنالها بشيء آخر، قال: (ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه).
(حتى) هنا للغاية أي: العبد يتقرب يصلي الفريضة ويقول: لا يا ربِّ هذه الفريضة مفروضة مني، مفروغ منها، مالي فضل فيها، أريد أن أقدم شيئاً زائداً عليها حتى أحبك، فأنا أصوم الفريضة، وأصوم معها النافلة، وأنا أصلي الفريضة وأصلي معها النافلة، وأنا أقرأ القرآن نافلة، وأنا أحج فريضة، وأعمل معها نافلة، وأنا أتصدق بفريضة الزكاة وأعمل معها نافلة، لماذا؟ قال: لأنال محبة الله.
(ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه) فيصبح العبد ربانياً مثل ما قال الجنيد: بالله يقسم، وبالله يسمع، وبالله يبطش، وبالله يسير، يقول عز وجل: (فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها).
ما معنى هذا الكلام؟! قال العلماء: معناه: أنه يبصر بالله فلا تقع عينه إلا على ما يحبه الله، ويسمع بالله فلا تسمع أذنه إلا ما يحبه الله، ولا تسير رجله إلا إلى ما يحبه الله، ولا تمتد يده إلا إلى ما يحبه الله، أصبح عبداً ربانياً يسير في كل شئونه على أمر الله عز وجل.
متى نال هذه الدرجة؟ ومتى بلغ هذه المنزلة؟ بالنوافل، قال العلماء: النوافل هي إدامة الطرق على باب الله، تطرق باب الله عز وجل بالفريضة فيفتح لك، لكن بعد الطرق والفتح تديم وتزيد فيفتح لك أكثر، وتقبل أكثر، وتنال محبة الله عز وجل.
ولذا كان السلف رضي الله عنهم يتنافسون في هذا المجال منافسة عظيمة: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17 - 18] كانوا يصومون كثيراً، ويتصدقون كثيراً، ويجاهدون كثيراً، ويقرءون كثيراً، ويذكرون كثيراً يتنافسون في العمل هذا، لماذا؟ لينالوا محبة الله عز وجل، ونحن نريد -أيها الإخوة- أن نصبغ أنفسنا بهذه الصبغة، لا نريد لشبابنا.
ولا من شباب الصحوة فينا أن يجعلوا اهتماماتهم اهتمامات لا جدوى منها، نريد أن يصلحوا أول شيء البواطن من الداخل، صحيح أن من الناس من يتحرك قلبه من الداخل، ثم بعد ذلك ينطلق فيرى منكرات ويرى آثاماً ومعاصي، فيضطر أن يصطدم بها ويعمل على إزالتها؛ لكن يهمل جانب الإيمان هنا، فتجده لا يصلي الفريضة في المسجد وهو يتقطع قلبه على الدين، تفوته صلاة الفريضة وينام عنها، وتجده لا يصلي نافلة في الليل، لا يصوم النافلة، يقصر في النوافل فيحرم أعظم شيء وهو محبة الله عز وجل.
قال عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن ربه: (فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه) فتصبح العلاقة بينه وبين الله علاقة قوية، بمجرد السؤال يعطيه الله، والتعبير هنا (لأعطينه) مؤكد بمؤكدين: لام القسم ونون التوكيد المثقلة (لأعطينه) ما قال أعطيه (ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه) ثم قال في رواية ليست للبخاري رواية في السنن: (وما ترددت في شيءٍ أنا فاعله ترددي في قبض روح عبدي المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته، ولابد له منه) هذا الثاني -أيها الإخوة- كثرة النوافل.(110/12)
دوام ذكر الله
الثالث: دوام ذكر الله؛ لأن من أحب شيئاً أكثر من ذكره، الذين يحبون الرياضة يكثرون من ذكرها، ويقرءون الجرائد ويفتحون على الصفحات الرياضية مباشرةً، ويحبون أخبار الدوري، وأخبار الكأس، وأخبار البطل، وأخبار الوصيف، وأخبار النجم، وأخبار هذه الأشياء، لماذا؟ لأنهم أحبوها.
والذين يحبون السيارات والموديلات يتابعون أخبارها: الأمريكي والياباني والألماني والجديد، حتى أن بعضهم ليعرف السيارة على بعد كيلو متر يقول: هذه موديل واحد وتسعين، وما يدريك؟ قال: (الطيس).
والثاني قال: هذه (91)، قلت: بماذا؟ قال: لوحة سوداء يضعونها عند الكَفَر، واحد أنا والله ما أدري، قلت: كيف تفرق بين (90) و (91)، قال: بهذه (طرنبيل) قطعة بلاستيك سوداء علقوها عند الكَفر الأخير، هذا الفارق بين (91) و (90)، والشخص الذي معه (90) يذهب بسيارته يبدل الرخصة تكون واحد وتسعين، لماذا؟ قال: فيها (طرنبيل)، والثاني، قال: فيها مرايا جيدة ورهيبة، و (الطيس) تولع، لا حول ولا قوة إلا بالله! كيف استخف الناس بعقولنا إلى هذه الدرجة! أتدرون -أيها الإخوة- أن هذه الأساليب أساليب الكفار؟ أساليب اليهود الذين يغرقون الأسواق الإسلامية بالسلع الاستهلاكية الرخيصة من أجل امتصاص ثرواتها، فهم يجددون ويضعون لنا في كل عام موديلاً وفي كل موديل خيط، بعضها يكون خيطاً أحمر أو أصفر، قال: واحد وتسعين فيذهب الشخص يبيع سيارته من أجل أن يأخذ خيطاً أصفر، قال: يا شيخ! هذه ممتازة، هذه خيطها أحسن من خيط تلك السيارة، والله هي هي، بل الموديلات الأولى أفضل، فلعبوا على عقول الرجال في السيارات، ولعبوا على النساء في الذهب وفي موضات الملابس والتشكيلات التي أضلت الناس والعياذ بالله.
فتجد الشخص الذي يحب السيارات يهتم بها ويسأل عن دقائق الأمور فيها، والذي يحب الأراضي والعقارات معلق قلبه بها، والذي يحب المزارع معلق قلبه بها، والذي يحب الله ورسوله معلق قلبه بالله ورسوله، فإذا رأيت إنساناً يذكر الله كثيراً فاعلم أن الله يحبه وهو يحب الله، وإذا رأيت إنساناً ساكتاً لا يذكر الله، فاعلم أنه مبغض عند الله، وقد بين الله عز وجل هذا في القرآن الكريم، فقال عز وجل: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:142] يذكرون الله لكن قليلاً وهم منافقون، أما الذي لا يذكر الله بالكلية فهذا ميت -والعياذ بالله- (مثل الذي يذكر الله والذي لا يذكر الله كمثل الحي والميت).
وذكر الله من أحب الأعمال إلى الله لما روى أصحاب السنن حديثاً في السنن يقويه ويشده ويبجله الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه الكلم الطيب، يقول فيه عليه الصلاة والسلام: (ألا أخبركم بأفضل أعمالكم وأزكاها عند مليككم وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا رقابهم ويضربوا رقابكم؟ قلنا: بلى يا رسول الله! قال: ذكر الله عز وجل) والله عز وجل يقول في القرآن الكريم: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران:191] فاستغرق الذكر جميع أحوالهم، فهم في ثلاث حالات ليس هناك حالة رابعة، الإنسان إما قائماً أو قاعداً أو نائماً، لكن المؤمن يذكر الله قائماً، ويذكر الله قاعداً، ويذكر الله على جنبه، فماذا بقي معه من وقت لا يذكر الله فيه؟ وبعد ذلك يذكرون الله في كل حين ووقت: {وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} [آل عمران:41] {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف:205] فالذي يغفل عن ذكر الله هذا دليل على موت قلبه، وعلى عدم محبته لله، وعلى عدم محبة الله له.
والأذكار كما بينته في بعض الدروس خمسة أنواع أذكرها باختصار: 1) ذكر الله عند ورود أمره: إذا ورد عليك أمر الله ونفذته فأنت ذاكر.
2) ذكر الله عند ورود نهيه: إذا ورد عليك نهي الله وتركت النهي فأنت ذاكر.
3) ذكر الله في الأحوال والمناسبات: إذا دخلت المسجد وخرجت من المسجد، ودخلت بيتك وخرجت من بيتك، وأكلت الطعام وشبعت منه، وجئت زوجتك، وخرجت من الحمام ودخلت إلى الحمام، أي عمل تفعله فيه ذكر مأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
4) ذكر الله المقيد بعدد معين، جاء في النص من قال مائة مرة، من قال كذا هذا تأتي به كما قال.
5) ذكر الله المطلق وهو أن تذكر الله وأن يكون ذكر الله على لسانك، لما روى الترمذي عن عبد الله بن بسر رضي الله عنه، قال: جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! كثرت عليَّ شرائع الإسلام، فأخبرني بعملٍ أتشبث به وأوجز، فقال عليه الصلاة والسلام: لا يزال لسانك رطباً بذكر الله).
وفي هذا يقول العلماء: إن هذا من دلائل نبوته ومن إعجازه صلوات الله وسلامه عليه، فإنه جمع له الدين كله في كلمة واحدة: (لا يزال لسانك رطباً بذكر الله) ومن هو الذي لا يزال لسانه رطباً من ذكر الله؟ إنه الذي يحب الله.
هل الزاني لسانه رطب من ذكر الله؟ أبداً.
لا يزني الزاني وهو يذكر الله، ولا يرابي المرابي وهو يذكر الله، ولا يغني المغني وهو يذكر الله، ولا ينظر في الحرام وهو يذكر الله، ولا ينام عن الصلاة وهو يذكر الله، من هو الذي يعمل هذا؟ الغافل عن الله.
أما الذي يذكر الله أبداً لا يمكن أن يعمل مثل هذه الأعمال، ولهذا وصاه النبي صلى الله عليه وسلم بدوام ذكر الله حتى قال: (لا يزال لسانك رطباً) وهذه استعارة بلاغية عظيمة بمعنى: أن الذي لسانه ليس فيه ذكر الله لسان ناشف، لسان حجري، لسان جاف، وقلبه قاسٍ -والعياذ بالله- قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:22] إذا قسا القلب من ذكر الله قسا اللسان عن ذكر الله، وتحجرت العين عن البكاء من خشية الله، وقسا السمع من سماع كلام الله، وجفت الجوارح، وعجزت وتكاسلت عن القيام بأوامر الله لماذا؟ لأن القلب قاسٍ من خوف الله، قاسٍ من رحمة الله، قاسٍ من ذكر الله، أما إذا لان القلب لذكر الله دمعت العين من خشية الله، ورطب اللسان بذكر الله، وسمعت الأذن كلام الله، وسارت الرِجل إلى مساجد الله، وامتدت اليد في طاعة الله، وعَمَر الإنسان وقته كله بالإيمان بالله عز وجل.
فلابد -أيها الإخوة- من هذا الأمر وهو من أهم الأمور ومن أيسرها على الإنسان.(110/13)
إيثار ما يحبه الله على ما تحبه النفس
الرابع: إيثار ما يحبه الله على ما تحبه النفس: لابد أن يحصل تصادم وتعارض بين محاب الله ومحاب النفس، فأين أنت؟ مع من تقف؟ هناك شد حبل بين الهوى وبين الدين والشرع، الهوى يجذب وأمر الله وشرعه يرفع، والشيطان مع الهوى، والنفس الأمارة مع الهوى، والدنيا مع الهوى، وأنت مع من؟! إن كنت عاونت شيطانك ونفسك وهواك ودنياك سقطت عن طريق الله ومن عين الله، وإن كنت مع الشرع في صراع: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40 - 41] وإن كنت مع الشرع في صراع {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} [الجاثية:23] لابد أن تقف دائماً مع الشرع، وأن تؤثر محبة الله وأمره على محبة النفس، إذا تعارض أمر الله مع أمر النفس، أمر الله بالقرآن، وأمر الشيطان والنفس بالغناء، فمع من أنت؟ مع الله.
أغلق الراديو واقرأ القرآن، أمر الشيطان بالنوم وأمر الله بصلاة الفجر وأنت على فراشك تتقلب تسمع الأذان، وفي إمكانك أن تقوم وفي إمكانك أن تنام، صراع نفسي، معركة تدور على الفراش بين نوازع الإيمان وبين نوازع الشر والشيطان، فمع من أنت؟ إذا قمت فأنت تحب الله، إذا آثرت النوم على أمر الله فالبعيد لا يحبه الله، فهل تريد أن يحبك الله؟ عليك أن تؤثر أمر الله وتقدمه على هوى النفس ومحبتها.
وهذا -أيها الإخوة- ميدانٌ واسع وفسيح، وعقبة كئود سقط فيها الكثير من الناس؛ لأنها نقطة عملية قد ينجح الشخص في القرآن وتلاوته؛ لأنه كلام يصرفه، وقد ينجح في ذكر الله؛ لأنه كلام يقوله، وقد ينجح في بعض النوافل، لكن متى التعارض؟ في هذه المشكلة، هنا العقدة، هنا الامتحان وفيه يكرم المرء أو يهان.
ستعلمي إذا انجلى الغبار أفرسٌ تحتك أم حمار(110/14)
العمل بآثار أسماء الله وصفاته
الخامس: العمل بآثار أسماء الله وصفاته: الله عز وجل له الأسماء الحسنى والصفات العلى، وأحد أقسام التوحيد هو الإيمان بأسماء الله وصفاته، نؤمن ونثبت لله عز وجل كل ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات من غير تشبيهٍ ولا تمثيل، ولا تكييفٍ ولا تعطيل، بل نؤمن أنه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] ولكن هذا الإيمان يقتضي منا أن تنعكس آثار هذه الأسماء والصفات علينا، فإذا آمنا بأن الله هو الرزاق طلبنا الرزق بطاعة الله، لا نطلب الرزق بمعصية الله.
بعض الناس تجده يبيع ويشتري في الدخان لماذا؟ قال: هذا الدخان يجلب الناس، فهذا لم يعرف أن الله هو الرزاق، هذا عنده قدح في عقيدته، عنده عقيدة إن الرزاق هو الدخان.
وآخر عنده عمارة وفيها دكاكين أجرها على حلاق، لماذا؟ قال: يا أخي! مغلقة لها سنة، ليس هناك من يستأجرها، هذا ليس عنده يقين أن الله هو الرزاق، عنده يقين أن الدكان هو الرزاق، والدكان ما دام أنه لم يأتِ له شخص يستأجره غير الحلاق، فأجره للحلاق، فيفتح قلعة وثكنة لمحاربة سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولحيته ملء وجهه، هو يعفي لحيته لكن يحلق لحى المسلمين في دكانه، لو أنه حلق لحيته لوحده وليس عنده دكان كان ذلك أخف؛ لأنه ما من لحية تحلق في الدكان إلا وعليه إثمها وإثم من حلقها إلى يوم القيامة.
وقد رأيت ذات مرة رجلاً علق على دكانه -صالون الحلاقة- لوحة مكتوب فيها: صالون اللحية الغانمة -إيه والله رأيتها بعيني- صالون اللحية الغانمة، قلت: سبحان الله! أي غنمٍ لهذه اللحية وهي تحت القدم، يحلقها الحلاق ويضعها تحت قدمه، ثم يكنسها بالمكنسة ويأخذها في صندوق الزبالة، وفي آخر اليوم إذا مرت البلدية قال: قف قف يا ولد! تعال خذ الصندوق عندي هنا لحى المسلمين، وأخذها عامل البلدية ورماها مع الزبالة في صندوق البلدية، وحملتها سيارة البلدية، انظروا هذه اللحية المعذبة (هذه اللحية الغانمة) وأين الغنم؟! هذا الغرم! هذا الشؤم -والعياذ بالله- ثم يأخذها إلى المحرقة وتحرق مع النفايات، هذه لحية صالون اللحية الغانمة! فالذي يؤجر دكانه على محل غناء أو على محل الفيديو أو محل يباع فيه الحرام هذا ليس عنده عقيدة في أن الله هو الرزاق.
الذي لا يقول كلمة الحق خشيةً من قطع الرزق هذا مسكين لم يؤمن بأن الله هو الرزاق ذو القوة المتين.
فلا بد أن تنعكس آثار هذه الأسماء والصفات عليك، إذا علمت بأن الله سميع لا يخفى عليه شيءٌ في الأرض ولا في السماء فإنك تخاف الله ولا تقدر بأن تتكلم بكلمة حرام؛ لأنك تعلم أن الله يسمعك، إذا علمت بأن الله بصير يرى ويسمع دبيب النملة السوداء، في الليلة الظلماء، على الصخرة الصماء، تقول عائشة: [سبحان الذي وسع سمعه الأصوات] لما جاءت المرأة المجادلة تشتكي، تقول: [والله إنها تشتكي للرسول صلى الله عليه وسلم في الغرفة المجاورة ما سمعتها، والله سمعها من فوق سبع سماوات وقال: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة:1]] فإذا آمنت بأن الله بصير، فإنك تستحي أن تمارس معصية، فأنت تعلم أن الله يراك وأنت في غرفتك في جوف الليل:
وإذا خلوت بريبةٍ في ظلمةٍ والنفس داعية إلى الطغيانِ
فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
فهذا مقتضى أنك آمنت بأن الله سميع بصير، إذا آمنت بأن الله حكيم عرفت حكمته، إذا آمنت بأن الله قوي خفت من قوته، إذا آمنت بأن الله جبار خفت من جبروته، إذا آمنت بأن الله منتقم خفت من نقمته، لماذا؟ لأنك آمنت بهذه الصفات.
إذا آمنت بأن الله عزيز رُمت عزته وطلبت العزة في جنابه، إذا آمنت بأن الله رحيم طمعت برحمته، إذا آمنت بأن الله مالك يوم الدين طمعت بأن تنالك هذه الرحمة في ملكه يوم القيامة، لماذا؟ لأنها انعكست آثار أسماء الله وصفاته عليك، إذا تخلقت بهذا كنت ممن يحبهم الله عز وجل، وهذه مهمة جداً وينبغي أن نعود أنفسنا عليها.(110/15)
التأمل والتفكر والتدبر في نعم الله وفضله
السادس: التأمل والتفكر والتدبر في نعم الله وفضله وإحسانه عليك أيها الإنسان! وهذه -أيها الإخوة- نغفل عنها كثيراًَ، وما أعظم نعمة الله علينا: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل:53] نعمة الخلق، فمن الذي خلقك أيها الإنسان؟! {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:6 - 8] نعمة الخلق والإيجاد، نعمة الرزق والإمداد، نعمة الإيمان والإسعاد، نعمة العافية، نعمة الأمن، نعمة الجوارح، تفكر يا أخي في نفسك! تأمل في نعمة العين التي في رأسك، تصور أنك أعمى في هذا المسجد -عافاك الله- وتريد أن تخرج إلى المسجد بعد صلاة العشاء فمن يذهب بك إلى البيت؟ من يقود لك السيارة؟ كيف تعرف الألوان؟ كيف تعرف الأشكال؟ الأعمى الآن مسكين لا يرى من العالم شيئاً، يقول: كيف الطيارة؟ لا يعرفها! كيف السماء؟ لا يراها، كيف الجبال؟ لا يراها، كيف البحار؟ لا يراها! كيف العمارات؟ لا يدري عنها شيئاً، والله جعل لك عينين: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ} [البلد:8] فسخِرها فيما يحبه الله، تأمل في أفضال الله عليك، تأمل في نعمة الله عليك بالأذنين، وتصور أنه لا يوجد لديك سمع تسمع وأنت جالس في المجالس والناس يتكلمون وأنت مثل (المسند) جالس لا تسمع شيئاً! تقول: ماذا يقولون؟ لا تدري ماذا يقولون؟ يشيرون لك إشارة لا تسمع، ولا تدري ماذا يقصدون بالإشارة، فالسمع نعمة من نعم الله عليك: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:78] نعمة اللسان هذه نعمة، يقول الله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً} [البلد:8 - 9] اللسان نعمة تفصح به عما في نفسك، وتعبر به عما في خاطرك، تُعلم الناس ما تقول، الآن الأعجم يومئ بكلام غير واضح وغير مفهوم، لكن كلمتان تخرجهما من لسانك يفهمك الناس، فاستعمل هذا اللسان في طاعة الله عز وجل.
{وَشَفَتَيْنِ} [البلد:9] نعمة من نعم الله عليك؛ لأن الشفتين واللسان هي التي تتحكم في إخراج الحروف، هناك حروف لا تخرج إلا بالشفتين، وهناك حروف لا تخرج إلا من طرف اللسان، وكذلك باللسان تتذوق الأطعمة، تصور نفسك مصاباً بالنزول وأهلك يحضرون لك الطعام وأنت لا تتذوقه، تقول: لا أجد فيه طعماً؛ لماذا؟ لأنك مريض، فهذه نعم.
نعمة اليدين، نعمة الأصابع، نعمة الإبهام وديتها في الشرع نصف دية اليد، لو فقدت أو لو أن الناس ما عندهم إبهام لتعطلت الحضارة كلها، من يشد مسماراً بإصبعين؟ لا أحد يستطيع أن يشد مسماراً بإصبعين أبداً، لكن هذه تشد وتقبض، إذا حدث لأصبعك شيء لن تستطيع أن تصنع شيئاً، فاعرف نعمة الله عليك، من فصَّل لك هذه اليد؟ كلها مفاصل من أجل ماذا؟ لكي تستعملها في كل اتجاه، لكن لو أن الله أعطاك يداً مثل (العصا) فكيف ستستعملها؟ لن تستعملها إلا في الضرب، لكن الله لم يخلقك لتضارب الناس حتى يعطيك عصاً معلقة، لكن الله جعل يدك في الجزء العلوي من أجل أن تصل بها إلى رأسك، وتصل بها إلى رجلك، لكن لو أن يديك في أرجلك، وجدت حمامة أو طائراً وقفت في رأسك فكيف تمتنع؟! وجعل رأسك أعلى شيء، وجعل العينين في المقدمة، وجعل الأذنين في الجنبين، والرأس مركب على رقبة، والرقبة لولبية تحركها يميناً وشمالاً لماذا؟ من أجل أن تستعملها، لكن لو أن رأسك على رقبتك على عظم، فكيف تتلفت؟ هذه نعمة أم ليست نعمة أيها الإخوان؟! انظروا إلى من يصاب بشد عضلي كيف تراه؟ تقول: كيف حالك؟ يقول: بخير، لا يستطيع أن يلتفت وإذا التفت قال: آه رقبتي! ماذا بك؟ قال: عصبة صغيرة، عضلة صغيرة، اشتدت عليه أرقته في نومه، إذا جاء لينام لا يستطيع أن ينام من أجل شيء بسيط، أليست هذه كلها نعماً؟! في كل النعم التي يمن الله بها عليك لا تغفل عنها لحظةً من لحظاتك، وأنت تأكل الطعام تأمل في النعم التي ساقها الله إليك، وأخرج لك من الطين ومن الماء هذه النعم المتعددة، وصنفها وحلاها، وجملها وشكلها من كل نوع، ثم تأمل كيف يخرجها الله منك بعد أن تأكلها، ويفصل ما ينفعك فيبقيه فيك، ويفصل ما يضرك فيخرجه الله منك، وتأمل لو أن الله حبس فيك هذا الضرر كيف تصنع؟ لو احتبس فيك البول لأصبحت حياتك مريرة، ولانعدمت حياتك أيها الإنسان! وكل هذه النعم، والمجال لا يتيح لي التوسع فيها؛ المهم أن تتأمل في فضل الله وإحسانه عليك؛ في عافيتك، وفي ستر الله عليك، وفي رزق الله لك، وفي كل النعم التي من الله عليك بها، فإذا تأملت فيها وشكرت الله أحبك الله، هذا مما يعرضك لمحبة الله عز وجل.(110/16)
انكسار القلب والشعور بالخضوع الكامل لله
السابع: انكسار القلب والشعور بالخضوع الكامل له، والإذعان لأمره فلابد من الإذعان والانكسار؛ لأن الله رب وأنت عبد ولا ينبغي للعبد إلا أن ينكسر أمام سيده، لا يتعالى ولا يتعاظم، وإنما يستذل: (أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي) يقول الله عز وجل: (أنين المذنبين أحب إليَّ من زجل المسبحين) فالذين تنكسر قلوبهم ويخشون الله ويخافون الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون:60] {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} [الأنفال:2] أي: تنكسر وتخاف قلوبهم، هؤلاء يعرضون أنفسهم لمحبة الله عز وجل، أما الذي قلبه قاسٍ ومتعالٍ ومتعاظم ولا يخاف من الله هذا لا يعرف الله، وبالتالي لا ينال محبة الله عز وجل.(110/17)
مجالسة الصالحين
الثامن: مما يعرضك لمحبة الله عز وجل مجالسة الصالحين: الحرص على أن تكون مجالسك دائماً مطعمة بالطيبين، وأن يكون وقتك كله مع الطيبين، لِمَ؟ لأنهم يؤثرون فيك، والمرء من جليسه، المرء من خليله:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي
...
إذا ما صحبت القوم فاصحب خيارهم ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي
...
فلا تصحب أخا الفسق وإياك وإياه
فكم من فاسقٍ أردى مطيعاً حين آخاه
يقاس المرء بالمرء إذا ما المرء ما شاه
وللقلب على القلب دليلٌ حين يلقاه
وللناس على الناس مقاييس وأشباه
فعليك إذا كنت تريد أن تنال محبة الله عز وجل أن تجلس مع من يحبهم الله، حذار من الجلوس مع من يبغضهم الله، فإنك وإن كنت محبوباً عند الله ثم جلست مع من يبغضهم الله عرضت نفسك لبغض الله، كيف تجلس مع من يبغضهم الله وتريد أن يحبك الله؟! إن مقتضى محبة الله لك ومحبتك لله أن تحب في الله، وأن تبغض في الله، ولهذا جاء في الحديث، عنه عليه الصلاة والسلام، والحديث في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه: (ثلاثٌ من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: منها: أن يحب المرء لا يحبه إلا لله) أن يبني علاقاته وأواصره الاجتماعية على أساس دينه وعقيدته، فلا يحب إلا من يحبه الله ولا يبغض إلا من يبغضه الله، أما إذا ذاب بين الناس ولم يتميز بإيمانه ولا عقيدته، ولم يحب في الله ولم يبغض في الله، فهذا إنسان لا يعرض نفسه لمحبة الله بل ربما عرضها لبغض الله عز وجل.(110/18)
قطع كل سبب يحول بين القلب وبين الله
التاسع من أسباب نيل محبة الله عز وجل: قطع كل سبب والقضاء على كل عقبة تحول بين القلب وبين الله: هناك عقبات، وهناك موانع، وهناك حواجز تحجز قلبك عن الله، فعليك أن تزيل هذه الحواجز، وأن تقطع هذه العلاقات حتى تصل إلى الله عز وجل، مثل من؟ مثل رفيق السوء، هناك رفيق؛ لكنه رفيق سوء قاطع طريق بينك وبين الله، أنت تريد الله وهو يريدك إلى الشيطان، فاقطع الصلة به.
مثل زوجة السوء: هناك زوجة تعينك على طاعة الله، وهناك زوجة تعينك على معصية الله قاطعة الطريق بينك وبين الله، أنت تريد الله وهي تريد النار.
مثل عمل السوء، عمل تمارسه أنت وترتضيه وتأخذ عليه راتباً أو تمارس فيه أجراً، ولكنه عملٌ سيئ يقطعك عن الله، فاترك هذا العمل واترك وظيفة السوء، جار السوء تخلص منه، كل شيءٍ يحول بينك وبين الله عز وجل ولا يوصلك إلى الله تخلص منه، إذا وقف هذا عائقاً بينك وبين أن تنال محبة الله.(110/19)
قيام الليل
وآخر شيء وهو أصعب شيء ولكنه من أسهل الأشياء على الإنسان ويحصل عليه الإنسان عن طريق الاستمرار والتدرب وعن طريق الصبر، يقول أحد السلف وهو ثابت البناني: [كابدت قيام الليل عشرين عاماً، وتلذذت به عشرين عاماً].
آخر شيء مما يجعلك من أحباء الله هو قيام جزء من آخر الليل ولو ركعتين لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ركعتان في جوف الليل خير من الدنيا وما عليها) وهذه من أفضل الأشياء في آخر الليل؛ لأن الله عز وجل -كما صح في الأحاديث الصحيحة وهي عقيدة أهل السنة والجماعة - أن الله عز وجل ينزل في الثلث الأخير من الليل نزولاً يليق بجلاله فيقول: (هل من سائلٍ فأعطيه؟ هل من تائبٍ فأتوب عليه؟ هل من مستغفرٍ فأغفر له) فإذا وافقها عبدٌ سعد في الدنيا والآخرة.
أيها الإخوة! هذه علامات محبة الله عز وجل وأسباب نيل هذه المحبة، فنريد أيها الإخوة! أن نتصف بها.
نسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يجعلنا وإياكم جميعاً من المحبوبين إليه، ونعيد دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم ارزقنا حبك، وحب من يحبك، وحب كل عملٍ يقربنا إلى حبك، اللهم اجعل حبك أحب إلينا من أنفسنا، ومن أهلينا، ومن الماء البارد على الظمأ، إنك على كل شيءٍ قدير.
والله أعلم، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(110/20)
الأسئلة
أما السؤال أيها الإخوة! كيف تنال محبة الله؟ وهو عنوان الدرس، متى يبلغ العبد هذه المحبة؟ ومتى يصل إليها؟ وكيف ينالها ويحصل عليها؟ يذكر ابن القيم في كتابه العظيم مدارج السالكين أسباباً، فهذه عشرة أسباب يستطيع المؤمن والمسلم أن ينال بها محبة الله عز وجل إذا داوم عليها، وهذه الأسباب أسباب عملية نريد أن يأخذها الشخص كمنهج، وهذه ثمرة حِلق العلم وحضور الدروس والمحاضرات، يجب أن يكون لها أثر ومردود عليك بأن تجد من نفسك تحولاً وتعديلاً، وتغيراً في كل محاضرة تحضرها، أما أن تحضر وتسمع وتخرج ولا تتأثر فهذا لا ينفع، وهذا كان شأن الصحابة رضي الله عنهم مالك بن الحويرث رضي الله عنه جلس مع النبي عشرين يوماً ورجع معلماً لأهله في الدين، وهو الذي روى حديث (صلوا كما رأيتموني أصلي) وهو الذي روى حديث جلسة الاستراحة، كثير من الصحابة بعضهم ما جلس مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا يوماً أو يومين ورجعوا دعاة إلى الله.
الجن سمعوا الرسول صلى الله عليه وسلم يقرأ في وادي نخلة لما رجع صلى الله عليه وسلم من الطائف مكلوماً مطروداً وجلس في الوادي وإذا بجن كانوا مسافرين من الشام إلى اليمن سمعوه، فلما سمعوه رجعوا إلى قومهم منذرين فقالوا: {يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} [الأحقاف:30] ولو إلى قومهم منذرين يدعونهم ويقولون: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِي اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ} [الأحقاف:31].
فلابد أيها الإخوة! أن تكون مجالسنا مجالس علم وعمل، نستفيد منها ونأخذ منها فوائد بحيث نطبقها ونرجع إلى بيوتنا للمحاسبة والمعاتبة والمراقبة للنفس، بحيث أستفيد من كل جلسة، أي عمل أتعلمه أحوله إلى سلوك أسير عليه، وهذه الأسباب العشرة لنيل محبة الله هي:(110/21)
نصيحة لمن انقطع عن الدروس والمحاضرات في الدراسة النظامية
السؤال
أحد الإخوة يعاتبني كثيراً ويقول: إنني انقطعت عن الدروس والمحاضرات في هذه المدينة، يقول: وهذا شيء أثر على الشباب وهم غاضبون جداً وينصحني بألا أواصل الدراسة وأن أرجع وأقطع الدراسة؟
الجواب
جزاه الله خيراً وجزى الله الإخوة خيراً على هذا الكلام، ولكني أقول له: إن الدراسة كلها خير، وطلب العلم -كما تعرفون- فضيلة، واطلبوا العلم من المهد إلى اللحد، وقد وجدت متعة في طلب العلم، وأسأل الله أن يعينني على إنهائه وسواء كنت هنا أو هناك فالإنسان سيكون له عمل في أي مجال وأي مكان، والساحة -والحمد لله- مملوءة بالدعاة والعلماء في هذه المنطقة، وسأعود قريباً بإذن الله، أما أني أترك العلم فهو ليس شيئاً عاطفياً أو جاء من فراغ، إنما شيء جاء بعد دراسة وتصميم وقدمت فيه تضحيات حتى إني خرجت من وظيفتي وتركت عملي الوظيفي حتى أتفرغ للدراسة؛ لأن هذا شيء مهم جداً، ووجدت فيه مصلحة وفائدة كبيرة جداً.
أسأل الله أن ينفعني وإياكم بما نقول، وبما نسمع وبما نتعلم، إنه على كل شيءٍ قدير.(110/22)
كيف ندعو إلى الله؟
إن الله سبحانه وتعالى خلق الجنة والنار، وجعل لكل واحدة منها طرقاً موصلة إليها، فالجنة لها طرق ومسارات إذا بحث عنها الإنسان وسار عليها بلغ مقصده، والنار لها طرق ومسارات؛ فإذا أعرض الإنسان عن الله وجنته والطرق الموصلة إليها سار في طرق الشيطان والنار والعياذ بالله، ومن الأسباب المؤدية لدخول الجنة الدعوة إلى الله، مع الأخذ بالرصيد الكافي من العلم الشرعي، والصبر على ما يعرض للمرء في طرق الدعوة.(111/1)
خطوات في اختيار الطريق إلى الجنة
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله على نعمه وآلائه التي لا تحصى ولا تعد، له الحمد تبارك وتعالى، وله الفضل والمنة، له الحمد بالإسلام، وله الحمد بالإيمان، وله الحمد بالقرآن، وله الحمد بكل نعمة أنعم بها علينا من قديم أو حديث، أو سر أو علانية، أو حي أو ميت، أو شاهد أو غائب، له الحمد حتى يرضى، وله الحمد إذا رضي.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد: فضيلة مدير المعهد أيها الإخوة الكرام المشرفون على برنامج التوعية في هذه المؤسسة العلمية أيها الإخوة الطلاب الذين حرصوا على الحضور في هذا اللقاء المبارك، الذي لم أكن قد تهيأت له بالمادة العلمية التي تليق به، على اعتبار أنه لقاء أخوي فقط، وليست محاضرة أو كلمة، وإن كنت لست من فرسان هذه الميادين، وقد أنفع في مجال ولا أنفع في مثل هذا المجال أمام العلماء، وأمام طلبة العلم المتقدمين في العلم والسن؛ ولكن قِدتُ إليه فنسأل الله أن يعينني وإياكم.
هذه الدنيا أو هذه الحياة -أيها الشباب- ورطة، من خلق فيها فقد ورط، ولا مخرج له من هذه الورطة إلا باللجوء إلى الله، يقول الله عز وجل: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ * وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات:50 - 51].
الورطة: هي المهلكة والابتلاء والمحنة والفتنة، الله يقول: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الكهف:7] ويقول عز وجل: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:2] أي: ليختبركم وليوجدكم على مسرح هذه الحياة من أجل الافتتان، ومن أجل الابتلاء والاختبار؛ ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيي عن بينة.
لم يؤخذ لنا رأي في قضية وجودنا في هذه الحياة، هل أخذ رأي أحدنا؟ لا.
خلقنا رغم إرادتنا، ولم يؤخذ لنا رأي في قضية انتقالنا من هذه الحياة، ولو أخذ لنا رأي ما كان أحدنا يريد أن يموت؛ لأن الإنسان يكد ويتعب ويحصل ويتوظف ويبني ويتزوج ويصير له أولاد، فإذا صلحت له الدنيا من كل جانب جاء الموت ليشطبها من كل جانب.
لهوت وغرتك الأماني وعندما أتمت لك الأفراح فوجئت بالقبر
فليس لنا رأي في المجيء، وليس لنا رأي في الانتقال، وإنما نحن مطلوب منا أن نعمل في هذه الدنيا عملاً صالحاً، والله عز وجل سيجازينا في الآخرة على ضوء ما نعمل في هذه الحياة، فالذي يريد أن يخلِّص نفسه من الورطة، والذي يريد أن يخلِّص نفسه من هذه الفتنة ومن هذا الابتلاء ليس له مجال ولا طريق إلا باللجوء إلى الله؛ لأنه سيقدم على الله شاء أم أبى، وستكون له المعاملة في الآخرة على ضوء معاملته لله في هذه الدنيا.
إذا كنت في الدنيا كما يريد الله، كان الله لك في الآخرة كما تريد، وإذا كنت في الدنيا بعكس مراد الله، كان الله لك بعكس مرادك في الدار الآخرة، وأنت الآن تكسب وتعمل، وسوف ترحل وتقدم على الله، وتجيء بشيء مثقل إما بالحسنات أو بالسيئات، والله يقول: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ * وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل:89 - 90] ويقول في آية أخرى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} [الأنعام:160].
فأنت الآن تحصد وتعمل، سواء تعمل في طريق الخير أو في طريق الشر، والناس مذ خلقوا ووطئوا هذه الأرض وهم مسافرون، وما من يوم يمر ولا شهر ينتهي ولا سنة تتبدل إلا وأنت تقطع بهذه السنة وبهذا الشهر؛ وبهذا اليوم وبهذه الساعة وبالدقيقة مرحلة من مراحل عمرك إلى الله وإلى الدار الآخرة، وهذه اللحظة أو هذا اليوم أو هذا الشهر فيه عمل.
هل يستطيع الإنسان أن يقف على عجلة الزمن فلا يعمل لا عملاً صالحاً ولا عملاً سيئاً؟ لا.
فلا بد من عمل؛ لأنه بين أمر ونهي، وبين طاعة ومعصية، وبين استجابة لله واستجابة للشيطان، فإذا استجاب لله لم يستجب للشيطان، إذا رفض أمر الله استجاب للشيطان، إذا أمره الله بالصلاة وقام إلى الصلاة أطاع الله، وإذا أمره الله بالصلاة ولم يقم قام الشيطان بدعوته إلى النوم وترك الصلاة، فترك الصلاة فأطاع الشيطان، فهو بين أمر الله أو نهيه، وبين أمر الشيطان أو نهيه.
وهو يستجيب إما لهذا وإما لهذا، وتنتقل الساعة والشهر واليوم والسنة، وهو يملأ هذه الخزائن بهذا العمل، ثم يقدم على الله تبارك وتعالى، وهناك يجازى على ضوء ما سبق أن قدم وعلى ضوء ما سلك في هذه الدنيا، هذه قضية ليس فيها جدال بين أهل العقول.
لكن لسائل أن يقول: كيف الطريق إلى الله؟ ومن أي السبل نسلك على الله؟ لأن الشيطان يسول للناس أن طريق الهداية والالتزام والتدين والاستقامة طريق شائك وطريق صعب، ولا يمكن أن يسير فيه أحد، وأنه طريق معتم ومظلم، والحقيقة عكس ذلك، الطريق إلى الله من أسهل الطرق، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (وإنه ليسير على من يسره الله عليه) اللهم يسره علينا يا رب العالمين! طريق سهل ممهد مضاء واضح، كما سمعتم في خطبة الشيخ سعد كالمحجة البيضاء -المحجة: هي الطريق الواضح- ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، هذا الطريق -طريق الجنة، طريق الإيمان، طريق الهداية، طريق الالتزام- له أربع مسارات، وله أيضاً قبل ذلك ثلاث خطوات:(111/2)
الخطوة الأولى: تصحيح الماضي بالاستغفار
أول خطوة: تصحيح الماضي: حتى نربط بين ما قيل وبين ما سيقال، حتى لا يفوت الإخوة الذين جاءوا شيئاً نقول: إن طريق الجنة طريق السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة عبر أربع مسارات، مسارين موجبين للجنة، ومسارين في عكس الاتجاه مانعين من الجنة ومؤديين إلى النار، وقبل السير هناك ثلاث خطوات يجب أن يتخذها الإنسان وهي: أن الإنسان بين ماض ومستقبل وحاضر أليس كذلك؟ هل في الزمن شيء غير الماضي والحاضر الذي فيه الإنسان والمستقبل؟ لا يوجد شيء غير هذا.
ما مضى فات والمؤمل غيب ولك الساعة التي أنت فيها
فالماضي: حياتك التي أمضيتها في السابق المملوءة بما ملئت به من خير أو شر، إذا أردت السير في طريق الله عز وجل فينبغي قبل كل شيء أن تصحح الماضي، ومن رحمة الله تبارك وتعالى أن جعل تصحيح الماضي من أيسر السبل ومن أسهل الإمكانات، ولا يكلف الإنسان شيئاً أبداً إلا عملاً لسانياً وعملاً قلبياً: فالعمل القلبي: وهو العزم على التوبة.
والعمل اللساني: وهو أستغفر الله وأتوب إليه هل يعجز الواحد أن يستغفر ويتوب من المعاصي من الجرائم من الذنوب من الزنا من الخمور من اللواط من الغناء من الفجور من أي عمل قد عملت من الشرك من قطع الصلاة، أي مهلكة أي جريمة؟ الله يقول: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزمر:53 - 54] فإذا أناب الإنسان إلى الله، وأسلم لله، ووجه وجهه إلى مولاه، فإن الماضي كله يغفر: {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الفرقان:70].
فهل في الاستغفار وتصحيح الماضي فيه صعوبة؟ لا.
لا يوجد أحد يقول: لا والله لا أستطيع أن أستغفر، إلا إذا كان لا يريد أن يستغفر ويظل عاصياً، ويريد أن يبقى عدواً لنفسه عدواً لدينه عدواً لرسوله عدواً لكتابه عدواً لمولاه هذا هالك خاسر لا خير فيه، لا تحزن عليه واتركه، لا تتصور أنه يعادي الناس أو يعادي القبيلة بل إنه يعادي نفسه فيهلكها ويوردها موارد الدمار، يوردها في النار، ثم يقول: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:127 - 128] {فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ * نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} [لقمان:23 - 24] {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر:3] {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} [الزخرف:83].(111/3)
الخطوة الثانية: إصلاح المستقبل بالنية الطيبة
هذا الذي يرفض ولا يريد أن يستغفر أو يتوب لا تحزن عليه: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الغاشية:25 - 26] دعه يلهو دعه يلعب دعه يغني دعه يسهر دعه يسكر دعه يفجر لكن من أين الطريق؟ هل توجد طريق غير طريق الله؟ هل يستطيع أن يمتنع إذا دعاه داعي الله؟ إذا تخلى عنه الرجال، وتخلت عنه الأموال والأولاد، وتخلت عنه المناصب، من يمنعه من الله؟ من يمنعه من رب العالمين؟ وهناك يقبض الله عليه قبضة لا يفلته إلا في النار، هذا ليس فيه حيلة، فالله يقول: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة:40 - 41] مهما خوفته لا يخاف؛ لأن الله يقول: {وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَاناً كَبِيراً} [الإسراء:60] مهما رغبته في رحمة الله عز وجل وفتحت له الآيات الساطعات الواضحات، يقول الله: {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا} [الأنعام:25] {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} [الأعراف:146].
هؤلاء ما عندهم قابلية للسير في طريق الله، لا يريدون أصلاً هداية الله، فهؤلاء يقول الله تبارك وتعالى فيهم: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} [الحجر:88] أي: اتركهم والمرجع إلينا.
لكن شخص يقول: أريد أن أرجع يا رب إليك، وأريد أن أتحول بقلبي وقالبي إليك، فكيف الطريق؟ نقول له: الطريق سهل، الماضي تمحوه بالاستغفار، والمستقبل تصلحه بالنية الطيبة، وهل في أن تنوي النية الطيبة تعب عليك؟ ليس هناك تعب أن تنوي وتعقد العزم في المستقبل أن لا تعمل سيئاً، ولا تترك لله طاعة، هذه النية خير من عملك، بحيث أنك لو مت فكل هذه النية الطيبة الله يكتبها لك.(111/4)
الخطوة الثالثة: إصلاح الحاضر بفعل الأوامر وترك النواهي
وماذا بقي معك بعد الماضي والمستقبل؟ بقي الحاضر الذي نعنيه الآن، ما من لحظة تمر عليك الآن إلا ولله عز وجل أمر ونهي عليك، اجتهد أن تنفذ الأمر وتترك النهي فقط، إذا أمر الله بالصلاة تصلي، إذا أمر الله بالصوم تصوم، إذا أمر الله بالحج تحج، إذا كنت صاحب مال وأمر الله بزكاته فزك، ثم ماذا بعد؟ نهى الله عن النظر إلى الحرام فلا تنظر إلى الحرام نهى الله عن سماع الغناء والحرام فلا تسمع نهى الله عن الغيبة والنميمة فلا تغتب ولا تنم نهى الله عن البطش باليد في الحرام فلا تبطش بيدك حراماً نهى الله عن أن تسعى بقدمك إلى الحرام فلا تمش لماذا؟ أنت مقيد، أنت عبد رباني تسير على نور من الله أنت تنظر بالله وتسمع بالله وتتكلم بالله وتبطش بالله وتمشي بالله لأنك عبد مع الله نور الله قلبك فتح الله بصيرتك ربطك به لست عبداً حيوانياً لست عبداً شهوانياً لست إنساناً شيطانياً لست عبد هواك ولا عبد شيطانك لا.
أنت إنسان تسير في الأرض ومعلق بالسماء: {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ} [آل عمران:162] {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك:22] ليس هذا كهذا أبداً.
هذه هي المراحل الثلاث التي تصلحها أيها الشاب قبل الهداية: أن تصلح الماضي بالاستغفار، وتصلح المستقبل بالنية الحسنة، وتصلح الحاضر بالعزم على أنك لا تعصي الله فيه، ولا ترتكب معصية ولا تترك لله فيه طاعة.(111/5)
الطريق إلى الجنة تمر عبر مسارات
أما الطريق فكما يوضحها الشيخ: أبو بكر الجزائري في رسالة له، يقول: الطريق بالنسبة للجنة سهلة جداً، فهناك أربعة مسارات: اثنين في اتجاه الجنة، واثنين في اتجاه النار، الذي في اتجاه الجنة طريق واضح أبيض، محجة بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فيها مساران لا بد من السير فيهما:(111/6)
المسار الأول: الإيمان بالله
المسار الأول: اسمه مسار الإيمان.
المسار الثاني: اسمه مسار العمل الصالح.
ولذلك قرن الله بين المسارين في كل القرآن: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الشعراء:227] {إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} [سبأ:37] {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة:277] المهم أنه لا يمكن أن تصل إلى الجنة إلا إذا سرت في المسارين، خطوة في الإيمان وخطوة في العمل الصالح، لكن إيمان بدون عمل صالح كذب وادعاء، الذي يقول: إنه مؤمن ولا يعمل عملاً صالحاً هذا مدعٍ، ما أقام على صدق دعواه وإيمانه برهاناً ودليلاً، من انقياده وطاعته لله وبعده عن معصية الله، وعمل صالح بغير إيمان لا يقبله الله: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23] لا بد من اقتران الإيمان بالعمل الصالح.
وهذا الطريق طريق الإيمان واضح جداً.
أولاً: لنعتقد جازمين ومعنى: نعتقد أي: نجزم ونؤمن في أعماق نفوسنا لا في مخيلاتنا، وانتبه: الإيمان السطحي الذي لا يغير من سلوكك ولا يبلغ حد الجزم في نفسك، ولا يدخل إلى أعماق نفسك، ولا يترجم هذا إلى الانقياد والإذعان والخضوع لمولاك وخالقك، ولا تظهر منه حرارة وجدانية، والتهاب وتحرك في قلبك على دينك وعلى عقيدتك وعلى خوفك من الله، هذا ليس بإيمان، هذا يسمى فكرة أو رأياً أو أي كلام، إنما الإيمان أن يدخل قلبك، ويستقر في أعماق نفسك هذا هو المؤمن.
فلتعتقد أولاً جازمين: أن الخالق لهذا الكون ولهذا الإنسان ولكل من على وجه البسيطة هو الله الذي لا إله إلا هو، وأنه المدبر، وأنه الرازق، وأنه هو الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى هذه أول قضية.
ولنعتقد بعد ذلك: أنه ما دام هو الخالق لوحده فيجب أن يكون هو الآمر لوحده: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف:54] لا يصلح أن الله يخلق وغيره يأمر، هذا شرك لا يصح، فما دام أنه الخالق وحده فيجب أن يكون هو الآمر وحده، فإذا أمر غير الله بأمر يناقض ويصادم ويرد أمر الله، فيجب أن يرفض المسلم أمراً يتناقض مع أمر الله؛ لأنه: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) فالأمر الأول والأخير لله: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50].
هذه قضيتان: القضية الأولى: أن الخالق للكون وللإنسان والعوالم سفليها وعلويها، ليلها ونهارها، شمسها وقمرها، أشجارها وجبالها، أنهارها وبحارها، كل من على وجه البسيطة، هو الله: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50] ما من مخلوق في الكون من الذرة إلى المجرة، إلا وهو على هداية من الله، وقد درستم في العلوم: أن الذرة هي أصغر جزيء في المادة، أي: أن كل مادة من مواد هذا الكون لها ذرات، الحديد له ذرة، الألمنيوم له ذرة، البلاستيك له ذرة، الخشب له ذرة، الطين له ذرات هذه مواد، الذرة هي أصغر جزء، وما هي الذرة؟ الذرة لو أتيت بقطعة سكر وسحقتها في المهراس أو طحنتها في مكينة القهوة حتى صيرتها مثل البودرة، ثم أخذت واحدة من هذه البودرة (واحدة صغيرة ما تراها أنت) وجعلتها على رأس دبوس مثلاً وأدخلتها في المجهر (الميكروسكوب) (المجهر الإلكتروني الحديث) الذي يكبر ثلاثة ملايين مرة، يجعل من (المليمتر) ثلاثة كيلو، (المليمتر) الذي هو واحد على عشرة من (السنتيمتر) وتضع هذه الذرة ثم تنظر فيه إلى الذرة وترى في هذه الذرة عالماً، كاملاً مكوناً من حركة، فيه نواة في الوسط يسمونها النيترون، وفيه شحنة كهربائية سالبة، وفيه حول هذه النواة والنيترون إلكترونات، هذه الإلكترونات تدور باستمرار بعكس اتجاه الساعة، تدور مثل دوران المعتمر والحاج حول الكعبة.
لما تأتي لتطوف فإنك تجعل الكعبة على يسارك وتطوف، بينما الساعة تدور عكس ذلك، الآن هذه النواة تدور مثلما يدور الطائف، وكل مادة فيها إلكترونات تختلف عن المواد الأخرى، فمثلاً: الإلكترونات في الحديد ثلاثة عشر إلكترون في كل نواة، إلكترونات النحاس ستة عشر إلكتروناً في كل نواة، الإلكترونات في الألمنيوم عشرون إلكتروناً، الإلكترونات في اليورانيوم ثلاثة وخمسين إلكترون، وكلما زادت الإلكترونات في هذه الذرة كان هذا العنصر أو هذه المادة أقدر على نقل الشحنة الكهربائية، وكلما قلَّت هذه الإلكترونات كلما كانت هذه الحركة والقدرة على نقل القوة الكهربائية والشحنة الكهربائية غير قوية بمعنى: أن هناك تعادلاً كهربائياً بين الشحنة السالبة الموجودة في الإلكترونات والشحنة الموجبة الموجودة في النواة، فإذا تخلخل هذا التعادل حصل انفجار، وما تسمعون عنه الآن من تفجير الذرة، ما هو تفجير الذرة؟ تفجير الذرة هو خلخلة النظام والتعادل الكهربائي بين الإلكترونات وبين النواة، وجاءوا طبعاً بأغلى مادة يوجد فيها أكثر عدد من الإلكترونات وهي اليورانيوم، واليورانيوم معدن غالي الآن، ومنه تصنع القنبلة الذرية.
هذا اليورانيوم استطاعوا أن يشحنوا ذراته، واستطاعوا أن يفصلوا هذه الشحنات الموجودة -السالبة والموجبة- يحصل من هذا الانفصال تفجير، وبقدر قوة وعدد الإلكترونات والذرات يحصل قدرة التفجير، هذه الذرة عالم! من المجرة إلى أعلى شيء في الكون وهي المجرات التي تتكون منها المجموعات الشمسية.
كل شيء في هذا الكون خلقه الله وأعطاه الهداية، وأعطاه القدرة على أن يسير في الخط الذي رسمه له الله، ولا تتصوروا أن الحيوانات والطيور والحشرات تعيش هكذا من غير نظام لا.
هذه عوالم لها أنظمة لها سنن لها قوانين لها أحكام لها شرائع تعرفون وتسمعون النملة التي مر عليها سليمان ودخل وادي النمل: {قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ} [النمل:18] واحدة من النمل رأت الوفد والموكب آتياً، فخشيت أن يتعرض هذا الخلق للإبادة؛ نظراً لأنه لم يعد يراهم، أنت عندما تمشي في الطريق لا تنظر في الأرض حتى ترى النمل الصغير، فلما رأته قامت هي ونادت وقالت: {يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل:18].
يقول المفسرون: إنها نادت وأمرت ونهت وحذرت واعتذرت فنادت قالت: (يا أيها النمل) وأمرت: (ادخلوا مساكنكم) ونهت وحذرت فقالت: (لا يحطمنكم سليمان وجنوده) واعتذرت، قالت: (وهم لا يشعرون) لا يدرون، لا يرونكم! هذه هل عندها عقل أم ليس عندها عقل؟! عندها عقل.
يذكر ابن القيم رحمه الله في كتاب له اسمه " مفتاح دار السعادة " يقول: إن رجلاً كان في سفر، وفي الطريق مر على شجرة، فجلس تحتها يستظل، وبينما هو مستظل إذا بمجموعة وقوافل من النمل تمشي، يقول: ونملة من النمل خرجت من السير ورأت لها رجل جرادة فأرادت أن تحمله ليكون لهم غذاء، يمكن أن يعيش عليه النمل شهراً، فحاولت حمله من كل جانب فلم تستطع، فتركته ورجعت إلى الخط العام، وأمسكت لها ست نمل من جماعتها، فأخبرتهن فجئن إليها.
يقول: لما رأى الست نملات قام وحمل رجل الجرادة، وفي المنطقة نفسها بحثت النمل فلم تجد رجل الجرادة؛ فاعتذرت منهن وودعتهن فرجعن، ولما دخلت النمل في الخط العام رجعت في رحلتها فوضع الرجل في مكانها؛ فلما جاءت ورأتها رجعت بسرعة لتستدعي النمل، فقالت: ارجعوا! فرجع النمل فقام هذا الإنسان وأخذ رجل الجرادة (منكد هذا الإنسان!) ينكد على هذه الضعيفة، فاعتذرت منهن، وقالت: الحقيقة أنا وجدتها لكن لا أدري أين ذهبت! فسامحنها في المرة الثانية ورجعن، ولما رجعت وضعها مرة ثالثة، فلما رأتها جاءت مسرعة جداً ودعت الست نملات، فرجعن معها ولكنه أخذها للمرة الثالثة، فلما أتت النمل في المرة الثالثة ولم تجدها مباشرة أحطن وأمسكن بها انتهى الأمر مقبوض عليها! هذه كذابة! هذه تقدم معلومات غير صحيحة وغير دقيقة تكذب على الأمة! فما الذي حصل؟ أخذتها مجموعة النمل حتى أتت إلى الخط العام، فوقفت على الخط وأعلنت حالة تنفيذ حكم واحد على هذه الكذابة، وقام النمل كله وتجمع من أول الطريق ومن آخر الطريق وعمل دائرة وأخذوها ووضعوها في الوسط ثم انقضوا عليها من كل جانب وقطعوها قطعة قطعة هذا نظام أم ليس بنظام؟! عالم النحل -تعرفون النحل- كيف هذا العالم الدقيق؟ كل مخلوق وكل موجود من الذرة إلى المجرة، كله يمشي وفق الاتجاه الذي خلقه له الله تعالى من أجله، فيجب أن تعتقد أنت عقيدة جازمة، أن الله هو خالق كل شيء؛ لأن الله يقول: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزمر:62] متصرف، مالك الملك، مالك كل شيء، له الأمر -تبارك وتعالى- من قبل ومن بعد هذه الأولى.
الثانية: أن تعتقد أنه ما دام أنه الخالق لوحده، فيجب أن يكون هو الآمر لوحده ولا ينازع في أمره.
الثالثة: أن حكمة الله عز وجل اقتضت إرسال الرسل لبيان مراد الله، فقال: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165].
فاقتضت حكمة الله أن يرسل الرسل، وأن ينزل عليهم الكتب، من أجل بيان الطريق إلى الله تبارك وتعالى، وهذا الطريق بدأه من الأنبياء نوح عليه السلام، وختم بمحمد صلى الله عليه وسلم، ثم ختم بالكتاب الكريم المهيمن وهو القرآن العظيم الذي فيه كل شيء: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38].
وتضمن الكتاب الكريم الشريعة والعقيدة، وتضمن الإيمان كله مع أركانه: الإيمان بالله الإيمان بالكتب الإيمان بالرسل الإيمان بالملائكة الإيمان بالبعث بعد الموت الإيمان بالقدر خيره وشره من الله عز وجل الإيمان بالجنة الإيمان بالنار الإيمان بالحوض الإيمان بالصراط الإيمان بالميزان الإيمان بالقبر الإيمان بكل المغيبات التي أخبر بها(111/7)
المسار الثاني: العمل الصالح
وبعد الإيمان الطريق الثاني وهو العمل الصالح الذي هو ممثل في الشريعة، فلنصل الصلوات الخمس بكمال الطهارة والخشوع والخضوع في جماعة المسلمين، ولنؤد الزكاة، ولنصم رمضان، ولنحج البيت الحرام، ولنقرأ القرآن، ولندع إلى الله، ولنأمر بالمعروف، ولننه عن المنكر، ولنتعلم دين الله؛ لأن هذه رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم ونحن ورثته: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108].
ولكن "على بصيرة" هذه كلمة مهمة؛ لأن من الناس من يدعو إلى الله على غير بصيرة فيعميها، يريد أن يكحلها فيعميها، والبصيرة: هي الفقه في الدين والفهم لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأسلوبه وهديه في الدعوة، هدي الرسول صلى الله عليه وسلم واضح، وهو: الحكمة واللين، وعدم العنف، والصبر، والتؤدة، لكن القسوة والعنف والشدة والمضاربة هذه ما تؤدي إلى دعوة، تؤدي إلى ردود فعل تجعل الناس أعداءً للدين، حتى في بيتك أنت الآن عندما تأتي وأنت مستقيم ملتزم متدين وتريد الهداية، تدخل البيت وربما تجد أشياء لا تحبها، وتجد أنها مغايرة ومناقضة لما ينبغي أن يكون.
وتريد أن تغير الوضع في البيت بمجرد قلم منك، فتقوم بالصياح على أبيك وأمك وعلى إخوانك، وتظن بهذا أنك تدعو إلى الله! ليس هذا أسلوب الدعوة، أنت بهذا الأسلوب عندما تقف بقوة وبعنف وبمجابهة مع أمك وأبيك وإخوانك تضطرهم إلى أن يقفوا ضدك، ويكرهوك ويكرهوا دعوتك ودينك، وبالتالي يعادونك، وأي شيء يرون أنه يغيظك يعملونه بدلاً من أن يكونوا أنصاراً لك على الخير وأعواناً على الدين.
أذكر لكم قصة لشاب من الشباب الطيب عمره ست عشرة سنة -وقد هداه الله ووفقه- ولكنه مسكين بحكم عدم السعة بالعلم، دخل إلى البيت وأخذ يغير من قريب ومن بعيد، ويخاصم، ويصيح على أمه وأبيه وإخوانه المهم أن أمه ضجرت منه وتصدت له، وأصبحت تبحث عن كل شيء يغيظه تفعله قال لها: لا تخرجي إلى السوق، قالت: لا.
والله سأخرج.
وكانت تخرج إلى السوق وهي متغطية فأصبحت تخرج وهي كاشفة! إذا دخل ورأته وكان الراديو مغلقاً ترفع الصوت جداً، وتقول: إن كنت رجلاً تعال وأغلقه، وإذا اقترب منها ضربته بالعصا المهم صارت تعاديه في كل شيء، وأخيراً اضطر المسكين إلى أن يخرج من البيت، والخروج من البيت هدف من أهداف الشيطان من أجل زعزعة كيان الأسرة وفك رباطها، وفي نفس الوقت إظهار أنك -ما شاء الله- تحب في الله وتبغض في الله، وكنت فاشلاً في دعوتك مع أرفق الناس بك أمك وأبيك، فأعلنت التمرد عليهم والسلبية.
وهذه طريق سهلة يستطيع كل واحد أن يعملها: أن أترك أهلي وأذهب لأقعد في المسجد هذه سلبية، الإيجابية أنني أستطيع أن أصلح هذه الأم، وأن أصلح هذا الأب وأصلح الإخوان، فبم أصلحهم؟ بالصبر بالأسلوب بالحكمة أصبر عليهم ولا أجادلهم، حتى ولو أراهم على المنكرات، أنا نفسي آخذ بالكمال أنا نفسي كإنسان ملتزم لا أسمع حراماً لا أمشي في الحرام لا آكل الحرام لا أسهر على حرام آخذ نفسي بكل كمال لكن غيري آخذهم بالقوة؟ كلا.
كلا، بل آخذهم باللين، والذي يطيعني الله يحييه والذي لا يطيعني الله يجزيه الخير أدعو له في الليل والنهار.
أما أن الذي يطيعني الله يحييه، والذي لا يطيعني الله يلعنه، والله لا يُرد عليه إلا بقول: هذا خبيث، هذا ليس فيه خير، وأبغضه وأخاصمه.
سبحان الله! أنت كنت من قبل هكذا، أنت متى اهتديت؟ بعض الشباب ليس له سوى شهرين أو ثلاثة أو أربعة أو سنة، حسناً أنت كنت ضالاً، لو أنه جاء أحدهم وأنت عاصٍ وضال وجاءك بهذا الأسلوب، بالله كيف يكون وضعك؟ أكنت تطيعه أو تضاربه؟ تضاربه رأساً، وتقول له: اذهب يا شيخ وريحنا منك لكن ربي هداك، ولهذا يقول الله: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيكُم} [النساء:94] الله منَّ عليك بالهداية فارحم هؤلاء الناس.
فهذا الشاب يقول: بعدما تعب منها خرج، وجاءني يشكو عليَّ، فلما شكا عليَّ قلت له: يا أخي أنت أخطأت، حقيقة أنت السبب في فساد أمك، أمك طيبة وصالحة، ولكن أسلوبك هو الذي أفسدها، وعليك أن تصلح ما أفسدت.
قال: كيف أصلح ما أفسدت؟ قلت له: ارجع إلى البيت.
قال: كيف أرجع والمنكرات؟ قلت له: في غرفتك لا تسمع المنكرات ولا تنظر إلى المنكرات، لكن لا تقل لهم شيئاً، جئت وهم على المنكرات دعهم، أمك تريد أن تخرج إلى السوق اذهب معها، يقول الله: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} [العنكبوت:8] لكن: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15] فأنت في نفسك لا تطعهم في المعصية لكن دعهم على ما يريدون وتدرج رويداً رويداً.
اغتنم الفرص، اهتم بالمناسبات، استغل الأوقات التي يكون فيها يقظة عندهم مثل الوفاة، مثل المرض، مثل الموعظة، عظهم بكلمة، لا تعطهم الكثير، بل مثل المريض، الآن المريض إذا أتيت عليه وهو مريض سوف يموت هل تفتح فمه وتدخل الأرز غصباً؟ هو لا يريد الزاد، هو مريض الآن، تأتي له بالأرز واللحم وتأتي له بالإدام والفاكهة، وتقول له: كل.
يقول: لا والله.
فماذا يحصل؟ ماذا تقول له؟ تقول له: من فضلك، لأجل خاطري، هذه الملعقة فقط، والله إذا لم تأكل الزاد لن آكل ولن أتغدى، أكرمني هذه المرة، فيقول: يا ولدي أنا لا أريد أن آكل، أو تقول أمك -إذا كبرت-: يا ولدي أنا لا أريد أن آكل، يا ولدي أنا مريضة، فتقول: لقمة فقط، فتقول: هات هذه اللقمة، وتأكلها بغصب.
أو أنك تقول: لا والله لا بد أن تأكل غصباً عنك، ثم تأخذ وتمسك لحيته من فوق ومن تحت ثم تأتي بالصحن وتصبه! لو فعلت هذا ماذا يحصل؟ ماذا يقول لك أبوك أو أمك؟ يقول: الله لا يكثر خيرك، ولا يجمل حالك أنت ولا زادك، لا أريد الزاد بهذه الطريقة، أكثر الشباب الآن لا، يريد أن يغصب أمه أو أباه ويدحس الدين دحساً في قلوبهم، اسمعي اسمعي، خذي حتى تكرهك، وتقول: اتركنا منك ومن كتبك وأشرطتك ودينك يا أخي! هذا الأسلوب ليس من أساليب الدعوة، الأسلوب يكون باللين، تأخذها مرة بالسيارة وتسمعها شريطاً، إذا قالت: أغلق، تقول: طيب.
فقال لي هذا الرجل: والآن ماذا أفعل؟ فقلت له: الآن اذهب إلى البيت وثلاثة أشهر لا تقل لها ولا كلمة، إلا عندما تحييها في الصباح وفي المساء، وتسلم على يدها ورأسها، وتقبلها، وتطيعها، ولا تغير منكراً، قال: طيب، جزاك الله خيراً.
ذهب الرجل ثلاثة أشهر وهو مثل العسل في البيت، جالس معهم في البيت، وأي طلب يرسلونه يذهب هو، وكان في السابق لا يدخل البيت وإنما يبقى مع الإخوان في الله، مع الزملاء، لا يشتري لأهله شيئاً ولا ينفعهم بشيء، لكن الآن عندما ذهب وأصبح موجوداً باستمرار، أي طلب إلا وهو الأول؛ أحبوه فهو معهم موجود في البيت.
بعد ثلاثة أشهر قالت الأم: تعال يا ولدي -الله يوفقك- الحمد لله الذي هداك -انظر اعتبرت سكوته هداية على مفهومها هي- ماذا بك؟ فقال لها: الحمد الله، الحقيقة أنا كنت من قبل مخطئاً، كنت أغير عليك، وأنت فيك خير، وأنت طيبة، وأنت فيك دين وإيمان، لكن أنا المخطئ، أنا قليل الدين، أنا الذي ما عرفت كيف أتكلم ولا شيء، الآن ماذا تريدين؟ قالت: يا ولدي ما رأيك في السوق؟ قال: ليس فيه شيء، اخرجي، ولو خرجتِ ماذا يضر؟ أنت صاحبة دين، وأنت فيك غيرة، قالت: يا ولدي والله لن أخرج مرة ثانية لأجل خاطرك، انظر كيف أتت المبادرة منها هي، والله لن أخرج مرة ثانية وهذا السوق خبيث، ليس فيه إلا رجال وليس فيه شيء، اذهب يا ولدي وائت لنا بالمقاضي، قال: أبشري، ما دام عرفتِ فأنا خادمكِ، أي طلب تريديه أنا آتي لكِ به، وأرجع الذي لا يصلح، ولو يطلع ويرجع عشر مرات.
قالت: وهذا الفيديو -لديها فيديو وأفلام- ما رأيك فيه؟ قال: ليس فيه شيء، اتركيه، الذي يريد أن يشاهد يشاهد، والذي لا يريد أن يشاهد على (كيفه) قالت: أعوذ بالله! كيف أتركه في بيتنا، وأنت ولدنا وفيك خير وأنا إن شاء الله فيَّ خير، وأبوك فيه خير؟ والله لن يجلس في البيت، أخرجه، أصبحت أمه داعية، ذهب أبوه في الليل يريد أن يسهر، قالت: انظر ربي رزقنا بولد صالح وطيب، ونحن نعاديه وضده، لماذا؟ ما رأيك لو ولدنا فاسق أو زاني أو يبيع مخدرات أو مع الخمور أو في القهاوي؟ هل نحن نغضب؟ قال: نعم والله نغضب، قالت: طيب لما هداه ربي هل يصلح أن نعاديه؟ قال: لا والله، بل نعينه.
وبعد ذلك وإذا بالأسرة كلها، جاء الإخوان يقول الولد: كنت أذهب إلى المسجد وأصلي في الأمام، وآخذهم بالعصا أضربهم بها، فيخرج واحد يختبئ في الحمام، والثاني يختبئ في (الحوش) وأضاربهم ولا أقول لهم شيئاً، أما الأب فقال: انظروا والله لو يتأخر واحد عن المسجد لأن كلمة الأب ليست مثل كلمة الأخ، أنت تهدد لكن ليس لك عليهم سلطة فهم إخوانك، لكن أبوك إذا هدد يملك أن يصنع شيئاً، فكان الأب وكانت الأم وكانت الأسرة كلها في سبيل الهداية بسبب لطف الولد، الدعوة تكون بأسلوبك ومنهجك ولكن باللطف، لا تستعجل.
الهداية تنقسم إلى قسمين: هداية إرشاد ودلالة، وهداية اتباع واهتداء.
الأول: على الأنبياء وأتباعهم.
والثاني: لله.
حسناً أنت تريد أن تبقى على ما تشاء، تريد أن تدعو الآن، أو تريد أن تدعو الناس غداً، أو أنت على مراد الله؟! أنت على مراد الله، وليس الله على مرادك، الله إذا أراد لك الهداية التزمت، أنت اسلك فيها فقط، ولذلك يقول الله عز وجل: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56] وقال: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} [الشورى:48] {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} [البقرة:272] هداهم ليس بيدك، ما أدراك لعلك يوماً من الأيام تقول لواحد: قال الله وقال رسوله، وإذا لم طعك تقاطعه، تقول: والله هذا خبيث وليس فيه خ(111/8)
الطريق إلى النار يكون عبر مسارات
بقي الطريقان المانعان من الجنة المؤديان إلى النار، وهما طريقان في عكس الاتجاه وهما: طريق الشرك بالله وطريق المعاصي.(111/9)
المسار الأول: الإشراك بالله
فالشرك بالله: أن تعبد مع الله غيره، وأن تجعل لله نداً وقد خلقك، أن تحب إنساناً أكثر من الله، أن تخاف من إنسان أكثر من الله، أن تصرف أي شيء من أنواع العبادات من رهبة أو رغبة أو خشوع أو خضوع، أو استغاثة أو استعانة لغير الله تبارك وتعالى، أو دعاء أو نذر، أو رجاء أو توكل أو أي شيء من أنواع العبادة يجب ألا يصرف إلا إلى الله.
ثم لا ندعو ولياً ولا نبياً، ولا نذهب إلى كاهن ولا إلى عراف ولا مشعوذ، ولا نصدق أحداً من هؤلاء الكاذبين الذين يدعون أنهم يعالجون علاجاً عربياً، إنما هي كهانة وشعوذة، أما العلاج الشرعي من كتاب الله وسنة رسول الله أو من أدوية محسوسة مثل الحبوب، أما كتاب وتذهب تمحيه وتشرب ماءه، فهذا كله كهانة وشعوذة هذا هو الطريق الأول وهو الشرك بالله.(111/10)
المسار الثاني: المعاصي والذنوب
المسار الثاني: مسار المعاصي والذنوب، وطريق المعاصي والذنوب ووصولها إليك من سبعة أبواب:- باب العين: ومعصيته النظر المحرم إلى النساء، أو إلى ما متع الله به الناس من متاع الحياة الدنيا.
والأذن: ومعصيتها سماع الغناء، أو الغيبة أو النميمة، أو ساقط القول، أو رديء الكلام.
الجارحة الثالثة هي اللسان: وهو كثير الآفات، فيه أكثر من تسع عشرة آفة: الكذب الغيبة النميمة الجدال المراء القول بالزور القول على الله بغير حق الخوض فيما لا يعني الخوض في الباطل الحلف الفاجر إخلاف الوعد كل هذه من اللسان.
هذه ثلاث جوارح.
الجارحة الرابعة: اليد، ومعاصيها أن تمدها إلى ما حرم الله، أو أن تكتب بها شيئاً حرمه الله، أو أن تأخذ بها شيئاً حرمه الله.
الجارحة الخامسة: الرجل، ومعصيتها أن تنقلك إلى مكان لا يرضى الله عنه.
الجارحة السادسة: الفم والبطن، ومعصيته أن ينزل فيه شيء حرمه الله من رباً أو حرام، أو رشوة أو تبغ أو دخان، أو (شمة) أو (جراك) أو (قات) أو أي شيء من هذه الخبائث، أو خمر أو مخدرات.
والجارحة السابعة: جارحة الفرج، يزني به الإنسان أو يلوط.
هذه هي المعاصي، إذا استطعت أن تقيم من نفسك حارساً على أبواب المعاصي السبعة وخلصت من الشرك إلى التوحيد، وقمت بالإيمان والعمل الصالح فقد نجوت، وقد خلصت من الورطة التي ورطها أكثر الناس في هذه الدنيا، ولا مخلص لك من ورطة هذه الحياة إلا بهذا الطريق إن كنت تريد النجاة في هذه الدنيا والآخرة، أما إذا كنت لا تريد فانتظر، قال تعالى: {فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} [الأعراف:71].
أسأل الله تبارك وتعالى أن يسلك بي وبكم سبيل المؤمنين، وأن ينجينا وإياكم من عذابه عز وجل إنه على كل شيء قدير، والله أعلم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(111/11)
الأسئلة(111/12)
الدعوة إلى الله أفضل الطرق المؤدية إلى الجنة
السؤال
أي الطريقين أفضل: أن أمكث بمصحفي في محرابي متفرغاً لعبادة الله، هارباً من غضب الله، وأستزيد من الأجر، أو أن أدعو إلى الله، وهذا الطريق بلا شك أنه أقل من الأول في كسب الأجر، فأي الطريقين أسلك؟
الجواب
من قال لك: إن الطريق الثاني هو أقل أجراً من الطريق الأول؟ بل العكس، الطريق الثاني هو أعظم أجراً وأبقى وأدوم من الطريق الأول، الطريق الأول طريق منفعته لازمة لك فقط، حسنات تجمعها لنفسك، لكن الطريق الثاني طريق منفعته متعدية إلى غيرك.
إذا دعوت إلى الله، وهدى الله على يديك رجلاً واحداً فإنه خير لك من حمر النعم، أو خير لك من الدنيا وما عليها، وأيضاً فإن هداية الإنسان الواحد على يديك ستكون كل أعماله من صلاة وزكاة وصيام وحج وبر وكل حسناته، تأتي يوم القيامة تجدها صورة كأصل في ميزان حسناتك؛ لأن من دل على هدى كان له مثل أجر فاعله دون أن ينقص من أجر صاحبه شيء، ومن دل على إثم أو ضلال كان عليه من الوزر مثل ما على فاعله دون أن ينقص من وزر فاعله شيء.
فعملية الجلوس في المحراب متضرعاً تقرأ، هذه ليست طريقة الرسل، هل بعث الله الرسل على هذا المنوال، وتركهم يجلسون في المساجد والزوايا يعبدون الله ويتضرعون؟ لا أبداً.
بعث الله الرسل في أواسط أقوامهم وكلفهم بحمل الرسالة، ثم لما انتصر الدين هل جلس الصحابة في مكة والمدينة يتعبدون أم تشتتوا وتفرقوا وماتوا في كل بقاع الأرض؟ ما من بقعة في السند ولا في الهند ولا في الشرق والغرب إلا وفيها قبر مسلم، كان في إمكانه أن يجلس في زاوية من الزوايا ويقرأ ويتعبد، لكن لا، ما هذا بصحيح، الطريق الدعوة والانتقال بها، ودعوة الناس لكن على هدي الرسول صلى الله عليه وسلم: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف:108] الذي لا يدعو إلى الله على بصيرة لا يدعو إلى الله حقيقة، بل يدعو إلى الشيطان وإلى نفسه: {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108] نسأل الله لي ولك أن نكون من أهل البصيرة في دين الله.(111/13)
كيفية معالجة مرض ضعف الإيمان
السؤال
أنا شاب أجد في نفسي الثقل أمام الأوامر الشرعية، فهل هذا نفاق؟ وكيف السبيل إلى تقبل الأوامر الشرعية بنفس طيبة؟
الجواب
هذا ليس نفاقاً ولكنه ضعف في الإيمان، الآن إذا جئت إلى مريض وطلبت منه أن يحمل لك كيساً هل يستطيع حمله؟ مريض على السرير، وقلت له: من فضلك ارفع لي هذا الكيس على السرير -كيس أرز أو كيس حبوب أو سكر- لا المريض لا يستطيع، لكن إذا أصبح متعافي نشيطاً فإنه يستطيع، فأنت ثقل الطاعات والأوامر الشرعية عليك يدل على ضعف ومرض في قلبك.
كيف تعالجه؟ بالعلاج الإيماني: عن طريق حلق الذكر، ومجالسة العلماء، وكلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومؤاخاة الطيبين، والبعد عن السيئين هذه وسائل العلاج، وبعد ذلك بالمجاهدة؛ لأن الله يقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69].
والعلم بالتعلم، والصبر بالتصبر، والدين بالمجاهدة، جاهد، أنت يصعب عليك أنك تقوم أو يثقل عليك أن تقوم لصلاة الفجر، ولماذا؟ لأنك تريد النوم، جاهد نفسك حتى تصبح العبادات والطاعات في حقك ملكات راسخة، وعادات ثابتة تمارسها بسهولة، هذه تحتاج إلى مبادرة من نفسك، لا أحد يستطيع أن يداويك في هذا الموضوع، لا تتصور من العالم أن يقول لك: أنا سأحمل عنك جزءاً من الصلاة، لا.
ولا المدرس ولا الزميل ولا بل أنت أنت، البداية منك، والمبادرة من جانبك، لأنها داخلة ضمن دائرة مسئولياتك أنت، في أن تهتدي وتحمل دين الله بقوة إن شاء الله.(111/14)
حكم من أصبح جنباً في رمضان من العادة السرية ولم يغتسل
السؤال
رجل يعمل العادة السرية ليلة رمضان ثم يتسحر وينوي الصوم ولا يغتسل بل يكتفي بالوضوء، فما رأيكم في ذلك؟
الجواب
العادة السرية عادة محرمة بالكتاب وبالسنة، والمسلم الوقاف عند أوامر الله لا يعملها، قبل أن نعطيك ونفتيك في سحورك وفي صيامك، نقول: إن هذا محرم؛ لأن الله يقول: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المعارج:29] {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} يعني: الإماء {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المعارج:30 - 31] هل تريد أن تكون معتدياً على حدود الله تبارك وتعالى؟ هذه الآية قد جاءت في سورة المؤمنون، فالله أخبر في هذه الآية أن الذي لا يقتصر على الزوجة أو على ملك اليمين، ويبحث عن شيء فوق ذلك أنه ما أفلح، وأنه عادٍ، وأنه غير حافظ لحدود الله عز وجل، فليتق الله هذا الشاب في نفسه، ولا يعمل هذه العادة.
والرسول صلى الله عليه وسلم في السنة يقول: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة -يعني: الزواج والنفقة- فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم -ولم يقل: عليه بيده- فإنه له وجاء).
نكاح اليد الذي يسمونه "العادة السرية" اسمه في الشرع "نكاح اليد" وصاحبه ملعون (لعن الله ناكح يده) وفي الأثر: أنه يأتي يوم القيامة ويده حبلى منه، ما من حيوان منوي يخرج منك عن طريق العادة السرية إلا حملت منه يدك ولكن لا يظهر منه الحمل الآن، ويظهر الحمل يوم القيامة.
فيا أخي المسلم تب إلى الله أول شيء.
أما قضية الصوم حال أنك تسحرت ولم تغتسل، فإن الرجل إذا أصبح جنباً -من الحلال أو من الاحتلام- وصام فإن صيامه صحيح؛ لأنه لا يشترط في نية الصوم الطهارة، تقول عائشة (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح جنباً فيصوم ثم يغتسل ويتوضأ) أما هذا الذي يقول: أنه مارس العادة السرية وتوضأ، فوضوءه غير رافع للحدث الأكبر؛ لأن العادة السرية خروج ماء هو مني وفي الحديث (الماء من الماء) أي: ماء الغسل يجب بخروج الماء وهو (المني) أي: أنه يوجب الغسل، فلا يرتفع الحدث الأكبر عنك بالطهارة الصغرى وهي الوضوء، فينبغي لك أن تعود إلى البيت وأن تغتسل وأن تقضي جميع الصلوات التي صليتها بالوضوء؛ لأنها لم تقبل منك.(111/15)
كيفية قراءة القرآن وختمه في رمضان
السؤال
هل يستطيع الإنسان أن يختم القرآن الكريم في شهر رمضان المبارك بكثرة القراءة؟ الشيخ: حسناً، أولاً: يستطيع الإنسان أن يختم القرآن ليس في رمضان مرة بل في رمضان مرات ومرات، وقد قرأت في كتب العلم وكنت أقف عندهم وأتحير: كيف أن بعض أهل العلم كان له في رمضان ستون ختمة، الشافعي رحمه الله كان يختم في رمضان ستين ختمة، في كل يوم ختمتين، ختمة في الليل وختمة في النهار! فأقول في نفسي: كيف؟ هل نقعد شهراً ونختم مرة واحدة؟ فجربت مرة من المرات اعتكفت في أحد المساجد، وقلت: لأجربن هذا اليوم، هل أستطيع أن أختم القرآن مرة، فبدأت بعد صلاة الفجر في تلاوة القرآن وانتهيت منه قبل المغرب بحوالي ساعة، ختمته كله، لكنني لم أكن أتوقف إلا للصلاة، فعرفت أن ما ذكر وما نقل أنه صحيح.
وبعد ذلك قراءتهم رحمهم الله قراءة متمكنة، القرآن اختلط بدمائهم، وأصبحت ألسنتهم وشفاههم كأنها مصنوعة للقرآن، لم يعد فيها تعب، يمارسون القرآن وهو سهل عليهم، رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به -يعني: متمكن، أصبح مثل الآلة- مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران: أجر القراءة وأجر المشقة).
لكن في سبيل التحصيل، لا يقعد يتعتع في البيت ويقول: أنا أريد أجرين لا.
إذا كان يتعتع ولا يتعلم هذا يمكن أن يكون عليه وزر، لكن يتعتع عند التعلم والتلقي، فلا بد أن يتعلم حتى يستقيم لسانه، فهذا الأخ الذي يقول: هل يستطيع الإنسان؟ نعم يستطيع الإنسان أن يقرأ القرآن في رمضان ليس مرة بل مرات كثيرة، ولكن ورد في بعض الآثار: أن السنة ألا يختم في أقل من ثلاثة أيام بلياليها؛ لأنه لو ختم في أقل من ثلاث فسيؤدي هذا إلى انقطاعه عن مصالحه، وربما لا يفهم المراد من القرآن، ولكن الشافعي رحمه الله كان متفرغاً للعلم، ليس له مصلحة واحدة في الدنيا، حتى قيل أنه قال: من اشتغل عن العلم بشراء بصلة لم فاتته مسألة، يقول: من اشتغل عن العلم بشراء حزمة بصل لا يتعلم، فكيف أنه يشتغل عن العلم بشراء (كشف) كل يوم ومعه بيان من زوجته بالحاجات، كيف يتعلم هذا؟ لا يتعلم والله المستعان!(111/16)
صلِ وانتظر النتيجة
للصلاة مكانة عظيمة في جميع الأديان السابقة، والمحافظة عليها مما امتدح الله به الأنبياء.
إلا أن الله اختص هذه الأمة عمن سبقها بأن جعل الصلاة عمود هذا الدين، وميزها عن سائر العبادات بأن افترضها على أمة الإسلام في السماء، حين عرج نبينا محمد ليلة الإسراء.
ولعظم هذه العبادة كان التشديد على المحافظة عليها، والوعيد الشديد لمن فرط في شيء منها، حتى أنها جعلت فاصلاً بين الكفر والإيمان.(112/1)
أهمية الصلاة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين سيدنا وحبيبنا وإمامنا وقدوتنا محمد صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره وسار على دربه واتبع شريعته ودعا إلى ملته وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: أيها الأحبة في الله: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وأسعد الله جميع أوقاتكم، وأسأل الله سبحانه وتعالى كما جمعنا في هذا المكان الطاهر وفي هذه الليلة المباركة وبعد أداء هذه الفريضة العظيمة أسأله أن يجمعنا بمنه ورحمته وفضله وكرمه في جناته جنات النعيم وآبائنا وأمهاتنا وإخواننا وأخواتنا وزوجاتنا وذرياتنا وجميع إخواننا المسلمين برحمته إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
أيها الأحبة: من أعظم الدلائل ومن أبرز البراهين على صدق إيمان العبد وعلى قوة يقينه هو: حرصه على أداء هذه الصلاة التي هي صلة بين العبد وبين الله، وكلما كانت علاقتك بالصلاة قوية وحرصك عليها شديداً وحبك لها عظيماً كان هذا دليلاً على حبك لله وعلى قوة إيمانك به ويقينك عليه.
وإذا نظرنا إلى هذه الفريضة العظيمة وجدنا أنها تحتل مكاناً عظيماً في الإسلام بل في كل الرسالات، فإنه ما من نبي بعث ولا رسالة نزلت إلا وفيها الأمر بإقامة الصلاة كما فيها الأمر بتوحيد الله عز وجل، فهي عبادة مشتركة لجميع أمم الأرض منذ أول الأنبياء إلى خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، يقول عز وجل: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ} [الأنبياء:73] فبعد أن سرد قصص بعض الأنبياء ذكر أنه أوحى إليهم فيما أوحى إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة.(112/2)
اهتمام الأنبياء بالصلاة
يذكر الله عن بعض الأنبياء بصفة صريحة ظاهرة الأمر بالصلاة: - إبراهيم عليه السلام: يقول تعالى: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ} [إبراهيم:37] وكان من دعائه: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ} [إبراهيم:40].
- إسماعيل عليه السلام: يثني الله سبحانه وتعالى عليه ويقول: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ} [مريم:54 - 55].
- موسى عليه السلام: وذلك حينما حصل له التكليم من الله عز وجل؛ لأن الله اختصه واصطفاه بالكلام {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف:144] {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء:164] حينما عاد من رحلة العمل التي قضاها في خدمة عمه وهي إجارة عشر سنين مهراً لابنته التي تزوجها {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ} [القصص:27] ثم قضى أفضل الأجلين وهي العشر سنوات ثم استأذن عمه في أن يعود إلى بلاده وسار بأهله، فلما كان في الطور في سيناء وكانت ليلة باردة ومطيرة وشاتية وكانت زوجته في حال الوضع، والمرأة في حالة الوضع تحتاج إلى الدفء وتحتاج إلى الطعام {فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً} [طه:10] رأى نوراً فظنه ناراً: {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:10 - 14] هنا الشاهد في أول الأمر (فاعبدني وأقم الصلاة).
عيسى عليه السلام لما حملت به مريم ابنة عمران وكان حملها به بطريقة تختلف عن البشر، أراد الله عز وجل أن يظهر قدرته في خلق الإنسان من غير أب واختار لهذه الآية مريم، وسبب اختيار الله لمريم؛ لأن الله قد عصمها من الشيطان؛ ولأن أمها وهبتها لله وكانت تظن أنها ذكر، فقالت: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [آل عمران:35] وهبته لله حتى يكون خادماً لـ بيت المقدس ولكنها لما وضعت إذا بها أنثى، والأنثى لا تصلح لأن تخدم بيت المقدس الذي يرتاده الرجال {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ} [آل عمران:36] قال الله تعالى: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً} [آل عمران:37].
ولهذا ثبت في الصحيح أنه: (ما من مولود يولد إلا ويضربه الشيطان على ضلعه عند خروجه من بطن أمه إلا مريم وابنها) لم يستطع لهم الشيطان؛ لأن الله أعاذهم {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ} [آل عمران:36] من ذريتها؟ عيسى {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ} [آل عمران:37].
كان الحمل عن طريق جبريل عليه السلام؛ نفخ في جيب درعها وقالت له حينما جاء: {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً} [مريم:18 - 21] أراد الله بخلق عيسى التدليل على قدرته سبحانه وتعالى على خلق الأشياء من غير ما اعتاد الناس، فإن الله لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وقد خلق الناس على أربعة أشكال: الشكل الأول: من غير أم ولا أب وهو آدم، قبضه ربنا من التراب وقال له: كن.
فكان آدم من غير أم وأب.
الشكل الثاني: من أب بلا أم، وهي حواء: مخلوقة من ضلع آدم لكن ليس لها أم.
الشكل الثالث: من أم بلا أب وهو عيسى.
الشكل الرابع: من أب وأم وهم سائر البشر، ولهذا يقول الله عز وجل: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ} [آل عمران:59] إذا كنتم تستبعدون أن يخلق الله عز وجل إنساناً من أم بلا أب فلماذا لا تستبعدون أن يخلق الله إنساناً من غير أم ولا أب {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:59].
حملته وانتبذت به مكاناً قصياً، حملها ووضعها كله كان في آن واحد ليس في تسعة أشهر، وبعد ذلك قال: {فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً} [مريم:22] والفاء هنا يسمونها فاء الفجائية وبعضهم يسميها تعقيبية تقول: جاء فلان ففلان ففلان وراء بعض، حملته وانتبذت به وجاءها المخاض وشعرت بالألم ليس ألم الوضع، إنما ألم مواجهة المجتمع بهذا المخلوق الجديد الذي ليس له أب، ماذا تقول للناس؟! فقالت: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً} [مريم:23].
وليس أشق على النفس العفيفة والطاهرة والشريفة من أن تدنس أو يدار حولها أو حول عرضها أي شيء فيتمنى الإنسان العفيف الشريف الطاهر وتتمنى المرأة الطاهرة الشريفة أن تدفن في الأرض ولا يدور حول عرضها شيء، فالعرض غالٍ، والعرض كالتاج على الرأس؛ أي شيء يلوثه يكسره، فرأت وضعها وعانت نفسياً وقالت: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً} [مريم:23] فناداها لما خرج مباشرة وكلمها وهو من الأربعة الذين تكلموا في المهد {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي} [مريم:24] كيف لا تحزن؟! {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً} [مريم:24 - 26].
وفي هذا الوضع النفسي المؤلم يقول لها: (وقري عيناً) وقرير العين هو الإنسان المرتاح الذي يعيش أفضل حياة السرور؛ لأن عين الإنسان المرتاح تقر -أي: هذه السوداء- لكن الذي في قلبه قلق ترى عينيه غير مستقرة، لا عيناً ولا نفساً، ولدها -وهي في حالة نفسية صعبة- يقول لها: قري عيناً، يقول المفسرون: قري عيناً؛ لأنك موضع اختيار من الله لإظهار هذه الآية! وهذا تشريف وتكريم أن يختارك الله من بين سائر العالمين ليظهر عن طريقك آية من آياته وقدرة من قدراته سبحانه! يقول تعالى: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً} [مريم:26] أي: لا داعي للاعتذار؛ لأن الاعتذار لا يجدي.
ولذلك إذا رأيت التطويل مع شخص في الكلام ليس له نتيجة فكف.
فأي كلام تستطيع أن توجهه للناس وتقنعهم بولدها؟ فالأحسن السكوت والله يدافع عنها: {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّا * فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ} [مريم:26 - 27] في الصباح لم يكن معها شيء والآن قد أصبح معها ولد فاستغربوا: {قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً} [مريم:27] الفري: الشيء العظيم، {يَا أُخْتَ هَارُونَ} [مريم:28] أخوها من عباد بيت المقدس، ودائماً العروق والأصول السليمة لا تنبت إلا الثمار الطيبة؛ فذكروها بأخيها ثم ذكروها بأبيها وأمها: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} [مريم:28] كيف تشذين عن المنهج السوي؟! أبوكِ عابد وأمكِ عابدة وليست بغياً، وأخوكِ عابد، وأنت تعملين هذا؟! {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} [مريم:29] لم تتكلم؛ لأنها مأمورة ألا تتكلم، فاستغربوا وقالوا: عجيب! الطفل يتكلم؟! تكلمي أنتِ.
فتكلم الطفل {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} [مريم:29 - 30].
هذه أول كلمة قالها وهي تنسف عقيدة أكثر من مليار ونصف نصراني على وجه الأرض الذين يعتقدون أن عيسى ابن الله -تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً- هو الذي يعرف نفسه ويكذبهم في أول عبارة منه، فيقول: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} [مريم:30] لأن الله سبحانه وتعالى ليس له ولد؛ صفة الولد في الرب صفة نقص، وصفة الولد في العبد صفة كمال، الذي عنده أولاد يرفع رأسه، لماذا؟ لأنه يحتاج إليهم إذا كبر ومرض وشاب وهرم، فمن نقصه يحتاج إلى الولد، أما الله فمن كماله لا يحتاج إلى ولد ولهذا يقول الله تعالى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً * وَمَا ي(112/3)
الصلاة عمود الإسلام
احتلت الصلاة المكانة العالية والرفيعة في دين الله حتى جعلها الرسول صلى الله عليه وسلم عمود الإسلام، وأهم أجزاء الشيء عموده، فإذا عندك خيمة فالخيمة أهم جزء فيها هو العمود الذي بعدمه لا توجد خيمة، وإذا كان عندك خيمة ولا يوجد معها عمود ماذا تعمل بها؟ تصبح بطانية أو لحافاً فقط، لكن الخيمة لا بد لها من عمود، فإذا وجد العمود وجدت الخيمة، وإذا نقص وتد أو نقص شيء خاص بالخيمة تسقط، كذلك الصلاة عمود الإسلام، بحيث إذا وجدت وجد الإسلام وإذا انتفت وضاعت ضاع الإسلام.
جاء في حديث معاذ الصحيح في السنن وفي مسند أحمد أنهم كانوا في سفر -في غزوة- فقال معاذ: (أصبحت وإذا بناقتي بجوار ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار) انظروا همة الصحابة! نفوسهم عالية، لا يسألون إلا عن هذه الجنة وعن هذه النار، لو أن شخصاً منا كان في هذا الموضع لقال: أسألك سيارة أو أرضية، همنا الأراضي فقط، وهؤلاء همتهم عالية، يريد الجنة ويريد الفوز بها ويريد أن ينجو من النار، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد سألت عن عظيم).
ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه يقول: (كنت بواب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليل فأخذت إداوة ووضعت فيها ماء أرقبه ليقوم فأقدمه له، فقام من الليل ففتح الباب وأنا عند الباب، فقلت: هذا الماء يا رسول الله! قال: من؟ قلت: ربيعة، قال: سلني يا ربيعة! قلت: أسألك مرافقتك في الجنة قال: أو غير ذلك؟ قلت: ما هو إلا ذلك، قال: أعني على نفسك بكثرة السجود).
يقول معاذ بن جبل رضي الله عنه للرسول صلى الله عليه وسلم: (أخبرني بعمل يدخلني الجنة وينجيني من النار) لأن هذا هو السعادة وهو الفوز وما قيمة دنيا بعدها نار، وما قيمة قصر بعده قبر، وما قيمة جسد بعده تراب تأكله الدود لكن عندما تدخل الجنة {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185] اللهم إنا نسألك من فضلك يا أرحم الراحمين.
والله إن هذا هو الفوز أن تنادى يوم القيامة، ما هو يوم القيامة؟ يوم قيامتك أنت، وهذا قريب لأن العبد إذا مات فقد قامت قيامته، وأنت في بيت أهلك يأتي إليك ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب فإن جاء ملائكة الرحمة شاهدتهم من بعيد فتحب لقاء الله، كما قال عليه الصلاة والسلام: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، قالت عائشة: يا رسول الله! كلنا يكره الموت؟ قال: ليس ذلك، لكن المؤمن إذا رأى ملائكة ربه أحب لقاء الله) اللهم لا تحرمنا من فضلك العظيم.
ساعات حرجة أن تنظر وتقول وتعلن سعادتك التي تبدأها بأن تأخذ روحك ملائكة الرحمة وتضعها في حنوط من الجنة وكفن من الجنة، ثم تصعد إلى السماء ولها ريح كأطيب ريح وجد على ظهر الأرض، ثم تستفتح لك الملائكة في السماء فيفتح لك حتى يكتب كتابك عند الله في عليين وتعاد روحك إلى جسدك هذا والله هو الفوز وهذا ممكن وسهل جداً كما جاء في الحديث: (لقد سألت عن عظيم، ثم قال: وإنه ليسير على من يسره الله عليه) اللهم يسره علينا يا أرحم الراحمين، ثم ذكر (تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وبعد ذلك قال: ألا أدلك على رأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ قلت: بلى يا رسول الله! قال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله).
وفي الصحيحين يقول عليه الصلاة والسلام: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة) فهي عمود الإسلام، بل كانت قرة عين النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (وجعلت قرة عيني في الصلاة) وكان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، من هو الذي إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة؟! بل نفزع للتليفون، نفزع للجار وللمدير وللوزير ولم نفكر أن نفزع إلى الله.
شخص من الناس ظلم بشهادة زور على قطعة أرض، والأرض له وملكه وملك أبيه وجده والناس يعرفون ذلك، لكنَّ شخصاً أراد أن يأخذها؛ لأنها أمام البيت فهو يريدها للضيوف وموقفاً للسيارات، فذهب وسوّرها، وجاء صاحبها وقال له: يا أخي! هذه الأرض ملكي، قال: هذه ليست لك، فاشتكى ذاك، قال: تحت يدي هل عندك بينة؟ قال: عندي بينة، فذهب وأتى بشهود زور أن هذه الأرض المحددة شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً ملكاً لفلان بن فلان أباًَ عن جدٍ لا ينازعه فيها منازع ولا يشاركه فيها مشارك والله على ما نقول شهيد، وعلمهم الشهادة في الليل والله ينظر إليهم في الليل وأغراهم بنقود وقال: الدنيا دوارة؛ اليوم عليك وغداً لك، إذا شهدتم لي غداً أنا سوف أشهد لكم مرة أخرى، قالوا: مالنا بك عذر وشهدوا، قال القاضي للمشهود عليه: عندك فيهم جرح هؤلاء الشهود، قال: لا يحتاجون، التزكية أنا أزكيهم لكن كلمة أقولها يا قاضي! قال: نعم.
قال: والله إني أعلم إن هذا يعلم -صاحب الدعوة- والشهود أنهم كاذبين وأن الأرض لي ولكن أرادوا أن يأخذوها غصباً فأنا أحيلهم إلى الله فينصفني منهم رب العالمين، قال: توقع أن عندك اعتراض على الصك، قال: لا.
ليس عندي اعتراض، خرج من المحكمة ودخل إلى المسجد ورفع برقية عاجلة إلى الله؛ لأن دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب، يرفعها الله فوق الغمام وتفتح لها أبواب السماء، ويقول الله تعالى: (وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين) لكنه ما كان يريدها بعد حين، صلى ركعتين، وقال: اللهم إنك تعلم أن فلاناً ظلمني وأخذ الأرض وهي أرضي، وشهد اثنين ظلماً وزوراً، وإنه الآن يحوطها ويبني عليها وأنا أشاهده بعيني، فإن قتلته قتلوني وإن مكثت أشاهده كل يوم آلمني قلبي، اللهم إني أسألك أن تنصرني هذا اليوم وليس غداً، يقول: أريد الإجابة عاجلاً.
وخرج من المسجد وذهب إلى بيته ودخل البيت مكسور الفؤاد حزيناً، قالت له زوجته: ماذا بك؟ قال: لا شيء، أريد أن أنام، فرشت له الفراش ونام قبل الظهر، وقليل وإذا بالصارخ يصرخ في القرية، ماذا حصل؟ قالوا: حادث مروري، لمن؟ للثلاثة؛ الشاهدين وصاحب الصك قد أخذ الصك في جيبه والشهود معه وقال لهم: الغداء في البيت في القرية وفي نشوة الفرحة بالأرض دار بقوة فانقلبت السيارة أكثر من مرة ومات الرجل ومات الشاهدان وما أمسوا تلك الليلة إلا في قبورهم، وفي اليوم الثاني بعد العزاء تأتي المرأة وتأخذ الصك من ثياب زوجها وهو ملطخ بالدم لتذهب إلى القاضي وتقول: يا قاضي! والله ما قتل زوجي إلا هذا الصك، قالت: والله إن الأرض ليست لنا لقد ذهب زوجي فلا أريد أن يذهب جميع أولادي.(112/4)
أحاديث في فضل الصلاة
كان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة وكان يقول لـ بلال: (أرحنا بها يا بلال) ليس مثلنا الآن ونحن نصلي الآن ونقول: دعونا نصلي الآن من أجل أن نرتاح منها كأنها حمل نبعدها عن أكتافنا من أجل السمر، يقول: نسمر، لقد صلينا وارتحنا من الصلاة، لا.
يقول: (أرحنا بها يا بلال) أي: أدخل الراحة والأمن واللذة والمتعة في قلوبنا بها، هل نجد الراحة والأمن والمتعة في الصلاة الآن؟ أم أن بعضنا يأتي وهو مغصوب، وبعضنا في الصلاة تشاهده يراوح بين رجليه ويحك ويريد أن ينفك بأي وسيلة وينتظر حتى تنتهي الصلاة.
وكان صلى الله عليه وسلم يقول كما في الصحيحين: (سبعة يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله وذكر منهم: رجل قلبه معلق بالمساجد) وفي صحيح مسلم يقول عليه الصلاة والسلام: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قلنا: بلى يا رسول الله! قال: إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط فذلكم الرباط).
والأحاديث في فضل الصلاة وأهميتها كثيرة جداً في دين الإسلام، هذه العبادة العظيمة حتى الملائكة تعبد الله بالصلاة يقول عليه الصلاة والسلام: (أطت السماء) أي: انحنت واحدودبت (وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربعة أصابع إلا وملك راكع أو ساجد).
هناك ملائكة ركع من يوم أن خلقهم الله إلى يوم القيامة، فإذا قامت القيامة رفعوا ظهورهم وقالوا: سبحانك ربنا ما عبدناك حق عبادتك، والملائكة سُجَّد منذ خلقهم الله إلى يوم القيامة يسبحون الليل والنهار لا يفترون {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].(112/5)
من خصائص الصلاة
هذه الصلاة -أيضاً- لها خصيصة في دين الله وهي أن جميع التكاليف الشرعية فرضت على النبي صلى الله عليه وسلم في الأرض إلا الصلاة لأهميتها، لما جاء الأمر بفرضيتها استدعي النبي صلى الله عليه وسلم فأسري به من مكة إلى بيت المقدس ثم عرج به من بيت المقدس إلى السماء حتى بلغ سدرة المنتهى وفي مكان في السماء تركه جبريل، قال: تقدم، قال: أنت، قال: لا.
{وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} [الصافات:164] {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم:9 - 13] إلى آخر الآيات.
فرض الله عليه خمسين صلاة، هذا في أصل مشروعية الصلاة، ولو أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان في الأرض وفرضت عليه الخمسين لما كان بالإمكان المراجعة! مثل الزكاة؛ هل راجع الرسول صلى الله عليه وسلم في الزكاة؟ هل راجع في الصوم؟ ليس هناك مراجعة في أي شيء إلا في الصلاة، لماذا؟ لأنه في السماء بين الله وبين موسى نزل الرسول صلى الله عليه وسلم وحمل التكليف خمسين صلاة، أي: لو كانت خمسين صلاة انظروا كم نصلي في مدى (الأربعة والعشرين) الساعة نصلي كل (ثمانٍ وعشرين) دقيقة صلاة! أقل من نصف ساعة؛ لأن كل نصف ساعة صلاة، أي: ثمانية وأربعون صلاة، ويبقى معنا صلاتان ندخلها في النص نأخذ من كل نصف ساعة دقيقتين حتى نغطي، بمعنى: أنه ليس معنا إلا الصلاة نصلي ونسلم، وأذن الثانية ونصلي، وأذن الثالثة إذاً نصف ساعة تتوضأ وتصلي وتسلم وأذن الثانية، أي: أنه ما معنا إلا الصلاة، وهذا هو الصحيح؛ فالله ما خلقنا إلا للصلاة وللعبادة، فالله فرضها خمسين من أجل أن تستوعب علينا وقتنا كله.
ونزل صلى الله عليه وسلم ومر على موسى، فقال له موسى: (ما فرض الله عليك؟ قال: خمسين صلاة، قال: ارجع فاسأل ربك أن يخفف فإن أمتك لا تطيق -يقول: بني إسرائيل فرض الله عليهم صلاتين فضيعوها وأمتك ستضيعها- فرجع إلى الله سبحانه وتعالى وسأله التخفيف، فخففها الله خمساً، ونزل، قال: خمساً، قال: ارجع، فرجع ثانية ونزل قال: خمساً.
بقي أربعون، فقال: ارجع فلا يزال بين الله وبين موسى حتى صارت خمساً، قال موسى: ارجع، يريد أقل من خمس، فقال صلى الله عليه وسلم: لقد استحييت من ربي) فقال الله عز وجل عند هذه الكلمة: (إنه لا يبدل القول لدي، هي خمس في الأداء وخمسون في الأجر).
ولذا عندما تصلي خمساً فأنت تصلي خمسين؛ الحسنة بعشر أمثالها، فوالله إنه محروم من يضيع هذه الصلاة، خمس فقط! نصلي الآن العشاء وبعد ذلك كم نمكث حتى نصلي؟ إلى الفجر نحو (ثمان ساعات) إلا لمن أراد ووفقه الله للتهجد، ثم نصلي الفجر ركعتين ونمكث بعدها إلى الظهر من (أربع ونصف) أو من (خمس) إلى (اثني عشر) وليس هناك صلاة ومع هذا نضيعها؟! إذاً لماذا خلقنا الله؟! ما فهمنا -أيها الإخوة- لماذا خلقنا الله! أكثر الناس يظن أن الله خلقه من أجل أن يعمر ويتوظف ويدرس ويأكل ويشرب وهذه الصلاة في ذيل الاهتمامات آخر ما يفكر فيه الصلاة، أي: برنامجه معروف: استيقاظ دوام غداء نوم تمشية تسوق سهر نوم هذا برنامج أكثر الناس، والصلاة على الهامش، إن كان يوجد وقت وضع لها مجالاً وإن لم يكن نسيها وضيعها، هذا ضائع ليس فيه خير -والعياذ بالله- هذه خصيصة الصلاة أن الله فرضها في السماء لأهميتها.
ومن خصائص الصلاة أيضاً: أنها العبادة الوحيدة التي لا تسقط على الإنسان في أي حال من الأحوال ما دام يملك عقله، جميع الشرائع تسقط، الزكاة ركن لكن إذا لم يكن عندك مال فليس عليك زكاة، أو عندك مال لم يبلغ النصاب ليس عليك زكاة، أو عندك مال وبلغ النصاب لكن لم يحل عليه الحول ليس عليك زكاة وهي ركن.
والصوم ركن من أركان الدين ومن كان مريضاً أو مسافراً أفطر ويقضي بعد ذلك، والمريض مرضاً لا يرجى برؤه والأطباء يقولون: مرضك مزمن لا يمكن أن تشفى، أفطر طول حياتك ولا تصم وأطعم ويسقط عنك الصوم.
والحج ركن، وإذا كنت لا تستطيع الحج يسقط عنك الحج كل الشرائع تسقط إلا الصلاة! الصلاة لا تسقط بعدم الاستطاعة، صلِّ قائماً، لم يقل: لا تصل، لا.
قال: صل وأنت جالس، يا رب لا أستطيع أن أصلي وأنا جالس، صلِّ على جنب، يا رب لا أستطيع أن أصلي وأنا على جنبي، صل بالإيماء؛ أومئ إيماءً برأسك وأنت على السرير، كبر، الله أكبر اخفض رأسك في الركوع قليلاً وفي السجود أكثر، لا تستطيع تحريك رأسك فبعينك، لست متوضأً تيمم، لا تستطيع التيمم ليس عندك تيمم صل بغير وضوء، سريرك أو فراشك على القبلة الحمد لله، لا تستطيع أن تصلي إلى القبلة صل إلى غير القبلة {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:115] ثيابك طاهرة ونظيفة الحمد لله، وإن كان فيها نجاسة غيرها إذا لم يوجد أحد يغير لك صلِّ في ثيابك.
المهم، لا تترك الصلاة، لماذا؟ لأهميتها.
صلاة الأمن شرعها الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن صلاة الخوف من الذي بينها: الله، صلاة الأمن صلاة المغرب ثلاثاً، والعصر أربعاً، والعشاء أربعاً، والفجر اثنتين، والظهر أربعاً، ما جاءت في القرآن، جاءت في السنة الثابتة الصحيحة، لكن صلاة الخوف جاءت في القرآن بالتفصيل حتى لا يقول شخص من الناس: نحن في معركة، نحن في جهاد، نحن نفتح الأرض لدين الله، فليس هناك داعٍ للصلاة، نصليها في وقت آخر، لا.
الصلاة حتى وأنت تجاهد تصلي، قال عز وجل: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء:102] تفصيل لكيفية صلاة الخوف، فليس هناك صفوف يا رب! الحرب محتدمة والسيوف مشتبكة، قال: {فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} [البقرة:239] إذا كنتم راجلين أو راكبين؛ على طائرتك أو على دبابتك أو في خندقك أو راجل صلِّ، لا تضيع الصلاة وذلك لأهمية الصلاة!(112/6)
كيفية الصلاة الصحيحة
لكن حتى تجد نتيجة لصلاتك صلِّ وانتظر النتيجة، فلا تسمى الصلاة صلاة إلا إذا توفرت فيها أشياء أساسية، وليس كل من صلى يعتبر مصلياً، كم من مصلٍ لم تتجاوز صلاته رأسه، المنافقون كانوا يصلون، يقول الله عز وجل: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة:54] فأثبت الله لهم صلاة لكن بكسل، ونفقة لكن بإكراه ثم ذكر أنهم كفار: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ} [النساء:142] سماهم الله منافقين وقال: إنهم يقومون للصلاة ولكنهم يقومون وهم كسالى،، وإذا أردت أن تعرف هل أنت مؤمن أم منافق: اسأل نفسك عن قيامك للصلاة، إذا كنت تقوم وأنت تسحب نفسك سحباً وهذا يظهر فيمن يوجد في الصفوف الخلفية يؤذن ولا يأتي، وتقام الصلاة ثم يأتي، لماذا؟ يقول أحد السلف: بئس العبد الذي لا يأتي إلا إذا دعي، يقول: بئس العبد الذي لا يأتي إلا بعد الأذان.
يقول ابن المسيب: [والله ما سمعت الأذان من خارج المسجد أربعين سنة ولا نظرت إلى ظهر مصلٍّ ولا خرجت يوماً من بيتي إلى المسجد فلقيني الناس وقد صلوا].
وكان السلف لا يسمعون الأذان إلا وهم في المسجد؛ لا ينتظرون الأذان، الأذان هو الإعلام بدخول الوقت فقط، ليس الإعلان لكي تأتوا للصلاة، هم يأتون قبل أن يدعوا، والآخر يقول: إذا رأيت الرجل تفوته تكبيرة الإحرام فاغسل يديك منه، يقول: هذا ليس بشيء.
وإن مما يؤسف له أن نرى بعض الملتزمين الذين عليهم علامات الدين وعلامات السنة في لحيته وثوبه ووقفته لكن تجده دائماً يصلي في آخر الصف، تكبيرة الإحرام لعب عليه الشيطان فيها، وتجد بعض عوام الناس في الصف الأول، هذا الذي في الصف الأول هو الملتزم الصادق، أما ذاك الملتزم الصوري ملتزم بالشكل لكن القلب فيه مرض، أدى به إلى أن يكون متخلفاً دائماً.
يؤذن المؤذن لكن لا يجيبه، ولو قلنا للناس: تعالوا قبل الأذان لن يأتي أحد، لكن تقول لنا عائشة: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا ونحدثه فإذا سمع: حي على الصلاة حي على الفلاح قام كأنه لا يعرفه منا أحد) وكان الرجل يبيع ويشتري والميزان في يده، فإذا سمع الأذان وضع الميزان لا أحد يستطيع أن يغلق هذه الوزنة، انتهى.
لا يجوز، إذا عملت كذا معناه أنك تحب الله تحب الصلاة، أنت عندما يعزمك شخص تحبه، قال: الغداء عندنا أو العشاء الليلة عندنا، وأنت تحبه تأتي قبل الناس كلهم، تقول: والله آتي قبل الناس كلهم من أجل أن أتكلم أنا وإياه قبل أن يأتي الناس، لكن شخصاً لا تحبه ولا تطيقه ولكن تلزمك الظروف إما نسب وإما جيران وإما عمل نلزمك إن تذهب له فتقول: متى العشاء؟ فيقول: بعد العشاء، تقول: بعد العشاء وقت طويل، متى تضعون السفرة، لماذا؟ والله أنا مشغول وتنظر إلى الساعة فإذا جاءت الدقيقة تلك أتيت السفرة وعيناك على الصحن تأكله من عند الباب وتمشي مثل بعض الناس لا يأتي إلا إذا أقيمت الصلاة، يأتي آخر شخص ويخرج أول شخص؛ من أجل أن يسلم الإمام وهو عند الباب، ماذا بك؟ أنت مجنون؟ بينما المؤمن يأتي أول شخص ويخرج آخر شخص، بل يخرج هو يسحب نفسه بالقوة؛ لأنه يعرف أنه يدع روضة من رياض الجنة ويخرج إلى أماكن قد لا يحبها الله سبحانه وتعالى.
وحتى تكون الصلاة صحيحة ننتظر نتائج هذه الصلاة ولا بد أن تتوفر في الصلاة هذه الأشياء:(112/7)
الهيكل العام للصلاة
أولها: وهو الهيكل العام للصلاة والمعبر عند الفقهاء بشروط الصلاة وأركان الصلاة وواجبات الصلاة وسنن الصلاة، هذه لابد منها، لابد قبل أن تقف في المسجد بين يدي الله أن تتوفر فيك تسعة شروط -مثل- شروط الوظيفة قبل أن يدخل الشخص إلى الامتحان هل تتوفر فيه الشروط؟ إذا كانت تتوفر فيه الشروط، قالوا: ادخل، وإذا نقص شرطاً واحداً قالوا: لم تنطبق عليك الشروط، نقص شرط واحد فخذ ملفك, كذلك الصلاة لا تقف فيها إلا بعد توفر تسعة شروط، إذا توفرت هذه الشروط فادخل إلى الامتحان فإن نقص شرط اخرج.
ثم أركان الصلاة الهامة أربعة عشر ركناً لابد منها، ثم واجبات الصلاة لابد منها، ثم السنن والابتعاد عن المنهيات والمكروهات والمبطلات.
هذه لابد أن يعرفها المسلم وأن يحرص على توفرها في صلاته، وهذا ما يحتاج إلى التوسع فيه؛ لأن الطالب من أول صف إلى أن يتخرج من الجامعة وهو يدرس هذه الأمور، ومناهجنا -والحمد لله- مثالية في تعليم الدين، لكن أين التطبيق؟ عندي طفل صغير في صف رابع ابتدائي وعندهم في الفقه: الصلاة وأركان الصلاة ومن ضمنها الطمأنينة في جميع الأركان، فكنا نصلي في المسجد فقام وصلى السنة فعلى عادة الصغار يصلون بسرعة، ثم مشى وذهب إلى البيت، قلت: تعال يا ولدي! أنت صليت في المسجد، قال: نعم، والسنة، قال: نعم.
قلت: أسرعت، قال: كل الناس هكذا، قلت: لا.
ما علينا من الناس لكن أنت أخذت في الفقه (الطمأنينة) هات الكتاب، أتى بالفقه وقرأ علي أركان الصلاة أربعة عشر: القيام مع القدرة، تكبيرة الإحرام وقراءة الفاتحة والركوع والرفع منه والجلوس والاعتدال والطمأنينة قلت له: ما معنى الطمأنينة في جميع الأركان؟ قال: لا أعلم، قد حفظها لكن لا يعلم ما هي الطمأنينة؟ قلت: الطمأنينة معناها أن تطمئن في صلاتك ولا تسرع، قال: لماذا أطبقها أليست مثل المحفوظات والقواعد ومثل الجغرافيا؟ هل شخص يطبق الجغرافيا يذهب يأخذ له خريطة ويذهب يمسح الدنيا؟ فالمصيبة الآن أن الناس يتلقون دروس الدين على أنها مناهج دراسية للنجاح وليست مناهج دراسية للعمل والتطبيق والتربية، فهذا معروف عند كثير من الناس، من الذي ينكر أن أركان الصلاة أربعة عشر؟ كل شخص يعرف من الصغار إلى الكبار، لكن من الذي يطبق؟ هنا المسألة.(112/8)
الخشوع في الصلاة
الأمر الثاني المهم في الصلاة: الخشوع.
الخشوع هو روح الصلاة، الصلاة جسد وروح؛ فجسدها: القيام والركوع والسجود والقراءة، وروحها: الحضور القلبي والخشوع، والجسد بدون روح ليس له قيمة، والصلاة بدون خشوع ليس لها قيمة، ولهذا لا يكتب لك من صلاتك إلا ما حضر فيها قلبك، وهل يحضر قلبك في كل الصلاة؟ مستحيل! ولهذا بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بالنصف، قال: (يكتب للعبد من صلاته نصفها) أي: الذي يجيد النصف هذا أكثر واحد، (نصفها ثلثها ربعها خمسها سدسها سبعها ثمنها تسعها عشرها) بعد العشر لا يبقي شيء، لماذا الشخص لا يستطيع أن يجيد الصلاة كلها؟ لأن أقدس موقف بين يدي الله هي الصلاة.
وهناك قوة خفية وهي: قوة الشيطان التي لا تريد لك أن تقف هذا الموقف فهي تصدك عن الصلاة بكل وسيلة، وإذا أردت أن تصلي تسلط على قلبك وأشغلك، ولذا لا يجد الإنسان وساوس ولا خطرات ولا أفكار إلا في الصلاة، هل يوسوس أحدنا وهو يتغدى أو يتعشى؟ ما رأيكم إذا وضعوا السفرة أمام أحدنا هل يأتيه وسواس؟ أو يأتيه تفكير؟ لا.
يفكر في اللحم وفي الأرز وفي الإدام والمحلبية والسلطة والخضرة فقط، تفكيره بالسفرة، هل يوسوس أحدنا أو يفكر وهو يشاهد المباراة؟ لا.
بل بعضهم لو أخذت الذي في يده لا يشعر، لكن لماذا يوسوس في الصلاة؟ لأن الصلاة كنز والشيطان يريد أن يسرقها عليك، ولذلك يقول أحد السلف: إذا نسيت شيئاً وأردت أن تذكره فقم إلى الصلاة، مباشرة يأتيك الشيطان من أجل أن يلهيك عن الصلاة، ولا يأتيك الشيطان بأهم شيء إلا إذا صليت، يعرف الشيطان من خلال ملابسته لك ما هو موضع اهتمامك، إن كنت تاجراً اهتمامك بالتجارة، وإن كنت تبني عمارة فتفكيرك كله في العمارة، كيف التفصيل؟ ومن المقاول؟ وأين نضع المجلس؟ وأين نضع الرخام؟ يضع العمارة كلها بين يديك، فإذا أكملت الصلاة ضيعها عليك فإذا بك لا صلاة ولا عمارة وهكذا.
أذكر قصة وقعت لي قبل نحو (25 سنة) وكنت في أبها فأرسل لي أحد المحسنين مبلغاً من المال لتوزيعه على فقراء منطقة تهامة (مائة وخمسين ألفاً) وجاء بها في حقيبة دبلوماسية تركتها في ليلة من الليالي قبل التوزيع؛ لأني أرسلت إلى تهامة إلى بعض طلبة العلم لكي يأتوا ويوزعونها، فأردت زيارة أرحامي فأخذت أهلي وركبت فلما ركبنا في السيارة تذكرت الحقيبة، قلت: يمكن أن يسرقها لص وأنا ليس لدي إلا بيتي أبيعه وأعوض، فذهبت وأخذت الحقيبة ووضعتها في السيارة فإذا وصلنا البيت أنزلها، فوصلنا بيت الأهل وإذا بالمؤذن يؤذن فأنزلتهم وذهبت أصلي وجعلت الحقيبة في الحوض، أخرجتها من الحرز إلى الشارع! دخلت المسجد وصليت الركعتين -تحية المسجد- وجلست أقرأ وجاء الإمام فلما رآني قال: يا شيخ! أريد منك كلمة بعد الصلاة، قلت: خيراً إن شاء الله، فلما أقيمت الصلاة قدمني ولما قلت: الله أكبر، قال الشيطان: والحقيبة، لا حول ولا قوة إلا بالله! أي: لو أنه قال لي قبل الصلاة لخرجت، ولو تركني على الأقل أصلي وبعد ذلك يقول لي، أجل، المصيبة وقعت لكن مع بداية الصلاة، فأصابتني هزة أشبه بالصعق الكهربائي! (مائة وخمسون ألف ريال) أتركها في الشارع وأنا لا أملك في الدنيا إلا بيتاً لو بعته ما يأتي (بخمسين ألفاً)، و (المائة والخمسون الألف) في تلك الأيام تعدل مليوناً ونصف.
فما عرفت ماذا أقرأ من بداية الصلاة أردت أن أنصرف! صعب، أواصل! أصعب! جمعت نفسي وقرأت الفاتحة وأتى الشيطان وأنا في الركعة الأولى، قال: بسيطة ويضع لي حلولاً فخرجت من الصلاة وأنا لا أعلم ماذا صليت، ولما انتهيت من الصلاة أردت أن أخرج وإذا بأخينا إمام المسجد يقوم، قال: معنا في هذه اللحظة المباركة فضيلة الشيخ سعيد بن مسفر وقد أكرمنا الله به في هذه الساعة فنطلب من فضيلته أن يتحفنا بكلمة.
قلت: يا شيخ! لا يوجد لدي كلمة ألقيها.
قال: والله لابد أن تتكلم، لا حول ولا قوة إلا بالله! أنا ليس عندي كلام وحالتي النفسية مضطربة فقمت واستفتحت وتكلمت بكلمتين وقد قيدت الجالسين وما أردت أحداً أن يخرج خفت أن يخرج شخص من أمامي فيأخذها، فقيدتهم بالجلوس في مجالس الذكر وفضيلة مجالس الذكر وأن الذي يخرج من مجلس الذكر منافق، المهم سلمت وخرجت وإذا بالحقيبة مكانها فأخذتها ودخلت سجدت لله سجدة شكر، قلت: والله ما حفظها إلا ربي أما أنا فقد ضيعتها، لكن الشاهد أن الشيطان لا يذكر بالشيء إلا في الصلاة وأعدت صلاتي تلك.
لابد أن نحرص على مجاهدة أنفسنا في الصلاة، لا نقول: إنك تسلم (100%) لكن لا تستسلم (100%) كما قال ابن القيم: فهذا في صلاة وجهاد؛ لأنه قسم المصلين إلى خمسة أقسام، يقول: رجل ضيع حدودها وطهارتها فهذا خاسر، ورجل حفظ الحدود والطهارة والوضوء والركوع والسجود وضيع القلب والخشوع فهذا معاقب، ورجل يأخذ منه الشيطان ويأخذه من الصلاة، يقول: فهذا في صلاة وجهاد -والرجل الرابع والخامس ليسا موجودين الآن إلا أن يشاء الله- يقول: ورجل وضع قلبه بين يدي ربه واستشعر عظمة مولاه وعظمة الموقف الذي هو فيه، ففكر فيما بعد هذه الحياة -أين هو هذا؟ الله أكبر- يقول: فهذا مقرب.(112/9)
أسباب الخشوع في الصلاة
كيف تكون خاشعاً في صلاتك؟ للخشوع في الصلاة أسباب قبل الصلاة، وأسباب أثناء الصلاة، وأسباب بعد الصلاة.
فالذي قبل الصلاة: أن تأتي مبكراً وتصلي ركعتين تحية المسجد أو السنة القبلية وتقرأ القرآن وتتهيأ، ويسمونها عملية إحماء لكي تدخل في الصلاة وأنت جاهز، لكن أن تقعد في البيت حتى تقام الصلاة ثم تأتي من هناك وأنت متعب فكيف ستخشع؟ وبعضهم إذا دخل والإمام في الركوع صاح عليه من عند الباب: (إن الله مع الصابرين) لا ترفع ظهرك، دعني ألحق هذه الركعة -أعوذ بالله من الخزي- أليس هذا موجود الآن؟ وتراه من باب المسجد يلقي بأحذيته كأنه مجنون، هل يفعل هكذا إذا دخل على أمير أو وزير أو على ملك؟ الذي يذهب الآن ليسلم على الأمير أو الوزير ماذا يعمل؟ يجلس ساعتين وهو ينتظر، فلو دخل المجلس بهذه الطريقة ماذا يقال عنه؟ هذا مجنون ويمسكونه ويطردونه ويقولون له: أنت لا تعرف أين تذهب.
زيد بن علي بن الحسين كان إذا توضأ اصفر لونه، فيقال له: ماذا بك؟ فيقول: أتدرون بين يدي من سأقف بعد قليل، كانوا يضطربون ويخافون.
أحد السلف وهو من التابعين - حاتم الأصم - كان من أخشع عباد الله في الصلاة وكان يقول: لأن تختلج الأسنة في ظهري أحب إلي من أن أذكر شيئاً من الدنيا في صلاتي، يقول: تطعن في ظهري السهام ولا أذكر شيئاً من الدنيا في صلاتي، قالوا: كيف تصنع؟ قال: إذا سمعت نداء ربي توضأت ثم أقبلت على مسجدي فأقف بين يدي ربي فأتصور أن الجنة عن يميني والنار عن يساري والكعبة أمامي والصراط تحت قدمي وملك الموت خلف ظهري يريد أن يقبض روحي بعد هذه الصلاة، من يضمن منا أنه سيصلي الفجر أو يصلي العشاء؟ لا أحد يضمن! صل صلاة مودع، يقول: ثم أكبر بتحقيق: الله أكبر.
ولهذا لا داعي لأن أذكر شيئاً مع الكبير سبحانه، إذا كان الله أكبر في قلبي إذاً لماذا أذكر الدنيا؟ الله أكبر، يقول: وأقرأ بترتيل، وأركع في خضوع، وأسجد في خشوع، وأجلس في طمأنينة، وأتشهد في يقين، وأسلم في حذر ورجاء، ولا أدري أقبلت مني صلاتي بعد هذا أم ردت علي.
فالخشوع في الصلاة مطلب رئيسي يتوقف عليه قبول صلاتك أو رفضها، وما دمت قد تعبت وجئت إلى المسجد وتوضأت وتركت شغلك وقمت تصلي فجاهد الشيطان، كلها عشر دقائق.
الآن سنصلي العشاء ونعمل اختباراً لأنفسنا، سيأتيكم الشيطان ويأتيني، لكن الشخص إذا جاءه الشيطان يتذكر ويشغل نفسه بالتفكر في الآيات التي يقرأها الإمام ويقرأها هو، والتفكر في الأذكار ويجاهد الشيطان، ثم بعد الصلاة -بعد العشاء- الذي عنده وسوسة يوسوس إلى الفجر، لكن لا.
لا تأتي الوسوسة إلا في العشر الدقائق وبعدها لا يوجد وسوسة.
السبب الثالث حتى تكون الصلاة صحيحة: أن تكون في المسجد؛ إذ لا تقبل صلاة الرجل إلا في المسجد إلا من عذر مرض أو خوف، وشيخ الإسلام ابن تيمية يرى أن الجماعة شرط في صحة الصلاة بمعنى: أن الذي لا يصلي في المسجد وهو قادر وليس هناك مانع من خوف أو مرض أن صلاته غير صحيحة ويستدل على ذلك بأدلة قوية.
الأمر الرابع: أن يكون للصلاة أثر في حياتك ولا يكون عندك انفصام بين الصلاة وبين السلوك؛ لأن الله شرع الصلاة لكي تنهانا عن الفحشاء والمنكر: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45] فلا يصلح أن تصلي في المسجد ثم تخرج تبارز الناس، تصلي وتكذب! تصلي وتغتاب! تصلي وتأكل الحرام وتشهد زوراً وتغش وتخون الناس، أين الصلاة؟! ما قيمة الصلاة إذا كانت الصلاة في وادٍ وسلوكك في وادٍ ثان؟! المصلي لابد أن يعرف في المسجد بصلاته وفي المجتمع بسلوكه، هذا مصلٍ لا يستطيع أن يكذب لكن إذا كان يصلي ويقع في الفحشاء فهو في الحقيقة لم يصل وإنما أدى دوراً تمثيلياً، والممثل غير الحقيقي، الممثل ممثل يؤدي دوراً مثل المسرحية، وهذا -أيضاً- ممثل، ولو أنه يصلي حقيقة لمنعته صلاته عن الفحشاء والمنكر؛ لأن الله تعالى يقول: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45].
الأمر الخامس وهو مهم جداً: أن تكون الصلاة قضيتك وشغلك مع نفسك وزوجتك وولدك وابنتك وعمالك وموظفيك، الصلاة هي عندك فوق وما معك إلا هي، وتحاسب الناس عليها وتقيمهم على قدر ما يحافظون عليها، كما قال عز وجل: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ} [طه:132] وكما أثنى الله على إسماعيل، فقال: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً} [مريم:55] عندك عمال؟ حاسبهم على الصلاة، الذي لا يصلي أعطه خروجاً بلا عودة إلى يوم القيامة، لا يرجع ما دام أنه لا يصلي؛ لأنه كافر.
عندك أولاد؟ حين تدخل البيت تسأل ولدك: هل صليت؟ وتسأل المرأة: هل تصلي؟ عندك موظفون وأنت رئيسهم تقول لهم: هل صليتم؟ لا.
الذي لا يصلي ليس له عندي قيمة، الذي يخون صلاته هذا يخون عمله، الصلاة لك وليست لي، لكني أعينك على أدائها، والذي لا يصلي تجعله في آخر اهتمامك، يريد إجازة، تقول له: لا يوجد إجازة، يريد رخصة لا يوجد رخصة، كل ساعة وأنت على رأسه، إذا غاب حاسبه، لماذا؟ تربيه لكي يصلي، وذاك الذي يصلي تتجاوب معه وتعطيه تقديراً خاصاً؛ لأنه يصلي، وطبيعي إذا كان مصلياً سوف يكون طيباً في العمل.(112/10)
نتائج الصلاة
أيها الإخوة: هذه هي الصلاة التي يريدها الله منا، صل وانتظر النتائج وهي توفيق الله لك في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا: التيسير والرزق اليسير والحب في قلوب الخلق والرعاية من الله سبحانه وتعالى، وفي القبر يجعل الله قبرك نوراً، وفي عرصات القيامة الخفة في الحساب، وبعد ذلك الفوز بالجنة والنجاة من النار، فنعيم الدنيا والآخرة وسعادة الدنيا والآخرة تتوقف على أشياء من أهمها: الإيمان بالله وتوحيده، ومتابعة النبي صلى الله عليه وسلم والصلاة.
فحافظ عليها وأدها كما أراد الله لتشعر بهذه النعمة التي يقول فيها ابن القيم: والله لو سلمت قلوبنا ما شبعت من الصلاة ولا من كلام الله، وعندما نقرأ سير السلف نعلم أنهم كانوا يقومون الليل كله، ثم نفكر نحن فنرى أننا لا نستطيع أن نقوم حتى دقائق منه، تقول: كيف كانوا؟ نقول: هؤلاء عرفوا، يقول ثابت البناني: [كابدت قيام الليل عشرين سنة وتلذذت به عشرين سنة أخرى وما صليت الفجر إلا بوضوء العشاء] لا يعرفون النوم {كَانُوا قَلِيلاً مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17 - 18] لماذا؟ لأنهم أحبوا الصلاة، أما نحن الآن نؤديها غصباً فقط، ومرة نقوم ومرة نسقط لضعف إيماننا ولعدم يقيننا بالله سبحانه وتعالى.
أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يجعلنا وإياكم من المصلين، وأن يحبب إلينا هذه الصلاة، وأن يجعلها قرة عيوننا، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.(112/11)
الأسئلة(112/12)
انحراف الشباب عن طريق الحق
السؤال
إن مما يحز في النفس أن نرى شباب المسلمين يضلون عن الطريق السوي وهو واضح لديهم وضوح الشمس، وبعض إخواني منهم؛ لذلك أسألكم بالله أن تدعو لهم خاصة ولشباب المسلمين عامة لعل الله أن يقبل هذا الدعاء في هذا المجلس المبارك؟
الجواب
صدقت هذه الأخت المباركة! إنه مما يحز في النفس فعلاً ويقطع الفؤاد والقلب أن نرى أبناء الإسلام أبناء العقيدة أبناء التوحيد أبناء الفطرة وهم يتساقطون صرعى في طريق الضلال والفسق بل وصل بعضهم إلى طريق الكفر والردة عن دين الله، وذلك بترك الصلاة؛ لأن ترك الصلاة كما هو مقرر عند أهل العلم كفر مخرج لصاحبه من الملة.
وترك الصلاة ليس معصية، ولكن كما قال عليه الصلاة والسلام: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر) (بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة) فهذه الأخت تتألم لما ترى من تصرفات لا تليق من بعض الشباب الصغار الذين في المدارس المتوسطة والثانوية وربما في الجامعات ولا يدركون مسئولياتهم أمام الله، ألا يعرفون أنهم مسلمون؟! وأن من أولويات إسلامهم المحافظة على الصلاة في المساجد بدون أن يلزمه أبوه أو أخوه بذلك؟! إلى متى تريد أباك يقول لك: صلِ صلِ، أنت رجل قد بلغت وأصبحت مكلفاً لا تحتاج من أحد أن يقول لك: صلِ، لكن هذا بسبب ضعف التربية وقلة التوجيه وتأثير وسائل الشر التي عمت وطمت وارتفعت فوق بيوت المسلمين وانفتح عليها الشباب والشابات والرجال والنساء وشغلوا بها حتى سرقت دينهم وسرقت عقائدهم وأخلاقهم فأصبحوا يتمنون أو يتصورون أنهم مثل هؤلاء يريدون أن يعيشوا مثلهم ويتخلوا عن هويتهم الدينية وعن شخصيتهم الإسلامية التي اختصهم الله بها وأكرمهم بها.
وهذه الأخت تقول: حتى إخواني، إخوانك وكثير لكن لا نملك إلا أن نوجه الآباء إلى الشعور بمسئوليتهم أمام الله سبحانه وتعالى في حماية أبنائهم، يقول الله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:132] ويقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6] والذي يضع هذه الآلات وهذه الأجهزة في بيته فقد خان رعيته وغشهم، ومن مات وهو غاش لرعيته كما في الحديث الصحيح: (من مات وهو غاش لرعيته لم يرح رائحة الجنة) وندعو الله في هذا المجلس فلعله مجلس مبارك في هذه الساعة أن يهدي شباب المسلمين وأن يردهم رداً جميلاً إلى هذا الدين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.(112/13)
حكم من منع الخادمة من الصيام
السؤال
إذا كانت عندي شغالة تصوم الإثنين والخميس، هل علي إثم إن منعتها من الصيام خوفاً عليها من التعب والمرض؟
الجواب
نعم، عليك إثم إذا منعتها من الصيام؛ لأنكِ قاطعة طريق بينها وبين الله، هذه خادمة! المفروض أنتِ الخادمة التي تخدميها، فلا تمنعيها من الصيام ولكن خففي عليها من الأعباء يوم الإثنين والخميس أو اجعليهما إجازة لها لتتفرغ لذكر الله وعبادته، والأعمال المنزلية في هذين اليومين قومي أنتِ بها، ليس حراماً أن تشتغلي في بيتك، بل من المآسي التي حلت على أسر المسلمين وأفسدت صحة النساء إسناد الأعمال المنزلية للخادمات! فتهطلت أجسام النساء وانتفخت وامتلأت بالشحم واللحم ثم ابتلوا بالأمراض بالسكر والضغط والذبحة الصدرية، تأكل من كل جميل وتجلس، حتى الهاتف لا تقوم له إذا دق تقول: هاتي الهاتف يا شغالة! وهي لا تتحرك أياماً وليالٍ حتى أصيبت بالمرض، بينما النساء الأوائل ما كان عندهن خادمات ولا متن جوعاً لا والله، بل إنهن مثل الغزلان بطنها لاصقة بظهرها وتقوم بالعمل داخل الدار وخارجها، والتي لا تقوم بشيء وهي جالسة كل شيء يخدمها ومع ذلك هي مريضة، تنام إلى الظهر وتقوم ووجهها منفوخاً مثل الكرة لا تدري أين وجهها من رأسها، وهذه الخادمة تريد أن تصوم، تقول: أمنعها، لا تصوم هي ولا تترك الناس يصومون، ولا حول ولا قوة إلا بالله!(112/14)
حكم أخذ مال الزوجة
السؤال
موظفة تساعد أهلها بمبلغ شهري وزوجها يرفض ويحتج على ذلك، فهل تستمر أم تخالفه وتعطيهم في الخفاء؟
الجواب
لا يجوز للزوج أن يتدخل في راتب زوجته؛ لأن الشريعة قد كفلت لها حق التملك، فمن الظلم الذي يمارس الآن نحو النساء استبداد بعض الأزواج وظلمهم في أخذ رواتبهن وتهديدهن؛ إما أن يهددها بالطلاق أو يهددها أن يفصلها، وبعضهم يقول: لا، الدوام هذا في وقتي مشروع لي، من قال لك: إنه وقتك؟ هل هي أمة، هل هي ملك يمين؟ لا.
هي امرأة حرة تملك وقتها، لك حقوق تقوم بها، إذا قصرت في الحقوق التي نحوك هناك يجب أن تحاسبها، لكن ما دامت تقوم بحقوقك سواء كانت حقوقاً شخصية أو حقوقاً منزلية وعندها إمكانية أن تنفع نفسها وتنفع بيئتها أن تدرس وتربي بنات المسلمين ولا يترتب على هذا التعليم والوظيفة ضرر في دينها ولا دنياها، فلا يجوز لك أن تمنعها ولا يجوز لك أن تأخذ من راتبها شيئاً، وهي حرة التصرف في مالها، أشعرها بأنها شخصية مستقلة، لا تمارس عليها طغياناً ولا تهديداً، لماذا؟ هذا ظلم! والله سينتقم منك، وسوف تدعو عليك ولو سكتت، وتأتيك حينها مصيبة من السماء لا تعلم إلا وقد حصلت من السماء.
لا تظلم من لا يجد عليك ناصراً إلا الله، نعم.
المرأة ضعيفة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (استوصوا بالنساء خيراً فإنهن عندكم عوان) ولا يكرم المرأة إلا كريم، ولا يهينها ويظلمها إلا لئيم، فلا تكن لئيماً: (خيركم خيركم لأهله).
راتبها لها وهي حرة التصرف فيه، وإذا أعطت والديها فأعنها؛ لأنها بارة، هذه امرأة صالحة تبر أمها وأباها لا تعنها على عقوق أمها وأبيها، بل أنت كن عوناً لها، قل لها: أعطي أمك وأباك -وأيضاً- إذا هي كريمة فيجب أن تشارك معنوياً في مهام البيت، تقوم بحقوقها الشخصية من راتبها تشتري ملابسها وأدواتها ووملابس أولادها، لا تكن أنانية؛ لأن بعض النساء أنانية ومادية تقول: والله لا أعطيك فلساً، فينظر إليها ويقول: هل هذه امرأة مستقبل؟ فيفكر أنها غير مخلصة وبالتالي ربما يتركها، لكنه عندما يراها تبذل معه وتشارك في بيته، وإذا جاء بسلعة تعطيه منها، وإذا اشترى سيارة تساعده: خذ مني ألفين أو خمسة آلاف أو عشرة آلاف وإذا خرجوا رحلة قالت: العشاء اليوم مني، تساهم معه، يأتيه شعور، يقول: هذه والله امرأة العمر، هذه شريكة الحياة، فلا ينبغي أن يكون الرجل طماعاً في حق المرأة -وأيضاً- لا ينبغي أن تكون المرأة بخيلة، يجب أن يكون كلاً منهما سمحاً في التعايش والتعاون على الحياة.(112/15)
كيفية معاملة الزوج لزوجته والعكس
السؤال
رسالة طويلة مضمونها: أن امرأة متزوجة وعندها أربعة أبناء، هجرها زوجها في بيتها وهي عنده في البيت بمثابة الخادمة، والسؤال يقول: هل يجوز أن أجلس معه في نفس البيت مع أنه لا يقوم بالنفقة علي بتاتاً فمعاملتي كمعاملة الخادمة التي تقوم بتلبية طلباته لا غير، فهل في جلوسي معه إثم علي؟ أفيدوني جزاكم الله خيراً.
الجواب
هذه المشكلة لا يمكن الجواب عليها إلا بعد معرفة أطرافها، ورأي الطرف الثاني، فإننا لا نتوقع أن زوجاً يهجر زوجته من غير سبب، الذي نوصي به هذه الأخت أن تبحث عن أسباب هجران زوجها لها.
بعض النساء تقول: لا يوجد أي سبب؛ لأنها لا ترى هي عيوب نفسها، فالجمل لا يرى اعوجاج رقبته، ولهذا لو سألته: كيف رقبتك يا جمل؟ لقال: مثل المسطرة وهي أعوج رقبة في الدنيا لكن لا يراها، عيونه مرتفعة يشاهد الدنيا كلها إلا رقبته، فالمرأة أحياناً لا ترى عيوبها، ترى الجوانب الحسنة فيها، لكن من الذي يرى المرأة ويقيمها ويرى عيوبها وحسناتها؟ ألصق الناس بها، من ألصق الناس بها؟ زوجها، فلذلك إذا هجرها نقول: لماذا هجرها؟ لا يهجرها إلا لسبب.
فلتكن المرأة واقعية ولتتخلى عن الأنانية ولتراجع نفسها بنوع من الجدية: ما الذي جعل زوجها يهجرها؟ ثم تبتعد عن هذه الأسباب وستجد في النهاية أن زوجها يرجع لها.
وأعرف أنا كثيراً من القضايا التي عرضت علي وعرفت أن السبب من المرأة، ولما عالجت المرأة الأخطاء رجعت الأمور كما كانت؛ لأن الرجل كما يقول بعض المربين: الرجل طفل كبير تستطيع أن تلعب به المرأة، تريده حلواً يكون حلوا، تريده مراً يكون مراً وناراً.
المرأة تشبه الرجل إذا كانت طيبة ماذا يصير هو؟ هل يصير بطالاً؟ لا.
والله لا يصير بطالاً أبداً، وإذا كانت المرأة طيبة وطائعة له؛ كلما قال لها قالت: أبشر، وإذا دعاها قالت: لبيك، نذهب؟ أبشر، لا نذهب؟ حسناً، كل شيء طيب، ماذا يصبح هو؟ يصبح أطيب منها، لكن إذا كانت عنيدة فكيف يكون هو؟ أعند منها، وهو يملك قدرات أكثر من المرأة، المرأة مسكينة لا تملك إلا القليل لكنه يملك كل شيء، يملك الضرب يملك النهر يملك الهجر يملك الطلاق يملك الطرد من البيت، فيستخدم هذه القدرات في الإضرار بالمرأة إذا أساءت، لكن لو أحسنت لا نتوقع إلا أن يكون مجنوناً أو شاذاً، أما إذا كانت تحسن إليه وتطيعه، وتعمل كل شيء يريده، وهو يأبى إلا الإعوجاج، فهذا لا يصلح أن يكون زوجاً، ولهذا شرع الله الطلاق.
لكن تجرب المرأة مع زوجها في أن تكون طيبة بطاعته الطاعة المطلقة في غير معصية الله، تطيعه في الشيء الذي لا تريده هي، كأن تقول له: اليوم نذهب نتمشى؟ فيقول: لا، فتقول: حسناً، وكذلك إذا قالت: نذهب للجيران أو للسوق، فأجابها بلا، فرضيت، لكن بعضهن يغضبن ويختلقن المشاكل؟ فيقول: والله لا نتمشى مدى الحياة، لكن لو أنها قالت: اليوم نتمشى وقال لها: لا، فقالت: إذاً لا نريد، فإنه سيأتي في اليوم الثاني بنفسه ويقول: هيا انهضي! لماذا؟ لأن الحياة أخذ وعطاء تأخذ بقدر ما تعطي.
ولهذا المرأة التي زفت ابنتها قالت لها: كوني له أمة يكن لك عبداً، وكوني له أرضاً يكن لكِ سماءً، وكوني له مهاداً يكن لكِ عماداً، لكن لا تعانديه مثل ما تعمل بعض النساء الآن، توصي ابنتها فتقول لها: لا ترضخي له! اجعليه يعلم أن معه امرأة، فتوصيها من أول ليلة بالعناد فلا يمر الأسبوع إلا وهي بعفشها وسيارتها مطلقة، الزوج يريد امرأة غير معاندة؛ لأن الحياة الزوجية هي شركة لها مدير، من المدير؟ الزوج، بعض النساء تقول: لا.
أنا المدير، فيقول: والله لا آخذ مديراً علي فيقوم ليطلقها، ومعظم قضايا الطلاق الآن الموجودة في المجتمع سببها عدم طاعة المرأة لزوجها، لوجود خلل في التفكير عند بعض النساء.
تظن بعض النساء أن طاعة الزوج نوع من الامتهان، وهذا خطأ، طاعة الزوج عبادة لله وتكريم للمرأة؛ لأنكِ حين تطيعينه يطيعك غصباً بعد ذلك، هكذا هندسة الأسرة تقتضي أن تكون هناك طاعة للآمر، فلو كنتِ مُدرسة ألستِ تطيعين مديرة المدرسة، فإذا غابت مدرسة وقامت المديرة بتوزيع جدولها على المدرسات الموجودات وكان لك نصيب من ذلك، ألست تطيعينها؟ هل قيام المدرسة بتدريس الحصة هو امتهان؟ لا.
يمكن أن تكون المدرسة أفضل من المديرة في شهادتها أو تفكيرها أو دينها، لكن ما دام أنها مديرة لابد أن تطاع، وما دام وزيراً لابد أن يطاع، وما دام ملكاً لابد أن يطاع، وما دام رجلاً لابد أن يطاع، وإذا ما أطيع الرجل في بيته شعر بنقص في رجولته فيصبر يصبر ثم ينقلب.
بعض النساء تمضي أمرها على زوجها وهو يقول: قد خسرنا! ولعل الله أن يهديها ويصبر أسبوعاً شهراً أو أكثر وتحسب أنه هكذا ولا تعلم إلا وقد تغير إما بطلاق وإما بزوجة ثانية، فنحن نوصي أختنا هذه رغم عدم علمنا بملابسات قضيتها مع زوجها وقد يكون هو المخطئ وقد تكون هي المخطئة لكن نقول كوصية أولية: ابدئي بالمبادرة منك وكوني طيبة وجربي وستجدين إن شاء الله أن زوجك سيكون طيباً.(112/16)
حكم وضع العباءة على الكتف
السؤال
ما حكم وضع العباءة على الكتف وإن كانت العباءة واسعة وفضفاضة؟
الجواب
العباءة على الكتف بشت والبشت للرجال، أما المرأة فيجب أن تكون عباءتها على رأسها؛ لأن العباءة إذا كانت على الرأس سترت الجسد كله، أما إذا وضعت على الكتف وكشفت الأكتاف وكشفت الأرداف وظهر جزء من الجسم وبالتالي وقعت المرأة في التبرج، وهذه المصيبة التي يقنع الشيطان بها الناس خطوة خطوة، الآن هي على الكتف وبعد أيام تنزل إلى الوسط، وبعد أيام تنزل كأنها رجل.(112/17)
حكم ترك الصلاة في المرض وكيفية القضاء
السؤال
امرأة مرضت بسبب إجراء عملية ولم تصل، فهل تقضي الصلاة؟ فإذا كانت تقضيها فكيف تقضيها؟
الجواب
هذه المصيبة وهي أن بعض الناس إذا مرض ترك الصلاة خصوصاً أهل العمليات الذين أصبحوا بجوار الموت، يصلي طيلة حياته فإذا أصبح في غرفة العمليات ترك الصلاة ومات على الكفر -والعياذ بالله- قال: أنا مريض، أنت مريض صلِّ، لست متطهراً، لا تحتاج إلى طهارة، اتقوا الله ما استطعتم، صلِّ ما دام عقلك معك.
يعفى عنك فترة التخدير، وإذا كان عقلك معك وفاتتك صلاة الظهر صلها، صلاة العصر صلها، وبعدها كل الصلوات تستطيع أن تجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بدافع المرض، وهذه المرأة التي عملت العملية وتركت الصلاة أخطأت وارتكبت جرماً عظيماً يخشى عليها من الكفر؛ لأن من ترك صلاة واحدة متعمداً حتى يخرج وقتها فقد كفر.
فهذه عليها أن تتوب إلى الله وأن تقضي الصلوات التي فاتتها مرتبة تقضيها الليلة، ليس كما يقول بعض الناس: أقضي الظهر مع الظهر والعصر مع العصر لا.
تصلي الظهر الآن -مثلاً- ترتب الأيام: ظهر، عصر، مغرب، عشاء، فجر، انتهت اليوم الأول، اليوم الثاني: فجر، ظهر، عصر، مغرب، عشاء، حتى تنهي أيامها، إن استطاعت كل الليل الحمد لله! قضت لها يومين أو ثلاثة وتعبت ترتاح ثم تقضي بحيث لا ينتهي يومها إلا وقد قضت جميع صلواتها التي فاتتها.(112/18)
حكم لبس البنطلون للنساء
السؤال
امرأة تسأل عن حكم لبس البنطلون سواء للنساء أو للبنات؟
الجواب
صرح العلماء بحرمة لبس البنطلون لسببين: الأول: أنه لبس مختص بالكافرات، والمرأة مأمورة بعدم التشبه بها؛ لأنه: (من تشبه بقوم فهو منهم) والتشبه بهم في الظاهر مظنة الحب والولاء لهم في الباطن.
الثاني: أن البنطلون مما اختص -أيضاً- به الرجال ولا يجوز للمرأة أن تتشبه بالرجال: (لعن الله المتشبهات من النساء بالرجال) ولا نعلم لماذا المرأة المسلمة تحرص على هذا؟ لماذا البنطلون؟ أمك وجدتك إلى فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم لا يعرفن البنطلون، هذا ما جاءنا إلا من الكفار والغرب، لماذا تحرصين على أن تتشبهي بالكافرات؟ إذا كان عندك بناطيل أحرقيها ولا تلبسيها، وخليك بثيابكِ العادية الساترة؛ لأنكِ مؤمنة مسلمة لست مثل هؤلاء.
والله أعلم وصلى الله وسلم على سيدنا محمد(112/19)
ما هي رسالتك أيها الإنسان؟
إن رسالة الإنسان في هذه الحياة عظيمة جداً، وحقيقة وجوده في هذه الحياة إنما هي لغاية كبرى، وهي عبادة الله وحده سبحانه، ولذا ترى كثيراً من النظريات الغربية المنحرفة في فهم حقيقة هذه الحياة مبتورة، لا يمكن بها الوصول إلى الغاية التي من أجلها وجدت الحياة؛ لأن هذه النظريات ابتكرها أناس بعقولهم القاصرة، بسبب البيئة التي عاشوا فيها وأرادوا أن يفرضوها على العالم، لكن سرعان ما تصرّمت وانحلت، ولم يثبت في هذه الحياة إلا ما شرعه الله تعالى في كتابه وسنة نبيه.(113/1)
حقيقة الحياة في هذه الأرض
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الضيوف الأعزاء: أنتم ضيوف على الجميع، ليس على المعهد فقط، وإنما على المنطقة بأسرها، حياكم الله ومرحباً بكم.
أيها الإخوة الأفاضل من المدرسين، وأيها الأبناء الكرام من الطلبة: أشكر بالدرجة الأولى الشيخ محمد بن أحمد بارك الله فيه، والإخوة المشرفين على برنامج التوعية الإسلامية في المعهد المبارك، أشكرهم على إتاحة هذه الفرصة التي ألتقي فيها بكم، وإن كنتُ حقيقةً لا أقول هذا تواضعاً، وإنما هي الحقيقة التي أعرفها من نفسي، قد أنفع في مجالات في بعض المساجد وأمام بعض المستويات التعليمية، ولكن أمام طلاب العلم في المستويات المتقدمة، في الثانوية، وفي المعاهد العلمية، وأمام العلماء، لا أجد لديَّ شيئاً أستطيع أن أقوله، وليس لدي بضاعة أستطيع بيعها؛ لأن بضاعتي مزجاة، وباعي قصير، ومتاعي قليل، ولكن قد أرغمت على النزول في هذا الميدان، فكان لا بد من النزول عند رغبة الإخوة، رغم علمي -مقدماً- بأن الفائدة محدودة، ولكن نسأل الله تبارك وتعالى أن يجعل البركة فيما نقول ونسمع.
أيها الإخوة: ما هذه الحياة؟ من الذي ألبسنا ثوبها؟ ومتى سنخلع هذا الثوب؟ ولماذا جئنا إليها؟ هذه الحياة سرٌ غامض، ولغزٌ محير، حارت في فهمه العقول والألباب في القديم والحديث، ولم تجد الإجابة الصحيحة عليه، وظلت البشرية حائرة، وستظل حائرة إلى أن تجد الجواب الصحيح الذي يجيب على تساؤلاتها، تلك التساؤلات التي تتردد في ذهن كل إنسان من أين جئت؟ وإلى أين سأذهب بعد أن يتم دوري على مسرح الحياة؟ ولماذا جئت؟ وما هي رسالتي؟ وما هي مسئوليتي؟ وما هو دوري؟ هذه الأسئلة -أيها الإخوة- أسئلة محيرة في الحقيقة، وحينما يطلب من البشرية أن تجيب عليها من ذاتها فإنما يُطلب منها المستحيل؛ لأنه لا يمكن أن تجد الإجابة الصحيحة من عندياتها ومن ذاتها، إلا بتلقٍ آخر من عند الذي خلق هذه الحياة وأوجد هذا الإنسان، وهو الله الذي لا إله إلا هو.
وكما يقول العلماء: العقل لوحده ليس كافياً لإدراك العلوم والمعارف.
العقل والذكاء والعبقرية والتفرد والنجابة، هذه لا تكفي فقط لإدراك العلوم والمعارف إلا عن طريق معلم، فلو جئنا بطفلٍ صغير، أو شابٍ من الصحراء، أو من أغوار تهامة، أو من شعث الجبال، وهو لا يعرف مفردات اللغة العربية، وطلبنا منه أن يقرأ رسالة بعقله وبذكائه وعبقريته، هل يستطيع؟ لا يستطيع ولو كان ذكياً، لا بد أن يتعلم الحروف الأبجدية، ولا بد أن يتعلم كيف يفك الكلمة، وكيف يحللها إلى مفرداتها، ثم بعد ذلك سوف يقرأ.
وعلى هذا قس كل العلوم، إذا أتيت بمسألة رياضية من المعادلات ذات المجهول أو المجهولين، وطلبت من إنسان لا قرأ الرياضيات ولا درسها أن يحلها بذكائه، فلن يستطيع، وإذا أتيت برسالة باللغة الإنجليزية، وطلبت من مدرس اللغة العربية الذي يعرف أسرار اللغة العربية كلها وقواعدها ومشتقاتها، وقلت له: اقرأ لي هذه الرسالة باللغة الإنجليزية، لقال لك: لا أستطيع، وإذا قلت له: أنت أستاذ في اللغة العربية، أنت ذكي وتفهم، اقرأها، لقال: لا أعرف؛ لأني ما درست هذا العلم! أجل، نصل إلى نتيجة وهي: أن العلوم لا تدرك بالعقل لوحده، بل لا بد من معلم، وما هذه المنجزات الحضارية التي تعيشها البشرية اليوم إلا وليدة مراحل متعددة من التجارب، مر بها الإنسان من بدايته إلى يومنا هذا، وأدخل بعض التحسينات على هذه المراحل، حتى وصلت البشرية إلى ما وصلت إليه من العلوم والمنجزات والمخترعات، لكن علم الآخرة؛ علم ما بعد هذه الحياة، علم لماذا جئت أنت لهذه الحياة؟ رسالتك ووظيفتك، هل يمكن أن تهتدي إليها بالعقل لوحده؟ لا.
لا بد من وجود معلم يعلمك ويقول لك: أيها الإنسان! أنت جئت لغرضٍ هو هذا، وأنت بعد هذه الحياة سيحصل لك شيء هو هذا، ومن الذي يستطيع أن يجيب على هذه الأسئلة؟ لا يستطيع أن يجيب عليها إلا الذي أوجد الحياة، والذي خلق الإنسان وأرسل الرسل، وبين للإنسان مهمته ووظيفته على هذه الحياة، وبين له ما سيكون بعد هذه الحياة في الدار الآخرة.
وإذا أرغم إنسان على أن يجيب إجابةً على علمٍ لا يعلمه، فإن الإجابة بالطبع ستكون خطأ، أليس كذلك؟ إذا أرغم إنسان على الإجابة على شيء لا يعرفه وعبر هو عن عجزه وقال: والله لا أعرف أن أقرأ الإنجليزي، قلنا: إما أن تقرأ وإلا ذبحناك، لا بد أن تقرأ الإنجليزي، فماذا سيكون الجواب؟ سيقرأ، لكن هل سيقرأ إنجليزي؟ سيأتي برطانة من عند نفسه، ويشعر فيها السامع أنها ليست عربية ولا هي أي نوع آخر، وإنما كلام ملفق، وستكون الإجابة خطأ، والنتائج تبعاً لذلك ستكون غلطاً وخطأ، وهذا هو الذي حدث للبشرية يوم أن طلب منها أن تجيب على أسرار هذه الحياة: ما هذه الحياة؟ من أين جاء الإنسان؟ وإلى أين سيكون بعد أن يموت؟ ولماذا جاء؟ لا تدري البشرية لماذا، ولكن لما أرغمت على الإجابة أجابت من عندياتها بإجاباتٍ خاطئة؛ وترتب على هذه الأخطاء أن بقيت النتائج كلها خطأ، وأصبحت البشرية تئن من ويلات تلك الأخطاء، وتعاني منها رغم تطورها المادي، فإنها وإن استطاعت أن تسبح في الفضاء، وأن تخوض في غمار العلم، وتغوص في الماء، وتخترع كل هذه الإنجازات، إلا أنها لم تستطع أن تسير شبراً واحداً أو خطوة واحدة في طريق الخير والنفع العام والصالح للبشرية، بل كل خطواتها من أجل تدمير البشرية، أجل.
كيف حصلت الإجابات الخاطئة؟(113/2)
نظرية ماركس في الحياة والرد عليها
سئل شخص من البشر عن هذه الحياة واسمه ماركس، وهو زعيم الثورة البلشفية الشيوعية في روسيا، أصله يهودي وابن زنا ليس له أب، دعيّ، نشأ في الملاجئ وفي ظل الحرمان، وتولدت في نفسه عقد نفسية نتيجة الظروف التي عاشها من الحرمان والفقر؛ ترتب على هذه الظروف أن أحس بإحباط وبحقد وبحرمان شديد مما في أيدي الناس، فلما كبر انعكست هذه الظروف على فكرته، ونادى في الجماهير الكادحة من أمثاله من المحرومين ومن الأدعياء وأبناء الزنا، نادى بأنه: لا إله والحياة مادة.
هذه نظرته، أن الحياة كلها في تصوره مادة، لماذا مادة؟ لأنه يشعر بالفقر تجاه المادة، يشعر بالحرمان تجاه المادة، ولذا نادى بدعوته الشيوعية، وألغى الملكية الفردية، وقال: الناس شركاء في كل شيء، حتى في الأعراض، ولما برزت هذه النظرية إلى حيز التطبيق أفرزت الفشل، وأعلنت أنها غير صالحة؛ لأنها لباس لا يليق بالبشرية.
الملكية الفردية هي غريزة عند كل إنسان، لا يستطيع ماركس أن يلغيها بجرة قلم؛ لأنها سنة من سنن الله في خلق الإنسان؛ لتعمير هذه الأرض، الله أوجد في كل نفس رغبة في التملك للشيء، إذا كان عندك إخوان في البيت أو أبناء وليكونوا مثلاً اثنان، واشتريت لهم لعبة مشتركة، فإنه سيحصل على هذه اللعبة شجار، كل واحد يمسكها من جانب، هات وفك، قال: فك، هذه لي، والله لآخذنها، المهم تشاجرا، وإذا وجدها أحدهما كسرها، حتى لا يأخذها الآخر وهي ما زالت سليمة، وإذا أخذها ذاك قال: أعطل فيها شيئاً، لأنها ليست ملكه وحده، لكن لو اشتريت لهم من السوق لعبتين وسلمت لكل واحد منهما لعبة، وقلت: أنت لك هذه اللعبة الحمراء، وأنت لك هذه اللعبة البيضاء، ماذا سوف يحصل؟ يحافظ عليها أم لا؟ يحافظ عليها ولن يحطمها، وتعيش معه مدة طويلة؛ لأنها له، ويشعر بأنها له.
فالملكية الفردية غريزة في النفس، وماركس لما قال: ليست هناك ملكية فردية، ومورست هذه الفكرة في المجتمع الشيوعي، والذي حصل أن الإنسان الروسي ما أصبح يحس بأهمية للعمل، ولا بأهمية للآلة، ولا بأهمية للنظام؛ لأنه مسمار في آلة الدولة، ولذا نتج عن هذا انخفاض في الإنتاج، وفساد في الإدارة؛ حتى إن روسيا التي كانت في الماضي سلة خبز العالم، أصبحت أفقر دولة تعيش على الهبات والمعاونات من أمريكا، وبدءوا ينقضون أفكارهم، ويلغون بعض أسس دعوة ماركس؛ لأنها دعوةٌ ليست حقيقية، وإنما هي جوابٌ خاطئ لعلم لا يعلمه ماركس، وألغيت النظرية التطبيقية الشيوعية في نفس الدول الشيوعية، التي ما زالت تتبناها وإلى الآن لم تلغ فيها.
هذا مثال على أن الإنسان إذا طُلب منه أن يجيب على علمٍ لا يعلمه أجاب بالخطأ.(113/3)
نظرية فرويد في الحياة والرد عليها
وهناك شخص كان اسمه فرويد؛ وهو عالم من علماء النفس، وكما يقول أحد الإخوة: إنهم علماء العفس والرفس.
الرفس أي: الرمح -تعرفون من هو الذي يرمح- هؤلاء العلماء يقولون: إنهم علماء نفس، علم النفس حقيقةً لا يعلمه إلا خالق هذه النفس، وكل العلوم التي تقدم لتفسير أسرار النفس من غير الكتاب والسنة، كلها هراء وكذب ولا تصح؛ لأن الله يعلم ما في نفوس هؤلاء العباد، وهو خالق النفس، وعارف أسرارها، وهذا جهاز مكبر الصوت، أصدق إنسان يتحدث عن أسرار هذا الجهاز هو صانعه، وإذا تعطل هذا الجهاز عند من نصلحه؟ عند صانعه، وإذا تعطل الجهاز ولم نذهب به عند صانعه ماذا يفعل به؟ يخربه، الآن هذا مسجل صغير خرب وذهبت به عند صاحب البنشر، وقلت: يا بنشري! من فضلك أصلح هذا المسجل، قال: هاته.
وعبأه زيتاً وشحَّمه ما رأيكم! أيصلح هذا الجهاز أم يخرب؟ وإذا خربت ساعتك في يدك، العقل يقول: اذهب بها إلى مهندس الساعات ليصلحها، لكن لو ذهبت بها إلى النجار، وقلت له: أمسك، لا صديق إلا وقت الضيق، الساعة وقفت ونريدك أن تصلحها، قال: ما عندي علم، ما أعرفها، قلت: كيف ما عندك علم؟ عندك المطارق وعندك المناشير والمسامير، مهندس ولا يستطيع أن يصلح ساعة!! تصلح باباً ولا تعرف إصلاح ساعة!! قال: أبشر، هات، وضربها بمسمار في وسطها، ونشرها ودقها بالفأس، أتصلح أم تخرب الساعة؟ تخرب.
هذا الإنسان، وهذه النفس البشرية الله خالقها وصانعها وبارئها: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزمر:62] {خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [العلق:2] {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً * إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:1 - 3].
الله خالق هذه النفس فهو أعلم بأسرارها، أما النفس نفسها فلا تعرف أسرار النفس، جاء فرويد وهو من علماء (العفس والرفس)، فقيل له: يا فرويد! ما الحياة هذه؟ وكان عالماً كبيراً من علماء النفس، وكان الرجل معروفاً عنه في تاريخه وسيرته أنه إنسان شهواني من عبدة الجنس -أي: حمار شهوة- فقال: الحياة جنس.
يريد أن يفسر الحياة من منظاره الأسود، ومن منطلقه النجس، إنسانٌ هابط وشهواني، يعيش في أوحال الشهوات، ويريد أن يحول حياة البشر كلهم من الطهر والعفاف، والنقاء والكرامة، إلى حياة القردة والكلاب، والحمير والخنازير.
ويقول: لا توجد قيود على الجنس، يجب أن يعيش الناس ويمارسوا الجنس بإباحية كاملة.
قيل له: كيف؟! إن هذه حياة الكلاب، من يمارس الجنس الآن بإباحية كاملة إلا الحيوانات الهابطة؛ القردة والكلاب والخنازير والحمير وجميع الحيوانات، أما الإنسان فله قيود على الجنس؛ لأن الجنس في حياة الناس وسيلة لغاية وليس غاية، الجنس وسيلة لغاية بقاء الجنس البشري، إذ لو لم يجعل الله عز وجل ميلاً في قلب الرجل إلى المرأة، وميلاً في قلب المرأة إلى الرجل؛ لانقرض الجنس البشري، وما بقي خلافة في الأرض تتحقق بها عمارة الأرض بطاعة الله عز وجل، فالله تعالى من حكمته عز وجل أن أوجد ميلاً في الرجل والمرأة، كل منهما تجاه الآخر؛ من أجل أن يلتقوا عند الزواج، ويحصل من هذا اللقاء أولاد شرعيون؛ يحققون الرسالة والخلافة في هذه الأرض، ولكن فرويد يريدهم أن يلتقوا كما تلتقي الحمير.
والجنس حينما أوجده الله عز وجل في الإنسان ضبطه، وحدَّد مساراً له، ما تركه فوضى؛ لأنه لو ترك فوضى فهي حياة الحمير والكلاب والحيوانات، إنما جعل الله له مساراً؛ هذا المسار هو مسار الزواج، يتحقق به الغرض الذي من أجله أوجد هذه الغريزة، ولا يترتب على هذا مفاسد من تحلل الروابط، وانفكاك الأسر، واختلاط الأنساب، وانعدام الثقة؛ فهذه كلها وليدة الإباحية الجنسية الموجودة في أوروبا والشرق، ودول الإلحاد والكفر.
أما الإسلام فقد أباح الزواج وشرعه، وندب إليه، وضبطه بمسار معين؛ من أجل أن تحصل فائدته، ولا يحصل له أي سلبيات أخرى، وكل شيء غير محكوم بنظام فإنه يتحول إلى فوضى، أليس كذلك؟ حتى اللعب الذي هو لعب وليس فيه نظام ولا هو جد، اللعب إذا لم ينضبط بنظام يصير فوضى كذلك؛ فكرة القدم مجرد لعبة رغم أنها تعيش في دواخل قلوبنا الآن، هذه اللعبة محكومة بنظام يسمونه قانون كرة القدم، وهذا القانون مكون من أكثر من مائة وعشرين مادة، ويشرف على تنفيذ هذا القانون الحكم، ويسمون الحكم سيد الملعب، ينزل الملعب كأنه يقطع الرءوس، وهو يحكم على جلد حمار منفوخ، ويساعده في تحكيم المباراة حكم رجال الخط، وشخص من هنا يغير معها، والآخر يغير معها من هنا، وحكم احتياطي جالس هناك؛ يمكن أن يموت الحكم أو يمرض أو يتعب فيدخل مكانه، ومائة وعشرون مادة من مواد تطبيق هذه اللعبة تبين لك أطوال الملعب، الطول مائة وعشرة، وعرض الملعب: سبعون، وطول القوائم -مثلاً- متران ونصف، وعرض العارضة التي فوقها ثمانية أمتار ونصف، ومنطقة الستة ياردة، ومنطقة الثمانية عشرة ياردة، ونقطة البلنتي تبعد عن الحارس باثنتي عشرة ياردة، وخط النصف، و (السنتر هاف) و (الباك فورد)، و (الونجلفت)؛ هذه كلها اسمها: قانون كرة القدم.
بالله لو قيل لأحد عشر لاعباً: تعالوا أنتم يا فريق أحد عشر هنا، وأنتم هنا، وهذه الكرة بينكم، ونريد منكم من يحرز هدفاً بدون حكم وقانون، إلى ماذا تتحول هذا المباراة؟ إلى معركة فعلاً؛ لأن أول واحد يمسك الكرة يريد هدفاً، وذاك أمسكه برجله، وذاك ركب عليه، وبعد قليل تجد اثنين وعشرين لاعباً كلهم فوق بعض والكرة تحت، ويحصل قتل ولا يخرج منها سالماً.
فإذا كان اللعب نفسه مضبوطاً بنظام، ولا يمكن أن يصير أبداً لعباً إلا بنظام، فكيف نريد أن يتصل الإنسان بالمرأة مثل ما يريد فرويد -هذا الملعون- عن طريق الإباحية الجنسية، وبغير نظام ولا تتدمر البشرية؟! لا يمكن أبداً، وما هو الآن واقع ومشاهد في أوروبا هو نتيجة دعوة فرويد.
الآن في أوروبا وفي أمريكا سلط الله عليهم جندياً من جنوده اسمه: الإيدز، جندي بسيط من جنود الله، والله تعالى يقول: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الفتح:4] جندي لا يرى بالعين المجردة، لا تستطيع أن تراه إلا إذا أدخلته في عدسة أو أدخلته في ميكروسكوب إلكتروني يكبر الحجم ثلاثة ملايين مرة، أي: يجعل الملي الذي هو واحد من عشرة من السنتيمتر، يجعله ثلاثة كيلو، يمكن أن ترى هذا الفيروس بالمجهر، هذا الجندي أقلق أمريكا وأوروبا ودمرها الآن، وشبحه يبرز في كل ميدان وشارع وملهى، وفي كل مكان؛ لأنه من جنود الله المسلطين الذين فيهم شدة الله وبأسه، وغضب الله عز وجل، هذا جاء نتيجة الإباحية الجنسية، حتى إن وزير الصحة السويدي ورئيس الصليب الأحمر عندهم، نادى نداءً عظيماً جداً قرأته بعيني في جريدة الشرق الأوسط، لما عملت إحصائية عن المصابين بالإيدز في العالم، وجد أنهم أكثر من اثنين وستين ألف مصاب والزيادة مستمرة! وأن أمريكا لوحدها فيها أكثر من أربعين ألفاً والبقية في أوروبا، وفي السويد وحدها ألف وستمائة واثنان وعشرون مصاباً بالإيدز، والسويد هذه من الدول الإباحية في العالم، وهي من الدول الاسكندنافية المتطورة جداً كـ الدنمارك والنرويج، لقد قال: إن علينا أن ننادي الشعب السويدي بتنظيم علاقته الجنسية، يقول: فهذا لا يجدي في محاربة الإيدز، ولكن علينا أن ننادي بقوة وبحزمٍ إلى أن يكون لكل رجلٍ سويدي امرأة واحدة فقط، يعني الإسلام، أي: أن تبقى علاقة الرجل بالسويد مع امرأة واحدة -أي: زوجة- لأن عندهم الزوجة واحدة في العرف والصديقات مائة في التطبيق العملي، وليس عندهم طلاق، لكن بإمكانها أن تأخذ لها مائة عشيق، وهو يأخذ له مائة صديقة، وهذا شيء يبيحه عندهم النظام.
هذا فرويد الخبيث قال مقولته هذه وثبت فشلها؛ لأنها جاءت من إنسان شهواني لا يعرف هذه الحياة إلا من منظاره، ولا يريد أن يفسرها إلا من شهواته.
وجاء غيره من العلماء، وليسوا بعلماء بل هم أجهل الناس بحقائق الكون، وحقائق هذه الحياة، بل بأنفسهم.(113/4)
نظرية داروين في الحياة والرد عليها
جاء شخص ثالث واسمه دارون، ينقل عنه المؤرخون أن شكله شكل قرد، وقال: إن الإنسان تطور عبر سلسلة من المراحل حتى صار إنساناً، وأنه في الأصل كان قرداً.
كيف كان قرداً؟ ما دام أن القضية تطورات، والإنسان كان قرداً وصار إنساناً، فلماذا لم يتطور الإنسان ويصير جملاً، أو ثوراً، أو وعلاً، أو يصير أي شيء؟ لماذا بقي عند الإنسانية؟ ما دامت القضية تطورية! لأن الشيء الذي يقبل التطور لا يقف بمنطق العقل.
ورُدَّ عليه وثبت بطلان نظريته ونسفت من أساسها؛ لأن الإنسان إنسانٌ منذ خلقه الله، نعرف ذلك من كلام الله الذي خلق الإنسان، وهو قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13].(113/5)
نظرية فروبل في حقيقة الحياة والرد عليها
جاءت كثير من النظريات التي لا مجال لتعدادها، منهم شخص اسمه فروبل، يقول: إن نظريته قائمة على اللعب، وإن الله خلقنا في هذه الحياة من أجل أن نلعب.
هذا مطرب يحب اللعب! ويقول: إن الناس ما خلقوا إلا للعب، ولما سئل: لِمَ يا فروبل؟ قال: ألا ترون الطفل الصغير لا يجلس إلا للعب دائماً باستمرار، يقول: لو أردت أن تجلس في مجلس وتلاحظ حركة طفل في السنة الثالثة أو الرابعة أو الخامسة أو السادسة، فإنك تلاحظ فيه أنه لا يمكن أن يجلس خمس دقائق على نفس الجلسة، ثم يقوم يجلس ويتوقف ويقوم، لا بد أن يتحرك، فقال: هذا اللعب عند الإنسان دليل على أن الحياة كلها لعب.
قيل له: يا فروبل! لا، اللعب في حياة الطفل لغرض؛ وهو أن الطفل ينمو، وما من يومٍ يمر عليه إلا وهو في زيادة في النمو، هذا النمو يجب أن يقابل بحركة من الإنسان، فإذا توقف الإنسان عن الحركة، توقف النمو، فحتى ينمو لا بد أن يتحرك، فإذا اكتمل بنيان الإنسان فلن يتحرك حركة إلا حركة إرادية؛ عندما يكون عمره عشرين سنة لو تحرك كيف ما تحرك لن يطول، ولذلك إذا فصَّل ثوباً وعمره عشرون سنة فلن يطول سنتيمتراً واحداً، انتهى، لكن من عمر سنة إلى أن يبلغ الإنسان وهو ينمو وينمو، فيجد أنه يتحرك حتى تنمو فيه العضلات، وتساعد على نمو جسمه، لكن لو توقف نموه عند سن معين يتوقف، ولو وقفت حركته لتوقف نموه، وهكذا.
أجل! من الذي يجيب على هذه الأسئلة؟ ومن الذي يخبرنا عن حقيقة هذه الحياة؟ ومن الذي يخبرنا عن سر وجودنا في هذه الحياة؟ ولماذا جئنا؟ إن الجواب الصحيح لا يمكن أن يوجد إلا من خالق هذه الحياة، وموجد هذا الإنسان، ألا وهو الله الذي لا إله إلا هو.
أما هذه الحياة فقد أخبرنا الله تبارك وتعالى أنها دار عمل، وأنها سوق ونحن نخوض غماره؛ فلنعمل فيه صالحاً، أو لنعمل فيه سيئاً، وأن الجزاء في الآخرة على ضوء السلوك في هذه الدنيا؛ قال عز وجل: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ * وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل:89 - 90]، وقال عز وجل: {أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:20].(113/6)
حقيقة وجودنا في الحياة الدنيا
أما لماذا جئنا؟ فقد أخبرنا الله عز وجل بقوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] هذا هو الهدف.
هناك عالمٌ من علماء أوروبا، وهو بروفيسور، لكن في علم الآخرة لا يعرف شيئاً، أجهل من ثور أهله، قيل له: لماذا خلقت؟ قال: لآكل، ولماذا تأكل؟ قال: لأعيش؛ لأنه لو لم يأكل سيموت، قيل له: أنت تأكل لتعيش، لكن لماذا تعيش؟ لا بد لعيشك هذا من هدف، قال: لآكل، ولماذا تأكل؟ قال: لأعيش، وإذا به من آكل لأعيش، وأعيش لآكل، قال: وبعدما تأكل وتعيش، وتعيش وتأكل، وتصبح وتمسي من أجل أن تعيش وتأكل، وفي النهاية أين تذهب؟ قال: أموت.
تموت!! الله خلقك لأجل أن تموت؟ لو أن الهدف من أن الله خلقك من أجل أن تموت، فإنك كنت ميتاً، وليس هناك حاجة ليوجدك وتمر عبر هذه المرحلة في بطن أمك، وبعدها ولادة وطفل ودراسة من أجل أن تموت؟! أجل كل موجود هنا فهو ميت، ولكن أنت وجدت لهدف: ما هو؟ قال: لا أدري، يعرف كل شيء في علم الدنيا، لكنه لا يعرف شيئاً في علم الآخرة، لا يدري! حتى قال شاعرهم:
جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت وسأبقى سائراً إن شئت هذا أم أبيت كيف جئت؟ كيف سرت؟ كيف أبصرت طريقي؟ لست أدري ولماذا لست أدري؟ لست أدري
هذا منتهى الضلال والضياع، لا يدري لماذا جاء، ولو أنك وقفت مرة -مثلاً- على العقبة المتجهة إلى جيزان، ووقفت مع العسكري وهو يسمح للسيارات بالصعود والهبوط، وجاء صاحب سيارة وأوقفه العسكري، قال له: أين ذاهب؟ قال: لا أدري.
من أين جئت؟ قال: لا أدري والله.
ولماذا نازل؟ قال: والله لا أدري.
ما رأيكم في هذا العسكري أيوفقه أم يتركه؟ يوقفه مباشرةً، ويقول: هذا أخبل ومجنون، لا يعرف إلى أين هو ذاهب، ولا من أين جاء، ولا يعرف لماذا نازل، هذا سكران سيعمل كارثة أو مجنون! ولا يسمح له بقيادة سيارة في رحلة مدتها ساعتان إلى جيزان أو ثلاث ساعات.
لكن البشرية اليوم العاقل الكبير لا يدري من أين أتى، ولا يدري إلى أين هو ذاهب، في رحلة طويلة، ستون أو سبعون سنة يعيشها على ظهر هذه الأرض وهو لا يدري، ونقول: إنهم عقلاء ومفكرون، وإنهم أصحاب حضارة وإنجاز، وهم مفلسون، والله تعالى يقول: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7] غفلوا عن الحقائق الأزلية التي من أجلها خلقوا، ولا يعرفون إلا ظاهراً من هذه الحياة، قال الله تعالى قبلها: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:6]، ثم أثبت لهم علماً ظاهراً لا يغني عنهم شيئاً إذا قدموا على الله عز وجل.
فالإيمان أيها الإخوة! هو الذي يجيب على هذه التساؤلات.(113/7)
طرق تعرف البشرية على الإيمان الحقيقي
.(113/8)
الاستجابة لداعي الفطرة في النفس
الإيمان قضية رئيسية في حياة الإنسان، ليست أمراً على هامش الوجود، إنها قضية سعادة أبدية أو شقاوة أبدية، إنها قضية جنة أو نار، ولذا كان حريٌ بالعقلاء أن يجعلوا أولى اهتماماتهم بالإيمان كيف يدعمونه، وكيف يرسخونه، وكيف يعرفون حقائقه، ولقد مارست البشرية طرقاً عدة في سبيل التعرف على الإيمان الحقيقي.
فمنهم من استجاب لداعي الفطرة في النفس؛ فإن الله فطر كل نفسٍ بشرية على الإيمان به، قال الله عز وجل: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:30] وقال عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة -أي: على الإسلام- فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه) وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي عن الله عز وجل: يقول الله عز وجل: (إني خلقت عبادي حنفاء -أي: مستقيمين على الفطرة- فاجتالتهم الشياطين) أفي الله شك فاطر السماوات والأرض؟ ما من نفسٍ مفطورة إلا وعندها يقين أن الله خالقها، ولهذا سمي الإلحاد بالكفر؛ لأنه تغطية للحقائق، ألحد أي: مال وانحرف، وما استجاب لداعي الفطرة في نفسه.(113/9)
الاعتماد على مبدأ السببية في إثبات الإيمان
ومنهم من اعتمد على مبدأ السببية في إثبات الإيمان وقال: إنه لا يوجد شيء إلا بسبب، ولا يكون حركة إلا بمحرك، ولا يكون خلق إلا بخالق، فقال كما قال الأعرابي: البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، فأرض ذات فجاج، وسماء ذات أبراج، ونجوم تزهر، وبحارٌ تزخر، أفلا يدل ذلك على السميع البصير؟ إن هذا الكون بما فيه من أسرار في كل شيء، بل ما فيك أنت أيها الإنسان من أسرارٍ في نفسك، فأنت كلك أسرار وألغاز من رأسك إلى أظافر قدمك، في نفسك وفي جميع أجهزتك من الذرة الموجودة فيك إلى المجرة الموجودة في العالم الخارجي، كلها تدل على الله عز وجل.
وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد
فمبدأ السببية مبدأ عقلاني؛ لأن هذه الحياة لا بد لها من خالق، والله خاطب العقول وقال: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} [الطور:35]، طبعاً العقول تقول: لا.
ما خلقنا من غير شيء؛ لأن العدم لا يخلق شيئاً، قال عز وجل بعدها: {أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35]، هل خلقتم أنفسكم يا ناس؟! طبعاً يقولون: لا.
ثم ما دام أنهم ما خلقوا من غير شيء، ولا خلقوا أنفسهم؛ تعين كنتيجة حتمية أن يكون لهم خالق وهو الله الذي لا إله إلا هو.
ولو قلت لكم الآن: أتظنون أو تعتقدون فيَّ أنني أخاطبكم الآن وأنا بكامل قواي العقلية؟ ليس عندكم شك الآن أني عاقل، إذ لو كنتم تشكون أني أتكلم معكم من منطلق الجنون، ما جلستم أمامي وعطلتم حصصكم وجئتم تجلسون، لكن تريدون أن تسمعوا كلاماً يفيد، ولو قلت لكم وأنا أتحدث عن أسرار خلق هذا الميكرفون: لو سألني طالب وقال: يا أستاذ! كيف صُنع هذا الميكرفون؟ فقلت لكم: هذا الميكرفون كان في قديم الزمان قطعة من الحجر، ومرت عليه الرياح الشمالية والشرقية والجنوبية، وأيضاً عوامل التعرية من الأمطار والرياح ونحتته من هذا الجانب ومن ذاك الجانب، وجاءت حديدة ودخلت من هنا، وجاءت حديدة أخرى ودخلت من هنا، ومع الزمان صار (ميكرفوناً)، ما رأيكم، هل تصدقونني أم تكذبونني؟! لا تصدقونني.
وقد يقول شخص: يا أستاذ! صحيح، لكن تلك الساعة كيف جاءت؟ قلت: هذه أصلاً كانت حديدة بيضاء في جبل من الجبال البيض، وجاءت الرياح وأخذتها ولطخت بها هنا، وهذا الهور كذلك كان حجراً ولطخت به الرياح وضرب هناك، ومع الزمن تجوف مع الرياح، وأصبح له (زقم) بارز في وسطه يا أستاذ! هذا كلام غير معقول! وجاء شخص آخر وقال: السلك المربوط من هنا إلى هنا، من أين جاء؟ هيا حلها الآن؟ قلت: أنت عقليتك قديمة، أنت رجعي، هذا السلك يا ولدي! مرت به الرياح على ظهور الغنم والإبل، وحملته الخرفان السود في نجد وانغزلت مع الزمن، وصار سلكاً وفجأة ارتبط هناك، وارتبط هنا وصار صوتاً، بالله هذا كلام عاقل؟!! تقولون: والله إنه أخبل، هيا قوموا نكمل دروسنا، هذا الأستاذ والله ما معه عقل، لماذا؟ لأني أتكلم بكلام يرفضه العقل ولا يمكن أبداً.
هناك جهاز اسمه جهاز (الأمبيرفاير) الذي يكبر الصوت، فيه طاقة، وفيه جهد، ومائتين وعشرين، ومائة وعشرة، أحدهما يرفع والآخر للمايك وهذا، وهذا يا أستاذ! قلت: وهذا يا أخي! الله يهديك، كلما أجبنا لك على سؤال تأتيني بسؤال آخر، يا أخي! حرر عقلك، كن متطوراً ومتنوراً مثلما يقولون، افهم، هذه جاءت كذا، وطلعت كذا، وأضاءت لمبة من هنا، وكلها صدفة.
هل تقبل العقول هذا الكلام؟! لا تقبل العقول هذا في جهاز بسيط، لكن كيف تقبل العقول أن يكون هذا الكون، بما فيه من أبراج ونجوم وعوالم ومجرات، ومن آخر العلوم المكتشفات قرأت قبل حوالي شهر في المجلة يقولون: كان العلم البشري يتوقع أن أعلى شيء في الموجودات هي المجرة؛ والمجرة: هي مجموعة من المجموعات التي من ضمنها المجموعة الشمسية، والمجموعة الشمسية تشتمل على عدة كواكب من ضمنها الأرض والشمس والقمر، ومن ضمنها: نبتون، وزحل، والمشتري، وعطارد، والمريخ؛ هذه كلها اسمها المجموعة الشمسية، وهي واحدة، يقولون: إن المجموعة الشمسية بالنسبة لبعض المجرات مثل قبضة رمل على شاطئ بحر، ويقولون الآن: إن هناك شيئاً استطاعوا أن يصلوا إليه وأن يكتشفوه بواسطة (الميكروسكوب الراديوي) ليس (الإلكتروني البصري)، الراديوي أي: يكتشفون بالميكروسكوب عبر موجات الراديو، التي تطلق ذبذبات على بعد ملايين ملايين المسافات والكيلوهات والسنوات الضوئية، يقولون: إنهم استطاعوا أن يكتشفوا أن هناك شيئاً سموها (الكواسار)، هذا الكواسار يقولون: لو أردنا أن نقيس حجمه نأتي بحجم المجرات التي اكتشفناها، ونضع واحداً صحيحاً وأمامه مائة صفر، ومن يقرأ هذا العدد؟ ستة أصفار: مليون، سبعة أصفار: عشرة مليون، تسعة أصفار: مليار، اثنا عشر صفراً: بليون، لكن مائة صفر من أين نعطي له اسماً؟! هذا الكون كله، وهذا الإنسان، وهذه الحياة كلها الله خالقها! ويأتي الإنسان هذا البليد ويقول: ليس لها خالق، إنها الطبيعة! هل الطبيعة التي تدوسها أنت بقدمك، هذه الطبيعة الصماء العمياء تخلقك أنت أيها السميع البصير؟! فاقد الشيء لا يعطيه: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر:62].
فمبدأ السببية هو مبدأ عقلي اعتمد عليه العقلاء في القديم بدون رسالات، وأثبتوا أن لهذا الكون خالقاً هو الله الذي لا إله إلا هو.(113/10)
إثبات الإيمان بقضية حسابية تجارية
ومنهم من مارس القضية على أساس أنها قضية حسابية تجارية، فقالوا: نحن في الإيمان نكسب ولا نخسر شيئاً، ونحن بالكفر نخسر ولا نكسب شيئاً، حتى قال فيلسوف غربي اسمه باسكال: إن عليك قبل أن تقرر بين أن تؤمن أو لا تؤمن، عليك أن تقيس وتفكر فيما يمكن أن تربحه في الإيمان وما يمكن أن تخسره، وما يمكن أن تربحه بالكفر وما يمكن أن تخسره، ثم قال: إنك بالإيمان تكسب كل شيء ولا تخسر شيئاً مهماً، وإنك بالكفر تخسر كل شيء ولا تكسب شيئاً مهماً، بالإيمان ماذا تكسب؟ تكسب الصدق، والعفة، والوفاء، والكرم، والشجاعة، وتكسب كل شيء، وتخسر ماذا؟ تخسر الزنا، والزنا خسارة إذا لم تزنِ؟ العقول بدون دين ترفض الزنا، وتخسر الخمور، وهل الخمور مكسب؟ هي خسارة.
كيف يسعى في جنون من عقل
تخسر الكذب، والجبن، والخصال الرذيلة، فهذه ليست خسارة، بل تركها كسبٌ لك أيها الإنسان.
وقال أبو العلاء المعري؛ وهو فيلسوف ملحد، قادته فلسفته إلى الإلحاد والكفر -والعياذ بالله- يقول بيتين من الشعر:
زعم المنجم والطبيب كلاهما لا تبعث الأجساد قلت: إليكما
إن صح قولكما فلست بخاسر أو صح قولي فالخسار عليكما
يقول: أنا سأموت، فإن جاء في الآخرة بعث ونشور فأنا لم أخسر شيئاً، لكن لو جاء يوم القيامة وليس هناك بعث ولا نشور فأنت الخاسر، أنا ما خسرت شيئاً، وطبعاً نحن لا نأخذ إيماننا من هذه النظرية القائمة على الاحتمال، هذه نظرية أبي العلاء المعري الذي يقول: أنت خاسر وأنا سأكسب مباشرة، وليس عنده يقين، ولذلك ألحد.
لكن.
نحن نأخذ إيماننا عن طريق الجزم والحق الذي نجزم بأنه هو الحق، وأن ما عداه فهو الباطل، وأن دين الله الذي شرعه الله، وأنزله الله تبارك وتعالى، هو دين الله الذي يصلح لكل حياة، والمؤمن -أيها الإخوة- حينما يهتدي لا يخاطر بدنياه من أجل أن يربح في آخرته، بل هو يربح دنياه ويربح آخرته؛ لأن هذه الحياة ستبقى شقاءً، وستبقى غايةً في الضلال إلا أن يعمرها الإنسان بطاعة الله عز وجل.(113/11)
حال المجتمعات بدون إيمان
أيها الإخوة: إن هذه الحياة لا يمكن أن تهدأ فيها النفس البشرية، ولا يمكن أن تعيش سويةً إلا في ظل الإيمان بالله تبارك وتعالى، يقول الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97]، والإيمان -أيها الإخوة- من الضروريات لسعادة الإنسان في هذه الحياة، سواءً كان فرداً أو كان مجتمعاً، فإن الإنسان بغير دينٍ في ظل الكفر -والعياذ بالله- سيعيش ريشةً في مهب الريح، تتقاذفه الأمواج، وتتلاطمه الشبهات، وتستحوذ عليه الشهوات، ولا يدري من يجيب، ولا يدري من يستمع له، فسيكون في ضلالٍ وحيرةٍ، حتى يرجع إلى الله تبارك وتعالى، وكذلك ستبقى هذه التساؤلات في نفسه، فهو حيوان شرسٌ، وسبع ضارٍ، لا تستطيع الثقافات ولا النظم ولا المراقبات أن تحد من شراهيته، أو أن تحد من طغيانه، بل إنه يدور فقط مع مصالحه وفي فلك منافعه والعياذ بالله.
أما على مستوى المجتمع؛ فإن المجتمع بغير دين سيتحول إلى مجتمع غابة، وإن لمعت فيه بوارق الحضارة؛ فإنه مجتمع غابة، بل والله إن في مجتمع الغابات رأفةً ورحمةً أعظم مما في مجتمع الإنسان بغير الدين.
وأنتم ترون الآن كيف تمارس أفظع أنواع الوحشية مع المسلمين في فلسطين في القرن العشرين، أنا ما رأيت المنظر لكن أحدهم أخبرني به، والله إني ما استطعت أن أنام الليل، يقول: جاء اليهود باثنين أو ثلاثة من الشباب المسلمين، وأوقفوهم وأخذوا الحجارة يدقون بها على أكواعهم، ويدقون أكتافهم، ويدقون ركبهم، تكسير، وما يمارس هذا التعذيب مع تيس، إذا أردت أن تذبح تيساً كيف تفعل به؟ تريح ذبيحتك عندما تذبحه، فلو ذبوحهم وأطلقوا النار عليهم لكان هيناً، لكن يرضونه على مرأى من العالم كله، ولا أحد يتحرك، لا مسلم يغار، ولا كافر يرحم، أين الإنسانية؟ يقول الشاعر:
عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى وغرد إنسان فكدت أطير
المجتمع بغير دين مجتمع غابة حقيقةً، ولو لمعت فيه بوراق الحضارة الحياة فيه للأقوى لا للأتقى، مجتمع تعاسة حقيقةً وإن توفرت فيه أسباب الرفاهية، مجتمع تافه؛ لأن اهتمامات أهله تدور فقط في فلك شهوات البطون وملذات الفروج فقط، ولذا لم تتحقق السعادة للناس في ظل الكفر في أوروبا، وقد وفروا لأنفسهم أكثر الإمكانات البشرية والمادية فعاشوا عيشة البهائم.
إن في العالم من الشباب من له وظيفة وتجده في الأخير يأخذ حبوباً ويشربها ليموت! أو يذهب إلى قمة جبل ويلقي بنفسه منه، أو يأخذ المسدس ويقتل نفسه؛ لأنه تعيس، يبحث عن السعادة في كل شيء فلم يجدها؛ لأن السعادة لا يمكن أن تكون إلا في ظل الإيمان بالله عز وجل.
المجتمع بغير دين -أيها الإخوة- هو مجتمع ضلال، ومجتمع حيرة وانتكاسية؛ لأنه طوَّر المادة لكنه دمر الإنسان.
وهل الإنسانية الآن مطورة أم مدمرة؟! إنها مدمرة، يقول أبو الحسن الندوي وقد سافر إلى أمريكا وعاد وكتب كتاباً، يقول: زرت أمريكا فوجدت فيها ناطحات السحاب، ووجدت فيها الشوراع الفسيحة، والموانئ العظيمة، وسمعت فيها هدير المصانع والآلات، ووجدت فيها كل شيء، غير الإنسان ما وجدته.
يقول: ما رأيت الإنسان بإنسانيته ومبادئه، وبغايته الكريمة، يقول: وجدت مسخاً يمشي على قدمين وفي يده كلبٌ يأكل معه في صحفة واحدة.
فالمجتمع بغير الدين مجتمع ضلال وحيرة؛ لأنه طوَّر المادة، ودمر الإنسان، فهو وإن استطاع أن يحقق شيئاً من الماديات إلا أنه لم يحقق شيئاً من سعادة البشر، إلا من أجل تدميره ومن أجل -والعياذ بالله- القضاء عليه، وما حرب النجوم عنا ببعيد، تسمعون الآن وقبل فترة مشاريع ضخمة ترصد لها المليارات من الدولارات من أجل المسابقة إلى غزو الفضاء، وإلى السيطرة على العالم الأرضي من خلال حرب النجوم، هذه ملايين تؤخذ من البشر ولو قسمت عليهم لما كان في الأرض شقي ولا فقير، لكن لما كانت البشرية بغير دين أصيبت بهذه الويلات والنكبات.
هذه أيها الإخوة! بعض اللمحات عن الإيمان وأهميته وأثره في حياة الفرد والمجتمع، وقد يقول قائل: ما هو الإيمان الذي نعنيه؟ ما هو الإيمان الذي نريده؟ أهو مجرد تصورات، أو سلوك، أو عبادات؟ ما هو الإيمان الحقيقي الذي ينفع؟ ثم ما أسباب زيادة الإيمان؟ وما أسباب ضعف الإيمان؟ وما أسباب إحباط الإيمان؟ هذه الأسئلة الأربعة تحتاج إلى وقتٍ مثل الذي قضينا فيه، وأسأل الله تبارك وتعالى أن يعين وأن يوفق على اللقاء بكم مرة أخرى للإجابة عليها؛ لأن الوقت محدد لي من قبل الشيخ فقد حدده بالدقيقة، قال: لا تزد ولا تنقص، هذه حصة، وليست فلتة، قال: لك خمسة وأربعون دقيقة، فأظن أني أخذت أكثر من خمس وأربعين دقيقة، فأستميحه عذراً وأستسمحكم أيضاً.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(113/12)
الأسئلة
.(113/13)
الأمور التي تعين على تقوية الإيمان
السؤال
ما هي الأمور التي تقوي الإيمان في قلب المسلم؟ ومتى يجب على المسلم أن يداوم على ذلك حتى يصبح قوي الإيمان؟
الجواب
يقول السلف: كنا لا نتجاوز العشر آيات من القرآن حتى نعيهن ونتدبرهن ونعمل بهن ونطبقهن، هذا الذي ينفع، أما فقط قراءة هذرمة، لا تنفعك ولا تغني عنك يوم القيامة، الله أنزل القرآن لا لتقرأه هكذا، الله تعالى يقول: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29] هذا الأول: قراءة القرآن، ولكن تستعين أيضاً بالله، ثم ببعض الكتب المفسرة للقرآن الكريم، بعض الكتب التي تفسر لك بعض مفردات القرآن، وبعض أسباب النزول، وبعض الأقوال المأثورة فيه، أو القول بالرأي فيه، حتى تكون عندك ثقافة قرآنية كبيرة، تفهم فيها مراد الله عز وجل.
الأمر الثاني: قراءة سنة النبي صلى الله عليه وسلم -أي: الحديث الشريف- وليكن في كل يوم تقرأ حديثاً واحداً، ولو استمريت على هذا سيكون معك في الشهر ثلاثون حديثاً، وفي السنة ثلاثمائة وستون حديثاً، وفي عشر سنوات تصير محدثاً كبيراً، تعرف الحديث، ودرجة صحته ومفرداته اللغوية، والأحكام الشرعية المستنبطة منه، وماذا يعنيك منه؟ وهل طبقته أو ما طبقته؟ وأخصر كتاب أدلكم عليه هو كتاب رياض الصالحين، الذي احتوى على الأحاديث الصحيحة وليس فيه حديث موضوع، والأحاديث الضعيفة فيه قليلة، فما فيه إلا بضعة عشر حديثاً ضعيفاً، ولكنها من فضائل الأعمال، وهو من أصح الكتب، وهو مبوب على أبواب تستفيد منها في كل شئون حياتك، لا بد يومياً بعد ما تغلق القرآن تأخذ رياض الصالحين وتقرأ فيه حديثاً، وتسأل نفسك فيه، وتطبقه حتى تحفظه؛ لأنه لا يمكن أن تحفظ حديثاً وما عملت به، فمن وسائل حفظ الأحاديث العمل بها.
الثالث: الحرص على ممارسة العبادات والفرائض وفي جماعة المسلمين، وبكامل الطهارة والخشوع والخضوع، وفي الصف الأول، وتحرص باستمرار على الصلاة في الصف الأول، وأن تحج، وأن تصوم أحسن صيام، وتؤدي كل الفرائض الشرعية، وتحرص على ممارستها حرصاً قوياً.
الرابع: البعد كل البعد عن المعاصي والذنوب؛ فإنها تحرق الإيمان وتنسف الإيمان من الأساس، فإن الإيمان مثل الشجرة يغذيها الماء ويحرقها البنزين، لو وضعت تحت شجرة ناراً، ماذا يصير؟ تحترق، أو صابوناً أو بنزيناً أو جازاً تحترق، فأكثر الناس الآن يريد إيماناً وهو يغني، يحرق الإيمان بالأغاني، ويحرق الإيمان بالنظر المحرم، ويحرق الإيمان -والعياذ بالله- بقلة الدين، فلا تعص الله؛ لأنك إن عصيت الله ضعف إيمانك، فحاول أن تبني وتحمي، لا أن تبني وتهدم.
هذه الرابعة؛ الحرص كل الحرص على الابتعاد عن الذنوب صغيرها وكبيرها، دقيقها وجليلها، ظاهرها وباطنها، المتعلق بالقلب وبالجوارح، كل الذنوب حاول ألا تقع فيها، وإذا وقعت في شيء فسارع بالتوبة والرجعة إلى الله عز وجل.
الخامس: أن يكون لك قرين وصاحب خير، زميل تختاره اختياراً كما تختار الذهب الأحمر؛ لأنه:
إذا ما صحبت القوم فاصحب خيارهم ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي
عليك أن تختار القرين الصالح، والزميل المناسب، الذي في مثل دينك أو أكثر؛ لأنه إذا كان أكثر منك سيسحبك معه، أما إذا كان أقل منك سينزلك معه.
هذه الخامسة؛ أن يكون لك زميل صالح.
كيف تختاره؟ من خلال الممارسة تراه، من أين تتعرف عليه؟ من المسجد، في الصف الأول، يقرأ كلام الله، فيه حب للخير، تمشي معه أول يوم، أقيمت الصلاة وإذا به مباشرةً معك، كذلك إذا قرأت القرآن، لكن من يوم أن ترى منه دعوة إلى أي معصية أو إلى تثاقل عن طاعة الله فاحذر منه فإنه شيطان.
السادس من الأمور التي تقوي الإيمان وتحفظه وتزيده: الحرص كل الحرص على الابتعاد من قرناء السوء؛ لأن قرين السوء مثل الجمل الأجرب الذي يعدي ولا ينفع، فلو أدخلنا جملاً أجرب بين سبعين جملاً صحاح، هل تتعاون السبعين على أنها تقيه العافية من الجرب، أم هو يستطيع أن يعديها كلها؟ هو يعديها كلها وتصير بعد سنة جرباء كلها، لكن هي لا تتعاون على أن تصلحه؛ لأن الشر ينتشر، والخير يصعب انتشاره إلا بصعوبة.
هذه هي وسائل تقوية الإيمان إن شاء الله تعالى، نسأل الله أن تداوم عليها يا أخي السائل! وأن يزيد الله إيمانك، وأن ينور الله بصيرتك.(113/14)
مكفرات السيئات
السؤال
ما هي المكفرات التي تكفر سيئات المسلم في الدنيا والآخرة؟
الجواب
المكفرات عشرة، ذكرها الإمام ابن تيمية رحمه الله، منها في الدنيا ومنها في الآخرة، ذكرها في الجزء العاشر من الفتاوى في باب السلوك: مكفرات الذنوب عشرة أشياء، لكن ليس مقامها الآن.(113/15)
نصيحة للشباب الغير متزوج
السؤال
نريد منكم يا فضيلة الشيخ! نصيحة للشباب المسلم غير المتزوج الذين طغى عليهم الجنس وممارسته بطرق غير مشروعة؟
الجواب
الجنس غريزة موجودة في كل كائن، والله شرع لنا وسيلة لتفريغ هذه الغريزة عبر مسار نظيف اسمه: مسار الزواج، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة -أي: النفقة والقدرة على الزواج- فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج) هذا الزواج، (ومن لم يستطع) فعليه بيده! مثل ما يفعلونه الآن ويسمونها العادة السرية، أي: نكاح اليد؛ لأن العصاة والمجرمين قدموا المعاصي في قوالب مقبولة بتسميات مختلفة، فيسمون نكاح اليد: عادة سرية، التي بها لعنة الله ورسوله، والتي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يأتي يوم القيامة ويده حبلى له؛ يبعث يوم القيامة ويده مثل الجبل فيها ستمائة أو سبعمائة ولد، ما هذا؟ قال: هؤلاء عيالك في الدنيا، لا إله إلا الله!! نكاح اليد محرم، وفيه فتوى صادرة من هيئة كبار العلماء، نحتفظ بها، وهي موقعة من كبار العلماء، ولا تنظروا لمن قال لكم: إنها أهون من الزنا، الباطل لا يحارب بباطل، والبديل لا يكون منكراً، الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (فعليه بالصوم) فقط، وقال الله في الآية الكريمة: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المعارج:29 - 30] فقط، زوجتك أو ملك يمينك، ثم قال {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ} [المؤمنون:7] أي شيء حتى ولو يده: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:7] أي: المعتدون على حرمات الله عز وجل، فأنت أيها المسلم! إن استطعت أن تتزوج فالحمد لله، وإن لم تستطع أن تتزوج فعليك وسائل تتبعها حتى تقلل من لهيب الجنس ولوعته في قلبك: أولاً: غض بصرك ولا تفتح عينك؛ لأن الشاعر يقول:
والمرء ما دام ذا عينٍ يقلبها في أعين الغير موقوف على الخطر
غض البصر؛ لأن غض البصر هذا من أعظم وسائل الحماية للإنسان.
ثانياً: لا تستمع للأغاني؛ لأنها تهيج الشهوة إلى جانب كونها محرمة؛ لأن الغناء كله يتحدث عن الحرام، ليس فيه كلام إلا: يا ليل، ويا عين، ويا حبيبة، ويا طولها، ويا عرضها فقط، كلام فاضٍ، فلا تسمع الأغاني بأي حالٍ من الأحوال.
لا تنظر إلى النساء، وغض بصرك، وكذلك لا تنظر إلى المسلسلات والروايات والمسرحيات؛ لأنها تحرض على الجنس والحب والغرام والعشق والهيام.
أيضاً: لا تقرأ في كتب الروايات، ولا تشترِ المجلات؛ لأن فيها أصحاب الصور العارية الرخيصة.
أيضاً: لا تفكر في هذه الأمور تفكيراً يستغرق عليك وقتك، وإنما إذا جاءك التفكير قم إلى القرآن، خذ المصحف واقرأ القرآن، أو قم إلى الصلاة، وبعد ذلك عليك بالصوم وهو أول وأفضل دواء، كما قال عليه الصلاة والسلام، وإذا كنت تقول: كيف أصوم؟ فلتصم الإثنين والخميس من كل أسبوع، أو تصم ثلاثة أيام من كل شهر، فإنه -إن شاء الله- يعينك إذا قصدت بذلك وجه الله تعالى، والاستعانة على كبح الشهوة في نفسك، فهذا دواء ناجع بإذن الله تعالى، وإذا ابتليت بحكم جاهليتك في الماضي بالتعرف على فتاة، ووقع في قلبك ميلٌ نحوها، فابحث من الآن إمكانية الزواج بها، قبل أن تتخرج، دع أهلك يتقدمون لها، أو يعقدون لك عليها، فإن كانت الطرق مهيأة، والسبل ممكنة، وأهلها موافقون، فحاول أن تعقد، وإذا صارت زوجتك فأحبها كثيراً، لا نقول لك: لا؛ لأن الحب الحلال حلال، واذهب وتكلم واجلس معها.
وإن كنت بحثت عن الطريق الموصل إلى الزواج بهذه البنت وقالوا لك: لا.
والله لا نزوجك، رفض أبوها أو رفضت أمها، أو رفض أبوك أو رفضت أمك، وطبيعي أنك لن تتزوج بفتاة غصباً عن أبيها وأمها، أتأخذها غضباً؟! لا، لا بد من رضا الولي: (لا نكاح إلا بولي وشاهدين)، فإذا عرفت أن الطريق مسدود إلى الزواج بها، فإن البقاء في العلاقة معها لا طائل تحته، لماذا؟ لأنك تلهب قلبك وليس هناك طريقة للحل؛ لأن أصل الحب هو ميل المرأة إلى الرجل، ولا يمكن أن يطفئه إلا اللقاء بها، ولا يمكن ذلك إلا عن طريق الزواج، وإذا تم اللقاء بها من غير زواج يزيد النار لهيباً هل هو حلال أن تزني بها؟ أو أن تجلس معها؟ بل هو حرام وليس بحلال، صحيح أنه يغضب الله، ومعصية من معاصي الله، وكبيرة من كبائر الذنوب، ولكن إلى جانب ذلك مشكلة عليك أنت، لا تنحل المشكلة، لا يحل مشكلتك من حب الفتاة إلا الزواج بها، فإن كان الزواج ممكناً فالحمد لله، وإن كان غير ممكن فقف واقطع طريق الرجعة عليها وعلاقتك بها، وافصلها بحزم الرجال وقوة الأبطال، ولا تفكر في شيء حتى تتزوج، ثم إذا تزوجت كما مال قبلك إلى الأولى سيميل قلبك إلى زوجتك؛ لأن بعض الناس يقول: لا والله إني لو أخذت مائة امرأة أني ما أحب إلا تلك، نقول له: لا والله إنك تحب زوجتك أكثر منها، وشيء مجرب، أول شيء كيف أحببت هذه وأنت كنت لا تعرفها؟ من طريق تعرفك عليها، أو رأيتها وكلمتها، وكذلك زوجتك الجديدة إذا تزوجت بها، إذا رأيتها وجلست معها ستحبها أكثر من تلك إن شاء الله.
وبعضهم يقول: كيف أفعل؟ نقول: أنت رجل مؤمن وعاقل، تعرف أنك بهذا الكلام والاتصال والمراسلة، أو بأي اتصال مع المرأة، تعرف أنك لا يمكن أن تلتقي بها عن طريق الزواج، إنما تدمر نفسك وعرض مسلم وعرضها، وبعد ذلك النهاية فشل في فشل، فمن الآن كن قوي الإرادة، عظيم النفس، عالي الهمة، أعلن التمرد القوي على نفسك وعلى عاطفتك وقل لها: والله لا يمكن، وقد وضعت هذا الجواب لشخص من الشباب، وكان رجلاً حقيقةً بارك الله فيه ووفقه، والآن عنده ولدان من زوجته الجديدة، فقد جاءني وهو يبكي من لوعة الحب في قلبه تجاه بنت رفض أبوها أن يزوجه إياها، وقال له: والله لا تنكحها وأنا حي، فجاء الولد يقول: ماذا أفعل؟ رفض أن يزوجني، قلت: ماذا تريد؟ تريد أن تغصبه على ابنته، لو أن عندك بنتاً ورفضت أن تزوجها لشخص، هل يغصبك أحد على ابنتك؟ هذا يكون في غير الإسلام، يكون في الشيوعية، أما نحن فمسلمون، هذه ابنتي لا أزوجها إلا ممن أريد، وكذلك هذا الرجل هو حر في اختيار زوج ابنته، أنت لا تصلح لها، ولهذا هو ما يريدك يا أخي! قال: ماذا أفعل؟ قلت: الآن اتصل بها.
فاتصل من مجلسي وأنا أمليه الكلام في ورقة، كلاماً شديداً قوياً، وعندما أكمل قلت له: ابصق في وجهها، فبصق في التلفون في وجهها، فهي وضعت السماعة؛ لأن عندها كرامة عندما تكلم عليها وقال: أنتِ خبيثة، وأنتِ مجرمة، وأنا لا أريدكِ، وأنا أعلن قطع الصلة بكِ، ومن الآن لا تكلميني ولا أكلمكِ، ووضع السماعة وذهب الرجل، وبعد يومين جاءني وقال: اتصلت بي، قلت: ماذا فعلت؟ قال: تفلتها، قلت: وهي ماذا صنعت؟ قال: بكت، قلت: فما موقفك أنت؟ قال: والله يا شيخ! يوم أن بكت تألم قلبي، قلت له: أنت ضعيف، أنت لا تصلح للجنة، تريد الجنة وأنت عبد شهوتك! كيف تعلن عبوديتك لله ثم تصير عبداً لامرأة، حرامٌ عليك! ثم قلت له: ارفع السماعة، فرفع السماعة وقال لها مثل كلامه الأول، فردت عليه وقالت: الله لا يردك، ولعن الله أباك وأمك، قالتها له، ويوم لعنت أمه وأباه، يقول: والله إن الله أخرج حبها من قلبي كما تخرج الشعرة من العجين، قلت: اذهب وابحث لك عن امرأة الآن، فذهب وتزوج بامرأةٍ، وبعد ما عقد عليها ودخل بها أحبها، وصار عنده ولدان منها، يقول لي: والله إني من أسعد الناس بهذه الزوجة.
فقضية الجنس ولهيبه لا تعالج بأنك تبكي، فإنك إذا أتيت على نار مشتعلة هل تطفئها أم تؤججها؟ إذا أججتها التهبت، وإذا أطفأتها خمدت، فإذا كان عندك شيء في قلبك كبشرٍ فأخمد هذه الشهوة بعدم سماع الغناء، والنظر إلى النساء، وقراءة المجلات والخزعبلات، والنظر إلى المسرحيات، وقراءة الروايات، وبعد ذلك صم، والله يوفقنا وإياكم، والحمد لله رب العالمين.(113/16)
من أين نبدأ؟
ابتدأ الشيخ محاضرته بالحديث عن محاسبة النفس، والحث عليه، مبيناً خلال ذلك أهمية استغلال الأيام والليالي في مرضاة الله عز وجل وطاعته، كما تحدث أيضاً عن المخرج من ورطة الحياة، وذكر أنه لا مخرج من ذلك إلا بطاعة الله والتمسك بدينه، ثم بدأ بتناول الأمور التي يتوجب على المسلم أن يبدأ بها في رسم طريقه نحو نيل مرضاة الله عز وجل.(114/1)
وقفة محاسبة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: أيها الإخوة في الله: يدور الزمان دورته، وتمر الليالي والأيام، ويعود إلينا شهر رمضان، فرصة يتيحها الله للمؤمنين، وتمديد في الأعمار، وتأجيل للآجال، وقد يأتي رمضان ونحن في عالم آخر؛ في عالم الأموات، كما صنع بغيرنا من الناس، فكم من أسرة كانت -في رمضان الماضي- ترى يد رب الأسرة وهي تمتد إلى الطعام في وجبة الإفطار والعشاء والسحور، افتقدت هذه اليد في هذا الشهر، وكم من أسرة افتقدت يد الأم وافتقدت يد الولد وافتقدت يد البنت، وما حصل للناس يمكن أن يحصل لنا، وما لم يحصل لنا في هذا العام فقد يحصل لنا في العام القادم، والخاسر هو الذي يفوت مثل هذه الفرص، كما سمعتم قول الله عز وجل: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [الأنعام:31].
أما آن للإنسان أن يتوب -أيها الإخوة! - إلى متى وهو يتعاقب عليه الليل والنهار وهو يسير إلى النار؟! لماذا يقطع رحلة المصير والنار إلى جهنم؟! يقول عز وجل: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16].
أنت تسير يا أخي! ولا تدري أنك راكب على مطية الليل والنهار وهي تنزل بك في منازل الآخرة وأنت لا تشعر، فهل الأولى والخيار المناسب لك أن تنتقل عبر مطايا الليل والنهار إلى السعادة والفوز والفلاح والنجاح، أم إلى الشقاء والدمار والهلاك؟ لا خيار لك، فالخيار الأفضل والبديل الأمثل أن تستجيب لداعي الله، يقول الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} [الأحزاب:36].
ما لك خيار في الجنة والنار، لا بد لك -وقد قضى الله عز وجل- أن تعبده، يقول عز وجل: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء:23] فما دام قضى الله أن تعبده -وليس لك خيار فيما قضى الله- فلا بد أن تستجيب، والذي لا يستجيب ويأبى إلا أن يركب رأسه ويسير إلى النار، فهذا يقول الله فيه: {وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} [لقمان:23] ويقول عز وجل: {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ} [المرسلات:46] ويقول: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر:3] ويقول عز وجل: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الغاشية:25 - 26].
هذه الأيام مطايا أين العدة قبل المنايا؟ أين الأنفة من دار الأذايا؟ أين العزائم أرضيتم بالدنايا؟ إن بلية الهوى لا تشبه البلايا إن خطيئة الأحرار لا كالخطايا يا مستورين!! ستظهر الخفايا سرية الموت لا تشبه السرايا قضية الزمان لا تشبه القضايا ملك الموت لا يعرف الوساطة ولا يقبل الهدايا أيها الشاب! ستسأل عن شبابك أيها الكهل! تأهب لعتابك أيها الشيخ! تدبر أمرك قبل سد بابك يا مريض القلب! قف بباب الطبيب يا منحوس الحظ! اشك فوات النصيب لذ بالجناب ذليلاً وقف على الباب طويلاً واستدرك العمر قبل رحيله وأنت بداء التفريط عليلاً إخواني! أين من أدرك مقامات المقبولين؟ أين من خفت مطاياه خلف المشمرين؟ أين من تأهب لأفزاع يوم الدين؟ أين من اتصف بصفات أهل اليقين؟ لله در نفوس تطهرت من أدناس هواها وتدرعت بلباس الصبر عن عاجل دنياها فرضي الله عنها وأرضاها سهرت تطلب رضى المولى فرضي عنها وأرضى يا من عليه نذر الموت تدور يا من هو مستأنس في المنازل والدور لا بد من الرحيل إلى دار القبور والتخلي عما أنت به مغرور غرك والله الغرور بجنون الخداع والغرور يا مظلم القلب وما في القلب نور الباطن خراب والظاهر معمور إنما ينظر إلى البواطن لا إلى الظهور لو تفكرت في القبر المحفور وما فيه من الدواهي والأمور كانت عين العين منك تدور يا من يجول في المعاصي قلبه وهمه يا معتقد صحته فيما هو سقمه يا من كلما زاد عمره زاد إثمه يا طويل الأمل! وقد دق عظمه يا قليل العبر وقد تيقن أن اللحد عما قليل يضمه أما وعظك الزمان وزجرك ملمه(114/2)
الحث على محاسبة النفس
قال الفضيل بن عياض رحمه الله: إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار فاعلم أنك محروم، كبلتك خطيئتك.
وقيل لـ ابن مسعود رضي الله عنه: [لا نستطيع قيام الليل، قال: قيدتكم خطاياكم].
قال الأصمعي: خرجت حاجاً إلى بيت الله الحرام وزيارة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فبينما أنا أطوف حول الكعبة الشريفة في الليل وكانت ليلة قمراء، إذ أنا بصوت حزين، فاتبعت الصوت فإذا أنا بشاب حسن الوجه ظريف الشمائل عليه أثر الخير، وهو متعلق بأستار الكعبة، وهو يقول: إلهي وسيدي ومولاي، غارت النجوم ونامت العيون وأنت ملك حي قيوم، إلهي أغلقت الملوك أبوابها، وقامت عليها حجابها، وبابك مفتوح للسائلين، وها أنا سائل واقف مذنب ببابك مسكين ثم قال في أبيات له:
يا من يجيب دعا المضطر في الظلم يا كاشف الضر والبلوى مع السقم
قد نام وفدك حول البيت وانتبهوا وأنت يا حي يا قيوم لم تنم
أدعوك ربي حزيناً راجياً فرجاً فارحم بكائي إله البيت والحرم
أنت الغفور فجد لي منك مغفرة واعطف عليَّ بفضل الجود والكرم
إن كان عفوك لا يرجوه غير تقي فمن يجود على العاصين بالنعم
قال: ثم رفع رأسه إلى السماء وهو يقول: إلهي وسيدي ومولاي أطعتك بمنتك فلك الحمد عليَّ، وعصيتك بجهلي فلك الحجة عليّ.
قال الأصمعي: فكان يردد هذا الكلام حتى وقع على الأرض مغشياً عليه، قال: فدنوت منه ورفعته فإذا هو زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين، قال: فرفعت رأسه فإذا هو يبكي، فبكيت لبكائه فوقعت قطرتان من دموعي على خده فأفاق.
وقال: من هذا الذي شغلني عن ذكر مولاي؟.
فقلت: أنا الأصمعي، فما هذا البكاء وما هذا الجزع، وأنت من أهل بيت النبوة أليس الله يقول: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [الأحزاب:33].
قال: هيهات هيهات يا أصمعي، إن الله خلق الجنة لمن أطاعه وإن كان عبداً حبشياً، وخلق النار لمن عصاه وإن كان حراً قرشياً، أما سمعت قول الله عز وجل: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} [المؤمنون:101 - 102] يعني: بالعمل الصالح {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون:101 - 104].
إخواني: هذه الحياة منهل يرده الناس كلهم ويختلفون فيما يردون ويريدون: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة:60].
فالمحب لربه يتلذذ بمناجاة محبوبه.
والخائف على ذنبه يتضرع بين يدي مولاه ويبكي على ذنوبه.
والراجي يلح في سؤال مطلوبه.
والغافل المسكين أحسن الله عزاءه في حرمانه وفوات نصيبه.(114/3)
الحث على استغلال الأوقات
أيها الإخوة في الله: هذه الأيام المباركة، وهذه الليالي الزاهرة، وهذه الأوقات الفاضلة، لا ينبغي أن تمر دون تدارك ولا استغلال، ينبغي للعبد العاقل أن يتدارك هذه الأوقات بالأعمال الصالحة، وأن يبادر إلى الإيمان وإلى التوبة والإقلاع عن الذنوب والمعاصي قبل انقطاع الآجال، وقبل الرحيل إلى القبور والانتقال، قبل قفل الباب، وطي الكتاب، وانقطاع الأسباب، وهجوم الموت، وحضور الفوت؛ لأن من تذكر القبر وأن مآله إليه ومورده عليه، وأنه لا بد من مجاورة الأموات، والانتقال من القصور والديار والفلل العامرات، إلى حفر ضيقة مظلمات، يكون فيها مقيماً إلى يوم قيام الناس لعالم الخفيات، والوقوف بين يدي الحكم الذي لا يخفى عليه مثاقيل الذرات.
إذا تذكر الإنسان هذا؛ فإنه لا بد له من أن ينظر في خلاصه، وأن يراجع نفسه، وأن يقف وقفات جازمة مع هذه النفس، ليعرف أين هي؟ وما مركزه الإيماني؟ وما مكانته عند الله؟ أين هو من أوامر الله؟ أين هو من نواهي الله؟ ما علاقته بكتاب الله؟ ما صلته ببيوت الله؟ كيف هو في عينه إذا نظرت؟ كيف هو في أذنه وما سمعت؟ كيف هو في لسانه وما نطقت؟ كيف يده وما بطشت؟ كيف رجله وأين سارت؟ كيف بطنه وما أكلت؟ كيف فرجه وأين وفع؟ محاسبة حازمة جادة مع هذه النفس؛ لأنه إن لم يفعل هذا فقد خسر، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
روى أبو نعيم والحاكم أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه شيع جنازة من أهله، ثم أقبل على الناس فوعظهم وذكرهم بالموت، وذكر الدنيا وتنعمهم بها، وما سيصيرون إليه بعد الموت، من ظلمات القبور، وكان من كلامه رحمه الله أنه قال: إذا مررت بالمقابر فنادهم إن كنت منادياً، وادعهم إن كنت داعياً، ومر بعسكرهم وانظر إلى تقارب منازلهم، سل غنيهم ما بقي من غناه، وسل فقيرهم ما بقي من فقره، وسل عن اللسان الذي كانوا به يتكلمون، وعن الأعين التي كانوا بها إلى الحرام ينظرون، وسلهم عن الجلود الرقيقة والوجوه الحسنة والأجساد الناعمة ما صنعت بها الديدان، محت الألوان، وأكلت اللحمان، وعفت الوجوه، ومحت المحاسن، وأبانت الأعضاء، وأخرجت الأشلاء.
أين حجابهم وكيانهم؟ أين خدمهم وعبيدهم؟ أين جمعهم وكنوزهم؟ والله ما وضعوا لهم في القبر فراشاً، ولا وضعوا معهم هناك مسكاً، ولا غرسوا لهم هناك شجراً، ولا أنزلوهم من اللحد قراراً، أليسوا في الخلوات، أليسوا في الظلمات، أليس الليل عندهم والنهار سواء؟ أليسوا في مدلهمات ظلماء، قد حيل بينهم وبين العمل، وفارقوا الأحبة والأهل، وأصبحوا ووجوههم بالية، وأجسادهم عن أعناقهم بائنة، وأوصالهم متفرقة، وقد سالت الحدق على الوجنات، وامتلأت الأفواه صديداً، ودبت دواب الأرض في أجسادهم، وتفرقت أعضاؤهم، ثم لم يلبثوا حتى أصبحت العظام رميماً، قد فارقوا الحدائق والبساتين، وساروا بعد السعة في الضيق، تزوجت نساؤهم، وترددت في الطرقات أولادهم، وتوزعت القرابات ميراثهم، فمنهم والله الموسع له في قبره، ومنهم من هو في حفرة من حفر النار والعياذ بالله؟ مر علي بن أبي طالب على مقبرة فسلم على القبور وقال: [يا أهل المقابر! أما الديار فقد سكنت، وأما الأموال فقد قسمت، وأما الزوجات فقد تزوجت، هذه أخبارنا فما أخباركم؟ ثم بكى وقال: والله لو تُركوا لقالوا: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197]].
يا ساكن القبر غداً ما الذي ضرك من الدنيا؟ هل تعلم أنها تبقى لك أو تبقى لها؟ أين دارك الفيحاء؟ أين قصرك الواسع؟ أين سيارتك الفارهة؟ أين ثمارك اليانعة؟ أين رقاق الثياب؟ أبن الطيب والبخور؟ أين كسوتك في الصيف والشتاء؟ أما والله وقد نزل الأمر فما يدفعه عنك أحد، وخلا الوجه يرشح عرقاً، ويتلمظ عطشاً، ويتقلب في سكرات الموت، جاء الأمر من السماء، وجاء طالب القدر والقضاء، فهيهات هيهات!! يا مغمض الوالد والولد وغاسله! يا مكفن الميت وحامله! يا تاركاً له في القبر وراجعاً عنه! ليت شعري كيف كنت على خشونة الثرى، ومتى ستكون أنت المحمول؟ كم حملت من الأموات؟ ومتى تكون أنت المحمول؟ كم سمعت من الأخبار عن الأموات؟ ومتى ستكون أنت الخبر بالموت؟ كم تركت في القبور من الأموات؟ ومتى ستكون أنت المتروك في القبر ويذهب الناس إلى بيتك؟ لا إله إلا الله أيها الإخوة في الله!! ما أغفلنا عن ذلك المصير، لا حول ولا قوة إلا بالله.
أما والله لو علم الأنام لما خلقوا لما هجعوا وناموا
لقد خلقوا لأمر لو رأته عيون قلوبهم تاهوا وهاموا
ممات ثم قبر ثم حشر وتوبيخ وأهوال عظام
ليوم الحشر قد عملت رجال فصلوا من مخافته وصاموا
ونحن إذا أمرنا أو نهينا كأهل الكهف أيقاظ نيام(114/4)
المخرج من ورطة الحياة
يا أيها الإخوة في الله! ما هو المخرج من ورطة هذه الحياة؟ من خلق فقد ورط، وليس له من مخرج إلا مخرج واحد، المال ليس مخرجاً، فقد رأينا أرباب الأموال يوم أن ماتوا كيف سلبوا أموالهم، لم تغن عنهم أموالهم شيئاً، قارون جمع الأموال، قال الله عنه: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} [القصص:81] ما نفعته أمواله، وليس المنصب والجاه والرتبة والمكانة والوظيفة بديل ولا مخرج، فقد رأينا أصحاب المناصب والرتب كيف يموتون ويخلسون من مناصبهم، ويودعون في الحفر المظلمات، وليست الزوجات ولا الأولاد ولا البنات ولا الريالات؛ ليست كل هذه مخارج من ورطة الحياة، المخرج من ورطة الحياة الإيمان بالله والعمل الصالح، يقول عز وجل: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ:37].
أموال وأولاد لا تنفع كلها، حتى الكفن الذي تخرج به من الدنيا لا ينفعك في الآخرة، هل ينفع الكفن؟ لو ينتفع الإنسان بالكفن لتكفن الأثرياء في أكفان من ذهب، لكن الكفن يواري عورتك إلى أن تدس في القبر، ثم تحل الأربطة ويتحلل في التراب ولا تنتفع به، سواء جديداً أو قديماً، ولهذا يقال: إن أبا بكر الصديق لما جيء له بكفنين نظيفين جديدين قال: [أعطوها الأحياء وهاتو لي كفناً بالياً، قالوا: لم يرحمك الله؟ قال: إن كنت على خير فعند الله أفضل منه، وإن كنت على شر فما يغني هذا الجديد شيئاً].
تكفنت في جديد أو قديم لا ينفع شيئاً، ما الذي ينفعك؟ {إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} [سبأ:37] فقط.
هل وطنا أنفسنا على هذا المخرج أيها الإخوة؟ هل نحن مرتبون أوضاع حياتنا على أن نعيش لهذا الغرض؟ هذه هي الوظيفة الرئيسية لنا في هذه الحياة، وقد وضحها الله في محكم التنزيل بقوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] هذا هو الغرض من خلقك ووجودك على ظهر هذه الحياة؛ أن تعبد الله، أن تؤمن بالله، أن تعمل الصالحات، وما تعمله من وظائف أخرى كلها مسخرة لخدمة هذا الغرض، فتأكل لتعبد الله، وتشرب لتعبد الله، وتتزوج لتعبد الله، وتنجب الولد ليعبد الله، وتتوظف لتعبد الله، وتنام لتعبد الله، وتستيقظ لتعبد الله، كل حياتك تسخرها من أجل الغرض الرئيسي الذي من أجله خلقك الله عز وجل.
هذا هو الهدف، لماذا؟ لأنه هو المخرج لك، ليس المخرج لك غير هذا أبداً بأي حال من الأحوال، ولما جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأمة، وكانت تعيش في دياجير الجهل والشرك والظلم والبعد عن الله عز وجل، وأخبر الناس أنه جاء لإنقاذهم وقال لهم: قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، عرفوا معنى هذه الكلمة، وعرفوا أن مضمون الكلمة يشمل ويغطي جميع حياتهم، ولم يفهموها كلمة مجردة، أو كلمة عارية عن المعنى، لا.
بل فهموها على أنها كلمة تشمل حياتهم كلها وتغطي مسار حياتهم كله، في الليل والنهار، في السر والجهار، في البيت والمكتب والمزرعة وفي كل مكان.
لا إله إلا الله تحكم العين فلا تنظر إلى ما حرم الله.
لا إله إلا الله تحكم اللسان فلا يتكلم به فيما حرم الله.
لا إله إلا الله تحكم الأذن فلا تسمع ما حرم الله، وتحكم الفرج فلا يطأ ما حرم الله، وتحكم البطن فلا ينزل فيه ما حرم الله، وتحكم اليد فلا تبطش فيما حرم الله، وتحكم الرجل فلا تسير حرم الله.
لا إله إلا الله؛ لا مطاع إلا الله، ولا معبود إلا الله، ولا مرجو إلا الله، ولكن لما قالوا هذه الكلمة قدموا البراهين عليها، فأُخرجوا من ديارهم ولا أحد يتصور أنه يخرج من بيته منهم.
حتى النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من بعد أن أوحي إليه ودخل على خديجة رضي الله عنها وأخبرها بالخبر وقال: (زملوني).
يعني: غطيني، كان في حالة نفسية صعبة، إذ نزل عليه الوحي بأمر لم يكن يتوقع -فكان في حالة نفسية- فقال لها: ما حدث له فقالت: والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتقري الضيف، وتعين على نوائب الدهر والله لا يخزيك الله] ثم ذهبت إلى ورقة بن نوفل ابن عمها وأخبرته، فدعا النبي وقال: (إنه الناموس الذي نزل على موسى وعيسى -يعني: إنه الوحي الذي ينزل على الأنبياء- ليتني كنت فيها جذعاً أنصرك نصراً مؤزراً إذ يخرجك قومك، قال: أومخرجي قومي؟!! -أمعقول يخرجونه وهم يحبونه وهو الأمين عندهم- قال: إنه ما جاء نبي قومه بمثل ما تأتي به إلا أخرجوه قومه وآذوه، فقال: الله المستعان!).
فهم الصحابة هذا الفهم فقدموا التضحيات في سبيل هذا الدين، أُخرجوا من ديارهم وأموالهم، صهيب الرومي رضي الله عنه لما خرج من مكة مهاجراً وكانوا قد أقاموا حصاراً حول الفقراء من المؤمنين، لكن الأغنياء والأقوياء خرجوا عنوة مثل عمر خرج فقال: [الذي يريد أمه أن تبكي عليه فليلحقني في الوادي] وخرج في نصف النهار، لكن المساكين لا يقدرون، فأقاموا حراسة عليهم، فخرج يوماً صهيب رضي الله عنه إلى الخلاء ثم تأخر قليلاً حتى غفلوا عنه، ثم فر بدينه، فلما افتقدوه ركبوا الخيل وطاردوه ولحقوه على أطراف مكة، قالوا: جئتنا صعلوكاً والآن تريد أن تذهب، فخرج على دابة وأخرج قوسه ثم قال: [والله ما أضعها إلا في كبد واحد منكم، دعوني أفر بديني] قالوا: تفر بدينك لكن الأموال لا تأخذ منها شيئاً، قال: [أرأيتم إن دللتكم على مالي تدعوني؟] قالوا: نعم.
فأعطاهم الذي معه ودلهم على الذي في مكة ثم خرج بنفسه، ونزل فيه قول الله عز وجل: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} [البقرة:207].
ولما قدم إلى المدينة رآه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (ربح البيع أبا يحيى، ربح البيع أبا يحيى) عرف كيف يبيع نفسه، باعها لله، فربح الدنيا والآخرة.
من الناس الآن من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الشيطان، يشتري المجلة بعشرة ريالات: مجلة عارية ساخرة قذرة، ويشتري الفيلم بخمسين ريالاً ليفسد نفسه وزوجته وأولاده، ويشتري الدخان، ويشتري المعاصي والعياذ بالله، يحجز بآلاف الريالات ويأخذ أسرته بالكامل ليخرج إلى بلاد غير مسلمة من أجل ألا يسمع فيها الله أكبر، ولا يرى فيها بيوت الله، ولا يرى فيها داعي الله، لماذا؟ قلبه منكوس، يشري نفسه ابتغاء مرضاة الشيطان والعياذ بالله، أولئك الصحابة فهموا هذا الدين هذا الفهم، وقدموا التضحيات وعاشوا للإسلام وأُخرجوا وأوذوا، وكان منهم بلال الحبشي رضي الله عنه الذي كان يوضع على رمضاء مكة في الحر الشديد -وأرض مكة إذا كانت حارة لا يتحمل الإنسان أن يمشي بقدمه عليها- وهو عار من ثيابه، ثم يمرغ على الرمضاء التي مثل الجمر الأحمر، ثم توضع الحجارة المحماة على صدره ويسحب ويقلب عليها وهو يقول: أحد أحد، أحد أحد، أحد أحد.
وآل ياسر يعذبون بالنار ويكوون بالجراح ويأتي أبو جهل ويطعن سمية بنت خياط أم عمار بن ياسر رضي الله عنها أول شهيدة في الإسلام، يطعنها بالرمح في بطنها ويخرج من سوءتها ميتة، ويمر عليها النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة).
ويخرجون إلى الحبشة ويطردون، ويخرجون مرة ثانية إلى الحبشة ويرجعون، ويخرجون إلى المدينة ويحبسون قبلها في الشعب ثلاث سنوات حتى أكلوا ورق الشجر، وفي بيعة العقبة لما بايع النبي صلى الله عليه وسلم أهل المدينة -الأنصار- على البيعة قام أسعد بن زرارة وقال: (يا قوم! أتدرون على ما تبايعون؟ قالوا: بايعنا، قال: تبايعون على أن ترميكم العرب بقوس واحد، بايعتم على قطع الرقاب وعلى الخروج من الأموال وعلى ترك الأولاد والأهل فإما أن تصدقوا ولكم الجنة، وإما ألا تبايعوا ولكم عند الله عذر، فقام عبد الله بن رواحة وقال: يا رسول الله! مالنا إن صدقنا؟ -إن وفينا في هذه البيعة مالنا؟ - فقال عليه الصلاة والسلام: لكم الجنة).
ما عند الرسول صلى الله عليه وسلم وظائف، ولا عنده عمارات ولا سيارات ولا أراضي، قال: (لكم الجنة).
فقال عبد الله بن رواحة: [لا نقيل ولا نستقيل].
وفعلاً -رضي الله عنهم وأرضاهم- أتموا البيعة، ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة استقبلوه، وتكالبت عليهم قوى الأرض وحوربوا.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم في معركة بدر متخوف من موقف الأنصار، ولما قال: (أيها الناس! ما تقولون؟ قال سعد بن عبادة: يا رسول الله! كأنك تعنينا؟ قال: نعم.
قال: سر بنا يا رسول الله حيث شئت، حارب بنا من حاربت وسالم بنا من سالمت، والله لو خضت بنا هذا البحر ما تخلف منا رجل واحد، لا نقول لك: اذهب أنت وربك فقاتلا كما قال قوم موسى لموسى، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون).
هكذا فهم الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم.
عبد الله بن أنيس رضي الله عنه صحابي جليل لما سمع النبي صلى الله عليه وسلم أن خالد بن سفيان الهذلي -رجل شرس من أشرس العرب قوي الجثة، كبير الرأس، شجاع من أشجع الناس- جمع حوله مجموعة من أشاوس القوم في الجزيرة العربية، وأعد لهم معسكراً في عرفات بجانب مكة، ودربهم على أعلى تدريب من أجل اقتحام المدينة وقتل النبي صلى الله ع(114/5)
الأشياء التي يبدأ بها المسلم لإصلاح نفسه
من أين يبدأ المسلم في إصلاح نفسه أيها الإخوة في الله؟ أولاً: لا خيار لك في هذا الطريق، لا بد من طريق الإيمان.
ثانياً: لا مجال لك في تأخير التوبة؛ لأن التأخير مجازفة، والمجازفة خاسرة، فلا بد من التوبة من الآن؛ لأنك لا تعلم متى تموت، لو أننا نعلم متى نموت لكنا برمجنا الحياة بحيث إذا كان قبل الموت بيومين أو ثلاثة ضبطنا الأمور وتبنا، لكن من منا يضمن أنه يعيش هذه الليلة؟ لا ندري والله، والله يركبون السيارات ولا ينزلون منها، ويلبسون الثياب ولا يخلعونها، وينامون على الفرش ولا يستيقظون منها، ويركبون الطائرات ولا ينزلون منها، كثر الموت، والموت آت لكل منا، والذي لا يموت اليوم يموت غداً والذي لا يموت غداً يموت بعده، فأنت لا خيار لك في أن تتوب الآن.
ثالثاً: تستشعر وتعرف وتفهم أن هذا الدين تضحية، هذا الدين دين امتحان وابتلاء، يقول الله تبارك وتعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:2] ويقول الله عز وجل: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الكهف:7] الله خلقنا للابتلاء، والابتلاء صوره وأشكاله كثيرة من ضمن أنواع الابتلاء: الابتلاء بالتكاليف الشرعية، توحيد وعقيدة صافية خالية من الغش ومن الخداع ومن البدعة ومن الضلال ومن الشرك، وبعدها عبادة: صلاة صيام زكاة حج عمرة أمر بمعروف نهي عن منكر حب في الله بغض في الله قراءة لكتيب صلة للأرحام إحسان إلى الناس فعل الخيرات في كل مجال، هذه ابتلاءات وهذه الأعمال فيها مشقة وفيها كلفة، لكن كلفتها تنظيمية من أجل تنظيم حياتك -أيها المسلم! - عند الله عز وجل.
وابتلاك الله بشيء آخر وهو ترك المعاصي، فترك المعاصي نوع من الابتلاء؛ لأن المعاصي محببة إلى القلوب، شهوات مزينة وملمعة، زنا أغاني نوم عن الصلوات أكل ربا شرب خمور، هذه شهوات، والله ابتلانا بتحريمها، لماذا؟ ابتلاء، (ليعلم الله من يخافه ورسله بالغيب) وليعلم من يقف عند أوامره وينتهي عن نواهيه، حتى يكون أهلاً لدخول الجنة، ولهذا جاء في الحديث في الصحيحين قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (حفت النار بالشهوات، وحفت الجنة بالمكاره) فإذا تجاوزت المكاره وصبرت دخلت الجنة، وإذا اتقيت الشبهات والشهوات دخلت الجنة، أما إذا انهزمت أمام المكاره وضعفت، وانهزمت أمام الشهوات ووقعت، وقعت في النار والعياذ بالله.
فلا بد من توطين النفس على أن هذا الدين ابتلاء، ابتلاء بالأوامر وابتلاء بالنواهي، وابتلاء في الأموال، وابتلاء في الأعراض، وابتلاء في الأنفس، وابتلاء في كل شيء، يقول الله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:155 - 157].
والله يؤكدها بتأكيدات كثيرة: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) كم فيها من مؤكدات؟ بشيء من الخوف والجوع هذه كلها ابتلاءات لماذا؟ تمحيص من أجل أن يقول المؤمن: إنا لله، إذا ذهبت نفسي في سبيل الله فالنفس من الله، إذا ذهب مالي في سبيل الله فالمال مال الله، إذا مات ولدي فالولد من الله.
أم سليم لما مرض ولدها -رضي الله عنها وأرضاها- وكان محبوباً عند أمه وأبيه، ولما مرض مات ودخل أبو سليم قال: ما صنع الغلام؟ قالت: [هو أهدأ ما يكون -وصدقت؛ لأنه قد مات ولم يعد يتحرك- وغطته بغطاء ثم ذهبت وتجملت وتعطرت، وجاءت إليه وعرضت نفسها عليه حتى واقعها، فلما انتهى قالت له: أرأيت لو أن قوماً لديهم عارية لقوم آخرين، فجاء أهل العارية وطلبوها أيرجعونها أم يرفضون؟ قال: بل يردونها، قالت: احتسب ولدك عند الله عز وجل، إنه عارية قد أخذه الله، قال: إنا لله وإنا إليه راجعون]، ثم لما كان الصباح ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولما رآه ضحك وقال: (بارك الله لكما في ليلتكما).
فرزقوا في تلك الليلة بولد ورزق الولد بتسعة أولاد كلهم حفظوا القرآن؛ لأنها امرأة صالحة، آمنت بالله، عرفت أن الموت بيد الله، الله هو الذي أخذ الولد وهو الذي يأخذ البنت وهو الذي يأخذ الأب، مؤمنين بالله عز وجل.
فيا إخوتي في الله: لا بد أن نفهم هذا المفهوم، أن الإيمان بالله كلفة وأنه ابتلاء وامتحان، وأن نوطن أنفسنا على أن نخضع لأوامر الله، وعلى أن ننزجر عن نواهي الله، وبعد ذلك نكون قابلين لكل ما جاء من الله عز وجل، إنا لله وإنا إليه راجعون.
رابعاً: يبدأ الإنسان بنفسه، فيعرض عليها أوامر الله وينفذها بسرعة، عرفت أن الصلاة واجبة وأنها لا بد أن تكون في المسجد من الآن تلتزم وتقول: والله لا أصلي إلا في المسجد، من يمنعك إلا الشيطان، لا تطع الشيطان، عرفت أن الصيام واجب فصم، عرفت أن الزكاة واجبة فزك، عرفت أن بر الوالدين واجب فبرهما، أوامر الله نفذها كاملة، تأتي إلى النواهي فتنتهي عن كل ما نهى الله عنه، والنواهي معروفة، وتدخل النواهي من سبعة أبواب: من باب العين ومعصيتها النظر، ومن باب الأذن ومعصيتها سماع الغناء والكلام الساقط، ومن باب اللسان ومعصيته اللعن والسب والشتم والغيبة والنميمة والكذب والفجور والأيمان الفاجرة والعياذ بالله، ومن باب الفرج ومعصيته الزنا واللواط، ومن باب البطن ومعصيته أكل الحرام من ربا أو رشوة أو من غش أو من دخان، أو مخدرات أو خمور أو أي شيء خبيث، ومن باب الرجل ومعصيتها أن تمشي بها إلى ما حرم الله، ومن باب اليد ومعصيتها أن تمدها إلى معصية الله عز وجل، وبعد أن وقفت على ذلك، وأقمت الإسلام في نفسك، وبدأت البداية الصحيحة من نفسك، تنتقل بعدها إلى الأسرة، وتعقد حلقة علم في بيتك، من تتصور أنه يكفيك أمك وأبوك أخواتك وإخوانك وزوجتك وأولادك، تريد الجماعة يدخلون بيتك يعلمونهم؟!! يخبرني أحدهم أن زوجته لها عنده خمس عشرة سنة ويوم أن سألها يوماً من الأيام بعد خمس عشرة سنة أن تقرأ الفاتحة يقول: والله ما استطاعت أن تقرأها، يقول: فخجلت من نفسي أن زوجتي معي خمس عشرة سنة وهي لا تستطيع أن تقرأ الفاتحة، فلما عاتبتها قلت: لماذا لم تتعلمي؟ قالت: لا أحد يعلمني، وخشيت أني أطلب من ابنتي أن تعلمني فتضحك عليّ، أو أطلب من ولدي أن يعلمني فيضحك عليّ، أو أطلب منك أنت أن تعلمني فتضحك عليّ، قال الزوج: أنت أمية لا تقرئين حتى الفاتحة؟ يقول: فأدركت أنني أنا المقصر يقول: فعقدت حلقة في البيت وبدأت أقرأ الفاتحة وهي تقرأ بعدي وكلما أخطأت رديت عليها، وقرأ الولد وقرأت البنت وقرأنا الفاتحة، يقول: مر علينا أكثر من شهرين وأصبح البيت كله يحفظ جزء عمَّ.
فعليك أن تبدأ من الأسرة، في أن نعقد حلقة ليلية في كل بيت، أليس هذا ممكن -أيها الإخوة؟ - إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما طلب من الصحابة أن يخرجوا من بيوتهم وأموالهم إلى مكة خرجوا، وعندما أمرهم أن يخرجوا إلى المدينة خرجوا، وعندما أمرهم أن يهاجروا إلى الحبشة هاجروا، نحن الآن نطلب من الناس شيئاً سهلاً لا نأمرهم أن يخرجوا من ديارهم ولا من بيوتهم وأموالهم ولا يتركون وظائفهم، نقول لهم: أدخلوا نور الإيمان في بيوتكم؛ لأن النور إذا دخل ماذا يخرج؟ الظلام، الآن لو أطفأت الكهرباء -ونسأل الله ألا تطفأ هذه الليلة- لو أطفأت الكهرباء ماذا يحصل؟ يظلم المسجد، كيف نخرج الظلام؟ بإيقاد النور، فإذا أشعلنا النور ذهب الظلام.
الآن في البيوت ظلام في الأعين ظلام في الألسن ظلام، والدليل أن العيون تنظر إلى الحرام، لو أن العين فيها نور ما نظرت والله إلى الحرام، ولو أن الآذان فيها نور الله عز وجل ما سمعت الحرام، ولو أن الألسن فيها نور الإيمان ما تكلمت بالحرام، ولو أن الأجسام فيها نور ما نامت عن الصلوات، ولو أن المرأة في قلبها نور ما سمعت الأغاني، ولو أن المرأة في قلبها نور ما كشفت الحجاب وتبرجت؛ لأن الحجاب ليس عادة ولا تقليداً، الحجاب شرع ودين وعقيدة تنبعث من النفس، الحجاب شريعة الله وفريضة في كتابه وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا قلبها ليس مملوءاً بالإيمان وما عندها نور الإيمان تجدها تتحجب تقليداً، لكن لو وجدت فرصة للخلاص من هذا الحجاب لقذفته إلى غير رجعة، لكن المؤمنة التي عندها نور الإيمان في قلبها تتحجب، والله لو رميتها في البحر ستبقى متحجبة، لماذا؟ لأن القناعة بالحجاب تنبعث من داخل نفسها، فالآن في البيوت ظلام ما في ذلك شك، الولد نائم عن الفريضة؛ لأن في قلبه ظلمة المعاصي، البنت لا تصلي إلا بالمتابعة؛ لأن في قلبها ظلمة، نريد أن نخرج هذه الظلمات من البيوت، كيف نخرجها؟ بإدخال النور، ما هو النور؟ نور القرآن وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، أما القرآن فقد سماه الله نوراً في القرآن، قال عز وجل: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52] فهو نور، إذا دخل القرآن في بيتك وعلمت أولادك القرآن وشرحت لهم القرآن ذهب الظلام من قلوبهم، وندخل سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه نور بنص القرآن يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} [الأحزاب:45 - 46].
فإذا دخل القرآن والسنة في بيوتنا وعقدنا تلك الجلسات الإيمانية ذهب الظلام، ولتكن بعد صلاة العشاء، ويجب أن نبرمج أوقاتن(114/6)
الحث على استغلال شهر رمضان
أيها الإخوة! أدعوكم في هذا الشهر الكريم المبارك إلى الاستغلال والاستثمار والمتاجرة.
أولاً: بكثرة التلاوة، فإن تلاوة القرآن في هذا الشهر من أعظم القربات؛ لأنه شهر القرآن: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185] فيجب أن يكون لك ورد يومي لا يقل عن عشرة أجزاء، كان بعض السلف يختم في ثلاثة أيام في رمضان، وكان بعضهم يختم في اليوم مرة، وكان بعضهم له ختمتين في كل يوم، ختمة في الصباح وختمة في المساء، فمنذ أن سمعت هذا الكلام استغربت وقلت: كيف يختم في اثني عشرة ساعة؟! ولكن قدر لي في يوم من الأيام أن أعتكف وبدأت من صلاة الفجر مع القرآن وما أتى العصر إلا وقد انتهيت منه، ما رقدت ذلك اليوم لأني أقرأ.
فنقول للناس: أكثروا من التلاوة في هذا الشهر فإنه شهر القرآن والتسبيح.
ثانياً: أكثروا من الصلاة والقيام، خصوصاً مع الإمام الذي يطيل، فإن هذا فيه ثواب عظيم، في البخاري ومسلم يقول عليه الصلاة والسلام: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) الشروط: إيماناً: تصديقاً، واحتساباً: تحتسب على الله هذه الوقفة، الإمام يطيل ويقرأ مثلاً في كل ركعة صفحة أو صفحتين، نعم أنت تتعب، لكن تتعب في سبيل من؟ واقف بين يدي من؟ كم يتعب أصحاب اللعب وأصحاب الفوضى وأصحاب المقاضي، كم يدورون بالشوارع من ساعات، بعضهم يخرج إلى الأسواق يدور من الساعة العاشرة إلى الساعة الثانية من الليل، يشتري حذاء لامرأته ويرجع وما وجد حذاء، وكلما اشترى حذاء ردته وقالت: أرجعه لا أريده هذا ليس جيداً، ضيع أربع ساعات في حذاء لكن أنت قضيت ساعة بين يدي الله عز وجل إيماناً واحتساباً، يعني: طلباً للمثوبة والأجر من الله عز وجل.
ثالثاً: كثرة الذكر في الصباح والمساء.
رابعاً: كثرة الإنفاق في هذا الشهر، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم (كان أجود من الريح المرسلة، وكان أجود ما يكون في رمضان).
يا ذا الذي ما كفاه الذنب في رجب حتى عصى ربه في شهر شعبان
ها قد أظلك شهر الصوم بعدهما فلا تصيره أيضاً شهر عصيان
اتل الكتاب وسبح فيه مجتهداً فإنه شهر تسبيح وقرآن
كم كنت تعرف ممن صام في سلف من أهل وجيران وإخوان
أفناهم الموت واستبقاك بعدهم حياً فما أقرب القاصي من الدان
ومعجب بثياب العيد يقطعها فأصبحت في غدٍ أثواب أكفان
حتى متى يعمر الإنسان مسكنه مصير مسكنه قبر لإنسان
استغل هذه الأيام في الإنفاق في سبيل الله؛ لأنك تحت ظل صدقتك يوم القيامة، كما جاء في الحديث يقول عليه الصلاة والسلام: (المرء تحت ظل صدقته يوم القيامة) و (ما نقص مال من صدقة) بل تزيد {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ:39] إذا كان عندك مليون ريال وأخرجت منه مائة ألف تتصور أنه نقص المليون، والله ما نقص، بل زاد، لماذا؟ قال الله: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا} [البقرة:276] وماذا؟ {وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة:276] والحسنة في هذا الشهر بألف حسنة، وقد اعتاد الناس أن يخرجوا زكاة أموالهم، ولو أخرجت الزكاة على القدر الصحيح الشرعي ما بقي فقير.
فأنا أدعو أصحاب الأموال الأثرياء أن يخافوا الله في أموالهم وأنفسهم، ولا يضحكوا على أنفسهم، هذه الأموال والله إن لم تخرج زكاتها فستتصفح يوم القيامة صفائح من نار ثم تمشي عليها وتقلب على ظهر العبد وبطنه وجنبه {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لانْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة:35] ماذا تريد من ملايين تتصفح ناراً يوم القيامة على جنبك؟! أخرج زكاة المال، احصر الأموال الموجودة المنقولة والأموال الثابتة من العقار الذي للبيع والشراء، أما العقار الممتلك لقصد البنية والامتلاك فليس فيه زكاة، لكن في دخله إن كان مؤجراً، ثم احصر الديون التي عند الناس واجمعها كلها ثم اضربها كلها في اثنين ونصف وأخرج الزكاة طيبة بها نفسك، ولا تظن أن لك منة أو فضلاً فالمال مال الله، فالله أعطاك مائة وطلب منك اثنين ونصف، جئت من بطن أمك وأنت لا تملك ريالاً واحداً.
فأخرج هذه الزكاة وابحث عمن يستحقها، لا تبرأ ذمتك بإلقاء الأموال على عواهنها وإعطائها من لا يستحقها، ابحث عمن تثق فيه في دينه وأمانته ليكون وكيلاً لك على تزكية الأموال، ولا تنسوا إخواناً لكم من الفقراء، في بقاع كثيرة من المملكة، كثير من الناس يرسل أمواله إلى الخارج، وهذا يجوز إذا كان قد حصل الاكتفاء، لكن في المملكة فقراء، وأنا أعرف في منطقة الجنوب في سواحل تهامة وفي جبال تهامة من الفقراء من يفتقدون كسرة العيش، ومن يحتاجون إلى قطعة القماش، ومن يعيشون تحت كهوف الجبال، وتحت ظلال الأشجار، يحتاجون إلى كل شيء من الأموال.
وأنا مستعد بالتعاون مع الأثرياء الذين يملكون مالاً ويريدون إيصالها إلى هؤلاء، مستعد أن أتعاون معهم وأذهب إلى هؤلاء المساكين، رغم أن في الأمر مشقة وفيه جهد وتعب ولكن نحتسبه عند الله عز وجل، وأذكر في العام الماضي أن رجلاً من الأثرياء من هذه المدينة المباركة بعث لي بمائتي ألف ريال وقال: وزعها على الفقراء في تهامة، فأرسلت إلى مجموعة من الشباب الذين قد طلبوا العلم في أبها في كليات الشريعة وهم من تلك الجهات، أرسلت إليهم فجاءوني وطلبت من كل واحد أن يقدم لي كشفاً بالفقراء في قبيلته وحالة الفقير الاجتماعية، كم عدد أزواجه وكم أولاده، كم دخله من الوظيفة أو من الضمان الاجتماعي، والله لقد رأيت ما يقطع القلوب -أيها الإخوة! - يمكن (90%) كلهم غير موظفين، وقليل منهم الذين هم مسجلون في الضمان الاجتماعي، والبقية يعيشون على قليل من العيش يتتبعون تلك الماعز في ظهور الجبال ويتتبعون بها منازل القطر والمطر وليس معهم شيء، وبعضهم عنده زوجتان وعنده عشرة أو أحد عشر ولداً أو اثنا عشر طفلاً لا يعرفون الفاكهة، لما نزلنا وقسمنا عليهم العيش قالوا: ما هذا؟ لم يروه في حياتهم، فأخذت الكشوف هذه وبدأت أقسم المبالغ هذه وجعلت للأسرة الكبيرة خمسمائة والذي بعده أربعمائة والذي بعده ثلاثمائة وأقل شخص الذي لم يوجد معه أحد ولا زوجة نعطيه مائة ريال.
يقول لي الإخوة بعد ما نزلوا يقولون: إن المائتا ألف غطت مساحة كبيرة في منطقة تهامة، ودعا الناس كلهم لذلك الرجل الصالح الذي أنفق هذا المال، ويمكن أنها زكاة عشرة ملايين، المليون زكاته خمسة وعشرون ألفاً، والعشرة الملايين فيها مائتين وخمسين ألف -ربع مليون- لكنها تبلغ عند الله عز وجل مقاماً كبيراً، وعنواني لمن يريده هو عند فضيلة الشيخ عادل الكلباني مستعد للتعاون رغم أن في هذا مشقة وأنا والله ما عندي وقت، لكن لدينا من يخدمنا من إخواننا المخلصين الصالحين بحيث يوصل تلك الأموال إلى من يستحقها ونؤدي زكاة أموالنا.
أسأل الله الذي لا إله إلا هو لي ولكم التوفيق، والله أعلم، وباختصار سوف أجيب على بعض الأسئلة.(114/7)
الأسئلة(114/8)
التأثر الوقتي بالموعظة وعلاجه
السؤال
نسمع الآيات وتخشع القلوب، وكذلك إذا سمعنا المواعظ تأثرنا، ولكن إذا خرجنا من المسجد انشغلنا بالدنيا، هل من كلمة حول ذلك؟
الجواب
شيء طبيعي ألا تبقى النفوس كلها على مستوى واحد من الإيمان، لكن ما هو سلوكك بعد خروجك خارج المسجد؟ هل تغفل وتقع في المعاصي والذنوب، أم تغفل وتبقى في المباحات؟ إن كنت تقع في الذنوب والمعاصي فمعنى هذا أنك لم تستفد من الموعظة، أما إذا خرجت من المسجد وعدت إلى ملابسة الدنيا ومعافسة النساء والأزواج لكن في حدود الحلال فهذا شيء طبيعي، وقد شكا حنظلة إلى أبي بكر قال: (نافق حنظلة، قال: ما هو؟ قال: نكون مع رسول الله فكأن على رءوسنا الطير، ثم نخرج ونعافس النساء والأموال وننسى، قال: وأنا كذلك، فذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! إننا نكون معك على حال فإذا خرجنا ورجعنا إلى الضيعات والأولاد والنساء تغيرت أحوالنا، قال: لو بقيتم في بيوتكم وفي الشوارع كما كنتم عندي لصافحتكم الملائكة في الطرقات، ولكن ساعة وساعة).
فالقلب لا يبقى على ما هو، المهم أنه لا يقترب إلى الحرام، لا تخرج من المسجد فتنظر إلى النساء، لا تخرج من المسجد فتسمع الأغنية وأنت في السيارة، لا تخرج ثم تذهب إلى الأسواق لتعاكس وتنظر إلى الحرام، معناه: أنك ما استفدت من الجلسة هذه، بل كانت وبالاً عليك يوم القيامة والعياذ بالله، لكن اذهب من الآن إلى البيت واجلس مع زوجتك ونم معها ولاعبها أو لاعب أطفالك أو اسمر معهم، لا شيء عليك؛ لأنه حلال إن شاء الله.(114/9)
كلمة عن الحجاب
السؤال
بعض النساء موجودات وهن كثير في هذا المسجد فهل من كلمة للفت أنظارهن إلى الحجاب؟
الجواب
قد قلت لهن: إن الحجاب هو شريعة ليس قطعة سوداء تغطي بها المرأة وجهها، وليس عباءة تلفها حول جسدها، ولكنه شريعة الله عز وجل المنزل في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكما أمر الله المرأة بالصلاة أمرها بالحجاب، وكما أمرها بالزكاة أمرها بالحجاب، وكما أمرها بالصيام أمرها بالحجاب، وآية الحجاب محكمة في كتاب الله عز وجل.
أما ركوب المرأة مع السائقين من غير محارم فهذا محرم، ولا يجوز للمرأة ذلك حتى ولو جاءت للمسجد، لا يجوز شرعاً أن تركب المرأة مع سائق أجنبي من غير محرم لأنه في تلك الحال تكون هناك خلوة؛ في الحديث: (ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما) أما إذا لم تكن خلوة ولم يكن سفر يعني: من الحي إلى هنا، من أي حي من أحياء الرياض إلى المسجد وهم مجموعة من النساء ولو كان لا يوجد رجل لكن مجموعة نساء وتؤمن الفتنة فلا بأس، المهم الخلوة، أما أن تأتي المرأة لوحدها والسائق لوحده وليس معهم أحد إلا الشيطان فقد حذر وحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الأمر.(114/10)
حكم الحركة الكثيرة أثناء الصلاة
السؤال
ما حكم كثرة الحركة في الصلاة، وهل تصل إلى درجة البطلان؟
الجواب
أركان الصلاة أربعة عشرة ركناً منها الطمأنينة، والطمأنينة: هي السكون وعدم الحركة، وإذا رأيت إنساناً يكثر الحركة فاعلم أن قلبه غير خاشع، وإذا رأيت شخصاً يعبث بلحيته، أو يحك ظهره، أو يثبت عقاله وغترته، فاعلم أن قلبه غير موجود في المسجد؛ لأن القلب إذا سها سهت اليد، وسهت العين، وتعبت قدماه، وقامت يده تحك لماذا؟ لأن ملك الجوارح غير موجود وهو القلب، لكن إذا سكن وحضر القلب حضرت الجوارح.
نظر أحد السلف إلى رجل يعبث بلحيته في الصلاة فقال: والله لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه.
فكثرة الحركة في الصلاة التي تؤدي إلى الإخلال بها مبطلة.
أما إذا كانت الحركة يسيرة وأيضاً ليست مستديمة وتقتضيها ظروف أو ضرورة، مثل: وضع شيء من المتاع، أو أخذ شيء ضروري جداً، ولم يكن كثيراً فنسأل الله عز وجل أن يغفره.(114/11)
التوبة تمحو ما قبلها
السؤال
أنا شاب سافرت مرة واحدة إلى الخارج، وإني أتعذب حتى الآن من هذه السفرة هل لي توبة، وهل يحرمني هذا من الحوريات؟
الجواب
أبداً يا أخي! لا يحرمك هذا السفر من الحوريات إذا تبت وحسنت توبتك، فإن الله عز وجل يغفر الذنب، ومهما كان ذنبك فإن رحمة الله ومغفرته أعظم من ذلك، يقول الله عز وجل: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الحجر:49] ويقول: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} [الزمر:53] ويقول: {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الفرقان:70] بل يقول بعض أهل العلم: إن العاصي إذا تاب وحسنت توبته يمكن أن يرتفع إلى درجة أعظم من الطائعين، ليكون قد بدل الله له سيئاته حسنات، وأما حرمانك من الحور العين فلن يكون بإذن الله إذا صحت توبتك واستمريت على التوبة إن شاء الله.
أسأل الله ألا يحرمني وإياك من الحور العين.(114/12)
الحث على إعفاء اللحية وبيان ميزاتها
السؤال
أريد أن أربي لحيتي ولكن أشعر بتعب من جراء قوة الشعر الذي يخرج؟
الجواب
صدق، اللحية الآن في معركة مع صاحبها هو عليها بالسلاح الأبيض فما موقفها هي؟ تخرج عليه مثل الرماح تقول: تذبح وأنا أطعن، فالمعركة قائمة، لكن إذا أعلنت الهدنة ووضعت السلاح عنها فإنها سوف تعلن الهدنة وتضع السلاح معك، وستنبت بداية مثل الدبوس لكن بعد أن تكبر قليلاً تنبت مثل الحرير، وتعلن المهادنة معك، أما ما دمت تحاربها؛ لا بد من حاربك أن تحاربه، واللحية -أيها الإخوة! - ليس من الضروري أن الواحد يتفكر في الموضوع على أنه مسألة شعر لا.
اللحية معلم من معالم الرجولة، وهدي من هدي النبي صلى الله عليه وسلم.
الله خلق الرجل رجلاً وخلق المرأة امرأة أليس كذلك؟ أليس هناك ميزات وفروق بين الرجل والمرأة؟ بلى.
ومن ضمن الفروق هذه اللحية، يخرج الطفل والطفلة من البطن سواء عندهم شعر في الرأس، وشعر في الحواجب الولد والبنت سواء، وشعر في الجفون الولد والبنت سواء، فإذا اكتملت رجولة الرجل وأنوثة الأنثى طلع شعر في العانة عند الرجل والمرأة سواء، وشعر في الإبطين للمرأة والرجل سواء، لكن شعر في الوجه للرجل وليس للمرأة شعر، يظهر لها أثداء في الصدر ويغلظ صوته ويرق صوتها، وتعظم أكتافه وتعظم أردافها، فروق فردية، فالله أراد أن تكون رجلاً فميزك بهذه اللحية، ولذا لا تصلح أنت إلا بلحية والمرأة لا تصلح بلحية، ما هو رأيك الآن إذا ذهبت البيت وامرأتك معها لحية؟ فقلت: ماذا بكِ؟ قالت: أريد أن أكون مطوعة، هل تقبلها بلحية؟ لا تقبلها أبداً، فكما أنك لا تقبلها بلحية هي أيضاً لا تقبلك بغير لحية، وقد تقول: أنا حليق وامرأتي قابلة لي، نقول: ماذا تعمل صابرة بالغصب، لكن لو عندك لحية فهي تفضل ذلك.
وقد أجري استفتاء لمجموعة من النساء؛ أربعمائة امرأة وسئلن: هل تفضل المرأة الرجل الأمرد، أم الرجل الذي له لحية؟ وكلهن بالإجماع قلن: نريد رجلاً له لحية؛ لأن المرأة تشعر أمام الرجل الذي معه لحية تشعر بالأنوثة؛ لأنها أمام شكل مغاير لها، انظروا لأسلاك الكهرباء؛ سلك حار وسلك بارد، ضع بارداً مع بارد ماذا يكون؟ تكون كهرباء؟ لابد من حار وبارد حتى تولع النار، وكذلك رجل وامرأة لا تكون الحياة مضبوطة إلا برجولة وقد تقول أنت: إن هناك معالم للرجولة ثانية، صدقت هناك معالم أخرى، لكن هذا معلم بارز، وهي مثل الظرف الذي عليه عنوان، قد يكون في الظرف شيكات لكن لا أحد يعلم ماذا فيه، وقد يكون في قلبك شيكات من الإيمان والعمل الصالح لكن لا يعلم الناس ماذا في قلبك، أظهر على وجهك سنة النبي صلى الله عليه وسلم وأكرمها، فإن الله قد أمرك بها، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (أكرموا اللحى) وإكرام اللحية أن تتركها في أكرم موضع فيك وهو وجهك، لكن إذا حلقتها هل أكرمتها؟ أين يحلق الرجل الآن؟ في الحمام، يحلق على المغسلة وتذهب لحيته مع الماء وتذهب في البلاعة، هذه لحية المسلم الذي أمر بإكرامها؟ والذي لا يحلق في الحمام يحلق عند الحلاق في السوق، وتنتقل اللحية بعد الحلق إلى تحت قدم الحلاق، وبعد ذلك يكنسها بالمكنسة ويضعها في الزبالة، عشرين ثلاثين سبعين لحية، وإذا جاءت سيارة البلدية قال: يا ولد! تعال احمل اللحى، وجاء عامل البلدية وأخذ اللحية ووضعها فوق الزبالة وذهب بها إلى المحرقة، رحلة معذبة، مسكينة هذه اللحية مع هذا الرجل، وبعد ما راحت طلعت الأسبوع الثاني وقام عليها.
يا أخي: اتق الله في وجهك لحيتك اتركها تملأ وجهك، كم وزن اللحية؟ كم كيلو هي؟ أطول لحية وأكبر لحية لا تزن خمسين غراماً، لا تعب في حملها يا أخي! فاترك لحيتك؛ لأنها معلم وفي نفس الوقت تعينك على طاعة الله، إذا الرجل ملأت وجهه لحيته يستحي أنه ينزل في منازل السوء، لماذا؟ قال: ما تستحي على وجهك، لكن إذا كان أحلس أملس سهل عليه الاندساس ولا أحد يلومه.
أسأل الله الذي لا إله إلا هو لكم التوفيق، والله أعلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(114/13)
أهمية الإيمان
إن للإيمان أهمية عظيمة، فهو بلسم الحياة، ومفتاح دار السعادة، والإنسان بدون إيمان، شأنه شأن البهائم، بل أدنى منها.
إن الحياة الحقيقية لا تكون إلا بالإيمان، فبالإيمان يكون الأمن، والاستقرار، والطمأنينة، والعفة، والكرامة، وبدون الإيمان يصير الخوف، والقلق، والضنك، والرذيلة.
فيا أيها القارئ الكريم! عليك بالإيمان، عض عليه بالنواجذ، واسأل الله الثبات عليه، والله الهادي إلى سواء السبيل.(115/1)
أهمية الإيمان للوجود الإنساني
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسعد الله هذه الوجوه الطيبة، وجمعنا الله وإياكم في الدنيا على طاعته، وفي الآخرة في دار كرامته، ومستقر رحمته.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: أشكر نادي الشباب الرياضي في مدينة الرياض، ممثلاً في مجلس إدارته وهو سمو الأمير خالد بن سعد بن فهد، وبقية أعضاء المجلس وهيئة الإدارة، والرياضيين، وأشكر هذه الوجوه الطيبة التي جاءت لا تريد شيئاً إلا الله، طابت فطاب مسعاها وممشاها، وأسأل الله عز وجل أن يجعل مصيرها طيباً، وأن يجعلنا جميعاً ممن يقال لهم يوم القيامة: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر:73].
أشكر النادي على ترتيب هذه المحاضرة، التي تلبي الحاجة الماسة في قلوب الشباب، وتقدم البناء المتكامل لهم، والرعاية الشاملة لأرواحهم، كما تقدمها لأجسادهم، فإن المسئولية الملقاة على عاتق مسئولي رعاية الشباب، تقتضي منهم توجيه الاهتمام للإنسان بشقيه: المادي والروحي، وأما التركيز على الجانب الجسدي، وإهمال الجانب الروحي، فلا يمكن القول به؛ لأن الإنسان بروحه لا بجسده.
يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته أتطلب الربح مما فيه خسران
أقبل على الروح واستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
إن توجه الأندية الرياضية إلى هذا الأمر هو مقتضى الواجب، ونرجو الله عز وجل أن يبارك في هذا التوجه، وفي جهود المخلصين، الذين يرعون شباب هذه الأمة؛ هذه الأمة التي شرفها الله بهذا الإيمان وهذا الدين، والتي أكرمها الله بهذه الرسالة السماوية الخالدة، التي ينبغي أن تعتز بها كمظهر حضاري تتميز به على سائر أمم الأرض وشعوبها.
نحن أمة القرآن أمة الإسلام أمة الإيمان ولنا الشرف والفخر أن نقف على أرض صلبة، من العلم الراسخ في الأعماق، الذي يقدم لنا التفسير الحقيقي لغوامض هذه الحياة، يوم أن ضلت البشرية، وتاهت في متاهاتها، وضاعت في دياجيرها وظلماتها، ولم تعرف إلا العلم الظاهر المتمثل في المادة: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7].
هذا التوجه توجه مبارك، ينبغي زيادته وتشجيعه؛ لأنه الوضع الصحيح، فالأندية الرياضية مراكز تربوية، إنما وضعت في الأصل لرعاية الشباب في جميع نواحي الحياة: روحياً، وجسدياً، وثقافياً، واجتماعياً، وفي جميع دور الحياة، حتى نُخرج للمجتمع شاباً متكاملاً مرعياً من كل جانب، دون تغليب جانب على آخر، بل في توازن وتكامل واتساق، فلقد ارتضى الله لنا دين الإسلام حيث قال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] وقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة:143] فأسأل الله عز وجل أن يبارك في هذه الجهود، وأن يزيد منها.
أيها الإخوة في الله: إن قضية الإيمان قضية رئيسية من قضايا الإنسان، بل هي لب حياته، فالإنسان بغير إيمان لا معنى لوجوده ما الذي يشعرك من أنت؟ ما الذي يجيبك على التساؤلات التي تتردد في صدرك؟ هل تستطيع المادة أن تفك مغاليق قلبك؟ أو أن تحل أسرار هذا الكون؟ لا.
إن الإيمان هو الذي يقدم لك هذا، ليست قضية الإيمان قضية هامشية يمكن للإنسان أن يناقشها، أو أن يتجاهلها، لا.
إنها قضية الوجود الإنساني المكرم، أو الوجود الحيواني الهابط، إنها قضية سعادة أبدية، أو شقاء أبدي، إنها قضية الجنة أو النار.
إن الإنسان بغير إيمان سعفة في مهب الريح، انظروا إلى الدول الكافرة يوم أن غاب عنها الإيمان، وعاشت في ظل المادة، التي طورتها وطوعتها، واستغلتها أعظم استغلال، ما قيمة الإنسان في ظل المادة بعيداً عن الإيمان؟ لا قيمة له، قيمته أقل من قيمة حذائه الذي في قدمه، فلو أنك سألت الرجل صاحب المنصب الكبير: ما الحكمة من حذائك الذي في قدمك؟ لقال: الانتعال، ووقاية القدم، وما الحكمة من قلمك الذي في جيبك؟ لقال: الكتابة، وما الحكمة من معطفك الذي على كتفك؟ فيقول: الدفء، وتقول له: ما الحكمة من عينك التي في رأسك؟ فيقول: النظر، وما الحكمة من يديك التي في أعلى جسدك؟ فيقول: الحماية، فتقول له: إذاً وما الحكمة منك أنت؟ يقول: لا شيء.
فحذاؤه في قدمه لها حكمة، أما هو بكامله لا حكمة له، والذي لا حكمة له لا معنى له ولا قيمة له.
إن الإنسان بغير إيمان يبقى سعفة في مهب الريح، وحشرة من الحشرات في هذا الكون، بل بهيمة من بهائمه، لا هم له إلا الاستغراق في شهوات البطن والفرج، والتنافس والتكالب على المادة والرغيف، يعيش بعقلية الحيوانات، يقول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} [محمد:12] ويقول: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44]، ويقول: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179].
زودهم الله بإمكانيات وقدرات يستطيعون بها أن يتعرفوا على سر وجودهم، والحكمة من خلقهم، فعطلوا هذه الوسائل كلها، واستعملوها فقط فيما يستعملها الحيوان، ولذا إذا أتينا بحيوان، ووضعنا أمامه العلف، انطلق إليه بفكره، وإذا عطش انطلق وراء الماء، وإذا رأى أنثاه انطلق إليها ونزا عليها، فهو يفكر في كل ما يفكر فيه الإنسان الذي يعيش بغير دين، وما تفكير الكافر والإنسان الذي بغير دين إلا في الطعام، والشراب، والزوجة، والعمارة، والسيارة، والوظيفة، أما ما عدا هذا فلا يفكر فيه، فهذه عقلية الحيوانات، وقضية التطور والتحسين في مستوى المعيشة ليست هي سر الوجود.
في أمريكا قمة التطور الإنساني، هناك كلاب تعيش في ناطحات السحاب، وقد رأيت صوراً لكلاب تلبس بدلات، الكلب يلبس بدلة (وكرفتة)، وقال لي أحد الإخوة: إنه رأى كلباً يأكل في المطعم، وهو جالس على كرسي، وأمامه شوكة وملعقة، هذا كلب متحضر! لكن هل بين الكلب المتحضر الذي يعيش في ناطحات السحاب، وبين الكلب الذي يعيش في المزبلة فرق؟ لا.
فهذا كلب متحضر، وهذا كلب بدوي، والجميع كلاب.
إن الحضارة ليست عمارة، أو لباساً، أو مركباً، أو منصباً، الحضارة هي: مبادئ مفاهيم عقائد أخلاق فإذا تجرد الإنسان من المبدأ والعقيدة والخلق الإنساني فماذا بقي له؟ ولهذا تجدون أناساً في الدول الغربية الكافرة لا يألفون أمهاتهم، ولا آباءهم، ولا إخوانهم، ولا أبناءهم، ولا بناتهم، وإنما يألفون كلابهم، فتراه يمشي والكلب معه، ويأكل وهو بجواره، لقمة له ولقمة لكلبه، والطيور على أشباهها تقع.
إن الإنسان بغير الإيمان حيوان، وليته حيوان لكنه أضل، كما قال الله عز وجل: {بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179].
بل إنهم يقرون بهذا يوم القيامة، يوم يحشرون إلى النار، وتصبح الحيوانات تراباً، فيتمنون لو أنهم كانوا حيوانات في الدنيا، ليصبحوا تراباً في الآخرة، يقول عز وجل: {يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً} [النبأ:40] أي: عندما يرى الحيوانات وقد تحولت إلى تراب، يقول: يا ليتني كنت واحداً منها، شاركها في الحياة، ولم يشاركها في المصير، بل وينفون عن أنفسهم العقول يوم القيامة، ويقولون: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:10 - 11].
فالإيمان ليس شيئاً هامشياً حتى تأخذ به، أو تُخيّر فيه، بل إنه قضية وجود.
هل تريد أن تعيش الوجود الإنساني المكرم، الذي كرمك الله به؟ إذا كان
الجواب
نعم، فعليك أن تأخذ بالإيمان، وبغير الإيمان تهبط إلى الوجود الحيواني، وتشارك سائر الحيوانات فيما هي فيه، مع الفارق، والفارق في ماذا؟ في الظاهر فقط، فالحيوان ينام في الحضيرة، وأنت تنام في العمارة، لكن العقلية والتفكير والآمال واحدة، فأنت عقليتك محصورة في بطنك كيف تملؤها، وفي شهوتك كيف تقضيها، وفي آمالك وأطماعك كيف تحققها!(115/2)
سر تكريم الله للإنسان
الإيمان -أيها الإخوة- ضروري؛ لأنه يرفع الإنسان إلى الدرجة التي كرمه الله بها، لقوله عز وجل: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء:70] بم كَرّم الله الإنسان؟ فكر، وانظر إلى سائر المخلوقات، ثم قم بإجراء موازنة ومقارنة، لتعرف سر التكريم، هل التكريم بالقوة؟ لا.
فالحيوانات فيها من هو أقوى من الإنسان وأشجع، الأسد ملك الغاب، أشجع من أي حيوان، ولو أن التكريم بالشجاعة لكان الأسد أفضل مخلوق، لكن ليس التكريم بهذا.
يقال: إن أسداً وضبعاً وثعلباً خرجوا إلى الغابة للصيد، فاصطادوا كبشاً وغزالاً وأرنباً، فقال الأسد للضبع: قسّم العشاء، فقال: الأمر سهل! الكبش لي، والغزال لك، والأرنب للثعلب، فغضب الأسد غضبة قوية، وضربه على رأسه فقتله، ثم قال للثعلب: قسّم أنت.
قال: الأمر سهل! الكبش غداؤك، والغزال عشاؤك، والأرنب فطورك يا سيدي، فقال الأسد: ما أعظم هذه القسمة! من علمك هذا يا ذكي؟ قال: علمني هذا الغبي وهو ميت.
فحياة الحيوانات قائمة على شريعة الغاب، والبشرية الآن في ظل غياب الدين قائمة على شريعة الغاب.
لمن الحياة في العالم؟ للأقوى.
ليس للأفضل، ولا للأكمل، بل الفاضل الكامل إذا كان ضعيفاً فليس هناك من يقدره، والخبيث الفاشل إذا كان قوياً فالكل يخاف منه، في ظل غياب الإيمان والدين، ولو كان الإيمان موجوداً لكانت الحياة للأتقى لا للأقوى، وللأعلم لا للأجهل.
فَسِرُّ التكريم الذي كرم الله به الإنسان، ليست الشجاعة، ولا القوة، ولا ضخامة البدن، إن سر التكريم: الدين، والإيمان، والإسلام، وقد يقول شخص: لا.
بل سر التكريم العقل، فنقول له: لا.
إن العقل مع كل مخلوق، حتى مع أبلد الحيوانات، فأبلد حيوان يضرب به المثل في البلادة وهو الحمار، ضرب الله به مثلاً لليهود، وقال فيهم: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة:5] يقول العلماء: وهذا مثلٌ ينطبق على كل من تشبه بأخلاق اليهود، حينما يحمل القرآن ولا يستفيد منه شيئاً، فمثله كمثل الحمار يحمل أسفاراً.
فبالرغم من أنه بليد، ولكن مع بلادته معه عقل، يستطيع أن يستعمله في الوظيفة التي خلقه الله لها، فما هي وظيفة الحمار؟ بينها الله في القرآن حيث قال عز وجل: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل:8] الوظيفة: أنه وسيلة للركوب، ولذا يعرف كيف يقف، وينتظر حتى تحمل عليه، فإذا نزلت مشى، وإذا سافرت به في طريق يعرفها أو يحفظها فإنك تراه يمشي فيها لوحده، وإذا سافرت به بعد سنة في تلك الطريق الأولى فإنه لا يجهلها أو ينكرها، هذه وظيفته، وإذا دفعته إلى النار فإنه يرفض، إذا أوقدت ناراً، أو حفرت حفرة، وأتيت بحمار وأنت تجره بخطامه إلى طرفها، هل ينقاد لك ويلقي بنفسه في النار؟ لا.
ودائماً أذكر قصة قالها لي أحد العلماء من اليمن، قصة فيها عبرة لمن له قلب، وأنا لا أكررها عبثاً، بل أريد من أصحاب العقول أن ينتبهوا لها، يقول هذا الشيخ: إن هناك أناساً يزرعون التبغ (الدخان) ويحصل عندهم قحط شديد، وينحبس المطر، ويوفرون الماء في الآبار لسقيا أشجار التبغ (الدخان) وتضعف الحيوانات، ويبدو عليها الهزال، حتى تظهر أضلاعها على ظهورها، ولا تجد من الأكل إلا الطين من الأرض، يقول: فيؤتى بمجموعة من التبغ الأخضر كالبرسيم، فيقدم إلى الحمار، فإذا اقترب منه وشمه رفضه وهز رأسه، الحمار يترك هذا التبغ وهو أخضر، وبعض البشر يشربونه وهو محروق يابس، لماذا لم يأكله الحمار؟ لأن عنده عقلاً، يعرف أن هذا حار ومزعج وأنه يضره.
لكن بعض البشر يشتري علبة الدخان وقد كُتب عليها: تحذير رسمي: (التدخين يضر بصحتك فلا تدخن!) فلا يقرأ، ولو اشترى علبة مانجو أو بسكويت، ووجد تاريخ الصلاحية قد انتهى لأقام الدنيا وأقعدها، وذهب إلى البلدية وخاصم صاحب البقالة، وقال له: كيف تبيع طعاماً قد انتهت صلاحيته؟ وفعلاً لا يجوز غش المسلمين، ولكن الشاهد كيف أنه يشتري علبة الدخان ولا يفكر؟ وكل طعام معلب في الدنيا عليه تاريخ صلاحية، إلا الدخان ليس عليه تاريخ صلاحية؛ لأنه فاسد من يوم أن صنعوه، بل كتبوا عليه: (التدخين مضر بصحتك فلا تدخن!) وعلبة الدخان بأربعة ريالات، وعلبة البسكويت بريال، أين عقول بعض البشر؟ إنهم يلغونها، وإلا لو حكموا عقولهم وفكروا لوجدوا أن ممارسة التدخين عادة سيئة، ينبغي التمرد عليها، والانتصار عليها، وإعلان رفضها، والابتعاد منها.
صحيح أن العادة تأسر الإنسان، لكنها تأسر الإنسان الضعيف، ضعيف الشخصية، الذي أصبح تافهاً ولا يستطيع أن يتحكم بنفسه، أما القوي فتجده ينتصر على إرادته، ويعلن رجولته.
فليس سر التكريم -أيها الإخوة- عند الإنسان هو العقل، ولكنه الإيمان والدين، وسآتي لكم بدليل من القرآن الكريم، نبي الله سليمان أوتي ملكاً لم يكن لأحد من بعده، قال تعالى حاكياً عن سليمان: {وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص:35] فسخر الله له الجبال والطير والوحوش والجن والإنس، وكانت مملكته مملكة عظيمة، وكان مجلس الحكم عنده يمثل فيه جميع فئات المخلوقات؛ أمة الطير، وأمة السباع، وأمة الوحوش، وأمة الحشرات، وكل الأمم موجودة، وكان يعرف أفراد المملكة كلها ويتفقدهم، وفي يوم من الأيام تفقد المملكة، وكانت أمة الطير من بينها، وكم أنواع الطيور؟ آلاف الأنواع في الأرض، ولكن لم يغب عن ذهن سليمان واحد منها اسمه الهدهد: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [النمل:20 - 21] قال الله عز وجل: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [النمل:22] أي: تأخر فترة غير طويلة، ثم جاء بمنطق الثقة والقوة، ورغم أنه طائر يخاطب ملكاً ونبياً من الأنبياء، إلا أنه يقول له: {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} [النمل:22] أي: علمت أمراً لم تعلمه أنت، واكتشفت خبراً لا تدري عنه أنت، إنه خبر مهم، إنهم قوم يشركون بالله، يعبدون غير الله: {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّه} [النمل:22 - 24].
انظروا إلى العقلية! والله إن عقلية هذا الطائر أعظم من عقلية ملايين البشر في هذا الزمان، هدهد يغضب لله، لا يرضى أن يُعبد غير الله، لا يرضى أن يُشرك بالله، ويقول بعد ذلك: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّه} [النمل:25] أي: كيف يسجدون للشمس؟ من خلقهم؟ من أوجدهم؟ من فطرهم؟ من يميتهم؟ من يبعثهم؟ من يحاسبهم؟ {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّه} [النمل:25] يستغرب هذا الطائر أن تنصرف العقول عن عبادة خالقها وفاطرها وموجدها، إلى عبادة مخلوق وهي الشمس! وهذه عقلية أخرى.
أيمكن بعد هذا أن نقول: إن الإنسان أكرمه الله بالعقل؟ لا.
فعقلية الطائر أفضل! البعوضة الصغيرة (النامس) يقول ابن القيم في كتاب له اسمه: مفتاح دار السعادة، يتكلم فيه عن أسرار خلق الله بما يدهش العقول: حشرة صغيرة تقف على ست قوائم، وهذه القوائم ذات مفاصل، وهذه المفاصل داخلها عظام رقيقة دقيقة، يجري فيها المخ والدم يقول الناظم:
يا من يرى مد البعوض جناحها في ظلمة الليل البهيم الأليلِ
ويرى نياط عروقها في نحرها والمخ في تلك العظام النّحلِ
ويرى ويسمع كل ما هو دونه في قاع بحر مظلم متجلجلِ
امنن عليّ بتوبة أمحو بها ما كان مني بالزمان الأولِ
هذه البعوضة الصغيرة فيها أسرار من الخلق لا يعلمها إلا الله، علماء التشريح عندما يشرحونها يقفون مذهولين، مبهورين، إن تشريح وظائف أعضائها الآن شيء معجز، فمعها في رأسها قرنا استشعار، بمنزلة (الرادار)، ولها خرطوم مثقوب يمص به الدم، أدق من الشعر، ولها رأس، وبطن، وذيل، وأجنحة، وست قوائم بمفاصل وعظام إنها تركيبية عجيبة، وبعد ذلك في رأسها مخ أعظم من مخ الإنسان.
إذا أرادت أن تعيش، فإنها تسلب دمك أيها الإنسان؛ لأن قوت البعوض هو دم الإنسان، فهي تعيش على أعلى وأعز شيء في حياتك، وهو الدم، فعدوك إذا أراد أن يتهددك يقول لك: والله لأشربن من دمك، والبعوضة تقول كذلك: والله لأشربن من دمك، ومع هذا كله فهي لا تشرب من دمك في خفية أو ذلة، بل بعد المواجهة، فأنت تنام على سريرك، فتدخل البعوضة التي بإمكانها أن تلدغك في قدمك أو ساقك أو في يدك، لكن تقول: لا يصلح أن ألدغه قبل أن أعلمه، فتأتي إلى أذنيك وتحدث صوتاً: (طنين)، فإذا سمت صوت طنين البعوضة ذهب النوم عنك، لا يأتيك النوم أبداً، وبعد ذلك ماذا تفعل؟ من الناس من يكون متعباً، لا يستطيع أن يقوم ويحاربها، فيتنغص نومه، ثم يأتي ببطانيته ويدخل رأسه تحتها، وكذلك أقدامه وجوانبه، ويبقى محاصراً لنفسه داخل البطانية، خوفاً من البعوضة، ويصبر على الأذى، ولكن مع شدة الأمر فإنه يرفع البطانية قليلاً من عند رأسه، لعله يأتيه الهواء لماذا كل هذا؟ إنها بعوضة يا مسكين! لا إله إلا الله ما أضعفك! بالله هل من حقك أيها الإنسان الضعيف -يا من تخاف من البعوضة- أن تعصي الله؟!! إذا كانت الملائكة الغلاظ الشداد لا تعصي الله ما أمرها، وهي الملائكة العظيمة الخلقة، ذكر الإما(115/3)
الإيمان يقدم التفسير الصحيح للحياة
السبب الثاني من أسباب أهمية الإيمان وضرورته: أنه يقدم لك التفسير الصحيح للحياة.
ما هي الحياة أيها الإخوة؟ اسأل نفسك: ما الحياة؟ ومن أين جئت؟ ولماذا جئت؟ وأين سوف تذهب بعد أن تموت؟ وما دورك في الحياة؟ هذه الأسئلة تتردد في ذهنك فمن يجيب عليها؟ أأنت تجيب؟ لا.
لماذا؟ لأنك لم تأت بنفسك أنت، بل إنك لا تعرف كيف خلقت، يقول الشاعر:
لا تقل كيف استوى كيف النزول أنت لا تعرف كيف أنت ولا كيف تبول
إنك لما خلقت وجيء بك إلى هذه الحياة لم يؤخذ رأيك حتى تقدم التفسير لنفسك؛ بل جيء بك رغماً عنك، ولهذا لا تعرف سر وجودك من نفسك، بل لا بد أن تعلم ذلك ممن خلقك.
كنت اليوم في مطار أبها، ونحن ننتظر إقلاع الطائرة التي تأخرت لأسباب، تأخرت قرابة أربع ساعات، فطال الوقت على الناس، وشعروا بالضيق، وكنت في زاوية من الصالة، وتجمَّع عليّ بعض الإخوة، فاستغللت الموقف وقلت لهم: ما رأيكم في هذا الانتظار؟ قالوا: صعب جداً، قلت: ما رأيكم بالانتظار يوم القيامة؟ يقف العباد يوم القيامة سبعين سنة انتظاراً لفصل القضاء، واليوم الواحد من أيام الآخرة كألف سنة: {وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47].
القلوب واجفة، والأبصار شاخصة، والأجسام عارية، والبطون خاوية، والرعب مجلل لأهل الموقف، يقول الله: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ * يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:18 - 19].
فأبصارهم شاخصة في ذلك اليوم الرهيب، وهم وقوف كلهم ينتظرون فصل القضاء.
إذا حدثنا الناس عن هذا الكلام، فإنهم يفكرون بعقلية هذه الدنيا، تراهم ينظرون كيف تسير الأيام، وقالوا: اليوم الواحد مثل ألف سنة، كيف؟ اليوم عندنا على دورة الشمس والقمر، إن اليوم أربع وعشرون ساعة، نقول لهم: يا جماعة! الأمر مختلف؛ لأن عالم الآخرة غير عالم الدنيا.
إن نسبة عالم الدنيا إلى الآخرة كنسبة عالم البطن إلى الدنيا، فلو أننا جئنا بطفل يريد أن يخرج للحياة قبل خروجه بساعة أو ساعتين، وأمسكنا به وقلنا له: يا طفل! أنت سوف تخرج بعد ساعة إلى عالم فيه جبال، وأشجار، وأنهار، وبحار، وسماوات، وأرض، وطائرات، وسيارات، وملاعب، وعمارات، وشوارع، وناس يمشون ويأكلون ويشربون، ثم فكر هذا الجنين بعقلية بطن أمه، ونظر إلى الأجواء المحيطة به، ورأى الطحال أمامه، والكبد عن يساره، والرئة من هنا، والعمود الفقري بين عينيه، فماذا سيقول لنا؟ سيقول: أنتم رجعيون، عقليتكم قديمة، فأين الجبال التي تقولون؟ وأين الأنهار التي تدعون؟ ليس هناك إلا بطن أمي، لكن متى يراها؟ إذا خرج من هذا البطن ورأى العالم.
أما الذين يعيشون ويفكرون بعقلية الطفل الذي لا زال في بطن أمه، فإننا حينما نحدثهم عن الآخرة، يقولون: أين أين؟ فنقول: سترونها والله، كما قال الله عز وجل: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر:1 - 8].
إن الإنسان لا يمكنه بمفرده أن يقدم لنفسه التفسير الحقيقي لهذه الحياة؛ لأنه لم يخلق الحياة ولم يخلق نفسه، ولا بد إذا أردنا العلم الصحيح عن الحياة والإنسان والكون أن نسأل خالقها، ألا وهو الله، وكيف نسأله؟ نسأله عن طريق الإيمان به، عن طريق كتابه وسنة نبيه صلوات الله وسلامه عليه، وبغير ذلك لا نعرف هذه الحياة، نعرف منها الظاهر فقط، نعرف الأكل، والشرب، والنوم، والنكاح، كما أن الحيوانات تعرفه، لكن هل نعرف لماذا جئنا وأين نذهب بعد الموت؟ إن قضية البعث بعد الموت قضية لازمة، مثلها مثل قضية الموت، فكما أن الله خلقنا فإنه يميتنا ويبعثنا؛ لأن الله ذكر قضيتين وجعلهما متلازمتين في القرآن: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30] هل استطاع شخص أن يخرج على قاعدة الموت؟ ويقول: أنا فلان بن فلان والله لن أموت؟ لا يستطيع أحد أن يخرج من سنة الله في الموت، ولا أن يفلت من سنة الله في البعث، لأنه قال: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر:31].
فالذي يقدم لك التفسير الحقيقي لهذه الحياة هو الإيمان والدين، ويقدم لك أيضاً تفسيراً لنفسك، فيُعلمك من أنت، فأنت فيك أسرار غير الأسرار الظاهرة، بعض الناس يتصور عندما تقول له: من أنت؟ أنك تسأله عن نسبه، فيقول لك: أنا فلان بن فلان بن فلان، ومم تتكون؟ قال: أتكون من رأس، ورقبة، وجذع، وأرجل، وأيدي، وجهاز هضمي، وتنفسي، ودموي، وعقلي، وسمعي، وبصري من كل هذه الأجهزة، نقول: لا.
هذه ليست أنت، بل أنت شيء آخر، بدليل أنه إذا خرج هذا الشيء الآخر منك تذهب قيمتك.
الآن إذا مات شخص وخرجت روحه، هل يبقى لعينه قيمة؟ أو لأذنه قيمة؟ أو لرئته قيمة؟ أو لقلبه قيمة؟ أو لكليته قيمة؟ أبداً.
ولا شيء، بل الآن في عمليات زرع الأعضاء، إذا مات شخص، فإنهم يأخذون قلبه، ويضعونه في شخص آخر حي، لماذا عمل في هذا ولم يعمل في الأول؟ لأن الراكب نزل، من هو الراكب؟ أنت.
فمن أنت؟ أنت الروح.
فما الروح؟ اسأل الكافر قل له: ما الروح؟ يقول: لا أدري، نعم إن الكافر لا يدري من هو.
لكن المؤمن يعرف الروح عن طريق أمر الله؛ وقد سئل النبيُ صلى الله عليه وسلم عن الروح، فقال الله: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85] إذا أردت أن تعرف روحك فسر على أمر الله تعرف من أنت، إن الكافر لا يعرف من هو، ولكنه يعرف عيونه، ولهذا أبدع في طب العيون، ويعرف أذنيه، ويعرف قلبه، ولكنه لا يعرف روحه؛ لأنه لم يبذل جهداً في معرفة الروح، ومن الذي يخبره عن الروح؟ إنه الله، والإيمان به، والاستقامة عليه، والالتزام به، والرضوخ والانقياد له، فإذا عرفت هذا عرفت نفسك، أما بغير هذا فلن تعرف من أنت هذه الأهمية الثانية.(115/4)
السعادة الحقيقية في الإيمان
الأهمية الثالثة: إن الإيمان يكسبك أيها الإنسان! طعم الحياة ولذتها.
إن الحياة أيها الإخوة! لها لذة وطعم، ولكن هذا الطعم وهذه اللذة ليست في الشهوات، ولا في الملذات، ليست في كأس، ولا غانية، ولا نغمة، ولا نومة، ولا رحلة، ولا نزهة، ولا في شيء من هذا، فمهما تمتعت -والله الذي لا إله إلا هو- مهما تمتعت من متاع الدنيا، وأنت بعيد عن الإيمان، فإنك تعيش في عذاب لا يعلمه إلا الله، العذاب الذي يعاني منه الناس وهو موجود في قلوبهم، سببه بعدهم عن الله تبارك وتعالى، قد يقول قائل: لم؟ لأنك تلبي فقط متطلبات جسمك وكيانه، فتعطيه الأكل والشرب، والشهوات، والرحلات، والسهرات، والنوم، والعلاج، فتبني هذا الجسد، لكن تهمل روحك وكائنك الداخلي، فكوب البرتقال، والتمشية، والنزهة لا يستفيد منها إلا جسدك، أما روحك فإنها تكون في عذاب، إلى أن يأتيها غذاؤها، وغذاؤها من أين أيها الإخوة؟ إنه من الإيمان بالله، من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولذا يخبر الله عز وجل أن الذي يعرض عن دين الله، وعن كتاب الله، والإيمان به، وعن السير على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنما يعذبه الله في الدنيا والآخرة أما في الدنيا فالضنك والشقاء والضيق، فمهما تمتعت، فمتع الحياة كلها لا تلبي رغباتك من راحة القلب، فأنت تشعر عندما تدخل المسجد وتقرأ آية من كلام الله، أو تركع ركعة لله، أو تسجد سجدة لله، أو تذكر الله وتستغفره، أن سروراً دخل إلى قلبك هو أعظم من جميع لذائذ الحياة، لكن بغير الإيمان والدين فإنه سوف يبقى شيء في الداخل ينغص حياتك مهما تمتعت، سوف يبقى شيء يلذع قلبك، يقول لك: إن الشهوات ليست هي الحل، ولهذا يقول الله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:124 - 126].
إنك لا تخسر بالإيمان شيئاً، إن الإيمان يُصلح لك الدنيا قبل الآخرة، يتصور بعض الناس أن للإيمان آثاره ونتائجه في الآخرة فقط، لا.
إن للإيمان آثاراً في الدنيا قبل الآخرة، يقول الله عز وجل: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [النساء:134] فثواب الله عز وجل في الدنيا والآخرة وفي دين الله تبارك وتعالى: الأمن، والطمأنينة، والاستقرار، والرضا، وأنت لا تفرح بهذه الحياة، لماذا؟ لأنك تعبد الله، تسير على الخط الصحيح، حتى لو جاءك الموت فإنك تفرح، ترجو لقاء الله وتحبه، وهذا لا تجده أبداً إلا في الإيمان والدين، وفي الخضوع لشريعة الرحمن تبارك وتعالى، وبغيره العذاب، والقلق، والحيرة، والاضطراب.
هأنتم ترونهم في الغرب والشرق يعيشون تحت ظل الكفر، ويعانون من ضغط المادة والحضارة ما لو وضع على الجبال الراسيات لأرضها أو صدعها، يتخلصون من الحياة، ويهربون من ضغوطها بالانتحار والموت، وبالأعمال التي يتصورون أنها مبدعة وخارقة، وهدفهم منها الموت سباق السيارات التي يسمونها (الرالي)، هل ترون أنه سباق سيارات؟ هل تتصورون أنها شجاعة منهم، أو رغبة في الرياضة؟ لا.
لكنها عملية انتحار، هو يعرف نفسه أنه سوف يذهب منتحراً من أعلى جبل، أو من على بئر، لكن تجده يقول: أنتحر وآخذ لي سيارة، وقبل أن أموت أحقق رقماً قياسياً عالمياً، ويذكر اسمي، فيذهب بسيارته ويسابق، فإذا رأيته تقول: هذا مجنون.
هذا ضرب من ضروب الهروب من الحياة، لماذا؟ بسبب الضغوط التي تثقل قلوبهم بكفرهم، وببعدهم عن الله تبارك وتعالى.
فيا أخي في الله! أنت بالإيمان تكسب كل شيء، ولا تخسر شيئاً مهماً، وبالنفاق والكفر والعياذ بالله! تخسر كل شيء، ولا تكسب شيئاً مهماً بالإيمان تكسب سعادة الدنيا، فتعيش مرتبطاً بالله متصلاً به، تتلقى تعليماتك وتصوراتك وأفكارك وتوجيهاتك كلها من الله، في كل دقيقة من دقائق حياتك، وكل جزئية من جزئياتك، حتى في الأكل، نعم تأكل، لكن الأمر من الله علمك كيف تأكل وتشرب، فتأكل وتشرب بيمينك، وعلمك كيف تنام، فإنك تنام على شقك الأيمن ذاكراً لله، وعلمك كيف تدخل دورة المياه، فإنك تقدم رجلك اليسرى، وتستعيذ بالله من الخبث والخبائث، وعلمك كيف تأتي زوجتك نعم، فإنك تمارس هذا باسم الله، لا باسم الشيطان الرجيم.
هذا شرف، وأي شرف أيها الإخوة! أي شرف أعظم من أن تعيش في الأرض وتوجيهاتك كلها من الله؛ تسير في الشارع وأنت مأمور من الله بغض بصرك، وبرد السلام، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبمساعدة الضعيف، هذه كلها أوامر من الله تدخل مكتبك لتمارس عملك وعندك أوامر من الله تدخل سوقك لتبيع وتشتري وعندك أوامر من الله أي شرف أيها الإخوة! أعظم من هذا الشرف؟! وأي مجد أعظم من هذا المجد؟! إنه شرف الإيمان بالله، شرف العيش على كتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا في الدنيا أيها الإخوة.
وبعد ذلك لا يحرمك الإيمان من شيء، يقول الله عز وجل في متع الحياة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:172] كلْ مما جعله الله طيباً في هذه الأرض كلها {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً} [المؤمنون:51] تزوج، وإذا لم تكتف بواحدة فاثنتين أو ثلاث أو أربع، لكن الحرام لا.
لم؟ لأنك طيب، والله طيب ويأمرك بالطيب، ويجعل لك زوجة طيبة خالصة لك، لكن القذرين الخبثاء لا يألفون إلا الخبث والعياذ بالله! فالإيمان عندما حرم عليك الزنا لم يرد تعذيبك، بل أراد كرامتك، وعندما حرم عليك الخمور لم يرد تعذيبك، وإنما أراد صيانتك، وعندما حرم عليك المخدرات، لم يرد حرمانك من ملذات الحياة، وإنما أراد تكريمك وتفضيلك، وجعلك إنساناً ذا عقلية متميزة، لا تلغيها ولا تذهبها بالمخدرات.
إذاً أنت بالإيمان لا تخسر شيئاً، بل تكسب كل شيء تكسب الدنيا، وهل الدنيا فقط هي المكسب؟ لا.
يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح، في ضرب نسبة ومقارنة بين الدنيا والآخرة: (ما الدنيا في الآخرة إلا كما يدخل أحدكم إصبعه في اليم ثم ينزعها فلينظر بم ترجع؟) هل ترجع إصبعك بقطرات من محيط الآخرة؟ والله خسارة عليك يا أخي! أن تضيع الآخرة من أجل هذه القطرات.
ويوم أن تموت وتتخلى عنك الحياة، يأتيك الإيمان ليسعفك في تلك اللحظات، يقول الله عز وجل: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27].
وبعد ذلك إذا انسلخت من الحياة، وانتزعت منها، وسللت منها كما تسل الشعرة من العجين، إذا كنت صاحب منصب فإنهم ينزلونك من منصبك، أو كنت صاحب عمارة فإنهم ينزلونك من عمارتك، أو كنت صاحب أولاد فإنهم يتبرءون منك، أين توضع؟ في القبر، في الحفرة المظلمة، من ينفعك هناك؟ ينفعك الإيمان، يقول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} [فصلت:30 - 31].
وبعد ذلك يوم يُبعث الناس من قبورهم لفصل الجزاء والحساب يوم القيامة، لا خوف عليك ولا أنت تحزن: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزخرف:70 - 71].
هل خسرت شيئاً بسبب الدين؟ لا.
هل خسرت الزنا؟ لا.
لأن الزنا تركه ليس بخسارة بل هو ربح، هل خسرت الربا؟ لا هل خسرت الشرك بالله؟ لا.
هل خسرت الخمور؟ لا.
هل خسرت المحرمات كلها؟ لا.
لكنك ربحت؛ ربحت العزة، والتوحيد، والصلاة، والصلة بالله، ربحت الزكاة، والمواساة لإخوانك في الله، ربحت الصيام وهو أزكى العبادات، ربحت الحج والوقوف بعرفات، ربحت ذكر الله في الأرض، وذكره لك في السماء، ربحت الصدق، والبر، والوفاء، والمروءة، والشهامة، والكرم، والشجاعة، ربحت كل خُلُقٍ كريم أمر الله به.
هذا في الدنيا وبعد ذلك تربح الدنيا والآخرة.
إذاً: أيها الإخوة! هل الإيمان ضروري أم لا؟ إنه -والله- من أهم ضرورات الإنسان.(115/5)
الوسائل المؤدية إلى معرفة الإيمان
لقد مارس الإنسان في أطوار حياته ضروباً من الممارسات، في التعرف على قضية الإيمان، فمنهم من اعتمد على مبدأ السببية، وهو أن لكل حدَثٍ مُحدِث، ولكل مخلوق خالق، نظروا بعقولهم، قال البدوي في القديم: البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، ونجوم تزهر، وبحار تزخر، أفلا يدل ذلك على السميع البصير؟! مبدأ السببية يلزمك أن تؤمن بالله؛ لأن الله يقول: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ} [الطور:35 - 36] {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الزمر:62 - 63].
وبعضهم استجاب لداعي الفطرة، وداعي الفطرة الذي جعله الله فيك يقضي بأن تؤمن بأنه لا إله إلا الله، يقول الله: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:30].
فالدين القيم هو الفطرة، وهو اللباس الذي فُصِّل على مقاسك، وإذا أخذت اللباس المناسب استراحت نفسك، وإذا لبست ما ليس لك لم تسترح، ولهذا فصل للشر (ماركس) و (لينين) و (استالين) فصلوا له لباساً، وماركس ولينين يهودٌ أبناء زنا، ليسوا هم الذين خلقوا الإنسان حتى يفصلوا له اللباس، ففصلوا له لباساً لا يصلح، وهو لباس الشيوعية، وبدءوا يُلبسون هذا اللباس للشعوب بالحديد والنار، وسجنوا وقتلوا ملايين البشر في سبيل إبقاء هذا المبدأ، وفي النهاية يصادمون سنة الله، والله غالب على أمره، وإذا بالشعوب تنتفض وتخلع هذا اللباس الخبيث، وتقول: تسقط الشيوعية، لماذا؟ لأنه لباس لم يفصله الله.
فلباسك أنت أيها المسلم! الإيمان والدين: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:30] والذي يلبس لباساً مناسباً يستريح فيه، لكن إذا كان مقاس ثوبك مثلاً (58) وأخذت لك ثوباً مقاسه (30) يصلح لطفل عمره أربع سنوات، ولبسته، ولكنه ليس على قياسك، ويصل الثوب إلى سرتك، وعندما تخرج إلى الشارع، ماذا يحكم عليك الناس؟ يقولون: مجنون! انظروا إلى هذا المهبول، يلبس ثوب ولده! فتقول: يا جماعة أليس هذا بثوب؟ يقولون: ثوب، لكنه ليس مناسباً لك.
وإذا لبست حذاءً لولدك، واستطعت أن تدخل إصبعك الكبيرة فيه، ومشيت به في الشارع، أو ذهبت به إلى العمل، ماذا يقول لك الناس؟ يقولون: أصبح مجنوناً جاء في حذاء ولده! سبحان الله! من يلبس حذاء ليست له، أو ثوباً ليس له يقال عنه: مجنون، إذاً كيف بمن يعتنق ديناً محرفاً باطلاً ليس له؟! كيف بمن يعيش على مبدأ ليس له؟ إنه مجنون -والله- ألفُ مجنون، بل يوم القيامة يقولون عن أنفسهم: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:10].
فالبس اللباس الذي أجازه الله، فطرة الله، دين الله، الدين الذي شرعه الله هو الإيمان، حتى تستريح وتسعد في الدنيا والآخرة.(115/6)
حقيقة الإيمان ومقتضاه
ولكن أيها الإخوة! قد يسأل سائل فيقول: ما هو الدين؟ أو ما هو الإيمان الذي تعنيه؟ الإيمان الذين نريده -أيها الإخوة- هو ما فسره علماؤنا، علماءُ أهل السنة والجماعة، يقولون: الإيمان قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالجوارح والأركان، يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان، وأركانه ستة: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وبالبعث بعد الموت، وبالقدر خيره وشره من الله تعالى.
ومعنى الإيمان: الجزم والتصديق، وظهور آثار هذا الجزم على عملك، فتؤمن بالله أي تراقبه وتعبده، وتؤمن بملائكة الله أي تعرف أدوارهم، وتتشبه بأخلاقهم في طاعة الله، وتؤمن برسل الله أي تصدق بهم كلهم، وليكن قدوتك خاتم المرسلين سيدنا محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، وتؤمن بكتب الله المنزلة، ثم تخضع لآخر كتاب منزّل، والمهيمن على كل الكتب، وهو القرآن، وتؤمن بالقضاء والقدر من الله، فترضى بما قسم الله لك، وتؤمن بالبعث بعد الموت، فتعمل لما ينجيك من عذاب الله بعد الموت.
هذا مقتضى الإيمان، وهناك تعريف جديد، يقول العلماء فيه: إن الإيمان عمل قلبي، وقناعة ذهنية، تبلغ أعماق النفس البشرية، وتحيط بها من جميع جوانبها الثلاثة.
وجوانب النفس ثلاثة: إدراك، وإرادة، ووجدان.
فالإدراك يعني: المفاهيم والمعارف والحقائق التي تفهمها، قضايا الإيمان هي كل ما أخبر الله به، وأخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم، يجب الإيمان بها، ثم تترجم هذا الإيمان في إرادات تبعث على الخضوع والانقياد والإذعان لكل أحكام الشرع، فلا ترفع رأسك على أمر لله، أمرك الله بغض بصرك فلا تنظر به إلى حرام، وأمرك بحفظ سمعك فلا تسمع به حراماً، وأمرك بكف لسانك فلا تطلقه في حرام، وأمرك بصيانة فرجك فلا تقع به في حرام، وأمرك بحفظ بطنك فلا تدخل فيها إلا حلالاً، وأمرك بكف يدك فلا تمدها إلى حرام، وأمرك بكف رجلك فلا تحملك إلى حرام، وأمرك بالعبادة، والصلاة، والزكاة، وببر الوالدين، ونهاك عن كل محارمه، ثم أذعنت وحققت الإيمان.
الثالث: الوجدان، وهو أن يكون لك قلب حي، يحترق على الإيمان، قلب يعيش هموم المسلمين، وهموم الدين، ويفرح لله، ويغضب لله، ويحب ويكره في الله، يعيش من أجل الله، يضحي بحياته في سبيل الله، يصبغ حياته كلها بمنهج الله، يبرمج كل شئون دنياه وآخرته على وفق دين الله إذا ركبت معه في السيارة ترى الإيمان معه في السيارة، وإذا نظرت إلى وجهه رأيت الإيمان في وجهه، وإذا رأيت لباسه ترى الإيمان في شكله، وإذا دخلت غرفة نومه ترى الإيمان في غرفة نومه، حياته كلها مبرمجة ومصبوغة بالإيمان، هذا هو الذي نريده ونعنيه، وغير ذلك لا يسمى إيماناً، ومن عاش هذا -أيها الإخوان- فسينعم في الدنيا والآخرة، ومن رفض وأبى: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء:227].
أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يرزقنا وإياكم الإيمان الخالص، واليقين الصادق، وأن يدلنا ويوفقنا للعمل الصالح، وأن يثبتنا عليه حتى نلقاه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(115/7)
حال المجاهدين وواجبنا تجاههم
أيها الإخوة: (المؤمن للمؤمن كالبنيان أو كالبنان يشد بعضه بعضاً) (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كأعضاء الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) إخوانكم في العقيدة والدين والإيمان، يعيشون في أفغانستان، وقوى الشر والطغيان والإلحاد تتكالب عليهم من كل حدب وصوب، حتى قرأنا في آخر الأخبار أنهم يتعرضون لمجاعة، وأن المجاهدين الآن يبيعون أسلحتهم ليشتروا طعاماً لأطفالهم ونسائهم، وكتب لي أحد قادة المجاهدين يقول لي: إنه يموت في كل يوم مائتا طفل من الجوع! يموتون جوعاً ونحن نموت شبعاً وتخمة، ونقذف بشتى أصناف الأطعمة في القمائم، أيليق هذا بنا أيها الإخوة؟!
تموت الأسد في الغابات جوعاً ولحم الضأن تأكله الكلاب
الآن الكلاب في الشوارع لم تعد تأكل اللحم والأرز، لأنها شابعة، وإخوانكم يموتون جوعاًَ، وفي أيديكم فضول أموال منّ الله بها عليكم، إن مقتضى شكر الله على نعمة المال التي بأيدنا أن نواسي إخواننا أولاً، لنسقط عنا جزءاً من عهدة الجهاد، فإن الجهاد ليس فرضاً على الأفغان فقط، إنه فريضة الله على كل مسلم، فعلى كل مسلم الدفاع عن الإسلام، يقول الله عز وجل: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:41] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} [الصف:10 - 11] فإن قعدت عن الجهاد بنفسك فلا تقعد عن الجهاد بمالك؛ لأن (من جهز غازياً فقد غزا، ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا) والآن شهر رمضان على الأبواب، وإخوانكم يصومون ويموتون جوعاً، يموتون جوعاً قبل رمضان، فكيف إذا جاء رمضان؟!! كيف يفطرون؟ ونحن أصابتنا التخمة من كثرة الأكل، معظم الناس الآن يستعد لرمضان بقائمة من الطلبات، بعض النساء قد قدمت كشف الطلبات لزوجها من قبل أسبوع كرتون شعيرية، وكرتون شربة، وكرتون قطر الموز، للمحلبية، والحبة تكفي شهرين، ومع ذلك تريد كرتوناً، لماذا؟ من أجل أن تصنف الأطعمة وتعددها، ثم يأكلون من كل نوع لقمة أو لقمتين، والباقي يرمى في القمامة، وإخواننا يموتون جوعاً.
يا إخواني! المؤمن تحت ظل صدقته يوم القيامة، إذا أنفق نفقة وجدها، يقول الله: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة:245].
فالمال مال الله، ساقه الله إليك من حيث لا تحتسب، ثم يطلب منك أن تقرضه، سبحان الله! أي فضل هذا؟! المال مال الله، يقول: خذ.
ويعطيك، ثم تقرضه من أجل أن يضاعفه لك، ولم ترضَ بذلك!! {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ:39].
إن صدقتك التي تقدمها اليوم تجدها غداً، فقد جاء في الحديث الصحيح عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنهم ذبحوا في بيت النبي صلى الله عليه وسلم شاة، فأنفقتها حتى لم يبق منها إلا كتفها، فلما سألها الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (هل بقي شيء؟ قالت: ذهبت كلها إلا كتفها، قال: لا يا عائشة! قولي: بقيت كلها إلا كتفها) لماذا؟ {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:96] {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ:39].
يا إخواننا! إن علينا مسئولية أمام الله في هذا الأموال التي بين أيدينا، يجب أن نساهم وأن نتبرع في كل فرصة ومناسبة تتاح، لمد إخواننا المجاهدين، ومعنا في هذا المكان المبارك بعض الإخوة المخولين من قبل الهيئات الرسمية، لجمع التبرعات لإخواننا المجاهدين، وسوف يكونون عند الأبواب لجمع التبرعات، ولا تخرج هذه الليلة إلا بمساهمة، اجعل لك نصيباً يا أخي! أطعم واحداً من المجاهدين في هذه الليلة، فلو أن سيافاً طرق عليك الباب، وقال لك: جئتك من الأفغان، وأريدك أن تطعمني هذه الليلة، ماذا تقول له؟ ليس عندي شيء، لا.
ستقول: مرحباً، ولو أطعمته من لحمك، لماذا؟ لأنك تحبه في الله، فأطعمه الآن وهو هناك بإرسال مبلغ من المال، خمسمائة ريال، مائتين ريال، مائة ريال، خمسين ريالاً، أو أقل منها؛ لأن بعض الناس يفتح كيس النقود فإذا رأى خمسمائة جعلها على جنب، ومائة على جنب، وخمسين على جنب، وعشرة على جنب، كل هذه لمن؟ هذه للمرأة، امرأتك إذا طلبتك وقالت: أريد أن أخرج إلى السوق لأشتري أشياء، وأعطيتها خمسمائة ستقوم برميها في وجهك، تقول: ما هذه الخمسمائة؟! هذه لا تكفي لشراء نعل، أريد ألفين أو ثلاثة، فيقول: حاضر، خذي، وإذا لم يعطها فقد تضربه، لكن إذا طُلب منه نفقة في سبيل الله فإنه قد يبخل، وقد يخرج خمسة أو أقل من ذلك، كيف تنصر ديننا بخمسة؟! في غزوة العسرة جاء أبو بكر بماله كله، وعمر جاء بنصف ماله، وقال عمر: [لا أسبق أبا بكر إلا هذا اليوم] فلما جاء عمر بنصف ماله، قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما أبقيت لأهلك؟ قال: نصف المال) وإذا بـ أبي بكر يحمل ماله كله على كتفه، لم يبق درهماً واحداً، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أبقيت لأولادك يا أبا بكر؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله) فقال عمر: [فعلمت أني لا أسبق أبا بكر إلى خير أبداً] هؤلاء الذين يحبون الله ورسوله، نريد مساهمة مجزية، مساهمة تجدها عند الله يوم القيامة.
واعلم أنك -والله- ما تقدم شيئاً إلا تلقاه، لن يضيع الله مما قدمت شيئاً، بل يربيه، يربي الله لك الصدقة، كما جاء في الحديث: (إن الله ليربي لأحدكم صدقته كما يربي أحدكم فلوه) فكما تربي فلوك يربي الله صدقتك، تأتي وهي مثل الجبال يوم القيامة.
وأذكر لكم قصة واقعية، يحدثني بها من أثق فيه، وعاش أحداثها ويعرف الذي وقعت له في جبال عسير كان هناك رجل مسافر، فآواه المبيت في ليلة مطيرة وذات رياح عاتية إلى أن دخل ونام في غار -كهف في الجبل- وبينما هو نائم -وبهذا الكهف كان قبراً- رأى في المنام رجلاً وامرأة ومعهما بقرة يحلبونها ويشربون لبنها، ولكن الذي أشكل عليه أن البقرة لا جلد لها، جلدها مسلوخ، ودماؤها تقطر من لحمها، فتقدم إلى الرجل وقال: يا أخي! ما شأنك؟ من هذه المرأة ومن أنت؟ وما هذه البقرة التي ليس عليها جلد؟ قال: هذه زوجتي وأما البقرة فإنه عندما كنا في الدنيا أحياء، أصابت الناس مجاعة، فشعرنا بحاجتهم إلى اللحم، فذبحنا هذه البقرة، وقسمناها على الفقراء والمساكين، فما بقي بيت في القرية إلا وأكل من لحمها، غير أننا أخذنا الجلد وبعناه، فلما مت أنا وزوجتي، أعطانا الله بقرة في الجنة غير أنه لا جلد لها.
يقول: أتأسف على شيء في حياتي، أتأسف على الجلد، يا ليتني أنفقته في سبيل الله كما أنفقت البقرة، فيا أخي! أنفق في سبيل الله، ضع مبلغاً من المال تجده عند الله تبارك وتعالى، أسأل الله أن يأخذ بقلوبنا وإياكم إلى ما يرضيه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.(115/8)
الأسئلة
.(115/9)
علاج نقصان الإيمان
السؤال
هل الإيمان يزيد وينقص؟ وإن كان يزيد وينقص فما العلاج لزيادته عند النقص؟
الجواب
معتقد أهل السنة والجماعة أن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعات، وينقص بالمعاصي.
والعلاج أن تكثر من الطاعات وتقلل من المعاصي، بل تقضي على المعاصي كلها.(115/10)
الدعوة إلى الله في جميع الميادين
السؤال
أنا مستقيم والحمد لله، وألعب رياضة الحديد، والأيام التي ألعب فيها ثلاثة أو أربعة أيام من الأسبوع، كما أني أستمع إلى الأشرطة الإسلامية، وأيضاً أوجه زملائي إلى الاستقامة والدعوة، فهل تنصحونني بأن أستمر في هذه اللعبة أم أتركها؟
الجواب
لا يا أخي! لا ننصحك بأن تتركها، بل استمر فيها -أظنه يقصد بها لعبة الأثقال حمل الحديد- فليس هناك مانع من أن تمارس هذه الرياضة، اجعل عضلاتك قوية، حتى إذا دعاك داعي الجهاد فتكون بطلاً فيه، وأيضاً حسناً يوم أن استقمت ووجدت نفسك مع طيبين تدعوهم إلى الله ويستجيبون لك، وأنا أقول للشباب الذين يهديهم الله وهم في ممارسة الرياضة: ألا يتركون الرياضة، فلمن يدعون هذه المواقع؟ فإذا صلحوا فعليهم أن يقعدوا من أجل أن يصلحوا إخوانهم الآخرين، أما إذا ذهب كل من صَلُح فمن يدعو إخواننا الباقين؟ إن الوقوف والوجود في مجتمعات الشباب هي الإيجابية، فإن الأنبياء ما بعثوا في القفار ولا الصحاري، وإنما بعثوا في أواسط أقوامهم، وكان النبي صلوات الله وسلامه عليه يغشى مجامع الناس، ويأتي إلى الأسواق، ويبشر بدين الله، فادخل كل ميدان وادع إلى الله، واثبت، والله معك.(115/11)
حكم الجهاد على مريض بمرض الإيدز
السؤال
مرض الإيدز مرض وجد في أناس عن طريق إجراء بعض العمليات ونقل الدم في خارج المملكة، فهل يجوز أن يجاهد الشخص المصاب بهذا المرض في أفغانستان؟
الجواب
الذي يصاب بهذا المرض لا يستطيع أن يقوم من مكانه حتى يذهب يجاهد في أفغانستان؛ لأن مرض الإيدز مرض سلطه الله على الدول الكافرة التي استباحت محارم الله وأعلنت التمرد على الله عن طريق اللقاءات الجنسية المحرمة، الزنا واللواط، فسلط الله عليهم هذا الجندي الصغير الذي اسمه فيروس الإيدز، وهو فقدان المناعة المكتسبة، فالذي عنده شيء من هذا لا يستطيع أن يقوم أصلاً حتى نقول له: اذهب وجاهد، لكن نسأل الله أن يشفيه إذا كان مسلماً، وكان سبب هذا المرض عن طريق نقل الدم وليس عن طريق عمل الفاحشة، نسأل الله أن يشفيه.(115/12)
حكم الاستهزاء بالعلماء
السؤال
ما رأيكم فيمن يستهتر بالعلماء ويسبهم، وإذا قيل له: اتق الله! قال: إنني أحترم علمهم ولكن لا أحترمهم شخصياً؟
الجواب
يا أخي الكريم! الداعية أو العالم لا احترام لشخصه، وإنما الاحترام للمبدأ الذي يحمله، وأي نيل منه أو استهزاء به استهزاء بالدين؛ لأن الله يقول: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} [المطففين:29] {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66] فعملية الاستهزاء والنيل من العلماء والدعاة جريمة قد تؤدي بصاحبها إلى الكفر والعياذ بالله! فننصح أخانا الكريم أن يتوب إلى الله من النيل من العلماء، فإنهم واجهة الإسلام.(115/13)
كيفية تعامل الشاب الملتزم مع أسرته المنحرفة
السؤال
أنا شاب منّ الله عليّ بالاستقامة، والمشكلة أن أسرتي لا يحبون الشباب الملتزم، وإذا أردت الذهاب إلى محاضرة لا يسمحون لي بذلك، فماذا أفعل؟
الجواب
عليك يا أخي! ألا تُحدِث إشكالاً بينك وبين أسرتك، ومن الطبيعي أن أسرتك التي عاشت على وضع معين سنيناً طوالاً، يصعب عليك أن تقلبها بجرة قلم، فأسرتك قد وجدت فيك جانب الاستقامة، لكنها لا تحب أن تكون مع مستقيم آخر، فلا تحاول أن تأتي بإخوانك في الله إلى البيت حتى لا تؤذي أهلك، وأيضاً لا تأتي إلى المحاضرات إلا بإذنهم، وإن لم يسمحوا فلا داعي للحضور، وعليك أن تشتري الشريط الإسلامي حتى لا تُحدِث إشكالاً بينك وبينهم، واعمل مع أهلك بلطف وبحب وبخدمة، وببذل وود مستمر في البيت، حتى يحبوك ثم يطيعوك.
أما أن تصطدم بهم في بداية الأمر، فسوف يقف أبوك في وجهك، وأمك كذلك، والأسرة كلها، وبالتالي تجد نفسك تحارب في ميدان وأنت لوحدك فيه، وقد يترتب على ذلك ضعف وتراخ وتراجع.(115/14)
نصيحة للشباب المراهق الذي لا يقدر على الزواج
السؤال
ما نصيحتك للشباب في سن المراهقة الغير قادرين على الزواج؟
الجواب
نصيحتي لهم هي الوصية بالعفة، الله يقول: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:33] والعفة: هي الترفع عن الدنايا والقذارات، وصيانة النفس من هذه الجرائم بوسائل، من ضمنها: أولاً: عدم النظر إلى النساء، فإن النظر باب الزنا.
ثانياً: عدم استماع الغناء، فإن الغناء رقية الزنا.
ثالثاً: عدم النظر إلى المسلسلات والأفلام الخليعة.
رابعاً: عدم قراءة المجلات والقصص الغرامية.
خامساً: كثرة قراءة القرآن.
سادساً: مزاملة الصالحين.
سابعاً: البعد عن الزملاء السيئين.
ثامناً: كثرة حضور حلق العلم.
تاسعاً: كثرة ذكر الله.
عاشراً وأخيراً وهو الطب النبوي العظيم: الصوم، تصوم ثلاثة أيام من كل شهر، أو تصوم الإثنين والخميس من كل أسبوع، وأيضاً تقليل الطعام، فالشاب الذي ليس عنده زوجة لا يكثر في الأكل، وإنما يأكل قليلاً، يأكل لقمتين ويقوم، لماذا؟ لأنه يأكل ويشبع وليس عنده امرأة، فأين يذهب بهذا الطعام؟ فلا تأكل إلا قليلاً، يكفيك لقمة عيش أو لقمتين وقليلاً من الرز وحبة فاكهة، ولا تأكل الشحم ولا اللحم ولا العسل ولا البر ولا السمن إلى أن تتزوج، فإذا تزوجت فدق إلى أن تدوخ ومعك المرأة.(115/15)
الحب بين النعيم والعذاب
السؤال
سئلت عن سؤال سابق كان عن الحب هل هو نعيم أم عذاب، نرجو أن تعيد الجواب؟
الجواب
هذا السؤال المفروض ألا يقدم لي وإنما يقدم لأهل الاختصاص، أما أنا فلست مختصاً بالحب، ولكن لنسأل أهل الاختصاص، وسألناهم فقال بعضهم: إن الحب نعيم، تقوله كوكب الشرق، تقول: الحب نعيم، وسألنا بعضهم، فقالوا: الحب عذاب، يقوله شهيد الفن، يقول: الحب عذاب، حبك نار، قربك نار، بعدك نار، نار يا حبيبي نار ومن الصادق منهم؟ كذبوا كلهم.
الحب ينقسم إلى قسمين: إن كان حلالاً فهو نعيم، وإن كان حراماً فهو فاحشة وعذاب أليم؛ فعندما تحب زوجتك يصير نعيماً لأنها بيدك، كلما أردتها كانت بجانبك، لكن إذا أحببت بنت العرب، وإذا بها بعيدة، وكلما تذكرتها طار قلبك وتقطع جوفك وهي عند أهلها، فتعيش في عذاب، يقول الناظم:
فما في الأرض أشقى من محب وإن وجد الهوى حلو المذاق
تراه باكياً في كل حين مخافة لوعة أو لاشتياق
فيبكي إن نأى شوقاً إليهم ويبكي إن دنا خوف الفراق
فتسكن عينه عند التداني وتسخن عينه عند الفراق
إذاً لماذا أحب؟! ولماذا أعذب نفسي؟! وإلى متى؟ إلى أن تتزوج، فإذا تزوجت فأحب زوجتك.
كان هناك أحد الشباب كنت أسير معه في طريق من المسجد إلى بيتي، فمررنا بفتيات، فغضضت بصري ثم تلفت فيه؛ لأنه شاب ملتزم، أريد أن أختبره، هل سيغض بصره أم لا؛ لأن من الشباب الملتزم من يحصّل الالتزام بالشكل، فيربي لحيته ويرفع ثوبه، لكن إذا رأى النساء نظر إليهن، وهذا لا يصلح، هذا ليس بملتزم، الالتزام شكل ومضمون تعفي لحيتك عملاً بسنة الرسول، وترفع ثوبك عملاً بسنة المصطفى عليه الصلاة والسلام، وأيضاً تغض بصرك، وتحفظ سمعك، وتخاف الله وتراقبه في كل شيء، أما مع الناس متدين وإذا كنت لوحدك عاص، فهذا خطر عظيم، جاء في السنن من حديث ثوبان رضي الله تعالى عنه -والحديث صحيح- قال عليه الصلاة والسلام: (يكون يوم القيامة أقوام لهم حسنات كأمثال جبال تهامة، ثم يقول الله لها: كوني هباءً، قالوا: لم يا رسول الله؟ قال: كانوا إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها).
إذا كان في غرفة النوم شغل الراديو بصوت منخفض ورقد على الأغاني، لكن لو رآه أحد زملائه استحى، يستحي من الناس ولا يستحي من الله.
فراقبت الأخ هذا ونحن نمشي، فكانت عيناه عند قدمه والله ما رفعها، وبعد ذلك لما مرينا قلت له: يا فلان، قال: نعم.
قلت: ما هو الأحسن غض البصر أو التلفت؟ قال: لا والله غض البصر أفضل، قلت: لماذا؟ قال: لو أني تلفت لكان قلبي الآن يتقطع عليهم، لكن عندما غضيت بصري ولم أر شيئاً استرحت، ولهذا يقول الله عز وجل: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30] لماذا؟ قال: {ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور:30] أحسن لك يا أخي.
ويقول ابن القيم:
وأنت إذا أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر
ويقول:
وأنا الذي جلب المنية طرفه فمن المطالب والقتيل القاتل
فيا أخي لا تعذب نفسك بعينك، اجعل عينيك في رأسك، انظر بها إلى الحلال إلى أن تتزوج، ثم انظر إلى زوجتك إن شاء الله.(115/16)
حكم التخلف عن الجماعة في الفجر
السؤال
أنا رجل أصلي جميع الصلوات والحمد لله بالمسجد إلا صلاة الفجر، فما نصيحتك؟
الجواب
وأنعم بلحيتك، ماذا فعلت ما دام أنك لم تصلِِّ الفجر، كيف تصلي كل الصلوات في المسجد إلا صلاة الفجر! إن صلاة الفجر هي المقياس، هي (الترمومتر) الإيماني، ما ظنكم فيمن يحضر امتحانات الفصول الأربعة ثم لا يحضر الامتحان النهائي، ما رأيكم فيه؟ راسب أم ناجح؟ راسب، فصلاة الفجر هذه هي الامتحان النهائي، وهي الفرق بين المؤمن والمنافق، إذا أردت أن تعرف هل أنت مؤمن أم منافق، فلا تسأل أحداً، وإنما اسأل نفسك عن صلاة الفجر، فإن كنت من أهلها بانتظام واستمرار فاعلم أنك مؤمن، ووالله ما بينك وبين النعيم إن شاء الله إلا أن تموت، لأن الله يقول في القرآن: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} [الإسراء:78] قال العلماء: مشهود من ملائكة الله، ومشهود من عباد الله المؤمنين، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من صلى البردين دخل الجنة) والحديث في البخاري ومسلم، وهناك حديث آخر في البخاري ومسلم يقول عليه الصلاة والسلام: (أثقل الصلوات على المنافقين صلاتي العشاء والفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً).(115/17)